الكتاب: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - قسم العقيدة المؤلف: عبد الرزاق عفيفي (المتوفى: 1415هـ)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - قسم العقيدة عبد الرزاق عفيفي الكتاب: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - قسم العقيدة المؤلف: عبد الرزاق عفيفي (المتوفى: 1415هـ)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أولا مباحث وفتاوى العقيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 1 ـ علم التوحيد 1 ـ تعريف علم التوحيد: التوحيد لغة: جعل المتعدد واحدا، ويطلق على اعتقاد أن الشيء واحد متفرد، ويطلق شرعا على تفرد الله بالربوبية والإلهية، وكمال الأسماء والصفات. وعلم التوحيد يبحث عما يجب لله من صفات الجلال والكمال، وما يستحيل عليه من كل ما لا يليق به، وما يجوز من الأفعال، وعما يجب للرسل والأنبياء، وما يستحيل عليهم، وما يجوز في حقهم وما يتصل بذلك من الإيمان بالكتب المنزلة، والملائكة الأطهار، ويوم البعث والجزاء، والقدر والقضاء، وفائدة تصحيح العقيدة، والسلامة في العواقب، ونيل السعادة في الدارين، واسمه: " علم التوحيد، وعلم أصول الدين ". 2 ـ بيان الحكم وأقسامه: الحكم إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، مثاله: محمد رسول الله ومسيلمة ليس برسول. وينقسم إلى ثلاثة أقسام: عقلي، وشرعي، وعادي. فالعقلي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على تفكير دون توقف على شرع، ولا تجربة أو تكرار. مثاله: الله موجود، لا إله إلا الله. والشرعي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على وحي من الله مثل الصلوات الخمس فريضة على المكلفين، ولا يجوز شرب الخمر. والعادي إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه بناء على تجربة أو تكرار مثل: الأمطار تكثر بالشواطئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وينقسم الحكم الشرعي إلى تكليفي: كوجوب الزكاة، وتحريم القمار، واستنان ركعتي الفجر، وكراهية الأكل باليسار، وإباحة الطيبات من الطعام، والشراب، واللباس ونحوها. ووضعي: كسببية دخول الوقت لوجوب الصلاة، وشرطية الطهارة لصحتها، وكمنع الجنون من وجوبها، والحدث من صحتها، ومن ذلك: الصحة، والفساد، والرخصة، والعزيمة. وينقسم العادي إلى أربعة أقسام: ربط وجود بوجود، كربط الشبع بالأكل، وربط عدم بعدم: كربط عدم المطر بعدم السحاب، وربط وجود بعدم: كربط البرد بعدم اللباس والغطاء، وربط عدم بوجود: كربط عدم الصحة بوجود ميكروب المرض. وينقسم الحكم العقلي إلى ثلاثة أقسام: الوجوب، والاستحالة، والجواز. فالواجب: هو الثابت الذي لا يقبل الانتفاء لذاته: كثبوت العلم، والقدرة، والمحبة، والرضا، والوجه، واليدين، ونحوها من الكمالات لله، فإنها صفات ثابتة له -تعالى- لا تقبل الانتفاء. والمستحيل: هو المنفي الذي لا يقبل الثبوت: كشريك الباري، والجمع بين النقيضين، ورفعهما، والجمع بين الضدين. والجائز: يقال له: " الممكن " هو ما يقبل الوجود والعدم: كالمخلوقات التي نشاهدها، فإنها كانت معدومة فقبلت الوجود، ثم بعد وجودها فهي قابلة للعدم. "وقد يطلق الواجب على الأمر الثابت من حيث تعلق علم الله بثبوته، وإن كان ممكنا في ذاته". ويسمى الواجب لغيره، كوجود إنسان على كيفية معينة في عصر معين، فإن وقوعه على تلك الصفة في ذلك العصر واجب، باعتبار تعلق علم الله به كذلك، وإن كان ممكنا في ذاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وقد يطلق المستحيل على أمر معدوم يجوز أن يوجد لكنه امتنع وجوده لتعلق علم الله ببقائه على العدم، ويقال له: المستحيل لغيره. والذي يحتاج إليه من أقسام الحكم في مباحث التوحيد، وعليه تدور مسائله، الحكم العقلي. أما الشرعي: فيبحث عنه في علم الفقه، وأصوله، وفي الأخلاق، وآداب السلوك. وأما العادي: فله اتصال وثيق بالكونيات، وسنن الله فيها، وما يجربه البشر عليها من التجارب، وما يستفاد منها بالتكرار. ومعنى كون الوجوب والاستحالة والجواز حكما عقليا أنها لازمة لما حكم بها، لا تقبل التخلف عنه ولا الانفكاك، فقولنا: الله عليم وحكيم، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والضدان لا يجتمعان، قضايا لا تختلف أحكامها كما تختلف الأحكام العادية إكراما من الله لأوليائه، أو إثباتا لرسالة رسله، وكما تختلف الأحكام الشرعية الفرعية بنسخ أو استثناء، وليس المراد أنها تثبت بالعقل دون نصوص الشرع، فإن نصوص الشرع قد جاءت بأصول الدين، وكشفت للعقل عما خفي عليه، وقصر عن إدراكه من تفاصيل عقائد التوحيد، وسلكت به طريق الحق، وهدته إلى سواء السبيل. ولولا ما جاء فيها من البيان لارتكس العقل في حمأة الضلالة، وقام للناس العذر، وسقط عنهم التكليف، وقال الله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} . وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} . بل جاءت الرسل بما تحار في إدراك حقيقته العقول، وتعجز عن فهم كنهه الأفكار: كسؤال الميت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 قبره، ونعيمه، وعذابه، وحياة أهل النار في النار، ولكنها لا تحيله، ولا تقوى على رده، ولا تجد لديها من الأدلة الصحيحة ما ينقضه، بل وصلت العقول بتيسير الله لها، وهدايته إياها إلى ما يصدق هذا، وأمثاله مما جاءت به الرسل، ووقفت بما أتاح الله لها من الوسائل، وسخرت لها من الكون، وهداها إليه من التجارب على حقائق سبق أن أنكرتها، وسخرت ممن تحدث بها، وربما رمته بالسحر، والكهانة، أو الخيال، والجنون. وليس ذلك لشيء أكثر من أنها لم تقع تحت حسها، ولم تكن من إلفها، ومعهودها، فوجب أن تعترف بقصورها، وأن تقر بأن لإدراكها غاية لا تعدوها، وحدا تقف عنده، وتؤمن بما صح من وحي الله لرسله، وأن تسلم وجهها إلى الله، فإن اتهمت فلتتهم نفسها بالقصور والتقصير، دون أن تتهم الله ورسله، فإنها بذلك أولى، وهي به أقعد. قال -تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} . فإن حجب الإنسان بعد ذلك ركوبه لرأسه، لجهالة، أو كبر، أو هوى في نفسه، حاول بالباطل ليدحض به الحق، غلب على أمره، ودارت عليه الدوائر، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . وقال -تعالى-: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 مسائل في علم التوحيد المسألة الأولى إثبات أن العالم ممكن إن ما شاهدناه في ماضينا من الكائنات، وما نشاهده منها في حاضرنا ممكن: أي جائز الوجود، والعدم؛ وذلك لأنا نراه يتحول من عدم إلى وجود، ومن وجود إلى عدم، وهذا التغير والتحول دليل إمكانه، إذ لو كان واجبا لما سبق وجوده على العدم، ولما لحقه فناء، ولو كان مستحيلا لما قبل الوجود؛ لأن المستحيل لذاته لا يوجد، وحيث إننا قد شاهدناه موجودا بعد عدم ثبت أنه ممكن. المسألة الثانية الممكن محتاج إلى موجد ومؤثر وحيث ثبت أن العالم ممكن، والممكن ما استوى طرفاه -الوجود والعدم- بالنسبة إلى ذاته، فوجوده ليس من ذاته، وعدمه بعد وجوده ليس من ذاته، إذن لا بد له من سبب يرجح وجوده على العدم، إذ لو وجد بدون سبب خارج عن ذاته وحقيقته للزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، وهو باطل، ولو أوجد الممكن نفسه للزم من ذلك أن يكون متقدما على نفسه باعتباره خالقا لها، ومتأخرا على نفسه باعتباره مخلوقا لها، وتقدم الشيء على نفسه، وتأخره عنها محال بالضرورة لما فيه من التناقض الواضح، فثبت أن الممكن لا بد له من موجد غير ذاته وحقيقته، يوجده ويدبر شئونه في كل أحواله، هذا المغاير: إما المستحيل، وإما الواجد، ولا جائز أن يكون موجده هو المستحيل؛ لأن المستحيل غير موجود فلا يؤثر، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه. فثبت أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 موجده هو الواجب، وهو الله -تعالى-. وقد أرشدنا الله -تعالى- إلى ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم. قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} . فقد أنكر -سبحانه- أن يكونوا قد خلقوا بلا خالق، وأن يكونوا قد خلقوا أنفسهم، فإذن لا بد لهم من خالق موجود مغاير لهم وهو الله تعالى. ومن ذلك يتضح اتفاق الفطرة، والعقل السليم والسمع، على أن العالم محتاج إلى صانع، ومستند إلى موجد أوجده. المسألة الثالثة إثبات وجوب الوجود لله سبحانه وتعالى إن لفظ الوجود، ومعناه المطلق، يشترك فيهما كل من الممكن والواجب، والحادث والقديم الأزلي. فالله يوصف بأنه موجود، والحادث يقال له -أيضا- أنه موجود، ولكن للممكن وجود يخصه، فإنه حادث سبق وجوده عدم، ويلحقه الفناء، وهو في حاجة دائمة ابتداء، ودواما، إلى من يكسبه، ويعطيه الوجود، بل يحفظه عليه. ولله - تعالى- وجود يخصه، فهو -سبحانه- واجب الوجود لم يسبق وجوده عدم، ولا يلحقه فناء، ووجوده من ذاته لم يكسبه من غيره. وذلك لأنه تعالى الغني عن كل ما سواه، وبذلك جاء السمع، وشهد العقل. أما السمع: فمنه قوله-تعالى-: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} . وأما العقل: فبيانه أنه تعالى: لو كان مستحيل الوجود لم يصح أن يستند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 إليه الممكن في حدوثه بداهة؛ لأن المستحيل ما لا يتصور في العقل وجوده، وفاقد الشيء لا يعطيه. ولو كان ممكنا لافتقر في حدوثه إلى من يرجح وجوده على عدمه لما تقدم، فإن استمرت الحاجة، فاستند كل في وجوده إلى نظير له من الممكنات لزم إما الدور القبلي، وإما التسلسل في المؤثرات إلى ما لا نهاية، وكلاهما محال، وإذا انتفى عنه الإمكان والاستحالة ثبت له الوجوب ضرورة؛ لأن أقسام الحكم العقلي ثلاثة، وقد انتفى اثنان، فتعين الثالث، وهو الوجوب فالله -تعالى- واجب الوجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وقد أرشدنا الله إلى ذلك في كثير من الآيات. منها قوله -تعالى-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . وهذه الآية، وإن سيقت للاستدلال على توحيد الألوهية الذي تقدم قبلها في قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} . إلا أنها تدل دلالة قاطعة على توحيد الربوبية، فإن استحقاقه -تعالى- للعبادة، واختصاصه بها فرع عن وجوده، وانفراده بالخلق، والتدبير، والتصريف، والتقدير. ومنها قوله -تعالى-: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} . فهذه الآيات، وإن ذكرت لتنزيه الله -تعالى- وتقديسه عما ظنه به منكرو البعث، وسيقت لإثبات قدرته على المعاد. كما يرشد إليه ما قبلها من الآيات، فهي دليل -أيضا- على وجوب وجوده -تعالى - لاستناد ما ذكر في الآيات من المخلوقات إليه. وحدوثه، ولا يعقل ذلك إلا إذا كان واجب الوجود. فمن نظر إلى ما ترشد هذه الآيات، ونحوها من سنن الله في العالم نظرا ثاقبا، وفكر في عجائب خلقها، وحسن تنسيقها، وشدة أسرها تفكيرا عميقا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وبحث في أحكامها، وبديع صنعها بحثا بريئا من الهوى، والحمية الجاهلية، وأنصف مناظره من نفسه، فلم يمنعه من فهم ما عرض عليه من الحق، والإذعان له كبر يرديه، ولا عناد يطغيه، اتضح له طريق الهدى. واضطره ذلك أن يستيقن النتيجة، ويؤمن من أعماق قلبه، بأن للعالم ربا خلاقا فاعلا مختارا حكيما في تقديره، وتدبيره أحاط بكل شيء علما، وهو على كل شيء قدير. ومع قيام الدليل، ووضوح السبيل، تعامى فرعون موسى عن الحق، وتجاهل ما استيقنته نفسه، وأنكر بلسانه ما شهدت به الفطرة، ودل عليه العقل من وجود واجب الوجود، فأقام موسى عليه الحجة، بدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع، ووجود العالم، وعظم خلقه على وجود الخالق، وعظيم قدرته، وسعة علمه، وكمال حكمته، فغلبه بحجته. وذلك بين واضح فيما حكاه الله عنهما من الحوار، والسؤال، والجواب: قال -تعالى-: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} . فانظر كيف وقف موسى موقف من يصدع بالحق، ويقيم عليه البرهان؟ وكيف وقف فرعون من موسى موقف السفهاء، لا يملك إلا الشتم، والسباب، والسخرية، والاستهزاء، والتهديد بأليم العذاب؟ !!. وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وقال -تعالى-: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} . وإن فرعون حينما أخذته الحجة، وانتصر عليه موسى، لم يبق بيده سلاح إلا التمويه على قومه، وإنذار موسى، ومن آمن به أن يذلهم، ويذيقهم العذاب الأليم. وأنى له ذلك! والله من ورائهم محيط؟ ! وقد كتب على نفسه أن يجعل العاقبة للمتقين. وقال -تعالى-: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} . وقد ورث ذلك الزيغ، والإلحاد أناس ظهروا في عصور متعاقبة بأسماء مختلفة، واشتهروا بألقاب متنوعة. فتارة يسمون بالدهريين: وأخرى برجال الحقيقة، ووحدة الوجود. وأحيانا بالشيوعيين، وأخرى بالوجوديين. (اللقب الجديد) وآونة بالبهائيين. إلى غير ذلك من العبارات التي اختلفت حروفها ومبانيها، وائتلفت مقاصدها، واتحدت معانيها، فكلها ترمي إلى غرض واحد، وتدور حول محور واحد، هو أنه ليس للعالم رب يخلق ويدبر، وليس له إله يعبد ويقصد. وبما تقدم من دليل حاجة الممكن إلى موجد، ودليل وجوب وجوده -تعالى- يظهر لك فساد مذهبهم، وخروجه عن مقتضى النظر، وموجب العقل، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 يصدق ذلك، ويؤيده من أدلة السمع. فإن زعم زاعم منهم بعد ذلك أن وجود العالم وليد الصدفة والاتفاق. أو أنه نشأت أطواره عن تفاعل بين عناصر المادة، فتفرقت إلى وحدات بعد اجتماع، أو اجتمعت، وائتلفت بعد تفرق، واختلاف. وصار لتلك الوحدات، أو المركبات من الخواص ما لم يكن لها قبل هذا التفاعل، وبذلك تجددت الظواهر، وحدث ما نشاهده من تغيير، وآثار مع جريانها على سنة لا تتبدل، وناموس لا يختلف، ولا يتغير. قيل له: من الذي أودع تلك المادة طبيعتها، وأكسبها خواصها، فإنها إن كانت لها من ذاتها، ومقتضى حقيقتها لم تقبل التغير والزوال؛ لأن ما بالذات لا يتخلف ولا يزول، وقد رأيناها تتبدل، فلا بد لها من واهب يهبها، وفاعل مختار حكيم عليم يدبرها، ويضعها في محالها، وليس ذلك من المادة وحدها، ولا خواصها، أو طبيعتها القائمة بها، فإنها ليس لها من سعة العلم، وكمال الحكمة، وشمول المشيئة، وعظيم القدرة ما ينتظم معه الكون على ما نشاهد من إحكام تبهر العقول دقته وجماله، ومن إبداع يأخذ بمجامع القلوب ما فيه من شدة الأسر، وقوة الربط بين وحداته، كمال التناسب، والتكافؤ بين أجزائه، وقيام كل من الآخر مقام الخادم من سيده، والراعي من رعيته. ألا إن الطبيعة صماء لا تسمع، بكماء لا تنطق، عمياء لا تبصر، جاهلة لا تعلم، مسخرة لمن أودعها المادة، خاضعة لتصريفه وتقديره، سائرة على ما رسم لها من سنن لا تعدوها، ونواميس لا تخرج عنها، فأنى يكون لها خلق وإبداع أو إليها تنظيم وتدبير أو منها وحي وتشريع؟ ! إنما ذلك إلى الله وحده -تعالى الله عما يقول الملحدون-: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} . ولا يعيب الحق بعد ذلك أن يتنكب طريقه من مسخت فطرته، واتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه، وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، ولا يضير الدعاة إلى الحق أن عدل عن طريقه المستقيم من انحراف مزاجه، أو غلبته شهوته، فخشي أن تحد الشريعة من نزعاته الخبيثة، وتحول دون وصوله إلى نزواته الدنيئة، أو أطغاه كبره وسلطانه، وخاف أن تذهب الشريعة بزعامته الكاذبة، وسلطانه الجائر، فوقف في سبيلها، ولج في خصامها بغيا وعدوانا. فإن الله ناصر دينه، ومؤيد رسله، وأولياءه. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 المسألة الرابعة في أنواع التوحيد أنواع التوحيد ثلاثة: 1 - توحيد الربوبية . 2 - توحيد الأسماء والصفات . ويقال له أيضا: توحيد الخبر، وتوحيد المعرفة والإثبات. 3 - توحيد العبادة ويسمى -أيضا-: توحيد الإلهية، وتوحيد الإرادة والقصد، وتوحيد الطلب. توحيد الربوبية أما توحيد الربوبية: فهو توحيد الله -تعالى- بأفعاله. والإقرار بأنه خالق كل شيء ومليكه، وإليه يرجع الأمر كله في التصريف والتدبير. فهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو الذي يرسل الرسل، ويشرع الشرائع، ليحق الحق بكلماته، ويقيم العدل بين عباده شرعا وقدرا إلى غير ذلك مما لا يحصيه العد، ولا تحط به العبارة. وهذا النوع من التوحيد قد أقرت به الفطرة، وقام عليه دليل السمع والعقل، ولم يعرف عن طائفة بعينها القول بوجود خالقين متكافئين في الصفات والأفعال. ومن نقل عنهم من طوائف المشركين نسبة شيء من الآثار والحوادث لغير الله، كقوم هود، حيث قالوا فيما حكاه الله عنهم: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} . فإن ما نسبوه إلى آلهتهم إنما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 لزعمهم أنها وثيقة الصلة بالله، وأنها شفيعة لمن عبدها، وتقرب إليها بالقرابين عند الله، في جلب النفع له، ودفع الضرر عنه. ومن أجل هذه الشائبة من الشرك في الربوبية نبه الله على بطلانه، وأنكر على من زعمه، فقال -تعالى-: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . فبين -سبحانه- أنه لو كان معه إله يشركه في استحقاقه العبادة لكان له خلق، وملك، وقهر، وتدبير. إذ لا يستحق العبادة إلا من كان كذلك، ليرجى خيره ونفعه، فيطاع أمره، وينفذ قصده، ويخشى بأسه وبطشه. فلا يعتدى على حدوده، ولا ينتهك حماه، ولو كان له خلق، وتدبير، وملك، وتقدير لعلا على شريكه، وقهره إن قوي على ذلك؛ ليكون له الأمر وحده، ولذهب بخلقه، وتفرد بملكه دون شريكه إن لم يكن لديه القوة والجبروت ما يفرض به سلطانه على الجميع. فإن من صفات الرب -تعالى- كمال العلو، والكبرياء، والقهر، والجبروت، وفي معنى هذه الآية قوله -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} . إذا كان المعنى المراد لاتخذوا سبيلا إلى مغالبته، وقيل: المعنى لاتخذوا سبيلا إلى عبادته، وتأليهه، والقيام بواجب حقه وابتغوا إلى رضاه سبيلا، كما قال -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وقد استخلص بعض العلماء من ذلك دليلا سموه: دليل التمانع، استدلوا به على توحيد الربوبية. قالوا: لو أمكن أن يكون هناك ربان يخلقان ويدبران أمر العالم لأمكن أن يختلفا بأن يريد أحدهما وجود شيء، ويريد الآخر عدمه، أو يريد أحدهما حركة شيء، ويريد الآخر سكونه، وعند ذلك إما أن يحصل مراد كل منهما، وهو محال؛ لما يلزمه من اجتماع النقيضين، وإما أن يحصل مراد واحد منهما دون الآخر فيكون الذي نفذ مراده دون الآخر لعجزه، والعاجز لا يصلح أن يكون ربا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 توحيد الأسماء والصفات وأما توحيد الأسماء والصفات: فهو أن يسمى الله ويوصف، بما سمى ووصف به نفسه، أو سماه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تأويل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل. ومن تبصر في العالم، وعرف شئونه وأحواله تبين له كمال تعلقه خلقا وأمرا بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا، وارتباطه بها أتم ارتباط، وظهر له أن الوجود كله آيات بينات، وشواهد واضحات على أسماء الله، وصفاته. وقد ذكر (ابن القيم) في: "مدارج السالكين" طريقين لإثبات الصفات: الإحسان، والنفع، ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه، وإحسانه، ووجوده، وما فيه من آثار الكمال يدل على أن خالفه أكمل منه، فمعطي الكمال أحق بالكمال. وخالق الأسماع، والأبصار، والنطق أحق أن يكون سميعا بصيرا متكلما. وخالق الحياة، والعلوم، والقدر، والإرادات أحق بأن يكون هو كذلك في نفسه، فما في المخلوقات من أنواع التخصيصات هو من أدل شيء على إرادة الرب -سبحانه- ومشيئته، وحكمته التي اقتضت التخصيص، وحصول الإجابة عقيب سؤال الطالب على الوجه المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات، وعلى سمعه لسؤال عبيده، وعلى قدرته على قضاء حوائجهم، وعلى رأفته ورحمته بهم، والإحسان إلى المطيعين، والتقرب إليهم، والإكرام لهم، وإعلاء درجاتهم يدل على محبته ورضاه. وعقوبته للعصاة، والظلمة، وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهودة تدل على صفة الغضب. والسخط، والإبعاد والطرد، والإقصاء يدل على المقت، والبغض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فهذه الدلالات من جنس واحد عند التأمل، ولهذا دعا -سبحانه- عباده إلى الاستدال بذلك على صفاته، فهو يثبت العلم بربوبيته، ووحدانيته، وصفات كماله بآثار صنعته المشهودة، والقرآن مملوء، فيظهر شاهد اسم الخالق من المخلوق نفسه، وشاهد اسم الرازق من وجود الرزق، والمرزوق، وشاهد اسم الرحيم من شهود الرحمة المبثوثة في العالم، واسم المعطي من وجود العطاء الذي هو مدرار لا ينقطع لحظة، واسم الحليم من حلمه على الجناة، والعصاة، وعدم معاجلتهم بالجزاء، واسم الغفور، والتواب من مغفرة الذنوب، وقبول التوبة، ويظهر اسم الحكيم من العلم بما في خلقه، وأمره من الحكم، والمصالح، ووجود المنافع. وهكذا كل اسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره. يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله. فالخلق، والأمر من أعظم شواهد أسمائه وصفاته. وكل سليم العقل، والفطرة يعرف قدرة الصانع، وحذقه على غيره، وتفرده بكمال لم يشاركه فيه غيره من مشاهدة صنعته فكيف لا تعرف صفات من هذا العالم العلوي والسفلي، وهذه المخلوقات من بعض صنعه، وإذا اعتبرت المخلوقات، والمأمورات وجدتها بأسرها كلها دالة على النعوت، والصفات، وحقائق الأسماء الحسنى، وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمى، ومكابرة، ويكفي ظهور شاهد الصنع فيك خاصة، كما قال -تعالى-: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} . فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب -جل جلاله- ونعوته، وأسمائه، هي كلها تشير إلى الأسماء الحسنى، وحقائقها، وتنادي بها وتدل عليها، وتخبر بها بلسان النطق والحال كما قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملك الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملتها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل فلست ترى شيئا أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها ونعوت كماله، وحقائق أسمائه، وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها فهي تدل عقلا، وحسا، وفطرة، واعتبارا. ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 توحيد الإلهية وأما توحيد الإلهية: فهو إفراد الله بالعبادة: قولا، وقصدا، وفعلا، فلا ينذر إلا له، ولا تقرب القرابين إلا إليه، ولا يدعى في السراء والضراء إلا إياه، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، إلى غير ذلك من أنواع العبادة. وهذا النوع هو الذي من أجله بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وبدأ به كل رسول دعوته، ووقعت فيه الخصومة بينه وبين أمته. وهو الذي من أجله شرع الجهاد، وقامت الحرب على ساقها بين الموحدين والمشركين. والطريق الفطري لإثبات توحيد الإلهية الاستدلال عليه بتوحيد الربوبية. فإن قلب الإنسان يتعلق أولا بمصدر خلقه، ومنشأ نفعه وضره، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقربه إليه، وترضيه عنه، وتوثق الصلات بينه وبينه، فتوحيد الربوبية باب لتوحيد الإلهية. من أجل ذلك احتج على المشركين، وأرشدهم رسوله إلى هذه الطريقة، وأمره أن يدعو به قومه، قال -تعالى-: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . فقد استدل بتفرده بالربوبية، وكمال التصرف، وحمايته ما يريد أن يحميه على استحقاقه وحده للعبادة، ووجوب إفراده بالإلهية قال -تعالى-: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأخبر بأن البعث استدل -سبحانه- على قدرته على البعث، وتفرده باستحقاقه بآياته الكونية، فقال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} . إلى قوله -تعالى-: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} . وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلى أن قال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فجعل -سبحانه- تفرده بالربوبية خلقا للحاضرين والسابقين، وتمهيده الأرض، ورفعه السماء بغير عمد يروها، وإنزاله الأمطار ليحيي بها الأرض بعد موتها، ويخرج بها رزقا لعباده بابا إلى توحيد الإلهية وآية بينة على استحقاقه وحده العبادة، وقال -تعالى-: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى أن قال: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . فقررهم -سبحانه- بما لا يسعهم إنكاره، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق، والملك، والتدبير، والإحياء، والإماتة، والبدء، والإعادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 والإرشاد، والهداية ليقيم به عليهم الحجة في وجوب تقواه دون سواه. وينكر عليهم حكمهم الخاطئ، وشركهم الفاضح، وعكوفهم على من لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ولا حياة ولا نشورا، قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِي نَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . فأنكر -سبحانه- أن يكون معه من خلق، ودبر، أو صرف، وقدر، أو يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، أو يولي، أو يعزل، وينصر، ويخذل، أو ينقذ من الحيرة، ويهدي من الضلالة، أو يبدئ ويعيد، ويبسط الرزق لمن يشاء، ويقدر إلى غير ذلك مما استأثر الله به. وهذا مما استقر في فطرتهم، ونطقت به ألسنتهم، وبه قامت الحجة عليهم فيما دعتهم إليه الرسل من توحيد العبادة، وما ذكر من الآيات قليل من كثير. ومن سلك طريق القرآن في الاستدلال، واهتدى بهدى الأنبياء في الحجاج اطمأنت نفسه، وقوي يقينه، وخصم مناظره (أي انتصر) عليهم، فإن في ذلك الحجة، والبرهان من جهتين: الأولى: أنه خبر المعصوم. والثانية: أنه موجب الفطرة، ومقتضى العقل الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 المسألة الخامسة في الفرق بين النبي والرسول وبيان النسبة بينهما النبي: مشتق من النبأ، بمعنى: الخبر، فإن كان المراد أنه يخبر أمته بما أوحى الله إليه، فهو فعيل، بمعنى: فاعل، وإن كان المراد أن الله يخبره بما يوحى إليه، فهو فعيل، بمعنى مفعول، ويصح أن يكون مأخوذا من النبء (بالهمزة وسكون الباء) ، أو النبوة، أو النباوة (بالواو) ، كلها بمعنى: الارتفاع والظهور، وذلك لرفعة قدر النبي، وظهور شأنه وعلو منزلته. والفرق بين النبي والرسول: أن الرسول: من بعثه الله إلى قوم، وأنزل عليه كتابا، أو لم ينزل عليه كتابا لكن أوحى إليه بحكم لم يكن في شريعة من قبله. والنبي: من أمره الله أن يدعو إلى شريعة سابقة دون أن ينزل عليه كتابا، أو يوحي إليه بحكم جديد ناسخ أو غير ناسخ، وعلى ذلك، فكل رسول نبي، ولا عكس، وقيل: هما مترادفان، والأول أصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 2 - الرسالة الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام ركن من أركان الدين، فلا يستقيم لأحد دين ولا يقبل منه عمل إلا إذا أيقن برسالتهم، وأذعن لكل ما جاءوا به من الشرائع كل حسب طاقته وبقدر ما بلغه من ذلك إجمالا أو تفصيلا، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ، وفي الحديث: «أن جبريل سأل النبي -عليهما الصلاة والسلام- عن الإيمان، فبينه بقوله: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره» . بيان كفر من آمن ببعض الرسل وكفر ببعض ومن زعم أنه آمن ببعض الرسل دون بعض لم يقبل منه ذلك، وكان في حكم من كفر بالجميع، وذلك لأمرين: الأول: أن من تقدم من الرسل قد بشر بمن تأخر منهم، وأخذ عليه وعلى من تبعه العهد والميثاق إن أدركهم أن يؤمنوا به وينصروه، وأن من تأخر منهم مصدق لمن بين يديه، فمن كفر بواحد منهم تقدم أو تأخر فهو كافر بجميعهم. الثاني: أن الأمر الذي ثبت به رسالة من آمن به منهم، ومن أجله صدقه، وهو المعجزة، قد أجرى الله مثله على يد من كفر به من الأنبياء تصديقا لهم في دعوى الرسالة، قال صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» ، فكان إيمانه بمن آمن به، وكفره بغيره منهم اتباعا للهوى لا لدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 النبوة وإلا لآمن بالجميع، ومن كان إيمانه تبع هواه ولو تغير هواه لتغير إيمانه فليس بمؤمن في حكم الشريعة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} . والقول في رسالة الرسل عليهم الصلاة والسلام يتشعب شعبا كثيرة ويرجع إلى مباحث عدة، يرجع إلى إمكان أن يوحي الله إلى بعض من يصطفيه من عباده بشريعة ليهدي بها أمته سواء السبيل، ثم إلى حاجة العالم إلى هذه القيادة الرشيدة والشريعة المستقيمة ليكون إرسالهم على مقتضى الحكمة وموجب العدالة الإلهية، ثم إلى بيان ما يؤيدهم الله به من الآيات البينات والمعجزات الباهرات التي تدل على صدقهم فيما ادعوه من الرسالة والبلاغ عن الله لتقوم بذلك الحجة وينقطع العذر، ثم إلى بيان ما يتعلق بذلك من تنوع المعجزات وحكمته، وبيان الفوارق بين المعجزات والسحر والكهانة، وبيان ما يعد الله به رسله قبل الرسالة من السيرة الحميدة والأخلاق الفاضلة؛ ليكون ذلك أقرب إلى أن تستجيب لهم أممهم، وتتقبل عنهم ما دعوهم إليه. وقد تكفل الله ببيان ذلك كله خبرا وعقلا وفطرة فيما أنزل على رسله، فعلمهم سبحانه طريق الحجة والبرهان التي يخضع لها العقل الصريح، وسلك بهم الطريقة المثلى التي لا يرتاب فيها إلا من سفه نفسه وأنكر فطرته. وإليك تفصيل ذلك؛ لتعلم أن الشرائع الإلهية تعتمد في أصولها الحجة والإقناع، وإن جاء في فروعها وتفاصيل أصولها ما قد يعجز العقل عن إدراك حكمته، فطريقه ثبوت مثل هذا الخبر عن المعصومين عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 مباحث الكلام على الرسالة المبحث الأول 1 - إمكان الوحي والرسالة لا يبعد في نظر العقل، ولا يستحيل في تقدير الفكر أن يختص واهب النعم ومفيض الخير -سبحانه- بعض عباده بسعة في الفكر، ورحابة الصدر، وحسن قيادة، وكمال صبر، وسلامة في الأخلاق؛ ليعدهم بذلك لتحمل أعباء الرسالة، ويكشف لهم عما أخفاه عن غيرهم، ويوحي إليهم بما فيه سعادة الخلق وصلاح الكون رحمة للعالمين، وإعذارا إلى الكافرين، وإقامة للحجة على الناس أجمعين، فإنه -سبحانه- بيده ملكوت كل شيء وهو الفاعل المختار، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وهو على كل شيء قدير. وآية ذلك: أنا نشاهد أن الله سبحانه خلق عباده على طرائق شتى في أفكارهم ومذاهب متباينة في مداركهم، فمنهم من سما عقله واتسعت مداركه واطلع من الكون على كثير من أسراره، حتى وصل بما منحه الله من ثاقب الفكر، ويسر له من التجارب إلى أن اخترع للناس ما رفع إليه من أجله أولو الألباب رؤوسهم إعجابا به، وشهادة له بالمهارة، وأنكره عليه صغار العقول، وعدوه شعوذة وكهانة أو ضربا من ضروب السحر، ولم يزالوا كذلك حتى استبان لهم بعد طوال العهد ومر الأزمان ما كان قد خفي عليهم فأذعنوا له وأيقنوا بما كانوا به يكذبون. ومنهم من ضعف عقله، وضاقت مداركه فعميت عليه الحقائق واشتبه عليه الواضح منها، فأنكرت البديهيات، ورد الآيات البينات، ومنهم من انتهى به انحراف مزاجه واضطراب تفكيره إلى أن أنكر ما تدركه الحواس كطوائف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 السفسطائية. وكما ثبت التفاوت بين الناس في العقول والأفكار بضرورة النظر وبديهة العقل، ثبت التفاوت بينهم -أيضا- في قوة الأبدان وضعفها، وسعة الأرزاق وضيقها، ونيل المناصب العالية والاستيلاء على زمام الأمور وقيادة الشعوب، والحرمان من ذلك إما للعجز وإما للقصور أو التقصير وإما لحكم أخرى يعلمها بارئ الكائنات، ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، وربما كشف الغطاء عن الكثير منها لمن تدبر القرآن وعرف سيرة الأنبياء وتاريخ الأمم وما جرى عليها من أحداث. فمن شاهد ما مضت به سنة الله في عباده من التفاوت بينهم في مداركهم وقواهم وإرادتهم، وغير ذلك من أحوالهم لم يسعه إلا أن يستسلم للأمر الواقع، ويستيقن أن الله ينبئ من شاء من خلقه ويصطفي من أراد من عباده: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} ، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بل هذا الحوار وأمثاله مما دار بين الرسل وأممهم يدل على أنهم لم يكونوا ينكرون أصل الرسالة، ولم يكونوا يستبعدون أن يصطفي الله روحا طيبة لوحيه، أو يختار نفسا طاهرة لتبليغ رسالته وهداية خلقه، لكنهم استبعدوا أن يكون ذلك الرسول من البشر، وظنوا خطأ أنه إنما يكون من الملائكة، زعما منهم أن البشرية تنافي الرسالة، فمهما صفت روح الإنسان وسمت نفسه واتسعت مداركه فهو في نظرهم أقل من أن يكون أهلا؛ لأن يوحي الله إليه، وأحقر من أن يختاره -سبحانه- لتحمل أعباء رسالته. وقد ذكر الله عنهم هذه الشبهة، وردها بما لا يسع العاقل إلا قبوله والإذعان له، ومن نظر في الكتب المنزلة وتصفح ما رواه علماء الأخبار مما دار بين الأنبياء وأممهم من الجدال والحجاج اتضح له ذلك، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} الآيات إلى قوله: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} فانظروا كيف فروا من ميدان المناظرة إلى استعجال الهلاك، وطلبوا ذلك من نوح، فبين لهم أن ذلك إلى الله لا إليه، إن عليه إلا النصح والبلاغ المبين وإقامة الحجة والبرهان، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} ، فذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 شبهتهم، ثم ردها بما آتاه من المعجزة الدالة على صدقه، وبنصره وإهلاكهم؛ فإن العاقبة للمتقين. وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} ، وقال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، إلى غير ذلك من الآيات التي دلت على إنكار الأمم لم يكن لأصل الرسالة إنما كان لبعث رسول إليهم من جنسهم. ولو قال قائل: إن أئمة الكفر وزعماء الضلالة كانوا يوقنون بإمكان أن يرسل الله رسولا من البشر، غير أنهم جحدوا ذلك بألسنتهم حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، وتمويها على الطغام من الناس وخداعا لضعفاء العقول، وتلبيسا عليهم خشية أن يستجيبوا إلى مقتضى الفطرة، ويسارعوا إلى داعي الدين ومتابعة المرسلين -لو قال ذلك قائل- ما كان بعيدا عن الحقيقة ولا مجافيا للصواب، بل بدرت منهم البوادر التي تؤيد ذلك وتصدقه، وسبق إلى لسانهم ما يرشد البصير إلى ما انطوت عليه نفوسهم من الحسد والاستكبار أن يؤتى الرسل ما أوتوا دونهم، وأن ينالوا من الفضيلة وقيادة الأمم إلى الإصلاح ما لم ينل هؤلاء، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وقال: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} . هذا وليس بدعا أن يختار الله نبيا من البشر، ويبعث إليهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، بل ذلك هو مقتضى الحكمة وموجب العقل وما جرت به سنة الله في أنبيائه. فإن الله سبحانه قد مضت سنته في خلقه أن يكونوا أنواعا مختلفة على طرائق شتى وطبائع متباينة، لكل نوع غرائزه وميوله، أو خواصه ومميزاته التي تقتضي الأنس والتآلف بين أفراده، وتساعد على التفاهم والتعاون بين جماعاته، ليستقيم الوجود، وينتظم الكون، فكان اختيار الرسول من الأمة أقرب إلى أخذها عنه وأدعى إلى فهمها منه وتعاونها معه لمزيد التناسب وإمكان الإلف بين أفراد النوع الواحد، ولو كان عمار الأرض من الملائكة لاقتضت الحكمة أن يبعث الله إليهم ملكا رسولا، وقد أرشد الله إلى ذلك في رده على من استنكر أن يرسل إلى البشر رسول منهم، قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} ، ولكن شاء الله أن يجعل عمار الأرض من البشر، فاقتضت حكمته أن يرسل إليهم من أنفسهم، بل اقتضت حكمته ما هو أخص من ذلك ليكون أقرب إلى الوصول للغاية، وتحصيل المقصود من الرسالة فكتب على نفسه أن يرسل كل رسول بلسان قومه، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . ولو قدر أن الله أجاب الكفار إلى ما طلبوا من إرسال ملك لجعل ذلك الملك في صورة رجل؛ ليتمكنوا من أخذ التشريع عنه والاقتداء به فيما يأتي ويذر، ويخوض معهم ميادين الحجاج والجهاد، وإذ ذاك يعود الأمر سيرته الأولى، كما لو أرسل الله رسولا من البشر، ويقعون في لبس وحيرة، جزاء وفاقا، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} . ومن نظر في آيات القرآن، وعرف تاريخ الأمم تبين له أن سنة الله في عباده أن يرسل إليهم رسولا من أنفسهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} ، وفي ذلك الرد الواضح على من زعم منافاة البشرية للرسالة ببيان سنة الله في رسله وحكمته في اختيارهم على نحو يكفل المصلحة وينتهي بالأمة إلى المقصود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المبحث الثاني 2 - حاجة العالم إلى الرسالة الأفعال الاختيارية منها ما تحمد عاقبته، فيجمل بالعاقل فعله والحرص عليه، ولو ناله في سبيل تحصيله حرج ومشقة، وأصابه منه في عاجل أمره كثير من الآلام، ومنها ما تسوء مغبته، فيجدر بالعاقل أن يتماسك دونه، وأن يتنكب طريقه خشية شره، وطلبا للسلامة من ضره وإن كان فيه ما فيه من اللذات العاجلة التي تغري الإنسان بفعله، وتخدعه عما فيه سلامته. غير أن العاقل قد يقصر في كثير من شئونه عن التمييز بين إدراك ما قصر عنه إدراكه، وقد يعجز كليا عن العلم بما يجب عليه علمه؛ لأنه ليس في محيط عقله، ولا دائرة فكره، مع ما في علمه به من صلاحه وسعادته، وذلك كمعرفته بالله واليوم الآخر والملائكة تفصيلا، فكان في ضرورة إلى من يهديه الطريق في أصول دينه، وقد يتردد في أمر إما لعارض هوى وشهوة أو لتزاحم الدواعي واختلافها، فيحتاج إلى من ينقذه من الحيرة، ويكشف له عن حجاب الضلالة بنور الهدى، فبان بذلك حاجة العالم إلى رسول يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكلمهم بمعرفة ما قصرت عنه أفهامهم، ويوقفهم على حقيقة ما عجزوا عنه، ويدفع عنهم آلام الحيرة ومضرة الشكوك. أضف إلى ذلك: أن تفاوت العقول وتباين الأفكار واختلاف الأغراض والمنازع ينشأ عنه تضارب الآراء وتناقض المذاهب، وذلك يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال والاعتداء على الأعراض وانتهاك الحرمات، وبالجملة ينتهي إلى تخريب وتدمير لا إلى تنظيم وحسن تدبير، ولا يرتفع ذلك إلا برسول يأتي بفصل الخطاب، ويقيم الحجة، ويوضح المحجة، وينشر العدل، فاقتضت حكمة الله أن يرسل الرسل، وينزل الكتب رحمة بعباده وإقامة للعدل بينهم، وتبصيرا لهم بما يجب عليهم من حقوق خالقهم، وإعانة لهم على أنفسهم، وإعذارا إليهم؛ فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وأنزل الكتب، ففي الحديث أن سعد بن عبادة قال: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الجنة» . ومما تقدم يعلم أن إرسال الله للرسل مما يدخل في عموم قدرته، وتقتضيه حكمته فضلا من الله ورحمة، والله عليم حكيم، وهذا هو القول الوسط والمذهب الحق. وقد أفرط المعتزلة فقالوا: إن بعثة الرسل واجبة على الله إبانة