الكتاب: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية المؤلف: أبو عبد الله شمس الدين بن محمد بن أشرف بن قيصر الأفغاني (المتوفى: 1420هـ) الناشر: دار الصميعي (أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراة من الجامعة الإسلامية) الطبعة: الأولى - 1416 هـ - 1996 م عدد الأجزاء: 3 في ترقيم مسلسل واحد   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية شمس الدين الأفغاني الكتاب: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية المؤلف: أبو عبد الله شمس الدين بن محمد بن أشرف بن قيصر الأفغاني (المتوفى: 1420هـ) الناشر: دار الصميعي (أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراة من الجامعة الإسلامية) الطبعة: الأولى - 1416 هـ - 1996 م عدد الأجزاء: 3 في ترقيم مسلسل واحد   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم الآيات 1 - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . 2 - {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] . 3 - {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] . 4 - {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65] . 5 - {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] . 6 - {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} .... [الأنعام: 17، يونس: 107] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 7 - {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] . 8 - {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] . 9 - .... {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحيم الأحاديث 1 - «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [ص 415] . 2 - «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [ص 429-430] . 3 - «ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» [ص 1628] . 4 - «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا» [ص 412] . 5 - «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» [ص 642 -643] . 6 - «لا تجعلوا قبري عيدًا ... » [ص 1602] . 7 - «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم» [ص 819-820] . 8 - «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» [ص 645] . 9 - «الدعاء هو العبادة» [ص 1410] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بسم الله الرحمن الرحيم المقالة الحنفية الحنيفية التي تقمع القبورية 1 - مقالة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أئمة الحنفية: ((لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به * وأكره أن يقول: أسألك بمعقد العز من عرشك * والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] * وكره قوله: بحق رسلك وأنبيائك وأوليائك أو بحق البيت الحرام *)) [ص 1123 - 1129] . 2 - مقالة الفقهاء الحنفية: ((من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم؛ كفر)) [ص: 839] . 3 - مقالة أخرى للفقهاء الحنفية: ((من ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاده ذلك؛ كفر)) [ص: 960] . 4 - مقالة الإمام ولي الله الدهلوي حجة الحنفية (1176هـ) : ((كل من ذهب إلى بلدة أجمير، أو إلى قبر سالار مسعود، أو ما ضاهاها لأجل حاجة يطلبها؛ فإنه آثم إثمًا أكبر من القتل والزنى، ليس مثله إلا مثل من كان يعبد المصنوعات، أو مثل من كان يدعو اللات والعزى ... )) [ص 1141-1142] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بسم الله الرحمن الرحيم القصيدة السلفية اليمانية ثم الحنفية في كشف فضائح القبورية الشركية أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالواحد الصمد وكم نحروا في سوحها من بحيرة ... أهلت لغير الله جهلًا على عمد وكم طائف عند القبور مقبل ... ويلتمس الأركان منهن بالأيدي ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بسم الله الرحمن الرحيم هذه الرسالة مشتملة على: - مقدمة. - وعشرة أبواب. - وخاتمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 المقدمة وفيها أمور ثلاثة عشر: - الأول: خطبة الحاجة. - الثاني: أهمية توحيد العبادة. - الثالث: حالة الناس قبل نشأة القبورية. - الرابع: نشأة القبورية وتطورها في الأمم الخالية. - الخامس: نشأة القبورية في هذه الأمة ومصادرها، وأسباب تطورها وانتشارها. - السادس: أشهر فرق القبورية. - السابع: جهاد أئمة الإسلام في الرد على القبورية. - الثامن: خلاصة جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية. - التاسع: أسباب اختيار هذا الموضوع الخطير. - العاشر: خطة البحث. - الحادي عشر: منهج هذه الرسالة. - الثاني عشر: مواجهة المشكلات. - الثالث عشر: كلمتا رجاء وشكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] . {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ((أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) ، ((وكل ضلالة في النار)) . والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين وآله وصحبه أجمعين، والذين تبعوهم بإحسان إلى يوم الدين. (2) أهمية التوحيد: أما بعد: فيقول أبو عبد الله، شمس الدين بن محمد أشرف الأفغاني السلطاني المدني السلفي، غفر الله له ورحمه وحفظه: إنه لا يخفى: أن الله عز وجل قد اختار لعباده دين الإسلام، دين الصدق والعدل؛ كما قال سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] . وقال جل وعلا: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] . وأساس هذا الدين القيم: هو توحيد الله تعالى، وعبادته وحده لا شريك له. وهذا هو المقصد الأعلى، والهدف الأسمى، والغاية العظمى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 والمرام الأسنى؛ وأرسل للدعوة إليه الرسل، وأنزل لتحقيقه الكتب، وهو أول واجب على المكلف، وآخر واجب عليه، وهو الذي يقاتل لأجله، ويوالي ويعادي بسببه. ولكن القبورية ناقضوا هذا الأصل؛ فهدموا الإسلام من أساسه! . (3) حالة الناس قبل نشأة القبورية: لقد كان الله سبحانه وتعالى خلق آدم أبا البشر وزوجه أم البشر وارتضى لهما ولجميع بني آدم هذا الدين القيم؛ فكانوا يعبدون ربهم وحده لا شريك له. وقد كانوا كلهم أمة واحدة على ملة واحدة؛ يوحدون ربهم عز وجل ويعبدونه وحده لا شريك له، بطريقة واحدة أرشدهم إليها بواسطة أنبيائه عليهم السلام، فلم يكونوا يشركون بعبادة ربهم أحدًا، كما أنهم لم يكونوا يعبدون ربهم بطرق بدعية. فكانوا كلهم رجالًا ونساءً مسلمين موحدين سنيين، ولم يكن فيهم مشرك بالله، ولا قبوري، ولا وثني، ولا صنمي، ولا مبتدع في دين الله، ولا خرافي في شرع الله. فلم يكن يوجد صنم يسجد له، ولا وثن يعبد، ولا قبر يعكف عليه، ويراقب إليه، ولا شجر يتبرك به، ولا حجر يذبح عنده، ولا ملك مقرب ينذر له، ولا نبي مرسل يستغاث به، ولا ولي صالح يستعان به. (4) نشأة القبورية في الأمم الخالية : وقد كان إبليس عليه لعائن الله تترى عدوًّا لدودًا لهم جميعًا، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وضعهم هذا يسيئه؛ لكونه يراهم في طاعة الله يسيرون، وعلى شرع الله يسلكون، والله وحده يعبدون، وإياه يوحدون؛ فكان يتحين لهم الفرص لإغوائهم بطرق إبليسية سرية شيطانية مزخرفة؛ فلم يتمكن من ذلك؛ إلى أن توفي بعض الصالحين الذين لهم مكانة في قلوبهم؛ أمثال ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، فحزنوا لفراقهم حزنًا شديدًا. فاحتال عليهم الشيطان، وسول لهم أمورًا استدرجهم بها إلى أن عكفوا على قبورهم فعبدوهم. وبهذه الطريقة الشيطانية، ظهرت فرقة قبورية في بني آدم قبل رسول الله نوح عليه الصلاة والسلام؛ حيث انحرفوا عن عبادة الله تعالى وحده، وناقضوا توحيده سبحانه، حتى رسخت الوثنية في قلوبهم، وجعلوا يعبدون هؤلاء الصالحين بأنواع من العبادات تحت ستار التعظيم والولاية والمحبة والتوسل والشفاعة. وقد آل بهم الأمر إلى أن صارت أمة التوحيد أمة وثنية، فأرسل الله تعالى إليهم رسوله نوحًا عليه الصلاة والسلام، فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، وكان يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، ونبذ عبادة القبور وأهلها، وترك الاستغاثة بالصالحين، والاستعانة بهم. فحاربوه وعاندوه، ولم يقبلوا منه، وبقوا على قبوريتهم ووثنيتهم، إلا نزرًا قليلًا من الموحدين السنيين؛ إلى أن اجتاحهم الله تعالى بطوفان من عنده، ونجا أهل التوحيد. ثم بعد فترة من الزمن احتال عليهم إبليس؛ فزين لهم بمكائده ومكره عبادة القبور وأهلها من الصالحين، إلى أن انتشرت القبورية بسبب عبادتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وعبادة أصحابها في كثير من الأمم؛ أمثال عاد وثمود ومدين وغيرهم. حتى دخلت القبورية بشكل واضح إلى الفلاسفة اليونانية، أمثال أرسطو وتلاميذه؛ مع ما كانوا يعبدون الأصنام أيضًا. ثم آلت سموم القبورية إلى اليهود والنصارى، فكانوا قبورية أقحاح؛ يعبدون القبور وأهلها. وانتشرت القبورية وتطورت، واتخذت صورًا شتى، وآل الأمر إلى عبادة الأوثان والأصنام والأحجار والأشجار التي لها علاقة بالقبور وأهلها من الصالحين. حتى وصل الأمر إلى مشركي العرب ... وقد كانوا في الأصل على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولكن استدرجهم الشيطان، فزين لهم عبادة القبور وأهلها، فدخلت فيهم الوثنية من طريق عبادة القبور وأهلها، فكانوا قبورية وثنية صنمية. هكذا عمت القبورية البلاد والعباد وطمت؛ إلا من شاء الله من موحدي الفطرة. (5) نشأة القبورية في هذه الأمة، ومصادرها، وأسباب انتشارها: ثم أنعم الله تعالى على هذه الأمة؛ فبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولًا إلى الثقيلن، {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} ، وقد «مقت أهل الأرض عربهم» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 «وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» ماتوا - أو أكثرهم - قبيل مبعثه صلى الله عليه وسلم، والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب مبدل، أو منسوخ، ودين دارس بعضه مجهول، وبعضه متروك. وإما أمي: من عربي، وعجمي، مقبل على عبادة ما استحسنه، وظن أنه ينفعه؛ من نجم، أو وثن، أو قبر، أو تمثال، أو غير ذلك؛ والناس في جاهلية جهلاء: من مقالات يظنونها علمًا، وهي جهل؛ وأعمال يسحبونها صلاحًا، وهي فساد ... فهدى الله الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به من البينات والهدى: هداية جلت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارفين، وفتح الله به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، وجمعهم على دين الإسلام؛ دين التوحيد، والملة الإبراهيمية الحنيفة بعد تشتت تام وعداوة كاملة، وانهيار خلقي، وانحلال ديني وفساد عقدي، وألف به بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمته إخوانًا، وكسرت الأصنام، والأوثان، وطمست التماثيل، وسويت القبور المشرفة، وأزيل كل ما يعبد من دون الله؛ من قبر وشجر وحجر ونصب وصنم ووثن، وأبطل، وصار الدين كله لله. وصار الناس مسلمين موحدين يعبدون الله وحده مخلصين له الدين، إلا من شاء الله تعالى من المشركين والمنافقين والكتابيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وانقشعت ظلمات الإشراك بالله، ورفرفت رايات التوحيد في البلاد * والعرب والعجم من العباد. وتوفى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم والإسلام في تقدم وشوكة تامة وغلبة كاملة، ليظهر على الدين كله. فواصل خلفاؤه الراشدون سيرهم إلى أن صارت الدولتان العظيمتان * والقوتان الماديتان * الفرس والروم في ذلة وهوان * وخوف بعد أمان * إلى أن جعل قيصر مقصورًا محصورًا * وكسرى مكسورًا مقهورًا * ولما رأى أعداء الإسلام * من اليهود والنصارى والمشركين: من عبدة القبور والأوثان والأصنام * أنه لا يمكن القضاء على هذا التيار * جند الإسلام الكرار * اندس كثير من جواسيسهم في المسلمين * متبرقعين بالإسلام لإحداث القلاقل والزلازل والفتن وبث وثنية الوثنيين * تحت خطط مدبرة سرية * يهودية نصرانية ومجوسية وثنية * فتمكنوا من تمهيد الطريق لإعادة الجاهلية الأولى * واليهودية الخرقاء، والنصرانية الحمقاء، والمجوسية الجهلاء * عن طريق الغلو في الصالحين وتعظيم قبورهم بما لم يأذن به الله عز وجل. فابتليت هذه الأمة بملحد زنديق مشرك منافق يهودي يدعى عبد الله بن سبأ وابن السوداء (40هـ) ؛ فادعى ألوهية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأحدث عقيدة رجعته بعد موته ورجعة النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا، وحياة الأموات الأولياء حياة دنيوية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وكانت له جمعية سرية تعرف بالسبئية، إلى أن تطورت وعرفت بالروافض، ثم الإسماعيلية القرمطية، والنصيرية، وغيرهم من الباطنية. فكانوا يعبدون القبور وأهلها ويبنون عليها المساجد والقباب، فأحيوا بذلك سنن اليهود والنصارى والمشركين. فظهرت في هذه الأمة فرقة قبورية وثنية في صورة هؤلاء الروافض؛ فعمروا المشاهد وعطلوا المساجد. هذه من ناحية ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ومن ناحية أخرى: أنه عربت كتب الفلاسفة اليونانية القبورية الوثنية، وعكف عليها كثير ممن تفلسفوا في الإسلام: أمثال الفارابي الكافر (339هـ) ، وابن سينا الحنفي القرمطي (428هـ) ، ونصير الكفر والشرك الطوسي (672هـ) ، وغيرهم ممن لعبوا بالإسلام كما لعب بولس (65م) بالنصرانية، فتأثروا بآرائهم الفلسفية، ومنها العقائد القبورية، فصاروا دعاة للقبورية الوثنية بتفلسفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وسايرهم كثير من المتكلمين من الماتريدية الحنفية، والأشعرية الكلابية بسبب العكوف على كتبهم الفلسفية، فتأثروا بعقائدهم القبورية، حتى صاروا دعاة إلى القبورية والجهمية في آن واحد: أمثال: التفتازاني الحنفي فيلسوف الماتريدية والقبورية (792هـ) ، والجرجاني الحنفي الصوفي الخرافي الكلامي (816هـ) . ومن ناحية ثالثة: أنه قد ظهر ناس من المسلمين بمظهر التقشف، (وكان أخطر هؤلاء الأعداء * على الدهماء * وأبعدهم غورًا في الإغواء * أناس ظهروا بأزياء الصالحين: بعيون دامعة كحيلة * ولحى مسرحة طويلة * وعمائم كالأبراج * وأكمام كالأخراج * يحملون سبحات كبيرة الحبات * ويتظاهرون بمظهر الدعوة إلى سنة سيد السادات * مع انطوائهم على مخاز ورثوها عن الأديان الباطلة * والنحل الآفلة * وكان من مكرهم الماكر * أن خلطوا الكذب المباشر * بالتزيد في تفسير مأثور * أو حديث صح أصله عند الجمهور * باعتبارهم ذلك أنجع في إفساد دلالة كتاب الله * وسنة رسوله) صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وقد عرف هؤلاء الملاحدة الزنادقة بالصوفية الحلولية والاتحادية القبورية الخرافية؛ أمثال الحلاج (309هـ) ، وابن الفارض (632هـ) ، وابن عربي (638هـ) ، وابن سبعين (669هـ) ، والمولوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الرومي الحنفي صاحب المثنوي (672هـ) ، والقونوي (673هـ) ، والتلمساني (690هـ) ، وخواجه نقشبند إمام النقشبندية (791هـ) ، وعبد الكريم الجيلي (872هـ) ، والجامي الحنفي شارح الكافية والفصوص (898هـ) ، والشعراني (973هـ) ، والنابلسي الحنفي (1143هـ) . فمن طريق هؤلاء الروافض والمتفلسفة والمتكلمة والصوفية الخرافية تسربت القبورية إلى كثير ممن ينتمون إلى الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى. فأكثر القبورية في الحنفية؛ لكثرة عددهم، وكثرة الفرق المبتدعة فيهم، وكثرة الملوك والأمراء والقضاة القبورية فيهم، ثم في المالكية والشافعية ونزر قليل من الحنابلة. مع أن الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الإسلام برآء من قبوريتهم. هكذا انتشرت القبورية في شرق الأرض وغربها، وجنوبها وشمالها، وهندها، وفارسها، وتركها، ورومها، وعربها، وعجمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 بل أصيب بهذا الداء العضال داء القبورية كثير من أهل العلم والفضل والفقه واللغة والأدب من العلماء الأعلام فضلًا عن الجهلة العوام، إلا من شاء الله تعالى من عباده الموحدين. واشتد أمر القبورية في القرون الوسطى حيث كانت على مستوى الحكومات والشعوب، وظهرت القبورية في كثير من الطوائف بشكل واضح. (6) أشهر فرق القبورية: والقبورية فرق كثيرة، ولكنها متفاوتة في دركاتها القبورية من حيث الغلو، ومتباينة في الأسماء من حيث انتمائهم إلى الأشخاص والمدارس: فبعضهم وثنية أقحاح، وبعضهم يعتقد بعض العقائد القبورية الشركية، وبعضهم متأثر ببعض البدع القبورية. وهذه الفرق القبورية متمثلة في الروافض، بجميع فرقهم، والصوفية الحلولية والاتحادية، التي هم غلاة القبورية الوثنية، والقادرية، والرفاعية، والشاذلية المغربية المصرية، والميرغنية، والجلوتية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والخلوتية، والمدارية الهندية، والجشتية الأفغانية الهندية، والسهروردية، والمولوية المثنوية الرومية الفارسية الأفغانية التركية الهندية، والبدوية السطوحية المصرية، والنقشبندية الفارسية التركية الأفغانية الهندية، والمجددية الهندية الأفغانية التركية، والتجانية الأفريقية المغربية ... إلى غيرها من طرق الصوفية القبورية. وأكثر المتفلسفة المعطلة المنطقية، وكثير من المتكلمة الجهمية: كبعض الماتريدية الحنفية، وبعض الأشعرية الكلابية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 والبريلوية الهندية الباكستانية الأفغانية، والكوثرية التركية المصرية السورية الهندية الباكستانية. وكثير من الديوبندية، وكثير من التبليغية، وغيرهم من فرق القبورية. (7) - جهاد أئمة الإسلام في الرد على القبورية: وقد أكرم الله تعالى هذه الأمة وتداركها بشيخ الإسلام (728هـ) ، وتلاه ابن القيم الهمام (751هـ) ، ثم مجدد الدعوة الإمام (1206هـ) ، وغيرهم من الأعلام. فكشفوا الأستار عن أسرار القبورية، وجاهدوا لتحقيق التوحيد فبارك الله تعالى في مساعيهم حتى أقيمت دولة التوحيد في جزيرة العرب، وزالت دولة القبورية والخرافات الصوفية والجهمية. والقبورية بجميع أصنافها حاربوها عن قوس واحدة لا بسلطان البرهان بل بسلطان السيف والسنان والكذب والبهتان * ولكن الله تعالى أراد بقاء شوكة أهل التوحيد، فقوى دولتهم وأيدها وأغناها بخيراتها المعنوية وثمارها المادية، فعمت خيراتها البلاد * ووصلت ثمارها العباد * يجتنون من ثمرات هذه الدولة دولة التوحيد * وينعمون في خيراتها شرقًا وغربا وعربًا وعجمًا في أكناف الأرض، وأطرافها سهولها وجبالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وتحقق الأمن بتشييد معالم التوحيد وتطبيق شرع الله تعالى فاشتاق إلى ديار هذه الدولة الناس، حتى أعداؤها. بل نرى أصنافًا من القبورية والصوفية الخرافية الذين هم يكرهون العقيدة السلفية وهذه الدولة وعلماءها وجامعاتها من أعماق قلوبهم لأجل ما عندهم من التوحيد المضاد للقبورية، يتملقون إليهم للاستفادة من خيراتها وثمارها، وكثير منهم أطرقوا رءوسهم إطراق الكرا لتحقيق أغراضهم المادية، وبث أمراضهم المعنوية. وقد وصل الأمر بسبب ذلك، وسكوت السلفيين المثلجين إلى أن الدعوات البدعية المستوردة من الهند - كالديوبندية التبليغية - ومن الترك - كالكوثرية الجهمية - ومن مصر - كالإخوانية السياسية -، ومن غيرها - كالصوفية القبورية - ونحوها قد دفعت عقيدتها في هذه البلاد الطاهرة، إلى أن تأثر بها بعض أهل التوحيد فناصروها وكرهوا الرد عليها وعلى أصحابها، بل عابوا الانتساب إلى السلفية، ولكني أقول لهم: وعيرني الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ولكن الله وفق العلماء الربانيين، فردوا على هذه الدعوات المستوردة البدعية وأصحابها؛ بيانًا وبنانًا، على طريقة أهل الحديث في القديم والحديث؛ حماية لحمى التوحيد وذبًّا عن السنة؛ فإذا هم سمعوا بمبتدع هذى ... صاحوا له طرا بكل مكان (8) خلاصة جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية : ولم يكن الرد على القبورية والدعوة إلى التوحيد محصورين في أمثال شيخ الإسلام، بل شاركهم كثير من الأعلام غيرهم من أهل المذاهب الثلاثة، وعلى رأسهم علماء الحنفية؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فقد كانت لهم جهود عظيمة في الرد على القبورية، وكشف عوراتهم، وقطع دابرهم، وقمع شبهاتهم، وكسر جموعهم، وبيان فضائحهم، بنصوص دامغة صارمة قاطعة. فإن أصل مذهب الحنفية كله قضاء على القبورية من أصلها: فقد قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى مقالة حنفية حنيفية قاطعة لدابر القبورية في القديم والحديث وهي مقالة سارت بها الركبان * وصارت لأهل التوحيد من أعظم البرهان * على القبورية عامة * والقبورية الحنفية خاصة * وهي قولته المشهورة المستفيضة: ((لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به .... )) . وهذه المقالة الحنفية الحنيفية في باب توحيد العبادة؛ كالمقالة المالكية الملكية للإمام مالك: ((الاستواء معلوم والكيف مجهول ... )) في باب توحيد الصفات. كما أن هذه قمعت الجهمية كذلك تلك دمغت القبورية. وهكذا كثير من مسائل الفقه الحنفي وقواعدها رد بالغ على القبورية وقمع لهم ولشبهاتهم؛ كنفي سماع الموتى، وتحريم البناء على القبور، وأحكام الارتداد، وكلماته، وغيرها من المطالب المدونة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فقه الحنفية. لذلك تتابعت جهود علماء الحنفية في الرد على القبورية ونشطوا لبيان فضائحهم، ولا سيما الحنفية الذين تتلمذوا على كتب شيخ الإسلام واطلعوا على تحقيقات أئمة السنة الأعلام، بعد شيخ الإسلام، فوقفوا للقبورية بمرصاد، وألفوا في الرد عليهم وقمعهم وقلع شبهاتهم، كتبًا كثيرة أفردوها، غير تلك المباحث القيمة التي ضمنوها في كتبهم الأخرى. فمن أبرز هؤلاء العلماء من الحنفية الرادين على القبورية المبطلين لعقائدهم الوثنية: الإمام ابن أبي العز (792هـ) ، والإمامان: البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) ، وصنع الله الحلبي (1120هـ) ، والإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، وأسرته من أبنائه وأحفاده وأسباطه، ولا سيما العلامة إسماعيل المجاهد (1246هـ) ، والأسرة الألوسية ابتداء من الألوسي الأب (1270هـ) ، ثم الابن (1317هـ) ، وانتهاء بالحفيد (1342هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وبعض الديوبندية، ولا سيما الفنجفيرية، وغيرهم من علماء الحنفية الذين سترى نصوصهم اللامعة كالأنوار الكاشفة للظلمات، القاطعة للقبورية كالصوارم، فلله درهم، وعليه شكرهم. فقد حكموا على القبورية بأنها فرقة مشركة وثنية عبدة القبور والأنصاب التي جعلوها أوثانًا، وأنصابًا بعبادتهم لها أنواعًا من العبادات، مع التصريح بعدم تكفيرهم قبل إيضاح المحجة وإقامة الحجة كما هو منهج أهل السنة. وقد شددوا في الرد على المعاندين من القبورية، نكاية فيهم وكشفًا لفضائحهم بكلمات كالسهام النافذة إلى الأفئدة، وجروح كالصوارم المهندة القاطعة لأقفيتهم، ولينوا مع العوام الجهلة من القبورية عدلًا وحكمة كما هو منهج أهل السنة. ولا أطيل على السامعين .... بل أحيلهم إلى رياض هذه الرسالة التي غرست فيها أزهار جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية؛ فليرجعوا إليها، وليرتعوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بساتينها، وليشموا نفحات حدائقها، وليسرحوا في منتزهاتها؛ ليجدوا نصوص علماء الحنفية القواطع اللوامع في صعيد واحد؛ وليعلموا أن علماء الحنفية قد جازوا القبورية وفاقًا لبعض إجرامهم؛ ليتذكروا قول القائل: ستعلم ليلى أي دين تداينت ... وأي غريم في التقاضي غريمها (9) - أسباب اختيار الموضوع: لما كانت القبورية بهذه الكثرة الكاثرة، وضررها على الإسلام والمسلمين أعظم وأشد وأعم وأطم؛ حيث جروا ويلات على العقيدة السلفية طيلة هذه القرون، وكانت لعلماء الحنفية جهود عظيمة في إبطال عقائدهم وكشف فضائحهم، ثم كان أكثر القبورية المنتسبين إلى الأئمة هم الحنفية - أردت أن أضرب أعناق معانديهم بسيوف أهل مذهبهم تنكيلًا لهم، وأرشد جهالهم بنصوص أئمتهم نصحًا لهم؛ لذلك سميت كتابي هذا: ((جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية)) . وقد حداني إلى اختيار هذا الموضوع عدة أسباب غير ما ذكر، أهمها ثلاثة: الأول: أن كتابي الأول: ((الماتريدية ..... )) بمرحلة الماجستير كان في تحقيق توحيد الأسماء والصفات وإبطال عقائد الماتريدية الحنفية الجهمية؛ فناسب ذلك أن يكون كتابي هذا في تحقيق توحيد العبادة بجهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية؛ ليتم الرد على الفرقتين: الجهمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 والقبورية؛ لاشتراكهما في القدر المشترك من التعطيل والتشبيه. * فأدافع بذلك على التوحيدين * لعلي أفوز بثواب كلتا الحسنيين * الثاني: أن علماء الحنفية كانت لهم جهود عظيمة في إبطال عقائد القبورية مبعثرة في كتبهم كالدرر المنتشرة الشاردة الآبدة، ولم أجد أحدًا جمع هذه الجواهر من تلك الخزائن المدفونة، وخاض بحرهم الخضم ليخرج تلك اللآلئ من ذلكم الغطمطم الزخار. وقد كانت الحاجة ماسة إلى نظم تلك اليواقيت في ديوان واحد؛ لتكون عدة لإبطال عقائد القبورية، ولا سيما القبورية من الحنفية وما أكثرهم!؟! . وقد كنت عشت في أوساط الحنفية وتجمعاتهم وتتلمذت عليهم في علومهم المنطقية والكلامية والأدبية والأصولية والفقهية والتفسيرية، في البلاد الأفغانية والتركستانية والباكستانية، وقد عرفت أهل التوحيد منهم والقبورية، والجهمية، والصوفية، منهم حق المعرفة، واختبرتهم اختبار الحكيم المجرب، واطلعت على كتبهم العربية والفارسية والأفغانية والأردية، فعرفت كثيرًا من عجرهم وبجرهم * وكثيرًا من خيرهم وشرهم. فصاحب البيت أدرى بما فيه، وأهل مكة أعرف بشعابها. فعزمت على هذا العمل الشاق متوكلًا على الله ومستعينًا منه، ومستغيثًا به. الثالث: أن كثيرًا من القبورية يزعمون أن الرد على القبورية من خصائص طائفة ظنوها شاذة محصورة في أمثال: شيخ الإسلام (728هـ) ، وابن القيم الهمام (751هـ) ، ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) ، ونبذوهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 بلقب منفر ((الوهابية)) تحذيرًا للناس منهم وإضلالًا للعوام، وإغواء للجهال بهذه الحيلة الماكرة الشاطرة القبورية. فأردت إبطال هذا الزعم الباطل بجمع جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية في صعيد واحد؛ ليعلم القبورية أن أهل الحديث وأئمة السنة الذين ينبذهم القبورية بالوهابية، ليسوا شذاذًا ولا متفردين بالرد على القبورية؛ بل شاركهم في ذلك أعلام هذه الأمة، ولا سيما علماء الحنفية، وليتبين للقبورية أنه لا صلة لهم بأي إمام من أئمة الإسلام، ولا سيما الأئمة الأربعة؛ وإنما عقائدهم مستقاة من اليهود والنصارى * والوثنية الأولى، من طريق الروافض والصوفية، والمتفلسفة في الإسلام، والمتكلمة المعطلة الجهمية. وبهذا يظهر أن أهل الحديث ليسوا مبطلين لعقائد القبورية وحدهم، بل هم وعلماء الحنفية وكل من عرف توحيد الأنبياء والمرسلين وألم بتاريخ الوثنية كلهم حرب شعواء على القبورية، وكلهم في ذلك جنود لأهل الحديث، يحاربون القبورية بصوارمهم التي لا نبوة فيها، كما قيل: فلست وحيدًا يا ابن حمقاء فانتبه ... ورائي جنود كالسيول تدفق (10) خطة البحث: هذه الرسالة مشتملة على مقدمة وعشرة أبواب وخاتمة. المقدمة: وفيها ثلاثة عشر أمرًا. الباب الأول: في جهود علماء الحنفية في بيان أهمية شأن العقيدة وتعريف التوحيد، وأنواعه، وأهمية توحيد الألوهية، وكونه هو الغاية، وشروط صحته، وردهم على القبورية في ذلك كله. وفيه أربعة فصول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الفصل الأول: في أهمية شأن العقيدة عند علماء الحنفية. الفصل الثاني: في تعريف التوحيد وبيان أنواعه عند علماء الحنفية. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في تعريف التوحيد لغة واصطلاحا. وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في تعريف التوحيد لغة عند علماء الحنفية. المطلب الثاني: في تعريف التوحيد اصطلاحًا عند علماء الحنفية. المطلب الثالث: في إبطال علماء الحنفية لتعريف القبورية للتوحيد. المبحث الثاني: في أنواع التوحيد عند علماء الحنفية. وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في أن القبورية لا يقسمون التوحيد إلى الربوبية والألوهية، ورد علماء الحنفية عليهم. المطلب الثاني: في التقسيم الثنائي للتوحيد عند علماء الحنفية. المطلب الثالث: في التقسيم الثلاثي للتوحيد عند علماء الحنفية. الفصل الثالث: في أهمية توحيد الألوهية وكونه هو الغاية عند علماء الحنفية. الفصل الرابع: في أركان توحيد الألوهية وشروط صحته عند علماء الحنفية. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في بيان ركني توحيد الألوهية عند علماء الحنفية. المبحث الثاني: في بيان شروط صحة توحيد العبادة عند الحنفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الباب الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال قول القبورية باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإبطال جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وبيان التعريف الصحيح للعبادة، وأركانها، وأنواعها، وشروط صحتها. وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في عرض عقيدة القبورية في اتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية. الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال قول القبورية باتحاد التوحيدين: الربوبية والألوهية. الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وإبطال زعمهم أن المشركين كانوا يشركون آلهتهم بالله تعالى في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وجعل توحيد الربوبية هو الغاية. المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها لزعمهم أن المشركين كانوا يشركون آلهتهم بالله تعالى في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية. الفصل الرابع: في جهود علماء الحنفية في تعريف العبادة وأركانها وأنواعها وشروط صحتها، وإبطال عقيدة القبورية في ذلك كله. وفيه ثلاثة مباحث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 المبحث الأول: في تعريف العبادة عند القبورية. المبحث الثاني: في تعريف العبادة عند علماء الحنفية، وجهودهم في إبطال تعريف العبادة عند القبورية. وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال تعريف العبادة عند القبورية. المطلب الثاني: في تعريف العبادة لغة عند علماء الحنفية. المطلب الثالث: في تعريف العبادة اصطلاحًا عند علماء الحنفية. المبحث الثالث: في أركان العبادة وأنواعها وشروط صحتها عند علماء الحنفية، وردهم على القبورية في ذلك كله. وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في أركان العبادة عند علماء الحنفية. المطلب الثاني: في أنواع العبادة عند علماء الحنفية. المطلب الثالث: في شروط صحة العبادة عند علماء الحنفية. الباب الثالث: في جهود علماء الحنفية في تعريف الشرك وبيان أنواعه وتطوره، ومصدر عبادة القبور، ونشأة القبورية وانتشارهم، وتحقيق أن الشرك موجود في القبورية من هذه الأمة، وجهودهم في إبطال عقائد القبورية في ذلك كله. وفيه فصول ثلاثة: الفصل الأول: في تعريف الشرك، وبيان أنواعه ومصدره وتطوره، ونشأة القبورية وانتشارهم، عند علماء الحنفية، وإبطال عقائد القبورية في ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وفيه مباحث ثلاثة: المبحث الأول: في تعريف الشرك عند علماء الحنفية، وردهم على القبورية في ذلك. وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في تعريف القبورية للشرك. المطلب الثاني: في تعريف علماء الحنفية للشرك. المطلب الثالث: في إبطال علماء الحنفية تعريف القبورية للشرك. المبحث الثاني: في بيان أنواع الشرك عند علماء الحنفية وردهم على القبورية. المبحث الثالث: في بيان مصدر الشرك بعبادة القبور وتطوره ونشأة القبورية وانتشارهم عند علماء الحنفية؛ وتحقيقهم أن القبورية أهل الشرك؛ وثنية عبدة الأوثان. وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في بيان مصدر الشرك بعبادة القبور ونشأة القبورية عند علماء الحنفية. المطلب الثاني: في تطور الشرك بعبادة القبور وأهلها، وانتشار القبورية في العالم عند علماء الحنفية، وردهم على القبورية في ذلك كله. المطلب الثالث: في تحقيق علماء الحنفية: أن القبورية أهل الشرك وثنية عبدة الأوثان والأنصاب، وجهود علماء الحنفية في إثبات ذلك بوجوه ثمانية. الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن الشرك موجود في القبورية، وأنه انتشر شرقًا وغربًا، وردهم على القبورية في ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وفيه مباحث ثلاثة: المبحث الأول: في تحقيق علماء الحنفية: أن الشرك موجود في القبورية، شرقًا وغربًا، وأن القبورية قد عمت البلاد وطمت العباد إلا من رحمه الله تعالى. وفيه مطلبان: المطلب الأول: في بيان تاريخ القبورية إجمالًا. المطلب الثاني: في جهود علماء الحنفية في بيان أن الشرك بعبادة القبور قد عم البلاد وطم العباد إلا من رحمه الله. المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في المقارنة بين القبورية وبين الوثنية الأولى، وتحقيق أن القبورية على طريقة الوثنية الأولى، بل القبورية أشد شركًا من الوثنية الأولى في باب الاستغاثة. المبحث الثالث: في الجواب عن شبهة القبورية في إنكارهم وجود الشرك في هذه الأمة. الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية عن شبهات القبورية الأخرى التي تشبثوا بها لتبرير شركهم الأكبر، وعبادتهم القبور وأهلها. الباب الرابع: في جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك ووجوب حماية حمى التوحيد ووجوب سد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك وردهم على القبورية في ذلك كله. وفيه فصول ثلاثة: الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك. وفيه مباحث ثلاثة: المبحث الأول: في ذكر بعض الآيات الكريمات التي تحذر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الشرك مع أقوال علماء الحنفية في تفسيرها. المبحث الثاني: في ذكر بعض الأحاديث النبوية التي تحذر من الشرك مع أقوال علماء الحنفية في شرحها. المبحث الثالث: في نصوص علماء الحنفية في التحذير من الشرك. الفصل الثاني: في تقرير سبعة قواعد أصولية فقهية لعلماء الحنفية يستفاد منها في حماية حمى التوحيد وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك. الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال ثلاثين ذريعة للشرك، وردهم على عقائد القبورية في ذلك حماية وسدًّا لجميع ذرائع الشرك. الباب الخامس: في بيان غلو القبورية في الصالحين وجهود علماء الحنفية في إبطاله. وفيه قسمان: القسم الأول: في عرض أمثلة لغلو القبورية في الصالحين. وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في غلوهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم. الفصل الثاني: في غلو القبورية في بعض الأولياء خاصة. الفصل الثالث: في غلو القبورية في الأولياء عامة. وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في عرض أمثلة لغلو القبورية في الأولياء عامة. المبحث الثاني: في التنبيه على أمر مهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 المبحث الثالث: في التنبيه على أمر أهم من الأمر الأول: المقارنة بين القبورية من بعض الديوبندية وبين البريلوية. القسم الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في الصالحين: وفيه فصول ثلاثة: الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية إجمالًا: وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في استدلال علماء الحنفية بالكتاب، على إبطال الغلو. المطلب الثاني: في استدلال علماء الحنفية بالسنة على إبطال الغلو. المطلب الثالث: في نصوص علماء الحنفية على أن الغلو في الصالحين من أعظم أسباب وقوع القبورية في الشرك. الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في حياة الأموات وسماعهم نداء المستغيثين عند الكربات: وفيه مباحث ثلاثة: المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في حياة الأموات وجعل حياتهم البرزخية حياة دنيوية. المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى نداء المستغيثين بهم عند النوازل: وفيه مقامان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المقام الأول: في عرض عقيدة القبورية في سماع الأموات لنداء المستغيثين بهم. المقام الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى. المبحث الثالث: في إبطال علماء الحنفية لشبهات القبورية في حياة الأموات وسماع الموتى. الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية بجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم نورًا لا بشرًا. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في كلام بعض علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبورية في جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم نورًا لا بشرًا. المبحث الثاني: في تنبيهات ثلاثة. الباب السادس: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب، والتصرف في الكون للصالحين، بل للطالحين: وفيه فصول ثلاثة: الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله: وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: في استدلال علماء الحنفية ببعض الآيات الكريمات على إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله. المطلب الثاني: في استدلال علماء الحنفية ببعض الأحاديث الصحيحة على إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 المطلب الثالث: في ذكر بعض نصوص علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله. الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبورية في التصرف في الكون لغير الله تعالى. وفيه مباحث ثلاثة: المبحث الأول: في ذكر الآيات القرآنية التي استدل بها علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية في التصرف في الكون لغير الله سبحانه. المبحث الثاني: في ذكر بعض الأحاديث التي استدل بها علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية في التصرف في الكون لغير الله سبحانه. المبحث الثالث: في نصوص علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية في التصرف في الكون لغير الله سبحانه، وتصريحاتهم بأن هذه العقيدة شرك وكفر. الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها لدعم عقيدتهم في علم الغيب والتصرف في الكون لغير الله. الباب السابع: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وعرض عقيدة القبورية في الاستغاثة وتحقيق أنهم أشد شركًا من الوثنية الأولى. وفيه فصول ثلاثة: الفصل الأول: في عرض عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فيما لا يقدر عليه إلا الله. وفيه مباحث ثلاثة: المبحث الأول: في تحقيق أن الاستغاثة بغير الله أهم العقائد القبوريات عند القبورية. المبحث الثاني: أن الاستغاثة بغير الله أنفع للمكروب عند القبورية من الاستغاثة بالله. وثمانية عشر مثالًا لذلك. المبحث الثالث: في بيان أمثلة متفرقة لعقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله. وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في الاستغاثة بالأحياء الغائبين والأموات. وفيه أمران مهمان: الأمر الأول: في صيغ استغاثتهم بغير الله. الأمر الثاني: في عقيدة القبورية أن الاستغاثة بغير الله تجوز في جميع الحالات والأوقات. الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في استدلال علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله. وفيه مطلبان: المطلب الأول: في استدلال علماء الحنفية بالكتاب على إبطال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 عقيدة القبورية في الاستغاثة بغير الله. المطلب الثاني: في استدلال علماء الحنفية بالسنة على إبطال عقيدة القبورية في الاستغاثة بغير الله. المبحث الثاني: في نصوص علماء الحنفية لتحقيق أن الاستغاثة بغير الله تعالى أمر محرم بل إشراك بالله تعالى، بل أم لعدة أنواع من الإشراك. وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في نصوص علماء الحنفية لتحقيق أن الاستغاثة بغير الله أمر محرم في دين الله. المطلب الثاني: في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله إشراك بالله تعالى. المطلب الثالث: في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله ليس شركًا بالله فحسب، بل هي أم لعدة أنواع من الإشراك بالله عز وجل. الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد شركًا من الوثنية الأولى، وأنهم أشد خوفًا وأكثر خضوعًا وأعظم عبادة للأموات منهم لخالق الكائنات؛ في باب الاستغاثات. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد شركًا من الوثنية الأولى. المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد خوفًا ورجاء وأكثر خضوعًا وتضرعا وأعظم توجهًا وعبادة للأموات منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 لخالق البريات في باب الاستغاثات. الباب الثامن: من جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها لتبرير استغاثتهم بالأموات: وهي عشرون شبهة. الباب التاسع: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في التوسلات الشركية والبدعية: وفيه فصول ثلاثة: الفصل الأول: في تعريف التوسل والوسيلة لغة واصطلاحًا عند علماء الحنفية، وعند القبورية. وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في تعريف التوسل والوسيلة لغة. المطلب الثاني: في تعريف التوسل والوسيلة اصطلاحًا عند علماء الحنفية. المطلب الثالث: في تعريف التوسل والوسيلة في اصطلاح القبورية، وأنواع التوسل عندهم. الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في بيان أنواع التوسل الشرعية منها والقبورية وإبطال التوسلات القبورية الشركية منها والبدعية. وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في بيان أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية. المطلب الثاني: في بيان أنواع التوسل القبوري: الشركي والبدعي عند علماء الحنفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 المطلب الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال توسلات القبورية الشركية منها والبدعية بعدة وجوه. الفصل الثالث: في إبطال علماء الحنفية شبهات القبورية في توسلاتهم الشركية والبدعية. الباب العاشر: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر والتبرك وزيارة القبور وبناء القبب والمساجد عليها. وفيه فصول ثلاثة: الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور والتبرك المحذور. