الكتاب: شرح الأصول الثلاثة المؤلف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى - 1427 هـ - 2006 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- شرح ثلاثة الأصول لصالح الفوزان صالح الفوزان الكتاب: شرح الأصول الثلاثة المؤلف: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى - 1427 هـ - 2006 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] شرح الأصول الثلاثة بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الشرح الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فبين أيدينا هذه الرسالة - رسالة ثلاثة الأصول - وهي رسالة جليلة مختصرة مؤيدة بالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الرسالة في أصل عظيم من أصول الإسلام وهو العقيدة، وكان العلماء يهتمون بهذه المختصرات يؤلفونها، ويتعبون على اختصارها وتهذيبها ثم يحفظونها لطلبتهم؛ لتبقى أصولا عندهم وذخيرة عندهم يستفيدون منها ويفيدون منها. والبداءة بهذه المختصرات هي الأساس لطلبة العلم، فطالب العلم يبدأ بالتعلم شيئا فشيئا يأخذ من مبادئ العلم وأصوله، ويتدرج فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فهذه المختصرات طريق المطولات. لا يمكن أن تفهم المطولات إلا بعد فهم المختصرات والتدرج منها شيئًا فشيئًا؛ ولهذا قالوا في معنى قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] إن الربانيين هم الذين يبدؤون بصغائر مسائل العلم قبل كباره، يربون أنفسهم وطلابهم ابتداء من المسائل الصغيرة إلى المسائل الكبيرة، وهذا شيء طبيعي؛ لأن كل الأشياء تبدأ من أصولها وأساساتها ثم تكبر وتعظم بعد ذلك. فأما الذي يهجم على العلم هجوما من أعلاه، فهذا يتعب ولا يحصل على شيء، بينما الذي يبدأ من الأصول ويتدرج هذا هو الذي - بإذن الله - يسير مع الطريق الصحيح والاتجاه السليم. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] هؤلاء سألوا عن الأهلة، لماذا يبدأ الهلال صغيرا ثم يكبر ثم يكبر حتى يتكامل ثم يصغر حتى يعود هلالا؟ فعتب الله عليهم، ووجههم أن يسألوا عما ينفعهم، وأن يأتوا بيوت العلم من أبوابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 أما السؤال عن الهلال وأحواله وصغره وكبره، فهذا لا فائدة لهم فيه، بل الفائدة هي أن يسألوا عما يحتاجون إليه، وهو معرفة فوائد الأهلة ولهذا قال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} بين لهم فوائدها، وهي أن الله جعلها مواقيت للناس يعرفون بها العبادات والمعاملات والآجال، وغير ذلك. فأرشدهم إلى فوائد الأهلة، ولم يجبهم عن سؤالهم عن حقيقة الأهلة، لأنه ليس لهم في ذلك فائدة وليوجههم إلى ما ينبغي أن يسألوا عنه، وهو أبواب العلم لا ظهور العلم والمسائل الفضولية التي لا يحتاجون إليها، وإن احتاجوا إليها فهي حاجة قليلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 مقدمة المؤلف قال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم [1]   [1] ابتدأ رحمه الله هذه الرسالة بالبسملة اقتداء بكتاب الله - عز وجل -، فإن أول ما يقع عليه بصرك في المصحف وقبل كل سورة منه " بسم الله الرحمن الرحيم ". فالبداءة بها في الرسائل وفي الكتب وفي المؤلفات اقتداء بكتاب الله - عز وجل -، وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتبها في أول رسائله حينما يكتب إلى الأمراء والرؤساء وإلى من في أقطار الأرض يدعوهم إلى الإسلام يبدأ كتابته " ببسم الله الرحمن الرحيم ". وكان - صلى الله عليه وسلم - يفتتح أحاديثه وكلامه " ببسم الله الرحمن الرحيم " مما يدل على أن البداءة " ببسم الله الرحمن الرحيم " سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أن سليمان - عليه السلام - لما كتب إلى بلقيس ملكة سبأ بدأ كتابه " ببسم الله الرحمن الرحيم ": {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 - 31] ينبغي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 البدء " ببسم الله الرحمن الرحيم " في كل أمر له أهمية وكل مؤلف له أهمية وله قيمة، وكل رسالة. وعلى هذا فالذين لا يبدءون مؤلفاتهم ورسائلهم " ببسم الله الرحمن الرحيم " هؤلاء تركوا السنة النبوية والاقتداء بكتاب الله - عز وجل -، وربما بسبب ذلك أن كتبهم هذه ورسائلهم ليس فيها بركة وليس فيها فائدة؛ لأنها إذا خلت من " بسم الله الرحمن الرحيم " فإنها منزوعة الفائدة. لماذا تركوا " بسم الله الرحمن الرحيم "؟ إنما تركوها لأنها سُنة، وهم ينفرون من السنة، أو يقلدون من ينفر من السنة، فينبغي التنبه لمثل هذا. فمعنى " بسم الله الرحمن الرحيم ": الاستعانة باسم الله. فقوله: بسم الله: جار ومجرور متعلق بمحذوف، تقديره: أستعين بسم الله الرحمن الرحيم، أو أبتدئ ببسم الله الرحمن الرحيم تبركا بها واستعانة بالله - عز وجل -. فهي مطلع عظيم للكلام وللكتب والرسائل، فالإنسان يستعين بالله في بدايتها ويتبرك باسمه سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 المسائل الأربع التي تضمنتها سورة العصر الرسالة الأولى العلم اعلم رحمك الله [2]   [2] قوله: اعلم: كلمة تشير إلى الاهتمام بالموضوع فإذا قال اعلم: فمعناه أن الأمر الذي سيلقيه عليك أمر مهم، فهذه الكلمة تدل على أهمية الموضوع التي يبدأ بها فيه. ومعنى اعلم: فعل أمر من العلم، أي تعلم، والعلم: هو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع أو تصور الشيء على طبق الواقع. وإدراك الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع أو تصور الشيء على خلاف الواقع فهو الجهل وهو ضد العلم. قوله: رحمك الله: هذا دعاء لطالب العلم، فالشيخ يدعو لطلبة العلم بأن يرحمهم الله، وأن يلقي عليهم رحمته - سبحانه وتعالى - فهذا فيه التلطف من المعلم بالمتعلم، وأنه يبدأ بالكلام الطيب والدعاء الصالح حتى يؤثر ذلك فيه، ويقبل على معلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 أما إذا بدأ المعلم بالكلام القاسي والكلام غير المناسب فإن هذا يُنفره، فالواجب على المعلم وعلى من يدعو إلى الله، وعلى من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر التلطف بمن يخاطبه بالدعاء والثناء عليه والكلام اللين فإن هذا أدعى للقبول. أما المعاند والمكابر فهذا له خطاب آخر قال الله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] . فالذين ظلموا من أهل الكتاب وعاندوا وكابروا هؤلاء لا يخاطبون بالتي هي أحسن بل يخاطبون بما يردعهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] ، المنافقون لا يجاهدون بالسلاح، وإنما يجاهدون بالحجة والكلام والرد عليهم بالغلظة ردعا لهم وتنفيرا للناس عنهم، وقال تعالى فيهم: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] ، هؤلاء لهم خطاب خاص؛ لأنهم أهل عناد ومكابرة ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل [3]   يريدون الحق بل يريدون تضليل الناس فهؤلاء يخاطبون بما يليق بهم. أما الطالب المسترشد فهذا يخاطب بالرفق والرحمة واللطف؛ لأنه يريد الحق ويريد العلم والفائدة. قوله: اعلم رحمك الله: دعاء لك بالرحمة، فإذا رحمك الله فإنك تكون سعيدا بها في الدنيا والآخرة. إذا دخلت في رحمة الله، وهذا دعاء ومن عالم جليل ورجل صالح يرجى له القبول إن شاء الله. [3] قوله: يجب: الواجب: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، والمستحب: هو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، والمباح: لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه. فقوله: يجب: يعني أن هذا الأمر ليس من المستحب، ولا من المباح بل هو من الواجب العيني. فإذا تركنا تعلم هذه المسائل فإننا نأثم لأن هذا شأن الواجب، لم يقل يستحب لنا أو يستحسن لنا بل قال يجب علينا وجوبا، والوجوب معناه الحتم، من تركه يأثم، ولأن العلم لا يحصل عليه إلا بالتعلم، والتعلم يحتاج إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الأولى: العلم [4]   عناية وجهد ووقت، ويحتاج إلى فهم وإلى حضور قلب، هذا هو التعلم. قوله: أربع مسائل: يعني مباحث، سميت مسائل لأنها يجب أن يُسأل عنها وأن يُعنى بها. [4] قوله: العلم: المراد بالعلم هنا هو العلم الشرعي؛ لأنه هو الذي يجب تعلمه، وهذه المسائل يجب تعلمها على كل مسلم من ذكر أو أنثى أو حر أو عبد أو غني أو فقير أو ملك أو صعلوك، كل مسلم يجب عليه أن يتعلم هذه المسائل الأربع. وهذا ما يسميه العلماء بالواجب العيني، وهو الذي يجب على كل أحد من المسلمين، فالصلوات الخمس على الرجال والنساء، وصلاة الجماعة في المساجد على الرجال هذا واجب على كل فرد من المسلمين أن يتعلمها؛ ولذلك قال: يجب علينا، ولم يقل: يجب على بعضنا، وإنما قال: يجب علينا، يعني معشر المسلمين، فهذا من العلم الذي يجب تعلمه على الأعيان؛ لأن العلم على قسمين: الأول: ما يجب تعلمه على الأعيان، فلا يعذر أحد بجهله وهو ما لا يستقيم الدين إلا به، مثل أركان الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الخمسة التي هي: الشهادتان، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بيت الله الحرام، لا يجوز لمسلم أن يجهلها بل لا بد أن يتعلمها. لأن تعلم معنى الشهادتين إنما هو تعلم العقيدة، يتعلم المسلم العقيدة من أجل العمل بها، ويتعلم ما يضادها من أجل أن يتجنبه، هذا مضمون الشهادتين، كذلك يتعلم أركان الصلاة وشروط الصلاة، وواجبات الصلاة، وسنن الصلاة، يتعلم بالتفصيل هذه الأمور، ليس مجرد أنه يصلي وهو لا يعرف أحكام الصلاة. كيف يعمل الإنسان عملا وهو لا يعلم هذا العمل الذي يؤديه؟ كيف يؤدي الصلاة وهو جاهل بأحكامها؟ فلا بد أن يتعلم أحكام الصلاة، ومبطلات الصلاة، لا بد من تعلم هذا. كذلك يتعلم أحكام الزكاة، ويتعلم أحكام الصيام، ويتعلم أحكام الحج، فإذا أراد أن يحج وَجَبَ عليه تعلم أحكام الحج وأحكام العمرة، من أجل أن يؤدي هذه العبادات على الوجه المشروع. وهذا القسم لا يعذر أحد بجهله، وهو ما يسمى بالواجب العيني على كل مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 القسم الثاني من أقسام العلم: فهو ما زاد عن ذلك من الأحكام الشرعية التي تحتاجها الأمة بمجموعها وقد لا يحتاجه كل أحد بعينه مثل أحكام البيع وأحكام المعاملات، وأحكام الأوقاف والمواريث والوصايا، وأحكام الأنكحة، وأحكام الجنايات، هذه لا بد منها للأمة، لكن لا يجب على كل فرد من الأمة أن يتعلمها بل إذا تعلمها من يحصل به المقصود من العلماء كفى هذا؛ ليقوموا بحاجة المسلمين من قضاء وإفتاء وتعليم وغير ذلك، هذا يسمى واجب الكفاية الذي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثموا جميعا. لا بد للأمة من أناس يتعلمون هذا القسم لأنهم بحاجة إليه؛ لكن ما يقال لكل واحد: يجب عليك أن تتفقه في هذه الأبواب؛ لأنه قد لا يتأتى هذا لكل أحد، وإنما يختص هذا بأهل القدرة وأهل الاستطاعة من الأمة، ولأنه إذا تعلم هذا بعضُ الأمة قام بالواجب، بخلاف القسم الأول فكل واحد مسؤول عنه في نفسه، لأنه لا يمكن أن يعمل هذه الأعمال إلا عن علم، ولهذا قال الشيخ: يجب علينا، ولم يقل: يجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 على المسلمين، أو يجب على بعضهم، بل قال: يجب علينا، أي على كل واحد منا وجوبا عينيا. ولنعلم أيضا قبل الدخول في المسائل أن المراد بالعلم الذي يجب على الأمة إما وجوبا عينيا أو كفائيا أنه العلم الشرعي الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. أما العلم الدنيوي كعلم الصناعات والحِرَف والحساب والرياضيات والهندسة، فهذا العلم مباح يباح تعلمه وقد يجب إذا احتاجت الأمة إليه، يجب على من يستطيع لكن ليس هو العلم المقصود في القرآن والسنة والذي أثنى الله تعالى على أهله ومدحهم والذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «العلماء ورثة الأنبياء» المراد العلم الشرعي. وأما العلم الدنيوي فمن جهله فلا إثم عليه، ومن تعلمه فهو مباح له، وإذا نفع به الأمة فهو مأجور عليه ومثاب عليه، ولو مات الإنسان وهو يجهل هذا العلم لم يؤاخذ عليه يوم القيامة لكن من مات وهو يجهل العلم الشرعي خصوصا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 العلم الضروري فإنه يسأل عنه يوم القيامة، لِمَ لَمْ تتعلم؟ لماذا لَمْ تسأل؟ الذي يقول إذا وضع في قبره: ربي الله والإسلام ديني ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا ينجو، يقال له: من أين حصَّلت هذا؟ يقول: قرأت كتاب الله وتعلمته. أما الذي أعرض عن ذلك فإنه إذا سئل في قبره فإنه يقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فهذا يؤجج عليه قبره نارا - والعياذ بالله - ويضيق عليه فيه حتى تختلف أضلاعه، ويصبح في حفرة من حفر النار؛ لأنه ما درى ولا تلا فيقال له: «لا دريت ولا تليت [أو لا تلوت] » فهو لم يتعلم ولم يَقْتَدِ بأهل العلم، وإنما هو ضائع في حياته، فهذا الذي يؤول إلى الشقاء والعياذ بالله. فقوله: العلم: هذا هو العلم الشرعي المطلوب منا جماعة وأفرادا، وهو معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة حقه علينا وهو عبادته وحده لا شريك له، فأولُ ما يجب على العبد هو معرفةُ ربه - عز وجل - وكيف يعبده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه [5]   [5] قوله: وهو معرفة الله: كيف يعرف العبد ربه؟ يعرفه بآياته ومخلوقاته فمن آياته الليل والنهار، ومن مخلوقاته الشمس والقمر، كما يأتي بيان هذا إن شاء الله. يعرف الله بآياته الكونية وآياته القرآنية. إذا قرأ القرآن، عرف الله - سبحانه وتعالى - أنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه هو الذي سخر ما في السماوات والأرض، وأنه هو الذي يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأنه الرحمن الرحيم. فالقرآن يعرف بالله - عز وجل -، وأنه هو الذي أنعم علينا بجميع النعم، وأنه هو الذي خلقنا ورزقنا، فإذا قرأت القرآن عرفت ربك - سبحانه وتعالى - بأسمائه وصفاته وأفعاله. وإذا نظرت في الكون عرفت ربك - سبحانه وتعالى - أنه هو الذي خلق هذا الخلق، وسخر هذا الكون وأجراه بحكمته وعلمه - سبحانه وتعالى -، هذا هو العلم بالله - عز وجل -. قوله: ومعرفة نبيه: هو محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المبلغ عن الله - عز وجل -، وهو الواسطة بيننا وبين الله - عز وجل - في تبليغ الرسالة، لا بد أن تعرفه، تعرف من هو؟ وتعرف نسبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ومعرفة دين الإسلام [6]   وتعرف بلده، وتعرف ما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، تعرف كيف بدأه الوحي؟ وكيف قام بالدعوة إلى الله - عز وجل - في مكة والمدينة، تعرف سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو باختصار. الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف إلى آخر النسب النبوي الذي ينتهي إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وتعرف كيف عاش قبل البعثة، وكيف جاء الوحي من الله - عز وجل -، وماذا عمل - عليه الصلاة والسلام - بعد بعثته، تعرف ذلك بدراسة سيرته - صلى الله عليه وسلم - ولا يليق بالمسلم أن يجهل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كيف تتبع شخصا وأنت لا تعرفه؟ ! هذا غير معقول. [6] قوله: معرفة دين الإسلام: الذي هو دين هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل هو دين الله - عز وجل - الذي أمر به عباده، والذي أمرك باتباعه وأنت مطالب به لا بد أن تعرف هذا الدين والإسلام هو دين جميع الرسل، كل الرسل دينهم الإسلام بالمعنى العام، فكل من اتبع رسولا من الرسل فهو مسلم لله - عز وجل - منقاد له، موحد له، هذا الإسلام بمعناه العام، إنه دين الرسل جميعا، فالإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 بالأدلة [7]   أما الإسلام بمعناه الخاص فهو الذي بعث الله به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - لأنه بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا دين إلا دينه - عليه الصلاة والسلام -، والإسلام انحصر في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - فلا يمكن لليهودي أن يقول: أنا مسلم، أو النصراني يقول: أنا مسلم، بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يتبعه، فالإسلام بعد بعثة النبي هو اتباعه - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] هذا هو الإسلام بمعناه العام وبمعناه الخاص. [7] قوله: بالأدلة: لا بالتقليد وإنما بالأدلة من القرآن ومن السنة هذا هو العلم. قال ابن القيم في الكافية الشافية: العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة هم أولو العرفان ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين النصوص وبين رأي فلان هذا هو العلم، العلم هو علم الكتاب والسنة، أما أقوال العلماء فهي تشرح وتوضح فقط كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 العمل بالعلم الثانية: العمل به [8]   وقد يكون فيها أو في بعضهما خطأ، والأدلة ليست كلام العلماء إنما الأدلة هي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأما كلام العلماء فهو شارح وموضح ومبين لذلك لا أنه دليل في نفسه. هذه هي المسألة الأولى وهي الأساس، بدأ بها الشيخ - رحمه الله - لأنها هي الأساس وإنما يُبدأ بالعقيدة وبالأساس بالتعلم والتعليم والدعوة إلى الله - عز وجل -، يبدأ بالعقيدة لأنها هي الأصل وهي الأساس. [8] قوله: العمل به: أي بالعلم لأنه لا يكفي أن الإنسان يعلم ويتعلم بل لا بد أن يعمل بعلمه، فالعلم بدون عمل إنما هو حجة على الإنسان، فلا يكون العلم نافعا إلا بالعمل، أما من عَلِمَ ولم يعمل فهذا مغضوب عليه؛ لأنه عرف الحق وتركه على بصيرة. والناظم يقول: وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الوثن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وهذا مذكور في الحديث الشريف: «إن من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، عالم لم يعمل بعلمه» العلم مقرون بالعمل، والعمل هو ثمرة العلم، فعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر، لا فائدة فيها، والعلم إنما أنزل من أجل العمل. كما أن العمل بدون علم يكون وبالا وضلالا على صاحبه، إذا كان الإنسان يعمل بدون علم فإن عمله وبال وتعب على صاحبه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» . ولهذا نقرأ في الفاتحة في كل ركعة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7] . فسمى الله الذين يعملون بدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الدعوة إلى العلم الثالثة: الدعوة إليه [9]   علم الضالين، والذين يعلمون ولا يعملون بالمغضوب عليهم، فلنتنبه لذلك فإنه مهم جدا. [9] قوله: الدعوة إليه، أي لا يكفي أن يتعلم الإنسان ويعمل في نفسه، ولا يدعو إلى الله - عز وجل -، بل لا بد أن يدعو غيره فيكون نافعا لنفسه ونافعا لغيره، ولأن هذا العلم أمانة، ليس بملك لك تختزنه وتحرم الناس منه، والناس بحاجة إليه، فالواجب عليك التبليغ والبيان ودعوة الناس إلى الخير، هذا العلم الذي حملك الله إياه ليس وقفا عليك؛ وإنما هو لك ولغيرك، فلا تحتكره على نفسك وتمنع الناس من الانتفاع به، بل لا بد من تبليغه ولا بد من بيانه للناس، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] . هذا ميثاق أخذه الله على العلماء أن يبينوا للناس ما علمهم الله من أجل أن ينشروا الخير، ويخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، وهذا عمل الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ومن اتبعهم، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الصبر على الأذى فيه الرابعة: الصبر على الأذى فيه [10]   {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] هذه طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطريقة أتباعه، العلم والعمل والدعوة إلى الله - عز وجل -، «فمن لم يدع وهو قادر على الدعوة وعنده وكتمه، فإنه يلجم بلجام من نار يوم القيامة» كما في الحديث. [10] قوله: الصبر على الأذى فيه: معلوم أن من دعا الناس وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فإنه سيتعرض للأذى من الأشرار؛ لأن كثيرا من الناس لا يريدون الخير بل يريدون الشهوات والمحرمات والأهواء الباطلة، فإذا جاء من يدعوهم إلى الله ويردهم عن شهواتهم فلا بد أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 منهم رد فعل بالقول أو بالفعل فالواجب على من يدعو إلى الله ويريد وجه الله أن يصبر على الأذى وأن يستمر في الدعوة إلى الله، وقدوته في ذلك الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وخيرتهم وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -. ماذا لقي من الناس؟ وكم لقي من الأذى بالقول والفعل؟ قالوا: ساحر وكذاب، وقالوا: مجنون، وقالوا فيه من الأقوال التي ذكرها الله - عز وجل - في القرآن، وتناولوه بالأذى، قذفوه بالحجارة حتى أدموا عقبه - صلى الله عليه وسلم - لما دعاهم إلى الله - عز وجل -، وألقوا سلا جزور على ظهره وهو ساجد عند الكعبة، وتوعدوه بالقتل وهددوه، وفي غزوة أحد جرى عليه وعلى أصحابه ما جرى، عليه الصلاة والسلام، كسروا رباعيته وشجوه في رأسه - صلى الله عليه وسلم - وقع في حفرة، وهو نبي الله، كل هذا أذى في الدعوة إلى الله - عز وجل - لكنه صبر وتحمل وهو أفضل الخلق - عليه الصلاة والسلام -، فلا بد للذي يقوم بهذه الدعوة أن يتعرض للأذى على حسب إيمانه ودعوته؛ ولكن عليه أن يصبر، ما دام أنه على حق فإنه يصبر ويتحمل فهو في سبيل الله وما يناله من الأذى فهو في كفة حسناته أجر من الله - سبحانه وتعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 والدليل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر] [11]   [11] هذه المسائل الأربع يجب أن تتعلمها بالتفصيل، هل من دليل على ما قاله الشيخ؟ إن هذه المسائل الأربع يجب علينا تعلمها، وهو وعدنا أنه لا يقول شيئا إلا بدليل، فأين الدليل؟ قال: الدليل على ذلك قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} إلا الذين آمنوا: هذه هي المسألة الأولى: العلم، لأن الإيمان لا يكون إلا بعلم وهو معرفة الله - عز وجل -، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. المسألة الثانية: وعملوا الصالحات، هذا العمل بالعلم. المسألة الثالثة: وتواصوا بالحق، فهذه الدعوة إلى العلم والعمل. المسألة الرابعة: وتواصوا بالصبر على الأذى في سبيل الدعوة إلى العلم والعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فقوله سبحانه: (والعصر) . الواو: واو القسم، والعصر اسم مقسم به مجرور وعلامة جره الكسرة والمراد به الوقت والزمان. أقسم الله - تعالى - بالزمان والوقت وهو مخلوق، والله - جل وعلا - يقسم بما شاء من الخلق، والمخلوق لا يقسم إلا بالله، والله لا يقسم إلا بشيء له أهمية، وفيه آية من آياته - سبحانه وتعالى - فهذا الزمان فيه عبرة وله أهمية، ولذلك أقسم الله بالعصر، وبالليل إذا يغشى، وأقسم بالضحى. أما المخلوق فإنه لا يقسم إلا بالله، ولا يجوز لنا أن نحلف بغير الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» ، وقال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . فالله يقسم بما شاء ولا يقسم إلا بما له أهمية وفيه عبرة، ما هي العبرة في هذا الزمان؟ العبر عظيمة تعاقب الليل والنهار، وتقارضهما، هذا يأخذ من هذا، وهذا يأخذ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 هذا، يطول هذا، ويقصر هذا، تعاقبهما على هذا النظام العجيب الذي لا يتخلف ولا يتغير. هذا دليل على قدرة الله - سبحانه وتعالى -، ثم ما يجري في هذا الوقت من الحوادث والكوارث ومن المصائب ومن النعم ومن الخيرات، ما يجري في هذا الوقت هذا من العبر، وكذلك فإن الليل والنهار مجال للعمل الصالح قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي يتعاقبان يخلف هذا هذا {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] وفي بعض القراءات: ( {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} ) . فالليل والنهار كسب عظيم لمن استغلهما في طاعة الله - عز وجل - ومجال العمل هو الليل والنهار، ما عندك غير الليل والنهار، هما مجال العمل والكسب الطيب للدنيا والآخرة، في الليل والنهار عبر وفوائد لذلك أقسم الله بالعصر. ما هو جواب القسم؟ هو قوله: ( {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ) الإنسان جميع بني آدم لم يستثن أحدا لا الملوك ولا الرؤساء، ولا الأغنياء، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الفقراء، ولا الأحرار، ولا العبيد، ولا الذكور ولا الإناث. فـ " أل " في الإنسان للاستغراق، كل بني آدم في خسر؛ أي في خسارة وهلاك إذا ضيعوا هذا الوقت الثمين، واستعملوه في معصية الله، وفيما يضرهم. وهذا الوقت الذي هو رخيص عند كثير من الناس يطول عليهم الوقت يملون ويقولون: نريد قتل الوقت، يأتون بالملهيات، أو يسافرون للخارج لقضاء العطلة والوقت، أو يضحكون ويمزحون لقطع الوقت، فهؤلاء الذين قطعوه وضيعوه سيكون خسارة وندامة عليهم يوم القيامة، وهو مصدر سعادتهم لو حافظوا عليه. فجميع بني آدم في خسارة وهلاك إلا من اتصف بأربع صفات هي: العلم، والعمل، والدعوة إلى الله، والصبر على الأذى. فمن اتصف بهذه الصفات الأربع نجى من هذه الخسارة. ولا يمكن الإيمان بالله إلا بالعلم الذي هو معرفة الله. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : أي عملوا الأعمال الصالحة من واجبات ومستحبات، فاستغلوا وقتهم بعمل الصالحات بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يفيدهم في دينهم ودنياهم، حتى العمل للدنيا فيه خير وفيه أجر إذا قصد به الاستعانة على الطاعة، فكيف بالعمل للآخرة، المهم أنك لا تضيع الوقت بل تستعمله في شيء يفيدك وينفعك. {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} : أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ودعوا إلى الله - عز وجل - وعلموا العلم النافع، ونشروا العلم والخير في الناس أصبحوا دعاة إلى الله - عز وجل -. {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} : صبروا على ما ينالهم، والصبر في اللغة: الحبس، والمراد به هنا: حبس النفس على طاعة الله، وهو ثلاثة أنواع: الأول: صبر على طاعة الله. الثاني: صبر عن محارم الله. الثالث: صبر على أقدار الله. فالأول: صبر على طاعة الله، لأن النفس تريد الكسل وتريد الراحة، فلا بد أن يصبرها الإنسان على الطاعة وعلى الصلاة وعلى الصيام وعلى الجهاد في سبيل الله وإن كانت تكره هذه الأمور، يصبرها ويحبسها على طاعة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 والثاني: صبر على محارم الله، النفس تريد المحرمات والشهوات، تميل إليها وتنزع إليها، فلا بد أن يربطها ويحبسها عن المحرمات، وهذا يحتاج إلى صبر، وليس من السهل منع النفس عن الشهوات المحرمة، من ليس عنده صبر فإن نفسه تتغلب عليه وتجنح إلى المحرمات. الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة: المصائب التي تصيب الإنسان من موت قريب، أو ضياع مال، أو مرض يصيب الإنسان، لا بد أن يصبر على قضاء الله وقدره لا يجزع ولا يتسخط بل يحبس اللسان عن النياحة والتسخط ويحبس النفس عن الجزع، ويحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب. هذا هو الصبر على المصائب. أما المعائب فلا يصبر عليها بل يتوب إلى الله وينفر منها؛ ولكن عند المصائب التي لا دخل لك فيها، بل هي من الله - عز وجل - قدرها عليك ابتلاء وامتحانًا أو عقوبة لك على ذنوب فعلتها، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 3] . فإذا حصلت للمسلم مصيبة في نفسه أو ماله أو ولده أو قريبه أو أحد إخوانه من المسلمين فعليه بالصبر والاحتساب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156، 157] هذا هو الصبر، ومن ذلك الصبر على الأذى في الدعوة إلى الله - عز وجل - فإن هذا من المصائب فعليك أن تصبر على ما تلقى من الأذى في سبيل الخير، ولا تنثني عن فعل الخير؛ لأن بعض الناس يريد فعل الخير لكن إذا واجهه شيء يكرهه قال: ليس من الواجب علي أن أدخل نفسي في هذه الأمور، ثم يترك التعليم إن كان معلمًا، يترك الدعوة إلى الله، يترك الخطابة إن كان خطيب مسجد، يترك إمامة المسجد، يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا لم يصبر على ما ناله من الأذى. وإذا كنت مخطئًا عليك بالرجوع إلى الحق والصواب، أما إن كنت على حق ولم تخطئ فعليك بالصبر والاحتساب واستشعر أن هذا في سبيل الله - عز وجل - وأنك مأجور عليه، وتذكر ما حصل للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الأذى وكيف صبروا وجاهدوا في سبيل الله حتى نصرهم الله - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قال الشافعي رحمه الله: لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلا هذه السورة لكفتهم [12]   [12] قوله: الشافعي: هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي نسبة إلى جده الرابع اسمه شافع، وهو من قريش، من بني المطلب، توفي سنة 204هـ، وهو أحد الأئمة الأربعة، وقال هذه المقالة؛ لأن الله بين في هذه السورة أسباب الشقاوة وأسباب السعادة. فأسباب السعادة: أن يتصف الإنسان بهذه الصفات الأربع: العلم، والعمل، والدعوة، والصبر على الأذى في سبيل الله تعالى، فقامت الحجة من الله على خلقه بهذه السورة، إن الله سبحانه يقول لهم أني قد بينت لكم أسباب السعادة في هذه السورة القصيرة المختصرة. والقرآن كله والسنة هما تفاصيل لهذه المسائل الأربع، لكن هذه السورة بينت أسباب السعادة مجملة، فقامت بها الحجة على الخلق، وبقية نصوص القرآن والسنة مفصِّلَة ومبينة لهذه المسائل الأربع، وليس معنى كلام الشافعي أن هذه السورة تكفي الناس، لو ما أنزل الله غيرها؛ لكنها أقامت الحجة عليهم لأن الله بين فيها أسباب السعادة وأسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَقَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: بَابُ العِلْمُ قبل القول والعمل. والدليل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد: 19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل [13]   الشقاوة، فلا أحد يوم القيامة يقول: أنا لا أعرف أسباب السعادة ولا أعرف أسباب الشقاوة وهو يقرأ هذه السورة المختصرة الوجيزة. [13] البخاري: هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، نسبة إلى بخارى بلدة في المشرق، إمام أهل الحديث وجبل الحفظ - رحمه الله -، صاحب الصحيح الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله. قوله: العلم قبل القول والعمل؛ لأن العمل لا ينفع إلا إذا كان مبنيا على علم، أما العمل المبني على جهل فإنه لا ينفع صاحبه بل يكون وبالًا وضلالًا عليه يوم القيامة، فلا بد أن يقدم تعلم العلم قبل العمل. قوله: والدليل: أي على هذه الترجمة قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} حيث بدأ بالعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ} هذا هو العمل فبدأ سبحانه بالعلم قبل العمل؛ لأن العمل إذا كان على جهل فإنه لا ينفع صاحبه، فيبدأ الإنسان بالعلم أولًا ثم يعمل بما علمه، هذا هو الأساس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الرسالة الثانية ثلاث مسائل يجب على المسلم تعلمها والعمل بها اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ [1] أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن [2]   [1] قوله: اعلم: هذه الكلمة قلنا فيما سبق أنها كلمة يؤتى بها للاهتمام بما بعدها ومعناها: تعلم وافهم وتيقن. قوله: رحمك الله: هذا دعاء لك بالرحمة، وهذا أيضًا كما سبق في أن المعلم ينبغي أن يتلطف مع المتعلم، وأن يدعو له ويرغبه فإن هذا من أعظم وسائل التعليم، ولا ينبغي له أن يقابل المتعلم بالقسوة والشدة والغلظة؛ لأن هذا ينفر عن العلم، ثم هذا أيضًا يدل على النصح من الشيخ - رحمه الله -، وأنه يريد النصيحة والمنفعة والتوجيه السديد. [2] قوله: أنه يجب: الوجوب معروف عند الأصوليين والواجب هو الشيء الذي لا بد منه، وقد عرفه الأصوليون بأنه ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وأصل الوجوب في اللغة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الثبوت والاستقرار يقال: وجب كذا أي ثبت واستقر قال تعالى في البدن: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت على الأرض واستقرت ميتة بعد ذكائها {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 36] . فقوله: يجب، علينا يدل على أن الأمر ليس من باب الاستحباب، من شاء فعل ومن شاء ترك، بل الأمر من باب الإلزام من الله - سبحانه وتعالى - ليس هذا الإيجاب من قبل الشيخ، وإنما هو من قبل الله - عز وجل - فيما أنزل في الكتاب والسنة من إلزام العباد بهذه المسائل. قوله: يجب على كل مسلم ومسلمة: أي يجب على كل ذكر وأنثى من المسلمين سواء كانوا أحرارًا أو عبيدًا أو ذكورًا أو إناثًا، لأن المرأة تشارك الرجل في كثير من الواجبات إلا ما خصه الدليل بالرجال، فإنه يختص بهم مثل وجوب صلاة الجماعة في المساجد، وصلاة الجمعة ومثل زيارة القبور فإنها خاصة بالرجال، ومثل الجهاد في سبيل الله فإنه خاص بالرجال. فما دل الدليل على اختصاصه بالرجال فإنه يختص بهم، وإلا فإن الأصل أن الرجال والنساء سواء في الواجبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وتجنب المحرمات وسائر التكاليف، ومن ذلك أن تعلم العلم واجب على الرجال والنساء لأنه لا يمكن عبادة الله - جل وعلا - التي خلقنا من أجلها إلا بتعلم العلم الذي نعرف به عبادة ربنا، فهذا واجب على الرجال والنساء أن يتعلموا أمور دينهم لا سيما أمور العقيدة. قوله: ثلاث مسائل: التعلم هنا معناه: التلقي عن العلماء والحفظ والفهم والإدراك، هذا هو التعلم، ليس المراد مجرد قراءة أو مطالعة حرة كما يسمونها هذا ليس تعلما إنما التعلم هو: التلقي عن أهل العلم مع حفظ ذلك وفهمه وإدراكه تمامًا، هذا هو التعلم الصحيح، أما مجرد القراءة والمطالعة فإنها لا تكفي في التعلم وإن كانت مطلوبة، وفيها فائدة لكنها لا تكفي، ولا يكفي الاقتصار عليها. ولا يجوز التتلمذ على الكتب كما هو الواقع في هذا الوقت، لأن التتلمذ على الكتب خطير جدا يحصل منه مفاسد وتعالم أضر من الجهل، لأن الجاهل يعرف أنه جاهل ويقف عند حده، لكن المتعالم يرى أنه عالم فيحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، ويتكلم ويقول على الله بلا علم فالمسألة خطيرة جدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الإِيمَان بِأَنَّ اللَّه خَلَقَنا وَرَزَقَنَا ولَم يَتْرُكنَا هَمَلًا الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَلَمْ يَتْرُكْنَا هملا [3]   فالعلم لا يؤخذ من الكتب مباشرة إنما الكتب وسائل، أما حقيقة العلم فإنها تؤخذ عن العلماء جيلًا بعد جيل والكتب إنما هي وسائل لطلب العلم. [3] قوله: الأولى: أن الله خلقنا: أي أوجدنا من العدم فنحن من قبل أن يخلقنا لم نكن شيئًا، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] ، وقال سبحانه: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] كان الإنسان قبل أن يخلق ليس بشيء، والذي أوجده وخلقه هو الله - عز وجل - قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] . قوله: ورزقنا: لما كنا نحتاج إلى الرزق إلى الطعام والشراب والملابس والمساكن والمراكب والمصالح، علم سبحانه حاجتنا سخر لنا ما في السماوات والأرض كله لمصالحنا من أجل بقائنا على قيد الحياة ومن أجل أن نستعين بذلك على ما خلقنا لأجله، وهو عبادة الله - سبحانه وتعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 قوله: ولم يتركنا هملًا: الهمل: هو الشيء المهمل المتروك الذي لا يُعبأ به فالله خلقنا ورزقنا لحكمة، ما خلقنا عبثا ولا سدى قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] . وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 36 - 38] . وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] . الله إنما خلقنا وخلق لنا هذه الأرزاق والإمكانيات لحكمة عظيمة وغاية جليلة وهي أن نعبده - سبحانه وتعالى - ولم يخلقنا كالبهائم التي خلقت لمصالح العباد ثم تموت وتذهب؛ لأنها ليست مكلفة ولا مأمورة ولا منهية، إنما خلقنا لعبادته كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات: 56 - 58] ولم يخلقنا لهذه الحياة الدنيا فقط نعيش فيها، ونسرح ونمرح ونأكل ونشرب ونتوسع فيها، وليس بعدها شيء، وإنما الحياة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 مزرعة وسوق للدار الآخرة نتزود فيها بالأعمال الصالحة، ثم نموت وننتقل منها ثم نبعث ثم نحاسب ونجازى بأعمالنا. هذه هي الغاية من خلق الجن والإنس، والدليل على ذلك آيات كثيرة تدل على البعث والنشور والجزاء والحساب، والعقل يدل على هذا، فإنه لا يليق بحكمة الله - سبحانه وتعالى - أن يخلق هذا الخلق العجيب، وأن يسخر هذا الكون لبني آدم ثم يتركهم يموتون ويذهبون بدون نتيجة، هذا عبث، فلا بد أن تظهر نتائج هذه الأعمال في الدار الآخرة. ولهذا قد يكون من الناس من يفني عمره في عبادة الله وفي طاعته، وهو في فقر وفي حاجة، وقد يكون مظلومًا مضغوطًا عليه ومضيقًا عليه ولا ينال شيئًا من جزاء عمله في هذه الدنيا، وعلى العكس يكون من الناس كافر ملحد شرير يسرح ويمرح في هذه الحياة، ويتنعم ويعطى ما يشتهي ويرتكب ما حرم الله، ويظلم العباد ويعتدي عليهم ويأكل أموالهم، ويقتل بغير حق، ويتسلط ويتجبر ثم يموت على حاله، ما أصابه شيء من العقوبة، هل يليق بعدل الله - سبحانه وتعالى - وحكمته أن يترك هذا المطيع بدون جزاء، وأن يترك هذا الكافر بدون مجازاة، هذا لا يليق بعدله - سبحانه وتعالى - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 بل أرسل إلينا رسولًا [4] .   ولذلك جعل دارًا أخرى يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فتظهر فيها ثمرات الأعمال. فالدنيا دار عمل، وأما الآخرة فهي دار جزاء إما جنة وإما نار، ولم يتركنا هملًا كما يظن الملاحدة والدهريون، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] هذه مقالة الملاحدة الذين لا يؤمنون بالبعث والنشور. وقد أنكر الله - عز وجل - عليهم فقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36] وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] . وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] . فهذا لا يمكن ولا يكون أبدًا. [4] لما كانت العبادة لا يجوز أن نأخذها من استحساننا أو تقليد فلان وعلان من الناس؛ أرسل الله إلينا رسلًا تبين لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 كيف نعبده؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز أن يعبد الله بشيء إلا بما شرعه. فالعبادات توقيفية على ما جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، فالحكمة من إرسال الرسل أن يبينوا للناس كيف يعبدون ربهم، وينهونهم عن الشرك والكفر بالله - عز وجل - هذه مهمة الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» فالعبادة توقيفية، والبدع مردودة، والخرافات مردودة، والتقليد الأعمى مرفوض لا تؤخذ العبادات إلا من الشريعة التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قوله: بل أرسل إلينا رسولًا: هو محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين أرسله ليبين لنا لماذا خلقنا؟ ويبين لنا كيف نعبد الله - عز وجل -، وينهانا عن الشرك والكفر والمعاصي، هذه مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد بلَّغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة، ونصح الأمة - عليه الصلاة والسلام -، وبين ووضح، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وهذا كما في قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النار [5]   تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] . [5] قوله: من أطاعه: أي فيما أمر به دخل الجنة. وقوله: ومن عصاه: أي فيما نهى عنه دخل النار. وهذا مصداقه كثير في القرآن قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] ، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] ، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] ، فمن أطاعه اهتدى ودخل الجنة، ومن عصاه ضل ودخل النار، قال - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» . فقوله - صلى الله عليه وسلم -: أبى، أي أبى أن يدخل الجنة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15، 16] [6] .   «إلا دخل النار» . فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النار، وهذا هو الفارق بين المؤمن والكافر. [6] قوله: والدليل، أي: على إرسال الرسول. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} ، قوله تعالى: إنا: الضمير راجع إلى الله - سبحانه وتعالى -، وهذا ضمير المعظم نفسه، لأنه عظيم - سبحانه وتعالى -. أرسلنا: كذلك هذا ضمير العظمة، ومعنى أرسلنا: بعثناه وأوحينا إليه. إليكم: يا معشر الثقلين الجن والإنس، خطاب لجميع الناس؛ لأن رسالة هذا الرسول عامة لجميع الناس إلى أن تقوم الساعة. رسولًا: هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 شاهدًا عليكم: أي عند الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة بأنه بلغكم رسالة الله وأقام الحجة عليكم كما قال تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فلا أحد يوم القيامة يقول: أنا لم أَدْرِ أني مخلوق للعبادة، أنا لم أَدْرِ ماذا يجب علي، ولم أَدْرِ ماذا يحرم علي، لا يمكن أن يقول هذا، لأن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - قد بلغتهم، وهذه الأمة المحمدية تشهد عليهم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] . فهذه الأمة تشهد على الأمم السابقة يوم القيامة أن رسلها بلغتها رسالات الله، بما يجدونه من كتاب الله - عز وجل - لأن الله قص علينا نبأ الأمم السابقة والرسل وما قالوه لأممهم. كل هذا عرفناه من كتاب الله - عز وجل - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. ويكون الرسول: وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - عليكم، يا أمة محمد شهيدًا، يشهد عليكم عند الله أنه أقام عليكم الحجة وبلغكم الرسالة، ونصحكم في الله فلا حجة لأحد يوم القيامة بأن يقول: ما بلغني شيء، ما جاءني من نذير، حتى الكفار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 يعترفون عندما يلقون في النار، قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8، 9] يقولون للرسل: أنتم في ضلال فهم يكذبون الرسل ويضللونهم. هذه الحكمة في إرسال الرسل؛ إقامة الحجة على العباد، وهداية من أراد الله هدايته، الرسل يهدي الله بهم من يشاء، ويقيم الحجة على من عاند وجحد وكفر. كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا: الرسول هو موسى - عليه الصلاة والسلام -، وفرعون هو الملك الجبار في مصر الذي ادعى الربوبية، وفرعون: لقب لكل من ملك مصر يقال له فرعون، المراد به هنا فرعون الذي أدعى الربوبية: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] . فعصى فرعون الرسول: هو موسى، كفر به فرعون كما قص الله في كتابه ما جرى بين موسى وفرعون، وما انتهى إليه أمر فرعون وقومه. فأخذناه، أي: أخذنا فرعون بالعقوبة وهو أن الله أغرقه هو وقومه في البحر ثم أدخلهم النار: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 [نوح: 25] . فصار في النار في البرزخ، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] . هذا في البرزخ قبل الآخرة، يعرضون على النار صباحًا ومساء إلى أن تقوم الساعة، وهذا دليل على عذاب القبر، والعياذ بالله، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] هذه ثلاثة عقوبات: الأولى: أن الله أغرقهم ومحاهم عن آخرهم في لحظة واحدة. الثاني: أنهم يعذبون في البرزخ إلى أن تقوم الساعة. الثالثة: أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يدخلون أشد العذاب، والعياذ بالله. وكذلك من عصى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإن مآله أشد من مآل قوم فرعون؛ لأن محمدًا هو أفضل الرسل فمن عصاه تكون عقوبته أشد. أخذًا وبيلا، أي: شديدًا قويا لا هوادة فيه، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 اللَّه - سبحانه وتعالى - لا يَرْضَى أنْ يُشْرَك معه في عِبَادَته أَحَد المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ معه أحد غيره في عبادته [7]   فهذه الآية دليل على منة الله علينا بإرسال الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - إلينا، وأن الغرض من إرساله أن يبين لنا طريق العبادة، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار كما دخل آل فرعون النار لما عصوا رسولهم موسى عليه الصلاة والسلام. وكذلك أعداء الرسل كلهم هذا سبيلهم وهذا طريقهم. [7] هذه المسألة متعلقة بالمسألة الأولى لأن الأولى: هي بيان وجوب عبادة الله واتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو معنى الشهادتين معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، والمسألة الثانية: أن العبادة إذا خالطها شرك فإنها لا تقبل؛ لأنه لا بد أن تكون العبادة خالصة لوجه الله - عز وجل -. فمن عبد الله وعبد معه غيره فعبادته باطلة، وجودها كعدمها، لأن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص والتوحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فإذا خالطها شرك فسدت كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] . وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] . فالعبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا خالط الشرك العبادة أفسدها، كما أن الطهارة إذا خالطها ناقض من نواقض الوضوء أفسدها وأبطلها، ولهذا يجمع الله في كثير من الآيات بين الأمر بعبادته والنهي عن الشرك. قال تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] . وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] ، وقال - عز وجل -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . فقوله تعالى: لا إله إلا أنا، فيه أمران: فيه نفي الشرك، وفيه إثبات العبادة لله تعالى. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . قرن بين عبادة الله واجتناب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الطاغوت؛ لأن عبادة الله لا تكون عبادة إلا مع اجتناب الطاغوت وهو الشرك، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] . فالإيمان بالله لا يكفي إلا مع الكفر بالطاغوت، وإلا فالمشركون يؤمنون بالله لكنهم يشركون به، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] . بين سبحانه أن عندهم إيمان بالله ولكن يفسدونه بالشرك والعياذ بالله. هذا معنى قول الشيخ، أن من عبد الله وأطاع الرسول فإنه لا يشرك بالله شيئًا، لأن الله لا يَرْضَى أَنْ يُشرك مَعَهُ أَحَدُ في عبادته. قال - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل - قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» هناك قوم يصلون ويشهدون أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويكثرون من ذلك ويصومون ويحجون لكنهم يدعون الأضرحة، ويعبدون الحسن والحسين والبدوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 لا ملك مقرب ولا نبي مرسل [8]   وفلانًا وعلانًا، ويستغيثون بالأموات، هؤلاء عبادتهم باطلة، لأنهم يشركون بالله - عز وجل -، يخلطون العبادة بالشرك، فعملهم باطل حابط حتى يوحدوا الله - عز وجل - ويخلصوا له العبادة ويتركوا عبادة ما سواه. وإلا فإنهم ليسوا على شيء فيجب التنبيه لهذا، أن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد كائنًا من كان، لا يرضى سبحانه بمشاركة أحد مهما كان؛ لئلا يقول أحد أنا أتخذ من الأولياء الصالحين والطيبين شفعاء، أنا لا أعبد الأصنام والأوثان كما هو في الجاهلية، أنا أتخذ هؤلاء شفعاء فنقول له: هذه مقالة الجاهلية اتخذوهم شفعاء عند الله لأنهم صالحون وأولياء من أولياء الله، والله لا يرضى بهذا. [8] قوله: لا ملك مقرب ولا نبي مرسل: الملك المقرب هو أفضل الملائكة مثل: جبريل - عليه السلام -، وحملة العرش ومن حوله، والملائكة المقربون من الله - سبحانه وتعالى -، فمع قرب المكان من الله - عز وجل - وقرب العبادة والمكانة عند الله، لو أشركهم أحد مع الله في العبادة فإن الله لا يرضى بأن يشرك معه ملك مقرب ولا نبي مرسل كمحمد - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] . [9]   وعيسى ونوح وإبراهيم أولي العزم، لا يرضى أن يشرك معه أحد ولو كان من أفضل الملائكة، ولو كان من أفضل البشر. فهو لا يرضى أن يشرك معه أحد من الملائكة ولا من الرسل، فكيف بغيرهم من الأولياء والصالحين، فغير الملائكة والرسل من باب أولى لا يرضى الله بإشراكهم معه في العبادة، وهذا رد على أولئك الذين يزعمون أنهم يتخذون الصالحين والأولياء شفعاء عند الله ليقربوهم عند الله زلفى، كما قال أهل الجاهلية: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وإلا فهم يعتقدون أن هؤلاء لا يخلقون ولا يرزقون ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورا؛ وإنما قصدهم التوسط عند الله - عز وجل -؛ ولذلك صرفوا لهم شيئًا من العبادة تقربًا إليهم، ذبحوا للقبور، ونذروا للقبور، واستغاثوا وهتفوا بالأموات. [9] لا يرضى الله بمشاركة أحد كائنًا من كان، وهذا صريح في القرآن والسنة، لكن لمن يعقل ويتدبر وينبذ التقليد الأعمى، والتعلل الباطل، ويتنبه لنفسه والدليل على أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد كائنًا من كان قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} المساجد هي بيوت الله، وهي المواطن المعدة للصلاة، وهي أحب البقاع إلى الله، وهي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يجب أن تكون هذه المساجد مواطنا لعبادة الله وحده لا يحدث فيها شيء لغير الله، فلا يبنى عليها القبور والأضرحة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل ذلك، وأخبر أن هذا هو فعل اليهود والنصارى، ونهانا عن ذلك في آخر حياته، وهو في سكرات الموت عليه الصلاة والسلام بقوله: «ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد» [هذا يقوله وهو في سياق الموت] «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . فالمساجد يجب أن تطهر من آثار الشرك والوثنية، وألا تقام على القبور أو يدفن فيها الأموات بعد بنائها بل تكون مواطن عبادة الله وحده، تقام فيها الصلاة ويذكر فيها اسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الله، ويتلى فيها القرآن، وتقام فيه الدروس النافعة، ويعتكف فيها للعبادة هذه هي وظيفة المساجد. أما أن تقام فيها أوثانًا تعبد من دون الله فهذه ليست مساجد، هذه مشاهد شرك وإن سماها أهلها أنها مساجد، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} أي: لا لغيره؛ ولأن المساجد هي محل اجتماع الناس وتلاقيهم، فيجب أن تكون طاهرة من الشرك والبدع والخرافات، لأن الناس يتلقون فيها العلم والعبادة، فإذا وجدوا في المساجد شيئًا من الشرك والخرافات تأثروا بذلك ونشروه في الأرض، فيجب أن تكون المساجد مطهرة من الشرك. وأعظمها المسجد الحرام كما أمر الله - جل وعلا - بتطهيره قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . طهره من ماذا؟ طهره من الشرك والبدع والخرافات كما أنه أيضًا يُطهر من النجاسات والقاذورات. فقوله تعالى: لا تدعوا: لا ناهية، وتدعو: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون لأن أصله تدعون فدخل عليه الجازم وهو لا الناهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فلا تدعوا أيها الناس مع الله أحدًا، لا تستغيثوا بأحد مع الله؛ كأن يقول: يا الله يا محمد، يا الله يا عبد القادر، أو يقول: يا عبد القادر يا محمد، أو ما أشبه ذلك، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يقبله. وقوله تعالى: " أحدًا ": نكرة في سياق النهي فتعم كل أحد، لا يستثنى أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا صنم ولا وثن ولا قبر ولا شيخ ولا ولي ولا حي ولا ميت كائنًا من كان. فهي تعم كل من دعي من دون الله {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} فدلت هذه الآية على أن العبادة لا تنفع إلا مع التوحيد، وأنها إذا خالطها الشرك فإنها تبطل وتكون وبالًا على صاحبها، ثم قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} يجب أن تبنى بنية خالصة لا يكون القصد من بنائها الرياء والسمعة وتخليد الذكر كما يقولون وتكون آثارا إسلامية هذا كله باطل. المساجد تبنى للعبادة وبقصد العبادة وتكون النية فيها خالصة لله - عز وجل -، وأيضًا تبنى من كسب طيب، لا تبنى من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الوَلاء وَالبَرَاء الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَوَحَّدَ اللهَ، لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ ورسوله ولو كان أقرب قريب [10]   كسب حرام لأنها لله - عز وجل -، «الله لا يقبل إلا طيبًا» فتبنى المساجد من نفقة حلال، وتكون نية بانيها خالصة لوجه الله - عز وجل - لا يريد من بنائه مدحًا من الناس، أو تخليدًا لذكره، أو رياء أو سمعة فإن بناء المساجد عبادة والعبادة يجب أن تكون خالصة لله - عز وجل -. [10] لا يجوز لمن فعل ذلك موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب. هذه مسألة الولاء والبراء وهي تابعة للتوحيد، من حقوق التوحيد الولاء لأولياء الله والبراء من أعداء الله، والموالاة والولاء بمعنى واحد، والولاء يراد به المحبة بالقلب، ويراد به المناصرة والمعاونة، ويراد به الإرث والعقل في الديات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فالمسلم يوالي أولياء الله بمعنى أنه يحصر محبته على أولياء الله ويناصرهم، فالمسلم يكون مع المسلمين بعضهم من بعض، كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . فالتعاقل في ديات الخطأ يكون بين المسلمين، وهو ما يسمى بالتكافل، كل هذا يدخل في الولاء، فلا يكون بين مسلم وكافر، والمحبة والنصرة والميراث والعقل وولاية النكاح وولاية القضاء إلى غير ذلك، فلا يكون بين مسلم وكافر؛ وإنما يكون هذا بين المسلمين لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] . هكذا يجب أن يتميز المؤمنون عن الكفار، فلا يجوز لمن وحد الله وأطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - موالاة من حاد الله. والمحادة معناها: أن يكون الإنسان في جانب، والله ورسوله والمؤمنون في جانب، ويكون المحاد في جانب الكفار هذه هي المحادة. قوله: ولو كان أقرب قريب: أي نسبًا، فإذا كان قريبك محادا لله ورسوله فيجب عليك محادته ومقاطعته، ومن كان وليا لله ورسوله وجب عليك أن تحبه وتواليه، ولو كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] . [11]   بعيدًا من النسب عنك، لو كان أعجميا أو أسود أو أبيض أو أحمر يجب عليك أن تواليه وأن تحبه سواء كان من بلدك أو من أقصى الشرق أو من أقصى الغرب، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، أي: بينهم المحبة والتناصر والتعاون، وبينهم الألفة هذا بين المؤمنين. [11] قوله تعالى: (لا تجد) : هذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: لا يقع هذا ولا يكون موجودًا أبدًا أن يكون مؤمن بالله ورسوله يحب الكفار، فإن أحبهم؛ فإنه ليس بمؤمن، ولو كان يدعي ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قال ابن القيم - رحمه الله - في الكافية الشافية: أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبا له ما ذاك بإمكان وكذا تعادي جاهدًا أحبابه ... أين المحبة يا أخا الشيطان فهذا لا يمكن أبدًا أن يحب الكفار، يقول: أنا أحب الله ورسوله لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] إلى قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] . وقوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] . هذه ملة إبراهيم تبرأ من أبيه، أقرب الناس إليه لما تبين له أنه عدو الله. ودلت الآية أيضًا على أن محبة الكافر تتنافى مع الإيمان بالله واليوم الآخر، إما مع أصله أو مع كماله، لكن إن كانت محبتهم معها تأييد لمذهبهم وكفرهم فهذا خروج عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الإسلام، أما إن كان مجرد محبة من غير مناصرة لهم فهذا يعتبر منقصًا للإيمان وفسقًا ومضعفًا للإيمان. قيل: إن هذه الآية نزلت في أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله تعالى عنه - لما قتل أباه يوم بدر؛ لأن أباه كان على الكفر، وكان يريد أن يقتل ابنه أبا عبيدة، فقتله أبو عبيدة - رضي الله عنه - لأنه عدو الله ولم يمنعه أنه أبوه، لم يمنعه ذلك من قتله غضبًا لله - سبحانه وتعالى -. قوله تعالى: ( {أُولَئِكَ} ) : أي الذين يبتعدون عن محبة ومودة من حاد الله ورسوله. قوله تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} : أي أثبت الله في قلوبهم ورسخ الله في قلوبهم الإيمان. قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : التأييد معناه التقوية، قواهم بروح منه، والروح لها عدة إطلاقات في القرآن، منها الروح التي هي النفس التي بها الحياة، ومنها الوحي كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] ومنها جبريل - عليه السلام - أنه روح القدس، والروح الأمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102] وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] ومنها ما في هذه الآية وهي القوة. فأيدهم بروح منه أي بقوة منه سبحانه وتعالى، قوة إيمان في الدنيا، وفي الآخرة {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} جمع جنة، والجنة في اللغة البستان، سمي جنة لأنه مجتن بالأشجار، أي: مستتر ومغطى بالأشجار الملتفة، لأن الجنة ظلال وأشجار وأنهار وقصور وأعلاها وسقفها عرش الرحمن سبحانه وتعالى. قوله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} : أي باقين فيها لا يتحولون عنها قال تعالى: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108] لا يخافون من موت ولا يخافون من أحد يخرجهم ويطردهم، مثل ما في الدنيا، قد يكون الإنسان في الدنيا في قصور لكن لا يسلم من الموت فيخرج منها، ولا يسلم من الأعداء يتسلطون عليه ويخرجونه، الإنسان في الدنيا دائمًا خائف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} : لما أغضبوا أقرباءهم من الكفار وعادوهم منحهم الله الرضا منه سبحانه وتعالى جزاءً لهم، فهم عوضوا بإغضابهم لأقاربهم الكفار، عوضوا برضا الله سبحانه وتعالى، رضي الله عنهم ورضوا عنه. قوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} : أي جماعة الله، وأما الكفار فهم حزب كما قال الله تعالى عنهم: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19] أي جماعة الشيطان وأنصار الشيطان، أما هؤلاء فهم أنصار الرب. فهذه المسألة تتعلق بعداوة الكفار وعدم موالاتهم، وهي لا تقتضي أننا نقاطع الكفار في الأمور والمنافع الدنيوية، بل يستثنى من ذلك أمور: الأول: أنه مع بغضنا لهم وعداوتنا لهم يجب أن ندعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، يجب أن ندعوهم إلى الله ولا نتركهم ونقول هؤلاء أعداء الله وأعداؤنا، يجب علينا أن ندعوهم إلى الله لعل الله أن يهديهم، فإن لم يستجيبوا فإنا نقاتلهم مع القدرة، فإما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يبذلوا الجزية إن كانوا من اليهود والنصارى أو المجوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وهم صاغرون، ويخضعون لحكم الإسلام، ويتركون على ما هم عليه، لكن بشرط دفع الجزية وخضوعهم لحكم الإسلام، أما إن كانوا غير كتابيين وغير مجوس ففي أخذ الجزية منهم خلاف بين العلماء. الثاني: لا مانع من مهادنة الكفار عند الحاجة، إذا احتاج المسلمون لمهادنتهم لكون المسلمين لا يقدرون على قتالهم ويخشى على المسلمين من شرهم، لا بأس بالمهادنة إلى أن يقوى المسلمون على قتالهم أو إذا طلبوا هم المهادنة {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] فيهادنون، لكن ليس هدنة دائمة، إنما هدنة مؤقتة مؤجلة إلى أجل حسب رأي إمام المسلمين، لما فيه من المصلحة. الثالث: لا مانع من مكافأتهم على الإحسان إذا أحسنوا للمسلمين، لا مانع أنهم يكافئون على إحسانهم قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 رابعًا: الوالد الكافر يجب على ولده المسلم أن يبر به، لكنه لا يطيعه في الكفر لقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 14، 15] الوالد له حق وإن كان كافرًا، لكن لا تحبه المحبة القلبية، بل تكافئه على تربيته لك، وأنه والد وله حق تكافئه على ذلك. خامسًا: تبادل التجارة معهم والشراء منهم، شراء الحاجات منهم واستيراد البضائع والأسلحة منهم بالثمن لا بأس بذلك، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعامل مع الكفار وكذلك عامل - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر وهم يهود على أن يزرعوا الأرض بجزء مما يخرج منها، ليس هذا من الموالاة والمحبة، وإنما هو تبادل مصالح. يجب أن نعرف هذه الأمور، وأنها لا تدخل في الموالاة، وليس منهيا عنها. كذلك الاستدانة منهم، النبي - صلى الله عليه وسلم - «استدان من اليهودي طعامًا، ورهن درعه عنده ومات - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي بطعام اشتراه لأهله» ، لا مانع من هذا؛ لأن هذه أمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 اعلم أرشدك الله لطاعته [12]   دنيوية ومصالح، ولا تدل على المحبة والمودة في القلوب، فلا بد أن نفرق بين هذا وهذا، لأن بعض الناس إذا سمع نصوص العداوة للكفار وعدم محبتهم قد يفهم أنه لا يتعامل معهم، ولا يتصل بهم نهائيًا، وأن تكون مقاطعة نهائية. لا! هذا محدد بأحكام وبحدود وبشروط معروفة عند أهل العلم، مأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. سادسًا: أباح الله التزوج من نساء أهل الكتاب بشرط أن يكن عفيفات في أعراضهن، وأباح الله لنا أكل ذبائحهم. سابعًا: لا بأس بإجابة دعوتهم، وأكل طعامهم المباح كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثامنًا: الإحسان إلى الجيران من الكفار؛ لأن لهم حق الجوار. تاسعًا: لا يجوز ظلمهم قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] . [12] قوله: اعلم أرشدك الله: هذا كأنه بداية رسالة ثالثة لأنه مضى رسالتان: الرسالة الأولى: المسائل الأربع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 التي تضمنتها سورة العصر، والرسالة الثانية: المسائل الثلاث التي سبقت، والرسالة الثالثة: هي هذه، وستأتي الرسالة الرابعة وهي ثلاثة الأصول، فقوله - رحمه الله -: اعلم: تقدم الكلام على لفظها وبيان معناها، والمقصود من الإتيان بها. قوله: أرشدك الله: هذا دعاء من الشيخ - رحمه الله - لكل من يقرأ هذه الرسالة متفهمًا لها يطلب العمل بها بأن يرشده الله، والإرشاد هو الهداية إلى الصواب والتوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، والرشد ضد الغي، قال تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] وقال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146] والرشد هو دين الإسلام، والغي دين أبي جهل وأمثاله. قوله أرشدك الله لطاعته: هذا دعاء عظيم، فإن المسلم إذا أرشده الله لطاعته فقد سعد في الدنيا والآخرة، والطاعة هي امتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه، هذه هي الطاعة، أن تطيع الله في أوامره فتفعلها، وفي نواهيه فتجتنبها امتثالا لأمر الله وابتغاء وجه الله - عز وجل - ترجو ثوابه، وتخاف عقابه، فمن وفق لطاعة الله، وأرشد لطاعة الله فإنه يسعد في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الرسالة الثالثة الحَنِيفِيَّة مِلَّة إِبْرَاهِيم تعريف الحنيفية إن الحنفية ملة إبراهيم [13]   [13] قوله: إن الحنيفية ملة إبراهيم: أي الذي يجب أن تعلمه وأن تعرفه أن الحنيفية ملة إبراهيم، والحنف في اللغة: الميل. فمعنى الحنيفية هي الملة المائلة عن الشرك إلى التوحيد، وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان حنيفا مسلما، حنيفا أي مائلا عن الشرك ومعرضا عنه إلى التوحيد والإخلاص لله - عز وجل -، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] فالحنيف من أوصاف إبراهيم - عليه السلام - بمعنى أنه معرض عن الشرك ومائل عنه بالكلية إلى التوحيد، متوجه بكل وجهته إلى التوحيد والإخلاص لله - عز وجل - قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] . هذه أوصاف إبراهيم - عليه السلام - العظيمة، منها أنه كان حنيفا، وأن ملته الحنيفية هي الملة الخالصة لله - عز وجل - التي ليس فيها شرك، وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع هذه الملة بقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] وأمرنا نحن كذلك أن نتبع ملة إبراهيم - عليه السلام - قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] وهي دين جميع الرسل. ولكن لكون إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أفضل الأنبياء بعد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لاقى في سبيل الدعوة إلى التوحيد من التعذيب ومن الامتحان ما لم يلقه غيره، فصبر على ذلك، ولكونه أبا الأنبياء فإن الأنبياء الذين جاءوا من بعده كلهم من ذريته - عليه الصلاة والسلام - فالحنيفية ملة جميع الأنبياء، وهي الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، هذه ملة جميع الرسل، لكن لما كان لإبراهيم مواقف خاصة نحو هذه الملة نسبت إليه ولمن جاء بعده، والأنبياء كلهم من بعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدين [14]   كانوا على ملة إبراهيم، وهي ملة التوحيد والإخلاص لله - عز وجل -. ما هي هذه الملة التي أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - باتباعها وأمرنا باتباعه؟ يجب علينا أن نعرفها، لأن المسلم يجب عليه أن يعرف ما أوجب الله عليه من أجل أن يمتثله، ومن أجل أن لا يخل به، لا يكفي الانتساب بدون معرفة، لا يكفي أن ينتسب للإسلام وهو لا يعرفه، ولا يعرف ما هي نواقض الإسلام، وما هي شرائع الإسلام، وأحكام الإسلام، ولا يكفي الانتساب لملة إبراهيم وأنت لا تعرفها، وإذا سئلت عنها تقول: لا أدري، هذا لا يجوز، يجب أن تعرفها جيدا من أجل أن تسير عليها على بصيرة، وألا تخل بشيء منها. [14] قوله: أن تعبد الله مخلصا له الدين: هذه ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصا له الدين. تجمع بين الأمرين: العبادة والإخلاص، فمن عبد الله ولم يخلص له الدين لم تكن عبادته شيئا، فمن عبد الله، فصام وحج وصلى واعتمر وتصدق وزكى وفعل كثيرا من الطاعات؛ لكنه لم يخلص لله - عز وجل - في ذلك، إما لأنه فعل كل ذلك رياء أو سمعة، أو أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 خلط عمله بشيء من الشرك كالدعاء لغير الله، والاستغاثة بغير الله، والذبح لغير الله، فإن هذا لم يكن مخلصا في عبادته، بل هو مشرك، وليس على ملة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -. كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام اليوم يقعون في الشرك الأكبر، من دعاء غير الله وعبادة القبور والأضرحة والذبح لها والنذر لها والطواف بها والتبرك بها، والاستغاثة بالأموات، وغير ذلك، وهم يقولون إنهم مسلمون، هؤلاء لم يعرفوا ملة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - التي عليها نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعرفوها، أو عرفوها وخالفوها على بصيرة والعياذ بالله، وهذا أشد. فملة إبراهيم لا تقبل الشرك بأي وجه من الوجوه، ومن خلط عمله بشرك فليس على ملة إبراهيم، وإن كان ينتسب إليها ويزعم أنه مسلم، فالواجب أن تعرف ملة إبراهيم، وأن تعمل بها، وأن تلتزمها بأن تعبد الله مخلصا له الدين، لا يكون في عبادتك شيء من الشرك الأصغر أو الأكبر. هذه ملة إبراهيم - عليه السلام -: الحنيفية التي أعرضت عن الشرك بالكلية، وأقبلت على التوحيد بكليتها، أن تعبد الله مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُمْ لَهَا [15]   [15] قوله: وبذلك أمر الله: الإشارة ترجع إلى قوله: أن تعبد الله مخلصا له الدين، أي وبعبادة الله مخلصا له الدين أمر الله جميع الخلق، أمر الله جميع الناس عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، كل الناس من عهد آدم إلى آخر بشر في الدنيا، كلهم أمرهم الله بعبادته مع الإخلاص في العبادة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة 21، 22) أنه لا ند له، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا كفؤ له، فهذا نهي عن الشرك الأكبر وعن الشرك الأصغر، أمر الله بذلك جميع الناس من أولهم إلى آخرهم. قوله: وخلقهم لها: أي لعبادته وحده لا شريك له سبحانه، خلقوا من أجلها، ذلك كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . وأمروا بذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 هذا معنى قول الشيخ: خلقهم لها وأمرهم بها، جمع الأمرين في قوله: وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . فقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ} الله هو الخالق، هو الذي خلق الأشياء كلها، ومن ذلك أنه خلق الجن والإنس، وأعطاهم العقول، وكلفهم بعبادته وحده لا شريك له، خصهم بالأمر بعبادته؛ لأن الله أعطاهم عقولا، وأعطاهم ما يميزون به بين الضار والنافع، والحق والباطل، وخلق الأشياء كلها لمصالحهم ومنافعهم، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] كل مسخر لبني آدم من أجل أن يستعينوا به على ما خلقوا من أجله، وهو عبادة الله سبحانه وتعالى، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . والجن عالم من عالم الغيب لا نراهم، وهم مكلفون بالعبادة، ومنهيون عن الشرك وعن المعصية مثل بني آدم، لكن يختلفون عن بني آدم في الخلقة. أما من ناحية الأوامر والنواهي فهم مثل بني آدم مأمورون ومنهيون، والجن عالم من عالم الغيب لا نراهم لكنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 موجودون، والإنس هم بنو آدم، سموا بالإنس لأن بعضهم يأنس ببعض، يجتمعون ويتآلفون، والجن سموا جنا من الاجتنان وهو الاختفاء، ومنه الجنين في البطن، لأنه مختف، وجنه الليل إذا ستره، والمجن الذي يتخذ دون السهام، فالاجتنان والجنان هو الشيء الخفي المستتر، فالجن مستترون عنا لا نراهم. وهم عالم موجود من أنكرهم فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ورسوله ولإجماع المسلمين، فقد بين الله - عز وجل - أنه لم يخلق الجن والإنس لشيء إلا لعبادته، فهو لم يخلقهم لأجل أن ينفعوه أو يضروه، أو يعتز بهم من ذلة، أو يتكثر بهم من قلة، لأنه غني عن العالمين، وما خلقهم لحاجة إليهم، ما خلقهم لأجل أن يرزقوه أو يكتسبوا له الأموال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57] . فالله ليس بحاجة إلى الخلق، وإنما خلق الجن والإنس لشيء واحد فقط وهو أن يعبدوه، وهو ليس بحاجة إلى عبادتهم، وإنما هم المحتاجون إليها؛ لأنهم إذا عبدوا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ومعنى يعبدون: يوحدون [16] .   أكرمهم وأدخلهم الجنة، فمصلحة العبادة راجعة إليهم، ومضرة المعصية عائدة إليهم، أما الله - جل وعلا - لا تضره طاعة المطيع ولا معصية العاصي، قال سبحانه وتعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] الله لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة المطيع، وإنما هذا راجع إلى الخلق أنفسهم، إن أطاعوه انتفعوا، وإن عصوه تضرروا بمعصيته. [16] قوله: ومعنى يعبدون: يوحدون: أي يفردوني بالعبادة، فالعبادة والتوحيد بمعنى واحد. التوحيد يفسر بالعبادة، والعبادة تفسر بالتوحيد، ومعناهما واحد، ففي هذا رد على من فسر التوحيد بأنه الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، فهذا ليس هو التوحيد الذي خلق الخلق من أجله، وإنما خلق الخلق من أجل توحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية. أما من أقر بتوحيد الربوبية فقط فإنه ليس موحدا، وليس من أهل الجنة، بل هو من أهل النار؛ لأنه لم يأت بالتوحيد الذي خلق من أجله والعبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أعظم ما أمر الله به التوحيد وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ إفراد الله بالعبادة [17]   [17] قوله - رحمه الله -: أعظم ما أمر الله به التوحيد: هذا مهم جدا، إن التوحيد أعظم ما أمر الله به، كل الأوامر التي أمر الله بها كلها بعد التوحيد. ما الدليل على أن أعظم ما أمر الله به التوحيد قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى آخر الآية [النساء: 36] . هذه الآية فيها عشرة حقوق؛ ولهذا تسمى آية الحقوق العشرة، أول هذه الحقوق حق الله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} هذا هو الحق الثاني، {وَذِي الْقُرْبَى} هذا هو الحق الثالث، وذوو القربى هم الذين تجمعك بهم قرابة نسبية من جهة الأب أو الأم، كالآباء والأجداد، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، والإخوة والأخوات، وأولاد الإخوه والأخوات، وأولاد الأعمام والعمات، هؤلاء هم ذوو القربى، لهم حق القرابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ( {وَالْيَتَامَى} ) الأيتام من المسلمين، وهم كل من مات أبوه وهو صغير ولم يبلغ وصار بحاجة إلى من يسد مسد أبيه في رعاية هذا الطفل تربية وإنفاقا والقيام بمصالحه، ورفع ما يضره؛ لأنه ليس له أب يحميه وينفق عليه ويدافع عنه، فهو بحاجة إلى من يساعده، لأنه فقد أباه وعائله، وله حق في الإسلام. المهم أن الله بدأها بحقه سبحانه وتعالى قوله: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} لم يقتصر على قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} لأن العبادة لا تصح مع الشرك ولا تنفع، ولا تسمى عبادة إلا إذا كانت خالصة لله - عز وجل -، إن كان معها شرك فإنها لا تكون عبادة مهما أتعب الإنسان نفسه فيها، قرن الأمر بالعبادة بالنهي عن الشرك، إذ لا تصح العبادة مع وجود الشرك أبدا. هذا دليل على قول الشيخ: أعظم ما أمر الله به التوحيد، حيث إن الله بدأ به في آيات كثيرة منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] فبدأ سبحانه وتعالى بالتوحيد، وهذا يدل على أنه أعظم ما أمر الله به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] . هذا دليل على ما يأتي أن أعظم ما نهى الله عنه الشرك، إذا كان أعظم ما أمر الله به التوحيد فإنه يجب أن يبدأ الإنسان بتعلم العقيدة قبل كل شيء، العقيدة هي الأساس، فيجب أن يبدأ بها بالتعلم والتعليم، وأن يداوم على تدريسها وبيانها للناس؛ لأنها هي أعظم ما أمر الله به، فليس من المناسب أن تجعلها آخر الأشياء، أو لا يؤبه بها، لأن الآن هناك دعاة يزهدون في تعليم التوحيد والعقيدة، فهناك أناس ابتلوا بهذا، ولأن الإخلال بها إخلال بالدين كله فيجب العناية بها. وما هو التوحيد؟ هل هو أن تقر بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت؟ لا؛ التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، لأن الله قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقال أهل التفسير: يعبدون أي يوحدون، ففسروا التوحيد بالعبادة. إذًا فالتوحيد هو إفراد الله بالعبادة وليس، هو الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، لأن هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أعظم ما نهى الله عنه الشرك وأعظم ما نهى عنه الشرك [18]   موجود في الفطر، موجود في عقول العقلاء، لا يوجد عاقل في الدنيا يعتقد أن أحدا خلق السماوات والأرض غير الله سبحانه وتعالى، لا يوجد أحد في العالم كله وما فيه من الكفار والملاحدة يعتقد أن أحدا خلق بشرا {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] . لا يوجد عاقل في العالم يعتقد أن بشرا يخلق بشرا إنسانا يمشي على الأرض ويتكلم ويأكل ويشرب، هل يوجد عاقل يعتقد هذا؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36] . توحيد الربوبية موجود في الفطر والعقول لكنه لا يكفي بدون توحيد العبادة، وهو إفراد الله بالعبادة. ولهذا قال الشيخ: التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وليس هو إفراد الله بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، لأن هذا شيء معروف، ولا يكفي توحيد الربوبية في تعريف التوحيد. [18] قوله - رحمه الله -: وأعظم ما نهى الله عنه الشرك: هذه فائدة عظيمة؛ لأن بعض الناس يعتقدون أن هناك أشياء هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أعظم الجرائم، وأعظم ما نهى الله عنه، فيقول: الربا هو أعظم المحرمات، الزنا هو أعظم المحرمات؛ ولذلك يركزون على النهي عن الربا، وعن الزنا، وعن فساد الأخلاق، ولكن لا يهتمون بأمر الشرك، ولا يحذرون منه، وهم يرون الناس واقعين فيه، فهذا من الجهل العظيم بشريعة الله سبحانه وتعالى. فأعظم ما نهى الله عنه هو الشرك، فهو أعظم من الربا، وأعظم من شرب الخمر، وأعظم من السرقة، وأعظم من أكل أموال الناس بالباطل، وأعظم من القمار والميسر، هو أعظم المحرمات، والدليل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلى آخر الآيات، وهذه الآيات تسمى بالوصايا العشر، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151، 152] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 هذه المحرمات بدأها الله بقوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} فدل على أن الشرك هو أعظم ما نهى الله عنه. وفي سورة الإسراء قال الله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] . بدأ بالنهي عن الشرك، وختمها بالنهي عن الشرك فقال: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] . فدل على أنه أعظم ما نهى الله عنه، هذا يدل على قول الشيخ: وأعظم ما نهى الله عنه الشرك. وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «سئل: أي الذنب أعظم قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قيل ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك» وأنزل الله تصديق ذلك في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] . فبدأ بالشرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 في قوله: أن تجعل لله ندا - أي شريكا - وهو خلقك، وقال: هو أعظم الذنوب؛ لأنه سئل أي الذنب أعظم؟ فبدأ بالشرك. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اجتنبوا السبع الموبقات! قيل وما هن يا رسول الله؟ ! قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.» " إلخ الحديث بدأها بالشرك، فدل على أن الشرك هو أعظم الذنوب، ولذلك المشرك لا يدخل الجنة أبدا، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] . المشرك لا يغفر الله له: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . فدل ذلك على تحريم الجنة على المشرك، وأيضا أن الله لا يغفر له، ودل هذا على أن الشرك أعظم الذنوب، لأن الذنوب ما عدا الشرك قابلة للمغفرة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فالزنا والسرقة وشرب الخمر والربا كله داخل تحت المشيئة، إن شاء الله غفر لصاحبه، وإن شاء عذبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 أما الشرك فإنه لا يغفر، حكم الله أنه لا يغفره، وكذا العاصي وإن كان عنده كبائر دون الشرك فإنه لا تحرم عليه الجنة، مآله إلى الجنة، إما أن يغفر الله له من أول وهلة ويدخله الجنة، وإما أن يخرج من النار بعد تعذيبه ويدخل الجنة، المؤمن مهما كان منه من الفسق والمعاصي التي دون الشرك فإنه لا يقنط من رحمة الله، ولا يحرم من الجنة، وهو داخل تحت المغفرة بمشيئة الله سبحانه وتعالى. أما المشرك فإنه محروم من ذلك كله والعياذ بالله، فدل على أن الشرك هو أعظم الذنوب، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] . {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] كل هذا يدل على أن الشرك أعظم الذنوب، وإذا كان الشرك أعظم الذنوب فإنه يجب على العلماء والمتعلمين النهي عنه والتحذير منه، وألا يسكتوا عن التحذير من الشرك، وأنه يجب جهاد المشركين مع القدرة كما جاهدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وهو دعوة غيره معه [19]   قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] فيجب التحذير من الشرك وبيانه للناس حتى يجتنبوه، هذا الذي يجب. أما أن يسكت عن الشرك، ويترك الناس يهيمون في عبادة غير الله، وهم يدعون الإسلام، ولا أحد ينهي ولا أحد يحذر، الأمر خطير جدا، هناك ناس يتجهون إلى النهي عن الربا والزنا وفساد الأخلاق، هذه أمور نعم محرمة وفساد، لكن الشرك أعظم، فلماذا لا يهتم بالنهي عن الشرك، والتحذير من الشرك، وبيان ما يقع فيه كثير من الناس في الشرك الأكبر وهم يدعون الإسلام؟ لماذا هذا التساهل في أمر الشرك والتغافل عنه، وترك الناس يقعون فيه، والعلماء موجودون، بل يعيشون مع هؤلاء ويسكتون عنهم؟ الواجب أن يتجه أولا إلى النهي عن هذا الخطر العظيم الذي فتك بالأمة فتكا ذريعا، كل ذنب دونه فهو أهون منه، والواجب أن يبدأ بالأهم فالأهم. [19] هذا تعريف الشرك: هو دعوة غيره معه: بمعنى أن يُصرف شيء من العبادة لغير الله من ملك من الملائكة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 نبي من الأنبياء أو صالح من الصالحين أو بنية من البنيات أو غير ذلك من كل المخلوقات، فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله فهذا هو أعظم ما نهى الله عنه، هذا هو الشرك. فاعرفوا تفسير التوحيد وتفسير الشرك، لأن هناك من الناس من يفسر التوحيد بغير تفسيره، ومن يفسر الشرك بغير تفسيره. من الناس من يقولون إن الشرك هو الشرك في الحاكمية، وهذا ظهر الآن مع الأسف، الحكم بغير ما أنزل الله نوع من أنواع الشرك يسمى شرك الطاعة، لا شك أن طاعة المخلوق في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله هذا نوع من الشرك؛ لكن هناك ما هو أعظم منه وهو عبادة غير الله - عز وجل - بالذبح والنذر والطواف والاستغاثة، فالواجب أن يحذر من الشرك كله لا يؤخذ منه ويترك ما هو أعظم وأخطر منه، فلا يفسر الشرك بأنه شرك الحاكمية فقط أو الشرك السياسي، ويقولون الشرك بالقبور هذا شرك ساذج، أي هين، هذه جراءة على الله سبحانه وتعالى، الشرك أعظم ما نهى الله عنه، وهو دعوة غيره معه، هذا هو الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ومنهم من يقول الشرك هو محبة الدنيا ومحبة المال. المال جعله الله محبوبا حبا طبيعيا {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20] . {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي المال {لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} [التوبة: 24] . قال: أحب إليكم، ما أنكر عليهم أنهم يحبونه، لكن أنكر عليهم أنهم يقدمون محبته على محبة الله، محبة المال ليست شركا؛ لأن هذه محبة طبيعية، الناس يحتاجون إلى المال ويحبونه، محبة المال ليست شركا، لأنه من محبة المنافع التي ينتفع بها الإنسان، لكن هؤلاء الذين يقولون هذه المقالات إما أنهم جهال لم يتعلموا التوحيد والشرك، وإما أنهم معرضون يريدون صرف الناس عن هذه الحقائق إلى أشياء هم يريدونها، ومآرب يريدونها، والله أعلم بالمقاصد. المهم أن هذا ليس هو الشرك، الشرك هو دعوة غير الله معه، أو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كالذبح والنذر والدعاء والاستغاثة والاستعانة والالتجاء والخوف والرجاء وغير ذلك، هذا هو الشرك الذي هو أعظم الذنوب، دعوة غيره معه سبحانه وتعالى، لأن الدعاء هو أعظم أنواع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] [20]   العبادة كما قال سبحانه: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14] . وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14] . فدعاء غير الله هو الشرك الذي حرمه الله ورسوله، أما هذه الجزئيات التي يجعلونها هي الشرك فليس كذلك، لكن يقال: إن بعضها جزء من الشرك؛ وإن هناك ما هو أخطر منه وأهم منه، لأن الشرك يتفاوت، بعضه أشد من بعض والعياذ بالله. [20] قوله: والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ، قلنا: إن الدليل على أن أعظم ما أمر الله به هو التوحيد قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} ثم ذكر بقية الحقوق، فكونه بدأ بالتوحيد والنهي عن الشرك، هذا دليل على أن التوحيد هو أعظم ما أمر الله به، لأنه قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} وأتبعه بقوله: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} فهذا نهي، فبدأ الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، فدل على أن أعظم ما أمر الله به التوحيد، وأعظم ما نهى عنه الشرك، لأن الله بدأ بذلك، ولا يبدأ سبحانه إلا بالأهم فالأهم، هذا وجه الدلالة من الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الرسالة الرابعة : الأصول الثلاثة التي تجب معرفتها الأصل الأول: معرفة الله عز وجل فإذا قيل لك ما هي الأصول الثلاثة التي تجب مَعْرِفَتُهَا؟ فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَدِينَهُ، وَنَبِيَّهُ محمد - صلى الله عليه وسلم -[1]   [1] قوله: الأصول: جمع أصل، والأصل ما يبنى عليه غيره، والفرع ما يبنى على غيره، فهذه سميت بالأصول، لأنها يبنى عليها غيرها من أمر الدين؛ فلذلك سميت أصولا لأنها يبنى عليها أمر الدين. وكل الدين يدور على هذه الأصول الثلاثة. قوله: معرفة العبد ربه: ربه منصوب، لأنه مفعول لمعرفة، لأن المصدر (معرفة) أضيف إلى اسم الفاعل (العبد) والمصدر إذا أضيف يعمل عمل فعله عند النحويين، فالمصدر هنا أضيف فيعمل عمل الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قوله: ودينه ونبيه: معطوف عليه أي على المنصوب، هذه أصول الدين إجمالا. وسيأتي تفصيلها في كلام الشيخ - رحمه الله - إن شاء الله. لماذا خص هذه الأصول الثلاثة؟ لأنها هي الأساسات لدين الإسلام، ولأنها هي المسائل التي يسأل عنها العبد حين يوضع في قبره، لأن «العبد إذا وضع في قبره وسوي عليه التراب وانصرف عنه الناس راجعين إلى أهلهم جاءه ملكان في القبر، فتعاد روحه في جسده، ويحيا حياة برزخية، ليست حياة مثل حياة الدنيا، حياة الله أعلم بها، فيجلسانه في قبره فيقولان له: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فالمؤمن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيي، فيقال له: كيف عرفت؟ يقول: قرأت كتاب الله فدريت وعرفت، فينادي مناد: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا من الجنة، ويوسع له في قبره مد البصر، فيأتيه من ريح الجنة وروحها، فينظر إلى مسكنه في الجنة، فيقول: يا رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي» . وأما المرتاب الذي عاش على الريبة والشك وعدم اليقين، وإن كان يدعي الإسلام، «إذا كان عنده شكوك وعنده» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 «ريب في دين الله كالمنافق فإنه يتلجلج، فإذا قالوا له: من ربك؟ يقول: لا أدري، وإذا قالوا: ما دينك؟ يقول: لا أدري، وإذا قيل: من نبيك؟ يقول: لا أدري، هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» . يعني أنه في الدنيا يقول ما يقوله الناس من غير إيمان، هذا المنافق والعياذ بالله، هذا المنافق الذي أظهر الإسلام وهو لا يعتقده في قلبه، وإنما أظهره من أجل مصالحه الدنيوية، فيقول في الدنيا: ربي الله، وهو غير مؤمن بها، قلبه منكر والعياذ بالله!! يقول: ديني الإسلام وهو لا يؤمن بالإسلام، قلبه منكر!! يقول: نبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يؤمن برسالة محمد في قلبه! ! إنما يقول بلسانه فقط، «هذا هو المنافق، فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيضرب بمرزبة من حديد يصيح بها صيحة لو سمعه الثقلان لصعقوا، يسمعها كل شيء إلا الإنسان، لو سمعه لصعق، أي لمات من الهول، ويضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه، ويفتح له باب إلى النار، فيأتيه من سمومها وحرها، فيقول: يا رب لا تقم الساعة، هذه عيشته وحالته في القبر، والعياذ بالله، لأنه ما أجاب بالجواب السديد. » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ [2]   «ولذلك ينادي مناد: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا من النار» ، والعياذ بالله. فإذا كانت هذه المسائل بهذه الأهمية وجب علينا أن نتعلمها وأن نعتقدها، ولا يكفي التعلم فقط، بل نتعلمها ونعتقدها، ونؤمن بها، ونعمل بها ما دمنا على قيد الحياة، لعل الله أن يثبتنا عند السؤال في القبر، يقول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] . فهذه الأصول الثلاثة لها أهمية عظيمة، ولهذا ركز عليها الشيخ في هذه الرسالة ووضحها من أجل أن ندرسها، ونتمعن فيها ونعتقدها ونعمل بها، لعل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. [2] لما بين الشيخ - رحمه الله - الأصول الثلاثة مجملة أراد أن يبينها مفصلة واحدا واحدا بأدلتها من الكتاب والسنة، ومن آيات الله في الكون، ومن الأدلة العقلية، وهكذا يجب أن تبنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 العقائد على أدلة الكتاب والسنة، وعلى النظر في آيات الله الكونية من أجل أن ترسخ وتثبت في القلب، وتزول جميع الشبه. وأما العقائد المبنية على الشبهات وعلى الشكوك وعلى أقوال الناس والتقليد الأعمى فإنها عقائد زائلة لا تثبت، وهي عرضة للنقض، وعرضة للإبطال. فلا تثبت العقيدة ولا سائر الأحكام الشرعية إلا بأدلة الكتاب والسنة، وبالأدلة العقلية المسلمة. ولهذا أكثر الشيخ - رحمه الله - من سياق الأدلة على هذه الأصول الثلاثة، فلا يمر أصل منها إلا وقد دعمه بالأدلة والبراهين اليقينية التي تطرد الشكوك والأهواء، وترسخ العقيدة في القلب. قوله - رحمه الله -: فإذا قيل لك: أي سئلت من ربك؟ وهذا سؤال وارد ستسأل عنه في الدنيا والآخرة، فلا بد أن تعرف ربك - عز وجل - وأن تجيب بجواب صحيح مبني على اليقين والبرهان، فقل: ربي الله - هذا هو الجواب - الذي رباني، وربى جميع العالمين بنعمه، هذا استدلال عقلي. فالرب - جل وعلا - هو الذي يربي جميع عباده بنعمه، ويغذيهم برزقه، يخلقهم - بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث، ويوصل إليهم الرزق حتى في بطون أمهاتهم؛ ولذلك ينمو جسم الجنين في بطن أمه ويكبر، لأنه يصل إليه الرزق من الله سبحانه وتعالى، ويصل إليه الغذاء. ثم تنفخ فيه الروح فيتحرك ويحيا بإذن الله، هذه تربية في البطن، ثم إذا خرج فإن الله سبحانه يربيه بنعمه بالصحة والعافية، ويدر عليه لبن أمه، فيتغذى إلى أن يأكل الطعام ويستغني عن الحليب، ثم ينمو شيئا فشيئا، عقله وسمعه وبصره، ينمو شيئا فشيئا حتى يبلغ الحلم، ثم ينمو وينمو حتى يبلغ أشده ويبلغ أربعين سنة، ويكون في غاية القوة. فمن الذي يغذيه من يوم أن خلقه في بطن أمه إلى أن يموت، من الذي يغذيه، ثم من الذي يسوغ هذا الطعام وهذا الشراب في جسمه، فيصل إلى كل خلية وعضلة، وإلى كل مكان في جسمه، من الذي يشهي إليه الطعام والشراب، من الذي يصرفه ويخرج منه ضرره، من الذي يفعل هذا ويربي هذا الإنسان، أليس هو الله سبحانه وتعالى؟ هذا هو الرب سبحانه وتعالى الذي يربي، الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وهو معبودي ليس لي معبود سواه [3]   كل ما على وجه الأرض من العوالم الآدمية والحيوانية، وعالم البر والبحر، من أكبر مخلوق إلى أصغر مخلوق، في البر والبحر، كلها تتغذى بنعمه ورزقه، قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21] ، وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] . وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60] . هذا هو الرب سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [يونس: 3] أما غير الله - جل وعلا - فلا يملك من ذلك شيئا، لا الأصنام ولا غيرها، لا أحد يملك من الرزق شيئا، وإنما هو مرزوق، مخلوق مثلك. [3] قوله: وهو معبودي: الرب الذي هذا شأنه هو الذي يستحق العبادة مني ومن غيري، ثم أيضا نبه الشيخ - رحمه الله - أنه لا يكفي الإقرار بالربوبية، لا يكفي أن تقول ربي الله الذي رباني بنعمه. هذا لا يكفي، لا بد أن تعترف له بالعبودية، وأن تخلص له بالعبادة، وهذا هو الفرق ما بين الموحد والمشرك، فالموحد يقر بربوبية الله - عز وجل - وبعبوديته وحده لا شريك له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 والمشرك يقر بربوبية الله، ولكنه مشرك في عبادته، يشرك معه غيره في عبادته، يشرك معه من لا يخلق ولا يرزق ولا يملك شيئا، هذا هو الفرق ما بين الموحد والمشرك؛ الموحد يقول: ربي الله، وهو معبودي، وليس لي معبود سواه، أما المشرك يقول: ربي الله؛ لكن العبادة عنده ليست خاصة بالله، فيعبد مع الله الأشجار والأحجار والأولياء والصالحين والقبور، فلذلك صار مشركا، ولم ينفعه الإقرار بالربوبية، ولم يدخله في الإسلام. فقوله: وهو معبودي: أي الإله الذي أعبده. وقوله: ليس لي معبود سواه: لا من الملائكة ولا من الرسل ولا من الصالحين ولا من الأشجار والأحجار ولا من أي شيء، ليس لي معبود سواه سبحانه وتعالى، هذا تقرير التوحيد بالدليل، وهذا دليل عقلي، ثم ذكر الدليل النقلي من القرآن. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] . هذه الآية هي أول القرآن في المصحف، ليس قبلها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وهي آخر كلام أهل الجنة، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ، والله - جل وعلا - افتتح بها الخلق، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] . وختم بها الخلق، قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75] فتح بها الخلق وختم بها، فهي كلمة عظيمة. فقوله تعالى: الحمد: الثناء على المحمود مع محبته وإجلاله، و (أل) : في الحمد للاستغراق، أي جميع المحامد لله ملكا واستحقاقا، فهو المستحق للحمد المطلق، وأما غيره فيحمد على قدر ما يفعل من الجميل ومن الخير، وأما الحمد المطلق الكامل فهو لله - عز وجل - لأن النعم كلها منه. وحتى المخلوق إذا أسدى إليك شيئا من الإحسان فإنه من الله - عز وجل - هو الذي سخر لك هذا المخلوق، وهو الذي مكنه من أن يحسن إليك، فالحمد يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. وقوله: لله: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، أي: الحمد كائن أو مستقر لله - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 والله: معناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وهذا الاسم لا يسمى به غيره سبحانه، لا أحد تسمى بالله، حتى فرعون ما قال أنا الله، لكنه قال: أنا ربكم، فهذا الاسم خاص بالله، لا أحد يتسمى به أبدا، ولا أحد يجرؤ أن يقول أنا الله. رب: نعت لاسم الجلالة، وهو مجرور، وهو مضاف. العالمين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. فواضح أن الحمد كله والثناء كله لله رب العالمين. وعالم الملائكة وعالم الجمادات والطيور وعالم السباع وعالم الحيوانات وعالم الحشرات والذر، عوالم في البر والبحر لا يعلمها إلا الله، ولا يحصيها إلا الله، كلها الله ربها. رب العالمين: وهذا لا يقال إلا على الله سبحانه - عز وجل -، لا يمكن لأحد أن يقال له: رب العالمين. فإذا قيل: الرب: فهذا لا يطلق إلا على الله - جل وعلا - ولا ينصرف إلا إليه، أما المخلوق فيقيد، فيقال: رب الدار، رب البهيمة، أي: مالكها وصاحبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وكل ما سِوَى اللهِ عَالَمٌ وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ العالم [4]   [4] ثم بين الشيخ - رحمه الله - وجه الاستدلال بهذه الآية. فقوله: وكل ما سوى الله عالم، وأنا واحد من ذلك العالم: فيكون الله ربي؛ لأن الله رب العالمين، وأنا واحد من العالمين، فيكون الله ربي، فلا أحد يستطيع أن يقول: أنا لي رب غير رب العالمين، لا الكافر ولا المسلم، هذا لا يمكن أبدا، ولا يقوله عاقل، هذا دليل على ربوبية الله - عز وجل - وما دام أنه رب العالمين فهو المستحق للعبادة، وهذا يبطل عبادة غيره سبحانه وتعالى، ولذلك قال بعدها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وهذا يفيد الحصر، لأن تقديم المعمول - إياك - وتأخير العامل - نعبد - يدل على الحصر، فإياك نعبد يختلف عن نعبدك، لأن نعبد هذا إثبات فقط، لكن إياك نعبد يتضمن النفي والإثبات، أي لا نعبد غيرك، والعبادة لا تصح إلا مع النفي والإثبات، وهو معنى لا إله إلا الله، فيها نفي وإثبات، نفي الألوهية عما سوى الله، وإثباتها لله - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فإذا قيل لك بما عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته [5]   [5] أنت قلت: الله ربي، أو ربي الله الذي رباني بنعمه، ما هو الدليل على أن الله ربك الذي رباك بنعمه؟ جاء الشيخ بأدلة من الوحي ومن العقل كما سيأتي، فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ لأن من ادعى شيئا فلا بد أن يقيم الدليل على دعواه: والدعاوى إذا لم يقيموا ... عليها بينات أهلها أدعياء لا بد لكل مدع أن يقيم الدليل على دعواه، وإلا كانت دعواه غير صحيحة، أنت قلت: ربي الله الذي رباني، وربى جميع العالمين بنعمه، ما الدليل؟ فقل: الدليل آياته ومخلوقاته. الآيات: جمع آية، والآية لغة: العلامة على الشيء، والدلالة على الشيء، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " «آية المنافق ثلاث» " أي: علامته. قوله: بآياته: أي العلامات والدلالات الدالة عليه سبحانه وتعالى. فجميع هذه الكائنات التي ترونها كلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 كانت معدومة، ثم إن الله أوجدها وخلقها بقدرته سبحانه وتعالى. ومنها خلق يتجدد مثل النبات والمواليد وأشياء ما كانت موجودة ثم وجدت، وأنتم تنظرون إليها، من الذي يخلقها؟ هو الله سبحانه وتعالى. هل تخلق نفسها، هل أحد من البشر خلقها؟ لا أحد ادعى هذا ولا يستطيع أن يدعي. قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36] . هذه الأشياء ما أوجدت نفسها، أو أوجدها غيرها من المخلوقات، أبدا ما أحد خلق شجرة، ما أحد خلق بعوضة أو ذبابا {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] . فهذا الخلق يدل على الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا لما قيل لأعرابي على البديهة بم عرفت ربك؟ قال: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، ألا يدل هذا الكون على اللطيف الخبير. إذا رأيت أثر قدم على الأرض أما يدلك هذا على أن أحدا مشى على هذه الأرض، إذا رأيت بعر بعير، ألا يدلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَمِنْ مخلوقاته: السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما [6]   هذا على أن هذه الأرض فيها إبل، أو مر عليها بعير، البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير. [6] قوله: ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر: فالآيات على قسمين: آيات كونية تشاهد مثل السماوات والأرض والنجوم والشمس والقمر والجبال والشجر والبحار، سميت آيات، لأن بها دلالات على خالقها سبحانه وتعالى، ولهذا يقول الشاعر: فيا عجبا كيف يعصى الإل ... هـ أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ولله في كل تحريكة ... وتسكينة في الورى شاهد فكيف يجحد أحد الله - جل وعلا - ويقول: ليس هناك رب، هذا الكون كله، وهذه المخلوقات وجدت من غير خالق، وإن وجدت بخالق فمن هو هذا الخالق غير الله - جل وعلا - بين لي؟ لا تجد خالقا غير الله سبحانه وتعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] . القسم الثاني: الآيات القرآنية التي تتلى من الوحي المنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه كلها أدلة على وجود الرب سبحانه وتعالى، وعلى كماله وصفاته وأسمائه، وعلى أنه مستحق للعبادة وحده لا شريك له، كلها تدل على ذلك، الآيات الكونية والآيات القرآنية. الآيات الكونية تدل على خالقها وموجدها ومدبرها، والآيات القرآنية فيها الأمر بعبادة الله، وفيها تقرير توحيد الربوبية، والاستدلال به على توحيد الألوهية، والأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، كل القرآن يدور على هذا المعنى، وأنزل من أجل هذا المعنى. ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، هذه من أعظم آياته سبحانه وتعالى، الليل المظلم الذي يغطي هذا الكون، والنهار المضيء الذي يضيء هذا الكون، فينتشر الناس لأشغالهم، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71 - 73] . هذا من أعظم آيات الله، هذا الليل وهذا النهار، لا الوقت كله ليل، ولا الوقت كله نهار، لأنه لو كان كذلك تعطلت مصالح العباد وتعبوا. جعل الله لهم الليل والنهار يتعاقبان، ثم إن الليل والنهار منتظمان لا يتخلف واحد منهما ولا يتغير، على نظام واحد، مما يدل على حكمة الحكيم سبحانه وتعالى، أفعال العباد وصناعاتهم تخرب وتختلف مهما كانت وتتعطل، وأما مخلوقات الله - عز وجل - فإنها لا تخرب إلا في وقت يأذن الله فيه بخرابها. فالليل والنهار مستمران، لم يتعطل أحد فيهما، بينما صناعة الخلق تتعطل وتخرب وتفنى، وإن كانت قوية أو ضخمة. كم تشاهدون من السيارات المرمية والطائرات والبواخر، مع أنها قوية ومعتنى بها، لكنها تخرب وتتعطل، هل تعطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الدليل على ربوبيته وإلاهيته سبحانه وتعالى وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] [7]   الليل أو تعطل النهار؟ لأن صانعه قدير حكيم - جل وعلا -: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] . [7] هذا دليل على ربوبيته وإلهيته سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} . الشمس والقمر: الشمس الكوكب العظيم الذي يضيء الكون سراجا وهاجا، كما قال الله تعالى، والقمر نور يضيء الليل، ويضيء الطريق للناس، ومن مصالحهما أيضا إصلاح الكون بأشجاره وثماره وبحاره، فلو اختفت الشمس عن الكون لتضرر الكون وفسدت كثير من معايش الناس ومصالحهم، ولو اختفى القمر كذلك، القمر أيضا فيه منافع للثمار والأشجار، مع ما فيه أيضا من معرفة الحساب،، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 {وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] . وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . ففي الأهلة مصلحة لمعرفة المواقيت والآجال، آجال الديون وآجال العدد للنساء، ومواقيت العبادات والصيام والحج، كلها تعرف بالحساب المبني على هذين النيرين الشمس والقمر، فالحساب الشمسي والحساب القمري فيهما مصالح للخلق أجمعين. ومن مخلوقاته السماوات السبع، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] . {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3] . بعضها فوق بعض، السماء الدنيا، ثم التي تليها إلى السابعة، وفوق الجميع عرش الرحمن سبحانه وتعالى. والأرضين سبع كما قال تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فهي سبع طباق أيضا، وكل طبقة من طبقات السماوات السبع والأرضين لها سكان وعمار، ما في السماوات من الكواكب والأفلاك الشمس والقمر، وما في الأرض من المخلوقات من الدواب باختلاف أنواعها، ومن الجبال والأشجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والأحجار، ومن المعادن، ومن البحار، هذه من آيات الله سبحانه وتعالى الآيات الكونية التي ترى وتشاهد. قال - رحمه الله -: وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . من آياته الليل: يعني من علاماته الدالة على الربوبية وقدرته واستحقاقه للعبادة دون سواه. الليل الذي يظلم والنهار الذي يضيء الكون كله، هذا من عجائب آيات الله سبحانه وتعالى. فمن الذي يجعل الكون كله مظلما في آن واحد؟ ثم يجعل الكون كله مضيئا في آن واحد؟ هو الله سبحانه وتعالى، لو اجتمع الخلق على أن يضيئوا بقعة من الأرض ما استطاعوا أن يضيئوا إلا بقعة محدودة، لو جاءوا بمكائن الكهرباء التي في الدنيا كلها لا تضيء إلا جزءا محدودا من الأرض. أما الشمس والقمر فهم يضيئان الأرض كلها، الليل والنهار يتعاقبان والشمس والقمر كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 قال تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . هذا إبطال للشرك، لا تسجدوا للمخلوقات؛ لأن من أعظم المخلوقات الشمس والقمر، ولأن المشركين كانوا يعبدون الشمس ويسجدون لها، ومنهم من يعبد القمر والكواكب، مثل قوم إبراهيم، يبنون لها هياكل على صورة الكواكب ويعبدونها، فقوله تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ} السجود معناه وضع الجبهة على الأرض خضوعا للمعبود، وهو أعظم أنواع العبادة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» ". فأعظم أنواع العبادة السجود على الأرض؛ لأن وجهك الذي هو أعز شيء عندك وضعته لله على الأرض تعبدا لله وتذللا بين يديه سبحانه وتعالى، هذا هو السجود الحقيقي، ولا يليق التعبد به إلا لله. أما السجود للشمس والقمر فهو سجود لمخلوق لا يستحق، فلا يجوز السجود للمخلوقات، وإنما السجود لخالق المخلوقات، أما المخلوقات فهي مثلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] [8]   مخلوقة مدبرة متصرف فيها، وهل تسجد لمخلوق مثلك عاجز مثلك، هذا لا يجوز، أين ذهبت العقول؟! . السجود إنما يستحقه الخالق سبحانه وتعالى الذي لا يعجزه شيء، فالسجود حق لله - عز وجل - وليس حقا للمخلوق مهما كان، هذا المخلوق من العظم والكبر فإنه مخلوق ضعيف مدبر متصرف فيه {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . فالواجب أن لا نعبد إلا الله، فإذا سجدتم له وسجدتم لغيره فإنكم لا تكونون عابدين لله العبادة الصحيحة، بل تعبدونه مع الشرك والشرك يفسد العبادة. [8] إن: حرف توكيد ونصب، وهي موطئة للقسم يقدر قبلها قسم تقديره والله. إن ربكم: فهي في جواب قسم مقدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 إن ربكم: أي خالقكم ومربيكم بالنعم. الله: لا غيره سبحانه وتعالى. ثم ذكر الدليل على ذلك فقال: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأعراف: 54] . هذا هو البرهان على ربوبية الله - عز وجل - أنه خلق السماوات والأرض، ولا أحد خلق شيئا منهما، ولا أحد أعانه سبحانه وتعالى على ذلك، بل هو المنفرد بخلقه {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} هل أحد من المشركين أو الملاحدة عارض هذا وقال: ما خلق الله السماوات والأرض، الذي خلقها هو فلان، أو أنا الذي خلقتها، أو خلقها الصنم الفلاني؟ هل قال هذا أحد من العالم قديما وحديثا، مع أن هذه الآية تتلى ليلا ونهارا؟ ولا أحد عارض فيها، ولا يستطيع أن يعارض أبدا. في ستة أيام: هذه المخلوقات الهائلة العظيمة خلقها الله في ستة أيام، وهو قادر على أن يخلقها في لحظة، ولكنه خلقها في ستة أيام لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، وستة الأيام أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، ففي يوم الجمعة تكامل الخلق؛ ولذلك صار هذا اليوم أعظم أيام الأسبوع. وهو سيد الأيام وعيد الأسبوع، وهو أفضل الأيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة» ) لأنه تكامل فيه خلق المخلوقات، وخلق فيه آدم، وأدخل الجنة وأهبط منها، وفيه تقوم الساعة، كل ذلك في يوم الجمعة، فهو أفضل الأيام، وهو آخر أيام الخلق، خلق السماوات والأرض وما فيهن. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} حرف عطف وترتيب، أي أن استواءه على العرش جاء بعد خلق السماوات والأرض، لأنه من صفات الأفعال التي يفعلها الله متى شاء. ومعنى استوى: ارتفع وعلا. العرش: هو سقف المخلوقات. وهو في اللغة: السرير، وهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وهو أعظم المخلوقات وأعلى المخلوقات. الاستواء: صفة من صفات الله الفعلية كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ليس كاستواء المخلوق على المخلوق، وليس هو بحاجة إلى العرش؛ لأنه هو الذي يمسك العرش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وغيره {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] فالعرش محتاج إلى الله - عز وجل - لأنه مخلوق، والله غني عن العرش وغيره، لكنه استوى عليه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، والاستواء نوع من العلو، لكن العلو صفة ذات، وأما الاستواء فهو صفة فعل يفعله إذا شاء سبحانه وتعالى. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} يغشي الليل بالنهار، ويغطي النهار بالليل، فبينما ترون الكون مضيئا يغطيه الليل فيصبح مظلما، والليل يغطيه النهار فيصبح مضيئا. {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} يأتي هذا بعد هذا مباشرة ولا يتأخر، فإذا أدبر الليل جاء النهار، وإذا أدبر النهار جاء الليل مباشرة لا يتأخر هذا عن هذا، وهذا من كمال قدرته سبحانه وتعالى، لا يفتر هذا عن هذا، والشمس هي الكوكب العظيم المعروف، والقمر كذلك كوكب من الكواكب السبعة السيارة، وكل منهما يجري ويدور على الأرض، والأرض ثابتة مستقرة، جعلها قرارا، أي قارة ثابتة لمصالح العباد، والشمس وسائر الأفلاك تدور عليها، لا كما يقوله المتخرصون الآن من الذين يدعون المعرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 يقولون: إن الشمس ثابتة والأرض تدور عليها هذا عكس ما في القرآن. . . {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] . وهم يقولون: الشمس ثابتة، يا سبحان الله! والنجوم: هي الكواكب، مسخرات بأمره: مسخرات في الجريان والدوران دائما لا يفترن، وهذا رد على الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب بأنها مسخرة بأمر الله مأمورة، الله الذي يجريها، والله الذي يوقفها إذا شاء سبحانه وتعالى، فهي مسخرة مدبرة ليس لها من الأمر شيء. يأمرها سبحانه فتجري وتدور وتضيء بأمره الكوني سبحانه وتعالى، يطلع هذا ويغرب هذا ويتعاقبان، نصب الشمس والقمر والنجوم على العطف، لأن السماوات: منصوب، لأنه مفعول وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة، لأنه جمع مؤنث سالم، والأرض منصوب بالفتحة، ثم قال: والشمس والقمر معطوف على المنصوب، والمعطوف على المنصوب منصوب. مسخرات: منصوب على الحال أي حال كونها مسخرات، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة، لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. قال {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ألا: أداة تنبيه وتقرير. له: سبحانه وتعالى لا لغيره. الخلق: وهو الإيجاد، فهو القادر على الخلق إذا أراد سبحانه وتعالى يخلق ما شاء. والأمر: أمره سبحانه وتعالى، وهو كلامه سبحانه وتعالى الكوني والشرعي. أمره الكوني: الذي يأمر به المخلوقات فتطيعه وتستجيب له مثل قوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11] . أمرهما سبحانه، وهذا أمر كوني أمر به السماوات والأرض فتكونت {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] هذا أمر كوني. أما الأمر الشرعي: فهو وحيه المنزل الذي يأمر به عباده، يأمرهم بعبادته، يأمرهم بالصلاة، يأمرهم بالزكاة، يأمرهم ببر الوالدين، هذا أمره الشرعي يدخل فيه الأوامر والنواهي التي في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، هذا من أمر الله سبحانه وتعالى. إذا كان له الخلق والأمر فماذا بقي لغيره سبحانه وتعالى؟ ولهذا يقول ابن عمر لما قرأ هذه الآية، قال: من له شيء فليطلبه، ودلت الآية على الفرق بين الخلق والأمر، ففيه رد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 على من يقولون بخلق القرآن، لأن القرآن من الأمر، وأمر الله ليس مخلوقا، لأن الله غاير بين الخلق وبين الأمر، فجعلهم شيئين متغايرين، والقرآن داخل في الأمر فهو غير مخلوق. وهذا ما خصم به الإمام أحمد الجهمية لما طلبوا منه أن يقول بخلق القرآن، قال: هل القرآن من الخلق أو من الأمر؟ قالوا: القرآن من الأمر، قال: الأمر غير مخلوق، الله غاير بينه وبين الخلق، فجعل الخلق شيئا والأمر شيئا آخر. الأمر كلام، وأما الخلق فهو إيجاد وتكوين، يوجد فرق بينهما. تبارك الله: أي: تعاظم الذي هذه أفعاله سبحانه وتعالى، وهذه قدرته، وهذه مخلوقاته تبارك وتعالى. وتبارك: فعل خاص به سبحانه، فلا يطلق على غيره، والبركة هي كثرة الخير ونماؤه، وبركات الله - جل وعلا - لا تتناهى، أما المخلوق فلا يقال له تبارك. إنما يقال له مبارك يعني: بارك الله فيه، وجعله مباركا، والبركة كلها من الله سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَالرَّبُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] [9]   رب العالمين: مثل ما سبق، ففي هذه الآية تقرير التوحيد، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية كما سبق. [9] قوله: والرب هو المعبود: أي هو الذي يستحق العبادة، وأما غيره فلا يستحق العبادة، لأنه ليس ربا، هذا وجه كلام الشيخ - رحمه الله - بقوله: الرب هو المعبود أي: هو الذي يستحق العبادة، ثم أيضا لا يكفي أن الإنسان يقر بالربوبية، بل لا بد أن يقر بالعبودية لله سبحانه وتعالى، ويفعلها مخلصا له سبحانه وتعالى، فما دام أقر أنه الرب فإنه يلزمه أن يقر أنه هو المعبود، وأن غيره لا يستحق شيئا من العبادة، والدليل على أن العبادة خاصة بالرب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 يا أيها الناس: هذا نداء من الله لجميع الناس، المؤمنين والكفار، لأن الله ذكر في هذه السورة، سورة البقرة، انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: المؤمنون الذين يؤمنون بالغيب، ويؤمنون باليوم الآخر، ووصفهم بأنهم هم المفلحون في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] . القسم الثاني: الكفار الذين أظهروا الكفر والعناد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] . القسم الثالث: المنافقون الذين ليسوا مع الكفار وليسوا مع المؤمنين: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143] . فهم مؤمنون في الظاهر لكنهم كفار في الباطن، وهؤلاء شر من الكفار المجاهرين بكفرهم، ولهذا أنزل فيهم بضع عشرة آية، بينما أنزل في المؤمنين آيات قليلة وفي الكفار آيتين، أما المنافقون فبدأ ذكرهم من قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا} [البقرة: 8] إلى قوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 هذا كله في المنافقين لشدة خطرهم وقبح فعلهم، ولما ذكر هذه الأصناف الثلاثة قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فهذا دعاء لجميع الأصناف المؤمنين والكفار والمنافقين، قال العلماء: أول نداء في المصحف هو هذا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] . اعبدوا: فعل أمر، أي أخلصوا له العبادة، لماذا؟ لأنه ربكم، والعبادة لا تصلح إلا للرب سبحانه وتعالى، ثم ذكر الدليل على ذلك وهو قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} . والذين من قبلكم: من الأمم كلهم، خلق الله سبحانه وتعالى الملائكة والجن والإنس، وجميع المخلوقات. لعلكم تتقون: إذا تدبرتم هذا، فلعل هذا أن يسبب لكم التقوى إذا تدبرتم أنه الذي خلقكم وخلق الذين من قبلكم، لعلكم تتقونه سبحانه وتعالى في عبادته، لأنه لا يقي من عذابه إلا طاعته سبحانه وتعالى، لعلكم تتقون عذابي وتتقون النار، لأنه لا يقيكم منها إلا عبادة ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم. ثم واصل الاستدلال على ربوبيته وعبوديته سبحانه وتعالى بقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} أي: بساطا وَاللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 أنواع العبادة التي أمر الله بها وأدلة كل نوع قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى: الخَالِقُ لِهَذِهِ الأَشْيَاءَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ. وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا مِثْلُ الإِسْلامِ وَالإِيمَانِ والإحسان [10]   {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] . أي مبسوطة، وفراشا، أي: تفترشونها، تنامون عليها، تبنون عليها، تزرعون على ظهورها، تسيرون عليها في سفركم أينما تريدون، فالأرض فراش ومهاد: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48] لأجل مصالحكم. والسماء بناء: فالسماء سقف الأرض، وفيها مصالح للعباد {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . [10] لما بين الشيخ أن الرب هو المعبود واستدل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} استشهد بكلام ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره للآية، وأراد أن يبين أنواع العبادة، وأدلة كل نوع، فالعبادة في اللغة معناها: التذلل والخضوع، ومنه طريق معبد: يعني مذلل مخضع بالمشي عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 والعبادة قسمان: القسم الأول: عبادة عامة لجميع الخلق، كلهم عباد الله، المؤمن والكافر، والفاسق والمنافق، كلهم عباد الله، بمعنى أنهم تحت تصرفه وقهره، وأنهم تجب عليهم عبادته سبحانه وتعالى، هذه عبادة عامة لجميع الخلق، مؤمنهم وكافرهم، كلهم يقال لهم عباد الله، بمعنى أنهم مخلوقون له، مذللون، لا يخرج أحد منهم عن قبضته وسلطانه، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] . هذا يشمل كل من في السماوات والأرض، المؤمن والكافر، كلهم يأتون يوم القيامة منقادين لله سبحانه وتعالى، ليس لأحد منهم شركة مع الله سبحانه وتعالى في ملكه. القسم الثاني: عبودية خاصة بالمؤمنين، كما قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] .، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] . قال الشيطان: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] . هذه عبودية خاصة، وهي عبودية الطاعة والتقرب إلى الله بالتوحيد. والعبادة في الشرع اختلف العلماء في تعريفها، يعني اختلفت عباراتهم في تعريفها، والمعنى واحد، فمنهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 يقول: العبادة غاية الذل مع غاية الحب، كما قال ابن القيم في النونية: وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان فعرفها بأنها غاية الحب مع غاية الذل. ومنهم من يقول: العبادة هي: ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي. لأن العبادة توقيفية لا تثبت بالعقل ولا بالعرف، وإنما تثبت بالشرع، وهذا تعريف صحيح. ولكن التعريف الجامع المانع هو ما عرفه بها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: " العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ". هذا التعريف الجامع المانع، وهو أن العبادة اسم لجميع ما أمر الله به، ففعل ما أمر الله به طاعة لله، وترك ما نهى الله عنه طاعة لله، هذه هي العبادة، ولا تحصر أنواعها، أنواعها كثيرة، كل ما أمر الله به فهو عبادة، وكل ترك لما نهى الله عنه طاعة لله هو عبادة، ولا تحصر أنواعها، أنواعها كثيرة، كل ما أمر الله به فهو عبادة، وكل ما نهى الله عنه فتركه، سواء كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ذلك ظاهرا على الجوارح أو كان باطنا في القلوب، لأن العبادة تكون على اللسان وتكون على القلب وتكون على الجوارح. تكون على اللسان مثل التسبيح والذكر والتهليل والنطق بالشهادتين، كل أقوال اللسان المشروعة من ذكر الله - عز وجل - فإنها عبادة. وكذلك كل ما في القلب من التقرب إلى الله - عز وجل - فإنه عبادة كالخوف والرجاء والخشية والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة والاستعانة، كل هذه أعمال قلب، اللجوء إلى الله بالقلب وخشية الله وخوفه ورغبته والرغبة إليه ومحبته سبحانه والإخلاص له والنية الصادقة لله - عز وجل -، كل ما في القلوب من هذه الأنواع فهو عبادة؛ وكذلك تكون العبادة على الجوارح مثل الركوع والسجود والجهاد في سبيل الله والجهاد بالنفس والهجرة، كل هذه عبادات بدنية، والصيام عبادة بدنية تظهر على الجوارح. فإذن العبادة تكون على اللسان، وعلى القلب، وتكون على الجوارح، ثم هذه العبادة تنقسم إلى عبادة بدنية وإلى عبادة مالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الإسلام والإيمان والإحسان ودليل كل وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا مِثْلُ الإسلام والإيمان والإحسان [11]   العبادة البدنية: هي الثلاثة الأنواع التي قلنا، تكون على اللسان وعلى الجوارح وعلى القلب. وتكون مالية: مثل إخراج الزكاة، مثل الإنفاق في سبيل الله، وهو الإنفاق في الجهاد قال الله تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [التوبة: 20] . قدم الأموال على الأنفس، فالجهاد بالمال عبادة مالية، الحج يتكون من عبادة بدنية وعبادة مالية، فأداء المناسك: الطواف والسعي ورمي الجمار والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة عبادة بدنية، أما الإنفاق فيه فهو عبادة مالية؛ لأن الحج يحتاج إلى نفقة. [11] والشيخ - رحمه الله - أورد أمثلة للعبادة من باب التمثيل لا من باب الحصر، لأنها أكثر مما ذكره، ولا يمكن استيعابها في رسالة مختصرة، لكن ذكر أمثلة، ولشيخ الإسلام رسالة مستقلة اسمها العبودية تبحث في العبادة، وأنواع العبادة، وبيان الانحرافات التي حصلت من الصوفية وغيرهم في العبادة، وهي رسالة قيمة يحتاج طالب العلم أن يقرأها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قوله - رحمه الله -: مثل الإسلام والإيمان والإحسان: هذه الأنواع الثلاثة أعظم أنواع العبادات، الإسلام والإيمان والإحسان، وسيأتي شرحها في كلام الشيخ - رحمه الله - في الأصل الثاني، وذكرها هنا لأنها من أنواع العبادة، فالإسلام بأركانه الخمسة: الشهادتان وَإِقَامُ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ بيت الله الحرام، هذه كلها عبادات مالية وبدنية، وكذلك الإيمان بأركانه الستة، وهو من أعمال القلوب: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، هذه عبادة قلبية. كذلك الإحسان، وهو ركن واحد، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذا أعلى أنواع العبادة، لأن الإحسان هو أعلى أنواع العبادة. وهذه تسمى مراتب الدين، لأن مجموعها هو الدين، لأن جبريل لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بحضرة أصحابه وأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان قَالَ: «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم» ، فسمي هذه الثلاثة الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الدعاء أقسامه ودليله وَمِنْهُ الدُّعَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، والخشوع، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا - كُلُّهَا للهِ تَعَالَى [12]   [12] قوله: ومنه الدعاء: أي ومن أنواع العبادة الدعاء، بدأ به لأنه أعظم أنواع العبادة. والدعاء على قسمين: دعاء عبادة، ودعاء مسألة: دعاء العبادة: هو الثناء على الله سبحانه وتعالى كما في أول الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هذا كله دعاء عبادة، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة هذا دعاء مسألة. ودعاء المسألة: هو طلب شيء من الله - عز وجل - كطلب الهداية، وطلب الرزق، وطلب العلم من الله، وطلب التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] [13]   [13] المساجد: تطلق ويراد بها أماكن السجود والبقاع التي يصلى فيها، وهي أحب البقاع إلى الله - عز وجل - قد جاء الترغيب في بنائها وإعدادها، قال - صلى الله عليه وسلم -: ( «من بنى مسجدا لله كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة» ) . يقول الله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] والمراد بالعمارة، العمارة الحسية والمعنوية، عمارتها بالطين وما تحتاج إليه حتى تأوي المصلين وتظلهم من الحر وتكنهم من البرد، وعمارتها بالعبادة بالصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله - عز وجل -. وتطلق المساجد ويراد بها أعضاء السجود السبعة: وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان ورءوس القدمين، لأنها تسجد لله، والآية تشتمل المعنيين: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ} أي البقاع التي يصلى فيها، وأعضاء السجود لله - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فمن صرف شيئًا منها لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] .   {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} لا تجعلوا هذه المساجد وهذه البقاع محلًّا للشرك ودعوة غير الله، بل يجب أن تطهر المساجد من الشرك، فلا يكون فيها قبور، ولا يكون فيها دعاء لغير الله، ولا يكون فيها بدع ومحدثات وحلقات صوفية مبتدعة. يجب أن تطهر المساجد عن البدع والشرك والمعاصي لأنها لله عز وجل، فلا يكون فيها إلا ما يرضي الله عز وجل، فلا تدعوا مع الله أحدًا في هذه المساجد، أو تستخدموا أعضاءكم بالسجود لغير الله عز وجل؛ لأن هذا شرك أكبر كالذي يسجد للصنم أو للقبر أو يسجد للوثن فهذا يسجد لغير الله عز وجل. الشاهد في قوله: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} أمر بإخلاص الدعاء له وحده. وقوله: أَحَدًا: يعم كل مدعو من دون الله سواء كان ملكًا أو نبيًّا أو وليًّا أو شجرًا أو حجرًا، يعم كل من دُعِيَ من دون الله عز وجل فإنه يكون شركًا أكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَفِي الْحَدِيثِ: «الدُّعَاءُ مخ الْعِبَادَةِ» . وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] [14]   [14] {وَقَالَ رَبُّكُمُ} : أي أمركم ربكم، وقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أمر بدعائه سبحانه ووعد بالاستجابة، وهذا من كرمه سبحانه وتعالى؛ لأنه غني عن دعائنا، ولكننا محتاجون لدعائه سبحانه وتعالى، فهو يأمرنا بما نحتاج إليه وبما يصلحنا، وهو سبحانه يغضب إذا تركت سؤاله بينما المخلوق يغضب إذا سألته، ولهذا يقول الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ويقول آخر: فلو سئل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا فالناس أقسام ثلاثة: الأول: من لا يدعو الله أصلًا، فيكون مستكبرًا عن عبادة الله. الثاني: من يدعو الله، ولكن يدعو معه غيره فيكون مشركًا. الثالث: من يدعو الله مخلصًا له الدعاء، فهذا هو الموحد. في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء مخ العبادة» [وفي رواية: «الدعاء هو العبادة» ] فهذا يدل على عظيم الدعاء وأنه أعظم أنواع العبادة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " «مخ العبادة» " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وفي رواية: " «الدعاء هو العبادة» " والرواية الثانية أصح من رواية: " «الدعاء مخ العبادة» " والمعنى واحد. فالحديث بروايتيه يبين عِظَمَ الدعاء، وأنه هو النوع الأعظم من أنواع العبادة. كما قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» بمعنى أن الوقوف بعرفة في الحج هو الركن الأعظم من أركان الحج، وليس معناه أن الحج كله هو عرفة، ولكن الوقوف بعرفة هو أعظم أركان الحج، كذلك ليست العبادة محصورة في الدعاء؛ ولكن الدعاء هو أعظم أنواعها، ولهذا قال: " «الدعاء هو العبادة» " من باب تعظيم الدعاء وبيان مكانته. ثم ذكر الشيخ رحمه الله أدلة أنواع العبادة التي ذكرها وهي: الخوف، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالْخُشُوعُ، وَالْخَشْيَةُ، وَالإِنَابَةُ، والاستعانة، والاستعاذة، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ التي أمر الله بها كلها لله فقال رحمه الله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الخوف أنواعه ودليله ودليل الخوف قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] . [15]   [15] الخوف نوع من أنواع العبادة وهو عبادة قلبية، وكذلك الخوف والخشية والرغبة والرهبة والرجاء والتوكل كل هذه عبادات قلبية. والخوف: هو توقع المكروه، وهو نوعان: خوف العبادة، والخوف الطبيعي. النوع الأول: خوف العبادة، هذا صرفه لغير الله شرك، وذلك بأن يخاف غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كأن يخاف أحدًا أن يمرضه، أو أن يقبض روحه، أو يميت ولده، كما يفعل كثير من الجهال، يخافون على حمل زوجاتهم وعلى أولادهم من الجن، يخافون من السحرة، أو من الموتى، فيعملون أعمالًا شركية لأجل أن يتخلصوا من هذا الخوف، فهذا لا يقدر عليه إلا الله، الأمراض والموت والرزق وقطع الأجل، هذه أمور لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، وكذلك إنزال البركة أو غير ذلك، هذه أمور لا تكون إلا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الله عز وجل فإذا خاف أحدًا في شيء لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر؛ لأنه صرف نوعًا من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، كالذين يخافون من القبور ومن الأضرحة ومن الجن ومن الشياطين أن تمسهم بسوء أو أن تنزل بهم ضررًا، فيذهبون يتقربون إلى هذه الأشياء لدفع ضررها أو خوفًا منها، هذا شرك أكبر، يقول: أخاف إن لم أذبح له أن يصيبني أو يصيب أولادي أو مالي أو ما أشبه ذلك، كما قال قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} يهددونه بآلهتهم ويخوفونه بآلهتهم {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 54- 56] هذا هو التوحيد تحداهم كلهم هم وآلهتهم. {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي} لا تمهلوني بل من الآن ولم يقدروا عليه بشيء بل نصره الله عليهم. فالذي يخاف من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، هذا يكون قد أشرك الشرك الأكبر، وهذا يسمى خوف العبادة وخوف الشرك كثير في الناس، يخافون من القبور أو من الأولياء، يخافون من الشيطان، يخافون من الجن؛ ولذلك يقومون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 بتقديم القربات لهم، يقدمون لهم الذبائح والنذور والأطعمة وغير ذلك من النقود يلقونها على أضرحتهم من أجل أن يسلموا من شرهم أو ينالوا من خيرهم، فهذا هو خوف العبادة. النوع الثاني: الخوف الطبيعي: وهو أن تخاف من شيء ظاهر يقدر على ما تخافه منه، كأن تخاف من الحية أو العقرب أو من العدو، هذه أمور ظاهرة ومعروفة، فالخوف منها لا يسمى شركًا هذا خوف طبيعي من شيء ظاهر معروف؛ لأنك تخاف من سبب ظاهر ومطلوب الوقاية منه، والحذر منه، تأخذ السلاح، تأخذ العصا لقتل الحية والعقرب وقتل السبع؛ لأن هذه أمور محسوسة، وفيها ضرر معلوم، فإذا خفت منها فهذا لا يسمى شركًا بل يسمى خوفًا طبيعيا. ولهذا قال الله في موسى عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا} أي من البلد {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] خائفًا من أعدائه؛ لأنه قتل منهم نفسًا. وهرب عليه عليه الصلاة والسلام إلى مَدْيَنَ، وكان يترقب ويخشى أن يلحقوه، فهذا خوف طبيعي، لكن تعلم الإنسان أن يعتصم بالله عز وجل ويأخذ بالأسباب التي تدفع عنه الضرر، ويعتمد على الله عز وجل ويتوكل على الله، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الرجاء ودليله ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] [16] .   تَعَالَى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] هذه الآية في سورة آل عمران في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين يوم أحد لما توعدهم المشركون، وقالوا: نرجع إليهم ونستأصلهم فالله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] أي: أن هذا التهديد وهذا الوعيد إنما هو من الشيطان، أي: يخوفكم أولياءه أو يخوف من انقاد له من الناس وخاف منه، فإنه يتسلط عليهم. [16] قوله تعالى: من كان يرجو: يعني يطمع في ثواب الله عز وجل ورؤيته عيانًا يوم القيامة، من كان يطمع في أن يرى الله عيانًا يوم القيامة فليعمل عملًا صالحًا، يأتي بالسبب الذي يؤهله لحصول هذا المطلوب، وهو الثواب بدخول الجنة والنجاة من النار، والنظر إلى وجه الله؛ لأن هذا متلازم، لأن من دخل الجنة فإنه يرى الله عز وجل. {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 هذا يدل على أن الرجاء وحده لا يكفي، لا بد من العمل، أما أنك ترجو الله ولكنك لا تعمل فهذا تعطيل للسبب، فالرجاء المحمود هو الذي يكون معه عمل صالح، أما الرجاء غير المحمود فهو الرجاء الذي ليس معه عمل صالح، والعمل الصالح ما توفر فيه شرطان: الأول: الإخلاص له عز وجل. الثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. فالعمل لا يكون صالحًا إلا إذا توفر فيه هذان الشرطان: أن يكون خالصًا لوجه الله ليس فيه شرك، وأن يكون صوابًا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس فيه بدعة، فإذا توفر فيه الشرطان فهو صالح، وإن اختل فيه شرط فإنه يكون عملًا فاسدًا لا ينفع صاحبه. فالعمل الذي فيه شرك يرد على صاحبه، كذلك العمل الذي فيه بدعة يرد على صاحبه، قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» فهذه الآية فيها الرجاء وأنه عبادة الله عز وجل، وفيها أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل الصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 التوكل ودليله َودَلِيلُ التَّوَكُلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة: 23] [17] .   [17] التوكل هو التفويض والاعتماد على الله سبحانه وتعالى، وتفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى هذا هو التوكل، وهو من أعظم أنواع العبادة، ولهذا قال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قدم الجار والمجرور على العامل ليفيد الحصر. {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} أي: عليه لا على غيره، ثم قال {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فجعل من شرط الإيمان التوكل على الله سبحانه وتعالى، ودل على أن من لم يتوكل على الله فليس بمؤمن، فالتوكل عبادة عظيمة، فالمؤمن دائمًا يتوكل على الله، ويعتمد على الله عز وجل، والله من أسمائه الوكيل، أي: الموكول إليه أمور عباده سبحانه وتعالى، فالتوكل لا يكون إلا على الله، ولا يجوز أن يقول: توكلت على فلان؛ لأن التوكل عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله. أما إذا أسندت إلى أحد من الخلق تصرفًا، فهذا لا يسمى توكلًا إنما يسمى توكيلًا، والوكالة معروفة أنك توكل أحدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 يقضي لك حاجة، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم من ينوبون عنه في بعض الأعمال، فالتوكيل غير التوكل، فالتوكل عبادة لا يكون إلا لله، ولا يجوز أن تقول: توكلت على فلان، وإنما تقول وكلت فلانًا. ومع هذا أنت توكله ولا تتوكل عليه، وإنما تتوكل على الله سبحانه وتعالى، فلاحظوا الفرق بين الأمرين التوكل والتوكيل. ومن صفات المؤمنين ما ذكره الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] هذه من صفات المؤمنين، فالتوكل عبادة عظيمة لا تكون إلا لله عز وجل؛ لأنه هو القادر على كل شيء، وهو المالك لكل شيء، وهو الذي يقدر أن يحقق لك مطلوبك، أما المخلوق فإنه قد لا يقدر أن يحقق لك مطلوبك، فإنك توكله في قضاء شيء من الأمور، لكن تتوكل على الله في حصول ذلك الشيء. ثم أيضًا لنعلم أن التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، فيجمع المسلم بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، ولا تنافي بينهما، فأنت تعمل الأسباب التي أُمِرْتَ بعملها، ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الرغبة والرهبة والخشوع ودليل كل وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْخُشُوعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] [18] .   لا تعتمد على الأسباب، وإنما تعتمد على الله، أنت تزرع الزرعَ في الأرض، هذا سبب ولكن لا تعتمد على زرعك وفعلك، بل اعتمد على الله في نمو هذا الزرع وتثميره وحمايته وإصلاحه، ولهذا يقول: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63، 64] فالزارع الحقيقي هو الله أما أنت فقد فعلت سببًا فقط قد ينتج هذا الزرع وينبت وقد لا ينتج، وإذا نبت قد يصلح وقد لا يصلح، قد يصاب بآفة، فيذهب. [18] الرغبة: هي طلب الشيء المحمود. الرهبة: هي الخوف من الشيء المرهوب، قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] وهي نوع من الخوف، الرهبة والخوف بمعنى واحد. الخشوع: نوع من التذلل الله عز وجل، والخضوع والذل بين يديه سبحانه وتعالى وهو من أعظم مقامات العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قوله تعالى: إِنَّهُمْ الضمير يرجع للأنبياء؛ لأن سورة الأنبياء قد ذكر الله قصص الأنبياء فيها ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} فقوله تعالى: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: يتسابقون إليها، ويبادرون إليها، هذه صفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يتكاسلون ولا يتعاجزون، وإنما يسارعون إلى فعل الخيرات ويتسابقون إليها. قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا} أي: طمعًا لما عند الله عز وجل طمعًا في حصول المطلوب. قوله تعالى: وَرَهَبًا أي: خوفًا منا، فيدعون الله أن يرحمهم، ويدعونه ألا يعذبهم، وألا يؤاخذهم، وألا يعاقبهم، فهم يطمعون في رحمة الله ويخافون من عذابه، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فهم يدعون الله خوفًا منه، ويدعونه أيضًا طمعًا فيما عنده، يدعون الله أن يقدر لهم الخير ويدفع عنهم الشر. {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي: خاضعين متذللين متواضعين لله عز وجل فجمعوا بين الصفات الثلاث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الخشية ودليلها دليل الخشية قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} [البقرة: 150] [19] .   الرغبة والرهبة والخشوع، هذه صفات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وهذه الأنواع الثلاثة من أنواع العبادة لله عز وجل. وفيها رد على الصوفية الذين يقولون: نحن لا نعبد الله رغبة في ثوابه ولا خوفًا من عقابه، وإنما نعبده محبة له فقط، هذا كلام باطل؛ لأن الأنبياء يدعون الله رغبًا ورهبًا وهم أكمل الخلق. [19] الخشية نوع من الخوف، وهي أخص من الخوف، وقيل: الخشية: خوف يشوبه تعظيم، قال تعالى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} أمر الله سبحانه وتعالى بخشيته وحده. وقال تعالى في الآية: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فأمر بخشيته سبحانه وتعالى، وقال في صفة المصلين: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المعارج: 27] أي: خائفون، هؤلاء خواص الخلق يخافون الله عز وجل، وقال عن الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الإنابة ودليلها وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] [20] .   خواص الخلق من الملائكة والرسل والأولياء والصالحين يكونون على غاية عظيمة من خشية الله عز وجل والخوف منه سبحانه وتعالى والرهبة منه، فالرهبة والخوف والخشية، كلها بمعنى واحد وإن كان بعضها أخص من بعض، إلا أنها يجمعها الخوف من الله سبحانه وتعالى، وهذه من صفات الأنبياء وعباد الله الصالحين، وهي أنواع عظيمة من أنواع العبادة، وهي من أعمال القلوب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. [20] الإنابة: الرجوع وهي بمعنى التوبة، والتوبة والإنابة بمعنى واحد. ولكن بعض العلماء يقول: الإنابة أخص من التوبة أي: آكد لأنها توبة مع إقبال إلى الله عز وجل، أي: توبة خاصة، والإنسان قد يتوب ويترك الذنب ولا يعود إليه، ويندم عليه، ولكن قد يكون في الإقبال على الله إقبال ضعيف، أما الإنابة فهي إقبال على الله عز وجل، ولهذا قال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} أي: ارجعوا له، وأقبلوا عليه سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الاستعانة ودليلها ودليل الاستعانة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .   وتعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} إذا جاء العذاب المهلك الماحق فإنها لا تقبل توبة من تاب عند ذلك: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [يونس: 98] هذا مستثنى وإلا فإنه إذا نزل العذاب المهلك فإنها لا تقبل التوبة، ولهذا قال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} . فالتوبة والإنابة لها أجل ولهما حد، فهي لا تقبل توبة من غَرْغَرَ أو من حضره الموت، ولا تقبل توبة من نزل به العذاب الماحق المهلك، ولا تقبل التوبة إذا خرجت الشمس من مغربها قبل قيام الساعة، لا تقبل التوبة حينئذ، فالله يحث العبد على التوبة والإنابة قبل انتهاء أجله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} . الشاهد قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} دل على أن الإنابة نوع من أنواع العبادة؛ لأنه قال: {إِلَى رَبِّكُمْ} فهذا يدل على أنها نوع من أنواع العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وفي الحديث: «إذا استعنت فاستعن بالله» [21] .   [21] الاستعانة: طلب العون، وهي على نوعين: النوع الأول: الاستعانة بشيء لا يقدر عليه إلا الله، فهذه صرفها لغير الله شرك، من استعان بغير الله في شيء لا يقدر عليه إلا الله فإنه قد أشرك؛ لأنه صرف نوعًا من أنواع العبادة لغير الله عز وجل. النوع الثاني: الاستعانة فيما يقدر عليه المخلوق، فأنت تستعين بأحد أن يبني معك الجدار، أو أن يحمل معك متاعك، أو أن يعينك على مطلوب مباح، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فالاستعانة في الأمور العادية التي يقدر عليها الناس، هذا النوع لا بأس فيه؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى، وقال صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أما الاستعانة بالمخلوق في شيء لا يقدر عليه إلا الله؛ مثل جلب الرزق ودفع الضرر، فهذا لا يكون إلا لله، كالاستعانة بالأموات، والاستعانة بالجن والشياطين، والاستعانة بالغائبين، وهم لا يسمعونك تهتف بأسمائهم، هذا شرك أكبر؛ لأنك تستعين بمن لا يقدر على إعانتك. فقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . إياك نعبد: هذا فيه تقديم المعمول على العامل، المعمول إياك في محل نصب، ونعبد هذا هو العامل الذي نصب إياك، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر. فمعنى إياك نعبد: أي لا نعبد غيرك، فحصر العبادة في الله عز وجل. وإياك نستعين: حصر الاستعانة بالله عز وجل وذلك في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى. وفي قوله: إياك نستعين، براءة من الحول والقوة، وأن الإنسان لا قوة له إلا بالله ولا يقدر إلا بالله عز وجل، وهذا غاية التعبد لله إذا تبرأ من الشرك وتبرأ من الحول ومن القوة فهذا غاية التعبد لله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الاستعاذة ودليلها وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] . [22]   [22] الاستعاذة: طلب الالتجاء إلى من يمنعك من محذور تخافه من أجل أن يدفع عنك هذا الشيء، هذه هي الاستعاذة. والاستعاذة نوع من أنواع العبادة، لا يجوز أن تستعيذ بغير الله عز وجل، فمن استعاذ بقبر أو بوثن أو بأي شيء غير الله عز وجل فإنه يكون مشركًا الشرك الأكبر، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] . كان العرب في جاهليتهم إذا نزلوا في مكان من الأرض يقول أحدهم: أعوذ بسيد هذا الوادي، أي: كبير الجن، يستعيذ به من شر سفهاء قومه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبطلًا لذلك ومبينًا لما يشرع بدله: «من نزل منزلًا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 هذا هو البديل الصحيح، الاستعاذة بكلمات الله التامات بدلًا من الاستعاذة بالجن. قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . الفلق: هو الصبح، ورب الفلق: هو الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96] أي: مظهر نور الصبح في ظلام الليل. من الذي يقدر على هذا إلا الله سبحانه وتعالى. {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي: رب الصبح إذا أصبح، المالك المتصرف فيه القادر عليه. {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} : هذا يشمل شر جميع المخلوقات، يستعيذ بالله من شر جميع المخلوقات. هذا يكفيك عن كل استعاذة أو تعوذ مما يفعله الناس {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} . الغاسق: هو ظلام الليل؛ لأن ظلام الليل تخرج فيه الوحوش والسباع، فأنت تقع في خطر، تستعيذ بالله من شر هذا الظلام وما تحته من هذه المؤذيات. {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وهي السواحر تستعيذ بالله من السحر وأهله؛ لأن السحر شر عظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] [23] .   {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} . الحاسد: هو الذي يتمنى زوال النعمة عن الغير، إذا رأى على أحد نعمة فإنه يغتاظ ويتمنى زوال هذه النعمة حسدًا وبغيًا - والعياذ بالله -، وهو من أعظم الخصال المذمومة؛ لأن فيه اعتراضًا على الله، وفيه إساءة إلى الخلق. ويدخل فيه العائن، الذي يصيب بنظرته؛ لأن الإصابة بالعين نوع من الحسد، فأنت تستعيذ بالله من هذه الشرور، فدل على أن الاستعاذة عبادة لا يجوز أن تصرف لغير الله، فلا تستعيذ بالمخلوق ومن استعاذ بمخلوق فقد أشرك بالله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «وإذا استعنت فاستعن بالله» . [23] وفي قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} أمر الله عز وجل بالاستعاذة برب الناس ملك الناس إله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الناس، هذه كلها أسماء وصفات لله عز وجل، وفيها أنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. استعذت بالله وبهذه الأسماء والصفات، استعذت من شر الوَسواس وهو الشيطان، أما الوِسواس بالكسر فهو مصدر وَسْوَسَ يُوَسْوِسُ، أما الوَسواس فهذا اسم من أسماء الشيطان؛ لأنه يوسوس للإنسان ويخيل إليه، ويشغله من أجل أن يلقي في قلبه الرعب والتردد والحيرة في أموره، خصوصًا في أمر العبادة، فإن الشيطان يوسوس للإنسان في العبادة حتى يلبس عليه صلاته أو عبادته، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يخرج من الصلاة ويعتقد أنها بطلت، أو يصلي ثم يعتقد أنه على غير وضوء، أو أنه ما قام لكذا أو أنه ما فعل كذا، ويصبح في وسواس ولا يطمئن إلى عبادته. فالله جل وعلا أعطانا الدواء لهذا الخطر وذلك بأن نستعيذ بالله من شر هذا الوسواس. الخناس: الذي يتخلف ويبتعد، فهو يوسوس إذا غفلت عن ذكر الله، ويخنس، أي: يتأخر إذا ذكرت الله عز وجل، فهو وسواس مع الغفلة، وخناس عند ذكر الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} : كأن المعنى - والله أعلم - أنه هناك موسوسين من الجن ومن الإنس يوسوسون للناس، يأتون الناس ويشككونهم، فكما أن للجن شياطين يوسوسون فكذلك للإنس شياطين يوسوسون، فأنت تستعيذ بالله من شر القبيلين. ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تعوذ متعوذ بمثلهما» أي: هاتين السورتين فينبغي للمسلم أن يقرأهما في أدبار الصلوات ويكررهما ويقرأهما عند النوم مع آية الكرسي وسورة الإخلاص. يقرأ آية الكرسي، وسورة الإخلاص والمعوذتين، يقرؤهما دبر كل صلاة ويكررهما ثلاثًا بعد المغرب وبعد الفجر، وكذلك يقرؤهما عند النوم من أجل أن يبتعد عنه الشيطان فلا يكدر عليه نومه ويزعجه بالأحلام. الشاهد من هاتين السورتين أن الله أمر بالاستعاذة به وحده فدل على أن الاستعاذة بغيره من الجن أو من الإنس أو من أي مخلوق أنه لا يجوز؛ لأنها نوع من أنواع العبادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الاستغاثة ودليلها ودليل الاستغاثة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] [24] .   [24] الاستغاثة: هي نوع من أنواع العبادة، وهي طلب الغوث، وهي لا تكون إلا عند الشدة، إذا وقع الإنسان في شدة فإنه يطلب الغوث من الله والنجاة من هذه الشدة. والاستغاثة على نوعين: النوع الأول: الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل وهذا شرك، فمن استغاث بغير الله من جن أو إنس أو غائبين أو أموات فإن هذا شرك بالله عز وجل. فالاستغاثة بالأموات وبالغائبين من الشياطين والجن هذا شرك بالله عز وجل. النوع الثاني: الاستغاثة بالمخلوق الحاضر الحي فيما يقدر عليه، هذا جائز. قال تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الذبح أقسامه ودليله ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] . وَمِنَ السُنَّةِ: «لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لغير الله» [25] .   [25] الذبح على أربعة أقسام: الأول: الذبح على وجه التقرب والتعظيم لأحد ما، وهذا لا يجوز إلا لله سبحانه وتعالى؛ لأنه من العبادات المالية، فلا يجوز الذبح للجن ولا للشياطين ولا للملوك والرؤساء تعظيمًا لهم؛ لأن هذه عبادة لا تجوز إلا لله عز وجل. فالذين يذبحون للجن من أجل السلامة من شرهم، أو من أجل شفاء المرضى، كما يفعله الكهان والمنجمون الذين يدعون العلاج ويقولون للناس: اذبحوا كذا لأجل شفاء مريضكم، ولا تذكروا اسم الله عليه، هذا شرك أكبر مخرج من الملة، وهذا الذي قال الله تعالى محذرًا من فعله لغير الله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي: واذبح لربك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 النذر ودليله ودليل النذر: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] [26] .   الثاني: الذبح من أجل أكل اللحم، هذا لا بأس به؛ لأنه ما ذبح من أجل التقرب والتعظيم لأحد، وإنما ذبح لحاجة، والأكل منه، فهذا لا بأس به؛ لأنه ليس نوعًا من العبادة ويذبح لبيع اللحم. الثالث: الذبح على وجه الفرح والسرور، بمناسبة زواج أو مناسبة نزول مسكن جديد، أو قدوم غائب، أو ما أشبه ذلك بجمع الأقارب، ويذبح من باب إظهار الفرح والسرور بما حصل له، هذا لا بأس به؛ لأنه ليس فيه تعظيم لأحد ولا تقرب لأحد، وإنما هو من باب الفرح والسرور في شيء حصل. الرابع: الذبح من أجل التصدق باللحم على الفقراء والمساكين والمعوزين هذا يعتبر سنة وهو داخل في العبادة. [26] النذر: هو إلزام الإنسان نفسه بشيء لم يلزمه بأصل الشرع، كأن ينذر أن يصوم، أو ينذر أن يتصدق بكذا. فيلزمه الوفاء بنذره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 «فليطعه» والنذر نوع من أنواع العبادة لا يجوز إلا لله، فمن نذر لقبر أو صنم أو غير ذلك فقد أشرك بالله عز وجل، وهو نذر معصية وشرك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام تعريف الدين الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة [27] .   [27] لما فرغ الشيخ من بيان معرفة الأصل الأول وهو معرفة الله سبحانه وتعالى بالأدلة، انتقل إلى بيان الأصل الثاني، وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة. فقال: الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، ثم عرفه وبين معناه ثم ذكر مراتبه. وقوله رحمه الله: معرفة دين الإسلام: الدين يراد به الطاعة، يقال: دان له إذا أطاعه فيما أمر وترك ما نهى. ويطلق الدين ويراد به الحساب، كما في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ويقال: دانه إذا حاسبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17، 18] أي: يوم الحساب {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] . قوله: بالأدلة، أي: أن معرفة دين الإسلام لا تكون بالتقليد أو تكون بالتخرص من عند الإنسان، الدين لا بد له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وهو الاستسلام له بِالتَّوْحِيدِ وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وأهله [28] .   من أدلة من الكتاب والسنة، أما الإنسان الذي لا يعرف دينه وإنما يقلد الناس، ويكون إمعة مع الناس فهذا لن يعرف دينه وَحَرِيٌّ به أنه «إذا سئل عنه في القبر أن يقول: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته» ، فواجب على الإنسان أن يعف دينه بالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعرف هذا إلا بالتعلم. [28] الإسلام مأخوذ من أسلم للشيء إذا انقاد له، أسلم نفسه للقتل أي: خضع للقتل، فأسلم نفسه للشيء إذا انقاد له. فالإسلام هو إسلام الوجه والقصد والنية له عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125] . {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] أي أخلص عمله لله عز وجل، وانقاد لله عن طواعية واختيار ورغبة ومحبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الاستسلام لله بالتوحيد، وهو إفراد الله جل وعلا بالعبادة، وهذا هو معنى التوحيد، فمن عبد الله وحده لا شريك له فقد استسلم له. قوله: والانقياد له سبحانه بالطاعة: فيما أمرك به وما نهاك عنه، فما أمرك به تفعله، وما نهاك عنه تجتنبه طاعة لله سبحانه وتعالى. قوله: والبراءة من الشرك وأهله: البراءة معناها الانقطاع والاعتزال، والبعد عن الشرك وأهل الشرك، بأن تعتقد بطلان الشرك فتبتعد عنه، وتعتقد وجوب عداوة المشركين؛ لأنهم أعداء الله عز وجل فلا تتخذهم أولياء، إنما تتخذهم أعداء؛ لأنهم أعداء لله ولرسوله ولدينه فلا تحبهم ولا تواليهم، وإنما تقاطعهم في الدين وتبتعد عنهم، وتعتقد بطلان ما هم عليه، فلا تحبهم بالقلب ولا تناصرهم بالقول والفعل؛ لأنهم أعداء لربك وأعداء لدينك، فكيف تواليهم وهم أعداء الإسلام؟! . لا يكفي أنك تستسلم لله وتنقاد له بالطاعة، وأنت لا تتبرأ من الشرك ولا من المشركين، هذا لا يكفي، ولا تعد مسلمًا حتى تتصف بهذه الصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 مراتب الدين المرتبة الأولى الإسلام وهو ثلاث مراتب: الإسلام [29]   أولًا: الاستسلام لله بالتوحيد. ثانيًا: الانقياد له بالطاعة. ثالثًا: البراءة مما يضاد التوحيد ويضاد الطاعة وهو الشرك. رابعًا: البراءة من أهل الشرك. بتحقيق هذه الصفات تكون مسلمًا، أما إذا نقصت صفة واحدة منها فإنك لا تكون مسلمًا، فبهذه الكلمات الثلاث لخص الشيخ تعريف الإسلام، وكم من إنسان لا يعرف معنى الإسلام؛ لأنه لم يتعلم هذا الشيء، ولو قيل له: ما هو الإسلام؟ لم يجب جوابًا صحيحًا. [29] معنى المراتب: الدرجات؛ لأننا قلنا أن الدين ثلاث درجات بعضها أعلى من بعض، أول مرتبة من مراتب الدين هي الإسلام، ثم بعدها الإيمان، ثم بعدها الإحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 والإيمان، والإحسان [30] .   فالإسلام أوسع، والإيمان أضيق من الإسلام، والإحسان أضيق من الإيمان. فدائرة الإسلام واسعة، المنافقون يدخلون فيها إذا انقادوا إلى الإسلام وأظهروه والتزموا به ظاهرا، إذا صلوا مع المسلمين وزكوا وعملوا العمال الظاهرة، يسمون مسلمين، وتطبق عليهم أحكام المسلمين في الدنيا، فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، لكنهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم ليس عندهم إيمان وإنما عندهم إسلام ظاهري فقط. [30] قوله: الإيمان: هذه هي المرتبة الثانية، والمؤمنون يتفاوتون؛ منهم المقربون، ومنهم الأبرار، والمقربون هم أصحاب أعلى الدرجات، والأبرار دونهم، ومنهم الظالم لنفسه وهو المرتكب للكبائر التي هي دون الشرك، فهو مؤمن فاسق، أو مؤمن ناقص الإيمان، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وكل مرتبة لها أركان [31] .   