الكتاب: شرح عقيدة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب (وطبع الكتاب باسم: شرح رسالة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب) المؤلف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- شرح عقيدة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب صالح الفوزان الكتاب: شرح عقيدة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب (وطبع الكتاب باسم: شرح رسالة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب) المؤلف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – في رسالته إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته: بسم الله الرحمن الرحيم أشهد الله، ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة. قوله: «أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم» ، كأن هذا مأخوذا من قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] ، فهو يشهد الله – جل وعلا -، ويشهد الملائكة، ويشهد العلماء على عقيدته، وأنه ما جاء بشيء جديد أو بتغيير لدين الله كما يقال عنه، وإنما جاء بالحق الصريح. وقوله: «أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية» ، عقيدة الفرقة الناجية هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 سميت الناجية لأنها نجت من النار، كل هذه الفرق في النار إلا هذه الفرقة، فهي الناجية من النار، وهذه أوصافها: أولا: أنها الناجية. ثانيا: أنهم أهل السنة، الذين يأخذون بالسنة، وهي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهي تعني القرآن وتعني الأحاديث الصحيحة، ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» ، ولم يأخذوا بمذهب الجهمية أو المعتزلة أو الخوارج أو غيرهم من الفرق، إنما أخذوا منهج أهل السنة المتمسكين بالسنة. ثالثا: «والجماعة» ، سموا بالجماعة؛ لأنهم مجتمعون على الحق، ليس بينهم اختلاف، لا يختلفون في عقيدتهم، إنما عقيدتهم واحدة، وإن كانوا يختلفون في المسائل الفقهية والمسائل الفرعية المستنبطة، فهذا لا يضر، الاختلاف في الفقه لا يضر؛ لأنه ناشئ عن اجتهاد، والاجتهاد يختلف، والناس ليسوا على حد سواء في ملكة الاجتهاد، أما العقيدة فإنها لا تقبل الاجتهاد، بل يجب أن تكون واحدة؛ لأنها توقيفية، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] ، هذه أمة واحدة لا تقبل الاختلاف، تعبد ربا واحدا، وفي الآية الأخرى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 52، 53] . ذم الذين اختلفوا؛ لأن الاختلاف في العقيدة لا يجوز، فالله أمرهم أن يكونوا أمة واحدة فعصوه، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} ، أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 كتبا؛ كما قال قتادة ومجاهد، كل واحد عنده كتاب، وكل واحد عنده عقيدة، وعقيدة هذا غير عقيدة هذا، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} كل يرى أنه على الحق وغيره على الباطل، لا يقول: نرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] ، بل كل يقول إنه على الحق وحده {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ومقتنع بما لديه، بل ومتعصب له، ولا يرى أن قوله عرضة للخطأ والصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره. هذه أصول الإيمان وأركانه، يؤمن بها الشيخ، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره؛ كما في حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم بحضرة أصحابه، فقال: «أخبرني عن الإيمان، فقال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» . قال العلماء: هذه أركان الإيمان. والإيمان له أركان، وله شعب، أركانه ستة، وشعبه: «بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق..» ، فالإيمان له شعب كثيرة، وأما أركانه – أي جوانبه التي يقوم عليها – فهي ستة أركان: الركن الأول: الإيمان بالله، وهو الأساس، والإيمان بالله يشمل أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. الركن الثاني: الإيمان بالملائكة، أنهم عباد من عباد الله تعالى لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يأتمرون، خلقهم الله من نور، وهم من عالم الغيب الذين لا نراهم، ولكن نؤمن بهم، وقد جعلهم الله أصنافا، كل صنف من الملائكة له عمل يقوم به في هذا الكون، فمنهم الحفظة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويكتبونها {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 [الانفطار: 10 – 12] ، ومنهم حملة العرش، ومنهم الموكل بالوحي وهو جبريل عليه السلام، ومنهم الموكل بالقطر وهو ميكال، ومنهم الموكل بالموت: وهو ملك الموت، ومعه ملائكة الموت، ومنهم أصناف لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] ، جنود الله عز وجل كثيرة. الركن الثالث: الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على الرسل، فالله – جل وعلا – أرسل الرسل وأنزل الكتب من عنده سبحانه، بوحيه وشرائعه وأمره ونهيه، منها التوراة، ومنها الإنجيل، ومنها الزبور، ومنها القرآن، ومنها كتب لم يذكرها الله لنا، ولكننا نؤمن بها جملة، ونؤمن بما ذكره الله باسمه مفصلا، وآخرها وأعظمها: القرآن العظيم الذي أعجز الثقلين – الجن والإنس – على أن يأتوا بسورة واحدة من مثله. الركن الرابع: الإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله بشرائعه ودينه لهداية خلقه، الله – جل وعلا – أرسل الرسل ليبين للناس ما يضرهم وما ينفعهم، ويبين لهم دينهم، والله – جل وعلا – أقام الحجة بهم {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، أما عددهم فلا يعلمهم إلا الله، وهم كثيرون، ومنهم من سمى الله لنا في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 83 – 86] . فهؤلاء سماهم الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فنؤمن بهم بأعيانهم، ومن لم يسمه الله نؤمن به جملة. قال الله – جل وعلا -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] ، فنؤمن بهم جميعا من سمى الله، ومن لم يسم منهم، فمن كفر بنبي واحد كفر بالجميع، فلا بد من الإيمان بهم جميعا، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150، 151] ، والله – جل وعلا – قال لنا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] . الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر، وهو البعث بعد الموت؛ لأن الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، والدنيا مزرعة للآخرة، فهي دار عمل وليس فيها جزاء، والآخرة دار جزاء وليس فيها عمل، لا بد من الإيمان باليوم الآخر، من لم يؤمن باليوم الآخر فهو كافر، قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7] ، أيها الإنسان تعيش في هذه الدنيا وتأكل وتشرب وتكفر وتفسق كأنه ليس أمامك بعث وحساب وجزاء، فالله – جل وعلا – جعل الآخرة للجزاء، وهذا عدل منه سبحانه أنه لا يضيع عمل العاملين، يجازي كلا بعمله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] ، لو لم يكن هناك بعث لصار الخلق عبثا، والله سبحانه منزه عن العبث. الركن السادس: الإيمان بالقدر، والقدر هو سر الله – جل وعلا -، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 والقدر هو ما قدره الله مما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، جرى القلم بالمقادير، وكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، فلا يقع شيء إلا بقدر {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، فالأمور ليست عبثا أو أنفا، بل هي مقدرة من قبل {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] ، قوله: {كِتَابٍ} هو اللوح المحفوظ، وقوله: {قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} يعني: نخلقها ونوجدها. والإيمان بالقدر على أربع مراتب: المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله – جل وعلا – الأزلي الأبدي المحيط بكل شيء، أي: نعتقد أن الله علم كل شيء، علم ما كان وما يكون. المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة. المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة والإرادة، ما شاءه الله كان، وما لم يشأ لم يكن. المرتبة الرابعة: مرتبة خلق الأشياء في أوقاتها المقدرة لها، كل شيء في وقته، كل شيء في حينه الذي قدره الله - جل وعلا -. لا بد من الإيمان بهذه المراتب الأربع: مرتبة العلم، مرتبة الكتابة، مرتبة المشيئة، مرتبة الخلق والإيجاد. هذا هو الإيمان بالقضاء والقدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل. لما ذكر أركان الإيمان بين ما يدخل في الأول، وهو الإيمان بالله، أنه يدخل فيه الإيمان بالأسماء والصفات، فمن جحد الأسماء والصفات لم يكن مؤمنا بالله الإيمان الصحيح، وهذا رد على المعطلة الذين عطلوا أسماء الله وصفاته لأنهم لم يؤمنوا بالأسماء والصفات. فمن الإيمان بالله الإيمان بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة «من غير تحريف ومن غير تعطيل» ، التحريف: هو التغيير، أي: تغيير الألفاظ، أو تغيير المعاني، هذا هو التحريف. تحرف الألفاظ بأن يزاد فيها أو ينقص، مثل: «استوى» قالوا: «استولى» ، هذا تحريف لفظ، حيث زادوا حرفا. ومن تحريف المعنى: تفسير الاستواء بالاستيلاء، وتفسير اليد بالقدرة، وتفسير الوجه بالذات، هذا من تحريف كلام الله عز وجل، قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] . قوله: «ومن غير تعطيل» ، التعطيل هو: جحد الأسماء والصفات وإخلاء الله منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته. المؤلف – رحمه الله تعالى – يعتقد ما دلت عليه هذه الآية؛ لأنها ميزان في جميع الأسماء والصفات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في أسمائه وصفاته، وإن كانت أسماؤه تشترك مع أسماء المخلوقين في ألفاظها ومعانيها لكن لا تشبهها في حقيقتها وكيفيتها، فالاشتراك في اللفظ وأصل المعنى لا يقتضي الاشتراك في الحقيقة والكيفية؛ كما قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} في هذا رد على المعطلة، فنفى عن نفسه المثلية، وأثبت لنفسه الأسماء والصفات، السمع والبصر، فدل على أن إثبات الأسماء والصفات لا يقتضي التشبيه. وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} هذا فيه نفي {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} هذا فيه إثبات، نفى عن نفسه المثلية، وأثبت لنفسه الأسماء والصفات. وقوله: «لا أنفي عنه ما وصف به نفسه» ؛ كما فعلت المعطلة. وقوله: «لا ألحد» ، الإلحاد في اللغة هو: الميل، والإلحاد في الأسماء والصفات هو: الميل بها عن مدلولها إلى مدلول باطل؛ كتفسير الوجه بالذات واليد بالقدرة أو النعمة، وهكذا. هذا تحريف للكلم عن مواضعه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40] ، {يُلْحِدُونَ} يعني: يميلون بها إما بجحدها كما فعلت المعطلة، وإما بتشبيهها بصفات خلقه كما فعلته الممثلة، وإما بالزيادة عليها شيئا لم يثبته الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وإما بجعلها أسماء للأصنام كاللات والعزى ... إلى آخره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا وأحسن حديثا. هذا القسم الثاني من الضلال في أسماء الله وصفاته: الممثلة، زادوا في الإثبات وغلوا في الإثبات، ولم يفرقوا بين صفات الله وصفات خلقه، ولا يبين أسمائه وأسماء خلقه، هؤلاء مشبهة والعياذ بالله؛ ولهذا قال أهل العلم: «المعطل يعبد عدما والممثل يعبد صنما» . فقولهم: المعطل يعبد عدما؛ لأن الذي ليس له أسماء وصفات: عدم، والممثل يعبد صنما من البشر؛ لأنه جعل الله مثل البشر، تعالى الله عن ذلك. فقوله: «ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه» ، يعني: لا أعلم كيفيتها ولا مثليتها، وإنما هذا من علم الله - جل وعلا -، لا يعلم كيفية صفاته إلا هو، ولا يعلم كيفية ذاته إلا هو سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] ، فالمؤمنون يعلمون ربهم، وأنه هو ربهم وخالقهم، ويعلمون وجوده وكماله، لكن لا يحيطون به. وقوله: «لا سمي له» ، يعني: لا أحد يستحق اسمه على الحقيقة، وليس معنى «لا سمي له» : لا أحد يسمى باسمه؛ لأنه يسمى المخلوق: العزيز، والملك، يسمى المخلوق بما يوافق اسم الخالق في الحروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 والمعنى، لكن لا يوافقه في الكيفية، فمعنى «لا سمي» يعني: لا أحد يستحق اسمه على الحقيقة؛ كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ، أي لا أحد يساوي الله - جل وعلا – في أسمائه وصفاته. وقوله: «ولا كفؤ» ؛ كقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، أي لا أحد يكافيه سبحانه ويساويه - جل وعلا -. وقوله: «ولا ند له» ، الند: هو المثيل أيضا {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} جمع ند، وهو المثيل، {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30] ، فالذين عبدوا الأصنام جعلوها أندادا لله، مشابهة له سبحانه وتعالى، وإلا لماذا عبدوها معه؟ ولهذا يوم القيامة يقولون: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98] ، يعترفون أنهم ساووهم برب العالمين في الدنيا، فاستحقوا النار يوم القيامة من باب التحسر. قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] ، {يَعْدِلُونَ} يعني: يساوون به غيره من المخلوقين. وقوله: «ولا يقاس بخلقه» ، فهو سبحانه لا يقاس بخلقه في أسمائه وصفاته، فالأسماء والصفات وإن كانت تشترك في اللفظ وجملة المعنى لكنها تختلف في الحقيقة والكيفية. وقوله: «فهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره» ، هو أعلم بنفسه وأما غيره فلا يعلم عن الله إلا ما علمه الله - جل وعلا -؛ الملائكة تقول: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] ، والله - جل وعلا – يقول لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ، والله - جل وعلا – يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] ، ويقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 [الإسراء: 85] ، فهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأما غيره فلا يعلم حقيقة الله وكيفية الله - جل وعلا -، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. وقوله: «وأصدق قيلا وأحسن حديثا» ؛ كما في القرآن: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] ، لا أحد أحسن من الله ولا أصدق من الله، والله قال في كتابه أنه سميع، وأنه بصير، وأنه حكيم، وأنه عليم، وأن له وجها، وأن له يدين، قال هذا عن نفسه سبحانه وتعالى، فهو أعلم بنفسه. ثم يأتي هؤلاء المعطلة ويقولون: هذا لا يليق بالله، ما يليق بالله أن يقال: له وجه، ولا يقال: له يد، ولا يقال: إنه سميع ولا بصير؛ لأن هذه الصفات في الخلق موجودة وإذا أثبتناها شبهنا الله بخلقه!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل، فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 – 182] . نزه نفسه سبحانه وتعالى عن مذهب الطائفتين – مذهب الممثلة، ومذهب المعطلة – وأثبت لنفسه الأسماء والصفات على ما يليق بحلاله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 159] ، وقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور: 43] ، نزه نفسه عن ذلك. هذا هو المذهب الحق، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهو الذي قال الشيخ – رحمه الله – إنه عقيدته ومعتقده. قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، نزه نفسه عما يصفه به أهل التعطيل وأهل التمثيل، ثم قال: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} سلم عليهم لسلامة ما قالوه في الله عز وجل لسلامته من العيب والنقص، فالمرسلون وصفوا الله بما وصف به نفسه؛ لذلك سلم الله عليهم، وختم الآيات بقوله: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} له الثناء كله والحمد كله، لا يستحقه إلا هو سبحانه وتعالى. فهل بعد هذا البيان يظن أحد أن الشيخ عنده شيء يخالف به أهل العلم كما يتهمه خصومه؟ الجواب: لا، فهذه عقيدته واضحة نقية مما يرمونه به من الشبهات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية. لما ذكر الشيخ رحمه الله في أول الرسالة أصول الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خير وشره، وبين أنه على عقيدة السلف في أسماء الله وصفاته مخالفا بذلك فرقتي المعطلة والمشبهة والممثلة، وقرر هذا الأصل، الذي هو داخل في الإيمان بالله عز وجل؛ لأن الإيمان بالله يشمل: الإيمان بتوحيد الربوبية، والإيمان بتوحيد الألوهية، والإيمان بتوحيد الأسماء والصفات. ثم ذكر في هذه الجملة ما يتعلق بالأصل الأخير وهو الإيمان بالقدر؛ لأن هذا وقع فيه خلاف وتفرق بين طوائف القدرية والجبرية. أما القدرية فالمراد بهم: الذين ينفون القدر، وهم المعتزلة أتباع واصل بن عطاء، سموا بالمعتزلة لأنهم اعتزلوا مجلس الحسن البصري رحمه الله، وكونوا لهم جماعة وتبنوا مذهبا في التوحيد يخالف مذهب أهل السنة والجماعة. وأيضا في أصول الإيمان جعلوا لهم أصولا غيرها، وهي الأصول الخمسة، وهي: الأول: التوحيد، ويريدون به نفي الصفات، يسمون نفي الصفات توحيدا؛ لأن إثبات الصفات يقتضي تعدد الآلهة عندهم. والثاني: العدل، ويريدون به نفي القضاء والقدر؛ لأنهم يقولون: إثبات القضاء والقدر يلزم عليه الجور والظلم في حق الله تعالى، حيث يعذب عباده على شيء قدره عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 والثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون به الخروج على ولاة الأمور، فالذي يخرج على الولاة، هذا هو الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عندهم. والرابع: المنزلة بين المنزلتين، وهذه هي التي خالفوا واعتزلوا من أجلها مجلس الحسن، لما سئل الحسن رحمه الله عن حكم مرتكب الكبيرة، أجاب بما عليه أهل السنة والجماعة، قال: «هو مؤمن ناقص الإيمان» ، فلا يكفر كما تكفره الخوارج، ولا يوصف بالإيمان الكامل؛ كما تقوله المرجئة، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. فلما أجاب الحسن بهذا الجواب، وكان واصل بن عطاء تلميذا له، قال: أنا أقول: إنه لا مؤمن ولا كافر، بل هو في المنزلة بين المنزلتين، يخرج من الإيمان ولكنه لا يدخل في الكفر، فهو في المنزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، فإن مات ولم يتب فإنه يكون خالدا في النار؛ كما تقوله الخوارج، فأحدثوا القول بالمنزلة بين المنزلتين وعرفوا بذلك. والخامس: إنفاذ الوعيد، ويريدون به أن النار لا يخرج منها من دخلها، فأوجبوا خلود مرتكب الكبيرة من أهل القبلة في النار، وقالوا: من استحق العذاب لا يستحق الثواب. ومحط البحث الآن في الأصل الثاني وهو العدل، وأما مرتكب الكبيرة فيأتي بعده مباشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فالعدل: وهو نفي القدر عندهم، وهذا غلط فيه المعتزلة والجبرية، وهما على طرفي نقيض. فالمعتزلة يقولون: إن العبد يستقل بفعله وليس لله فيه قضاء ولا قدر، وإنما العبد هو الذي يستقل بفعله، والأمر أنف - يعني مستأنف – لم يقدر ولم يكتب في اللوح المحفوظ، وغلاتهم يقولون: ولم يعلمه الله قبل وقوعه. فينفون العلم، وهؤلا كفار بلا شك؛ لأنهم إذا نفوا العلم فهم كفار. أما جمهورهم فيقولون: الله يعلمه ولكنه لم يقدره، وإنما علم أن هذا سيقع لكنه بدون تقدير منه سبحانه وتعالى. وشيخ الإسلام ابن تيمية في «الواسطية» يقول: إن الصنف الأول وهم الذين ينفون العلم انقرضوا. أو القائل به منهم قليل في وقت الشيخ، أما الآخرون فلا يزالون إلى الآن باقون يقولون: إن الله يعلمه لكن لم يقدره، وإنما العبد هو الذي أحدثه بدون أن يقدره الله عليه. هؤلاء هم القدرية، سموا بالقدرية لأنهم ينفون القدر، فيغلون في إثبات أفعال العباد ويقولون: هم الذين يوجدونها بدون أن يقدرها الله عليهم. وأما الجبرية: فهم الجهمية ومن أخذ بقولهم، فهم على النقيض، يغلون في إثبات القدر والمشيئة وينفون أفعال العباد، ويقولون: العبد مجبور ليس له اختيار في أفعاله، وإنما يحرك كما تحرك الريشة في الهواء، أو هو كالميت بين يدي الغاسل يقلبه، ليس له اختيار. فهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 غلوا في إثبات القدر وإرادة الله سبحانه وتعالى، ونفوا أفعال العباد، واعتبروهم مجبرين على أفعالهم ليس لهم فيها اختيار ولا مشيئة، ولذلك سموا بالجبرية لأنهم يقولون بالجبر. أهل السنة والجماعة توسطوا – كما هي عادتهم في كل أمور الدين هم وسط فيها – فأثبتوا أن للعبد فعلا ومشيئة واختيارا، ولكنه لا يخرج بذلك عن مشيئة الله وإرادته، فأثبتوا للعبد مشيئة واختيارا وإرادة وأفعالا، خلافا للجبرية، ولكنه لا يخرج عن قضاء الله وقدره، خلافا للقدرية، وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلولا أن للعبد مشيئة واختيارا وقدرة لما عذبه الله على أفعاله، فلو كان مجبرا – كما تقوله الجبرية – لم يعذبه الله على أفعال ليس له فيها اختيار. ومن أدلة أهل السنة والجماعة قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28، 29] ، قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} دل على أن الإنسان يستقيم على طاعة الله بمشيئته لا يجبر على ذلك، إما أن يستقيم وإما أن يعصي، فهو الذي يؤمن وهو الذي يكفر، وهو المؤمن، والكافر، والفاسق، والزاني، والسارق، والشارب، هو نفسه. فأثبت للعبد مشيئة في قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} ، ثم قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، هذا رد على القدرية، فأول الآية رد على الجبرية، وآخرها رد على القدرية، فالآية فيها رد على الطائفتين. وقوله: {لِمَنْ شَاءَ} هذا رد على الجبرية الذين ينفون مشيئة العبد وإرادته، وأنه يحرك بدون اختيار منه، وقوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} رد على القدرية الذين ينفون القدر ويغلون في إثبات مشيئة العبد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ويقولون: إن العبد يشاء ولو لم يشأ الله ولو لم يقدر الله، هو يفعل ويشاء بابتداعه وإيجاده هو. وبعضهم يقول: الله لا يعلم أفعاله قبل أن تقع، وهؤلاء هم الغلاة، وبعضهم يقول: يعلمها لكنه لم يقدرها. هذا هو ملخص البحث في هذه المسألة. والقضاء والقدر ثابت في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] ، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] . وفي السنة: حديث جبريل لما قال للرسول صلى الله عليه وسلم: «أخبرني عن الإيمان، قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» . والإيمان بالقدر على أربع مراتب لا بد من الإيمان بها كلها. المرتبة الأولى: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى علم كل شيء بعلمه الأزلي الذي هو موصوف به أزلا وأبدا، وهذه المرتبة هي التي نفاها غلاة القدرية. المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، لحديث: «أول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم، ثم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة» ، والله - جل وعلا – يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الكتاب هو اللوح المحفوظ {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي نخلقها {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] ، والكتابة «قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» ، فالكتابة سابقة بأزمان على خلق السماوات والأرض. المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة والإرادة، فكل شيء يقع فهو بمشيئة الله وإرادته، وفي هذا رد على القدرية، فلا يكون في ملكه سبحانه وتعالى ما لا يشاؤه ولا يريده {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] ، فكل شيء يحدث فقد شاءه الله وأراده بعد ما علمه وكتبه في اللوح المحفوظ. المرتبة الرابعة: مرتبة الإيجاد والخلق، علمه وكتبه وشاءه وخلقه سبحانه وتعالى. لا بد أن تؤمن بهذه المراتب كلها وإلا لم تكن مؤمنا بالقضاء والقدر. قوله: «والفرقة الناجية» ، سميت ناجية؛ لأنها ناجية من النار، بخلاف بقية الفرق فإنها في النار؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» ، هذه الواحدة هي الناجية من النار، وهذه الفرق النار وهي تتفاوت، منها ما هو في النار لكفره، يخلد فيها، ومنها ما هو في النار لمعصيته ولا يخلد فيها، فلا يلزم من هذا أن هذه الفرق كلها كافرة، بل هي متفاوتة؛ لأن الخلاف يتفاوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وقوله: «وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية» ، الجبرية: هم أتباع الجهم بن صفوان، الذي يقول بالجبر، ويقول بالإرجاء، ويقول بالتجهم. ولهذا يقول ابن القيم في «النونية» : جيم وجيم ثم جيم معهما ... مقرونة مع أحرف بوزان يعني جمع بين ثلاث جيمات، والرابعة جيم جهنم والعياذ بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وهم في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية. هذه مسألة الكفر والإيمان لأصحاب الكبائر من أهل الإيمان، من حصل منه كبيرة دون الشرك؛ كالزنا والسرقة وشرب الخمر، وغير ذلك من الكبائر التي هي دون الشرك. الخوارج كفروه، وقالوا: يخرج من الإسلام إلى الكفر – والعياذ بالله – ويستدلون بآيات من القرآن، آيات متشابهة لا يردونها إلى الآيات المحكمة، مثل قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] . استدلوا بهذا على أن كل من عصى الله فهو في نار جهنم خالدا فيها أبدا، وأنه كافر، فيكفرون السارق والزاني وشارب الخمر، كل مرتكب كبيرة يكفرونه، ويخرجونه من الإسلام، ويخلدونه في النار إذا مات ولم يتب. هذا مذهب الوعيدية، لماذا سموا بالوعيدية؟ لأنهم أخذوا بآيات الوعيد وتركوا آيات الوعد التي فيها وعد الله بالمغفرة والتوبة، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فالله أخبر أنه لا يغفر للمشرك الشرك الأكبر، وأنه يغفر ما دون الشرك، ويدخل في ذلك جميع المعاصي، هذا وعد من الله - جل وعلا -. وهذا أخذ به المرجئة الذين يقولون: إن صاحب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، فقالوا: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وسموا مرجئة؛ لأنهم أرجؤوا؛ أي أخروا الأعمال عن مسمى الإيمان، وقالوا: الإيمان هو التصديق بالقلب. وهم مع هذا أربع طوائف: الأولى: مرجئة الفقهاء، من الكوفيين والأحناف الذين يقولون: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 إن الإيمان هو قول باللسان واعتقاد بالقلب. ولا يدخلون فيه العمل. الثانية: الأشاعرة ومن أخذ بمذهبهم، فيقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب ولو لم ينطق بلسانه، فمن صدق بقلبه فهو مؤمن حتى ولو لم يتكلم. وعلى هذا فالكفار مؤمنون؛ لأنهم يصدقون بقلوبهم لكن لا ينطقون بألسنتهم، قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] . هم يصدقون بقلوبهم ويعلمون أنه رسول الله، وأن القرآن كلام الله، وأن ما جاء به هو الحق، لكن يمنعهم – والعياذ بالله – موانع: إما الكبر والأنفة، أو الخوف على مناصبهم ورئاستهم، أو الحسد. واليهود يعرفونه، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} ، يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] ، يعرفون أنه رسول الله، ولكن لم يطيعوه ولم يؤمنوا برسالته {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] ، تركوه حسدا، يريدون أن تكون النبوة في بني إسرائيل ولا تكون النبوة في بني إسماعيل، حسدوا بني إسماعيل فأبوا أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهم يؤمنون بقلوبهم أنه رسول الله. فهذا رد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق بالقلب ولو لم ينطق باللسان. الثالثة: الكرامية، الذين يقولون: الإيمان هو النطق باللسان ولو لم يعتقد بقلبه، إذا نطق بلسانه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولو لم يعتقد بقلبه فهو مؤمن، كذلك يقولون. وهذا باطل يلزم عليه أن المنافقين مؤمنون؛ لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، والله - جل وعلا – يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] ، فهم يقولون بألسنتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ولكن لا يعتقدون بقلوبهم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون: 1، 2] ، شهادتهم للرسول جنة يتسترون بها دون القتل، يريدون أن يعيشوا مع المسلمين وهم كفار في قرارة أنفسهم وقلوبهم، حكم الله أنهم في الدرك الأسفل من النار تحت عبدة الأصنام. والكرامية يقولون: إنهم مسلمون ومؤمنون!! الرابعة: أخبث فرق المرجئة وهم الجهمية الذين يقولون: إن الإيمان هو المعرفة بالقلب ولو لم يصدق، إذا عرف بقلبه فهو مؤمن ولو لم يصدق، ولو لم ينطق، ولو لم يعمل، ما دام أنه عارف بقلبه فهو مؤمن. وهذا القول أخبث مذاهب المرجئة. فتبين من هذا معنى الإرجاء، وأنه تأخير العمل عن الإيمان، وأن العمل لا يدخل في الإيمان، وأن الإنسان يكون مؤمنا ولو لم يعمل، ولو لم يصل، ولم يصم، ولم يحج، ولم يعمل أي شيء، لو فعل ما فعل من المعاصي ومن الموبقات فهو مؤمن، والمعاصي لا تنقص إيمانه، لو زنى وسرق فهو مؤمن كامل الإيمان عندهم، ما دام أنه مصدق بقلبه. والإيمان لا يتفاضل عندهم ولا يتفاوت، فإيمان أبي بكر أو جبريل مثل إيمان أفسق الناس عندهم. والحق أن الإيمان يتفاوت: فالمؤمنون منهم من إيمانه كامل، ومنهم من إيمانه ناقص نقصا كثيرا أو قليلا، فالإيمان يتفاوت، ويزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والعمل داخل في حقيقة الإيمان، ومن ترك العمل تركا نهائيا بدون عذر ولم يعمل أبدا فليس بمؤمن، أما إذا ترك بعض الأشياء وفعل بعض الأشياء فإنه مؤمن ناقص الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أهل السنة والجماعة قالوا: مرتكب الكبيرة التي دون الشرك مؤمن ولكنه ناقص الإيمان، أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وإذا مات فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، لكنه لا يخلد في النار {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، وفي الحديث: «انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «وذلك أضعف الإيمان» . فالإيمان يكون قويا ويكون ضعيفا، ومن فيه إيمان فإنه لا يكفر، ولو فعل بعض المعاصي فلا يكفر لكنه ينقص إيمانه، فلا يعطى اسم الإيمان الكامل ولا يسلب اسم الإيمان بالكلية جمعا بين النصوص. لهذا يقول الشيخ تقي الدين رحمه الله: «فلا يعطى الإيمان المطلق ولا يسلب مطلق الإيمان» . لا يعطى الإيمان المطلق الكامل كما تقوله المرجئة، ولا يسلب مطلق الإيمان كما تقوله الخوارج والوعيدية، بل يعطى بقدر ما عنده. وهذا مذهب الحق والاعتدال والجمع بين النصوص، فالمعاصي تنقص الإيمان وتضعفه – ردا على المرجئة – لكنها لا تخرج صاحبها من الإيمان، ردا على الخوارج والوعيدية. والمعتزلة أحدثوا – كما مر بنا – المنزلة بين المنزلتين، وقالوا: ليس بمؤمن ولا كافر. وقولهم باطل؛ لأنه لا يوجد أحد ليس بمؤمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وليس بكافر، إما أن يكون مؤمنا وإما أن يكون كافرا، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] ، إما كافر وإما مؤمن، والمؤمن إما مؤمن كامل الإيمان، وإما مؤمن ناقص الإيمان. قوله: «وهم في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية» ، المرجئة مر بنا تعريفهم، وهم الذين يقولون: إن العمل لا يدخل في حقيقة الإيمان. والوعيدية هم الذين ينفذون نصوص الوعيد، ويحكمون على مرتكب الكبيرة بالكفر والخروج من الإسلام. هذا مذهب الخوارج – والعياذ بالله – ولهم ورثة الآن من المتعالمين والجهال الذين لا يحسنون الاستدلال، ولا يفقهون الأدلة ولا يراجعون عقيدة السلف، فيأخذون النصوص ويتلاعبون بها، ويحكمون على الناس بالكفر والخروج من الدين، ثم يحملون عليهم السلاح؛ كما فعل ذلك أسلافهم من الحرورية، نسأل الله العافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج. قوله: «الحرورية والمعتزلة» ، الحرورية هم الخوارج، سموا بالحرورية؛ لأنهم اجتمعوا في مكان في العراق يقال له: حروراء، اجتمعوا فيه لحرب المسلمين، فسموا بالحرورية، وكل من اعتقد مذهبهم يقال له: حروري؛ لأنه على مذهب الحرورية، والمعتزلة: أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري. وأهل السنة وسط في جميع أمور الدين – ولله الحمد – بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والتساهل؛ كما قال الله - جل وعلا -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ، والوسط هو: العدل الخيار، المتوسطة بين طرفين: طرف الإفراط وهو الغلو، وطرف التفريط وهو التساهل، فالإفراط أخذ به الخوارج، والتفريط أخذ به المرجئة، وأهل السنة وسط – ولله الحمد – بين هذا وهذا. قوله: «في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، الصحابة: جمع صحابي، والصحابي هو: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك. فقولهم: «من لقي النبي صلى الله عليه وسلم» يخرج به من آمن بالنبي ولم يلقه، هذا لا يسمى صحابيا، مثل النجاشي رحمه الله فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يلقه، فلا يقال: إنه صحابي، ولما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وخرج بهم وصلى عليه صلاة الغائب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 «من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به» ، يخرج بذلك من لقي النبي ولم يؤمن به، فإن الكفار لقوا النبي صلى الله عليه وسلم، لقوه ورأوه واجتمعوا به. «ومات على ذلك» يخرج بذلك من لقي النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به وصار صحابيا ثم ارتد، فإنه تبطل صحبته وتبطل جميع أعماله من الصحبة وغيرها إذا مات على الردة، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] ، أما لو تاب تاب الله عليه وعادت إليه الصحبة، وجميع الأعمال التي فعلها قبل الردة على الصحيح؛ لأن الله قال: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} ، فدل على أن الذي يتوب ولا يموت على الكفر أنه لا تحبط أعماله؛ لأن الله شرط لحبوط الأعمال شرطين: الأول: أن يرتد. الثاني: أن يموت وهو كافر. فهذا هو الذي يحبط عمله من الصحبة وغيرها. والواجب على المسلمين في حق الصحابة: محبتهم والاقتداء بهم والثناء عليهم وإكرامهم؛ لأنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين جاهدوا معه، وتلقوا العلم عنه، وبلغوه للأمة، رضي الله عنهم وأرضاهم، والله - جل وعلا –، يقول: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] ، {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} اتبعوهم: اقتدوا بهم وساروا على نهجهم، بإحسان لا يتبعون الصحابة دون معرفة لمذهبهم، هذا اتباع بغير إحسان، والإحسان معناه: الإتقان، والإتقان لا يكون إلا بمعرفة الشيء وفقهه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فما كل من انتسب إلى الصحابة وقال: أنا على مذهب السلف، يكون كذلك حتى يكون محسنا، يعني متقنا لهذا الاقتداء، وهذا لا يحصل إلا بالتعلم، لا يحصل بمجرد الانتساب أو بمجرد الرغبة في الخير أو المحبة للخير، لا بد أن تعرف ما عليه الصحابة معرفة تامة ثم تتابعهم عليه، أما مجرد الانتساب من غير تحقيق فلا ينفع. فقوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} ، أي لم يغلوا ولم يتساهلوا في متابعة الصحابة رضي الله عنهم، هذا هو الإحسان، يكون بين الغلو وبين التساهل. وقال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] ، وقال سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} هذه صفات الصحابة رضي الله عنهم {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ} يعني صفتهم {فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} [الفتح: 29] . الصحابة أول ما بدأ الإسلام كانوا أفرادا قليلين، «سئل النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة: من معك على هذا الأمر؟ قال: حر وعبد» ، حر: وهو أبو بكر، وعبد: وهو بلال. هذا أول ما بدأ الإسلام لم يكن معه صلى الله عليه وسلم إلا قليل كما قال صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» ، بدأ الإسلام على هذا المبدأ ثم تكاثر الصحابة حتى بلغوا مبلغ الكمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وقوله تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} يعني فراخه، فالحبة الواحدة أول ما تظهر تكون قصبة واحدة، ثم تُفرخ ويصير بجانبها فراخها، الصحابة كذلك أول ما نشؤوا كانوا قلة، ثم تكاثروا مثلما يتكاثر الزرع بالفراخ {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} يعني قواه وأيده {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} ارتفع على قصبه {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} من حسنه، هذه صفة الصحابة رضي الله عنهم. {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ليغيظ بالصحابة الكفار، فالذين يغتاظون من الصحابة ويبغضونهم هم الكفار والمنافقون. واستدل أهل العلم بهذه الآية على أن من يبغض الصحابة فإنه كافر؛ لأن الله قال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ، وقال سبحانه وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] ، وصفهم بأنهم بهذه الأوصاف العظيمة، ثم قال: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ، ثم قال في الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . هذه في صفة الأنصار، الآية الأولى في المهاجرين وهذه في الأنصار، ثم قال في التابعين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} وهذا يشمل من جاء من بعدهم إلى يوم القيامة: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا} يعني: بغضا {لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] . هذه صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فالواجب للصحابة محبتهم، والثناء عليهم، واتباعهم، والاقتداء بهم، وعدم الخوض فيما جرى بينهم في أيام الفتنة، لا تدخل في هذا أبدا أيها المؤمن، ولا تخض فيه، ولا تخطّئ بعضهم وتصوب بعضهم؛ لأنهم مجتهدون رضي الله عنهم يريدون الحق، فعليك أن تمسك لسانك ولا تتكلم فيهم، ويجب أن تحفظ فيهم وصية الله – جل وعلا – ووصية رسوله، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي» ، وحب الصحابة من حب الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أحب الصحابة فقد أحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أبغض الصحابة فقد أبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الواجب لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين. وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذين ضلوا في هذا على فريقين: * فريق النواصب. * وفريق الروافض. فالروافض يكفرون الصحابة ولا يستثنون إلا أربعة من الصحابة هم: علي، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد بن الأسود، ويغلون في علي رضي الله عنه ويقولون: إن عليا هو الوصي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن خلافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أبي بكر باطلة وظلم واغتصاب، وخلافة عمر وعثمان كلها ظلم واغتصاب؛ لأن الخلافة لعلي. أما النواصب فيبغضون عليا رضي الله عنه ويتكلمون فيه وفي أولاده. والخوارج كفروا الصحابة جميعا. وأهل السنة والجماعة يتولون جميع صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، أهل بيت الرسول وغيرهم، يتولونهم جميعا ولا يفرقون بينهم، نعم بعضهم أفضل من بعض، فالخلفاء الراشدون وبقية العشرة المبشرين بالجنة أفضل من غيرهم من الصحابة، وأهل بدر أفضل من غيرهم، وأهل بيعة الرضوان، والمهاجرون أفضل من الأنصار، لكن التفضيل لا يقتضي انتقاص المفضول أو الكلام فيه، كلهم لهم فضل الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأهل السنة وسط في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج والنواصب، يتولون الجميع، ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوقرونهم، لكنهم لا يغلون فيهم؛ كغلو الرافضة حتى قالوا: إن الخلافة لعلي ولذريته، وأن الصحابة اغتصبوها وظلموهم، ويلعنون أبا بكر وعمر ويسمونهم. صنمي قريش، - قبحهم الله – وكل آية فيها ظلم وكل آية فيها كفر ينزلونها على الصحابة. قوله: «وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج» ، بين الروافض والخوارج، والنواصب أيضا، الخوارج كفروا عليا وعثمان وكثيرا من الصحابة، بينما الروافض على العكس غلوا في علي رضي الله عنه واعتقدوا أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه هو الوصي، وأن الصحابة ظلمة اغتصبوا حقه. والخوارج كفروا عليا والصحابة، بينما الروافض بالعكس غلوا في علي، حتى إن غلاتهم يقولون: هو الله، والذين دون الغلاة لا يقولون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 إنه هو الله، لكن يكفرون الصحابة ويصفونهم بالظلم والطغيان، ويلعنونهم ويشتمونهم، فهم على طرفي نقيض. أهل السنة والجماعة – كما ذكرنا – تولوا جميع الصحابة وعرفوا قدر أهل البيت، ولم يفرقوا بين أحد منهم عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا هو المذهب في الصحابة رضي الله عنهم، وهم أفضل الأمة، قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ، فهم خير القرون، وهم أفضل الأمة، وهم الذين أوصى بهم الله - جل وعلا – وأوصى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نشروا الإسلام لما تحملوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغوه للأمة، من أين وصلنا هذا الإسلام إلا عن طريق الصحابة رضي الله عنهم، هم الواسطة بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث كلها رواتها من الصحابة رووها عن الرسول صلى الله عليه وسلم. الحاصل: أن هذه عقيدة الشيخ رحمه الله عقيدة أهل السنة والجماعة، والذين يقولون: إن الشيخ خارجي، وأنه يُكفّر، فقد كذبوا عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وأعتقد أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق. لما كان من أصول وأركان الإيمان: الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على رسله لأجل هداية العباد، والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وإقامة الحجة عليهم؛ كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] ، وقال تعالى لنبينا محمد – عليه الصلاة والسلام -: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] ، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] ، وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] . فلما كان القرآن المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم كلام الله؛ كغيره من الكتب الإلهية، وأن الإيمان بذلك ركن من أركان الإيمان الستة، وهذا أمر لم يختلف عليه المسلمون – ولله الحمد – ولكن نبتت نابتة بعد انقضاء القرون المفضلة على يد الجعد بن درهم الذي تلقى عقيدته عن اليهود، تقول: إن القرآن مخلوق؛ لأن الله لا يتكلم - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا – وإنما إضافة الكلام إليه إضافة مجازية؛ لأنه خلق الكلام في غيره، فخلقه الله في اللوح المحفوظ، أو في جبريل، أو في محمد صلى الله عليه وسلم. ويا سبحان الله!! كيف يضاف الكلام إلى غير من تكلم به؟ العقول لا تقر هذا. فهذا محال في العقول، وغرضهم من ذلك أن يبطلوا الاحتجاج بالقرآن، وأن يقولوا: ليس عند الناس كلام لله عز وجل، القرآن الذي هو أول الأدلة، فأول الأدلة: القرآن ثم السنة، ثم الإجماع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ثم القياس، فإذا قيل: إنه ليس لله كلام بين الناس، بماذا يستدل الناس؟ إذا أبطلوا الأصل الأول بطلت بقية الأصول وبهذا يقضى على الإسلام بهذه الطريقة، وشبهتهم يقولون: ننزه الله من أنه يتكلم؛ لأنه لو وصفناه بأنه يتكلم شبهناه بالخلق، فنحن ننزه الله عن ذلك. فجاؤوا من طريق تنزيهه بزعمهم، وفي الحقيقة أنهم فروا من التشبيه الذي زعموه إلى تشبيه أقبح، فإذا نفوا عنه الكلام لئلا يشبه بالمتكلمين من الخلق، فقد شبهوه بالجمادات التي لا تنطق، وهذا نقص أعظم. ولذلك حكم أئمة أهل السنة بكفر الجهمية، قال الإمام ابن القيم: ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان خمسون في عشرة يعني خمسمائة عالم حكموا بكفر الجهمية؛ لأنهم نفوا كلام الله سبحانه. ولذلك خالد بن عبد الله القسري قتل الجعد بن الدرهم لأجل هذه المسألة، في يوم عيد الأضحى فقال: «أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا» . ثم نزل وذبحه تحت المنبر في مشهد من العلماء والمسلمين، وشكروه على ذلك. ولهذا قال الإمام ابن القيم: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد ال ... قسري يوم ذبائح القربان إذ قال إبراهيم ليس خليله ... كلا ولا موسى الكليم الداني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان ولما قتل الجعد بن درهم جاء من بعده الجهم بن صفوان، فتبنى مقالته الخبيثة، فقتله الأمير سلم بن أحوز، وهكذا كان ولاة أمور المسلمين، يقتلون الزنادقة حماية للعقيدة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» . فكانوا يقتلون الزنادقة ويريحون المسلمين من شرهم حماية للعقيدة التي هي الضرورية الأولى من الضروريات الخمس التي تجب المحافظة عليه. فهذا أصل منشأ هذه المقالة الخبيثة، ثم ورثها عنه المعتزلة، والجعفرية من الشيعة يقولون بهذه المقالة؛ لأنهم تتلمذوا على المعتزلة فأخذوها عنهم، والشيعة الزيدية والإباضية يرون هذا الرأي ويعتقدون أن القرآن مخلوق، وأنه ليس كلام الله، كل هذا ورثوه عن الجهمية، وهذا مدون في عقائدهم التي يدروسونها الآن. جاءت الأشاعرة فأتوا بقول غريب في هذه المسألة، لا هو مع الجهمية، ولا هو مع أهل السنة، فقالوا: الكلام هو المعنى القائم بالنفس الإلهية، وأما هذا القرآن والكلام الذي نزل على الرسل فإنما هو عبارة أو حكاية عن كلام الله، فهو – أي القرآن الذي معنا – مخلوق؛ لأنه عبر به محمد أو جبريل عن كلام الله، والله لا يتكلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وإنما كلامه معنى قائم بنفسه يعبر عنه الرسول. فهم جمعوا متناقضات لم يقل بها أحد غيرهم، فجعلوا القرآن بعضه غير مخلوق وهو المعنى النفسي، وألفاظه مخلوقة، فهذا القرآن الذي معنا الآن ليس هو كلام الله، إنما هو كلام محمد، أو جبريل، وهو مخلوق، أو أن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، فهو ليس كلام الله، وإنما هو حكاية عن كلام الله، أو عبارة عن كلام الله، «عبارة» هذا قول الأشاعرة، و «حكاية» هذا قول الماتريدية، وكلهم يقولون: هو ليس كلام الله؛ لأن كلام الله هو المعنى القائم بالنفس فقط، فالقرآن بعضه إلهي وبعضه بشري، مثل مقالة النصارى في عيسى: اتحد اللاهوت بالناسوت، فعيسى بعضه من الله، وبعضه مخلوق، فكذلك قول الأشاعرة يشبه قول النصارى في المسيح، بعضه مخلوق، وبعضه غير مخلوق، تناقضات والعياذ بالله. أما من التزم بالحق فهو – ولله الحمد – على بينة وعلى بصيرة، وأهل السنة والجماعة ما زالوا يقولون: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. وامتحن أهل السنة من المعتزلة على يد المأمون في هذه المسألة، وعذب الإمام أحمد عند هذه المسألة، المأمون يريد أن يلزم الناس بعقيدة المعتزلة في القرآن وأنه مخلوق، وأهل السنة أبوا ورفضوا، وفي مقدمتهم الإمام أحمد رحمه الله، أبوا أن يقولوا وأن يخضعوا لهذه المقالة الخبيثة، فثبتهم الله على الإيمان، وخذل الله المعتزلة ومن نحا نحوهم، ولم يحصلوا على طائل إلا الفضيحة والنكسة والعياذ بالله. ومع الأسف أن بعض الكتاب يقولون: مسألة القول بخلق القرآن أو عدم خلقه مسألة لا طائل تحتها، ولا تحتاج إلى انقسام، والإمام أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 مخطئ عندما امتنع، أو هذه أمور سياسية، هم عذبوا الإمام أحمد ليس من أجل موقفه من القول بخلق القرآن، بل عذبوه؛ لأنهم يخافون أن يقلب الناس عليهم، فهي مسألة سياسية. هكذا يقول هؤلاء الكتاب الجهال أو المغرضون، ويقولون: مسألة القول بخلق القرآن لا تستحق كل هذا. هكذا يقولون؛ لأنهم إما جهال لم يدركوا الخطر، وإما أنهم مغرضون معتزلة ويريدون أن تمر هذه المسألة على الناس، ويقال: لا تستحق كل هذه الجلبة، هذا موجود الآن في كتاباتهم في الصحف وفي المؤلفات. فالحاصل: أني نبهت على هذا لئلا يغتر أحد بكتابات هؤلاء، ويقول: المسألة سهلة، والمسألة لا تحتاج إلى كل هذه الردود. بل المسألة خطيرة جدا، فإذا نفينا أن القرآن كلام الله، إذًا ماذا يبقى معنا؟ وبالتالي تبطل الشريعة، إذا هدم الدليل الأول لها والمصدر الأول بها بطلت الشريعة، وهذا غرض المؤسسين لهذه المقالة الخبيثة، وإن كان كثير من أتباعهم لا يدركون هذا الغرض، ولكن هذا هو المقصود، يكفي أن هذه المقالة جاءت من اليهود على يد الجعد بن درهم الذي تلقاها عن اليهود. وقوله: «وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل» منزل؛ كما يقوله أهل السنة والجماعة «غير مخلوق» ؛ كما تقوله الجهمية ومن سار في ركابهم، هذه هي عقيدة يجب على المسلم أن يعتقدها، ولا يقول: هذه مسألة شكلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة. قوله: «منه بدأ» يعني: نزل من الله – جل وعلا – حيث تكلم الله به حقيقة، وسمعه منه جبريل، ونزل به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، فهو كلام الله حقيقة لا مجازا. وأما قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19، 20] يعني: جبريل عليه السلام، وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة: 40، 41] ، يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم. أضافه إلى الرسول البشري تارة، وإلى الرسول الملكي تارة، وأضافه إلى نفسه سبحانه وتعالى تارة. فيقال: الكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئا، وأما إضافته إلى جبريل أو إلى محمد فهي إضافة تبليغ، ولا يمكن للقول الواحد أن يقوله عدة قائلين أبدا، فدل على أنه كلام الله، ولكن أضافه إلى جبريل وإلى محمد في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} إضافة تبليغ، والكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئا، لا إلى من قاله مبلغا مؤديا. فهذا هو الجواب عن هذه الشبهة التي يتعلقون بها. قوله: «وإليه يعود» ، إشارة إلى ما يكون في آخر الزمان حينما يرفع القرآن، ويؤخذ من صدور الرجال ومن المصاحف، ولا يبقى له أثر، وذلك من علامات الساعة، فكما أنه نزل منه فإنه يرفع في آخر الزمان ويعود إليه سبحانه وتعالى، ولا يبقى في الأرض قرآن. قوله: «تكلم به حقيقة» ، هذا رد على الذين يقولون: أنه تكلم به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 مجازا، فإضافته إلى الله من باب المجاز؛ لأنه هو الذي خلقه فيضاف إليه مجازا. وليس هو المعنى القائم في نفسه كما تقوله الأشاعرة، وليس هو مخلوقا كما تقوله الجهمية، وإنما تكلم الله به حقيقة وسمعه منه جبريل وتحمله عن الله – جل وعلا – وبلغه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن عن محمد عن جبريل عن الله – جل وعلا -، هذا سند القرآن؛ كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} هذا كله في جبريل. ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} يعني محمدا: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} كما تقوله الكفار، {وَلَقَدْ رَآهُ} أي: رأى جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية الملكية {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} رأى جبريل وهو في الأفق على صورته في بطحاء مكة، ورآه مرة أخرى ليلة المعراج عند سدرة المنتهى، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] ، أي: رأى جبريل عند سدرة المنتهى ليلة المعراج، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على خلقته الملكية مرتين، وفيما عدا ذلك يأتي إليه بصورة إنسان، ويراه الصحابة على صورة إنسان، ويظنون أنه من البشر، وأنه وافد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: «وأنزله على عبده ورسوله» ، هو محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، «عبده» هذا رد على الذين يغلون في محمد صلى الله عليه وسلم ويجعلون له شيئا من الإلهية، فهو عبد وليس معبودا، و «رسوله» هذا رد على الذين ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم طرفي نقيض، طائفة غلت فيه ورفعته إلى مقام الألوهية، وطائفة فرطت في حقه وجحدت رسالته، فنحن نقر بالأمرين: أنه عبد وأنه رسول. قوله: «وأمينه على وحيه» ، الرسول أمين، لم يزد في القرآن ولم ينقص، بل بلغه كما جاءه عن الله عز وجل، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 44، 45] ، لو تقول محمد صلى الله عليه وسلم على الله ونسب إليه ما لم يقل لأهلكه الله سبحانه وتعالى، فهذا فيه تزكية للرسول صلى الله عليه وسلم وأنه بلغ البلاغ المبين، فهو مبلغ عن الله سبحانه وتعالى أمين على الوحي؛ ولهذا لما قسم الصدقة، وتكلم من تكلم من المنافقين، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» ، ألا تأمنوني على قسم الصدقات، وأنا أمين من في السماء – وهو الله – على الوحي. قوله: «وسفيره بينه وبين عباده» ، السفير: هو الرسول، فالرسول سفير بين الله وبين عباده لتبليغ الرسالة، أرسله الله سبحانه وتعالى ليبلغ رسالات الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وأؤمن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره. انتهى الشيخ رحمه الله من مسألة الكلام، وبين عقيدته فيها، وأنها عقيدة أهل السنة والجماعة، وأنه يتبرأ من عقيدة الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين خاضوا في كلام الله، وقالوا مقالات شنيعة، ومن مقالة الكفار الذين قالوا: إن محمدا هو الذي اخترع هذا القرآن، وجاء به ونسبه إلى الله عز وجل، هذه مقالة الكفار؛ ولهذا يقول الوليد بن المغيرة: إن هذا إلا قول البشر، قال تعالى مخبرا عنه: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 18 - 25] ، يعني: أن القرآن قول محمد ولم يقله الله جل وعلا. فالجهمية شابهوا الكفار في هذا وقالوا: إن القرآن ليس كلام الله، وإنما هو قول محمد. قال رحمه الله بعد ذلك: «وأؤمن بأن الله فعال لما يريد» ، وهذه مسألة أخرى، وهي الإيمان بأفعال الله - جل وعلا – له أسماء، وله صفات، وله أفعال، وله إرادة ومشيئة، « {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} » ، يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويدبر، هذه أفعال الله - جل وعلا -، وهي بإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] ، يفعل ما يشاء، ويفعل ما يريد. وقوله: «ولا يكون شيء إلا بإرادته» ، ما يكون في هذا الكون فهو من خلقه وإيجاده سبحانه وتعالى وبمشيئته وإرادته، لا يكون في هذا الكون شيء بغير إرادته، أو بغير خلقه، أو أن أحدا يخلق مع الله - جل وعلا -. هذا رد على المعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، وإن الله لم يخلق أفعال العباد، وإنما هم الذين خلقوها مستقلين عن الله - جل وعلا -، وليس لله فيها إرادة ولا مشيئة. فنحن نؤمن بأن أفعال العباد هي خلق الله، وهي كسب العباد، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ، أي: وخلق ما تعملون. قوله: «ولا يخرج شيء عن مشيئته» ، في هذا الكون، لا يمكن يحدث شيء من كفر أو إيمان أو طاعة أو معصية أو غنى أو فقر أو حياة أو موت أو رزق إلا بمشيئته سبحانه وتعالى، مشيئته شاملة وإرادته شاملة، وكل شيء بإرادته ومشيئته، لا كما تقوله المعتزلة: إن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم استقلالا وليس لله فيها أي تدخل، لكونهم هم الذين يخلقون أفعالهم. فيصفون الله - جل وعلا - بالعجز، ويعطلونه عن الخلق والفعل ويجعلونه معه خالقا غيره، وعلى نقيضهم الجبرية الذين يقولون: إن العباد ليس لهم أفعال، إنما هي أفعال الله يحركهم فيها كما تحرك الآلة، ليس لهم إرادة ولا مشيئة، فهم على النقيض من المعتزلة. فالجبرية غلوا في إثبات أفعال الله، وغلوا في نفي أفعال العباد، وقالوا: العباد ليس لهم أفعال، فهم غلوا في إثبات وغلوا في نفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 والقدرية والمعتزلة على العكس غلوا في إثبات أفعال العباد، فهم على طرفي نقيض. أما أهل السنة والجماعة فيقولون: إن الله هو الذي يخلق ويرزق ويدبر؛ كما يشاء وكما يريد، والعباد لهم مشيئة، ولهم إرادة ولهم اختيار، يفعلون الأفعال باختيارهم ومشيئتهم وإرادتهم، فلهم مشيئة ولهم إرادة، لا كما تقوله الجهمية الجبرية، ولكن مشيئتهم ليست مستقلة كما تقول المعتزلة، وهذا كما في قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29] ، فقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ} رد على الجبرية الذين ينفون مشيئة العبد، وقوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} رد على المعتزلة القدرية الذين ينفون إرادة الله ومشيئته، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30] . والعقاب والثواب إنما على أفعال العباد التي فعلوها بإرادتهم ومشيئتهم واختيارهم، يعذبون على المعاصي؛ لأنهم هم الذين فعلوا هذه الأشياء باختيارهم، وكانوا يستطيعون تركها وتجنبها والابتعاد عنها، وهم منهيون عنها، فهم أقدموا عليها باختيارهم، فيعذبون على هذا؛ ولذلك الذي ليس له مشيئة ولا اختيار؛ كالمجنون والصغير والنائم لا يؤاخذ، لأنه ليس له مشيئة ولا إرادة، أما العاقل البالغ فهذا يؤاخذ على أفعاله؛ لأنه يستطيع الفعل والترك، الله أعطاه الإمكانية لهذا وهذا، يستطيع يصلي ويستطيع يزني في آن واحد، وهو يستطيع هذا وهذا، فإن كف عن الزنا وأقام الصلاة آجره الله عز وجل، وإن عكس وأتى الزنا وترك الصلاة عاقبه الله على أفعاله، وعلى إرادته. قوله: «وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره» ، كل هذا رد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 على المعتزلة القدرية، «ولا يصدر إلا عن تدبيره» ، قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] ، وقال: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. كذلك أيضا يؤمن الشيخ – وأهل السنة والجماعة يؤمنون – أنه لا محيد للإنسان عن القضاء والقدر الذي قدره الله سبحانه وتعالى، خلافا للمعتزلة الذين يقولون: العبد يستطيع أن يفعل، وليس لله عليه إرادة ولا سيطرة. وأهل السنة يقولون: إنه يقدر سبحانه وتعالى على العبد امتحانا وابتلاء لأجل أن يثيبه أو يعاقبه، وقد يقدر الأشياء على العبد عقوبة له، فالعبد يفعل الأسباب، والله - جل وعلا – يرتب الأسباب نتائجها، فإن فعل أسبابا طيبة رتب الله عليها نتيجة طيبة، وإنه فعل أسبابا محرمة رتب الله عليها نتيجة سيئة؛ كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7] . فالسبب من قبل العبد، والنتيجة من قبل الله سبحانه وتعالى، وهو يثيب أهل الطاعة وييسرهم لليسرى ويعينهم، ويعاقب أهل المعصية، فيتركهم يتمكنون من هذه الأفعال عقوبة لهم؛ لأجل أن يؤاخذهم ويعاقبهم بسبب نياتهم الخبيثة، وبسبب تصرفاتهم، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10] ، العبد هو المتسبب، والله يقدر عليه نتيجة لعمله هو ونيته هو، إما ثوابا وإما عقابا؛ ولهذا سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بين لهم أن كل شيء بقضاء الله وقدره، «قالوا: يا رسول الله ألا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له» . فأنزل الله هذه الآيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 – 10] ، فلا يجوز للعبد أن يتوقف ويقول: إن كان قدر لي أن أصير في الجنة فأنا في الجنة، وإن كان مقدرا إنه في النار يصير في النار. هذا لا يجوز، والعبد لا يطرد هذا في أفعاله، هل يجلس الإنسان ويترك طلب الطعام والشراب، ويقول: إن كان الله مقدرا لي الطعام فسيأتيني وأنا جالس، وسيأتيني الشراب وأنا جالس؟ لا يقول هذا، بل يقوم ويبحث، إذا جاع يقوم ويبحث عن الطعام، وإذا عطش يقوم ويبحث عن الماء، ولا يقول: إذا كان الله مقدرا لي الطعام والشراب سيأتيني؛ لأن فطرته تقتضي أن يتحرك ويبحث. لو أن إنسانا جاء وضربه أو قتل ابنه هل يسكت ويقول: هذا قضاء وقدر، أو يطلب الانتقام؟ الجواب: يطلب الانتقام، ولم لا يقول: هذا قضاء وقدر، ولا يؤاخذ القاتل أو الضارب، ولا يطالب بالانتقام؟ هذا دليل على أن الأشياء لها أسباب، وأن العبد مطلوب منه فعل الأسباب، ولا يبقى بدون فعل الأسباب، الله ربط المسببات بالأسباب، حتى الطيور والحيوانات لا ترى هذا الرأي، لا تقعد في أوكارها وتقول: سيأتيني الرزق وأنا في وكري. وهذه طيور وحيوانات، بل تروح وتبحث عن الرزق؛ لأن الله فطرها على هذا، أنه لا يحصل لها شيء إلا بعمل وحركة وبحث، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] ، {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] . فهذه المقولة خاسرة وكاذبة – وهي الاحتجاج بالقدر على ترك العمل – والمسلم مطلوب منه أن يعمل العمل الصالح، وإذا أذنب مطلوب منه التوبة، وعنده القدرة على هذا، فهو يقدر أن يفعل، ويقدر أن يترك، فلو ترك العمل عجزا لم يؤاخذه الله، ولكن إن تركه كسلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فهو مؤاخذ على هذا؛ لأنه مفرط، فهناك فرق بين الكسل وبين العجز، العجز لا يؤاخذه الله عليه، ولكن إذا كسل فهذا يؤاخذ؛ لأنه هو الذي فرط، ففطر العباد تقتضي هذا مع دلالة الكتب والسنة. قوله: «لا محيد» : أي لا مفر عن القدر المحدود، ولكن أنتم مأمورون بفعل الأسباب، أما خلق النتائج فهذا بيد الله سبحانه وتعالى، قد تفعل ولا يحصل لك شيء؛ لأن الله لم يقدر لك نتيجة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل» . أنت فعلت السبب، ومسألة حصول المقصود هذا عند الله سبحانه وتعالى، فإذا لم يحصل المقصود فإنك لا تلوم نفسك؛ لأنك فعلت ما تستطيع، وتؤمن بالقضاء والقدر، وتقول: لعل الله اختار لي ما هو أحسن؛ لأنه لو حصل لي المقصود فربما صار ضرر علي، فالله حبسه عني لمصلحتي، ولا تكره ذلك. قوله: «ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور» ، كل الأشياء مكتوبة في اللوح المحفوظ الذي أمر الله القلم فكتب فيه كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، وكان ذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء، كل شيء مكتوب ومقدر ومحدود، ولا بد من وقوعه في وقته، ولكن أنت مأمور بفعل الأسباب، لا تتوقف وتقول: أنا سأتوقف مع القضاء والقدر. هذا لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 يجوز أبدا إلا لإنسان ليس بعاقل، أما العاقل فلا يمكن أن يجلس ويعطل الأسباب ويقول: المكتوب سيقع. فالصواب: أن هذا الشيء مكتوب إذا فعلت السبب، أما إذا لم تفعل السبب فلا يحصل لك شيء، لو لم تتزوج لم ترزق الولد، فالزواج سبب لحصول الولد، وهكذا كل الأسباب. فأنت أيها العبد عليك فعل السبب، وأما النتيجة فهي عند الله سبحانه وتعالى، ولا تأسف إذا لم تحصل النتيجة بل ترضى بقضاء الله وقدره، وتقول: «قدر الله وما شاء فعل» ، وربما يكون هذا خيرا لك، فلا تكره ذلك. وقوله: «في اللوح المسطور» ، الذي فيه كتابة مقادير الأشياء كلها، وهناك مقادير جزئية تؤخذ من اللوح المحفوظ، مثل: الجنين في بطن أمه إذا بلغ أربعة أشهر نفخت فيه الروح، يرسل إليه الملك، ويؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. هذا مأخوذ من اللوح المحفوظ من الكتابة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت. من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر ، وقد تكرر ذكره في القرآن الكريم، ففي أول سورة البقرة قوله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] ، فمن صفات المتقين أنهم يوقنون باليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر من البر، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177] ، فيؤمنون بالله واليوم الآخر، وتكرر في القرآن الكريم، وسمي باليوم الآخر؛ لأنه بعد الدنيا، الدنيا هي اليوم الأول، ويوم القيامة هو اليوم الآخر، سمي يوم القيامة لقيام الناس من قبورهم لرب العالمين. وهذا الركن من أركان الإيمان خالف فيه كثير من الكفرة، فالكفار الذين بعث إليهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم يكفرون باليوم الآخر، {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] ، {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] ، فالذي ينكر اليوم الآخر، وينكر البعث كافر بالله عز وجل الكفر المخرج من الملة؛ لأنه جاحد لركن من أركان الإيمان؛ ولأنه مكذب لله ولرسوله، بل لجميع الرسل، مكذب لما علم من الدين بالضرورة، وليس لهم حجة أو شبهة إلا أنهم يقولون: لا يمكن هذا؛ لأننا صرنا رفاتا وعظاما فمن يحيي العظام وهي رميم؟ {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49] ، {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] ، إلى غير ذلك. يستبعدون قدرة الله على أن يحيي العظام وهي رميم، وأن يعيدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وهي تراب، ويقولون: {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية: 25] ، يتحدون الله فيقولون: إذا كان هناك بعث فآباؤنا ماتوا فأحيوهم ونحن ننظر إلى ذلك {ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، الله - جلا وعلا – أخبر أنه لا يغير سنته سبحانه من أجل استعجال الكافرين، الله قضى بأنه لا يكون البعث إلا في وقته، فلا يعجله من أجل استعجال الكافرين، {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 26] ، فالله قضى بأن البعث له معاد لا يتقدم، ولا يتأخر، والله - جل وعلا – لا يستفزه أحد، ولا يغير وعده وتوقيته سبحانه وتعالى من أجلهم. وكذلك يتحدون الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: متى قيام الساعة؟ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] ، {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 63] ، فقيام الساعة لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب، فلما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة أصحابه «قال: أخبرني عن الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، يعني: أنا وأنت سواء، لأننا لا نعلمها؛ لأن هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ثم ما هي فائدتهم إذا عرفوا وقت قيامها؟ ليس لهم فائدة في هذا، إنما الفائدة في الاستعداد والعمل، وأما متى تقوم الساعة فهذا ليس لهم فيه فائدة، وإلا لبينه الله لهم، ولكن هذا من باب المكابرة والعناد، وإلا فمعلوم أنه لو جاءك أحد، وقال: إنه مقبل عليك عدو إن لم تستعد للقائه وتحذر منه فسوف يقتلك ويأخذك. هل من الحكمة أنك تقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 متى يأتي هذا العدو؟ هذا ليس من الحكمة، ولا من العقل، الحكمة أن تستعد وتكون على أهبة الاستعداد متى ما جاء، كذلك قيام الساعة، الحكمة أنك تستعد، وأما وقت قيامها فهذا ليس لك فيه مصلحة من قريب أو بعيد {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109] ، الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم هذا، ولا أحد يعلم هذا إلا الله - جل وعلا – لحكمة أخفاها عن جميع خلقه، لا يعلمها إلا هو. كذلك من شبههم أنهم يقولون: هذه الأجسام صارت ترابا، نخرة {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} [النازعات: 11] ، فكيف تعود فيها الحياة بعد أن كانت نخرة ورميما؟ {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49] ، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ، يستبعدون هذا، الله - جل وعلا – رد عليهم بردود، منها: أن الذي بدأ خلقهم قادر على أن يعيدهم من باب أولى، الذي يقدر على البداية قادر على الإعادة من باب أولى، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] ، فالله عز وجل كل شيء عليه هين، ولكن هذا من باب ضرب المثل للعقول، فالعقول تدري أن الإعادة أسهل من البداءة، فلو يأتي شخص ويصنع جهازا مركبا من أدوات ومسامير ومن أشياء هائلة ودقيقة، ثم بعد ذلك ينتقض هذا الجهاز ويتشتت ويتقطع كل أداة على حدة، وكل مسمار على حدة، أليس الذي ركبه في الأول قادر على أن يركبه بسرعة مرة ثانية؟ الجواب: نعم؛ لأنه عرفه، وعرف مكان كل أداة ومكان كل مسمار، فالمهندس الذي ركبه في الأول سهل عليه أن يعيده وينظمه من جديد، هذا من ناحية العقل، الذي بدأ الشيء قادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 على إعادته من باب أولى؛ ولهذا قال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} نسي أن الله خلقه من العدم، {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79] ، فالذي قدر على البداءة قادر على الإعادة من باب أولى، هذا في نظر العقول وإلا فالله - جل وعلا – لا يعجزه شيء، ولكن هذا من باب إفحام هؤلاء. وكذلك الله - جل وعلا – احتج بأنه يحيي الأرض بعد موتها، فأنت تمر على الأرض هامدة ليس فيها شيء، جرداء بيضاء ليس فيها أي عود أو أي ورقة، فينزل عليها الغيث، ثم تربو وتنتفخ طبقتها، ثم تتفتق عن النبات، ثم بعد فترة وجيزة تصبح روضة خضراء فيها من أنواع النباتات والزهور والثمار، وكانت في الأول جرداء يابسة، من الذي أعادها وأحياها؟ الذي قدر على إحياء الأرض قادر على إحياء الأجسام: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] ، الذي يحيي الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأموات بعد موتهم وإعادتهم كما كانوا. فهذا من أدلة البعث، إحياء الأرض بعد موتها بالنبات. ثم هذه الحبة اليابسة إذا سقاها الله بالماء انفرجت عن عروق وعن ورق وعن سيقان، ثم في النهاية يكون لها سنابل وتثمر، وهي في الأول حبة يابسة أخرج الله منها هذا النبات العجيب، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] ، فالنطفة مثل البذرة، نطفة من الماء يخلط فيها ماء الرجل وماء المرأة، ثم تتحول إلى علقة: أي إلى دم، ثم يتحول الدم إلى مضغة، أي قطعة لحم، ثم تتحول قطعة اللحم إلى أعضاء وعروق وسمع وبصر وحواس، ثم تنفخ فيه الروح، ثم يحيي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 37 – 40] . فالذي قدر على تحويل هذه النطفة من ماء الأمشاج – يعني: المختلط من ماء الذكر وماء الأنثى – إلى إنسان، هذا الذي خلق هذا الإنسان من هذا الماء وأنشأه قادر على إحيائه بعد موته، وإذا كانوا يقولون: إنه يضيع في الأرض ويتفتت. فالله - جل وعلا – يقول: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] ، فالتراب الذي تحول من هذا الإنسان يعاد لحما ودما وعظاما كما كان، هذا الرفات يعاد ويتكون كما كان، ولا يضيع منه شيء، حتى ولو فني كله وصار ترابا فهناك شيء لا يفنى، وهو عظمة يسيرة وهي عجب الذنب، لا يفنى ومنه يركب خلق الإنسان. ثم أيضا لو لم يكن هناك بعث وحساب وجزاء للزم العبث في حق الله - جل وعلا -، وأنه يخلق الخلق للفناء فقط، وليس لحياتهم وأعمالهم نتيجة، خلقهم وأوجدهم واعتنى بهم، وهم يعملون، ومنهم من يعمل أعمالا صالحة، ويموت ولا ينال من جزائها شيئا، ومنهم من يعمل أعمالا قبيحة، ومعاصي، وكفرا، وإلحادا، ويموت ولا ينال من جزائه شيئا، هل ينتهي عند هذا؟ الجواب: لا، هذا فيه طعن في عدل الله - جل وعلا -: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36] ، الله لا يجعل المسلمين كالمجرمين كلهم يموتون ولا ينالون من جزاء أعمالهم شيئا، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 [ص: 27، 28] ، فلا يكون فيه بعث وجزاء، لا جزاء للمحسن على إحسانه ولا للمسيء على إساءته، هذا من باب العبث أن الله يخلق خلقا ويتركه ولا يصير له نتيجة، ويعملون أعمالا سيئة أو صالحة ولا يكون لها ثمرة ولا نتيجة، هذا من العبث، ومن باب الطعن في عدالة الله - جل وعلا -: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116] ، تعالى الله عن ذلك أن يكون خلق هذا الخلق ويتركهم يموتون ولا يصير لأعمالهم نتيجة، ولا يتميز المؤمن من الكافر، بل ربما يكون الكافر منعما في هذه الدنيا وهو على المعاصي والكفر، ويكون المؤمن مضيقا عليه في هذه الدنيا ولا ينال من جزائه شيئا، هذا يلزم فيه الطعن في عدالة الله - جل وعلا -، ويلزم عليه أنه خلق الخلق عبثا لا نتيجة لأعمالهم، فهذا من الطعن في حكمة الله - جل وعلا -، وفي عدل الله سبحانه وتعالى، فهذا من أدلة البعث ذكرها الله في القرآن الكريم في مواضع متعددة، فالإيمان بالبعث ركن من أركان الإيمان الستة، تكرر ذكره في القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فأؤمن بفتنة القبر ونعيمه. هذا أول ما يكون في اليوم الآخر، إذا وضع الميت في قبره، وانتُهي من دفنه، وتولى عنه مشيعوه، وأنه ليسمع قرع نعالهم، يأتيه ملكان فيقعدانه فتعاد روحه في جسده، ويحيى حياة برزخية ليست مثل حياته في الدنيا، حياة برزخية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فيسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فالمؤمن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه مات على الإيمان فيبعث عليه، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] . فإذا أجاب بهذه الإجابات نادى مناد: « «أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا من الجنة» » ، ويوسع له في قبره مد بصره حتى يرى منزله في الجنة، ويأتيه من روحها وطيبها، ويصبح قبره روضة من رياض الجنة، ويقول: يا رب أقم الساعة حتى أعود إلى أهلي ومالي. وأما المنافق الذي كان يعيش في الدنيا على الشك، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ويقرأ القرآن، ويتعلم العلم، ولكن ليس في قلبه إيمان، إنما يعمل هذه الأشياء لمصالح دنيوية، ليعيش مع الناس، وهو لا يؤمن بها في قلبه، {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] ، فهذا لا يستطيع الجواب وإن كان في الدنيا يحفظ كل المتون، ويحفظ كل الأشعار والنحو والتفسير والحديث، ما دام ليس فيه إيمان لا يستطيع الإجابة في القبر في هذه اللحظة، كلما سئل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قال: ها ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته – يعني: مثلما يقوله الناس من غير إيمان في قلبه، وإنما يقول ذلك مجاملة ومسايرة للناس – فيقال له: لا دريت ولا تليت. فيضرب بمرزبة من حديد، لو ضربت بها جبال الدنيا لذابت، ثم يضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه، ويصبح قبره حفرة من حفر النار، فيقول: يا رب لا تقم الساعة. لأنه علم أنه ما بعد القبر أشد منه، فيقول: يا رب لا تقم الساعة. هذا ما يكون في القبر، والإيمان بعذاب القبر أو نعيمه حتم واجب؛ لأنه متواتر في القرآن والسنة بأدلته، فيجب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، من جحده متعمدا فهو كافر، أما إن كان مقلدا أو متأولا فهذا ضال، ولكن من أنكره بعد العلم به متعمدا فهو كافر، وقد أنكرته المعتزلة العقلانيين؛ لأنهم يعتمدون على عقولهم، ويقولون: لو فتحنا القبر وجدناه كما وضعناه ليس فيه جنة ولا نار. فنقول: أنتم في عالم الدنيا وهو في عالم الآخرة، ويأتيه العذاب أو النعيم وأنتم لا تشعرون بذلك؛ لأن هذا من أمور الآخرة التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولا تتسع العقول إلى إدراك ذلك، وإنما يعتمد على ما صح به النقل، وتواتر به الخبر فنؤمن به ولا نتدخل؛ لأن هذا من عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. أنت تشاهد الناس الآن بعضهم في سرور وبهجة وبعضهم في هم وغم، وهم كلهم يمشون ويأكلون ويشربون وأنت لا تدري عن هذا ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 عن هذا، لا تدري عن المسرور ولا عن المغتم؛ لأن هذه أمور باطنة لا يعلمها إلا الله سبحانه. فقوله: «فأومن بفتنة القبر» ، فتنة القبر يعني: الاختبار؛ لأنه يأتيه الفتانان، الملكان يسألانه ويختبرانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة عراة غرلا، تدنو منهم الشمس. ثم بعد القبر: البعث، وهو: إعادة الأرواح إلى الأجساد، وقد أنكره المشركون والملاحدة، وقد مر بنا شيء من البراهين على ثبوته في القرآن الكريم، وهي أدلة عقلية مذكورة في القرآن، منها: * أن القادر على البداءة قادر على الإعادة من باب أولى، هذا دليل عقلي ودليل سمعي أيضا، دليل عقلي سمعي. * ومنها أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأجسام بعد موتها. * ومنها أن الله سبحانه منزه عن العبث ومنزه عن الظلم، فلا بد من إقامة العدل بين عباده، وهذا إنما يكون في الآخرة، ولا يكون في الدنيا. والقيام من القبور، قال الله - جل وعلا – فيه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68] ، صعق يعني: مات، هذه نفخة الصعق، فيصعق كل من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، قيل: الملائكة، وقيل: الحور العين. ثم يؤمر فينفخ النفخة الثانية، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين، تطير الأرواح إلى أجسادها في النفخة الثانية {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} تشقق الأرض عنهم: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق: 44] ، يخرجون من القبور ويسيرون إلى المحشر كأنهم جراد منتشر، {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 يعني: من القبور {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 6، 7] ، يكسون الأرض من كثرتهم، {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي} منقادين لا يتأخر أحد، لا الكافر ولا المسلم، لا يتأخر أحد منهم ولا يستطيع التأخر، وفي الآية الأخرى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] ، نصب: علم يذهبون إليه ويسرعون إليه، تسوقهم الملائكة ولا أحد يتخلف. وذلك أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بعث من في القبور أرسل عليها نوعا من المطر ينزل من السماء لا يمنع منه شيء، لا السقوف ولا غيرها، ينفذ إلى الأرض، ويدخل إلى الأجسام في القبور، فتنبت مثلما ينبت الحب، وتنبني الأجسام كما كانت، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] ، {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] ، ينادي مناد فيقول: أيضا العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء. فيجتمع الإنسان من الأرض، يجتمع بدنه كما كان إلا أنه ليس فيه روح، حتى إنه لو مر عليه أحد يعرفه في الدنيا لقال: هذا فلان. ما تغير منه شيء. ثم يؤمر إسرافيل فينفخ في الصور فتتطاير الأرواح؛ لأن الأرواح مجموعة في الصور، تتطاير كل روح إلى جسدها، ثم يحيون ويؤمرون بالمسير إلى المحشر، يقومون من قبورهم ويسيرون إلى المحشر، ثم يجتمعون في المحشر، فيقفون على أقدامهم في ضنك وضيق وحر شديد، وتدنو الشمس من رؤوسهم ويأخذهم العرق والزحام الشديد؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لأنه يجتمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، فيجتمعون ويعرقون عرقا شديدا، ويختلفون في العرق، فمنهم من يلجمه العرق، ومنهم من يأخذه إلى نصفه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ..... إلى آخره. والوقوف يكون خمسين ألف سنة، شاخصة أبصارهم حافية أقدامهم، حفاة ليس عليهم نعال، عراة ليس عليهم ثياب، غرلا يعني: غير مختونين، ويقفون في هذا المحشر هذا الوقف الطويل يجمع الله سبحانه وتعالى الأولين والآخرين. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن ثلاث نفخات: النفخة الأولى: نفخة الفزع، في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] . النفخة الثانية: نفخة الموت، في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] . النفخة الثالثة: نفخة البعث في سورة الزمر أيضا: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] . قوله: «تدنو منهم الشمس» حتى تكون بمقدار الميل، ولكن المؤمنون يكونون في ظلال، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] ، ما يحسون بها، {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [الأنبياء: 103] ، فالمؤمنون في راحة في هذا اليوم، {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26] ، على الكافرين خاصة، {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] ، يعني: الصور، {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9، 10] ، أما المؤمنون فيكون يسيرا عليهم، ويكونون في ظلال باردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 هذا الحشر أنهم يحشرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، صعيد واحد متساو ليس فيه ارتفاعات وانخفاضات {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 105 - 108] ، يقومون في هذا الصعيد المستوي الذي ليس فيه انخفاضات ولا ارتفاعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وت نصب الموازين ، وتوزن بها أعمال العباد: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] ، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 103] ، وتنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله. الموازين: موازين الأعمال، وقد ذكرها الله في القرآن {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] ، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 103] ، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6 - 11] . فالموازين ثابتة في القرآن، موازين حقيقية لها كفتان، توضع الحسنات في كفة، وتوضع السيئات في كفة، فإن رجحت حسناته فاز ونجا، وأفلح فلاحا لا شقاء بعده، وإن ثقلت سيئاته فقد خاب وخسر، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 9] ، وفي الآية الأخرى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} ، وفي قوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} . قال: «فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله» ، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] ، فرح به ويريه الناس {اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} يعني: في الدنيا، ظننت يعني: أيقنت أني ملاق حسابي، فاستعددت لذلك، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 [الحاقة: 21 - 24] ، الخالية يعني: الماضية في الدنيا. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] ، هذا يقول: يا ليتني ما رأيت هذا الكتاب، {يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة: 25 - 27] ، القاضية: يعني: الموت، ليتني مت ولم آت هنا ولم أبعث {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة: 28] ، في الدنيا {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 29] ، يعني: ليس له حجة على الله جل وعلا، ثم يقول الله - جل وعلا – للملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة: 30] ، إلى آخر الآيات. هذا حال من أحوال القيامة في هذه السورة، وهو متكرر في القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وأؤمن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا. وأؤمن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم، يمر به الناس على قدر أعمالهم. كذلك مما يكون في اليوم الآخر حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حوض طوله مسيرة شهر وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من يشرب منه شربة واحدة لا يظمأ بعدها أبدا، «ترد أمته عليه الحوض فيسقيهم صلى الله عليه وسلم، ويرد عليه أناس فيمنعون، فيقول: يا رب أصحابي، فيقال له: لا تدري ماذا أحدثوا بعدك» . فيمنعون – والعياذ بالله – من الورود إلى الحوض، وهم الذين يحدثون في الدين ويبتدعون في الدين، يمنعون من ورود الحوض. قوله: «بعرصة القيامة» ، العرصة: هي المكان الواسع. ومما يكون في يوم القيامة: الحساب، يحاسب الله - جل وعلا – الخلائق يوم القيامة، فالكافر يحاسب حساب تقرير، ليس حساب موازنة بين الحسنات والسيئات؛ لأنه ليس له حسنات، وإنما يقرر بأعماله الكفرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وأما المؤمنون فيحاسبون على أعمالهم؛ لأنه لهم حسنات ولهم سيئات، ومنهم من لا يحاسب، ويدخل الجنة بغير حساب؛ كما في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا وهو العرض {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 8، 9] ، ومنهم من يناقش الحساب، يحاسب حساب مناقشة. قال رحمه الله: «وأؤمن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم، يمر به الناس على قدر أعمالهم» ، بعد هذه الأهوال كلها هناك الصراط منصوب على متن جهنم، والصراط: هو الطريق، وهو ما يسمى بالقنطرة، على متن جهنم؛ أي على وسط جهنم، يمر الخلائق كلهم على هذا الصراط، وهو أدق من الشعر، وأحد من السيف، وأحر من الجمر، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم تجري بهم أعمالهم فوق الصراط: * فمنهم من يمر كالبرق الخاطف. * ومنهم من يمر كالفرس الجواد. * ومنهم من يمر كراكب الإبل. * ومنهم من يعدو عدوا. * ومنهم من يمشي مشيا. * ومنهم من يزحف زحفا. * ومنهم من يخطف ويلقى في جهنم. * وهذا مذكور في القرآن، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} كل الناس يردون جهنم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 - 72] ، فإذا تجاوزوا الصراط أوقفوا للقصاص، يقتص لبعضهم من بعضهم، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وأؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أول شافع وأول مشفع. قوله: «أؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم» ، «أؤمن» معناه: أصدق وأعتقد حصول شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. و الشفاعة : مأخوذة من الشفع، وهو ما كان أكثر من واحد، فالواحد يقال له: وتر، والاثنان يقال لهما: شفع. قال تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] ، فالشفع: هو ما كان أكثر من فرد، وأما الوتر: فهو الفرد. هذا في اللغة. وأما في الاصطلاح، فالشفاعة: يراد بها الوساطة للمحتاج في قضاء حاجته عند من يملكها؛ لأن طالب الحاجة واحد، فإذا انضم إليه واسطة صار شفعا بعد أن كان واحدا؛ لذلك سميت الشفاعة، وبعضهم يقول: الشفاعة: هي طلب الخير للغير. والشفاعة على قسمين: * شفاعة عند الله. * وشفاعة عند الخلق. والشفاعة عند الخلق تنقسم إلى قسمين: * شفاعة حسنة. * وشفاعة سيئة. قال تعالى {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85] ، فإذا كانت الشفاعة في تحصيل شيء مباح وشيء نافع فهي حسنة؛ كما لو شفعت بجاهك عند السلطان أو عند ولي الأمر في قضاء حاجة أخيك، فتشفع لإخوانك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 تحصيل مطالبهم المباحة ومصالحهم النافعة، فهذه شفاعة حسنة؛ لأنها من التعاون على البر والتقوى، «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء» ، فقوله: «اشفعوا تؤجروا» فيه بيان أن الشفاعة الحسنة فيها أجر؛ لما فيها من النفع للمحتاجين. وأما الشفاعة السيئة: فهي الشفاعة في أمر محرم، كأن تشفع في إسقاط حد من حدود الله لمن وجب عليه أن لا يقام عليه الحد، فهذه شفاعة محرمة، وملعون من قام بها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع» ، ولما «أراد أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يشفع في امرأة وجب عليها حد السرقة، وشق ذلك على قومها، فطلبوا من أسامة أن يشفع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم قطع يدها، فشفع أسامة وكلم الرسول صلى الله عليه وسلم فغضب عليه غضبا شديدا، وقال: أتشفع في حد من حدود الله، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها» ، وفي الحديث: «لعن الله من آوى محدثا» ، آواه يعني: حماه من إقامة الحكم الشرعي عليه، فالشفاعة السيئة هي ما كانت في شيء محرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أما الشفاعة عند الله - جل وعلا – فهي ثابتة في القرآن وفي السنة، وذلك بأن الله يكرم بعض عباده بأن يدعو لأخيه بما يخلصه من العقاب يوم القيامة، تكريما للشافع ورحمة بالمشفوع، فهذه هي الشفاعة عند الله، وهي: أن يأذن الله - جل وعلا – لبعض أوليائه في أن يدعو الله بأن يتجاوز عمن استوجب العقوبة ويعفو عنه، وهذه ثابتة في القرآن، ولكن بشرطين: الشرط الأول: أن تطلب الشفاعة من الله - جل وعلا – ويأذن الله بها، فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، بخلاف المخلوقين، فقد يشفع الشفعاء عندهم ولو لم يأذنوا، بل ربما يكرهون ذلك، أما الله - جل وعلا – فإنه لا يشفع عند أحد إلا بإذنه، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . الشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه من أهل الإيمان، ولكن عنده ما يوجب عليه العذاب لكبيرة من كبائر الذنوب ارتكبها، فهو من أهل الإيمان من أصحاب الجرائم التي دون الشرك، وأما المشرك فإن الله لا يرضى أن يشفع فيه، ولا تقبل فيه شفاعة، قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] ، وقال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ} يعني: الملائكة {إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ارتضى الله قوله وعمله وهو المؤمن، أما الكافر فإن الله لا يرتضيه، فلا تنفعه الشفاعة، قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] . فإذا توفر الشرطان: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع فيه، فالشفاعة حق، وإذا اختل شرط فهي شفاعة مردودة، قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، هذا الشرط الأول، {وَيَرْضَى} [النجم: 26] ، هذا الشرط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الثاني، فهذه هي الشفاعة عند الله، تجوز بشرطين، فإذا توفر الشرطان فالشفاعة صحيحة ومقبولة عند الله جل وعلا، وإذا اختل شرط فهي مردودة ولا تقبل. والناس انقسموا في أمر الشفاعة إلى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط: الطرف الأول: الذي نفوا الشفاعة وهم الخوارج والمعتزلة، وقالوا: إن من استوجب النار لا بد أن يدخلها، بناء – عندهم – على أنه لا يستوجب النار إلا كافر؛ لأنهم يكفرون أصحاب الكبائر من هذه الأمة، فيقولون: لا تنفعهم الشفاعة، فمن استوجب النار لا بد أن يدخلها، ومن دخلها فإنه لا يخرج منها. هذا مذهبهم، فينفون الشفاعة التي ثبتت وتواترت بها الأدلة. الطرف الثاني: الذين غلوا في إثبات الشفاعة، وهم القبوريون والخرافيون الذين يتعلقون بالأموات، ويطلبون منهم الشفاعة، ويدعونهم، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، وإذا قيل لهم: هذا شرك، قالوا: هذا طلب للشفاعة؛ كما قال المشركون الأولون: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ، فهم غلوا في إثبات الشفاعة حتى طلبوها من غير الله، طلبوها من الموتى والمقبورين، وطلبوها أيضا لمن لا يستحقها وهم أهل الشرك والكفر بالله عز وجل. الوسط: أهل السنة والجماعة توسطوا، كما هي عادتهم: الوسطية في كل الأمور – ولله الحمد – فلم ينفوا الشفاعة مطلقا كما نفتها الخوارج والمعتزلة، ولم يثبتوها مطلقا كما غلا في إثباتها القبوريون والخرافيون. هذا مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة؛ فمما يجري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 في يوم القيامة: الشفاعة؛ ولهذا ساقها المصنف رحمه الله في جملة ما يكون في اليوم الآخر، أنه يؤمن بكل ما يكون في اليوم الآخر، ومنه الشفاعة. والشفاعة ستة أنواع: منها ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو مشترك بينه وبين غيره من الملائكة، والأولياء والصالحين، والأطفال الأفراط الذين يشفعون. فأما الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو: الشفاعة الأولى: الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود، وذلك حينما يتقدم الناس في الموقف، موقف الحشر، ويطلبون من الأنبياء أن يشفعوا لهم عند الله في أن يريحهم من الموقف؛ لأنه طال عليهم الوقوف، مع ما هم فيه من الحر والضيق وطول الوقوف، حيث يقفون خمسين ألف سنة، فيتقدمون ويطلبون من آدم عليه السلام أبي البشرية أن يشفع لهم عند الله في أن يفصل بينهم ويريحهم من الموقف، فيعتذر آدم عليه السلام، ثم يطلبونها من نوح عليه السلام أول الرسل، فيعتذر، فيطلبونها من إبراهيم عليه السلام فيعتذر، ويطلبونها من موسى عليه السلام فيعتذر، ويطلبونها من عيسى عليه السلام فيعتذر، ثم يطلبونها من محمد صلى الله عليه وسلم فيستعد لها، ويقول: «أنا لها، أنا لها» ، بعد ما يطلبونها من أولي العزم كلهم ويعتذرون إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه يقبل أن يشفع لهم عند الله، فيخر ساجدا تحت العرش، فيدعو ربه عز وجل ويحمده، ولا يزال كذلك حتى يقال له: «يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع» . فيشفع عند الله في أهل المحشر، في أن يفصل الله بينهم بحكمه، ويريحهم من الموقف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ويقبل الله شفاعته، فهذا هو المقام المحمود، الذي قال الله - جل وعلا – فيه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] ، وهو الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، إظهارا لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العظيم. الشفاعة الثانية: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة أن يدخلوها، وتفتح لهم، فهو أول من يستفتح باب الجنة عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال - جل وعلا -: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] ، لا تفتح لهم أول ما يأتون، بل عطف الفتح على مجيئهم؛ لأنه لا يفتح لهم إلا بعد الشفاعة، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أما الكفار – والعياذ بالله – فمن حين يصلون إلى النار تفتح لهم أبوابها، يدفعون إليها ويدعون إليها دعا – والعياذ بالله - {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] ، إلى آخر الآيات، هذه الشفاعة الثانية للرسول صلى الله عليه وسلم والخاصة به. الشفاعة الثالثة: أنه يشفع صلى الله عليه وسلم لأناس من أهل الجنة في رفعة منازلهم في الجنة. الشفاعة الرابعة: شفاعته في عمه أبي طالب، الشفاعة لا تنفع الكفار، ولكن نظرا لأن أبا طالب حمى النبي صلى الله عليه وسلم ودافع عنه، وصبر معه على الضيق، وأحسن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يوفق للدخول في الإسلام، وعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام وحرص على أن يدخل في الإسلام، ولكنه أبى؛ لأنه يرى أنه دخوله في الإسلام فيه مسبة لدين آبائه، حيث أخذته الحمية الجاهلية لدين آبائه، وإلا فهو يعترف أن محمدا على الحق، وأن دينه هو الحق، ولكن منعته الحمية والأنفة؛ لأنه لو أسلم بزعمه لصار ذلك سبة على قومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وهو القائل: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لرأيتني سمحا بذاك مبينا فقد منعته الملامة وحذر المسبة على قومه، ولقد جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في سياق الموت، «وقال له: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، وكان عنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا عليه، وقالا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: هو على ملة عبد المطلب. ومات على ذلك، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] » ، ونزل في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] . فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع في إخراجه من النار؛ لأنه مخلد في النار، ولكن يشفع في أن يخفف عنه العذاب فقط، ويجعل في ضحضاح من نار، وفي أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، فلا يرى أن أحدا أشد منه عذابا، مع أنه أخف أهل النار عذابا. فهذه الشفاعات خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم. الشفاعة الخامسة: مشتركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الملائكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 والنبيين والأولياء والصالحين وأفراط المؤمنين، وهي الشفاعة في أهل الكبائر التي دون الشرك، يشفعون لهم ألا يدخلوا النار، وإن دخلوها يشفعون لهم أن يخرجوا منها، وهذه هي التي أنكرها الخوارج والمعتزلة، وقالوا: إن من استحق دخول النار فإنه لا بد أن يدخلها، ومن دخلها فإنه لا يخرج منها. فقوله: «أؤمن» يعني: أصدق وأعتقد «بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم» الخاصة به، وكذلك يؤمن بالشفاعة المشتركة؛ لأن هذا مذهب أهل السنة والجماعة. «وأنه أول شافع» كما في الحديث، حديث الموقف، «وأول مشفع» فهناك شفعاء ولكن هو أول الشفعاء عليه الصلاة والسلام، وهو أول من يستجاب له من الشفعاء، وفي هذا رد على الذين يقولون: إن الشيخ ينكر الشفاعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى؛ كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] ، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] . وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب؛ كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] . ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال؛ كالخوارج والمعتزلة الذين يكفرون أصحاب الكبائر، ويقولون: إنهم خالدون مخلدون في النار لا تنفعهم شفاعة الشافعين. أما أهل السنة فيثبتون الشفاعة، ولكن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الشفعاء لا تكون إلا بشرطين، ذكرهما الله في القرآن: الشرط الأول: إذن الله للشافع أن يشفع، وليس كما يكون من ملوك الدنيا الذين يشفع عندهم الشفعاء ولو لم يأذنوا. الشرط الثاني: أن يرضى عن المشفوع فيه، بأن يكون من أهل التوحيد، ومن أهل الإيمان، ولو كان عنده ذنوب يستوجب بها دخول النار، أو دخل بها النار، فهذا مؤمن تنفعه الشفاعة بإذن الله، أما الكافر فلا تنفعه الشفاعة، إلا ما استثني من شفاعة أبي طالب، وهذه خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وقوله: «وهو لا يرضى إلا التوحيد» ، لا يرضى عن المشرك، وإنما يرضى لأهل التوحيد، «ولا يأذن إلا لأهله» ، ولا يأذن للشفعاء إلا في أهل التوحيد. «وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب» . قال تعالى: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 40 - 43] ، من الأسباب التي أدخلتهم النار: أنهم لم يكونوا من المصلين، فدل على أن من ترك الصلاة متعمدا فهو كافر مخلد في النار، وفي هذا رد على الذين يقولون: إن ترك الصلاة كفر أصغر. بل هو كفر أكبر بدليل هذه الآية: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} يعني لا يصلون ولا يدفعون الزكاة، والصلاة والزكاة قرينتان في كتاب الله، فدل على أن ترك الصلاة كفر من وجهين: الوجه الأول: أن الله ذكر ترك الصلاة مع هذه الأمور التي هي كفر بالإجماع: التكذيب بيوم الدين هذا كفر بالإجماع، منع الزكاة جحدا لوجوبها هذا كفر بالإجماع، الخوض في آيات الله عز وجل هذا من الكفر بالإجماع، فدل على أن ترك الصلاة كفر؛ لأنه قرن مع هذه الأشياء. الوجه الثاني: قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ، فدل على أن تارك الصلاة عمدا لا تقبل فيه الشفاعة، وهذا إنما يكون في الكافر، فلو كان مؤمنا لقبلت فيه الشفاعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وأؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان. مما يكون يوم القيامة: الجنة والنار، الجنة التي أعدها الله للمتقين، والنار التي أعدت للكافرين، داران لا بد من ورودهما، وهما الداران الباقيتان، دار القرار: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] ، ليس فيها ارتحال ولا انتقال، بل أهلها يستقرون فيها أبد الآباد، فأهل الإيمان يكونون إلى الجنة التي أعدت للمتقين، وأهل النار يكونون إلى النار التي أعدت للكافرين. والإيمان بالجنة والنار في ثلاث مسائل ذكرها هنا: المسألة الأولى: أنهما مخلوقتان، قال تعالى في كل منهما {أُعِدَّتْ} ، أي: خلقت وهيئت، فهما مخلوقتان من جملة الخلق. المسألة الثانية: أنهما موجودتان، قال رحمه الله: «وأنهما اليوم موجودتان» ردا على الذين يقولون: إنما توجدان يوم القيامة، أما الآن ليس هناك جنة ونار. وهذا باطل فإنهما الآن موجودتان، ودليل ذلك: أولا: أن الله قال في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، وقال في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] ، فقوله: أعدت هذا فعل ماض يدل على أنهما قد خلقتا، لم يقل: تخلق أو تعد، بل قال: أعدت، هذه حكاية للماضي. ثانيا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن ما يصيب الناس من شدة الحر، أو من شدة البرد أنه من جهنم، وجهنم لها نفسان: * نفس في الصيف، وهذا أشد ما يجده الناس من الحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 * ونفس في الشتاء، وهذا أشد ما يجده الناس من البرد. فدل على أنهما موجودتان، وأن هذا الحر وهذا البرد من النار والعياذ بالله. ثالثا: «أن الصحابة كانوا جالسين عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعوا وجبة، يعني: شيئا سقط، قال: أتدرون ما هذا؟ ، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها» ، فهذا دليل على أن النار موجودة. رابعا: - جل وعلا – ذكر أن الميت إذا وضع في قبره يفتح له باب إلى الجنة، ويأتيه من روحها وطيبها، وأن الكافر والمنافق يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من سمومها وحرها، فهذا دليل على أنهما موجودتان الآن. المسألة الثالثة: أنهما لا يفنيان، ولا يبيدان أبد الآباد، النار تبقى، وأهلها يبقون، والجنة تبقى، وأهلها يبقون فيها إلى ما لا نهاية. وفي هذا رد على الذين يقولون: إن الجنة والنار تفنيان ولا يبقى إلا الله؛ لأنهما لو بقيتا لشاركتا الله في البقاء. فنقول لهما: هناك فرق بين بقاء الخالق، وبقاء المخلوق، بقاء الخالق ذاتي، وأما بقاء المخلوق فهو بإبقاء الله - جل وعلا – له، ففرق بين هذا وهذا. ومنهم من يقول: إن الجنة تبقى، ولكن النار تفنى. وهذا أيضا قول خطأ، والصواب: أنهما باقيتان أبد الآباد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته. هذه المسألة من مسائل يوم القيامة أيضا؛ لأن الشيخ لا زال رحمه الله يعدد ما يكون يوم القيامة، ومن ذلك: «أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم» ، إكراما لهم في الجنة، ولا يجدون أطيب من رؤيتهم لله عز وجل ولا ألذ من رؤيتهم لربهم عز وجل. وقد جاء هذا في القرآن، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، الحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله؛ كما في «صحيح مسلم» ، وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] ، المزيد: هو رؤيتهم لوجه الله سبحانه وتعالى؛ كما جاء في التفسير. وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] {نَاضِرَةٌ} الأولى بالضاد، من النضرة وهي البهاء والحسن، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بالظاء المشالة، أي: ناظرة بأبصارها، {إِلَى رَبِّهَا} عداه بـ «إلى» ، وإذا عدي النظر بـ «إلى» فمعناه المعاينة بالأبصار، فأبصار أهل الإيمان تنظر إلى ربها جل وعلا. وكذلك قوله تعالى في الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] ، أي: لا يرون الله يوم القيامة، فدل على أن المؤمنين يرون الله؛ لأنه إذا حجب عنها الكفار، دل على أن المؤمنين لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 يحجبون عنها؛ كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، وإلا لم يكن هناك فرق، لو كان الله لا يرى يوم القيامة لما خص الكفار، وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] . وأما الأحاديث فكثيرة جدا ومتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استقصاها الإمام العلامة ابن القيم في كتابه: «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» ؛ أي: استقصى الأحاديث الواردة في الرؤية، وأنها بلغت حد التواتر. أما المعتزلة ومن سار في ركابهم فإنهم ينفون الرؤية كعادتهم؛ لأنهم لا يصدقون بالأحاديث، وإنما يتبعون عقولهم وأفكارهم، ويستدلون بالمتشابه من القرآن، مثل قوله تعالى عن موسى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] ، قالوا: {لَنْ تَرَانِي} هذا نفي للرؤية فدل على أن الله لا يُرى. والرد على هذا من وجهين: الوجه الأول: أنه لو كانت رؤية الله غير جائزة لما سألها موسى؛ لأن موسى نبي الله وكليم الله، لا يمكن أن يسأل شيئا لا يجوز، فدل هذا على أن رؤية الله جائزة، ولكنه لن يراه في هذه الدنيا؛ لأن المخلوقين لا يقوون على رؤية الله في هذه الدنيا؛ ولهذا ضرب الله له المثل: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} يعني: مغشيا عليه، فدل على أن موسى لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 يطيق رؤية الله في هذه الدنيا، وكل مخلوق لا يطيق رؤية الله في هذه الدنيا لضعف المخلوقين في هذه الدار. أما في الجنة، فالله يعطي المؤمنين قوة على أن يروا ربهم سبحانه وتعالى. الوجه الثاني: أن الله - جل وعلا – لم يقل لموسى: إني لا أرى، بل قال: {لَنْ تَرَانِي} يعني: في هذه الدنيا، و «لن» لا تقتضي النفي مطلقا، وإنما تقتضي النفي المؤقت؛ ولهذا يقول ابن مالك في «الكافية الشافية» : ومن رأى النفي ب (لن) مؤبدا ... فقوله اردد وسواه فاعضدا فلن للنفي غير المؤبد؛ ولهذا قال الله - جل وعلا – في اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95] يعني: الموت، وفي الآخرة يتمنون الموت، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] ، ففي يوم القيامة يطلبون الموت مع أنهم في الدنيا لن يتمنوه، فدل على أن «لن» لمطلق النفي ولا تقتضي تأبيدا، وإنما هو نفي مؤقت، والله - جل وعلا – قال: {لَنْ تَرَانِي} يعني: في الدنيا، فليس لهم متمسك في هذه الآية. الشبهة الثانية: تمسكوا بظاهر قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] ، قالوا: {لَا تُدْرِكُهُ} يعني: لا تراه. والجواب أن يقال: ليس معنى {لَا تُدْرِكُهُ} أنها لا تراه، لكن معناه أنها لا تحيط به، والإدراك معناه: الإحاطة، والله لم يقل: لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 تراه الأبصار، بل قال: {لَا تُدْرِكُهُ} ، ونفي الإدراك لا يلزم منه نفي الرؤية، فقد يرى الإنسان الشيء ولا يدركه كله، فأنت مثلا، ترى الشمس، ولكن هل تدركها كلها؟ فما كل ما يرى يدرك كله، فالآية ليس فيها نفي الرؤية، بل فيها نفي الإدراك. يعني: وإن رأته فهي لا تدركه؛ لأن الله - جل وعلا – أعظم من كل شيء، فلا يحاط به جل وعلا، فليس في الآية دليل على نفي الرؤية، وإنما فيها نفي الإدراك فقط. فقوله: «يرون ربهم بأبصارهم» رد على من يقول: يرونه بقلوبهم؛ لأن الرؤية قد تكون قلبية، وتكون بصرية، وهم يقولون: يرونه بقلوبهم. لو كان بقلوبهم ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب» ، هل الشمس ترى بالقلب أو بالبصر؟ الجواب: بالبصر. وقوله: «كما يرون القمر ليلة البدر» كما يرون البدر عند تمامه ليلة الخامس عشر؛ لأن القمر يتكامل ليلة الرابع عشر والخامس عشر: ولهذا تسمى ليالي الإبدار، يعني: تكامل القمر، فأنت تراه واضحا، وكل الناس يرونه ليلة البدر واضحا، كل أهل الأرض يرونه جليا، والشمس لا مرية أن الناس يرونها كل يوم. وقوله: «لا يضامون في رؤيته» ، يعني: كل يراه بسهولة ويسر بدون زحام ولا خطر: لأن الناس ربما يتزاحمون على الشيء الواحد، ويحصل خطر أو موت أو دهس، ولكنهم يرون ربهم من غير مضارة ولا زحام، وهذا حتى في المخلوق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فالناس كلهم يرون القمر ولا يتزاحمون على رؤيته، ويرون الشمس ولا يتزاحمون على رؤيتها، فإذا كان هذا في المخلوق، ففي الخالق من باب أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وأؤمن بأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته. لما ذكر رحمه الله في مقدمة الرسالة بعض أصول الاعتقاد الذي سئل عنه، ذكر في هذا اعتقاده في النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أول أصول الاعتقاد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فشهادة أن لا إله إلا الله يدخل فيها كل ما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى من توحيده بأقسامه الثلاثة، وما يتعلق بأفعاله، وبكلامه وكل ما يتعلق بالرب سبحانه وتعالى كله يدخل في شهادة أن لا إله إلا الله، ثم شهادة أن محمدا رسول الله، وهي الإقرار والاعتراف برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، يعتقدها بقلبه، وينطق بلسانه، ويتبع ذلك باتباعه صلى الله عليه وسلم وطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه وتصديق خبره. كل هذا يدخل في شهادة أن محمدا رسول الله، يدخل فيها الإيمان بعموم رسالته إلى الجن والإنس – الثقلين – ويدخل فيها الإيمان بأنه خاتم النبيين، لا نبي بعده، كل هذا يدخل في شهادة أن محمدا رسول الله، فلا بد من الاعتراف بالقلب والنطق باللسان، فلا يكفي النطق باللسان دون اعتقاد القلب بأنه رسول الله، فالمنافقون يشهدون أنه رسول الله بألسنتهم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ، وهم كاذبون في شهادتهم. ثم لا يكفي أيضا الاعتقاد بالقلب بدون تلفظ ونطق وإفصاح باللسان، فإن المشركين يشهدون أنه رسول الله بقلوبهم، لكن لا يتلفظون بذلك، فقد أبوا استكبارا وعنادا وجحودا أن يتلفظوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 برسالته صلى الله عليه وسلم، مع أنهم يعترفون بها في قلوبهم، قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] ، واليهود والنصارى يعلمون أنه رسول الله، لكن منعهم الكبر والحسد أن ينطقوا بذلك، وأن يتبعوه، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 146، 147] ، فلا بد من هذه الأمور في شهادة أنه رسول الله: * النطق باللسان. * والاعتقاد بالقلب. * والمتابعة له صلى الله عليه وسلم. فلا يكفي أن يعترف بأنه رسول الله وينطق بذلك ولكن لا يتابعه، فلا يطيعه فيما أمر، ولا يجتنب ما نهى عنه، أو يكذبه فيما أخبر؛ ولهذا يقول الشيخ في عبارة جميلة له في «ثلاثة أصول» : «ومعنى أشهد أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله بما شرع» ، فالعبد ما دام يشهد أنه رسول الله فلا بد أن يتقيد بما جاء به، ولا يخالفه بالبدع والمحدثات. قوله: «خاتم النبيين» يعني: آخر الأنبياء، ليس بعده إلا قيام الساعة، ولهذا يسمى نبي الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى» ، فهو نبي الساعة، وبعثته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 من علامات الساعة، لا نبي بعده، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ، قال صلى الله عليه وسلم: «إنه سيكون بعدي كذابون ثلاثون، كل منهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي» . فالذي لا يعتقد ختم الرسالة به صلى الله عليه وسلم كافر، أي: الذي يقول: يجوز أنه يبعث نبي بعد الرسول. هذا كافر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين؛ كالقاديانية الذين يعتقدون نبوة غلام القادياني، وكذلك الذين اعتقدوا نبوة مسيلمة، ونبوة الأسود العنسي. ومن ادعى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرتد بذلك عن الإسلام، فإن تابوا تاب الله عليهم، مثل: طليحة الأسدي الذي ادعى النبوة ثم تاب من ذلك فتاب الله عليه وقتل شهيدا رضي الله عنه، وسجاح التميمية التي ادعت النبوة ثم تابت فتاب الله عليها، أما من ادعى النبوة أو صدق من يدعيها فهو كافر مرتد عن دين الإسلام؛ لأنه لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة إلى النبي بعد الرسول، ولا حاجة إلى كتاب ينزل بعد القرآن؛ لأن الله أغنى العالم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، فرسالته عامة في الزمان والمكان، فهي عامة في الزمان إلى أن تقوم الساعة، وعامة في المكان لجميع أقطار الأرض، كلها عامة إلى أن تقوم الساعة وشاملة وكافية للخلق، وإنما تكون بعثة الرسل عند الحاجة، والعالم ليس بحاجة لبعثة رسول أو إلى نزول كتاب بعد محمد صلى الله عليه وسلم وبعد القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وأما نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان – كما تواترت بذلك الأخبار – فهو حق، ولكنه ينزل على أنه تابع لهذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، يحكم بشريعة الإسلام، ويكون تابعا للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ولا يبقى إلا دين الإسلام، فبعد نزول المسيح لا يبقى إلا الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو مجدد لدين الإسلام وتابع للرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نبي بعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: «والمرسلين» ؛ لأن بعض الملاحدة يقول: الرسول يقول: «لا نبي بعدي» ولا يمنع أن يبعث رسول؛ لأنه قال: «لا نبي بعدي» ، فالممنوع هو النبوة أما الرسالة فلا. يا سبحان الله! لا يكون الرسول إلا نبيا. فبينهما عموم وخصوص، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا. وقوله: «ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته» ، لا بد أن يشهد بنبوته ويؤمن برسالته، أي: بأنه نبي رسول عليه الصلاة والسلام، والرسالة أعم من النبوة، فمن أبى أن يشهد أنه رسول الله فهو كافر، أو لم يعترف بأنه خاتم النبيين، وأجاز أن يبعث بعده رسول فهو كافر، وقال: إن رسالته خاصة بالعرب وليست عامة؛ كما يقوله بعض النصارى، الذين يؤمنون برسالته ولكن يقولون: إنه نبي للعرب خاصة. وهذا كفر؛ لأنه لا بد من الإيمان بعموم رسالته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. الصحابة رضي الله عنهم هم أفضل قرون هذه الأمة، وأفضل المسلمين على الإطلاق لا يساويهم أحد، لامتيازهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه، وتلقي العلم عنه صلى الله عليه وسلم، فعندهم ميزات ليست عند غيرهم من المؤمنين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ، فنهى عن سب أصحابه وتنقصهم وبغضهم، ثم بين فضلهم، وأن أعمالهم أفضل من أعمال غيرهم، فالصدقة مثلا: لو تصدق الإنسان بمثل جبل أحد ذهبا خالصا ما بلغ المد – وهو ربع الصاع – الذي يتصدق به واحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا لفضلهم رضي الله عنهم ولمكانتهم، والعمل يضاعف لشرف العامل عند الله تعالى. فهم أفضل قرون هذه الأمة على الإطلاق، وتجب محبتهم وتوقيرهم واحترامهم وإجلالهم وعدم تنقص أحد منهم، ولا يجوز الدخول فيما حصل بينهم وقت الفتنة، ولا يجوز أن نخطئ فلانا ونصوب فلانا من الصحابة؛ لأنهم كلهم مجتهدون، ولا يجوز أن نتلمس أخطاءهم، ونقول: فلان فعل كذا. لأن لهم من الفضائل ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 يغطي أخطاءهم إن حصلت، فإن حصل من أحدهم شيء فله من الفضائل ما يغطي هذه الأخطاء رضي الله عنهم وأفرادهم ليسوا معصومين، فقد يحصل من أفرادهم خطأ، ولكن عندهم من الفضائل، ما يغطي هذا الخطأ، أما إجماعهم فهم معصومون فيه، فالصحابة معصومون بجماعتهم. ثم هم يتفاضلون، فأفضلهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم بقية العشرة المشهود لهم بالجنة: طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير بن العوام وأبو عبيدة عامر بن الجراح، هؤلاء شهد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة، ومات وهو عنهم راض، رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم أفضل الصحابة. ثم أصحاب بدر أفضل من غيرهم؛ لأن الله اطلع عليهم وقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، ثم أصحاب بيعة الرضوان – وهي صلح الحديبية – الذين بايعوا تحت الشجرة، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 18] ، أخبر سبحانه أنه رضي عنهم فمنحهم رضاه، ثم المهاجرون أفضل من الأنصار؛ ولهذا دائما يأتي ذكر المهاجرين قبل الأنصار في القرآن، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100] ، وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] ، إلى أن قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ} ، يعني: الأنصار، فيأتي ذكر المهاجرين قبل الأنصار، فهم أفضل؛ لأنهم تركوا أوطانهم وأموالهم وأولادهم وخرجوا لنصرة الله ورسوله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أثنى الله عليهم بالصدق، فهم يتفاضلون رضي الله عنهم وأرضاهم. ومن أسلم قبل فتح مكة فهو أفضل ممن أسلم عام الفتح أو بعده، قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10] ، فالذين أسلموا قبل الفتح أفضل من الذين أسلموا بعد الفتح، ولكن يشتركون كلهم في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضيلة عامة ويتفاضلون فيما بينهم. قوله: «وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق رضي الله عنه» ؛ لأنه أول الخلفاء الراشدين، وهو الذي بايع له الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم واختاروه؛ لأنه أفضلهم. قوله: «ثم عمر الفاروق» ؛ لأنه هو الخليفة بعد أبي بكر، وقد اختاره أبو بكر وعهد إليه، وهذا يدل على أنه أفضل الأمة بعد أبي بكر. قوله: «ثم عثمان» ، هو الثالث؛ لأن أصحاب الشورى الستة الذين عهد إليهم عمر اختاروا عثمان رضي الله عنه لفضله، ومكانته. قوله: «ثم علي المرتضى» ، علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته، وأبو الحسنين، وله من الفضائل أنه: «يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فله فضائل عظيمة رضي الله عنه. وهذا معنى قول الشيخ. «ثم بقية العشرة» ، أي: العشرة المبشرين بالجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قوله: «ثم أهل بدر» ؛ لأن «الله اطلع عليهم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» . قوله: «ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان» ، الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على القتال، بايعوه على الموت لما منع المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخول مكة للعمرة، فأرسل صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه يفاوضهم، فجاءت إشاعة أن عثمان قتل، فعند ذلك عزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتالهم، فطلب من أصحابه البيعة فبايعوه، وكانوا ألفا وأربعمائه، بايعوه على الموت، ثم تبين أن عثمان رضي الله عنه لم يقتل، ثم جرى الصلح بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل مكة كما هو معلوم، والشاهد أن الله ذكر هذه البيعة، وأثنى على أهلها ورضي عنهم. قوله: «ثم سائر الصحابة» ؛ لأنهم يشتركون في الصحبة، فكلهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولهم وآخرهم، لا يساويهم أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم، عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] . قوله: «وأتولى أصحاب رسول الله» ، يعني: أتولاهم بالمحبة والتوقير والاتباع والاقتداء، هذا معنى توليهم، بخلاف أهل الزيغ وأهل الضلال، وفي مقدمتهم الشيعة الذين يتنقصون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبونهم ويكفرونهم، ويقولون: إنهم ظلموا أهل البيت وأخذوا الخلافة واغتصبوها، وهي لأهل البيت. كما يكذبون ويفترون على المسلمين، وخلافا للخوارج الذين كفروا الصحابة وقاتلوهم واستحلوا دماءهم. قوله: «وأذكر محاسنهم» ، هذا الواجب على المسلم أنه يذكر محاسنهم ويترضى عنهم، ويقول: رضي الله عنهم، كل واحد منهم إذا جاء ذكره يقول: رضي الله عنه؛ لأن الله قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] ، فرضي الله عنهم وأرضاهم. ويترضى عنهم ويثني عليهم ولا يتنقص أحدا منهم أو يتلمس أخطاءهم ويشهر أخطاءهم؛ كما يفعله أهل الزيغ وأهل الضلال، أو الجهال الذين يقولون: نحن نبحث في التاريخ، ونحن نريد التحقيق التاريخي. ويبحثون في الصحابة وما حصل بينهم وقت الفتنة، الفتنة هذا شيء جرى، وهم ما اختاروا الفتنة، ولكن جرى قضاء الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ووقعت عليهم الفتنة، وابتلوا بها، فهذا حصل من غير اختيارهم رضي الله عنهم، وهم يريدون الخير، يريدون نصرة الدين ويجتهدون في هذا، فنحن لا ندخل في هذا أبدا، وإن دخلنا فنعتذر عنهم. قوله: «وأستغفر لهم» عملا بالقرآن، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10] ، لما ذكر المهاجرين والأنصار قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} ، هذا موقف المسلم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: «وأكف عن مساويهم» ، فلا أبحث عن مساويهم وأنبش عن الأشياء التي قيلت، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الواسطية» : «الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران، وإما مجتهدون مخطؤون فلهم أجر» ، وهم على كل حال مأجورون، ثم لهم من الفضائل ما يغطي ما يحصل من الخطأ الذي قد يحصل من أفرادهم، فالصحبة تغطي كل هذا. وأما ما شجر بينهم وقت الفتنة، فهذا ليس باختيارهم ابتلوا به بسبب دعاة الضلال الذين اندسوا بينهم؛ كعبد الله بن سبأ والذين