للحق، وإقامة للعدل ورعاية للأصلح، وهذا مبني على ما ذهبوا إليه من القول بالتحسين والتقبيح العقليين وبناء الأحكام عليهما -ولو لم يرد شرع- وهو أصل فاسد. وتطرف البراهمة، فأحالوا أن يصطفي الله نبيا ويبعث من عباده رسولا، وزعموا أن إرسالهم عبث، إما لعدم الحاجة إليهم اعتمادا على العقل في التمييز بين المصالح والمفاسد، واكتفاء بما يدركه مما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد، وإما لاستغناء الله عن عباده، وعدم حاجته إلى أعمالهم، خيرا كانت أو شرا؛ إذ هو سبحانه لا ينتفع بطاعتهم، ولا يتضرر بمعصيتهم. وقد سبق بيان عدم كفاية العقل في إدراك المصالح والمفاسد، وحاجة العالم إلى رسالة تحقيقا لمصالحهم، مع غنى الله عن الخلق وأعمالهم، فليس إرسالهم عبثا، بل هو مقتضى الحكمة والعدالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 المبحث الثالث 3 - طريقة الرسل في إثبات توحيد الألوهية والعبادة لم يدع الأنبياء أممهم إلى الإيمان بما جاءوا به من الشرائع دون بينة أو برهان يكون شاهد صدق على إثبات أن ما دعوهم إليه وحي من الله وشرعه الذي ارتضاه لعباده دينا، ولم يلزموهم بذلك دون إقناع تقوم به الحجة ويسقط به العذر، بل تحدى كل رسول أمته بما آتاه الله من الآيات البينات، والمعجزات الباهرات التي يخضع لها العقل السليم، وتتصاغر أمامها قوى الشر، وطلب منهم أن يأتوا بمثل ما ظهر على يده من خوارق العادات -وأنى لهم ذلك وهو من اختصاص واهب القوى والقدر- فلما عجزوا عنه كان دليلا واضحا على صدقهم في دعوى الرسالة، وأن ما جاءوا به شرع الله ودينه الحق. فإن لله سبحانه من كمال الحكمة والعدالة وسعة الرحمة والجود وسابغ الكرم والإحسان ما يمتنع معه أن يؤيد متنبئا كذابا يخدع العباد ويفسد عليهم أمر دينهم ودنياهم؛ بل يستحيل في حكمه وعدله أن يبقى عليه أو يهمله؛ لما في ذلك من التلبيس والتضليل وفساد الكون وتخريبه، وهو شر محض، والشر ليس إليه سبحانه، ففي الحديث: «الخير كله بيديك والشر ليس إليك» . وقد بين سبحانه أنه بالمرصاد لمن افترى عليه كذبا، أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، فقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} . وإذا أبت حكمة الله وسعة رحمته أن يترك عباده سدى فلا يرسل إليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 رسولا يأمرهم وينهاهم، ويبين لهم معالم الهدى وشرائع الحق، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، فأولى في حكمه العدل ورحمته الواسعة أن يقضي على المتنبئين كذبا وافتراء، وأن يعاجلهم بالعقوبة والهلاك رحمة للعالمين وتمييزا بين رسله الصادقين والمتنبئين الكاذبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 المبحث الرابع 4 - الفرق بين المعجزة والسحر كل ما لم تبلغه طاقة البشر ولم يقع في دائرة قدرتهم فهو معجز، وقد تطلق المعجزة على ما خرج عن طاقة العامة من الخلق دون الخاصة، كبعض المسائل العلمية المشكلة، واختراع بعض الآلات والأجهزة الحديثة ونحوها مما لا يقوى عليه إلا الخواص من الناس، كالغوص والسباحة وحمل الأثقال، وهذا عجز نسبي يكون في مخلوق دون آخر. والمراد من المعجزة: هذا الأمر الخارق عن سنن الله العامة في خلقه الذي يظهره الله على يد مدعي النبوة تصديقا له في دعواه وتأييدا له في رسالته مقرونا بالتحدي لأمته ومطالبتهم أن يأتوا بمثله؛ فإذا عجزوا كان ذلك آية من الله على اختياره إياه وإرساله إليهم بشريعته. أما السحر: فهو في اللغة كل ما دق ولطف وخفي سببه، فيشمل قوة البيان وفصاحة اللسان؛ لما في ذلك من لطف العبارة ودقة المسلك، ويشمل النميمة، لما فيها من خفاء أمر النمام وتلطفه في خداع من نم بينهما ليتم له ما يريد من الوقيعة، ويشمل العزائم والعقد التي يعقدها الساحر، وينفخ فيها مستعينا بالأرواح الخبيثة من الجن ليصل بذلك في -زعمه- إلى ما يريد من الأحداث والمكاسب. ويتلخص الفرق بين المعجزة والسحر فيما يأتي: أ - المعجزة ليست من عمل النبي وكسبه، وإنما هي خلق محض من الله على خلاف سننه في الكائنات، وقد طلب من محمد صلى الله عليه وسلم آية، فقال بإرشاد مولاه: {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} ، وقال لمن استعجلوا ما توعدهم به من أمر ربه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} . أما السحر فمن عمل الساحر وكسبه سواء أكان تعويذات أم بيانا أم نميمة أم غير ذلك، وله أسبابه ووسائله التي قد تنتهي بمن عرفها ومهر فيها وعمل بها إلى مسبباتها، فليس خارقا للعادة ولا مخالفا لنظام الكون في ربط الأسباب بمسبباتها والوسائل بمقاصدها. ب - المعجزة تظهر على يد مدعي النبوة؛ لتكون آية على صدقه في دعوى الرسالة التي بها هداية الناس من الضلالة وإخراجهم من الظلمات إلى النور، والأخذ بأيديهم إلى ما ينفعهم في عقائدهم وأبدانهم وأموالهم، والسحر خلق ذميم أو حرفة أو صناعة يموه بها الساحر على الناس ويضللهم، ويخدعهم بها عن أنفسهم وما ملكت أيديهم، ويتخذها وسيلة لكسب العيش من غير حله، ويفرق بها بين المرء وزوجه والصديق وصديقه، وبالجملة يفسد بها أحوال الأمة في خفاء، والناس عنه غافلون. ج - سيرة من ظهرت على يده المعجزة حميدة وعاقبته مأمونة، فهو صريح في القول والفعل، صادق اللهجة، حسن العشرة، سخي كريم عفيف عما في أيدي الناس يدعو إلى الحق وينافح عنه بقوة وشجاعة، أما الساحر فسيرته ذميمة ومغبته وخيمة، خائن خداع سيئ العشرة، يأخذ ولا يعطي، يدعو إلى الباطل، ويسعى جهده في ستره خشية أن يفتضح أمره ويكشف سره فلا يتم له ما أراد من الشر والفساد. د - من ظهرت على يده المعجزة يقود الأمم والشعوب إلى الوحدة والسعادة، ويهديها طريق الخير، وعلى يده يسود الأمن والسلام وتفتح البلاد، ويكون العمران، والساحر آفة الوحدة ونذير الفرقة والتخريب والفوضى والاضطراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 المبحث الخامس 5 - تنوع المعجزة مع بيان الحكمة في ذلك آيات الأنبياء التي أيد الله بها رسله قد اختلفت أنواعها، وتباينت مظاهرها وأشكالها إلا أنها تجتمع في أن كلا منها قد عجز البشر عن أن يأتوا بمثله منفردين أو مجتمعين، فكانت بذلك شاهد صدق على الرسالة وحجة قاطعة تخرس الألسنة وينقطع عندها الخصوم، ويجب لها التسليم والقبول. ويغلب أن تكون معجزة كل رسول مناسبة لما انتشر في عصره وبرز فيه قومه، وعرفوا بالمهارة فيه؛ ليكون ذلك أدعى إلى فهمها، وأعظم في دلالتها على المطلوب، وأمكن في الإلزام بمقتضاها. ففي عهد موسى انتشر السحر، ومهر فيه قومه حتى أثروا به على النفوس، وسحروا أعين الناظرين، وأوجس في نفسه خيفة منه من شهده وإن كان عالي الهمة قوي العزيمة، فكان ما آتاه الله نبيه موسى فوق ما تبلغه القوى والقدرة، وما يدرك بالأسباب والوسائل، وقد أوضح الله ذلك في كثير من الآيات، قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} ، ولهذا بهت السحرة وبطل ما جاءوا به من التمويه والتخييل وامتاز الحق من الباطل، قال تعالى في بيان ذلك في المباراة التي كانت بين موسى عليه السلام والسحرة {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وفي عهد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام برع بنو إسرائيل في الطب، فكان مما آتاه الله أن يصور من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله، إلى غير ذلك من الآيات التي ثبت بها رسالته، وقامت بها الحجة على قومه. وفي عهد محمد صلى الله عليه وسلم كان العرب قد بلغوا الغاية في الفصاحة وقوة البيان، وجرت الحكمة على ألسنتهم، حتى اتخذوا ذلك ميدانا للسباق والمباراة، فأنزل الله القرآن على رسوله عليه الصلاة والسلام، فكانت بلاغته وبيانه وما تضمنه من الحكم والأمثال إلى جانب ما كان من تأبيد إعجازه كان ذلك من الأدلة والآيات التي تدل على صدقه في نبوته ورسالته قال صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 المبحث السادس 6 - معجزات الأنبياء لا تنحصر فيما تحدى به كل نبي قومه وليست معجزات موسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام قاصرة على ما ذكر، وإنما ذلك بيان لما تحدى به كل منهم قومه، وجعله قاعدة يبني عليها دعوته، ويثبت بها شريعته وإلا فلهؤلاء وغيرهم من الأنبياء كثير من الآيات البينات، والدلائل الواضحات التي دلت على صدقهم سوى ما تحدى به كل نبي قومه، منها ما يرجع إلى سيرتهم قبل الرسالة، فإن الله قد أعدهم لتحمل أعباء رسالته، ومنها ما يرجع إلى ثبات جأشهم وقوة بأسهم في مقام الدعوة والجهاد في سبيل الله نصرة للحق ونشرا له بأنفسهم، وبمن آمن معهم، وهم الأقل عددا والأضعف جاها، مع غنى خصومهم وكثرة عددهم وعددهم وقوة سلطانهم، إلى غير ذلك مما يدل على صدق الداعي في دعوته، وكمال يقينه بها، ومنها ما يرجع إلى سلامة الشريعة التي يدعون إليها، وحكمتهم في حمل الناس عليها، وقوة حجاجهم في الدفاع عنها، وما شوهد من آثارهم في صلاح من اهتدى بها من الأمم في الدولة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والحرب وغير ذلك من أحوال الشعوب، حتى إذا حرفوها عن مواضعها وتأولوها على غير وجهها أو أعرضوا عنها وتركوا العمل بها دالت دولهم وساءت حالهم، فإن العاقبة للمتقين، والخيبة والخسران على المفسدين. ومن ذلك يتبين أن الرسالة ليست شعوذة ولا كهانة، فإن الرسل عرفوا بالصدق والأمانة، والشياطين إنما تنزل على من يجانسهم في الكذب والافتراء والإفك والبهتان، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} ، ولو لمست الشياطين السماء استراقا للسمع أو طلبا للوحي ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، قال تعالى في شأن القرآن: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وما تنزلت به الشياطين {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} . وليست الرسالة أيضا من جنس ما تجود به قريحة الشعراء، وتمليه عليهم مما تهواه نفوسهم، فإن الشعراء -إلا من عصم الله- يغلب عليهم أن يسلكوا كل فج، ويضربوا في كل واد، ومن سلك سبيلهم كان على شاكلتهم في الغي والفساد. أما الرسل فقد جاءوا بالهدى ودين الحق، ومن سلك سبيلهم كان على بصيرة في عمله وبينة من أمره واستقامة في سيره، قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . ومن المعجزات ما يرجع إلى آيات حسية أكرم الله بها رسله ومن آمن بهم من تفريج كربة وإزالة شدة، أو خوارق عادات طلبتها الأمة بغيا وعنادا، كانشقاق القمر، فأجيبت إليها دفعا للحرج عن الرسل وزيادة في التثبيت لهم والإعذار إلى من كفر بهم، ومنها ما يرجع إلى تعليم الصناعات وتيسير طريقها كإسالة عين القطر وإلانة الحديد لداود عليه السلام على خلاف السنة الكونية، ليكون ذلك آية له وكرامة، ليكون سعة للعباد ورحمة لهم، وكتسخير الريح والطير والجن لسليمان عليه السلام، إلى غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله، ومن اطلع على قصص الأنبياء في القرآن وكتب السير وجد الكثير من ذلك، وسأذكر جملة منها بعد ترشد إلى ما وراءها مما لم يذكر إن شاء الله. وقد بين سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في كثير من قصص القرآن الطريقة المثلى التي يثبت بها رسالته ويحاج بها أمته، وأرشده إلى كون ذلك القصص آية بينة توجب عليهم أن يستجيبوا لما دعاهم إليه من التصديق برسالته، والإيمان بسائر ما جاءهم من عند الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قصة يوسف عليه الصلاة والسلام وكيف أنها من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم إن هذه القصة فيها كثير من العجائب والعبر والعظات والأحكام والأخلاق وألوان الابتلاء والامتحان والفضل والإحسان، والذي أقصد إليه من مباحثها أمران لمزيد اتصالهما بما أنا بصدد الكلام عليه، الأول: كيف كانت هذه القصة معجزة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني: كيف كانت دليلا على أن الله يعد رسله في حياتهم الأولى قبل الرسالة لتحمل أعبائها حين إرسالهم إلى أممهم. أما الأول: فإنه تعالى ذكر قصة يوسف عليه الصلاة والسلام في القرآن مفصلة؛ لتكون آية، بل آيات على نبوة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وبيان ذلك: أنه كان أميا لم يقرأ شيئا من كتب الأولين، ولا درس شيئا من تاريخهم، ولا خط من ذلك شيئا بيمينه حتى يرتاب في أمره ويتهم بأنه تكلم بما قرأ أو درس، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ، بل كان من الغافلين عن قصة يوسف وأمثالها، لم تخطر له ببال، ولم تقرع له سمعا قبل أن يوحي الله بها إليه، ويذكرهم له في محكم كتابه، قال تعالى في مطلع سورة يوسف: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} ، وقال بعد ذكر يوسف لرؤياه وعرضها على أبيه ووصية أبيه له: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} . ولم تكن قصة يوسف بالأمر الذي اشتهر في العرب، وتناولوه بالحديث فيما بينهم، بل كانت غيبا بالنسبة إليهم، ولا كان محمد مع يوسف وإخوته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ولا شهد مكرهم به، ولا كيدهم له فيتهم بأنه تكلم بأمر شهده أو انتشر بين قومه، قال تعالى لنبيه محمد في ختام قصة يوسف عليه الصلاة والسلام: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} . ولا يسع أحدا أن يقول إنه عرف تفاصيل القصة من اليهود، فإن السورة مكية، واليهود كانوا يعيشون بالشام والمدينة وما حولها، ولم يعرف عنه أنه اتصل بهم قبل الهجرة، ولا دارسهم شيئا من العلوم، ولو كان تم شيء من ذلك لانكشف أمره لطول العهد وكثرة الخصوم وحرج قومه من دعوته، وسعيهم جهدهم في الكيد له والصد عنه وحرصهم على تشويه سمعته والقضاء عليه وعلى دعوته حتى رموه بالسحر والكهانة والجنون، واتهموه زورا بالكذب، وهو في قرارة أنفسهم الصادق الأمين، وتبادلوا الرأي فيما يوقعونه من حبسه أو طرده من بينهم وتشريده، وانتهى أمرهم بالاتفاق على قتله، فأنجاه الله من كيدهم، وكتب له الهجرة إلى المدينة حيث عز الإسلام وقامت دولته، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ، فقوم هذا شأنهم معه لا يخفى عليهم أمره وهو يعيش بين أظهرهم وهو له بالمرصاد، فلو وجدوا سبيلا عليه باتصاله باليهود والأخذ عنهم لسارعوا إلى فضيحته، والتشنيع عليه بذلك ولم يضطروا إلى الافتراء عليه، ولا إلى التفكير في قتله أو تشريده ولا إلى نشوب الحرب بينه وبينهم سنين طويلة ولم يلجئوا إلى اتهامه تهمة تحمل ردها في طيها، فقد اتهموه برجل أعجمي بمكة وادعوا أنه يعلمه، فسفه الله أحلامهم وألقمهم الحجر، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وليست قصة يوسف خبرا مقتضبا عبر عنه بالجملة أو الجملتين، فيقال إن صدقه في الحديث عنها وليد الصدفة والاتفاق، بل هي قصة كثيرة العجائب متشعبة الموضوعات، وقعت بين أطراف مختلفة في أزمان متباعدة، فمن رؤيا صادقة إلى مؤامرة، ثم نجاة يتبعها بيع، ثم إيواء ... إلى مراودة يتبعها هم، ثم عصمة من الفحشاء ... إلى سجن فيه دعوة إلى التوحيد مع رفق وحسن سياسة وتأويل للرؤيا أصدق تأويل يتبع ذلك خروجه عليه السلام من السجن بريئا من التهمة، وتولية شئون الدولة واجتماع إخوته به مع معرفته لهم وإنكارهم إياه، وما أكثر ما دار بينه وبينهم من الأحاديث وما جرى من الأحداث ..... إلى أن انتهى ذلك بتعريفه لهم بنفسه وعفوه عنهم، وحضور أبويه إليه على خير حال إلى غير ذلك من التفاصيل التي يعرفها البصير بكتاب الله.. وقد سيقت القصة مفصلة في جميع نواحيها مستوفاة في جميع فصولها في أدق عبارة وأحكم أسلوب.. أفيعقل بعد ذلك أن يقال إن صدقه عليه الصلاة والسلام فيما سرده من قضاياها ووقائعها وعجائبها على هذا النهج الواضح والطريق السوي وليد الصدفة والاتفاق. وختم سبحانه سورة يوسف بمثل ما بدأها به من الإرشاد إجمالا إلى القصد الذي من أجله سيقت القصة، وهو أن تكون آية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وصدقه فيما جاء به من التشريع، وأن قصة يوسف ونحوها مما نزل به الوحي مستقى من المشكاة التي أخذ منها الأنبياء، فليس حديثا مفترى ولكنه تصديق لما بين يديه من كتب المرسلين، وتفصيل لما يحتاج إليه المكلفون من التشريع في معاشهم ومعادهم، وجماع الهداية والرحمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أفيمكن أن تكون هذه القيادة الرشيدة بهذا التشريع المستقيم من إنسان أمي عاش في أمة أمية من عند نفسه دون وحي من الله؟ كلا إنها العناية الربانية والرسالة الحقة، والوحي الصادق المبين، نزل به الروح الأمين على قلب محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 صلى الله عليه وسلم ليكون رحمه للعالمين {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وأما الثاني: فإن في تفاصيل القصة كثيرا من الأسرار والعجائب التي أيد الله بها رسله، وهيأ بها أنبياءه لقيادة الأمم وسياسة الشعوب من أخلاق سامية وآداب عالية وحكمة بالغة وقوة عزيمة وعقائد صحيحة، وبيان ذلك من وجوه كثيرة: أ - منها صفاء روح يوسف، ونقاء سريرته، وهذا واضح من الرؤيا الصادقة التي رآها في صغر سنه، وأول نشأته، فتحقق تأويلها بسجود أبويه وإخوته له في كبر سنه وختام حياته، {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} . ب - ومنها ما خصه الله به من الميزات التي زادت تعلق والده به وحبه له، وحملت إخوته على التآمر عليه والكيد له، فأشار بعضهم بقتله ليخلوا لهم وجه أبيهم وتطيب لهم الحياة مع أبيهم من بعده، ورأى آخرون أن في إبعاده عن أبيه الكفاية، فلما أجمعوا أمرهم على ذلك، ورموه في غيابة الجب، وأوحى الله إليه لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون، إيناسا له وإزاحة للغمة عن نفسه، وهيأ له من أخرجه من البئر، لكنهم باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، فرعاه الله وجعله عند من يكرم مثواه، ومكن له في الأرض، وعلمه من تأويل الأحاديث {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} . ج - ومنها الحلم والصفح الجميل وسعة الصدر والصبر على البلاء، فإنه بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أن مكن الله له وجعله على خزائن الأرض، واجتمع بإخوته لم ينتقم لنفسه، بل صفح عن الزلة، وعفا عند القدرة، واكتفى بالإشارة في إشعارهم بما سبق من سوء صنيعهم معه، {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . د - ومنها عفة فرجه ونزاهة نفسه مع توفر دواعي الشهوة وتهيؤ أسباب الجريمة، من تكرار الخلوة بامرأة العزيز، ومزيد الخلطة، ودعوتها إياه للفاحشة، وحياته معها في بيتها، وأخذها الحيطة بإغلاق الأبواب، لقد كان يوسف من المخلصين لله الواثقين به، فاستعاذ بربه ولاذ بجنابه، واستقبح أن يقابل جميل من أحسن مثواه بخيانته في عرضه، وذكر ما يصيب الظالمين في العواقب من الدمار والخسارة، وبذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء، وأظهر براءته على رءوس الأشهاد: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ، إلى أن قال تعالى حكاية عن عزيز مصر بعد الشهادة عنده ببراءة يوسف: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} إلى أن قال تعالى حكاية عن امرأة العزيز مع النسوة اللاتي عيرنها بشغفها، وتعلقها بيوسف: {رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} . ولقد عرف يوسف عليه الصلاة السلام طريق الخلاص، ففزع إلى من بيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 القلوب ومقاليد الأمور يصرفها كيف يشاء، وتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته حينما سمع إنذارها له بالسجن إن لم يكن عند رغبتها ويحقق لها ما تريد، وسأل ربه أن يعصمه من الزلل، ويصرف عنه كيد أولئك النسوة: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وما كان الله ليرد عبدا اتقاه، وأخلص له الدعاء، وكان السجن أحب إليه من الفحشاء {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} . هـ- ومنها أنه لم يشغله ما أصيب به من تتابع البلاء عن ربه ودينه والدعوة إلى ما ورثه من التوحيد عن آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام، فانتهز حاجة من معه في السجن إليه في تأويل ما رأياه في منامهما، فبدأ بالحديث عن نفسه تعزيزا لمركزه حتى يقبل عنه قوله، ثم نصح لهما في التوحيد وزينه، وحذرهما عن الشرك وقبحه، وأقام على ذلك الحجة مع لطف وتذكير بالصحبة في البلاء، كل ذلك قبل تأويل الرؤيا ليكون أدعى إلى الإصغاء والقبول وأبعد عن الإعراض، وقد أطال في ذلك وجعله المقصود، ثم ختم بتأويل الرؤيا لهما في آية قصيرة، قال تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فانظر إلى سلامة فطرته وصحة عقيدته وتناسيه البلاء، وذكره لأسلافه وأمجاده الطاهرين المصلحين، ليتخذ منهم قدوة له في التوحيد والدعوة إليه والحذر من الشرك وبيان فساده بالحجة والبرهان، وانظر إلى كرم خلقه مع صاحبيه حتى شهدا له بالمعرفة والفضل والإحسان، وإلى حسن سياسته معهم في الدعوة إلى الله وإيثارها على ما سألاه عنه دون تضييع لما تعلقت به نفوسهما من تأويل الرؤيا، وبلا مجابهة بالمكروه لمن دلت رؤياه على سوء عاقبته، بل أبهم الأمر، فقال: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} وقد حقق الله ما قال فصار كل منهما إلى ما ذكر له في تأويل رؤياه. و ومنها أن يوسف مع ثقته بربه وتوكله عليه أراد أن يأخذ بأسباب الخلاص مما أصابه من البلاء، وليس في ذلك ما يعيبه أو يغض من توكله على الله، فإنه قد زج به في السجن ظلما وعدوانا بشهادة خصومه -ودفع الظلم مشروع بل قد يكون واجبا- فقال للذي ظن أنه ناج منهما: اذكرني عند ربك، ولكن الله أراد أن يزيده تمحيصا وصدقا في التوكل عليه، وقوة في الصبر على البلاء، فأنسى الشيطان ذلك الفتى أن يذكر يوسف لربه بالخير، فلبث في السجن بضع سنين، ثم اختار الله له طريقا إلي الخلاص خيرا من الطريق التي رسمها لنفسه كما سيأتي. ز - ومنها أن الله سبحانه شاء أن تكون نجاته بما آتاه من العلم والحكمة وعلمه من تأويل الأحاديث، ولا بشفاعة أحد، ولحاجة الأمة إليه راعيها ورعيتها دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 حاجته إليهم؛ ليكون ذلك أكرم لنفسه وأعز لها ولئلا يكون لأحد عليه سوى الله منة، فهيأ له السبيل لذلك، ورأى ملك مصر رؤيا هاله أمرها، وعجز أشراف قومه عن تعبيرها {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} قالوا {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} ، ولما انتهى أمر الرؤيا إلى يوسف أولها أصدق تأويل، وبين أنها كشفت للأمة عن مستقبلها في رخائها وشدتها أربع عشر سنة، {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} ، فأخذ ذلك التعبير من قلب الملك مأخذه، ولم يسعه إلا أن يرسل بإحضار يوسف إليه، فأبى حتى ينظر في قضيته مع النسوة، فإنه قد زج به في السجن من أجلهن، {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} ، ففعل الملك، وظهرت براءة يوسف: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} ، ولما طلبه الملك بعد ذلك وحضر عنده، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ، ثقة منه بنفسه، وعلما منه بأنه ليس في الأمة من يصلح لتدبير شئون الدولة الاقتصادية وتصريف أمورها على وجه يحفظ كيانها سواه، فطلب ذلك لمصلحة الأمة لا لحظ نفسه، فاستجاب له الملك لعلمه وصدقه وأمانته، وأتم الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ليوسف ما شاء من نعمته، {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} . وبذلك يتبين أن الله محص يوسف ورعاه بتتابع البلاء والإنجاء، وابتلاه بكيد إخوته له ورميهم إياه في الجب، ثم أنجاه، وابتلاه ببيع السيارة له، ثم هيأ له من أحسن مثواه، ابتلاه بتسليط امرأة العزيز عليه وبالنسوة اللاتي قطعن أيديهن، ثم عصمه وحماه، وابتلاه بالسجن، ثم أخرجه منه بريئا من التهمة عليما بربه وبشئون الأمة في وقت اشتدت فيه حاجة البلاء إلى حفيظ عليم يدبر أمرها، ويقودها في حياتها خير قيادة، فتولى أمرها واستسلم له أهلها. وفي قصة يوسف سوى ما ذكر شيء كثير يدل على أن الله سبحانه تعهد يوسف برعايته، وتولاه في أطوار حياته ليختاره رسولا يضطلع بأعباء الرسالة وليجعل من سيرته الحميدة آيات بينات على صدقه فيما جاء به وأمانته في البلاغ عن رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قصة موسى عليه السلام وكيف أنها من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعد تتابع المعجزات على ثبوتها -واضحة ظاهرة لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولكن المشركين تعنتوا معه حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق وأنفة واستكبارا أن يتبعوا رجلا منهم، فطلبوا منه أن يأتيهم بآية، فهدى الله رسوله إلى أن فيما أوحى إليه من القرآن آيات بينات على نبوته وبعد ذلك نبأ موسى وفرعون. فقد أوضح له في قصصهما أولا وجه دلالته على رسالته. ثانيا سنته الحكيمة في إعداد الأنبياء لتحمل أعباء الرسالة. أما الأول: فقد ذكر سبحانه في أول سورة "القصص" بيانا عن نشأة موسى عليه الصلاة والسلام، وحاله قبل الرسالة، وأتبعه ببيان عن رسالته إلى أن أنجاه ومن آمن به، وأهلك أعداءه ليكون ذلك آية، بل آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه فيما أنزل الله عليه من الوحي، ودعا إليه أمته من الهدى، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى في مطلع السورة: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، وقوله تعالى عند انتهاء ما أراد ذكره من القصة: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . وذكر في آخر السورة أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن لديه من الأسباب ما يبعث على الأمل في الرسالة، ولا من الدواعي ما يحمله على أن يحدث نفسه بها ويستشرف إليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 عن أن يدعيها ويسعى في تحقيقها، فقد كان صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يخالط أهل الكتاب حتى يتعلم منهم قصص الأنبياء وتاريخ أممهم وما جرى بينهم من الأحداث، وليس في آبائه من ملك حتى تتعلق نفسه بذلك ويطلب ملك آبائه، وبيان ذلك كما يلي: 1 - قدم الله بين يدي هذه القصة من الآيات ما بين فيها سنته العادلة وحكمته البالغة في القضاء على من علا في الأرض وأفسد فيها، ومنه على المستضعفين والتمكين لهم وإنالتهم من عدوهم فضلا منه ورحمة، والله عليم حكيم، قال تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} وأتبع قصة قارون وما أصابه من الهلاك بقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، وهذه هي سنته سبحانه في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ثم فصل ذلك فيما ذكره بعد من القصة. 2 - ولد موسى عليه الصلاة والسلام بمصر وكان ملكها -إذ ذاك- جبارا جائرا يقتل كل حديثي الولادة، فاضطرت أمه إلى إلقائه في اليم خوفا عليه من خطر القتل فالتقطه آل فرعون، وحين ذاك مر موسى بطور آخر من أطوار الخطر، وقضى الله لنبيه أن ينتهي بهم التفكير في أمره إلى أن يتخذه فرعون ولدا، وأن ينشأ في بيت ملك ليربى فيه على العزة وشدة البأس وقوة العزيمة، والأخذ بالحزم، ولا يصاب بما أصيب به قومه من العذاب والذل والهوان، وبذلك يصلح لحمل أعباء الرسالة ومواجهة فرعون في جبروته وطغيانه، ثم أولاه سبحانه نعمة أخرى، فكتب عليه ألا يرضع إلا من أمه، حتى اضطر فرعون ومن إليه أن يردوه إلى أمه، وهم لا يشعرون، وبهذا التدبير الحكيم واللطف الخفي أنجز الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 لأم موسى وعده، فرجع إليها ولدها لكفله ويتمتع بحنانها، وينعم بعطفها وتقر به عينها، ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق. 3 - هذه حلقة أولى من حياة موسى، كلها عبر وعظات وآيات بينات على سنته تعالى في إعداد أنبيائه قبل الرسالة فمنها: أولا: أن الله سبحانه وتعالى جعل نجاته مما أصاب غيره من أبناء قومه فيما يراه الناس دمارا وإلقاء بالنفس إلى التهلكة {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} . ثانيا: أن الله سبحانه كتب لموسى حياة سعيدة في بيت من يخشى عليه منهم، فعاش بين أظهرهم عيشة الملوك {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} . ثالثا: أن الله حرم عليه تحريما كونيا أن يرضع من امرأة سوى أمه، فكان ذلك فيما يرى الناس بلاء أحاط به، وهم لا يشعرون، فاجتمع له إلى السلامة والنجاة عطف الأمهات وعز الملوك، {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . 4 - وهناك سلسلة أخرى من حياة موسى قبل الرسالة تضمنت الكثير مما حباه الله به من العلم والحكمة والمروءة والنجدة ونصر المظلوم والأخذ على يد الظالم والعطف على الضعيف وقوة الإيمان بالله والصدق في الالتجاء إليه والتوكل عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 والتواضع مع عزة النفس، وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي يعد الله بها من يختاره للرسالة وقيادة الأمم، وألخص ذلك فيما يأتي: أولا: حفظ الله على موسى صفاء روحه وسلامة فطرته، فمع أنه عاش في أوساط ظلم وطغيان ولكن لم يتأثر بما يتأثر به من قضى أيامه الأولى من حياته في بيئة استشرى فيها الفساد، وطبعت بطابع الجبروت والاستبداد، ولم يصب بما يصاب به أبناء الوجهاء، ومن يتقلب في النعمة ورغد العيش غالبا من الجهل والاستهتار أو الرخاوة والخلاعة والمجون، بل صانه الله عن كل ما يشينه، وآتاه العلم النافع والحكمة البالغة وسداد الرأي، كما حفظ عليه نعمته من قبل في بدنه {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . ثانيا: جبل الله نبيه موسى على الحزم والأخذ بالقوة في نصرة المظلوم، يتجلى ذلك من الخصومة التي كانت بين إسرائيلي وفرعوني، وإنصافه للمظلوم، كما طبعه الله على الرفق بالضعيف والعطف عليه ومد يد المعونة إليه، يتبين ذلك فيما كان منه من النجدة حينما ورد ماء مدين، فوجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء، وأبونا شيخ كبير، فسقى لهما، فجمع له بين شدة البطش بالظالمين، وكمال الرفق بالمستضعفين. ثالثا: كان من آثار عناية الله بموسى ورعايته له أن قوى فيه الوعي الديني، واستحكمت الصلة بينه وبين ربه، فأحب ما يحبه الله من العدل والإنصاف، وكره ما يبغضه الله من الظلم والعدوان، لذلك فزع إلى ربه واعترف بظلمه لنفسه حينما قضى القبطي نحبه من وكزته، وأسرع في الأوبة إليه من ذنبه، فغفر الله له، فأخذ على نفسه عهدا ألا يكون ظهيرا للمجرمين، شكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 لله على نعمته ووفاء له بما غفر من ذنبه {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} . رابعا: فاض قلبه إيمانا بالله، وعظمت ثقته به وتوكلا عليه، فقصد إليه وحده في غربته وحيرته رجاء أن يهديه سواء السبيل {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ، ولما اشتدت به الحاجة وأخذ منه الجوع مأخذه توجه إلى ربه وسأله من فضله، وأبت عليه عزة نفسه أن يشكو حاجته لغيره، أو يعرض لمن سقى لهما بطلب الأجر، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وقد استجاب الله دعاه وهيأ له بيئة صالحة يحيا فيها حياة طيبة فقد عرض عليه شعيب لما عرف عنه من القوة والأمانة أن يزوجه إحدى ابنتيه على أن يرعى له الغنم ثماني حجج، فإن أتم عشرا كان ذلك مكرمة منه، فالتزم موسى بذلك، ولم يمنعه ما كان فيه أولا من رغد العيش وحياة الملوك أن يكون أجيرا يأكل ويتزوج من كسب يده، وأشهد ربه على ذلك {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} وقد ثبت أنه أتم أبعد الأجلين، فدل على أنه طبع على حب الخير وفعل المعروف. 5 - وحلقة ثالثة من حياة موسى عليه الصلاة والسلام بعد الرسالة يتجلى فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ما حباه الله به ليكون أصلا له يعتمد عليه في إثبات رسالته والرشاد، ويتبين ذلك في مواضع من القصة، منها: أولا: طلب موسى من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون، فإنه أفصح منه لسانا وأقوى بيانا، فآتاه سؤله، وأرسله معه زيادة في المنة ومضاعفة للإحسان، وليكون عونا له في الحجاج وتحمل أعباء الرسالة، وخافا أن يبطش بهما فرعون وجنوده وأن يقتلوا موسى بالقبطي الذي سبق أن قتله فقال تعالى: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وجعل لهما سلطانا تقوم به الحجة، وتنخلع به قلوب الجبارين، وتمتلئ بالضعف والوهن من حجاج عقلي في الربوبية بهر فرعون وقطع عليه طريق الجدال، ومن يد إذا أدخلها في جيبه ثم أخرجها خرجت بيضاء للناظرين، ومن عصا إذا ألقاها صارت حية تسعى حقا لا سحرا، قد أبطل الله بها كيد الساحرين، وبهذا وغيره مما أيده الله به ثبت في ميدان الدعوة إلى الله ثبات واثق بربه مؤمن بما يدعو إليه من الهدى والنور، وتجلى في حجاجه صولة الحق، وأحسن من نفسه بالعزة والقوة، وبذلك ذل جبروت فرعون، وتلاشى عنده تألهه وتعاليه: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ولم يعد فرعون يملك لموسى من الكيد إلا أن يرعد ويبرق ويموه ويخدع {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} ولم يكن ليأخذ على يديه أحد من الحاضرين، ولا هناك من الأسباب العادية ما يمنعه أن يبطش بموسى، فإن الدولة دولته والجنود جنوده، لكنها عناية الله برسوله وما آتاه من آيات وسلطان قد بهر فرعون وقطع نياط قلبه، ولم يملك أيضا ملأ فرعون وزبانيته سوى أن يثيروا حفيظته ويغروه بموسى ومن آمن به، {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} . من هذا يتبين للعاقل أن موسى وهو وحيد غريب وقومه مستعبدون لم يقف هذا الموقف من فرعون وملئه والدولة دولتهم إلا وهو مؤيد من ربه، صادق في دعوته أن هذا لهو الحق المبين. ثانيا: جرت سنة الله العادلة أن يفتح بالحق بين رسله وبين من كذب بهم من الأمم، فينصر رسله ومن سار سيرتهم ويجعلهم خلفاء في الأرض، ويهلك من كذبهم وانحرف عن طريقتهم، ليكون ذلك من آيات الله التي يفصل بها بين الصادق والكاذب والحق والباطل والشريعة العادلة والقوانين الجائرة {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} ، وقال: قال {مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وهذا الذي انتهى به أمر موسى ومن آمن به وفرعون ومن استهواه، {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} وقال: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} . فانظر كيف اتحدت وسيلة الإنجاء للأولياء والإهلاك للأعداء وإنها آية الله الباهرة، وقدرته القاهرة، نجى موسى ومن آمن به بما جعله هلاكا لفرعون وجنده، هذا إلى جانب انفلاق البحر اثني عشر طريقا وتماسك مائه وخروجه عن طبيعة السيلان بضربة عصا. وفي قصص موسى ذلك من الآيات ما يبهر العقول، ويأخذ بمجامع القلوب، ولا يدع مجالا للريب ولا قولا لقائل إلا من سفه نفسه، وسعى في هلاكها، والله الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 3 - منهج الرسل في الدعوة إلى الله بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أنبيائه ورسله وآلهم أجمعين، وبعد: فلم يكن الله سبحانه وتعالى ليدع عباده سدى ويتركهم هملا دون أن يأمرهم، ينهاهم ويجزيهم على ما كسبت أيديهم، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} ، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} . فأرسل سبحانه الرسل وشرع الشرائع رعاية لمصالح عباده في معاشهم، ومعادهم فضلا منه ورحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وأبان الدليل وأوضح السبيل وبشر وأنذر إقامة للحجة عليهم وإعذارا إلى من حقت عليه كلمة العذاب، فاتبع هواه بغير هدى من الله حكمة منه وعدلا، قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} . وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وفي الصحيح: «أن سعد بن عبادة قال: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه من الله ومن أجل ذلك بعث المبشرين والنذرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد الله الجنة» ". ومن تمام رحمة الله بعباده ونعمته عليهم وكمال حكمته في إقامة الحجة والإعذار إلى من سبق عليه القول منهم أن جعل شريعة كل رسول من رسله شاملة كل ما تحتاجه أمته جامعة لما يصلح شأنها، وينهض بها في إقامة دولتها وبناء مجدها، وتقويم أودها وحفظ كيانها، ويجعلها مثلا أعلى في جميع شئونها، سعيدة في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «ما بعث نبيا إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم» بل تضمنت فوق ذلك ما يكمل الضروريات والحاجيات والتحسينات على خير حال وأقوم طريق، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} . وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} . وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، وأنا خاتم النبيين» . وقال أبو ذر رضي الله عنه: «لقد توفي رسول صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما» . وقال عمر رضي الله عنه: «قام فينا رسول الله مقاما، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه» . وقال مالك بن أنس: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها، ثم ذكر قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، ثم قال: فما لم يكن يؤمنذ دينا فلا يكون اليوم دنيا. ولا عجب في أن يشرع الله شريعة عامة دائمة لعالم يطول عهده ويتجدد خلقه وتتطور أحواله، ويكون التدرج في شرعها أيام رسولها، ثم تستقر بعد وفاته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن الله سبحانه أحاط بكل شيء علما ووسع كل شيء فقدره تقديرا، فهو عليم بكل شئونه الظاهرة والباطنة، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 يصلح حاله في عاجله وآجله {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . إنما يستنكر ذلك من البشر ونحوهم من المخلوقات؛ لأن أفكارهم محدودة ومداركهم قاصرة، مع استيلاء الهوى عليهم وتمكن العصبية منهم، إلى غير ذلك مما يوجب كثرة اللغط في آرائهم والاضطراب والتناقض في مذاهبهم، في أصول التشريع وفروعه عن قصد وغير قصد، وخاصة تفاصيل التوحيد والمعاد والعبادات والمعاملات، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . ولما كانت الأمم الماضية تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وكان الوحي مستمرا، جرت فيهم سنة التطور في التشريع والتدريج في الأحكام، وكان الكثير من التفاصيل وفروع الشريعة مؤقتا، فنسخت الشريعة اللاحقة من أحكام الشريعة السابقة ما اقتضت المصلحة نسخه تنشئة للأمة وتربية لها وسدا لحاجتها، أو عقوبة لها على ظلمها وتمردها على شرائع ربها، قال تعالى -في رسالة عيسى عليه الصلاة والسلام-: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ، وقال تعالى في محمد عليه الصلاة والسلام: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} الذين {يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وقال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . أما هذه الأمة المحمدية فشريعتها خاتمة الشرائع، ورسولها خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا نبي بعده، فاقتضت حكمة الله أن تكون شريعته فيهم عامة دائمة إلى يوم القيامة كفيلة بجميع مصالحهم الدينية والدنيوية، منظمة لنواحي حياتهم المختلفة، مغنية لهم عما سواها في جميع أمورهم وشئونهم، ولو طال بهم الأمد واختلفت أحوالهم على مر الأيام والعصور حضارة وثقافة، وتباينت أفكارهم ذكاء وغباوة، وحالتهم قوة وضعفا وغنى وفقرا. وفاء الشريعة بمصالح الخلق في العاجل والآجل وجاءت تكاليف هذه الشريعة جملتها وتفصيلها قواعدها وجزئيتها بتحقيق مقاصد التشريع الضرورية التي لا بد منها في قيام مصالح العباد الدينية والدنيوية، ولا تستقيم أحوالهم إلا بها، وذلك يرجع إلى ما يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وأنسابهم وعقولهم وأموالهم، وبتحقيق مقاصده الحاجية التي تيسر عليهم طريق العمل للوصول للغاية المنشودة، وتجعلهم في سعة وسهولة وترفع عنهم المشقة والحرج، وبتحقيق ما يجمل حالهم، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. وصحيفة الوجود وواقع الحياة في تاريخ الأمم أصدق شهيد بذلك؛ فمن ابتغى الهدى في شريعة الله من النظم والقوانين الوضعية أضله الله، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 حكم غيرها في عقيدته أو عبادته أو معاملاته فهو مبتدع، فيه جاهلية، سيئ الظن بربه معجب بفكر نفسه أو أفكار من اتخذهم من زعمائه أربابا في التشريع يشرعون له ما يضاهي به شريعة الله، بل يؤثر قوانينهم مع قصورهم وتقصيرهم على شريعة أحكم الحاكمين، وكفى بذلك زيغا وضلالا وكفرا وطغيانا، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} . وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} . وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} ، إلى غير ذلك من النصوص التي حثت على العمل بكتاب الله وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، وحذرت من الحيدة عن ذلك والإعراض عنه تباعا للآراء، ونحاتة الأفكار دون بينة من الله أو حجة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وإليك كلمات في أركان الشريعة والسياسة في البلاغ، وأمثلة من نصوص الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين، وسوف يتبين لك منها سعة الشريعة وغناها بالنصوص والقواعد العامة، والجزئيات الخاصة التي تشرح حق الله على عبده، وحق العبد على ربه، وحق الراعي والرعية، وتحدد موقف الدولة من الدولة في السلم والحرب، والعلاقة بين أفراد الشعب وجماعاته، بل بينت حقوق الحيوانات والعجماوات على راعيها وحدث من تسخيره لها وتسلطه عليها على وجه من العدالة يكفل لها البقاء، وحل جميع ما يجد من المشاكل العامة والخاصة على أقوم وأهدى سبيل. إن للشريعة أصولا إليها ترجع، ودعائم عليها تقوم، فشريعة الصلاة والصيام والزكاة ونحوها من العبادات لا يستقيم أداؤها ولا التنسك بها إلا إذا عرف العابد أن يتقرب إليه غني كريم، قوي متين، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، إلى غير ذلك من صفات الجلال والإنعام وقوة البأس وشدة الانتقام، فإنه إذا عرفه العباد بذلك أشربت قلوبهم حبه، واستشعرت كمال الذل والخوف منه، فأسلموا وجوههم إليه، وعبدوه عبادة من يعلم أنه يسمعه ويراه ويراقبه في كل شئونه وأحواله رجاء رحمته وخشية عذابه. وشريعة المعاملات لا تعدو -ذلك النهج- نهج العبادات؛ فإن استقامة الناس في أخلاقهم، وعدلهم في رضاهم وغضبهم، وإنصافهم لأوليائهم وأعدائهم، ونصحهم في بيعهم وشرائهم، وجميع معاملاتهم يتوقف على شعور القلب بهيمنة قوة غيبية فوق قوى العالم، قوة رب قادر يخفض ويرفع ويعطي ويمنع على سنن قويم من الحكمة والعدالة، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، بذلك الشعور يستقيم حال الإنسان، وينتظم أمره في سره وعلنه، فيرعى الحقوق دفعا لعذابه ونقمته، وبذلك الشعور وحده يجتمع شمل العالم ويعم الأمن والسلام جميع مرافق الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 حصول الثقة واليقين في نفوس المكلفين بمصدر الشريعة وتبلغها أضف إلى ذلك أن ثبوت الشريعة في ذاتها عند المكلفين، والإيمان بها يتوقف على معرفة مصدرها والثقة بطريق بلاغها، فيجب إذن على العباد أن يعلموا أولا أن لهم ربا خلاقا عليما حكيما، بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجعون، إلى غير ذلك مما تفرد به من صفات الربوبية، ويؤديها على وجهها استمدادا لفضل الله ورحمته، ودفعا للتي استوجبت إخلاص العبادة منه ليسلموا وجوههم إليه كونا وشرعا، ويعبدوه مخلصين له الدين رغبة ورهبة، وأن يعلموا ثانيا أنه تعالى يرسل رسله ليبلغوا عنه شريعته رحمة منه وفضلا، ويؤيدهم بالمعجزات، ويعصمهم في البلاغ حكمة منه وعدلا ليميز الكاذب من الصادق والمبطل من المحق، فيثق العباد بشريعة ربهم، ويأمنوا عليها من الدخل والافتراء، وتقوم عليهم بها الحجة، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} . لهذا بدأت الرسل دعوتها بالتوحيد، وإثبات الرسالة والجزاء يوم المعاد، فجرت على موجب العقل ومقتضى الفطرة، وكان لزاما على الدعاة أن يبدءوا بما بدأ به الرسل، ويتبعوا ذلك القول في الفروع وتفاصليها وكل ما يكمل الأصول ويحمي حماها حسب الأهمية وما يشعر به الدعاة من حاجة المدعوين شعوبا وأفرادا. طريقة الرسل في إثبات وجود الله وتوحيده لقد سلكت الرسل في إثبات وجود الله وتوحيده وصدقهم في دعوى الرسالة وخبرهم عن اليوم الآخر مسلك الإقناع بالحجة والبرهان، وضرب الأمثال، وجمعت في ذلك بين مناجاة العقل والتأثير على العاطفة والتذكير بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 جبلت عليه النفوس، وفطر عليه الخلق من الإقرار بالحق، والميل إلى العدل والإنصاف، مع لين الجانب، والرفق في الخطاب، والصفح الجميل في غير ذلة ولا مواربة أو مداهنة في الحق، فلا عنت في القول ولا تعسف، ولا فرض لحكم على الأمة دون بينة من الله وسلطان. ففي إثبات وجود الله: اكتفوا في الاستدلال عليه بالإشارة مع دقة المأخذ وسهولة العبارة، لقلة من أنكر وجوده تعالى ممن مسخت فطرهم، ووضح للعقلاء جهلهم ومجافاتهم الحق وتنكبهم طريق الصواب، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} ، فأنكر تعالى أن يكونوا خلقوا بلا خالق؛ ضرورة أن الأثر يحتاج في حدوثه إلى مؤثر كما شهد بذلك العقل والفطرة والحس، وأنكر أن يكونوا خالقين لأنفسهم لما يلزمه من التناقض، وأنكر أن يكونوا خالقين للسماوات والأرض؛ لشهادة تاريخ وجود الأمم والكونيات الأخرى بأن خلق السماوات والأرض قد كان قبل خلق ما بينهما من الإنس والجن ونحوهم، فكيف يخلق المتأخر في الوجود شيئا قد سبقه وتقدم عليه. وقد أخذ جماعة من العلماء هذا الدليل الخبري العقلي، وأدخلوا عليه شيئا من التكلف والصناعة الكلامية فقالوا: إن نسبة المكن إلى طرفيه الوجود والعدم على السواء، فلو وجد بدون سبب خارج عن ذاته وحقيقته لزم ترجيح أحد المتساوين على الآخر بلا مرجح، ولو أوجد نفسه لزم مع ذلك أن يكون متقدما على نفسه.. باعتباره خالقا لها، متأخرا عنها باعتباره مخلوقا لها، وتقدم الشيء على نفسه وتأخرها عنها باطل بالضرورة، لما فيه من التناقض، ولا بد أيضا أن يكون واجب الوجود لذاته، مختلفا عن العالم في خواصه وصفاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، ذلك ليصح أن يستند إليه العالم في وجوده بدءا ودواما؛ إذ لو كان مستحيلا لما صح أن يكون منه خلق أو تقدير؛ لأن المستحيل عدم محض وفاقد الشيء لا يعطيه، ولو كان ممكنا لافتقر إلى من يرجح وجوده على عدمه كما سبق بيانه، فإن استمرت الحاجة فاستند كل في حدوثه إلى نظير له من الممكنات؛ لزم إما الدور القبلي وإما التسلسل في المؤثرات، وكلاهما باطل باتفاق العقلاء. وإذا انتفى عنه الإمكان والاستحالة ثبت له وجوب الوجود لذاته ضرورة؛ لأن أقسام الحكم العقلي ثلاثة: الوجوب، والإمكان، والاستحالة، وقد انتفى اثنان فتعين الثالث: وهو وجوب الوجود، قال تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وفي الحديث: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء» . ومن نظر فيما ترشد إليه الآيات نظرا ثاقبا، وفكر فيما توحي به سنن الله في المخلوقات -من عجائب خلقها، وحسن تنسيقها، وشد أسرها- تفكيرا عميقا، وبحث في أحكامها وبديع صنعها بحثا بريئا من الهوى والحمية الجاهلية وأنصف مناظره من نفسه -فلم يمنعه من فهم ما عرض عليه من الحق والإذعان له كبر يرديه، ولا عناد يطغيه- اتضح له الهدى، واضطره ذلك أن يؤمن من أعماق قلبه بأن للعالم ربا خلاقا فاعلا مختارا حكيما في تدبيره وتقديره أحاط بكل شيء علما، وهو على كل شيء قدير. ومع قيام الدليل ووضوح السبيل تعامى بعض الناس عن الحق، ومن أولئك: فرعون موسى، فإنه أنكر بلسانه ما تيقنت به نفسه، فأقام موسى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الحجة بدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع -فوجود الخلق وعظم شأنه دليل على وجود الخالق وعظم قدرته وقدره وسعة علمه وكمال حكمته- فألقمه الحجر. وذلك بين فيما حكاه الله عنهما من الحوار والسؤال والجواب، قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} . فانظر كيف وقف موسى موقف من يصدع بالحق ويقيم عليه الحجة والبرهان، وكيف وقف فرعون من موسى موقف السفهاء لا يملك إلا الشتم والسباب، والسخرية، والاستهزاء، والتهديد بأليم العذاب، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} ، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} فبين تعالى أنه آتى موسى الآيات البينات التي تنير البصائر، وتجلو الشكوك، وأن موسى ثبت في ميدان الدعوة ثبات مؤمن بما جاء به موقن بنصر ربه، فلم يرهبه جبروت فرعون ولم يأخذ من نفسه مأخذا مع وحدته وضعف قومه. أما فرعون فقد بهرته الآيات، وأخذت عليه صولة الحق الطريق فلم يجد لديه سلاحا يحفظ به ملكه في زعمه، ويدافع به عن باطله إلا الخداع والتمويه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 على قومه، وإنذار موسى ومن آمن به أن يذيقهم أليم عذابه، وأنى له ذلك! والله من ورائهم محيط، وقد كتب على نفسه أن يجعل العاقبة للمتقين، {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} . ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .. إلا أنه أجمل وأوجز في الاستدلال بهذه الآيات وفصل في تلك. وقد ورث ذلك الزيغ والإلحاد أناس ظهروا في عصور متعاقبة بأسماء مختلفة، واشتهروا بألقاب متنوعة، فتارة يسمون بالدهريين، وأخرى برجال الحقيقة ووحدة الوجود، وأحيانا بالشيوعيين، وآونة بالبهائيين، إلى غير ذلك من العبارات التي اختلفت حروفها ومبانيها والتقت مقاصدها ومعانيها، فكلها ترمي إلى غرض واحد، وتدور حول محور واحد، هو أنه ليس للعالم رب يخلق ويدبر، ولا له إله يقصد ويعبد، وقد تبين بما تقدم وأمثاله فساد مذهبهم وخروجه عن مقتضى العقل والفطرة وما أيد ذلك وصدقه بعد أدلة السمع. الرد على من يزعم أن العالم وما فيه وليد الصدفة والاتفاق. فإن زعم بعد ذلك أن وجود العالم وليد الصدفة والاتفاق، أو أنه نشأت أطواره عن تفاعل عناصر المادة فتفرقت إلى وحدات بعد اجتماع أو اجتمعت بعد تفرق واختلاف، وصار لتلك الوحدات أو المركبات من الخواص ما لم يكن لها قبل ذلك من التفاعل، وبذلك تجددت الظواهر، وحدث ما نشاهد من تغير وآثار مع جريانها على سنة لا تتبدل وناموس لا يختلف ولا يتغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 قيل له: من الذي أودع تلك المادة طبيعتها وأكسبها؟ فإنها إن كانت لها من ذاتها ومقتضى حقيقتها لم تقبل التغير والزوال؛ لأن ما بالذات لا يتغير ولا يزول، وقد رأيناها يتغير، فلا بد لها إذن من واهب يهبها، وفاعل مختار حكيم يوجدها، ويدبرها ويضعها مواضعها، وليس ذلك المادة أو خواصها وطبيعتها؛ فإنها مع حدوثها وحاجتها ليس لها من سعة العلم وكمال الحكمة وشمول المشيئة وعظم القدرة ما ينتظم معه الكون، مع ما نشاهده من إحكام تبهر العقول دقته وجماله، ومن إبداع يأخذ بمجامع القلوب ما فيه من شدة الأسر وقوة الرباط بين وحداته وكمال التناسب بين أجزائه وقيام كل من الآخر مقام الخادم من سيده والراعي من رعيته. ألا إن الطبيعة صماء لا تسمع، بكماء لا تنطق، عمياء لا تبصر، جاهلة لا تعلم، مسخرة لمن أودعها المادة، خاضعة لتصريفه وتقديره، سائرة على ما رسم لها من سنن لا تعدوها ونواميس لا تخرج عنها، فأنى يكون لها خلق وإبداع! أو إليها تنظيم وتدبير! أو منها وحي وتشريع! إنما ذلك إلى الله الذي شهد العقل والفطرة بوجوب وجوده، وكمال علمه وحكمته، وغناه وقدرته، إلى غير ذلك من صفات جلاله، تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} . ولا يعيب الحق بعد ذلك أن يقل من سلك طريقه، وأن يزيغ عنه من انتكست بصيرته، وفسدت فطرته، فاتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، ولا يضير الدعاة إليه أن عدل عن الصراط المستقيم من انحرف مزاجه أو غلبته شهوته فخشي أن تحد الشريعة من نزعاته الخبيثة، وتحول دون نزواته الدنيئة، أو أطغاه كبره وسلطانه، وخاف أن تذهب الشريعة بزعامته الكاذبة، وسلطانه الجائر، فوقف في سبيلها، وصد عنها، ولج في خصامها بغيا وعدوانا، فإن الله ناصر دينه ومؤيد رسله وأولياءه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} . يحكى عن أبي حنيفة رحمه الله أن جماعة من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة، تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيرهما بنفسها، وتعود بنفسها فترسو بنفسها، وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يديرها أحد؟ فقالوا: هذا محال لا يكون أبدا، فقال لهم: إذا كان هذا محالا في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟ !! وقد قال مثل هذه المقالة جماعة من العلماء، وقولهم ليس حجة لصدوره عنهم، بل لصحته في ذاته، وشهادة الواقع له. إقرار المكلفين حتى المشركين بتفرد الله بالخلق والملك والتدبير وشهادة الفطرة بذلك شهدت الفطرة بأن الله وحده خالق كل شيء ومليكه، وإليه يرجع الأمر كله من التصريف والتدبير، فهو الذي يحي ويميت، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو الذي يرسل الرسل، ويشرع الشرائع ليحق الحق بكلماته ويقيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 العدل بين عباده شرعا وقدرا، إلى غير ذلك مما لا يحصيه العد، ولا تحيط به العبارة. وقام على ذلك أيضا دليل السمع، وأقر به كل مكلف حتى المشركون قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} إلى أن قال: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، فأنكر سبحانه أن يكون معه إله فعل شيئا من ذلك، وقررهم بتفرده بكل شيء من الخلق والتدبير والتصريف والتقدير؛ ليجعل من ذلك ونحوه دليلا على توحيد العبادة الذي هو المقصود الأول من بعثة الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع -كما سيجيء- ونظائر ما ذكر من الآيات كثير. ولم يعرف عن طائفة بعينها القول بوجود خالقين متكافئين في الصفات والأفعال، ومن نقل عنهم من طوائف المشركين نسبة شيء من الآثار والحوادث إلى غير الله كقوم هود، حيث حكى الله عنهم {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} ، فإنما نسبوه إلى آلهتهم لزعمهم أنها وثيقة الصلة بالله، وأنها تملك الشفاعة عنده سبحانه لمن عبدها وتقرب إليها بالقرابين، فهي في زعمهم تملك لهم جلب النفع ودفع الضرر، لكن عن طريق الشفاعة لهم عند الله، ومن أجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 هذه الشائبة من الشرك نبه الله سبحانه على بطلانه، وأنكر على من زعمه، فقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . استحالة أن يكون في الكون خالقان معبودان فبين سبحانه أنه لو كان معه إله يشركه في استحقاق العبادة لكان له خلق وتقدير وملك وقهر وتدبير، إذ لا يستحق العبادة إلا من كان كذلك، ليرجى خيره، ونفعه، فيطاع أمره ويقصد قصده، ويخشى بأسه، فلا يعتدى على حدوده ولا ينتهك حماه. ولو كان له خلق وتقدير وملك وتدبير لعلا على شريكه وقهره إن قوي على ذلك ليكون له الأمر وحده، ولذهب كل بما خلق وتفرد بتدبير ما ملك إن لم يكن لديه من القوة ما يفرض بها سلطانه على الجميع، فإن من صفات الرب كمال العلو والكبرياء والقهر والجبروت. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} ، على تقدير أن المراد: لاتخذوا سبيلا إلى مغالبته وقهره، أو الخروج عليه والتفرد عنه بما خلقوا وملكوا، أما إن كان المعنى المراد: لاتخذوا سبيلا إلى عبادته والقيام بواجب حقه رجاء رحمته وخوف عقابه، فالآية في توحيد الإلهية، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} . وقد استخلص بعض العلماء من ذلك دليلا سموه دليل التمانع، وجعلوا جل همهم إثبات توحيد الربوبية به، قالوا: لو جاز أن يكون للعالم ربان يخلقان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ويدبران أمره لأمكن أن يختلفا، بأن يريد أحدهما وجود شيء، ويريد الآخر عدمه، أو يريد أحدهما حركة شيء ويريد سكونه، وعند ذلك إما أن ينفذ مرادهما، وذلك محال لما يلزمه من الجمع بين الضدين، وإما أن لا ينفذ مراد كل منهما، وذلك محال لما يلزمه من رفع النقيضين وعجز كل منهما، وإما أن ينفذ مراد أحدهما دون الآخر، فيكون الذي نفذ مراده هو الرب دون الآخر لعجزه، والعاجز لا يصلح أن يكون ربا. ولو أن هؤلاء عنوا بتوحيد الإلهية، وصرفوا همتهم إلى بيان تفاصيله، وأجملوا القول في توحيد الربوبية والاستدلال عليه اكتفاء بشهادة الفطرة وإقرار العبادة به، وعلمه بالضرورة، وجعلوا البحث فيه وسيلة إلى توحيد العبادة ودليلا عليه، لكانوا بذلك قد سلكوا طريقة القرآن ومنهج الرسل عليهم الصلاة والسلام. انتظام العالم علوه وسفله يثبت لله صفات الكمال التي تليق به وقصارى القول أن انتظام العالم علوه وسفله، وإحكام صنعه وحسن تنسيقه وشدة الأسر، وقوة التماسك بين أجزائه ووحداته دليل واضح على تفرد الله -سبحانه- بالربوبية ووحدانية أفعاله، وبرهان قاطع على إثبات ما أثبته لنفسه من كمال الأسماء والصفات، أو أثبته له الرسل عليهم الصلاة والسلام من ذلك إثباتا صريحا مفصلا، لم يدع مجالا للشك أو التأويل ولا سبيلا إلى الريب أو التعطيل، فزالت به الشبهة وحصل به اليقين. وعلى ذلك اجتمعت شهادة الفطرة والعقل الصريح والنقل الصحيح وصدق كل منهما الآخر. وقد ذكر ابن القيم في مدارج السالكين هذين الطريقتين: الطريق الأول: الوحي والخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الطريق الثاني: الحس والعقل. 1 - الوحي الذي جاء من عند الله -تعالى - على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. 2 - الحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة قال -رحمه الله تعالى- في بيان الطريق الأول: فأما الرسالة فإنها جاءت بإثبات الصفات إثباتا مفصلا على وجه أزال الشبهة، وكشف الغطاء، وحصل به العلم اليقين، ورفع الشك المريب فثلجت له الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر به الإيمان في نصابه، ففصلت الرسالة الصفات، والنعوت، والأفعال، أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل تقرير، فما أبلغ لفظه وأبعده من الإجمال، والاحتمال، وأمنعه من قبول التأويل، ولذلك كان التأويل لآيات الصفات، وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد، وأخباره، بل أبعد منه لوجوه كثيرة ذكرتها في كتاب: " الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة " بل تأويل آيات الصفات بما يخرجها عن حقائق كتأويل آيات الأمر والنهي سواء، فالباب كله باب واحد، ومصدره واحد، ومقصده واحد، وهو إثبات حقيقتها، والإيمان بها. وكذلك سطا على تأويل آيات المعاد قوم، قالوا: فعلنا فيها، كفعل المتكلمين في آيات الصفات، بل نحن أعذر، فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات، والعلوم، وقيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير، فإذا ما ساغ لهم تأويلها، فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد. وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل الأمر، والنهي، وقالوا: فعلنا فيها كفعل أولئك في آيات الصفات مع كثرتها، وتنوعها، وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية، قالوا: وما يظن أنه معارض من العقليات لنصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الصفات، فعندنا معارض عقلي لنصوص المعاد من جنسه، وأقوى منه. وقال متأولو آيات الأحكام على خلاف حقائقها، وظواهرها، والذي سوغ لنا هذا التأويل القواعد التي اصطلحتموها لنا، وجعلتموها أصلا نرجع إليه، فلما طردناها كان طردها أن الله ما تكلم بشيء قط، ولا يتكلم، ولا يأمر ولا ينهى، ولا له صفة تقوم به، ولا يفعل شيئا. وطرد هذا الأصل لزوم تأويل آيات الأمر، والنهي، والوعيد، والثواب، والعقاب، وقد ذكرنا في كتاب الصواعق أن تأويل آيات الصفات، وأخبارها بما يخرجها عن حقائقها هو أصل فساد الدنيا والدين، وزوال الممالك، وتسليط أعداء الإسلام عليه إنما كان بسبب التأويل، ويعرف هذا من له اطلاع، وخبرة بما جرى في العالم. ولهذا يحرم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم بصحته؛ لأنه سبب لفساد العالم وتعطيل للشرائع، ومن تأمل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن والسنة علم قطعا بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها، فإنها وردت على وجه لا يحتمل التأويل بوجه فانظر إلى قوله -تعالى-: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} هل يحتمل هذا التقسيم والتنويع تأويل إتيان الرب -جل جلاله- بإتيان ملائكته وآياته؟ وهل يبقى مع هذا السياق شبهة أصلا في أنه إتيان بنفسه! وكذلك قوله -تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} . إلى أن قال {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} . ففرق بين الإيحاء العام، والتكليم الخاص، وجعلها نوعين ثم أكد فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون، كذلك قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} . فنوع تكليمه إلى تكليم بواسطة، وتكليم بغير واسطة، وكذلك قوله لموسى عليه السلام: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} ففرق بين الرسالة والكلام، والرسالة إنما هي بكلامه، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر في الصحو ليس بينه سحاب، وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب» . ومعلوم أن هذا البيان، والكشف، والاحتراز ينافي إرادة التأويل قطعا، ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين. ثم قال: الطريق الثاني لإثبات الصفات هو دلالة الصنعة عليها، فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، على حياته وقدرته وعلى علمه ومشيئته، فإن الفعل الاحتياري يستلزم ذلك استلزاما ضروريا وما فيه من الإتقان والإحكام، ووقوعه على أكمل الوجوه يدل على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من الإحسان والنفع ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه وإحسانه وجوده، وما فيه من آثار الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه، فمعطي الكمال أحق بالكمال، وخالق الأسماع والأبصار والنطق أحق بأن يكون سميعا بصيرا متكلما، وخالق الحياة والعلوم والقدرة والإرادات أحق بأن يكون هو كذلك في نفسه، فما في المخلوقات من أنواع التخصيصات هو من أدل شيء على إرادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الرب سبحانه ومشيئته وحكمته التي اقتضت التخفيض، إلى أن قال: والإحسان إلى المطيعين، والقرب إليهم بالإكرام، وإعلاء درجاتهم يدل على محبته ورضاه، وعقوبته للعصاة والظلمة وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهودة تدل على صفة الغضب والسخط، والإبعاد والطرد والإقصاء يدل على المقت والبغض، فهذه الدلالات من جنس واحد عند التأمل. ولهذا دعا الله سبحانه في كتابه عباده إلى الاستدلال بذلك على صفاته، فهو يثبت العلم بربوبيته ووحدانيته وصفات كماله بآثار صنعته المشهودة، فالقرآن مملوء بذلك، فيظهر شاهد اسم الخالق من نفس المخلوق، وشاهد اسم الرزاق من وجود الرزق والمرزوق، وشاهد اسم الرحيم من شهود الرحمة المبثوثة في العالم، إلى أن قال: وهكذا كل اسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره، ويعرفه من عرفه، ويجهله من جهله، فالخلق والأمر من أعظم شواهد أسمائه وصفاته، وكل سليم العقل والفطرة يعرف قدر الصانع وحذقه وتبريزه على غيره، وتفرده بكمال لم يشاركه فيه غيره من مشاهدة صنعته، فكيف لا تعرف صفات من هذا العالم العلوي والسفلي وهذه المخلوقات من بعض صنيعه. وإذا اعتبرت المخلوقات والمأمورات وجدتها بأسرها كلها دالة على النعوت والصفات وحقائق الأسماء، وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمى بمكابرة ويكفي ظهور شاهد الصنع فيك خاصة، كما قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ، فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب جل جلاله ونعوته وأسمائه، فهي كلها تشير إلى الأسماء الحسنى وحقائقها، وتنادي عليها وتخبر بها بلسان النطق والحال، كما قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملك الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل فلست ترى شيئا أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها ونعوت كماله وحقائق أسمائه. وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها، فهي تدل عقلا وحسا ونظرا واعتبارا، وفي هذا المعنى قال الشاعر: تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات ... بأحدق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك توحيد الربوبية هو باب الاستدلال على توحيد الإلهية. وإذا ثبت بدلالة الصنعة على الصانع، وبأدلة السمع والفطرة وجود الله ووجوب وجوده وتفرده بكمال الصفات والأفعال وجب على العباد أن يخلصوا له العبادة، وأن يسلموا وجوههم إليه في السراء والضراء، وأن يدعوه وحده رغبة ورهبة خفية وجهرة، فهذا هو مقتضى الفطرة، وموجب العقل السليم، وبه جاء النقل الصحيح، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فجعل سبحانه تفرده بالربوبية خلقا للحاضرين والسابقين، ووضعه الأرض للأنام وتذليله إياها ليمشوا في مناكبها وينعموا برزقه، ورفعه السماء بغير عمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 يرونها، وإنزاله الأمطار من السماء ليحيي به الأرض بعد موتها ويخرج بها من الثمرات رزقا لعباده بابا إلى توحيد الإلهية، وآية بينة على استحقاقه وحده العبادة، وهذا هو الطريق الفطري في الحجاج، أعني الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية؛ فإن قلب الإنسان يتعلق أولا بمصدر خلقه ومنشأ نفعه وضره، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقرب إليه وترضيه عنه وتوثق صلته به. فتوحيد الربوبية باب إلى توحيد الإلهية، ومن أجل ذلك احتج الله به على المشركين وقررهم به وأرشد إليه رسله وأمرهم أن يدعوا به أممهم، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . فاستدل بتفرده بالربوبية وكمال التصرف وحمايته ما يريد أن يحميه على استحقاقه وحده العبادة ووجوب تفرده بالإلهية. وهذا النوع من التوحيد هو المقصود الأهم من بعثة الرسل وإنزال الكتب وهو الذي بدأت به الرسل دعوتها، ووقعت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم، وهو الذي شرع من أجله الجهاد، وقامت الحرب على ساقها بين الموحدين والمشركين. وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأخبر أن البعث آت لا محالة، ونزه نفسه عما زعمه المشركون من الشركاء، ثم استدل على ذلك بآياته الكونية، فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الآيات إلى قوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} ، فأخبر سبحانه عن البعث والتوحيد، ثم أقام على ذلك الحجة بآياته الكونية التي لا يشاركه فيها أحد باعترافهم، ثم ختم البحث بنتيجة الاستدلال وهو التوحيد والقدرة على البعث، وذلك قوله: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى قوله: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ، فقررهم سبحانه بما لا يسعهم إنكاره، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة والبدء والإعادة والإرشاد والهداية ليقيم به عليهم الحجة في وجوب طاعته دون سواه، وينكر عليهم حكمهم الخاطئ وشركهم الفاضح وعكوفهم على عبادة من لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولا حياة ولا نشورا، وكذلك ما تقدم من قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلى قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، فأنكر سبحانه أن يكون معه من خلق ودبر وصرف وقدر، أو من يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء أو يولي ويعزل وينصر ويخذل، أو ينقذ من الحيرة ويهدي من الضلالة، أو من يبدأ الخلق ثم يعيده ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إلى غير ذلك مما استأثر الله به وهذا مما استقر في فطرهم واستيقنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 به أنفسهم، ونطقت به ألسنتهم، وقامت به عليهم الحجة فيما دعت إليه الرسل من توحيد العبادة. وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} إلى أن قال: {كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فأمره سبحانه أن يسلك في دعوته لقومه طريق الفطرة والعقل، فيستدل بتفرد الله بالآيات الكونية على توحيد الإلهية، وأن يلين لهم الجانب في غير ذلة ولا مداهنة، ويتلطف معهم في الدعوة والاستدلال من غير كذب ولا خداع، حتى لا تأخذهم العزة بالإثم، وذلك بين قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . فهذا منهج القرآن والرسل في الدعوة حجاج واستدلال ورفق في القول، وأمر بالعرف، وحسن في السياسة من غير مداراة تذهب بالحق، وفي معنى هذه الآية كثير، كمناظرة إبراهيم ونوح وموسى وإخوانهم من النبيين لأممهم عليهم الصلاة والسلام. ومن سلك طريق القرآن في الدعوة والاستدلال، واهتدى بهدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الحجاج وحسن السياسة قوي يقينه، وخصم مناظره، فإن في ذلك الحجة والبرهان من جهتين: الأولى: أنه الخبر عن المعصوم، والثانية: أنه موجب الفطرة ومقتضى العقل الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 4 - وجوب الإيمان بالبعث والنشور وبيان شبهة الكفار في إنكارهم يوم القيامة والرد عليهم في ذلك البعث هو إحياء الله الموتى وإخراجهم من قبورهم يوم القيامة، ويسمى يوم الميعاد لإعادة الأرواح إلى الأبدان فتعود بهذا الحياة للأبدان، ويسمى يوم النشور، لانتشار المخلوقات إلى الموقف، ويسمى يوم الدين؛ لأن الناس يدانون فيه بأعمالهم، أي يجزون عليها. وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على وجوب الإيمان ببعث الأبدان بعد نفخ الأرواح فيها، كما جاءت شرائع الأنبياء السابقين بالأخبار عنه ووجوب الإيمان به، قال تعالى: مخاطبا آدم وزوجته وإبليس: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ، وقال: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} ، وقال تعالى في بيان دعوة نوح قومه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} ، وقال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} ويوم الدين هو يوم الحساب والجزاء، وقال تعالى لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} ، وأخبر تعالى عن أهل النار إذا قال لهم خزنتها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 اعترفوا بأن الرسل تلت عليهم آيات ربهم وأنذرتهم اليوم الآخر، كما قال تعالى عنهم: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وأمر سبحانه نبيه محمدا -عليه الصلاة والسلام- أن يقسم به على البعث والجزاء فقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، وذم تعالى من يشك في يوم القيامة أو يكذب به أو يماري فيه قال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} ، وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ، وقال: {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} ، وقال: في بيان جزاء الكافرين به: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} . ورد عليهم هذه الشبهة بدليل كوني عقلي بين فيه أن من قدر على خلق ما هو أعظم منهم كالسماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، وقال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} . واستدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 قدرته على الإعادة بقدرته على الخلق، فقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقال في بيان غفلة المكذبين عن النشأة الأولى أو تغافلهم عنها، وأنهم تذكروها، وتبصروا فيها ما وسعهم إلا أن يؤمنوا بيوم القيامة: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ، قال تعالى في بيان أن قيام الساعة ومجازاة العباد مقتضى حكمته، وكمال عدله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} وقال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} أي لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} . بالجملة فكمال علمه يوجب ألا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض، وكمال حكمته يقتضي ألا يترك الناس سدى بلا أمر ولا نهي ولا شرع ولا ثواب ولا عقاب، ومعلوم أن ما حصل في الدنيا لا يكفي للجزاء فلا بد من يوم يتحقق فيه كمال عدل الله وحكمته في الفصل بين العباد، وهو اليوم الذي أعده الله لفصل القضاء بين العباد، وكمال قدرة الله يقتضي ألا يعجز الله شيء، فهو قادر على أن يعيد العظام والرفات والذرات بشرا سويا: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إلى غير ما تقدم من نصوص القرآن الصريحة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 البعث للأرواح والأبدان. أما السنة فمنها حديث: «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق، ومنه يركب» ، وستأتي نصوص أخرى في تفاصيل ما يجري على العباد يوم القيامة، وهي متضمنة لقيام الساعة. وأما جزاء الأعمال: فقد دل على ثبوته قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . أي يوم الجزاء على الخير والشر، وقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، ودل على ثبوته الحديث القدسي الذي رواه أحمد، ومسلم من طريق أبي ذر الغفاري وفيه: «يا عبادي إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» . وأما العرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب: فالمراد بذلك عرض العباد على الله وعرض كتب أعمالهم عليهم حين تتطاير صحف أعمالهم فمن آخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله، يقرأ كل ما في كتابه، ويحاسب على عمله، ويثاب المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، قال تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} . وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب» . ففهمت عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم أولا عموم الهلاك لكل من حوسب، فكان الحديث معارضا ليسير الحساب في الآية وانقلاب من أخذ كتابه بيمينه إلى الذي ذكر في الآية مجرد عرض أعمال المؤمن عليه، وأن الحساب الذي ذكر في الحديث أريد به المناقشة في الحساب، فلا تعارض بين الآية والحديث. وأما الصراط فمعناه في اللغة الطريق، ومعناه المقصود منه هنا الجسر الممتد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 على متن جهنم الذي يمر عليه العباد إذا انتهوا من الموقف إلى منازلهم في الجنة أو النار. وهناك ظلمة دون الصراط يكون فيها الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، كما روى مسلم من طريق عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، فقال: هم في الظلمة دون الجسر» ، وفي هذه الظلمة يكون للمؤمنين نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، فيقول المنافقون لمن صدقوا في إيمانهم: انظرونا نقتبس من نوركم، فيقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا، فإذا ما رجعوا حيل بينهم وبين المخلصين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 والدليل من القرآن على الصراط قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} فإن المراد بالورود في الآية المرور على جهنم فوق الصراط، المضروب على متنها، ثم من الناس من يسقط، ومنهم من ينجو، قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} ، ولا يلزم من المرور على الصراط فوقها دخول كل من مر في النار وتعذيبه بها، ولا يلزم أيضا من التعبير بالإنجاء دخول من أنجاهم الله فيها، فإنه يكفي في صحة التعبير بالإنجاء انعقاد أسباب الهلاك مع تخليص أهل الخير، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا} . وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا} وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا} فأخبر سبحانه بإنجائهم ولم يكن أصابهم ولا أصاب من آمن بهم شيء من العذاب الذي أهلك الله به من كذبهم وكفرهم، فكان توفر أسباب العذاب إجمالا كافيا لتصحيح التعبير بالإنجاء من الهلاك، وقال صلى الله عليه وسلم: «يجمع الله الناس يوم القيامة -إلى أن قال-: فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، وقال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا أضاء قدم قدمه، وإذا طفئ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف ودحض مزلة، فيقال لهم:» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 «امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطوف، ومنهم من يمر كشد الرجل يرمل رملا، فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره إبهام قدمه، يجر يدا ويعلق يدا، يجر رجلا ويعلق رجلا، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك، فقد أعطانا الله ما لم يعط أحدا» رواه الحاكم من طريق عبد الله بن مسعود. وأما الميزان فقد أخبر الله تعالى عنه وعن وزن الأعمال به لحكم كثيرة، منها: ظهور عدل الله تعالى لجميع عباده، قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} . وقال: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوزن الأعمال، روى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان» . وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلمتان خفيفتان على» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 «اللسان، حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» ، وجاء في حديث البطاقة المشهور أن البطاقة التي فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله توضع في إحدى كفتي الميزان، وأن سجلات السيئات توضع في الكفة الأخرى فترجح كفة البطاقة وتطيش كفة سجلات السيئات لهذه الأدلة ذكر أهل السنة أن الميزان له كفتان، وأنه توزن فيه الأعمال وصحف الأعمال وأرباب الأعمال، والله أعلم. وعلى كل حال يجب الإيمان بالوزن والميزان، وأن العبرة بالأعمال لا بالشخص نفسه، ولا بالصحف نفسها، إنما المعتبر في الوزن هو الأعمال في الرجحان والخفة، وشئون الآخرة من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل فيها إثباتا ونفيا، فعلينا أن نؤمن بما صح من النقل في ذلك كتابا وسنة، ولا نعارضه بعقولنا، لقصورها عن إدراكه، ورحم الله امرأ عرف قدره، ولم يتجاوز حده، ومن أنكر ذلك أو تأول ما ورد فيه من النصوص فقد رام ما ليس إليه، ولا في دائرة تفكيره، والله الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 5 - مبحث في أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، وأنهما باقيتان لا تفنيان هذا المبحث يتضمن أمرين، الأول: خلق الجنة والنار ووجودهما في الدنيا، والثاني: بقاؤهما أبد الآبدين وفي كل منهما خلاف بين العلماء، وفيما يلي بيان مذهب أهل السنة ومخالفيهم في الأمرين مع الدليل: الأمر الأول: اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار موجودتان في الدنيا، ولم يعرف لهم مخالف في صدر الإسلام، واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . وقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فدل التعبير عن إعداد الجنة للمؤمنين بالفعل الماضي على أنها موجودة بالفعل في الدنيا، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} . وقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} . وقوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا} فدل التعبير بالماضي على أن النار وجدت فعلا. وأما السنة فالأحاديث الدالة على وجودهما الآن كثيرة، منها ما رواه البخاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله الجنة فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: ثم أرسله إلى النار، قال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها ما فيها، قال: فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضا، ثم رجع فقال: وعزتك، لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر بها فحفت بالشهوات، ثم قال: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها، فرجع فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها» . فهذان الحديثان صريحان في إعداد كل من الجنة والنار لأهلها وروى مالك في الموطأ وأصحاب السنن من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما نسمة المؤمن طير تعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة» . وجاء في حديث خسوف الشمس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 والنار وهو يخطب أصحابه وأنه حدثهم عنها، وثبت أن الله أسكن آدم وحواء الجنة قبل أن يهبطا إلى الأرض، من أجل مخالفتهما لله بأكلهما من الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها. وأما الإجماع: فإن صدر هذه الأمة لم يزالوا على القول بوجودهما في الدنيا حتى نبتت نابتة من القدرية والمعتزلة فأنكرت ذلك وهم محجون بالنصوص، وإجماع الأمة قبل وجودهم. شبهة من أنكر وجود الجنة والنار الآن والرد على ذلك: أولا: قالوا: خلق الجنة والنار قبل يوم الجزاء عبث؛ لأن كلا منهما تبقى معطلة مدة طويلة دون أن يجزى بها أحد، والعبث محال على الله، وأجيب أولا بأنه معارضة للنصوص الصحيحة بالعقل في أمر غيبي لا يعرف إلا من أهل النقل، وثانيا بأن وجودهما في الدنيا فيه فائدة ولأن المؤمنين ينعمون في قبورهم، وأرواحهم نسمات تعلق في شجر الجنة، والكفار يعذبون في قبورهم بالعرض على النار ورؤية كل منهم لمقعده فيهما إلى أن يبعثه الله كما تقدم بيانه، فوجودهما ليس بعبث. واستدلوا ثانيا: بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، قالوا: فلو كانتا موجودتين الآن لهلكتا وذاق كل من فيهما الموت عند النفخة الأولى في الصور من أجل إنهاء الدنيا وتخريبها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وأجبيب بأن كلا من الجنة والنار مستثنى مما يصيبه الهلاك والفناء عند النفخة الأولى؛ لأنهما خلقتا للبقاء. قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} فإنهما داخلتان في عموم من شاء الله بقاءه جمعا بين الأدلة، وأيضا المعنى كل شيء كتب عليه الهلاك أو ذوق الموت فهو هالك، والجنة والنار ليستا مما كتب عليه الهلاك؛ لأنهما خلقتا للجزاء، وأيضا معنى كل شيء هالك إلا وجهه كل عمل حابط إلا ما أريد به وجه الله، بدليل قوله في صدر الآية: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . واستدلوا ثالثا: بما ذكره الله عن امرأة فرعون من قولها: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم بأن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» . وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة» ، قالوا: فلو كانت الجنة مخلوقة مفروغا منها لما طلبت امرأة فرعون من ربها أن يبني لها بيتا فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ولما قال صلى الله عليه وسلم إنها قيعان، وأنها لا تزال يغرس فيها كلما كان التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير من العابدين، وأجيب بأن ما ذكرتم دليل على وجود الجنة الآن لا على عدمها إلا أنها لا تزال يخلق الله فيها أنواعا من النعيم ما ذكره الذكرون، بل ويجدد الله فيها يوم القيامة أنواعا من النعيم. فالإنشاء فيها مستمر اليوم ويوم القيامة، والنعيم فيها متجدد أبد الآبدين. الأمر الثاني: اتفق أهل السنة على أن الجنة لا تفنى، وذهب جمهور منهم إلى أن النار أيضا لا تفنى وقالت طائفة قليلة منهم بفناء النار. والدليل من القرآن على بقاء الجنة قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} . وقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} . وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} وقوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} ، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} . واختلف السلف في الاستثناء من خلود المؤمنين في الجنة في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} فقيل: إنه استثنى المدة التي يمكثها عصاة المؤمنين في النار قبل دخولهم من مدة خلودهم في الجنة، فالمعنى يخلد المؤمنين في الجنة ما دامت السماوات والأرض إلا مدة شاء ربك أن يقضيها عصاة المؤمنين في النار قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 دخولهم الجنة، وقيل: إنه استثناء الرب ولا يفعله، كقولك: والله لأكرمن فلانا إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا ترى إلا إكرامه، وقريب منه ما قيل من أن الاستثناء إعلامهم بأنهم مع خلودهم فهم في مشيئة الله لا أنهم باستقرارهم في الجنة وتمكنهم منها خرجوا من مشيئة الله، ولا ينافي ذلك إرادته إرادة كونية أن يخلدوا فيها، ونظيره قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} وهو سبحانه مريد لبقاء ما أوحى به إلى رسوله، وقوله: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} وهو سبحانه لا يشاء الختم على قلب رسوله، بل أراد له استمرار الهداية والإمداد بالنور وصفاء البصيرة وقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} . وقد شاء سبحانه إعلامهم به، وتلاوة رسوله القرآن عليهم، إلى غير هذا من النظائر التي يقصد فيها إثبات كمال الاختيار؛ ولأن الأمور لم تخرج من دائرة تقديره سبحانه وتصريفه، واختار ابن جرير أن [إلا] بمعنى لكن، وعليه يكون الاستثناء منقطعا، والمعنى خالدين فيها سوى ما شاء ربك من زيادة النعيم، أو لكن هنا بعد زيادة النعيم والإكرام على الخلود ما لا يقدر قدره إلا الله، فليس المراد قطع أمر الخلود، ولكن المراد زيادة نعيم إلى جانب خلودهم في الجنة، بدليل ما ختمت به الآية من قوله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} . والدليل من السنة على أبدية الجنة قوله صلى الله عليه وسلم: «من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت» . وقوله: «ينادي مناد يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 «تسقموا أبدا، وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا» . وقوله: «يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت» . رواه البخاري ومسلم. أما أبدية النار ففيها آراء كثيرة، للسلف منها رأيان: الأول: رأي جمهور السلف، قالوا: إن النار باقية لا تطفأ، ومن دخل بقي مخلدا فيها أبدا إلا من دخلها من عصاة المؤمنين، فإنهم يخرجون منها على ما تقدم بيانه في مبحث الشفاعة، واستدلوا على بقائها وخلود الكافرين بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} وقوله: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} ، وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} وقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} وقوله: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} . الرأي الثاني: أن النار تفنى بعد أن يستوفي الكفار نصيبهم من العذاب فيها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ونسب هذا القول إلى عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة من الصحابة، وبه قال ابن تيمية، وابن القيم وجماعة، واستدلوا لهذا الرأي بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} . قالوا: استثنى من الخلود في الآيتين بقوله في الآية الأولى: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وبقوله في الآية الثانية: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ولم يأت بعد الاستثناء ما يدل على عدم الانقطاع وانتهاء العذاب، كما جاء عقب الاستثناء من الخلود في نعيم الجنة، فإن الآية ختمت بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} وهو دال على دوام النعيم واستمراره فكان قرينة على أن الاستثناء الذي قبله لا يراد به الإخراج، إنما يراد به إثبات كمال الاختيار واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} فجعل اللبث في النار مدة محدودة، فدل على انتهاء العذاب، واستدلوا أيضا بأن النار موجب غضبه والجنة موجب رحمته وقد روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قال: «لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبي» وفي رواية: «تغلب غضبي» . قالوا: فلو بقي الكفار في النار، ولم تفن النار لكان غضبه قد سبق رحمته، وفي هذا خلف لخبر الصادق صلى الله عليه وسلم عن ربه، وخلف خبره مستحيل. قالوا: وما ورد من النصوص الدالة على خلود الكفار فيها أبدا وعدم خروجهم منها فلا نزاع فيه، لكنه يقتضي البقاء في العذاب ما دامت النار باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، وهناك فرق بين من يخرج من الحبس والحبس قائم، وبين من ينهدم حبسه وينتقض بناؤه، فيبطل حبسه وينتهي سجنه بانتقاض البناء، وقد يناقش هذا بأنه وإن صلح جوابا عن أدلة الخلود فلا يصلح جوابا عن النصوص الصريحة في أن عذابها مقيم، وأنه كان غراما، وأن النار كلما خبت زادها الله سعيرا، وأنهم لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف، بل يزيدهم الله عذابا، وأنهم كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، اللهم إلا أن يقال: إن الاستثناء بالمشيئة في الآيتين السابقتين مسلط على جميع النصوص التي دلت على دوام العذاب واستمراره، وعلى كل حال فالموضوع من شئون الله فليترك إلى الله سبحانه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 6 - مبحث في العرش والكرسي وإثبات صفة العلو العرش والكرسي كلاهما حق، وللعرش حملة من الملائكة يحملونه فوقهم، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} وقال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وقد ميز الله العرش بنسبته إليه، وخصه باستوائه عليه، قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} وقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} ، وقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال: في أكثر من آية {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فدل ذلك على وجوده وامتيازه واستواء الله عليه، كما دلت الآية الثانية على وجود الكرسي. واختلف في صفة العرش وموقعه من المخلوقات، فقيل: إن العرش مثل القبة فوق المخلوقات، واستدل لهذا بما رواه أبو داود وغيره في حديث الأطيط من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن عرشه على سماواته» هكذا، وقال بأصابعه، مثل القبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 أي: أشار بأصابعه إشارة تدل على أن العرش يشبه القبة، لكن هذا حديث ضعيف الإسناد، واستدل لذلك أيضا بما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» ، لكن هذا لا يدل على أن العرش كالقبة فوق السماوات من جانب واحد، فإن السماوات محيطة بالأرض، ومع ذلك فهي كالقبة بالنسبة لكل جماعة على سطح الأرض من الجهة التي تليهم، وقيل: إن العرش فلك مستدير محيط بالعالم من كل جهة، وربما سماه أصحاب هذا القول الفلك الأطلسي أو الفلك التاسع، ورد هذا بأن للعرش قوائم، لما ورد في حديث بيان النبي صلى الله عليه وسلم فضل موسى عليه الصلاة والسلام من قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» فالظاهر أنه كسقف أقيم على قوائم، وأن الملائكة تحمله من هذا القوائم، وأيضا العرش في اللغة السرير الذي أعد للملك ليجلس عليه، ولا تفهم منه العرب إلا ذلك، وقد نزل القرآن بلغة العرب، وإذن ليس العرش فلكا مستديرا، بل هو كالقبة على العالم وسقف للمخلوقات، وقد استشهد لكونه سريرا بشعر أمية بن أبي الصلت: مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء العالي الذي بهر النا ... س وسوى فوق السماء سريرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 واستشهدوا لذلك أيضا بما ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة، من أن عبد الله بن رواحة عرض لامرأته بشعر عن القراءة حينما اتهمته بجارته ليوهمها به أنه قرآن، وأنه ليس بجنب، قال: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا لقول أبي ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض» . وتأول جماعة العرش فقالوا: إنه عبارة عن الملك، وهذا تحريف لكلام الله وإخراج له عن المعنى المتبادر منه بلا دليل، فإنه يبعد أن يقال في تفسير الآيات السابقة: ويحمل ملك ربك فوقهم يومئذ ثمانية، وأن يكون معنى {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وكان ملكه على الماء، ويكون معنى أخذ موسى بقائمة من قوائم العرش أخذ بقائمة من قوائم الملك، فكان تفسير العرش بالملك باطلا. أما الكرسي فقيل: إنه موضع القدمين، وأنه بين يدي العرش كالمرقاة إليه، فهو غير العرش، ولقول ابن عباس: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، وقيل: إن الكرسي هو العرش، ويرده ما تقدم عن ابن عباس، وفسر الكرسي بالعلم، ونسب هذا إلى ابن عباس، ولكن المحفوظ عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 التفسير الأول. هذا والسكوت عن الكلام في العرش وأنه كالقبة أو فلك مستدير محيط بالكائنات خير من الخوض في ذلك، وكذا ترك التعمق في كون العرش هو الكرسي أو خلافه خير من الجدل وكثرة الحديث فيه، فإن الخوض في ذلك والتعمق فيه من شره الفكر، واستشراف العقل إلى إدراك أمر غيبي لا يعلم إلا بالتوقف، فينبغي الوقوف عند النقل، ويجب أن يعلم أن استواء الله على العرش ليس لحاجته إليه، ولا لكون العرش حاملا له، فإن السماء فوق الأرض ومحيطة بها، ولم يلزم أن تكون السماء في قيامها وتماسكها محتاجة إلى الأرض، ولا أن تكون الأرض حاملة لها، فالله مستو على عرشه، وهو مستغن عنه وعما فيه من الكائنات، وهو فوق عباده حقيقة، محيط بهم إحاطة تليق بجلاله لا كإحاطة الفلك بما فيه من الكائنات، والجميع قائم بحوله وقوته ابتداء ودواما، محفوظ بعنايته ورعايته، جلت قدرته، وتعالت عظمته علوا كبيرا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وقال: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . وقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} وقال: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} وقال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} . وهذا هو مذهب السلف في صفة الاستواء، وعلو الله على عرشه حقيقة مع التفويض في الكيفية، فقد سئل مالك بن أنس رضي الله عنه: كيف استوى الله على العرش؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، وذكر ذلك حسان بن ثابت في شعره، قال: شهدت بإذن الله أن محمدا ... رسول الذي فوق السماوات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل يريد النبيين يحيى بن زكريا وأباه زكريا، وسأل مطيع البلخي أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وعرشه فوق سبع سماوات، قلت فإن قال: "إنه على العرش ولكن يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال: هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر، وفي بعض الروايات عنه زيادة "لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى لا من أسفل"، ومن أنكر هذا عن أبي حنيفة فهو ممن انتسب إلى مذهبه الفقهي مع مخالفته له في بعض مسائل الاعتقاد كالمعتزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وقد شهدت العقول السليمة، والفطر المستقيمة على علو الله على خلقه وكونه فوق عباده، كما صرحت بذلك نصوص الكتاب والسنة المتنوعة والمحكمة. فمن ذلك التصريح بالفوقية مقرونا تارة بحرف "من" المعنية لفوقيته تعالى بنفسه، ومجردا منها تارة أخرى، قال الله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} . ومنها التصريح بالعروج إليه، قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون» . ومنها التصريح بصعود العمل الصالح إليه، وبرفعه بعض المخلوقات إليه، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} ، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} وكذا عروج النبي محمد مع جبريل عليهما الصلاة والسلام إلى السماوات ليلة الإسراء والمعراج، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى وبين ربه تلك الليلة بشأن تخفيف الصلاة، فيصعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 إلى ربه ثم يعود إلى موسى عليه الصلاة والسلام عدة مرات. ومنها التصريح بالعلو المطلق الدال على إثبات جميع مراتب العلو، علو النفس والقدر والشرف، قال تعالى: في آية الكرسي {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . وقال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} . وقال: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} منها التصريح في كثير من الآيات بنزول القرآن منه - وتنزيله إلى الأرض يقتضي أنه فوق عباده. وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، وقال: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} ومنها التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} وقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} ففرق سبحانه بين من له عموما وبين من عنده من ملائكة وعبيده خصوصا، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم «أن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش، كتب فيه رحمتي سبقت غضبي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ومنها التصريح بأنه تعالى في السماء. قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} . وبيان ذلك أن "في" بمعنى على، وتقدير المعنى: أأمنتم من على السماء، أو "في" على حقيقتها والسماء معناها العلو، وتقدير المعنى: أأمنتم من في العلو، ولا يجوز في معنى هذا النص إلا هذان الوجهان. ومنها التصريح بأنه مستو علي العرش خاصة مع التعدية بعلى وذكر "ثم" في الأكثر، وهي دالة على الترتيب والمهلة، فلا يأتي مع ذلك تأويل استوائه على العرش بالقدرة، أو الاستيلاء عليه. ومنها التصريح بمشروعية رفع الأيدي إلى السماء في الدعاء، فقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وهو يدعو في الاستسقاء وغيره، وثبت عنه أنه قال: «إن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا» . ومنها إشارته صلى الله عليه وسلم إشارة حسية إلى جهة "السماء" وهو يخطب الناس في حجة الوداع، يوم الأضحى بينما قال في خطبته: «سوف تسألون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت» فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء، مشيرا إلى أن الله فوقها وفوق كل شيء، ومنها «سؤاله الجارية بلفظ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 «صريح في ذلك حيث قال لها: أين الله؟ وشهادته لها بالإيمان حينما أجابته بأن الله في السماء وشهدت له بالرسالة، فقال لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة» فهذا السؤال والإقرار والحكم بإيمان الجارية منه صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بربه، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بيانا عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلا بوجه من الوجود دليل على أن الله فوق السماء، وأنه فوق كل شيء بنفسه، والأدلة المتعلقة بعلو الله على خلقه كثيرة متنوعة، يؤيد بعضها بعضا، فمن رام أن يتأولها فقد رام باطلا ومن سلك طريق التأويل لهذه النصوص فقد فتح على نفسه باب شر لا يمكنه إغلاقه، فإنه يسلط على نفسه بذلك مسلك الباطنية الذين يتأولون نصوص الصلاة والزكاة والصيام وسائر فرائض الإسلام، وبهذا يعود الشرع كله مؤولا. ومع هذا فقد تأول كثير من المتأخرين الفوقية في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} بأنه تعالى خير من عباده، وأنه خير من العرش وأفضل منه، وهو كما ترى تأويل بعيد تنفر منه العقول الرشيدة، وتأباه الفطر السليمة، فإنه لا تمجيد لله في ذلك ولا تعظيم له بل هو تأويل سمج مرذول، فإنه يشبه قول القائل: الجبل أثقل من الحصى، ورسول الله أفضل من اليهود، والجوهرة فوق قشر البصل أو قشر السمك ونحو ذلك مما التفاوت فيه عظيم، ولا شك أن التفاوت بين الله وبين عباده أعظم، ولو أن هذا المتأول أثبت الفوقية مطلقا، فوقية الذات، وفوقية القهر والغلبة، وفوقية القدر والمنزلة لكان ذلك صوابا، لاتفاقه مع نصوص الكتاب والسنة مع عدم المحذور أما أن يحصر تأويله في نوع منها بلا دليل فذلك باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وقد يعبر بالخيرية بين الله وبين بعض خلقه إذا اقتضى المقام ذلك، كمقام الاحتجاج على من أشرك مع الله غيره، ودعوته إلى التوحيد، قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ} وقال حكاية لمقالة يوسف عليه السلام لصاحبيه في السجن، ودعوته إياهما إلى التوحيد: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . وقد دلت الأدلة العقلية على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، من أن الله بائن من خلقه وأنه فوق عباده بنفسه، وبيان أن وجود الله إما أن يكون ذهنيا فقط، وإما أن يكون في خارج الأذهان فالأول ممنوع بإجماع، وإذا تعين أن يكون وجوده خارج الأذهان، فإما أن يكون عين العالم أو صفة قائمة بالعالم، وإما أن يكون قائما بنفسه بائنا من خلقه وكل من الأول والثاني ممنوع، فتعين أن يكون الله موجودا قائما بائنا من خلقه. الاستدلال بالفطرة على أن الله فوق عباده: وإذا ثبت ذلك كان سبحانه فوق عباده، مستويا على عرشه؛ لأن السفول صفة ذم لا تتضمن مدحا ولا ثناء فلا يليق بالله، والعلو صفة مدح وثناء وكمال لا نقص فيه ولا يستلزم نقصا، ولا يوجب محذورا، ولا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا، بل النصوص وإجماع السلف تثبت ذلك وتقتضيه، فوجب اعتقاده وإنكار التأويل وصرف النصوص عن ظواهرها، لكونه عين الباطل الذي لا تأتي به الشريعة ولا يراه عقل سليم، فإذا قيل: إن أكثر العقلاء يتأولون نصوص الاستواء والعلو والفوقية بالاستيلاء والقهر والغلبة، وبعلو القدر والمنزلة، وبالخيرية وكمال الفضل، فكان تأويلهم مقتضى العقل، إذا يبعد أن يرمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 جمهور العلماء بالجهل والسفاهة، وتحريف النصوص الصحيحة عن مواضعها، ولا يكون لهم وجه يعتمدون عليه فيما ذهبوا إليه، قيل: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون بأن خالق العالم شيء موجود خارج الأذهان لكنه ليس فوق العالم، وأنه ليس مباينا للعالم ولا داخلا فيه طائفة من النظار، وأول من ابتدع ذلك في الإسلام الجعد بن درهم، وتبعه في التحريف والتعطيل الجهم بن صفوان، فقام هو وأتباعه بنشر هذه البدعة بين الناس، وهم مسبقون بإجماع الصحابة والتابعين وأئمة التفسير والفقه والحديث على إجراء النصوص كما جاءت، وإمرارها على ظواهرها إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، عملا بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وقد شهدت بذلك الفطر السليمة أيضا، فإن الخلق جمعيا يرفعون أكفهم إلى السماء عند الدعاء بمقتضى فطرهم وبدافع قوي من طباعهم التي لم يداخلها إلحاد، ولم ينحرف بها عن جادة الحق تمويه ولا تلبيس، ويقصدون جهة العلو بقلوب كلها خشوع وضراعة إلى الله راجين أن يتقبل أعمالهم، ويستجيب دعاءهم، ويسبغ عليهم نعمه، ويعمهم بفضله وإحسانه. وقد ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل، وأظنه قال: وبكى، وقال: حيرني الهمداني حيرني، وكأن الشيخ أبا جعفر أراد أن هذا أمر فطري، فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقوه عن المرسلين، يجدون في قلوبهم طلبا ضروريا يدفعهم للتوجه إلى الله وطلبه في العلو. فإن قيل: إن رفع الأيدي إلى السماء، وتوجه القلوب إلى جهة العلو، إنما كان من أجل أن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة، لا لأن الله في السماء فوق عباده، ثم هو منقوض بشرع السجود، ووضع الجبهة على الأرض مع أن الله ليس في جهة الأرض، أجيب: أولا: يمنع أن تكون السماء قبلة الدعاء، فإن كون الشيء قبلة لا يعرف إلا من طريق الشرع، ولم يثبت في جعل السماء قبلة للدعاء كتاب ولا سنة، ولا قال به أحد من سلف الأمة وهم لا يخفى على جميعهم مثل هذا الأمر. ثانيا: ثبت أن الكعبة قبلة الدعاء كما أنها قبلة الصلاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن ادعى أن للدعاء قبلة سوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الكعبة أو ادعى أن السماء قبلته كما أن الكعبة قبلة له فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين. ثالثا: أن القبلة ما يستقبله بوجهه، كما يستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذكر والذبح ودفن الميت ونحو ذلك مما يطلب فيه استقبال القبلة، ولذا سميت القبلة وجهة لاستقبالها بالوجه، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، لكنه لم يشرع بل نهى عنه، وإنما شرع رفع اليدين إلى السماء حين الدعاء لا يسمى استقبالا لها شرعا ولا لغة، ولا حقيقة ولا مجازا. رابعا: أن الأمر باستقبال القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كالأمر باستقبال بيت المقدس في الصلاة نسخ بالأمر باستقبال الكعبة، ورفع الأيدي إلى السماء في الدعاء والتوجيه بالقلب إلى جهة العلو أمر فطري مركوز في طبائع الناس لم يتغير في جاهلية ولا إسلام، يضطر إليه الداعي عند الشدة والكرب مسلما كان أم كافرا. خامسا: أن من استقبل الكعبة لا يقع في قلبه أن الله هناك جهة الكعبة، بخلاف الداعي فإنه يرفع يديه إلى ربه وخالقه وولي نعمته، يرجو أن تنزل عليه الرحمات من عنده، وأجيب عن نقضهم الاستدلال بالفطرة على أن الله فوق خلقه بما ذكروه من السجود ووضع الجبهة على الأرض بأنه باطل، فإن واضع الجبهة على الأرض في السجود إنما قصده الخضوع لله، وإعلان كمال ذل العبودية من الساجد لربه ومالك أمره، لا لأنه يعتقد أنه تحته فيهوى إليه ساجدا، فإن هذا لا يخطر ببال، بل ينزه ربه عن ذلك، ولهذا شرع له أن يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى، تعالى الله عن الظنون الكاذبة علوا كبيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 و مما يجب اعتقاده أن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وأنه كلم موسى تكليما أما الخلة فهي كمال المحبة، وقد اتخذ الله نبيه محمدا خليلا كما اتخذ نبيه إبراهيم خليلا عليهما الصلاة والسلام، فهي ثابتة لهما من الله على وجه يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وقد تخللت محبة الله قلب كل من إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فكمال المحبة ثابت من الجانبين من الله لحبيبه، ومنهما لله كل على ما يليق بمقامه وحاله، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» وقال: «ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» يعني نفسه عليه الصلاة والسلام، فبين لنا أنه لم يتخذ خليلا من المخلوقين، وأنه لا يصلح له ذلك، ولو صلح ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الصحابة مثل أبي بكر، ومعاذ بن جبل، وأسامة بن زيد، وعائشة، فتبين بهذا أن الخلة أخص من المحبة، وأنها لكمالها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة فيها، ولهذا لما أعطى الله إبراهيم الخليل ولده إسماعيل أمره بذبحه ليظهر مقام إبراهيم في كمال محبته لولده، وتم بذلك نجاحه في الاختيار على أكمل وجه، ونسخ الله أمره بالذبح، وفدى إسماعيل بذبح عظيم، تكريما لإبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وولده على الصبر والاستسلام لأمر الله وطاعته، وبقيت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا وما في حكمها سنة في أتباعه ومن سار على ملته الحنيفية إلى يوم القيامة، وأنكرت الجهمية أصل المحبة وحقيقتها من الجانبين، زعما منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب وحبيبه، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة، وزعمهم باطل؛ لأنه مجرد دعوى عارضوا بها النصوص الصحيحة الصريحة في إثبات محبة الله للمؤمنين وإثبات الخلة لإبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 7 - رسالة في الحكم بغير ما أنزل الله قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . - أمر الله جل شأنه جميع الناس أن يرد كل منهم ما لديه من أمانة إلى أهلها أيا كانت تلك الأمانة، فعم سبحانه بأمره كل مكلف وكل أمانة، سواء كان ما ورد في نزول الآية صحيحا أم غير صحيح؛ فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم أوصى سبحانه من وكل إليه الحكم في خصومة أو الفصل بين الناس في أمر ما أن يحكم بينهم بالعدل سواء كان: محكما، أو ولي أمر عام، أو خاص، ولا عدل إلا ما جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذلك الهدى، والنور، والصراط المستقيم. ثم أثنى على ما أسداه إلى عباده من الموعظة؛ إغراء لهم بالقيام بحقها، والوقوف عند حدودها. وختم الآية بالثناء على نفسه بما هو أهله؛ من كمال السمع والبصر، ترغيبا في امتثال أمره رجاء ثوابه، وتحذيرا من مخالفة شرعه خوف عقابه. ثم أمر الله تعالى المؤمنين بطاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقا؛ لأن الوحي كله حق، وأمر بطاعة أولي الأمر فيما وضح أمره من المعروف؛ لأنه لا طاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 لمخلوق في معصية الخالق؛ كما دلت عليه النصوص الثابتة الصريحة في ذلك. فإذا اشتبه الأمر ووقع النزاع وجب الرجوع -في بيان الحق، والفصل فيما اختلف فيه- إلى الكتاب والسنة. لقوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . وقوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} . وأمثال ذلك من نصوص الكتاب والسنة. فإن الرجوع إليهما عند الحيرة أو النزاع خير عاقبة وأحسن مآلا، وهذا إنما يكون فيما فيه مجال للنظر والاجتهاد. حالات الحكم بما أنزل الله: فمن بذل جهده ونظر في أدلة الشرع، وأخذ بأسباب الوصول إلى الحق؛ فهو مأجور أجرين إن أصاب حكم الله. أو معذور مأجور أجرا واحدا إن أخطأه. وله: أن يعمل بذلك في نفسه، وأن يحكم به بين الناس، ويعلمه الناس، مع بيان وجهة نظره المستمدة من أدلة الشرع على كلتا الحالتين. بناء على قاعدة (التيسير ودفع الحرج) وعملا بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد» . حالات الحاكمين بغير ما أنزل الله : الأولى: من لم يبذل جهده في ذلك، ولم يسأل أهل العلم؛ وعبد الله على غير بصيرة أو حكم بين الناس في خصومة؛ فهو آثم ضال، مستحق العذاب إن لم يتب ويتغمده الله برحمته؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . الثانية: وكذا من علم الحق ورضي بحكم الله؛ لكن غلبه هواه أحيانا فعمل في نفسه، أو حكم بين الناس -في بعض المسائل أو القضايا- على خلاف ما علمه من الشرع لعصبية أو لرشوة -مثلا- فهو آثم، ولكنه غير كافر كفرا يخرج من الإسلام، إذا كان معترفا بأنه أساء، ولم ينتقص شرع الله، ولم يسئ الظن به، بل يحز في نفسه ما صدر منه، ويرى أن الخير والصلاح في العمل بحكم الله تعالى. روى الحاكم عن بريدة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «قاضيان في النار، وقاض في الجنة: قاض عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة، وقاض عرف الحق» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 «فجار متعمدا أو قضى بغير علم؛ فهما في النار» . الثالثة: من كان منتسبا للإسلام؛ عالما بأحكامه، ثم وضع للناس أحكاما، وهيأ لهم نظما؛ ليعلموا بها ويتحاكموا إليها؛ وهو يعلم أنها تخالف أحكام الإسلام؛ فهو كافر، خارج من ملة الإسلام. وكذا الحكم فيمن أمر بتشكيل لجنة أو لجان لذلك، ومن أمر الناس بالتحاكم إلى تلك النظم والقوانين أو حملهم على التحاكم إليها وهو يعلم أنها مخالفة لشريعة الإسلام. وكذا من يتولى الحكم بها، وطبقها في القضايا، ومن أطاعهم في التحاكم إليها باختياره، مع علمه بمخالفتها للإسلام فجميع هؤلاء شركاء في الإعراض عن حكم الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 لكن بعضهم يضع تشريعا يضاهي به تشريع الإسلام ويناقضه على علم منه وبينه، وبعضهم يأمر بتطبيقه، أو يحمل الأمة على العمل به، أو ولي الحكم به بين الناس أو نفذ الحكم بمقتضاه. وبعضهم يأمر بطاعة الولاة والرضا بما شرعوا لهم مما لم يأذن به الله ولم ينزل به سلطانا. فكلهم قد اتبع هواه بغير هدى من الله، وصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، وكانوا شركاء في الزيغ؛ والإلحاد، والكفر، ولا ينفعهم علمهم بشرع الله، واعتقادهم ما فيه، مع إعراضهم عنه، وتجافيهم لأحكامه، بتشريع من عند أنفسهم، وتطبيقه، والتحاكم إليه؛ كما لم ينفع إبليس علمه بالحق، واعتقاده إياه، مع إعراضه عنه، وعدم الاستسلام والانقياد إليه، وبهذا قد اتخذوا هواهم إلها؛ فصدق فيهم: قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} . وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} الآيات إلى قوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 إلى قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} . إلى قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . إن هؤلاء قد صدوا عن تحكيم شرع الله انتقاصا له، وإساءة للظن بربهم الذي شرعه لهم، وابتغاء الكمال فيما سولته لهم أنفسهم؛ وأوحى به إليهم شياطينهم. وكأن لسان حالهم يقول: (إن شريعة الكتاب والسنة نزلت لزمان غير زماننا؛ ليعالج مشاكل قوم تختلف أحوالهم عن أحوالنا، وقد يجدي في إصلاحهم ما لا يناسب أهل زماننا، فلكل عصر شأنه، ولكل قوم حكم، ويتفق مع عروفهم ونوع حضارتهم وثقافتهم) . فكانوا كمن أمر رسول الله أن ينكر عليهم ويسكتهم بقوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} إلى قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وكانوا ممن حقت عليهم كلمة العذاب وحكم الله عليهم بأن لا خلاق لهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الآخرة بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . لقد استهوى الشيطان هؤلاء المغرورين فزين لهم أن يسنوا قوانين من عند أنفسهم ليتحاكموا إليها، ويفصلوا بها في خصوماتهم، وسول لهم أن يسنوا قواعد بمحض تفكيرهم القاصر وهواهم الجائر لينظموا بها اقتصادهم وسائر معاملاتهم؛ محاداة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وانتقاصا لتشريعها؛ زعما منهم أن تشريع الله لا يصلح للتطبيق والعمل به في عهدهم، ولا يكفل لهم مصالحهم، ولا يعالج ما جد من مشاكلهم؛ حيث اختلفت الظروف والأحوال عما كانت عليه أيام نزول الوحي في المعاملات وكثرت المشكلات؛ فلا بد لتنظيم المعاملات والفصل في الخصومات من قواعد جديدة يضعها المفكرون من أهل العصر، والواقفون على أحوال أهله المطلعون على المشاكل العارفون بأسبابها، وطرق حلها؛ لتكون مستمدة من ثقافتهم وحضارتهم. فهؤلاء قد طغى عليهم الغرور المكروه فركبوا رءوسهم، ولم يقدروا عقولهم قدرها، ولم ينزلوها منزلتها، ولم يقدروا الله حق قدره، ولم يعرفوا حقيقة شرعه ولا طريق تطبيق منهاجه وأحكامه، ولم يعلموا أن الله قد أحاط بكل شيء علما؛ فعلم ما كان وما سيكون من اختلاف الأحوال وكثرة المشاكل وأنه أنزل شريعة عامة شاملة وقواعد كلية محكمة، قدرها بكامل علمه وبالغ حكمته؛ فأحسن تقديرها، وجعلها صالحة لكل زمان ومكان؛ فمهما اختلفت الطبائع والحضارات وتباينت الظروف والأحوال؛ فهي صالحة لتنظيم معاملات العباد، وتبادل المنافع بينهم، والفصل في خصوماتهم، وحل مشاكلهم وصلاح جميع شئونهم؛ في عباداتهم ومعاملاتهم. إن العقول التي منحها الله عباده - ليعرفوا بها، وليهتدوا بفهمها لتشريعه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ما فيه سعادتهم في العاجل والآجل - قد اتخذوا منها خصما لدودا لله فأنكروا حكمته وحسن تدبيره وتقديره، وضاق صدرهم ذرعا بتشريعه، وأساءوا الظن به فانتقصوه وردوه، وقد يصابون بذلك وهم لا يدرون؛ لأنهم بغرورهم بفكرهم عميت عليهم معالم الحق والعدل. فكانوا ممن قال الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} . وكانوا ممن {بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} . إن الله سبحانه كثيرا ما يذكر الناس في القرآن بأحوال المعتدين والهالكين، ويحثهم على أن يسيروا في الأرض؛ لينظروا ما كانوا فيه -من قوة ورغد عيش وحضارة وبسطة في العلم- نظر عظة واعتبار، ليتنكبوا طرقهم اتقاء لسوء مصيرهم، ولفت النظر في بعض السور إلى جريمة الغرور الفكري؛ لشدة خطره، وبين أنه الفتنة الكبرى التي دفعوا بها في صدور الرسل وردوا بها دعوتهم، ليعرفنا بقصور عقول البشر أنها لا تصلح لمقاومة دعوة الرسل، وليحذرنا من خطر الغرور الفكري الذي هلك به من قاوم المرسلين. قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 8 - رسالة في الدفاع عن السنة ورد شبهات المغرضين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد: فلا بد من الإقرار والتصديق بوقوع الرسالة، وهي صلة بين الله جل شأنه وبين أنبيائه، ووجوب تكليف العباد بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهذه الأصول الأولى لا بد من إثباتها؛ حتى يكون الاحتجاج بما ورد في السنة على إثبات أحكام شرعية، احتجاجا مبنيا على أساس، وحتى لا يحتاج الناس بعد ذلك إلا دفع شبه قد ترد. لا بد أن يكون الأصل ثابتا من جهة ما أجمع عليه؛ من وجود موح يوحي بشرع، ومن وجود رسل يوصلون إلى العباد ليهدوهم سواء السبيل. - ومن جهة الوجوب: وجوب ما جاءت به الرسل عقيدة وعملا على الأمة التي أرسلت إليها الرسل. فإذا أراد الإنسان أن يستوفي الموضوع فلا بد له أن يبدأه من أوله، ومن الأساس. أما هذه الرسالة فستكون في موضوع شبه، أو بعض الشبه التي وردت على الاحتجاج بالسنة أو العمل بها، أو اعتقاد ما جاءت به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 اختلاف موقف المدافع عن السنة باختلاف حال من يورد الشبهة إن المسلم الداعية، أو المناظر الذي يثبت حجية السنة، والذي يدفع الشبه عنها يختلف موقفه باختلاف من يناظره. فتارة يكون منكرا للسنة من أصلها أي جميع ما جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام من الأحاديث قولا أو عملا أو خلقا، فينكره ويكتفي بما جاء في القرآن الكريم، فيجب على من يناظر هؤلاء أن يثبت لهم حاجة المسلمين إلى السنة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم قولا وعملا لكي يفهموا القرآن ويستطيعوا أن يعملوا به. وتارة يرد بعض الناس من المسلمين بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بحجة أنها تعارض العقل، أو أن ما كشفه العلماء التجريبيون في معاملهم ومختبراتهم من أطباء، وتجريبيين، وفلكيين وغيرهم تعارض هذه الأحاديث أو تناقض معناها، فهنا يجب على المسلم الذي ينتصب للرد أن يبين أن هذه الأحاديث إن صح سندها، وأيقنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها، فيجب أن نثق برسولنا وبخبره أكثر من ثقتنا بالأطباء وغيرهم من علماء ومكتشفين، وكذلك ليعلم أن العقول قاصرة وقد جرب عليها الخطأ غير مرة، وتارة يكون من يرد السنة أو بعضها؛ لأن فيها أحاديث آحاد فهي لا توجب اليقين، فمنها ما رواه الواحد أو الاثنين أو أكثر من هذا العدد لكن لا يبلغ عددهم الحد الذي يحدث في النفس طمأنينة وثقة بالمنقول وهذا يرد عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد أخبار آحاد الناس ونقلهم ما داموا أهلا للثقة بما جرب عليهم من الصدق والأمانة وبما عرف عنهم من التقوى والديانة. وإليك سرد لبعض هذه الشبه والرد عليها بشيء من التفصيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الشبهة الأولى الاقتصار على القرآن وإنكار السنة فإذا لم يحتج صاحب الشبهة إلا بالقرآن؛ وقال: إن الله تعالى أغنانا بالقرآن لقوله فيه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} ، وقال فالقرآن بين واضح، ومبين لكل شيء فلا يحتاج معه سنة. فلماذا نتكلف البحث فيها والركون إليها أو الاحتجاج بها؟ ولماذا نتكلف هذا مع أن الله تكفل لنا ببيان كل ما نحتاج إليه في محكم كتابه لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} وهو القرآن {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} فلا حاجة إلى أن نكلف أنفسنا عناء البحث في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعمل بما فيها وقد أغنانا الله بالقرآن عنها، ويقول سبحانه في آية أخرى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} ويريدون بالكتاب القرآن فيكون المعنى ما فرطنا في القرآن من شيء ففي القرآن كل شيء فلا حاجة إلى السنة، وهذا إنكار للسنة بجملتها أو إنكار للحاجة إليها وإلى الاحتجاج بها في الجملة، اكتفاء بما جاء في القرآن بهاتين الآيتين. الجواب على هذه الشبهة: وقد أجاب العلماء عن الاستدلال بهاتين الآيتين بأجوبة منها: أن المراد بقوله تعالى: {فِي الْكِتَابِ} ، في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} المراد به اللوح المحفوظ وليس القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وسورة الأنعام مكية، ولم يكن نزل من القرآن إلا قليل، أما سورة البقرة فمدنية، وبراءة مدنية، والنساء مدنية، وآل عمران مدنية، وكثير من آيات الأحكام والفروع مدني، فما يتصل بالصلاة إنما وضح وتبين وتكامل في المدينة، وأحكام المعاملات إنما نزلت في القرآن بالمدينة ونزلت أصولها في القرآن بعد الهجرة، وأحكام الجنايات من قصاص وديات نزلت في المدينة. وسورة الأنعام كلها مكية على الصحيح، وقد يكون منها آيات تشبه الآيات المدنية، كآيات الذبح وذكر اسم الله على الذبائح، قد يكون مثل هذا نزل بالمدينة لكن الغالب عليها أنها مكية كيف يكون في الكتاب الذي هو القرآن بيان كل شيء في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية، مع أن تلكم الأحكام إنما نزلت أصولها في المدينة لا في مكة؟ . وقد ينزل في القرآن الأمر بالعبادة والحث على أدائها لكن تفصيل ذلك وبيان كيفيته وغير ذلك من التفاصيل التي تلزم المكلف لكي يأتي بهذا المأمور على الوجه المطلوب تفصيل ذلك يرجع بيانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعدد الصلوات وتحديد أوقاتها وعدد ركعاتها وسائر كيفياتها لم تعرف من القرآن إنما عرفت من السنة. وأحكام الزكاة من جهة النصاب، ومن جهة المستحقين لم تكن عرفت في مكة، بل فريضة الزكاة لم تكن شرعت في مكة إنما الذي شرع الصدقات العامة، وفرض الزكاة وبدايتها إنما كان في المدينة، فبيان المستحقين للزكاة إنما نزل في المدينة في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} إلى آخر الآية التي فيها الأصناف الثمانية، ثم النصاب نصاب الزكاة ليس محددا في القرآن، وشرطها وهو حول الحول ليس محددا في القرآن ولا مبينا فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فالواقع يدل على أن القرآن اشتمل على الأصول العامة، وأنه ليس فيه كل شيء. وأما تفسير الكتاب بالقرآن في آية: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} فهو تفسير غير صحيح، إنما المراد به اللوح المحفوظ الذي هدى الله تعالى القلم أن يكتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة. أما الآية الأخرى وهي: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} فيقال فيها: المراد بالكتاب القرآن، ولكن سورة النحل التي نزلت فيها هذه الآية أو هذه الجملة سورة مكية، ولم يكن نزل التشريع كله في مكة إنما نزلت أصول التوحيد وما يتصل بمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وأما الفروع فقد نزلت في المدينة. فالمراد إذن بيانه لكل شيء، بيانه لجميع أحكام الفروع، وهذه الآية هي مثل الآية التي قال الله فيها: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} إخبارا عن الريح التي أرسلها الله جل شأنه على عاد قوم هود، أخبر أنه أرسل عليهم ريحا وقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} وهي إنما دمرت قوم هود، دمرت عادا، ودمرت ديارهم، فالأمارات الحسية، أو الأدلة الحسية، وواقع الهالكين الذين هلكوا وتحدث الله عنهم في القرآن يدل على أن المراد بالآية الخصوص لا العموم. كذلك قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} إلى آخر الآية هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 مما أريد به الخصوص، وإلا ففي أي آية من الآيات بيان عدد الصلوات، وبيان تفاصيل الزكوات، أو بيان الحج إلى بيت الله الحرام بأصله وتفاصيله؟ ! لم يكن شرع الحج في هذا الوقت إنما شرع في المدينة في السنة التاسعة أو السنة العاشرة على الخلاف بين العلماء وأما ما كان من حج قبل ذلك فهو على الطريقة الموروثة عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما بنى البيت هو وابنه إسماعيل، وأمره الله أن يؤذن في الناس كان الحج مشروعا فظل من أيام رسالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أيام العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمنه، أما فرضه في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقد نزل ضمن آيات سورة آل عمران، وهذا لم ينزل في مكة، إنما نزل في السنة التاسعة من الهجرة أو في السنة العاشرة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وهو لم يتبين فيه أصل فريضة الحج ولا تفاصيل الحج ولا تفاصيل الصيام وقت نزول هذه الآية؟ والصيام أيضا فرض في المدينة بعد الهجرة بسنة، أين الصيام وتفاصيله؟ ، والجهاد بالسلاح وتفاصيله؟ والبيوع وتفاصيلها؟ ، وأين تحريم الربا؟ كل ذلك ما نزل إلا في المدينة. فمعني الآية إذن إما أن يقال فيها: إنها من العام الذي أريد به الخصوص، أو يقال: تبيانا لكل شيء شرعه وفرضه على المسلمين وهم في مكة؛ لأن السورة مكية، فهي {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} مما أوجبه عليهم وشرعه لهم حتى وقت نزولها لا أنها بيان لكل حكم من أحكام الإسلام. فهؤلاء الذين أنكروا السنة جملة، أو قالوا لا حاجة إليها جملة بتمامها اكتفاء بالقرآن واستدلالا بهاتين الآيتين، قد أخطئوا الطريق ولم يعرفوا تاريخ التنزيل، ولم يعرفوا واقع التشريع، ولم يعرفوا أن بيان ما في القرآن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 العبادات والمعاملات واقع في السنة، ثم أين تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها؟ وأين تحريم زواج الإنسان بامرأة أبيه؟ ؟ إنما كان هذا كله في المدينة، وتفاصيل الأحوال الشخصية من مواريث، وزيجات، ووصايا، ونكاح، وطلاق، تفاصيل هذا كله إنما كان بالمدينة، في الآيات التي نزلت بالمدينة وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته. فواقع التشريع، وعمل المسلمين جميعا برهان واضح يدل دلالة ضرورية على أن السنة جاءت بيانا للقرآن؛ بينت في مكة ما يحتاجون إليه، بقدر ما نزل من أحكام أصول التشريع وبينت في المدينة ما طرأت الحاجة إليه من بيوع، ومعاملات، وجنايات، وحدود. كل هذا لم تنزل تفصيلات آياته إلا في المدينة، ولم يبين الرسول صلى الله عليه وسلم تفصيله قولا وعملا إلا في المدينة. فهذا الاستدلال بالآيتين استدلال مردود، ولا نقول: الآيتان مردودتان، هذا هو التعبير الدقيق، ما يقال: رد على الدليل بكذا، إنما يقال: رد على استدلالهم بالآيتين بكذا. وكما قلت ابتداء: إن موقف الداعية من المدعوين يختلف باختلاف حالهم، فمن أنكر الاحتجاج بالسنة جملة اكتفاء بكتاب الله واحتج بالآيتين فالرد عليهم كما سبق ذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الشبهة الثانية رد بعض الأحاديث لمخالفتها للعقل أو لمعارضتها المستقر في بعض الأذهان بعض الناس من المسلمين قد يرد بعض أحاديث؛ إما لمعارضتها لفكره فيما يزعم، أو معارضتها لما يرى أن الطب جاء به، وأن الطب قرر قرارا صحيحا في أمور لا يليق أن يأتي على خلافها حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فأمثال هؤلاء يردون أحاديث: إما لمعارضتها لفكرهم وعقولهم، وإما لمعارضتهم لقواعد صحية. مثلا: حديث الذباب والأمر بغمسه إذا سقط في الطعام أو في الشراب قد يرده جماعة ممن اقتنعوا بالطب، وبالنظريات الطبية، وقدسوا النظريات الطبية، ووثقوا بعقول الأطباء وبتجارب الأطباء، أعظم وأقوى من ثقتهم بتشريع الله وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحسنوا ظنهم بالنظريات الطبية أكثر مما حسنوه بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا طعن في أحد أمرين: - إما طعن في المشرع. - أو في المبلغ وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أو خفض لوظيفته ومهمته. يقولون: إن وظيفة التشريع صيام، وصلاة، وكذا وليس دراية بالطب، وما الذي يدخله في الطب؟ فهو له دائرة محدودة يدور فيها هي دائرة التشريع من صلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وصيام، وبيع وشراء، وأمثال ذلك، فما الذي يدخله في هذا؟ هذا ليس من اختصاصه، فالعمل فيه إنما يكون على النظريات الطبية لا على ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفن ليس فنا له ولا هو من اختصاصه. ثانيا: وإما أن يكون ردهم لهذا الحديث من جهة أخرى، هي طعنهم في الرواة الذين رووا هذا الحديث. والجواب على هذه الشبهة: أما من الجهة الأولى: فالرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم العلة؛ فقال: إن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء. وتعليله هذا -وهو أمي لم يدخل مدارس طب، ولم يتفنن بتجارب قام بها- دليل على أنه إنما تكلم بهذا عن طريق الوحي من الله جل شأنه. والله سبحانه عليم بخواص مخلوقاته؛ فهو عليم بجناح الذباب، وما فيه من داء وما فيه من دواء، وأن هذا يكون علاجا لهذا، يقول الله عز وجل: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . ومعروف في الذباب، أنه إذا هبط من أعلى إلى أسفل في كل مرة أنه يهبط بميل، حتى الطائرات؛ ما تنزل رأسية؛ لا بد أن تنزل مائلة إلا إن كانت طائرات مروحية (هليوكبتر) ، إنما الطائرات العادية المعروفة تنزل مائلة ثم إذا أرادت أن تنزل من الجانب الآخر تميل.. وهكذا، هذا النظام الكوني والطيور إذا أرادت أن تنزل تنزل بجناح، وإذا أرادت أن تقف في الجو تنصب الجناحين إلى الجانبين كما نراها. القصد أن الذباب -كسائر الطيور- إذا نزل مال على أحد جناحيه، فإذا غمسته كان الجناح الثاني وما فيه من شفاء علاجا لما أصاب الشراب أو الطعام من الداء الذي نزل في الطعام من الجناح الأول الذي نزل به الذباب أولا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فهذا التعليل دليل على أنه -وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب وليس صاحب تجارب في الطب، ولم يدخل مدارس طب، ولا جامعات طب-، ليس تخمينا من عند نفسه ودخوله فيما لا يخصه من عند نفسه، إنما هو بوحي من الله جل شأنه، والله عليم بمخلوقاته وما فيها من خواص. والرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبلاغ عن الله، وقد بلغ هذا عن ربه ويجب على الإنسان أن يثق بوحي الله جل شأنه أعظم من ثقته بنظريات الأطباء، ثم إن الأطباء لم يتفقوا على ما بنى عليه هؤلاء المعترضون على هذا الحديث، وهم مختلفون أيضا، فيما بينهم والمسألة مسألة نظرية اجتهادية من الأطباء فكيف يرد بمسألة نظرية اجتهادية -ما زالت تحت البحث- حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما من الجهة الثانية: جهة السند على طريقة المحدثين سند صحيح مستوف الشروط التي اشترطها علماء الحديث. والناس الذين اعترضوا على هذا الحديث من جهة رجاله ليس عندهم سند يستندون إليه في ذلك، وهم في معاملتهم وقبولهم للأخبار التي تصل إليهم يعتقدون يقينا أو يظنون ظنا غالبا بما وصلهم من الأخبار، يعتقدون ما دلت عليه فيلزمهم أن يقبلوا ما جاء عن رواة هذا الحديث، لأنهم أوثق وأضبط وأعدل من الرواة الذين يروون لهم أخبارا بسفر فلان وفي إدانة فلان، وفي شهادة فلان فهم يقبلون الأخبار والنقل ممن وعمن هم أقل من الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث. ثم إن الذين يردون بعض الأحاديث؛ لأنها لا تتفق مع أفكارهم ومداركهم يسلكون في ردها أحد ثلاثة مسالك: الأول: فإما أن يردوها ويكذبوها، ويقولون: خالفت العقل إن لم يمكنهم أن يؤولوها. الثاني: وإما أن يتأولوها على خلاف ما دلت عليه مع كثرتها. الثالث: وإما أن يردوها؛ لأنها أخبار آحاد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الرد على أهل المسلك الأول القائلين برد السنة لمخالفتها العقل وهذا أيضا وضع غير سليم واعتراض غير سليم فإن عقولهم يعتريها الخطأ والصواب، والوحي -الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وثبت عنهم- جاء الصادق الأمين بوحي من ربه، وهو لا ينطق عن الهوى. فيجب على الإنسان أن يتهم عقله وتفكيره بدلا من أن يتهم رسوله، أو الرواة العدول، أو أن يتهم ربه في وحيه، وليثق بربه وبرسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من ثقته في تفكيره، فإن العقل قاصر، وجرب عليه الخطأ كثيرا، ومداه محدود، وما يجهله أكثر مما يعلمه. فعليه أن يعتقد في تفكيره القصور، وأن يعتقد في وحي الله الكمال والصدق، وأن يعتقد في الرواة -الذين استوفوا شروط النقل المضبوطة المعروفة عند المحدثين- الثقة بهم أكثر من ثقته بتفكيره. هذا جواب على من ينكر الحديث لمعارضته لتفكيره. يقال له: اتهم عقلك بالقصور فإن ما يعلمه أقل مما يجهله، اتهم عقلك بالخطأ وبالجهل في تفكيرك؛ لأنك كثيرا ما تخطئ، وجرب عليك هذا، أما هؤلاء العدول الضباط الذين استوفوا شروط النقل، نقل الأحاديث، فهؤلاء يندر أن يخطئ أحدهم وخطؤه إلى جانب صوابه قليل جدا بل نادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الرد على أهل المسلك الثاني القائلين برد السنة بتأويلها على ظاهرها وهؤلاء هم الذين يحملون ذلك النوع من الأحاديث على غير ظاهره وهم يسلكون هذا المسلك في كتاب الله جل شأنه أيضا، ويتأولون كثيرا من النصوص على غير ما دلت عليه من ذلك: 1 - نصوص آيات الأسماء والصفات ونصوص الرؤية، كقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وغيرها من آيات الأسماء والصفات. 2 - وأحاديث عذاب القبر ونعيم القبر، وسؤال القبر، وعذاب الأبدان: يحملون العذاب على عذاب الأرواح، وكذلك بعث الأجساد يحملونه على بعث الأرواح. 3 - وأحاديث عروج النبي صلى الله عليه وسلم ببدنه إلى السماء، وإسرائه من مكة إلى بيت المقدس ببدنه، ويقولون هذا إسراء بالروح، وعروج بالروح؛ تحكيما للسنن الكونية، والعادات المألوفة في الخلق، فإن الإنسان لا يسير تلك المسافة في جزء ليلة، ولا يعرج إلى السماء السابعة في جزء ليلة. ويرد على هؤلاء بأن الأنبياء ليسوا كغيرهم في المعجزات، وقياس غيرهم عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 في المعجزات باطل إذ أن الأنبياء جاءوا بخوارق العادات، فخوارق العادات بالنظر إلى الأنبياء والمعجزات الكونية والسنن الكونية التي خص الله بها الأنبياء، هذه تعتبر عادية بالنظر لخصوص الأنبياء، وإن كانت خارقة للعادة وغير مألوفة بالنظر لغير الأنبياء، فلماذا تقيسون الأنبياء بما أوتوا من الله على الأفراد العاديين؟ هذا قياس باطل، لا يصح الاحتجاج به؛ لأن الأنبياء يختلفون عن غيرهم في جريان خوارق العادات على أيديهم معجزة لهم. وحادث الإسراء قد ثبت في القرآن، فتأويلهم لا يكون تأويلا لحديث الإسراء، وإنما هو تأويل -أيضا- للقرآن، القرآن جاء فيه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} . ثم إن كثيرا من النصارى، يعتقدون في عيسى أنه كان يحيي الموتى بإذن الله، وأنه كان يبرئ الأكمه الذي ولد أعمى، يبرئه بإذن الله، وأنه كان يصور طيرا من الطين فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه كان يبرئ الأبرص بإذن الله، وليس ذلك بطريقة علاج؛ فهو لم يفتح مستشفى، إنما هي خوارق عادات. وكذلكم اليهود يؤمنون بخوارق العادات، فما الذي جعل خوارق العادات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 لموسى بانفلاق البحر، ونجاة موسى ومن معه إلى الشاطئ الآخر، وجعل الممر يابسا اثني عشر طريقا على عدد الأسباط، حتى لا يتنازع سبط مع سبط جعلها يبسا يمرون في هذه الممرات دون أن يغرقوا، والماء متماسك بدون حواجز، هذا سلب لخاصية الماء، معجزة لموسى وإكراما له ولمن معه حيث أنجاهم بإذنه سبحانه وتعالى، ثم ما جعله نجاة لموسى ومن معه جعله نكبة ودمارا وهلاكا لخصومه وأعدائه. إن الكفار من اليهود والنصارى يعترفون بخوارق العادات وبهذه المعجزات، والعرب يؤمنون بإبراهيم عليه السلام، وبأن الله نجاه من النار حين ألقي فيها، فما الذي يجعلهم يؤمنون بسلب الله خاصية النار حتى تكون بردا وسلاما على إبراهيم، ولا يؤمنون بالإسراء بمحمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ثم العروج به إلى السماء السابعة؟ أ - هؤلاء الذين يؤولون الإسراء والمعراج بأنه روحي أو ينكرونه بالكلية عندهم شبهات فيقولون: 1 - هذه السرعة إلى هذا الحد تمزق البدن؛ لأن احتكاك البدن بالهواء الذي في الجو يولد نارا؛ فيحترق. 2 - كذلك الصعود لأعلى بهذه السرعة يولد نارا؛ فيحترق البدن، وأي شيء آخر إذا صعد إلى أعلى حتى إذا لم يكن هناك هواء ينفجر ويتمزق؛ لأن الضغط الخارجي على جلده وعلى جسمه من جميع الجهات بالهواء فقد، فينفجر. ب - يقولون في الطبقات التي لا هواء فيها: الذين يصعدون في هذه الأيام ويريدون القمر، يتزودون ويأخذون لأنفسهم هواء، ويأخذون وقايات من هنا ومن هناك، والعرب ما كان عندهم هذا الاختراع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فكيف صعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أعلى؟ وكيف تغلب على الجاذبية الأرضية؟ وكيف لم يثبت على الجاذبية التي فوق جاذبية الكواكب (المجموعة الشمسية وأمثالها) ؟ وكيف خلص من الجاذبية الأرضية، ولا أجنحة له، ولا طائرة ركبها؛ إنما هو براق؟ ! هذه شبهة يوردونها على الإسراء، ويوردونها على المعراج وقد ألف بعض أهل السنة في هذا تأليفا يرد فيه على أولئك منهم الشيخ محمد عبد الحليم الرمالي له رسالة صغيرة في الإسراء والمعراج ذكر فيها جميع الشبه التي ترد على الإسراء والمعراج سواء كانت من جهة الحديث أو كانت من جهة السنن الكونية، فالرد عليها واحد. والرد: أن خوارق العادات في معجزات الأنبياء سنن تشبه السنن العادية في حياة الناس العاديين فهم في معجزاتهم يسيرون في طريق كوني عادي بالنظر لهم؛ كما أن الناس يسيرون على سطح الأرض سيرا عاديا، وكما أن الطيور ترتفع بأجنحتها ارتفاعا وصعودا عاديا فالرد واحد، وهو أن هذه المعجزات من خوارق العادات التي أجراها الله جل شأنه على أيدي رسله عليهم الصلاة والسلام. والموضوع في ذاته طويل إذا درس أصله: 1 - من جهة إثبات وجود الله. 2 - إلى جانب إثبات حاجة العباد والمخلوقات إلى موجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 3- إلى جانب وحدانية الله في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته، وفي تشريعه. 4- إلى جانب حاجة البشر إلى الرسالة. 5- وإمكان الوحي. 6- ثبوت الوحي. 7- وثبوت الرسالة. فالأمر يحتاج إلى إثبات هذا كله، وهو عبارة عن مقرر توحيد طويل يدرس في سنوات، وأنا أتكلم في دائرة محددة في "شبهات حول السنة". الرد على أهل المسلك الثالث الذين يردون معظم السنة لأنها أخبار آحاد والذين يعترضون على الأحاديث، أو على بعض الأحاديث: يؤمنون بما تواتر من الأحاديث لفظا ومعنى، وهو عدد قليل من الأحاديث؛ كحديث: «من كذب علي متعمدا؛ فليتبوأ مقعده من النار» ، أو الأحاديث المتواترة معنى؛ كأحاديث رؤية الله تعالى، وأحاديث المسح على الخفين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وأحاديث عذاب القبر ونعيم القبر. يؤمنون بمثل هذا: إما لمجيئه في القرآن، وإما لتواتره في السنة، وإما لوجوده في الاثنين جميعا، لكنهم لا يؤمنون بأحاديث الآحاد؛ وذلك لأنهم يرون أنها لا تفيد إلا ظنا غير غالب. فيردون أمثال هذه الأحاديث ولا يحتجون بها أصلا، أو يحتجون بها في الفروع دون الأصول. أما شبهتهم في رد حجية (حديث الآحاد) فهم يقولون: إن الراوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 يخطئ ويصيب، وإن الراوي قد يكون عدلا فيما يظهر؛ وهو كذاب أو منافق في باطن أمره. ويقولون: إن عمر بن الخطاب رد على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما حديثه في الانصراف بعد الاستئذان ثلاثا. فيقولون: هذا عمر بن الخطاب لم يقبل رواية صحابي جليل لحديث، فهذا يدل على أن في رواية الواحد دخنا، وأنه مثار تهمة فلا نعمل به حتى يتأيد بغيره، وقد ورد مثل هذا عن علي بن أبي طالب في أعرابي. الجواب على هذه التهمة: وهذا وأمثاله يرد عليه بأمرين: الأمر الأول: أن عمر بن الخطاب لم يكذبه إنما أراد: 1 - أن يتثبت من جهة. 2 - وإلى جانب التثبت خاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يجترئ الناس على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فأظهر لهم القوة حتى يحتاطوا لأنفسهم عند البلاغ فلا يبلغ أحد إلا وهو واثق مما يتكلم به، هذا بدليل أنه قبل خبر الواحد في مرات أخرى من ذلك أنه قبل خبر الواحد في إملاص المرأة. - ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اعتمد خبر الواحد، فكان يرسل رسولا واحدا بكتابه، وما أدرى أولئك أن هذا صادق في أن هذا كتاب الرسول عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 والسلام، وليس عندهم بصمة له، ولا عندهم صورة لخاتمه. ما الذي يدريهم بأن دحية الكلبي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف لزمهم البلاغ؟ وكيف أصيب كسرى بعذاب من عند الله حينما مزق الكتاب؟ كيف لزمتهم الحجة؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يرسل الواحد؛ إلا وهو يعتقد أن الحجة تقوم به، وهذا أمر معلوم بالضرورة من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم أفرادا إلى جهات متعددة لنشر الدعوة وإقامة الحجة، فأرسل معاذ بن جبل رضي الله عنه ليقضي، ويكون أميرا في اليمن، وأرسل عليا رضي الله عنه وأرسل أبا موسى الأشعري رضي الله عنه. القصد: أن إرسال الواحد من الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكرر مرات، وهو لا يرسله إلا إذا كان يعتقد أن الحجة تقوم به، وأن خبره يجب أن يصدق. والمهم فيه أن يتخيره عدلا، أمينا، صادقا، يقوى على البلاغ. وليس من المهم أن يكون عددا بدليل أنه أرسل أفرادا إلى دول، وليس إلى أفراد، وفي أصل الدين وهو العقيدة وليس في الفروع فقط. فهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم يحتج به على قبول خبر الواحد، ضد هؤلاء الذين يتهمون الراوي إذا كان واحدا، ويردون خبره وحديثه وإن توافرت فيه الشروط التي توجب قبوله وهي: - أن يكون عدلا في دينه، ضابطا في نقله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 - مع اتصال الإسناد. - ومع عدم مخالفة الرواي من هو أوثق منه. - ومع عدم الوقوف على علة قادحة يرد بها الحديث. هذا العمل من الرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم، وكذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قبل خبر الواحد عدة مرات، فلماذا يتمسكون بهذه القصة، ولا يتمسكون بغيرها وغيرها أكثر منها. الأمر الثاني: في عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان عنده قوة في التثبت وكان يجتهد ويستوثق أكثر، لا لأنه متهم لمن استوثق في خبره، كما جاء في حادث التحقيق مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما كان -في العراق- أميرا وقاضيا وقائدا للسرية، وإماما في الصلاة وخطيبا في الجمعة، اشتكاه واحد من العراقيين إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكتب إليه كتابا؛ يقول فيه: "إنه لا يخرج بالسرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يحسن الصلاة"، فأرسل شخصا يحقق في الموضوع، مع أنه واثق من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، لكن لا يريد الفتن والقلاقل، ويريد أن يستوثق أكثر، وفعلا حقق داخل المساجد ومر على الناس هنا وهناك، فكلهم يثنون خيرا على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، إلا المكان الذي فيه بؤرة الفساد والرجل الذي بلغ فانتصب له، فحكى نفس الكلمة وسعد يسمع، فقال: "اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره، وأدم فقره، وأكثر عياله، وعرضه للفتن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 أربع دعوات نظير أربع تهم وجهها الرجل إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فطال عمره، وكثر عياله، ودام فقره، وكبر في السن حتى صار وهو يمشي في الطريق ينظر إلى النساء بعين خائنة، وقد سقط حاجبه على عينه، فيقال له: ما بك وقد شبت؟ فيقول: مسكين، أصابتني دعوة سعد. أقول: عمر بن الخطاب [لما استخلف ستة] حينما طعن وأيس من أن يبقى، فقالوا له: استخلف، فقال: لا أحملكم حيا وميتا، ولما ألحوا عليه استخلف ستة يختارون من بينهم خليفة، واستجاب لهم في الجملة، ثم جعل من الستة سعدا رضي الله عنه، ثم قال: اعلموا أني لم أعزله لشكي فيه ولا اتهاما له، ولهذا رضي به خليفة باختيارهم إياه، ثم إذا لم تصبه الخلافة نصحهم بأن يستشيروه، وأن يرجعوا إليه فيما يبرمون من أمور الدولة. فها يدل على اتجاه عمر رضي الله عنه في قبول الآحاد. والقصد أن هذا جواب اعتمادهم على طلب عمر من أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، أن يأتيه بآخر يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث. وأسأل الله أن يوفقني، وإياكم لما فيه رضاه، وأن يشرح صدورنا بالعلم النافع، وأن يجعل لنا بصيرة في إصابة الحق، وأن يوفقنا للعمل بما علمنا، فإنه مجيب الدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الشبهة الثالثة دندنة البعض بأن السنة لم تدون في عصر النبوة س1: يدندن بعض المعارضين لحجية السنة بأن أسانيد الأحاديث لم تدون إلا بعد قرن من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فما رأي سماحتكم؟ الجواب على هذه الشبهة: هذا صحيح من أحد الجوانب، فإن السنة لم تدون أسانيدها إلا في وقت متأخر، أما متون الأحاديث فمن المفروغ منه أنه دونها بعضهم، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما دون وكتب بعض الأحاديث لنفسه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة لبعض الوفود فكتبوا لهم كتابا ببعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان عنده صحيفة لما سٌئل: ما عندكم غير الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما عندنا إلا كتاب الله وهذه الصحيفة. وفيها جملة أحكام. وعلى هذا فقد كان بعض السنة مدونا في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام لكن هذا ليس بصفة عامة، وحيث إن أغلب السنة كان غير مدون، ومن دون فقد دون لنفسه، أو جماعة خاصة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. إلا أن أذهان أولئك كانت سيالة تغنيهم عن التقييد والكتابة، وقد منعوا من الكتابة ابتداء مخافة أن تلتبس السنة بالقرآن، وهذا ثابت في الأحاديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الصحيحة في كتاب العلم في صحيح البخاري، وغيره من دواوين السنة. أما الأسانيد فلم تكن طويلة في القرن الأول حتى يحتاج المسلمون إلى تدوين هذه الأسانيد، وقد انتهت خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على رأس المائة والحال هذه، في قوة الدولة الإسلامية، وفي تماسك المسلمين وحرصهم على الدين، وبقاء عدد من الصحابة رضي الله عنهم يأخذ عنهم التابعون، ومن وجد إلى عهد عمر بن عبد العزيز فقد التقى ببعض الصحابة فهو تابعي، إلا أنه يوجد تابعيون كبار وأوساط تابعين وصغار تابعين، فمن أين علم هؤلاء المعارضين أن الذين نقلوا عن الصحابة لم يدونوا لأنفسهم ولم يكتبوا اسم الصحابي الذي روى لهم، إنما الذي تأخر بعد المائة جمع المتون والأحاديث في دواوين مختلطة بالآثار والفقهيات أولا، ثم جرد من هذا في بعض الكتب كما جرد صحيح مسلم من الآثار والفقهيات، وبقي الوضع على هذا في بعض الدواوين؛ مثل صحيح البخاري، وكذلك موطأ مالك الذي فيه ما بين مالك والصحابي رجل واحد أحيانا كنافع -مولى ابن عمر - وأحيانا يكون غيره. ففي رد هذه الشبهة يراعى ما يلي: أولا: أنه لم يكن هناك بعدُ السند الطويل الذي يحتاج إلى تدوين وإلى كتابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الدواوين. ثانيا: أنه ليس في تأخير دواوين الحديث إلى ما بعد ذلك دليل على أن أولئك الأتباع لم يكتبوا من رووا عنه، من شيخ أو شيخ شيخ، والسند في ذلك الوقت لم يكن فيه سوى راو واحد أو اثنين. ثالثا: ثم الشروط التي اشترطت من جهة الضبط وعدالة الراوي وأمانته واتصال السند كفيلة ببعث الثقة في النفس بأن هذا ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 استفسار وبيان س2: هل في السنة شرع مبتدأ ليس له أصل في القرآن أو زيادة على ما في القرآن؟ الجواب: أما سؤال: هل في السنة أحاديث ليست في القرآن أو أصلها ليس في القرآن؟ فهذا فيه خلاف ذكره الشاطبي في الموافقات وكذلك غيره، والخلاف في هذا يكاد يكون لفظيا؛ لأن الذين اختاروا أنه ليس في السنة شيء زائد على ما في القرآن، وإنما كل ما وجد في السنة فهو بيان لأصل في القرآن، فهؤلاء يتأولون ما قال مخالفوهم بأنه ليس في القرآن بل زائد. فمثلا في الحديث الذي فيه النهي عن الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها علل فيه الرسول عليه الصلاة والسلام هذا النهي، فقال: «إن لم تفعلوا ذلك تقطعوا أرحامكم» فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا وسيلة لقطيعة الرحم. وهذا التعليل جعله الشاطبي وهو الذي بني عليه تحريم الأم، وتحريم الزواج بالبنت، وتحريم الزواج بالأخت؛ لأنه يصير فيه جانبان متقابلان متعارضان؛ حقوق الزوجية للزوج، وحق أمه عليه، هي أقوى من حرم نكاحه، ولذلك جاء في أول المحرمات في الآية، وكلما تأخر كان أخف في المفسدة، وفي تعارض الحقوق. فلما بين الله تعالى في القرآن الأصل الذي بني عليه تحريم نكاح الأمهات والأخوات؛ وهو أن ذلك يؤدي إلى تعارض الحقوق وتقطع الأرحام أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا في حديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وعلى هذا يكون حديث النهي بيانا للتعليل الذي بني عليه تحريم من حُرم نكاحه في نص القرآن، وقد فهمه النبي صلى الله عليه وسلم وعلل به، وبهذا لم يكن الحديث زائدا عن التقعيد الذي في القرآن، إنما هو استنباط من ذلك التقعيد وما كان التحريم فيه أخف؛ لأن تقطيع الرحم فيه أقل، وتعارض الحقوق فيه أقل، فجاء التحريم في الجمع دون التحريم في أصل الزواج، فله أن يطلق المرأة ويتزوج عمتها، أو يطلق المرأة ويتزوج خالتها. وكذلك فإن أصل هذا التقعيد الذي فيه خفة المفسدة موجود في تحريم الجمع بين الأختين؛ لأن الضرة من شأنها أن يقع بينها وبين ضرتها الخصومة، فحرم الجمع بينهما مخافة المضارة التي هي من شأن البشر، وخاصة النساء، فحرم الجمع دون أن يحرم تزوج الأخت بعد وفاه أختها، أو بعد طلاق أختها. ومن أجل هذا يقول الشاطبي ومن وافقه: إنه مبني على تقعيد مستنبط من القرآن فهو بيان لا تأصيل. أما غيرهم فنظر إلى الظاهر، وأن هذا الحكم لم يكن موجودا نصا، إذًا هو زائد على ما في القرآن، وهذا التعليل موجود في الموافقات للشاطبي ومن أحب الزيادة فليرجع إليه. س3: في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الداء والدواء في جناحي الذباب، هل جناح الذباب الذي فيه دواء موافق لهذا الداء الذي في الجناح الآخر؟ أو داء أو مرض غيره؟ وهل الذباب المذكور في الحديث هو الذباب المعروف؟ الجواب على هذا يتضح مما يلي: أولا: المعروف بالذباب في لغة العرب هو هذا النوع الذي يسقط على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 القاذورات والأوساخ، والذي يسقط في الطعام أو الشراب، وبهذا الفهم أيضا هو ما يقصده الأطباء، فهو ليس عاما إذن في كل ما يطير بجناحيه. ثانيا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا في هذا الحديث أن في إحدى جناحيه داء والأخرى دواء، وهذا يدلنا على أن المراد بالجناح جناح هذا الذباب الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر فيه هذا عن كونه دواء لغير هذا الداء؛ لأنه يعلل ما ذكر في كلامه بالغمس ولم يجعل صلى الله عليه وسلم هذا تعليلا عاما لعلاج كل داء، إنما ذكره بمناسبة الداء الذي في جناح الذبابة يقول: «فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء» . إذن فقوله صلى الله عليه وسلم عن دواء في الجناح هو دواء للداء الذي نزل من الجناح الآخر، ولا يصح أن يقال: إن هذا يتعدى إلى علاج داء آخر إلا بدليل، فالأصل أن ذلك يخص ما ذكر في الخبر ولا يجوز تعديه إلى غيره، مثل أي طبيب يقول: هذا الدواء لهذا الداء، فلو ذهبت إلى الصيدلية لوجدتها مملوءة بالأدوية وكل ما فيها يقال إنه دواء، لكن لا يستعمل كل دواء في الصيدلية لكل داء أيا كان، بل الأدوية التي في الصيدلية موزعة على الأدواء والأمراض وفق خاصية الداء وخاصية الدواء. وعلى هذا فلا بد للإنسان أن يقف عند ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام دون أن يتجاوزه بجعل هذا الدواء دواء لكل داء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الجمع بين حديث الذباب وحديث أنتم أعلم بأمور دنياكم س4: كيف نجمع بين حديث الذباب وبين قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم «أنتم أعلم بأمور دنياكم» . الجواب: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في أرض عربية، والبلاد بلاد نخيل، وهو يعرف شيئا ما عن هذا في الجملة، ولا أقول إنه يعرف كمعرفة الزراع أو أرباب النخيل والثمار، لكنه مطلع على ذلك في الجملة، والرسول عليه الصلاة والسلام ما قال أنا أعلم بأمور دنياكم، بل نفى أنه أعلم بأمور الدنيا منهم، نفى هذا في مسألة النخيل وفي غيرها، فالشئون التي تتصل بالدنيا هم فيها أعلم، وإنما يعلم منها ما أوحى الله به إليه. وحيث إن الشيء الذي قاله عليه الصلاة والسلام وأشباهه مما رجع عنه هو الأمور الاجتهادية، فهذا يدلنا على أنه قال فيها باجتهاده، ولهذا رجع عنها، أما الذي لا مدخل للاجتهاد فيه مثل حديث الذباب إنما قاله عن طريق الوحي، بدليل التعليم الذي أشعر بذلك كما تقدم في السؤال السابق. وحيث إنه لم يقل فيه صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» ، ولم يرجع عنه، ولم يعارضه أحد فهذا محمول على أنه وحي من الله. أما ما كان في مسألة النخيل فهو من الأمور التي تؤخذ بالتجارب، وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 مسألة النزول على غير ماء بدر، حين قال الصحابة رضي الله عنهم: «أهو الرأي أو هو من الله؟ فقال: هذا هو الرأي، قالوا: لا، الرأي أن ننزل على الماء» ، وهذا يبين أنه أمر اجتهادي. فالأمور التي فيها مجال للاجتهاد ومنها تأبير النخل يمكن أن يقول فيها باجتهاده، فإذا أخطأ قال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» ، والأمور التي لا مجال لمثله للاجتهاد فيها يتبين لنا أنها وحي من الله، ويؤيد هذا التعليل أنه صلى الله عليه وسلم أمي ولا عهد لأمته بالطب الذي من هذا الجنس ولا تجارب عندهم في هذا، وخوضه فيه لا يليق برسالته؛ لأنه يكون مجازفا بنى شيئا على غير تجربة، ولا مجال لأمثاله في أن يجرب في مثل هذا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «فإن أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء» وهذا أمر لا يعلم إلا عن طريق تحليل جناح الذباب، فمن أجل هذا قلت: إن هذا وحي من السماء. أما مسألة تأبير النخل في الحديث المذكور، ففيها نوع من الاجتهاد قد أخطأ فيه صلى الله عليه وسلم، فهو قد يخطئ في الأمور الاجتهادية من شئون الدنيا، ويهيئ الله له من يتكلم معه ويناقشه فيرجع عن خطئه إلى ما هم عليه من صواب، فمن أجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» وهذا في الأمور التي تكتسب بالخبرة وغيرها. ومن جهة أخرى مسألة الذباب لم ينته الأطباء وأهل الاختصاص فيها إلى رأي واحد، بل ما زالت إلى اليوم محل بحث ومحل تجربة، وأكثر ما فيها الاستقذار، وسقوط الذباب على الأوساخ وعلى الأذى، وأن النفس تعاف الطعام أو الشراب الذي سقط فيه وقد قلنا: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 يأمر المسلم أن يأكل أو يشرب ما وقع فيه الذباب، وعلى ذلك فهو حر إن شاء أكله أو شربه وإن شاء أعطاه غيره، فلا إشكال في الأمر، وكل ما أمره به أن يغمسه؛ لأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء. س5: ما حكم من ابتلع من الشراب أو من الأكل الذي وقع عليه الذباب ثم قاءه مع إيمانه بالحديث؟ . الجواب: هذا أشرت إليه في الجواب السابق، وقلت: إن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمر أحدا بأن يأكله، إنما بين لهم الفائدة في غمسه وأن ما فيه من داء يعالج بما فيه من دواء، ولم يأمر من غمسه بأكله، فهذا إليه إن استقذره فهو غير ملزم بأكله لكنه يعطيه من يطعمه ولا يستقذره ولا يضيع ماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 حكم من رد السنة جملة وتفصيلا س6: كيف ترون التعامل مع من يرد سنة النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك جملة أو تفصيلا خاصة وأن من هؤلاء من يتولون الحكم في بعض بلاد المسلمين اليوم؟ الجواب: الحكم فيمن رد السنة جملة -أي كلها- فهو كافر؛ فمن لم يقبل منها إلا ما كان في القرآن فهو كافر؛ لأنه معارض للقرآن، مناقض لآيات القرآن، والله تعالى يقول: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} ، ويقول تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ويقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فقوله: {فَاتَّبِعُونِي} هذا عام، فحد المفعول طريق من طرق إفادة العموم، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وما من صيغ العموم، وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} أي: تنازع الرعية، وأولو الأمر من العلماء والحكام {فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، فلم يجعله إلى الله وحده، بل جعله إلى الله وإلى الرسول، ورده إلى الله رده إلى كتاب الله، ورده إلى الرسول بعد وفاته رده إلى سنته عليه الصلاة والسلام، فدعواه أنه يعمل بالقرآن عقيدة وعملا ويرد السنة جملة - هذه الطائفة التي تسمي نفسها " القرآنية "- دعوة باطلة، وهو مناقض لنفسه؛ لأنه كذب آيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 القرآن التي فيها الأمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ ما جاء به، وطاعته فيما جاء به من عند الله عموما دون أن يخص آيات القرآن، ثم هو في الوقت نفسه كيف يصلي؟ ، وكيف يحدد أوقات الصلوات؟ ، وكيف يحج بيت الله الحرام؟ فليس هناك إلا أركان محدودة من الحج في سورة البقرة، وكذلك أين أنصبة الزكاة؟ وكيف يزكي؟ كل هذه التفاصيل موجودة في السنة وليست في القرآن، فمن يدعي أنه يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة فإنه مغالط ومناقض لنفسه، ومناقض للقرآن؛ لأنه رد آياته الكثيرة التي ورد فيها الأمر بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام والأخذ بما جاء به، ومناقض لإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم جميعا لم يشذ واحد منهم عن الأخذ بالسنة، فإذا هو كافر بالقرآن وإن ادعى أنه مؤمن به، والكافر بآية منه كالكافر بكل آياته، كافر بالإجماع منكر له، أي: إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فما فيهم واحد شذ عن السنة وأنكرها جملة وإذا أنكر أحدهم شيئا فإنما ينكر حديثا من جهة الراوي لا من جهة أنه كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، أي: السنة. وهذا أيضا لا يقوى على أن يقوم بالصلوات الخمس على وجهها المعلوم من الدين بالضرورة، فصلاة العصر أربع ركعات، وصلاة الصبح ركعتين لا يجد هذا في كتاب الله فمن أين جاء هذا؟ ما جاء إلا من تعليم جبريل للرسول عليه الصلاة والسلام، وتعليم الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه، فمن أين يأتي بهذا؟ فهذا مجمل الرد عليه، وإثبات أنه كافر بالقرآن، كافر بالإجماع اليقيني، كافر بالمعلوم من الدين بالضرورة، من مثل أن ركعات الظهر أربع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث، والصبح ركعتان، وكافر أيضا بتفاصيل الصيام؛ لأنها ليست في القرآن، وهي معلومة من الدين بالضرورة، فلذلك كان كافرا. الاجتهاد شيء ورد الأحاديث شيء آخر: أما الذي ينكر حديثا ما لعلة في سنده ويختلف فيها مع غيره من رجال الحديث، فهذا نوع من الاجتهاد يقال فيه أخطأ وأصاب، ولا يقال فيه آمن وكفر. وكذلك إذا رد ظاهر الحديث متأولا له تأويلا تسوغه اللغة العربية، ففسره بمعنى مختلف عن المعنى الذي فسره به غيره، فهذا حمله على الظاهر وهذا تأوله، فهذا لا يقال فيه آمن وكفر، إنما يقال أخطأ وأصاب، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد، ويلزمه العمل بما اعتقده، وإن كان خطأ في نفسه، ودليل ذلك حدث في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى بني قريظة، حين قال: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» فاجتهد الصحابة، فبعضهم أخر العصر على ظاهر الحديث مثل ما يقول ابن حزم: لو كنت معهم ما صليت العصر إلا في بني قريظة؛ لأنه ظاهري، وقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد منا هذا ولكن أراد منا السرعة والمبادرة، ولم يرد منا أن نترك الصلاة في وقتها هذا فرض وذاك فرض، وفريضة الصلاة لا يسقطها الجهاد، فنصلي ثم نسرع ولا نتمهل، وصلوا في الوقت، ولما اجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف طائفة من الطائفتين، لا المخطئة ولا المصيبة، لا التي أخرت ولا التي عجلت. هذا دليل على أن الأحاديث التي هي مجال للاجتهاد يقال في الخلاف فيها أخطأ وأصاب، ولا يقال آمن وكفر، ويعذر من أخطأ، وعمله الذي بناه على اجتهاده الخاطئ صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 والثاني المصيب أيضا معروف واضح أنه يؤجر أجرين ويجب عليه العمل باجتهاده. القصد أن من ينكر الحديث من سنده للاختلاف بينه وبين غيره في توفر أسباب القبول وعدم توفرها، هذا لا نقول له: إنك آمنت أو كفرت، بل نقول له: أخطأت أو أصبت، وكذلك لو تأول متنا وفيه مجال للاجتهاد يقال فيه: أخطأ وأصاب. حكم من خالف معلوما من الدين بالضرورة : أما أن يأتي بأمر يخالف صريح السنة التي لا تحتمل تأويلا مثل صلاة أربع ركعات، يقول هذه تصلى ركعتين، نقول له: لا، أنت خالفت معلوما من الدين بالضرورة، فأنت كافر، وكذلك من يقول: إن الصلوات في اليوم والليلة صلاتان فقط، صلاة في النهار، وصلاة في الليل، ويذكر القرآن؛ لأن فيه الصلاة أول النهار وآخر النهار، وصلاة من الليل ففيه ثلاث صلوات، واحدة في الليل بنص القرآن، وواحدة في الغدو، وواحدة في الآصال، فيصلي ثلاث صلوات بنص القرآن، ويضيع صلاة الظهر لأنها ليست في الغدو، ويضيع واحدة من الصلاتين بالليل، فهذا نقول له أنت أنكرت معلوما من الدين بالضرورة، وإن لم يكن في القرآن لكنه ثابت متواتر تواترا عمليا وتواترا قوليا، فإنكارك إياه مثل إنكارك للقرآن، فهذا نقول له: إنه كافر؛ لأنه خالف معلوما من الدين بالضرورة. وأما إن أنكر شيئا واحدا؛ أنكر حديثا واحدا، أو عملا واحدا، مثل من ينكر صلاة الوتر -ولا أقول هذا في الفرائض- سواء قلنا: إن الوتر واجب، والواجب أقل من الفرض، أو قلنا: الوتر سنة مؤكدة، من ينكر صلاة الوتر فهو كافر، أنكر سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم معلومة من الدين بالضرورة، وأنا ما أخص هذا بالفرائض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 الخمس، يعني الكلام ليس على درجة أهو فرض أو سنة، فمن ينكر أن هناك رواتب للفرائض، ركعتان قبل، وركعتان بعد، من ينكر أن هناك تهجد الليل هذا أنكر معلوما من الدين بالضرورة، بعضه في القرآن وبعضه في السنة، فيقال: كافر. فما كان فيه مجال للاجتهاد، يقال فيه أخطأ وأصاب ولا يقال فيه آمن وكفر، وما لم يكن فيه مجال للاجتهاد وهو ثابت ثبوتا قطعيا أو معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر، وإن كان الذي أنكره شيئا واحدا وإن لم يكن أصله في القرآن، هذا هو حكم الصنفين من أنكر الجملة ومن أنكر البعض هذا هو التفصيل. س7: هل يجوز للمسلم أن يتمسك برأيه إذا كان مخطئا ولكنه مجتهد في ذلك؟ وهل يقبل منه ذلك شرعا بحجة أنه مجتهد؟ الجواب: المجتهد إذا رأى رأيا ولو خطأ وله وجهة من جهة اللغة، ومن جهة مقاصد الشرع - فله أن يتمسك برأيه، ولو كان خطأ في الواقع لكنه لم يتبين له خطؤه، وما قامت عليه الحجة، أما إذا تبينت له الحجة، فيجب عليه أن يرجع عن رأيه ولو كان مجتهدا، والحق أحق أن يتبع، أما الذي لا دراية له ولا قدرة له على الاجتهاد إنما هو يعتمد في تفكيره في دنياه وآخرته على غيره، فهذا ليس له أن يتعصب لمذهب، أو أن يتعصب لرأي، بل عليه أن يضع يده كالأعمى على كتف غيره ممن يثق بهم، يعني يجتهد في اختيار الشخصيات المأمونة المعروفة بالاجتهاد والإصابة في الجملة، عليه أن يجتهد في اختيار الأفراد أن يجتهد في النصوص؛ لأنه ليست عنده تلك القوة التي تؤهله للاستنباط من كتاب الله أو سنة رسوله الصحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 الشبهة الرابعة شبهة أخرى والجواب عليها س8: ما حكم من يقول إن بعض الأحاديث تنكر بعضها؟ الجواب: الرسول عليه الصلاة والسلام ليس برجل بدوي يخبط خبطا عشوائيا وهو أمي وأمته أمية فلا يمكن أن يتكلم بتخمين؛ فكونه يخبر بأن الذباب في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، لا يمكن أن يتكلم به عن طريق اجتهاد في أمر لا يعنيه وليس من شأنه، إنما يتكلم فيه عن وحي، ولذلك علل وقال: «في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء» فالمسألة ليست مسألة اجتهاد، إنما هو وحي من الله، فمثله لا يمكن أن يدخل فيه باجتهاده، وهو أمي في أمة أمية يقول في أحد جناحي الذباب داء وفي الآخر دواء، وليس هناك من أمة العرب من يدري عن خواص الذباب ولا خواص ما في أجنحته، هذا لا يمكن أن يقوله رسول من عند نفسه في شأن من شئونه، إنما هو وحي من الله أوحى به إلى رسوله فتكلم به. أما موضوع التلقيح فهم رجال نخل في بلاد العرب - وهم رجال التمور، وقد يدخل في مثل هذا باجتهاده، كما دخل في مسألة النزول في ميدان القتال واجتهد، ولما أراد أن يصطلح مع قريش والأحزاب لما جاءت إلى المدينة في غزوة الأحزاب، وأن يبرم معهم صلحا، وأن ينزل لهم عن بعض الشيء من ثمار المدينة فأبى الأنصار فرجع إلى رأي الأنصار الذي أشاروا به وكانت الحرب، هذا فيه مجال للاجتهاد فيمكن أن يقول فيه برأيه، ويمكن أن يظهر له خطؤه وأن يرجع عنه. أما الذي لا يحق لمثله الدخول فيه أصلا هي الأمور الغيبية التي لا تدرك بالنظر والخبرة والاجتهاد وذلك مثل قوله: «في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء» . هذا لا يمكن أن يكون مما يدرك ويقال بالظن والاجتهاد، ولا يجترئ عليه وهو أمي، بل لا بد أن يكون بوحي من الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فالذين يقولون: هذا الكلام ينظرون إلى كلمات المشوشين في الموضوع. الذين يقولون: إنما بعث للتشريع وهذا صحيح، ولكنه أيضا أحيانا يخبر بأمور غيبية فيها مصلحة المسلمين وفيها علاج مثل علاج بالرقية، وهذا لا يقول به الأطباء، فالأطباء لا يقولون بالكي وهم يكوون، أي يعالجون بالكي وهم ينكرون الكي ويسجنون من كوى وسلم نفسه للكي، فهم يعالجون بعض الأدواء بالكي لكنه لا يسلخ الجلد وذلك بالكهرباء، والعرب يعالجون بالكي، فهم يعالجون بالكي وهو أسرع -من جهة السبب- في العلاج، والعلاج بالكهرباء بطيء، وذلك مثل الشلل فهو يعالج بالكي وهم يعالجونه بالكهرباء، فهذا فقط نوع من العلاج لا يسلخ الجلد ولا يوجد جرح، وذلك نوع من العلاج البدائي أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: «إن كان الشفاء في شيء ففي ثلاث وذكر منها الكي» هل أتبع أولئك وأقول هذا ليس من فنه؟ أم أن التجربة أيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 أثبتت أن هذا يعالج به، فأتخير الشخص الذي يكوى. كذلك الرقية هل يؤمن بها الأطباء؟ ! هم يتبعون الفرنجة الكفرة فلا يعملون بالرقية، والرقية ثابتة شرعا، وهي نوع من العلاج، نوع من التشريع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء للتشريع. ولا يقال: ما الذي أدخله في الرقية والعلاج؟ وما الذي يدخله في حل السحر؟ وما الذي يدخله في الإثمد وأنه خير أنواع العلاج للعين؟ فهذه الأمور دخل فيها بحالتين: أ - منها ما يرجع إلى التجربة في قومه. ب - ومنها ما يرجع إلى الوحي. فالأحاديث التي قامت القرائن على أنها من الوحي نؤمن به ونكذب الأطباء؛ لأن الأطباء يجهلون سبب وعلاج كثير من الأمراض الموجودة ولم يصلوا إلى شيء يشفي منها كالسرطان وغيره، ويوجد كثير من الأشياء ما وصلوا إليها في الوقت الحاضر، وآفات كثيرة ما وصلوا إلى علاجها، وقد يكشف طبيب أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 جملة من الأطباء ويشخصون مرضا ويتبين أن المرض على خلاف ما شخصوا، وهم جملة، فهم يخطئون. القصد أنني أتهم الأطباء، ولا أتهم الله، ولا أتهم رسوله، ولا أتهم علماء المسلمين العدول، الذين ضبطوا ما نقلوا بسند متصل، ولم ينقض كلام بعضهم بعضا، وليس هناك تعارض بينهم، وبين القرآن، فأنا أثق بهم أكثر من ثقتي بالأطباء مهما كانوا أقوياء ونابهين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 9 - وجوب تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ... وبعد. فإن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم قد أيده الله بروح من عنده، أيده في التشريع بالوحي وعصمه في الإخبار عن الكذب، فلا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى وما كان منه عليه الصلاة والسلام عن اجتهاد أقره الله تعالى عليه إن أصاب فيه، وكشف له عن الحق وأبان له الصواب إن أخطأ، فكان بفضل الله وتوفيقه على بينة وبصيرة من أمره على كل حال، لم يكله الله لنفسه، ولم يدعه لحسن تفكيره، بل هداه سبحانه في كل شئونه إلى سواء السبيل. لقد أنزل الله عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وأوحى إليه من الأحاديث ما فيه بيان لما أجمل في القرآن، وتفصيل لقواعده، وشرح للعقائد والشرائع، فضلا من الله ورحمة والله عليم حكيم. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . فوجب تصديق ما جاء في كتاب الله وما صح من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها في كل شأن من الشئون، والرضا والتسليم لحكمها دون حرج أو ضيق في الصدور تحقيقا للإيمان، وتطهيرا للقلوب من درن الشك والنفاق قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ولا يغترن إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير، وبسطة في العلم، فيجعل عقله أصلا، ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعا، فما وافق منها عقله قبله واتخذه دينا، وما خالفه منها لوى به لسانه وحرفه عن موضعه، وأوله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره، وإلا رده ما وجد في ظنه إلى ذلك سبيلا -ثقة بعقله- واطمئنانا إلى القواعد التي أصلها بتفكيره واتهاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تحديدا لمهمة رسالته وتضييقا لدائرة ما يجب اتباعه فيه واتهاما لثقاة الأمة وعدولها، وأئمة العلم، وأهل الأمانة الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة ووصلت إلينا عن طريقهم قولا وعملا. فإن في ذلك قلبا للحقائق، وإهدارا للإنصاف مع كونه ذريعة إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على أصولها؛ إذ طبائع الناس مختلفة واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متباينة، وقد تتسلط عليهم الأهواء، ويشوب تفكيرهم الأغراض، فلا يكادون يتفقون على شيء، اللهم إلا ما كان من الحسيات أو الضروريات، فأي عقل يجعل أصلا يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهما وتأويلا. أعقل الخوارج في الخروج على الولاة، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء؟ أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الاستواء والصفقات وتحريفها عن موضعها وفي القول بالجبر. أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة؟ أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات، والغلاة في سلب المكلفين المشيئة على الأعمال. أم عقل من قالوا بوحدة الوجود ... إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ولقد أحسن العلامة أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله إذ يقول: "ثم المخالفون للكتاب والسنة، وسلف الأمة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج، فإن من أنكر الرؤيا يزعم أن العقل يحيلها، وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علما وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقيين في الجنة، يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل. ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله، فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة، فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أوكلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء؟ انتهى. هذا وإن فريقا ممن قدسوا عقولهم، وخدعتهم أنفسهم، واتهموا سنة نبيهم قد أنكروا رفع الله نبيه عيسى ابن مريم عليه السلام إلى السماء حيا بدنا وروحا، ونزوله آخر الزمان حكما وعدلا، لا لشيء سوى اتباع ما تشابه من الآيات دون ردها إلى المحكم منها، اتباعا لما ظنوه دليلا عقليا؛ وما هو إلا وهم وخيال. وردوا ما ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم نزولا على أصل أصلوه من عند أنفسهم من أن العقائد لا يستدل عليها بأحاديث الآحاد، واتهامها لبعض الصحابة ومن إليهم فيما نقلوا من الأحاديث في جرأة منهم على الثقات الأمناء من أهل العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 والعرفان دون حجة أو برهان. وتطاولوا على علماء الحديث وتناولوا رجال الجرح والتعديل بألسنة حداد جهلا منهم بما قدموه من خدمة للدين وحفظ الأصل الثاني من أصول الإسلام وهو السنة النبوية وعجزا منهم عن أن يبخسوا ما دون أولئك الأئمة الأخيار من كتب في قواعد علوم الحديث ودواوين في تاريخ رواة الحديث، وبيان درجاتهم، ومراتبهم في الرواية، وطبقاتهم ومواليدهم ووفياتهم، ولقاء بعضهم بعضا أو سماعه تمييزا لمن تقبل روايته ممن ترد روايته، وما يقبل من الأحاديث وما يرد، وذبا عن السنة النبوية وحفاظا عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 10 - مبدأ وميثاق ووجوب التزام عقيدة السلف الإسلام عقيدة وقول وعمل، فالعقيدة إيمان راسخ بأن الله رب كل شيء، ومليكه، خلقا، وتقديرا، وملكا، وتدبيرا، وأن العبادة بجميع أنواعها حق له، وحده لا يشركه فيها ملك مقرب، ولا نبي مرسل. فله سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العليا التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة الصحيحة. ترى جماعة أنصار السنة المحمدية أن تمر هذه النصوص كما جاءت اقتداء منهم فيها بسلف هذه الأمة، وخير قرونها فيفسرونها بمعانيها التي تدل عليها حقيقة في لغة العرب التي بها نزل القرآن، وكانت لسان النبي عليه الصلاة والسلام مع تفويض العلم بكيفياتها إلى الله من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ولا يلزم من ذلك تشبيه الله بعباده، كما لم يلزم ذلك من الإيمان بذات له تعالى على الحقيقة، مع الكف عن الخوض في كنهها. وذلك لأن الله أعلم بنفسه من خلقه، وأرحم بهم منهم بأنفسهم، وكلامه أبلغ كلام وأبينه، وله سبحانه الحكمة البالغة فيستحيل أن تتوارد النصوص وتتابع الآيات، والأحاديث على إثبات أسماء الله وصفاته بطريقة ظاهرة واضحة، ويكون المراد منها غير ما دلت عليه حقيقة، ويقصد الله منها أو يقصد رسوله عليه الصلاة والسلام إلى معان مجازية من غير أن ينصب من كلامه دليلا على ما أراد من المعاني المجازية اعتمادا على ما أودعه عباده من العقل وقوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الفكر، فإن ذلك لا يتفق مع كمال علمه تعالى وسعة رحمته، وفصاحة كلامه، وقوة بيانه، وبالغ حكمته؛ ولأن يتركهم الله دون أن يعرفهم بنفسه، ويعرفهم به رسوله عليه الصلاة والسلام بوحيه، خير لهم وأيسر سبيلا لعدم وجود المعارض للشبه الباطلة التي زعموها أدلة وبراهين، وما هي إلا الخيالات ووساوس الشياطين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فمن جحد شيئا من هذه النصوص، أو تأولها على معان مجازية من غير دليل يرشد إلى ما تأولها عليه فقد ألحد في آيات الله، وأسمائه، وصفاته، وحق عليه ما توعد الله به الملحدين في ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقد زادت السنة عن نصوص الكتاب في إثبات الأسماء، والصفات توكيدا، وبيانا فقضت على قول كل متأول يحرف كلام الله عن مواضعه، كما فعلت اليهود في تحريفها لكتاب ربها وتلاعبها بشريعة نبيها. العقيدة الصحيحة توجب إخلاص العبادة لله، وإفراده تعالى بجميع أنواعها ما ظهر منها كالصلاة، والزكاة، والحج، وما بطن منها التوكل على الله، والإنابة إليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عقابه ونقمته، والاستغاثة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأقوال، والأعمال، والأخلاق التي تدخل في مسمى الإسلام، كما تدخل العقيدة وإن تفاوتت منازلها في الدين وكان لكل منها درجة نخصها حسب ما يتوقف عليها من العبادة، وما يتبعها من الآثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 إن العقيدة السليمة الخالصة التي تستمد من الكتاب والسنة، ولا يخالطها شيء من شوائب الشرك، وألوان البدع، والخرافات لتبعث من دان لله إلى العمل الصالح، والأخلاق الفاضلة، والآداب السامية، وتجعل منه رجلا مثاليا في الحياة، إن حكم عدل، وإن قال فقوله سديد، وإن عمل كان على جادة الكتاب والسنة، وإن عاشر الناس: وجدوا منه خير سيرة، فمظهره يشرح للناس الإسلام، ويفسره تفسيرا عمليا بقوله وعمله وخلقه، ومن ضعف يقينه أو كانت عقيدته مدخولة قد شابها كثير من البدع والخرافات، أو غلب عليه الغرور والاعتداد برأيه، وإن خالف وحي السماء، أو طغت عليه الشبه، واستولت عليه الشكوك والأوهام، ضرب في كل واد وأخذ في بنيات الطريق وضل السبيل. من أجل ذلك نجد جماعة أنصار السنة المحمدية يكثرون من الكلام في التوحيد في دروسهم، وخطبهم، وقادة الإصلاح المؤيدون من الله بوحيه ونصره، أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام. هذا وإن جماعة أنصار السنة المحمدية قد أخذت على نفسها أن تعتصم بكتاب الله، وتهتدي بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وتجعل سيرة السلف الصالح نصب أعينها عقيدة، وقولا، وعملا لا تؤثر على ذلك شيئا، ولا ترضى به بديلا من آراء الرجال الضالة، وأهوائهم الزائفة، عملا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وما في معناه من الآيات والأحاديث، والتزمت ما ألزمها الله به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وعهدت إلي برئاسة الجماعة بعد وفاة مؤسسها بمصر، ورئيسها السابق، فضيلة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الدعوة إلى الدين، ونشر التوحيد خير الجزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 فكان لزاما علي أن أقوم بهذا الواجب وأسير بالجماعة على هدي كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ابتغاء مرضاة الله في نشر دينه، وتحقيقا لمبدأ التعاون في نصرة الحق. وأرجو الله أن يهيئ لنا جميعا من أمرنا رشدا، وأن يلهمنا الرشد والصواب في القول والعمل، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 11 - مبحث في وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم والرد على الروافض والنواصب واعلم أن أهل السنة والجماعة يحبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويثنون عليهم ويترضون عنهم، كما أثنى الله عليهم وترضى عنهم، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى آخر السورة، وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الآيات إلى قوله: {إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} إلى غير ذلك من الآيات التي وردت في ثناء الله عليهم وترغيب المؤمنين في حبهم والدعاء لهم ولمن تبعهم بإحسان، وهم متفاوتون فيما بينهم، فبعضهم فوق بعض درجات، فأعلاهم درجة أهل بيعة الرضوان، وكل من آمن قبل فتح مكة وأنفق في سبيل الله وقاتل لإعلاء كلمة الله، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . وعن أبي سعيد الخدري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 رضي الله عنه أنه كان بين عبد الرحمن بن عوف، وبين خالد بن الوليد شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» رواه مسلم، فدل الحديث على أن من أسلم قبل فتح مكة وقبل صلح الحديبية كعبد الرحمن بن عوف أفضل ممن أسلم بعد صلح الحديبية وبعد فتح مكة كخالد بن الوليد، وإذا كان حال خالد بن الوليد ومن أسلم معه أو بعده من الصحابة بالنسبة لعبد الرحمن بن عوف والسابقين معه إلى الإسلام هو ما ذكر في الحديث، فكيف بحال من جاء بعد الصحابة بالنسبة إلى الصحابة، رضي الله عنهم، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، وفي حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة» . يرى أهل السنة أن حب الصحابة دين وإيمان وإحسان لكونه امتثالا للنصوص الواردة في فضلهم، وأن بغضهم نفاق وضلال لكونه معارضا لذلك، ومع ذلك فهم لا يتجاوزون الحد في حبهم أو في حب أحد منهم لقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} ولا يخطئون أحدا منهم، ولا يتبرءون منه، ولهذا ورد عن جماعة من السلف كأبي سعيد الخدري والحسن البصري وإبراهيم النخعي، أنهم قالوا: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، ومعنى ذلك أن الشهادة على مسلم معين أنه كافر أو من أهل النار بدون دليل يرشد إلى الحكم عليه بذلك بدعة، وأن البراءة من بعض الصحابة بدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 12 - التعريف بأهل السنة والجماعة وتمييزهم عن الفرق الإسلامية [أ] س1: سئل الشيخ رحمه الله تعالى: من هم أهل السنة والجماعة؟ وما هي الفرق التي شذت عن منهج أهل السنة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أهل السنة والجماعة من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم - بأن عملوا بالكتاب والسنة والإجماع فما كان صحيحا صريحا من ذلك وبلغهم التزموه، وما كان محل نظر واجتهاد بحثوه فإن انتهى البحث إلى وفاق فبها وإلا عمل بما أداه إليه اجتهاده دون خصومة أو عداوة أو سب لمن خالفه في ذلك رعاية لحق الأخوة الإسلامية، وأهل الفرقة والاختلاف هم الذين لم يعولوا على ما ذكر من الأدلة الصحيحة الصريحة أو لم يردوا ما تنازعوا فيه من المسائل الاجتهادية إليها، وأعجب كل منهم برأيه أو رأي من وافقه ولم يرجع عنه ونصره وقاتل من أجله ومنشأ الفرقة والخلاف بالظن والهوى وتقديم العقل على ما صح من النقل وأول الفرق الضالة ظهورا الخوارج والشيعة وقد قاتل الصحابة الخوارج دون خلاف منهم في الإقدام على قتالهم، وحرق علي من غلا فيه من شيعته، وأراد قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه. وأصول الفرق المبتدعة خمسة: الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية، حكي عن ابن المبارك أن الجهمية كفار ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة وهذا انبنى على أن الثنتين والسبعين فرقة لم تكفر ببدعتها، ومن المتأخرين من كفرهم جميعا، والمعروف عن السلف إطلاق القول بتكفير الجهمية المحضة، وفي تكفير الخوارج والروافض خلاف، ومن نفى من القدرية العلم والكتابة فكافر، ومن أثبتهما ونفى خلق الله للأفعال ففاسق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 التعريف بأهل السنة والجماعة [ب] كان الناس أمة واحدة على الحق بما أودع الله فيهم من فطرة الإسلام وبما عهد إليهم من الهدى والبيان، فلما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاجتالتهم الشياطين عن الصراط المستقيم، وسلكت بهم بنيات الطريق فتمزقت وحدتهم، واختلفت كلمتهم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزا حكيما، قال -تعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} . وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} . وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصراه، أو يمجسانه» . الحديث. وقد أمر الله تعالى - في كتبه، وعلى ألسنة رسله بوحدة الكلمة، والاعتصام بشرعه، وحذر من الفرقة والاختلاف، وبين عاقبة ذلك بما ذكر من أحوال الأمم الماضية، وما حاق بها من الدمار، وأصابها من الهلاك، وحثهم على البلاغ والبيان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، نصرة للحق، وإزالة للشبهة، وإحباطا لكيد دعاة السوء، واستهوائهم النفوس الضعيفة، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . وعن العرباض بن سارية قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ومع ذلك دب الخلاف بين الناس، فما من أمة من الأمم إلا وقد اختلفت بهم الأهواء حتى وضع كل لنفسه أصولا عليها يبني مذهبه، وإليها يرجع في خصومته، فتناقضت مذاهبهم، وصار كل واحد حربا على أخيه، وشغل بذلك عن كتاب الله، وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، إلا أنه -سبحانه- جرت سنته، واقتضت حكمته، أن يقيض للحق في كل عصر جماعة تقوم عليه، وتهدي الناس إليه، إنجازا للوعد بحفظ دينه، وإقامة للحجة وإسقاطا للمعاذير، قال -تعالى-: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} ، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» . وفي رواية: «قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وفي رواية قال: «هي الجماعة» رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجه وغيرهم وفي الحديث: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ... » . وقد تبين من ذلك أن الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة، وأن شعارها كتاب الله، وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام، وكان عليه سلف الأمة الذين يؤمنون بمحكم النصوص ويعملون بها، ويردون إليه ما تشابه منها، وأما الفرق الضالة، فشعارها مفارقة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، واتباع الأهواء، وشرع ما لم يأذن به الله من البدع والآراء الزائفة بناء على أصول وضعوها يوالون عليها ويعادون، فمن وافقهم عليها أثنوا عليه وقربوه، وكان في زعمهم من أهل السنة والجماعة، ومن خالفهم تبرءوا منه ونبذوه، وناصبوه العداوة والبغضاء وربما رموه بالكفر، والخروج من ملة الإسلام لمخالفته لأصولهم الفاسدة. هذا وليس في نصوص الكتاب والسنة ما يعتمد عليه في تعيين الفرق، ولا بيان ما يرجع إليه في تمييز بعضها من بعض، وإن كان فيها التحذير من فرق الضلال، وذكر عددهم، وبيان شعارها إجمالا، ولسنا مكلفين بتعيينها، وتحديدها، ولا نحن في ضرورة إلى ذلك في عقيدة، أو عبادة، أو معاملة، أو دعوة إلى الحق، بل يكفينا في جميع شئوننا أن يتميز لدينا الحق من الباطل بالحجة والبرهان، وبالحق يعرف رجاله والدعاة إليه فلا يعيب الشريعة إن خلت من ذلك، ولا ينقص قدر العلماء أن يضربوا صفحا عن استقصاء الفرق الضالة حتى يبلغوا بها ما ذكر في الحديث من العدد، ومع ذلك، فقد حمل بعض العلماء حب الاستطلاع، والولع، والبحث أن يصنفوا في تعيين الفرق، ويذكروا لكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فرقة ما به تتميز عن الأخرى إشباعا للرغبة، واستجابة لداعي الفكر، وحاولوا أن يبلغوا بما جمعوا وقسموا وأصلوا وفصلوا ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث من غير أن يتجاوزوه أو يقفوا دونه. ومن أجل أن المسألة اجتهادية، ولا خبر فيها عن المعصوم تباينت مناهجهم في التصنيف، واختلفت مذاهبهم في التعيين، فمنهم من أخذ في عد الفرق من غير أن يبني على أساس، أو يستند إلى قانون يضبط ما ذكر من عدد الفرق، ومذاهبها، ومنهم من أصل أصولا يتفرع عنها ما سواها، ووضع قواعد تضمنت المسائل التي وقع فيها النزاع، وذكر كبار الفرق التي ينشعب عنها ما عداها، ومن هؤلاء الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل". وإليك كلمته في أصول المذاهب، وكبار الفرق، فقال: المقدمة الثانية: في تعيين قانون يبني عليه تعديد الفرق الإسلامية: اعلم أن لأصحاب المقالات طرقا في تعديد الفرق الإسلامية لا على قانون مستند إلى نص، ولا على قاعدة مخبرة عن الوجود، فما وجدت مصنفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق. ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن ليس كل من تميز عن غيره بمقالة ما في مسألة ما عد صاحب مقالة، فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعدد، ويكون من انفرد بمسألة في أحكام الجوهر مثلا معدودا في عداد أصحاب المقالات، فلا بد إذن من ضابط في مسائل هي: أصول، وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافا يعتبر مقالة، ويعد صاحبها صاحب مقالة، وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط، إلا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب الأمة كيفما اتفق وعلى الوجه الذي وجد بلا قانون مستقر ولا أصل مستمر، فاجتهدت على ما تيسر من التقدير وتقدر من التيسير، حتى حصرتها في أربع قواعد هي: الأصول الكبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 القاعدة الأولى: الصفات، والتوحيد فيها، وهي تشتمل على مسائل: الصفات الأزلية إثباتا عند جماعة، ونفيا عند جماعة، وبيان صفات الذات، وصفات الفعل، وما يجب لله -تعالى- وما يجوز عليه وما يستحيل، وفيها الخلاف بين الأشعرية، والكرامية، والمجسمة والمعتزلة. القاعدة الثانية: القدر والعدل، وهي تشتمل على مسائل: القضاء، والقدر، والجبر، والكسب في إرادة الخير، والشر، والمحذور، والمعلوم إثباتا عند جماعة، ونفيا عند جماعة، وفيها الخلاف بين القدرية والنجارية، والجبرية، والأشعرية، والكرامية. القاعدة الثالثة: الوعد، والوعيد، والأسماء، والأحكام، وهي تشتمل على مسائل: الإيمان، والتوبة، والوعيد، والإرجاء، والتفكير والتضليل إثباتا على وجه عند جماعة، ونفيا عند جماعة، وفيها الخلاف بين المرجئة والوعيدية، والمعتزلة، والأشعرية، والكرامية. القاعدة الرابعة: السمع، والعقل، والرسالة، والأمانة، وهي تشتمل على مسائل: التحسين، والتقبيح، والصلاح، والأصلح، واللطف، والعصمة في النبوة، وشرائط الإمامة نصا عند جماعة، وإجماعا عند جماعة، وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنص، وكيفية إثباتها على مذهب من قال بالإجماع، والخلاف فيها بين الشيعة والخوارج، والمعتزلة، والكرامية، والأشعرية، فإذا وجدنا انفراد واحد من أئمة الأمة بمقالة من هذه القواعد عددنا مقالته مذهبا، وجماعته فرقة، وإن وجدنا واحدا انفرد بمسألة فلا نجعل مقالته مذهبا، وجماعته فرقة، بل نجعله مندرجا تحت واحدة ممن وافق مقالته، ورددنا باقي الاختلافات إلى الفروع التي لا تعد مذهبا مفردا، فلا تذهب المقالات إلى غير النهاية، وإذا تعينت المسائل التي هي قواعد الخلاف تبينت أقسام الفرق، وانحصرت كبارها في أربع بعد أن تداخل بعضها في بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 13 - كبار الفرق الإسلامية أربع هي القدرية - الصفاتية - الخوارج - الشيعة ثم يتركب بعضها مع بعض، ويتشعب عن كل فرقة أصناف، فتصل إلى ثلاث وسبعين فرقة، ولأصحاب كتب المقالات، طريقان في الترتيب. أحدهما: أنهم وضعوا للمسائل أصولا ثم أوردوا في كل مسألة: مذهب طائفة طائفة، وفرقة فرقة. والثاني: أنهم وضعوا الرجال وأصحاب المقالات أصولا، ثم أوردوا مذاهبهم في مسألة مسألة، وترتيب هذا المختصر على الطريقة الأخيرة؛ لأني وجدتها أضبط للأقسام وأليق بأبواب الحساب، وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم من غير تعصب لهم، ولا كسر عليهم، دون أن أبين صحيحه من فاسده، وأعين حقه من باطله، وإن كان لا يخفى على الأفهام الذكية، في مدرج الدلائل العقلية لمحات الحق ونفخات الباطل. ومهما يكن المنهج الذي سلكه من ألف في الفرق الإسلامية، وأيا كان اجتهادهم في تعيين الفرق، وتمييز بعضها من بعض لتبلغ العدد الذي ورد في الحديث، فلن يبرئهم ما وضعوا من الأصول والضوابط من معرة التكلف، ولن يعصمهم من مزالق التخمين، وما يوجه إليهم من طعنات النقاد. فإن النصوص وإن دلت على حدوث الفرق في هذه الأمة، وبينت عدد الفرق إجمالا لم تخص بحدوث الفرق عهدا دون عهد، والأمة لا تزال تتابع أجيالها، وتختلف آراؤها، والمستقبل لا يعلمه إلا الله، فربما حدث من البدع، ومذاهب الضلال ما ليس في الحسبان مما لا يمكن رده إلى مذاهب الفرق الأولى. وإذا كان ذلك على ما وصفت كان تعيين الفرق رجما بالغيب واقتحاما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 لمتاهات لا تزيد من رمى بنفسه فيها إلا حيرة، مع ما في ذلك من التكلف في ضم بعض الفرق إلى بعض بإلغاء ضرب من الخلاف خشية أن يتجاوز العدد ما ذكر في الحديث، أو جعل الواحدة فرقتين باعتبار نوع من الخلاف حذرا أن ينقص العدد عما ذكر في الحديث، إلا أن التأصيل، ووضع القواعد على النحو الذي صنفه " الشهرستاني " وغيره أقرب إلى الضبط وأسرع للفهم والتحصيل وأبعد عن نشر الكلام، وأدخل في صناعة التأليف، لذلك اكتفيت بذكر أصول الفرق الكبار مع مراعاة ترتيبها حسب حدوثها من غير استقصاء، أو محاولة بلوغ العدد المذكور في الحديث. ذكر جملة من الفرق المشهورة التي تشعبت عن الفرق الأربع السابقة مع بيان شيء مما يتميز به كل منهما. 