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور. وفيه مطالب ثلاثة: المطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في نذورهم لأهل القبور. المطلب الثاني: في إبطال علماء الحنفية عقيدة القبورية في نذورهم لأهل القبور. المطلب الثالث: في إبطال علماء الحنفية لبعض شبهات القبورية في نذورهم لأهل القبور. المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في التبرك. وفيه مطلبان: المطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 المطلب الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال تبركات القبورية الشركية والبدعية. الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور. وفيه مبحثان: المبحث الأول: في عرض عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور. المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور. الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في بناء القبب والمساجد على القبور. وفيه مباحث ثلاثة: المبحث الأول: في عرض عقيدة القبورية في بناء القبب والمساجد على القبور. المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في بناء القبب والمساجد على القبور. وفيه مطلبان: المطلب الأول: في استدلال علماء الحنفية بالسنة على تحريم البناء على القبور ووجوب هدم القباب المبنية عليها. المطلب الثاني: في جهود علماء الحنفية في بيان مفاسد بناء القبب والمساجد على القبور. المبحث الثالث: في إبطال علماء الحنفية لبعض شبه القبورية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 بناء القبب والمساجد على القبور. الخاتمة: وفيها أمور ثلاثة: الأول: النتائج. الثاني: الاقتراحات. الثالث: الفهارس. وقد حققت في هذه الأبواب بفصولها ومباحثها أمورًا علمية لا تجدها في صعيد واحد، أهمها: أ- أهمية توحيد الألوهية وأنه هو الغاية، والفروق الجوهرية بينه وبين توحيد الربوبية بثلاثين وجهًا، وإبطال عشرين شبهة للقبورية في جعلهم التوحيدين واحدًا. ب- مباحث مهمة تتعلق بالعبادة والتعريف الصحيح للشرك وأنواعه، وتطوره، ووجوه في هذه الأمة وبيان ثلاثين ذريعة للشرك مع بيان وجوب سدها حماية لحمى التوحيد. ج- الاهتمام البالغ بتاريخ القبورية ونشأتهم الأولى والثانية في الأمم الخالية، ونشأتهم الثالثة في هذه الأمة، وتطور القبورية وانتشارهم ومفاسدهم وأمثلة لشركهم وكفرهم حتى في توحيد الربوبية فضلًا عن توحيد الألوهية، وبيان أنهم أشد شركًا من المشركين السابقين. د- الكشف عن زندقة الصوفية القبورية الحلولية والاتحادية، وأمثلة لأنواع من إلحادهم وتحقيق أنهم أكفر من اليهود والنصارى، مع ذكر خمس وسبعين شبهة للقبورية مع قلعها وقمع أهلها. هـ- تحقيق أن الديوبندية والتبليغية الحنفية قبورية ولكنهم أخف من البريلوية، إلا من شاء الله، مع كون الديوبندية متعصبة كوثرية، مرجئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ماتريدية جهمية، أعداء ألداء للعقيدة السلفية وأهل الحديث، وأئمة الدعوة، وقد سقت من خرافاتهم ثلاثة وثلاثين مثالًا، ولطالما خفي على الناس حقيقة أمرهم، ولكن الحقيقة كما قيل: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود (11) منهجي في هذه الرسالة: لقد اخترت المنهاج الأفضل لجمع جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، وعرض عقائد القبورية، وإبطالها، وإليكم بيان ذلك: أولًا: سقت نصوص علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية من كتبهم مباشرة. ثانيًا: تابعت علماء الحنفية في الشدة والقسوة والغلظة على المعاندين من القبورية. وفي اللين والرحمة والشفقة على العوام الجهلة منهم، اقتضاءً للحكمة، وتحقيقًا للعدل والإنصاف. ثالثًا: ذكرت ردود علماء الحنفية على القبورية من النواحي الثلاث: الناحية الأولى: إبطال علماء الحنفية لعقائد القبورية. الناحية الثانية: جروح علماء الحنفية جروحًا شديدة وقدحهم في القبورية ولا سيما أئمتهم الدعاة إلى الخرافات بذكر أسمائهم وبيان طاماتهم، تحذيرًا للأمة منهم ومن عقائدهم. الناحية الثالثة: ذكرت كلام علماء الحنفية للطعن في كتب القبورية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وإسقاطها عن حيز الاعتماد، لبيان أنها كتب الوثنية والضلال والإضلال. رابعًا: سقت نصوص علماء الحنفية لتحقيق توحيد العبادة، وتوضيح المسائل المتعلقة به. خامسًا: أشرت إلى نصوص أئمة السنة من علماء هذه الأمة ولا سيما شيخ الإسلام (728هـ) ، وابن القيم الهمام (751هـ) ، ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) ، وغيرهم؛ لتأييد أقوال علماء الحنفية؛ وبيان أن الحنفية في ردودهم على القبورية ليسوا منفردين، أو لبيان أن علماء الحنفية قد اقتبسوا أنوارًا من أضواء هؤلاء الأئمة. سادسًا: كل ما نقله علماء الحنفية من نصوص في الرد على القبورية عن شيخ الإسلام أو غيره من الأئمة الأعلام قد خرجته بعزوها إلى كتبهم. سابعًا: عرضت عقائد القبورية من كتبهم ولا سيما من كتب أئمتهم بغاية إنصاف وأمانة بعيدًا عن التحريف والخيانة. ثامنًا: قد ذكرت كثيرًا من الأعلام الفضلاء في عداد القبورية؛ لأنهم قبورية عند الحنفية، بل قد يكون بعضهم من الغلاة القبورية عند الحنفية، وإن كان له محاسن في أبواب الفقه والأصول وغيرها من العلوم. مع العلم أن القبورية يتفاوتون في دركات القبورية من حيث الغلو والإفراط؛ ففيهم وثني أغلى، ووثني غال، ووثني متوسط، وفيهم من قارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الوثنية، وفيهم من كان من الدعاة إلى القبورية، وفيهم من اعتنق بعض عقائد القبورية، وفيهم من تأثر ببعض أفكارهم البدعية، فاستحق اسم القبوري. تاسعًا: خرجت الآيات والأحاديث والآثار، ووثقت النصوص، وشرحت اللغويات، والمصطلحات، وترجمت للأعلام، وعرفت الفرق والأماكن، ونبهت على الأغلاط والأخطاء اللغوية والنحوية الواردة في النصوص، ولا سيما نصوص علماء الحنفية. عاشرًا: جمعت جهود علماء الحنفية، وجندتها ووظفتها لإبطال عقائد القبورية، وشبهاتهم، وتحريفاتهم؛ كتبديلهم لمفهوم التوحيد، وتغييرهم لمعنى الشرك، وتحريفهم لمسمى العبادة؛ وكجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وإنكارهم لتوحيد الألوهية؛ وكعقيدتهم في علم الغيب والتصرف في الكون للأولياء أحياء وأمواتًا؛ وجعل حياتهم البرزخية حياة دنيوية، وإثباتهم لهم سماع نداء المستغيثين بهم؛ وكارتكابهم الاستغاثات الشركية الكفرية والتوسلات الشركية، والبدعية، وزيارة القبور زيارة شركية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وبدعية، وبناء القبب والمساجد على القبور ونحوها من العقائد الباطلة. (12) مواجهة المشكلات: وقد عانيت في تصنيف هذا الكتاب عناءً كثيرًا، وسهرت الليالي لاستخراج اللآلئ، مع وفرة أشغالي وانشغالي بعوائلي وأشبالي، وكثرة أعدائي وقلة أصدقائي، وقصر باعي وضيق دائرة علمي. وقد واجهتني عدة من المشكلات؛ كطول هذه الرسالة، وتشعب مضامينها، وعدم توفر مراجع القبورية، وأمراض أصابتني في نفسي وأهلي وأولادي، وفتن تتابعت على بلادي ودياري، ولكن الله تعالى سهل لي العسير، وبارك لي في اليسير. وها إني أقدمت على هذا العمل العظيم مع هذه المشكلات لأني أعتقد كما يعتقد سلفنا الصالح: من أن الرد على أهل البدع من أعظم الجهاد في سبيل الله، ومن أجل الطاعات لله؛ ومن أهم الواجبات في سبيل الذب عن دين الله: من الدين كشف العيب عن كل كاذب ... وعن كل بدعي أتى بالمصائب ولولا رجال مؤمنون لهدمت ... معاقل دين الله من كل جانب (13) كلمتا رجاء وشكر: وبالجملة: فهذا هو جهد المقل قد قدمته للمسلمين دفاعًا عن توحيد رب العالمين، وقد توخيت فيه الحق والصدق والصواب والإنصاف، وأردت الخير لي وللحنفية، وللقبورية، ولعامة المسلمين، ولخاصتهم. فإن أصبت فذلك قد قصدت ... وإلا فالخير توخيت والحق أردت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وأقول جهارًا: إن ما كان في رسالتي هذه من حق وصواب وخير ونفع - ففضيلة شيخي المشرف عليها، والجامعة الإسلامية، وكل من أعانني من أهل العلم وطلابه وزملائي وأصدقائي حفظهم الله كلهم شركاء معي في الأجر. وكل ما كان فيها من شر وزلة وغلطة وخطأ فأنا المسئول عن ذلك وحدي فقط، وتبعته علي ونسبته إلي فحسب؛ لا إلى فضيلة شيخي المشرف حفظه الله. ولكن إذا نبهت على خطأ علمي - ولو كان المنبه من القبورية والجهمية - فأنا أرجع عن ذلك بدون إصرار ولا عناد إلى الحق والصواب * فإن الحق أحق بالاتباع بلا ارتياب * وإني أحمد الله تعالى وأشكره على أن هداني إلى الإسلام الصحيح الصافي المتضمن للعقيدة الصحيحة السلفية الأثرية، وعلى أن وفقني لتأليف هذا الكتاب في الرد على القبورية، كما وفقني لتأليف الكتاب الأول في الرد على الماتريدية، وعلى أن حبب إلي السنة وأهلها وكره إلي البدعة وأهلها. كما أشكر فضيلة شيخي المشرف على هذه الرسالة الدكتور صالح بن عبد الله آل عبود حفظه الله وأكرمه في الدنيا والآخرة؛ لإخلاصه وسعيه المتواصل ونصحه الكامل، وإشرافه على هذه الرسالة، وتحمل العناء الكثير في هذا الصدد. كما أشكر الجامعة الإسلامية؛ جامعة أهل السنة والحديث والأثر التي تهتم بالتوحيد والعقيدة السلفية ونشر السنة النبوية. كما أشكر كل من أعانني من مشايخي وأهل العلم وطلابه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أصدقائي وأحبائي. والحمد لله رب العالمين * وصلى الله وسلم على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين * والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين * سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الباب الأول في جهود علماء الحنفية في بيان أهمية شأن العقيدة وتعريف التوحيد، وأنواعه، وأهمية توحيد الألوهية، وكونه هو الغاية، وأركانه، وشروط صحته، وردهم على القبورية في ذلك كله. وفيه أربعة فصول: - الفصل الأول: في أهمية شأن العقيدة عند علماء الحنفية. - الفصل الثاني: في تعريف التوحيد وأنواعه عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك. - الفصل الثالث: في أهمية توحيد الألوهية عند علماء الحنفية. - الفصل الرابع: في أركان توحيد الألوهية وشروط صحته عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الفصل الأول في أهمية شأن العقيدة عند علماء الحنفية كلمة بين يدي هذا الفصل: لما كان انحراف القبورية عن أهم أبواب الإيمان والإسلام - ألا وهو باب العقيدة في توحيد الألوهية - ناسب ذلك بيان أهمية العقيدة عند علماء الحنفية لندرك أن انحراف القبورية عن التوحيد الخالص إلى الشرك الأكبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ليس أمرًا سهلًا هينًا في الإسلام، بل هو ضلال وإضلال في صميم هذا الدين المتين، بل خروج عن الملة الإسلامية وارتداد عن دين الإسلام، بعد إتمام الحجة وإيضاح المحجة. إن منزلة العقيدة في الإسلام كمنزلة الأساس للمبنى، فكما أن فساد الأساس يستلزم فساد المبنى، وصحته تستلزم صحة المبنى، كذلك الشأن للعقيدة بالنسبة إلى الأحكام العملية ولذلك نرى أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لإصلاح البشر جميعًا. فكان الرسل عليهم السلام يهتمون بإصلاح العقيدة قبل إصلاح الأعمال. وفساد العقيدة بالإخلال بالتوحيد وارتكاب الشرك يحبط الأعمال كلها، ويجعلها هباء منثورًا، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى، وقد نرى في كثير من الآيات القرآنية تقديم العلميات الاعتقادية على الأحكام العمليات فتكرر قوله تعالى ... {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .... وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 إن دل على شيء فإنما يدل على الاهتمام العظيم بأمر العقيدة بالنسبة إلى الأعمال. وقد اهتم أئمة السنة، وجبال هذه الأمة بشأن العقيدة اهتمامًا لا مزيد عليه. فكانوا يوالون ويعادون بسبب العقيدة وبها كان ولاؤهم وبراؤهم. ولم يكتفوا بذلك، بل اهتموا بشأن العقيدة درسًا وتدريسًا وتأليفًا وهذا دليل قاطع على أنه أول واجب على المكلف. والذي يتأمل نصوص القرآن الكريم يدرك أن الآيات المتعلقة بالاعتقاد أكثر وأوفر، وأن آيات الأحكام العملية قليلة محدودة، وهذا من البراهين الساطعة والحجج الناصعة على أهمية شأن العقيدة في الإسلام * وأن تعلم العقيدة وتصحيحها مقدمان على تعلم بقية الأحكام * ولا سيما ما يتعلق بعلم التوحيد فإنه مواضع القرآن الكريم. وقد درج على ذلك علماء الحنفية أيضًا؛ فاهتموا بشأن العقيدة درسًا وتدريسًا وتصنيفًا، ورأوا أنها أساس للأعمال الشرعية، وأن تعلمها وتعليمها أفضل بالنسبة للأحكام العملية، إلى أن سموا علم الاعتقاد بالفقه الأكبر، وفيما يلي بعض نصوص أئمة الحنفية وعلمائهم: 1- قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى (150هـ) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 (الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير) . 2 - وقال الإمام أبو الليث السمرقندي (375) في شرح كلام الإمام أبي حنيفة هذا: (لأن الفقه في الدين أصل، والفقه في العلم فرع؛ وفضل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الأصل على الفرع معلوم) . 3 - وقال القاضي كمال الدين البياضي (1098) في شرح كلام الإمام أبي حنيفة أيضًا: (وأشار إلى اسمه الدال على شرف مسماه، وكونه أصلًا لما سواه، سماه الفقه الأكبر لعظم موضوعه) . 4 - ومثله كلام للشيخ عبيد الله المفتي. في شرح قول الإمام المذكور. 5 - وقال الإمام ابن أبي العز رحمه الله تعالى (792) محققًا أهمية شأن العقيدة عامة والتوحيد خاصة: (أما بعد: فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 العلوم بشرف المعلوم؛ وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع ولهذا سمي الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين: ((الفقه الأكبر)) ؛ وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة؛ لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف معبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه) . 6 - وقال رحمه الله أيضًا مبينًا أهمية التوحيد: (اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله ... ) . ثم قال: (فالتوحيد أول ما يدخل (المرء) به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا) . ثم قال: (وهو أول واجب وآخر واجب) . 8 - وقال رحمه الله تعالى أيضًا وتبعه العلامة القاري (1014) محققًا أن الموضوع المركزي للقرآن إنما هو التوحيد، واللفظ للأول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 (وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد؛ بل كل سورة من القرآن الكريم، فالقرآن إما خبر عن الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا ويحل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم) . 9 - وقال الناصري: (652) مبينًا سبب تقديم الإمام الطحاوي (321) التوحيد على غيره: (إنما ابتدأ بالتوحيد؛ لأنه أول خطاب يجب على المكلفين وإليه دعت الرسل عليهم السلام وبه نزلت الكتب السماوية) ؛ ثم ذكر الأدلة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الكتاب والسنة على هذه المطلوب في كلام طويل) . 10 - وقال السمرقندي (690) : (أما بعد فإن العلوم وإن تنوع أقسامها وتفرع انقسامها لكن أشرفها رتبة وأعلاها منزلة هو العلم الإلهي الباعث بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة عن أحوال الألوهية وأسرار الربوبية التي هي المطالب العليا والمقاصد القصوى من العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية إذ بها يتوصل إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وتصور صنعه ومصنوعاته) . 11 - 15 - وقال التفتازاني الملقب عند الحنفية بالعلامة الثاني (792هـ) والخيالي (862هـ) والكستلي (901هـ) ، والبهشتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 (979هـ) ، والفريهاري (1239هـ) ، واللفظ للأول: (وبعد: فإن مبنى علم الشرائع والأحكام * وأساس قواعد الإسلام * هو علم التوحيد والصفات) . 16 - وقال التفتازاني عن الحنفية أيضًا: (وسموا العلم باسم الفقه، وخصوا الاعتقاديات باسم الفقه الأكبر، والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه، والاعتقاديات بعلم التوحيد والصفات) . 17 - وقال أيضًا: (قال: ((فهو أشرف العلوم)) ؛ أقول: لما تبين: أن موضوعه أعلى الموضوعات * ومعلوماته أجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 المعلومات * وغايته أشرف الغايات *، مع الإشارة إلى شدة الاحتياج إليه * وابتناء سائر العلوم عليه*) . 18 - وقال الإمام البدر العيني (855هـ) ، مبينًا وجه تقديم الإمام البخاري (256هـ) رحمه الله تعالى - كتاب الإيمان - على غيره من الكتب في جامعه الصحيح: (وقد قدم كتاب الإيمان؛ لأنه ملاك الأمر كله؛ إذ الباقي مبني عليه، مشروط به، وبه النجاة في الدارين) . 19 - وقال العلامة القاري (1014هـ) : (اعلم أن علم التوحيد الذي هو أساس بناء التأييد أشرف العلوم تبعًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 للمعلوم ... ) . قلت: هذا النص وما تقدم مما كان في معناه؛ يدل على فضل التوحيد وأهميته؛ كما أن لله سبحانه وتعالى فضلًا على غيره؛ فللعلم فضل على قدر فضل المعلوم. 20 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي الملقب عند الحنفية بشيخ الإسلام وحجة الهند، وحجة الله، ومسند الوقت (1176هـ) : (باب التوحيد: أصل أصول البر وعمدة أنواعه - هو التوحيد؛ وذلك؛ لأنه يتوقف عليه الإخبات لرب العالمين الذي هو أعظم الأخلاق الكاسبة للسعادة، وهو أصل التدبير العلمي الذي هو أفيد التدبيرين ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على عظم أمره، وكونه من أنواع البر - بمنزلة القلب، إذا صلح صلح الجميع، وإذا فسد فسد الجميع؛ حيث أطلق القول فيمن مات لا يشرك بالله شيئًا: «إنه دخل الجنة أو حرمه الله على النار .... » ، وحكى عن ربه تبارك وتعالى: «من لقيني بقراب الأرض خطيئة، لا يشرك بالله شيئًا - لقيته بمثلها مغفرة» .... ) . 21 - وقال الشيخ أبو الحسن الندوي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 (إن من ميزات الإسلام التركيز على العقيدة؛ لأن جميع الأنبياء قد دعوا إلى عقيدة واحدة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ولا يمكن الإصلاح بدونها؛ فإن أعلى العلوم وأهمها - ما يتعلق بالله تعالى وصفاته؛ لأنه مرجع سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة؛ وبه النصر والتمكين في الأرض؛ وهو غاية استخلاف الإنسان في الأرض؛ ألا وهو التوحيد الخالص المنزه عن كل شائبة؛ وعبادة الله تعالى وحده؛ كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] ؛ والعلماء الربانيون ورثة الأنبياء؛ فهم يهتمون بتنظيف الأرض من الشرك بجميع أشكالها؛ ليهيئوا حقلًا صالحًا لزرع التوحيد فيه؛ وإن استدعى ذلك تحمل الشاقات ... ) . وقال أيضًا: (إن أهم علم أخذ عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هو علم توحيد الله تعالى وصفاته، وهو علم فوق قياس البشر والآلات والتجربة؛ وهو أجل إلى هذا الحد. تتوقف عليه سعادة البشر؛ ولذلك عظم الاعتناء به في كل جيل وعصر وطبقة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 لأن جهلهم يؤدي إلى الشقاء الذي ليس بعده شقاء، وتجاهله وقوع في الهاوية التي ليس لها قرار) . قلت: هذه كانت أمثلة من نصوص علماء الحنفية - في أهمية شأن العقيدة عامة وأمر التوحيد خاصة وهي واضحة في مبانيها، ومعانيها، لا تحتاج إلى تعليق. وبعد أن عرفنا أهمية شأن العقيدة - ننتقل إلى الفصل الثاني؛ لنعرف التوحيد وأنواعه، وبالله التوفيق. ****** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الفصل الثاني في تعريف التوحيد، وبيان أنواعه عند علماء الحنفية، وردهم على تعريف التوحيد عند القبورية في ذلك كله وفيه مبحثان: - المبحث الأول: في تعريف التوحيد لغة واصطلاحا. - المبحث الثاني: في بيان أنواعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 كلمة بين يدي هذا الفصل لقد جهلت القبورية مفهوم التوحيد الذي هو غاية عظمى لخلق الجن والإنس ومقصد أسنى لإرسال الرسل، وهدف أسمى لإنزال الكتب، ألا وهو توحيد العبادة المتضمن لبقية أنواع التوحيد. فحرفت القبورية مفهوم هذا النوع من التوحيد، وفسروه بتوحيد الربوبية، فجعلوا الغاية العظمى والتوحيد المطلوب هو توحيد الربوبية. وبسبب هذا الجهل المركب المطبق المحيط، صاروا أعداء ألداء للتوحيد الصحيح وأهله بحكم ((أن الناس أعداء لما جهلوا)) . ولأجل هذه الطامة الكبرى حرفوا معنى ((العبادة)) تحريفًا واضحًا. كما غيروا معنى ((الشرك)) أيضًا تغييرًا فاضحًا. وأوقعتهم هذه الطامات الثلاث الكبرى في هاوية الإشراك بالله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 تعالى. وعبادة غير الله سبحانه تحت ستار تعظيم الأنبياء، ومحبة الأولياء، والتوسل والكرامة. وقد وصل بهم الجهل والغلو والإسراف إلى حد اتهموا أئمة التوحيد والسنة وأعلام هذه الأمة أمثال شيخ الإسلام ومجدد الدعوة وغيرهما ظلمًا وعدوانًا وبغيًا وبهتانًا بأنهم لا يعرفون التوحيد والإشراك والعبادة، فمست الحاجة إلى تعريف التوحيد تعريفًا صحيحًا. ليعرف المسلمون حقيقة ما يضاد التوحيد من الشرك بالله تعالى. لأن الأشياء تعرف بأضدادها، وبضدها تتبين الأشياء. فأقول: والله المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان * ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 المبحث الأول في تعريف التوحيد عند علماء الحنفية وفيه مطالب ثلاثة: - المطلب الأول: في تعريف التوحيد لغة. - المطلب الثاني: في تعريف التوحيد اصطلاحًا. - المطلب الثالث: في إبطال علماء الحنفية تعريف القبورية للتوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 المطلب الأول في تعريف التوحيد لغة عند علماء الحنفية لقد اهتم علماء الحنفية بتعريف التوحيد لغة، فهو عندهم - لغة -: 1 - مصدر من باب التفعيل من مادة ((وح د)) مثال واوي؛ بمعنى الانفراد. 2 - قال الرازي الحنفي (666هـ) : (ويقال: وحده وأحده بتشديد الحاء فيهما؛ كما يقال: ثناه وثلثه) . 3 - وقال الجرجاني: (816هـ) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 (التوحيد في اللغة: الحكم بأن الشيء واحد والعلم بأنه واحد) . ونحوه قاله آخرون من الحنفية. 4 - وقال الزبيدي (1205هـ) : (وحده توحيدًا: جعله واحدًا، وكذا أحده؛ كما يقال: ثناه وثلثه) . قلت: بناء على ما ذكره هؤلاء العلماء من الحنفية من معنى التوحيد لغة، فالتوحيد يطلق على ثلاثة معان: الأول: جعل الشيء واحدًا. الثاني: الحكم على الشيء بأنه واحد. الثالث: العلم والاعتقاد بأن هذا الشيء واحد. أي: نسبة الشيء إلى الانفراد، ونفي الشركاء عنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فخاصة باب التفعيل هاهنا: التعدية مع النسبة إلى أصل الفعل. هذا كان معنى ((التوحيد)) لغة؛ وأما معناه اصطلاحًا عند علماء الحنفية - فبيانه في المطلب الآتي. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 المطلب الثاني في معنى التوحيد اصطلاحًا إن علماء الحنفية قد عرفوا ((التوحيد)) بعدة تعريفات ولكنها متقاربة المعاني، وإن كانت عبارتها شتى، أذكر منها ما يلي: 1 - قال الإمام أبو جعفر الطحاوي إمام الحنفية في عصره (321هـ) - مبينًا عقيدة الأئمة الثلاثة للحنفية على الإطلاق: أبو حنيفة (150هـ) ، وأبو يوسف (182هـ) ، ومحمد بن الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الشيباني (189هـ) ، رحمهم الله تعالى، معرفًا للتوحيد: (نقول في توحيد الله - معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره) . 2 - وقال الإمام البدر العيني (855هـ) والعلامة أبو الطيب السندهي (1140هـ) ، واللفظ للأول: (توحيد الله تعالى - هو الشهادة بأن الله إله واحد، والتوحيد في الأصل مصدر ((وحد، يوحد)) ، ومعنى: ((وحدت الله)) : اعتقدته منفردًا بذاته وصفاته، لا نظير له * ولا شبيه له، وقيل: التوحيد: إثبات ذات غير مشبهة بالذوات * ولا معطلة من الصفات *) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 3 - وقال الشيخ برخور دار علي: (التوحيد: أن نقول: لا إله إلا الله، مع اعتقاد القلب، والتصديق به، وإفراد الله بالعبادة، فلا يعبد غيره) . 4 - وقال التفتازاني الملقب عند الحنفية بالعلامة الثاني (792هـ) : (حقيقة التوحيد: اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواصها) . 5 - 6 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) وتبعه الفتني (1327هـ) : (التوحيد: اعتقاد حصر وجوب الوجود، وقصر خلق السماوات والأرض وسائر الجواهر لله سبحانه وتعالى، واعتقاد حصر تدبير السماوات والأرض وما بينهما له تعالى؛ فلا يكون غيره سبحانه واجبًا ولا خالقًا ولا مدبرًا، وأنه لا يستحق العبادة غيره جل وعلا) . 7 - وقال الإمام ولي الله أيضًا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 (توحيد الله تعالى: الإقرار بوحدانيته، واتصافه بالمحامد، وتنزيهه عن النقائص، وطرد الإشراك به عبادة واستعانة وذبحًا ونذرًا وحلفًا) . 8 - 10 - وذكر الناصري (652هـ) وابن أبي العز (792هـ) والقاري (1014هـ) : أن التوحيد يتضمن ثلاثة أمور: ربوبية الله، وصفاته، وعبوديته. 11 - 12 - وقال الجرجاني (816هـ) في بيان أركان التوحيد التي هي تعريف له وتبعه الشيخ البركتي: (وهو ثلاثة أشياء: معرفة الله بالربوبية، والإفراد بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة) . 13 - وقال الشيخ عبد الحميد الآلوسي (1324هـ) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 (التوحيد نفي العبد الآلهة الباطلة، والتصديق بأن الله تعالى وحده لا شريك له واحد في ذاته، واحد في صفاته) . 14 - وقال الأستاذ أبو الأعلى المودودي (1977م) . (معنى لا إله إلا الله: أنه ليس ... أحد جدير بأن يعبده الناس ويسجدوا له بالطاعة والعبادة إلا الله. فما لهذا الكون من مالك ولا حاكم إلا هو وحده، وكل شيء مفتقر إليه، مضطر إلى استعانته) . الحاصل: أنه تبين لنا من هذه التعريفات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 أن التوحيد: اعتقاد العبد: أن الله واحد في ذاته وملكه؛ لا ند له، وواحد في صفاته وأفعاله لا مثل له، وواحد في إلهيته وعبادته؛ لا شريك له. وهذا التعريف للتوحيد هو الحق الجامع المانع طردًا وعكسًا بخلاف تعريف القبورية للتوحيد كما سيأتي. وبعد هذا ننتقل إلى المطلب الآتي لنعرف كلام علماء الحنفية في إبطال تعريف القبورية للتوحيد. ******* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 المطلب الثالث في إبطال تعريف القبورية للتوحيد لقد ذكرت في المطلب السابق بعض نصوص علماء الحنفية في تعريف التوحيد اصطلاحًا؛ وحاصل هذه التعريفات: أن ((التوحيد)) هو ((الاعتقاد والشهادة بأن الله سبحانه وتعالى منفرد بذاته وصفاته وربوبيته وإلهيته، وعبادته، لا شريك له في ذلك كله)) . وأقول: إن هذا التعريف هو الصحيح الجامع المانع، الموافق لما عرفه به كثير من أئمة السنة غير الحنفية؛ وإليك بعض التعريفات للتوحيد التي ذكرها علماء أهل السنة غير الحنفية: 1 - هو اعتقاد (أن الله واحد في ملكه، وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له) . 2 - اعتقاد أنه إله واحد لا شريك له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ونفي المثل والنظير عنه، والتوجه إليه وحده بالعبادة، وأنه منفرد في ذاته وصفاته، فلا رب غيره، ولا مشارك له في صفاته، ولا إله غيره. 3 - علم العبد واعترافه واعتقاده بتفرد الرب بكل صفة كمال، وأنه لا شريك في كماله، وفي أنه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. قلت: هذه كلها تعريفات صحيحة؛ جامعة لأفراد التوحيد وأنواعها؛ مانعة عن دخول غيره فيه؛ فهذه الأقوال لهؤلاء الحنفية في تعريف التوحيد، تبطل تعريف القبورية للتوحيد، كما تزهق تعريف الكلامية له. وفيما يلي تعريفات القبورية والكلامية للتوحيد ليظهر جيدًا جليًّا للقراء المتدبرين في هذه التعريفات صحة تعريف علماء الحنفية الذي ذكرته عنهم للتوحيد وبطلان تعريف القبورية الكلامية له. فأقول: وبالله التوفيق: أولًا: تعريف القبورية للتوحيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 1 - اعتقاد انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير وأنه لا فاعل إلا الله تعالى. 2 - (نفي التشبيه والتعطيل) . 3 - (إفراد القديم من المحدث) . ثانيًا: تعريف الكلامية للتوحيد: 1 - إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا نظير له وواحد في أفعاله لا شريك له. 2 - إن الله واحد في ذاته، واحد في صفاته، وخالق لمصنوعاته. 3 - التوحيد: (هو إثبات الوحدة لله في الذات والفعل في خلق الأكوان، وأنه مرجع كل كون، ومنتهى كل قصد، وهذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ... ) . أقول: انتبه أيها المسلم الذي ضالته الحق وفكر في تعريفات هؤلاء القوم من القبورية والكلامية الذين تحالفوا وتآخوا في تعريفاتهم للتوحيد الذي هو أعظم مطلب في الإسلام؛ كيف ضلوا عن الجادة المستقيمة وانحرفوا عن الصراط السوي في معرفة المقصد الأسمى في الإسلام، فقد عرفوا التوحيد بتعريفات ناقصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 غير جامعة لأنواعه. فتعريفاتهم هذه فيها بعض الحق لا كله؛ لأنها في الحقيقة تعريفات لتوحيد الربوبية وتوحيد الصفات، أما توحيد الألوهية والعبادة - فلا شائبة له في هذه التعريفات ألبتة. وهذا الانحراف السافر عن الجادة الصحيحة في معرفة التوحيد والجهل الواضح بحقيقة التوحيد الكامل الخالص - هو السبب الوحيد لانخراطهم في مهاوي أنواع من الشركيات بسبب عبادة القبور وأهلها وتأليه المشايخ وجعلهم أربابًا يعبدونهم من دون الله؛ حيث غفلوا عن حقيقة الألوهية، وفسروا توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية وجعلوه هو الغاية العظمى، مع أن توحيد الربوبية لم ينازع فيه أمثال أبي جهل من صناديد الكفرة والمشركين. ولما كانت الأشياء تعرف بأضدادها، وتبين أن تعريف القبورية والكلامية للتوحيد باطل مزيف وأن الصحيح هو تعريف علماء الحنفية - الموافق لكلام بقية علماء السنة - وأن هذا التعريف يشمل عدة من الأنواع - ننتقل إلى المبحث الثاني لنعرف أنواع التوحيد. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 المبحث الثاني في أنواع التوحيد عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك وفيه مطالب ثلاثة: - المطلب الأول: في أن القبورية لا يرون تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية ورد علماء الحنفية عليهم. - المطلب الثاني: في التقسيم الثنائي للتوحيد عند علماء الحنفية. - المطلب الثالث: في التقسيم الثلاثي للتوحيد عند علماء الحنفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 المطلب الأول في بيان أن القبورية لا يرون تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية ورد علماء الحنفية عليهم لقد سبق أن علماء الحنفية قد عرفوا التوحيد بحيث يدل على أنواعه من توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية. فتعريفهم للتوحيد يدل دلالة قاطعة واضحة على أن توحيد الألوهية من أهم أنواع التوحيد وأنه غير توحيد الربوبية؛ بخلاف القبورية؛ فإنهم عرفوا التوحيد بحيث لا يفهم من تعريفهم له أن هناك توحيدًا يسمى توحيد الألوهية، وأنه نوع من أنواع التوحيد العام المطلق. فالذي يفهم من تعريفات القبورية للتوحيد - هو عين ما يفهم من تعريفات الكلامية له: وهو أن التوحيد ثلاثة أنواع: الأول: توحيد الذات. والثاني: توحيد الصفات. والثالث: توحيد الأفعال. وهذا الأخير هو توحيد الربوبية؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وزعموا أنه هو الغاية العظمى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ولذاك نرى القبورية ينكرون تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية أشد الإنكار. بل قال بعضهم مسفسطًا: إن التوحيد مصدر والمصدر معنى من المعاني لا يمكن تقسيمه لذاته. بل جازف بعضهم إلى حد قال: إن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أنواع: الربوبية، الصفات، الألوهية، ليس من دين السلف؛ بل هو من دين النصارى وأقانيمهم الثلاثة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فتوحيدهم أشبه بتوحيد النصارى؛ فهم يقولون: التوحيد ثلاثة أنواع، والنصارى يقولون: الأب والابن وروح القدس إله واحد. وقد طعنوا في هذا الصدد في شيخ الإسلام، ومجدد الدعوة الإمام، أنواعًا من الطعون وسبوهما أنواعًا من السباب والشتائم - التي لا تصدر إلا من الفسقة الفجرة الرعاع الأوباش. إبطال علماء الحنفية قول القبورية هذا: وقد أجاب علماء الحنفية عن هذيان القبورية هذا بأجوبة سيأتي تفصيلها إن شاء الله. ولكن أذكر هاهنا جوابًا واحدًا ذكره كثير من علماء الحنفية وهو أن هذا الذي ذكرتم من التوحيد الذي ليس فيه توحيد العبادة - وجعلتموه غاية عظمى للبعثة - هو توحيد الربوبية الذي اعترف به المشركون السابقون فليس هذا هو مفترق الطرق بين المسلمين وبين المشركين فدل هذا دلالة قاطعة لا تحتمل النقيض -: أن ما ذكرتم من التوحيد ليس هو كل التوحيد الكامل الخالص المتضمن لتوحيد الألوهية - الذي دعت إليه الرسل وأنزلت لأجله الكتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وبناء على ما سبق - صرح علماء الحنفية بأن تقسيم القبورية وكذا المتكلمة للتوحيد إلى أنواع ثلاثة: 1- توحيد الذات. 2- توحيد الصفات. 3- توحيد الأفعال؛ وهو أشهر أنواع التوحيد عندهم، وهو توحيد الربوبية الذي اعترف به المشركون - باطل؛ لخلو هذه الأقسام عن أهم هذه الأنواع، وهو توحيد الألوهية والعبادة - الذي دعت إليه الرسل ونزلت لتحقيقه الكتب. وإنما الحق والصواب ما سيأتي في المطلبين الآتيين: ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المطلب الثاني في التقسيم الثنائي للتوحيد عند علماء الحنفية لقد تبين مما سبق في المطلب الأول: أن تقسيم القبورية والكلامية للتوحيد - كان باطلًا مزيفًا؛ لعدم شموله لأهم أنواعه؛ ألا وهو توحيد العبادة، وإذا عرفنا بطلان تقسيمهم - للتوحيد - فما هو التقسيم الصحيح للتوحيد الجامع لأنواعه جميعًا؟ والجواب: أن التقسيم الصحيح للتوحيد - هو ما ذكره علماء الحنفية؛ موافقًا لكلام بقية أئمة السنة، من تقسيم التوحيد إلى أنواعه التي يدخل فيها توحيد الألوهية الذي هو أهم أنواع التوحيد. فأقول: لعلماء الحنفية تقسيمان للتوحيد: الأول: تقسيم ثنائي. والثاني: تقسيم ثلاثي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ولا منافاة بين هذين التقسيمين؛ لأن مرجعهما واحد. أما التقسيم الثنائي؛ فلعلماء الحنفية فيه طريقان: الطريق الأول: أن التوحيد قسمان: 1 - توحيد المرسل. 2 - توحيد المتابعة. لقد قسم علماء الحنفية التوحيد إلى قسمين رئيسين: الأول: توحيد المرسل وهو توحيد الله تعالى - بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل. والثاني: توحيد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم - بكمال التسليم والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق؛ كأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة يقوله. وعدم معارضته بالقياس والعقول، وعدم تقديم أقوال الأئمة على أمره وقوله؛ وعدم عرض قوله وخبره على قول المشائخ والأئمة؛ فلا يفعل ما يفعله كثير ممن أخل بهذا التوحيد - من المتكلمة والمقلدة -؛ حيث يعرضون قول الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره وخبره على أقوال المشائخ والأئمة. فإن وافق قولهم - قبلوه ونفذوه؛ وإلا فوضوا فيه وأعرضوا عنه؛ أو حرفوه عن مواضعه، وسموا تحريفه تأويلًا وحملًا؛ بل الغرض والواجب المبادرة إلى امتثال قوله صلى الله عليه وسلم من غير التفات إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 سواه) . قلت: النوع الأول: وهو توحيد المرسل - يتنوع عند علماء الحنفية: إلى ثلاثة أنواع ومتضمن لها ومستلزم لها وهي: 1 - توحيد الربوبية. 2 - توحيد الصفات. 3 - توحيد العبادة. فلا يتناقض هذان التقسيمان الثنائي والثلاثي. قلت: هذا النوع من التوحيد (توحيد المرسل) - هو الأصل، وقد أشار الإمام ابن القيم رحمه الله إلى هذين النوعين في التوحيد بقوله: هذا وثاني نوعي التوحيد تو ... حيد العبادة منك للرحمن إلى أن قال: والسنة المثلى لسالكها فتو ... حيد الطريق الأعظم السلطاني فلواحد كن واحدًا في واحد ... أعني سبيل الحق والإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وأما النوع الثاني: وهو توحيد المتابعة - فهو أيضًا في غاية الأهمية عند علماء الحنفية الذين عرفوا مكانة هذا النوع من التوحيد؛ فقد صرحوا بأن من أخل بهذا النوع من التوحيد؛ فقد اتخذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله؛ وعبد المشايخ والأئمة؛ وأشرك بالله تعالى؛ وأنه مشرك كافر يستتاب - وإلا قتل، كما يفعله الغلاة المقلدة للمشايخ والأئمة. قلت: لقد صدق هؤلاء العلماء الحنفية في أن بعض المقلدين من الغلاة الجامدين - يرفعون الأئمة فوق منزلتهم؛ كأنهم رسل وأنبياء؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بل يجعلهم أربابًا يعبدونهم من دون الله - بالطاعة المطلقة؛ فيعرضون نصوص الكتاب والسنة على أقوالهم؛ فما وافق قولهم قبلوه وما خالفه أولوه أو ردوه؛ بل وصل ببعضهم الحال إلى حد اعتراف بأن الحق كذا؛ ولكن اتباع المذهب واجب. فرد الحق بعد ما عرفه لأجل المذهب، وهذا نوع من دأب اليهود نسأل العافية. وقد وصل الغلو بالشيخ محمود الحسن الملقب عند الديوبندية بشيخ الهند وصدر المدرسين بجامعة ديوبند وأحد كبار أئمتهم (1339هـ) ، - إلى هاوية، قال بلسانه وشهد على نفسه ببنانه: (إن مسألة الخيار: ((خيار المجلس للمتعاقدين)) من مهمات المسائل؛ وخالف أبو حنيفة فيه الجمهور، وكثير من الناس المتقدمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 والمتأخرين وصنفوا رسائل في ترديد مذهبه في هذه المسألة؛ ورجع مولانا الشاه ولي الله المحدث الدهلوي قدس سره في رسائل مذهب الشافعي؛ من جهة الأحاديث والنصوص؛ وكذلك قال شيخنا من ظله بترجيح مذهبه، وقال: الحق والإنصاف: أن الترجيح للشافعي في هذه المسألة، ونحن مقلدون يجب علينا تقليد إمامنا أبي حنيفة) !؟ وقد وصل في الغلو والتعصب للحنفية إلى حد حرف في القرآن؛ وزاد فيه ما لم يقله ربنا الرحمن. وجازف بعض غلاة الديوبندية في التعصب للحنفية إلى أن قال: (وقالوا: المنتقل من مذهب إلى مذهب آخر باجتهاد وبرهان - آثم يستوجب التعزير؛ فبلا اجتهاد وبرهان أولى) . قلت: لقد ارتكب هذا القائل طامتين: الأولى: أنه وصل في الغلو في المذهب وللمذهب إلى حد - هو شرك وإخلال بتوحيد المتابعة عند محققي الحنفية كما سبق آنفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والثانية: أنه أحال على فتح القدير للإمام ابن الهمام (861هـ) . مع أن الإمام ابن الهمام قد رد على هذه الخرافة. هذه كانت الطريقة الأولى في التقسيم الثاني: وأما الطريقة الثانية فيأتي بيانها الآن بإذن الله وتوفيقه: الطريق الثاني للحنفية في تقسيم الثنائي للتوحيد: لعلماء الحنفية طريق ثان في تقسيم التوحيد إلى نوعين؛ فقد قالوا: التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه - نوعان: الأول: توحيد في الإثبات والمعرفة. والثاني: توحيد في الطلب والقصد. وبعبارة أخرى: توحيد المعرفة والإثبات. وتوحيد القصد والعمل. ويسمون الأول أيضًا: التوحيد العلمي الخبري، والثاني التوحيد الإرادي الطلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 كما يسمون الأول: التوحيد في العلم والتوحيد العلمي. والثاني: التوحيد في الإرادة والقصد، والتوحيد القصدي الإرادي. تعريف هذين النوعين للتوحيد. لقد عرف علماء الحنفية هذين النوعين للتوحيد؛ فقالوا: الأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله؛ كما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح؛ كما في أوائل سورتي الحديد، وطه، وآخر سورة الحشر، وأوائل سورتي السجدة وآل عمران، وسورة الإخلاص وغيرها. وأما النوع الثاني: فهو قصد الله تعالى وطلبه سبحانه بعبادته وحده لا شريك له في ذلك؛ وذلك مثل ما تضمنته سورة: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها، وأول سورة يونس وأوسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام. وجه الحصر في هذين النوعين: لقد ذكر علماء الحنفية وجه الحصر لهذين النوعين للتوحيد؛ فقالوا: القرآن كله: إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله - فهو التوحيد العلمي الخبري. وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه - فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته - فهو من حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد في الدنيا والآخرة - فهو ثواب التوحيد. وإما خبر عن أهل الشرك وما حل بهم من النكال في الدنيا وما يحل بهم من العذاب في العقبى - فهو جزاء من خرج عن التوحيد. تنبيه: لقد صرح علماء الحنفية - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 بأن التوحيد في المعرفة والإثبات - يشمل النوعين من التوحيد وهما: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات. وأما توحيد القصد والعمل - فهو النوع الثالث وهو: توحيد الألوهية. فلا منافاة لهذا التقسيم الثنائي للتوحيد، وبين التقسيم الثلاثي الآتي. **** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المطلب الثالث في التقسيم الثلاثي للتوحيد عند الحنفية لقد سبق أن علماء الحنفية يقسمون التوحيد إلى نوعين، ولكنهم تارة يقسمونه إلى ثلاثة أنواع؛ فيقولون: التوحيد أنواع ثلاثة: الأول: توحيد الأسماء والصفات. الثاني: توحيد الربوبية. الثالث: توحيد الألوهية ((توحيد الإلهية)) . قلت: هذه الأقسام الثلاثة للتوحيد التي ذكرها علماء الحنفية لا تختلف في المعنى عن النوعين اللذين ذكرهما هؤلاء العلماء الحنفية في التقسيم الثنائي السابق. وإنما الفرق في المباني لا في المعاني؛ فإن النوعين السابقين في المعنى لا يختلفان عن هذه الثلاثة كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 سبق، غير أن الفرق في الإجمال والتفصيل؛ فمن أجمل ذكر النوعين ومن فصل ذكر الثلاثة. وهذا التقسيم الثلاثي الذي ذكره علماء الحنفية - أيضًا موافق لما قاله سائر أئمة السنة؛ فقد ذكر هذه الأنواع الثلاثة كثير منهم غير الحنفية أيضًا. وبعدما ذكرت تقسيم الحنفية التوحيد إلى الأنواع الثلاثة يحسن أن أذكر عنهم تعريف كل نوع على حدة؛ لتتضح المحجة وتقام الحجة: الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات: هو اعتقاد إثبات ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم - له تعالى من غير تشبيه ولا تكييف ولا تأويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الثاني: تعريف توحيد الربوبية: هو الاعتقاد بأن الله هو وحده الخالق الرازق والمدبر والنافع والضار والمجير والمحيي والمميت: فلا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا نافع ولا ضار ولا مجير غيره سبحانه. الثالث: تعريف توحيد الألوهية: هو الاعتقاد بإفراد العبادة لله الواحد الصمد؛ لأن ((الإله)) من يقصد للعبادة. قلت: هذه الأنواع للتوحيد التي ذكرها علماء الحنفية كما ذكرها غيرهم من أئمة السنة - هي الحق الصواب الذي لا يحتمل النقيض؛ لأن توحيد العبادة - الذي هو أهم هذه الأنواع - هو في الحقيقة مفترق الطرق بين المسلمين وبين المشركين، ولأجل تحقيقه أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، وهو المتضمن المستلزم لتوحيد الربوبية وتوحيد الصفات، أما ما ذكره القبورية والكلامية - فناقص؛ لأنه بعض الحق لا كله؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 لعدم شموله توحيد العبادة الذي هو المقصود الأعلى الأسمى والغاية العظمى، فإن توحيد الربوبية لا خلاف فيه للمشركين؛ قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) ، والإمام ابن أبي العز (792هـ) ، واللفظ للأول: (توحيد الربوبية هو الذي أقرت به الكفار جميعهم؛ ولم يخالف أحد منهم في هذا الأصل إلا الثنوية والمجوس. وأما غيرهما من سائر فرق الكفر والشرك - فقد اتفقوا على أن خالق العالم ورازقهم، ومدبر أمرهم ونافعهم وضارهم، ومجيرهم واحد، لا رب ولا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا نافع ولا ضار ولا مجير غيره؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84-85] . {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31] .... ، وإذا علمت هذا - تبين لك أن المعركة بين أهل التوحيد والمشركين - في الألوهية فقط .... ، وجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم دعوا إلى توحيد الله وعبادته) . قلت: إذا كان الأمر على ما ذكره علماء الحنفية من اعتراف المشركين كافة بتوحيد الربوبية؛ وأن المعترك كان توحيد الألوهية؛ وأن الله قد أنزل لتحقيقه الكتب وأرسل للدعوة إليه الرسل - كيف يصح للقبورية إنكارهم لتقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية؟ وكيف يتم لهم أن توحيد الربوبية هو الغاية؟ وبهذه التحقيقات النفيسة تبين إبطال جميع ما هذوا به في الطعن في تقسيم التوحيد إلى هذه الأنواع الثلاثة، كيف لا وقد اعترف بهذا كله أحد كبار من له صلة بالقبورية ألا وهو الشيخ أبو غدة الكوثري الحنفي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وفيما يلي نصه بحرفه وفصه ليكون فيه عبرة للمعتبرين ونكال للمعاندين وإتمام الحجة على القبورية وإلقام الحجر في أفواه الخرافية عامة، والكوثرية خاصة؛ قال بعد ذكر توحيد الأسماء والصفات: (وأما تقسيم التوحيد إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية - فهذا تقسيم اصطلاحي استقاه العلماء مما جاء في الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى؛ مما رد الله تعالى به على المشركين الذين كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية؛ وفي سورة الفاتحة التي يقرأها المسلم في صلاته مرات كل يوم - دليل على ذلك؛ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قلت: لقد أنطق الله هذا الكوثري ببعض الحق؛ فقد حقق وأثبت أن تقسيم التوحيد إلى هذه الأنواع الثلاثة من صميم الإسلام ومستقى من القرآن ولا سيما أم القرآن؛ فقوله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : توحيد الربوبية. وقوله جل وعلا: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} : توحيد الأسماء والصفات. وقوله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : توحيد الألوهية. فهل يبقى عذر للقبورية بعد شهادة هذا الكوثري بلسانه واعترافه ببيانه؟!!؟ . وبعدما عرفنا التوحيد وأنواعه - ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف أهمية توحيد الألوهية، وكونه هو الغاية العظمى عند علماء الحنفية، وردهم على القبورية؛ لأنه من موضوع هذه الرسالة. **** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الفصل الثالث في أهمية توحيد الألوهية وكونه هو الغاية عند علماء الحنفية لقد تبين مما سبق أهمية شأن العقيدة في الإسلام بصفة عامة كما سبق تعريف التوحيد وأنواعه وأهميته بين العقائد بصفة خاصة. وفي هذا الفصل أتحدث عن جهود علماء الحنفية في بيان أهمية توحيد العبادة بين سائر أنواع التوحيد بصفة أخص؛ لأن غالب انحراف القبورية إنما كان عن توحيد العبادة حيث أشركوا بالله سبحانه وتعالى، وعبدوا القبور وأصحابها بأنواع العبادات؛ فأخلوا بهذا النوع من التوحيد إخلالًا واضحًا سافرًا، وناقضوه فناسب ذلك أن أذكر جهود علماء الحنفية في بيان أهمية توحيد الألوهية؛ وكونه هو الغاية العظمى والمقصد الأسمى من الخلق وإرسال الرسل وإنزال الكتب ليعرف المسلمون مدى ضلال القبورية عن أهم نوع من أنواع التوحيد وإخلالهم بالمقصد الأسنى، ومناقضتهم للهدف الأسمى وانحرافهم عن الغاية العظمى التي هي توحيد العبادة المتضمن لبقية أنواع التوحيد. وبيان ذلك في عدة وجوه: الوجه الأول: وجه إجمالي يجمع ميزات توحيد العبادة على وجه الإجمال، والوجوه التي بعده تفصيل وشرح له، فهو أم الوجوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) والعلامة القاري (1014هـ) واللفظ للأول: (اعلم أن التوحيد [توحيد العبادة] : 1 - أول دعوة الرسل. 2 - وأول منازل الطريق. 3 - وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] . وقال هود عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65، هود: 50] . وقال صالح عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73، هود: 61] . وقال شعيب عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85، هود: 84] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» . 4 - ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف ((شهادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أن لا إله إلا الله)) . لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك. كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم. بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان. ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك ولم يوجب أحد منهم على وليه: أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين؛ وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبًا باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجود الصلاة؛ لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك ... 5 - فالتوحيد أول ما يدخل [المرء] به في الإسلام. 6 - وآخر ما يخرج به من الدنيا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة» . 7 - وهو أول واجب وآخر واجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 8 - فالتوحيد أول الأمر وآخره؛ أعني: توحيد الإلهية؛ فإن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها: الكلام في الصفات. والثاني: توحيد الربوبية. وبيان أن الله وحده خالق كل شيء. والثالث: توحيد الإلهية؛ وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له) . الوجه الثاني: أن توحيد العبادة هو المطلب الأعلى والهدف الأسمى والمقصد الأسنى المطلوب من الناس والمأمور به؛ قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) - بعدما أبطل مزاعم المتكلمين في كون توحيد الربوبية هو الغاية، محققًا أن توحيد الربوبية أمر فطري مركوز مستقر في فطر الناس وأن المشركين كانوا معترفين به. وأن مفترق الطرق والمعترك إنما هو توحيد الألوهية -: (فعلم أن المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وقد استدل علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب بعدة آيات أذكر منها آيتين على سبيل المثال مع أقوالهم في تغييرها: الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] . قال الإمام أبو الثناء محمود بن عبد الله الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) : (والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في الكتب الإلهية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} : جليل الشأن وهو الله سبحانه، ويطيعوا أمره ولا يطيعوا أمر غيره؛ فإن ذلك مناف لعبادته جل شأنه ...... ) . وقال الإمام أبو السعود العمادي (982هـ) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ( {وَمَا أُمِرُوا} أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابيهم {إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} عظيم الشأن وهو الله سبحانه وتعالى، ويطيعوا أمره، ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه؛ فإن ذلك مخل بعبادته تعالى؛ فإن جميع الكتب السماوية متفقة على ذلك قاطبة ... ) . وهكذا قاله كثير من الحنفية. وقال العلامة الوالي (1362هـ) وتبعه تلميذه الشيخ الغلام (1980م) ، واللفظ للثاني: (إن اليهود والنصارى قد اتخذوا مشائخهم وأئمتهم أربابًا؛ فعبدوهم من دون الله تعالى؛ مع أنهم قد أمروا في التوراة والإنجيل بأن لا يعبدوا إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الله سبحانه؛ لأنه لا متصرف في العالم ولا قاضي للحاجات، ولا مستحق للاستغاثة والنداء لدفع الكربات وطلب المنافع غيره عز وجل) . الآية الثانية: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] . قال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) مفتي الحنفية ببغداد: ( {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} : جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا ... ، أي والحال: أنهم ما كلفوا في كتابهم بما كلفوا به لشيء من الأشياء إلا لأجل عبادة الله تعالى؛ وقال الفراء: ((العرب تجعل اللام موضع ((أن)) في الأمر: ((أمرنا لنسلم)) وكذا في الإرادة: ((يريد الله ليبين لكم)) ؛ فهي هاهنا بمعنى ((أن)) أي بأن ((يعبدوا الله)) ؛ وأيد بقراءة عبد الله: ((إلا أن يعبدوا)) . فيكون عبادة الله تعالى هي المأمور بها، والأمر على ظاهره، والأول هو الأظهر؛ وعليه قال علم الهدى أبو منصور الماتريدي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ((وهذه الآية علم منها معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ؛ أي: إلا لأمرهم بالعبادة، فيعلم المطيع من العاصي)) . وهو - كما قال الشهاب - ((كلام حسن دقيق)) ..) . الوجه الثالث: أن توحيد العبادة غاية خلق الجن والإنس: لقد استدل كثير من علماء الحنفية بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] على أن عبادة الله تعالى وحده لا شريك له هي غاية خلق الجن والإنس وسر خلقهم، والحكمة منه وغاية العباد التي خلقوا لها، ولهم في ذلك نصوص مهمة متنوعة طويلة وهذا الذي ذكرته هو لب ما قالوه في تفسير هذه الآية. الوجه الرابع: أن توحيد العبادة غاية إرسال الرسل عليهم السلام. لقد صرح علماء الحنفية أن المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فلم يكونوا يعارضون فيه، فلم يكن هو الغاية لإرسال الرسل وإنما المعترك، والمختلف فيه ومفترق الطرق هو توحيد العبادة الذي ناقضه المشركون، فأرسل الله تعالى الرسل عليهم السلام؛ ليدعوا الناس إلى تحقيقه؛ فعلم أن الرسل لم ترسل لتحقيق توحيد الربوبية؛ وإنما أرسلت لتحقيق توحيد الألوهية والدعوة إليه. وفيما يلي أذكر بعض نصوص علماء الحنفية: 1 - قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) : (اعلم أن التوحيد [أي توحيد العبادة] أول دعوة الرسل .... ) ثم ذكر عدة آيات كريمات للبرهنة على أن الرسل عليهم السلام إنما أرسلت للدعوة إلى توحيد العبادة وتحقيقه، ثم ذكر عدة ميزات لتوحيد العبادة تدل على أهميته بين سائر أنواع التوحيد، وحقق أن الغاية إنما هو توحيد العبادة لا توحيد الربوبية ثم أشبع الرد على المتكلمين والصوفية في جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية وبين أن أهل الملل والنحل من جميع أصناف المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية؛ فلا يمكن أن يكون هو الغاية كما لا يمكن إرسال الرسل لأجله) . 2 - ثم قال رحمه الله وتبعه العلامة نعمان الآلوسي (317هـ) واللفظ للأول: (وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ؛ لاعتقادهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن، ودعت إليه الرسل عليهم السلام وليس الأمر كذلك؛ بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية، المتضمن توحيد الربوبية؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد؛ كما أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] . {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85] . ومثل هذا كثير في القرآن. ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام: أنها مشاركة لله في خلق العالم؛ بل كان حالهم كحال أمثالهم من مشركي الأمم في الهند والترك والبربر وغيرهم؛ تارة يعتقدون: أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله؛ وهذا كان أصل شرك العرب؛ قال تعالى حكاية عن قوم نوح: .... {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] ؛ وقد ثبت في صحيح البخاري، وكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 التفسير، وقصص الأنبياء، وغيرها: عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف: أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح؛ فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى قبائل العرب، ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما: قبيلة قبيلة) . 3 - ثم قال رحمه الله بعد كلام طويل: (فعلم أن التوحيد المطلوب - هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية) . 4 - ولأحمد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني مجدد الألف الثاني (1034هـ) - كلام في أن توحيد العبادة غاية إرسال الرسل؛ لأن المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية ووجود الله تعالى، وتوحيد العبادة أهم من توحيد الربوبية، فمن لم يحقق ما قاله الأنبياء من توحيد العبادة - لا يتخلص من الشرك. 5 - وقال العلامة القاري (1014 هـ) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 (وفي فطر الخلق إثبات وجود الباري ... ، يشير إليه قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ؛ ولهذا لم يبعث الأنبياء إلا للتوحيد [أي توحيد العبادة] ؛ لا لإثبات وجود الصانع .... ) . 6 - وقال أيضًا في بيان سبب عدم تعرض الإمام أبي حنيفة لمباحث توحيد الربوبية: (وقد أعرض الإمام عن بحث الوجود اكتفاءً بما هو ظاهر في مقام الشهود ففي التنزيل: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ؛ فوجود الحق ثابت في فطر الخلق، كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ويومئ إليه حديث «كل مولود يولد على فطرة الإسلام» ، وإنما جاء الأنبياء عليهم السلام لبيان التوحيد [توحيد العبادة] ، وتبيان التفريد؛ ولذا أطبقت كلمتهم، وأجمعت حجتهم على كلمة ((لا إله إلا الله)) ، ولم يؤمروا بأن يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا: ((الله موجود)) ؛ بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود؛ ردا لما توهموا وتخيلوا؛ حيث قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ، و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 [الزمر: 3] ؛ على أن التوحيد [توحيد العبادة] يفيد الوجود مع مزيد التأييد) . 7 - وقال الشاه أنور الكشميري أحد كبار أئمة الحنفية (1352هـ) : (واعلم أن كلمة الإخلاص لاستئصال الإشراك في العبادة دون الإشراك في الذات، وعليه [أي على توحيد العبادة] تنبني دعوة الأنبياء عليهم السلام؛ لأن منكري الربوبية، أو المشركين في الذات كانوا أقل قليل، فلم يريدوا بتلك الكلمة [يعني لا إله إلا الله] إلا الرد على الذين كانوا يشركون في العبادة، [دون الربوبية] ؛ كما حكى الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، يعني: أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الله واحد، وهؤلاء مقربون إليه؛ والعياذ بالله؛ وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] ، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] ، ولم يقل: ((يجحدون)) ، فعلم أنهم لم يكونوا منكرين لتلك الكلمة رأسًا؛ لأن الاستكبار بعد العلم؛ وقد مر أن أول من بعث لدحض الكفر هو نوح عليه الصلاة والسلام، وقبله لم يكن إلا الإيمان فقط، ثم جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقابل قوم نمروذ، وكانوا مشركين في العبادة، فرد عليهم بأبلغ وجه وأتم تفصيل، وعلى هذا فالملة الإبراهيمية هي استئصال الإشراك في العبادة. 8 - وقد احتج كثير من علماء الحنفية بكثير من الآيات؛ على أن توحيد العبادة هو غاية إرسال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وأنهم لم يدعوا الناس إلى توحيد الربوبية؛ لأنهم كانوا معترفين به؛ وإنما دعوا الأمم إلى توحيد العبادة؛ لأن إشراكهم إنما كان في العبادة؛ دون الربوبية والخالقية والرازقية، أذكر على سبيل المثال آيتين فقط: 9 - الآية الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 10 - الآية الثانية: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ؛ فهذه الآية - كما نرى - نص صريح على إجماع الأنبياء والمرسلين على أنهم أرسلوا للدعوة إلى توحيد العبادة، وأن توحيد العبادة - هو غاية إرسالهم وبعثتهم، وهذه الآية كالأولى دليل إجماعي على كون توحيد العبادة هو الهدف الأسمى وهو الغاية العظمى. الوجه الخامس: أن توحيد العبادة غاية إنزال الكتب السماوية: لقد صرح علماء الحنفية أن توحيد العبادة كما هو غاية إرسال الرسل، كذلك غاية إنزال الكتب السماوية؛ فلم تنزل الكتب الإلهية إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 لتحقيق توحيد العبادة والدعوة إليه، وإليك بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب: 1 - قول الإمام ابن أبي العز (792هـ) ، وقد سبق ضمن كلامه الطويل في الوجه السابق. 2 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) والعلامة الرستمي، واللفظ للثاني: (وسر جميع القرآن؛ بل جميع الكتب المنزلة اختصاص العبادة له تعالى كما قال ابن كثير رحمه الله: والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين أي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وكذا قيل: أنزل الله تعالى مائة كتب وأربعة؛ جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجميع هذه الكتب الثلاثة في القرآن؛ وجميع معاني القرآن في المفصل، وجميع معاني المفصل في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وقد مر معنا: أنه روي عن ابن عباس رضي الله عنه: ((لكل شيء لباب ولباب القرآن حواميم)) ؛ وخلاصة الحواميم السبعة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . بل العبادة سر خلق الإنس والجن؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، وهي سر بعثة جميع الرسل والأنبياء قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، ثم ذكر عدة آيات أخرى للبرهنة على ذلك، ورمز إليها بالأرقام، وأنه أول ما دعا إليه الرسل عليهم السلام أممهم: انظر الأعراف 59، 65، 73، 85 وهود 26، 50، 61، 84 ومريم 41، 44، والشعراء 70 - 72 والعنكبوت 16، 17، 36 والصافات 85 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 86، وغيرها؛ ثم قال: (ففي هذه المواضيع تفصيل دعوة الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم إلى عبادة الله وحده؛ فثبت أن سر بعثة جميع الأنبياء هو العبادة لله وحده .... ، فثبت أن مقصود نزول القرآن دعوة العباد إلى عبادة الله وحده والرد على الذين أشركوا مع الله في العبادات: من السجدة لغير الله، والحج، والنذر لغير الله؛ وغير ذلك من العبادات ... ) . 3 - وقال العلامة السهسواني (1326هـ) : (اعلم أن الله لم يبعث رسله ولم ينزل كتبه لتعريف خلقه بأنه الخالق لهم، والرازق لهم، ونحو ذلك؛ فإن هذا يقر به كل مشرك قبل بعثة الرسل) ؛ ثم ذكر عدة آيات كريمات لتحقيق أن المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية، وأن إشراكهم إنما كان في العبادة، وأن حقيقة إشراكهم هي التوسل والتشفع بالصالحين قربة وتوصلًا إلى الله تعالى، كما هو طريقة القبورية اليوم في التوسل الشركي إلى الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 4 - قلت: هذا الذي قاله هؤلاء العلماء الثلاثة يدل عليه كلام غيرهم من علماء الحنفية. الوجه السادس: أن توحيد العبادة غاية الجهاد فقد استدل علماء الحنفية على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» الحديث. فقد سبق أن الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله استدل به على كون توحيد العبادة هو الغاية دون توحيد الربوبية. الوجه السابع: أن توحيد العبادة غاية فتح البلاد * فيطبق بعد الجهاد على العباد؛ ليعبدوا رب العباد * ويخلعوا كل ما يعبد من دون الله من الأصنام والأوثان والطواغيت والأنداد * فقد قال سبحانه وتعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] . ولعلماء الحنفية كلام في تفسير هذه الآية يدل على أن المراد من التطهير تطهير البلاد * من عبادة العباد وتخليتها من الشرك والأنداد وتحليتها بالتوحيد وعبادة رب العباد *. الوجه الثامن: أن توحيد العبادة أول دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد سبق ذكر الآيات الدالة على هذا المطلوب؛ سياق كلام الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله وغيره من علماء الحنفية. الوجه التاسع: أن توحيد العبادة كما هو أول دعوة الرسل كذلك هو آخر الرسل ووصيتهم صلى الله عليهم وسلم؛ دل عليه قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} ... الآية [البقرة: 132] وقوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} ... الآية [البقرة: 133] . قلت: لعلماء الحنفية كلام في تفسير هاتين الآيتين يدل على هذا المطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الوجه العاشر: أن توحيد العبادة أول واجب في الإسلام فقد صرح له علماء الحنفية الذين عرفوا حقيقة توحيد الرسل. 1 - 2 - فقد تقدم قول ابن أبي العز (792هـ) ، والعلامة القاري (1014هـ) رحمهما الله تعالى وتصريحهما بهذا المطلوب: من أن السلف كلهم متفقون على أن أول ما يجب على العبد الشهادتان، وأن التوحيد أول الأمر. 3 - قلت: وأصرح ما يحتج به على هذا المطلوب قول النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه معاذًا إلى اليمن وإرشاده ووصيته له: ...... «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله» .... . 4 - وللإمام البدر العينتابي (855هـ) في شرح هذا الحديث كلام يحقق أن توحيد العبادة أول واجب على العبد. الوجه الحادي عشر: أن توحيد العبادة - كما هو أول واجب - كذلك هو آخر واجب، فهو أول الأمر وآخر الأمر؛ فتوحيد العبادة، كما هو أول ما يدخل به العبد في الإسلام كذلك يجب عليه أن يخرج به من الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 1 - صرح بذلك الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله واستدل على هذا المطلوب بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة» . 2 - وأشار إليه العلامة القاري (1014هـ) . قلت: وأصح منه حديث عثمان رضي الله عنه مرفوعًا: «من مات وهو يعلم أنه (لا إله إلا الله) دخل الجنة» . وهذا الحديث يقيد الحديث الأول وأمثاله؛ فإنه لا يكفي مجرد القول بل لا بد من العلم والاعتقاد الجازم المنافي للشك؛ كما صرح به علماء الحنفية في شرح الحديث الأول وفي شرح هذا الحديث. 3 - قلت: لأجل أن توحيد العبادة آخر واجب على المرء - اهتم علماء الحنفية بتلقين المحتضر كلمة التوحيد: ((لا إله إلا الله)) . واستدلوا بحديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا: «لقنوا موتاكم: (لا إله إلا الله) » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 4 - قال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) في شرح هذا الحديث: (هذا غاية الإحسان بالمحتضر بحسب صلاح معاده، وإنما خص ((لا إله إلا الله)) ؛ لأنه أفضل الذكر مشتمل على التوحيد ونفي الإشراك وأنوه أذكار الإسلام) . 5 - وللعلامة القاري كلام مهم فليراجع. الوجه الثاني عشر: أنه لا يدخل العبد في الإسلام بأية كلمة إلا بكلمة توحيد العبادة، التي هي كلمة الإسلام: وهي كلمة: ((لا إله إلا الله)) دون غيرها من الكلمات: 1 - قال العلامة الخجندي (1379هـ) رحمه الله: (اعلم أن ((لا إله إلا الله)) - هي الكلمة الفارقة بين الكفر والإسلام؛ فمن قالها - عالمًا بمعناها، ومعتقدًا إياها - فقد دخل في الإسلام وصار من أهل دار السلام ((الجنة)) ؛ وأما من قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ((لا خالق إلا الله)) ، أو ((لا رازق إلا الله)) ، أو ((لا رب إلا الله)) ، أو ((لا موجود إلا الله)) ، أو ((الله موجود)) ، أو نحو ذلك. فلا يكون مسلمًا، ولا يكون من أهل دار السلام، وهذه الكلمات - وإن كانت حقًا؛ لكن يشرك في القول بها سائر الناس: من المشركين، والمجوس، والنصارى، واليهود، وغيرهم، سوى الدهرية المادية؛ كما يشهد القرآن بذلك؛ فقد ثبت بهذا التحقيق: أن الذكر النافع المنجي من عذاب الله - إنما هو: ((لا إله إلا الله)) ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الذكر ((لا إله إلا الله)) » . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 فما يتداوله العوام * ومن يدعي العلم والدين من الطغام * من قولهم: ((الله موجود)) ، أو ((لا رب إلا الله)) أو ((لا خالق إلا الله)) ، أو نحو ذلك، فليس من خصائص دين الإسلام، ولا من خصائص المسلمين؛ بل يشترك فيه المشركون، واليهود، والنصارى، والمجوس؛ فتنبه وتدبر، ولا تكن أعمى، وأصم، تقلد كل ناعق وناهق) . 2 - وقال رحمه الله: (و ((لا إله إلا الله)) - هي كلمة الإخلاص المنافية للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله ... ) . 3 - وقال رحمه الله تعالى: ( ... ولهذا كانت هذه الكلمة كلمة الإسلام * ومفتاح دار السلام * والفارق بين المؤمنين والكافرين من الأنام *) . 4 - قلت: من الكلمات التي ظنها كثير من الأعلام * فضلًا عن العوام الطغام * مفيدة للتوحيد، وتتردد على ألسنتهم وتستطر في كتبهم: كلمة: ((لا مقصود إلا الله)) ؛ مع أنها من خرافات الصوفية * ومصطلحاتهم الخرافية؛ فإنهم يزعمون: أنهم يعبدون الله تعالى لله؛ لا طمعًا في الجنة ولا نجاة من النار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 والذين يعبدون الله طمعًا في الجنة وخوفًا من النار - فهم في الحقيقة ليسوا من الموحدين الكاملين، بل هم من الأجراء العمال العاملين؛ لأن كل ما هو مقصود فهو معبود. 5 - وهذا في غاية من الفساد والإفساد * والضلال والإضلال * ومناقض لمنهج الأنبياء والمرسلين، فهو في نهاية من الإبطال *؛ فقد قال سبحانه وتعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] ، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] وقال جل وعلا: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] . وقال سبحانه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} .... [السجدة: 16] ، وللإمام الآلوسي (1270هـ) كلام في تفسير هاتين الآيتين لتحقيق أن العبادة لرجاء الجنة وخوف النار لا ينافي الإخلاص المقصود في التوحيد والكمال، وللإمام ابن أبي العز (792هـ) كلام مهم في الرد على هؤلاء الصوفية وقد صرح الحنفية أن الإيمان بين الخوف والرجاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 6 - وقال العلامة القاري (1014هـ) محققًا أن كلمة الإسلام هي: ((لا إله إلا الله)) دون غيرها: (وإنما جاء الأنبياء عليهم السلام لبيان التوحيد، وتبيان التفريد؛ ولذا أطبقت كلمتهم، وأجمعت حجتهم على كلمة ((لا إله إلا الله)) ، ولم يؤمروا بأن يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا: ((الله موجود)) ؛ بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود؛ ردا لما توهموا وتخيلوا؛ حيث قالوا: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] . و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ... ) . الوجه الثالث عشر: أن توحيد العبادة مستلزم ومتضمن لتوحيد الربوبية دون العكس. فمن لم يحقق توحيد العبادة، واكتفى بتوحيد الربوبية - كان كافرًا من الكافرين * ومشركًا من المشركين * وقد صرح بذلك علماء الحنفية: 1 - قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) : (فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار؛ ويفنى فيه كثير من أهل التصوف؛ ويجعلونه غاية السائلين، وهو مع ذلك لم يعبد الله وحده، و [لم] يتبرأ من عبادة ما سواه كان مشركًا من جنس أمثاله من المشركين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 2 - وقد سبق كلام الإمام ابن أبي العز والعلامة نعمان الآلوسي في أن توحيد العبادة متضمن ومستلزم وقوعًا لتوحيد الربوبية دون العكس. 3 - وقال العلامة القاري (1014هـ) : الحاصل: أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية، دون العكس في القضية؛ لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] . وقوله سبحانه حكاية عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] .... ) . قلت: هذه كانت أحد عشر كوكبًا؛ والشمس والقمر: ميزات وخصائص كبرى لتوحيد العبادة وهي تدل على أهميته إلى الغاية؛ وأنه هو الغاية العظمى والمقصد الأسنى، والهدف الأسمى والمطلب الأعلى، الجامع المتضمن لتوحيد الربوبية، المستلزم لتوحيد الأسماء والصفات. وهذا يدل على أن القبورية الذين عبدوا القبور وأهلها بأنواع من العبادات من الاستغاثة بهم والنذر لهم، والغلو فيهم ونحوها قد أخلوا بأعظم الغاية على الإطلاق، وأشركوا بالله في أهم المطالب بالاتفاق. وبعد أن عرفنا أهمية توحيد العبادة - ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف أركان توحيد العبادة وشروط صحته وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الفصل الرابع في أركان توحيد الألوهية وشروط صحته وفيه مبحثان: - الأول: في بيان أركان توحيد الألوهية. - الثاني: في بيان شروط صحة توحيد الألوهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 المبحث الأول في بيان أركان توحيد العبادة بعد أن عرفنا أهمية توحيد العبادة وميزاتها لا بد أن نعرف أركانه لنعلم أن توحيد العبادة مركب من جزئين هما ركنان له وليكون هذا كله أبلغ رد على القبورية فإنهم قد أخلوا بأركان توحيد العبادة وأشركوا بالله تعالى. فأقول: إن علماء الحنفية قد صرحوا أن توحيد العبادة متركب من ركنين أساسيين وجزئين مهمين، لا يمكن وجوده إلا بهما ولا قوام له إلا بوجودهما معًا؛ وهما كما يلي: الركن الأول: النفي؛ أي نفي جميع ما يعبد من دون الله، باعتقاد أن كل إله غير الله، فهو باطل؛ فلا يستحق العبادة أحد غير الله تعالى؛ وإذا لم يتحقق هذا الركن الأول لم يتحقق توحيد العبادة البتة. الركن الثاني: الإثبات؛ أي إثبات أن الله تعالى هو وحده إله حق، مستحق للعبادة وحده لا شريك له فكلمة الإسلام مركبة من جزئين هما ركنان لها. الأول: ((لا إله)) وهو النفي، والثاني: ((إلا الله)) ، وهو الإثبات. ووجه تقديم النفي على الإثبات ما قاله العلامة الخجندي (1379هـ) بعد ذكر أن الأغذية لا تنفع ما دام المرض موجودًا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 (فكذلك الإنسان ما دام مبتلى بمرض القلب بالشرك ونحوه لا تنفعه عبادة وطاعة أصلًا. ولهذا أجمعوا على أن التخلية مقدمة على التحلية، وهذا هو معنى ((لا إله إلا الله)) . تنفي أولًا الآلهة الأنفسية والآفاقية، ثم تثبت الإله الواحد الأحد الحق الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد) . وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب: 1 - قال الإمام ابن أبي العز (791هـ) ، في شرح قول الإمام الطحاوي (321هـ) . 2 - والعلامة القاري (1014هـ) ، واللفظ للأول: ((ولا إله غيره)) بعد قوله: ((إن الله واحد)) : (هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم؛ كما تقدم ذكره؛ وإثبات التوحيد لهذه الكلمة، باعتبار النفي والإثبات - المقتضي للحصر فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال؛ ولهذا - والله أعلم-. لما قال الله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] ؛ قال بعده: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] ؛ فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره؛ فقال تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 3 - 15 - وقريب منه كلام لكثير من علماء الحنفية في تفسير هذه الآية وتحقيق أن توحيد العبادة قائم على الركنين مؤسس على دعامتين ومركب من جزئين، وهما النفي والإثبات. 16 - وقال القاري (1014هـ) في بيان أهمية الركن الثاني: (والمقصود الأعظم - هو إثبات الإلهية لله تعالى - بعد نفيها عن غيره) . 17 - ثم قال في بيان أهمية الركن الأول: (لا نزاع في ثبوت إلهية مولانا - جل وعز - لجميع العقلاء وإنما كفر من كفر بزيادة إله آخر؛ فنفى ما عداه - تعالى؛ على هذا هو المحتاج إليه، وبه يحصل التوحيد) . 18 - وقال الشيخ أحمد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني، ومجدد الألف الثاني (1034هـ) ، في بيان أهمية الركن الأول وهو النفي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 (والمتشبث بمجوع أحكام الإسلام والكفر - مشرك؛ والتبرؤ من الكفر شرط الإسلام؛ والاجتناب عن شائبة الشرك - توحيد؛ والاستمداد من الأصنام، والطواغيت - في دفع الأمراض والأسقام - كما هو الشائع فيما بين جهلة أهل الإسلام - عين الشرك، والضلالة؛ فيكفرون من حيث لا يشعرون؛ ونذر الحيوان للمشايخ، وذبحه عند قبورهم - داخل في الشرك؛ ولا يجوز إشراك أحد به تعالى في عبادة من العبادات، وطلب الحاجات من غير الله - عين الضلالة وتسويل الشيطان الرجيم) . 19 - وللعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) كلام قيم في تحقيق الركن الأول، وهو النفي أي البراءة من أفعال الكفر والشرك وعدم ارتكاب ما ينافي كلمة التوحيد، وأن من ارتكب ما يوجب الكفر ولو أقر بكلمة التوحيد؛ فقد كفر وحبط عمله وتبين زوجته، وخرج من دين الإسلام. 20 - وللعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) كلام مهم في تحقيق أن القبورية لا تنفعهم كلمة التوحيد ما داموا مرتكبين للشرك وعبادة غير الله، وإن هم زعموا أنهم لا يعبدون غير الله. 21 - وقال العلامة الخجندي - في تحقيق هذين الركنين - بعدما ذكر عدة قبور جعلت أوثانًا تعبد من دون الله - في بلاد ما وراء النهر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 بلخ، وبخارى، وسمرقند، وتركستان، وخجندة، وكاشغر، وقونية، والعراق، وكربلاء، ودمشق، ومصر، والقاهرة، وطنطا: (أو غيرها من القبور التي يعظمونها ويعبدونها وينذرون لها ويتوجهون إليها..، فصارت كل هذه القبور كالتي ذكرها الله تعالى في كتابه؛ فلا يكون إيمان العبد صحيحًا حتى يكفر بهذه كلها؛ ويؤمن بالله وحده؛ وهذا معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] ؛ وهذا معنى: ((لا إله إلا الله)) ؛ فتنفي الآلهة كلها من كل الوجوه، وتثبت الإله الحق الواحد الأحد الصمد الذي: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ؛ فهذا التوحيد الخالص إنما هو مفتاح الجنة بلا ريب ولا شبهة ... ؛ فقائل: ((لا إله إلا الله)) يجب عليه أن يستمر عليه، وعلى موجبه؛ وأن لا يبطله بما ينافيه من الشرك، واتخاذ الأنداد، واعتقاد التصرف الغيبي لغير الله؛ وإلا بطل ولا تبقى له منفعة ... ؛ فلا بد من الاستمرار على التوحيد، وعلى كل ما يقتضيه التوحيد؛ ولا بد من الكفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 بالطاغوت، وكل آلهة دون الله كما لا يخفى؛ فمن يقول: ((لا إله إلا الله)) ، ثم يقول: إن الأرواح تنصر، وتمد، أو يدعو غير الله، أو يرجو غير الله، فقد أبطل قوله: ((لا إله إلا الله)) ؛ بل أشرك بالله شركًا جليا لا يغفره الله عز وجل فتنبه) . 22 - وقال رحمه الله، في بيان أهمية هذين الركنين: (وهذه الكلمة نفي، وإثبات: نفي الآلهة عما سوى الله تعالى من المخلوقات؛ حتى جبريل ومحمد عليهما السلام، فضلًا عن غيرهم من الأولياء والصالحين؛ وهذه الألوهية - هي التي تسميها العامة في زماننا: ((السر والولاية)) ! و ((الإله)) معنا: ((الولي الذي فيه السر)) ؛ وذلك أنهم يظنون: أن الله تعالى جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن يلتجئ الإنسان إليهم، ويرجوهم، وليستغيث بهم، ويجعلهم ((واسطة)) بينه وبين الله تعالى؛ فالذي يزعم أهل الشرك في زماننا: أنهم ((وسائط)) هم الذين يسميهم الأولون: ((الآلهة)) !! و ((الواسطة)) هي ((الإله)) ؛ فقول المؤمن: ((لا إله إلا الله)) إبطال للوسائل؛ وغالب الذين غلوا في تعظيم الأولياء، وشيوخ الطرق، وأئمة آل البيت من السادة قد عبدوهم بدعائهم حتى في الشدائد، والطواف بقبورهم، وذبح القرابين لهم؛ وكانوا يجهلون: أنهم بهذا قد اتخذوهم ((آلهة)) ... ) . 23 - وقال في بيان أهمية هذين الركنين: النفي والإثبات: (فالله فالله يا إخواني! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 تمسكوا بأصل دينكم، وأوله وآخره ورأسه: ألا وهو شهادة أن ((لا إله إلا الله)) ، واعرفوا معناها؛ واكفروا بالطواغيت وعادوهم ... ، ولا شك: أن أول ما فرض الله تعالى على عباده الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت؛ {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] .... ؛ فصفة الكفر بالطاغوت: أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها، وتكفر أهلها وتعاديهم؛ ومعنى الإيمان بالله: أن تعتقد أن الله هو الإله المعبود وحده، دون من سواه، وتخلص كل أنواع العبادة لله وحده، وتنفيها عن كل معبود سواه، و ((الطاغوت)) عام في كل أنواع العبادة؛ فكل ما عبد من دون الله، ورضي بالعبادة: من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فهو طاغوت ... ؛ فالإنسان لا يكون مؤمنًا بالله إلا بعد الكفر بالطاغوت؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] ... ) . 24 - وقال رحمه الله في بيان تحقيق هذين الركنين، ولا سيما الركن الأول: وهو ((النفي)) : (فقد ثبت ثبوتًا بينًا: أن ((لا إله إلا الله)) : مفتاح دار السلام؛ ولكن بشرط كونها خالصة مخلصة؛ فلا بد أولًا من الكفر [بالطاغوت] ، والتبرؤ من كل الآلهة الآفاقية والأنفسية؛ ثم إثبات الواحد الأحد المعبود حقا؛ وأهم ما نفته هذه الكلمة - استحقاق العبادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 لغير الله نفيًا كليا؛ ولأجل هذا أرسلت الرسل، وجردت السيوف؛ ومن لوازمها - العمل بكل ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقتضى هذه الكلمة؛ بلا تغيير، ولا تزييد: فمن المنفي: الربوبية والخالقية؛ فلا رب إلا الله، ولا خالق إلا الله؛ فمن اعتقد أن الملائكة، أو الأرواح تربي تربية بسلطة غيبية فقد أشرك بالله في الربوبية والخالقية؛ كما هو حال كثير من جهلة القبوريين والطرقيين. ومن المنفي: القدرة؛ فلا قدرة لأحد إلا بالله؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ فمن اعتقد أن الملائكة، أو الأرواح تقدر على شيء بنفسها فقد أشرك بالله في صفة القدرة والقادرية. ومن المنفي: التصرف في الكون، والإحياء والإماتة؛ فلا متصرف في الكون إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله؛ فمن اعتقد: أن الملائكة والأرواح تتصرف في الكون، أو تحيي أو تميت. فقد أشرك بالله. ومن المنفي: الحكم والتحليل والتحريم؛ فالحاكم الحق حقيقة هو الله وحده، وهو المشرع وحده، وهو المحلل وحده، وهو المحرم وحده؛ فلا حاكم إلا الله، ولا مشرع إلا الله، ولا محلل إلا الله، ولا محرم إلا الله. فمن حكم بحل شيء لم يحله الله، أو حكم بحرمة شيء لم يحرمه الله، أو شرع ما لم يأذن به الله فقد أشرك بالله. ومن المنفي: العبادة، والمعبودية؛ وهذا هو الأصل الذي أنزلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 هذه الكلمة لأجله، وأرسلت الرسل لأجله؛ فلا معبود حقا إلا الله، ولا يعبد حقًّا إلا الله: بأي نوع من أنواع العبادة. وبالجملة ..... ؛ هذا هو معنى: ((لا إله إلا الله)) ؛ فمن قالها لفظًا، ولكنه غير معناها، وأفسد تفسيرها، وعبد غير الله. فقد أتى ببهتان * فلا شك أن يصير من أهل الخسران *) . 25 - وقال رحمه الله مبينًا أهمية هذين الركنين: (واعلم أن مدلول: ((لا إله إلا الله)) : التزام بعبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يعبد من دون الله؛ وهذا أصل دين الإسلام وقاعدته؛ ولهذا كانت هذه الكلمة الإسلام * ومفتاح دار السلام * والفارق بين المؤمنين والكافرين من الأنام *) . قلت: هذه كانت أمثلة من نصوص علماء الحنفية في تحقيق الركنين لتوحيد العبادة: النفي، والإثبات، وهي أبلغ وأقمع للقبورية الذين أخلوا بهذين الركنين، وناقضوا التوحيد بعبادتهم القبور وأهلها أنواعًا من العبادات؛ فهذه النصوص تدل على أن التوحيد لا يمكن أن يوجد ويقوم إلا بهذين الركنين وهاتين الدعامتين، كما تصرح بأن القبورية ناقضوا التوحيد، فهم ليسوا من أهل التوحيد بل هم من أهل الشرك. وإذا عرفنا ذلك ننتقل إلى المبحث الآتي لنعرف شروط صحة توحيد العبادة والله المستعان. **** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 المبحث الثاني في بيان شروط صحة توحيد العبادة إن علماء الحنفية - كما اهتموا ببيان ركني التوحيد - كذلك اهتموا ببيان شروط صحة التوحيد، فذكروا لتوحيد العبادة عدة شروط، وصرحوا بأنه لا صحة للتوحيد إلا بعد توفر تلك الشروط، وكل ما أذكره عن الحنفية فهو رد على القبورية فإنهم قد أخلوا بتلك الشروط، بارتكابهم الشرك بسبب عبادتهم القبور وأصحابها فلم يصح توحيدهم. وفيما يلي بيانها: الشرط الأول: فهم معنى توحيد العبادة، والعلم به المنافي للجهل؛ فمن قال: ((لا إله إلا الله)) ولم يفهم معناها - لا يدخل في الإسلام، ولا يصح توحيده، ففهم معنى كلمة التوحيد من أعظم شروط صحة توحيد العبادة وأهمها ولما لم يعرف القبورية معناها، وما هو الإله، وما هي العبادة؟ لم يعرفوا ما يضاد التوحيد من الشرك بالله تعالى، فعبدوا القبور وأهلها بأنواع من العبادات. فناقضوا كلمة التوحيد، وأشركوا بالله بأنواع من الإشراك. وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية في أهمية العلم بمعنى كلمة التوحيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 1 - قال الإمام البدر العينتابي (855هـ) في شرح قول الإمام البخاري (256هـ) : (باب العلم قبل القول والعمل؛ لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ، فبدأ بالعلم) . (أي هذا باب في بيان أن العلم قبل القول والعمل: أراد أن الشيء يعلم أولًا، ثم يقال، ويعمل به؛ فالعلم مقدم عليهما بالذات، وكذا مقدم عليها بالشرف؛ لأنه عمل بالقلب، وهو أشرف أعضاء البدن ... ؛ وقال ابن المنير: أراد: أن العلم شرط في صحة القول والعمل؛ فلا يعتبران إلا به؛ فهو متقدم عليهما؛ لأنه مصحح النية المصححة للعمل؛ فنبه البخاري على ذلك) . 2 - وقال الملا علي القاري (1014هـ) : (يتعين على كل موقن أن يعتني بشأنها [كلمة التوحيد] مبنى ومعنى، لينقل من إفادة مبناها * إلى إعادة معناها *؛ فإنها مفتاح الجنة * وعن النار بمنزلة الجُنة * للناس والجِنة * وقد نص الأئمة * من سادات الأمة *: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أنه لا بد من فهم معناها * المترتب على علم مبناها *؛ ليخرج عن ربقة التقليد، ويدخل في رفعة التحقيق والتأييد؛ وقد قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] . 3 - وقال العلامة اللكنوي (1304هـ) ، رحمه الله. 4 - (وفي النوازل الفقهية، لأبي الليث السمرقندي [375هـ) : 5 - سئل أبو القاسم: في رجل لا يحسن العربية، وقد تعلم في صغره. آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر والقدر خيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وشره؛ ويعلم أن هذا هو الإيمان. إلا أنه إذا سئل عن تفسيره لا يحسن تفسيره! أهو مؤمن؟ قال: هذا حافظ كلامًا لا يدري ما هو؟) . 6 - 7 - ولقد صرح كثير من علماء الحنفية أن مجرد التلفظ بكلمة التوحيد؛ ومجرد قولها باللسان بدون فهم معناها والاعتقاد بها من عمق القلب لا يفيد شيئًا. واستدل كثير من الحنفية على اشتراط العلم بمعنى كلمة التوحيد بحديث: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» . فهذا الحديث صريح في أنه لا يكفي مجرد التلفظ بكلمة التوحيد دون فهم معناها والاعتقاد بها من عمق القلب. 8 - وقال العلامة الخجندي (1379هـ) محققًا أن التلفظ بكلمة التوحيد بدون فهم معناها وبدون العلم بالمراد منها - لا يفيد شيئًا: (واعلم: أن ((لا إله إلا الله)) - هي الكلمة الفارقة بين الكفر والإسلام .... ، وليس المراد قولها باللسان فقط، مع الجهل بمعناها .... ، ولكن المراد قولها مع معرفتها بالقلب والإذعان لها .... ) . ثم ذكر بعض الأدلة على ذلك ثم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 (إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة .... ) . ثم قال: (واعلم: أن لا إله إلا الله هي الكلمة الفارقة بين الكفر والإسلام؛ فمن قالها - عالمًا بمعناها، ومعتقدًا إياها - فقد دخل في الإسلام * وصار من أهل دار السلام *) . 9 - وقال رحمه الله تعالى أيضًا؛ محققًا أن التلفظ بكلمة التوحيد بدون فهم معناها لا يجدي ولا ينفع: (و ((لا إله إلا الله)) هي كلمة الإخلاص المنافية للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله؛ ولكن لا تنفع قائلها عند الله، وفي دار الآخرة إلا بشروط: الأول: العلم بمعناها: نفيا وإثباتًا. والثاني: اليقين، وهو كمال العلم بها، المنافي للشك. والثالث: الإخلاص المنافي للشرك؛ فمن يقول: ((لا إله إلا الله)) ، ولكن لا يفهم معناها، ولا يعمل به فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا .... ؛ لأن الله عز وجل قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ؛ فالعلم مقدم على القول والعمل ... ) . 10 - وقال رحمه الله تعالى أيضًا - مبينًا أن المشركين السابقين كانوا يعرفون معنى كلمة التوحيد بخلاف القبورية: (فإذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم أن المشركين الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 إلى الإيمان كانوا مقرين بتوحيد الربوبية؛ كما بين الله تعالى في كتابه؛ ولم يدخلهم ذلك التوحيد في الإسلام؛ بل قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقروا بتوحيد الألوهية، وهو معنى: ((لا إله إلا الله)) ؛ والمراد من هذه الكلمة: معناها، لا مجرد لفظها؛ والكفار الجهال كانوا يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالعبادة، والتبرؤ مما يعبد من دون الله، والكفر به؛ فإنه لما قال لهم: « [يا أيها الناس!] قولوا: لا إله إلا الله [تفلحوا] » - قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص5] ؛ وقد عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك؛ فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار! ؛ بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن: أن معناها: ((لا يخلق، ولا يرزق إلا الله)) ، و ((لا يدبر الأمر إلا الله)) . فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى ((لا إله إلا الله)) ؛ وقد ذكر الله تعالى في كتابه: أن المشركين يقرون بالربوبية، وأن كفرهم بتعلقهم بالملائكة والأنبياء والأولياء، مع قولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] .... ، فمن قال ((لا إله إلا الله)) ، ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر: كدعاء الموتى والغائبين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 والتقرب إليهم بالنذر والذبائح فهذا مشرك شاء أم أبى .... ) . 11 - قلت: يدل هذا النص أن المشركين السابقين وهؤلاء القبوريين كلهم في الحقيقة غير مؤمنين بكلمة التوحيد؛ غير أن المشركين السابقين كانوا يعرفون معناها، ويعلمون أن هذه الكلمة تمنعنا من عبادة آلهتنا من الاستغاثة والنذور ونحوها. فلذا كانوا يأبون التلفظ بها ولم يكونوا يقولونها قطعًا. وأما هؤلاء القبوريون فهم لأجل أنهم لا يعرفون معناها، ولا يعلمون أنها تضاد ما هم عليه من عبادة القبورية وأهلها من الاستغاثة والنذور ونحوها يتلفظون بها ويقولونها مئات المرات بل الآلاف، ولكن إذا فسر لهم معناها، وأنها تنهاهم عن عبادة الصالحين فهم حينئذ يأبون معناها؛ ولو كان هؤلاء القروية عارفين بمعنى هذه الكلمة - كالمشركين السابقين - لكانوا أشد الناس إباء عن التلفظ بها وامتناعًا عن قولها باللسان؛ كإخوانهم المشركين السابقين. والله المستعان على ما يصفون. 12 - وقال رحمه الله مبينًا أنه لا عبرة بالتلفظ بالكلمة بدون فهم المعنى: (وغالب من يقول: ((لا إله إلا الله)) وإنما يقولها تقليدًا؛ ولم تخالط بشاشة الإيمان قلبه، فلا يعرف ما تنفيه، وما تثبته؛ ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يصرف عنها عند الموت؛ وفي القبور أمثال هؤلاء يقولون - كما في الحديث الصحيح: «سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الحديث) . قلت: لا يخشى عليهم عند الموت فقط؛ بل يخشى عليهم قبل الاحتضار في حياتهم اليومية، بل ليس الأمر إلى حد الخشية فحسب؛ بل الحقيقة أن هؤلاء قد صرفوا عن كلمة التوحيد فعلًا، وناقضوها بأنواع من الإشراك بالله سبحانه، وأبطلوها بأنواع من العبادات للقبور وأهلها. الشرط الثاني: اليقين المنافي للظن والشك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 1 - قلت: اشتراط اليقين قد تقدم في نفس كلام العلامة الخجندي. 2 - ومن الأدلة القاطعة التي استدل بها الحنفية على اشتراط اليقين القلبي المنافي للظن والشك حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة» . فهذا الحديث صريح في اشتراط اليقين وهو يقيد تلك الأحاديث المطلقة الواردة في فضل كلمة التوحيد. 3 - 5 - قال العلامة القاري (1014هـ) في شرح هذا الحديث وتبعه العثماني (1369هـ) واللفظ للأول: ((مستيقنًا بها)) أي بمضمون هذه الكلمة ((قلبه)) أي منشرحًا بها صدره غير شاك ومتردد في التوحيد .... ؛ وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق: أن اعتقاد التوحيد لا ينفع دون النطق عند الضرورة، أو عند الطلب، ولا النطق دون الاعتقاد بالإجماع؛ بل لا بد منهما .... ) . 6 - قلت: ويؤكد ذلك حديث: (( ... «لا يلقى الله بهما عبد غير شاك» ... )) ؛ فهو نص صريح في أنه لا يكفي مجرد قولها باللسان؛ بل لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 بد من اليقين المنافي للظن والشك والتردد. وأن هذا الحديث مقيد لتلك الأحاديث المطلقة الواردة في قول لا إله إلا الله، فلا حجة لأهل البدع في تلك الأحاديث المطلقة؛ لأن هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث التي ورد فيها قيود مع قول لا إله إلا الله تقيد تلك الأحاديث المطلقة. الشرط الثالث: التصديق المنافي للتكذيب: فلقد صرح علماء الحنفية باشتراط التصديق بمعنى كلمة التوحيد وأن المرء لا يكون مسلمًا عند الله بدون التصديق؛ وأنه لا يكفي مجرد قولها باللسان والإقرار بها بدون التصديق من عمق القلب. 1 - وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه من أهل السنة، فإن حقيقة الإيمان عندهم الإقرار باللسان والتصديق بالجنان بل يؤيده مذهب الحنفية الماتريدية المرجئة الجهمية المعطلة أيضًا. 2 - فإن حقيقة الإيمان عندهم التصديق بالجنان فقط. وأما الإقرار باللسان فهو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية وليس شرطًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 لحقيقة الإيمان ولا ركنًا له. فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن ناج عندهم. مع أن الحق في هذا هو مذهب أهل الحديث وأهل السنة المحضة من أن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان. 3 - ومن أصرح الحجج، وأقوى البراهين التي استدل بها علماء الحنفية على اشتراط التصديق بالجنان مع الإقرار باللسان حديث أنس رضي الله عنه. «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرمه على النار» . 4 - ولعلماء الحنفية كلام في شرح هذا الحديث يؤكد ما سبق. الشرط الرابع: الإخلاص المنافي للشرك والنفاق والرياء والسمعة: فلا يصح توحيد الشخص وإقراره به والتظاهر بأنه موحد إلا إذا صدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 به بقلبه مخلصًا لله عز وجل خائفًا من عقابه راغبًا في ثوابه راجيًا من الله الجنة وما أعده للموحدين من النعيم المقيم، وإلا يكون منافقًا مرائيًا مغرضًا من المغرضين ممرضًا من الممرضين. 1 - ولقد استدل علماء الحنفية على اشتراط الإخلاص بأدلة كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث محمود بن عتبان في قصة مالك بن دخشن رضي الله عنهم: «فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» . وفي لفظ: «لن يوافي عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله إلا حرم الله عليه النار» . وفي لفظ: «ألا تقولونه: يقول لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؛ قال: بلى، قال: فإنه لا يوافي عبد يوم القيامة به إلا حرم الله عليه النار» . 2 - ولعلماء الحنفية كلام مهم في شرح هذا الحديث يفيد أن من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه فقد برئ من النفاق؛ وأن هذا الحديث وأمثاله يفيد تلك الأحاديث الواردة في إطلاق القول ((لا إله إلا الله)) . وأن هذه الأحاديث المقيدة مفسرة لتلك الأحاديث المطلقة. 3 - وقد تقدم كلام العلامة الخجندي في أن من شروط كلمة التوحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 - الإخلاص المنافي للشرك. وسيأتي مزيد تحقيق وتفصيل لهذا الشرط إن شاء الله تعالى. وبعد أن عرفنا أهمية أركان توحيد العبادة وشروط صحته ننتقل إلى الباب الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في تحقيق أن توحيد العبادة غير توحيد الربوبية، وإبطال قول القبورية باتحاد الربوبية والألوهية. وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق *. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الباب الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية من قولهم باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإبطال جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وبيان التعريف الصحيح للعبادة، وأركانها، وأنواعها، وشروط صحتها، وإبطال عقيدة القبورية في ذلك كله وفيه أربعة فصول: - الفصل الأول: في عرض عقيدة القبورية في القول باتحاد توحيد الربوبية والألوهية وجعلهم توحيد الربوبية الغاية. - الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في القول باتحاد هذين التوحيدين وإبطال جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية. - الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد هذين التوحيدين، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وزعمهم أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها. - الفصل الرابع: في جهود علماء الحنفية في تعريف العبادة، وأركانها، وأنواعها، وشروط صحتها، وإبطال عقيدة القبورية في ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الفصل الأول في عرض عقيدة القبورية في قولهم باتحاد توحيد الربوبية والألوهية وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية لقد أصيبت القبورية بطامة كبرى، هي أم الطامات - فتولدت منها طامات أخرى، هي أكبر من أمها، في الضلال والفساد * والإضلال والإفساد * وهي: جهلهم بحقيقة توحيد العبادة، وجعلهم إياه مترادفًا لتوحيد الربوبية، وعينه، وأنهما شيء واحد بلا تمييز ولا فرق كما أصيب بهذا الداء العضال خلطاؤهم المتكلمون من الماتريدية والأشعرية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وهذه الطامة الكبرى التي هي أم الطامات المتولدة منها -: أعني جهل القبورية بحقيقة توحيد الألوهية وجعلهم إياه عينًا لتوحيد الربوبية - هو السبب الوحيد لوقوعهم في أنواع من الشرك الأكبر من عبادة القبور وأهلها. كما أوقع هذا الجهل خلطاءهم من الماتريدية والأشعرية أيضًا - في أنواع من الإشراك بالله من عبادة القبور وأصحابها. وفيما يلي أذكر أم الطامات وأذكر الطامات المتولدة منها فأقول وبالله التوفيق: 1 - الطامة الأولى أم الطامات: تعتقد القبورية أن الألوهية بعينها هي الربوبية بدون فرق وتمييز بينها فهما متحدان لا مفهومان متغايران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ويحسن أن أسوق بعض نصوص أئمة القبورية لتوضيح مقالتهم الفاسدة هذه: 1 - قال ابن جرجيس (1299هـ) وتبعه السمنودي (بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 1326 هـ) ، واللفظ للأول: ( ..... الرب والإله معناهما ومفادهما واحد .... ) . 2 - 3 - وقال: (إن الإله والرب واحد) و (إن الإله هو الرب) . 4 - 5 - وقال دحلان (1304هـ) وتبعه السمنودي (المتوفى بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 1326 هـ) ، واللفظ للأول: (وأما جعلهم التوحيد نوعين: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية - فباطل أيضًا -؛ فإن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية ... ) . 6 - 7 - وقالا واللفظ أيضًا للأول: (وقالوا: إن التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتوصلوا بذلك إلى تكفير المسلمين .... ، هؤلاء الملحدة المكفرة للمسلمين .... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 8 - 10 - وقالا، وتبعهما الحداد (1232هـ) ، واللفظ للأول: (ومن المعلوم: أن من أقر بالربوبية، فقد أقر بالألوهية؛ إذ ليس الرب غير الإله، بل هو الإله بعينه) ، 11 - 13 - وقالوا جميعًا واللفظ أيضًا للأول: (فهل سمعتم أيها المسلمون في الأحاديث والسير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه أجلاف العرب؛ ليسلموا على يده - يفصل لهم توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ ويخبرهم: أن توحيد الألوهية هو الذي يدخلهم في الإسلام) . 14 - 15 - وقال الدجوي (1365هـ) وتبعه ابن مرزوق، واللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 للأول: (توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية: ...... ، من ذا الذي فرق بينهما؟ ... ؛ إن صاحب هذا الرأي هو ابن تيمية الذي شاد بذكره؛ قال: إن الرسل لم يبعثوا إلا لتوحيد الألوهية؛ وهو إفراد الله بالعبادة؛ وأما توحيد الربوبية؛ وهو اعتقاد أن الله رب العالمين المتصرف في أمورهم؛ فلم يخالف فيه أحد من المشركين ... ؛ ثم قالوا: إن الذين يتوسلون بالأنبياء ويتشفعون بهم؛ وينادونهم عند الشدائد - هم عابدون لهم، فقد كفروا بما كفر به عباد الأوثان والملائكة والمسيح سواء بسواء؛ فإنهم لم يكفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان وما معها؛ بل بترك توحيد الألوهية - بعبادتها؛ وهذا ينطبق على زوار القبور المتوسلين بالأولياء؛ المنادين لهم، المستغيثين بهم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الطالبين منهم ما لا يقدر عليه غير الله؛ بل قال محمد بن عبد الوهاب: إن كفرهم أشنع من كفر عباد الأوثان .... ؛ فنقول: قولهم: إن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية - تقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية، وغير معقول أيضًا ... ، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد دخل في الإسلام: إن هناك توحيدين؛ .... ، ولا سمع ذلك عن أحد من السلف الذين يتبجحون باتباعهم في كل شيء؛ ولا معنى لهذا التقسيم، فإن الإله الحق هو الرب الحق) . وقال: (وإني أعجب من تفريقهم بين توحيد الألوهية والربوبية؛ وجعل المشركين موحدين توحيد الربوبية) . 16 - 17 - وقال القضاعي (1736هـ) وابن مرزوق (؟) واللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 للأول: (إن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود وفي الاعتقاد) ، 18 - 19 - وقالا: (( (إن لا رب سواه)) هو معنى ((لا إله إلا الله)) في قلوب جميع المسلمين) . 20 - 21 - وقالا: (فالناطق بـ ((لا إله إلا الله)) معترف بالتوحيد لله في ألوهيته وربوبيته جميعًا، والقائل: ((ربي الله)) معترف بكلا التوحيدين جميعًا) . 22 - 23 - كما أنهما صرحا بأن توحيد الربوبية كاف للمرء في دخوله في الإسلام، وكاف له في النجاة. 24 - وقال هذا القضاعي الداعي إلى الشرك طاعنًا في شيخ الإسلام * ببذاءة الكلام: (لم يقتصر هذا الحراني على رمي زوار سيد المرسلين بالشرك؛ بل جرت به أوهامه إلى أن يرمي بالشرك جميع المسلمين..؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وقسم التوحيد إلى قسمين: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ وقال: إن المقصود ببعثة الأنبياء إنما هو الثاني ... ) . 25 - وقال هذا القضاعي الوثني أيضًا هاذيًا في أئمة الإسلام * ولا سيما شيخ الإسلام، ورميهم بدائه، محرفًا تلك الآيات الصريحة الناصعة على اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية: (وقول هؤلاء المغرورين إن الكافرين الذين بعث لهم الرسل - كانوا قائلين بتوحيد الربوبية، وأن آلهتهم لا تستقل بنفع ولا ضر؛ وإنما كان شركهم بتعظيم غير الله بالسجود والاستغاثة به والنداء له، والنذر، والذبح له - إنما هو قول من لم يعرف ((التوحيد)) ولا ((الشرك)) ولا ((المعقول)) ولا ((المنقول)) .... ، ولا ألم بتاريخ الأمم قبل البعثة) . 26 - وعنون ابن مرزوق بقوله: (الإله هو الرب والرب هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الإله) . 27 - وله كلام فضح به نفسه ونال به من شيخ الإسلام (728هـ) * ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) حاول فيه اتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. 28 - وقال هذا المجهول المخذول: (توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية - الذي اخترعه ابن تيمية ... ؛ وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء، وزعم: أن هذا اعترف به المشركون؛ فكفر به جميع المسلمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقلده فيه محمد بن عبد الوهاب، كما قلده في غيره) . 