اتبعوه، فصاروا ينشرون الفتنة حتى صارت الحرب، أول الفتنة: تنقص ولي الأمر، حيث تنقصوا عثمان وطعنوا فيه، ثم آل الأمر إلى أن قتلوا عثمان رضي الله عنه، فلما قتلوه انفتح باب القتل والفتنة، فهذا أمر جرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 عليهم رضي الله عنهم وابتلوا به، فلا ندخل فيما شجر بينهم، ونخطئ عليا، أو نخطئ معاوية، ما ندخل بينهم في هذا أبدا، هذا كله صادر عن اجتهاد، كلهم يريد نصرة الحق. قوله: «وأعتقد فضلهم» ، نعتقد أنهم أفضل الأمة، فهذا الاعتقاد واجب، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، والغل: هو البغض والحقد، فلا يكن في صدرك أو في قلبك بغض أو غل أو حقد لأحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وأترضى عن أمهات المؤمنين، المطهرات من كل سوء. والشيخ رحمه الله يترضى عن أمهات المؤمنين – زوجات النبي صلى الله عليه وسلم - فهن أمهات المؤمنين في القدر والاحترام لا في النسب، ولكن في القدر والإجلال، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أبو المؤمنين في القدر لا في النسب {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] يعني في النسب؛ لأن هذا رد على الذين يقولون: إن زيد بن حارثة ابن للرسول صلى الله عليه وسلم،والله نفى هذا، ولكن ليس معنى هذا أنه ليس أبا لهم في القدر والإجلال، قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] ، وفي قراءة: (وهو أب لهم) ، يعني: في القدر والإجلال. وأما إنهن أمهات المؤمنين فهذا بنص القرآن الذي يقرأ إلى يوم القيامة {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} بمعنى: أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج منهن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن زوجاته في الجنة: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] . فهن محرمات على الأمة؛ لأنهن زوجاته في الدنيا والآخرة عليه الصلاة والسلام، وكفى بذلك فضلا لهن؛ ولأنهن حملن من العلم والشرع ما بلغنه الأمة، حملنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهن الفضل، ولهن الإجلال، رضي الله عنهن جميعا. والذين يطعنون في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يطعنون في النبي عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الصلاة والسلام، فالذين يطعنون في عائشة رضي الله عنها – هم الشيعة – هؤلاء يطعنون بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول يحبها ويحب أباها، ولها مكانة عند الرسول صلى الله عليه وسلم، مُرِّض عندها، وتوفي بين سحرها ونحرها، وكان رأسه في حجرها – عليه الصلاة والسلام – وفضلها عظيم؛ لقربها من النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في فراشها، ولها فضائل عظيمة. فالشيعة الذين يطعنون في عائشة رضي الله عنها هؤلاء لا شك أنهم بذلك يعادون الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤذونه، فمن آذى عائشة فقد آذى الرسول صلى الله عليه وسلم، والله أنزل براءتها مما اتهمت به من المنافقين في حادث الإفك {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} ، قال - جل وعلا -: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] ، ما كان الله ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم امرأة خائنة في فراشها، فإذا طعن فيها فقد طعن في النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا طعن في النبي صلى الله عليه وسلم فهذا طعن في الله جل وعلا، وهذا كفر، كفر أكبر. والذين لا يبرئون عائشة رضي الله عنها مما اتهمها به المنافقون هؤلاء كفار؛ لأنهم مكذبون لله ولرسوله ولإجماع المسلمين. وقبلها مريم ابنة عمران اتهمها اليهود – لعنهم الله – فبرأها الله مما قالوا، فالشيعة فيهم شبه من اليهود من عدة وجوه وهذا أقبحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وأقر بكرامات الأولياء، وما لهم من المكاشفات. لما فرغ رحمه الله مما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم، وما يجب لأصحابه، وما يجب لأهل بيته رضي الله عنهم انتقل إلى بيان الاعتقاد في كرامات الأولياء. والكرامات: جمع كرامة، وهي الأمر الخارق للعادة الذي يجري خارقا للعادة، ويكون من الله - جل وعلا – لا دخل للبشر فيه، إن جرى على يد نبي فهو معجزة، مثل: * تكثير الطعام القليل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ونبع الماء من بين أصابعه، وأعظم من ذلك نزول القرآن، وهو المعجزة العظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بسورة منه. * عصا موسى، ويد موسى، والآيات التسع التي أعطاها الله لموسى عليه الصلاة والسلام. * ما أعطي عيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. فهذه معجزات، وما أعطيه نبينا صلى الله عليه وسلم من المعجزات كثير جدا. أما إن جرت الخارقة على يد عبد صالح وليس نبيا فهي كرامة من الله - جل وعلا – مثل الذي جرى لمريم لما كانت معتزلة في مكان ومتخذة حجابا دون الناس، ويأتيها رزقها وهي في مكانها: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37] ، يعني: المصلى الذي تصلي فيه، كلما دخل عليها زكريا مصلاها، وهو المحراب {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . ومثل الذي جرى لأصحاب الكهف من الكرامات؛ لأنهم مؤمنون، تبرأوا من دين المشركين، وخرجوا من البلد وأووا إلى غار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فرارا بدينهم، فالله ضرب عليهم النوم سنين طويلة حتى زادت شعورهم وأظفارهم، وهم يتقلبون من جنب إلى جنب، ومضت عليهم سنون كثيرة وهم لم يتغيروا، وهم في نومهم، هذا من كرامات الأولياء. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب: «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» ، وهو كتاب نفيس جدا في هذا الباب. أما إذا جرى الخارق على يد كافر أو على يد ساحر، فهذا ليس كرامة، وإنما هذا خارق شيطاني، فالساحر قد يطير في الهواء، ويمشي على الماء، ويدخل في النار ولا تحرقه، وهذا عمل شيطاني وليس بكرامة، وهو ابتلاء وامتحان. فنحن نؤمن بكرامات الأولياء وأنها منحة من الله، قال أهل العلم: كرامات الأولياء معجزة للأنبياء. لأنهم ما حصلوا على هذه الكرامات إلا باتباعهم للأنبياء، فهي كرامة للأولياء ومعجزة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والناس في الكرامات على ثلاثة أقسام، طرفان ووسط. الطرف الأول: من ينكر الكرامات، وهم المعتزلة، ينكرون كرامات الأولياء، ويقولون: ليس هناك كرامات ولا خوارق؛ لأنهم يعتمدون على عقولهم ولا يعتمدون على الأدلة، فينكرون الكرامات. الطرف الثاني: فريق غلا في إثبات الكرامات حتى عدوا مخاريق السحرة والكهنة والصوفية كرامات، وهي خوارق شيطانية وليست كرامات، هؤلاء غلوا في إثبات الكرامات حتى اعتقدوا أن كل شيء يخالف العادة فهو كرامة، ولو كان جرى على يد ساحر وكاهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ومشرك، فيقولون: هذه كرامة. ولذلك يعبدون القبور ويقولون: إن صاحبها حصل له كرامات وحصل له كذا وكذا، ويطلبون منه المدد، وهذا غلو في أصحاب الكرامات. الثالث: أهل السنة والجماعة، فيتوسطون، يثبتون الكرامات الصحيحة، أما خوارق الشياطين وما يجري على يد الشياطين فهذه ليست كرامات، وإنما هي شيطنة وابتلاء وامتحان، فقد يطير الساحر في الهواء، ويمشي على الماء ويحصل له أشياء، ولكن هذا بفعل الشياطين، وقد يخبر عن أشياء غائبة؛ لأن الشياطين تخبره، إذا هو عبدهم وخضع لهم خدموه، {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128] ، فإذا تقرب الإنسي إلى الجن وخضع لهم خدموه، وهم يقدرون على ما لا يقدر عليه الإنس، فيظن الجاهل أن هذه كرامة، وهي ليست كرامة، وإنما هي شيطنة، فيجب التنبه لهذا في أمور، فالكرامات لا تنفى مطلقا ولا تثبت مطلقا، وإنما يفصل فيها فيكون الإنسان على بصيرة. وقوله: «وما لهم من المكاشفات» ، يعني: الفراسة، يعطي الله بعض المؤمنين فراسة، يتفرس فيها الأشياء، وتحصل كما تفرسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. قوله: «لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا» ، هذا احتراز من المؤلف رحمه الله، وهو رد على الذين يغلون في أصحاب الكرامات، ويعبدون الأولياء والصالحين من دون الله، ويقولون: لهم كرامات. كما عليه القبوريون الذين يتقربون إلى الأموات، ويعتقدون في بعض الأحياء أنه وصل إلى درجة يستطيع فيها أن ينصرهم وأن يعطيهم أشياء لا يقدر عليها إلا الله، بناء على أن له كرامات، فيقولون: إن له كرامات وهذا دليل على أنه ينفع ويضر. فالمؤلف رحمه الله يرد على هؤلاء، وغالب ما عليه القبوريون مبني على هذا الوهم، الغلو في أصحاب الكرامات ، فنحن نحب الصالحين، والذين تجري على أيديهم كرامات، نحبهم ونجلهم ونقتدي بهم، ولكن لا نعطيهم شيئا من العبادة كما يفعله الخرافيون. قوله: «من حق الله تعالى» ، وحق الله هو العبادة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «وحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» . وقوله: «ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله» ؛ كإجراء الرزق وشفاء المريض وهبة الولد وغير ذلك، هذا لا يقدر عليه إلا الله، أما ما يقدرون عليه من أمور الدنيا فيطلب منهم إذا كانوا أحياء، حتى ولو كان ليس لهم كرامات، تطلب من الإنسان أن يساعدك بالمال؛ كأن يكون غنيا تطلب منه أن يقرضك أو يتصدق عليك، وإذا وقعت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 كربة تطلب منه أن يساعدك في الخروج منها، وفي الحديث: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة» ، فيستغاث بالمخلوق الحي فيما يقدر عليه؛ كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] ، استغاث بموسى عليه السلام {الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} من بني إسرائيل {عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} من آل فرعون {فَوَكَزَهُ مُوسَى} أغاث هذا الرجل المظلوم، وكما يستغيث الرجل بأصحابه في الحرب وغيرها، يستنجد بهم، فالاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه لا بأس بها، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] . أما الاستغاثة بالأموات فلا تجوز مطلقا؛ لأن الأموات لا يقدرون على شيء، لا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره، هم في عالم وأنت في عالم آخر، فلا تطلب من الأموات شيئا بحجة أن لهم كرامات وأنهم يقدرون، هذا باطل، فالميت لا يطلب منه شيء ولو كان من أفضل الناس. وكذلك الحي لا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، لا يطلب منه شفاء المريض، أو إعطاء الولد، أو جلب الرزق له، فما يطلب من المخلوق شيء لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام. هذا معتقد أهل السنة والجماعة، أنهم لا يشهدون لأحد معين بجنة ولو كان من الصالحين، ولا يشهدون لأحد بالنار ولو كان من الكافرين؛ كأن تقول: هذا من أهل الجنة، أو هذا من أهل النار. هذا لا يجوز إلا لمن أطلعه الله على الغيب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يطلعه على الغيب كله، ولكن على شيء من المغيبات، ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد لأناس بالجنة، فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة، كالعشرة المبشرين بالجنة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: الخلفاء الأربعة، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة، عامر بن الجراح، هؤلاء شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وثابت بن قيس بن شماس بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة فهؤلاء نشهد لهم؛ لأن الرسول شهد لهم بأعيانهم، فنقول: فلان في الجنة، أبو بكر في الجنة، عمر في الجنة، طلحة، والزبير، كل هؤلاء في الجنة؛ لأن الرسول أخبر أنهم في الجنة. والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإن كان هذا من الغيب، ولكن الله أطلع الرسول صلى الله عليه وسلم على الغيب، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27] ، يطلع الله الرسل على شيء من المغيبات؛ لأجل مصلحة البشر. وكذلك لو كان كافرا أو فاسقا فإننا لا نشهد له بالنار؛ لأننا لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ندري عن خاتمته، لا نشهد لأحد بالجنة وإن كان من الصالحين؛ لأننا لا ندري عن خاتمته بم يختم له؟ ولا نشهد لأحد بالنار ولو كان كافرا لأننا لا ندري بم يختم له؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» . والخواتيم لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فنحن لا نشهد للمعين، أما العموم فنحن نشهد على الكفار أنهم في النار من غير تعيين فلان، نقول: الكافرون في النار، والمؤمنون في الجنة، على العموم، قال تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، وقال في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] ، فلا شك أن الكفار في النار من غير تعيين أشخاص إلا بشهادة، ولا شك أن المؤمنين في الجنات من غير تعيين أشخاص إلا بشهادة ممن لا ينطق عن الهوى. وهذا من التأدب مع الله سبحانه وتعالى فنحن لا نشهد للمعين إلا بدليل، ولكننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء. قال رحمه الله: «ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام» ، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون بالكبائر التي دون الشرك؛ كالزنا والسرقة وشرب الخمر وأكل الربا، هذه كبائر موبقات ولكن لا يحكمون على صاحبها بالكفر، بل يحكمون عليه أنه ناقص الإيمان، فهي كبائر تنقص الإيمان، وحكم صاحبها أنه تحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فنحن لا نكفر إلا من كفره الله ورسوله بالأدلة من الكتاب والسنة وبإجماع أهل العلم. وأما أن نكفر بالكبائر التي دون الشرك فهذا مذهب الخوارج والمعتزلة الضلال الذين يحكمون على مرتكبي الكبائر أنهم كفار وأنهم مخلدون في النار – نسأل الله العافية – هذا معتقد باطل يخالف الأدلة. لكن من استحل محرما مجمعا على تحريمه فهذا كافر؛ كما لو استحل الربا، أو الخمر، أو الزنا، أو حرم شيئا مجمعا على حله فهذا كافر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين، فمسألة التكفير لها ضوابط عند أهل السنة والجماعة، أما مجرد ارتكابه للكبيرة التي دون الشرك فهذا خطر بلا شك، وهو متوعد بالنار والغضب، ولكن لا نحكم عليه بالكفر، بل نقول: إنه مؤمن ناقص الإيمان، وفي الآخرة هو معرض للوعيد الذي ورد، إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عذبه، ولكن إذا عذبه لا يخلد في النار كالكفار، بل يخرج منها إلى الجنة. ولا يخرج من دائرة الإسلام بل يبقى في دائرة الإسلام، فيكون معه أصل الإسلام وأصل الإيمان، لكن يكون إيمانه ضعيفا؛ لأن المعاصي تنقص الإيمان. وانظر إلى كلام الإمام الذي قال عنه خصومه: إنه يكفر المسلمين، فهو ينفي عن نفسه هذه التهمة الباطلة، ويبين ما هو عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام برا كان أو فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة. الجهاد: هو بذل الجهد في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله، فالغرض من الجهاد هو إعلاء كلمة الله ونشر التوحيد وإبطال الشرك؛ لأن الدين لله – عز وجل -، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، فالعبادة حق لله، فمن عبد غير الله فإنه يدعى إلى الرجوع إلى الإسلام والتوبة وإخلاص التوحيد فإن أبى فإنه يقاتل. لأن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بالدعوة والجهاد، بالدعوة أولا ثم الجهاد بعد ذلك؛ لئلا ينتشر الكفر، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] ، وفي الآية الأخرى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} يعني: شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ليس فيه عبادة لمخلوق بل العبادة للخالق سبحانه وتعالى. هذا هو الغرض من الجهاد، وهو نشر التوحيد ومحو الشرك من الأرض؛ لأن الله خلق الخلق لعبادته، فإذا عبدوا غيره فإما أن يتوبوا ويرجعوا وإما أن يقاتلوا؛ لأنهم لو تركوا لنشروا الكفر؛ لأن الكفار يدعون إلى الكفر، فالكافر إذا كان كفره ينتشر يقاتل، أما إذا كان كفره قاصرا عليه، ولا يدعو إليه، وليس له نشاط في نشر الكفر، وإنما هو مقتصر على نفسه فهذا لا يقاتل، مثل: كبار السن من الكفار والنساء والأطفال والرهبان في صوامعهم، هؤلاء لا يقاتلون؛ لأن كفرهم قاصر عليهم، وكذلك من خضع للإسلام وبذل الجزية فإنه لا يقاتل، بل يترك على دينه وتؤخذ منه الجزية، ويكون تابعا لحكم الإسلام، وهذا شره يقتصر عليه، ومعلوم أن الذي تؤخذ منه الجزية أنه لا يدعو إلى الكفر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فلو دعا إلى الكفر لانتقض عهده، فهو مستسلم تحت حكم الإسلام ويدفع الجزية التي فيها الذلة والصغار، فهذا يترك، والشيخ الكبير، والصبي، والنساء، الذين لا يتعدى كفرهم إلى غيرهم، والرهبان الذين تركوا الناس وانعزلوا في صوامعهم للعبادة، هؤلاء لا يقتلون أيضا. دل هذا على أن دين الإسلام ليس دين قتل وسفك دماء، وإنما هو دين رحمة وعدل، يريد أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور لصالحهم هم، وكم حصل في الجهاد من منافع للناس، فالذين أسلموا من الكفار من الأعاجم أنقذهم الله من النار، لو تركوا لصاروا من أهل النار، فأسلموا وحسن إسلامهم وخرج منهم العلماء الأفذاذ، فهذه ثمرات الجهاد في سبيل الله عز وجل، فالجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ولكن الجهاد له شروط: الشرط الأول: أن يكون بالمسلمين قوة يقوون بها على جهاد الكفار، أي: عندهم عدة واستعداد لجهاد الكفار، فإذا لم يكونوا على استعداد؛ كأن يكون فيهم ضعف والكفار أقوى منهم، فلو قاتل المسلمون الكفار لأبيدت خضراء المسلمين، فلا يجوز القتال في هذه الحالة؛ لأن هذا يلزم عليه مفسدة أكبر من المصلحة، وهي تسلط الكفار على المسلمين؛ ولهذا فالنبي صلى الله عليه وسلم بقي في مكة ثلاثة عشر عاما مقتصرا على الدعوة إلى الله، والمسلمون يؤذون ويضايقون ولم يؤمر بالجهاد، بل الله أمرهم بالصبر وكف الأيدي حتى يأذن الله - جل وعلا – لهم بالجهاد: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77] ، هذا في مكة، أمروا بكف أيديهم، ولكن مع هذا يقومون بالدعوة إلى الله عز وجل، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وانتشر الإسلام وكان بالمسلمين قوة أمره الله بالجهاد؛ لأنهم صاروا أقوياء ومستعدين للجهاد، وهذا ليس خاصا بالوقت الأول، هذا عام للمسلمين إلى آخر الزمان، إن كان عندهم قوة واستطاعة يجب عليهم الدعوة والجهاد، وإذا كان ليس عندهم قوة فيبقون على الدعوة، وأما الجهاد فيؤجلونه إلى وقت القدرة على ذلك؛ لأنهم لو قاتلوا وهم ضعفاء لتسلط عليهم الكفار وتغلبوا عليهم. الشرط الثاني: أن يكون الجهاد تحت راية يعقدها ولي أمر المسلمين، وليس كل يجاهد، وكل يقاتل، وكل يكون له جماعة، هذا لا يجوز في الإسلام، هذا ضرر على المسلمين أنفسهم قبل أن يضروا الكفار؛ لأن المسلمين يتناحرون فيما بينهم، كل واحد يريد أن يكون هو الذي يظفر بالنتيجة، وجرب هذا في عصابات قاتلت العدو فلما انهزم العدو واندحر تقاتلوا فيما بينهم، كل يريد أن يكون هو الذي يأخذ السلطة، هذا نتيجة أنهم ما قاتلوا تحت راية واحدة وتحت إمام واحد، وإنما تفرقوا إلى عصابات وجماعات، فلا يجوز هذا في الإسلام، لا بد أن يكون الجهاد تحت راية موحدة. ولهذا قال الشيخ: «وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام» ، أي: إمام للمسلمين يقودهم وينظمهم، ويشرف عليهم، ويعد العدة ويسلحهم، لا بد أن يكون الجهاد تحت راية الإمام وبأمره حتى ينجح الجهاد، أما إذا كان بدون إمام وبدون راية فإنه يؤول إلى الفشل في النهاية، فقوله: «مع كل إمام» ، دل على أنه يشترط وجود الإمام الذي يقاتل تحت رايته. ولا يشترط في الإمام أن يكون بارا مائة بالمائة مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز والصحابة، لا يشترط أن يكون الإمام صافيا ليس فيه نقص، بل ولو كان فاجرا، يعني: فاسقا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فسقه لم يصل إلى حد الكفر، فإذا بقيت إمامته فإنه يبقى له صلاحية الجهاد ويطاع في الجهاد، ويصلى خلفه، لأنه مسلم ولو كان عاصيا، ولو كان فاسقا، ولو كان جائرا وظالما، لأن المصلحة في الجماعة أرجح من المصلحة في التفرق عليه والاختلاف عليه. هذه مسألة عظيمة يغفل عنها كثير من الحماسيين الذين ليس عندهم فقه في الدين، يقولون: كيف نطيعه وهو فاسق وهو عاص؟ الجواب: نطيعه للمصلحة العامة، وارتكاب أخف الضررين لدفع أعلاهما مطلوب في الإسلام، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والمسلمون قاتلوا مع الحجاج ومع يزيد بن معاوية وهم فساق، لجمع الكلمة، بل كان هناك صحابة في راية يزيد بن معاوية في غزو القسطنطينية، منهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه. وقاتلوا مع الحجاج وهو معروف بالظلم، فهو ظالم فاتك باطش، لكن لأجل مصلحة الإسلام والمسلمين، وتغتفر المسألة الجزئية في مقابل المصلحة العامة الكلية، هذه قاعدة في الإسلام. فلا يشترط في الإمام الذي يتولى أمور المسلمين ويقودهم للجهاد أن يكون صالحا مستقيما مائة بالمائة، بل ولو كان عنده شيء من المعاصي والمخالفات ما دام لم يصل إلى حد الكفر بالله عز وجل، ولكن الجهال المتحمسين لا يتحملون هذا الكلام، لأنهم جهال، والصحابة تحملوه وأطاعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك لفقههم وإيمانهم، أما الجهال المتحمسون فلا يتحملون هذا، والمغرضون أيضا لا يتحملون هذا، فهم أناس قد يكونون ليسوا بجهال يعرفون هذا، لكنهم مغرضون يريدون تشتيت المسلمين، فيحرضونهم على ولاتهم بسبب أن الولاة يرتكبون أشياء من الأخطاء، وذلك لأجل تفريق الكلمة وإضعاف المسلمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فيجب الفطنة لهذه الأمور والحذر منها وعدم الاندفاع بدون فقه وبدون علم. هذه مسألة عظيمة، الآن حصل فيها سوء فهم، وحصل فيها تضليل بسبب الجهل أو بسبب الهوى. وقوله: «برا» وهو: الصالح المستقيم، «أو فاجرا» يعني: فاسقا ولكن لم يصل إلى حد الكفر، لأن المصلحة في طاعته والجهاد معه أرجح من المفسدة في الصبر على فسقه وعلى مخالفته. وقوله: «وصلاة الجماعة خلفهم جائزة» ، لا شك أن صلاة الجماعة خلف الأئمة الفساق جائزة وصحيحة، ما داموا يصلون فصل خلفهم، فقد صلى الصحابة خلف الحجاج، وصلوا خلف عبيد الله بن زياد، وصلوا خلف الأمراء الفساق الذين يشربون الخمر، وكذلك خلف الوليد بن عقبة، صلوا خلفهم لأجل جمع الكلمة، وهؤلاء مسلمون تصح صلاتهم، وما دامت تصح صلاتهم فتصح إمامتهم جمعا للكلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل. الدجال: هو المسيح الدجال الكذاب، سمي بالدجال لكثرة الدجل عنده والكذب، وما عنده من الفتنة الشديدة، وكل نبي حذر أمته فتنة المسيح الدجال، وأشدهم تحذيرا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أقرب الناس إلى خروجه، وهو يخرج في آخر الزمان، يخرج في اليهود، وتجمع اليهود في فلسطين الآن هذا إرهاص لخروج الدجال، لأنه يخرج في اليهود قبحهم الله. ويحصل منه فتنة عظيمة ويدور في البلاد، وما من بلد إلا يدخله إلا مكة والمدينة، فإنه لا يدخلهما، ولكن الأشرار الذين في مكة والمدينة يخرجون إليه، ولا يبقى فيهما إلا أهل الإيمان، لأن المدينة إذا جاء الدجال ترجف فيخرج منها كل منافق، ولا يبقى فيها إلا أهل الإيمان الصادق. ثم ينزل عيسى بن مريم مسيح الهداية صلى الله عليه وسلم، ينزل من السماء، ثم يطلب الدجال فيقتله في باب لد في فلسطين، يقتله وينصر الله الإسلام والمسلمين، ويحكم المسيح بن مريم بدين الإسلام، بدين محمد صلى الله عليه وسلم، ويقوي الإسلام في عهده عليه الصلاة والسلام، ثم بينما هم كذلك إذ ظهرت يأجوج ومأجوج الذين ذكر الله عز وجل، فيأمر الله عيسى أن يحرز المسلمين إلى الطور ويقول: «إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد في قتالهم فحرز عبادي إلى الطور» ، فيعيثون في الأرض فسادا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ويذبحون في المسلمين مذابح، ثم ينزل الله بهم المرض فيقتلهم عن آخرهم ويموتون عن آخرهم، فيفرج الله للمسلمين بذلك، هذه قصة خروج الدجال باختصار، فنحن نؤمن بخروج المسيح الدجال. وهناك كتاب جهال يقولون: لا يوجد دجال، وإنما هذا عبارة عن كثرة الكذب في آخر الزمان، وليس هناك نزول عيسى، وإنما هذا عبارة عن ظهور الحق. وهذا إنكار للمتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن القرآن دل على نزول عيسى عليه السلام، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] هذا دليل على أنه ينزل في آخر الزمان، واليهود الذين كفروا به في الأول يؤمنون به، {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} ، وفي الآية الأخرى قال في عيسى عليه السلام: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] ، يعني: أن نزوله في آخر الزمان علامة على قرب قيام الساعة، وفي قراءة: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} ، فنزول عيسى بن مريم من السماء علامة على قرب قيام الساعة، فهو من علامات الساعة وأشراطها. فقوله: «إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال» ، فيقاتلونه ويقاتلون اليهود وتصير ملاحم بين المسلمين واليهود، وينصر الله المسلمين، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله. فيقتلون اليهود مقتلة عظيمة، وينصر الله المسلمين عليهم. وقوله: «لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل» ، يعني: أن الجهاد لا يبطله جور جائر، فلا أحد يمنع الجهاد، ويقول: ليس فيه جهاد والإسلام ليس دين قتال. والآن يقولون هذا، يقولون: الإسلام ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 دين جهاد ولا دين سفك دماء، نقول: نعم، الإسلام ما هو بدين سفك دماء، ولكنه دين جهاد لا لأجل سفك الدماء وإنما لأجل مصلحة البشرية، والله - جل وعلا – يقول في حق نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، فمن رحمة الله بالعالمين أن شرع الجهاد لإنقاذهم من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، فنحن لا نقاتل الكفار طمعا في أموالهم أو في دمائهم أو في بلادهم، وإنما نقاتلهم لنشر الإسلام ولصالحهم، فدخولهم في الإسلام من مصلحتهم هم؛ ليموتوا على الإسلام ويدخلوا الجنة، ولكن لو تركوا وماتوا على الكفر دخلوا النار، فالجهاد هو لمصلحة الكفار أكثر؛ لأنه إنقاذ لهم من الكفر، ومن النار، ومن الجهل، ومن الضلال، ترون ثمرات الجهاد في المشرق والمغرب ماذا أنتج من الخير، ماذا أنتج من نشر العلم، ومن نشر التوحيد، ومن انتشار الإسلام وقمع الظلم. وقوله: «ولا عدل عادل» ، يعني: لا أحد يمنع الجهاد، حتى لو كان المنع من سلطان عادل، فالجهاد لا يسقط، لا نقول: حصل المقصود، فالعدل الآن منتشر والناس في خير. الجهاد ماض بحكم الله سبحانه، ولكن بهذه الشروط: أولا: أن يكون بالمسلمين قوة على الجهاد. ثانيا: أن يكون الجهاد تحت راية ولي الأمر الموحدة، ينظمهم ويساعدهم ويكون ردءا لهم يرجعون إليه. ثالثا: أن يكون الجهاد لإعلاء كلمة الله، وليس من أجل طمع الدنيا أو الظهور في الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه. من أصول العقيدة: السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، عملا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، بعد أن أمر بطاعته وطاعة رسوله أمر بطاعة ولاة الأمور من المسلمين، وقوله: {مِنْكُمْ} يعني: من المسلمين، أما إذا لم يكن مسلما فلا طاعة له، فيشترط فيه أن يكون مسلما، وعندئذ تكون طاعته واجبة، والخروج عليه معصية محرمة، هذا أصل من أصول الإسلام وبه تجتمع كلمة المسلمين وتقوى شوكتهم. والنبي صلى الله عليه وسلم لما طلب منه أصحابه الوصية، حيث شعروا بقرب أجله فطلبوا منه الوصية، قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد» ؛ لأن النظر ليس لشخصه، وإنما النظر لمنصبه، العبرة بمنصبه لا بشخصه: «وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا» ، فطاعة ولي الأمر عصمة من الاختلاف؛ ولهذا لما «سأل حذيفة بن اليمان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتن عند ظهورها قال له: ما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» ، فأمر حذيفة عند ظهور الفتن أن يلزم جماعة المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وإمامهم؛ لأنه عصمة من الفتن وعصمة من الاختلاف، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] ، فالاختلاف شر والاتفاق رحمة. فقوله: «برهم وفاجرهم» ؛ كما مر معنا لا يشترط في ولي أمر المسلمين أن يكون صالحا مائة بالمائة – كالخلفاء الراشدين – بل تجب طاعته ولو كان عنده شيء من المخالفات والمعاصي التي لا تصل إلى حد الكفر والخروج من الدين، ففساده عليه، ولكن إمامته لصالح المسلمين. ولما سئل بعض الأئمة قيل له: فلان تقي لكنه ضعيف، وفلان فاسق ولكنه قوي؛ أيهما يصلح للإمامة؟ قال: الفاسق القوي؛ لأن الصالح الضعيف صلاحه لنفسه، وضعفه يضر المسلمين، والفاسق فسقه على نفسه، وقوته للمسلمين. وقوله: «برهم وفاجرهم» ، هذا خلاف الخوارج والمعتزلة الذين يخرجون على الأئمة الفجار، يعني: الأئمة العصاة، يراد بالفجار هنا: العصاة. وقوله: «ما لم يأمروا بمعصية الله» ، فتجب طاعتهم، فإذا أمروا بمعصية، «فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ، لكن لا تنخلع بيعتهم إذا أمروا بمعصية، ولا نطيعهم في هذا، لكن تبقى طاعتهم فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 هو معروف وليس فيه معصية، نخالفهم في المعصية ونطيعهم في غير المعصية. وقوله: «ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته» ، هذا فيما تنعقد به الإمامة. قالوا: تنعقد الخلافة بأحد ثلاثة أمور: الأمر الأول: اختيار أهل الحل والعقد له، فإذا اختاره أهل الحل والعقد وبايعوه لزمت طاعته؛ كخلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنها ثبتت باختيار أهل الحل والعقد، وليس بلازم أن يختاره كل المسلمين كما في الانتخابات، هذا ليس في نظام الإسلام، بل يكفي أهل الحل والعقد من العلماء والأمراء وأهل الرأي والمشورة، فإذا اختاروا إماما للمسلمين لزمت طاعته على جميع المسلمين، ولا أحد يقول: أنا ما اخترت، أنا ما بايعت؛ كما يقول بعض الجهال الآن. أنت من المسلمين، والمسلمون اختاروا هذا الرجل إماما لهم، فلا يجوز لك أن تشذ وتخرج عنهم، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم» ، وإذا كان أدناهم يسعى بذمتهم، فكيف بأهل الحل والعقد والمشورة والرأي؟ فالصحابة أطاعوا لأبي بكر مع أن الذين بايعوه هم قادة المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، وكذلك عثمان رضي الله عنه اختاره أهل الشورى الستة الذين عهد إليهم عمر رضي الله عنه، فقد عهد إلى بقية العشرة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وهو عنهم راض، فالستة اجتمع رأيهم على عثمان فبايعوه، فلزمت طاعته جميع المسلمين وانقادوا له. الأمر الثاني: ولاية العهد، فإذا عهد ولي الأمر إلى أحد من بعده تلزم طاعته، وتنعقد إمامته؛ كما عهد أبو بكر لعمر رضي الله عنهما فسمعوا له وأطاعوا رضي الله عنهما. الأمر الثالث: إذا كان الناس ليس لهم إمام؛ فقام رجل فيه شجاعة وقوة ورأي وتغلب على الناس بسيفه حتى خضعوا له، فهذا تلزم طاعته، ويمثلون لهذا بعبد الملك بن مروان، فالناس في عهده كانوا بدون إمام عام، فقام الرجل بشجاعة وشهامة وقوة ورأي فقاتل وتغلب وأطاع له المسلمون، فصار إماما لهم وانعقدت إمامته بذلك. أما من يأتي والمسلمون لهم إمام وينازع الإمام ويريد أن يخلع الإمام ليصبح بدلا عنه، فهذا يجب على المسلمين قتله، قال صلى الله عليه وسلم: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوا كائنا من كان» ، فنحن مع ولي الأمر، إذا قام عليه أحد فنحن معه في دفع هذا الخارج على جماعة المسلمين، نقاتله وندحض شره عن المسلمين؛ لئلا يفكك الكلمة، وذلك للمصلحة العامة. هذا هو اعتقاد الشيخ في السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، وفي هذا رد على الذين يصفونه بالخروج على الولاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة. البدع: جمع بدعة، وهي ما أحدث في الدين من العبادات التي ليس عليها دليل من كتاب أو سنة؛ لأن العبادات توقيفية، فلا نعمل شيئا منها إلا بدليل من الكتاب والسنة، فمن جاء وأحدث شيئا يتقرب به إلى الله من ذكر أو صلاة أو عبادة ويقول: هذا زيادة خير. فيقال له: لا، هذا زيادة شر وليس هو زيادة خير؛ لأن الدين كامل لا يقبل الإضافات والزيادات، فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والدين كامل، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، فالله شهد لهذا الدين بأنه كامل، فلا يقبل الزيادة والإضافات، حسبنا أننا نعمل بما في هذا الدين من العبادات، أما أن نزيد ونقول: هذه زيادة خير؛ فهذه بدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من يعش منكم فسيرى اختلافا كبيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدع ضلالة» ، وكان في خطبه يقول: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» ، فهذا فيه رد على الذين يقسمون البدعة إلى حسنة وسيئة، فالبدع في الدين ليس فيها شيء حسن وإنما كلها سيئة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «كل بدعة ضلالة» ، وهذا المبتدع يقول: ليس كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 بدعة ضلالة بل منها شيء حسن، فهذا يرد على الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الشاعر: خير الأمور السالفات على الهدى ... وشر الأمور المحدثات البدائع فالذي يقول: إن هناك بدعة حسنة، يقال له: هذه بدعة ضلالة وشر وليست حسنة، ليس في الدين بدعة حسنة أبدا، فنجتنب البدع ونقتصر على السنن، ففيها خير وكمال، ولا يكفي أننا نجتنب البدع، بل نهجر المبتدعة، ولا نجلس معهم، ولا نصادقهم حتى يتركوا البدعة؛ لأننا إذا صادقناهم وجالسناهم شجعناهم على البدعة، فنحن نهجرهم بمعنى أننا نترك مجالستهم ونترك مصادقتهم حتى يتوبوا إلى الله. هذا الواجب على أهل السنة، أنهم يهجرون أهل البدع، ولو حصل هذا لما انتشرت البدع، ولكن لما حصل التساهل مع المبتدعة، صاروا يعيثون في الأرض فسادا، وينشرون البدع، ولا يوجد من ينكر عليهم، صاروا أصدقاءنا وجلساءنا وانتشرت البدع بهذه الطريقة، أما لو أن أهل البدع هجروا لقل شرهم. فقول الشيخ: «وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم» ، الهجر: هو الترك، يعني: تركهم وعدم الجلوس معهم وعدم مصادقتهم، «حتى يتوبوا» فإذا تابوا تاب الله عليهم، وصاروا جلساءنا وأحبابنا. وقوله: «وأحكم عليهم بالظاهر» ، أي: نحكم على الناس بالظاهر لنا، ولا ندري عن القلوب، ولكن من فعل الخير شهدنا له بالخير بناء على الظاهر، ومن فعل الشر شهدنا له بالشر بناء على الظاهر، وأما القلوب فلا يعلمها إلا الله. لكن المرجئة الآن يقولون: من فعل الكفر أو الشرك أو منكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فإنك لا تحكم عليه بما ظهر منه؛ لأنك لا تدري عن الذي في قلبه. وقول الشيخ: «وأعتقد أن كل محدثة بدعة» ، بخلاف من يقول: إنه هناك محدثات في الدين فيها خير، بل كل محدثة في الدين بدعة، وهذا مأخوذ من حديث: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» . أما أمور العادات؛ كالملابس والمساكن والمراكب، هذه مما خلق الله ليس فيها بدعة، الأولون ما كانوا يركبون السيارات ونحن نركبها؛ لأنها مما أباح الله لنا، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، فأمور العادات والملابس والمساكن والمراكب والمزارع، هذه كلها من الأمور التي لا تدخل في العبادة بل نستخدمها في العبادة، ونستعين بها على العبادة، ونركب السيارة للحج، ونركبها لطلب العلم، ونركبها للجهاد، ومكبرات الصوت نستخدمها لإلقاء الخطب والمحاضرات، ونستعين بها على العبادة؛ لأنها مما أباح الله لنا أن نستعين بها، وليست بدعا، إنما هي مما خلق الله لنا، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، فالأصل في هذه الأمور الإباحة، أما العبادات فالأصل فيها الحظر إلا بدليل، أما في العادات والملابس والمراكب والمآكل والمشارب الأصل فيها الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وأعتقد أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو بضع وسبعون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. هذا شروع في مبحث الإيمان ، ولقد تكرر ذكره في القرآن في مواضع كثيرة، ومدح الله أهله ووعدهم بالجنة والثواب العظيم. والإيمان مرتبة من مراتب الدين؛ لأن الدين ثلاث مراتب؛ كما في حديث جبريل: الإسلام، والإيمان، والإحسان. فالإسلام: يتكون من خمسة أركان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، هذه من الأفعال الظاهرة. والإيمان يتكون من ستة أركان بينها النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» ، ولا بد من اجتماعهما في العبد، أي: لا بد من اجتماع الإيمان والإسلام في العبد، فيكون مسلما مؤمنا، مسلما في ظاهره يؤدي أركان الإسلام، ومؤمنا في باطنه يؤمن بهذه الأركان الستة، فلا يكون مسلما فقط، وليس عنده إيمان، فهذا شأن المنافقين الذين يظهرون الإسلام في الظاهر، فيصلون ويصومون ويقولون: لا إله إلا الله، ويحجون، ولكن ليس عندهم إيمان في القلب: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] ، وهؤلاء في الدرك الأسفل من النار، وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 العكس، لا يكون مؤمنا بدون الإسلام، مصدقا ومؤمنا بهذه الأركان بقلبه لكن ليس عنده إسلام فلا يصلي ولا يزكي ولا يصوم ولا يحج، هذا ليس بمؤمن حتى يكون مسلما يؤدي الأركان الظاهرة والباطنة، فلا بد من هذا، فالإيمان مجموع اعتقاد القلب وعمل الجوارح ونطق اللسان. ولهذا يقول أهل السنة والجماعة – كما ذكره الشيخ هنا -: أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، لا بد من هذه الأمور الثلاثة: نطق باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، هذا تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة الذين هم على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والذين هم الفرقة الناجية من بين الفرق الضالة التي توعدها الله بالنار، هذا الإيمان عندهم يتكون من هذه الأمور الثلاثة. أما المرجئة فيقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، والأعمال لا تدخل فيه. وبعضهم يقول: شرط كمال. وبعضهم يقول: شرط جواب، ولكنها لا تدخل في حقيقة الإيمان، فإذا كان مصدقا بقلبه فهذا مؤمن ولو لم يؤد الأعمال، وهذا مذهب باطل؛ لأن المشركين كانوا يعرفون بقلوبهم صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أبوا أن ينطقوا بلا إله إلا الله، أبوا أن يقولوا: لا إله إلا الله. وأبوا أن يصلوا وأن يصوموا، ويزكوا، ويحجوا، قال الله تعالى {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] ، {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} معنى هذا أنهم يصدقون الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن منعهم الكبر، أو الحسد، أو الحمية لدينهم من أن يأتوا بلا إله إلا الله، وأن يصلوا، ويصوموا، ويزكوا، والحج يحجون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ويعتمرون وهو من البقايا الباقية من دين إبراهيم، ولكن ليس عندهم غيره، مقرون بالشرك، فيقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، يلبون بالشرك، ولهذا لبى النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، فقال: «لبيك لا شريك لك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» ، نفي الشرك وهم يقولون: لله شريك، وهم من يعبدونهم من دون الله، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وسائط بيننا وبين الله، هذا في الحج، أما الصلاة فلا يصلون، ولا يزكون، ولا يصومون، ولا يقولون: لا إله إلا الله، وهم في قلوبهم يعتقدون أنه رسول الله، يصدقونه {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} . اليهود والنصارى أيضا يصدقون أنه رسول الله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] ، {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] ، فهم يعترفون أنه رسول الله بقلوبهم، ولكن أبوا أن ينطقوا بألسنتهم وأبوا أن يتبعوه، فلم يكن التصديق بالقلوب كافيا كما تقوله المرجئة. وليس هو اعتقاد بالقلب وقول باللسان فقط؛ كما تقوله طائفة من المرجئة، وهم مرجئة الفقهاء، يقولون: الإيمان هو قول باللسان واعتقاد بالقلب، ولو لم يعمل. فيلغون العمل، ولا يدخلونه في الإيمان، جاؤوا باثنين وتركوا الثالث، قالوا: إن العمل ليس بضروري ما دام أنه ينطق ويعتقد فيكفي هذا، وهذا مذهب باطل أيضا، لا بد من الأعمال، والله دائما يقرن الإيمان بالعمل {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ما قال: آمنوا فقط، بل قال: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، فلا يكون إيمان إلا بالعمل، فالإرجاء مذهب باطل بجميع أقسامه. والأشاعرة جاؤوا بواحد وتركوا اثنين، فيقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب ولو لم ينطق بلسانه، فمن صدق بقلبه فهو مؤمن حتى ولو ما يتكلم. والحق هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو مأخوذ من الكتاب والسنة، أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح. وقوله: «يزيد بالطاعة» ، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] ، دل على أن الإيمان يزيد، وأهل الضلال يقولون: لا يزيد بل هو شيء واحد في القلب. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4] ، فذكر الأعمال، وحصر الإيمان في هؤلاء {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} ، ذكر أقوالا، وذكر أعمالا: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ووجل القلوب، هذا هو الإيمان، فدل على أنه يزيد بالطاعة، فيزيد بالصلاة، ويزيد بالزكاة، ويزيد بتلاوة القرآن، فهو يزيد، وقال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] ، دل على أن الإيمان يزيد وكذلك ينقص، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» ، فدل على أن الإيمان له أعلى وله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 أدنى، وقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» ، دل على أن الإيمان يضعف وينقص، وفي الحديث: «انطلق، فمن كان في قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار» ، فدل على أن الإيمان ينقص حتى يكون مثل حبة الخردل، فالناس ليسوا سواء في الإيمان، بعضهم أقوى إيمانا من بعض. المرجئة يقولون: أهله في أصله سواء. ويقولون: لا فرق بين إيمان أبي بكر وإيمان الفاسق من الناس، كلهم مؤمنون. أما أهل السنة فيقولون: هذا إيمانه يعدل الجبال، وهذا إيمانه يعدل مثقال ذرة أو حبة من خردل، لا يسوى بينهم. هذا معنى قولهم: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كلما أطاع المسلم ربه ازداد إيمانا، وكلما مال عصى ربه نقص إيمانه، هذا هو المذهب الحق، وهذا هو تعريف الإيمان الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة. ويرى الشيخ كغيره من أهل السنة والجماعة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] ، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] ، وغير ذلك من الآيات. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] ، فجعل من صفاتهم أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر هذا من المنافقين، قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] ، فهم بالعكس، وها هم الآن يأمرون بالمنكر، بل يأمرون بكل منكر، ويدعون إليه، ويدعون المسلمين إلى أن يتخلوا عن دينهم، ويسمون التمسك بالدين تشددا وغلوا، فيقولون: لا بد أن يترك المسلمون هذا، ولا بد أن تتمرد النساء ويتركن الحجاب، اتركوا الولاء والبراء واجعلوا الناس سواء ما بينهم فرق. هذا أمر بالمنكر، هم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف دائما وأبدا، عكس المؤمنين فإنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الدين، ولا بد منه في الإسلام، فإذا وجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا علامة نجاة الأمة، وإذا فقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 علامة هلاك الأمة، قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] ، قليل هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأنجاهم الله من العذاب، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] ،فلا ينجو إلا أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر فهو إما منافق ليس في قلبه إيمان، وإما مؤمن ضعيف الإيمان، وإذا هلك أهل المنكر يهلك معهم؛ لأنه لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر بحسب استطاعته؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» ، وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» ، فدل على أن الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر هذا هالك مع الهالكين، فلا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تحصل النجاة إلا بوجود هذا الأمر، فإذا فقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حق على الناس الهلاك، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقول الشيخ: «على ما توجبه الشريعة» ، هذا رد لقول الخوارج والمعتزلة: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الخروج على ولاة الأمور، وشق عصا الطاعة، وتفريق الجماعة، وسفك الدماء، بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا لا توجبه الشريعة، بل تنهى عنه الشريعة، وليس هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم يسمون الخروج على ولاة الأمور، وشق عصا الطاعة، واستباحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 دماء المسلمين وتكفيرهم، يسمون هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا انحراف في هذا المسمى العظيم، ولهذا يقول شيخ الإسلام وغيره من أهل السنة: «على ما توجبه الشريعة» ؛ كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في «العقيدة الواسطية» ؛ لأجل ألا يعتقد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما اعتقده الخوارج والمعتزلة، الذين يكفرون مرتكب الكبيرة من المؤمنين، ويسمون هذا من إنكار المنكر، وهذا خلاف ما توجبه الشريعة، وهو غلو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فيجب التنبه لهذا، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو كما قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» ، هذه كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الاستطاعة، فإذا لم تستطع، فأنت لست مكلفا بذلك، إلا أنك لا بد أن تنكره بقلبك، وتعتزل أهله وتبتعد عنهم. أما الذين يحملون السلاح في وجوه المسلمين، ويقولون: هذا هو الأمر المعروف والنهي عن المنكر. فهذا مذهب الخوارج ومذهب المعتزلة أهل الضلال. فهذا هو القيد الذي أراده أهل العلم بقولهم: «على ما توجبه الشريعة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال، لتطلعوا على ما عندي، والله على ما نقول وكيل، ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم، قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم. يخاطب أهل القصيم الذين سألوه عن عقيدته، يقول: «هذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال» ؛ لأنه رحمه الله مشغول بأعماله الجليلة في الدعوة والتعليم، وأمور عظيمة قام بها رحمه الله، فهو كتب هذا المختصر جوابا على سؤالهم، وبسطه موجود في كتب العقيدة المبسوطة؛ كالعقيدة الواسطية، والعقيدة الطحاوية وشرحها. وقوله: «لتطلعوا على ما عندي» ؛ لأنه اتهم بأشياء، ورمي بأشياء هو منها بريء، فهو بين عقيدته ليرد على خصومه، ويكذبهم فيما يقولون عنه رحمه الله. وقوله: «والله على ما نقول وكيل» ، يشهد الله على ذلك، وهذا من صدقه رحمه الله، كما أنه في بداية هذه العقيدة أشهد الله وملائكته ومن حضره من المؤمنين على ما تضمنته. وقوله: «ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم» ، لما ذكر عقيدته، أراد أن يرد على من اتهموه بتهم هو منها بريء، وهذه التهم لا يسلم منها نبي ولا أتباع الأنبياء، كلهم يتهمون إذا دعوا إلى الله، وأنكروا ما عليه أهل الباطل، توجه إليهم التهم، بأنهم يريدون الملك، يريدون الملك، يريدون الأموال، يريدون الرياء والسمعة، وأنهم سحرة، وأنهم مجانين، وأنهم يريدون كذا وكذا؛ كما هو مذكور في القرآن من أقوال الكفار في اتهام الأنبياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 عليهم الصلاة والسلام، خصوصا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، اتهموه بأنه شاعر، وأنه مجنون، وأنه معلم، وأنه كذاب، وأنه يريد الترأس على الناس، فكيف بمن دونه من أهل العلم؟ مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لما دعا إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم اتهموه، وكذبوا عليه وافتروا عليه، وأكاذيبهم مدونة، ومردود عليها – ولله الحمد – في كتب ورسائل تتضمنها «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» ، وتضمنتها كتب مستقلة مثل: «مصباح الظلام فيمن كذب على الشيخ الإمام واتهمه بتكفير أهل الإسلام» للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله، والرد على داود بن جرجيس العراقي فيما كتب من الباطل، والرد على دحلان في كتاب اسمه: «صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان» . ودحلان هذا هو مفتي أهل مكة، وكان خرافيا أتى بشبه على دعوة الشيخ، وصار يكذب عليه، وألف كتابا سماه: «الدرر السنية في الرد على الوهابية» ، وذكر فيها افتراءات على الشيخ، فرد عليه عالم من علماء الهند هو محمد بشير السهسواني رحمه الله بكتاب سماه: «صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان» ، وهو مطبوع موجود، ومثل كتاب: «غاية الأماني في الرد على النبهاني» للشيخ محمود شكري الآلوسي. ومن افتراءات دحلان يقول: إن ابن عبد الوهاب كان يضمر يريد أن يدعي النبوة، لكن لما رأى أن الناس لن يصدقوه كتم هذه الفكرة، وإلا فهي في نفسه. فكأن دحلان يعلم ما في القلوب، ويعلم الغيب، إلى غير ذلك من الافتراءات المضحكة، فليس الشيخ هو الوحيد الذي اتهم وشبه على دعوته، إذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام تناولهم شيء من الاتهامات، فأتباعهم من باب أولى، قال تعالى لنبيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت: 43] . وقوله: «سليمان بن سحيم» ، هذا من خصوم الشيخ في وقته، وهو مطوع معكال، حارة في الرياض معروفة بهذا الاسم إلى الآن، كان يجتمع في هذه الحارة أناس من الخرافيين ومنهم هذا، كذب على الشيخ وكتب رسالة تضحك الناس في الاتهامات والكذب، والشيخ رد على افتراءات ابن سحيم في رسالة موجودة في رسائل الشيخ، وأشار إليها هنا. وهذه إشارة فقط، وإلا فالرد المفصل في رسالة مستقلة على سليمان بن سحيم، كتب إليه: «من محمد بن عبد الوهاب إلى سليمان بن سحيم، أما بعد: فقد بلغني أنك تقول كذا وتقول كذا..» وكل فرية يرد عليها. وقوله: «قد وصلت إليكم» ، يعني: كأنه رحمه الله يستشف أن سؤال أهل القصيم له عن عقيدته سببها رسالة ابن سحيم، فهم لما جاءتهم رسالة ابن سحيم كتبوا إلى الشيخ يسألونه عن عقيدته، وهذا هو الواجب، فالواجب التثبت، فهم أحسنوا صنعا في هذا، إذا بلغك عن شخص أنه يقول كذا ويقول كذا، فالواجب أنك تتثبت، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ، يعني: تثبتوا {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] . فليت طلبة العلم الآن والشباب ينتهجون هذا المنهج، ويتثبتون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ويتركون هذا التحارش بينهم، وهذا التراشق بينهم؛ لأنهم إخوان وطلبة علم، عقيدتهم ولله الحمد واحدة، فلو يتركون هذا التراشق وهذه الاتهامات ويتثبتون فيما بينهم، وإذا ثبت شيء مما قيل يتناصحون فيما بينهم ولا يتخذونه تشهيرا أو اتهامات وتراشق بالكلام، هذا لا يجوز أبدا، فالواجب التثبت، فإذا ثبت فإنه يناصح من ثبت عليه الخطأ والمخالفة؛ لأن الإنسان ليس معصوما. هناك شخص آخر اسمه عبد الله بن سحيم من تلاميذ الشيخ وهو رجل طيب، فلا يشتبه عليكم عبد الله بن سحيم بسليمان بن سحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي، فمنها: قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وإني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. هل صحيح أن الشيخ يبطل كتب المذاهب الأربعة؟ هذا من أعظم الكذب، الشيخ تتلمذ على مذهب الحنابلة، ولا يجمد على مذهب الحنابلة بل يأخذ ما يقوم عليه الدليل من مذهب الشافعي أو مذهب مالك أو مذهب أبي حنيفة، هذا منهج الشيخ، هو في الأصل على مذهب الإمام أحمد، ولكن في الإفتاء يأخذ ما ترجح بالدليل سواء من مذهب الإمام أحمد أو من غيره، لا يتعصب وإنما يريد الحق، هذا منهجه في الفتوى والتعليم، يأخذ بما ترجح بالدليل من أي مذهب من المذاهب الأربعة، لكنه لا يخرج عن المذاهب الأربعة. فقول ابن سحيم: إن الشيخ «مبطل كتب المذاهب الأربعة» . هذه كذب؛ لأنه رحمه الله ما خرج عن المذاهب الأربعة، بل هو يستفيد منها، ويفتي بما ترجح بالدليل منها، سواء وافق مذهبه الحنبلي أو لم يوافقه؛ لأنه يريد الحق. وقوله: «إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء» ، يعني: أنه يكفر الناس، هذا من افتراءات ابن سحيم أن الشيخ يكفر الناس، لماذا يكفر الناس؟ لأنه يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الشرك، فهو بهذا – يزعمون – أنه يكفر الناس، وهو إنما يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك، وما كفر الناس، هو ما كفر إلا من ثبت كفره بالدليل من الكتاب والسنة، كما جاء في النواقض العشرة التي كتبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وإني أدعي الاجتهاد، وإني خارج عن التقليد. «وإني أدعي الاجتهاد» ، يعني: يقولون عنه أنه يدعي أنه مستقل في الاجتهاد، يضاهي الأئمة الأربعة، وهذا كذب، فالشيخ حنبلي، ولكنه لا يتعصب لمذهب إمامه، وإنما يأخذ ما ترجح بالدليل ولو كان في غير مذهب إمامه؛ لأنه يريد الحق، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما من المحققين، فهم لا يتعصبون وإنما يأخذون بما قام عليه الدليل، لكن لا يخرجون عن المذاهب الأربعة التي هي مذاهب الأئمة، التي درست وعرفت وحررت، وتوارثها المسلمون جيلا بعد جيل، فهو لا يدعي الاجتهاد المطلق، يعني: لا يدعي أنه في مصاف الأئمة الكبار: كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، ولكنهم يكذبون عليه. قوله: «خارج عن التقليد» وهو قبول قول العالم بدون معرفة دليله، والتقليد على قسمين: الأول: تقليد أعمى بأن يتعصب لقول العالم ولو كان مخالفا للدليل، فهذا يخرج عليه الشيخ محمد وغيره. الثاني: التقليد بالحق، كأن تأخذ قول العالم إذا وافق الدليل، فهذا تقليد بحق، وهذا اتباع لأهل الحق، يسمونه تقليدا، أو يسمونه اتباعا، فالمعنى واحد، يوسف عليه السلام يقول: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] ، هذا اتباع الحق، {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] ،فهذا يسمى اتباعا، فمن كان على الحق، فنحن نتبعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وإني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة. هذا كذب على الشيخ؛ لأن اختلاف العلماء في أمور الفروع والاجتهاد ليس نقمة، العلماء اجتهدوا وبحثوا، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، فالاجتهاد مطلوب، والاختلاف فيه لا يذم، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفتوى، كل يقول بحسب ما ظهر له من الدليل، فهذا النوع من الاختلاف محمود؛ لأنه بحث عن الحق. أما الاختلاف المذموم فهو الاختلاف في الحق، فلا يجوز الاختلاف في الحق بعدما تبين، بل يجب أخذ الحق، ولا تجوز مخالفته. فالاختلاف على قسمين: الأول: اختلاف مذموم، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] ، فالتفرق والاختلاف مذمومان، فالذي يسبب الارتباك في الحق، والتعصب للباطل مذموم. الثاني: الاختلاف الذي يبحث فيه عن الحق، فهذا محمود، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وإذا علمنا أنه أخطأ فنحن لا نأخذ بقوله بل بقول من أصاب، هذا هو المطلوب. ولهذا الفقهاء يقولون: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، مثلا: تحية المسجد وقت النهي، بعض العلماء يرى أنها تصلى عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» ، قالوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 هذا عام في أوقات النهي وفي غيرها؛ لأنها من ذوات الأسباب. بينما الجمهور يقولون: وقت النهي لا يصلى فيه، لا تحية المسجد ولا غيرها من النوافل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ونهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، فقدموا عموم النهي على عموم الأمر، فمن أخذ بهذا القول فإنه لا ينكر عليه، ومن أخذ بالقول الأول فلا ينكر عليه؛ لأن كلا له مستند، وهذه مسائل اجتهادية لا يجوز فيها التعادي، فالصحابة يختلفون – وهم إخوة - في المسائل الفرعية. والنبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الأحزاب وجهز الصحابة لغزو يهود بني قريظة فقال: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» ، بعض الصحابة قال: مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم المبادرة، وليس المقصود ألا نصلي إلا عندما نصل بني قريظة. فصلوا في الطريق، والبعض الآخر قالوا: الرسول يقول: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» ، فأخروا العصر إلى أن وصلوا إلى بني قريظة، فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الفريقين؛ لأن كل واحد منهم له مأخذ من الدليل، فالاجتهاد من هذا النوع لا إنكار فيه، ولا يقال: إنه نقمة، بل يقال: إنه اجتهاد وبحث عن الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وإني أكفر من توسل بالصالحين، وإني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق، وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها. قوله: «أني أكفر من توسل بالصالحين» ، هذا الحكم على الإطلاق ليس بصحيح، فالتوسل فيه تفصيل: إن كان يصرف شيئا من العبادة لمن يتوسل به؛ كعباد القبور الذين يذبحون للأموات، وينذرون لهم، ويستغيثون بهم، فهذا شرك أكبر؛ لأنه عبادة لغير الله، أما إن كان لا يصرف لهم شيئا من العبادة، وإنما يتوسل إلى الله بهم، أي: بواسطتهم، فهذه بدعة، وليست كفرا، كالسؤال بالجاه، أو بحق فلان، أو بنبيك، أو بعبدك فلان من غير أن يصرف له شيئا من العبادة، وإنما جعله واسطة بينه وبين الله في قبول دعائه، فهذه بدعة؛ لأن الله أمرنا بدعائه بدون اتخاذ واسطة بيننا وبينه. فقولهم: إن الشيخ يكفر بالتوسل مطلقا، هذا كذب؛ لأن الشيخ يفصل في هذا. وقوله: «وأني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق» ، هذه مسألة تكفير المعين؛ كأن الشيخ لا يرى تكفير المعين، والبوصيري كلامه كفر؛ كقوله يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم فإن لي ذمة منه بتسميتي ... محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 إلى آخر ما قال في «البردة» ، وهذا كفر، لكن الشخص قد يكون ما بلغته الحجة، أو يكون متأولا، فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة، وأيضا هو لا يعلم ما ختم له به. قوله: «وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها» ، وهذا من الكذب على الشيخ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم معلوم أنه دفن في بيته محافظة عليه من الغلو، وبيته له جدران، وله سقف، فالسقف موجود من وقت دفنه صلى الله عليه وسلم، غاية ما هنالك أنه أزيل السقف وجعل على شكل قبة، فالشيخ لا يرى أن هذا منكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم دفن في بيته، واستمر صلى الله عليه وسلم مقبورا في بيته حفاظا عليه من الغلو؛ كما تقول عائشة لما ذكرت نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو في القبور: «ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا» ، فدفن في بيته محافظة عليه من الغلو، فيتهمون الشيخ، ويجعلون قبة الرسول مثل القباب التي على القبور المبنية عليها تعظيما لها، وهذا غلط، القباب المبنية على القبور مخالفة للشرع، يعني بأن يدفن الميت ويقام على قبره بناية وقبة، أو يجعل مسجدا، هذا الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا وسيلة إلى الشرك، الصحابة أفضل قرون الأمة كانوا يدفنون في البقيع، ولا يجعل على قبورهم شيء، وإنما الرسول – عليه الصلاة والسلام – عزل وجعل في بيته حفاظا عليه من الغلو، وفرق بين ما بني عليه غلوا فيه وبين ما دفن في بيته حفاظا عليه من الغلو. فالبناء على القبور تعظيما لها منهي عنه، وهو وسيلة من وسائل الشرك، ومما يجعل العوام يتعلقون بها، لكن قبر الرسول ما بني عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وإنما دفن في بيته عليه الصلاة والسلام، وعرفنا العلة: أنه لأجل المحافظة عليه، ما رأيكم لو كان الرسول مدفونا في البقيع، ماذا يكون عنده من الزحام والغلو، وفعل الجهال؟ ولكن الله أجاب دعاء نبيه فقد قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» ، فأجاب الله دعاءه ودفن في بيته محافظة عليه. قال ابن القيم رحمه الله: فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان هذا الفرق بين قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وقبر غيره مما بني عليه، فلا يشتبه هذا بهذا، ونقول: قبر الرسول مبني عليه، وعليه قبة، فعلى هذا يجوز البناء على القبور الأخرى وجعل عليها قباب؛ كما يقوله الخرافيون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله. وهذا من الكذب على الشيخ، أنه يقول: «لو أقدر على أخذ ميزاب الكعبة» ؛ لأن ميزاب الكعبة مصنوع من الذهب، يقولون عن الشيخ: إنه يقول: «لو أقدر أخذته، وجعلت مكانه ميزابا من خشب» . وهذا كذب على الشيخ، ولا مانع من أنه يجعل ميزاب الكعبة من الذهب؛ لأن الذهب لا يخرب ولا يتغير، أما لو كان من الخشب لأكلته الأرضة، وتغير، فالشيخ ما قال في ميزاب الكعبة شيئا أبدا، ولكن اتهموه بهذا، حتى قالوا: إنه يقول: إن عصاي هذا أفضل من الرسول؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ميت ولا ينفع أحدا، وعصاي هذا أنتفع به وأضرب به. هذا من أعظم الكذب على الشيخ. كذلك زعموا أن الشيخ حرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا غير صحيح، بل كان رحمه الله يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقبر الرسول يزار كما تزار القبور، قال صلى الله عليه وسلم: «فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة» ، فمن ضمن ذلك: قبر الرسول صلى الله عليه وسلم يزار ويسلم عليه؛ كما تزار القبور ويسلم عليها، فهو لم ينكر الزيارة الشرعية، وإنما ينكر الزيارة البدعية أو الشركية لقبر الرسول ولغيره، فالذي يزور القبور ليدعو الأموات، ويستغيث بأصحاب القبور ويتبرك بها، ويتبرك بترابها، هذا هو الذي يمنعه العلماء – الشيخ وغيره – أما الزيارة الشرعية التي يقصد منها السلام على الميت والدعاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 له، والاعتبار بالقبور فهذه لا ينكرها أحد من العلماء. فالشيخ ينكر الزيارة الشركية والبدعية للقبور، ولا ينكر الزيارة الشرعية، ولكن هم يلبسون على الناس بهذا الكلام. قوله: «وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما» ، كذلك هذا بناء على أنهم يقولون: إنه يكفر الذين سبقوه، فيقول للناس: لا تزوروا والديكم؛ لأنهم كفار. وهذا كذب، فالشيخ لا يدري عن الذين ماتوا وعما ماتوا عليه، والأصل إحسان الظن بأموات المسلمين، فهذا من الكذب على الشيخ رحمه الله. وقوله: «وإني أكفر من حلف بغير الله» ، كذلك الحلف بغير الله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» ، ولكن ليس معناه الكفر المخرج من الملة، وإنما هو كفر أصغر، وشرك أصغر لا يخرج من الملة، فالذي يقول: إنه كفر أو شرك، إن كان يقصد أنه شرك أصغر وكفر أصغر فهذا صحيح؛ لأن الرسول سماه كفرا وسماه شركا، أما إن كان يقصد أنه الكفر المخرج من الملة فهذا باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وإني أحرق "دلائل الخيرات " و" روض الرياحين "، وأسميه: روض الشياطين. ابن الفارض صاحب المنظومة التائية في وحدة الوجود، فيها كفر وإلحاد والعياذ بالله، ولكن الشيخ لا يكفر صاحبها؛ لأنه لا يدري ماذا ختم له، ولا يدري هل بلغته الحجة أو لم تبلغه، فهو يقول: إن ما فيها إلحاد وكفر، ولكن صاحبها يتوقف فيه، هذا مذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون لأحد بجنة أو نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم. وابن عربي معروف، هو محيي الدين بن عربي الطائي إمام أهل وحدة الوجود، وابن الفارض من أتباع ابن عربي، ومع هذا فإن الشيخ لا يجزم بكفرهما، وإن كانا قالا كفرا وضلالا وإلحادا، ولكن تكفير المعين يحتاج إلى دليل؛ لأنه ربما تاب، وربما ختم له بالتوبة، فالله أعلم. ومن الكذب على الشيخ أيضا: قولهم: إنه أحرق دفتر «دلائل الخيرات» ، ودلائل الخيرات هو كتاب في «الصلاة والسلام على خير البريات» ، فيه غلو، وفيه دعاء للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو كتاب فيه باطل، ولكن الشيخ لم يحرقه، ولكنه كان يوصي بقراءة الكتب المفيدة الخالية من المخالفات. وكذلك «روض الرياحين» ، هو من كتب الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن تحريقها لا يؤدي إلى نتيجة. وافتروا على الشيخ وقالوا: سماه «روض الشياطين» ، وهذا كله من الكذب على الشيخ رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 جوابي عن هذه المسائل أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. وقبله من بهت محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم عليهما السلام ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور، قال تعالى {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] ، بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول: إن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار، فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] . هذه المسائل التي افتروها، قال رحمه الله في جوابه عنها: «سبحانك هذا بهتان عظيم» كل ما قيل في هذه الكلمات فهو بهتان عظيم لم يقله الشيخ، وهو منه بريء، رحمه الله رحمة واسعة. وقوله: «قبله من بهت محمدا صلى الله عليه وسلم» ، «قبله» يعني: قبل ابن سحيم، من بهت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار والمشركين، فلي أسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا بهتني ابن سحيم، فالرسول صلى الله عليه وسلم بهت بما هو أعظم من هذا. قالوا في الرسول: «أنه يسب عيسى بن مريم» وذلك لما نزل عليه قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] ، قالوا: محمد يسب عيسى وأمه؛ لأن عيسى عبد من دون الله فمعناه أنه يلقى في النار، {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] ، يعنون عيسى عليه السلام، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 101، 102] ، فالآية فيمن عبد وهو راض، وعيسى لم يرض ولم يأمرهم بعبادته، بل أمرهم بعبادة الله عز وجل، {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 [المائدة: 117] ، {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم: 36] ، فعيسى عليه السلام ما دعا الناس إلى عبادة نفسه بل أنكر هذا، إنما الذين يدعون الناس إلى أن يعبدوهم هم الذين يكونون في النار مع عبدهم. أما عيسى وعزير وغيرهما من الأنبياء فإنهم ينكرون هذا في حياتهم، ولما ماتوا فعل الناس هذا بهم بعد موتهم، قال عيسى – عليه الصلاة والسلام -: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] ، فالأنبياء والرسل والصالحون لا يأمرون الناس أن يعبدوهم {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29] ، {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 79] ، فنزه الله الأنبياء عن هذا الكلام، فعيسى ما قال لهم: اعبدوني. وإنما هم عبدوه بعد موته، فلا لوم عليه عليه الصلاة والسلام، ورد الله عليهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} ، ومنهم عيسى عليه الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} ، وقال في الزخرف {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] . قالوا: إذا كانت الآلهة في النار فعيسى معهم؛ لأنه معبود من دون الله. يريدون أن يردوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله - جل وعلا -: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ} يعني: عيسى عليه السلام {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] ، فالله رد عليهم في موضعين: في سورة الأنبياء، وفي سورة الزخرف، وهكذا القرآن يرد على أهل الباطل ويفند شبهاتهم ولله الحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فإذا كانوا اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يكفر المسيح، وأنه يقول: إنه في النار؛ لأن النصارى عبدوه، فكيف لا يتهمون الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟ ! «بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول: إن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار» ؛ لأنهم عبدوا من دون الله، والآية تقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} ، يقولون: هذه عامة للملائكة ولعيسى وعزير والصالحين. الجواب: أن هؤلاء لم يريدوا أن يعبدوا من دون الله، بل كانوا ينكرون هذا في حياتهم، فهم مبعدون عن النار، {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} ، وهم عيسى وعزير ومن سبقت له الحسنى من الله فإنه مبعد من النار، ولو عبد بعد موته فهذا لا يضره؛ لأنه كان ينكره يوم أن كان حيا. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبد بعد أن مات، يعبده الخرافيون والمشركون، هل هذا يذم به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يقال: إن محمدا في النار؛ لأنه عبد من دون الله؟ لا؛ لأنه كان ينكر هذا في حياته، ويجاهد عليه بالسيف، أما كونه يعبد بعد موته فلا يرجع عليه في ذلك ملامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وأما المسائل الأخر وهي: أني أقول: لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى " لا إله إلا الله "، وأني أعرف من يأتيني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله، وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام. فهذه المسائل حق وأنا قائل بها، ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أقوال العلماء المتبعين؛ كالأئمة الأربعة، وإذا سهل الله تعالى بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة إن شاء الله تعالى. ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} .... الآية [الحجرات: 6] . قوله: «لا يتم إسلام عبد حتى يعرف معنى لا إله إلا الله» ، هذا صحيح، والشيخ رحمه الله يعلم الناس معنى (لا إله إلا الله) بأن معناها: لا معبود بحق إلا الله، وما سواه فعبادته باطلة وشرك، هل هذا يلام الشيخ عليه؟ ! الجواب: لا، بل هذا منهج الأنبياء. وقوله: «وأني أكفر الناذر» ، هذا أيضا صحيح، من نذر لغير الله فإنه كافر؛ لأنه صرف نوعا من أنواع العبادة لغير الله، فلا لوم على الشيخ ولا على غيره إذا كفره بذلك. وقوله: «وإن الذبح لغير الله كفر» ، هذا صحيح؛ لقوله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 [الأنعام: 162، 163] ، وفي السنة: «لعن الله من ذبح لغير الله» . وقوله: «والذبيحة حرام» ؛ لأنها مما أهل به لغير الله، والله - جل وعلا – يقول: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، ويقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] . وقوله: «فهذه المسائل حق وأنا قائل بها» : لأن هذا مقتضى الكتاب والسنة، فلا لوم على الشيخ، بل يشكر على هذا ويدعى له، ولكنهم يعدون المحاسن سيئات. وبهذا انتهى الشرح على هذه الرسالة المباركة، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين تمت في 18 \ 1 \ 1426 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160