14 - أولا: الخوارج: أصولهم ورءوسهم خرج جماعة من المسلمين على الخليفة الثالث عثمان بن عفان لأمور نقموها منه، وأحداث أنكروها عليه، وما زال بهم اللجاج في الخصومة معه حتى قتلوه، ولما انتهت الخلافة إلى علي بن أبي طالب كان ممن اختلف عليه وقاتله طلحة بن عبيد الله القرشي، والزبير بن العوام، فأما الزبير فقتله ابن جرموز، وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم فقتله، وكانت معهما عائشة -رضي الله عنها- على جمل لها، ولكنها رجعت سالمة مكرمة لم يعترض عليها أحد وتسمى هذه الموقعة بـ " موقعة الجمل " (36 هـ) . واختلف على علي -أيضا- معاوية ومن تبعه -رضي الله عنهم- ودارت الحرب بين الفريقين حتى كان التحكيم الذي زاد الفتنة اشتعالا ودب الخلاف في جيش علي، وخرج عليه ممن كان من أنصاره فرقة تعرف بالحرورية وبالشراة، واشتهرت باسم الخوارج. وحديث العلماء في الفرق الإسلامية عن الخوارج إنما هو عن هؤلاء الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 خرجوا على علي رضي الله عنه من أجل التحكيم، أما طلحة، والزبير، ومعاوية، ومن تبعهم فلم يعرفوا عند علماء المسلمين بهذا الاسم. ثم صارت كلمة الخوارج تطلق على كل من خرج على إمام من أئمة المسلمين اتفقت الجماعة على إمامته في أي عصر من العصور دون أن يأتي ذلك الإمام بكفر ظاهر ليس له عليه حجة، وإذن فأول من أحدث هذه البدعة في هذه الأمة الجماعة التي خرجت على علي بن أبي طالب سنة 39 هـ، وأشدهم في التمرد، والخروج عليه، الأشعث بن قيس، ومسعود بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، والذي دعاهم إلى ذلك مسألة التحكيم المشهورة في التاريخ، ورضا الملومة به مع أنهم الذين أمروه به، واضطروه إليه، ثم أنكروه عليه فقالوا: لم حكمت الرجال؟ لا حكم إلا لله. رءوسهم ستة: الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والعجاردة، والأباضية، والثعالبة، وعنها تتفرع فرقهم. ومن أصولهم التي اشتركت فيها فرقهم، البراءة من علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وابن عباس -رضي الله عنهم- وتكفيرهم. والقول بأن الخلافة ليست في بني هاشم فقط، كما تقول الشيعة، ولا في قريش فقط، كما يقول أهل السنة، بل في الأمة عربها وعجمها، فمن كان أهلا لها علما، واستقامة في نفسه، وعدالة في الأمة جاز أن يختار إماما للمسلمين، ومن أصولهم الخروج على أئمة الجور، وكل من ارتكب منهم كبيرة، ولذلك سموا بالخوارج، والإيمان عندهم: عقيدة، وقول، وعمل. وقد وافقوا في هذا أهل السنة في الجملة، وخالفوا غيرهم من الطوائف. ومن أصولهم -أيضا-: التكفير بالكبائر، فمن ارتكب كبيرة فهو كافر، وتخليد من ارتكب كبيرة في النار إلا النجدات في الأخيرين؛ ولذا سموا وعيدية، ومن أصولهم -أيضا- القول بخلق القرآن وإنكار أن يكون الله قادرا على أن يظلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وتوقف التشريع والتكليف على إرسال الرسل، وتقديم السمع على العقل على تقدير التعارض، فمن وافقهم في هذه الأصول فهو منهم، وإن خالفهم في غيرها، ومن وافقهم في بعضها، ففيه منهم بقدر ذلك، وقد اجتمعوا بحروراء برئاسة عبد الله بن الكواء، وعتاب بن الأعور، وعبد الله بن وهب الراسبي، وعروة بن حدير، ويزيد بن عاصم المحاربي، وحرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية، وكانوا في اثني عشر ألف رجل، فقاتلهم علي يوم النهروان، فما نجا منهم إلا أقل من عشرة، فر منهم اثنان إلى عمان، واثنان إلى كرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى موزان، فظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع. وأول من بويع منهم بالخلافة عبد الله بن وهب الراسبي، فتبرأ من الحكمين، وممن رضي بهما، وكفر هو ومن بايعه عليا لتحكيمه الرجال ورضاه بذلك. ثانيا: الفرق التي تشعبت من الخوارج الأزارقة: هم جماعة من الخوارج ينسبون إلى أبي راشد نافع بن الأزرق، خرج آخر أيام يزيد بن معاوية، ومات سنة 65 هـ، وبايع الأزارقة بعد موته قطري بن الفجاءة، وسموه بأمير المؤمنين، ومن بدعهم تصويب قاتل علي عبد الرحمن بن ملجم، وفي ذلك يقول عمران بن حطان مفتي الخوارج: يا ضربة من منيب ما أراد ... بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا ومنها تكفير من قعد عن الجهاد معهم، وتكفير من لم يهاجر إليهم، وإسقاط الرجم لعدم وجوده في القرآن، وإسقاط الحد عمن قذف المحصنين دون المحصنات، وعدم جواز التقية في قول أو عمل، وإباحة قتل أطفال المخالفين لهم ونسائهم، وعدم أداء الأمانة لمن خالفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 النجدات العاذرية: ينسبون إلى نجدة بن عامر الحنفي، وكان من شأنه أنه خرج من اليمامة مع عسكره يريد اللحاق بالأزارقة، فاستقبله أبو فديك، وعطية بن الأسود الحنفي في الجماعة الذين أنكروا على نافع بن الأزرق بدعه، فأخبروه بما أحدثه من تكفير القعدة من القتال معه، وغير ذلك من بدعه، فكتب إليه ينصح له، فلما أبى نافع أن يرجع، بايعه على الإمامة أبو فديك، وعطية ومن معهما، وسموه بأمير المؤمنين. ومن بدعهم: جواز التقية في القول والعمل، وتناصفهم فيما بينهم بلا إمام، فإن عجزوا عن ذلك إلا بالإمام جاز لهم أن يقيموه. وسموا بالعاذرية؛ لأنهم يعذرون من أخطأ في أحكام الفروع لجهالته دون من أخطأ في الأصول: كمعرفة الله، ورسله، والإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله جملة، ولم يلبث أبو فديك وعطية أن اختلفا وبرئ كل منهما من الآخر، وصار لكل منهما أتباع، وسمي أتباع أبو فديك فدكية، وأتباع عطية: العطوية، وقد أرسل عبد الملك بن مروان، عثمان بن عبيد الله بن معمر إلى أبي فديك، فحاربه أياما وقتله، وفر عطية إلى أرض سجستان. العجاردة: هم طائفة من الخوارج ينسبون إلى عبد الكريم بن عجرد، وهم من أصحاب عطية بن الأسود الحنفي ومن بدعهم: البراءة من الأطفال حتى يدعوا إلى الإسلام عند بلوغهم، ومن بدعهم -أيضا -: أن سورة يوسف ليست من القرآن، وأنهم يتولون القعدة، ويرون الهجرة فضيلة لا فرضا. وقد افترقت العجاردة فرقا كثيرة منها: الميمونة أتباع ميمون بن خالد وهو على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 مذهب المعتزلة في القدر، ومن بدعه -أيضا - جواز نكاح بنات البنات والبنين، وبنات أولاد الإخوة والإخوات، ومنها الحمزية أتباع حمزة بن أدرك ثبتوا على قول ميمون في القدر، وقالوا بجواز إمامين في عصر واحد ما لم تجتمع الكلمة، أو تقهر الأعداء. ومنها الأطرفية: فرقة من الحمزية رئيسهم غالب بن شاذان السجستاني سموا أطرفية؛ لأنهم يعذرون أصحاب الأطراف في ترك ما لم يعرفوه من الشريعة إذا أتوا بما عرفوه بالعقل، ومذهبهم: كالعاذرية في تحكيم العقل، ومنها الشيعة أصحاب شعيب بن محمد الذي تبرأ من ميمون لما أظهر القدر، ومنها الجازمية أصحاب جازم بن علي، وكان على قول شعيب في القدر. الثعالبة: هم أصحاب ثعلبة بن عامر، كان مع عبد الكريم بن عجرد يدا واحدة إلى أن اختلفا في أمر الطفل، فقال ثعلبة بولايته حتى نرى منه إنكارا للحق ورضا بالجور، فتبرأت العجاردة من ثعلبة، ونقل عنه -أيضا- أنه لا يحكم في الطفل بشيء حتى يبلغ، ويدعى إلى الإسلام، فإن أجاب فبها، وإلا كفر!! وقد افترقت الثعالبة فرقا كثيرة. منها: الشيبانية، وهم أتباع شيبان بن سلمة، خرج أيام أبي مسلم الخراساني وأعانه على نصر بن سيار والي خراسان من قبل هشام، وقتل أناسا ممن يوافقون في المذهب، وأخذ أموالهم، فبرئت منه الثعالبة، ولما قتل أخبروا بتوبته، فلم يقبلوها؛ لأنه لم يرد المظالم، ولم ينصف أولياء الدم. ومن بدعهم: تشبيه الله بخلقه، وموافقة جهم في قوله بالجبر، والاعتقاد أن الولاية والعداوة من صفات الله الذاتية، لا من صفات الفعل، ومن لم يقبل توبة شيبان يسمون بالزيادية نسبة لرئيسهم زياد بن عبد الرحمن، ومنها: الرشيدية أتباع رشيد الطوسي، ومن بدعهم: إخراج نصف العشر زكاة لما سقي بالأنهار، ومنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 المكرمية أصحاب أبي مكرم بن عبد الله العجلي، ومن مقالته: تكفير تارك الصلاة لجهله بربه، وغفلته عن معرفته، وعدم مبالاته بالتكليف، وقالوا بإيمان الموافاة، بمعنى أن الله يوالي عباده، ويعاديهم على ما يوافونه عند الموت من خير أو شر لا على أعمالهم قبل ذلك. ومنها المعلومية والمجهولية: وهما في الأصل من الحمزية. فالمعلومية، قالت: لا يكون العبد مؤمنا حتى يعرف الله بجميع أسمائه وصفاته. وقالوا فعل العبد مخلوق له، فبرئت منهم الجازمية. والمجهولية قالت: من علم البعض وجهل البعض كان مؤمنا. الأباضية: هم أتباع عبد الله بن أباض التميمي، الذي خرج أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، قال: إن مخالفينا من أصل القبلة كفار غير مشركين وأباح الحرب لا غير، وحرم قتلهم، وسبيهم غيلة، وأباح ذلك بعد إقامة الحجة، ونصب القتال، وقال: مرتكب الكبيرة موحد لا مؤمن، وكافر نعمة لا كفرا يخرج من الملة، وأنه مخلد في النار، وأفعال العباد مخلوقة لله مكتسبة للعبد. وهم فرق كثيرة، منها الحفصية أصحاب حفص بن أبي المقدم، تميز عن الأباضية بجعله الفرق بين الشرك والإيمان معرفة الله وحده، فمن عرفه فهو مؤمن، وإن كفر بالرسل وما جاءوا به، ومن ارتكب كبيرة فهو كافر غير مشرك. ومنها الحارثية: أصحاب الحارث بن مزيد الأباضي، خالف الأباضية في القدر فقال بقول المعتزلة، ولذا كرهوه، وقال بالاستطاعة قبل الفعل لا معه، وقال بإثبات طاعة لا يراد بها وجه الله، كما قال أبو الهذيل من المعتزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 15 - الشيعة والفرق التي تشعبت منها الشيوع والشياع: القوة والانتشار، يقال: شاع الخبر إذا انتشر، وكثر التكلم به، وشيعة الرجل: خواصه، وجماعته الذين ينتشرون ويتقوى بهم لنسب يجمعهم، أو لاتباعهم إياه في مذهبه، وسيرهم على منهاجه وسنته ويجمع الشيعة على شيع، وتجمع شيع على أشياع. والمراد بالشيعة هنا: كل من شايع علي بن أبي طالب خاصة، وقال بالنص على إمامته، وقصر الإمامة على آل البيت، وقال بعصمة الأئمة من: الكبائر، والصغائر، والخطأ، وقال: لا ولاء لعلي إلا بالبراء من غيره من الخلفاء الذين في عصره قولا وفعلا، وعقيدة، إلا في حال التقية، وقد يثبت بعض الزيدية الولاء دون البراء. فهذه أصول الشيعة التي يشترك فيها جميع فرقهم، وإن اختلفت كل فرقة عن الأخرى في بعض المسائل، فمن قال ممن ينتسب إلى الإسلام بهذه الأصول فهو شيعي، وإن خالفهم فيما سواها ومن قال بشيء منها، ففيه من التشيع بحسبه. ورءوس فرق الشيعة خمسة: الزيدية، والإمامية، والكيسانية، والغلاة، والإسماعيلية، ومن العلماء من لم يجعل الإسماعيلية رئيسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 و من فرق الشيعة الزيدية الزيدية: هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومن مقالته: إن الإمامة تنعقد للمفضول مع وجود الفاضل للمصلحة في ذلك. ومن أجل هذا رأى انعقاد الخلافة لأبي بكر وعمر مع أن عليا أفضل منهما عقيدة، وكان لا يتبرأ منهما، ولما بلغ شيعة الكوفة أنه لا يتبرأ منهما رفضوه، فسموا رافضة، ومن مذهبه سوق الإمامة في أولاد فاطمة: الحسن والحسين، وأولادهما، وجواز خروج إمامين في قطرين على أن يكون كل منهما من أولاد فاطمة، ويتحلى بالعلم، والزهد، والكرم، والشجاعة. وقد عاب عليه أخوه محمد الباقر أخذه العلم عن واصل بن عطاء الغزال من أجل أنه كان يجوز على جدهما علي الخطأ في قتال الخارجين عليه. وعاب عليه: رأيه بأن الخروج شرط في كون الإمام إماما وكان يذهب في القدر إلى مذهب القدرية، وبذلك نعرف السبب في أن أتباع زيد كلهم معتزلة. وقد خرج زيد على هشام بن عبد الملك أيام خلافته، وبويع له بالخلافة، فقتل، وصلب بكناسة الكوفة عام 121هـ. وكان ابنه يحيى إماما بعده أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وذهب إلى خراسان، فبعث إليه أميرها نصر بن سيار، سلم بن أحوز، فقتله عام 125هـ ثم انحرفت الزيدية بعد عن القول بصحة إمامة المفضول، وطعنوا في الصحابة كالإمامية. ومما أجمعت عليه الزيدية: تخليد من ارتكب كبيرة من المؤمنين في النار، وتصويب علي، وتخطئة مخالفه، وتصويبه في التحكيم، وإنما أخطأ الحكمان، ويرون السيف والخروج على أئمة الجور، وأنه لا يصلى خلف فاسق. وقد افترقت الزيدية ثلاث فرق: جارودية، وسليمانية، وبترية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الجارودية: هم أتباع أبي الجارود زياد بن المنذري العبدي، مات عام 150هـ وقد سماه أبو جعفر الباقر حزب (الشيطان) ، ومن مقالته: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي بالوصف دون الاسم، وإن الصحابة كفروا بتركهم بيعة علي، وبذلك خالف إمامه زيد بن علي، ومن أصحاب أبي الجارود فضيل الرسان، وأبو خالد الواسطي. السليمانية: هم أتباع سليمان بن جرير الزيدي الذي ظهر أيام أبي جعفر المنصور، ومن مقالته: إن الإمامة شورى، وإنها تنعقد ولو برجلين من خيار الأمة، وإنها تنعقد للمفضول مع وجود الفاضل. إلا أنهم كفروا عثمان للأحداث التي نسبت إليه، وكفروا عائشة، وطلحة، والزبير لإقدامهم على قتال علي بن أبي طالب، وطعنوا في الرافضة من أجل قولهم بالبداء وبالتقية. البترية والصالحية: أما البترية، فأتباع كثير الثواب الملقب بالأبتر مات سنة 169هـ تقريبا، وأما الصالحية، فأصحاب الحسن بن صالح بن حي الكوفي الهمداني مات عام 167هـ ومذهبهما في الإمامة مثل مذهب السليمانية، إلا أنهم يتوقفون في كفر عثمان لتعارض نصوص فضائله، والأحداث التي نسبت إليه، ويتوقفون كذلك في إكفار قتلته. ذكر في مقالات الإسلاميين أن الزيدية ست فرق الثلاث السابقة والنعيمية أتباع نعيم بن اليمان. واليمانية، وهم أتباع محمد بن اليمان. واليعقوبية، وهم أتباع يعقوب بن علي الكوفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 و من فرق الشيعة الإمامية الإمامية: قالوا: بالنص الصريح على إمامة علي في مواضع، وبالإشارة إليه بعينه في مواضع أخرى، وقالوا: إن الإمامة ركن الدين ليس في الإسلام شيء أهم منه، فلا يجوز أن يتركه الرسول صلى الله عليه وسلم، لاختيار الأمة، بل يجب أن يعين له شخصا، وقد عين له علي بن أبي طالب بالنص عليه، والإشارة إليه. وقالوا: بتكفير بعض الصحابة، واتفقوا على إمامة الحسين، فعلي زين العابدين، فمحمد الباقر، ثم افترقوا بعد ذلك فرقا كثيرة في الوقوف بالإمامة عند الباقر، وسوقها إلى ابنه جعفر، ثم فيمن كان إماما من أولاد جعفر الستة: محمد، وإسحاق، وعبد الله، وإسماعيل، وعلي، وإليك بعضها: الباقرية: هم أصحاب أبي جعفر محمد الباقر، وهم يثبتون إمامته بالنص من أبيه زين العابدين عليه، ويزعمون أنه لم يمت، وأنه المهدي المنتظر. الجعفرية أو الناوسية: نسبة إلي رجل يقال له: ناوس أو عجلان بن ناوس من أهل البصرة، أو قرية تسمى ناوسا، ومن مذهبهم سوق الإمامة إلى جعفر الصادق بنص أبيه الباقر عليه، ويزعمون أنه لم يمت، وأنه المهدي المنتظر. الشمطية: هم أصحاب يحيي بن أبي شميط، يقول بموت جعفر الصادق ونصه على إمامة ابنه محمد، وأنه المهدي المنتظر. الأفطحية أو العامرية: ينسبون إلى رجل يقال له: عمار، كان يقول بموت جعفر الصادق، ونص على إمامة ابنه عبد الله الأفطح. الموسوية: ينسبون إلى موسى الكاظم، قالوا: إن الإمامة انتقلت من جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم بنصه عليه، ثم إن هارون الرشيد حمل موسى إلى بغداد، وحبسه لإظهاره الإمامة، ويقال: إنه دس له سما فمات، ودفن ببغداد، ثم من قال بموته سموا: بالقطعية، ومن قال: لا ندري أمات أم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 لا، سموا: بالممطورة، لقول علي بن إسماعيل فيهم، ما أنتم إلا كلاب ممطورة، ومن قال بغيبته، ولم يسق الإمامة فيمن بعده سموا: بالوقفية. الاثنا عشرية: فرقة من الموسوية، قالت: بموت موسى، وسموا القطعية، كما تقدم، وهؤلاء ساقوا الإمامة في أولاد موسى بنص كل منهم على من بعده، فزعموا أن الإمام بعد موسى: علي الرضا، ثم محمد التقي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن العسكري، ثم ابنه القائم المنتظر الذي اختفى في سرداب في سر من رأى وهو الإمام الثاني عشر. الإسماعيلية الواقفية: قالوا بموت جعفر الصادق، ونص على إمامة ابنه إسماعيل، ثم انتقلت منه إلى ابنه محمد بن إسماعيل لموت إسماعيل في حياة جعفر، وقالوا: بغيبة محمد ورجعته. الإسماعيلية الباطنية: فرقة من الإسماعيلية ساقت الإمامة بعد محمد بن إسماعيل بن جعفر في أئمة مستورين، ثم ظاهرين، وهم الباطنية، وهي الفرقة المشهورة في الفرق بهذا الاسم، ومن مقالتهم أن الأرض لا تخلو من إمام حي، إما ظاهر مكشوف، وإما باطن مستور، وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية! ومن مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية! وسموا باطنية لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا، ولكل تنزيل تأويلا، ولهم ألقاب أخرى، منها أنهم يسمون بالعراق -أيضا- القرامطة أو المزدكية. وبخراسان: التعليمية والملاحدة. وهم يسمون أنفسهم: الإسماعيلية لامتيازهم عن الموسوية الاثنا عشرية بالقول بإمامة إسماعيل بن جعفر دون أخيه موسى الكاظم. ومن مقالتهم -أيضا- أنهم لا يقولون بإثبات الصفات لله، ولا نفيها، فرارا من التشبه بالموجودات والمعدومات، ولهم سوى ذلك كثير من الشناعات الكفرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 و من فرق الشيعة الكيسانية الكيسانية: هم أصحاب كيسان مولى علي بن أبي طالب، ويقال: إنه تتلمذ على محمد ابن الحنفية، وقد زعم أتباعه أنه جمع العلوم كلها، وجمع أسرار علوم علي وابنه محمد، ويجمعهم القول بأن الدين طاعة رجل، ومن أجل ذلك ضل منهم كثير، وجاءوا بالكفر: كإنكار أركان الإسلام والشك في البعث، والقول بالتناسخ، والحلول والرجعة بعد الموت، ومن الكيسانية: المختارية: وهم أصحاب المختار بن أبي عبيد الثقفي كان خارجيا، ثم زبيريا، ثم شيعيا، كيسانيا، ومن مقالته القول: بإمامة محمد ابن الحنفية، بعد علي، أو بعد الحسن والحسين، وقد تبين خيبته لمحمد ابن الحنفية، وقيامة بثأر الحسين، واشتغاله بقتل الظلمة. ومن مذهبه جواز البداء على الله علما، وإرادة وأمرا ليبرر رجوعه فيما أبرمه مع دعواه أنه يوحى إليه، ومن المختارية من قال: بأن محمد ابن الحنفية لم يزل، وأنه المهدي، ومن هؤلاء كثير عزة، وإسماعيل بن محمد الحميري الشاعران، ومنهم من قال: بموته، وانتقال الإمامة إلى غيره. الهاشمية: قالوا بسوق الإمامة من محمد ابن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية، وأن والده أفضى إليه بالأسرار التي أفضى بها علي إلى ولده محمد ابن الحنفية. البيانية: هم أتباع بيان بن سمعان التميمي النهدي، قالوا بسوق الإمامة من بني هاشم إلى بيان، ومن مقالتهم: أن عليا حل فيه جزء من الله واتحد بجسده، فكان به إلها، وعلم به الغيب، وانتصر به في الحروب.. إلخ!! ثم ادعى النبوة. الرزامية: هم أصحاب رزام من غلاة الشيعة، قالوا: بإمامة علي بن عبد الله بن عباس بعد أبي هاشم بوصية منه، ثم انتقلت منه إلى ابنه محمد ثم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ابنه إبراهيم بن محمد صاحب أبي مسلم الخراساني حتى انتهت إلى أبي جعفر المنصور، ومن مذهبهم: إسقاط التكاليف، والحلول وتناسخ الأرواح. الغلاة: هم الذين غلوا في أئمتهم حتى ألهوهم، ويجمعهم القول بتشبيه الأئمة بالله: كقول النصارى في عيسى عليه السلام، وغيره، أو تشبيه الله بالأئمة: كاليهود، والقول بالبداء، والرجعة، والحلول، وتناسخ الأرواح والإلهية، ومن بحث وأنصف تبين له أن أصول الغلاة دخلت عليهم من تعاليم اليهود والنصارى، وماني، ومزدك التي انتشرت في العراق، ولهم في كل بلد لقب، فهم يلقبون في أصفهان: بالخرمية، الكردية، وفي الري: بالمزدكية، والسنبادية، وفي أذربيجان: بالذقولية، وفي موضع بالمحمرة وفيما وراء النهر: بالمبيضة ومن فرقهم ما يأتي: السبائية: أتباع عبد بن سبأ الحميري اليهودي، أظهر الإسلام، وأثار الفتن الدينية والسياسية، فوضع قاعدة حلول الله في علي، ومنه تشعبت فرق الغلاة الذين قالوا: بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي، ومنهم من قال: بحياة علي، وغيبته ورجعته، وهو الذي أثار الفتن على عثمان، وألب عليه فرقا من الأمة وقد نفاه علي إلى ساباط المدائن لما علم فيه من الغلو، وإحداث الفتن، ويظهر أن فكرة حياة الإمام، والغيبة، والرجعة أنشأها عبد الله بن سبأ حينما يئس الشيعة من إقامة دولة لهم ليصرفهم بها عن البيعة لخليفة موجود إلى إمام مفقود. الكاملية: أتباع أبي كامل، ومذهبهم تكفير من لم يبايع عليا والطعن في علي لعدم قتالهم، والخروج عليهم، ومع ذلك غلا أبو كامل في علي ورأى أن الإمامة نور ينتقل من شخص لآخر، ويتفاوت، ففي شخص يقوى حتى يكون نبيا وفي آخر يكون إماما. وقال كغيره من الغلاة بفكرة الحلول الكلي، والجزئي، وتناسخ الأرواح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 العليانية: أتباع العلياء بن ذراع الدوسي الأسدي، زعم أن عليا أفضل من محمد! ثم منهم من زعم أن عليا هو الذي سمى محمدا إلها! وبعثه ليدعو إليه، فدعا إلى نفسه، وذموه لذلك! فسموا بالذميمية، ومنهم من أله عليا ومحمدا، أو فضل عليا! سموا بالعينية. ومنهم من ألههما وقدم محمدا وسموا بالميمية، ومنهم من أله أصحاب الكساء: محمدا وعليا، وفاطمة، وحسنا، وحسينا. وقالوا: هم شيء واحد حلت فيهم الروح بالسوية. المغيرية: أتباع المغيرة بن سعيد البجلي مولى خالد بن عبد الله القسري، زعم أن الإمام بعد محمد الباقر هو محمد بن عبد الله بن الحسن الذي خرج في المدينة، وزعم أنه حي لا يموت، ثم زعم الإمامة لنفسه، ثم ادعى النبوة. وفي زعمه أن الله صورة، وجسم ذو أعضاء على حروف الهجاء، وصورته صورة رجل من نور على رأسه تاج من النور، وله قلب تنبع منه الحكمة إلى غير ذلك من الشناعات. المنصورية: أتباع منصور العجلي، زعم أنه إمام حين تبرأ منه الباقر وطرده، ثم زعم بعد وفاة الباقر أن روحه انتقلت إليه، وله كثير من المزاعم. منها أنه عرج به إلى السماء. ومنها أن الكسف الساقط من السماء هو الله أو علي. ومنها أن الرسالة لا تنقطع، ومنها تسمية الجنة والنار وأنواع التشريع بأسماء رجال لإسقاط التكاليف، واستحلال الدماء والأموال، وقد أخذه يوسف بن عمر الثقفي إلى العراق أيام هشام بن عبد الملك، وصلبه لخبث دعوته وهم صنف من الحزمية. الخطابية: أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي، انتسب أبو الخطاب إلى جعفر الصادق أولا، فلما تبرأ منه جعفر وطرده، زعم الإمامة لنفسه، ومن مزاعمه: أن الأئمة أنبياء، ثم آلهة! وأن جعفرا إله ظهر في صورة جسم، أو لبس جسما فرآه الناس! ولما وقف عيسى بن موسى صاحب المنصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 على خبث دعوته قتله بسبخة الكوفة، وقد افترق أصحاب أبي الخطاب بعده إلى فرق، منها: المعمرية، أتباع معمر بن خيثم زعموا أن الإمام بعد أبي الخطاب معمر، وهؤلاء ينكرون فناء الدنيا، ويرون أن ما يصيب العالم فيها من خير وشر هو الجزاء. ومنها: البزيغية أتباع بزيغ بن موسى، زعموا أنه الإمام بعد أبي الخطاب، وهؤلاء ينكرون الموت لمن بلغ من الناس النهاية في الكمال، ويزعمون أن من مات فارق فقط ورفع، ويزعمون أن المؤمن يوحى إليه. ومنها العجلية، زعموا أن الإمام بعد أبي الخطاب عمير أو عمر بن بيان العجلي، ومنها: أتباع مفضل الصيرفي الذي قال بربوبية جعفر دون نبوته ورسالته. وقد تبرأ جعفر الصادق بن محمد الباقر من هؤلاء كلهم؛ لأنهم كلهم حيارى ضالون جاهلون بحال الأئمة. الكيالية: أتباع أحمد بن الكيال، كان له مزاعم لا أساس لها من العقل، ولا مستند لها من السمع، فتبعه من انخدع به، ادعى أنه إمام، ثم ادعى أنه القائم وله تأويلات لنصوص الدين، منها حمله الميزان على العالمين، والصراط على نفسه، والجنة على الوصول إلى عمله من البصائر، والنار على الوصول إلى ما يضاده. الهشامية: أتباع هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، كلاهما من أهل التشبيه، فأما هشام بن الحكم، فقال فيما نقل عنه: إن الله -تعالى- جسم ذو أبعاض له قدر من الأقدار، وكان لا يشبه شيئا من المخلوقات، ولا يشبهه شيء منها، ونقل عنه أن قال: إنه شبر بشبر نفسه، إلى آخر شناعاته، وغلا في علي حتى جعله إلها واجب الطاعة. وأما هشام الجواليقي، فقال: إن الله -تعالى- على صورة إنسان أعلاه مجوف، وأسفله مصمت، إلى آخر شناعاته، وأجاز المعصية على الأنبياء دون الأئمة لعصمتهم. النعمانية: هم أتباع محمد بن علي بن النعمان أبي جعفر الأحول الملقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 بشيطان الطاق، ومذهبه في حدوث علم الله: كمذهب هشام بن الحكم، وكذلك مذهبه في ذات الله، إلا أنه يقول: إنها نور على صورة إنسان. اليونسية: هم أتباع يونس بن عبد الرحمن القمي مولى آل يقطين، وهو من المشبهة، يزعم أن الملائكة تحمل العرش، وأن العرش يحمل الله وأن أطيط الملائكة من وطأة عظمة الله على العرش. النصيرية والإسحاقية: النصيرية أتباع محمد بن نصير النميري، والإسحاقية ينسبون إلى إسحاق بن الحارث، وكلاهما من غلاة الشيعة يرون ظهور الروحانية في صور جسمية خيرة أو خبيثة، ويزعمون أن الله يظهر في صورة إنسان، وأن جزءا منه حل في علي به يعلم الغيب، ويفعل ما لا طاقة لأحد به من البشر، إلا أن النصيرية أميل إلى مشاركة علي لله في الألوهية. والإسحاقية أميل إلى مشاركة علي لمحمد في النبوة، وكلاهما يرى -أيضا- إباحة المحارم، وإسقاط التكاليف. ومن الرافضة -أيضا- جماعة يقولون: بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأنه لم يزل حيا، وينتظرون خروجه، مع أن جيش أبي جعفر المنصور قد قتله بالمدينة، وأقر بذلك فرقة من أتباع إمامهم محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 16 - فتاوى في العقيدة س1: سئل الشيخ: بعض الناس ينكرون على من قال: "جل من لا يسهو" فهل هذه العبارة خطأ؟ فقال الشيخ رحمه الله: "لا، بل هي عبارة صحيحة فيها إثبات السهو لغير الله وتنزيه الله تعالى عن السهو، وفيها إشارة إلى أن الإنسان معذور في سهوه سواء كان نبيا أو وليا أو صالحا من الصالحين". س2: سألت الشيخ عن وجه الجمع بين الأحاديث التي فيها تسمية يد الله تعالى الأخرى شمالا، وحديث كلتا يدي ربي يمين مباركة؟ فقال الشيخ -رحمه الله-: "حديث كلتا يدي ربي يمين من باب التغليب لنفي الضعف عن يده تعالى الأخرى؛ لأن عادة بني آدم أن تكون يده اليمنى أقوى من يده الشمال، والله تعالى منزه عن ذلك، وفي مثل هذه الأحاديث التي تحتاج إلى الجمع خاصة في العقائد يرجع إلى كتاب تأويل مختلف الحديث للإمام ابن قتيبة، وكذلك من الكتب القيمة في هذا الموضوع كتاب "مشكلات الحديث" لعبد الله القصيمي، وكان تأليفه لهذا الكتاب قبل مروقه وتلاعبه بالدين. س3: سألت الشيخ: عن الفرق بين إرادة الله تعالى وأمره؟ فقال الشيخ -رحمه الله-: "إرادة الله تعالى قد تكون على عكس أمره فهو سبحانه أمر أبا جهل بالإيمان مع عدم إرادته كونا أن يؤمن فيفرق بين أمره تعالى الشرعي وبين إرادته الكونية، فإنه سبحانه وتعالى لا يأمر إلا بما يجب وقد يريد كونا خلافه". س4: سئل الشيخ: عن بعض عبارات الإمام ابن قدامة في "لمعة الاعتقاد" التي يفهم منها التفويض؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "مذهب السلف هو التفويض في كيفية الصفات لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 في المعنى، وقد غلط ابن قدامة في لمعة الاعتقاد، وقال: بالتفويض ولكن الحنابلة يتعصبون للحنابلة، ولذلك يتعصب بعض المشايخ في الدفاع عن ابن قدامة، ولكن الصحيح أن ابن قدامة مفوض". س5: سئل الشيخ: عن تعلق الله تعالى بالمستحيل والواجب. فقال الشيخ -رحمه الله -: "قدرة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيل ولكن تتعلق بالممكن فقط، ولا تتعلق بالواجب العقلي، وتعلق القدرة بالواجب إما بإبقائه وإما بإفنائه، فإذا تعلقت بإبقائه فلا أثر للقدرة فهو تحصيل حاصل، وكذلك إبقاء المستحيل عقلا على العدم كالشريك للبارئ غير ممكن الوجود، وإن تعلقت بإفناء الواجب أو إيجاد المستحيل ترتب عليها قلب الحقائق"؟ . س6: سئل الشيخ: عن تقسيم الأشاعرة لصفات الله تعالى. فقال الشيخ -رحمه الله -: صفات السلب عند الأشاعرة (خمسة) : 1 - القدم. 2 - البقاء. 3 - المخالفة للحوادث. 4 - القيام بالنفس. 5 - الوحدانية. صفات المعاني عند الأشاعرة (سبعة) ، وهي: 1 - القدرة. 2 - الإرادة. 3 - العلم. 4 - الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 5 - السمع. 6 - البصر. 7 - الكلام. الصفات المعنوية وتسمى الصفات الأحوال (سبعة) : كونه قادرا، كونه مريدا بزيادة كونه على كل واحدة، والصحيح عند الأشعرية نفي السبعة المعنوية ويقولون: الحق أن الحال محال. وزاد الماتريدية صفة من الصفات فصارت ثمانية، وهي صفة التكوين (راجع آخر الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية) . وصفة نفسية: هي الوجود (صفة واحدة) . س7 سئل الشيخ: عن معنى "حجابه النور "؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "بصر الإنسان لا يقوى على رؤية نور الحجاب الذي يحجب ذات الله تعالى عن الرؤية، فنور الحجاب لا تدرك كيفيته إلا رؤيته تعالى في الآخرة". س8: سئل الشيخ: عن قدم الله تعالى ورجله هل هما صفتان أو صفة واحدة؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "قدم الله تعالى هي رجله، صفة واحدة وهما روايتان في الحديث. ومن قال كيف تحيط النار برجله أو قدمه تعالى فنقول: هذا بحث في الكيفية ومذهب السلف تفويض الكيفية، وعندما يضع الجبار قدمه ينزوي بعض النار عن بعض فإذا تضامت ملأها ما قد ألقى فيها". س9: سئل الشيخ: عن المشيئة هل هي كونية فقط، أو هي كونية وشرعية كالإرادة؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "الإرادة بمعنى المحبة شرعية وبمعنى المشيئة كونية فالمشيئة هي الإرادة الكونية لا غير؛ فالإرادة أعم من المشيئة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 س10: سئل الشيخ: عن صفة المكر والمخادعة والاستهزاء ونحوها. فقال الشيخ -رحمه الله -: "قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ، وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، وقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} ، وقوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ، وقوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} ، وبالفعل أقدم هؤلاء وهؤلاء ثم بعد ذلك صار المسلمون يرون ضعف الكفار كما في آل عمران: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} هذا تفسير للمكر والمخادعة، وتفسير آخر هو انطفاء نورهم على الصراط في سورة الحديد: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أي تركهم وخذلهم لا بمعنى ذهاب الشيء من الذاكرة حاشا لله. الصفات السابقة يسميها العلماء خبرية، ويصح أن تستعمل في تركيب مشابه لتركيب القرآن؛ أي مصاحب للمكر من المخلوق. فنقول: الله ماكر بالماكرين، ومستهزئ بالمستهزئين، ومخادع من يخادعه، ولا يصح أن نقول: يا ماكر -حاشا لله-، والصفات السابقة نوع من الصفات الفعلية إلا أنها لا بد من اقترانها بالسياق الوارد. والمكر نوعان حسن وسيئ، والمنسوب لله هو المكر الحسن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 س11: سئل الشيخ: عن صفات الذات وصفات الفعل. فقال الشيخ -رحمه الله -: "صفات المعاني داخلة في صفات الذات ولذلك لا تسلط عليها كلمة المشيئة فلا يصح (إذا شاء قدر) ؛ لأن القدرة صفة ذات ربنا موصوف بها على الدوام، ولكن يصح أن تقول: (إذا شاء خلق) ؛ لأن الخلق صفة فعل فهو يخلق ما يشاء وقتما شاء كيفما شاء، ولا يصح أن تقول شاء الله أن يكون عالما، أو قادرا. س 12: سئل الشيخ: هل الكفار يرون الله في المحشر؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "نعم، الناس كلهم في الموقف يرون الله تعالى، لكن لا يتنعمون بالرؤية حتى أطيب عباد الله؛ لأنهم يكونون في بلاء وكرب. أما الرؤية التي فيها نعمة فهي في الجنة، والرؤية في المحشر ليست خاصة بالمنافقين بل تعم أنواع الكفار". س 13: سئل الشيخ: هل اللقاء بمعنى الرؤية؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "اللقاء بمعنى الرؤية واستدلال من استدل بقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} على الرؤية لا يصح؛ لأنه استدلال بما لا دليل فيه". س 14: سئل الشيخ: ما أثر الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "الأسماء والصفات لها أثر عظيم في حياه الفرد، فمعرفة الفرد أن الله تعالى رحمن يبعث في قلبه الرجاء، وإذا ذكر القهار يبعث فيه الخوف من الله تعالى، والقرآن مليء بصفات الله تعالى". س 15: سئل الشيخ: بعض الناس ينسبون إلى السلف القول بالتفويض - فما ردكم؟ . فقال الشيخ -رحمه الله -: التفويض ليس هو اعتقاد السلف ومن نسب إلى السلف التفويض فقد أخطأ، فالتفويض عند السلف في الكيفية، الكيف مجهول، ما هو الاستواء؟ مجهول، فالكلام عن كيفية الرؤية خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 س 16: سئل الشيخ: هل الكافرون يرون الله تعالى في المحشر؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "الكفار يكشف لهم عن الله تعالى وعن ساقه سبحانه وتعالى، فيرون الله تعالى في الموقف، لكن لا يتمكنون من السجود له سبحانه وتعالى". س 17: سئل الشيخ: ما المقصود بقرب الله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} ؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "قرب الله تعالى من عباده قرب ذاتي بغير حلول ولا امتزاج، هكذا قال ابن تيمية وابن القيم ولا أوضح من هذا الذي قالاه". س 18: سئل الشيخ: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وأنت الباطن» ؟ . فقال الشيخ -رحمه الله -: "تفسير: «وأنت الباطن فليس دونك شيء» يعني: بطن الأمور وعلم حقيقتها فلا يخفى عليه شيء". س 19: سئل الشيخ: ما معنى: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» ؟ . فقال الشيخ -رحمه الله -: " «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد،» يفيد قرب العبد من الرب أي العبد في هذه الحالة أقرب منه في حالة الركوع". س 20: سئل الشيخ: ما الفرق بين التشبيه والتمثيل والتكييف في صفات الله تعالى؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "الأحسن لك أن تقرأها في كتاب العقيدة الواسطية وشروحها. كشرح الشيخ ابن عثيمين عليها". س 21: سئل الشيخ: هل يجوز وصف الله تعالى بأنه في جهة أو له حد؟ . فقال الشيخ -رحمه الله -: "وصف الله تعالى بالجسم، والحيز، والجهة، والحد الفاصل مجملة إذا أراد بها معنى صحيحا قررناها وقلنا التعبير خطأ، وإذا ذكر معنى فاسدا أنكرنا عليه وقد ذكرته في شرح التدمرية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 س 22: سئل الشيخ: ما هي قبلة الدعاء؟ . فقال الشيخ -رحمه الله -: "السماء قبلة الدعاء، ورفع اليد إلى السماء من أدلة أهل السنة على علو الله تعالى، حتى البهائم إذا أصيبت ترفع رأسها إلى السماء، والكعبة قبلة الدعاء أيضا كما أنها قبلة الصلاة". س 23: سئل الشيخ: ما الدليل على إثبات العينين لله تعالى؟ . فقال الشيخ - رحمه الله -: "صفة العينين ثابتة لله تعالى كما يليق بكماله، ولا يوجد واحد من الأولين من الصحابة نفى عن الله تعالى صفة العينين، ويدل على إثباتها حديث الدجال، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور» وهذا منطوق صريح وليس مفهوما". س 24: سئل الشيخ: هل صفات الفعل تقوم بذات الله سبحانه؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "صفات الخالق تقوم بذاته كما يليق به، وصفات المخلوق تقوم بذاته كما يليق به وبفقره، والصفات الحادثة التي تجدد من آن لآخر كالرزق، والإحياء، والإماتة تقوم بذات الله لكن المخلوقات الحادثة أنا وأنت وبقية الأعيان لا تقوم بذات الله تعالى -حاشا لله-. وهذا المذهب ليس مذهب شيخ الإسلام وحده بل هو مذهب جماعات من الأولين قبل أن يخلق شيخ الإسلام وأبوه وجده". س 25: سئل الشيخ: عن حديث: «خلق الله آدم على صورته» . فقال الشيخ -رحمه الله -: "أي على صورة الرحمن كما ثبت في الرواية الأخرى خلافا للألباني ولنسيب الرفاعي والصورة ثابتة لله تعالى في الصحيحين أنه تعالى يأتي على صورته وعلى غير صورته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 س 26: سئل الشيخ: ما الفرق بين الأزلي والقديم؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: (الأزلي: الذي لا أول له، أما القديم: فقد تكون صفة مدح، وقد تكون صفة ذم، وفي القرآن الكريم: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} والقديم ليس من صفات الله، بل هو صفات سلطانه؛ لأن سلطانه يتجدد وهو قديم". س 27: سئل الشيخ: هل المنان من أسماء الله تعالى؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "قال عند من يجوز اشتقاق الأسماء لله من صفاته هو اسم لله، وعند من لا يجوز الاشتقاق لا يجوز تسمية الله تعالى به، ولكن هو صفة؛ لأنه ليست كل صفات الله أسماء له". س28: سئل الشيخ: ما علاقة الأسماء بالصفات؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "كل أسماء الله تعالى عدا لفظ الجلالة تتضمن وصف الله تعالى بما تضمنته الأسماء من الصفات، فكل أسماء الله تعالى صفات له ولا ينعكس فمن أسماء الله ما هو مشتق على وزن اسم الفاعل، وهو يتضمن ذاتا وصفة قامت بالذات". س 29: سئل الشيخ: هل لفظ الجلالة جامد أم مشتق من الآلهة أو الوله؟ فقال الشيخ: -رحمه الله -: "جامد لأنه لو كان مشتقا من الآلهة لكان بمعنى الإله يطلق على الآلهة الباطلة، لكن لفظ الجلالة (الله) علم على ذاته سبحانه لا يشاركه فيه غيره". س 30: سئل الشيخ: عن معنى دلالة أسماء الله تعالى على معناها مطابقة وتضمنا والتزاما؟ . فقال الشيخ - رحمه الله -: "دلالة اللفظ على معناه مطابقة كدلالة السفينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 على الخشب والمسامير، ودلالة اللفظ على بعض معناه تضمنا كدلالة السفينة على الخشب فقط، ودلالة اللفظ على معنى خارج لكنه لازم دلالة التزام كدلالة السفينة على الحمولة أو السير فوق الماء، ويرجع في هذا إلى أنواع الدلالات في كتب المنطق وإلى متن السلم، وإلى كتب الشيخ السعدي -رحمه الله-". س 31: سئل الشيخ: عن قيام صفات الله تعالى بذاته. فقال الشيخ -رحمه الله -: "صفات الله تعالى قائمة بالذات ملازمة لها، وليست هناك ذات مجردة عن الصفات، والمعتزلة هم الذين يقولون الذات قائمة مجردة عن الصفات، فصفات الله تعالى ليست هي الذات، وليست هي غير الذات". س 32: سئل الشيخ: ما معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ؟ . فقال الشيخ -رحمه الله -: "أول الآية {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} ، وآخرها {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، ووسطها النجوى، أي هو أعلم بها وهذا كله يبين أن المراد معية العلم والإحاطة". س 33: سئل الشيخ: ما الفرق بين العبارة والحكاية؟ . فقال الشيخ -رحمه الله -: "عندي أن العبارة والحكاية شيء واحد، ومن أراد التفرقة بينهما فعليه أن يظهر الفرق، وقد أخطأ الأشعري وابن كلاب في قولهما: إن القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله النفسي القديم ". س 34 سئل الشيخ: رجل يقول: إن كلام الله تعالى يسمع يوم القيامة من كل جهة. فقال الشيخ -رحمه الله -: "هذا خوض في الكيفية، ونحن نؤمن بصفات الله ونفوض كيفيتها إليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 س 35: سئل الشيخ: ما أرجح الأقوال في مسألة نزول الرب سبحانه وتعالى هل يخلو منه العرش أو لا يخلو أو نتوقف؟ . وهل الراجح هو ما اختاره شيخ الإسلام أنه سبحانه ينزل ولا يخلو منه العرش؟ فقال الشيخ - رحمه الله-: "الصحيح أن نتوقف فنؤمن أنه على عرشه ونؤمن أنه ينزل، ولا نقول يخلو أو لا يخلو؛ لأنه خوض في الكيفية". س 36: سئل الشيخ: عن توضيح قول شارح الطحاوية ما ملخصه: أن العلم الإلهي يصح فيه قياس الأولى سواء أكان تمثيليا أو شموليا، ولا يصح فيه قياس المساوي أو الأدنى سواء كان تمثيلا أو شمولا؟ فقال الشيخ - رحمه الله -: "القياس التمثيلي هو القياس الفقهي المعروف والقياس الشمولي هو: القياس المنطقي، والقياس أحد الأبواب الكبرى في علم المنطق، ويحتاج إلى عام كامل ليشرح بالتفصيل، ولكن خلاصة الكلام في القياس الشمولي أنه يتركب من مقدمتين صغرى، وكبرى وله ثلاث حدود: 1 - مبتدأ الصغرى. 2 - وخبر الكبرى. 3 - والحد الأوسط هو خبر الصغرى وهو أيضا مبتدأ الكبرى. 4 - والمبتدأ يسمى موضوعا والخبر يسمى محمولا مثل يوضح ذلك: (الإنسان حادث) (وكل حادث لا بد له من محدث) لفظ (الإنسان) الحد الأول مبتدأ الصغرى موضوع. ولفظ (كل حادث) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الحد الأوسط مبتدأ الكبرى موضوع ولاحظ أن موضوع الكبرى عام ليدخل فيه موضوع الصغرى. ففي القياس الشمولي لا بد أن تدخل المقدمة الصغرى في المقدمة الكبرى فلذلك سمي شموليا؛ لأن الكبرى تشمل الصغرى". س 37: سئل الشيخ: هل يجوز الإخبار عن الله تعالى بأنه (واجب الوجود) ؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "ذكرت في مذكرة لي مقدمة في الصفات طبعها زهير الشاويش لكلية اللغة العربية بعنوان "مذكرة التوحيد" فيها الكلام عن الحكم العادي، والحكم العقلي، والحكم الفقهي، وتكلمت فيها عن تقسيم الحكم العقلي إلى مستحيل، وجائز، وواجب" فالمستحيل هو: ما لا يتصور وجوده ويصح الإخبار عن الله تعالى بأنه واجب الوجود، وهذا من باب الإخبار لا من باب الصفة. س 38: سئل الشيخ: عن وسائل الشرك هل تعتبر شركا أصغر أم تعتبر محرمة فقط؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "كل وسيلة تؤدي إلى الشرك فهي من الشرك الأصغر بالإضافة إلى تحريمها، فمن ذلك عبادة الله تعالى عند قبر الرجل الصالح إذا كان معتقدا أن هذا المكان فيه بركة تؤثر في قبول الدعاء والعبادة، فهذا شرك أصغر، وكذلك التوسل البدعي يعتبر من الشرك الأصغر". س39: سئل الشيخ: هل يثاب المرء على ترك الحرام؟ . فقال الشيخ - رحمه الله -: "الثواب يحتاج إلى شيئين هما: الإخلاص (النية) وموافقة العمل لمطلوب الشرع "أحسن عملا" أخلصه وأصوبه، النية وإصابة الحق ولو باجتهاد، والمباح لا أجر في فعله، ولا إثم في تركه ولكن بالنية يثاب أو يأثم، والترك في الأصل سلب لا يحتاج إلى نية، ولكن إذا نوى به كف النفس عن الحرام فهو فعل يثاب عليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 س 40 سئل الشيخ: ما الفرق بين اليقين والصدق والإخلاص، وبين القبول والانقياد؟ فقال الشيخ - رحمه الله -: "اليقين الطمأنينة -القبول قبول الله تعالى للعبادة وقبول العبد الدين وهو الانقياد وكلاهما شرط". س 41: سئل الشيخ: هل لفظ (لعمري) ، (لعمرك) من باب القسم؟ وإذا كان كذلك فهل هو قسم ممنوع أم مباح؟ وما معنى: «أفلح وأبيه إن صدق» ؟ فقال الشيخ - رحمه الله -: "كانوا في الجاهلية يحلفون بآبائهم ثم نسخ وقوله: (لعمري) قسم لغوي يقصد به التوكيد وهو مباح؛ لأن القسم الشرعي يكون بالواو، والتاء، والباء، ولا يدخل قيه القسم باللام". س 42: سئل الشيخ: كفر الجهل والتكذيب هل هما قسمان أم قسم؟ وهل هو خاص باليهود والنصارى، أم يدخل فيه من كان مسلما؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "هو نوع واحد إذا كان التكذيب عن جهل فيعرف بالدين، فإذا استمر على التكذيب بعد العلم كان كافرا". س 43: سئل الشيخ: ما الفرق بين توحيد المراد (الإخلاص) وتوحيد الإرادة (الصدق) ؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "المراد اسم مفعول، والإرادة مصدر، والمراد هو الله، وعليه أن يريد الله وحده، وإذا أراد الله ببعض إرادته نقص في صدقه". س 44: سئل الشيخ: عن التوسل البدعي هل هو شرك؟ . فقال الشيخ -رحمه الله -: "هو وسيلة إلى الشرك، ومن قال إنه شرك فهو مخطئ، وهذه المسألة عقائدية وليست من مسائل الفروع الفقهية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 التوسل المشروع والتوسل الممنوع س 45: سئل الشيخ: ما حكم لو قلت في دعائي "إلهي أسألك بأعز من ناجاك وأفضل من دعاك أن تمطر على قلوبنا من سحائب عطفك، وشآبيب رضوانك. فهل هذا الدعاء جائز؟ . فقال الشيخ -رحمه الله -: "الحمد لله وبعد، فإن هذا الذي ذكر في هذا الدعاء "إلهي أسألك بأعز من ناجاك.." إلخ لا يجوز بل هو مكروه؛ لأنه توسل إلى الله بالمخلوقين وهذا غير مشروع، ولو كان المتوسل به إلى الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم له منزلته عند الله ولا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان به وحبه صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فليس من المشروع أن تتوسل إلى الله بذاته ولا بذات غيره من المخلوقين، ومع مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا إذا أردنا التوسل إلى الله به فإننا نتوسل إلى الله بالإيمان به واتباعه؛ لأن هذا من أعظم القربات والأعمال الصالحة، بل هذا -يعني الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه- أفضل الأعمال إطلاقا، فإذا أراد الإنسان أن يتوسل إلى الله بالرسول فليقل مثلا في دعائه "اللهم بإيماني بك واتباعي لرسولك ولشريعتك وبما جاءنا به رسولك افعل لي كذا وكذا". "إيماني بك وبرسولك" هذا هو التوسل المشروع وهو التوسل إلى الله بالعمل الصالح وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . فهذا التفكر في خلق السماوات والأرض عبادة، وكذلك تأمل اختلاف الليل والنهار، ما فيها من الظلمة والنور، والطول والقصر هذا أيضا عبادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وكذلك تدبر السنن الكونية التي بثها الله عز وجل في خلقه عبادة، فبعد قيام هؤلاء العباد بهذا التفكر وهذا التدبر واعترافهم أن الله ما خلق هذا كله باطلا بل خلقه بالحق وللحكم الكثيرة التي يعلمها، بعد هذا التدبر وهذا التفكر وهذا الاعتراف، سألوا الله عز وجل أن يقيهم عذاب النار {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الفاء في فقنا تدل على ترتيب الدعاء ودوام ذكره على كل حال وتنزيه الله أن يخلق خلقا باطلا هذا نوع من التوسل بالعمل الصالح وهو مشروع. ومن هذا التوسل أيضا ما ذكره الله سبحانه بعد ذلك في نفس سياق هذه الآيات السابقة في قول أولي الألباب {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} . وهذا المنادي للإيمان هو الرسول صلى الله عليه وسلم وكل من بلغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلما سمع هؤلاء المؤمنون منادي الإيمان يدعو الناس هلموا إلى ربكم، هلموا إلى توحيد الله ونبذ الشرك، هلموا إلى طاعة الله وترك عصيانه ومخالفته، لما سمعوا منادي الله أن اعبدوا الله فعبدوه ونبذوا كل الشركاء والأنداد، فكان بعد هذا العمل الصالح طلب وتوسل من هؤلاء المؤمنين وهو {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} . توسلوا إلى الله بإيمانهم واتباعهم الرسول فدعوا ربهم بعدة دعوات: مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات وطلبوا من الله أن يختم لهم بالخاتمة الحسنى، وأن يجعل مثواهم مع الأبرار، وسألوا الله عز وجل ألا يخزيهم وألا يفضحهم بين خلقه يوم القيامة، وسألوا الله أن ينجز لهم ما وعدهم على الإيمان على ألسنة رسله من النصر والتأييد في الدنيا وحسن العاقبة والمثوى في الآخرة فعقب الله عز وجل على هذا التوسل بالأعمال الصالحة بقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ومن التوسل بالأعمال الصالحة ما رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي في طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إليَّ أجري، فقلت له: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق فهو لك، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه ولم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فهؤلاء الثلاثة لما وقعوا في الشدة والكرب بسبب انسداد الغار عليهم بفعل الصخرة التي سقطت من أعلى الجبل، توسل كل منهم بعمل من الأعمال الصالحة التي توفر فيها الإخلاص لله تعالى، فالأول توسل ببره والديه غاية البر، والثاني توسل بعفته عن الزنا وتركه المال الذي أعطاه لابنة عمه، والثالث توسل إلى الله تعالى بأدائه الحقوق للعباد ومنهم هذا الأجير الذي أخذ المال كله وطابت نفس المتوسل بذلك، ولما كان هذا التوسل مشروعا وجائزا كان له الأثر الطيب في أن الله عز وجل أزاح الصخرة عن باب الغار وتمكنوا من السير والانطلاق إلى وجهتهم التي أرادوا. هذا هو النوع الأول من التوسل المشروع وهو التوسل إلى الله ودعاؤه بالعمل الصالح الذي يعمله العبد تقربا إلى الله. وأما النوع الثاني من التوسل فهو التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته وذلك كأن تسأل الله عز وجل وتدعوه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا فتقول مثلا: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحيم اللطيف افعل كذا وكذا لي. أو تقول مثلا: اللهم إني أسألك بأنك الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا افعل لي كذا وكذا، وكقول المسلم في دعاء الاستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وقدرتك فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر وأنت على كل شيء قدير، إن كان كذا خيرا لي في عاجل أمري وآجله فيسره لي، وإن كان كذا شرا في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه» .... الحديث. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما عملت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي..» الحديث عن عمار بن ياسر. والنوع الثالث من التوسل المشروع هو التوسل إلى الله بدعاء العبد الصالح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الحي لك، وذلك أن تقصد رجلا من الصالحين المتبعين للشرع الموحدين المتبعين للسنة وتظن فيه الإخلاص لله سبحانه وتعالى وتطلب منه أن يدعو الله لك بحاجتك التي تريد، كأن يدعو الله أن يشفيك أو يشفي ابنك أو مريضك أو يدعو الله أن ينيلك كذا وكذا من المآرب والأهداف، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد. س 46: سئل الشيخ: ما حكم التبرك بآثار الصالحين؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: " التبرك بآثار الصالحين لا يشرع في الإسلام إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآثاره لعدم ثبوت الدليل على جوازه بغيره صلى الله عليه وسلم". س 47: سئل الشيخ: عن رجل دفن في المسجد. فقال الشيخ -رحمه الله -: "يجب إخراج المدفون من المسجد ما دام دفن بعد بناء المسجد ولو كان عظاما". س 48: سئل الشيخ: ما هي زيارة القبور السنية، وما هي الزيارة البدعية والشركية؟ . فقال الشيخ -رحمه الله -: "زيارة القبور قسمان: القسم الأول وهو الأصل، وهو سنة وقربة يؤجر الإنسان على فعلها وهي ما كانت الزيارة للعبرة والعظة وتذكر الدار الآخرة، فإن الإنسان إذا زار القبور فإنه يذكر هؤلاء الأموات وهم آباؤه وأجداده فيتذكر أن هذه الحياة الدنيا فانية وزائلة، وأنه لا بد من الموت وأنه ميت ومقبور مثلهم، وإذا كان كذلك فإنه يتيقن أنه مسئول في قبره، وأن الإقامة في القبر إما حياة عذاب وجحيم إذا كان عاصيا مفرطا في جنب الله، أو حياة إكرام وتنعيم إذا كان من الموحدين المطيعين لله، ثم إن الحياة والإقامة في القبر ليست دائمة ولا نهائية، ولكن بعدها البعث والنشور والقيام لله رب العالمين. هذه المعاني كلها فيها العظة والعبرة للزائر، وهذه المعاني كذلك تذكر الزائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 بالآخرة والحساب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» . وفي هذه الزيارة السنية المشروعة فائدة أخرى غير العبرة والعظة وتذكر الآخرة، ذلك إذا كان الميت المقبور المزور من المسلمين فإنه يستحب للزائر أن يدعو له بالمغفرة والرحمة، وأن يوسع الله عليه أو عليهم قبورهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا زار القبور دعا لأهل القبور. النوع الثاني: الزيارة البدعية وهذه الزيارة قد تكون بدعية فقط، وقد تكون بدعية وشركية على حسب ما يقع من الزائر من نية وأعمال، فإذا ذهب المسلم إلى قبر من القبور بنية التبرك بهذا القبر لكونه قبر أحد الصالحين، أو لدعاء صاحب القبر والاستغاثة به أو لطلب قضاء الحاجات وتفريج الكربات ونحو ذلك، فهذه زيارة شركية، ومن جنسها ما قد يقع من الزائر من الطواف حول القبر أو التمسح به، فهذا كله شرك، ولا نقول لفاعله مشرك وهذا ما تقول العلماء هذا شرك النوع وليس شرك العين، يعني أن هذا الفعل فعل شرك وفاعله ليس مشركا؛ لأن فاعله قد يكون معذورا بأي نوع من أنواع الأعذار كالجهل، أو متأولا أو مخدوعا بفتوى بعض الناس ممن ينتسبون إلى العلم والفتوى الذين يعتقدون بعض العقائد الباطلة، أو من أصحاب الطرق الصوفية، المقصود أن مثل هذا معذور ويجب له النصح والبيان والتلطف معه فلا نغلظ عليه بادئ الأمر حتى لا نضع في قلبه حواجز تمنعه من الأخذ بالصواب والنصيحة المقدمة له. ويجب أن نفرق بين أمرين: الأول: أن المقبور الميت الذي يزار وتفعل عنده البدع أو الشركيات قد يكون هذا المقبور من الصالحين المتقين وهو غير مسئول عما يقع عند قبره من المخالفات التي تسخط الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 والأمر الثاني: أن صلاح هذا الميت المقبور ليس مبررا أن نصرف إليه العبودية التي هي حق رب العالمين على عباده كالدعاء، والاستغاثة، والتوكل، والتعلق، والخوف، والذل المصاحب للحب، فهذه وغيرها من حقوق الله سبحانه وتعالى. س49: سئل الشيخ: عن حديث الرجل الضرير الذي رد الله بصره بعد أن جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقول: «اللهم شفعه في وشفعني فيه» . فقال الشيخ -رحمه الله-: "اقرأ الحديث: «اللهم شفعه في» " فلم يقل بشفاعة رسولك، بل توجه إلى الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم حي، ووصى الرجل أن يساعده على نفسه (نفس الرجل) مثلما تطلب من أي حي أن يدعو لك". س50: سئل الشيخ: ما حكم التحاكم إلى المحاكم التي تحكم بالقوانين الوضعية؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "بقدر الإمكان لا يتحاكم إليها، أما إذا كان لا يمكن أن يستخلص حقه إلا عن طريقها فلا حرج عليه". س51: سئل الشيخ: ما الفرق بين الفسق الأكبر، والكفر الأكبر؟ وما الفرق بين الفسق الأصغر، والكفر الأصغر؟ فقال الشيخ: -رحمه الله -: "الفسق الأكبر هو الكفر الأكبر، والفسق الأصغر هو الكفر الأصغر". س52: سئل الشيخ: ما حكم تعليق تميمة من القرآن على الجدار أو في السيارة؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "لا يجوز؛ لأن تعليق آية الكرسي أو غيرها من القرآن على الجدار أو في السيارة امتهان لها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 س53: سئل الشيخ: ما حكم العزائم بالقرآن، وهي آيات بالزيت أو الزعفران في طبق وخلط المكتوب بالماء وشربه؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "لا يجوز كتابة القرآن بهذا وشرب المكتوب". س54: سئل الشيخ: ما حكم القراءة على ماء أو طعام وشربه؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "يجوز القراءة على أي شيء طاهر حسب رغبته، يقرأ القرآن على المريض أو على الماء والطعام". س55: سئل الشيخ: عن رأيه في شيخ الإسلام إسماعيل الهروي ودفاع الإمام ابن القيم عنه في مدارج السالكين، وعن رأيه في تقسيم الهروي التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد العامة، والخاصة، وخاصة الخاصة. فقال الشيخ -رحمه الله-: "أما إسماعيل الهروي في ذاته فأمره إلى الله تعالى، وهو أعلم به، وأما دفاع ابن القيم: فإن الإمام ابن القيم قد رد عليه في عدد من المواضع، واقرأ تعليقات الشيخ حامد الفقي على الكتاب، مع العلم بأن أصحاب المطبعة قد طلبوا من الشيخ حامد ألا يعلق على الكتاب، وقد تسبب هذا في منع الشيخ حامد من الإسهاب في الرد. وأما تقسيم الهروي التوحيد إلى ثلاثة أقسام، فهو تقسم باطل فهو يجعل الأنبياء عليهم السلام من العامة، ويجعل ابن عربي وأمثاله من خاصة الخاصة". س56: سئل الشيخ: هل يمكن ظهور الملك بصورته لغير الرسل؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "لم يثبت، ومن ادعى ذلك فعليه الإثبات، نعم قد ثبت في الأحاديث أن الملك أتي لثلاثة: أقرع، وأعمى، وأبرص وأن الله أرسل ملكا على جانب الطريق الذي ذهب ليزور أخا له في الله وغير ذلك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الأحاديث، لكن ليس في شيء منها أن الملك كان على صورته الأصلية، بل في كل منها ما يفهم منه أنه كان على صورة رجل؛ لأن في هذه الأحاديث لم يعرف أنهم ملائكة إلا بإخبارهم عن نفسهم أنهم ملائكة. س57: سئل الشيخ: عن نبوة الخضر ولقمان وذي القرنين؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: " الخضر نبي بنص القرآن {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} . وقال ابن عاشر: لقمان إسكندر ليسا أنبيا ... في أرجح الأقوال لكن أوليا س58: سئل الشيخ عن صحف إبراهيم وموسى: هل هما شيء واحد؟ فقال الشيخ -رحمه الله-: "هما مختلفان فيهما شرائع إبراهيم، وشرائع موسى عليهما السلام، وصحف موسى جزء من أجزاء التوراة والألواح". س59: سئل الشيخ: هل التوراة والإنجيل كلام الله. فقال الشيخ -رحمه الله -: "نعم التوراة والإنجيل اللذان أنزلهما الله هما كلام الله بدليل قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} . س60:سئل الشيخ ما معنى حديث احتجاج آدم وموسى؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "معناه: رفع اللوم عن العصاة إذا تابوا وهذا ما ذكره ابن قتيبة وابن تيمية -رحمهما الله-". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 س61: سئل الشيخ: ذكر شارح الطحاوية أن الله تعالى لو أراد كونا إيمان جميع الناس لكان في ذلك مفسدة فما هذه المفسدة؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "المفسدة العظمى التي كانت ستحدث لو أراد الله إيمان جميع الناس هي انتفاء الابتلاء، وانتفاء الفائدة من التكاليف الشرعية، ولما شرع الله تعالى شرعا ولما أرسل رسلا؛ لأنه لا حاجة إذن إلى إرسال الرسل وينتفي تقسيم الناس إلى أهل جنة ونار". س62: سئل الشيخ: عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " «السعيد من سعد في بطن أمه» ". فقال الشيخ رحمه الله -: "معناه من كتبه الملك الذي ينزل بأمر الله لكتابة أربع كلمات بعد تمام الشهر الرابع للحمل في رحم أمه بعد استكمال الأطوار الثلاثة نطفة ثم علقة ثم مضغة فمن كتبه الملك سعيدا يومئذ فهو سعيد". س63: سئل الشيخ: عن مذهب المعتزلة في الإيجاب على الله تعالى. فقال الشيخ -رحمه الله -: "كل ممكن لا يجب عليه تعالى بل إن شاء فعله وإن شاء تركه هذا عند الأشاعرة". أما المعتزلة: فيوجبون عليه تعالى فعل (الأصلح) إذا كان الصلاح شيئين، ويوجبون عليه تعالى فعل (الصلاح) إذا كان شيئا واحدا. س64: سئل الشيخ: عن معنى الكسب. فقال الشيخ -رحمه الله - "الكسب عند الأشعري مقارنة القدرة للمقدور، وعند الماتريدي: هو العزم المصمم الذي يقع منه الفعل". س65: سئل الشيخ: عن مشيئة الرب ومشيئة العبد. فقال الشيخ -رحمه الله -: "لله سبحانه وتعالى مشيئة، وللعبد مشيئة، ومشيئة العبد متوقفة على مشيئة الله، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 س66: سئل الشيخ: عن مسألة التحسين والتقبيح العقلي. فقال الشيخ -رحمه الله -: "ارجع إلى تعليقي على الأحكام للآمدي حول مسألة التحسين والتقبيح، الجزء الأول المقدمات الكلامية". س67: سئل الشيخ: عن موقف الخوارج من الحدود هل يبطلونها؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "عندهم أن السارق والزاني حده القتل ولا يشترطون السيف بل يقتلونه بالسم، ولا يقطعون يد السارق أو يرجمون الزاني؛ لأنه عندهم من باب تداخل الحدود فيعطونه الحد الأعلى وهو القتل". س68: سئل الشيخ: ما معنى خلود القاتل الوارد في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} ؟ . فقال الشيخ -رحمه الله -: "خلود القاتل إذا كان غير مستحل فمعناه عند السلف طول المدة، وإذا كان مستحلا فهو على حقيقته، وقد فصل ابن القيم هذا الأمر في مدارج السالكين، وذكر أن قاتل العمد يتعلق به ثلاثة حقوق: حق للقتيل يقاص بالحسنات والسيئات يوم القيامة. وحق ولي الدم القصاص. وحق الله تعالى يسقط بالتوبة. وذكر الأدلة في آخر الجزء الأول. س69: سئل الشيخ: هل الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة فيما وافقوا فيه أهل السنة لا على العموم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 س70: سئل الشيخ: هل الفرق التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "كلها في النار" كافرة؟ أم غير كافرة؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "فيها رأيان ذكرهما شيخ الإسلام في الفتاوى". س71: سئل الشيخ: عن دعوة العوام للتوحيد. فقال الشيخ -رحمه الله -: "كونه لا يعلم العوام التوحيد غلط فقد مكث صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد في مكة، حتى الصلاة التي هي عماد الدين فرضت قبل الهجرة بثلاث سنين فكان صلى الله عليه وسلم يعلم التوحيد (للأميين) هكذا سماهم الله". س72: سئل الشيخ: هل الساحر كافر؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "الصحيح أن كفر الساحر كفر يخرج من الملة". س73: سئل الشيخ: ما حكم من سب صحابيا؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "تفصيل القول في حكم من طعن في الصحابة أو سب صحابيا أن الطعن جملة كفر، لكن سب صحابي بعينه كبيرة من الكبائر". س74: سئل الشيخ: هل العلم المشترط في شروط (لا إله إلا الله) هو العلم الإجمالي بأنه لا يستحق العبادة إلا الله؟ أم لا بد من العلم التفصيلي بأن الذبح عبادة والنذر عبادة.. وهكذا؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "العلم المشترط هو العلم الإجمالي لا التفصيلي، لا يلزم أن يكون فيلسوفا؛ بدليل حديث معاذ وسجوده للرسول صلى الله عليه وسلم، وقصة ذات أنواط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 فالجهل بتفاصيل العبادة لا يمنع الحكم للشخص بالإسلام. س75: سئل الشيخ: سألته عن رأيه في قول الصنعاني في تطهير الاعتقاد عن القبوريين الذين يعتقدون في الموتى ويطلبون منهم (هم كفار أصليون) حيث اعترض عليه بعض العلماء كالشيخ بشير السهسواني صاحب (صيانة الإنسان) وقال (هم مرتدون) . فقال الشيخ -رحمه الله -: "هم مرتدون عن الإسلام إذا أقيمت عليهم الحجة، وإلا فهم معذرون بجهلهم كجماعة الأنواط، أما من انتسب إلى الإسلام ثم بدت منه أفعال كفرية وأقيمت عليه الحجة فهو مرتد يقتل بالسيف". س76: سئل الشيخ: عن الكافر الأصلي إذا تلفظ أمامنا بالشهادتين ولا ندري هل يعلم معناها أم لا؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "يحكم له بالإسلام بالظاهر حتى يبدو أنه جاهل فيعلم معنى الشهادتين الصحيح؛ فإن استقام فالحمد لله، وإن لم يستقم فهو مرتد لا كافر أصلي". س77: سئل الشيخ: هل يلزم إقامة الحجة على تارك الصلاة حتى يحكم بكفره؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "يحتاج إلى إقامة الحجة، فإن مات قبلها عومل معاملة الكفار". س78: سئل الشيخ: الإيمان الركن هل يزيد وينقص كالإيمان الواجب والمستحب؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "نعم بدليل عموم قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} . وقوله: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} وهذا يعم جميع أقسام الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 س79: سئل الشيخ: ما حكم المستهزئ بالدين أو ساب الدين أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن العظيم هل يكفر ولو كان جاهلا؟ فقال الشيخ رحمه الله -: "هذا الباب كغيره من أبواب الكفر يعلم ويؤدب فإن علم وعاند بعد التعليم والبيان كفر. وإذا قيل: لا يعذر بالجهل، فمعناه يعلم ويؤدب وليس معناه أنه يكفر". س 80: سئل الشيخ: ما حكم من قال: القرآن مخلوق؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "هذا كفر أكبر ولكن قائله يعلم ولا يكفر بعينه إلا إذا علم وأصر بعد إقامة الحجة". س81: سئل الشيخ: عن مسألة فناء النار؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "ما لي رأي في المسألة، اقرأ كلام ابن تيمية وابن القيم. واقرأ للصنعاني في الرد عليهما وأنا لا أقول بفناء النار ولا بعدم فنائها أنا لم أختر رأيا إلى الآن؛ لأنه ليست هناك نتيجة عملية تترتب على هذا الخلاف، والواقع أن القول بفناء النار متصل بابن تيمية خلافا لمن نفى نسبة هذا القول له". س82: سئل الشيخ: هل تكفي إحدى الشهادتين للحكم للشخص بالإسلام؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "شهادة (أن محمدا رسول الله) تستلزم شهادة (أن لا إله إلا الله) ولا عكس، ومع هذا فإظهار أي شعيرة من شعائر الإسلام تكفي لمعاملته معاملة المسلمين". س83: سئل الشيخ: عن خروج جماعة التبليغ لتذكير الناس بعظمة الله. فقال الشيخ -رحمه الله -: "الواقع أنهم مبتدعة ومحرفون وأصحاب طرق قادرية وغيرهم، وخروجهم ليس في سبيل الله، ولكنه في سبيل إلياس، هم لا يدعون إلى الكتاب والسنة، ولكن يدعون إلى إلياس شيخهم في بنجلادش، أما الخروج بقصد الدعوة إلى الإسلام فهو جهاد في سبيل الله، وليس هذا هو خروج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 جماعة التبليغ، وأنا أعرف جماعة التبليغ من زمان قديم، وهم المبتدعة في أي مكان كانوا هم في مصر، وإسرائيل، وأمريكا، والسعودية، كلهم مرتبطون بشيخهم إلياس ". س 84: سئل الشيخ: عن رجل قيل له: فعلك هذا محرم، فقال: أنا أعرف أنه حرام ولكن سأفعله؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "إذا كان مضطرا إلى فعله فهو معذور وإلا فهو مستهتر وهي معصية كبرى قد تصل إلى درجة الكفر. والعياذ بالله". س 85: سئل الشيخ: ما الفرق بين قتال المرتدين وقتال تاركي الشرائع؟ وقتال التتار يتبع أي القسمين؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "مانعو الشرائع لغير جحود يقاتلون حتى يؤدوها ولا يكفرون بالرغم من قتالهم، والذي يحكم بغير ما أنزل الله كافر مرتد يقاتل قتال الكفار، أما الذي لا يكفر فهو الفقيه الذي يحكم في مسألة يظن أنها من الدين، والحق بخلافه فلا يكفر، أما الذي يحكم بما يعلم أنه ليس من الدين فهذا كافر، الذي يبيح فوائد البنوك يناقش ويبين له، فإذا أقيمت عليه الحجة فإنه يقتل قتل المرتد، ولا أذكر الآن إلى أي القسمين ينتمي قتال التتار". س86: سئل الشيخ: هل يوجد عذر بالجهالة في أصل التوحيد، علما بأن بعض أهل السنة ذكر أنه لا عذر لأحد بالجهل في أصل التوحيد؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "إن وجوب الإيمان بالله تعالى ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر، وما يتصل بذلك من أصول وفروع بمقتضاه: يتوقف على البلاغ الصحيح ومعرفة ما تضمنه البلاغ من الحق، وهذا مما يتفاوت بتفاوت الناس في مداركهم وقواهم العقلية، وكثرة العلماء والدعاة إلى الإسلام، وما إلى هذا مما يتيسر معه معرفة الحق وتأييده، واستبانة الباطل وتميزه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 من الحق والقضاء عليه، أو بعدهم عن ديار الإسلام والدعاة إليه، وما إلى ذلك من الحواجز التي يشق معها الوصول إلى معالم شرع الله تعالى والوقوف على حقيقته جملة أو التبحر فيه. فيجب أن يراعى ذلك وأمثاله في الحكم على الناس، فقد يجب على بعض الناس الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله إجمالا، إذا لم يبلغه إلا ذلك، ولم يتيسر له سواه مع بذله وسعه في التعرف على الحق، لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» . رواه مسلم. ولما ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلا رزقه الله مالا، فقال لبنيه لما حضره الموت: أي أب كنت فيكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرا قط، فإذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل، فقال: ما حملك، قال: مخافتك، فتلقاه برحمته» متفق عليه. س87: سئل الشيخ: عن حكم من أنكر معلوما من الدين بالضرورة، ومن خالف حكما ثابتا بالكتاب والسنة وإجماع الأمة؟ فقال الشيخ -رحمه الله-: "إذا خالف مسلم حكما ثابتا بنص صريح من الكتاب والسنة لا يقبل التأويل، ولا مجال فيه للاجتهاد، أو خالف إجماعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 قطعيا ثابتا بين له الصواب في الحكم، فإن قبل فالحمد لله، وإن أبى بعد البيان وإقامة الحجة وأصر على تغيير حكم الله حكم بكفره، وعومل معاملة المرتد عن دين الإسلام، مثال ذلك: من أنكر الصلوات الخمس أو إحداها، أو فريضة الصيام أو الزكاة أو الحج إلى بيت الله الحرام، وتأول ما دل عليها من نصوص الكتاب والسنة ولم يعبأ بإجماع الأمة. وأما إذا خالف حكما ثابتا بدليل مختلف في ثبوته، أو قابل للتأويل بمعان مختلفة وأحكام متقابلة فخلافه خلاف في مسألة اجتهادية فلا يكفر، بل يعذر في ذلك من أخطأ، ويؤجر على اجتهاده أجرا واحدا، وعمله بهذا الاجتهاد مشروع، ويحمد من أصاب، ويؤجر أجرين، أجرا على اجتهاده وأجرا على إصابته، مثال ذلك: من أنكر وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، ومن قال بوجوب قراءتها عليه، ومثاله أيضا من قال بوجوب العمرة، ومن قال ليست واجبة، بل هي سنة، ومن قال بتوريث الإخوة مع الجد ومن خالفهم فقال: بحجبهم بالجد.. فمثل هذا لا يجوز تكفيره ولا إنكار الصلاة وراءه، ولا يحرم الأكل من ذبيحته، بل تجب مذاكرته والتفاهم معه، ذلك على ضوء الأدلة الشرعية، لأنه أخ مسلم له حقوق المسلمين، والخلاف في مثل هذه المسائل خلاف في مسائل فرعية اجتهادية، جرى مثلها في عهد الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف، ولم يكفر بعضهم بعضا، ولم يهجر بعضهم بعضا من أجلها. س 88: سئل الشيخ عن قول الإمام محمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات في حديث ذات أنواط فلم يعذرهم بالجهالة؟ فقال الشيخ -رحمه الله-: "بعد أن قامت الحجة فلا يعذرون، أما قبل البيان فيعذرون بجهلهم، وقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يعذرهم بالجهالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 أي لم يكن الجهل عذرا يمنع من التغليظ والإنكار عليهم، حيث غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكر ولكن لم يكفرهم". س89: سئل الشيخ: هل يجوز إكرام أي شخص بالذبح له؟ فقال الشيخ -رحمه الله -: "إذا كان الذبح على وجه الإكرام يجوز إذا كان المذبوح له أهلا لأن يكرم، أو كان المذبوح له ضيفا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» . أما إذا كان هذا الشخص المذبوح له فاجرا فلا يجوز؛ لأن الفاجر إهانته مطلوبة، إلا إذا كان صاحب البيت يخشى على نفسه من جبروته وشره فيقدم له الإكرام دفعا لبلائه وشره، وإذا أمكنه التخلص من هذا الفاجر والنجاة من شره دون أن يذبح له ودون أن يكرمه فهذا خير، وهذا هو الأولى. وإذا وجد المسلم أن تقديم الكرامة ومنها الذبح لهذا الفاجر، وهو نوع من السياسة واستمالة القلوب وتأليفها، ورأى أن الإكرام هو تمهيد وفتح للقلب لقبول النصيحة وتقريبه من الخير، أو كفه عن الشر، أو عن بعض الشر الذي هو فيه، فإنه يجوز الإكرام لهذا الشخص ولربما كان مستحبا، إذن مسألة الذبح لشخص ما يختلف حكمها على حسب حال الشخص المذبوح له وعلى حسب نية الشخص الذي يذبح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الكرامات س90: فضيلة الشيخ سمعنا عن كرامات حدثت مع إخواننا المجاهدين الأفغان فما هي الكرامة ومدى صحتها أفادكم الله وهل نصدقها؟ الجواب: الكرامة خارقة للعادة أي حادثة تكون خارقة للعادة، يجريها الله جل شأنه على يد من شاء من الصالحين إكراما له، أو إنقاذا له من موقف رأفة له ورحمة به، وهي غير المعجزة، فالمعجزة خارقة للعادة يظهرها الله جل شأنه على يد نبي من أنبيائه، أو رسول من رسله بيانا لرسالته، وتأييدا له في دعوته، وإقامة للحجة على قومه، لإثبات أنه رسول من عند الله، وأنه نبي من أنبياء الله، هذه تسمى معجزة تجري على يد رسول أو نبي من أنبياء الله، والأولى تعتبر كرامة تظهر على يد صالح من الصالحين غير الأنبياء، وقد تظهر على يد الأنبياء مع أتباعهم فيما بينهم، كتلك المعجزات التي ظهرت على يد الرسول صلى الله عليه وسلم. «ففي غزوة الخندق كان الطعام لا يكفي إلا لخمسة، أو لعشرة مثلا، فكفى جيشا من الجيوش بإذن الله، كفى المؤمنين في المدينة دعاهم أنس وجاءوا لبيت أبي طلحة، وأم أنس هي التي صنعت الطعام وأعدته ولما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها أن تأتي بالطعام، ودخلوا عشرة عشرة فأطعمت جميع من كان يحفر في الخندق، وبقي الطعام كما هو» وهذا فيما بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، لا يراد به إقامة حجة على كافر، إنما يراد به إكرام المؤمنين بإطعامهم من جوع؛ لأنه قد ظهر عليهم، «وكان الرسول صلى الله عليه وسلم محتزما من شدة الجوع بحزام ضاغط به على جلد بطنه حتى يستطيع أن ينتصب قائما» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 هذا مما ظهر من الكرامات على يد الأنبياء، وهو يسمى أيضا معجزة، ولكن لا يراد بها إقامة حجة في مثل هذا. «وفي أحد الأسفار لم يكن معهم من الماء إلا الشيء القليل، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقليل من الماء ووضع يده فيه فنبع الماء من بين أصابعه وهو بين الصحابة رضوان الله عليهم،» وهو شبيه بالخارقة الأولى التي حصلت إكراما له وللصحابة، فشربوا وسقوا وتوضئوا، ومن كان عليه جنابة اغتسل، ومن أراد أن يتنظف تنظف. وهناك معجزات أخرى يراد بها إقامة الحجة مثل القرآن، ومثل انشقاق القمر، ومثل المعجزات الأخرى التي ظهرت أمام الكفار، إثباتا لرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فالكرامة تظهر على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى يد غيره من الصالحين الذين ليسوا برسل، ولا أنبياء، والمعجزة لا تظهر إلا على يد الأنبياء والرسل، والكرامة عامة في الرسل، والأنبياء، وفي الصالحين من غير الأنبياء والرسل، هذا من تظهر على يده الكرامة وهذا تعريفها. أما وقوع الكرامة فقد وقعت كما ذكرت للرسول صلى الله عليه وسلم، ووقعت لبعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الصحابة رضي الله عنهم فمن ذلك أن أسيد بن حضير وعباد بن بشر تحدثا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ذهب من الليل ساعة، في ليلة شديدة الظلمة، ثم خرج بيد كل منهما عصية، فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت عصا الآخر فمشى كل منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله، هذه من الكرامات التي حصلت للصحابة. وأيضا في غزوة من الغزوات كان زعيمها أو قائدها سارية وكان عمر بن الخطاب ملهما محدثا كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم «إن كان في الأمة محدثون فعمر بن الخطاب رضي الله عنه» هذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عمر ملهما وكان يرى الرأي للنبي صلى الله عليه وسلم فينزل به القرآن تصديقا لعمر بن الخطاب، وهذا الأمر حصل عدة مرات، فصلاة ركعتين إلى جهة الحجر الأسود عقب الطواف نزل به القرآن تصديقا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. فهذا ابن الخطاب رضي الله عنه وهو يخطب على المنبر ألهمه الله، أو أراه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 سارية، والجيش من ورائه، فقال له: يا سارية الزم الجبل أي اجعل ظهرك إلى الجبل حتى لا يأتيك العدو من الخلف، وهذه خطة حرب علمه إياه، وهو في غيبة عنه على مسافة أطول من مسافة القصر بعشرات المرات، ومع ذلك سمع سارية عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولما حضر سألوه نادى عمر في يوم كذا وقال كذا أسمعت؟ فقال: لقد سمعته ولقد انصرفت إلى الجبل وجعلته في ظهر الجيش فنصرنا الله على أعدائنا. فهذه كرامة يذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من علماء المسلمين لعمر بن الخطاب، وكرامة لسارية ولسائر الجيش، رسم لهم خطة حربية وهو على المنبر في المدينة والجيش يجاهد في سبيل الله، هذا من الكرامات التي وقعت في هذا الحرب قد يكون في الجيش بعض المنافقين، ولكن أيضا يوجد بعض المخلصين، وجيش الرسول صلى الله عليه وسلم قد خرج فيه بعض المنافقين في غزوة تبوك، وأرادوا أن يغتالوه صلى الله عليه وسلم، فالجيوش لا تسلم من أن يكون فيها خائن أو من يدبر سوءا للجيش، وخرج عبد الله بن أبي ابن سلول في غزوة أحد، ومعه كثير من المنافقين، وكثير من ضعفاء القلوب، ولما وصلوا إلى مكان القتال رجع عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين بثلث الجيش، فكادت تحصل فتنة في الجيش، وكادوا ينقسم بعضهم على بعض، وبعضهم يحدث نفسه بالانصراف وفي ذلكم يقول الله جل شأنه: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} قد يحدث هذا، وبالفعل قد حدث ذلك في الجيش الذي خرج فيه جماعة من المنافقين، ورجع منه جماعة، فأنزل الله الملائكة وحاربت المشركين كما أنزل ملائكة في غزوة بدر، وكانت الملائكة تنزل في مواطن كثيرة في الحروب، وهذا من الكرامات التي حصلت في غزوة بدر، وحصلت لهم في غير غزوة بدر، وتحصل للمسلمين في الوقت الحاضر، وقد يكون عند إنسان إلهام يلهمه الله إياه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 إلى درجة اليقين في أمر لا يدريه قبل ذلك كما حصل لأبي سعيد الخدري في قصة الرقية التي ذكرت من قبل فرقى بالفاتحة دون أن يكون عنده علم مسبق بأنها رقية لكنه إلهام ويقين، فحقق الله يقينه وصدق إلهامه، هذا أيضا من الكرامات. أقول: إن الكرامات لها حقيقة وعرفتها لكم، وأنها تظهر على يد صالح من المسلمين، وأنها خارقة للعادة، وقد تظهر على يد رسول من رسل الله ونبي من أنبيائه، أما المعجزة فلا تظهر إلا على يد نبي إثباتا لرسالته أو لنبوته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381