29 - وقال محمد نوري رشيد النقشبندي الديرشوي (؟) : (إن شر بدعة أحدثها السلفية - هي: بدعة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية .... ، وتوحيد الأسماء والصفات. وليت شعري من ذلك السلف؟ بل أي دين سوى دين النصرانية ذلك الدين الذي يبث لله تعالى أقانيم ثلاثة؛ فاقتدى به هؤلاء السلفية، واتخذوه الدين الخالص والتوحيد المحض ... ؛ وفسر رئيس نحلتهم وإمام بدعتهم محمد بن عبد الوهاب الأنواع الثلاثة) . 30 - وقال: (إن توحيدهم أشبه شيء بتثليث النصارى، إنهم يقولون: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات - إله واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 والنصارى يقولون: الأب، والابن، وروح القدس إله واحد) . 31 - وقال هذا النوري الوثني القبوري هاذيًا في شيخ الإسلام (728هـ) : (توحيد الربوبية وهذا لا ينفي الكفر ولا يكفي؛ هذا قول ابن تيمية، وسنكتفي بالرد على قول ابن تيمية باعتباره الرئيس الأول للسلفية ومبدع بدعتهم) . 32- وهكذا طول لسانه في أئمة الإسلام ولا سيما شيخ الإسلام ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) وحاول إثبات اتحاد الربوبية والألوهية. 2 - الطامة الثانية:- بناء على الطامة الأولى - إنكارهم لتقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية: لقد أنكر القبورية تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية إنكارًا باتا قاطعا) ، وشنوا الغارات على أهل التوحيد في هذا الصدد، وشنعوا عليهم ورموهم بكلمات نابية وشتائم وسباب لا تصدر إلا عن الرعاع والأوباش؛ ووقعوا في أعراض أئمة الإسلام * أمثال شيخ الإسلام (728هـ) ومجدد الدعوة الإمام الهمام (1206هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وقد ذكرنا بعض نماذج من ذلك. 3 - الطامة الثالثة: جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية العظمى لما سبق ولما يلي: 4 - والطامة الرابعة: أن القبورية بسبب جهلهم بتوحيد العبادة - وجعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية - قالوا صراحة جهارًا نصا: إن توحيد الربوبية كاف لدخول المرء في الإسلام والنجاة. وإن من اعترف بتوحيد الربوبية فقد اعترف بتوحيد الألوهية. 5 - والطامة الخامسة: أنهم غيروا مفهوم الشرك وزعموا أنه لا يتحقق الشرك إلا إذا اعتقد في غير الله أنه رب مستقل بالتصرف والتأثير بنفسه. 6 - والطامة السادسة: تحريفهم لمعنى العبادة حسب تبديلهم لمعنى الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 7 - والطامة السابعة: جعلهم المشركين السابقين مشركين في توحيد الخالقية والرازقية والربوبية والتدبير للكون، وأنهم اعتقدوا في آلهتهم التصرف بالاستقلال وأنها مستقلة بالتأثير. وأن لها شرفًا ذاتيا واختيارًا وتدبيرًا. 8 - الطامة الثامنة: تحريفهم لتلك الآيات الصريحة الناصة على أن المشركين كانوا يعترفون بتوحيد الربوبية - تحريفًا معنويا قرمطيا -، ولهم في هذا التحريف القرمطي طرق عجيبة غريبة، كل هذه التحريفات لمحاولة إثبات أن المشركين لم يكونوا معترفين بربوبية الله تعالى. وهكذا يفضح الله المحرفين المبطلين. أقول: إن تحريفات هؤلاء القبورية لهذه الآيات لا شك أنها تحريفات قرمطية؛ ولكن المدعو بعلوي المالكي ارتكب تحريفًا لا إخاله أوحاه إليه مشائخه، وخلطاؤه الإنسية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ولعله أخذ هذا التلبيس مباشرة من إبليس: فقد صرح بأن المشركين لم يكونوا جادين في جميع تلك الاعترافات التي حكى الله عنهم في القرآن بربوبيته وخالقيته ومالكيته وتدبيره وجعلهم الآلهة شفعاء عند الله. 9 - الطامة التاسعة: إنكارهم وجود الشرك في المنتسبين إلى الإسلام إنكارًا قاطعًا باتا؛ وأن الشرك لم يقع في المستغيثين بأهل القبور، ويبررون كل ما يرتكبه القبورية من الإشراك الصريح من استغاثتهم بالأموات عند الكربات * وعبادتهم للقبور وأهلها بأنواع العبادات * بأن هذا ليس من قبيل الإشراك بالله سبحانه، * ولا من باب عبادة غير الله؛ * لأن الشرك والعبادة لا يتحققان إلا باعتقاد الربوبية لغيره تعالى والاستقلال بالنفع والضر والإيجاد والخلق ونفوذ المشيئة لا محالة والتأثيرات بالذات دون الحاجة إلى الغير فليس في المسلمين الموحدين المستغيثين بالصالحين شرك، وهم برآء من الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 10 - الطامة العاشرة: وهي أكبر من أمها، فكيف بأخواتها فهي أشنع الطامات * وأبشع البليات *: وهي ارتكاب القبورية أنواعًا من الإشراك برب البريات * من دعاء الأموات والاستغاثة بهم عند الكربات والملمات * وعبادتهم للقبور وأهلها أنواعًا من العبادات * فقد وصلوا في الشرك إلى حد لم يصله أهل الجاهلية في الأيام الخاليات * كما سيأتي تحقيقه بنصوص علماء الحنفية وأقوالهم القاطعات * فقد حقق علماء الحنفية أن القبورية أعظم شركًا من أهل الوثنيات * وأنهم أعظم عبادة وخشوعًا وهيبة للأموات عند الكربات * منهم لخالق الكائنات في المساجد وفي الأسحار وغيرها من الأوقات * - 11 - الطامة الحادية عشرة: تسمية القبورية أنفسهم موحدين مع إشراكهم. من تلك الطامات التي تشعبت من الطامة الأولى الأم، والطامات التي بعدها: من جهلهم بتوحيد الألوهية وجعله عين توحيد الربوبية، ثم تحريفهم مفهوم الشرك وتبديلهم معنى العبادة، ثم وقوعهم في الشرك الأكبر الذي يفوق إشراك الوثنية الأولى - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 طامة أخرى: وهي أن القبورية مع ارتكابهم الشرك الأكبر - يسمون أنفسهم موحدين مؤمنين. 12 - الطامة الثانية عشرة: أنهم يسمون - بعكس ذلك - أئمة التوحيد والسنة دعاة العقيدة السلفية - خوارج كلاب النار؛ ويتهمونهم بأنهم مكفرون جميع الأمة الإسلامية برمتها، وأنهم يكفرون المؤمنين الموحدين المستغيثين بالصالحين. بل تصل القبورية إلى أبعد الحدود في الكذب والبهتان والبغي والظلم والافتراء والعدوان على أئمة التوحيد والسنة والإيمان؛ فيتهمونهم بأنهم كفروا الصحابة والتابعين وأتباعهم من الفقهاء والمحدثين؛ على طريقة أسلافهم الخوارج كلاب النار. 13 - الطامة الثالثة عشرة: تبرير إشراكهم بأنهم لا يعبدون الأصنام والأحجار والأشجار التي لا منزلة لها عند الله تعالى بخلاف المشركين؛ ويقولون - في أئمة التوحيد والسنة الرادين عليهم -: إنهم يعمدون إلى تلك الآيات التي نزلت في المشركين؛ فيحرفونها، ويحملونها على المؤمنين الموحدين المتوسلين المستغيثين بالأنبياء والأولياء؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 كما يحرفون الآيات التي نزلت في الأصنام؛ فيحملونها على الأنبياء والأولياء؛ فقاس هؤلاء الخوارج المكفرون للمؤمنين الموحدين المستغيثين بالصالحين - الاستغاثة بالأنبياء والأولياء عند الكربات * والنذر لهم والذبح لهم وطلب الدعاء منهم عند الملمات * على عبادة الأصنام والأحجار والأشجار التي لا مكانة لها عند الله؛ فظنوا أن كليهما إشراك بالله وعبادة لغير الله سبحانه. مع أن هذا القياس قياس فاسد؛ لأنه لا يصح قياس مؤمن موحد يستغيث بالأنبياء والأولياء ويناديهم وينذر لهم - على مشرك يعبد الأصنام والأحجار والتماثيل والأشجار التي لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تسمع ولا مكانة لها عند الله؛ كما لا يصح قياس الاستغاثة بالأنبياء والأولياء ودعائهم والنذر لهم - على عبادة الأصنام والأحجار * والأوثان والأشجار *؛ فأين هذا من ذاك؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 قلت: هذه ثلاث عشرة طامة - هي خلاصة عقيدة القبورية في جعل توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية بدون تفريق وتغائر، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وبعد عرض عقيدة القبورية في قولهم باتحاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ننتقل إلى الفصل الآتي؛ لنعرف بعض جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية - في القول بعينية هذين التوحيدين، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية؛ فأقول مستعينًا بالله العظيم: **** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الفصل الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية باتحاد وتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية لعلماء الحنفية جهود في الرد على عقيدة القبورية، وإبطال جعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية، وجعل توحيد الربوبية هو الغاية؛ ويحسن أن أعرض بعض جهود علماء الحنفية في الجواب عن جعل القبورية توحيد الربوبية هو الغاية، وإبطال عقيدتهم في جعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية في وجوه؛ ليكون كل وجه جوابًا عن قولهم وإبطالًا لعقيدتهم؛ فأقول وبالله التوفيق. الوجوه: الأول إلى الثالث عشر: لقد سبق أن ذكرت جهود علماء الحنفية في بيان أهمية توحيد الألوهية وعرضت كلامهم في ثلاثة عشر وجهًا؛ كلها تدل على الفروق بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية وهذه الوجوه كل واحد منها برهان قاطع وسلطان باهر على أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية وكل هذه الوجوه حجج ساطعة على أن المقصود الأعظم والغاية العظمى والهدف الأسمى والمطلب الأسنى الأعلى من خلق الجن والإنس، ومن إنزال الكتب وإرسال الرسل - هو توحيد العبادة المتضمن لتوحيد الربوبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فلا حاجة إلى إعادة تلك الوجوه هنا. الوجه الرابع عشر: أن الرب والإله مفهومان متغايران لغة؛ وليسا مترادفين حتى يكونا بمعنى واحد ويتحدا مفهومًا: وفيما يلي كلام علماء اللغة من الحنفية: أ- أما لفظ: ((الرب)) : فهو ينبئ عن القيام بالشيء وإصلاحه، وحفظه، وتنميته، وكون الشيء مالكًا لآخر ومتصرفًا له وسيدًا له وسائسًا له، ومصلحًا، حافظًا وقائمًا بأموره. ب- وأما لفظ: ((الإله)) : فهو فعال بمعنى مفعول؛ أي ((مألوه)) بمعنى: ((معبود)) ؛ كإمام: بمعنى: مؤتم به: من أله يأله إلهة وتألهًا: أي: عبد يعبد عبادة وتعبدًا. ومنه قول رؤبة بن العجاج (145هـ) : لله در الغانيات المده ... سبحن واسترجعن من تألهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 أي: من تعبدي. و ((المده)) جمع ((ماده)) كركع جمع راكع، من ((المده)) وهو المدح. ومنه قراءة ابن عباس رضي الله عنهما: ((ويذرك وإلهتك)) [الأعراف: 127] : أي: عبادتك. قلت: لقد تبين من نصوص هؤلاء الحنفية من أهل اللغة: أن ((الرب)) و ((الإله)) مفهومان متغايران لغة. إذن لا يصح أن يكون ((الرب)) و ((الإله)) من المترادفات. وأما تغايرهما اصطلاحا فبيانه في الوجه الآتي. الوجه الخامس عشر: أن: ((الإله)) و ((الرب)) مفهومان متغايران اصطلاحا كما أنهما متغايران لغة: لقد تبين في الوجه السابق أن ((الرب)) و ((الإله)) مفهومان متغايران لغة؛ وأريد أن أذكر كلام الحنفية لتحقيق أنهما متغايران اصطلاحا أيضًا ليتبين أن جعل القبورية توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية باطل لغة واصطلاحًا: أ- فأما ((الإله)) اصطلاحا فهو لا يختلف معناه عما كان معناه لغة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 فالإله اصطلاحا - كما صرح به الحنفية -: ((كل معبود سواء كان حقا أم باطلا)) ، بخلاف ((الله)) ؛ فإنه لا يطلق إلا على ((الإله الحق)) ، وهو الله سبحانه وتعالى. وقد اعترف بهذه الحقيقة بعض أئمة القبورية أيضًا: ب- وأما ((الرب)) معرفًا باللام مطلقًا عن الإضافة؛ فلا يطلق إلا على الله سبحانه وتعالى، وهو الاصطلاح المعروف المشهور؛ بخلاف ((الإله)) . فإنه يطلق على ((المعبود)) بالحق وعلى ((المعبود)) بالباطل، وأما إذا أضيف ((الرب)) وصار مقيدًا فيطلق على غير الله نحو ((رب الدار)) ، نعم أطلق ((الرب)) بدون الإضافة على غير الله تعالى في الشعر لا في النثر، ولكنه نادر شاذ فلا اعتبار له؛ لأنه لم يصدر إلا مرة واحدة من شاعر واحد. الوجه السادس عشر: أنه قد تبين من الوجهين السابقين اللذين ذكرت فيهما كلام علماء الحنفية من أهل اللغة في بيان معنى ((الرب)) و ((الإله)) لغة واصطلاحًا؛ ومن النصوص التي ذكرت عن علماء الحنفية في فصل أهمية توحيد الألوهية: أن كلمة الإسلام هي: ((لا إله إلا الله)) ؛ وأنه لا يمكن لأحد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 يدخل في دين الإسلام إلا بكلمة: ((لا إله إلا الله)) . وأما غيرها من الكلمات مثل: 1 - ((لا رب إلا الله)) . 2 - ((لا خالق إلا الله)) . 3 - ((لا رازق إلا الله)) . 4 - ((لا موجود إلا الله)) . 5 - ((لا مقصود إلا الله)) . 6 - ((الله موجود)) . 7 - ((الله إله)) . ونحو ذلك من الكلمات. فلا يدخل بها المرء في الإسلام البتة؛ لأن هذه الكلمات لا تفرق بين الإسلام والكفر؛ وليست هي مفترق الطرق بين المسلمين والكافرين؛ لأن جميع الكفار يعترفون بهذه الكلمات. بل بعضها من كلمات الملاحدة الصوفية الاتحادية الوجودية والحلولية. قلت: هذا كله حجة قاطعة على أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية، إذن لا يصح جعل توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية. يوضحه الوجه الآتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الوجه السابع عشر: أنه كما تبين من الوجوه السابقة ولا سيما كلام الحنفية في الوجهين: الرابع عشر والخامس عشر: أن ((الإله)) غير ((الرب)) لغة واصطلاحًا، وأنهما مفهومان متغايران، وليسا اسمين مترادفين؛ كذلك تبين أنه لا يصح أن يكون معنى كلمة التوحيد: ((لا إله إلا الله)) : ((لا رب إلا الله)) ؛ فلو كان معنى ((توحيد الربوبية)) بعينه معنى ((توحيد الألوهية)) لصح أن يكون معنى ((لا إله إلا الله)) هو: ((لا رب إلا الله)) ؛ لكن التالي باطل فالمقدم مثله، وإذا لم يجز أن يكون معنى ((لا إله إلا الله)) هو ((لا رب إلا الله)) لزم أن لا يصح كون ((توحيد الألوهية)) عينًا لتوحيد الربوبية؛ لكن المقدم حق فالتالي مثله. بل قد صرح علماء الحنفية أن المعنى الصحيح لكلمة ((لا إله إلا الله)) هو: ((لا معبود بحق إلا الله)) ، ولا يصح معنى آخر لهذه الكلمة العظيمة. كما لا يصح أن يقال في معناها: ((لا إله موجود إلا الله)) ، أو ((لا إله في الوجود إلا الله)) ؛ لأنه يكذبه الواقع؛ لأن الله تعالى قد أخبر عن وجود آلهة كثيرة متعددة غير الله تعالى ولا يمكن التخلص عن هذا الإشكال إلا إذا قلنا: إن معناها: ((لا إله بحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 إلا الله)) ؛ لأن تلك الآلهة كلها باطلة وإنما الإله الحق هو الله وحده)) . الحاصل: أنه قد تبين من كلام الحنفية في الوجهين البالغين، وغيرها من الوجوه السابقة أن الفرق بين ((الرب)) وبين ((الإله)) واقع واضحًا لغة واصطلاحًا، فهما مفهومان متغايران لا أنهما اسمان مترادفان بمعنى واحد؛ وهذه كلها حجج باهرة وبراهين قاهرة على أن جعل القبورية توحيد الألوهية عينًا لتوحيد الربوبية باطل أيما بطلان. الوجه الثامن عشر: أن علماء الحنفية الرادين عقائد القبورية قد صرحوا وحققوا بنصوص الكتاب والسنة واستنادًا إلى تاريخ الوثنية وسبر عقائد المشركين: أن المشركين كافة بألوانهم وأصنافهم، ولا سيما مشركي العرب لم ينكروا توحيد الربوبية والخالقية والرازقية لله سبحانه؛ بل كانوا يعترفون ويقرون: بأن الله تعالى هو وحده: الرب الخالق الرازق المالك المدبر للأمور المتصرف في العالم نافذ المشيئة في الكون، وهو يحيي ويميت ويجيب المضطر، وحده لا شريك له، فلا راد لقضائه ولا دافع لأمره. وقد ذكر كثير من علماء الحنفية كثيرًا من الآيات القرآنية التي تنص على اعتراف المشركين وإقرارهم: بأن الله تعالى هو وحده الخالق الرازق المالك المحيي المميت المدبر للأمور المتصرف في الكون، ونحوها من المعارف التي تتعلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 بتوحيد الربوبية. قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) موردًا عدة للبرهنة على اعتراف المشركين؛ محققًا الفرق بين التوحيدين، قاطعًا دابر القبورية الجهلاء في ذلك: (ومن بلغت به الجهالة والعماية * إلى هذه الغاية * فقد استحكم على قلبه الضلال والعناد * ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد *، ومن له أدنى نهمة في العلم والتفات إلى ما جاءت به الرسل يعرف: أن المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم التي عبدوها مع الله تعالى إلا التسبب والتوسل والتشفع؛ ليس إلا؛ ولم يدعوا الاستقلال والتصرف لأحد من دون الله) . ثم ذكر عدة آيات على ذلك ثم قال: (ولم يريدوا منهم تدبيرًا ولا تأثيرًا ولا شركة ولا استقلالًا؛ يوضحه قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32] ؛ وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89] وقوله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 61-63] ، فتأمل هذه الآيات * وما فيها من الحجج والبينات * تطلعك على جهل هذا العراقي وأمثاله، وأنهم ما عرفوا شرك المشركين * وما كانوا عليه من القصد والدين *؛ ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله وأتباعهم من توحيد رب العالمين *) . وقال رحمه الله تعالى أيضًا مبينًا جهل القبورية بحقيقة التوحيد والشرك، محققًا الفرق بين التوحيدين: (إنه [ابن جرجيس] لم يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ فلذا خبط خبط عشواء؛ وإذا بسطنا ذلك يتبين فساد قوله وبطلانه حتى لصغار المتعلمين؛ - فنقول - وبالله التوفيق * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وبيده أزمة التحقيق *: توحيد الربوبية: هو الذي أقرت به الكفار جميعهم؛ ولم يخالف أحد منهم في هذا الأصل إلا الثنوية وبعض المجوس؛ وأما غيرهما من سائر فرق الكفر والشرك - فقد اتفقوا على أن خالق العالم، ورازقهم، ومدبر أمرهم، ونافعهم، وضارهم، ومجيرهم واحد، لا رب، ولا خالق، ولا رازق ولا مدبر، ولا نافع ولا ضار، ولا مجيد غيره كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ...... ، ولا يستقيم التوحيد للربوبية فضلًا عن توحيد الألوهية إلا بتوحيد الصفات المترتب على الذات؛ لأن صفاته تعالى لا تشبه صفات المخلوقين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا، وأهل الكلام يسمون هذا النوع من التوحيد توحيد الأفعال؛ لما ذكره بعض المحققين: أن صفة الربوبية تستلزم جميع صفات الفعل؛ وصفة الألوهية تستلزم جميع أوصاف الكمال والجلال؛ إلى آخر ما قال. وأما توحيد الألوهية فهو إفراد العبادة لله الواحد الصمد؛ لأن ((الإله)) من يقصد للعبادة ويعامل بما يجب على المكلفين ... ؛ وإذا علمت هذا تبين لك: أن المعركة بين أهل التوحيد والمشركين في الألوهية فقط ... ؛ فقد تبين لك أن أكثر المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية؛ وإنما أشركوا في الألوهية؛ وعلى ذلك كتب العقائد السلفية والحديث والتفسير؛ والحكم باتحاد التوحيد نشأ من جهل هذا العراقي لكتاب الله وسنة رسوله [صلى الله عليه وسلم] ؛ وتقليده الأعمى للذين زعموا أنفسهم علماء ومؤلفين من المقلدين أمثاله الذين كل مؤلفاتهم أو أكثر ما فيها ضلال وبعد عن الهدى؛ أو نشأ من حبه لضلاله واتباعه لهواه .... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الوجه التاسع عشر: أن علماء الحنفية قد صرحوا استنادًا إلى نصوص الكتاب والسنة وحقيقة الشرك والتوحيد ومعرفة تاريخ الوثنية: أن المشركين لم يعتقدوا في آلهتهم التي كانوا يعبدونها: أنها خالقة، رازقة مالكة لهم، مدبرة لأمورهم، متصرفة في شئونهم ولم يعتقدوا فيها القدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر، بدون إذن من الله وبدون عطاء من الله سبحانه؛ فلم يجعلوا آلهتهم شريكة مع الله سبحانه في الخلق والرزق والتدبير والتصرف في الكون والربوبية للعالم، والإحياء والإماتة ونحوها من المعارف. قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) والعلامة نعمان الآلوسي (317هـ) واللفظ للأول بعد ذكرهما عدة نصوص قرآنية على اعتراف المشركين: (ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم؛ بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم؛ تارة يعتقدون: أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله؛ وهذا كان أصل شرك العرب ... ) . الوجه العشرون: أن المشركين لم يعبدوا آلهتهم - لأجل اعتقادهم فيهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أنهم قادرون على النفع والضر والتدبير بذاتهم استقلالًا دون الحاجة إلى الله تعالى ودون إذن الله سبحانه، ودون عطاء الله تعالى لهم. الوجه الحادي والعشرون: أن المشركين لم يعبدوا الأحجار والأشجار لذاتها ولا اعتقدوا فيها الألوهية فضلًا عن الربوبية؛ فإن هذا لم يصدر عن عاقل قط؛ إذ لا يتصور أن ينحت الشخص حجرًا ونحوه ويجعله صنمًا ثم يعتقد فيه أنه إلهه فضلًا عن أن يعتقد فيه أنه خالقه ورازقه وربه. الوجه الثاني والعشرون: أن المشركين إنما أشركوا بالله تعالى شرك الشفاعة والتوسل إلى الله تعالى بعباده الصالحين؛ فظنوا أنهم لا يمكن لهم الوصول إلى الله تعالى مباشرة إلا بواسطة الصالحين الذين لهم مكانة عند الله، وأن الله تعالى لا يرد شفاعتهم لمنزلتهم عنده؛ وكانوا يقيسون الله تعالى بملوك الدنيا؛ فزعموا أنه كما لم يكن يمكن الوصول لعامة الناس إلى الملوك إلا بواسطة الأمراء والوزراء؛ فكذلك عامة العباد لا يمكن لهم الوصول إلى الله تعالى مباشرة إلا بواسطة عباد الله المقربين عنده، وعلى هذا الأساس صوروا لهم الصور ونحتوا لهم التماثيل تذكارًا لهم وجعلوها قبلة للتوجه إلى هؤلاء الصالحين المقربين، فكانوا على هذا الأساس يدعونهم ويستغيثون بهم في المهمات وينذرون لهم ويعبدونهم بأنواع العبادات؛ وهذه العقيدة الفاسدة في التوسل والواسطة والاستشفاع بعينها هي عقيدة القبورية اليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 حذو القذة بالقذة. وقد ذكرت كثيرًا من نصوص علماء الحنفية بنصها وفصها متفرقة في عدة مواضع من هذه الرسالة؛ فلا حاجة لسردها هاهنا. وسأذكر كثيرًا منها في هذه الرسالة لمس الحاجة إلى ذكرها عند المناسبة كما سأذكر نصوص علماء الحنفية على أن القبورية في توسلهم الشركي وواسطتهم الشركية على طريقة أسلافهم المشركين السابقين حذو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 النعل بالنعل. وأقول: الحاصل: أن المشركين لما كانوا معترفين بتوحيد الربوبية وإنما كان خلافهم في توحيد الألوهية؛ ثبت أن توحيد الربوبية غير توحيد الألوهية. إذا بطل قول القبورية؛ في جعلهم توحيد الألوهية عينًا لتوحيد الربوبية وثبت أيضًا أن الرسل ما أرسلت والكتب ما أنزلت وأن الجن والإنس ما خلقوا إلا لتحقيق توحيد الألوهية، فتبين أن الغاية إنما هي توحيد الألوهية لا توحيد الربوبية، ولله الحمد. الوجه الثالث والعشرون: أن المشركين - كما صرح الحنفية - كانوا يدعون الله تعالى عند الشدائد ولا يدعون آلهتهم الباطلة عند إلمام الملمات والكربات. وقد استدل كثير من الحنفية بكثير من تلك الآيات التي تدل على أن المشركين كانوا يستغيثون بالله وحده عند الكربات. وقد ذكر الحنفية بهذه المناسبة عدة قصص للمشركين. الأولى: قصة إسلام عكرمة: فقد فر عند فتح مكة وركب البحر وأخذتهم الريح فجعل أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 السفينة يدعون الله تعالى ويوحدونه وقالوا: إن هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى فقال عكرمة: فهذا إله محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه فارجعوا بنا؛ فرجع فأسلم. القصة الثانية: قصة التجاء قريش وعلى رأسهم عبد المطلب حينما غزا أبرهة الأشرم مكة لهدم الكعبة: فلقريش عامة ولعبد المطلب خاصة عجائب في التضرع والاستغاثة بالله تعالى وقد ذكر الحنفية شطرًا من تضرع قريش والتجائهم إلى الله وحده. ولهم في ذلك أشعار يستغيثون فيها بالله تعالى؛ منها أبيات لعبد المطلب: لاهم إن المرء يم ... نع رحله فامنع رحالك وانصر على آل الصلي ... ب وعابديه اليوم آلك عمدوا حماك بكيدهم ... جهلًا وما رقبوا جلالك يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع عنهم حماك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 إن عدو البيت من عاداك ... امنعهم أن يخربوا فناك القصة الثالثة: أن أهل مكة لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: ((اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى القبيلتين وأكرم الحزبين بأفضل الدين)) . الحاصل: أن هذه النصوص التي ذكرها علماء الحنفية عن المشركين تدل دلالة قاطعة أنهم لم يكونوا مشركين في ربوبية الله تعالى وخالقيته ومالكيته وتدبيره للكون؛ وإنما كان إشراكهم في توحيد الألوهية؛ فتبين الفرق بين التوحيدين وبطل جعل أحدهما عين الآخر كما هو زعم القبورية الباطل. الوجه الرابع والعشرون: أن الحنفية ذكروا أن المشركين كانوا على بقية من بقايا الملة الإبراهيمية وكانوا يسمون أنفسهم الحنفاء؛ وكانوا يعبدون الله تعالى ببعض العبادات. كالصلاة والحج والصوم ويعظمون الله تعالى بأفعال تعظيمية ولا سيما السجود وأقوال من الذكر والدعاء؛ والطهارة والغسل من الجنابة، وكان فيهم الزكاة، وقرى الضيف والاهتمام بابن السبيل وحمل الكل والصدقة على المساكين وصلة الأرحام والإعانة على نوائب الحق والذبح في الحلق واللبة وكانوا يحرمون المحارم كالأم والبنت والأخت وكان فيهم القصاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 والدية والقسامة، وعقوبات الزنا والسرقة ونحوها من بقايا الملة الإبراهيمية؛ بل كانوا يسلمون جواز بعثة الأنبياء ويقولون بالمجازاة ويعتقدون أصول أنواع البر وكثيرًا في الشعائر كالختان ونحوه. الحاصل: أن كل هذا يدل دلالة لا تحتمل النقيض: أن المشركين كانوا يعبدون الله تعالى أيضًا بكثير من العبادات الظاهرة والباطنة؛ وأنهم لم يكونوا مشركين بالله آلهتهم في الخالقية والرازقية والمالكية والربوبية؛ وهذا كله برهان أيما برهان على الفرق بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية؛ وحجة قاهرة على بطلان جعل هذين التوحيدين شيئًا واحدًا. الوجه الخامس والعشرون: أن علماء الحنفية قد ذكروا: أن المشركين كانوا إذا حجوا يلبون لله عز وجل بهذه التلبية: ((لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) ، وكانوا إذا «قالوا: ((لبيك لا شريك لك)) ؛ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلكم قد قد؛» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 «فيقولون: ((إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك» *)) وقد ذكر بعض الحنفية تلبيتهم هذه في صورة الرجز: * لبيك لا شريك لك * إلا شريكًا هو لك * تملكه وما ملك. قال علماء الحنفية في شرح قول المشركين: ((تملكه وما ملك)) . إن كلمة: ((ما)) تحتمل وجهين: الأول: أن تكون نافية؛ فالمعنى: أنهم يعترفون بأن الله تعالى هو المالك وأن آلهتهم لا تملك شيئًا. والثاني: أن تكون موصولة عطف على الضمير المنصوب المتصل؛ فيكون المعنى: أن الله تعالى هو مالك آلهتهم ومالك ما تملك آلهتهم أيضًا. وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في شرح هذه التلبية ردًّا على مزاعم القبورية ولا سيما ابن جرجيس العراقي: (وهذا الأحمق زاد في غير موضع في كتابه قيدًا؛ فقال: ((لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله)) . مع أن في تلبية المشركين في الجاهلية: ((لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) ؛ فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال، وعلى زعم هذا [العراقي] فليسوا بمشركين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ولذلك قال الإمام ابن أبي العز في بيان عقائد المشركين وحقيقة شركهم: (ولم يكونوا يعتقدون في أصنامهم أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم في مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم؛ تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء ويتوسلون بهم إلى الله؛ وهذا كان أصل شرك العرب ... ) . قلت: الحاصل: أن القبورية في دعواهم: أن المشركين إنما كان إشراكهم لأجل اعتقادهم في آلهتهم الاستقلال بالنفع والضرر غير صادقين كما أنهم في قولهم باتحاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية على باطل محض. الوجه السادس والعشرون: أن توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، ولا عكس؛ كما سبق تقريره في كلام الحنفية. ولا شك أن المتضمن بصيغة اسم الفاعل غير المتضمن بصيغة اسم المفعول لأن الأول كل، والثاني جزء له. ولا شك أن الكل غير الجزء، والجزء غير الكل؛ ومن لم يفرق بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الكل والجزء وقال باتحادهما فقد هذى هذيان المحمومين * وانحط من عقلاء المجانين * وقد تبين من هذا أن توحيد الألوهية إذا وجد وجد توحيد الربوبية؛ لأن وجود الكل يستلزم وجود الجزء ولا عكس؛ فإن توحيد الربوبية قد وجد عند المشركين ومع ذلك هم مشركون في توحيد العبادة كما سبق تقريره غير مرة. الوجه السابع والعشرون: أن توحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية مدلول لتوحيد الربوبية؛ كما صرح بذلك علماء الحنفية؛ وهذا حجة وبرهان ودليل وسلطان على أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية؛ أنه لا شك أن الدليل غير المدلول والمدلول غير الدليل؛ ومن زعم أن الدليل والمدلول شيء واحد فقد حكم على نفسه بالجنون * ولكن الجنون أنواع وفنون *. فقد صرح علماء الحنفية أن الله تعالى احتج على المشركين لأجل اعترافهم بربوبيته وخالقيته ومالكيته في مواضع لا تحصى من كتابه ليوحدوه في ألوهيته؛ لأنهم يسلمون في الأول دون الثاني؛ فاحتج الله تعالى بالأول على الثاني ليسكتهم ويفحمهم ويلجئهم إلى الاعتراف بالثاني، وهذه طريقة محكمة غاية الإحكام في باب المناظرة. وإليك نصين مهمين للعلامة الآلوسي (1342) في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 1 - قال رحمه الله في تحقيق أن الله تعالى احتج على المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية؛ ليعترفوا بتوحيد العبادة؛ وذلك بعد ذكره لعدة آيات فيها استدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية: (تأمل كيف استدل سبحانه وتعالى على توحيد إلهيته ووجوب عبادته وحده لا شريك له بما أقر به الخصم واعترف به من توحيد ربوبيته واستقلاله بالملك والخلق والتأثير والتدبير؛ وهذه عادة القرآن دائمًا: يعرج على هذه الحجة؛ لأنها من أكبر الحجج، وأوضحها، وأدلها على المقصود؛ فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة، والفصاحة، والجلالة، والفخامة، والدلالة والظهور؛ فأي شبهة بعد هذا تبقى للمماحل المغرور) . 2 - وقال رحمه الله تعالى: محققًا أن توحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية وأن الله تعالى قد احتج على المشركين بهذه الحجة القاهرة الباهرة: (إنه [ابن جرجيس] لم يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فلذا خبط خبط عشواء ... ؛ توحيد الربوبية هو الذي أقرت به الكفار جميعهم ... ؛ فقد اتفقوا على أن خالق العالم ورازقهم ومدبر أمرهم ونافعهم وضارهم ومجيرهم واحد؛ لا رب ولا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا نافع ولا ضار ولا مجير غيره..؛ وأما توحيد الألوهية فهو إفراد العبادة لله الواحد الصمد .... ؛ إذا علمت هذا تبين لك أن المعركة بين أهل التوحيد والمشركين في الألوهية فقط ... ؛ وجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 دعوا إلى توحيد الله وعبادته، وقد رد الله سبحانه على من خالف هذا الأصل، وحكم على الوصل بحكم الفصل، وهم المشركون الذين وحدوه بالربوبية، وأشركوا به في الألوهية توحيدهم؛ فأقامه حجة بالغة وسلطانًا مبينًا قامعًا للشرك في الألوهية، موجبًا لإفراده فيها أيضًا، وأنه ينبغي أن لا يعبد غيره، كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه؛ فقد تبين لك أن أكثر المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وإنما أشركوا في الألوهية، وعلى ذلك كتب العقائد السلفية والحديث والتفسير. والحكم باتحاد التوحيدين نشأ من جهل هذا العراقي لكتاب الله وسنة رسوله [صلى الله عليه وسلم] . الوجه الثامن والعشرون: أن الفرق بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية، جوهري؛ لأن توحيد الربوبية توحيد بأفعال الله تعالى، مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الكون والتصرف في الخلق وإنزال المطر وإنبات النبات، وغيرها من أفعال الله تعالى الخاصة به سبحانه وتعالى. أما توحيد الألوهية فهو توحيد بأفعال العبد؛ مثل الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والصوم والصلاة والحج والزكاة وغيرها من أنواع العبادات الظاهرة والباطنة وهذا التوحيد هو الذي وقع فيه النزاع في قديم العصر وحديثه، وأنكر المشركون قديمًا وحديثًا، وهذا التوحيد هو معنى: ((لا إله إلا الله)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الوجه التاسع والعشرون: أن الفرق بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية؛ وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، توحيد الأسماء والصفات - موجودان - قبل شيخ الإسلام - عند أئمة الحنفية الكبار الأعلام؛ فكيف يصح زعم القبورية أن هذا التقسيم من بدع ابن تيمية، ومخترعاته؟ وإليك بعض نصوص هؤلاء الأئمة للحنفية في صحة هذا التقسيم وفي صحة الفرق بين هذين التوحيدين؛ إتمامًا للحجة وإيضاحًا للمحجة: 1 - 4 - قال الإمام الطحاوي (321هـ) في بيان عقيدة الأئمة الثلاثة للحنفية على الإطلاق: أبي حنيفة (150هـ) وأبي يوسف (182هـ) ومحمد (189هـ) رحمهم الله تعالى: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره) . قلت: تدبر رحمك الله كلام هؤلاء الأئمة؛ فإن قولهم: ((إن الله واحد لا شريك له)) توحيد إجمالي ونفي الشرك، وقولهم: ((ولا شيء مثله)) هو توحيد الأسماء والصفات، وقولهم: ((ولا شيء يعجزه)) هو توحيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الربوبية، وقولهم: ((ولا إله غيره)) هو توحيد الألوهية. أو يقال: إن الجملة الأولى: توحيد الربوبية؛ والجملتين بعدها: توحيد الأسماء والصفات، والجملة الأخيرة: توحيد العبادة. قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله في شرح الجملة الأخيرة محققًا أن هذه توحيد العبادة: (قوله: ((ولا إله غيره)) هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم كما تقدم ذكره ... ) . 5 - وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله (150هـ) أيضًا: (من قال: ((لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض)) فقد كفر؛ وكذا من قال: ((إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض؟)) والله يدعى من أعلى لا من أسفل؛ لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء) . ثم ذكر رحمه الله حديث الجارية في البرهنة على صفة العلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 والاستواء. قلت: والشاهد أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى قد صرح بالتوحيدين في هذا النص: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ حيث عطف الثاني على الأول، وهذا دليل قاطع على تغايرهما وأنهما ليسا شيئًا واحدًا. 6 - وقال أبو منصور الماتريدي (333هـ) في تفسير قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] : (أي ما لكم من إله تثبت ألوهيته وربوبيته بالدلائل والحجج، والبراهين غيره تعالى) . 7 - ونقله الناصري (652هـ) وأقره. قلت: الشاهد أن الماتريدي ثم الناصري - وهما من كبار الحنفية قد صرحا بذكر الألوهية والربوبية، وقد عطفا الثانية على الأولى؛ فدل ذلك على أن الربوبية غير الألوهية؛ فثبت: أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية، وأنهما ليسا شيئًا واحدًا، وهؤلاء الأئمة للحنفية كلهم كانوا قبل شيخ الإسلام بقرون متطاولة؛ فهل يصح هذيان القبورية أن الفرق بين هذين التوحيدين من بدع ابن تيمية ومخترعاته؟ بل نص الإمام ابن بطة على هذا التقسيم وهو توفي قبل شيخ الإسلام بقرون (387هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الوجه الثلاثون: أن الشيخ أبا غدة الكوثري الذي له ولاء وثقة بأئمة القبورية وهو من كبار علماء الحنفية قد صرح بأن تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وأن الفرق بينهما، وتحقيق أن المشركين كانوا يؤمنون بالأول دون الثاني كل ذلك ثابت بالكتاب والسنة؛ وهذا نص كلامه بحرفه ونصه * ولفظه وفصه *: (وأما تقسيم التوحيد إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية فهذا تقسيم اصطلاحي استقاه العلماء مما جاء في الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى: مما رد الله تعالى به على المشركين الذين كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية، دون توحيد الألوهية؛ وفي سورة الفاتحة التي يقرأها المسلم في صلاته مرات كل يوم دليل على ذلك؛ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ) . قلت: بعد أن شهد شاهد من أهلها - وقد كذبهم شاهدهم في طاماتهم - هل يمكن للقبورية أن يقولوا: إن تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية والفرق بينهما لا يدل عليهما الكتاب والسنة؟ ستعلم ليلى أي دين تدينت ... وأي غريم في التقاضي غريمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وبعد أن ثبت صحة هذا التقسيم والفرق بين التوحيدين وأن الغاية هي توحيد العبادة ننتقل إلى الفصل الآتي للرد على شبهات القبورية بحول الله. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الفصل الثالث في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وزعمهم أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها. وفيه مبحثان: - المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية. - المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها لإثبات زعمهم: أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 كلمة بين يدي هذا الفصل للقبورية شبهات تشبثوا بها لإثبات زعمهم: أن توحيد الألوهية بعينه هو توحيد الربوبية؛ وزعمهم: أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخلق والرزق والملك والربوبية والتصرف في العالم استقلالًا، وزعمهم: أن الشرك لا يتحقق إلا إذا اعتقد الإنسان في غير الله: أنه خالق رازق رب مستقل بالنفع والضر بدون الحاجة إلى الله تعالى، وزعمهم: أن العبادة لغير الله لا تتحقق إلا إذا عبد غير الله بذلك الاعتقاد. وأنا بحول الله وقوته وحسن توفيقه سأذكر جل هذه الشبهات وأهمها؛ ثم أذكر جهود علماء الحنفية في قلعها وقمعها؛ لإقامة الحجة وإيضاح المحجة؛ فأقول والله المستعان على ما يصفون: إن الكلام هاهنا في مبحثين: **** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 المبحث الأول في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية للقبورية شبهات تشبثوا بها للاستدلال على أن توحيد الربوبية هو عين توحيد الألوهية لغة واصطلاحا، وأنهما شيء واحد، لا شيئان متغايران، وأن الإيمان بأحدهما إيمان بالآخر، والاعتراف بأحدهما اعتراف بالآخر، وأن توحيد الربوبية كاف للمرء في الدخول في الإسلام، إلى غير ذلك من الطامات. وفيما يلي عرض أهم تلك الشبهات مع بيان جهود علماء الحنفية لإبطالها وقمعها وقلعها، فأقول وبالله التوفيق. الشبهة الأولى: شبهة ((برهان التمانع)) : وإنما سمي به: لأنه مبني على فرض التمانع؛ لأنه يتبين فيه تمانع كل واحد من الصانعين الآخر عن الصنع، أي أن هذا يمنع ذاك وذاك يمنع هذا عن تنفيذ إرادته. وتقرير برهان التمانع الدال على وحدانية الصانع الخالق هو: (أنه لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 أمكن إلهان لأمكن بينهما تمانع، بأن يريد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه ... ؛ وحينئذ إما أن يحصل الأمران؛ فيجتمع الضدان؛ أو لا؛ فيلزم عجز أحدهما) . أي: يبطل أحد الإلهين ويبقى الآخر حقا، فثبت توحيد الصانع. وهذا البرهان أشهر براهين المتكلمين في إثبات وحدانية الصانع؛ ومع ذلك قد طعن فيه بعض المتكلمين والمتفلسفين: كأبي هاشم عبد السلام بن محمد الحنفي إمام الهاشمية من المعتزلة (321هـ) ، وأبي نصر الفارابي الضال الكافر (339هـ) ، والتفتازاني الحنفي فيلسوف الماتريدية (792هـ) ، وغيرهم. ولكن لقوة هذا الدليل عند المتكلمين وشهرته عندهم قد كفر بعضهم التفتازاني وأبا هاشم لطعنهما فيه. والحق أن هذا الدليل حجة عقلية قاطعة صحيحة لا مطعن فيها؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 كما صرح بذلك شيخ الإسلام. ولكن القبورية كدأب إخوانهم المعطلة المتكلمين من الماتريدية والأشعرية؛ جعلوا برهان التمانع دليلًا على اتحاد الرب والإله؛ فكلهم قد حملوا قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ؛ على برهان التمانع بين الصانعين. أما المتكلمون: من الماتريدية والأشعرية فأمرهم أوضح في استخدام برهان التمانع وجعله دليلًا على وحدانية الصانع؛ وزعمهم أن هذه الآية الكريمة تفيد وحدانية الصانع على طريقة برهان التمانع، وجعلهم ((الإله)) في هذه الآية بمعنى الخالق الصانع. وأما القبورية: فيقول ابن جرجيس (1299هـ) ، والقضاعي (1376هـ) ، واللفظ للأول: (ويدل أيضًا على أن ((الإله)) هو ((الرب)) الآيات الدالة على التمانع، وهو نفي الشريك؛ فإن الله تعالى علم المؤمنين ورد على الكافرين المشركين؛ كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ؛ أي لو كان في السماوات والأرض أرباب غير الله لفسدتا؛ لأن كل رب يريد ما لا يريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الآخر؛ فيلزم فساد هذا النظام الموجود؛ فلما لم تفسد؛ دل أن الرب لهذا الوجود واحد في ربوبيته) . قلت: هذا النص مشتمل على أمور: الأول: أن المراد من ((الإله)) هو الرب الخالق الصانع، وأن ((الإله)) هو بعينه الرب والخالق والصانع. والثاني: أن هذه الآية فيها حجة تسمى ببرهان التمانع. والثالث: أن المراد من الفساد في هذه الآية هو الفساد بمعنى التدمير والهدم الظاهري. الجواب: لقد صرح علماء الحنفية الرادين على أهل الكلام وعلى القبورية بأن هذه المقدمات كلها فاسدة؛ فإن ((الإله)) في هذه الآية ليس المراد منه هو الرب الخالق الصانع؛ لأن هذه الآية سيقت للرد على المشركين الذين لم يعتقدوا صانعين أو أكثر للعالم؛ بل اتخذوا آلهة يعبدونها من دون الله؛ ولم يعتقدوا فيها أنها خالقة أرباب صانعة؛ بل اعتقدوا فيها أنها عباد مقربون عند الله ويشفعون لهم عند الله. إذن حمل الآية على برهان التمانع صار باطلًا أيضًا، كما أن المراد من ((الفساد)) التخريب والهدم الظاهر أيضًا باطل هاهنا؛ لأنه لو كان الأمر على برهان التمانع لقال الله تعالى: ((لم تخلقا)) ، ولم يقل: ((لفسدتا)) ؛ لأن برهان التمانع يقتضي أن لا توجد السماوات والأرض إن فرض وجود صانعين فأكثر؛ لا أن تفسدا بعد خلقهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 بل المراد من ((الفساد)) في الآية: الفساد بمعنى الظلم والعدوان؛ لأن التوحيد أعدل العدل، والشرك أظلم الظلم. قال الإمام ابن أبي العز الحنفي أحد أئمة الحنفية رحمه الله (792هـ) ، وتبعه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) ، واللفظ للأول؛ مبطلًا جميع هذه المقدمات، ومزيفًا استدلالهم بهذه الآية على جعل توحيد الألوهية عينًا لتوحيد الربوبية؛ وجعل هذه الآية مشتملة على برهان التمانع: (وكثير من أهل النظر يزعمون: أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ؛ لاعتقادهم: أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن؛ ودعت إليه الرسل عليهم السلام؛ وليس الأمر كذلك؛ بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد؛ كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84-85] ؛ ومثل هذا كثير في القرآن؛ ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام: أنها مشاركة لله في خلق العالم؛ بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر، وغيرهم؛ تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله؛ وهذا أصل شرك العرب .... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وقال رحمه الله تعالى أيضًا بعد ذكر قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] : (وقد ظن طوائف: أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره: وهو أنه لو كان للعالم صانعان إلخ، وغفلوا عن مضمون الآية؛ فإنه سبحانه أخبر: أنه لو كان فيهما آلهة غيره؛ ولم يقل: ((أرباب)) ؛ وأيضًا؛ فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا؛ وأيضًا؛ فإنه قال: ((لفسدتا)) ، وهذا فساد بعد الوجود؛ ولم يقل لم يوجدا؛ ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة؛ بل لا يكون الإله إلا واحدًا؛ وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى؛ وأن فساد السماوات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة؛ ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره؛ فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله؛ فإن قيامه إنما هو بالعدل؛ وبه قامت السماوات والأرض؛ وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك؛ وأعدل العدل التوحيد؛ وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ دون العكس .... ) . قلت: الحاصل: أن استدلال القبورية وكذا إخوانهم المعطلة المتكلمة بهذه الآية على جعل توحيد العبادة عينًا لتوحيد الربوبية باطل أي بطلان، ولله الحمد. الشبهة الثانية: تشبثهم بقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 [الأعراف: 172] . قالوا: ((لم يقل ألست بإلهكم فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية. ومن المعلوم أن من أقر لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية إذ ليس الرب غير الإله، بل هو بعينه)) . الشبهة الثالثة: تشبثهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ... [فصلت: 30، الأحقاف: 13] . قالوا: لم يقل ((إلهنا)) ؛ فهذا يدل على أن توحيد الربوبية كاف في النجاة والفوز لاستلزامه توحيد الألوهية، فهذا دليل على أن القول بأحد التوحيدين قول بالآخر. الشبهة الرابعة: استدلالهم بحديث سؤال الملكين في القبر: «من ربك» . قالوا: لم يقولا له: ((من إلهك)) ، فدل على أن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية. وقال الدجوي: (وأما السنة فسؤال الملكين للميت عن ربه لا عن إلهه لأنهم [لا] يفرقون بين الرب والإله؛ فإنهم ليسوا تيميين ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 متخبطين، وكان الواجب على مذهب هؤلاء أن يقولوا للميت ((من إلهك)) لا «من ربك» ، أو يسألوه عن هذا وذلك)) . وقال القضاعي أحد أئمة القبورية: (ولا يقولان له: إنما اعترفت بتوحيد الربوبية، وليس توحيد الربوبية كافيًا في الإيمان) . الشبهة الخامسة: استدلالهم بحديث: «قل ربي الله ثم استقم» . استدل به عدة من القبورية. وتقرير استدلالهم مر في الشبهة الثالثة. الجواب عن هذه الشبه الأربع: لقد تصدى العلامة السهسواني (1326هـ) لجواب هذه الشبه بذكر تمهيد طويل وجواب مختصر فقال: (أقول: لا مرية أننا مأمورون باعتقاد أن الله وحده ربنا ليس لنا رب غيره، وباعتقاد أن الله وحده هو معبودنا، ليس لنا معبود غيره، ولا نعبد إلا إياه. والأمر الأول: هو الذي يقال: ((توحيد الربوبية)) . والأمر الثاني: هو الذي يقال: ((توحيد الألوهية)) . والإشراك في الأول: يسمى ((الإشراك في الربوبية)) . والإشراك في الثاني: يسمى ((الإشراك في الألوهية)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 والآيات الدالة على الأمر الأول كثيرة) . ثم ذكر كثيرًا منها، ثم قال: (وأما الآيات الدالة على الأمر الثاني ((يعني توحيد الألوهية)) فأكثر من أن تحصى) . ثم ذكر كثيرًا منها، ثم قال: (ولا أظنك شاكا في أن مفهوم ((الرب)) ومفهوم ((الإله)) متغايران، وإن كان مصداقهما في نفس الأمر وفي اعتقاد المسلمين المخلصين واحد. وذلك يقتضي تغاير مفهومي التوحيدين، فيمكن أن يعتقد أحد من الضالين ((توحيد الرب)) ولا يعتقد ((توحيد الإله)) ، وأن يشرك واحد من المبطلين في ((الألوهية)) ، ولا يشرك في ((الربوبية)) وإن كان هذا باطل في نفس الأمر. ألا ترى أن مصداق ((الرازق)) ومالك السمع والأبصار، والمحيي، والمميت، ومدبر الأمر، ورب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء، والخالق، ومسخر الشمس والقمر، منزل الماء من السماء، ومصداق ((الإله)) واحد. ومع ذلك كان مشركو العرب يقرون بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار وغيرهما، ويشركون في ((الألوهية)) و ((العبادة)) ) . ثم ذكر عدة آيات دالة على هذا المطلب، ثم قال: (فكذلك عباد القبور الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا اسمه، يقرون بتوحيد الرازق والمحيي والمميت والخالق والمؤثر والمدبر والرب. ومع ذلك يدعون غير الله من الأموات خوفًا وطمعًا، ويذبحون لهم ويطوفون بهم ويحلقون لهم ويخرجون من أموالهم جزءًا لهم. وكون مصداق ((الرب)) عين مصداق ((الإله)) في نفس الأمر وعند المسلمين المخلصين لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، واتحاد مصداق الرب والإله عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 المشركين من الأمم الماضية وهذه الأمة) . ثم قال: (الاحتمال الثالث: أن المراد بـ ((الرب)) ((المعبود)) ..... قال القرطبي: ((والرب المعبود)) .... ) . ثم ذكر عدة من النصوص أفادت أن المراد بالرب في هذه الآيات هو المعبود. وقال في الجواب عن شبهات أخرى: (( (الوجه الثاني)) أنه يحتمل أن يكون المراد بالرب في الآيات المذكورة ((المعبود)) ، وقد عرفت بما تقدم أن ((الرب)) ربما يجيء بمعنى ((المعبود)) ) . قلت: حاصل الجواب: أنه لا شك في تغاير مفهومي ((الرب)) و ((الإله)) ولا ريب أيضًا أن ((توحيد الربوبية)) غير توحيد الألوهية، وأن الشرك في الأول غيره في الثاني. كما لا يرتاب ذو عقل سليم خبير بأحوال المشركين أنهم كانوا معترفين بالأول دون الثاني، ولكن لا يمنع ذلك أن تأتي كلمة ((الرب)) في بعض النصوص ويراد بها ((الإله)) ، فكلمة ((الرب)) في هذه النصوص التي تشبثت بها القبورية هي بمعنى ((الإله)) . فالمعنى: ((ألست بمعبودكم)) ، و ((إن الذين قالوا معبودنا)) ، و ((من معبودك)) ؛ لأن كثيرًا من الكلمات مع اختلاف معانيها قد تأتي إحداهما بمعنى ((الأخرى)) في بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 السياق، ومع ذلك لا يدل على أنهما شيء واحد؛ لأن الاتحاد في الصدق لا يستلزم الاتحاد في المفهوم فضلًا عن التساوي، كما صرح به العلامة محمود شكري الآلوسي. وقد أوضح هذا المطلوب المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب (1206هـ) ، وأرى أن أذكر كلامه توضيحًا لكلام العلامتين السهسواني والآلوسي؛ قال رحمه الله: (اعلم أن ((الربوبية)) و ((الألوهية)) يجتمعان ويفترقان. كما في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: 1-3] ، وكما يقال ((رب العالمين)) ، و ((إله المرسلين)) . وعند الإفراد يجتمعان، كما في قول القائل: ((من ربك)) . مثاله: الفقير والمسكين نوعان في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] . ونوع واحد في قوله صلى الله عليه وسلم: «افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم» . إذا ثبت هذا؛ فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك، معناه: من إلهك؛ لأن توحيد الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40] ، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [الأنعام: 164] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] . فالربوبية في هذا هي ((الألوهية)) ليست قسيمة لها كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 تكون قسيمة لها عند الافتراق، فينبغي التفطن لهذه المسألة) . قلت: نظير هذه المسألة: مسألة اتحاد الإيمان والإسلام وافتراقهما؛ فهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، أي إذا ذكر الإيمان والإسلام في سياق واحد يكون المراد من الإيمان عقد القلب، ويكون المراد من الإسلام الإقرار باللسان، والعمل بالأركان، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] ، وقوله تعالى: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5] ، وكما في حديث جبريل الذي فيه بيان أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة. وإذا ذكر الإيمان دون الإسلام، يكون الإيمان شاملًا للإسلام، كما في قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28] ، وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ... [التوبة: 71] . وإذا ذكر الإسلام دون الإيمان يكون الإسلام شاملًا للإيمان، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ، وقوله تعالى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] . ولقد حقق هذه القاعدة؛ قاعدة الافتراق والاجتماع وبسط القول فيها، وذكر لها نظائر كثيرة الإمام ابن أبي العز الحنفي، وقبله شيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الإسلام؛ فراجعها. الحاصل: أن مفهوم ((الربوبية)) غير مفهوم ((الألوهية)) بلا ريب؛ فهما مفهومان متغايران، أمران مستقلان اثنان، لكن قد يذكر أحدهما ويراد به الآخر في بعض السياق أحيانًا، فهذا لا يدل على اتحادهما. فكلمة ((الرب)) الواردة في النصوص التي تشبث بها هؤلاء القبورية لإثبات الاتحاد بين ((الربوبية)) و ((الألوهية)) معناها ((المعبود)) فلا يصح استدلالهم بها على اتحاد مفهومها. ولذا نرى العلامة محمود شكري الآلوسي (ت 1342هـ) بعد بحث طويل في معنى الربوبية والألوهية، وأن الأول اعترف به المشركون، وأن المعركة كانت في الألوهية فقط، وأن الأول دليل على الثاني -، أجاب عن شبهة إمام القبورية ابن جرجيس ((من أن الرب والإله متحدان في المفهوم)) قائلًا: (ثم إن العراقي - عامله الله بعدله - كأنه لم يشم رائحة العلم ولا قرأ مقدماته حتى حكم باتحاد الرب والإله في المفهوم توهمًا منه: أن الاتحاد في [الصدق] يستلزم الاتحاد في المفهوم، وأن الترادف [يعني إطلاق ((الرب)) على ((الإله)) في بعض المواضع] يستلزم التساوي. وهذا جهل بالنسب بين الألفاظ. وما كفاه هذا الخبط العظيم حتى أخذ يتكلم على أهل الحق بكلام لا يصدق إلا عليه ولا يثبت صفته المذمومة لغيره. فتبًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 لشيبته الضالة، وسحقًا له من رجل لم تحنكه التجارب) . الشبهة السادسة: استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} [آل عمران: 80] . قال الدجوي أحد أئمة القبورية مستدلًا بهذه الآية الكريمة على اتحاد الرب والإله: (فصرح بتعدد الأرباب عندهم، وعلى الرغم من تصريح القرآن بأنهم جعلوا الملائكة أربابًا يقول ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب: إنهم موحدون توحيد الربوبية، وليس عندهم إلا رب واحد، وإنما أشركوا في توحيد الألوهية) . الجواب: لقد ذكر هذه الشبهة العلامة السهسواني مع شبهات أخرى، ثم قال: (قلت جوابه لوجوه: الأول: أنه ليس في شيء من الآيات المذكورة أن مشركًا قال في حق غير الله إنه رب [أي إنه خالق ومدبر الكون ونحوه] .... ، وإنما في بعضها اتخاذ الأرباب، وهذا ليس نصا على أنهم مقرون بربوبيتهم [وخالقيتهم ونحوها] ؛ بل يحتمل أن يكون اتخاذهم الأرباب بمعنى صرف شيء من العبادة إليهم أو بمعنى اتباع ما شرعوا لهم من تحريم الحلال وتحليل الحرام..) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 قلت: حاصل هذا الجواب: أنه ليس المراد من لفظة ((الرب)) في مثل هذا السياق ((الخالق الرازق مدبر الكون)) حتى يلزم ما زعمته القبورية، بل المراد من ((الرب)) في مثل هذا السياق هو ((المعبود)) . وقد يرد في بعض السياق ((الرب)) ويراد منه ((المعبود)) ، كما تقدم ذلك على لسان علماء الحنفية. فلفظة ((الرب)) في هذه الآية بمعنى ((المعبود)) . وأقول: يدل عليه أيضًا ما ذكره المفسرون من علماء الحنفية سببين لنزول هذه الآية: الأول: أن بعض اليهود والنصارى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله أن نعبد غيره، أو أن نأمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. والثاني: أن رجلًا قال: «يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض؟ أفلا نسجد لك؟ قال: لا، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى» ، فنزلت. فالحاصل: أنه ليس في الآية إشارة ولا صراحة أن المشركين كانوا يشركون بالله في الخالقية والرازقية وتدبير الكون، فانهار استدلال القبورية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 المبحث الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها لتحقيق زعمهم: أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها للقبورية شبهات كثيرة استندوا إليها لتحقيق أن المشركين السابقين ولا سيما مشركي العرب في الجاهلية إنما كانوا مشركين آلهتهم بالله تعالى في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية. بل سووا آلهتهم بالله سبحانه وعدلوهم به تعالى، بل كانوا يرجحون آلهتهم على الله تعالى، بل كانوا يسبون الله تعالى إعظامًا لآلهتهم. وفيما يلي بعض أهم شبهاتهم أعرضها للقراء الكرام، مع بعض جهود علماء الحنفية في إبطالها وقمعها، إتمامًا للحجة وإيضاحًا للمحجة، فأقول مستعينًا بالله تعالى: الشبهة الأولى: تشبث القبورية بقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] . قالت القبورية مستدلين بهذه الآية: إن المشركين كانوا دهرية منكرين للخالق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 قلت: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذا الاستدلال بجوابين: الأول: أن هذه الآية ليس فيها إنكار مشركي العرب للخالق، بل الآية سيقت لبيان اعتقادهم وغلوهم في إنكار البعث، وإنكار قبض ملك الموت أرواحهم بإذن الله، فأنكروا البعث وقالوا: إن الدهر يهلكنا لا ملك الموت. فالحصر هاهنا في الآية حصر بالنسبة لملك الموت، لا أنهم ينكرون وجود الله تعالى. ومع ذلك كان فيهم من يثبت نوعًا من التصرف للدهر. قال الزمخشري (538هـ) والنسفي (710هـ) والعمادي (983هـ) والآلوسي (1270هـ) واللفظ له: (وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار منهم لملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله عز وجل، وكانوا يسندون الحوادث مطلقًا إليه لجهلهم أنها مقدرة من عند الله، وأشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر، وهؤلاء معترفون بوجود الله فهم غير الدهرية؛ فإنهم - أي الدهرية - مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر لا يقولون بوجود الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا، والكل يقول باستقلال الدهر بالتأثير) . الجواب الثاني: أن هذا اعتقاد بعض الجاهلية الذين كانوا زنادقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 قلت: لا شك أن الزنادقة لا دين لهم فهم إن أنكروا خالقية الله تعالى وربوبيته ونسبوا الحوادث إلى الدهر، فهذا منهم مكابرة وعناد. فهذه الآية لا تناقض ما حكى الله عنهم من اعترافهم بتوحيد الربوبية، فهم يقولون ذلك بالألسنة مع أن قلوبهم تشهد بخلاف ذلك. الشبهة الثانية: تشبثهم بقول الشاعر: أشاب الصغير وأفنى الكبي ... ر كر الغداة ومر العشي قالوا: هل يعقل أن يقول عاقل: إن أصحاب هذا الكفر كانوا يقرون بتوحيد الربوبية؟ . والجواب: أن هذه الشبهة في غاية من الحماقة والبلادة؛ لأن هذا الشاعر كان مسلمًا؛ فكيف يتصور أنه كان ملحدًا دهريا زنديقًا منكرًا لخالق الكائنات ورب البريات؟ . والظاهر أنه عنى: أن البلايا في الدهر أشابت الصغير وأفنت الكبير. ولا يعبد أن يكون قوله هذا في شدة تلك المصائب، مثل ما في قوله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] ، ولو سلم أنه كان كافرًا فجوابه ما سبق في الجواب عن الشبهة السابقة وبالله التوفيق. الشبهة الثالثة: تشبثهم بقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} .... [البقرة: 28] ، وقوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وقوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] . قالوا: هذه الآيات صريحة في إنكار المشركين للخالق سبحانه وتعالى، فدل أنهم كانوا مشركين في خالقية الله تعالى. وأجاب الحنفية بأجوبة ثلاثة: الأول: أن المراد من الكفر في هذه الآيات كفر النعمة، والمعنى: كيف تكفرون نعم الله؟ . والثاني: أن المراد من كفرهم بالله هو كفرهم بكتاب الله؛ فعبر عن ذلك بكفرهم بالله. والجواب الثالث: أن المراد من الكفر بالله كفرهم بتوحيد الله، فمعنى {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} : كيف تعبدون معه غيره. فكفرهم بالله اتخاذ الأنداد والشركاء له سبحانه. ولذا قال الآلوسي في بيان الربط بين الجملتين في قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} -: (لأن الأولى متحدة بقوله تعالى {تَكْفُرُونَ} بمنزلة إعادتها) . الشبهة الرابعة: تشبثهم بقوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 قالوا: فلم يجعلوه ربًا. بل هو صريح في أنهم كانوا منكرين للخالق سبحانه وتعالى. أقول: إن الحنفية قد أجابوا عن هذه الشبهة بأجوبة ثلاثة: الجواب الأول: ما مر في الجواب عن الشبهة الثانية. أن المراد بالكفر بالرحمن هاهنا هو الكفر بتوحيده. قال العلامة الجاجروي: (قال ابن جرير: يقول: وهم يجحدون وحدانية الله ويكذبون بها) . والجواب الثاني: ما مر أيضًا في الأجوبة عن الشبهة الثالثة من أن المراد كفر النعمة، وهي إرسال الرسول وإنزال القرآن لهدايتهم. قال الآلوسي: (فلم يشكروا نعمة الله سبحانه لا سيما ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم وإنزال القرآن الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية عليهم، بل قابلوا رحمته ونعمه بالكفر) . الجواب الثالث: أن المراد أنهم أنكروا هذا الاسم لله تعالى كما ورد ذلك في سبب نزول هذه الآية، فأنكروا تسمية الله بالرحمن، لا أنهم أنكروا الله تعالى؛ وهذا نوع من الإلحاد في توحيد الأسماء والصفات. وكثير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 المشركين لا يعرفون الله تعالى باسمه ((الرحمن)) ؛ كما روي أن سهيل بن عمرو قال يوم صلح الحديبية: لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة. وروي «أن أبا جهل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا الله يا رحمن. فقال: إن محمدًا ينهانا عن عبادة الآلهة، وهو يدعو إلهين، فنزلت هذه الآية» . قلت: الجواب الصحيح هو الأول: ولذا ضعف الآلوسي الجواب الثاني. والحاصل: أن الآية ليس فيها ما يدل على أن المشركين كانوا منكرين لوجود الله تعالى وخالقيته، فبطلت شبهة القبورية. الشبهة الخامسة: تشبثهم بقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 10] . قالوا: (فلم يكن مشركو العرب مؤمنين بالأحدية والربوبية) . وقالوا: ((فهل نرى صاحب هذا الكلام موحدًا أو معترفا)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الجواب: لقد أجاب المفسرون من الحنفية بأن قصد المشركين إنكار تسمية الله تعالى ((الرحمن)) ولم يكن قصدهم إنكار مسماه، وهو الخالق الرازق الرب؛ لأنهم لا يعرفون الله باسمه ((الرحمن)) . وذكر الآلوسي: (وقيل سألوا عن ذلك لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله كما يطلقون الرحيم والرحوم والراحم عليه، أو لأنهم ظنوا أن المراد غيره عز وجل، فقد شاع فيما بينهم تسمية مسيلمة برحمن اليمامة) . وكانوا ينكرون أن يسمى الله تعالى باسمه ((الرحمن)) كما أنكروا ذلك يوم الحديبية. الشبهة السادسة: تشبث القبورية بقوله تعالى: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] . قال الدجوي (1365هـ) : انظر إلى قولهم، فهم سووا آلهتهم بالله في جعلهم أربابًا كما هو ظاهر لغير المتعسف. الجواب: أنه قد صرح علماء الحنفية في تفسير هذه الآية: أن المراد من التسوية هاهنا عند الكفار التسوية في العبادة واستحقاقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ولا شك أن من عبد غيره تعالى فقد جعله ندا لله سبحانه، وسواه به تعالى في العبادة، وليس المراد من التسوية هاهنا تسويتهم لآلهتهم بالله تعالى في الخلق والإيجاد والربوبية والخالقية والرازقية والتصرف في الكون والمالكية، لما سبق تحقيقه مرارًا وتكرارًا على لسان الحنفية: من أن المشركين كافة لم يكونوا يعتقدون في آلهتهم ذلك بل كانوا يعتقدون: أن آلهتهم عباد معظمون عند الله مملوكون له محترمون عنده وهم شفعاؤهم عند الله تعالى. ولا تنس ما ذكره الحنفية من تلبيتهم: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) . وقد سبق تخريجها وتفسير علماء الحنفية لها. وأقول: إن هذه الآية بمثابة آية أخرى: {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1، 150] ، مع قوله تعالى: {أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] . فهذه الآية الأخيرة مفسرة لهاتين الآيتين، وتبين المراد بأنهم كانوا مشبهة يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم والخضوع والمحبة، وأن المراد التسوية والعدل في المحبة والطاعة والتعظيم والعبادة، لا في الخالقية والمالكية والرازقية والتصرف في الكون ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الشبهة السابعة: استدلال القبورية بقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] . قال الطباطبائي أحد أئمة القبورية مستدلًا بهذه الآية: (ثم إنه سبحانه حكم بشركهم لاتخاذهم تلك الأصنام شريكًا لله في الخلق وتدبير العالم وجوزوا عبادتها خلافًا لله تعالى ... ) . ثم تشبث بهذه الآية ثم قال: (وأين هذا ممن لا يعتقد في الأنبياء والصلحاء الخلق والتدبير ولا يعتقد عبادتهم) . قلت: منشأ الشبهة في هذه الآية هو أن الله تعالى نهاهم عن جعل الأنداد لله، والأنداد جمع ند، وند الشيء مشارك له في جوهره، فهو أخص من المثل؛ فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت؛ فكل ند مثل، وليس كل مثل ندا. وفرق آخر بينهما: هو أن الند هو المثل المخالف. فدلت الآية على أن المشركين كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها مساوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 لله في الربوبية، كما قالوا ذلك في الشبهة التي قبلها. ولكن أجاب المفسرون من علماء الحنفية بأن المشركين لم يعتقدوا في آلهتهم أنها مساوية لله أو مشاركة له في الربوبية والخالقية؛ لأن الآية خرجت مخرج التهكم والسخرية منهم، يدل عليه قوله تعالى في آخر الآية: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . قال الزمخشري (538هـ) والعمادي (983هـ) والآلوسي (1270هـ) ما حاصل كلامهم: فإن قلت: كيف سموا آلهتهم التي كانوا يعبدونها أندادًا؟ مع أنهم لم يكونوا يزعمون أنها تخالف الله أو تساويه أو تماثله في ذاته تعالى وفي صفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله، وإنما عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى. قلت: لما تقربوا إليها وعظموها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات مثله قادرة على مخالفته ومضادته، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله عز وجل، وتمنحهم ما لم يرد الله تعالى لهم من خير. فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم؛ فتهكم بهم وتشنع عليهم بأن جعلوا أندادًا لمن يستحيل أن يكون له ند واحد فضلًا عن أنداد كثيرة على سبيل الاستعارة التهكمية؛ حيث استعير النظير للمناسب المقرب؛ كما استعير التبشير للإنذار، والأسد للجبان، فإن المشركين جعلوا آلهتهم بحسب أفعالهم وأحوالهم مماثلة له تعالى في العبادة، وهي صفة شنعاء وصفة حمقاء، في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم. ولله در موحد الفترة؛ زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه حيث يقول في ذلك: أربًا واحدًا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 تركت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الرجل البصير وقوله تعالى في آخر هذه الآية: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حال عن ضمير (لا تجعلوا) ؛ أي والحال أنكم تعلمون أن آلهتكم لا تماثل الله تعالى، وأنها لا تفعل مثل أفعاله تعالى، ولا تقدر على مثل ما يفعل سبحانه، كما قال تعالى: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40] . وقال العلامة محمود شكري الآلوسي (ت 1342) : (فالمشركون كانوا مشبهة يشبهون آلهتهم بالله تعالى في الإلهية؛ حيث غلوا في تعظيمهم وحبهم، وإن لم يشبهوهم بالله تعالى في كل وجه؛ فكل مشرك مشبه. وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام المشركين المشبهين العادلين بالله غيره. قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ، فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلًا للخالق. والند: الشبه؛ يقال: فلان ند فلان، وند ونده أي شبهه ومثله. ومنه قول حسان: أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخيركما الفداء وقال جرير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أين ما تجعلون إلي ندا ... وما يتم لذي حسب نديد فتبين أن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم والخضوع والحلف به والنذر له والسجود له والعكوف عند بيته وحلق الرأس له والاستعانة به والتشريك بينه وبين الله تعالى في قولهم: ليس إلا الله وأنت، وأنا متكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما شاء الله وشئت، وهذا لله ولك، وأمثال ذلك، فهؤلاء هم المشبهة. فمن تدبر هذا الفصل حق التدبر تبين له كيف وقعت الفتنة في الأرض بعبادة الأصنام، وتبين له سر القرآن في الإنكار على هؤلاء المشبهة الممثلة) . الشبهة الثامنة: تشبثهم بقوله تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] . استدل الدجوي (1365هـ) بهذه الآية على بطلان الفرق بين توحيدي الربوبية والألوهية، وعلى أن المشركين لم يكونوا مقرين بتوحيد الربوبية. وقال المالكي مستدلًا بهذه الآية على أن المشركين لم يعترفوا بربوبية الله تعالى، بل جعلوا الله أقل منزلة من أصنامهم: (فلولا أن الله تعالى في نفوسهم من تلك الحجارة ما رجحوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 عليه هذا الترجيح الذي تحكيه هذه الآية .... ) . الجواب: أقول: تسمية هذا المالكي القبوري آلهة المشركين بـ ((الأحجار)) غفلة فاحشة وكذب مكشوف؛ لأن المشركين كانوا يعبدون الأنبياء والصالحين، ولم يكونوا يعبدون الأحجار، غير أنهم جعلوا صور الأنبياء والصالحين قبلة لعبادتهم كما تقدم. وأما صنيعهم الذي ذمهم الله به في الآية، فلا شك أنهم في ذلك على ضلال، إذ لا شك أنهم رجحوا ما نذروه لآلهتهم على ما نذروه لله تعالى، ولكن هذا ليس لأجل أنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم أرفع مكانة من الله، وليس فيه أنهم جعلوا آلهتهم شركاء لله في الخلق وتدبير العالم، غاية ما في الأمر أن المشركين كانوا ينذرون لله تعالى، وينذرون لآلهتهم الباطلة أيضًا، فما نذروه لآلهتهم لا ينفقونه على المساكين وأبناء السبيل والضيوف وغيرهم من الوجوه، وما نذروه لله ينفقونه على آلهتهم، وسدنتها وعاكفيها، ويعللون صنيعهم هذا بأن الله تعالى غني غير محتاج، وإنما ذلك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها. صرح بذلك جمع من المفسرين الحنفيين. وقال الإمام أبو الليث السمرقندي (375هـ) أحد أئمة الحنفية: (روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كانوا يسمون لله جزءًا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الحرث، ولآلهتهم جزءًا، فما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه، وما ذهبت به الريح من الجزء الذي سموه لله إلى جزء أوثانهم تركوه، وقالوا إن الله غني عن هذا) . وقال السدي: (ما خرج عن نصيب الأصنام أنفقوه عليها، وما خرج عن نصيب الله تصدقوا به، فإذا هلك الذي لشركائهم وكثر الذي لله قالوا لا بد من النفقة، فأخذوا الذي لله وأنفقوه على الأصنام، وإذا هلك الذي لله وكثر الذي للأصنام قالوا: لو شاء الله لأزكى له، فلا يزيدون عليه شيئا. فذلك قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} ... ) . وقال القاضي الباني بتي أحد كبار الحنفية (1225هـ) في تفسير هذه الآية: (حيث كانوا يتمون ما جعلوه للأوثان مما جعلوه له دون العكس. قال قتادة: كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جعلوه لله وأكلوا منه ووفروا ولم يأكلوا ما جعلوه للأوثان) . وقال الإمام ولي الله إمام الحنفية (1176هـ) : (كانوا ينفقون ما نذروه لله على المساكين والضعفاء، وينفقون ما نذروه لآلهتهم على سدنتها وعاكفيها، ولكن إذا اختلط بنذر آلهتهم شيء من نذر الله ضموه إلى نذر آلهتهم دون العكس، وقالوا: إن الله غني لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 يحتاج إليه وآلهتنا في حاجة إلى ذلك) . وكانوا يرجحون جانب نذر آلهتهم على جانب نذور الله تعالى خوفًا من آلهتهم لئلا تصيبهم بلية لو قصروا في حقهم. قلت: ونظير صنيع هؤلاء المشركين صنيع كثير من فسقة القبورية، فترى أحدهم لا يؤتي الزكاة المكتوبة، ولكن يهتم اهتمامًا بالغًا بإخراج ما ينذره لأهل القبور خوفًا من أن تصيبه بلية في ماله أو نفسه أو أهله أو ولده. الحاصل: أنه ليست أية إشارة في هذه الآية إلى أن المشركين كانوا بصنيعهم الفاحش هذا منكرين لخالقية الله ومشركين به آلهتهم في الخالقية والرازقية والربوبية، بل كانوا يعبدون الله وغيره من آلهتهم؛ فلا يصح التمسك بها. وهكذا ترى القبورية إذا أحاطت بهم بلية في البر أو البحر يدعون أهل القبور ولا يكادون يدعون الله حتى في تلك الحالة بخلاف مشركي العرب، فإنهم كانوا يخلصون في دعاء الله تعالى وينسون ما كانوا يعبدونهم من دون الله كما سيأتي تفصيله على لسان علماء الحنفية. بل تجاوز بعض القبورية إلى حد صار شركهم أشنع من شرك مشركي العرب، حيث يزعمون أن الولي أسرع إجابة من الله تعالى .... انظر إلى هذا النتن والغلو والإسراف. فإن كان صنيع مشركي العرب يقتضي الإشراك بالله في الخالقية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 والرازقية والربوبية، فالقبورية أيضًا أشركوا بالله في الربوبية بالطريق الأولى. ولهذا قال الآلوسي ردا على القبورية وكشفًا لعوراتهم في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] : (وقد رأينا كثيرًا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين، يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم، ويعظمون من يحكي لهم ذلك وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده، ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يومًا لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات، وينادي يا فلان أغثني. فقلت له: قل يا الله، فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] ، فغضب وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء. وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل. وهذا من الكفر بمكان نسأل الله أن يعصمنا من الزيغ والطغيان) . الشبهة التاسعة: تشبثهم بقوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم} [الأنعام: 108] . فقد استدل بعض أئمة القبورية بهذه الآية على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، وعلى بطلان أن المشركين كانوا يعترفون بربوبية الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 تعالى. فقد قال الدجوي (أحد أئمة القبورية) (1365هـ) : (هذه الآية أدل الأدلة على هذا، فهل ترى للمشركين توحيدًا بعد ذلك. أما التيميون فيقولون بعد هذا كله: إنهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية) . وقال المالكي أحد رؤساء القبورية في صدد أن المشركين لم يعترفوا بأن الله هو الخالق وحده، وإثبات أن المشركين أشركوا آلهتهم في خالقية الله تعالى مستدلًا بهذه الآية: (وإذا غضبوا قابلوا المسلمين بالمثل فيسبون الله تعالى غيرة على تلك الأحجار التي كانوا يعبدونها يعتقدون أنها تنفع وتضر، فيرمون الله بالنقائص. وهذا واضح جدا في أن الله تعالى أقل منزلة في نفوسهم من تلك الأحجار التي كانوا يعبدونها. ولو كانوا يعتقدون حقا أن الله تعالى هو الخالق وحده، وأن أصنامهم لا تخلق لكان على الأقل احترامهم له تعالى فوق احترامهم لتلك الأحجار) . أقول: هذه الآية لا تدل بحال على أن المشركين كانوا ينكرون خالقية الله وربوبيته أو أنهم كانوا يشركون آلهتهم بالله في الخالقية والرازقية والربوبية، بل لا تدل أيضًا على أنهم كانوا يسبون الله تعالى تدينًا غيرة على آلهتهم. فقد أجاب عن هذه الشبهة علماء الحنفية جوابين: حاصل الأول: أن المراد من سبهم الله سبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 يفضي سبهم إلى الله من دون قصد وعلم، يدل عليه قوله تعالى في الآية نفسها: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} ؛ لأنهم كانوا يقرون بعظمة الله، وإنما عبدوا آلهتهم لتكون شفعاء لهم عنده. وحاصل الجواب الثاني: أنهم كانوا يسبون الله صريحًا وقت الغضب فالحمية الجاهلية تحملهم على ذلك لا لأجل التدين والاعتقاد، ومثل هذا قد يحدث عن المسلم أيضًا، فتحمله شدة الغيظ على التكلم بالكفر. فمثل هذا إن صدر عن شخص لا يصدر منه تدينًا واعتقادًا، بل فسقًا وحمية وغضبًا. قال الإمام الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) والعلامة حسين علي (1362هـ) ، واللفظ للأول: (ومعنى سبهم لله عز وجل إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلى الله عليه وسلم ولمن يأمره. وقد فسر {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بذلك أي فيسبوا الله تعالى بغير علم أنهم يسبونه، وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده سبحانه فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له عز اسمه صريحًا ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك. ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر. ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام، أكثر الرافضة سب الشيخين - رضي الله تعالى عنهما - عنده فغاظه ذلك جدا، فسب عليا - كرم الله تعالى وجهه -، فسئل عن ذلك فقال: ما أردت إلا إغاظتهم، ولم أر شيئًا يغيظهم مثل ذلك. فاستتيب عن هذا الجهل العظيم. وقال الراغب: إن سبهم لله تعالى ليس أنهم يسبونه جل شأنه صريحًا، ولكن يخوضون في ذكره تعالى ويتمادون في ذلك بالمجادلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ويزداون في وصفه سبحانه بما ينزه تقدس اسمه عنه. وقد يجعل الإصرار على الكفر والعناد سبا، وهو سب فعلي. قال الشاعر: وما كان ذنب بني مالك ... بأن سب منهم غلام فسب بأبيض ذي شطب قاطع ... يقد العظام ويبري العصب ونبه به على ما قاله الآخر: ونشتم بالأفعال لا بالتكلم وقيل: المراد بسب الله سب الرسول صلى الله عليه وسلم، ونظير ذلك من وجه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] . قلت: احتمال سبهم الله لأجل الغضب والانتقام والحمية دون التدين والاعتقاد واضح يدل عليه قوله تعالى في الآية نفسها: {عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} . قال الإمام بيان الحق أحد كبار علماء الحنفية (ت 555هـ) : (العدو والعدوء والعدوان والعداء والاعتداء واحد) . أقول: وعلى هذا مشى الأستاذ المودودي رحمه الله (1979م) . قلت: لقد شاهدنا كثيرًا من فسقة المسلمين إذا غضبوا يسبون الله ورسوله والإسلام والقرآن، نعوذ بالله من كيد الشيطان، فليس معنى ذلك أنهم ينكرون وجود الله أو يسوون غيره به تعالى في الخالقية والمالكية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 والرازقية والربوبية. الحاصل: أن هذه الآية لا تدل على أن المشركين كانوا منكرين لخالقية الله وربوبيته، أو أنهم كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخلق وتدبير الكون. فسقط استدلال القبورية بهذه الآية على عدم الفرق بين توحيدي الربوبية والألوهية. والله المستعان، وعليه التكلان. الشبهة العاشرة: استدلالهم بقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} [التوبة: 31] . قلت: لقد استدل القضاعي أحد أئمة القبورية (1376هـ) بهذه الآية على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، وعلى أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الربوبية. وقال الدجوي أحد أعناقهم (1365هـ) : (وإني لأعجب لتفريقهم بين توحيد الألوهية والربوبية مع قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} فكيف يقولون إن عندهم توحيد الربوبية) . الجواب: لقد فسر علماء الحنفية هذه الآية بأن المراد من ((الرب)) في هذه الآية ليس ((الرب)) بمعنى مالك الكون وما فيه وخالقه والمتصرف فيه كيف شاء، بل إطلاق ((الرب)) في هذا السياق ونحوه يراد به ((المعبود)) ، وليس المراد به ((المعبود مطلقا)) أيضًا، بل المراد ((المعبود المقيد)) الذي يعبد بطاعته في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 التحليل والتحريم في الأحكام الشرعية. وقد يعبد الشخص إمامه وشيخه ورئيسه بطاعته في التحريم والتحليل وهو لا يشعر أنه يعبده بهذه الطاعة. فالآية لا دليل فيها على أن اليهود والنصارى اعتقدوا في أحبارهم ورهبانهم أنهم شركاء لله في خلق هذا الكون وتدبيره وترتيبه. وإليكم بعض نصوص المفسرين من الحنفية في تفسير هذه الآية: 1 - قال الزمخشري (538هـ) : (اتخاذهم أربابًا: أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي، وتحليل ما حرم الله وتحريم ما حلله كما تطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم) . 2 - وقال العمادي (983هـ) : (اتخذ كل واحد من الفريقين علماء لهم لا الكل الكل {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليل ما حرمه الله أو بالسجود لهم ونحوه ... ) . ثم ذكر حديث عدي بن حاتم) . 3 - وقال البروسوي (1137هـ) : (والمعنى أطاعوا علماءهم وعبادهم فيما أمروهم به طاعة العبيد للأرباب فحرموا ما أحل الله وحللوا ما حرم الله. ومثاله: من اعتقد أن اللبس حرام يكون كمن اعتقد أن الخمر حلال. ومن اعتقد أن لحم الغنم حرام يكون كمن اعتقد أن لحم الخنزير حلال) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 4 - وقال الآلوسي (1270هـ) : (والمراد في الآية: اتخذوا كل من الفريقين علماءهم لا الكل الكل {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله تعالى، وتحليل ما حرم سبحانه، وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى الشعبي وغيره عن عدي بن حاتم قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، فقلت له: يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم، فقال عليه الصلاة والسلام: أليسوا يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله فيستحلون. فقلت: بلى. قال: ذلك عبادتهم» . ونظير ذلك قولهم: ((فلان يعبد فلان)) إذا أفرط في طاعته فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة. أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 طاعة مخصوصة على مطلقها. والأول أبلغ. وقيل: اتخاذهم أربابًا بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا للرب عز وجل، وحينئذ لا مجاز، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لكلام علمائهم ورؤسائهم، والحق أحق بالاتباع، فمتى ظهر وجب على المسلم اتباعه وإن أخطأ اجتهاد مقلده) . 5 - ولقد ساق العلامة السهسواني (1326هـ) هذه الشبهة، ثم أجاب عنها بما حاصله: أن هذه الآية ليس فيها أنهم كانوا يقولون في أحبارهم ورهبانهم أنهم أرباب من دون الله، وإنما فيها أنهم اتخذوهم أربابًا. ثم قال: (وإنما في بعضها [أي بعض هذه الآيات] اتخاذ الأرباب، وهذا ليس نصا على أنهم مقرون بربوبيتهم؛ بل يحتمل أن يكون اتخاذهم الأرباب من صرف شيء من العبادة إليهم، أو بمعنى اتباع ما شرعوا لهم من تحريم الحلال وتحليل الحرام، لا أنهم كانوا يطلقون لفظ ((الرب)) عليهم) . الحاصل: أن اليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله بمعنى أنهم خالقون لهذا الكون مدبرون له متصرفون فيه حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 يشاءون بدون إذن من الله، بل اتخذوهم أربابًا بمعنى أنهم كانوا يعبدونهم في التشريع من التحليل والتحريم. ومثل هذا يوجد بكثرة كاثرة في هذه الأمة، ولا سيما في المقلدة المتعصبة للأئمة الغلاة فيهم الذين رفعوا شأن الأئمة إلى منصب الرسالة بل إلى منزلة الألوهية، فيقعون في عبادة الأئمة بسبب هذه الطاعة المطلقة في التحليل والتحريم ويشركون بالله تعالى هؤلاء الأئمة بسبب تقليدهم الشركي، ويردون نصوص الكتاب الصريحة والسنة الصحيحة؛ كأن الإمام نبي أرسل إليهم، أو إله يعبدونه وهم لا يشعرون. ولذلك نرى الإمام الشاه ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في دهره (1176هـ) تصدى للرد على مثل هؤلاء المقلدة الغلاة، وكشف الستار عن أسرارهم، وجعلهم مصداق هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ حيث قال: (فما ذهب إليه ابن حزم حيث قال: ((التقليد حرام ..... )) . إنما يتم فيمن له ضرب من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة، وفيمن ظهر عليه ظهورًا بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا ونهى عن كذا وأنه ليس بمنسوخ ... فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفاق خفي أو حمق جلي. وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 قال: ((ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا، وهو مع ذلك يقلده فيه ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم جمودًا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظاهر الكتاب والسنة ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالًا عن مقلده)) . وقال: ((لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد لمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين؛ فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلدًا له فيما قال كأنه نبي أرسل)) . وهذا نأي عن الحق، وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب .... وفيمن يكون عاميا ويقلد رجلًا من الفقهاء بعينه يرى أنه يمتنع من مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب ألبتة، وأضمر في قلبه أن لا يترك تقليده، وإن ظهر الدليل على خلافه، وذلك ما رواه الترمذي عن عدي بن حاتم؛ أنه قال: «سمعته - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال: إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وفيمن لا يجوز أن يستفتي الحنفي مثلًا فقيهًا شافعيا وبالعكس، ولا يجوز أن يقتدي الحنفي بإمام شافعي مثلًا، فإن هذا قد خالف إجماع القرون الأولى وناقض الصحابة والتابعين ... فإن بلغنا حديث من الرسول المعصوم الذي فرض الله علينا طاعته بسند صالح يدل على خلاف مذهبه وتركنا حديثه واتبعنا ذلك التخمين، فمن أظلم منا وما عذرنا يوم يقوم الناس لرب العالمين) . فإن قيل: ما النكتة في إطلاق كلمة ((الرب)) على من يتخذ مطاعًا مطلقًا في التحليل والتحريم؟ قلت: كلمة ((الرب)) تدل على السيادة والمالكية والتصرف في الملك، فمن أطاع مخلوقًا طاعة مطلقة بدون أمر الله تعالى بطاعته وأذعن لتحليله وتحريمه فقد جعله متصرفًا في التشريع متصفًا بصفات الله معبودًا بطاعته المطلقة، فصح إطلاق ((الرب)) عليه. قال الإمام ولي الله مبينًا هذه النكتة اللطيفة: (وسر ذلك أن التحليل والتحريم عبارة عن تكوين نافذ في الملكوت أن الشيء الفلاني يؤاخذ به أو لا يؤاخذ به، فيكون هذا التكوين سببا للمؤاخذة وتركها، وهذا في صفات الله تعالى) . قلت: لا شك أن من أطاع أحدًا دون الله تعالى طاعة مطلقة بدون أمر من الله تعالى بطاعته المطلقة وأذعن له في التحليل والتحريم وحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الحدود وفرض الفرائض فقد أشركه بالله تعالى في التشريع وعبده، كما قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21] . قال الأستاذ المودودي رحمه الله (1979م) في تفسير هذه الآية: (ليس المراد من الشركاء في هذه الآية الشركاء الذين يدعونهم وينادونهم في الكربات وينذرون لهم في البليات، بل المراد من الشركاء في هذه الآية المطاعون الذين جعلوا أفكارهم وعقائدهم وضوابطهم وطرقهم ومذاهبهم شريعة يطاعون فيها بدون إذن من الله تعالى، فهذا العمل لا شك أنه شرك كما أن السجود لغير الله ودعاء غير الله شرك) . قلت: مثل قول هؤلاء الأجلة من الحنفية صرح كثير من أئمة السنة بأن من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله، لأن مثل هذه الطاعة المطلقة من أنواع العبادة. وصرحوا أيضًا أن هذا النوع من الشرك موجود في هذه الأمة حيث إن كثيرًا من المقلدة المتعصبة يعبدون الأئمة باسم الفقه والعلم؛ لأن من أطاع مخلوقًا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم فهو مشرك. وقد سبق فتوى جمع من الحنفية بأن هذا النوع من المقلد مشرك كافر يستتاب وإلا قتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الشبهة الحادية عشرة: تشبثهم بقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه الصلاة والسلام: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39] . استدل بهذه الآية الدجوي أحد أئمة القبورية (1365هـ) على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، وعلى أن المشركين كانوا مشركين بالله في الخالقية والمالكية والتدبير والربوبية، ثم قال: (فإذا ليس عند هؤلاء الكفار ((توحيد الربوبية)) كما قال ابن تيمية وما كان يوسف عليه السلام يدعوهم إلا إلى توحيد الربوبية؛ لأنه ليس هناك شيء يسمى توحيد الربوبية وشيء آخر توحيد الألوهية عند يوسف عليه السلام. فهل هم أعرف بالتوحيد منه أو يجعلونه مخطئًا في التعبير بالأرباب دون الآلهة) . واستدل بها أيضًا القضاعي أحد رؤساء القبورية (1376هـ) حيث قال: (وقول هؤلاء المغرورين \ يعني السلفيين \: ((إن الكافرين الذين بعث لهم الرسول كانوا قائلين بتوحيد الربوبية وأن آلهتهم لا تستقل بنفع ولا ضر، وإنما كان شركهم بتعظيمهم لغير الله بالسجود له والاستغاثة به والنداء له والذبح له)) : إنما قول من لم يعرف التوحيد ولا الإشراك ولا المعقول ولا المنقول في كتاب الله وسنة رسوله، ولا ألم بتاريخ الأمم قبل البعثة. ألم يحك الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 في كتابه عن يوسف عليه الصلاة والسلام قوله في إرشاد صاحبي السجن: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} ، هل يقال ذلك إلا لمن اعتقد أربابًا؟ ألا يكون هذا كفرًا بتوحيد الربوبية ... ) . الجواب: لقد وقف العلامة السهسواني لقمع هذه الشبهة بمرصاد فذكرها ثم جعلها كأن لم تغن بالأمس حيث قال: (وهذا ليس فيه تصريح أنهما كانا يطلقان لفظ الأرباب على الأصنام حتى يلزم إنكار ((توحيد الربوبية)) ، بل يحتمل أن يكون المقصود بيان بطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام بأن القول بالأرباب المتفرقة باطل قطعًا لا يتأتى إنكاره من أحد عند أهل العقل، وما لا يصلح للربوبية لا يصلح للعبودية، دل عليه قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ .... أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ... ) . قلت: لا يبعد أن يكون قول زيد بن عمرو بن نفيل: أربًا واحدًا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور عزلت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الجلد الصبور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور ولا غنمًا أدين وكان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي يسير من قبيل قول يوسف عليه الصلاة والسلام؛ فيكون هذا وذاك حجة يعترف بها المشركون فيكون حجة عليهم حجة مفحمة مسكتة وملزمة لهم وتضطرهم إلى أن يعترفوا بتوحيد الألوهية. الشبهة الثانية عشرة: استدلالهم بالبيت الآتي: أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثعالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، وعلى أن المشركين كانوا مشركين بالله في الربوبية. قال القضاعي أحد أعناق القبورية (1376هـ) مستدلا بهذا البيت: (فانظر إلى قوله: ((أرب)) ، ولم يقل: أإله) . الجواب: أنه قد تقدم في كلام العلامة السهسواني (1326هـ) أن المراد من ((الرب)) في مثل هذا السياق هو ((الإله)) لا الخالق الرازق المدبر لهذا الكون. فلا يصح تمسك القبورية بهذا البيت. وقال الشيخ الرستمي: (قال القرطبي: الرب بمعنى المالك والسيد والمصلح والمدبر والقائم والمعبود، كما قال موحد الجاهلية) . ثم ذكر البيت. قلت: ولا يبعد أيضًا أن يكون هذا البيت لبيان ذكر الحجة على المشركين، كما سبق في الجواب عن الشبهة السابقة. الشبهة الثالثة عشرة: استدلالهم بقوله تعالى حكاية عن المشركين العاديين حيث قالوا لرسول الله هود عليه الصلاة والسلام: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 قال القضاعي أحد أئمة القبورية (1376هـ) مستدلا بهذه الآية: (فهذا صحيح اعتقادهم باستقلالها بالضر والنفع) . وقال الدجوي أحد أعناق القبورية (1365هـ) متشبثًا بهذه الآية: (فكيف يقول ابن تيمية إنهم يعتقدون: ((أن الأصنام لا تضر ولا تنفع)) إلى آخر ما يقول) . الجواب: أن هؤلاء القبورية مفترون في تقرير استدلالهم بهذه الآية على الله تعالى وعلى كتابه وعلى شيخ الإسلام ابن تيمية، وعلى المشركين من قوم هود عليه الصلاة والسلام؛ فإن الله لم يشر إلى أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم الاستقلال بالضر والنفع فضلًا عن التصريح. كما أن شيخ الإسلام لم يقل قط: إن المشركين كانوا يعتقدون أن آلهتهم لا تضر ولا تنفع. غاية ما في هذه الآية أن المشركين كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها تضر وتنفع. ولكن تقدم عدة نصوص لعلماء الحنفية، ولا سيما الإمام ولي الله دالة على أن المشركين كانوا معترفين بأن الله هو الخالق لهذا الكون المدبر للأمور العظام والرازق وحده. ولم يعتقدوا في آلهتهم أنها تنفع وتضر استقلالًا، وإنما كانوا يعتقدون أن الله تعالى فوض إليهم تدبير أمورهم وجعلهم متصرفين في بعض الأمور الخاصة والجزئية في غير الأمور العظام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فليس في هذه الآية أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم الاستقلال بالنفع والضر. فلم يقل أحد من المفسرين ولا سيما الحنفية أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم الاستقلال بالنفع والضر والانتقام. ومن هذا التصرف الجزئي عقيدة المشركين من عاد هذه وقولهم هذا لرسول الله هود عليه الصلاة والسلام. ومثله عقيدة مشركي العرب من تخويفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تضره آلهتهم، كما قال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36] مع اعترافهم بأن الله هو الخالق المدبر للكون وأن الله إذا أراد بأحد ضرا أو نفعًا فآلهتهم لا تكشف الضر ولا تمسك النفع. ونظيره ما سمعنا ونسمع كثيرًا من القبورية يقولون في حق الموحدين: إن الولي الفلاني قد أصابهم بكذا وكذا. وفي كلام العلامة محمود شكري الآلوسي إشارة إلى ذلك. بل القبورية قد فاقوا المشركين السابقين وتجاوزوا حدهم في الإشراك بالله تعالى وإثبات التصرف لأهل القبور كما صرح بذلك علماء الحنفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 الحاصل: أن استدلال القبورية بهذه الآية على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية منهار * لأنه مبني على شفا جرف هار*. الشبهة الرابعة عشرة: تشبثت القبورية بقول أبي سفيان يوم أحد: (اعل هبل) . قال الدجوي أحد أئمة القبورية (1365هـ) مستدلا به: (فانظر إلى هذا ثم قل لي ماذا ترى في ذلك التوحيد الذي ينسبه إليهم ابن تيمية ويقول: ((إنهم فيه مثل المسلمين سواءً بسواء، وإنما افترقوا بتوحيد الألوهية)) ) . وزعم المالكي: أن المشركين كانوا يعتقدون في تلك الأحجار التي كانوا يعبدونها أنها شريكة لله تعالى في الخلق وأن الله ليس الخالق وحده عندهم، وأنهم لم يكونوا جادين في قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، كما لم يكونوا جادين في قولهم: إن الله هو الخالق وحده، بل كان الله أقل منزلة عندهم من حجارتهم .... ثم ذكر قول أبي سفيان هذا، ثم قال: (ينادي صنمهم المسمى بهبل أن يعلو في تلك الشدة رب السماوات والأرض ويقهره ليغلب هو وجيشه جيش المؤمنين الذي يريد أن يغلب آلهتهم. هذا مقدار ما كان عليه أولئك المشركون مع تلك الأوثان ومع الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 رب العالمين؛ فليعرف حق المعرفة، فإن كثيرًا من الناس لا يفهمونه كذلك ويبنون عليه ما يبنون) . الجواب عن هذه الشبهة: أن هؤلاء القبورية كذابون أفاكون بهاتون في مزاعمهم هذه لوجوه: أما الأول: فهو أن شيخ الإسلام ابن تيمية ولا أحدًا غيره من أئمة الإسلام لم يقل: إن المشركين مثل المسلمين سواء بسواء وإنما افترقوا بتوحيد الألوهية. كيف؟ والمشركون كانوا منكرين لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كانوا كافرين بكتاب الله، وكثير منهم بالبعث أيضًا. وإنما قال شيخ الإسلام وغيره من أئمة الإسلام: إن المشركين كانوا معترفين بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ومدبر الكون والأمور العظام. وكانوا يقرون بتوحيد الربوبية إلى حد أكبر. وهذا ما حكاه الله تعالى عنهم واحتج عليهم باعترافهم بذلك مع إشراكهم في توحيد الألوهية وبعض جزئيات توحيد الربوبية وبعض تفاصيله. ومما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله: (لكن المتكلمون إنما انتصبوا لإقامة المقاييس العقلية على توحيد الربوبية، وهذا مما لم ينازع في أصله أحد من بني آدم؛ وإنما نازعوا في بعض تفاصيله .... وأما توحيد الإلهية فهو الشرك العام الغالب الذي دخل من أقر أنه لا خالق إلا الله ولا رب غيره من أصناف المشركين، كما قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] ، كما بسطنا هذا في غير هذا الموضع) . أقول: تقدمت نصوص علماء الحنفية وخلاصتها: من المعلوم بالاضطرار أن المشركين مع اعترافهم بأن الله هو الخالق المالك الرازق وحده المدبر لهذا الكون المتصرف فيه كيف يشاء كانوا يعتقدون في آلهتهم أن لهم بعضًا من القدرة على النفع والضر وشيئًا من التصرف والتدبير، ولكن هذا كله بإذن الله تعالى، فالله هو الذي خلع عليهم هذه الخلعة، وأن الله قد فوض إليهم بعض التدبير، وجعلهم متصرفين في بعض الأمور الخاصة الجزئية غير الأمور العظام، ولم يعتقدوا قط في آلهتهم أنهم ينفعون أو يضرون أو يدبرون بالاستقلال من دون إذن من الله وبدون تفويض منه، وليس على سبيل مغالبتهم لله وقهرهم له. كما أنهم لم يعتقدوا فيهم أيضًا أنهم شركاء مع الله في خلق هذا الكون وتدبيره والتصرف فيه حيث يشاءون. ومثل هذا الشرك موجود في القبورية بل شركهم أشنع وأبشع من شرك مشركي العرب. وصرح به كثير من علماء الخنفية. فالقبورية مشركون في توحيد الربوبية فضلًا عن توحيد الألوهية. وأما الثاني: فهو أن المشركين كانوا معترفين بأن الله هو الخالق الرازق المدبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 المحيي المميت وحده؛ كما حكى الله ذلك عنهم في عدة مواضع من كتابه واحتج عليهم بسبب اعترافهم وإقرارهم هذا حيث أفحمهم وأسكتهم، وقد كانوا يقولون: إن الله تعالى هو المالك لهم وهو المالك لآلهتهم وإن آلهتهم لا تملك شيئًا دون إذن من الله وتفويض منه، دل على ذلك تلبيتهم: ((تملكه وما ملك)) . وقد سقنا كثيرًا من نصوص علماء الحنفية في بيان اعتقاد المشركين في آلهتهم أنهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى هو الذي خلع عليهم خلعة وفوض إليهم تدبير بعض الأمور الصغيرة الجزئية وجعلهم متصرفين في غير الأمور العظام. وبسبب ذلك كانوا يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى، ويتوسلون بهم عند الله، إلى آخر ما ذكرنا من نصوص علماء الحنفية التي فيها عبرة للقبورية. فكيف يقول هذا المالكي إن المشركين لم يكونوا جادين في اعترافهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت وحده دون تلك الأحجار، ولم يكونوا جادين في قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله وإنهم يقربونا إلى الله زلفى. فتأويلات هذا المالكي ليست إلا تحريفات باطنية وتخريفات قرمطية. وأما الثالث: فهو أن هذا المالكي غير صادق في قوله: إن أبا سفيان إنما نادى صنمه هبلًا ليعلو رب السماوات ويقهره، بل هو كذاب أفاك في كلامه هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 مفتر متقول على المشركين، مقول إياهم ما لم يقصدوا؛ لأن أحدًا من المشركين لم يعتقد في صنمه أنه يقتدر أن يغالب الله تعالى أو يمانعه أو يستطيع أن يغلب رب السماوات والأرض ويعلوه ويقهره لا أبا سفيان ولا غيره؛ كما سبق تحقيقه مرارًا وتكرارًا بنصوص علماء الحنفية الدامغة القامعة الساطعة القاطعة لأعناق القبورية ودابرهم. بل المشركون كانوا يعتقدون أن الله تعالى خالق هذا الكون كله ومالكه ومدبره والمتصرف فيه حيث يشاء. بل كانوا يعتقدون أن الله هو مالك آلهتهم وأن آلهتهم لا تملك شيئًا بالاستقلال بدون إذن من الله وتفويض منه، وأن آلهتهم مملوكة لله تعالى وأن الله تعالى مالكها، دل على ذلك قولهم في تلبيتهم المشهورة المعروفة: ((تملكه وما ملك)) ، وقد خرجناها وذكرنا تفسير علماء الحنفية في معناها. وقد ذكر كبار علماء الحنفية: أن المشركين كانوا يقولون: إن الله تعالى مالك الآلهة، ورب الأرباب، وإله الآلهة، وأن الله هو الإله الأكبر الأعظم، وأن آلهتهم شفعاء لهم عند الله ويقربونهم إلى الله زلفى. وقالوا: نحن نتقرب إليهم ونتقرب إلى الله بهم. وقد ذكر علماء الحنفية من أشعار المشركين ما يدل على اعتقادهم أن الله عندهم هو أكبر الآلهة. فقد قال أوس بن حجر يحلف باللات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وباللات والعزى ومن دان دينها ... وبالله إن الله منهن أكبر وهذه حقيقة اعترف بها كبار القبورية أيضًا: فقد قال فضل رسول الحنفي القادري البدايوني أحد أئمة القبورية الهندية (1289هـ) في بيان عقائد مشركي العرب: (إن المشركين قالوا: يجب عبادة المحبوب والشفيع لصيرورته إلهًا، لا عبادة الله العلي الأكبر، فإنها لا تعبد لكونه في غاية التعالي) . ولذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب عن قول أبي سفيان هذا: «قولوا: الله أعلى وأجل» سكت أبو سفيان ومن معه من المشركين، وأفحموا، فبهت الذي كفر * حيث ألقي في فيه الحجر *. فهذا دليل قاطع قامع ساطع على أن أبا سفيان لم يكن يقصد بقوله ((اعل هبل)) أن هبلًا يغلب الله تعالى ويقهر رب السماوات والأرض أو يغالبه ويمانعه؛ لأنهم كانوا يعترفون بأن الله هو رب الأرباب وإله الآلهة وأكبرها وأعلاها وأجلها ومالكها وهي مملوكة له سبحانه وتعالى، فلا يتصور التمانع والتغالب عندهم بينها وبين الله. هاهنا نكتة لطيفة عقلية أخرى يجب التنبيه لها؛ - وتؤخذ من كلام الحنفية -: وهي: أن هؤلاء المشركين كانوا يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على دين جديد باطل لا يرضاه الله تعالى ويرونهم خارجين عن الدين الحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ولذا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم صابئًا، والصحابة صباة وأنهم فقط على دين صحيح وأن عبادتهم لآلهتهم مما يرضاها الله تعالى وأن هذا من دين الله تعالى وأن آلهتهم تشفع لهم عند الله وتقربهم إلى الله زلفى وأن آلهتهم من محبوبي الله عز وجل والمقربين لديه كما سبق في نصوص علماء الحنفية. فبظهور دينهم وغلبة جندهم يغلب دين الله ويغلب جند الله، وبانهزام محمد وذهاب دينه ينتصر دينهم الذي هو دين الله في زعمهم الباطل لأنهم لم يعتقدوا صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو صدقوا ذلك لما قاتلوه كما قال سهيل بن عمرو يوم الحديبية، وإذا كان الأمر كذلك كيف يتصور أن أبا سفيان يقصد بقوله: ((اعل هبل)) أن هبلًا يغلب رب السماوات والأرض ويقهره ويعلو دينه دين الله عز وجل؟ إذا لا يمكن عقلًا ولا نقلًا أن يقصد أبو سفيان التمانع والتغالب بين هبل وبين الله عز وجل، بل كان قصد أبي سفيان أن ((هبلا)) رفع الله أمره وأعلى شأنه وأعز دينه وأظهره بهزيمة محمد وأصحابه. صرح بذلك علماء الحنفية وغيرهم. وإليك بعض نصوص علماء الحنفية في تفسير مقالة أبي سفيان هذه: قال الإمام بدر الدين العيني إمام الحنفية في عصره (ت855) : (قوله: ((اعل هبل)) .... ، قال ابن إسحاق: معناه: ((ظهر دينك)) . قال السهيلي: ((معناه: زد علوا)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وفي التوضيح: ((أي ليرتفع أمرك ويعز دينك فقد غلبت)) . قلت: كل هذا ليس معناه الحقيقي ولكن في الواقع يرجع معناه إلى هذه المعاني. قال الكرماني: ما معنى: ((اعل، ولا علو في هبل)) ؟ ثم أجاب بقوله: ((هو بمعنى: العلي، أو المراد: أعلى من كل شيء)) انتهى. قلت: ظن أنه ((أعلى هبل)) على وزن أفعل التفضيل، فلذلك سأل بما سأل وأجاب بما أجاب. وهو واهم في هذا، والصواب ما ذكرنا) . انتهى كلام العيني وما نقله عن غيره. الحاصل: أن أبا سفيان بل ومن معه من صناديد الكفر والشرك والأعداء الألداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين لم يكونوا يقصدون بهذه المقالة ((اعل هبل)) المغالبة والتمانع بين هبل وبين الله. ولا قصدوا بها أن معبودهم ((هبلا)) يقهر الله ويغلب رب السماوات والأرض بل كل هذا من ترخصات هذا المالكي الآفك الباهت الساقط المتهافت الذي يرتكب في تأويلات النصوص تحريفات قبورية وتخريفات باطنية لأجل تبرير شرك حزبه القبوري وعبادتهم للقبور وأهلها من دعائهم وندائهم والاستعانة منهم والاستغاثة بهم والنذر لهم وقت نزول النوازل وحلول القلاقل والزلازل، واعتقاد التصرف في الكون وعلم الغيب فيهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وغيرها من الطامات الشركية والخرافات القبورية. وبالجملة: إن القبورية لا دليل لهم ولا شبه دليل يدل على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية، ولا على أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والرازقية والمالكية وتدبير هذا الكون، فإنهم لم يدعوا فيها أنها قادرة على النفع والضر بالاستقلال، بل كانوا يعترفون ويقدرون بأن الله تعالى هو الخالق لهذا الكون والمدبر له والمتصرف فيه كيف يشاء وأنه المحيي المميت الرازق والمالك وحده. غير أنهم غلوا في تعظيم بعض الصالحين الذين ظنوا أنهم وسائط بينهم وبين الله يصلون إلى الله بسببهم وشفاعتهم كالوزراء والندماء للملوك، فعبدوهم بأنواع من العبادة كالنذر لهم والاستغاثة بهم وندائهم وقت الكربات والبليات ليشفعوا لهم عند الله ويقربوهم إلى الله زلفى. واعتقدوا فيهم أن الله تعالى فوض إليهم تدبير بعض الأمور الخاصة وجعلهم متصرفين في بعض الجزئيات وأن الله مالكهم وأنهم لا يملكون شيئًا بدون إذن الله تعالى. وهذه الوسيلة الشركية هي أصل شركهم، والقبورية شاركوهم في ذلك حذو النعل بالنعل. وأقول: وبهذه الأجوبة راحت شبهات القبورية أدراج الرياح فصارت كأمس الدابر والحمد لله رب العالمين. وبعد هذا ننتقل إلى الفصل الآتي، لنعرف العبادة وأركانها وأنواعها وشروط صحتها عند الحنفية؛ وردهم على القبورية في ذلك كله. **** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الفصل الرابع في جهود علماء الحنفية في تعريف العبادة، وبيان أركانها، وأنواعها، وشروط صحتها، وإبطال عقيدة القبورية في ذلك كله وفيه ثلاثة مباحث: - المبحث الأول: في عرض عقيدة القبورية في العبادة، وتعريفهم لها. - المبحث الثاني: في تعريف العبادة عند علماء الحنفية، وردهم على تعريف القبورية للعبادة. - المبحث الثالث: في أركان العبادة، وأنواعها، وشروط صحتها عند علماء الحنفية، وردهم على القبورية في ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 المبحث الأول في عرض عقيدة القبورية في العبادة وتعريفهم لها. لقد انحرفت القبورية عن الجادة الصحيحة المستقيمة في مفهوم ((العبادة)) كما انحرفت في مفهوم ((التوحيد)) كما عرفت. وكذا انحرفت في مفهوم ((الشرك)) كما عرفت أيضًا. وكما ستعرف إن شاء الله. فحرفوا مصطلحات شرع الله تعالى ومفهومات دينه عز وجل فغيروها وبدلوها؛ لتطابق عقائدهم الفاسدة، ويبرروا ما يرتكبونه من الشرك بالله عز وجل، بعبادة القبور وأهلها، فقالوا:- في كل ما يسمى عبادة شرعًا -: إنه لا يكون عبادة إلا باعتقاد الربوبية في المعبود؛ واعتقاد أنه مستقل بالنفع والضر، ونافذ المشيئة بذاته لا محالة بدون حاجة إلى الغير. وبناء على ذلك يرون: أن نداء الأموات * والاستغاثة بهم عند الكربات، والنذر لهم ونحو ذلك من أنواع العبادات * والأفاعيل الشركيات * ليست من قبيل العبادة لغير الله سبحانه؛ ولا من باب الإشراك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 بالله تعالى. وبذلك قد برروا جميع أنواع إشراكهم بالله عز وجل. كما جوزوا ارتكاب عدة أنواع من العبادات لغير الله جل وعلا. وبناء على ذلك أنكروا وجود الشرك في المنتسبين إلى الإسلام. بل يعتقدون في القبورية الوثنية الصرحاء: أنهم مؤمنون موحدون أبرياء من الشرك. ويحسن أن أسوق بعض نصوص القبورية المتعلقة بتعريفهم للعبادة؛ ليعرف المسلمون مدى انحرافهم عن الحق وتحريفهم لمصطلحات الشرع وجهلهم بأعظم المعارف الدينية المهمة: 1 - قالوا: (إن مسمى العبادة شرعًا لا يدخل فيه شيء من التوسل والاستغاثة وغيرهما؛ بل لا يشتبه بالعبادة أصلًا؛ فإن كل ما يدل على التعظيم لا يكون من العبادة إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية لذلك المعظم؛ أو صفة من صفاتها الخاصة بها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 2 - وقالوا: (إن الدعاء بمعنى النداء إن كان لمن لا يعتقده ربا فليس من العبادة في شيء ... ؛ وإن كان لمن يعتقد ربوبيته أو استقلاله بالنفع والضر، أو شفاعته عند الله بغير إذن الله، فهو عبادة لذلك المدعو؛ وقد يطلق الدعاء على العبادة. وقد علمت أن معناها: الخضوع التام لمن يعتقد فيه ربوبية أو خاصة من خواصها) . 3 - وقالوا: (أي دليل بل أية شبهة فيها رائحة من دليل تجعل التوسل والاستغاثة بالعباد من جملة العبادات التي يكفر من فعلها؛ مع ما علمت: من أن العبادة شرعًا لا تكون إلا ممن اعتقد الربوبية فيمن عظمه وخضع له؛ والمسلمون بحمد الله بريئون من اعتقاد الربوبية بغير مولاهم عز وجل) . 4 - 5 - وقال القضاعي أحد مشاهير أئمة القبورية (1376هـ) ؛ وتبعه ابن مرزوق، واللفظ للأول والغين في أغراض شيخ الإسلام وأئمة السنة الأعلام. (وإنما جر هذا المبتدع [ابن تيمية!] ومن انخدع بأباطيله: أنه لم يحقق معنى ((العبادة)) شرعًا ... ؛ فظن أن التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصالحين، والاستغاثة بهم .... ظن أن ذلك وما إليه من الشرك المخرج عن الملة. ومن رافقه التوفيق، وفارقه الخذلان، ونظر في المسألة نظر الباحث المنصف، علم يقينًا لا تخالطه ريبة: أن مسمى ((العبادة)) شرعًا لا يدخل فيه شيء مما عده [ابن تيمية] من توسل واستغاثة وغيرهما؛ بل لا يشتبه بالعبادة أصلًا؛ فإن كل ما يدل على التعظيم لا يكون من ((العبادة)) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية لذلك المعظم، أو صفة من صفاتها الخاصة بها .... ) . 6 - وقالا: (ولا يكون به [أي بالسجود لغير الله] كافرًا إلا إذا قارنه اعتقاد الربوبية للمسجود له) . 7 - وقال القضاعي: (والمشركون إنما كفروا بسجودهم لأصنامهم ونحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع والضر ونفوذ المشيئة لا محالة مع الله) . 8 - ثم القبورية قد صرحوا بحصر العبادة في بعض أمور الإسلام، حسب ما جاء في حديث جبريل الذي فيه تعليم لأركان الإسلام والإيمان، كل ذلك لإخراج عبادة القبور وأهلها كالاستغاثة والنذور ونحوها من تعريف العبادة، ليبرروا أعمالهم الوثنية. 9 - وقالوا في معنى العبادة: (لا يخفى أن العبادة كما هو الظاهر من لفظها: هي الطرق المخصوصة لخضوع العبد لمن يعتقده إلهًا؛ وكذلك خضوع المملوك لمالكه والولد لوالده والتلميذ لأستاذه والجاهل للعالم لا يسمى عبادة. ولكن خضوع المجوسية للنار والوثنية للأصنام والثنوية للشمس عبادة عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 سائر أهل العرف .... ، وإذا علم أن كل خضوع وتعظيم ليس بعبادة بل العبادة هو الخضوع مع اعتقاد الألوهية [يعني الربوبية] ؛ فنقول: إن المسلمين الذين يزورون قبور الأنبياء والصالحين ويعظمونها ويقبلونها ويطوفون حولها ويتمسحون بها لا يخطر ببال أحد منهم أن هؤلاء الأنبياء والصالحين أو قبورهم آلهة يجب عبادتهم، أو شركاء لله سبحانه، أو أرباب من دون الله، بل يجدون من نفوسهم يقينًا لا مزيد عليه أنهم عباد مكرمون أطاعوا أحكامه وامتثلوا أوامره وبذلوا في سبيله وإعلاء كلمته نفوسهم وأموالهم، فأكرمهم بجنته وأعزهم بجوار قدسه فلذلك هم مستحقون منا بالتعظيم ومستأهلون للخضوع لهم والاستكانة، فهذا التعظيم في الحقيقة راجع إلى الله وهو عين التوحيد والاستسلام لعزة الله. وكذلك دعاؤهم ليس دعاءهم بالذوات بأن يحسبوا كافيين في قضاء الحاجة وإنجاح المأمول، بل لما علمنا أن لهم جاهًا ومنزلة عند الله عز وجل بسبب طاعتهم وعبادتهم له واتباع سننه والجهاد في سبيله، فنسألهم أن يدعو الله لنا فيقضي الله حاجاتنا بواسطة دعائهم لنا ... ، وليس في ذلك من الكفر والشرك شيء) . 10 - وقالوا - هاذين في أئمة السنة وأعلام هذه الأمة - على طريقة ((رمتني بدائها وانسلت)) : (فمن أراد الله موالاته وسعادته ووقاه شر أولئك المبتدعة، وحفظه من الوقوع في شرائكهم وحبالهم، وبصره بما يحفظ عليه دينه، ووجهه وأرشده إلى كشف النقاب عن كل وصف مناقض للعبودية، مخالف للتوحيد والتفرد بالوحدانية؛ وإذا لاحظته عناية الله ولازمه التوفيق الرباني جعله لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 يفهم من معنى ((العبادة)) شرعًا إلا أنها الإتيان بأقصى الخضوع قلبًا باعتقاد الربوبية في المخضوع له أو قالبا مع ذلك الاعتقاد؛ و ((أو)) هنا بمعنى ((الواو)) ؛ فإذا انتفى ذلك الاعتقاد، ثم لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهر عبادة شرعًا. ومثل اعتقاد الربوبية اعتقاد خصيصة من خصائصها؛ كالاستقلال بالنفع والضر، ونفوذ المشيئة لا محالة، ولو كان عن طريق الشفاعة لعابد عند ذلك الرب الذي هو أكبر من ذلك المعبود. وإنما كفر المشركون وخرجوا عن الحنيفية بسجودهم لأصنامهم وأوثانهم؛ لاعتقادهم ربوبية ما خضعوا له، واستقلالهم بالنفع والضر، ونفوذ المشيئة مع الله تعالى. فالتكريم والخضوع لأولياء الله الصالحين مجردا عن الاعتقاد المذكور لا يعتبر عبادة شرعًا ..... ) . 11 - قلت: بل وصلت القبورية إلى حد قالوا في كل ما يرتكبونه من الشرك البواح وعبادة القبور وأهلها: - إنه ليس من الشرك، بل من باب التوحيد ..... - وليس من قبيل عبادة غير الله، بل هو من عبادة الله تعالى .... - وإن كل ذلك مما أمر به الشارع، وإنه من سنن الأنبياء والمرسلين، وطريقة العلماء العاملين، ومسلك الأولياء المقربين. 12 - ومع هذا الجهل المركب المطبق المحيط بالقبورية لمعنى العبادة كجهلهم بمعنى التوحيد ومفهوم الشرك، ترى القبورية - من باب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 رمتني بدائها وانسلت - يقدحون في أئمة التوحيد والسنة، والنحارير الجهابذة في هذه الأمة أمثال شيخ الإسلام ومحمد بن عبد الوهاب الإمام، ويسفهون أحلامهم، ويرمونهم بالجهل بمعاني العبادة والتوحيد والشرك: قال القضاعي أحد كبراء أئمة القبورية (1376هـ) ، وتبعه ابن مرزوق أحد المجاهيل القبورية: (وإنما جرى هذا المبتدع [يعني شيخ الإسلام] ومن انخدع بأباطيله هذه أنه لم يحقق معنى العبادة شرعًا ..... ، فظن أن التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصالحين والاستغاثة بهم مع استقرار القلب على أنهم أسباب لا استقلال لهم بنفع أو ضر، وليس لهم من الربوبية شيء، ولكن الله جعلهم مفاتيح لخيره ومنابع لبره وسحبًا يمطر منها على عباده أنواع خيره، ظن \ ابن تيمية \ أن ذلك وما إليه من الشرك المخرج عن الملة) . 13 - وقال أيضًا: (وقول هؤلاء المغرورين \ يعني أهل التوحيد والسنة \: إن الكافرين الذين بعثت لهم الرسل كانوا قائلين بتوحيد الربوبية وأن آلهتهم لا تستقل بنفع ولا ضر، وإنما كان شركهم بتعظيمهم لغير الله بالسجود له والاستغاثة به والنداء له والنذر والذبح له - إنما هو قول من لم يعرف التوحيد ولا الشرك ولا المعقول ولا المنقول في كتاب الله وسنة رسوله ولا ألم بتاريخ الأمم قبل البعثة) . 14 - والقبورية - بناء على تعريفهم الفاسد للعبادة - شنوا الغارة على أئمة السنة أعلام هذه الأمة، بكلام بذيء فاحش شأن من لا حياء له من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 العباد ومن رب العباد، حتى قالوا جهارًا دون إسرار في تعريف شيخ الإسلام للعبادة: (وقوله [أي شيخ الإسلام] : ((العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والزاهرة)) : هراء ليس بتعريف للعبادة) . قلت: الحاصل أن تعريف العبادة عند القبورية كما تبين من نصوصهم هو: غاية الخضوع لمن يعتقد فيه الربوبية والاستقلال بالنفع والضر، ونفوذ المشيئة لا محالة بقدرته الذاتية بدون الحاجة إلى غيره. وبعد أن عرفنا تعريف العبادة عند القبورية، ننتقل إلى المبحث الثاني لنعرف تعريف العبادة عند علماء الحنفية وردودهم على القبورية لإبطال تعريفهم العبادة، وبالله التوفيق. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 المبحث الثاني في جهود علماء الحنفية لإبطال تعريف القبورية للعبادة وتحقيق التعريف الصحيح للعبادة وفيه ثلاثة مطالب: - المطلب الأول: رد علماء الحنفية على تعريف القبورية للعبادة. - المطلب الثاني: في تعريف العبادة لغة عند الحنفية. - المطلب الثالث: في تعريف العبادة اصطلاحا عند الحنفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 المطلب الأول في إبطال علماء الحنفية تعريف القبورية للعبادة لقد تصدى علماء الحنفية للرد على القبورية؛ فأبطلوا تعريف القبورية للعبادة؛ وحكموا عليهم بالجهل بحقيقة العبادة؛ وبينوا: أن القبورية في حصرهم للعبادة في بعض الأعمال الإسلامية الظاهرة وبعض الإيمانيات الباطنة على باطل محض؛ لأنهم قد قصروا في تعريف العبادة؛ حيث جعلوها مقصورة في بعض أنواعها. فتعريفهم للعبادة تعريف باطل مزيف؛ لأنه غير جامع لأفرادها. بل تعريفهم للعبادة لا يصدق على عبادات المشركين لآلهتهم؛ لأنهم لم يكونوا يعتقدون فيها أنها خالقة، رازقة، مالكة، أرباب للكون، متصرفة في الخلق، مستقلة بالنفع والضر؛ نافذة المشيئة لا محالة بدون إذن من الله تعالى، وحاجة إليه؛ كما يزعم القبورية. بل كانوا يعبدون آلهتهم: بالنذر لهم، والاستغاثة بها، والاستشفاع بها؛ على أساس أنهم عباد مقربون يشفعون لهم عند الله تعالى. إذن تعريف الحنفية للعبادة لا يصدق على عبادات المشركين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 لآلهتهم؛ لأن القبورية يشترطون في العبادة: أنها غاية التعظيم لمن يعتقد فيه الربوبية والاستقلال بالنفع والضر، ونفوذ المشيئة لا محالة والقدرة الذاتية بدون الحاجة إلى الله. فالمشركون السابقون إذن ليسوا بمشركين عند هؤلاء القبورية؛ وليسوا عابدين لغير الله تعالى؛ لأنهم إنما عبدوا الصالحين على أساس الشفاعة، لا على أساس الربوبية والاستقلال بالنفع والضر، ونفوذ المشيئة. فلو كان تعريف القبورية للعبادة صحيحًا - لزم منه كون المشركين غير مشركين، وغير عابدين لغير الله؛ لكن التالي باطل، فالمقدم مثله. أما وجه بطلان التالي فظاهر؛ لأن القبورية أيضًا يسلمون أن المشركين السابقين كانوا مشركين بلا ريب، وأنهم عباد غير الله بلا امتراء؛ وإذا ثبت بطلان التالي - حتى بشهادة الخصوم واعترافهم - ظهر بطلان المقدم؛ وهو أن تعريف القبورية للعبادة تعريف باطل مزيف فاسد غير جامع لأفراده؛ بل غير صادق على شيء من أفراده. هذا تقرير هذا البرهان على طريقة القياس الاستثنائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الرفعي. وأما تقريره على طريقة القياس الاستثنائي الوضعي فهو أن يقال: لو كان المشركون الأولون مشركين بالله وعابدين لغير الله؛ لزم منه أن يكون تعريف القبورية للعبادة باطلًا مزيفًا غير جامع لأفرادها؛ بل غير صادق على شيء من العبادات. لكن المقدم حق؛ لأن المشركين السابقين مشركون حتى باعتراف القبورية، وعابدون لغير الله حتى بشهادة القبورية؛ فالتالي مثله؛ وهو بطلان تعريف القبورية، وكونه غير جامع لأفراده؛ بل كونه غير صادق على شيء من العبادات. لأن القبورية يشترطون في تحقيق العبادة شروطًا لم تتوفر في عبادة المشركين السابقين لآلهتهم، مع كونهم مشركين وعابدين لغير الله - حتى باعترافهم وشهادتهم -. قلت: هذا الذي ذكرت هو خلاصة رد علماء الحنفية على تعريف القبورية للعبادة وهذا هو تقرير ردهم عليهم. ولتنوير المقام أود أن أسوق بعض نصوص علماء الحنفية لتكون شاهدة لما ذكرت؛ فإليكم بعضها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 1 - قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) مبينًا جهل القبورية بحقيقة العبادة ولا سيما جهالة ابن جرجيس أحد أئمتهم (1299هـ) مبطلًا تلك الشروط التي اشترطوها في مفهوم العبادة؛ ومحققًا أن العبادة أوسع مما ذكروه وقصروه في بعض الأعمال الظاهرة والباطنة: (وبعضهم [أي بعض المشركين] أحذق من هذا العراقي وأمثاله الذين لم يفهموا من العبادة سوى الركوع والسجود، ولم يجدوا في معلومهم سواه. فأين الحب، والخضوع، والتوكل، والإنابة، والخوف، والرجاء، والرغب، والرهب، والطاعة، والتقوى؛ ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنية والظاهرة؟ فكل هذا عند العراقي - \ ابن جرجيس \ - يصرف لغير الله ولا يكون عبادة؛ لأن العبادة ما فسرها هو به فقط. بل عبارته في عدة مواضع تفهم: أن السجود لا يحرم إلا على زعم الاستقلال. وقد رأينا كثيرًا من المشركين، ولم نر مثل هذا الرجل في جهله ومجازفته وبلادته) . 2 - وقال رحمه الله أيضًا محققًا أن المشركين الأوائل إنما كان إشراكهم: التسبب والتشفع في آلهتهم، دون عقيدة الاستقلال؛ فهم غير مشركين بناء على تعريف القبورية لعبادة: (ومن بلغت به الجهالة والعماية إلى هذه الغاية فقد استحكم على قلبه الضلال والفساد * ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد *؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ومن له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل يعرف: أن المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم، وآلهتهم التي عبدوها مع الله تعالى إلا التسبب، والتوسل، والتشفع؛ ولم يدعوا الاستقلال، والتصرف لأحد من دون الله، ولا قاله أحد منهم، سوى فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه؛ وقد قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] . فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده. قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [يونس: 18] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ) . 3 - ثم ذكر رحمه الله عدة آيات في أن عبادة المشركين لآلهتهم إنما كانت على أساس الشفاعة؛ لا على أساس الاستقلال، ثم قال: (فأخبر تعالى: أنهم تعلقوا على آلهتهم ودعوهم مع الله للشفاعة والتقريب إلى الله بالجاه والمنزلة، ... ولم يريدوا منهم تدبيرًا، ولا تأثيرًا، ولا شركة، ولا استقلالًا؛ يوضحه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 4 - ثم ذكر رحمه الله عدة آيات في اعترافهم بتوحيد الربوبية والخالقية والمالكية؛ ثم قال: (فتأمل هذه الآيات وما فيها من الحجج والبينات تطلعك على جهل هذا العراقي وأمثاله؛ وأنهم ما عرفوا شرك المشركين * وما كانوا عليه من القصد والدين * ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله وأتباعهم من توحيد رب العالمين*) . 5 - ثم ذكر رحمه الله كلامًا مهما في تحقيق أن الله تعالى جعل توحيد الربوبية دليلًا على توحيد الألوهية، وأنه سبحانه احتج على المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية ليعترفوا بتوحيد الألوهية. 6 - ثم قال: (فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة، والفصاحة، والجلالة، والفخامة، والدلالة، والظهور؛ فأي شبهة بعد هذا تبقى للمماحل المغرور؟) . 7 - وقال رحمه الله تعالى أيضًا مبينًا أن تعريف القبورية للعبادة يستلزم أن لا يكون المشركون الأولون مشركين؛ لأن تعريفهم هذا لا يصدق على عبادة المشركين لآلهتهم؛ لأنهم لم يعتقدوا فيهم القدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر: (وهذا الأحمق زاد في غير موضع من كتابه قيدًا فقال: ((لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله)) . مع أن في تلبية المشركين في الجاهلية: ((لبيك لا شريك لك إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) . فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال؛ وعلى زعم هذا [العراقي وأمثاله] فليسوا بمشركين. وأما قوله: ((إن نداء الصالحين ليس بعبادة)) : فهو من أدل الأشياء على جهله وعدم ممارسته لشيء من العلم وإن قل .... ) . 8 - وقال رحمه الله مبينًا جهل القبورية بحقيقة العبادة وحقيقة شرك المشركين وحقيقة التوحيد، وأن خبطهم في هذه المعارف جعلهم يعبدون غير الله ويشركون وهم لا يشعرون: (إنه [أي العراقي ابن جرجيس] لم يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فلذا خبط خبط عشواء؛ وإذا بسطنا ذلك يتبين فساد قوله وبطلانه؛ حتى لصغار المتعلمين؛ فنقول، وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق *: توحيد الربوبية هو الذي أقرت به الكفار جميعهم) . 9 - ثم أقام عليه عدة آيات، ثم قال: (وأما توحيد الألوهية فهو إفراد العبادة لله الواحد الصمد ... ، وإذا علمت هذا تبين لك أن المعركة بين أهل التوحيد والمشركين في الألوهية فقط ... ؛ وجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم دعوا إلى توحيد الله وعبادته. وقد رد الله سبحانه على من خالف هذا الأصل *، وحكم على الوصل بحكم الفصل *، وهم المشركون الذين وحدوه بالربوبية * وأشركوا به في الألوهية * 10 - ... ؛ والحكم باتحاد التوحيدين نشأ من جهل هذا العراقي لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ... ؛ ولربما اعتقد أن أفعال إخوانه ومن على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 شاكلته ليس شركًا في الألوهية، ولا عبادة لغير الله بناء على زعمهم: أنهم مصدقون بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله تعالى. فيقال له: لا يفيد ذلك الزعم الكاذب مع إظهار الأعمال الشركية الدالة على عقيدة الشرك، وما يصادم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك كمن يقول: إني مصدق بما ذكر. ثم شد الزنار. وإن تصلف هذا العراقي وادعى: أن أفعال إخوانه عبدة القبور لا تشبه أفعال المشركين؛ فتلك عبادة، وأفعال إخوانه ليست عبادة!؟ يقال له: إنك لم تفهم معنى العبادة .... ) . وقال رحمه الله رادا على ابن جرجيس حصره للعبادة في عدة أمور مبينًا جهله للعبادة: (والجواب أن كلامه هذا نشأ عن جهل باللغة والشرع، وما جاءت به الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم ... ؛ وهذا الغبي لم يعرف من أفراد العبادة غير الركوع والسجود والذبح والتقرب؛ مع أن دعاء المسألة من أفضل أنواعها وأجلها ... ) . 11 - وقال الشيخ الرستمي بعد أن ذكر تعريف العبادة وأنواعها وأمثلة لها مبينًا جهل القبورية بحقيقة العبادة - محققًا أن تعريف القبورية للعبادة أمر ذهني لا حقيقة له في الخارج؛ لأنه لا يصدق على شيء من أفراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 العبادة: (فالأسف كل الأسف على حال من يسجد للقبور ويركع ويعين في الأنعام والحرث نذرًا لأهل القبور حصة معينة، ويقطع مسافة طويلة لزيارة القبر كالحج؛ مع أنه يقول في صلاته: ((إياك نعبد)) ؛ فما بال هؤلاء الجهلة!؟ ؛ أي معنى للعبادة عندهم؟!؟ ؛ هل للعبادة مصداق عندهم في الخارج أم لا؟!؟ . فهذا حال من لم يعرف حق الله وحق العباد ولم يميز بينها .... ) . 12 - وقد حقق جمع من علماء الحنفية الذين لهم علم بتاريخ الوثنية وعقائد المشركين السابقين، وصرحوا: أن عبادة المشركين لآلهتهم لم تكن باعتقاد الخالقية والرازقية والمالكية والربوبية والقدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر والتصرف في الكون. وإنما كانت عبادتهم لآلهتهم بندائهم عند الكربات * والاستغاثة بهم عند إلمام الملمات والبليات * والتوجه إليهم بالنذور ونحوها لدفع المضرات وجلب الخيرات * والتوسل بهم والتشفع بهم إلى خالق البريات * لاعتقادهم أنهم عباد صالحون معظمون ذوو مكانة عند رب الكائنات *. الحاصل: لقد حصل لنا من نصوص علماء الحنفية التي ذكرتها في الرد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 تعريف القبورية للعبادة أحد عشر أمرًا: الأول: جهل القبورية بحقيقة الشرك. الثاني: جهلهم بتاريخ الوثنية وعقائد المشركين. الثالث: جهلهم بحقيقة التوحيد. الرابع: جهلهم بحقيقة العبادة. الخامس: بطلان تعريفهم للعبادة، وأنه تعريف مزيف فاسد، غير جامع لكثير من أنواع العبادة؛ بل غير صادق على شيء من العبادة. السادس: أن تعريفهم للعبادة لا يشمل عبادة المشركين لآلهتهم. السابع: حصرهم للعبادة في بعض الأعمال الظاهرة والباطنة. الثامن: أنه يلزم من تعريفهم للعبادة: أن يكون المشركون غير مشركين. التاسع: أنه يلزم من تعريفهم للعبادة: أن المشركين غير عابدين لغير الله. العاشر: ارتكاب القبورية أنواعًا من الشرك الأكبر وعبادتهم للقبور وأهلها بأنواع من العبادة تحت ستار التوسل والتشفع والولاية والكرامة وتعظيم الأولياء. الحادي عشر: رميهم أئمة السنة وأعلام هذه الأمة بدائهم من الجهل بحقيقة التوحيد والعبادة والشرك؛ وعدم الإلمام بتاريخ الوثنية، وعدم معرفة عقائد المشركين. وبهذه المناسبة أحب أن أنشد فيهم ما قيل: فحسبكم هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح وأقول بالنسبة إلى جهلهم المطبق المحيط بهم ورميهم أئمة الهدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 بأدوائهم: أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا وبعد أن عرفنا بطلان تعريف القبورية للعبادة، ننتقل إلى تحقيق تعريف العبادة لغة واصطلاحًا عند علماء الحنفية. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 المطلب الثاني في تعريف العبادة لغة لعلماء اللغة من الحنفية كلام طويل في معنى ((العبادة)) لغة، حاصلها ما يلي: ((العبادة)) من مادة ((ع ب د)) . وهذه المادة إذا كانت على وزن ((نصر ينصر)) ، فلها خمسة معان: (1) الخضوع. (2) الذلة. (3) الطاعة. (4) المملوكية. (5) التنسك. وأما إذا كانت من باب ((فرح يفرح)) ، فلها ستة معان: (1) الغضب والكراهة والأنفة. (2) الندامة والملامة. (3) الحرص. (4) الإنكار. (5) القوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 (6) البقاء. فهذا أحد عشر معنى لمادة ((ع ب د)) من الناحية اللغوية. وإليكم توثيقها: 1 - 2 - أما المعنيان: الأول، والثاني: فقد قال الزمخشري (538هـ) : (وطريق وبعير معبد: مذلل، وتقول: لا يجعلني كالبعير المعبد، والأسير المعبد) . وقال: (العبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلل) . وقال أبو بكر الرازي (666هـ) : (وأصل العبودية: الخضوع والذل، والتعبيد: التذلل؛ يقال: طريق معبد. والتعبيد أيضًا: الاستعباد، وهو اتخاذ الشخص عبدًا، وكذا الاعتباد .... ، وكذا الإعباد، والتعبد أيضًا؛ يقال: تعبده: أي اتخذه عبدًا) . وقال الزبيدي (1205هـ) : ( ...... ، أصل العبودية: الذل والخضوع .... ؛ يقال: بعير معبد: أي مذلل، وطريق معبد: أي مسلوك مذلل ..... ؛ والمعبد: البعير المهنوء بالقطران؛ قال طرفة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد ... ) . 3 - وأما المعنى الثالث - وهو الطاعة -: فقد ذكره كثير من الحنفية. 4 - وأما المعنى الرابع - وهو المملوكية -: فقد قال الزمخشري (538هـ) : (أعبدني فلان: ملكنيه) . وقال أبو بكر الرازي (666هـ) : (والعبد المملوك خلاف الحر) . وقال الزبيدي (1205هـ) : (أعبدني فلان فلانًا: أي ملكني إياه .... ) . 5 - وأما المعنى الخامس - وهو التعبد -: فقد قال الزمخشري (538هـ) ، والرازي (666هـ) ، واللفظ للأول: (وتعبد فلان: تنسك) . وقال الزبيدي (1205هـ) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 (وتعبد: تنسك. وقعد في متعبده: أي موضع نسكه) . 6 - وأما المعنى السادس - وهو الغضب والكراهة والأنفة -: فقد قال الزمخشري (538هـ) : (وعبد في أنفه ((عبدة)) : أي أنفة شديدة) . وقال: (و ((عبد)) ، وأبد، ورمد، وعمد، وضمد، كلها بمعنى ((غضب)) ) . وقال الرازي (666هـ) ، والزبيدي (1205هـ) ، واللفظ للأول: (و ((عبد)) من باب ((طرب)) : أي غضب وأنف، والاسم العبدة؛ قال الفرزدق: وأعبد أن أهجو كليبًا بدارم ... ... ) وعلى هذا المعنى فسر قوله تعالى {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] . أي: فأنا أول الآنفين المستنكفين من أن يكون له ولد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 7 - 11 - وأما المعاني: السابع إلى الحادي عشر: وهي: الندامة، والملامة، والحرص، والإنكار، والقوة، والبقاء: فقد ذكرها الزبيدي (1205هـ) ، وغيره. ولمادة (ع ب د) معان أخرى أيضًا؛ قال الصاغاني (650هـ) : العبد: نبات طيب الرائحة، تكلف به الإبل؛ لأنه ملبنة مسمنة. والمعبدة: العبيد؛ كالمشيخة: جمع الشيخ. والمسيفة: جمع السيف. والعبدة: صلاءة الطيب. والعبد، ككتف: جرب لا ينفعه دواء. والعبادية: الإكام. وأم عبيد: الفلاة. والعبيد: ابن الفلاة. هذه معاني مادة ((ع ب د)) من الناحية اللغوية. وأما معنى ((العبادة)) اصطلاحًا شرعيا فأذكرها عن الحنفية في المطلب الآتي إن شاء الله تعالى. **** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 المطلب الثالث في تعريف العبادة اصطلاحا وشرعًا عند علماء الحنفية لقد ذكر علماء الحنفية عدة تعريفات للعبادة؛ وكلها صحيحة جامعة مانعة. وهي ترد على تعريف القبورية للعبادة ردا باتا. وأذكر من تلك التعريفات ما يلي: التعريف الأول: هو أن العبادة: (فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيمًا لربه) . التعريف الثاني: هو أن العبادة: (فعل ما يرضي الرب) . قلت: المناسبة بين هذين التعريفين وبين المعاني اللغوية للعبادة: هي الذل والخضوع والتنسك. التعريف الثالث: هو أن العبادة: (تعظيم يقصد به الزلفى من الله تعالى والنجاة في الدار الآخرة) . التعريف الرابع: هو أن العبادة: (نهاية التذلل لنهاية تعظيم الغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 بالاختيار) . قلت: المناسبة بين هذين التعريفين وبين المعاني اللغوية للعبادة واضحة. التعريف الخامس: هو أن العبادة: (عبارة عن الاعتقاد والشعور بأن للمعبود سلطة غيبية في العلم والتصرف فوق الأسباب، يقدر بها على النفع والضر؛ فكل دعاء وثناء وتعظيم ينشأ من هذا الاعتقاد: فهو عبادة) . وقد أثنى الحنفية على هذا التعريف بأنه جامع لأنواع من العبادة؛ قال الشيخ الرستمي: (وما أحسن ما قيل ..... ) ، ثم ذكر هذا التعريف ثم قال: (وهذا التعريف جامع لجميع أفراد العبادات: من الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والذكر، والنذر، والثناء، والدعاء، والعبادات: القولية، والبدنية، والمالية جميعًا؛ فكل من يعبد عبادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ويعتقد أن للمعبود علي. علمًا بجميع الحالات، وتصرفًا في كل حال. فإن كان يعبد الله - فهو عبادة الله، وإن كان يعبد لغير الله بهذا الاعتقاد - فهو شرك، وعبادة غير الله تعالى) . التعريف السادس: هو أن العبادة: (ما أمر به شرعًا من غير اقتضاء عقلي، ولا اطراد عرفي) . التعريف السابع: هو أن العبادة: (فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ابتغاء وجه الله والآخرة) . قلت: وجه المناسبة بين هذين التعريفين وبين معاني العبادة اللغوية: الطاعة والتنسك. قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342) هـ قبل أن يذكر هذين التعريفين، مبينًا جهالة القبورية للعبادة، مبطلًا حصرهم لها: (والجواب أن يقال: إن كلامه [ابن جرجيس] هذا نشأ عن جهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 باللغة والشرع وما جاءت به الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .... ) . ثم ذكر هذين التعريفين وتعريفًا آخر، ثم قال: (فدخل في هذه التعاريف والحدود جميع أنواع العبادات، فلا يقصد بها غير الله ولا تصرف لسواه. وهذا الغبي لم يعرف من أفرادها غير الركوع والسجود والذبح والتقرب؛ مع أن دعاء المسألة من أفضل أنواعها وأجلها) . التعريف الثامن: هو أن العبادة: (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ كالتوحيد؛ فإنه عبادة في نفسه، والصلاة، والزكاة، والحج، وصيام رمضان، والوضوء، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والدعاء، والذكر، والقراءة، وحب الله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، والاستغاثة به، وغير ذلك مما رضيه وأحبه، فأمر به، وتعبد الناس به) . قلت: هذا التعريف أحسن التعريفات كلها لفظًا ومعنى، وأشملها جمعًا ومنعًا، وأدقها طردًا وعكسًا، وأوضحها كلا وجزءًا، وهو من كلام شيخ الإسلام. التعريف التاسع: هو أن العبادة: (ضرب من الخضوع بالغ حد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 النهاية، ناشئ عن استشعار القلوب عظمة المعبود) . التعريف العاشر: هو أن العبادة: (عبارة عما يجمع كمال المحبة، والخضوع، والخوف، والرجاء، والطاعة) . قلت: هذا التعريف فيه ميزة لا توجد في غيره من التعريفات، وهي اشتماله على أركان العبادة. التعريف الحادي عشر: هو أن العبادة: (فعل ما يرضى به الرب) . التعريف الثاني عشر: هو أن العبادة: غاية حب العابد للمعبود، مع ذل العابد لمعبوده. أقول: إن هذه التعريفات التي ذكرتها عن الحنفية للعبادة حجة قاطعة على بطلان تعريف القبورية للعبادة، وأن القبورية في اشتراط القيود التي ذكروها في مفهوم العبادة؛ كالاستقلال بالنفع والضر، والربوبية، ونفوذ المشيئة، ونحوها على باطل محض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وأن تعريفهم للعبادة غير جامع لأفرادها؛ بل غير صادق على شيء من العبادة؛ فهو تعريف مزيف ذاهب أدراج الرياح؛ بل قضي عليه فصار كأمس الدابر؛ وأن تعريفات الحنفية للعبادة كلها صحيحة في نفسها، وبعضها أولى وأوضح من بعضها؛ وأنها جامعة لأفراد العبادة، ومانعة عن دخول غيرها فيها. وتبين من هذه التعريفات: أن القبورية بنذورهم وتوجههم إلى الأموات، واستغاثتهم بهم عند الملمات - عباد القبور وأهلها مرتكبون للشركيات *. وبذلك جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا. ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا ... وأنك تلقى باطل القول لجلجا وبعد أن عرفنا تعريف العبادة ننتقل إلى معرفة أركانها وأنواعها وشروط صحتها في المبحث الآتي عند علماء الحنفية، وبالله التوفيق. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 المبحث الثالث في أركان العبادة وأنواعها وشروط صحتها عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك كله وفيه مطالب ثلاثة: - المطلب الأول: في أركان العبادة عند علماء الحنفية. - المطلب الثاني: في أنواع العبادة عند علماء الحنفية. - المطلب الثالث: في شروط صحة العبادة عند علماء الحنفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 المطلب الأول في أركان العبادة لقد تبين من تعريفات علماء الحنفية للعبادة: أنها لا تتحقق إلا إذا تحققت أركانها. وقد تبين أيضًا من تلك التعريفات أركان العبادة. وتلك الأركان ثمانية، وهي: (1) غاية الذل والخضوع للمعبود. (2) نهاية التعظيم للمعبود. (3) كمال المحبة للمعبود. (4) رضا المعبود. (5) الطاعة المطلقة للمعبود. (6) الخوف الكامل من المعبود. (7) الرجاء التام من المعبود. (8) اعتقاد أن للمعبود سلطة غيبية على العابد. وقد صرح علماء الحنفية: أن هذه الأركان للعبادة إذا لم تتحقق لا تتحقق العبادة: فالذل والتعظيم والمحبة والخوف والرجاء، إذا كانت تحت الأسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 العادية لا تدخل من باب العبادة؛ كحب الوالدين مثلًا حبا طبيعيًا؛ والخوف من الحاكم خوفًا طبيعيًا مثلًا، ورجاء الناس بعضهم من بعض تحت الأسباب، ونحو ذلك ليس من العبادة في شيء. ثم الأركان الثلاثة منها أم الأركان، وهي: (1) الحب. (2) والرجاء. (3) والخوف. ومن هذه الثلاثة تلتئم العبادة؛ فإن تحققت هذه الثلاثة تحققت العبادة، وإلا فلا: فالحب وحده ليس عبادة؛ لجواز أن يكون الشخص محبوبًا، ولا يكون معبودًا؛ لفقدان الخوف والرجاء، أو أحدهما: كالولد؛ فإنه محبوب وليس بمعبود. وكذا الخوف وحده ليس عبادة؛ لجواز أن يكون الشخص يخاف منه، ولا يكون معبودًا؛ لعدم تحقق المحبة والرجاء، أو أحدهما؛ كالحاكم مثلًا. إلا إذا وصل أحد هذه الأركان إلى درجة تليق بالله، كالحب مثلًا يكون عبادة إذا وصل إلى درجة حب الله لقوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] . الحاصل: أنه لا تتحقق العبادة ما لم تجتمع هذه الأركان الثلاثة. وقد جمع الله تعالى هذه الأركان الثلاثة في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 [الإسراء: 57] . فقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} : إشارة إلى ركنية ((المحبة)) . وقوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} : دليل على ركنية ((الرجاء)) . وقوله تعالى: {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} : دليل على ركنية ((الخوف)) . فباجتماع هذه الأركان الثلاثة تتحقق ((العبادة)) . فإن لم تتحقق هذه الأركان الثلاثة مجتمعة لم تتحقق ((العبادة)) أصلًا. ولهذا فسر العلماء من الحنفية ((الإله)) بالمعبود؛ فالإله هو الذي يأله القلوب بكمال الحب، والتعظيم، والإجلال، والإكرام، والخوف، والرجاء. قلت: هذه الأركان الثلاثة هي الأمهات، وأما بقية الأركان فداخلة فيها. وقد صرح علماء الحنفية بعد تعريفهم للعبادة وذكر أركانها بأن القبورية في استغاثتهم بالأموات * وندائهم عند إلمام الكربات * وقولهم: يا علي، يا حسين، يا خواجة، يا غوث، يا مرشد، يا شيخ، ومثل ذلك عند نزول الملمات * ورجائهم وخوفهم من الأولياء الأموات * والطواف حول قبورهم لإنجاح الحاجات * كل ذلك عبادات من أعظم أنواع العبادات * فهم بعبادتهم هذه للأموات * أهل إشراك برب البريات *. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 تنبيه مهم: لقد تبين من نصوص علماء الحنفية أن الرجاء والخوف من أركان العبادة، فدل هذا على أن الصوفية الذين يقولون: ((لا مقصود إلا الله)) ، ويزعمون أنهم لا يعبدون الله رجاء الجنة وخوفًا من النار على ضلال مبين، وأنهم لم يعبدوا الله تعالى لخلو أعمالهم من الخوف والرجاء. قلت: هذه كانت أركان العبادة، ذكرتها عن علماء الحنفية، وبعد أن عرفناها ننتقل إلى معرفة أنواع العبادة عند علماء الحنفية * والله المستعان على القبورية *. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 المطلب الثاني في أنواع العبادة لقد تبين من تعريفات علماء الحنفية للعبادة: أن العبادة أمر شامل لجميع الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة الإسلامية؛ غير محصورة في بعض الأقوال والأفعال، كما قال القبورية؛ فإنهم قد حصروا العبادة في بعض ذلك، كما سبق نقل مقالتهم. وتبين أيضًا من أركان العبادة التي ذكرتها عن الحنفية: أن العبادة غير محصورة في بعض الأمور. ولذا صرح علماء الحنفية ردا على القبورية وإبطالًا لحصرهم: بأن العبادة غير محصورة في بعض الأقوال والأفعال: من الركوع والسجود والصلاة والزكاة ونحوها كما زعم القبورية. وقد صرح العلامة محمود شكري الآلوسي بأن حديث جبريل في بيان أركان الإسلام والإيمان لا يدل على حصر العبادة في بعض الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فلا مستند للقبورية في هذا الحديث على حصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 العبادة. الحاصل: أن الحنفية قالوا: إن العبادة لها جزئيات كثيرة غير محصورة في بعض الأمور. ولكنها تندرج تحت أنواع ثلاثة: الأول: العبادة القولية. الثاني: العبادة البدنية. الثالث: العبادة المالية. قلت: وقد تكون العبادة مركبة من هذه الأنواع الثلاثة؛ كالحج. وهناك نوع رابع أيضًا: وهو العبادة الاعتقادية. وأقول: إن هذه الأنواع الثلاثة تحتها أنواع كثيرة من العبادات ذكرها علماء الحنفية. أذكر منها على سبيل المثال ما يلي: 1 - دعاء المسألة: وهو من أفضل العبادة وأجلها، ومخها، بل هو العبادة. فاستغاثة القبورية عند إلمام الملمات بالأموات إشراك برب البريات * إذ هو عبادة لغير الله سبحانه وعبادة غير الله من أعظم الشركيات *. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 2 - 13 - قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) مبينًا جهل القبورية بالعبادة، ذاكرًا بعض أنواعها: (وبعضهم أحذق من هذا العراقي وأمثاله الذين لم يفهموا من العبادة سوى الركوع والسجود، ولم يجدوا في معلومهم سواه. فأين الحب، والخضوع، والتوكل، والإنابة، والخوف، والرجاء، والرغب، والرهب، والطاعة، والتقوى، ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنية والظاهرة؛ فكل هذا عند العراقي يصرف لغير الله، ولا يكون عبادة؛ لأن العبادة ما فسرها هو به فقط؛ بل عبارته في عدة مواضع تفهم: أن السجود لا يحرم إلا على من زعم الاستقلال. وقد رأينا كثيرًا من المشركين، ولم نر مثل هذا الرجل في جهله ومجازفته وبلادته) . 14 - 31 - وقال رحمه الله - وتبعه الشيخ الرستمي - كاشفًا عن جهل القبورية بالعبادة مبينًا بعض أنواع العبادة الأخرى: (وإن تصلف هذا العراقي وادعى أن أعمال إخوانه عبدة القبور لا تشبه أفعال المشركين؛ فتلك عبادة وأفعال إخوانه ليست بعبادة؟!؟ ؛ يقال له: إنك لم تفهم معنى العبادة؛ وهي على ما سبق: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه؛ من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: كالتوحيد؛ فإنه عبادة في نفسه، والصلاة، والزكاة، والحج، وصيام رمضان، والوضوء، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والدعاء، والذكر، والقراءة، وحب الله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضى بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 عذابه، والاستغاثة به؛ وغير ذلك مما رضيه وأحبه، فأمر به وتعبد الناس به) . 32 - 38 - وقال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) ، والشيخ الرستمي، واللفظ للثاني: (وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1206هـ) : ((أنواع العبادة التي أمر الله بها: مثل الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومنه الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، [والاستعانة] ، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله تعالى بها كلها لله تعالى)) كشف الشبهات ص5) . 39 - 46 - ونقل الشيخ الرستمي عن الإمام ابن القيم رحمه الله (751هـ) قوله في أنواع العبادة التي هي من حقوق الله التي لا يجوز صرفها لغيره سبحانه: الرب رب والرسول فعبده ... حقا وليس لنا إله ثان لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق هما حقان لا تجعلوا الحقين حقا واحدا ... من غير تمييز ولا فرقان فالحج للرحمن دون رسوله ... وكذا الصلاة وذبح ذا القربان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وكذا السجود ونذرنا ويميننا ... وكذا متاب العبد من عصيان وكذا التوكل والإنابة والتقى ... وكذا الرجاء وخشية الرحمن وكذا العبادة واستغاثتنا به ... إياك نعبد ذان توحيدان وعليهما قام الوجود بأسره ... دنيا وأخرى حبذا الركنان وكذلك التسبيح والتكبير وال ... تهليل حق إلهنا الديان لكنما التعزير والتوقير حق ... ق للرسول بمقتضى القرآن والحب والإيمان والتصديق لا ... يختص بل حقان مشتركان هذي تفاصيل الحقوق ثلاثة ... لا تجهلوها يا أولي العدوان فالأسف كل الأسف على حال من يسجد للقبور ويركع، ويعين في الأنعام والحرث نذرًا لأهل القبور حصة معينة، ويقطع مسافة طويلة لزيارة قبر؛ كالحج، ومع أنه يقول في صلاته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . فما بال هؤلاء الجهلة؟! أي معنى للعبادة عندهم؟! هل للعبادة مصداق عندهم في الخارج أم لا؟!؟ فهذا حال من لم يعرف حق الله وحق العباد، ولم يميز بينها .... ) . 47 - 49 - وقال - مبينًا بعض أنواع العبادة، محققًا أن القبورية يعبدون الأموات بكثير من أنواع العبادة: (فثبت أن مقصود نزول القرآن دعوة العباد إلى عبادة الله وحده والرد على الذين أشركوا مع الله في العبادات؛ من السجدة لغير الله، والحج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 والنذر لغير الله، وغير ذلك من العبادات. وقد دخل في هذا الباب كثير من الناس في هذا الزمان؛ فمنهم من يصلي لغير الله تعالى، وأجزاء الصلاة من الركوع والسجود والقيام والقعود يفعلونها لغير الله تعالى أيضًا، من الأولياء أحياء وأمواتا) . 50 - وقال: (العبادة - في الشرع - عبارة عما يجمع كمال المحبة، والخضوع، والخوف؛ فاستكمال هذه الثلاثة لله تعالى فيكون عابده تعالى، وموحدًا. ومن أحب مع غير الله مثل حبه تعالى، أو خضع لغير الله مثل الخضوع له تعالى، أو خاف من غير الله كالخوف منه تعالى، فقد أشرك معه تعالى غيره في العبادة؛ فمن يذبح أولاده في محبة الأولياء، ويجعلونهم نذرًا لهم، ويخضعون عند قبورهم ما يخضعون مثله في المساجد لله تعالى؛ كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 لا يخفى ذلك على أحد، أو يخاف من الأولياء فوق الأسباب من وصول الضرر بقطع الأشجار عن أيكتهم، أو بالصيد في أشجارهم، فهو مشرك بالله في العبادة، أعاذنا الله تعالى منه) . 51 - 83 - وقد عنون الشاه إسماعيل الدهلوي (1246هـ) لأنواع العبادة التي كان قبورية الهند يصرفونها للأموات مبينًا أن كل هذا شرك أكبر، وتبعه الشيخ أبو الحسن الندوي، فقالا واللفظ للثاني: (أعمال العبادة وشعائرها خاصة بالله تعالى. والشيء الثالث: أن الله سبحانه وتعالى خصص بعض أعمال التعظيم لنفسه، وهي التي تسمى ((عبادة)) : كالسجود، والركوع، والوقوف بخشوع وتواضع، - مثلًا يضع يده اليمنى على اليسرى، أو إنفاق المال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 باسم من يعتقد فيه الصلاح أو العظمة، والصوم له، وقصد بيته من أنحاء بعيدة، وشد الرحل إليه بوجه يعرف كل من رآه أنه يؤم بيته حاجا زائرًا، والهتاف باسمه في الطريق كالتلبية، والتجنب عن الرفث والفسوق، والقنص، وصيد الحيوانات، ويمضي بهذه الآداب والقيود، ويطوف بالبيت ويسجد إليه، ويسوق الهدي إليه، وينذر النذور هناك، ويكسو ذلك البيت، كما تكسى الكعبة، والوقوف على عتبته، والإقبال على الدعاء والاستغاثة، والسؤال لتحقيق مطالب الدنيا والآخرة، وبلوغ الأماني، وتقبيل حجر من أحجار هذا البيت، والالتزام بجداره، والتمسك بأستاره، وإنارة السرج والمصابيح حوله تعظيمًا وتعبدًا، والاشتغال بسدانته، والقيام بجميع الأعمال التي يقوم بها السدنة: من كنس، وإنارة، وفرش، وسقاية، وتهيئة أسباب الوضوء والغسل، وشرب ماء بئره تبركًا، وصبه على الجسم، وتوزيعه على الناس، وحمله إلى من لم يحضر، والمشي مدبرًا عند العودة؛ حتى لا يولي البيت دبره، واحترام الغابة التي تحيط به، والتأدب معها؛ فلا يقتل صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلي خلاها، ولا يرعى ماشيته في حماها؛ كل هذه الأعمال علمها رب العالمين عباده، وأفردها لنفسه. فمن أتى بها لشيخ طريقة، أو نبي، أو جني، أو لقبر محقق، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 نزور، أو لنصب، أو لمكان عبادة، عكف فيها أحد الصالحين على العبادة، والذكر، والرياضة، أو لبيت، أو لأثر من آثار أحد الصالحين، يتبرك به، أو شعار يعرف به، أو يسجد لتابوت، أو يركع له، أو يصوم باسمه، أو يقف خاشعًا، متواضعًا، واضعًا إحدى يديه على الأخرى، أو يقرب له حيوانًا، أو يؤم بيتًا من هذه البيوت من بعيد، فيشد إليه الرحل، أو يوقد السرج فيه تعظيمًا وتعبدًا، أو يكسوه بكسوة كما تكسى الكعبة، أو يضع على ضريح ستورًا، أو يغرز علمًا أو عودًا باسمه، وإذا رجع رجع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 أعقابه، أو يقبل القبر، أو يحرك المراوح عليه ليذب الذباب، كما يفعله الخدم مع أسيادهم الأحياء، أو ينصب عليه سرادق، أو يقبل عتبته، ويضع اليمنى على اليسرى، ويتضرع إليه، أو يجلس على ضريح سادنًا وقيمًا، ويتأدب مع ما يحيط به من أشجار، وآجام، وأعشاب؛ فلا يتعرض لها بإهانة، أو إزالة؛ إلى غير ذلك من الأعمال، والالتزامات، - فقد تحقق عليه الشرك؛ ويسمى ((إشراكًا في العبادة)) ؛ سواء اعتقد: أن هذه الأشياء تستحق بنفسها، وأنها جديرة بذلك، أو اعتقد أن رضا الله في تعظيم هذه الأشياء، وأن الله يفرج الكرب ببركة هذا التعظيم) . 84 - 103 - وقال رحمه الله أيضًا بعدما ذكر عدة أنواع من العبادة مبطلًا عقائد القبورية حاكمًا عليهم بالشرك محققًا أنهم يصرفون كثيرًا من أنواع العبادة للقبور وأهلها؛ وتبعه الشيخ أبو الحسن علي الندوي، واللفظ للثاني: ( .... ، فمن أتى بذلك للأنبياء، والأولياء، والأئمة، والشهداء، والعفاريت، والجنيات: مثلًا ينذر لها إذا ألمت به كربة، أو نزلت به ضائقة، أو ينادي بأسمائها عند ملمة، أو نازلة، أو يفتح عمله بأسمائها، وإذا رزق ولدًا نذر لها نذورًا، أو سمى أولاده بعبد النبي، أو ((إمام بخش)) [هبة الإمام] ، أو ((بير بخش)) [هبة المرشد] ، ويخصص جزءا من الحبوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 أو الثمرات لها، ويقدم لها مما أخرجته الأرض من زرع وأثمار، ثم يستعمله في أغراضه، ويخصص من المال، وقطعان الأنعام أموالًا ودواب، ثم يتأدب معها، فلا يصرفها، ولا يزجرها عن العلف والتبن، ولا يضربها بعصا أو حجر، أدبًا وتعظيمًا، ويتمسك بالعادات القديمة، والأعراف الشائعة في الأكل والشرب، واللباس، ويتقيد بها كما يتقيد بأحكام الشريعة؛ فيحرم طعامًا، ولباسًا لأناس، ويحلهما لأناس، ويحظرهما على طبقة كالذكور والإناث، ويبيحهما لأخرى، فيقول: إن الطعام الفلاني لا يقربه الرجال. وإن الطعام الفلاني لا تقربه الجواري؛ ولا تقربه المرأة التي تزوجت بزوج ثان، وإن ((الخبيص)) الذي يعد باسم الشيخ عبد الحق، لا يأكله من يستعمل النارجيلة، وينسب ما يحدث من خير وشر، وما ينتاب من بؤس ورخاء إلى هؤلاء المشايخ والأولياء؛ فيقول: إن فلانًا أدركته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 لعنة فلان؛ فجن، وفلان طرده فلان؛ فافتقر، وفلان أنعم عليه فلان؛ فساعده الحظ، وحالفه الإقبال، وأصابت الناس المجاعة بنوء كذا، ونوء كذا، وفلان بدأ عمله بيوم كذا، وفي ساعة كذا، فلم يوفق، ولم يتم، أو يقول: إن شاء الله ورسوله - كان كذا، أو يقول: إن شاء شيخي - وقع كذا، أو يضفي على من يعظمه أسماء وصفات تختص بالله، وهي من نعوت العظمة والكبرياء، والغنى عن الخلق، والقدرة المطلقة، والجود الذي لا نهاية له، أو القهر والجبروت؛ مثل المعبود، وأغنى الأغنياء، وإله الآلهة، ومالك الملك، وملك الملوك، أو يحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بعلي رضي الله عنه -، أو بأحد أولاده الذين يسميهم الشيعة: الأئمة الاثني عشر، أو بشيخ، أو بقبره. كل ذلك يتحقق منه الشرك؛ ويسمى ((الإشراك في العبادة)) ، أن يعظم غير الله في الأعمال التي اعتادها تعظيمًا لا يليق إلا بالله) . 104 - 107 - وقال رحمه الله تعالى أيضًا مبينًا أن القبورية يرتكبون أنواعًا من الشرك الأكبر، بصرف أنواع كثيرة من العبادات للقبور وأهلها، وتبعه الشيخ الندوي المذكور، واللفظ للثاني: (اعلم أن الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر .... ، ومن المشاهد اليوم أن كثيرًا من الناس يستعينون بالمشايخ، والأنبياء، والأئمة، والشهداء، والملائكة، والجنيات، عند الشدائد، فينادونها، ويصرخون بأسمائها، ويسألون منها الحاجات وتحقيق المطالب، وينذرون لها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ويقربون لها قرابين تسعفهم، وتقضي مآربهم، وقد ينسبون إليها أبناءهم؛ طمعًا في رد البلاء ... ، ويرسل بعض الناس ضفيرة في رأسه باسم ولي من الأولياء وبعضهم يقلد ابنه قلادة باسم شيخ أو ولي، وبعضهم يكسو ولده لباسًا، وبعضهم يصفد ابنه بقيد في الرجل باسم أحد المشايخ والأولياء، وبعضهم يذبح حيوانًا بأسمائهم، وبعضهم يستغيث بهم عند الشدة، وبعضهم يحلف في حديثه بأسمائهم ... والحاصل: أنه ما سلك عباد الأوثان في الهند طريقًا مع آلهتهم إلا وسلكه الأدعياء من المسلمين مع الأنبياء والأولياء والأئمة والشهداء والملائكة والجنيات؛ واتبعوا سنن جيرانهم من المشركين؛ شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وحذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل، فما أجرأهم على الله، وما أبعد الشقة بين الاسم والمسمى، والحقيقة والدعوى. قلت: الحاصل أنه قد تبين من نصوص هؤلاء العلماء من الحنفية التي ذكرتها في المطالب السابقة أمور ستة: الأول: أن العبادة غير محصورة في بعض الأعمال والأقوال، بل هي شاملة لجميع أنواعها وأفرادها. وبذلك يبطل زعم القبورية في حصرها في بعض الأعمال والأقوال. الثاني: أن علماء الحنفية قد ذكروا عدة أنواع من العبادة، وقد ذكرت عنهم من خلال نصوصهم فوق المائة، على سبيل المثال لا الحصر. ومن أهم تلك الأنواع التي ذكروها: الدعاء، والاستغاثة، والاستعانة، والنذور، ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الثالث: أنه قد صرح علماء الحنفية: أن القبورية باستغاثتهم بالأموات عند الملمات * ونذورهم للقبور وأهلها عند الكربات * مرتكبون للشرك الأكبر، وعبادة القبور بأنواع من العبادات * الرابع: أن الشرك موجود في القبورية، وأنهم أهل الشرك، وأنه لا فرق بينهم وبين الوثنية إلا بالاسم فقط. الخامس: أن الرجاء والخوف داخلان في مفهوم العبادة. فدل هذا على ضلال الصوفية الذين يقولون: ((لا مقصود إلا الله)) . ويقولون: إن الذين يعبدون الله رجاء الجنة وخوفًا من النار، فهم كالأجير يطلب الأجرة. وقد تقدم الرد عليهم بكلام الحنفية. والحقيقة أن هؤلاء الصوفية الذين يقولون: نحن نعبد الله بالحب فقط لا خوفًا منه ولا رجاء منه ولا طمعًا في الجنة ولا مخافة من النار، هم من الزنادقة الملاحدة الحلولية الاتحادية. السادس: أن كل ما يصرف القبورية للقبور وأهلها من العبادات لا يخلو من المحبة والرجاء والخوف؛ فالقبورية يعبدون القبور وأهلها، وأنهم أشركوا بالله، والله المستعان ... وبعد أن عرفنا العبادة، وعرفنا أركانها، وعرفنا بعض أنواعها ننتقل إلى المطلب الآتي لنعرف شروط صحة العبادة وقبولها عند الله جل وعلا، في ضوء نصوص علماء الحنفية، وبالله التوفيق وإليه مآب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 المطلب الثالث في صحة شروط العبادة لقد تحدثت في المباحث والمطالب السابقة عن تعريف العبادة، وأركانها، وأنواعها عند علماء الحنفية، وأتحدث في هذا المطلب عن شروط صحة العبادة عند علماء الحنفية، كل ذلك ردا على القبورية عباد القبور وأهلها. فأقول وبالله التوفيق، وعليه توكلي وإليه إنابتي: لقد ذكر علماء الحنفية لصحة العبادة وقبولها عند الله ثلاثة شروط: الأول: التوحيد الخالص من الشرك. والثاني: الإخلاص لله عز وجل: أي النية الصحيحة الخالصة من النفاق، والرياء. والثالث: موافقة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلوص العبادة من البدعة. وقد أشير إلى هذه الشروط الثلاثة في قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] . فقوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} يدل على اشتراط الشرط الأول، وهو التوحيد الخالص من الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} يدل على اشتراط الشرط الثاني، وهو الإخلاص في العبادة، وخلوصها من النفاق والرياء والسمعة. وقوله تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} يدل على اشتراط الشرط الثالث وهو موافقة العبادة للسنة، وخلوصها عن البدعة. قلت: أما الشرط الأول - وهو التوحيد الخالص من الشرك - فلا حاجة إلى الإطالة في تحقيقه؛ فقد سبق أن التوحيد له ركنان: النفي والإثبات؛ فمن لم يكفر بالطاغوت، ولم يبرأ من الشرك، فتوحيده باطل فاسد، وأعماله كلها - حتى إقراره بـ ((لا إله إلا الله)) - وغير ذلك من العبادات حابطة. قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) في بيان أن إقرار القبوية بـ ((لا إله إلا الله)) ، وتصديقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من العبادات، لا يجديهم ولا ينفعهم: (فيقال له: لا يفيد ذلك الزعم مع إظهار الأعمال الشركية الدالة على عقيدة الشرك وما يصادم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك كمن يقول: إني مصدق بما ذكر، ثم شد الزنار) . وأما الشرطان: الثاني، والثالث: وهما الإخلاص، وموافقة السنة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 فقد ذكر كثير من علماء الحنفية أنهما شرطان لصحة العبادة وقبولها. وإليكم بعض نصوصهم. (1) قال الإمام فضيل بن عياض رحمه الله (187هـ) : (العمل الحسن هو أخلصه، وأصوبه. قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه، وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل؛ حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة) . وذكر علماء الحنفية أن هذين الشرطين لتحقيق كلمة التوحيد. (2) (3) قال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) ؛ والعلامة الخجندي (1379) هـ، واللفظ للأول: (وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان: ألا نعبد إلا الله. وألا نعبد إلا بما شرع. وهذان الأصلان - هما تحقيق شهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] . قال الفضيل: أخلصه، وأصوبه. وقال {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] ؛ ولذا قال الفقهاء: والعبادات مبناها على التوقيف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 (4) قال شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) : (قال أبو محمد عبد الوهاب الثقفي: لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان صوابًا. ومن صوابها إلا ما كان خالصًا. ومن خالصها إلا ما وافق السنة) . (5) وقد ذكر علماء الحنفية أن هذين الشرطين يدل على اشتراطهما لصحة العبادة وقبولها عند الله جل وعلا قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} ... [البقرة: 112] . قال شيخ القرآن المذكور في تفسير هذه الآية: (قال ابن كثير في تفسيره: وقال سعيد بن جبير: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} : أخلص. {وَجْهَهُ} : قال: دينه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 {وَهُوَ مُحْسِنٌ} : أي اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن للعمل المتقبل شرطين: أحدهما: أن يكون خالصًا لله وحده. والآخر: أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة. فمتى كان خالصًا، ولم يكن صوابًا لم يتقبل. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» . رواه مسلم من حديث عائشة رح. فعمل الرهبان ومن شابههم - وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله - فإنه لا يتقبل منهم ذلك إلا متابعًا للرسول صلى الله عليه وسلم) . قلت: وتمام نص كلام الحافظ ابن كثير (774هـ) رحمه الله: (المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وفي أمثالهم قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39] ، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية: 2-5] ، ... وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله، فهو أيضًا مردود على فاعله. وهذا حال المرائين والمنافقين؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [النساء: 142] ، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 4-6] . ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] ، وقال في هذه الآية الكريمة: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} ..... ) . (6) ونقل الشيخ الرستمي لتحقيق هذين الشرطين للعبادة قول الإمام ابن القيم رحمه الله (751هـ) : وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان قلت: وتمام كلام ابن القيم - وفيه تحقيق الشرط الآخر -: فقيام دين الله بالإخلاص وال ... إحسان إنهما له أصلان لم ينج من غضب الإله وناره ... إلا الذي قامت به الأصلان والناس بعد فمشرك بإلهه ... أو ذو ابتداع أو له الوصفان (7) قلت: اشتراط متابعة السنة في العبادة يسميه علماء الحنفية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ((توحيد المتابعة)) ، ويسميه الإمام ابن القيم (751هـ) رحمه الله: ((توحيد الطريق)) . وهذا برهان ساطع على أهمية هذا الشرط لصحة العبادة عند الحنفية. وهذا حجة باهرة قاهرة على أن من أخل بتوحيد المتابعة، وتوحيد الطريق في عبادته لله فقد نقض توحيده وأبطله لفوات شرط صحته. (8) قال الشيخ الرستمي - بالنسبة إلى توفر هذين الشرطين في العبادة وعدم توفرهما -: (ثم اعلم: أن تحقق العبادة على أصلين عظيمين: الإخلاص للمعبود. ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولذا انقسم الناس إلى أربعة أقسام: (1) أهل الإخلاص والمتابعة؛ وهم أهل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . (2) ومن لا إخلاص له ولا متابعة؛ وهم أهل الرياء مع كونهم أهل البدع؛ فهم أهل الغضب والضلال. (3) ومن هو مخلص في أعماله؛ لكنها على غير المتابعة؛ كجهال العباد، وكل من تعبد الله بغير أمره، واعتقده قربة. (4) ومن كان عمله على المتابعة لغير الله؛ كالعبادة والجهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 والعلم ومثلها الدنيا والرياء والسمعة) . قلت: أصل هذا الكلام للإمام ابن القيم رحمه الله (751هـ) ؛ فله كلام فصيح بليغ متين رصين في بيان هؤلاء الأصناف الأربعة بالنسبة إلى هذين الشرطين للعبادة. قلت: لقد تبين من كلام الحنفية: أن هاهنا سبعة أصناف من الناس بالنسبة إلى العبادة وأركانها وشروطها: 1 - من عبد الله تعالى بالحب والرجاء والخوف والإخلاص ومتابعة السنة فهو موحد سني. 2 - من عبد غير الله تعالى فهو مشرك. 3 - من عبد الله بالحب وحده، لا رجاء الجنة ولا خوفًا من النار كالصوفية القائلين: ((لا مقصود إلا الله)) فهو زنديق. 4 - ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 5 - ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري خارجي. 6 - ومن عبد الله بدون الإخلاص فهو منافق، مراء. 7 - ومن عبد الله بدون اتباع السنة فهو مبتدع راهب ضال. وبعد أن عرفنا أهم ما يتعلق بالتوحيد من تعريفه، وأنواعه، وأركانه، وأهميته، وشروط صحته، وكون توحيد العبادة هو الغاية، والعبادة وأنواعها وأركانها وشروط صحتها، في هذا الباب - بحمد الله وتوفيقه - ننتقل إلى الباب الثالث لنعرف أهم ما يتعلق بالشرك وأنواعه إن شاء الله تعالى. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الباب الثالث في جهود علماء الحنفية في تعريف الشرك وأنواعه وتطوره، ومصدر عبادة القبور، ونشأة القبورية وانتشارهم، وتحقيق أن الشرك موجود في القبورية من هذه الأمة، وردهم على القبورية في ذلك كله. وفيه فصول ثلاثة: - الفصل الأول: في تعريف الشرك وأنواعه ومصدره وتطوره، ونشأة القبورية وتطورهم وانتشارهم، عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك كله. - الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن الشرك موجود في القبورية من هذه الأمة، والمقارنة بين القبورية وبين الوثنية الأولى، وردهم على القبورية في ذلك كله. الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبه القبورية التي تشبثوا بها لتبرير إشراكهم وعبادتهم للقبور وأهلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الفصل الأول في جهود علماء الحنفية في تعريف الشرك وأنواعه ومصدر عبادة القبور وتطور القبورية، وانتشارهم، وردهم على القبورية في ذلك كله وفيه مباحث ثلاثة: - المبحث الأول: في تعريف الشرك عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك كله. - المبحث الثاني: في بيان أنواع الشرك عند علماء الحنفية وردهم على القبورية. - المبحث الثالث: في جهود علماء الحنفية في بيان مصدر الشرك بعبادة القبور، وتطور القبورية، وتحقيقهم أن القبورية عبدة الأوثان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 المبحث الأول في تعريف الشرك عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك وفيه مطالب ثلاثة: - المطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في تعريفهم للشرك. - المطلب الثاني: في تعريف الشرك عند علماء الحنفية. - المطلب الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال تعريف الشرك عند القبورية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 المطلب الأول في عرض عقيدة القبورية في تعريفهم للشرك لقد انحرفت القبورية عن الصراط المستقيم في مفهوم الشرك كما انحرفت في مفهوم التوحيد، والعبادة، ولا سيما توحيد الألوهية كما سبق تفصيله؛ فالقبورية بناء على تعريفهم للتوحيد وللعبادة عرفوا الشرك بتعريف غيروا وبدلوا به حقيقة الشرك؛ فزعموا: أن الشرك: عبارة عن أن يجعل العبد مع الله أحدًا - شريكًا في الربوبية والخلق والتدبير والإيجاد، والإحياء والإماتة، واعتقاد الاستقلال فيه بالنفع والضر بنفسه وبذاته ونفوذ المشيئة له لا محالة وتأثيره في الكائنات من تلقاء نفسه بدون حاجته إلى الله تعالى؛ فكل معاملة مع غير الله إذا لم تكن مقرونة بهذا الاعتقاد - فليس من العبادة، ولا من شرك؛ ولو كان سجودًا، واستغاثة، ونذرًا، وذبحًا، وغيرها، وليس في المسلمين المؤمنين الموحدين المستغيثين بالأولياء - من يعتقد في الأولياء ذلك الاعتقاد. هذه هي خلاصة عقيدة القبورية في تعريف الشرك؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وبذلك قد برروا ما يرتكبونه من الإشراك الأكبر الأعظم وعبادة القبور وأهلها بأنواع من العبادات، من النذور لهم عند إلمام الملمات * والاستغاثة عند الكربات *. وهذا التعريف ظاهر البطلان لأنه لا وجود للشرك أصلًا على هذا التعريف كما ستقف عليه في رد علماء الحنفية عليهم إن شاء الله. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 المطلب الثاني في تعريف علماء الحنفية للشرك لقد عرف علماء الحنفية ((الشرك)) لغة واصطلاحًا: أما لغة: فذكروا أن ((الشرك)) بمعنى: الحصة والنصيب، وكون أحد الشيئين فأكثر خليطًا مع آخر في أمر ما حسيا كان أو معنى. والشرك جمعه أشراك كشبر وأشبار. و ((الإشراك)) إفعال: وهو جعل الشيء خليطًا مع آخر في حصة ونصيب. وأما اصطلاحًا: فالشرك عند علماء الحنفية - له عدة تعريفات: التعريف الأول: هو ما قاله الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله: هو الاعتقاد في الصالحين أنهم شفعاء عند الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 واتخاذهم وسيلة إلى الله عز وجل، وعبادتهم على هذا الأساس وهذا أصل شرك العرب؛ فإنهم لم يعتقدوا في الأصنام أنها مشاركة لله في الخلق والتدبير فإنهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية لله عز وجل. قلت: لقد ذكرت عدة نصوص لعلماء الحنفية تثبت هذا. كما سيأتي نصوص أخرى لهم فلا حاجة إلى سردها هاهنا. وأقول: هذا التعريف يدل على أن القبورية مرتكبون للشرك الأكبر. التعريف الثاني: ما قاله الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) رحمه الله: (حقيقة الشرك: أن يعتقد إنسان في بعض المعظمين من الناس أن الآثار العجيبة - أي الكرامات وكثرة العبادة ونحوها - الصادرة منه إنما صدرت لكونه متصفًا بصفة من صفات الكمال: مما لم يعهد في جنس الإنسان؛ بل يختص بالواجب جل مجده، لا يوجد في غيره - إلا أن يخلع هو خلعة الألوهية على غيره ... ؛ ونحو ذلك مما يظنه هذا المعتقد من أنواع الخرافات؛ كما ورد: أن المشركين كانوا يلبون بهذه التلبية: ((لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فيتذلل عنده أقصى التذلل ويعامل معه معاملة العبادة مع الله تعالى) . قلت: هذا التعريف لا يختلف عن الأول؛ وحاصله: أن الشرك: اعتقاد الإنسان في معظم: أن الله تعالى خلع عليه خلعة يستحق بها أن يعامل معاملة الله تعالى من أقصى التذلل له؛ وأقول: إن استدلال الإمام ولي الله في صدد تعريفه للشرك بتلبية المشركين - يدل على أن الشاه ولي الله رحمه الله يرى: أن شرك المشركين لم يكن لاعتقادهم في آلهتهم: أنها مالكة خالقة أربابًا للكون، بل كانوا يعتقدون أن آلهتهم مملوكة لله وأن الله هو المالك الخالق المدبر للكون؛ وإنما شركهم: زعمهم أن هؤلاء معظمون مقربون عند الله فهم شفعاؤهم عنده واسطة بينهم وبين الله، وعلى هذا الأساس كانوا يعبدونهم بأنواع من العبادات. التعريف الثالث: وهو أيضًا قاله الإمام ولي الدهلوي (1176هـ) : (الشرك أن يثبت لغير الله سبحانه وتعالى شيئًا من صفاته المختصة به: كالتصرف في العالم بالإرادة التي يعبر عنها بكن فيكون؛ أو العلم الذاتي من غير اكتساب بالحواس ... ) ؛ ثم قال رحمه الله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 (وإن كنت متوقفًا في تصوير حال المشركين وعقائدهم وأعمالهم - فانظر إلى حال العوام والجهلة من أهل الزمان؛ خصوصًا من سكن منهم بأطراف دار الإسلام؛ كيف يظنون بالولاية؟ وماذا يخيل إليهم منها ... ؛ ويذهبون إلى القبور والآثار، ويرتكبون أنواعًا من الشرك ... ) . قلت: هذا التعريف من أوضح التعاريف للشرك عند الحنفية، وهو نص صريح على أن القبورية أهل شرك؛ فإن هذا الإمام قد مثل للشرك وأهله بالقبورية وما يرتكبون عند زيارة القبور: من النذور والاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات. التعريف الرابع: ما قاله الإمام الشاه عبد القادر الدهلوي (1230هـ) : الشرك هو: أن يعتقد في غير الله صفة من صفات الله تعالى، كالعلم بكل شيء، أو فعل كل شيء؛ أو أن بيد فلان خيرًا وشرا، أو يصرف لغير الله من التعظيم ما لا يليق إلا لله تعالى كالسجدة وطلب الحاجة، أو اعتقاد أن فلانًا له الاختيار أي التصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 قلت: هذا التعريف للشرك دليل قاطع على أن ما يرتكبه القبورية من أنواع الاعتقاد في الأموات الذين ينذرون لهم ويستغيثون بهم في الملمات، واعتقادهم علم الغيب والتصرف في الكون فيهم - هم عين الشرك الأكبر، وأنهم أهل الشرك. التعريف الخامس: ما قاله الإمام محمد إسماعيل الدهلوي (1246هـ) ، وتبعه أبو الحسن الندوي واللفظ للثاني: (اعلم أن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدًا بالله ويساوي بينهما بلا فرق؛ بل حقيقة الشرك: أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها الله بذاته العلية وجعلها شعارًا للعبودية - لأحد من الناس؛ كالسجود لأحد، والذبح باسمه، والنذر له، والاستغاثة به في الشدة واعتقاد أنه حاضر وناظر في كل مكان؛ وإثبات التصرف - في الكون - له، كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح الإنسان به مشركًا ... ) . قلت: هذا التعريف لا يحتاج إلى تعليق وفيه عبرة للقبورية!؟! التعريف السادس: ما قاله العلامة السهسواني (1326هـ) : (إن الشرك: هو دعاء غير الله في الأشياء التي تخص به سبحانه أو اعتقاد القدرة لغير الله فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 مما لا يتقرب به إلا إليه) ؛ وقال: (الشرك: هو أن يفعل لغير الله شيئًا يختص به سبحانه) ؛ ثم قال مبرهنًا عليه: (وقد علم كل عالم أن عبادة الكفارة للأصنام - لم تكن إلا بتعظيمها، واعتقاد أنها تضر وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة، والتقريب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم؛ وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور [وأهلها] .... ) ؛ ثم ذكر رحمه الله أن القبورية أشد خوفًا وعبادة للأموات منهم لله تعالى. قلت: سيأتي مفصلًا أن القبورية أشد إشراكًا من الوثنية الأولى وأعظم عبادة للأموات منهم لخالق البريات. أقول: هذه كانت عدة تعريفات للشرك عند علماء الحنفية، ذكرتها لتكون ردا على تعريف القبورية للشرك؛ فأنت رأيت أن علماء الحنفية لم يشترطوا في تعريفاتهم للشرك تلك القيود التي اشترطها القبورية في تعريف الشرك: من قيد ((الاستقلال بالنفع والضر)) وقيد ((الربوبية)) . وقيد ((بنفسه وبذاته)) وقيد ((من دون الحاجة إلى الغير)) . وقيد ((الخالقية والإحياء والإماتة)) وقيد ((نفوذ المشيئة لا محالة)) ونحوها من القيود الباطلة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 ثم رأيت تصريح علماء الحنفية في صدد تعريفاتهم للشرك: أن القبورية مرتكبون للشرك الأكبر بعبادتهم للقبور وأهلها من تقديم النذور والاستغاثة بهم عند الكربات *، وغيرها من أنواع العبادات *. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 المطلب الثالث في جهود علماء الحنفية في إبطال تعريف القبورية للشرك لقد سبق أن عرضت عقيدة القبورية في تعريف الشرك، فقد رأيت أخي المسلم: أن القبورية قد عرفوا الشرك بحيث يبرر لهم جميع ما يرتكبونه من الشرك الأكبر وعبادة غير الله - تحت ستار الوسيلة والواسطة والشفاعة والولاية والكرامة؛ ولكن علماء الحنفية قد ردوا عليهم وأبطلوا تعريفهم للشرك؛ وذلك من وجوه: الوجه الأول: أن علماء الحنفية قد عرفوا الشرك بعدة تعريفات كما ذكرت أمثلة منها أمام القراء الكرام وليس في هذه التعريفات شيء من تلك القيود الفاسدة التي ذكرتها القبورية في تعريفهم للشرك؛ كقيد ((الاستقلال بالنفع والضر)) ، وقيد ((الربوبية)) ، وقيد ((بنفسه وبذاته)) ، وقيد ((نفوذ المشيئة لا محالة)) ، وقيد ((الخالقية والإماتة والإحياء)) ونحوها، فدل ذلك على أن الشرك يتحقق بدون هذه القيود؛ فذكر هذه القيود كلا أو بعضًا يفسد حقيقة الشرك ويغير مفهومه ويحرف معناه، وهذا دليل على أن تعريف القبورية للشرك - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 تعريف مزيف باطل فاسد *، عاطل كاسد *، وليس إلا محاولة فاشلة لتبرير الإشراك بالله وجواز عبادة غير الله سبحانه وتعالى. الوجه الثاني: أن علماء الحنفية قد صرحوا - كما ظهر في تعريفاتهم للشرك - بأن الشرك يتحقق بعبادة غير الله سبحانه على سبيل الاستشفاع، واعتقاد التصرف في الكون لغير الله جل وعلا، واعتقاد علم الغيب في غير الله تعالى، سواء اعتقد ذلك في غير الله عز وجل - على سبيل الاستقلال أم على سبيل الإعطاء من عند الله سبحانه. قلت: فهذا كله يدل على إبطال تعريف القبورية للشرك وأنه تعريف باطل فاسد. الوجه الثالث: أن الحنفية قد صرحوا بأن القبورية هم أهل الشرك وهم عباد القبور وأهلها سواء اعترفوا بذلك أم لا، وسواء سموا شركهم تعظيمًا أو محبة أو تقديرًا، أم سموه بأسماء أخرى، فهم في الشرك على طريقة الوثنية الأولى: قال الإمام إسماعيل الدهلوي (1246هـ) وتبعه الشيخ أبو الحسن الندوي، واللفظ للثاني: (اعلم أن الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر ... ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 والحاصل: أنه ما سلك عباد الأوثان في الهند طريقًا مع آلهتهم - إلا وسلكه الأدعياء من المسلمين مع الأنبياء والأولياء ... ، وتبعوا سنن جيرانهم من المشركين شبرًا بشبر وذراعًا بذراع وحذو القذة بالقذة والنعل بالنعل ... ؛ فإذا عارضهم معارض وقال لهم: أنتم تدعون الإيمان، وتباشرون أعمال الشرك ... ؟!؟ ، قالوا: نحن لا نأتي بشيء من الشرك؛ إنما نبدي ما نعتقده في الأنبياء والأولياء من الحب والتقدير، أما إذا عدلناهم بالله واعتقدنا: أنهم والله جل وعلا بمنزلة سواء - كان ذلك شركًا، ولكننا لا نقول بذلك، بل نعتقد بالعكس: أنهم خلق الله وعبيده؛ أما ما نعتقد فيهم من القدرة، والتصرف في العالم - فهما مما أكرمهم الله وخصهم به، فلا يتصرفون في العالم إلا بإذن منه ورضاه؛ فما كان نداؤنا لهم واستعانتنا بهم إلا نداء الله واستعانة به، ولهم عند الله دالة ومكانة ليست لغيرهم، قد أطلق أيديهم في ملكه، وحكمهم في خلقه؛ يفعلون ما يشاءون، وينقضون ويبرمون، وهم شفعاؤنا عند الله، ووكلاؤنا عنده - فمن حظي عندهم ووقع عندهم بمكان - كانت له حظوة ومنزلة عند الله ... ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 إلى غير ذلك من التأويلات الكاسدة والحجج الفاسدة ... ؛ وإن كانوا عولوا على كلام الله ورسوله ((صلى الله عليه وسلم)) ، وعنوا بتحقيقه - عرفوا أنها نفس التأويلات والحجج التي كان كفار العرب يتمسكون بها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ويحاجونه بها، ولم يقبلها الله منهم، بل كذبهم فيها؛ فقال في سورة يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] ... وقد تبين من هذه الآية: أن من عبد أحدًا من الخلق اعتقادًا بأنه شفيعه - كان مشركًا بالله ... ، وقد وضح من ذلك: أن من اتخذ وليًا من دون الله - وإن كان ذلك على أساس: أن عبادته تقربه عند الله - كان مشركًا بالله كاذبًا، كافرًا بنعمة الله ... ؛ وكذلك تبين: أن الكفار الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يعدلون آلهتهم بالله ... ؛ بل كانوا يقرون بأنهم مخلوقون وعبيد ... ؛ فما كان كفرهم، وشركهم إلا نداؤهم لآلهتهم والنذور التي كانوا ينذرون لها .... ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 واتخاذهم لهم شفعاء ووكلاء؛ فمن عامل أحدًا بما عامل به الكفار آلهتهم - وإن كان يقر بأنه مخلوق وعبد - كان هو وأبو جهل في الشرك بمنزلة سواء .... ؛ فاعلم: أن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدًا بالله ويساوي بينهما بلا فرق، بل حقيقة الشرك: أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها الله بذاته العلية، وجعلها شعارًا للعبودية - لأحد من الناس: كالسجود لأحد، والذبح باسمه، والنذر له، والاستغاثة به في الشدة، واعتقاد أنه حاضر ناظر في كل مكان، وإثبات التصرف له - كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح الإنسان به مشركًا .... ؛ لا فرق في ذلك بين الأولياء والأنبياء والجن والشياطين، والعفاريت، والجنيات - فمن عاملها هذه المعاملة - كان مشركًا ... ؛ فمن كان يلهج باسم أحد من الخلق ويناديه .... ، ويستصرخه ويستغيث به عند نزول البلاء ... ، ويعتقد أنه لا يخفى عليه من أمره شيء .... ؛ كان بذلك مشركًا، وكل ذلك يدخل في الشرك؛ ويسمى هذا النوع: ((الإشراك في العلم)) .... ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 سواء اعتقد: أنه يعلم من ذاته، أو يعلم أنه منحة من الله وعطاء منه؛ كل ذلك شرك ... ؛ إن التصرف في العالم، وإصدار الأمر والنهي ... ، وإنجاح المطالب، وتحقيق الأماني، ودفع البلايا، والإغاثة في الشدائد، وإلهاف الملهوف، وإنهاض العاثر - هذه كلها من خصائص الله تعالى؛ لا يشاركه فيها أحد من الأنبياء والأولياء والشهداء والصلحاء والعفاريت والجنيات؛ فمن أثبت هذا التصرف المطلق لأحد، وطلب منه حاجته: وقرب القرابين والنذر لأجل ذلك، واستصرخه في نازلة - كان مشركًا؛ ويقال لهذا النوع: ((الإشراك في التصرف)) ؛ سواء اعتقد أنهم يقدرون على ذلك بأنفسهم، أو اعتقد: أن الله سبحانه وهبهم هذه القدرة ... ) ، ثم ذكرا عدة أنواع من العبادات التي يصرفها القبورية للقبور وأهلها، ثم قالا: (كل هذه الأعمال علمها رب العالمين عباده، وأفردها لنفسه؛ فمن أتى بها لشيخ طريقة، أو نبي، أو جني، أو قبر محقق، أو مزور، أو لنصب أو لمكان عبادة ... ، - فقد تحقق عليه الشرك؛ ويسمى: ((إشراكًا في العبادة)) ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 سواء اعتقد: أن هذه الأشياء تستحق التعظيم بنفسها، وأنها جديرة بذلك، أو اعتقد: أن رضا الله في تعظيم هذه الأشياء، وأن الله يفرج الكرب ببركة هذا التعظيم) . الوجه الرابع: أن علماء الحنفية قد حققوا: أن المشركين السابقين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية، وأنهم لم يشركوا آلهتهم بالله في الخلق والتدبير والتصرف والاستقلال ونحو ذلك. ومع ذلك كانوا مشركين؛ فدل هذا دلالة قاطعة لا تحتمل النقيض على أن تعريف القبورية للشرك فاسد باطل. الوجه الخامس: أن تعريف القبورية للشرك - دليل على أنهم لم يعرفوا الشرك ولا تاريخ الوثنية، ولا عقيدة المشركين، وما كانوا عليه من القصد والدين كما أن القبورية لم يعرفوا ما كان عليه الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من توحيد رب العالمين. لذلك هم عرفوا الشرك بهذا التعريف الباطل - الذي ذكروا فيه تلك القيود والشروط التي لم تكن متحققة في شرك المشركين الأولين. الوجه السادس: أن نقول: لو صح تعريف القبورية للشرك - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 لزم منه - أن يكون المشركون السابقون غير مشركين؛ لكن التالي باطل فالمقدم مثله؛ ولو صح أن المشركين السابقين كانوا مشركين - لزم منه - أن يكون تعريف القبورية للشرك باطلًا فاسدًا * عاطلًا كاسدًا *؛ لكن المقدم حق فالتالي مثله. ودليل هذين البرهانين القاهرين * والسلطانين الباهرين * - ما قاله العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (وهذا الأحمق [ابن جرجيس] زاد في غير موضع من كتابه قيدًا فقال: لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله. مع أن تلبية المشركين في الجاهلية: ((لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) ؛ فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال؛ وعلى زعم هذا ((العراقي ابن جرجيس)) فليسوا بمشركين) . وقال رحمه الله: (وأما جعل الأموات أسبابًا يستغاث بها وتدعى وترجى وتعظم على أنها وسائط - فهذا دين عبادة الأصنام؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 يكفر فاعله بمجرد اعتقاده وفعله؛ وإن لم يعتقد الاستقلال: كما نص عليه القرآن في غير موضع؛ فالغلاة معارضون للقرآن مصادمون لنصوصه) . قلت: أنشده بهذه المناسبة ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله (751هـ) : والله ما بعد البيان لمنصف ... إلا العناد ومركب الخذلان الحاصل: أن تعريف القبورية للشرك - تعريف باطل فاسد غير جامع لأفراده؛ بل غير صادق على شرك المشركين الأولين والآخرين، وأن الصحيح الحق الصواب - هو تعريف هؤلاء العلماء من الحنفية للشرك؛ فإنه جامع شامل لجميع أفراده صادق على شرك الوثنية القديمة وعلى شرك القبورية في آن واحد. وبعد أن عرفنا بطلان تعريف القبورية للشرك وعرفنا صحة تعريف الحنفية للشرك ننتقل إلى المبحث الآتي؛ لنعرف أنواع الشرك عند الحنفية. فنقول وبربنا الرحمن نستغيث ونستعين * إذ هو المستعان المغيث وهو المعين *: ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 المبحث الثاني في بيان أنواع الشرك عند علماء الحنفية وردهم على القبورية كلمة بين يدي هذا المبحث: لقد ذكرت تعريف الشرك لغة واصطلاحًا عند علماء الحنفية، كما ذكرت بعض جهودهم في إبطال تعريف القبورية للشرك. وتبين من نصوصهم أن الشرك له أنواع توجد كثير منها في القبورية؛ فعلماء الحنفية - في تعريفهم للشرك تعريفًا صحيحًا واسعًا جامعًا لأنواع الشرك - ردوا ردا قويا على القبورية بحيث جعلوهم صرعى لا نهوض لهم. وفي هذا المبحث أريد أن أذكر أهم ما ذكره علماء الحنفية من أنواع الشرك التي يرتكبها القبورية قديمًا وحديثًا ليكون هذا أبلغ رد من علماء الحنفية لمزاعم القبورية وأقمع لعقائدهم فأقول وبالله التوفيق: لقد ذكر كبار علماء الحنفية عدة أنواع للشرك: بأساليب مختلفة وعبارات متنوعة وطرق متعددة وكلها في الرد على القبورية؛ ليبينوا للناس أن هذه الأفاعيل الشركية والأباطيل الخرافية - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 التي ترتكبها القبورية ويبررونها بتلك القيود التي يذكرونها في تعريف الشرك: كقيد: ((استقلال الأنبياء والأولياء بالنفع والضر)) أو ((اعتقاد الربوبية فيهم)) أو ((أنهم ينفعون ويضرون بذواتهم)) ) . كلها داخلة في تعريف الشرك وأنها من أنواع الشرك لا محالة. سواء كان يعتقد فيهم ((الاستقلال بالنفع والضر)) ويعتقد فيهم الربوبية أم لا؛ وفيما يلي أذكر بعض أقوال علماء الحنفية في بيان أنواع الشرك. 1 - قول الإمام أحمد بن عبد الأحد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني ومجدد الألف الثاني (1034هـ) : ذكر للشرك نوعين: الأول: الشرك في وجوب الوجود. الثاني: الشرك في العبادة. ولما كان النوع الأول غير واقع والثاني هو الواقع في المشركين عامة والقبورية خاصة - اهتم ببيان الشرك في العبادة ردا على القبورية فقال: (ما أشد سفاهة من لا يشركون بالله شيئًا في وجوب الوجود ومع ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 يشركون به تعالى في العبادة ..... ، بل الأهم والأحوج إليه والأنفع في هذه الطرق نفي شريك استحقاق العبادة المخصوص بدعوة الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات؛ فإن المخالفين الذين ليسوا بملتزمين ملة نبي من الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات؛ أيضًا ينفون شريك وجوب الوجود ...... ، ولكنهم غافلون عن معاملة استحقاق العبادة. وفارغون عن نفي شريك استحقاق العبادة، لا يتحاشون من عبادة الغير، ولا يتكاسلون من عمارة الدير، الأنبياء هم الذين يهدمون الدير وينهون عن عبادة الغير، والمشرك في لسان هؤلاء الأكابر - من يكون أسيرًا لعبادة غير الحق سبحانه، وإن كان قائلًا بنفي وجوب الوجود، فإن اهتمامهم في نفي عبادة ما سوى الحق سبحانه المتعلق بالعمل والمعاملة المستلزم لنفي شريك وجوب الوجود؛ فمن لم يتحقق بشرائع هؤلاء الأكابر عليهم الصلوات والتسليمات المنبئة عن نفي استحقاق ما سوى الله للعبادة - لا يتخلص من الشرك، ولا ينجو من شعب شرك عبادة الآلهة) ؛ ثم ذكر أن المقصود من بعثة الرسل إنما هو تحقيق توحيد العبادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 والنجاة من الشرك في عبادة الله عز وجل. أقول: هذا النص مشتمل على نكات مهمات وكلها رد على القبورية: الأولى: أن القبورية أشركوا في عبادة الله تعالى. الثانية: أن القبورية اهتموا بتعمير ما أمر الأنبياء بهدمه من الدير والمشاهد. الثالثة: المشرك في اصطلاح الأنبياء هو من أشرك في عبادة الله. الرابعة: أن من عبد غير الله تعالى فهو مشرك وإن اعترف بتوحيد الربوبية. الخامسة: الفرق بين توحيد الربوبية وبين توحيد العبادة. السادسة: أن الأنبياء والمرسلين إنما بعثوا لتحقيق توحيد الألوهية ونفي عبادة غير الله تعالى. 2 - قول الإمام أحمد الرومي أحد عظماء الحنفية الذي له جهود عظيمة في إبطال عقائد القبورية (1043هـ) ، 3- قول الشيخ سبحان بخش الهندي، 4- قول الشيخ محمد السورتي، فهؤلاء العلماء ذكروا ستة أنواع للشرك منها الشرك في العبادة، وقالوا في بيان هذا النوع من الشرك - واللفظ للأول -: (والثالث من أنواع الشرك - شرك تقريب: وهو عبادة غير الله ليقرب إلى الله؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 كشرك متقدمي عبدة الأصنام، فإنهم لما رأوا أن عبادتهم للمولى العظيم على ما هم عليه من غاية الدناءة ونهاية الحقارة - سوء أدب عظيم - تقربوا إليه بعبادة من هو أعلى منهم عنده ..... ) . ثم بوبوا فقالوا؛ واللفظ للأول أيضًا: (المجلس السابع عشر في بيان عدم جواز الصلاة عند القبور والاستمداد من أهلها واتخاذ السروج والشموع عليها) . ثم أطنبوا في الرد على عقائد القبورية وحققوا أن هذا النوع من الشرك - وهو عبادة غير الله - موجود في القبورية، وأتوا بتحقيقات دقيقة وتدقيقات عميقة في إبطال عقائد القبورية مما فيه عبرة للقبورية وسخنة الأعين للخرافية وقرة عيون السنية. 5 - قول الشيخ محمد أعلى الفاروقي أحد علماء الحنفية. لقد ذكر عدة أنواع للشرك في مبحث طويل رد فيه على القبورية: منها الشرك في العبادة. ومنها الشرك في الطاعة أي في التحليل والتحريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ومنها الشرك في التسمية. ومنها الشرك في العلم، ومنها الشرك في القدرة. ثم قال في بيان سبب عبادة الأوثان: (ولا بد من بيان سبب عبادة الأوثان؛ إذ عبادة الأحجار من جم غفير عقلاء، ظاهر البطلان) ؛ ثم ذكر عدة أسباب، منها التقرب إلى الله وقال في بيان ذلك: (وعابدو الأوثان فيهم من كانوا لا يقولون: إنهم شركاء الله في الخلق وتدبير العالم؛ بل كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فثبت أن الأكثر منهم كانوا مقرين بأن الله إله العالم واحد، وأنه ليس في الإلهية - بمعنى خلق العالم وتدبيره - شريك ونظير كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] . ثم تصدى للرد على القبورية وبيان كشف زيغهم وإبطال عقيدتهم في الشفاعة، والتوسل الشركيين، فقال: (والفرقة الرابعة هي فرقة عباد الشيوخ وأنصارها: يقولون: حيث إن الرجل الكبير مستجاب الدعوات مقبول الشفاعات بسبب كمال الرياضة والمجاهدة فإنه ينقل قوة عظيمة وبسطة من هذه الدنيا إلى روحه، فكل من يجعل صورته برزخًا أو يسجد على قبره ويتذلل أو يذكره في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 مكان عبادته، أو ينذر نذرًا باسمه، أو يفعل نحو ذلك - فإن روح ذلك الشيخ - بسبب كماله - تطلع على هذا الأمر وتشفع له في الدنيا والآخرة) ؛ وقال أيضًا في بيان إبطال توسل القبورية: (ومن جملتهم الأشخاص الذين يدعون الآخرين لدفع البلاء عنهم ويتوسلون بالآخرين في تحصيل المنافع، ويعدون الآخرين عالمين بالغيب وذوي قدرة مطلقة مستقلين بذاتهم. وهذا نوع من الشرك في العلم والقدرة) . قلت: هذا النص في غاية من الأهمية لإبطال عقائد القبورية وبيان أنهم يرتكبون أنواعًا من الشرك كالشرك في العبادة حيث يعبدون القبور وأهلها بنذور وسجود ونداء واستغاثة لدفع البلاء وتحصيل المنافع وأن القبورية يرتكبون شفاعة شركية ووسيلة خرافية. وأنهم يعتقدون فيمن يدعونهم ويستغيثون بهم من الأولياء - أنهم عالمون بالغيب وقادرون بقدرة مطلقة مستقلين بذاتهم، وأن القبورية لأجل هذه العقائد الشركية مرتكبون شركًا في العلم وشركًا في القدرة. تنبيه: قوله: ((مستقلين بذاتهم)) - ليس قيدًا لتحقيق الشرك، بل بيان أن القبورية قد وصلوا في شركهم إلى حد - اعتقد بعضهم: أن للأولياء قدرة مطلقة، مستقلين بذواتهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وهذا تكذيب للقبورية أيما تكذيب!؟! ؛ إذ ليس هذا إلا شركًا في الربوبية والصفات؛ فالقبورية أشركوا بالله حتى أشركوا في الربوبية فضلًا عن الشرك في العبادة. 6- قول الإمام ولي الله رحمه الله. لقد بوب الإمام ولي الله الدهلوي أحد كبار أئمة الحنفية (1176هـ) ليرد على مزاعم القبورية ويبطل عقائدهم ببيان أنواع الشرك فقال: ((باب أقسام الشرك)) . ثم ذكر تعريف الشرك وقد تقدم نصه ثم قال: ((ورد في الحديث: أن المشركين كانوا يلبون بهذه الصيغة: ((لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) . ثم ذكر: أن المشرك يتذلل عند معبوده الباطل أقصى التذلل، ويعامل معه معاملة العباد مع الله تعالى؛ ثم ذكر للشرك عدة أنواع سماها الشرك ومظانه على ما يلي: 1 - الشرك في السجود. 2 - الشرك في الاستعانة. 3 - الشرك في النذور. وقال: ((ومنها أنهم كانوا يستعينون بغير الله في حوائجهم من شفاء المريض وغناء الفقير وينذرون لهم يتوقفون إنجاح مقاصدهم بتلك النذور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ويتلون أسماءهم رجاء بركتها، فأوجب الله عليهم أن يقولوا في صلاتهم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وقال تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] ؛ وليس المراد من الدعاء العبادة، كما قال بعض المفسرين بل هو الاستعانة لقوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ} ... ) ؛ [الأنعام: 41] ؛ ثم ذكر نوعين آخرين للشرك: 4 - تسمية بعض شركائهم بنات الله وأبناء الله. 5 - الشرك في الطاعة وهو طاعة الأحبار والرهبان في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحله الله. ثم ذكر في إبطاله قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] ، وحديث عدي بن حاتم المعروف. ثم قال: ((وسر ذلك أن التحليل والتحريم عبارة عن تكوين نافذ في الملكوت أن الشيء الفلاني يؤاخذ به أو لا يؤاخذ به، فيكون هذا التكوين سببًا للمؤاخذة وتركها، وهذا في صفات الله)) . ثم ذكر أن من فعل هذا الشرك فهو مشرك بالله تعالى، ثم ذكر أنواعًا ثلاثة أخرى للشرك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 6 - الشرك في الذبح والإهلال باسم غير الله. 7 - تسييب السوائب والبحائر تقربًا إلى غير الله. 8 - الشرك في الحلف بغير الله. وقال: (ومنها أنهم كانوا يعتقدون في أناس أن أسماءهم مباركة معظمة وكانوا يعتقدون أن الحلف بأسمائهم على الكذب يستوجب حرمًا في ماله وأهله، فلا يقدمون على ذلك؛ ولذلك كانوا يستحلفون الخصوم بأسماء شركائهم بزعمهم، فنهوا عن ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك» وقد فسره بعض المحدثين على معنى التغليظ والتهديد، ولا أقول بذلك، وأن المراد عندي: اليمين المنعقدة، واليمين الغموس باسم غير الله تعالى على اعتقاد ما ذكرنا)) . ثم ذكر نوعًا آخر للشرك: 9 - الشرك في الحج لغير الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وقال في شرحه وبيانه: (ومنها الحج لغير الله تعالى: وذلك أن يقصد مواضع متبركة مختصة بشركائهم - يكون الحلول بها تقربًا من هؤلاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ) . وقال: (كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها، وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى، فَسَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الفساد، لئلا يلتحق غير الشعائر بالشعائر، ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله، والحق عندي أن القبر ومحل عبادة ولي من أولياء الله والطور كل ذلك سواء في النهي) . وذكر نوعًا آخر للشرك، وهو: 10 - الشرك في التسمية بأن يسمي ابنه عبد العزى وعبد الشمس ونحو ذلك. ثم قال بعد ذكر هذه الظاهرة للشرك: (فهذه أشباح وقوالب للشرك نهى الشارع عنها) . وذكر أن شرك الطاعة التي هي عبادة الأحبار والرهبان قد وقع فيه بعض المقلدين الجامدين للأئمة الذين لا يتركون التقليد وإن ظهر الدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 على خلاف قول إمامهم. 