قوله: الإحسان: هذه هي المرتبة الثالثة هي الإحسان، وهي أن يحسن العبد فيما بينه وبين الله، في عبادة الله عز وجل، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان فقال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . أي: يكون عندك علمًا يقينيًّا أن الله يراك أينما كنت. [31] قوله: وكل مرتبة لها أركان: والأركان جمع ركن، وهو ما يقوم عليه الشيء. فأركان الشيء جوانبه التي يقوم عليها ولا يقوم بدونها، وتكون بداخل الشيء، خلاف الشروط فهي تكون خارج الشيء، مثل شروط الصلاة فهي خارج الصلاة قبلها، وأما أركان الصلاة فإنها بداخلها، مثل تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة، فإذا اختل شيء منها فإن الصلاة لا تصح، كما لو فقد شيء من أركان البنيان فإنه لا يقوم ولا يعتمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أركان الإسلام شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمدا رسول الله معناها ودليلها فَأَرْكَانُ الإِسْلامِ خَمْسَةٌ: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ , وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بَيْتِ الله الحرام. [32]   [32] لا يقوم الإسلام إلا على هذه الأركان، إذا فُقِدَتْ فإن الإسلام لا يستقيم، وبقية الطاعات مكملات لهذه الأركان، كل الطاعات وأفعال الخير كلها مكملات لهذه الأركان، ولهذا «سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة قال: أخبرني عن الإسلام، قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا» . ففسر الإسلام بأنه هذه الأركان الخمسة، لكن حديث ابن عمر بين أن هذه الخمسة هي مباني الإسلام فقال: «بني» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فدليل الشهادة: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] [33] .   «الإسلام على خمس» أي: أن هذه الخمس ليست هي الإسلام كله لكنها أركانه ومبانيه التي يقوم عليها وبقية المشروعات مكملات ومتممات لهذه الأركان. [33] قوله تعالى: شهد، أي حكم وقضى وأعلم وبين وألزم، فالشهادة من الله تدور على هذه المعاني الخمسة: الحكم والقضاء والإعلان والبيان والإلزام. فمعنى شهد، أي: قضى سبحانه وأعلم وأخبر وألزم عباده بذلك، أنه لا إله إلا هو. لا إله: لا نافية تنفي جميع ما عبد من دون الله. إلا هو: مثبت العبادة لله وحده ومعنى أنه لا إله إلا هو: أي لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، أما من عبد غير الله فإن عبادته باطلة لقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] شهد لنفسه سبحانه وتعالى بالوحدانية وهو أصدق القائلين، وشهادته سبحانه وتعالى أصدق الشهادات؛ لأنها صادرة عن حكيم خبير عليم، يعلم كل شيء فهي شهادة صادقة والملائكة: شهدوا أنه لا إله إلا هو، وهم عالم خلقهم الله لعبادته، ملائكة كرام عباد مكرمون خلقهم الله لعبادته، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأيضًا خلقهم الله لتنفيذ أوامره في الكون، وكل إليهم تنفيذ ما يأمر به سبحانه وتعالى من أمور الكون، فكل ملك منهم موكل بعمل، وشهادتهم شهادة صدق؛ لأنهم أهل علم وعبادة ومعرفة بالله عز وجل، وهم من أفضل الخلق على الخلاف، هل صالح البشر أفضل من الملائكة أو الملائكة أفضل من صالح البشر، على خلاف. وأولو العلم: صنفان؛ الملائكة، والصنف الثاني أولو العلم من البشر، وأولو العلم لا يشهدون إلا بما هو حق، بخلاف الجهال لا اعتبار بشهادتهم، وكل عالم من خلق الله يشهد لله بالوحدانية وأنه لا إله إلا هو، وهذا فيه تشريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 لأهل العلم حيث إن الله قرن شهادتهم مع شهادته سبحانه وتعالى وشهادة ملائكته، اعتبر شهادة أهل العلم من الخلق ودل على فضلهم وشرفهم ومكانتهم، على أعظم مشهود به وهو التوحيد. والمراد بأولي العلم، أهل العلم الشرعي لا كما يقوله بعض الناس: إن أهل العلم المراد بهم أهل الصناعة والزراعة فهؤلاء لا يقال لهم أهل العلم على وجه الإطلاق؛ لأن علمهم محدود مقيد، بل يقال: هذا عالم بالحساب، عالم بالهندسة، عالم بالطب، ولا يقال لهم: أهل العلم مطلقًا؛ لأن هذا لا يطلق إلا على أهل العلم الشرعي، وأيضًا أكثر هؤلاء أهل علم دنيوي، وفيهم ملاحدة يزيدهم علمهم -غالبًا- جهلًا بالله عز وجل، وغرورًا وإلحادًا كما تشاهدون الآن في الأمم الكافرة، متقدمون في الصناعات وفي الزراعة لكنهم كفار، فكيف يقال: إنهم أهل العلم الذين ذكرهم الله في قوله: {وَأُولُو الْعِلْمِ} هذا غير معقول أبدا. وكذلك قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] المراد علماء الشرع الذين يعرفون الله حق معرفته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ويعبدونه حق عبادته ويخشونه، أما هؤلاء فأغلبهم لا يخشون الله عز وجل بل يكفرون بالله ويجحدونه، ويدعون أن العالم ليس له رب، وإنما الطبيعة هي التي توجده وتتصرف فيه، كما هو عند الشيوعيين، إنهم ينكرون الرب سبحانه وتعالى مع أن عندهم علما دنيويًّا كيف نقول: إن هؤلاء هم أهل العلم. هذا غلط، فالعلم لا يطلق إلا على أهله، وهو لقب شريف لا يطلق على الملاحدة والكفار، ويقال: هؤلاء أهل العلم. فالملائكة وأولو العلم شهدوا لله بالوحدانية، إذًا لا عبرة بقول غيرهم من الملاحدة والمشركين والصابئين الذين يكفرون بالله عز وجل، هؤلاء لا عبرة بهم ولا بقولهم؛ لأنه مخالف لشهادة الله وشهادة ملائكته وشهادة أولي العلم من خلقه. وقوله " قائمًا بالقسط ": منصوب على الحال من شهد، أي: حالة كونه قائمًا سبحانه وتعالى، والقسط: العدل، أي أن الله سبحانه وتعالى قائم بالعدل في كل شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ومعناها لا معبود بحق إلا الله، (لا اله) نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دون الله (إلا الله) مثبتًا العبادة له وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ كَمَا أنه ليس له شريك في ملكه. [34]   والعدل ضد الجور، وهو سبحانه وتعالى حكم عدل لا يصدر عنه إلا العدل في كل شيء. لا إله إلا هو: تأكيد للجملة الأولى. العزيز الحكيم: اسمان لله عز وجل يتضمنان صفتين من صفاته وهما العزة والحكمة. [34] قوله: ومعناها لا معبود بحق إلا الله، أي معنى لا إله إلا الله ليس كما يقول أهل الباطل: لا خالق ولا رازق إلا الله؛ لأن هذا توحيد الربوبية يقر به المشركون، وهم لا يقولون: لا إله إلا الله، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35 - 36] آلهتنا، أي: معبوداتنا {لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم وصفوه بالشعر والجنون؛ لأنه قال لهم: قولوا لا إله إلا الله، ونهاهم عن عبادة الأصنام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ولما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] يحسبون الآلهة متعددة. فدل على أن معناها لا معبود بحق إلا الله، ولو كان معناها لا خالق ولا رازق إلا الله، فإن هذا يقرون به ولا يمارون فيه، فلو كان هذا معناها، ما امتنعوا من قول لا إله إلا الله؛ لأنهم يقولون إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض يقولون: الله، إذا سئلوا من الذي يخلق؟ من الذي يرزق؟ من الذي يحيي ويميت؟ ويدبر الأرض؟ يقولون: الله. هم يعترفون بهذا فلو كان هذا معنى لا إله إلا الله لأقروا بهذا، لكن معناها لا معبود بحق إلا الله. لو قلت: لا معبود إلا الله، هذا غلط كبير؛ لأن المعبودات كلها تكون هي الله -تعالى الله عن هذا- لكن إذا قيدتها وقلت: بحق، انتفت المعبودات كلها إلا الله سبحانه وتعالى، لا بد أن تقول لا معبود حق، أو لا معبود بحق إلا الله. ثم بين ذلك على لفظ الكلمة. لا إله: النفي، نفي للعبودية عما سوى الله. إلا الله: هذا إثبات للعبودية لله وحده لا شريك له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وَتَفْسِيرُهَا الَّذِي يُوَضِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26، 28] [35] .   فلا إله إلا الله تشتمل على نفي وإثبات، ولا بد في التوحيد من النفي والإثبات لا يكفي الإثبات وحده، ولا يكفي النفي وحده، بل لا بد من النفي والإثبات كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة: 256] {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] . فلو قلت: الله إله، هذا لا يكفي، اللات إله، والعزى إله، ومناة إله، كل الأصنام تسمى آلهة. فلا بد أن تقول: لا إله إلا الله، فلا بد من الجمع بين النفي والإثبات حتى يتحقق التوحيد وينتفي الشرك. [35] خير ما يفسر القرآن القرآنُ، فلا إله إلا الله فسرها الله في القرآن، وذلك في قول الخليل عليه الصلاة والسلام فيما ذكر الله عنه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ} هذا النفي لا إله، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} : يعني إلا الله، هذا الإثبات. فهذه الآية تفسير معنى لا إله إلا الله تمامًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] [36] .   [36] وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} هذه الآية من سورة آل عمران نزلت في وفد نجران النصارى الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وناظروه وسألوه، وحصل بينهم وبينه كلام طويل، وهم نصارى من نصارى العرب، وفي النهاية طلب النبي صلى الله عليه وسلم منهم المباهلة: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] . فلما طلب منهم المباهلة خافوا ولم يباهلوه عليه الصلاة والسلام، ودفعوا له الجزية؛ لأنهم يعلمون أنهم على باطل، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. نبتهل: أي ندعو باللعنة على الكاذب منا، وكانوا يعلمون أنهم هم الكاذبون، ولو باهلوه لنزلت عليهم النار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وأحرقتهم في مكانهم، فقالوا: لا، لكن ندفع الجزية ولا نباهلكم، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم الجزية، لقد تبين أن الله أمره بما في هذه الآية. وهذه الآية فيها معنى لا إله إلا الله، قوله: ألا نعبد هذا النفي، وقوله: إلا الله هذا الإثبات، وهذا هو العدل الذي قامت له السماوات والأرض، فالسماوات والأرض قامت على التوحيد والعدل، لا نشرك في عبادته شيئًا لا المسيح الذي تزعمون أنه رب وتعبدونه من دون الله، ولا غير المسيح ولا محمد عليه الصلاة والسلام، ولا أحد من الأنبياء ولا من الصالحين ولا من الأولياء، {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} . {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} كما اتخذتم الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31] واتخاذ الأحبار والرهبان من دون الله بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه طاعتهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الله هذا معنى اتخاذهم أربابًا من دون الله، إذا كانوا يحللون ما حرم الله ويحرمون ما أحل، فإذا أطاعوهم في ذلك، فقد اتخذوهم أربابا؛ لأن الذي يشرع للناس ويحلل ويحرم هو الله سبحانه وتعالى. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} : ولم يقبلوا دعوة التوحيد. {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أشهدوهم على أنكم موحدون وأنهم كفار، بينوا لهم بطلان ما هم عليه، ففي هذه الآية البراءة من دين المشركين والمصارحة بذلك، اشهدوا بأنا مسلمون ففي هذا وجوب إعلان بطلان ما عليه المشركون وعدم السكوت عن ذلك، والإعلان عن بطلان الشرك والرد على أهله. والخلاصة: أن لا إله إلا الله لها ركنان: هما النفي والإثبات، فإذا قيل لك: ما هي أركان لا إله إلا الله، فتقول النفي والإثبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وشروطها سبعة لا تنفع إلا بهذه الشروط نظمها بعضهم بقوله: علم يقين وإخلاص وصدقك ... مع محبة وانقياد والقبول لها فالعلم: ضده الجهل، فالذي يقول: لا إله إلا الله بلسانه ويجهل معناها هذا لا تنفعه لا إله إلا اله. واليقين: فلا يكون عنده شك؛ لأن بعض الناس قد يعلم معناها ولكن عنده شك في ذلك، فليس علمه بصحيح، لا بد أن يكون عنده يقين بلا إله إلا الله وأنها حق. والإخلاص: ضده الشرك، بعض الناس يقول: لا إله إلا الله؛ ولكنه لا يترك الشرك، مثل ما هو الواقع الآن عند عباد القبور، هؤلاء لا تنفعهم لا إله إلا الله؛ لأن من شروطها ترك الشرك. والصدق: ضده الكذب؛ لأن المنافقين يقولون: لا إله إلا الله؛ لكنهم كاذبون في قلوبهم، لا يعتقدون معناها، قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:1، 2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 والمحبة: أن تكون محبًّا لهذه الكلمة وليًّا لأهلها، أما الذي لا يحبها أو لا يحب أهلها فإنها لا تنفعه. والانقياد: ضد الإعراض والترك، وهو الانقياد لما تدل عليه من عبادة الله وحده لا شريك له، وامتثال أوامره، ما دمت اعترفت وشهدت أنه لا إله إلا الله يلزمك أن تنقاد لأحكامه ودينه، أما أن تقول: لا إله إلا الله، ولا تنقاد لأحكام الله وشرعه فإنها لا تنفعك لا إله إلا الله. والقبول: القبول المنافي للرد، بأن لا ترد شيئًا من حقوق لا إله إلا الله، وما تدل عليه بل تقبل كل ما تدل عليه لا إله إلا الله، تتقبله تقبلًا صحيحًا. وزيد شرط ثامن: وزيد ثامنها الكفران بما ... مع الإله من الأشياء قد ألها أي: البراءة من الشرك، فلا يكون موحدًا حتى يتبرأ من الشرك: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] . هذه شروط لا إله إلا الله، ثمانية شروط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ قَوْلُهُ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] [37] .   [37] الركن الأول من أركان الإسلام مكون من شيئين: الأول: شهادة أن لا إله إلا الله. والثاني: شهادة أن محمدًا رسول الله. فهما ركن واحد، الشق الأول: يعني الإخلاص في العبادة، والشق الثاني: يعني متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وأدلة شهادة أن محمدا رسول الله كثيرة من الكتاب والسنة والمعجزات الباهرات الدالة على رسالته صلى الله عليه وسلم، ومن الكتاب هذه الآية، يقول تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فهذه شهادة من الله لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة وبيان صفاته. قوله تعالى: لقد جاءكم: اللام هذه لام القسم، ففيها قسم مقدر، تقديره والله لقد جاءكم. قد: حرف تحقيق وتأكيد بعد تأكيد. جاءكم: أيها الناس، هذا خطاب لجميع الناس؛ لأن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الثقلين، الإنس والجن. رسول: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، سمي رسولًا؛ لأنه مرسل من قبل الله سبحانه وتعالى. من أنفسكم: أي من جنسكم من البشر، وليس ملكًا من الملائكة، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى أنه يرسل إلى البشر رسلًا منهم من أجل البيان، ومن أجل أن يتخاطبوا معهم، ولأنهم يعرفونه، لو أرسل إليهم ملكا ما استطاعوا أن يتخاطبوا معه؛ لأنه ليس من جنسهم، وأيضًا لا يقدرون على رؤية الملك؛ لأنه ليس من جنسهم، من رحمته سبحانه وتعالى أن أرسل إلى الناس رسولًا من جنسهم، بل ومن العرب ومن أشرف بيوت العرب نسبًا، من بني هاشم الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 هم أشرف أنساب قريش، وقريش أشرف أنساب العرب، فهو خيار من خيار يعرفونه، ويعرفون شخصه، ويعرفون نسبه، ويعرفون قبيلته، ويعرفون بلده، ولو كانوا لا يعرفونه فكيف يصدقونه؟ ولو كان بغير لغتهم فكيف يفهمون كلامه؟ {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} . فقوله: عزيز: يعني شاق عليه صلى الله عليه وسلم. ما عنتم: يعني ما يشق عليكم، العنت معناه: التعب والمشقة، والرسول صلى الله عليه وسلم يشق عليه ما يشق على أمته، وكان لا يريد لها المشقة وإنما يريد لها اليسر والسهولة. ولذلك جاءت شريعته صلى الله عليه وسلم سهلة سمحة، قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] فشريعته سهلة تتماشى مع قدرة الناس واستطاعة المكلفين ولا تحملهم ما لا يطيقون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب لهم التيسير، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وكان يحب أن يأتي بالعمل ويتركه شفقة بأمته، يترك العمل وهو يحب أن يأتي به من الأعمال الصالحة من أجل أن لا يشق على أمته، هذه من صفاته، أنه يشق عليه ما يشق على أمته، ويسر بسرورها، ويفرح بفرحها، ومن كانت هذه صفته فلا شك أنه لا يأتي إلا بالخير والرحمة صلى الله عليه وسلم. حريص عليكم؛ أي: على هدايتكم وإخراجكم من الظلمات إلى النور، ولذلك كان يتحمل المشاق في دعوة الناس طلبًا لهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى قال الله له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] أي لعلك مهلك نفسك أن لا يكونوا مؤمنين من أجل الحزن عليهم، فلا تحزن عليهم، وهذا من كمال نصحه صلى الله عليه وسلم. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} : رءوف: من الرأفة وهي الرفق واللطف. رحيم: وصفه بالرحمة فليس بغليظ {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 كان صلى الله عليه وسلم متواضعًا لينا مع المؤمنين، يخفض لهم جناحه ويستقبلهم بالبشر والمحبة والعطف والإحسان، هذه من صفاته صلى الله عليه وسلم. ذكر الله خمس صفات في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم. الأولى: أنه منكم. الثانية: عزيز عليه ما عنتم. الثالثة: حريص عليكم. الرابعة: بالمؤمنين رءوف. الخامسة: رحيم. خمس صفات من صفات هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وخص المؤمنين بالرأفة والرحمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان غليظًا على المشركين والمعاندين، يغضب لغضب الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] الرحمة والرأفة خاصة بالمؤمنين، وهكذا المؤمنون بعضهم مع بعض: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] هذه صفاته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. [38]   [38] شهادة أن محمدًا رسول الله لها معنى ومقتضى ليست لفظًا يقال فقط. فمعناها أن تعترف بلسانك وبقلبك أنه رسول الله، تنطق بلسانك وتعتقد ذلك بقلبك أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما التلفظ باللسان والإنكار بالقلب فهذه طريقة المنافقين كما أخبرنا الله عنهم بقوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 1، 2] جعلوا أيمانهم، أي: شهاداتهم سترة يسترون بها، فصدوا عن سبيل الله، فدل على أن النطق باللسان لا يكفي. وكذلك اعتقاد القلب مع عدم النطق باللسان لمن يقدر على النطق أيضًا لا يكفي، فإن المشركين يعلمون أنه رسول الله لكنهم يعاندون، كما قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] . فهم بقلوبهم يعترفون بالرسالة، ويعرفون أنه رسول الله، لكن منعهم الكبر ومنعهم العناد من الإقرار برسالته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وكذلك منعهم الحسد كما عند اليهود وعند مشركي العرب، وكان أبو جهل عمرو بن هشام يعترف ويقول: كنا نحن وبنو هاشم متساوين في كل الأمور لكنهم قالوا: منا رسول وليس منكم رسول من أين نأتي برسول؟ فلذلك أنكروا رسالته حسدًا لبني هاشم. ويقول أبو طالب في قصيدته: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينًا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا يعترف بقلبه برسالة محمد لكن منعته الحمية الجاهلية لقومه فلم يكفر بدين عبد المطلب الذي هو عبادة الأصنام، فهم يعترفون بنبوته بقلوبهم، فلا يكفي الاعتراف بالقلب أنه رسول الله بل لا بد أن ينطق بلسانه. ثم لا يكفي النطق باللسان والاعتراف بالقلب، بل لا بد من أمر ثالث وهو الاتباع، قال الله تعالى فيه: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 حتى لو نصره مثل أبي طالب وحامى دونه، وهو يعرف أنه رسول الله لكن لم يتبعه، فإنه ليس بمسلم حتى يتبعه، ولهذا قال الشيخ: وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. فلا بد مع الاعتراف برسالته ظاهرًا وباطنًا واعتقادًا، ولا بد من اتباعه صلى الله عليه وسلم، ويتلخص ذلك في هذه الأربع كلمات التي ذكرها الشيخ رحمه الله: الأولى: طاعته فيما أمر: يقول الله جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ويقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] . فقرن طاعة الرسول مع طاعته سبحانه وتعالى، وقرن معصية الرسول مع معصيته {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] وقال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] فلا بد من طاعته صلى الله عليه وسلم، فالذي يشهد أنه رسول الله تلزمه طاعته فيما أمر لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ، عن أمره: أي عن أمر الرسول فلا بد من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. الثانية: تصديقه فيما أخبر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن أمور كثيرة مغيبة، أخبر عن الله وعن الملائكة، وأخبر عن أمور غائبة، وأخبر عن أمور مستقبلة من قيام الساعة وأشراط الساعة والجنة والنار، وأخبر عن أمور ماضية عن أحوال الأمم السابقة، فلا بد من تصديقه فيما أخبر؛ لأنه صدق لا كذب فيه، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] . الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بهذه الأخبار أو هذه الأوامر والنواهي، لا يتكلم بشيء من عنده عليه الصلاة والسلام، إنما يتكلم بوحي من الله عز وجل فأخباره صدق، ومن لم يصدقه فيما أخبر فليس بمؤمن ولا صادق في شهادته أنه رسول الله، كيف يشهد أنه رسول الله ويكذبه في أخباره؟ كيف يشهد أنه رسول الله ولا يطيع أمره؟! . الثالثة: اجتناب ما نهى عنه وزجر: اجتنب ما نهاك عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ نهاك عن أقوال وأفعال وصفات كثيرة، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ينهى صلى الله عليه وسلم إلا عن شيء فيه ضرر وفيه شر، ولا يأمر إلا بشيء فيه خير وفيه بر، فإذا لم يجتنب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن شاهدًا له بالرسالة بل صار متناقضًا، كيف يشهد أنه رسول الله ولا يجتنب ما نهاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] قال صلى الله عليه وسلم: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» فلا بد من اجتناب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم. الرابعة: أن لا يُعبد الله إلا بما شرع: تقيد في العبادات بما شرعه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فلا تأت بعبادة لم يشرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان قصده حسنًا، وإن كنت تريد الأجر، لكن هذا عمل باطل؛ لأنه لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم. النية لا تكفي بل لا بد من الاتباع. فالعبادات توقيفية لا يجوز الإتيان بعبادات لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 «عليه أمرنا فهو رد» وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» . فالإتيان بعبادة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعتبر بدعة منكرة منهيًّا عنها، وإن قال بها فلان أو فلان، أو فعلها من فعلها من الناس ما دامت خارجه عن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها بدعة وضلالة، فلا يعبد الله إلا بما شرع على لسان رسوله، والمحدثات والخرافات كلها عمل باطل ونقص وضلال على من أتى بها، وإن كان يقصد بها الخير ويريد الأجر، فإن العبرة ليست بالمقاصد، وإنما العبرة بالاتباع والطاعة والانقياد، ولو كنا أحرارًا نأتي بما نشاء ونستكثر من العبادات ما نشاء لما احتجنا إلى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن من رحمة الله بنا لم يكلنا إلى عقولنا، ولم يكلنا إلى فلان وعلان من الناس؛ لأن هذه الأمور مردها إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وَدَلِيلُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] [39] .   الشرع إلى الله ورسوله، ولا ينفع منها إلا ما كان موافقًا لما شرعه الله ورسوله، ففي هذا الابتعاد عن جميع البدع، ومن ابتدع شيئًا في الدين لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يشهد أنه رسول الله، لم يشهد الشهادة الحقيقية؛ لأن الذي يشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة حقيقية يتقيد بما شرعه، ولا يحدث شيئًا من عنده أو يتبع شيئًا محدثًا ممن سبقه. هذا معنى شهادة أن محمدًا رسول الله ليست ألفاظًا تقال باللسان فقط من غير التزام ومن غير عمل ومن غير تقيد بما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم. [39] فالصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، والزكاة هي الركن الثالث وهي قرينة الصلاة في كتاب الله، الصلاة عمل بدني، والزكاة عمل مالي. وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " لما امتنع أناس من دفع الزكاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه وقال: " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالًا - وفي رواية " عناقًا"- كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ". فالزكاة حق واجب في الأموال، وهي ركن من أركان الإسلام، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله عز وجل في كثير من الآيات ومنها هذه الآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} . دليل التوحيد في أولها في قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} هذا هو تفسير التوحيد، وهو عبادة الله مع الإخلاص له وترك عبادة ما سواه، فالدين والتوحيد والعبادة بمعنى واحد، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: العبادة، هذا تفسير التوحيد، لا كما يقوله علماء الكلام: أنه الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت هذا توحيد الربوبية، والمطلوب هو توحيد الألوهية الذي دعت إليه الرسل، ولا يصير المسلم مسلمًا إلا إذا جاء به. أما من جاء بتوحيد الربوبية فقط فهذا ليس مسلمًا بدليل أن المشركين يعتقدونه وينطقون به ويعترفون به ولم يدخلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 في الإسلام، ولم يمنع من قتلهم وسبي أموالهم توحيدهم هذا؛ لأنهم ليسوا موحدين لما أشركوا بالله عز وجل في العبادة، هذا هو تفسير التوحيد من كتاب الله لا من كتاب فلان وعلان كتاب "الجوهرة" أو كتاب "المواقف" أو كتب علماء الكلام، لا يؤخذ تفسير التوحيد من هذه الكتب وإنما يؤخذ من كتاب الله ومن سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كتب أهل السنة والجماعة الذين يتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودليل الصلاة في قوله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} والمعنى أن يأتوا بها كما أمر الله عز وجل بشروطها وأركانها وواجباتها، أمر مجرد صورة الصلاة فإنها لا تكفي؛ ولهذا لم يقل: ويصلوا، بل قال: ويقيموا الصلاة، ولا تكون الصلاة قائمة إلا إذا أتى بها كما أمر الله سبحانه وتعالى، أما الذي يصلي مجرد صورة في أي وقت يشاء أو بدون طهارة وبدون طمأنينة، ولا يأتي بمتطلبات الصلاة، هذا لم يصل، ولهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته الذي لا يطمئن في صلاته قال له: «ارجع فصل فإنك لم تصل» ليس مقصودًا صورة الصلاة من قيام وركوع وسجود وجلوس فقط، ليس هذا المقصود، بل المقصود أن يؤتى بها كما شرع الله سبحانه وتعالى مستوفية لكل متطلباتها الشرعية. ثم ذكر دليل الزكاة بقوله تعالى: {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أي: يدفعوا الزكاة للمستحقين لها، الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] . ذكر ثمانية مصارف وحصرها بـ (إنما) فلا يكون صرفها في غير هذه المصارف الثمانية، فمن صرفها في غير مصارفها الثمانية لم يكن قد آتى الزكاة ولو أنفق أموالًا طائلة ملايين أو مليارات وسماها زكاة، ولا تكون زكاة حتى توضع في مواضعها التي حصرها الله تعالى فيها، هذا معنى إيتاء الزكاة، وأيضًا في وقتها، أي: يخرجها وقت وجوبها. لا يتباطأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ودليل الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] [40] .   ويتأخر ويتكاسل، طيبة بها نفسه، أي لا يعتبرها مغرمًا أو خسارة، وإنما يعتبرها مغنمًا له. هذه الأمور الثلاثة هي: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} الدين: الملة، القيمة: صفة لموصوف محذوف تقديره دين الملة القيمة، أي المستقيمة. هذا دليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد. [40] الصيام لا يجب إلا على المسلمين أما الكفار لو فعلوه ما صح منهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما داموا على الكفر فإنهم لا تنفعهم العبادات لا صيام ولا غير صيام، ولذلك خاطب به المؤمنين خاصة؛ لأنهم هم الذين يستجيبون، وهم الذين يصح منهم الصيام، ويقبل منهم الصيام. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} معنى كتب: فرض، مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] يعني فرض عليكم القتال، فالكتب في كتاب الله معناه الفرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: كما فرض على الذين من قبلكم من الأمم، فدل على أن الصيام كان معروفًا عند الأمم السابقة وفي الشرائع القديمة، ولم تختص به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. والنفس قد تتثاقل الصيام لما فيه من كبح جماحها ومنعها من الشهوات، والله جل وعلا بين أنه سنته في خلقه، وأنه على جميع الأمم، حتى في الجاهلية كان الصيام معروفًا، كانوا يصومون يوم عاشوراء. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} هذا بيان للحكمة من الصيام، فلعلكم تتقون: بيان للحكمة في مشروعية الصيام، وهو أنه يسبب التقوى؛ لأن الصيام يترك به الإنسان مألوفاته وشهواته ومرغوباته تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى فيكسبه التقوى، كما أنه يكسر أيضًا شهوة النفس وحدتها؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فمع تناول الشهوات يتسلط الشيطان، ومع ترك الشهوات يضعف مجرى الدم فيطرد الشيطان عن المسلم، ففي الصيام حصول التقوى التي هي جماع الخير كله. فهذه فائدة الصيام أنه يسبب التقوى، تقوى الله سبحانه وتعالى، واتقاء المحارم والشهوات المحرمة؛ لأن الإنسان إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ودليل الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] [41] .   ترك المباحات طاعة لله كان من باب أولى أن يترك المحرمات، الصيام يدربه على تجنب الحرام، ويدربه على التمكن من نفسه الأمارة بالسوء، ويطرد عنه الشيطان، ويلين قلبه للطاعة، ولذلك تجد الصائم أقرب إلى الخير من المفطر، تجده يحرص على تلاوة القرآن وعلى الصلاة، ويذهب إلى المسجد مبكرًا، الصيام لينه للطاعة وهذبه، كل هذا داخل في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . فالشاهد من الآية قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} هذا دليل على فرضية الصيام، وفسره بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] لأن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} مجمل فسره بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . [41] ادعى اليهود أنهم مسلمون، وأنهم على دين إبراهيم، فامتحنهم الله جل وعلا في هذه الآية وقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فإن كنتم مسلمين فحجوا؛ لأن الله فرض حج البيت على المسلمين، فإذا لم تحجوا وأبيتم الحج فهذا دليل على أنكم لستم مسلمين، ولستم على ملة إبراهيم {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . ولله: أي، هذا فرض وحق وواجب لله سبحانه وتعالى على الناس. حج: معناه في اللغة: القصد. الحج شرعا: قصد الكعبة المشرفة والمشاعر المقدسة في وقت مخصوص لأداء عبادات مخصوصة، وهي مناسك الحج. حج البيت: أي، الكعبة، وما حولها من المشاعر تابع لها. من استطاع إليه سبيلا: هذا بيان شرط الوجوب، وهو الاستطاعة البدنية والاستطاعة المالية، الاستطاعة البدنية بأن يكون قادرا على المشي والركوب والانتقال من بلده إلى مكة في أي مكان من الأرض، هذه البدنية، يخرج العاجز عجزا مستمرا كالمريض مرضا مزمنا والكبير الهرم، فهذا ليس عنده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 استطاعة بدنية، فإن كانت عنده استطاعة مالية فإنه ينيب من يحج عه حجة الإسلام. أما الاستطاعة المالية فهي توفر المركب الذي ينقله، الراحلة أو السيارة أو الطيارة أو الباخرة، كل وقت بحسبه، ويكون عنده مال يستطيع أن يوفر له المركب الذي يمتطيه لأداء الحج، وأيضا الزاد يكون عنده زاد ونفقة له في السفر ذهابا وإيابا، ولمن يمونهم يكون عندهم كفايتهم إلى أن يرجع إليهم، فالزاد معناه أن يكون عنده ما يكفيه في سفره، ويكفي من يمون من أولاده ووالديه وزوجته، وكل من تلزمه نفقته، يؤمن لهم ما يكفيهم حتى يرجع إليهم بعد تأمين سداد الديون إن كان عليه ديون، يكون هذا المال فاضلا بعد سداد الديون. فإذا توفر هذا فيكون هذا هو السبيل، " الزاد والراحلة " كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ومن لم يستطع: أي، من ليس عنده زاد ولا راحلة فليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 عليه حج؛ لأنه غير مستطيع، فشرط وجوب الحج هو الاستطاعة. ولما كان الحج يؤتى إليه من بعيد من كل أقطار الأرض، من كل فج عميق، ويحتاج إلى مؤنة، وفيه مشقة وتعب، وقد يحصل فيه أخطار، فمن رحمة الله أن جعله في العمر مرة واحدة، وما زاد عليها فهو تطوع، هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى حيث لم يوجبه على المسلم كل سنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، قال الأقرع بن حابس رضي الله عنه: أكل سنة يا رسول الله؟ فسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد السؤال، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد السؤال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، الحج مرة واحدة، فما زاد فهو تطوع» ، هذا من رحمة الله. وقوله سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فيه دليل على أن من امتنع عن الحج وهو يقدر ولم يحج فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 كافر؛ لأن الله قال: (ومن كفر) ، أي: من أبى أن يحج وهو قادر على الحج، فإن هذا كفر، قد يكون كفرا أصغر، فمن تركه جاحدا لوجوبه هذا كفر أكبر بإجماع المسلمين، أما من اعترف بوجوبه وتركه تكاسلا فهذا كفر أصغر، ولكن إذا توفي وكان له مال فإنه يحج من تركته؛ لأنه دين عليه لله عز وجل، وهذه الآية فيها وجوب الحج، وهو ركن من أركان الإسلام، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ركن من أركان الإسلام في حديث جبريل، وفي حديث ابن عمر. وقد فرض الحج في السنة التاسعة على قول، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة، وإنما حج في السنة التي بعدها في السنة العاشرة، لماذا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم «أرسل عليا ينادي في الناس في الموسم: " أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان "» ، فلما منع المشركون والعراة من الحج في العام العاشر حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 المرتبة الثانية: الإيمان تعريف الإيمان الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ: وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَعْلاهَا قَوْلُ: لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإيمان. [42]   [42] فالإيمان أعم من الإسلام، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، فالإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله. والإيمان في اللغة: التصديق، قال تعالى على لسان إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] ، أي: بمصدق لنا. وأما الإيمان في الشرع: فهو كما فسره أهل السنة والجماعة: قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. وهو بهذا التفسير يكون حقيقة شرعية؛ لأن الحقائق ثلاث: حقيقة لغوية، وحقيقة شرعية، وحقيقة عرفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فتفسير الإيمان بهذا التفسير هو حقيقة شرعية، فالإيمان نقل من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي. فالإيمان: قول باللسان، لا بد من النطق والاعتراف باللسان، واعتقاد بالقلب، لا بد من أن يكون ما ينطق به بلسانه معتقدا له بقلبه، وإلا كان مثل إيمان المنافقين الذين {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11] . ولا يكفي القول باللسان والاعتقاد بالقلب، بل لا بد من العمل بالجوارح أيضا، لا بد من أداء الفرائض، وتجنب المحرمات، فيفعل الطاعات، ويتجنب المحرمات، كل هذا من الإيمان، وهو بهذا التعريف يشمل الدين كله، لكن هذه الطاعات والشرائع الكثيرة منها ما هو جزء من حقيقة الإيمان للإيمان، ومنها ما هو مكملات للإيمان. والإيمان له أركان وله شعب، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثين، بين أركان الإيمان في حديث جبريل، وبين شعب الإيمان في حديث «الإيمان بضع وسبعون شعبة» ، وهذا يأتي إن شاء الله. والإيمان والإسلام إذا ذكرا جميعا صار لكل واحد معنى، وإذا ذكر منهما واحد فقط دخل في الآخر، فإذا ذكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 جميعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وهي أركان الإسلام الخمسة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وهي الأركان الستة، ومحلها القلب، ولا بد من اجتماعها في المسلم، لا بد أن يكون مسلما مؤمنا، يقيم أركان الإسلام، ويقيم أركان الإيمان، لا بد من اجتماعها. قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة» روايتان. قوله: بضع: البضع هو ما بين الثلاثة إلى التسعة، فإذا قيل: بضعة عشر: هو ما بين ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، وإذا قيل: بضع فقط فهو ما بين الثلاثة إلى التسعة. قوله: شعبة: الشعبة هي القطعة من الشيء، أي: أن الأركان بضع وسبعون قطعة أو جزءا. قوله: أعلاها: أي: أعلى هذه الشعب قول: لا إله إلا الله، فهي رأس الإسلام، ورأس الإيمان، وهي الركن الأول، وهي مدخل الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قوله: أدناها أي: آخرها وأقلها. قوله: إماطة الأذى عن الطريق أي: إزالة الأذى عن الطريق المسلوك، والأذى كل ما يؤذي الناس من شوك أو حجر أو قاذورات أو مخلفات، كل ما يؤذي الناس في طريقهم، ووضع الأذى في الطريق محرم؛ لأن الطريق للمارة، فالأذى يعطل المارة، أو يعرضهم للخطر، مثل أن يوقف سيارته في الطريق، هذا من الأذى، إرسال الماء من البيت في الطريق، هذا من الأذى، وضع القمامات في الطريق، هذا من الأذى، سواء كان الطريق في البلد أو في البر، وضع الحجارة، وضع الأخشاب، وضع الحديد بطرقات الناس، حفر الحفر في طرقات الناس، كل هذا من الأذى. فإذا جاء مسلم وأزاح هذا الأذى، أخلى الطريق منه، فهذا دليل على إيمانه، فوضع الأذى في الطريق من شعب الكفر، وإزالة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان. قوله: والحياء شعبة من الإيمان: الحياء خلق يجعله الله في الإنسان، يحمله على فعل ما يجمله ويزينه، ويمنعه مما يدنسه ويشينه، والحياء الذي يحمل صاحبه على الخير، ويبعده عن الشر، هذا محمود، أما الحياء الذي يمنع الإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أركان الإيمان قال: وأركانه ستة: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. [43]   من فعل الخير، وطلب العلم، والسؤال عما أشكل عليه، فهذا حياء مذموم لأنه خجل. وشعب الإيمان كثيرة كما عرفتم، بضع وسبعون، وقد كتب الإمام البيهقي مؤلفا كبيرا بين فيه شعب الإيمان، وله مختصر مطبوع. ومن أدلة العلماء على أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، قوله صلى الله عليه وسلم: «أعلاها لا إله إلا الله» ، هذا يدل على القول، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أدناها إماطة الأذى عن الطريق» ، هذا عمل دل على أن الأعمال من الإيمان، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الحياء شعبة من الإيمان» ، هذا في القلب، الحياء إنما يكون في القلب، فهذا دليل على أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح. [43] الإيمان يتكون من أركان وشعب، فما الفرق بينهما؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الفرق أن الأركان لا بد منها، فإذا زال واحد منها زال الإيمان؛ لأن الشيء لا يقوم إلا على أركانه، فإذا فقد ركن من أركان الشيء لم يتحقق، وأما الشعب فإنها مكملات، لا يزول الإيمان بزوال الشيء منها، لكنها مكملات إما واجبات أو مستحبات، فالواجبات لكمال الإيمان الواجب والمستحبات لكمال الإيمان المستحب. فإذا ترك المسلم شيئا من الواجبات، أو فعل شيئا من المحرمات، فإنه لا يزول إيمانه بالكلية عند أهل السنة والجماعة، ولكن يزول كماله الواجب، فيكون ناقص الإيمان أو فاسقا، كما لو شرب الخمر أو سرق أو زنى، أو فعل شيئا من الكبائر، هذا يكون فاعلا لمحرم وكبيرة من كبائر الذنوب، لكنه لا يكفر بذلك، ولا يخرج من الإيمان، بل يكون فاسقا، ويقام عليه الحد إن كانت المعصية ذات حد، وكذلك من ترك واجبا، كمن ترك بر الوالدين، أو صلة القرابة، هذه واجبات، فمن تركها نقص إيمانه، وكان عاصيا بترك الواجب، فيكون عاصيا إما بترك الواجب، وإما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 بفعل محرم، وعلى كل حال لا يخرج من الإيمان، وإنما يكون مؤمنا ناقص الإيمان. هذا مذهب أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يكفران مرتكب الكبيرة، فالخوارج يكفرونه ويخرجونه من الدين، والمعتزلة يخرجونه من الدين، لكن لا يدخلونه في الكفر، وإنما يقولون: هو في منزلة بين منزلتين، لا هو مؤمن، ولا كافر. هذا مذهبهم، وهو مذهب مبتدع، مخالف للأدلة، ومخالف لما هو عليه أهل السنة والجماعة، والسبب في ذلك تقصيرهم في الاستدلال، حيث أخذوا أدلة الوعيد، وتركوا أدلة الوعد مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، هذه من أدلة الوعد، دلت على أن العاصي الذي لم يصل إلى حد الشرك والكفر أنه مرجو له المغفرة، ومعرض للوعيد والعقوبة. فإذا جمعت بين قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] ، من أخذ بظاهرها كفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 بالمعصية مطلقا، وإن ردها إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] تبين له الحق، وأنه لا يخرج من الدين، ولكنه متوعد بالنار، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه، فقد يأتي عليه مكفرات في الدنيا، أو عذاب في القبر، تكفر هذه السيئات، والمكفرات كثيرة، يبتلى بمصائب، يبتلى بعقوبات في الدنيا، أو يعذب في قبره، أو يؤجل إلى يوم القيامة، ويكون تحت المشيئة. هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا هو الفرق بين الشعب والأركان، فمن ترك شيئا من الأركان فإنه يكفر، من جحد التوحيد وأشرك بالله عز وجل هذا يكفر؛ لأنه ترك الركن الأول، ومن جحد أحد الرسل يكفر؛ لأنه ترك ركنا من أركان الإسلام، ومن جحد الملائكة يكفر ويخرج من الملة، ومن كفر بالبعث، أو جحد الجنة أو النار أو الصراط أو الميزان، أو شيئا مما ثبت من أمور الآخرة، فإنه بذلك يكفر؛ لأنه أنكر ركنا من أركان الإيمان، كذلك من جحد القدر وقال: الأمر أنف، ولم يسبق قدر من الله، إنما هي المصادفة، والأمور بالصدفة، وليس هناك قدر، كما يقوله غلاة المعتزلة، فإنه يكفر أيضا؛ لأنه جحد القدر، أما من ترك شيئا من الشعب فإن هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ينقص إيمانه، إما أن يكون نقصا لكماله الواجب، أو نقصا لكماله المستحب، لكنه لا يكفر بذلك. وما دليل الزيادة والنقصان في الإيمان؟ أما دليل الزيادة: فقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ، فدل على أن الإيمان يزيد بسماع القرآن، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] . دل على أن الإيمان يزيد بنزول القرآن وسماعه وتدبره، كما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] ، فدل على أن الإيمان يزيد بالطاعات والتصديق. وأما النقصان: فإن كل شيء يزيد فإنه ينقص، كل شيء قابل للزيادة فإنه قابل للنقص، هذا من ناحية، ودل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يقول: أخرجوا من النار من كان» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 «في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» ، فدل على أن الإيمان ينقص حتى يكون على وزن خردل في القلب، وكذلك قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167] دل على أن الإيمان ينقص حتى يكون أقرب إلى الكفر، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغير بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» دل على أن الإيمان يضعف، أي: ينقص، فالإيمان إذا يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. قوله: وأركانه ستة، أي: دعائمه التي يقوم عليها، ويفقد بفقدها أو بفقد واحد منها ستة أركان، وهي: الأول: أن تؤمن بالله: فالركن الأول وهو الإيمان بالله، يشمل أنواع التوحيد الثلاثة: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى واحد أحد فرد صمد، لا شريك له في ربوبيته، ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الثاني: الإيمان بالملائكة: والملائكة جمع ملك، وأصله ملأك ثم سهل وقيل: ملك، والملائكة خلق من خلق الله في عالم الغيب، خلقهم الله لعبادته، ولتنفيذ أوامره سبحانه وتعالى في ملكه، وهم أصناف، كل صنف له عمل موكل به ويقوم به، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فمنهم من هو موكل بالوحي، وهو جبريل عليه السلام، وهو أشرف الملائكة، وهو الروح الأمين، شديد القوي، ومنهم من هو موكل بحمل العرش {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] ، قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] . العرش هو أعظم المخلوقات، ولا يعلم عظمه إلا الله عز وجل، يحمله الملائكة، وهذا دليل على عظم الملائكة، وعظم قواهم وخلقهم، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] ، فمنهم من له ستمائة جناح كجبريل عليه الصلاة والسلام، فلا يعلم عظم خلقتهم إلا الله سبحانه وتعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27] ، ومنهم الموكل بالقطر والنبات، وهو ميكائيل، ومنهم من هو موكل بالنفخ في الصور، وهو إسرافيل، ينفخ في الصور، فيهلك كل شيء، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ، ثم ينفخ فيه مرة ثانية، فتطير الأرواح في أجسادها {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] . تطير الأرواح من القرن وهو الصور إلى أجسادها، وتدخل فيها، فيحيون بإذن الله، ثم يسيرون إلى المحشر. ومنهم من هو موكل بقبض الأرواح عند نهاية آجالها، وهو ملك الموت، قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] ، ومعه أعوان من الملائكة: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] يعني أعوان ملك الموت، ومنهم من هو موكل بالأجنة في الأرحام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 «مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك» الحديث، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال بني آدم، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11] ، يلازمونكم بالليل والنهار. قال صلى الله عليه وسلم: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وفي صلاة العصر، ويشهدون للمصلين عند الله سبحانه وتعالى» ، ولهذا قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] أي: يحضره الملائكة، ملائكة الليل وملائكة النهار، ومنهم من هو موكل بحفظ بني آدم من المكاره، يحفظونه من الآفات، ومن الأعداء ومن الهوام ومن السباع ومن الأفاعي والحيات، ما دام له بقية حياة فإن له ملائكة يحفظونه من الأخطار. ينام بين السباع وبين الحيات في البر، من الذي يدفع عنه الحيات والسباع والهوام؟ معه ملائكة سخرهم الله سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وتعالى، قال الله فيهم: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] ، أي: بأمر الله هؤلاء يحفظون بني آدم من المكاره والأخطار إلى أن يحين الأجل، فإذا حان الأجل تخلوا عنه، فوقع ما قدر الله له من الموت أو الإصابة التي تفضي إلى الموت. ومنهم ملائكة موكلون بتنفيذ الأوامر في أقطار السماوات والأرض، لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى، منهم ملائكة يطلبون مجالس الذكر ويحضرونها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة» ، ملائكة سياحون في الأرض، يطلبون حلق الذكر ويشهدونها. ولا يعلم الملائكة وأصنافهم وأوصافهم إلا الله، لكن ما جاء في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة أثبتناه واعتقدناه، وما لم يذكر لنا نمسك عنه ولا نبحث فيه؛ لأن هذا من علم الغيب الذي لا ندخل فيه إلا بدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 فالإيمان بالملائكة ركن من أركان الإسلام، فمن جحد الملائكة وقال: لا يوجد ملائكة لأننا لا نراهم، هذا يكون كافرا ملحدا زنديقا والعياذ بالله؛ لأنه لم يؤمن بالغيب، وكذلك الذي يؤول الملائكة فيقول: الملائكة إنما هي معان وليست أجساما، وهي الهواجس التي تأتي على الإنسان، إن كانت هواجس خير فهي ملائكة، وإن كانت هواجس شر فهي شياطين، فهذا قول إلحادي والعياذ بالله، ومع الأسف هو في " تفسير المنار " نقله محمد رشيد رضا عن شيخه محمد عبده. وهذا كلام الفلاسفة، وهو كلام باطل، من اعتقده فهو كافر، لكن نرجو أنه نقله ولم يعتقده، ولكن نقله من غير تعقيب فيه خطورة، وهذا كلام باطل وكفر بالملائكة، نسأل الله العافية والسلامة. فالإنسان لا يدخل بعقله وتفكيره، أو ينقل عن الفلاسفة أو عن الزنادقة شيئا من أمور الدين وأمور الغيب، وإنما يعتمد على الكتاب والسنة، هذا هو الواجب، ويذكر في " تفسير المنار " أنه منقول من كتاب " إحياء علوم الدين " للغزالي، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وكتاب " إحياء علوم الدين " للغزالي فيه طوام وفيه بلايا، وإن كان فيه شيء من الخير والفوائد، لكن فيه من المهلكات والسموم الشيء الكثير، وهو كتاب مختلط، شره أكثر من خيره، فلا يليق بالمبتدئ أو العامي أن يطالع فيه إلا إذا كان عنده علم وتمييز بين الحق والباطل. والملائكة ليسوا معان كما يقول، بل الملائكة أجسام وأشكال، يتشكلون بأشكال أعطاهم الله القدرة عليها، ولهذا كان جبريل عليه السلام يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، فأعطاهم الله القدرة على التشكل في أشكال من أجل مصلحة بني آدم؛ لأن بني آدم لا يطيقون رؤية الملائكة على خلقتهم التي خلقهم الله عليها، وإنما يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل رفقا ببني آدم، ولا يرون على صورتهم وحقيقتهم إلا عند العذاب، قال تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22] ، وعند الموت يعاينهم الإنسان، يرى ملائكة الموت، لكن في الدنيا وعلى قيد الحياة لا يراهم؛ لأنه لا يطيق رؤيتهم، خلقهم الله من نور، وخلق الشياطين من نار كما في القرآن، وخلق آدم من تراب، فالله على كل شيء قدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 والكفار يعتقدون أن الملائكة بنات الله، قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] . الثالث: الإيمان بكتبه: وهي الكتب التي أنزلها الله على الرسول لهداية البشر، نؤمن بأنها كلام الله حقيقة، ونؤمن بما سمى الله منها وما لم يسم، سمى الله لنا منها التوراة والإنجيل والقرآن العظيم وصحف إبراهيم وموسى والزبور، فنؤمن بها، ونؤمن بما لم يسمه الله منها، فالإيمان بالكتب السابقة يكون إيمانا مجملا، والإيمان بالقرآن يكون إيمانا مفصلا بكل ما فيه؛ لأنه كتابنا، وأنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن جحد آية أو حرفا من حروفه فهو كافر مرتد عن الإسلام. وكذلك من آمن ببعض القرآن وكفر ببعض فهو كافر، وكذلك من آمن ببعض الكتب وكفر ببعض فهو كافر، ومن قال: أنا أومن بالقرآن ولا أومن بالتوراة والإنجيل فهو كافر، أو قال: أومن بالتوراة والإنجيل ولا أومن بالزبور الذي أنزل على داود عليه السلام فهو كافر، قال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء: 163] ، أو أنكر صحف إبراهيم فهو كافر؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 لأنه مكذب لله عز وجل، ومكذب لرسله، فهو كافر لأنه جحد ركنا من أركان الإيمان. الرابع: الإيمان برسله: الإيمان بالرسل جميعهم من أولهم إلى آخرهم، من سمى الله منهم ومن لم يسم، نؤمن بهم جميعا، وأنهم رسل الله حقا، جاءوا بالرسالة، وبلغوها لأممهم. فمن كفر بنبي واحد فهو كافر بجميع الرسل لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 150 - 152] . فالكفر بنبي واحد أو برسول كفر بالجميع، ولهذا قال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] ، مع أنهم كذبوا نوحا، فتكذيبهم لنوح صار تكذيبا لبقية المرسلين، وكذلك من كفر بعيسى ومحمد كاليهود، أو كفر بمحمد كالنصارى، فإنه كافر بالجميع، لا بد من الإيمان بجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، من سمى الله منهم ومن لم يسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وقد سمى الله منهم كما في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 83 - 86] ، فذكر جملة منهم في هذه الآيات، وفي آيات أخرى، فنؤمن بمن سمى الله منهم، ونؤمن بمن لم يسم الله منهم. الخامس: اليوم الآخر: الإيمان باليوم الآخر هو الركن الخامس، واليوم الآخر المراد به يوم القيامة، سمي باليوم الآخر لأنه بعد اليوم الأول، وهو يوم الدنيا، الدنيا هي اليوم الأول، والقيامة هي اليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بما بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين في القبر، وكل ما يكون بعد القبر فهو من الإيمان باليوم الآخر، وكذلك الإيمان بالبعث والنشور والمحشر والحساب ووزن الأعمال، والصراط والميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات، والجنة والنار، فتفاصيل ما يحصل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 اليوم الآخر نؤمن بها جملة وتفصيلا، بداية من الموت إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، كل ما صح من هذا نؤمن به، ولا نشك في شيء منه، فمن شك في شيء منه فهو كافر مرتد عن الإسلام، كل هذا يطلق عليه اليوم الآخر وما فيه. الركن السادس: تؤمن بالقدر خيره وشره: تؤمن بأن ما يجري في هذا الكون من خير أو شر، من كفر وإيمان، من نعمة ونقمة، من رخاء وشدة، من مرض وصحة، من حياة وموت، كل ما يجري في هذا الكون فإنه مقدر، لم يكن صدفة، أو يكن أمرا مستأنفا، أي: أنه مبتدأ لم يسبق أن قدر، تؤمن بهذا كله بأنه بقضاء الله وقدره، وتؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن هذا بقضاء الله وقدره، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] ، هذا هو الإيمان بالقدر. والإيمان بالقدر يتضمن أربع درجات، من لم يؤمن بها كلها فليس مؤمنا بالقدر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 المرتبة الأولى: العلم بأن الله علم كل شيء في الأزل، علم كل ما يجري، ما كان وما يكون إلى ما لا نهاية، فالله قد علمه في الأزل قبل أن يكون وقبل أن يقع، علمه سبحانه وتعالى بعلمه القديم الأزلي الذي هو موصوف به أزلا وأبدا، هذه مرتبة العلم، فمن جحدها فهو كافر. المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة في اللوح المحفوظ: وهي أن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، فما يجري شيء إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ليس هناك شيء يجري وهو غير مكتوب، ولهذا قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد: 22] يعني اللوح المحفوظ، كتب الله فيه مقادير كل شيء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» ، فمن جحد الكتابة، وقال: الله يعلم كل شيء، لكنه لم يكتب في اللوح المحفوظ شيئا، هذا كافر مرتد عن دين الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 المرتبة الثالثة: مشيئة الله النافذة، وهي أن الله سبحانه يشاء الشيء ويريده، فما من شيء يحدث إلا وقد شاءه الله وأراده كما في اللوح المحفوظ، وكما علمه سبحانه وتعالى، يشاء كل شيء في وقته، ويريد كل شيء في وقت حدوثه، لا يقع شيء بدون مشيئة الله، أو بدون إرادة الله، فمن قال: إن الأشياء تحدث بدون أن يشاءها الله أو يريدها فهذا كافر. المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق والإيجاد، الله خالق كل شيء، إذا شاءه وأراده خلقه سبحانه وتعالى وأوجده، فكل شيء هو مخلوق لله سبحانه وتعالى، وهو من خلق الله، وهو فعل العباد وكسب العباد. فهذه المراتب الأربع لا بد من الإيمان بها، وإلا لم يكن الإنسان مؤمنا بالقدر مرتبة العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق والإيجاد، كل هذه لا بد من الإيمان بها، فمن جحد شيئا منها فإنه كافر مرتد عن دين الإسلام؛ لأنه جحد ركنا من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالقدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الدليل على أركان الإيمان وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] . [44]   [44] لما ذكر الشيخ هذه الأركان ذكر دليلها من القرآن ومن السنة؛ لأن أي شيء من أمور الدين والعبادة والعقيدة وأمور الأحكام الشرعية يحتاج إلى دليل، وإن لم يكن له دليل لم يكن صحيحا، لما ذكر الشيخ أركان الإيمان الستة ذكر دليلها من القرآن أولا ثم من السنة. فمن القرآن قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} ، البر: هو فعل الخير الذي يقرب من الله، ويوصل إلى جنته، فكل أفعال الخير هي من البر، فالبر لفظ عام يجمع جميع أنواع الخير، وأنواع الطاعات كلها داخلة تحت مسمى البر، وتحت مسمى التقوى. فالبر والتقوى من الأسماء العامة التي تجمع كل خصال الخير، وقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} هذا رد على اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، استنكروا هذا وجحدوه مع العلم أنهم يعلمون أنه حق، لكن جحدوه من باب العناد والمكابرة والحسد للنبي صلى الله عليه وسلم ولهذه الأمة. يقول الله: ليس البر أن تولوا وجوهكم جهة من الجهات من غير أمر من الله، ولكن البر طاعة الله سبحانه وتعالى، إذا أمركم بأمر وجب عليكم امتثاله، هذا هو البر، فإذا أمركم باستقبال بيت المقدس فالبر في ذاك الوقت هو استقبال بيت المقدس؛ لأنه طاعة لله عز وجل، ثم إذا أمركم أن تستقبلوا الكعبة فالبر هو استقبال الكعبة، فالبر يدور مع أمر الله سبحانه وتعالى. أنتم عبيد يجب عليكم الامتثال، إذا أمركم الله أن تستقبلوا جهة من الجهات وجب عليكم الامتثال، أما أن تتعصبوا لجهة معينة وتقولوا: لا يصح إلا استقبالها فهذا معناه اتباع الهوى والعصبية، والعبد الصادق يدور مع أوامر الله حيث دارت، ولا يعترض على أمر الله؛ لأن استقبال جهة بعد نسخ استقبالها لا يكون طاعة لله عز وجل، فالعمل بالمنسوخ وترك الناسخ ليس طاعة لله عز وجل، وإنما هو طاعة للهوى والعصبية، فالبر متعلق بطاعة الله، فحيث وجهك تتوجه إن كنت محقا في عبوديتك لله عز وجل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ودليل القدر قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] . [45] . المرتبة الثالثة: الإحسان تعريف الإحسان المرتبة الثالثة: الإحسان، ركن واحد، وهو " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". [46]   {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177] . [45] دليل الركن السادس من أركان الإيمان: قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، أي: كل شيء خلقه الله فإنه مقدر في علمه وكتابته ومشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، وليس هو عفويا أو صدفيا، إنما هو أمر سابق في علم الله، ومكتوب في اللوح المحفوظ، وسابق في مشيئة الله وإرادته سبحانه وتعالى. [46] الإحسان في اللغة: إتقان الشيء وإتمامه، مأخوذ من الحسن، وهو الجمال، ضد القبح، وهو ينقسم إلى أقسام: أولا: إحسان بين العبد وبين ربه، وهذا هو المقصود. ثانيا: إحسان بين العبد وبين الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ثالثا: إحسان الصنعة وإتقانها، إذا صنع الإنسان شيئا أو عمل عملا فإنه يجب عليه أن يتقنه ويتمه. النوع الأول: وهو الإحسان بين العبد وربه، بينه الرسول صلى الله عليه وسلم «لما سأله جبريل بحضرة الصحابة كما يأتي، فقال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . فالإحسان بين العبد وبين ربه هو إتقانه العمل الذي كلفه الله به، بأن يأتي به صحيحا خالصا لوجه الله عز وجل، عمل الإحسان بين العبد وربه ما توفر فيه الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإحسان على مرتبتين، واحدة أعلى من الأخرى. الأولي: أن تعبد الله كأنك تراه، بأن يبلغ بك اليقين والإيمان بالله كأنك تشاهد الله عيانا، ليس عندك تردد أو أي شك، بل كأن الله أمامك سبحانه وتعالى تراه عيانا، فمن بلغ هذه المرتبة فقد بلغ غاية الإحسان، تعبد الله كأنك تراه من كمال اليقين وكمال الإخلاص، كأنك ترى الله عيانا، والله جل وعلا لا يرى في الدنيا، وإنما يرى في الآخرة، ولكن تراه بقلبك حتى كأنك تراه بعينيك، ولذلك يجازى أهل الإحسان بالآخرة بأن يروه سبحانه وتعالى، لما عبدوه وكأنهم يرونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 في الدنيا جازاهم الله بأن أفسح لهم المجال بأن يروه بأبصارهم في دار النعيم. قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، الزيادة هي النظر لوجه الله، السبب أنهم أحسنوا في الدنيا، فأعطاهم الله الحسنى، وهي الجنة، وزادهم رؤية الله عز وجل، تعبد الله كأنك تراه على المشاهدة، والمحبة والشوق إلى لقائه سبحانه وتعالى، تتلذذ بطاعته، وتطمئن إلى طاعته سبحانه وتعالى، تشتاق إليها، هذه طريقة المحسنين. المرتبة الثانية: إذا لم تبلغ هذه المرتبة العظيمة فإنك تعبده على طريقة المراقبة، بأن تعلم أن الله يراك، ويعلم حالك، ويعلم ما في نفسك، فلا يليق بك أن تعصيه، وأن تخالف أمره، وهو يراك ويطلع عليك، وهذه حالة جيدة، ولكنها أقل من الأولى، وما دمت أنك تعلم أنه يراك فإنك تحسن عبادته وتتقنها؛ لأنك تعلم أن الله يراك، ولله المثل الأعلى لو كنت أمام مخلوق له منزلة وأمرك بأمر، وأنت تنفذ هذا الأمر أمامه وينظر إليك، هل يليق بك أن يقع منك إخلال بهذا الفعل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الحاصل: أن الإحسان على مرتبتين: مرتبة المشاهدة القلبية: وهي أن تعبد الله كأنك تراه من شدة اليقين والإيمان، كأنك ترى الله عز وجل عيانا. والمرتبة الثانية: وهي أقل منها، أن تعبد الله وأنت تعلم أنه يراك ويطلع عليك، فلا تعصيه ولا تخالف أمره سبحانه وتعالى. هذه مرتبة الإحسان، وهي أعلى مراتب الدين، من بلغها فإنه بلغ أعلى مراتب الدين، وقبلها مرتبة الإيمان، وقبلها مرتبة الإسلام. فالدين دوائر: الدائرة الأولى: الإسلام، وهي واسعة حتى إنه يدخل فيها المنافق، ويقال له مسلم ويعامل معاملة المسلمين؛ لأنه استسلم في الظاهر، فهو داخل في دائرة الإسلام، ويدخل فيها ضعيف الإيمان الذي ليس معه من الإيمان إلا مثقال حبة خردل. الدائرة الثانية: وهي أضيق من الأولى وأخص، دائرة الإيمان، وهذه لا يدخل فيها المنافق النفاق الاعتقادي أبدا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 دليل الإحسان وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217-220] ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] . [47]   وإنما يدخل فيها أهل الإيمان، وهم على قسمين: إيمان كامل، وإيمان ناقص، فيدخل فيها مؤمن فاسق، أو مؤمن تقي. الدائرة الثالثة: وهي أضيق من الثانية، دائرة الإحسان، وهي كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل فيها إلا أهل الإيمان الكامل. [47] هذا دليل المرتبة الأولى من الإحسان: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، دلت الآية أن الله مع المحسنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وهم الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن الله معهم معية خاصة، معية النصرة والتأييد والتوفيق. وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} هذا دليل المرتبة الثانية، هذا دليل قوله: " فإنه يراك ". وتوكل: أي: فوض أمورك. على العزيز الرحيم: وهو الله سبحانه وتعالى. حين تقوم: تقوم للعبادة والصلاة. وتقبلك في الساجدين: يراك وأنت راكع، وأنت ساجد، يراك في جميع أحوال العبادة قائما وراكعا وساجدا، فهو يراك سبحانه وتعالى. إنه هو السميع العليم: السميع لأقوالك، العليم بأقوالك سبحانه وتعالى، وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} هذا دليل المرتبة الثانية، {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، في أي شأن من أمورك، من أمور العبادة أو من غيرها، جميع أفعالك وتحركاتك ما تكون في شأن من الشئون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} أي: من الله لأن القرآن من عند الله عز وجل، أو الضمير راجع إلى الشأن، أي: ومن الشأن الذي تكون فيه تلاوة القرآن. {وَلَا تَعْمَلُونَ} هذا لجميع الأمة، للرسول صلى الله عليه وسلم وغيره. {مِنْ عَمَلٍ} أي: عمل من الأعمال خير أو شر. {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} نراكم ونبصركم ونشاهدكم، هذا دليل لقوله صلى الله عليه وسلم: " فإنه يراك ". {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} تباشرونه وتعملونه، فهذا يعطي دليلا على المرتبة الثانية من مراتب الإحسان، وأنه جل وعلا شهيد على كل عامل بعمله، يراه سبحانه وتعالى ويعلمه ويبصره، ولا يغيب عنه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] . وأما الإحسان بين العبد والخلق فمعناه: بذل المعروف لهم، وكف الأذى عنهم، بأن تطعم الجائع، وتكسو العاري، وتعين بجاهك المحتاج، وتشفع لمن احتاج الشفاعة، تبذل المعروف، جميع وجوه المعروف، تكرم الضيف، تكرم الجار، لا يصدر منك إلا خير لجارك، وتكف أذاك عنه أيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فلا يصدر منك أذى له ولا لغيره، من الناس من لا يصدر منه إلا أذى، ومن الناس من يصدر منه أذى وخير، ومن الناس من لا يصدر منه إلا خير، فهذا في أعلى الطبقات. بذل الخير للناس وكف الأذى عنهم هو الإحسان للناس: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ، حتى البهائم يجب أن تحسن إليها بأن تهيئ لها ما تحتاج إليه، وتمنع الأذى عنها، وترفق بها، هذا من الإحسان إلى البهائم، حتى المستحق للقتل لا تعذبه، بل تقتله قتلة حسنة ومريحة، من وجب عليه القصاص، ومن وجب عليه الحد، فإنه ينفذ فيه برفق، لا تمثيل، ولا تعذيب، ولا صبر. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح» في القصاص أو غير ذلك مما يلزم الحد. فإذ ذبحتم: أي، ذبحتم الحيوانات المأكولة، فأحسنوا الذبحة، «وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» ، فتحسن حتى للبهائم، وقد «غفر الله للبغي من بني إسرائيل بسبب أنها سقت كلبا رأته يلهث من العطش، فسقته فشكر الله لها، فغفر الله لها» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورُ عَنْ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ» . [48]   «ذنبها» ، وهو ذنب عظيم، وهو البغاء، أي: الزنى، فغفر الله لها بسبب ذلك؛ لأنها أحسنت إلى هذا البهيم العطشان. فكيف بغير الكلب؟ إذا أحسنت إلى جائع من المسلمين، أو حتى من بني آدم ولو كان كافرا، إذا أحسنت إليه فإن الله جل وعلا يشكر لك ذلك الإحسان، قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] . النوع الثالث: وهو إتقان العمل، أي عمل تعمله يجب عليك أن تتقنه، لا ليقال: إن فلانا يحسن كذا، وقد جاء في الحديث: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» . [48] قد تقدم الكلام عن الإسلام والإيمان والإحسان، وأركان كل مرتبة، وذكر الشيخ رحمه الله أدلة كل مرتبة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 القرآن، وهذا كله تقدم وانتهى، ثم ذكر الشيخ رحمه الله دليل هذه المراتب من السنة، سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث جبريل وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه، أتاهم في صورة رجل، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم سأله عن الساعة، وسأله عن أماراتها، هذا ما يسمى بحديث جبريل أو حديث عمر، وهو حديث ورد من عدة طرق عن جماعة من الصحابة، فهو حديث صحيح، وذكر الشيخ رحمه الله رواية عمر بن الخطاب في هذا الحديث مع اختلاف في ألفاظ الحديث في طرق أخرى، ولكن المعنى واحد. قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم» ، كان من عادتهم رضي الله عنهم أنهم يجتمعون عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ويتلقون عنه العلم، ويستمعون إلى أجوبته صلى الله عليه وسلم على ما يرده من الأسئلة، فبينما هم كذلك على عادتهم «إذ دخل عليهم رجل من الباب، رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ» ، أي: أن جبريل عليه السلام تمثل في صورة هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 «لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ منا أحد، حتى جلس إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام» . [49]   الرجل، ولم يأتهم بصورته الملكية؛ لأنهم لا يطيقون النظر إليه في صورته الملكية. [49] لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ منا - أي: من الحاضرين - أحد، فهذا من العجائب أنه ليس قادما من سفر حتى يقال: إنه من غير أهل المدينة، وهم لا يعرفونه، وهو ليس من أهل البلد حتى يعرفوه، فتحيروا في شأنه، لا هو قادم، ولا هو من أهل البلد، لو كان قادما من سفر لظهر عليه أثر السفر في ثيابه وفي لونه؛ لأن المسافر تظهر عليه آثار السفر، فلا يعرفه أحد من الحاضرين، فليس هو من أهل البلد، وليس هو قادما من سفر، فمن أين يكون هذا الرجل؟ هذا الذي استغربوه. فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه جلوس المتعلم من معلمه، وأسند ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنه قريب منه جدا، ووضع يديه على فخذيه، أي: فخذي النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 «قال: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا اله إِلا اللهُ، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلا، فقال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه» . [50]   فقال يا محمد: خاطبه باسمه، ولم يقل: يا رسول الله، ولعله فعل ذلك عليه السلام من أجل أن يظن الصحابة أنه من البادية؛ لأن من عادة أهل البادية أنهم يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم باسمه؛ لأن أهل البادية على طبيعتهم وعادتهم، وهو زيادة في الإغراب والتعمية حتى لا يعرفوه. قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، أي: اشرح لي معنى الإسلام. [50] قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا: ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام التي لا بد منها، والتي إن تحققت ووجدت تحقق الإسلام، وما زاد عليها من الأمور الأخرى فهي مكملات، فالرسول صلى الله عليه وسلم اقتصر على بيان أركان الإسلام؛ لأن الجواب كلما كان مختصرا كان أسهل على المتعلم والسامع، وسهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 «قال: فأخبرني عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وشره، قال: صدقت» . [51]   عليه حفظه ووعيه، بينما لو طول الجواب تشعب على الحاضرين، وربما أن أكثرهم لا يستوعبه، فهذا دليل على أن المسئول ينبغي أن يتوخى الاختصار مهما استطاع، ويقتصر على الشيء الضروري، وإلا فالإسلام أكثر من ذلك، هذه أركانه ودعائمه التي يقوم عليها. قال: صدقت: هذه عجيبة ثانية. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه: فدل على أنه عالم، وأنه لا يسأل سؤال جاهل، وإنما يسأل وهو عالم بدليل أنه قال: صدقت، فدل على أنه عالم، فلماذا يسأل؟ ‍ [51] قال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، فذكر له صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان الستة بعدما ذكر له أركان الإسلام، والإسلام والإيمان إذا ذكرا جميعا فالإسلام معناه الأعمال الظاهرة، والإيمان هو الأعمال الباطنة، أعمال القلوب، وما يقوم به من التصديق والعلم، ولا بد من الإسلام والإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 «قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل» . [52] .   جميعا، الإسلام الأعمال الظاهرة، والإيمان الأعمال الباطنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام علانية، والإيمان في القلب» ، فإن ذكرا جميعا صار لكل واحد معنى خاص به، وإذا ذكر واحد منهما دخل فيه الآخر، إذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان؛ لأنه لا يصح إسلام بدون إيمان، ولا يصح إيمان بدون إسلام، لا بد من الاثنين، فهما متلازمان، ولهذا يقولون: إن الإسلام والإيمان من الأسماء التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا انفردت اجتمعت، أي: يدخل بعضها في بعض لأنهما متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر. فسأله عن الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، وبين له صلى الله عليه وسلم أركان كل من الإسلام والإيمان. [52] قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله، سبق أن المحسن هو من يعبد الله على المشاهدة واليقين كأنه يرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الله، أو يعبده على المراقبة، وهو يعلم أن الله يراه فيحسن العمل؛ لأن الله مطلع عليه، فالمحسن يعبد الله إما على المشاهدة في القلب، وهذا أكمل، وإما على المراقبة، وأن يعلم أن الله يراه في أي مكان، أو في أي عمل يعمله، هذا هو الإحسان. قال: صدقت، فأخبرني عن الساعة، أي: عن قيام الساعة متى؟ ولما كان هذا السؤال لا يعلم أحد الجواب عنه إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأن قيام الساعة لا يعلم تحديده إلا الله عز وجل. نحن نعلم أنها ستقوم الساعة لا نشك في هذا، من شك في هذا فهو كافر، نعلم أنها ستقوم الساعة ولا بد، ولكن الوقت الذي تقوم فيه الساعة الله عز وجل لم يخبرنا عنه، ولم يبينه لنا، واستأثر بعلمه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] ، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] ، هو الذي يعلمها سبحانه، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] ، ومنها وقت قيام الساعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 «قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا، قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأمة ربتها» . [53]   «قال صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ، أي: أنا وأنت سواء لا نعلم متى تقوم الساعة، الله جل وعلا لم يطلع على هذا لا الملائكة، ولا الرسل، ولا أحدا، بل استأثر بعلمها سبحانه وتعالى. [53] قال: أخبرني عن أماراتها: الأمارات جمع أمارة، وهي العلامة، أما الإمارة بالكسر فهي الولاية. أخبرني عن أماراتها، أي: العلامات التي تدل على قرب قيامها، نعم الساعة لها أمارات، وقد بينها الله سبحانه وتعالى، منها أمارات صغيرة، ومنها علامات كبيرة، ومنها متوسطة، ومنها علامات مقاربة للساعة تكون عند قيام الساعة، تكون قريبا من قيامها، أما العلامات الأخرى فإنها متقدمة، العلماء يقولون: علامات الساعة على ثلاثة أنواع: هي علامات صغيرة ومتقدمة، وعلامات متوسطة، وعلامات كبيرة. العلامات الصغيرة والعلامات المتوسطة كلها حصلت أو حصل معظمها، أما العلامات الكبار ظهور الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وخروج الدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، فهذه تكون عند قيام الساعة وتتتابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 «وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان» . [54]   قال: أخبرني عن أماراتها: ولما كانت أماراتها معلومة أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " «أن تلد الأمة ربتها» " هذا من علامات الساعة، الأمة هي المملوكة، وربتها سيدتها. [54] قال الشراح: معناه والله أعلم أنه في آخر الزمان يكثر التسري، يعني يكثر وطء الإماء - أي: المملوكات - فيلدن بنات، تكون بنتها حرة، وتكون سيدة لأمها ومالكة لها، وقيل: معناه أنه يكثر العقوق، فتكون البنت كأنها سيدة لأمها. وأن ترى الحفاة: هذه علامة ثانية. الحفاة: الذين ليس لهم نعال من الفقر والفاقة. العراة: الذين ليس لهم لباس. العالة: الفقراء. رعاء الشاء: جمع راعٍ، الذين يرعون الأغنام، هؤلاء كانوا في الأصل في البراري في بيوت ينتقلون من محل إلى آخر، وفي آخر الزمان يستوطنون في المدن، ويبنون القصور والعمارات الشاهقة، هذا من علامات الساعة، إذا تحولت البادية إلى حاضرة، وصاروا يتطاولون في المباني، ويتباهون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 «قَالَ: فَمَضَى، فَلَبِثْنَا مَلِيَّا، فَقَالَ: يَا عُمَرُ أتدري من السائل؟ قلت: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يعلمكم أمر دينكم» . [55]   بها وينمقونها، وهم ليس من عادتهم، يتحولون إلى أغنياء، إلى أصحاب ثروة وأصحاب مظاهر، هذه من علامات الساعة. وكما تعلمون فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، كما تعلمون الآن كيف حال الناس، لقد تغيرت الأحوال وتحول الفقراء إلى أغنياء أصحاب ثروات، وتحضرت البادية وبنوا وتطاولوا في البنيان، وهذا مصداق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. [55] قال: ثم خرج ولبثنا مليا: يعني وقتا قصيرا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟ أو أتدرون من السائل؟ وفي رواية «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: علي بالرجل، فطلبوه فلم يقدروا عليه» . قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم: هذا الذي دخل وسأل هذه الأسئلة هو جبريل عليه السلام، وجاء في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 صورة رجل كما وصف لغرض تعليم الحاضرين أمور دينهم على طريق السؤال والجواب. فدل هذا الحديث على مسائل عظيمة: الأولى: أن الدين ينقسم إلى ثلاثة مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان، كل مرتبة أعلى من التي قبلها، وأن كل مرتبة لها أركان: أركان الإسلام، وأركان الإيمان والإحسان ركن واحد. الثانية: فيه التعليم بطريق السؤال والجواب، وهذه طريقة تعليمية ناجحة؛ لأنها أدعى للانتباه وتلقي العلم، كونه يسأل ويتهيأ ذهنه يتطلب الجواب، ثم يلقي عليه الجواب وهو يتطلع إليه، يكون هذا أثبت. الثالثة: في الحديث دليل على أن من سأل عن علم وهو لا يدري أن يقول: الله ورسوله أعلم، يكل العلم إلى عالمه، فلا يتكلم بالجواب وهو لا يعرفه ويتخرص، هذا لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولما قال للصحابة: أتدرون من السائل؟ وهم لا يعرفونه قالوا: الله ورسوله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فدل ذلك على أن مسائل الشرع ومسائل الدين لا يجوز التخرص فيها؛ لأن هذا من التكلف، ولكن من كان عنده علم فإنه يجيب، ومن ليس عنده علم يقول: الله أعلم، ومن قال: لا أدري فقد أجاب. قد سئل الإمام مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فأجاب عن ست منها، وقال في الباقية: لا أدري، فقال له السائل: أنا جئت من كذا وكذا، وسافرت وأتعبت راحلتي، وتقول: لا أدري، قال: اركب راحلتك، واذهب إلى البلد الذي جئت منه، وقل: سألت مالكا فقال: لا أدري، هذا ليس عيبا أن الإنسان إذا كان لا يعرف الجواب في الأمور الشرعية أنه يقول: لا أدري ولو كان عالما، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل في بعض الأسئلة ولم يكن عنده وحي من الله عز وجل، انتظر حتى ينزل الوحي من الله عز وجل، ألستم تقرءون: يسألونك عن كذا، يسألونك عن كذا، قل كذا؟ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل ولم يكن عنده جواب ينتظر حتى ينزل عليه الوحي من الله، وكذلك غيره من باب أولى ينتظر حتى يسأل غيره، أو غيره يبحث عن المسألة في كتب أهل العلم ليتحصل على جواب، أما أن يستعجل فهذا فيه خطورة عظيمة، وفيه سوء أدب مع الله عز وجل؛ لأن الذي يجيب يجيب عن شرع الله، يقول: الله أحل كذا أو حرم كذا أو شرع كذا، فالأمر فيه خطورة جدا. المسألة الرابعة: في الحديث دليل على آداب المتعلم، جبريل وهو سيد الملائكة يجلس بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يسند ركبتيه إلى ركبتي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويضع يديه على فخذيه، يسأل بأدب، هذا من أجل أن يعلم الناس كيف يتأدبون مع العلماء. هذا بعض ما يدل عليه الحديث وفيه: مسألة خامسة: وهي بيان بعض علامات الساعة، ذكر علامتين: أن تلد الأمة ربتها، وبعض العلماء يقول: معنى أن تلد الأمة ربتها أنه يكثر العقوق في آخر الزمان حتى تصبح البنت كأنها سيدة على والدتها، تأمرها وتنهاها وتغلظ عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الأصل الثالث: معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اسمه ونسبه ونشأته الأَصْلُ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلم. [56]   [56] قوله: الأصل الثالث: أي من الأصول الثلاثة؛ لأن الشيخ رحمه الله ذكر في أول الرسالة أنه يجب على كل مسلم ومسلمة معرفة هذه الأصول الثلاثة، وهي معرفة الله، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالأدلة. أما الأصل الأول والثاني: فقد تقدم شرحهما وبيان أدلتهما. الأصل الثالث: وهو معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه ورسالته وجب معرفته عليه الصلاة والسلام، وإلا كيف تتبع شخصا لا تعرفه؟ فلا بد أن تعرفه من حيث الاسم، ومن حيث البلد الذي ولد ونشأ فيه، والبلد الذي هاجر إليه، وتعرف مدة عمره عليه الصلاة والسلام. وأقسام عمره عليه الصلاة والسلام، وأقسام المدة التي أقامها في هذه الدنيا، تعرفها أيضا قبل النبوة وبعدها، وقبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المطلب بن هاشم مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ وَعَلَى نبينا أفضل الصلاة والسلام. [57]   الهجرة وبعد الهجرة، تعرف كيف ابتدئ بالوحي عليه الصلاة والسلام، ومتى ابتدئ بالوحي، وما هي الآية التي تدل على نبوته، والآية التي تدل رسالته، تأتي بالآيات التي تدل على نبوته، والآيات التي تدل على إرساله، فلا بد أن تعرف هذا، تعرف نسبه من أي قبيلة؛ لأن العرب قبائل، وهو عربي بلا شك، فلا بد من معرفة هذه الأشياء عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تدرس الآيات والأحاديث المتعلقة بهذه المسائل، وتنظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته؛ لأجل أن تعرف هذه الأمور عن نبيك الذي أنت مأمور باتباعه، والاقتداء به. [57] هذا اسمه ونسبه، اسمه محمد عليه الصلاة والسلام، وله أسماء غير محمد، لكن أشهر أسمائه محمد قد ذكر الله ذلك في القرآن في عدة آيات: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] ، وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] ، وقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 [الأحزاب: 40] ، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 2] ، فذكر الله اسمه محمدا في عدة آيات. ومن أسمائه أحمد، قد ذكره الله في قوله في بشارة المسيح عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ، فهو محمد وأحمد، ومعنى ذلك أنه كثير المحامد عليه الصلاة والسلام، وكثير الصفات التي يحمد عليها، ومن أسمائه نبي الرحمة، ونبي الملحمة -يعني الجهاد في سبيل الله-، والحاشر، والعاقب عليه الصلاة السلام الذي يحشر الناس بعد بعثته؛ لأنه آخر الرسل صلى الله عليه وسلم، فليس بعده إلا قيام الساعة، فبعد رسالته تقوم الساعة، ويحشر الناس للجزاء والحساب، ومن أراد أن يلم بهذه الأمور فليرجع إلى كتاب " جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام " للإمام ابن القيم رحمه الله. وأما نسبه فهو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وهو من قبيلة قريش التي هي أشرف القبائل، وقريش من ذرية إسماعيل عليه الصلاة والسلام، والعرب على قسمين في المشهور: العرب العاربة، وهم القحطانية والعرب المستعربة، وهم العدنانية من ذرية إسماعيل عليه السلام بن إبراهيم الخليل عليه السلام، سموا بالمستعربة لأنهم تعلموا العربية من العرب العاربة لما جاءت جرهم، ونزلوا في مكة عند هاجر أم إسماعيل وابنها إسماعيل وهو صغير لما وجدوا ماء زمزم نزلوا، واصطلحوا مع هاجر أن ينزلوا عندها، وأن تسمح لهم أن يستقوا من الماء، فإسماعيل عليه السلام كان رضيعا في ذلك الوقت، ثم إنه تربى ونشأ وأخذ العربية عن جرهم وهي من العرب العاربة، وتزوج من جرهم، وجاءه ذرية تعلموا العربية ونشئوا مع العرب، فصاروا عربا مستعربة وهي العدنانية، أما العاربة فهم القحطانية أصلها من اليمن. وبعض العلماء يقول: العرب العاربة على قسمين: عرب بائدة، وعرب باقية، العرب البائدة هم الذين هلكوا، وهم قوم نوح وعاد وثمود وشعيب، أما العرب الباقية فهم الذين ينقسمون إلى عرب عاربة، وعرب مستعربة وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 العرب الباقية، والنبي من بني هاشم، وهاشم من ذرية إسماعيل عليه الصلاة والسلام، واسمه مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وعبد المطلب ليس هذا اسمه، اسمه شيبة، ولكن سمي عبد المطلب لأن عمه المطلب بن عبد مناف جاء به من المدينة وهو صغير من أخواله بني النجار، فلما رآه الناس أسود من السفر ظنوا أنه عبد مملوك للمطلب، فقالوا: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وعبد مناف له أربعة أولاد: هاشم جد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمطلب، وعبد شمس، ونوفل. بنو هاشم يقال لهم: الهاشميون، وبنو المطلب يقال لهم: المطلبيون، وأما عبد شمس فمنهم عثمان رضي الله عنه ومنهم بنو أمية، هؤلاء من بني عبد شمس. ونوفل كذلك له ذرية منهم: جبير بن مطعم وحكيم بن حزام، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام له إسماعيل وهو الأكبر، وهو جد العرب العدنانية، وإسحاق وهو جد بني إسرائيل، وجميع الأنبياء كلهم من ذرية إسحاق إلا نبينا عليه الصلاة والسلام فهو من ذرية إسماعيل خاتم النبيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أما مولده فقد ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وهو العام الذي جاء فيه أبرهة ملك اليمن، انتدبه ملك الحبشة ليهدم الكعبة ومعه فيه فيل عظيم، فلما وصل إلى مكان يقال له: المغمس، ولم يبق إلا أن يدخل مكة ويهدم الكعبة، وتفرق أهل مكة وصعدوا الجبال؛ لأنهم لا طاقة لهم به، فأراد أن يتوجه إلى الكعبة، فانحبس الفيل وأبى أن يقوم من الأرض، حبسه الله، فإذا وجهه إلى غير جهة مكة قام وهرول، وإذا وجهه إلى جهة مكة انحبس ولم يستطع المشي، وبينما هم كذلك رأوا فرقان طير من قبل البحر معها حجارة، كل طائر معه حجران: حجر في منقاره وحجر في رجليه، فرمتهم فصارت الحصاة تضرب هامة الرجل، فتخرج من دبره وتشقه نصفين، فأهلكهم الله عز وجل، فأنزل الله في ذلك يذكر قريشا سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} من جهنم والعياذ بالله {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل] ، أصبحوا مثل التبن الذي أكلته الدواب وراثته. هذه قصة الفيل، حمى الله بيته الحرام، وأهلك هذا الجبار، وفي هذا العام ولد محمد صلى الله عليه وسلم، وظهر مع ولادته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وله من العمر ثلاث وستون سنة، أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيا رسولا، نبئ بـ ( {اقْرَأْ} ) . [58]   آيات، حيث ظهر معه نور أشرقت له قصور الشام، وفي ليلة ولادته ارتجت الأصنام، وارتج إيوان كسرى وسقطت منه شرفات في ليلة ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، هذه إرهاصات لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، والجن والشياطين حصل عندهم ضجة في الليلة العظيمة. ولد في مكان يقال له: شعب على مقربة من الكعبة، ولد في مكة، لكن لا يوجد تحديد ثابت لموضع الدار. [58] فهو ولد في مكة صلى الله عليه وسلم، واسترضع في بني سعد عند حليمة السعدية، ومات عبد الله أبوه وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه بعد ولاته بقليل، فحضنته أم أيمن الحبشية التي ورثها عن أبيه، وصار في كفالة جده عبد المطلب، ثم مات عبد المطلب وانتقلت كفالته إلى عمه أبي طالب، وعاش صلى الله عليه وسلم أربعين سنة قبل النبوة معروفا بالأمانة والصدق والكرم، وتجنب عبادة الأصنام، وتجنب شرب الخمر، ما كان يعمل ما يعمله أهل الجاهلية، بل كان عليه الصلاة والسلام يخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 إلى غار حراء ويتعبد فيه الأيام ذات العدد، يعبد الله على ملة إبراهيم على التوحيد، ثم لما بلغ الأربعين من عمره عليه الصلاة والسلام نزل عليه الوحي، بأن «جاءه جبريل وهو في غار حراء وقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ - أي: لا أحسن القراءة -، فضمه ضمة شديدة، ثم أرسله وقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، ثم ضمه مرة ثانية، ثم أرسله وقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} » [العلق 1 ـ 2] . هذه هي نبوته صلى الله عليه وسلم، نبأه الله باقرأ: أي جعله نبيا بذلك، ثم ذهب إلى بيته يرتجف من الخوف؛ لأنه لقي شيئا ما كان يعرفه من قبل، أمرا هائلا، فوجد زوجه خديجة رضي الله عنها فغطته وهدأته، وقالت له: كلا والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، فوطأته وذهبت به إلى عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تحنث وقرأ في الكتب السابقة تعبدا لله عز وجل، فلما أخبره بما رأى قال: هذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى، يعني: جبريل عليه الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 نزول الوحي عليه وأرسل بـ " المدثر "، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7] . [59]   [59] ثم نزل عليه قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} هذا هو الإرسال وهذا معنى قول الشيخ: نبأه باقرأ وأرسله بالمدثر. والفرق بين النبي والرسول أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وتوضيح ذلك أن الرسول تنزل عليه شريعة وكتاب فهو نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر على رأس الأربعين، وكذلك الأنبياء، والنبي يبعث بشرع من قبله، وكتاب من قبله، ويوفى إليه ببعض المسائل كأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى، والمدثر معناه الملتحف لأنه صلى الله عليه وسلم أصابه شيء من الفزع، فقال: دثروني دثروني - أي: غطوني - فأنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظمه {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أي: طهر أعمالك من الشرك، فالأعمال تسمى الثياب، قال الله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [سورة الأعراف: 26] ، سمى التقوى لباسا. والرجز: الرجز معناه الأصنام. فاهجر: أي: اتركها وابتعد عنها. فبعثه الله على رأس الأربعين، وبقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام، وحصلت مداولات بينه وبين المشركين، حصل عليه أذى وعلى من آمن به واتبعه، وحصلت مضايقات من المشركين في خلال ثلاث عشرة سنة، وقبل الهجرة بثلاث سنوات أسري به إلى بيت المقدس وعرج بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ فصلى بمكة ثلاث سنين، ثم تآمرت قريش على قتله وعلى الفتك به، فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة فهاجر إلى المدينة، بعدما التقى بالأنصار في بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية. هاجر إلى المدينة وأقام بها عشر سنوات، فالمجموع ثلاث وعشرون سنة، بعد النبوة عاش صلى الله عليه وسلم ثلاثا وعشرين سنة، ثلاث عشرة في مكة يؤسس دعوة التوحيد، وعشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 سنوات في المدينة، ثم توفاه الله على رأس الثالثة والستين من عمره عليه الصلاة والسلام، فمدة عمره في الرسالة ثلاثة وعشرون سنة، وهذه البركة التي أنزلها الله عز وجل عليه وهذا العلم الغزير، وهذا الجهاد، وهذا التمكين في هذه المدة الوجيزة ثلاث وعشرين سنة، هذا من آيات الله سبحانه وتعالى، ومن بركات هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وبركات دعوته، وبركات الوحي الذي أنزل إليه، وقبل هذا كله بإعانة الله عز وجل، وهو الذي أعانه، وهو الذي حماه وأيده ونصره حتى بلغت دعوته المشارق والمغارب، والحمد لله رب العالمين. قوله: بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد: هذه دعوته صلى الله عليه وسلم: النذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد، وهذا الذي يجب أن يسير عليه الدعاة في دعوتهم، أن يركزوا على الإنذار عن الشرك، والدعوة إلى التوحيد قبل كل شيء، وإلا لم تكن دعوتهم على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم. الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالنذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد، فلا بد من تأصيل هذا الشيء أولا، ثم بعد ذلك يتجه إلى بقية الأمور؛ لأنها لا تصلح الأمور إلا بوجود التوحيد، لو أن الناس تركوا الزنا والخمر والسرقة واتصفوا بكل فضيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 مدة الدعوة في مكة أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التوحيد. [60]   من الأعمال والأخلاق، لكنهم لم يتركوا الشرك، فلا فائدة من هذه الأمور ولا تنفعهم، بينما لو سلم الإنسان من الشرك وعنده كبائر دون الشرك فهو مرجو أن يغفر الله له، أو يعذب بقدر ذنوبه، ولكن مآله إلى الجنة لأنه موحد. فالتوحيد هو الأصل والأساس، ولا نجاة إلا بوجود التوحيد أولا، ولذلك يجب التركيز عليه، والعناية به دائما وأبدا، ودعوة الناس إليه وتعليم الناس إياه، وأن يبين لهم التوحيد ما معنى التوحيد، وما معنى الشرك، لا بد أن يعرف المسلم هذا الأمر ويتحقق منه، ويتفقد نفسه حتى لا يقع في شيء من الشرك أو يخل بالتوحيد، فلا بد من هذا الأمر، ولا بد أن تقوم الدعوة على هذا الأساس. [60] قوله: أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد: أي: أخذ على دعوة الناس إلى التوحيد والإنذار عن الشرك عشر سنين في مكة، وهو يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، والحكمة أن الله بعثه في مكة لأن مكة هي أم القرى التي ترجع إليها القرى، والله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 جل وعلا يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [سورة القصص: 59] ، والأم هي المرجع الذي يرجع إليه، الأصل الذي يرجع إليه، هذا هو الأم، قوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [سورة آل عمران: 7] ، أي: الأصل الذي ترد إليه الآيات المتشابهات. كذلك مكة شرفها الله، هي الأصل الذي يرجع إليه أهل الأرض، والمسلمون في أقطار الأرض يرجعون إلى مكة، فهي أم القرى بمعنى هي المرجع، ولذلك بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم من مكة لأنها أم القرى، ومكث فيها ثلاث عشرة سنة، ينهى أهل مكة عن الشرك ويأمرهم بالتوحيد؛ لأن أهل مكة هم القدوة لغيرهم، ولهذا يجب أن تبقى مكة إلى قيام الساعة دارا للتوحيد ومنارا للدعوة إلى الله، وأن يبعد عنها كل ما يخالف ذلك، يبعد عنها الشرك والبدع والخرافات؛ لأن الناس ينظرون إليها دائما وأبدا، ما يفعل فيها ينتشر في العالم، فإن كان ما يفعل فيها خيرا انتشر الخير، وإن كان على عكس ذلك انتشر الشر. فيجب أن تطهر مكة دائما وأبدا، ولهذا يقول جل وعلا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الإسراء والمعراج وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثَلاثَ سنين. [61]   {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] ، فيجب أن تطهر مكة من كل ما يخالف الإسلام حتى يصدر منها الدين والدعوة إلى مشارق الأرض ومغاربها؛ لأن الله بعث نبيه فيها، وبدأ دعوته فيها عليه الصلاة والسلام، مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، منها عشر يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك، ولم يؤمر بشيء غير ذلك، لم يؤمر بصلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج، بل كانت دعوته مقتصرة على التحذير من الشرك والأمر بالتوحيد، يقول لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وهم يقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] . [61] قوله رحمه الله: وبعد العشر عرج به إلى السماء: بقي صلى الله عليه وسلم عشر سنين على هذا ينهى عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، يؤسس هذا الأساس، ثم في السنة الحادية عشرة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ، «بينما هو صلى الله عليه وسلم نائم في بيت» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 «أم هانئ جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام ومعه دابة يقال لها: البراق، أقل من البغل وفوق الحمار، ويقع خطوه عند مد بصره، فأركبه عليه السلام عليها وذهب به إلى بيت المقدس في الليل» . أسرى: من السرى وهو السير بالليل، وهذا من خواصه صلى الله عليه وسلم ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام، فالتقى هناك مع الأنبياء في بيت المقدس، ثم إنه صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء، يعني رفع من بيت المقدس إلى السماء بصحبة جبريل، ومعنى العروج الصعود، فأسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به من بيت المقدس إلى السماء، يعني صعد به جبريل عليه السلام ومر بأهل السماوات، كل سماء يستفتح جبريل فيفتح له، ثم انتهى إلى السماء السابعة، ثم صعد فوق السماوات إلى سدرة المنتهى، وعندها كلمه الله عز وجل من وحيه بما شاء، ففرض عليه الصلوات الخمس، فرضها في اليوم والليلة خمسين صلاة، ولكن موسى عليه السلام أشار على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن يسأل ربه التخفيف، فإن أمته لا تطيق خمسين صلاة في اليوم والليلة، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه يسأله التخفيف حتى انتهت إلى خمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فقال الله عز وجل كما في حديث الإسراء والمعراج: «أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزي الحسنة عشرا» وفي رواية أنس عن أبي ذر فقال: «هي خمس وهي خمسون» أي: خمس في العمل، وخمسون في الميزان. خمس صلوات في اليوم والليلة تعادل خمسين صلاة في الميزان؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فالصلاة الواحدة عن عشر صلوات، فالإسراء ذُكر أول سورة سبحان، سورة بني إسرائيل، والمعراج ذكر أول سورة النجم. {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13 - 18] هذا في المعراج. ثم إنه نزل من السماء إلى بيت المقدس ثم إنه رجع إلى مكة في ليلته، فلما أصبح وأخبر الناس بذلك، المؤمنون زاد إيمانهم، وأما الكفار فزاد شرهم، وفرحوا بهذا وراحوا يشهرون به، كيف يزعم صاحبكم أنه ذهب إلى بيت المقدس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ورجع منه في ليلة واحدة، ونحن نضرب أكباد الإبل إليها شهرا ذهابا، وشهرا إيابا، يقيسون قدرة الخالق بقدرة المخلوق، فكان الإسراء والمعراج امتحانا من الله عز وجل للناس. المشركون زاد تندرهم وشرهم وتنقصهم للرسول صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون زاد إيمانهم. فلهذا لما قال المشركون لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: انظر إلى صاحبك ماذا قال؟ قال: وماذا قال؟ قالوا: يزعم أنه ذهب به إلى بيت المقدس وَعُرِجَ به إلى السماء، وإنه جاء في ليلة واحدة. قال أبو بكر الصديق: إن كان قاله فهو كما قال. لقد صدق. قالوا: كيف ذلك؟ قال: أنا أصدقه في ما هو أعظم من ذلك، أنا أصدقه في خبر السماء ينزل عليه فكيف لا أصدقه في الإسراء إلى بيت المقدس. وهذا بقدرة الله عز وجل لا بقدرة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو بقدرة الله عز وجل وهذا من معجزات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كرامته عند ربه عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ولا بد من الاعتقادات بأنه صلى الله عليه وسلم أسري وعرج بروحه وجسمه معًا يقظة لا منامًا، لأن بعض الناس يقولون: أسرى بروحه، وأما جسده فلم يبرح مكة وإنما أسري وعرج بروحه وهذا كلام باطل، بل أنه أسري بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام وحمل على البراق، وكان ذلك يقظة لا منامًا إذ لو كان بروحه فقط أو كان منامًا فما الفرق بينه وبين الرؤيا، والله جل وعلا يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] . فالعبد يطلق على الروح والبدن جميعا لا يطلق على الروح وحدَها أنها عبد، ولا يطلق على البدن وحده أنه عبد، لا يطلق إلا على مجموع الروح والبدن، لم يقل: سبحان الذي أسرى بروح عبده، بل قال: أسرى بعبده، والعبد هو مجموع الروح والبدن، والله جل وعلا لا يعجزه شيء وهو القادر على كل شيء. قال رحمه الله: وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثلاث سنين. وكان يصليها ركعتين ركعتين فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أتمت الرباعية إلى أربع إلا الفجر فإنها تطول فيها القراءة. فبقيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ركعتين كما هي، وإلا المغرب فإنه ثلاث من أول ما فرضت لأنها وتر النهار، أما الظهر والعصر والعشاء وكانت في مكة ركعتين ركعتين فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أتمت أربع ركعات. كما في الحديث: «أول ما فرضت الصلاة ركعتين فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أتمت صلاة الحضر وبقيت صلاة السفر» هذا بإجماع أهل العلم، أن الصلاة فرضت بمكة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بمكة، لكن اختلفوا هل هي فرضت قبل الهجرة بثلاث سنين؟ هذا هو الراجح، كما ذكر الشيخ هنا، وقيل: قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: قبل الهجرة بسنة واحدة، وقيل: بسنة ونصف، لكن الراجح هو ما ذكره الشيخ أنها قبل الهجرة بثلاث سنين، وهل فرض مع الصلاة شيء آخر من أركان الإسلام؟ هذا محل خلاف بين العلماء، منهم من يرى أن الزكاة فرضت أيضا بمكة وإنما بينت أنصبتها ومقاديرها وأهل الزكاة في المدينة، أما أصل فرضيتها فهو في مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الهجرة إلى المدينة وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة. [62]   والدليل قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . والمراد بحقه هنا الزكاة، والسورة مكية كلها، وكذلك في قوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24 - 25] . أيضا السورة مكية، والمراد بالحق المعلوم: الزكاة، ففرض أصلها في مكة، لكن بينت تفاصيلها بالمدينة هذا قول. والقول الثاني: وهو الذي يظهر من كلام الشيخ هنا أن الزكاة إنما فرضت في المدينة، ولم يفرض في مكة غير الركن الأول وهو التوحيد، والركن الثاني، وهو الصلاة، هذا ظاهر كلام الشيخ. [62] قوله رحمه الله: وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة: لما اشتد أذى قريش وزاد شرهم بالصد عن سبيل الله ومضايقة المسلمين، وتعذيب من ليس له جماعة تحميه من مستضعفي المسلمين، أذن الله سبحانه وتعالى للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة، الهجرة الأولى؛ لأن فيها مَلِكًا لا يظلم أحد عنده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وكان نصرانيا ولكنه كان عادلا، هاجر منهم نفر كثير، فلما علمت قريش بهجرتهم إلى الحبشة، أرسلوا في طلبهم مندوبين من دهاة قريش أحدهما: عمرو بن العاص، ومعهما الهدايا للنجاشي، وقالوا: إن هؤلاء فروا منا وهم أقاربنا نريد أن يرجعوا وإنهم أشرار، لا يفسدون في بلدك. . . إلخ. وأعطوه الهدايا التي معهم ليغروه، ولكنه - رحمه الله - استدعى المهاجرين وسمع منهم، وخيرهم فاختاروا البقاء في الحبشة، فرجع المندوبان خائبين وبقي من بقي في الحبشة من المهاجرين. ثم إن الله مَنَّ على النجاشي فأسلم وَحَسُنَ إسلامه، فلما توفي صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه صلاة الغائب، فكان في هجرتهم إليه خير له أيضا هداه الله بسببهم فدخل في الإسلام. ثم لقي النبي صلى الله عليه وسلم نفرًا من الأنصار في منى في موسم الحج، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج، يذهب إلى منازل العرب في منى ويدعوهم إلى الله، وصادف أن لقي أناسًا من الأنصار فدعاهم إلى الله فعرض عليهم ما عنده، فقبلوا من الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته، وبايعوه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الإسلام، ورجعوا إلى قومهم من موسم الحج فدعوهم إلى الله عز وجل، فوافى في الموسم الذي بعده أكثر من الموسم الأول، جاء ناس من الأنصار وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية أي: عند جمرة العقبة، بايعوه على الإسلام، وعلى أن يناصروه إذا هاجر إليهم، وأن يحموه مما يحمون منه أنفسهم وأولادهم. فعند ذلك، أي: بعد هذه البيعة المباركة أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان في مكة من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، وهاجر من هاجر إلى المدينة، وبقي الرسول وبعض أصحابه، ثم إن الله أذن لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة. فلما علمت قريش بهجرة الصحابة إلى المدينة، وعلموا بالبيعة التي حصلت بينه وبين الأنصار، خافوا أن يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في المدينة، ويتكون له قوة، وتكون لهم منعة، ففي هذه الليلة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى الهجرة جاؤوا وحاصروا البيت، ووقفوا عند الباب معهم أسلحتهم يريدون الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن ينام على فراشه حتى يراه المشركون ويظنون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنام علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغطى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وَالْهِجْرَةُ: الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإسلام. [63]   بغطاء الرسول صلى الله عليه وسلم فصار المشركون ينتظرون خروجه على أنه الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم وهم لا يشعرون. أعمى الله بصائرهم عنه، وأخذ ترابا وذرَّه على رؤوسهم، وخرج من بينهم، وذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه، وخرجا فذهبا إلى غار ثور، فاختفيا فيه ثلاثة أيام، وقريش تطلب من الناس العثور عليه بأي وسيلة، حيا أو ميتا، فلما يئسوا من العثور عليه بعد البحث والتنقيب، أغروا بالجوائز من يأتي به صلى الله عليه وسلم حيا أو ميتا، فلما أيسوا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار، وركبوا الرواحل وذهبوا إلى المدينة. [63] الهجرة في اللغة: ترك الشيء. أما الهجرة في الشرع: فهي كما عرفها الشيخ: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وهذه هي الهجرة الشرعية، والهجرة عمل جليل قرنه الله بالجهاد في كثير من الآيات. لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاء المهاجرون الذين كانوا في الحبشة إلى المدينة واجتمع المسلمون في المدينة، والحمد لله، وتكونت للمسلمين دولة في المدينة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 المهاجرين والأنصار، ومن يسلم يأتي إليهم، عند ذلك شرع الله بقية شرائع الدين، ففرض على نبيه صلى الله عليه وسلم الصيام والزكاة في السنة الثانية من الهجرة، وفرض عليه الحج في السنة التاسعة من الهجرة على الصحيح، وبذلك تكاملت أركان الإسلام، أولها الشهادتان، وآخرها الحج إلى بيت الله الحرام. والحاصل من هذا أن نعلم أن التوحيد هو المهمة الأولى في الدعوة إلى الله عز وجل، وأنه يبدأ الداعية به قبل أن يبدأ بالصلاة والصيام أو الزكاة أو الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بقي عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الشرك، ولم يؤمر بصلاة، ولم يؤمر بزكاة ولا بحج ولا بصيام، وإنما فرضت عليه هذه الفرائض بعد أن تقرر التوحيد. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث الدعاة يأمرهم أن يدعو الناس أول ما يدعون إلى التوحيد كما في حديث معاذ: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمدًا رسول الله، فإن هم أجابوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات. . .» إلخ الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وَالْهِجْرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بلد الإِسْلامِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أن تقوم الساعة [64]   فدل على أنه لا يؤمر بالصلاة ولا الزكاة ولا بالصيام إلا بعد تحقيق التوحيد ووجود التوحيد، وأن من بدأ بغير التوحيد فإن دعوته فاشلة ومنهجه مخالف لمنهج الرسل كلهم عليهم السلام. الرسل كلهم أول ما يبدؤون به التوحيد وإصلاح العقيدة، وهذا منهج مهم معرفته للسالكين؛ لأنه كثر اليوم مَنْ يعكر على هذا المنهج فيغير هذا المنهج ويختار منهجًا لنفسه من عنده ومن عند غيره من الجهلة، لا بد من الرجوع إلى منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه فائدة معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وجعل ذلك من الأصول الثلاثة، تعرف كيف دعا الناس، وما منهجه صلى الله عليه وسلم في دعوتهم؟ حتى تسير عليه لأنه هو القدوة عليه الصلاة والسلام. [64] الهجرة قرينة الجهاد في سبيل الله، وهي فريضة باقية غير منسوخة، يجب على كل مسلم يحتاج إلى الهجرة أن يهاجر، ولا يجوز للمسلم أن يقيم في بلاد الكفر وهو لا يقدر على إظهار دينه، فيجب عليه أن يهاجر إلى بلاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 97 - 100] . [65] .   المسلمين فهي فريضة باقية لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تخرج الشمس من مغربها» . [65] هاتان الآياتان فيهما الوعيد على من ترك الهجرة وهو يقدر عليها، وأن مأواه جهنم وساءت مصيرا، وإن كان لا يخرج من الإسلام، لكن هذه من نصوص الوعيد، وإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وقوله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] . قال البغوي رحمه الله: سبب نزول هذه الآية في   ترك الهجرة فقد ترك واجبًا، وكان عاصيًا، ولكن لا يخرج من الإسلام بترك الهجرة، ولكن عليه وعيد شديد. ثم بين الله بالآية التي بعدها العذر الذي يسقط وجوب الهجرة، قال تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} يعني الأطفال {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} ، ما عندهم إمكانيات، {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} ، أي: ما يعرفون الطريق إلى البلد المدينة؛ لأن الهجرة تحتاج إلى سفر، وإلا فإن الإنسان يهلك خلال الهجرة إذا كان لا يعرف الطريق، فعذرهم في أمرين: الأول: لا يستطيعون حيلة. الثاني: ولا يهتدون سبيلا، حتى لو كان عندهم إمكانيات مادية، ولكنهم لا يعرفون الطريق الذي يسلكونه، من يدلهم هذا هو العذر الصحيح. أما الإنسان الذي عنده إمكانيات ويعرف الطريق فهذا لا عذر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 المُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ ولَمْ يُهَاجِرُوا، نَادَاهُمُ اللهُ باسم الإيمان. [66]   [66] هذه الآية من سورة العنكبوت، وفيها الأمر بالهجرة وأن أرض الله واسعة، إذا كنت في بلد لا تتمكن من إظهار دينك فيها، فهناك أرض الله واسعة، انتقل منها، لا تبقَ في هذه البقعة السيئة بل اخرج منها إلى أرض الله الواسعة، قد وسع الله الأرض سبحانه وتعالى، والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» . أما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» ظاهر هذا الحديث أن الهجرة انتهت بعد فتح مكة، وظن بعض الناس التعارض بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: ( «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» ) لكن أهل العلم أجابوا عن هذا الحديث، أن المراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 الاستقرار في المدينة ونزول باقي الشرائع وإكمال الدين فلما استقر بالمدينة أُمر بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ، مِثلِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ والحج والجهاد، والأذان، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ،أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سنين، وبعدها توفي صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَدِينُهُ بَاقٍ وَهَذَا دِينُهُ، لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ، وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ ويرضاه، والشر الذي حذر منه الشرك وجميع ما يكرهه اللهُ وَيَأْبَاهُ، بَعَثَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس.   لا هجرة بعد الفتح أي: من مكة، لأنها صارت بالفتح دار إسلام، يظنون أن الهجرة باقية من مكة بعد الفتح، فيريدون تحصيل ثواب الهجرة، وأما الهجرة من بلاد الكفر فهي باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل الآيات السابقة والحديث النبوي السابق، هذا هو الجواب على هذا الإشكال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [سورة الأعراف: 158] . [67] وأكمل اللهُ بِهِ الدِّينَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] . [68]   [67] هذا كما سبق بيانه أن الشريعة نزلت بالتدريج حتى تكاملت -ولله الحمد- قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وبعد نزول هذه الآية بمدة يسيرة توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودينه باق إلى أن تقوم الساعة. [68] فلم يتوف صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، وأنزل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] . نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف في عرفة في حجة الوداع من يوم الجمعة، وعاش بعدها صلى الله عليه وسلم مدة يسيرة وانتقل إلى الرفيق الأعلى، وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وفي هذه الآية شهادة من الله سبحانه وتعالى على كمال هذا الدين وشموله لمصالح العباد وحل قضاياهم ومشاكلهم إلى أن تقوم الساعة، وهو صالح لكل زمان ومكان لا يحتاجون بعده إلى شريعة أخرى، أو إلى كتاب ينزل أو إلى رسول يبعث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فما من قضية تجد وما نازلة تنزل إلى يوم القيامة إلا وفي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم حلها والحكم فيها، ولكن الشأن فيمن يحسن الاستنباط والاستدلال في الأحكام والقضايا، فإذا توفر أهل العلم وأهل الاجتهاد الذين تتوفر فيهم شروط الاجتهاد فإن هذه الشريعة كاملة وفيها حل المشاكل كلها، وإنما يحصل النقص من ناحيتنا نحن، من ناحية قصور العلم وعدم إدراك ما أنزل الله سبحانه وتعالى، أو من ناحية الهوى بأن يكون هناك هوى يصرف عن الحق، وإلا فهذا الدين صالح وشامل وكامل قد أغنى الله به الأمة الإسلامية إلى أن تقوم الساعة إذا ما عملت به حق العمل، ورجعت إليه في أمورها. قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الرد إلى الله هو الرد إلى كتاب الله، والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] فهذه الآية فيها رد على الذين يرمون الشريعة الإسلامية بالقصور أو النقص من الملاحدة والزنادقة أو أنصاف المتعلمين الذين قصرت أفهامهم عن إدراك أسرار هذه الشريعة، فنسبوا القصور إلى الشريعة ولم يعلموا أن القصور من عندهم هم، ففيها رد على من اتهم الشريعة بالنقص، وأنها لم تتناول حاجات العباد ومصالح العباد إلى أن تقوم الساعة، أو قال: إنها مخصوصة بالزمان الأول؛ لأن كثيرًا من الجهال إذا قيل لهم هذا الحكم الشرعي قالوا: هذا زمان الرسول والزمان الأول، أما الآن تغيرت الأحوال وتبدلت الأمور، والأحكام الشرعية هذه لأناس مضوا ولمشاكل انتهت، يقولون هذا وهذا كفر بالله عز وجل وتكذيب لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أكمل الله الدين لهذه الأمة إلى أن تقوم الساعة لكل زمان ولكل مكان ولكل جيل من الناس وفيها رد أيضا على المبتدعة الذين يحدثون عبادة من عند أنفسهم وينسبوها إلى الدين وليس لها دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإنما ابتدعوها باستحسانهم أو بتقليدهم لمن يحسنون به الظن من المخرفين وأصحاب المطامع والشهوات، فيحدثون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 في الدين عبادة ما أنزل الله بها من سلطان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وقال عليه الصلاة والسلام: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» . فالذي يحدث عبادات ليس لها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله فإنه متهم لهذا الدين بعدم التمام، وهو يريد أن يكمل الدين من عنده، ولا يعترف بتكميل الله له، فما لم يكن دينًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يكون من بعده دينًا أبدًا، فهذا رد على هذه الطوائف، الطائفة التي تقول: إن الإسلام لا يصلح لكل زمان، أو الذين يبتدعون البدع المحدثات التي ليس لها دليل من كتاب الله وسنة رسوله وينسبونها إلى الدين ففي هذه الآية رد عليهم لأن الدين أكمله الله سبحانه وتعالى. فلا مجال للزيادة فيه، ولا النقصان، ولا مجال للتشكيك والتلبيس بأنه لا يصلح لأهل الزمان المتأخر: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} هذا كلام الله سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وقال تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} هذا آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شهادة من رب العاملين لهذا الدين بالكمال والشمولية والصلاحية لكل زمان ومكان. فقوله تعالى خطاب لهذه الأمة من أولها إلى آخرها ليس خطابًا للجيل الأول فقط إنما هو خطاب لكل الأمة إلى أن تقوم الساعة. أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وفاته صلى الله عليه وسلم لم يخالف في هذا إلا المخرفون الذين يقولون: إن الرسول ما مات، وينفون الموت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا كلام ساقط كلام مردود واضح، يرده الحس والواقع، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي بين أصحابه وغسل وكفن وصلي عليه ودفن عليه الصلاة والسلام، هل هذه الأعمال تعمل مع إنسان حي؟ ! عومل صلى الله عليه وسلم معاملة الأموات غسل وكفن وصلي عليه ثم دفن صلى الله عليه وسلم في قبره. هذه سنة الله عز وجل في خلقه، ثم أين الرسل الذين من قبله؟ سنته سنة الرسل الذين من قبله وقد ماتوا وهو واحد منهم يموت، هذا بإجماع أهل السنة والجماعة ولم يخالف في هذا إلا المخرفون الذين يتعلقون على الرسول صلى الله عليه وسلم ويستغيثون به من دون الله ويقولون: هو حي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [سورة الزمر: 30 - 31] [69] .   [69] النبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة توفاه إليه كما هي سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] والأنبياء والرسل داخلون في هذا العموم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فالنبي صلى الله عليه وسلم قد توفي وانتقل من هذه الدنيا إلى ربه عز وجل، وهذا ثابت بالنص والإجماع والقياس، أما النص ففي قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} هذا إخبار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه سوف يموت {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي: تموت فيقال للذي يموت، هذا ميِّت، وأما الذي توفي بالفعل يقال له: ميْت بالتخفيف لقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] الميْت هو الذي فارقت روحه جسده أما، الْمَيِّت فهو الذي سيموت في المستقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 خاتمة الإيمان بالبعث والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] . [70]   [70] انتقل إلى أصل آخر وهو الإيمان بالبعث، أي: أنه ليس المراد موت فقط، نحن علمنا وكل يعلم حتى الكفار والملاحدة والزنادقة، كلهم يعلمون أنه لا بد من الموت، لا أحد ينكر الموت لأنه شيء محسوس، لكن الشأن في البعث بعد الموت، هذا هو محل النزاع بين المؤمنين والكفار، البعث بعد الموت، وهو إعادة الأجسام التي تفتت وصارت رميما وترابا وتفرقت في الأرض، تعاد وتبنى كما كانت؛ لأن القادر على إنشائها أول مرة قادر على إعادتها، ثم تنفخ فيها الأرواح ثم تتحرك وتسير من القبور إلى المحشر لقوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] . وقال تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي} [القمر: 7، 8] لا أحد يتخلف، فهذا البعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [سورة نوح: 17 - 18] . [71]   حق لا ريب فيه، ومن أنكره فهو كافر بالله عز وجل، والإيمان بالبعث هو أحد الأركان الستة للإيمان التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» فمن لم يؤمن بالبعث واليوم الآخر فإنه يكون كافرًا بالله عز وجل ولو شهد بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولو صلى وصام وحج وزكى وفعل الطاعات، فإذا أنكر البعث أو شك فيه فإنه يكون كافرًا بالله عز وجل. وأدلة البعث كثيرة منها قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] . يعني الأرض حينما خلق آدم عليه السلام أبا البشرية {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} يعني بعد الموت في القبور {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} هذا هو البعث. فهذه الآية تضمنت البدء والإعادة: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . [71] {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} حينما خلق منها آدم عليه السلام، {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} أي: بالموت والقبور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} هذا هو البعث، يخرجون من القبور ويسيرون إلى المحشر، قال تعالى: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25] أي تحيون على ظهرها، وفيها تموتون ومنها تخرجون للبعث يوم القيامة. هذه أدلة من القرآن على البعث، أيضا دليل عقلي من القرآن نفسه وهو أن الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة من باب أولى، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] الذي قدر على إيجاد الناس من عدم قادر على إعادتهم بعد الموت من باب أولى، هذا دليل سمعي عقلي. ومن الأدلة على البعث ما يحصل للأرض من الحياة بالنبات، أنت ترى الأرض ميتة ليس فيها نبات جرداء، ثم إن الله سبحانه وتعالى ينزل عليه المطر، ثم ينبت النبات الذي كان هشيما ميتا، كذلك الأجسام في الأرض كانت مخزنة في الأرض فينزل الله عليها مطرًا، ثم تنبت الأجسام وتتكامل، ثم تنفخ فيها الأرواح، فأنتم ترون الأرض كيف تكون قاحلة، ثم تحيا بما نبت فيها، الله جل وعلا هو الذي يحيي الأرض بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 موتها: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] فالذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأجسام بعد موتها لأن الكل أحياء بعد الموت. ومن الأدلة على البعث أنه لو لم يكن هناك بعث للزم أن يكون خلق الناس عبثا حيث إنهم يعيشون منهم المطيع المتقي المؤمن بالله ورسله، ومنهم الكافر الملحد والزنديق والجبار والمتكبر والعاصي، كلهم يعيشون ثم يموتون دون أن ينال هذا المؤمن شيئًا من جزائه أو ينال هذا الكافر وهذا الزنديق وهذا الملحد وهذا الطاغية المتجبر على الناس دون أن ينال جزاءه. فهل يليق بالله أن يترك الناس هكذا دون أن يجازي أهل الإيمان بإيمانهم، وأهل الإحسان بإحسانهم، وأهل الإجرام والكفر بإجرامهم وكفرهم؟ هذا لا يليق بحكمة الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31] هذا لا يكون إلا في يوم القيامة وكذلك في قوله سبحانه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] . وقال سبحانه وتعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] وقال سبحانه وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36- 40] ورد على الكافر الذي قال: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} بقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 78- 80] الذي قدر على إخراج النار المحرقة من الشجر الأخضر الرطب الذي قدر على هذا ألا يقدر على إحياء الأموات. ومن أدلة البعث الاستدلال بخلق السماوات والأرض فالذي خلق هذه المخلوقات الهائلة العظيمة الكبيرة قادر على أن يعيد الإنسان؛ لأن القادر على الشيء العظيم يقدر على ما دونه من باب أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الحساب والميزان وبعد البعث محاسبون ومجزون بِأَعْمَالِهِمْ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [سورة النجم: 31] . [72]   قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81] . وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] . فهذه أدلة البعث التي تثبت أن الله سبحانه وتعالى يبعث من في القبور، وأنه يجازي كل عامل بعمله إن خيرًا فخير وإن شرا فشر، فليكفر الكافر وليفسق الفاسق والزنديق والملحد فإن أمامه البعث والنشور والجزاء والحساب، أما المؤمن المتقي الذي يعبد الله ويتقرب إلى الله فإن عمله لن يضيع، فإن هناك موعدًا يوفيه الله فيه عمله ويضاعف له أجره ويعطيه ما لم يقع في ظنه وحسبانه. [72] من أعمال يوم القيامة، الحساب والميزان، الحساب بمعنى مناقشة أهل المعاصي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فالمسلمون على أقسام يوم القيامة: القسم الأول منهم: من لا يحاسب ويدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب كما في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب. القسم الثاني من الناس: من يحاسب حسابًا يسيرًا وهو العرض فقط، لا يحاسب حساب مناقشة وإنما يحاسب حساب عرض فقط، وهذا أيضا من السعداء، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7 - 9] . القسم الثالث: من يحاسب حساب مناقشة وهذا تحت الخطر لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب» . أما الكفار فقد اختلف العلماء فيهم هل يحاسبون أو لا يحاسبون، فمن العلماء من يقول: إن الكفار لا يحاسبون لأنهم ليس لهم حسنات وإنما يذهب بهم إلى النار لأنهم ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] . [73]   لهم حسنات، ومن العلماء من يقول: إنهم يحاسبون حساب تقرير، أي بأعمالهم وكفرهم وإلحادهم، ثم يذهب بهم إلى النار. والميزان: معناه الآلة التي توزن بها أعمال العباد توضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [المؤمنون102- 103] فإذا ثقلت السيئات خسر الإنسان وإذا ثقلت الحسنات ربح الإنسان. هذا الميزان ميزان الأعمال، كذلك من أوتي كتابه بيمينه فحسابه يسير، ومن أوتي كتابه بشماله فحسابه عسير، وسيرى الأهوال والأخطار جسيمة، ومن خطر إلى خطر في مواقف القيامة والحساب والحشر، هذه أمور هائلة لو فكرنا فيها. [73] قوله: من كذب بالبعث كفر: لأنه جحد ركنًا من أركان الإيمان، ولأنه مكذب لله ولرسله ولكتبه؛ لأن الله جل وعلا أخبر عن البعث، والرسل أخبرت عن البعث، والكتب أخبرت عن البعث، فمن أنكره فهو كافر والدليل قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الزعم هو الكذب، {أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} فدلت الآية على أن إنكار البعث كفر، يقولون ليس بعد الموت بعث، المشركون وعبدة الأصنام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجادلون بالبعث: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 11- 12] وقالوا: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] . ومن مجادلتهم: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 35، 36] إلى غير ذلك من مقالات الكفار من الأمم السابقة ومن المشركين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فمن كذب بالبعث فهو مع هؤلاء الكفرة. لا ينكر البعث إلا كافر، ولقد أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم به على البعث، قال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي} هذا قسم، {لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} هذه الآية إحدى الآيات الثلاث التي أمر الله نبيه فيها أن يقسم على البعث. الآية الأولى: في سورة يونس: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] . الثانية في سورة سبأ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 الإيمان بالرسل وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165] . [74]   {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ: 3 - 4] فالله أمر نبيه أن يقسم به على البعث وعلى قيام الساعة. الآية الثالثة: هي التي معنا من سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] . فالحكمة من البعث هي جزاء العباد على أعمالهم، وقوله تعالى: لتنبئن، أي: لتخبرن بأعمالكم وتجازون بها. [74] الإيمان بالرسل هو أحد أركان الإيمان الستة، قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 َوَأَّولُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وسلم، والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى:   ف الإيمان بالرسل هو أحد أركان الإيمان، فلا بد من الإيمان بالرسل جميعهم من أولهم إلى آخرهم، فمن جحد رسولا واحدًا منهم فهو كافر بالجميع كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150 - 151] فلا بد من الإيمان بجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، من سمى الله منهم في كتابه ومن لم يسم، فإن الرسل كثيرون؛ ولهذا جاء في الحديث: «أن عددهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» . فهم رسل كثيرون منهم من سمى الله في كتابه ومنهم من لم يسم، فيجب علينا الإيمان بجميعهم من أولهم إلى آخرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] . [75]   [75] الدليل عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} ذكر الله جملة من أسمائهم في هذه الآية كما ذكر جملة من أسمائهم في آية الأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} إلى آخر الآيات [الأنعام: 84 - 86] . فأولهم نوح عليه الصلاة والسلام بدليل قوله تعالى: {وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} بعثه الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين بعد أن كان الناس على دين التوحيد منذ آدم عليه السلام إلى عشرة قرون وهم على التوحيد، فلما جاء قوم نوح كان فيهم رجال صالحون، فلما مات هؤلاء الصالحون حزنوا حزنًا شديدًا، فانتهز الشيطان هذه الفرصة وقال لهم: صوروا صور هؤلاء الصالحين وانصبوها على مجالسكم؛ من أجل إذا رأيتم هذه الصور تتذكرون أحوالهم وتنشطون على العبادة، فقاموا وصوروا صور هؤلاء الموتى، ونصبوها على المجالس، فلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 تعبد في أول الأمر لوجود العلماء الذين يبينون للناس التوحيد وينكرون الشرك. فلما مات العلماء وذهب الجيل الأول، جاء جيل متأخر وقد مات العلماء، جاء الشيطان إليهم فقال لهم: إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلا ليعبدوها، وبها كانوا يسقون المطر، فزين لهم عبادتها فعبدوها من دون الله، ومن ثم حدث الشرك في الأرض، فبعث الله نبيه نوحًا عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى الله عز وجل ويردهم إلى التوحيد الذي هو دين أبيهم آدم عليه السلام لكنهم عاندوا واستكبروا: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين، صوروا صورهم ونصبوها على مجالسهم فآل بهم الأمر إلى أن عبدوها من دون الله. فلما جاءهم نوح عليه الصلاة والسلام ونهاهم عن عبادتها، وأمرهم بعبادة الله، قالوا: لا تذرون آلهتكم، لا تطيعوا نوحا، واستمروا على كفرهم وطغيانهم وعنادهم.هذا أول شرك حدث في الأرض، وسببه الصور ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 «المصورون» وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» يؤمرون بنفخ الروح في هذه الصور من باب التعجيز والتعذيب لهم والعياذ بالله؛ لأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك كما حصل لقوم نوح. فأول الرسل نوح، وأما خاتم الرسل وآخرهم فهو محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال صلى الله عليه وسلم: «وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي» . فبه صلى الله عليه وسلم ختمت الرسالات السماوية فلا يبعث بعده نبي إلى أن تقوم الساعة، ولكن شريعته باقية إلى أن تقوم الساعة، ودينه باق إلى أن تقوم الساعة كما سبق، فمن ادعى النبوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وكل أمة بعث الله إليهم رسولا من نوح إلى محمد يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}   بعد محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، ومن صدقه فهو كافر بالله لأنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم. وقد ادعى النبوة بعده خلق كثير وفضحهم الله وأظهر كذبهم، ومن آخرهم فيما نعلم، القادياني، غلام أحمد القادياني الهندي، الذي كان في الأول يدعي العلم والعبادة، ثم ادعى أنه عيسى بن مريم، ثم ادعى النبوة، والآن له أتباع يسمون بالقاديانية وقد كفرهم المسلمون ونابذوهم واعتبروهم فرقة كافرة خارجة عن الإسلام، وهم منابذون ومطاردون - ولله الحمد - من بلاد المسلمين، ولهم نشاط، ولكن نشاطهم يبوء بالفشل، الحاصل أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ادعى النبوة فهو كذاب كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون، قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 [النحل: 36] . [76]   [76] المتنبئون كثيرون؛ ولكن الله يفضح أمرهم ويكشف سترهم ويبين خزيهم للناس، وَمَنْ صَدَّقَهُمْ فهو كافر، لأنه مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولإجماع المسلمين على ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم. قوله: وكل أمة بعث الله إليهم رسولا، أي: كل أمة من الناس يبعث الله إليها رسولا ليقيم الحجة عليهم، لئلا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فكل أمة من الأمم السابقة يبعث الله إليها رسولًا كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] لكن يجب أن نعرف ما هي دعوة الرسل؟ دعوة الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم هي إلى التوحيد؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فكل ما عبد من دون الله طاغوت، كما يأتي في أنواع الطواغيت أن من أنواعهم ما عبد من دون الله وهو راض بذلك كما سيأتي. فمعنى قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي: اجتنبوا عبادة الأوثان والأصنام والقبور والأضرحة هذه هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الطواغيت فدلت الآية الكريمة على أن دعوة الرسل كلها تتركز على التوحيد من أولهم إلى آخرهم. كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] . فدعوة الرسل كلهم إلى التوحيد، وإفراد الله جل وعلا بالعبادة، والنهي عن الشرك، هذه هي دعوة الرسل، ثم بعد التوحيد تأتي الشرائع من الحلال والحرام، وتفاصيل الشرائع تختلف باختلاف الأمم وحاجة الأمم، وينسخ الله منها ما يشاء، ثم نسخت كلها بشريعة الإسلام الحلال والحرام والأحكام والعبادات والأوامر والنواهي، أما الأصل وهو التوحيد فهذا لا اختلاف فيه ولا نسخ، هذا دين واحد دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم دينهم واحد. كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ودين التوحيد هو عبادة الله بما شرع في كل وقت بحسبه، فإذا نسخ هذا الشرع انتقل إلى الناسخ، فمن أصر وبقي على المنسوخ وترك الناسخ فإنه يكون كافرًا بالله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ والإيمان بالله [77]   عز وجل؛ لأن الدين المنسوخ لا يكون دينًا بعد نسخه، وإنما هو دين قبل أن ينسخ، فإذا نسخ فلا يكون دينًا ويكون الدين هو الناسخ، فلهذا نسخت شريعة الإسلام ما قبلها من الشرائع، فمن بقي على اليهودية أو النصرانية بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه يعمل بدين منسوخ انتهى وقته. [77] قال الشيخ رحمه الله: وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، ثم ذكر تعريف الطاغوت، فالطاغوت ذكره الله جل وعلا في آيات كثيرة منها قوله تعالى في سورة البقرة: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 256، 257] وفي سورة النساء، قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ من معبود أو متبوع أو مطاع [78]   {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] وهذه الآية في اليهود. ويقول سبحانه في المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60] وفي سورة النحل يقول جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] الطاغوت: مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد، يقال: طغى الماء إذا ارتفع منسوبه. قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] . [78] أما معنى الطاغوت في الشرع فهو كما ذكر ابن القيم رحمه الله ونقله عنه الشيخ هاهنا، الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، العبد له حد لأنه عبد حدد الله له حدودًا يجب عليه أن يقف عندها، فإذا تجاوزها فإنه يكون طاغوتًا، فمن تجاوز حدود الله التي حددها لعباده وأمرهم أن لا يتجاوزوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وألا يقربوها فهو طاغوت، فإذا عصى الله وتجاوز حدوده وطغى فإنه يسمى طاغوتًا لأنه طغى وتعدى حدود الله. فقوله: مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أو متبوع أو مطاع. هذا التعريف الشامل للطاغوت لأن الله جل وعلا أمر بعبادته وحده لا شريك له، وأمر باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر بطاعته وطاعة رسوله فيما حلل وحرم، فمن تجاوز هذا الأمر فهو طاغوت، من تجاوز حد العبادة التي أوجبها الله واختص بها ونفاها عن غيره، فعبد مع الله غيره فهو طاغوت، المشرك طاغوت؛ لأنه تجاوز الحد في العبادة وعبد مع الله غيره، صرف العبادة لغير مستحقها، وكذلك من عبد وهو راض. الذي يعبده الناس بهذا ويفرح ويترأس بهذا الشيء ويتزعم هذا طاغوت، مثل فرعون والنمرود ومشايخ الطرق الصوفية الغلاة الذين يعبدهم أتباعهم ويرضون بذلك، أو يدعون الناس إلى هذا، أي إلى أن يعبدوهم كما سيأتي، فهذا طاغوت في العبادة. قوله: أو متبوع: الله جل وعلا أمر جميع الخلق أن يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أن يتبع غيره عليه الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 والسلام، فمن اتبع غير الرسول صلى الله عليه وسلم وزعم أن هذا جائز فإنه يكون طاغوتًا لأنه اتبع غير الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر بإتباعه، فالاتباع خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، أما غيره من العلماء والدعاة فهؤلاء يتبعون إذا اتبعوا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. فالمتبع هو الرسول صلى الله عليه وسلم، أما هؤلاء فإنهم مبلغون فقط يتبعون للحق وما وافقوا فيه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وما خالفوا فيه الرسول فلا يجوز اتباعه. مثال ذلك مشايخ الطرق الصوفية، يتبعهم مريدوهم وعبيدهم في غير طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بل يقولون: إننا لسنا بحاجة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نحن نأخذ مما أخذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم ونتلقى عن الله مباشرة، الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى عن الله بالواسطة، بواسطة جبريل، ونحن نتلقى عن الله مباشرة ويقولون: أنتم تروون دينكم عن ميت، ونحن نروي ديننا عن الله سبحانه وتعالى، لأنهم يزعمون أن شيوخهم يتصلون بالله ويتلقون من الله مباشرة. بلغ بهم الحد إلى هذا الطغيان والعياذ بالله، هذه طريقتهم، لا شك أن هؤلاء هم رؤوس الطواغيت والعياذ بالله؛ لأنه لا طريق إلى الله جل وعلا إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32] . فالذي يتبع غير الرسول هذا يعتبر طاغوتا، وكذلك من يدعو إلى اتباعه ويقول للناس: أنا آتيكم بالأمر من الله مباشرة، هذا أكبر الطواغيت في العالم والعياذ بالله. قوله: أو مطاع: الطاعة إنما هي لله ولرسوله بما حلل وحرم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، وليس لأحد أن يشارك الله في التحليل والتحريم؛ ولذلك حكم الله على من حلل وحرم أو طاع من فعل ذلك بأنه مشرك. قال سبحانه وتعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 [الأنعام: 118 - 121] لأن أهل الجاهلية يقولون: الميتة حلال لأن الله هو الذي ذبحها، فهي أولى بالحل مما ذبحتم وذكيتم، فالله جل وعلا يقول: لا تأكلوا إلا ما ذكي ذكاة شرعية، وحرم عليكم الميتة. وهؤلاء يقولون: لا الميتة حلال هي أولى بالحل من المذكاة لأن المذكاة ذكيتموها أنتم، وأما الميتة فالله هو الذي ذبحها. ولهذا رد على المشركين وقال: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: خروج عن طاعة الله سبحانه عز وجل. وقال بعدها: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} يقولون: الميتة ذبحها الله والمذكاة أنتم ذبحتموها فكيف تستحلون ما ذبحتم ولا تستحلون ما ذبحه الله؟ هذا مجادلة بالباطل، ثم قال تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} هذا من شرك الطاعة، التحليل والتحريم حق لله جل وعلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 أنواع الطواغيت وَالطَّوَاغِيتُ كَثِيرُونَ، وَرُؤُوسُهُمْ خَمْسَةٌ، إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ، ومن عبد وهو راض [79]   فلا يجوز لأحد أن يحلل أو يحرم من عند نفسه أو يطيع من حلل أو حرم من عنده نفسه، ومن فعل ذلك فإنه طاغوت ومطيع للطواغيت الذين يحللون ويحرمون من دون الله هذا معنى قوله: أو مطاع: أي: مطاع في التحليل والتحريم؛ لأن التحليل والتحريم حق لله جل وعلا، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله ما حلل وحرم. [79] قوله: والطواغيت كثيرون، ورؤوسهم خمسة: الطواغيت الذين ينطبق عليهم هذا التعريف: كل معبود أو متبوع أو مطاع كثيرون؛ ولكن رؤوسهم خمسة يعني أكابرهم خمسة. الأول: إبليس لعنه الله، أي: طرده الله وأبعده عن رحمته بسبب أنه امتنع من السجود لآدم وعصى الله سبحانه وتعالى وتكبر وقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76] فعصى أمر الله وتكبر فلعنه الله وطرده وأبعده، وسمي إبليس قيل: لأنه أبلس من الرحمة يعني يأس من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الرحمة، فالْمُبْلِس هو اليائس من الشيء، فإبليس لعنه الله رأس الطواغيت لأنه هو الذي يأمر بعبادة غير الله، وهو الذي يأمر باتباع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يأمر بطاعة غير الله بالتحليل والتحريم، فإبليس هو مصدر الشر وهو رأس الطواغيت. الثاني: من عُبِدَ وهو راض، أي: عبد وهو راض بعبادة الناس له فهو طاغوت، أما من عبد وهو غير راض بذلك فلا يدخل في هذا؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام عبد من دون الله ولكنه غير راض بذلك، وأمه وعزير والأولياء والصالحون من عباد الله لا يرضون بهذا، بل كانوا ينكرون هذا ويحاربون من فعله، فمن عبد وهو غير راض بذلك فإنه لا يسمى طاغوتا. ولذلك لما أنزل الله قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] فرح المشركون، وقالوا: نحن نعبد المسيح ونعبد ونعبد .... ، إذًا هم معنا في النار، فأنزل الله تعالى: إِنَّ {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 101 - 102] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه [80]   وفي الآية الأخرى قالوا: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] يعنون عيسى عليه السلام ثم قال: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 58، 59] فهو عبد لله ولا يرضى أن يعبد من دون الله بل بعثه الله بإنكار ذلك: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] فالذي عبد وهو غير راض بذلك، لا يدخل في هذا الوعيد ولا يكون طاغوتًا؛ لأنه منكر لذلك؛ لأن الطاغوت هو الذي يرضى بأن يعبد من دون الله عز وجل. [80] والثالث: من دعا الناس إلى عبادة نفسه: مثل رؤوس المشركين الذين يدعون الناس إلى عبادة أنفسهم مثل فرعون قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] . ومثل النمرود ومثل غلاة الصوفية الذين يدعون الناس إلى عبادتهم حتى إنهم يوصون الناس أن يعبدوهم بعدما يموتون فيقول أحدهم: إذا أعيتكم الأمور فأتوا إلى قبري، أي: إذا أعجزتكم الأمور فأتوا إلى قبري ولا يحول بينكم وبيني حفنة من التراب، يوصون الناس أن يأتوا إلى قبورهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ومن ادعى شيئا من الغيب [81]   ويعدونهم أنهم سيقومون بحوائجهم، فمن دعا الناس إلى عبادة نفسه حيا وميتًا فهو من رؤوس الطواغيت، وكذلك من دعا الناس إلى عبادة غيره من الطواغيت وهم دعاة الشرك، هؤلاء طواغيت، الذين يزينون الشرك للناس ويسمونه بغير اسمه ويقولون هذا من باب التوسل، أو هذا من باب الشفاعة وهم كثير. إن هؤلاء طواغيت لأنهم يدعون إلى الشرك، فهم يدعون إلى عبادة غير الله ويسمون ذلك بغير اسمه، ويزينونه للناس بالشبهات وزخرف القول هؤلاء هم الطواغيت، دعاة الشرك طواغيت، وكل من عبد من دون الله ورضي بذلك أو دعا الناس إلى عبادة نفسه أو دعا الناس إلى عبادة غير الله فإنه من الطواغيت، بل هو من رؤوس الطواغيت نسأل الله العافية. [81] الرابع: من ادعى شيئا من علم الغيب: وهذا يدخل فيه السحرة والمنجمون والكهان والرمالون وكل من يدعي أنه يعلم الغيب ويقول للناس: سيحصل لكم كذا وكذا، أنت سيحصل لك سعادة أو يحصل لك شيء من التعب، أو توفق في زواج أو لا توفق، هؤلاء يدعون علم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 ومن حكم بغير ما أنزل الله [82]   {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27] وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] . لا يعلمها إلا هو: هذا حصر فلا يعلم الغيب إلا الله أو من أطلعه الله على شيء من الغيب من رسله لأجل مصلحة البشر ومعجزة للرسول، لكن لم يعلم الغيب من ذات نفسه وإنما علمه للغيب من تعليم الله له، فلا يعلم الغيب إلا الله فمن ادعى علم الغيب فإنه يكون مشاركًا لله فيما اختص به سبحانه، فيكون مشركًا وطاغوتًا وكافرًا، وهذا من أعظم أنواع الردة عن الإسلام. [82] الخامس: من حكم بغير ما أنزل الله: ودليله قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] فالذي يحكم بغير ما أنزل الله مستحلا لذلك يكون طاغوتًا، والذي يقول: أنه يجوز أن يتحاكموا إلى القانون أو إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 العوائد في الجاهلية أو عوائد القبائل والبادية ويتركوا الشرع، يقول: هذا حلال، أو: هذا يساوي ما أنزل الله، فإذا قال إنه أحسن مما أنزل الله، أو يساوي ما أنزل الله، أو قال إنه حلال فقط، ولم يقل: إنه يساوي، ولا أفضل، قال: حلال جائز، هذا يعتبر طاغوتًا، وهذا بنص القرآن، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} سمي طاغوتًا لأنه تجاوز حده، أما من حكم بغير ما أنزل الله وهو يقر أن ما أنزل الله هو الواجب الاتباع والحق، وأن غيره باطل، وأنه يحكم بباطل، فهذا يعتبر كافرا الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة، لكنه على خطر عظيم، على طريق قد يصل به إلى الكفر المخرج من الملة إذا تساهل في هذا الأمر. وأما من حكم بغير ما أنزل الله عن غير تعمد بل عن اجتهاد، وهو من أهل الاجتهاد من الفقهاء واجتهد ولكن لم يصب حكم الله، وأخطأ في اجتهاده فهذا مغفور له، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر» لأنه لم يتعمد الخطأ هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] . [83]   يريد الحق ويريد موافقة حكم الله عز وجل؛ لكنه لم يوفق له فهذا يعتبر معذورًا ومأجورًا؛ ولكن لا يجوز اتباعه على الخطأ، لا يجوز لنا أن نتبعه على الخطأ، ومن هذا اجتهادات الفقهاء التي أخطؤوا فيها أو اجتهادات القضاة في المحاكم إذا اجتهدوا وبذلوا وسعهم في طلب الوصول إلى الحق ولكن لم يوفقوا فخطؤهم مغفور. [83] قال سبحانه وتعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لا إكراه في الدين، معناه أن أحدًا لا يكره على الدخول في الإسلام؛ لأن الدخول في الإسلام لا بد يكون عن اقتناع واعتقاد بالقلب ولا يكره عليه أحد، لا يمكن هذا؛ لأن القلوب لا يتصرف فيها إلا الله سبحانه وتعالى، لا يكره أحد إلى الإسلام لأننا لا نملك القلوب، وإنما الله جل وعلا هو الذي يملكها ويتصرف فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ولكن نحن ندعو للإسلام ونرغب فيه، نجاهد في سبيل الله من كفر لأجل نشر الإسلام وإتاحة الفرصة لمن يريد أن يسلم، ولأجل قمع أعداء الله، أما الهداية فهي بيد الله سبحانه وتعالى لا أحد يكره على الإيمان والإسلام. وإنما هذا شيء راجع إليه هو، ثم قال تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} فالإسلام - ولله الحمد - ليس فيه ما يكره بل كله محبوب ومرغوب، والكفر والشرك كله شر وكله مكروه، قد تبين هذا من هذا، تميز الرشد وهو الحق، من الغي وهو الباطل، والإنسان عنده عقل وعنده تفكير يوازن بين الحق والباطل، سيهديه تفكيره إن كان سليما وسالمًا من الهوى والدوافع، سيهديه تفكيره السليم إلى قبول الحق بدون أن يكره، هذا قول في الآية. والقول الثاني: أن هذه الآية نزلت في أهل الكتاب، أن أهل الكتاب لا يجبرون على الدخول في الإسلام، بل إذا أرادوا البقاء على دينهم مكنوا من ذلك بشرط أن يدفعوا الجزية للمسلمين وهم صاغرون، أما غيرهم من الكفرة فلا يقبل منهم غير الإسلام أو القتل، لأنهم ليس لهم دين والوثنية دين باطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 والقول الثالث: أن هذه الآية منسوخة بآية الجهاد، هذه في أول الأمر قبل أن يشرع الجهاد ثم شرع الجهاد فنسخت هذه الآية. ولكن القول الأول هو الصحيح أن الآية غير منسوخة وأن الدين لا يدخل في القلوب بالإكراه وإنما يدخل بالاختيار، لكن من لم يقبل الدين يعامل المعاملة اللائقة به من قتل أو أخذ جزية مما شرع الله سبحانه وتعالى في حقه. {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} الطاغوت: المراد جميع الطواغيت في العبادة أو الاتباع أو في الطاعة لأن كلمة الطاغوت هنا عامة، قدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله لأن الإيمان بالله لا ينفع إلا بعد الكفر بالطاغوت، فمن آمن بالله ولم يكفر بالطاغوت فإنه لا ينفعه إيمانه، فالذي يقول: إنه مؤمن ويصلي ويصوم ويزكي ويحج ويفعل الطاعات لكنه لا يتبرأ من الشرك ولا المشركين ويقول: لا دخل لي فيهم، هذا لا يعتبر مسلمًا لأنه لم يكفر بالطاغوت. فلا بد من الكفر بالطاغوت وهو رفض الطاغوت واعتقاد بطلانه، والابتعاد عنه وعن أهله، لا بد من هذا، فلا يصح إيمان إلا بعد الكفر بالطاغوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وَهَذَا هُوَ مَعْنَى لا اله إِلا اللهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» . [84]   وفي الآية الأخرى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] فلا تصح عبادة الله إلا باجتناب الطاغوت لا يجتمع ضدان، لا يجتمع الإيمان والكفر في القلب، الإيمان والكفر الأكبر لا يجتمعان في قلب، أما الكفر الأصغر فقد يجتمع. [84] قال الشيخ: وهذا معنى لا إله إلا الله يعني الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله، هذا هو رأس أمر الدين، الشهادتان هما رأس الإسلام وهما أصل الإسلام، فلا يدخل الإنسان في الإسلام إلا إذا أتى بالشهادتين نطقًا وعلمًا وعملًا واعتقادًا، لا يكون الإنسان مسلما إلا بذلك، شبه الدين بالجسم الذي له رأس عمود وسنام فإذا قطع الرأس أو لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 يكن هناك رأس فإنه لا بقاء للحياة، كذلك بدون التوحيد لا بقاء للدين؛ لأنه هو الرأس الذي إذا قطع أو زال زالت الحياة وفسد البدن. وعموده الذي يقوم عليه هو الصلاة، فبدون عمود لا يقوم الإسلام، مثل بيت الشعر أو الخيمة إذا لم يكن هناك عمود تقوم عليها فإنها لا تقوم، فلا يقوم بيت إلا بعمود فإذا فقد العمود لا يقوم البيت، كذلك الصلاة إذا فقدت فإن الإسلام لا يقوم، ولذلك قال العلماء: إن من ترك الصلاة تكاسلًا فإنه يكفر على الصحيح ولو كان يعترف بوجوبها؛ لأنه لا فائدة من الاعتراف بالوجوب مع عدم التطبيق وعدم العمل، لا فائدة من ذلك، ولذلك حكم المحققون من أهل العلم بكفر من ترك الصلاة متعمدًا ولو كان يقر بوجوبها، أما من كان يجحد وجوبها فهذا كافر بإجماع المسلمين. وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله: ذروة سنام الأمر وهو الدين، الجهاد في سبيل الله فالجهاد دليل على قوة الإسلام، إذا وجد الجهاد في سبيل الله فهذا دليل على قوة الإسلام لأن الجهاد لا يكون إلا من قوة إيمان وقوة مادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل ثلاثة أشياء للدين: الرأس، والعمود، والسنام، فبعدم الرأس لا وجود للدين أصلًا فالذي لا يحقق الرأس وهو التوحيد لا دين له. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد. والذي لا يصلي لا يقوم له دين وإن شهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ لأنه يحتاج إلى عمود يقيم عليه الدين وهو لا يوجد إلا بالصلاة. وإذا فقد الجهاد فقدت القوة في الإسلام وصار إسلامًا ضعيفًا وصار المسلمون مستضعفين، فلا قوة للإسلام والمسلمين إلا بالجهاد في سبيل الله عز وجل، فهو علامة القوة، وفقده علامة الضعف. هذا وجه تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمور الثلاثة بالنسبة للدين، رأس وعمود وسنام، كما أن البعير إذا صار له سنام هذا يدل على أنه قوي وإذا لم يكن له سنام فهذا يدل على أنه هزيل ضعيف. كذلك المسلمون اليوم مستضعفين في الأرض ولهذا في الحديث «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم» فترك الجهاد ذل وضعف للمسلمين، ووجوده دليل القوة والسمن، كالسنام للحيوان. وبهذا انتهى شرح هذا الكتاب المبارك ثلاثة الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311