7 - قول الشاه محمد إسماعيل المجاهد (1246هـ) . 8 - وقول الشيخ أبي الحسن الندوي. لقد مشى على طريقة الإمام ولي الله حفيده العلامة إسماعيل الدهلوي وتبعه الشيخ أبو الحسن الندوي في بيان أنواع الشرك الموجودة في القبورية فقالا واللفظ للثاني: (استفحال فتنة الشرك والجهالة في الناس. اعلم أن الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر) ، ثم ذكر بعد عنوان: ((مظاهر الشرك وأشكاله المتنوعة)) - ما يلي: 1 - الشرك بدعاء الأولياء والاستغاثة بهم. 2 - الشرك بالاستعانة من الأولياء. 3 - الشرك بالنذر والذبح للأولياء. 4 - الشرك في التسميات بأن ينسب الأولاد إلى الأولياء بمعنى أنهم من عطاء غير الله ككثير من الأسماء الشركية؛ نحو عبد النبي، وهبة علي، وهبة حسين، وهبة المدار وهبة سالار وذلك طمعًا في رد البلاء عنهم. 5 - الحلف بأسماء الأولياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 6 - إرسال الظفيرة باسم ولي من أولياء الله. 7 - تعليق القلادة لولي من الأولياء. 8 - إلباس الولد لباسًا خاصًا باسم ولي من الأولياء. 9 - صفد الابن بقيد في رجله باسم ولي من الأولياء. 10 - السجود لغير الله. 11 - اعتقاد علم الغيب في غير الله. 12 - إثبات قدرة التصرف لغير الله. ثم قالا: (كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح الإنسان به مشركًا) . قلت: في هذا النص أبلغ الرد على القبورية في صميم اعتقاداتهم الباطلة. 9 - قول آخر للشاه المجاهد المذكور (1246هـ) وقد شن الغارة على القبورية لإبطال عقائدهم الوثنية. فذكر أن الشرك أولًا على نوعين؛ 1- الشرك في الربوبية. 2 - الشرك في الألوهية. ثم ذكر أنه تفرع منها أربعة أنواع أخرى وهي: 1 - الشرك في العلم بمعنى علم الغيب. 2 - الشرك في التصرف. 3 - الشرك في العبادة. 4 - الشرك في العادة يعني في الأعمال العادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 10 - وتبعه أيضًا الشيخ أبو الحسن الندوي في بيان هذه الأنواع الأربعة، وشدد النكير على القبورية لإبطال عقائدهم الخرافية. 11- قال العلامة السيد محمود شكري الآلوسي (1342هـ) : (إن الشرك نوعان: 1 - شرك في الربوبية: بأن يجعل معه لغيره تدبيرًا ما ... 2 - وشرك في الألوهية: بأن يدعي غيره دعاء عبادة أو دعاء مسألة ... ) . 12 - قول العلامة حسين علي (1362هـ) أحد عظماء الحنفية. 13 - قول غلام الله الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن (1980م) . فقد تصديا لإبطال عقائد القبورية وبيان أن القبورية ارتكبوا عدة أنواع من الشرك، فذكرا من تلك الأنواع ما يلي: 1 - الشرك في العلم. 2 - الشرك في التصرف. 3 - الشرك في الدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 4 - الشرك الفعلي. ثم ذكرا تعريفات كل نوع منها، وكشفا عن تمويهات القبورية وخرافاتهم. 14 - قول الأستاذ أبي الأعلى المودودي (1979م) رحمه الله. لقد قسم الأستاذ المودودي رحمه الله الشرك أولًا إلى قسمين: 1 - الشرك الاعتقادي. 2 - الشرك العملي. وقسم الشرك الاعتقادي إلى أربعة أقسام: 1 - الشرك في الذات. 2 - الشرك في الصفات، وهو إثبات صفة من صفات الله تعالى لغيره سبحانه كاعتقادهم الغيب في غيره تعالى. أو أن غيره تعالى يسمع كل ما يسمع ويبصر كل شيء أو منزه عن كل عيب ونقص وخطأ. 3 - الشرك في الاختيار وهو إثبات التصرف والنفع والضر والإغاثة والحفظ والإجابة والخير والشر فوق الأسباب العادية لغيره تعالى، والتصرف في التشريع من التحليل والتحريم والتقنين. 4 - الشرك في الحقوق وهو الشرك في العبادة. كالسجود والركوع والقيام والنذر والذبح والقربان ورجاء رفع الحوائج والمشكلات والدعاء وقت نزول المصائب والبلايا لغير الله سبحانه. وكذا كل ما يدخل في العبادة بجميع أنواعها وصورها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وهكذا الطاعة لغير الله تعالى طاعة مطلقة. كل ذلك من قبيل الإشراك بالله تعالى في حقوقه وعبادته. قلت: الشرك في الاختيار هو في الحقيقة داخل في الشرك في الصفات. فالأولى أن يقال: الشرك في الذات، الشرك في الصفات، الشرك في العبادات؛ غير أن الشرك في الذات أمر ذهني يتصوره العقل فقط وليس له وجود في الخارج فلا تعرف طائفة كائنة من بني آدم ارتكبت الشرك في الذات. 15 - قول شيخ القرآن الفنجفيري (1407) رحمه الله. 16 - قول الشيخ الرستمي حفظه الله. لقد تصدى الشيخ محمد طاهر الفنجفيري الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن وتبعه تلميذه الشيخ عبد السلام الرستمي، للرد على القبورية وإبطال عقائدهم الوثنية فكشفا الستار عن كثير من أسرارهم ونبها على مفاسدهم وأضرارهم، وبينا عدة أنواع للشرك، فقالا، واللفظ للثاني: (بحث أقسام الشرك: اعلم أن الشرك في التفصيل له أنواع كثيرة؛ لأن الإشراك بالله تعالى في كل صفة مختصة به تعالى - نوع من الشرك، وكذا الإشراك في كل حق من حقوقه تعالى - نوع مستقل [من أنواع الشرك] ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 والصفات والحقوق الإلهية كثيرة؛ فالأنواع للشرك بجنبها كثيرة، لكنها في الأصل ترجع إلى نوعين: (1) شرك اعتقادي، (2) وشرك فعلي، والأول على أربعة أقسام: (1) الشرك في العلم ((علم الغيب)) ، (2) والشرك في التصرف والاختيار، (3) والشرك في الدعاء؛ يعني النداء والاستغاثة. (4) والشرك في العبادة. فنذكر هذه الأقسام بالنهج الذي ساقه القرآن) . 17 - وقد ذكر الشيخ الرستمي أنواعًا أخرى بترتيب آخر، وهي: 1 - الشرك في المالكية. 2 - الشرك في الربوبية لا يعني الشرك في ((الحكم)) أي الطاعة. 3 - الشرك في التصرف. 4 - الشرك في الاستعانة. 5 - الشرك في الاستعاذة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 6 - الشرك في الاستجارة. 7 - الشرك في البركة. 8 - الشرك في الصفات. 9 - الشرك في العلم. 10 - الشرك في العبادات القولية. 11 - الشرك في العبادات العملية. 12 - الشرك في الدعاء. 13 - الشرك في الألوهية. ويعني به الشرك في الربوبية. الحاصل: أن هذه عدة أنواع للشرك. ذكرتها عن علماء الحنفية الذين ردوا على القبورية وهي تدل دلالة قاطعة على أن القبورية قد ارتكبوا أنواعًا من الشرك الأكبر بالله سبحانه، وذلك بعبادتهم للقبور وأهلها. وبعدما عرفنا الشرك وأنواعه - ننتقل إلى المبحث الآتي - لنعرف كيف بدأ الشرك وكيف تطور؟ ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ليكون ذلك أبلغ رد من علماء الحنفية على القبورية؛ فنقول وبالله نستعين وبه نستغيث * إذ هو المستعان المعين المغيث *: ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 المبحث الثالث في مصدر الشرك بعبادة القبور وتطوره، ونشأة القبورية وانتشارهم في العالم عند علماء الحنفية وتحقيقهم: أن القبورية عبدة الأوثان وفيه مطالب ثلاثة: - المطلب الأول: في مصدر الشرك بعبادة القبور ونشأة القبورية عند علماء الحنفية. - المطلب الثاني: في تطور الشرك والقبورية، وانتشارهم في العالم عند علماء الحنفية. - المطلب الثالث: في تحقيق علماء الحنفية: أن القبورية أهل الشرك وثنية: عبدة الأوثان، وعباد القبور، والأنصاب، والأحجار والغارات، والأشجار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 المطلب الأول في مصدر الشرك بعبادة القبور وأهلها ونشأة القبورية عند علماء الحنفية لعلماء الحنفية جهود في بيان مصدر الشرك بعبادة القبور وأهلها ونشأة القبورية، والكلام هاهنا في أمور ثلاثة: الأمر الأول: في تصريح علماء الحنفية بأن الناس قبل نشأة القبورية كانوا موحدين كلهم: لقد صرح علماء الحنفية بأن الناس كانوا أمة واحدة على الإسلام موحدين متفقين على الحق والتوحيد، في زمن أبينا آدم عليه السلام إلى زمن قوم نوح عليه السلام، ثم اختلفوا بدسائس الشيطان وحيله ومكره الخفي، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] ، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الأمر الثاني: في مصدر عبادة القبور وكيف بدأ شرك عبادة القبور فيهم؟ لقد ذكر جمع من علماء الحنفية أثر ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] : (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح - في العرب بعد: أما ((ود)) فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما ((سواع)) فكانت لهذيل، وأما ((يغوث)) فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما ((يعوق)) فكانت لهمدان، وأما ((نسر)) فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع - أسماء رجال صالحين من قوم نوح؛ فلما هلكوا - أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون - أنصابًا، وسموها بأسمائهم؛ ففعلوا، فلم تعبد - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 حتى إذا هلك أولئك، وتنسخ العلم - عبدت) . قلت: لقد استدل الحنفية بهذا الأثر لبيان مصدر عبادة القبور وأهلها، وأن الشرك قد بدأ بعبادة القبور وأهلها بسبب غلوهم في الصالحين. الأمر الثالث: نشأة القبورية بعبادتهم للقبور وأهلها. انتبه أيها المسلم إلى تاريخ الوثنية - الذي ذكرت عن الحنفية نبذة منه في مصدر عبادة القبور آنفًا، وأن الشرك كيف بدأ فيهم؟ لقد عرفت أن الشرك بعبادة القبور بدأ؛ ثم تطور وانتشر في العالم بحيل الشيطان ومكره ولطيف تدبيره. وقد ذكر علماء الحنفية في بيان كيفية بداية عبادة القبور ونشأة القبورية، وأن الشيطان كيف استدرج الناس بحيله ومكره إلى الشرك بعبادة القبور، وكيف أدخل عليهم الشرك؟ حتى نشأت القبورية؛ فقالوا: إن هؤلاء الخمسة كانوا رجالًا صالحين ذوي شرف في قومهم فلما ماتوا حزن عليهم قومهم كثيرًا -؛ فجاءهم الشيطان في صورة إنسان، وقال لهم: حزنتم كثيرًا؟ فقالوا: نعم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فقال: هل لكم أن أصورهم لكم في قبلتكم إذا نظرتم إليهم - ذكرتموهم فيذهب حزنكم وتنشطون في العبادة - فقالوا: نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئًا نصلي عليه. فقال: أصورهم في مؤخرة المسجد، قالوا: نعم، فصورهم لهم، ثم لما تقدم الزمن وانقرضت الآباء والأبناء وأبناء الأبناء ونسي العلم جاء الشيطان في صورة الإنسان وقال لمن بعدهم: إن من كان قبلكم من سلفكم الصالح كانوا يعبدونهم؛ فعبدوهم، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية. أقول: تبين من هذا أنهم لم يكونوا يعبدون الأحجار كما تزعم القبورية بل كانوا يعبدون الصالحين، وقد صرح علماء الحنفية: أن عبادة القبور - هي أصل شرك العالم، وأن المشركين القبوريين قد ظهروا في عهد نوح عليه الصلاة والسلام بسبب عبادة هؤلاء الأولياء الخمسة، وعكوف القبورية في ذلك العهد على قبورهم، وبذلك وجدت القبورية على الأرض، ثم تطورت القبورية حتى انتشرت في العرب وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 هذه كانت قصة مصدر الشرك ومبدأ نشأة القبورية، وبدايتها؛ كيف بدأت؟ وكيف ظهرت؟ ذكرتها عن علماء الحنفية، وأما تطور شرك عبادة القبور على نطاق أوسع وانتشار القبورية في العالم - ففي المطلب الآتي: ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 المطلب الثاني في تطور الشرك بعبادة القبور وأهلها وانتشار القبورية في العالم عند علماء الحنفية وردهم على القبورية والكلام هاهنا في تحقيق عشرة أمور: الأمر الأول: في تحقيق أن أول فرقة قبورية هي قوم نوح عليه الصلاة والسلام؛ وأما سائر فرق القبورية فتبع لها. لقد تبين من كلام علماء الحنفية: أن الإشراك بالله تعالى أول ما ظهر وبدأ - إنما ظهر وبدأ في قوم نوح بمكر الشيطان وحيله الخفية المزخرفة اللطيفة وكيده لبني آدم في الإغواء والإضلال بسبب عبادة القبور وأهلها: فصار قوم نوح أول فرقة مشركة قبورية وثنية - ظهرت على وجه الأرض في تاريخ البشرية، وانشقت عن المسلمين الموحدين، فقبورية قوم نوح هم السلف الشرير السوء الطالح لكل مشرك قبوري ولجميع الفرق القبورية في شرق الأرض وغربها، عجمها، وعربها، تركها، وبربرها، هندها، وغيرها؛ سواء تنتمي إلى الإسلام أم إلى الرفض أم إلى الفلسفة، أم إلى الصوفية، أم إلى الكلام، أم إلى ملة من ملل الكفر ونحله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 فعبادة القبور هي أصل شرك العالم، وقبورية قوم نوح هي أم القبوريات؛ ثم انتشرت القبورية في اليهود والنصارى والعرب والعجم من الهند والترك والبربر وغيرهم؛ فقد قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) ، والعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) ، واللفظ للأول، في بيان مبدأ عبادة القبور وتطور القبورية في العالم: (فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ... ؛ ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم؛ بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم: من الهند، والترك والبربر، وغيرهم؛ تارة يعتقدون: أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء ويتوسلون بهم إلى الله؛ وهذا أصل شرك العرب؛ قال الله تعالى حكاية عن قوم نوح؛ {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] ؛ وقد ثبت في صحيح البخاري وكتب التفسير، وقصص الأنبياء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من السلف: أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح؛ فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم، وأن هذه الأصنام بعينها - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 صارت إلى قبائل العرب؛ ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما قبيلة قبيلة) . وقال الإمامان: محمد البركوي (981هـ) وأحمد الرومي (1043هـ) ، والشيخان: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي - في تحقيق مبدأ عبادة القبور وأهلها، ونشأة القبورية وتطورها وانتشارها في العالم، مبينين أن القبورية قديمًا وحديثًا يعبدون الصالحين دون الأحجار، واللفظ للأول: (ومن أعظم مكائده - أي الشيطان - التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته - ما أوحاه قديمًا وحديثًا إلى حزبه وأوليائه: من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله تعالى، وعبدت قبورهم، واتخذت أوثانًا، وبنيت عليها الهياكل، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجسادًا لها ظل، ثم جعلت أصنامًا، وعبدت مع الله تعالى، وكان ابتداء هذا الداء العظيم في قوم نوح) ، ثم ساقوا أثر ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية المذكورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 كما نقلته عن ابن أبي العز آنفًا، ثم قالوا: (وكان هذا مبدأ عبادة الأصنام: فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل؛ وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ،: «أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح - بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله» . ففي هذا الحديث: ما ذكر من الجمع بين التماثيل والقبور) . قلت: لقد ظهر من كلام هؤلاء الأعلام من الحنفية: أن القبورية نشأت في قوم نوح، ثم تطورت وانتشرت فيمن بعدهم من الأقوام والأمم حتى جاءت نوبة اليهود والنصارى؛ فهم صاروا من أعظم فرق القبورية وشرارها حتى آل الأمر إلى جزيرة العرب؛ فكان العرب في الجاهلية من أعظم قبورية العالم؛ وكانوا جميعًا قد جمعوا بين فتنتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 فتنة الشرك بعبادة القبور. وفتنة الصور والتماثيل. كما تبين من ذلك أنهم كانوا يعبدون الصالحين دون الأحجار لا كما يزعم القبورية. الأمر الثاني: في تحقيق أن مشركي العرب كانوا قبورية كسلفهم قوم نوح عليه السلام. أقول: بالنسبة إلى مشركي العرب في الجزيرة وكونهم قبورية فالأمر أوضح وأشهر من أن يبرهن عليه ويذكر؛ فإنهم كانوا قبورية يعبدون القبور وأهلها، فقد صرح الإمام محمود الآلوسي (1170هـ) : أن ((اللات)) كان رجلًا من ثقيف يلت السويق بالزيت؛ فلما توفي جعلوا قبره وثنًا، وأنه كان يلت السويق على الحجر؛ فلا يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه، وعبدوا ذلك الحجر إجلالًا. وذكر الشيخ جوهر الرحمن. عن الحافظ ابن كثير (774هـ) قوله: (فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 قلت: فإن قيل ماذا كان نوع عبادة العرب لللات؟ قلت: لقد صرح الحنفية بأنهم كانوا يستعينون به عند الشدائد كدأب قبورية اليوم وبذلك كفروا وأشركوا بالله في عبادته؛ قال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) : (وكفر الله مشركي مكة لقولهم لرجل سخي كان يلت السويق للحاج: إنه نصب منصب الألوهية؛ فجعلوا يستعينون به عند الشدائد) . قلت: هذا كله برهان بل براهين على أن مشركي العرب من أعظم فرق القبورية في العالم، وأنهم أقحاح في القبورية، ومنه تبين أن المشركين كانوا يعبدون الصالحين دون الأحجار لا كما هو زعم القبورية الآن. ومن أعظم الحجج الباهرة القاهرة على أن مشركي العرب كانوا قبورية يعبدون القبور وأهلها - نهي النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الإسلام عن زيارة القبور؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» . وقال صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها ولا تقولوا هجرا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 قلت: ولقد علل كثير من علماء الحنفية نهي النبي صلى الله عليه وسلم هذا عن زيارة القبور في بداية الإسلام؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف عليهم، لكون القبور مبدأ لعبادة الأصنام في العرب وقبلهم، فنهاهم أولًا لكونهم حديثي عهد بالشرك سدا لذريعة الشرك وحماية لحمى التوحيد؛ لأن زيارة القبور كانت تفتح عليهم باب عبادة القبور وأهلها؛ ثم لما تمكن التوحيد في قلوبهم واطمأنت نفوسهم على تحريم عبادة غير الله - أذن لهم في زيارة القبور للتزهيد في الدنيا وتذكير الآخرة والدعاء للأموات بالمغفرة. أقول: انتبه أخي المسلم إلى أن النبي أذن لهم فيما بعد في زيارة القبور، ولكن حذرهم من الشرك وشوائبه بقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تقولوا هجرا» . وقد صرح علماء الحنفية في شرح كلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا: ((هجرا)) : (هجرًا: أي فحشًا: وأي فحش أعظم من الشرك عندها قولًا وفعلًا؟!) . قلت: بعد هذا لا حاجة إلى البرهنة على أن مشركي العرب كانوا قبورية أقحاح بأكثر من هذه البراهين القاهرة الباهرة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 فلقد تبين من هذه النصوص أن المشركين كانوا يعبدون الصالحين المقربين عند الله على زعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، ولم يكونوا يعبدون الأحجار لذاتها؛ لا كما هو زعم القبورية الكذبة مبررين شركهم بالأكاذيب؛ ولذلك قال الشيخ ابن آصف الفنجفيري الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن بعد سرد أقوال المفسرين: (فاتفقت كلمتهم على أن المشركين [كانوا] يدعون العباد الصالحين ويتوسلون بهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ... ، ويعطون النذور لهم باعتقاد أنهم يقربونا إلى الله زلفى فكان شركهم العبادة للمقبورين والدعاء من الغائبين والأموات أن أصحاب القبور يسمعون الدعاء والنداء ويعلمون السر وأخفى ويتصرفون في الأمور كيف يشاءون) . الأمر الثالث: في تحقيق أن اليهود والنصارى - كانوا قبورية أقحاحًا. أما اليهود والنصارى - فقد سبق في نصوص علماء الحنفية: أنهم من شر القبورية الذين كانوا يعبدون الصالحين ويتخذون قبورهم مساجد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وقد نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قريبًا فكانوا يعبدون القبور وأهلها، مع ارتكابهم فتنة التماثيل والصور بجانب فتنة الشرك بعبادة القبور وأهلها، ويوضح هذا أن كثيرًا من علماء الحنفية - قد استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وفي لفظ «عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه - وفي لفظ: ((مات فيه)) -: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت: (ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا) » . ورواه أبو هريرة رضي الله عنه أيضًا بهذا اللفظ على تحريم اتخاذ القبور مساجد والبناء على القبور، وأن ذلك من أعظم وسائل الشرك ووسائل عبادة القبور وأهلها قديمًا وحديثًا؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وهذا كله حجج ساطعة وأدلة قاطعة على أن اليهود والنصارى من أعظم فرق القبورية في العالم وأشرارها. الأمر الرابع: في تحقيق أن جميع الأمم من المشركين كانوا قبورية. الظاهر أن جميع الأمم من المشركين كعاد وثمود ومدين وغيرهم - كانوا قبورية كسلفهم قوم نوح عليه السلام؛ لما ذكره علماء الحنفية من قول النبي صلى الله عليه وسلم قولًا عاما شاملًا لجميع المشركين قبل العرب: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك» ، قاله قبل أن يموت بخمس. وقد استدل بهذا الحديث جمع من علماء الحنفية؛ فدل ذلك على أن جميع الأمم المشركة كانوا قبورية. الأمر الخامس: في تحقيق أن فلاسفة اليونان كانوا قبورية أجلادا. لقد صرح الرازي (606هـ) بأن فلاسفة اليونان كانوا يستمدون الفيوض من القبور وأهلها إذا اعترتهم مشكلة من المشكلات وكان الفلاسفة من تلاميذ أرسطو إذا دهمتهم نازلة - ذهبوا إلى قبره للحصول على المدد والفيض، وهكذا يعبدون القبور وأهلها؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 كعادة قبورية هذه الأمم، قلت: هذا الرازي من أعظم أئمة القبورية ولا سيما الكوثري والكوثرية. فإن الكوثري ينهل من قبورياته المستنقعات، ويعتمد على بحوثه الكلامية غاية الاعتماد، حتى نقل كلامه عن هذه الصفحة من مطالبه ويقول: إن الأئمة: الرازي والتفتازاني والجرجاني من كبار أئمة أصول الدين الذين يفزع إليهم في المشكلات ومعرفة الإيمان والكفر والتوحيد والشرك، معظمًا كتاب المطالب العالية. والفلاسفة اليونانية الوثنية المشركة من أعظم السلف للديوبندية في الاستفاضة من القبور!؟! . الأمر السادس: في تحقيق أن المتفلسفة في الإسلام أمثال الفارابي (339هـ) الضال الكافر وابن سينا الحنفي القرمطي (428هـ) ونصير الشرك الطوسي الساحر الوثني (672هـ) . الذين لعبوا بالإسلام ما لعب بولس بالنصرانية - كانوا من أعظم القبورية الوثنية الأجلاد، ولهم تفلسف في زيارة القبور الشركية والوثنية - في غاية الضلال والإضلال؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 كما ذكره عنهم كثير من علماء الحنفية، وسيأتي نص كلامهم بالتفصيل إن شاء الله تعالى. الأمر السابع: في تحقيق أن الروافض بجميع فرقهم قبورية أجلاد وثنية أقحاح؛ فهم أول من وضع الأحاديث القبورية والروايات الوثنية - لزيارة المشاهد، فعطلوا المساجد وعمروا المشاهد التي كانوا يشركون فيها. ولهذا كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين؛ إذ عمروا المشاهد وعطلوا المساجد؛ وألف بعض أعناقهم كتابًا وثنيا سماه ((مناسك حج المشاهدة)) ؛ مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام؛ ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام؛ ودخول في دين عبادة الأصنام كما صرح بذلك علماء الحنفية. وقد بني مشهد الحسين بن علي رضي الله عنهما بالقاهرة بأيدي الروافض. الأمر الثامن: في تحقيق: أن الصوفية قبورية؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 بل هم أشنع قبورية هذه الأمة على الإطلاق وأبشعها؛ فهم ملاحدة اتحادية وزنادقة حلولية، يعبدون القبور وأهلها على طريقة الوثنية. ولعلماء الحنفية كلام قامع لهم، قاطع لدابرهم، قالع لشبهاتهم؛ قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) مبينًا كثرة القبورية وانتشارهم في البلاد والعباد، وأنهم أشنع شركًا من المشركين السابقين: (وأما من ينتسب إلى طريقة من الطرائق الكثيرة - فعنده: أن الاستمداد من روحانية مشائخهم والاستغاثة بهم من الواجبات الشهيرة؛ فلا حفظ الله لهم حريمًا * ولا صان لهم أديمًا * نسأله أن يطهر الأرض من أمثالهم * ويريح المسلمين من كفرهم وإضلالهم) . الأمر التاسع: في تحقيق أن كثيرًا من المتكلمين من الماتريدية والأشعرية وغيرهم - قبورية؛ لتأثرهم بالفلاسفة والمناطقة والصوفية، وجعلهم حقيقة توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية كما سبق على لسان علماء الحنفية. الأمر العاشر: أن كثيرًا بل أكثر من ينتمون إلى المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة قبورية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ولعلماء الحنفية جهود في كشف الستار عن أسرارهم وكتب ألفوها في قمعهم وقلع شبهاتهم؛ وهؤلاء القبورية المنتسبة إلى الأئمة الأربعة - فرق وألوان * وصنوف وأفنان *؛ وهم أكثر من أهل التوحيد - تكتظ بهم البلاد والبلدان *؛ كما سيأتي تفصيل ذلك على لسان علماء الحنفية الرادين على القبورية؛ فهم - كما قال الإمام الآلوسي (1270هـ) : (عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر: ممن الله تعالى أعلم بحاله فيها؛ وهم اليوم أكثر من الدود) . وقال ابن آصف الفنجفيري الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن: (وقد صنف العلماء الربانيون في ردهم تواليفًا، وشنعوا عليهم تشنيعًا بليغًا، لكن الزائغين المحرفين في دين الله يبتغون لذلك حيلًا، وأسسوا قواعد مزخرفًا بالأقوال المموهة الباطلة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 والعجب عن بعض من ينتمون أنفسهم بشيوخ الحديث فيدرسون في المشاهد دروسًا، ويقولون: قال الله تعالى، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكتمون الحق ويغمضون البصر مما يرون عباد القبور عليها عكوفًا، وينحرون عندها نذورًا، يمسحون أجداثًا، وشرعوا دينًا لم يأذن به الله؛ أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالواحد الصمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وكم نحروا في سوحها من بحيرة ... أهلت لغير الله جهلًا على عمد وكم طائف عند القبور مقبلًا ... ويلتمس الأركان منهن بالأيدي فيجب على علماء الإسلام إزالة مواضع الشرك وهدم الطواغيت) . قلت: لقد عرفت بالتجربة والاستقراء وبما قرأت وبما سمعت: أن أكثر القبورية في المنتسبين إلى المذاهب الأربعة - هم الحنفية لكثرتهم ونفوذ سلطانهم ودولهم في شرق الأرض وغربها، من صينها إلى مغربها؛ وهندها، وأفغانها، وتركها، وشامها، ومصرها، ورومها، وغيرها من البلاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ولكثرة الفرق الضالة المبتدعة في الحنفية أيضًا. ثم في الشافعية، ثم في المالكية، ونزر قليل من الحنابلة؛ لكون عامة الحنابلة من أهل الحديث والأثر والسنة المحضة ولكونهم أقل عددًا من بقية أهل المذاهب. وأقول: هذه كانت نبذة من تاريخ القبورية الوثنية، من لدن قوم نوح عليه السلام؛ مرورًا بعامة الأمم من المشركين؛ أمثال عاد، وثمود، ومدين، بل اليهود والنصارى، فضلًا عن مشركي العرب، والعجم، في الجزيرة، والهند، وفارس، والروم، وغيرها؛ بل فلاسفة اليونان، من المناطقة المشائية، والصوفية الإشراقية؛ ومن طريق هؤلاء دخل شرك القبور إلى المتفلسفة في الإسلام أمثال الفارابي وابن سينا والطوسي، فهم قبورية أجلاد، وإلى الروافض بصفة عامة، فهم قبورية أقحاح، كما أن الصوفية قديمًا وحديثًا قبورية وثنية حلولية اتحادية إلا من شاء الله منهم، ثم من طريق الصوفية والروافض، وهؤلاء المتفلسفة - تسربت القبورية إلى كثير من المتكلمين، ومنهم جميعًا إلى كثير من المنتسبين إلى المذاهب الأربعة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 حتى طمت القبورية، وشملت الوثنية البلاد * وعادت الجاهلية الأولى وعمت العباد *؛ إلا من شاء الله تعالى وما شاء. حتى أصيب بهذا الداء العضال كثير من أهل الفقه والعلم والفضل والزهد، وهم لا يدرون ولا يشعرون * إنا لله وإنا إليه راجعون * فضلًا عن العوام * الذين هم في الجهل كالأنعام *؛ وسيأتي لذلك مزيد تفصيل وتحقيق على لسان علماء الحنفية في الرد على القبورية؛ فاستمع لما في المطلب الآتي وما في الفصل بعده من عجائب انتشار القبورية في هذه الأمة وغرائب نفوذهم في البلاد والعباد، وأن القبورية فرقة مشركة، وثنية يعبدون القبور وعباد الأوثان وعبدة الأنصاب، إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لتكون على علم تام أن القبورية في إنكارهم وجود الشرك فيهم - إما منخدعون، جاهلون ممرضون * وخادعون مغالطون متجاهلون. فنقول وبربنا الرحمن نستغيث ونستعين * إذ هو المغيث المستعان المعين *: ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 المطلب الثالث في تحقيق علماء الحنفية أن القبورية أهل الشرك وثنية عبدة الأوثان وعباد القبور والأنصاب والأحجار لقد أقام علماء الحنفية عدة براهين قاطعة وكثيرًا من الحجج الساطعة على كون القبورية أهل شرك وثنية عبدة الأوثان والقبور. فأريد أن ألخص أهم ما برهنوا به على ذلك في وجوه: الوجه الأول: أن علماء الحنفية قد حققوا أن القبورية يرتكبون أنواعًا من الشرك الأكبر بعبادة القبور وأهلها: من السجدة لها والطواف بها واتخاذها مساجد، والحج إليها ونحوها، والصوم لأصحابها والنذور لهم، والاستغاثة بهم في الملمات واعتقاد علم الغيب فيهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وإثبات التصرف في الكون لهم، وغيرها من العقائد الشركية الكفرية الوثنية. فتحقق أن القبورية؛ عبدة القبور وعباد الأوثان، ووثنية وأهل الشرك. الوجه الثاني: أنه قد حقق علماء الحنفية أن القبورية أشد شركًا من المشركين السابقين؛ من حيث إنهم كانوا يخلصون الدعاء لله وحده في الملمات والكربات، بخلاف القبورية؛ فإنهم يستغيثون بالأموات عند إلمام الملمات؛ بل القبورية قد وصلوا في الشرك والكفر إلى حد - رجحوا الاستغاثة بالأموات عند الكربات، على الاستغاثة برب البريات، وقالوا: جهارًا بدون حياء ولا إسرار: إن المكروب تضره الاستغاثة بالله عند البليات، بخلاف استغاثته بالولي فإنه أسرع إجابة من الله!؟! فتحقق أن القبورية أهل الشرك مناقضون للتوحيد على أقل تقدير بلا ريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 الوجه الثالث: أن علماء الحنفية قد حققوا: أن القبورية أعظم عبادة للقبور وأهلها منهم لله في المساجد وأوقات الأسحار، وأن خوفهم من الأموات أشد من خوفهم من الله تعالى، وهذا سلطان قاهر وبرهان باهر وحجة قاطعة ساطعة على أن القبورية أهل شرك، وعباد القبور بلا امتراء. الوجه الرابع: أن القبورية لما كانوا يعبدون القبور وأهلها - صح - عند علماء الحنفية - إطلاق عدة أسماء وصفية تشعر بأنهم وثنية، أهل شرك، عابدو غير الله جل وعلا؛ وليس هذا من باب نبذ الألقاب بل من باب بيان الحق والجرح، فمنها ما يلي: 1 - عباد القبور. 2 - عبدة القبور. 3 - أهل الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 4 - أشباه عباد الأصنام. 5 - هم من جنس عباد الأصنام، والأوثان. 6 - المقابرية. 7 - القبوريون. 8 - الوثنية. 9 - المشركون. 10 - عبدوا القبور وأصحابها. 11 - عابدو القبور. 12 - أشباه النصارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الوجه الخامس: أن علماء الحنفية قد حققوا: أن ((القبر)) إذا عبد من دون الله تعالى - يصير ((وثنا)) من الأوثان التي عبدت وتعبد من دون الله: فالوثن أعم من الصنم؛ فيشمل القبر وكل ما عبد من دون الله؛ فإن الصنم ما كان له جسم أو صورة، وينقش، والوثن يطلق على ما لم يكن له صورة فالوثن عام، فقد يطلق الوثن على الصليب أيضًا، وعلى كل ما يشغل عن الله تعالى. وبناء على أن القبورية جعلوا القبور أوثانًا يعبدونها من دون الله - صح أنهم وثنية، كما صح أنهم عباد القبور، وتحقق أنهم أهل الشرك بلا شك. الوجه السادس: أن علماء الحنفية قد ذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 «وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . واستدلوا به على أن القبر إذا سجد إليه وعبد - يصير وثنًا من الأوثان التي تعبد من دون الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ولذلك ترى علماء الحنفية يطلقون كلمتي ((الوثن)) و ((الأوثان)) على القبور التي عبدتها وتعبدها القبورية في أكناف العالم. وهذا كله برهان باهر وسلطان قاهر على أن القبورية وثنية، مشركة، عبدة القبور وعباد الأوثان، والله المستعان؛ قال الشيخ الرستمي: (فصح أن القبر الذي ينقل بالنذور إليه ويسجد له ويدعى صاحبه في الحاجات ويعبد؛ فهو داخل في الوثن والصنم والنصب، فما قال تعالى في كتابه في شأن الأنصاب يشمل القبر ... وما قال في شأن الأوثان يشمل القبور أيضا) . تنبيه النبيه: على سؤال وثني خلفي * وجواب حنفي سلفي حنيفي * لقد رمى النبهاني (1350هـ) الإمام ابن القيم (751) رحمه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 بالتناقض؛ فقال: (إن ابن القيم عبر عن القبر المزور بالوثن. لكنه تناقض؛ حيث قال: ولقد نهانا أن نصير قبره ... عيدًا حذار الشرك بالديان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثنًا من الأوثان فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان انظر إلى تناقضه! ، فإنه أولًا قرر أن القبر المزور وثن من الأوثان، وفي هذه الأبيات قرر أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس بوثن؛ مع أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أعظم القبور المزارة) . الجواب: لقد أجاب عن هذه الشبهة العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) : بأن المراد من القبور التي جعلت أوثانًا - القبور التي تكون في الصحراء، أو في مكان يصل إليه الزائرون، بحيث يسجدون إليه ويتمسحون به، ويتمكنون من الوصول إليه ليعبدوه؛ كما يتمكن الوثنيون من الوصول إلى أوثانهم، بخلاف قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 فإنه قد دعا ربه تبارك وتعالى أن لا يجعل قبره وثنًا؛ فاستجاب له، وأحاط قبره بثلاثة من الجدران؛ فلا يمكن لأحد من القبورية الوثنية أن يصل إليه؛ ويؤيده قول عائشة رضي الله عنها في تعليل عدم إبراز قبره صلى الله عليه وسلم: (ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا) ؛ فالآن بحمد الله تعالى لا يمكن لأحد من القبورية الوثنية أن يصل إليه ليعبده ويسجد إليه، ويتخذه مسجدًا ووثنًا. الوجه السابع: أن علماء الحنفية قد حققوا: أن الأنصاب جمع نصب بضمتين أو بالفتح والسكون وهو كل ما نصب وعبد من دون الله: من شجر أو حجر، أو قبر ونحوه، فالنصب أعم من هذه كلها؛ فإنه كل ما ينصب ليعبد، ((فالقبر)) إذا عبد من دون الله - صح أن يطلق عليه ((النصب)) ؛ فإن من عظيم كيد الشيطان ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام، وهي رجس من عمل الشيطان، وأصل اللفظ: ((المنصوب)) ، فالفعل بمعنى المفعول؛ كالخلق بمعنى المخلوق؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فالنصب هو الذي يقصده من رآه، سواء كان شجرًا، أو عمودًا، أو قبرًا، أو غير ذلك؛ وأعظم هذه الأنصاب - القبور التي نصبت وجعلت أنصابًا تعبد من دون الله، وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب - هي فتنة هذه القبور التي جعلت أنصابًا وأوثانًا تعبد من دون الله؛ فإن الشيطان ينصب لهم قبر رجل معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنًا يعبد من دون الله. الحاصل: أنه ثبت من هذا أن القبورية عبدة الأنصاب كما أنهم عبدة الأوثان. الوجه الثامن: أن علماء الحنفية قد برهنوا على أن القبورية ليسوا عباد القبور وأهلها فقط؛ بل هم عباد مغارات وعبدة الأشجار والأحجار والآبار أيضًا؛ 1- فقد ذكر الشيخ مسعود الندوي (1373هـ) أن أكثر المسلمين في العالم الإسلامي قبيل مجدد الدعوة الإمام (1206هـ) كانوا على طريقة الوثنية الأولى: يعبدون القبور والأشجار والمغارات، ويرتكبون من السفاهات والحماقات ما يسخر منه الكفار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 المستشرقون. 2 - وقد ذكر علماء الحنفية: أن القبورية عباد القبور أشباه عباد الأصنام قد وضعوا لتبرير إشراكهم بالله عدة من الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. منها أخلوقتهم الوثنية وأسطورتهم الشركية: ((لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه)) . 3 - وقد صرح العلامة محمود شكري الآلوسي بأن القبورية يطلبون قضاء الحاجات من الأحجار والآبار * والصخور والأشجار * أيضًا. قلت: هذا برهان باهر وسلطان قاهر على أن القبورية عباد الأحجار أيضًا؛ كما أنهم عبدة الأوثان والأنصاب والغارات والأشجار فضلًا عن كونهم عباد القبور وأهلها، فتحقق: أن القبورية وثنية أجلاد أهل شرك أقحاح وعباد غير الله أصلاب. وأقول: لأجل أن فتنة الشرك بقبر رجل معظم - أشد وأعظم وأسرع سراية إلى القلوب - قال علماء الحنفية: كالبركوي (981هـ) والرومي (1043هـ) والشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، واللفظ للأول: (فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه - أسرع إلى النفوس - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 من الشرك بشجر أو حجر؛ ولذا نجد كثيرًا من الناس عند القبور يتضرعون ويخشون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم - عبادة لا يفعلونها في مساجد الله تعالى ولا في وقت السحر، ومنهم يسجد لها؛ وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها ولديها ما لا يرجون في المساجد) . قلت: لقد تبين وتحقق من هذا كله: أن القبورية - عند الحنفية - عباد ((الأنصاب)) أيضًا، كما أنهم عبدة ((الأوثان)) ، بل هم عباد الأحجار والأشجار والمغارات أيضًا. الحاصل: أن هذه المباحث والتحقيقات الدقيقة المحققة براهين باهرة وسلاطين قاهرة وأدلة ساطعة وحجج قاطعة على أن القبورية - فرقة مشركة، وثنية، يعبدون القبور والأحجار والأشجار والمغارات والأنصاب والأوثان. وبهذا كله تبين بطلان زعم القبورية: أن المشركين كانوا عباد الأوثان والأنصاب والأحجار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بخلاف زوار القبور فإنهم يستغيثون بالأولياء ويتوسلون بالصالحين إلى الله؛ فهم ليسوا بمشركين، ولا عباد الأنصاب والأوثان؛ بل هم مؤمنون موحدون. قلت: بعد ما عرفنا: أن القبورية فرقة مشركة وثنية، عباد الأنصاب، وعبدة الأوثان؛ بل عباد الأحجار والأشجار والمغارات - ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في بيان انتشار القبورية في شرق الأرض وغربها، كما نعرف جهودهم في الرد على شبهات القبور في هذا الصدد؛ * مستغيثين بربنا الرحمن * المستعان على ما يصفون * * إذ هو المغيث المعين؛ * فإياه نعبد وإياه نستعين * ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 المبحث الأول في تحقيق علماء الحنفية أن الشرك موجود في القبورية، وأن القبورية عمت البلاد وطمت العباد، إلا من رحمه الله، بذكر أمثلة من إشراك القبورية بعبادة القبور وأهلها في شرق الأرض وغربها، الموجودة في أكثر البلاد، والتي ارتكبها أكثر العباد وفيه مطلبان: - المطلب الأول: في تاريخ القبورية إجمالًا. - المطلب الثاني: في جهود علماء الحنفية في بيان أن الشرك بعبادة القبور وأهلها قد طم البلاد وعم العباد إلا من شاء الله تعالى من أهل التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الفصل الثاني في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن الشرك موجود في القبورية من هذه الأمة وأنه انتشر شرقًا وغربًا وردهم على القبورية في ذلك وفيه مباحث ثلاثة: - المبحث الأول: في تحقيق علماء الحنفية أن الشرك موجود في القبورية في شرق الأرض وغربها، وأن القبورية قد عمت البلاد وطمست العباد إلا من رحمه الله. - المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في المقارنة بين القبورية وبين الوثنية الأولى، وتحقيق أن القبورية أشد شركًا من مشركي العرب في باب الاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات. - المبحث الثالث: في جواب الحنفية عن شبهة القبورية التي تشبثوا بها من إنكار وجود الشرك في هذه الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 المطلب الأول في تاريخ القبورية إجمالًا لقد سبق على لسان علماء الحنفية: أن القبورية نشأت من قوم نوح عليه الصلاة والسلام؛ ثم انتشرت وتطورت وعمت جميع الأمم من المشركين كعاد، وثمود، ومدين، وغيرهم، ثم اليهود والنصارى، فضلًا عن العرب في الجاهلية، وكذا الفلاسفة بيونان، ومن طريق هؤلاء الأمم تسربت القبورية إلى الروافض والصوفية والمتفلسفة في الإسلام ومن هؤلاء جميعًا دخلت عبادة القبور وأهلها - على المنتسبين إلى المذاهب الأربعة؛ ففي الحنفية أكثر، ثم في المالكية والشافعية، وفي الحنابلة نزر قليل؛ فعمت العباد وطمت البلاد إلا من شاء الله تعالى من أهل التوحيد، وتوضيح ذلك وتحقيقه في المطلب الثاني على لسان علماء الحنفية بشيء من التفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 المطلب الثاني في جهود علماء الحنفية في بيان أن الشرك بعبادة القبور وأهلها قد طم البلاد وعم العباد من هذه الأمة إلا من شاء الله تعالى من أهل التوحيد لقد سرح علماء الحنفية أنظارهم في أحوال القبورية من هذه الأمة فحققوا أنهم انتشروا في شرق الأرض وغربها * وسهولها وجبالها * وقراها ومدنها * وبلادها وعبادها * وهندها وأفغانها * وتركها ورومها * وما وراء نهرها* ومصرها وشامها * ونحوها: برها وبحرها * وبهذا قد كذب علماء الحنفية دعوى القبورية في عدم وقوع الشرك في هذه الأمة لأن القبورية قد ادعوا لتبرير شركياتهم: أن الشرك غير واقع وغير موجود، وأن المؤمنين الموحدين وزوار القبور المستغيثين بالأولياء - لا يشركون بالله ولا يعبدون الأولياء ولا قبورهم، وإنما يعظمونهم ويستعينون بهم وينذرون لهم ويتوسلون بهم إلى الله عز وجل. وفيما يلي أسوق نصوص علماء الحنفية التي تكذب القبورية وتثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وجود الشرك فيهم بأوسع ما يكون وأن القبورية اتبعوا سنن اليهود والنصارى والمشركين حذو النعل بالنعل شبرًا بشبر والقذة بالقذة. 1 - 8 - قال الإمام قاسم بن قطلوبغا (879هـ) ، وتبعه ابن نجيم الملقب بأبي حنيفة الثاني (970هـ) وخير الدين الرملي (993هـ) وسراج الدين عمر بن نجيم (1005هـ) ، وعلاء الدين الحصكفي (1088هـ) وابن عابدين الشامي (1252هـ) ، والعلامتان: شكري الآلوسي (1342هـ) والخجندي (1379هـ) ، واللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 للأول؛ مبينين أحوال القبورية في عصورهم وعبادتهم لغير الله بالنذور والنداء والاستغاثة، وغيرها من أنواع العبادة: (وأما النذر الذي ينذره أكثر العوام - على ما هو مشاهد - كأن يكون لإنسان غائب، أو مريض، أو له حاجة ضرورية؛ فيأتي بعض قبور الصلحاء فيجعل ستره على رأسه؛ فيقول: يا سيدي فلان! إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي؛ فلك من الذهب كذا، ومن الفضة كذا، ومن الطعام كذا، ومن الماء كذا، ومن الشمع كذا، ومن الزيت كذا: فهذا النذر باطل بالإجماع؛ لوجوه: منها: أنه نذر لمخلوق؛ والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون للمخلوق. ومنها: أن المنذور له ميت؛ والميت لا يملك. ومنها: [أنه] إن ظن: أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى، واعتقاده ذلك كفر ... ) ؛ وزاد الحصكفي: (وقد ابتلي الناس بذلك ولا سيما في هذه الأعصار) ، وزاد ابن عابدين: (ولا سيما في مولد السيد أحمد البدوي) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وحكاه عن النهر الفائق. قلت: يظهر من هذا النص أن أكثر العوام في عصور هؤلاء العلماء الحنفية كانوا يستغيثون بالأموات * عند إلمام الملمات * وينذرون لهم أنواعًا من النذور عند الكربات * ولا يقصدون القبور إلا لهذه الشركيات معرضين عن دعاء رب البريات * وهذه وثنية سافرة * قبورية فاجرة * وهذا من أعظم الحجج على وجود الشرك في القبورية وانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها. 9 - وقال الإمام البركوي (981هـ) مبينًا كثرة القبورية في بلاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 الروم والترك؛ ناقمًا عليهم كاشفًا لعوراتهم، مشتكيًا إلى الله عز وجل، ذاكرًا سبب تأليف كتابه في الرد على القبورية: (وبعد: فهذه أوراق انتخبتها من ((إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان)) للشيخ الإمام العلامة ابن القيم ..... ؛ لأن كثيرًا من الناس في هذا الزمان - جعلوا بعض القبور كالأوثان: يصلون عندها ويذبحون القربان .... ؛ ومن أعظم مكائده [أي الشيطان] التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته - ما أوحاه قديمًا وحديثًا إلى حزبه، وأوليائه: من الفتنة بالقبور؛ حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله تعالى، وعبدت القبور، واتخذت أوثانًا، وبنيت عليها الهياكل) . 10 - 11 - وقال الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني ومجدد الألف الثاني (1034هـ) ، وتبعه الشيخ محمد مراد المنزاوي المكي (؟) . مشتكيًا حال القبورية إلى الله مبينًا أن الشرك قد عم وطم في جهلة أهل الإسلام رجالًا ونساء في الهند بطولها وعرضها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 (التبري من الكفر شرط الإسلام، والاجتناب عن شائبة الشرك توحيد، والاستمداد من الأصنام والطاغوت في دفع الأمراض والأسقام كما هو شائع فيما بين جهلة أهل الإسلام - عين الشرك والضلالة ... ، وأكثر النساء مبتليات بهذا الاستمداد الممنوع عنه بواسطة كمال الجهل فيهن يطلبن دفع البلية من هذه الأسماء الخالية عن المسميات، ومفتونات بأداء مراسم الشرك وأهل الشرك، خصوصًا وقت عروض مرض الجدري ... ، فإن ذلك الفعل مشهود ومحسوس، من خيارهن وشرارهن، في ذلك الوقت؛ بحيث لا تكاد توجد امرأة خالية من دقائق هذا الشرك ... ؛ إلا من عصمها الله تعالى ... ، كما أن جهله أهل الإسلام خصوصًا طائفة نسائهم - يؤدون رسوم أهل الكفر ... ؛ وكل ذلك شرك وكفر بدين الإسلام؛ قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] ، وما يفعلونه من ذبح الحيوانات عند قبور المشائخ المنذورة لهم - جعله الفقهاء أيضًا في الروايات الفقهية داخلًا في الشرك ... ؛ ومثل ذلك صيام النساء بنية المشائخ ... ؛ ويطلبن حوائجهن منهم بواسطة تلك الصيام، ويزعمن قضاء حوائجهن منهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وهذا الفعل إشراك للغير في عبادة الله تعالى وطلب لقضاء الحوائج من الغير بواسطة العبادة إليه) . 12 - 14 - وقال الإمام أحمد الرومي في (1043هـ) ؛ مبينًا حال القبورية في بلاد الشرك والروم، وتبعه الشيخان: سبحان بخش الهندي (؟ هـ) ، ومحمد إبراهيم السورتي (؟ هـ) ، واللفظ للأول: (قال ابن القيم في إغاثته نقلًا عن شيخه [شيخ الإسلام] : إن هذه العلة [أي العكوف على القبور، وإيقاد السرج عليها]- التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ القبور مساجد - هي التي أوقعت كثيرًا من الناس، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 من الشرك؛ فإن الشرك؛ بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه - أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو حجر؛ ولهذا تجد كثيرًا من الناس عند القبور يتضرعون ويخشعون ويعبدون بقلوبهم - عبادة لا يفعلون مثلها في بيوت الله تعالى ولا في وقت السحر، ويرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء لديها - ما لا يرجون في المساجد ... ) . قلت: في هذا النص يبين لنا شيخ الإسلام (728هـ) وابن القيم الهمام (751هـ) . حالة القبورية في الشام ومصر؛ ويبين لنا الإمام أحمد الرومي (1043هـ) أحوال القبورية في البلاد الرومية، كما يبين لنا الشيخان: سبحان بخش، والسورتي حالة القبورية في الديار الهندية وأنهم على كثرتهم يرتكبون الشرك بعبادة القبور وأهلها. 15 - 18 - وقال الإمام صنع الله الحلبي المكي (1120هـ) ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 مبينًا سبب تأليف كتابه ((سيف الله ... )) كاشفًا عن أسرار القبورية الأستار بذكر عقائدهم الشركية الوثنية، وتبعه العلامتان: شكري الآلوسي (1342هـ) والخجندي (1379هـ) وشيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) واللفظ للأول: (هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات * يدعون أن للأولياء تصرفًا في حياتهم وبعد الممات *، ويستغاث بهم في الشدة والبليات * وبهممهم تكشف المهمات * فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات *؛ مستدلين على أن ذلك منهم كرامات * ...... ) . قلت: هذا النص بين لنا فيه الشيخ صنع الله أحوال القبورية التركية والرومية ويبين فيه لنا الآلوسي أحوال القبورية العراقية، ويبين فيه لنا الخجندي أحوال القبورية بما وراء النهر ويبين فيه لنا الفنجفيري أحوال القبورية بباكستان وأفغانستان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وفي ذلك عبرة للقبورية أيما عبرة!!! 19 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) مبينًا شرك القبورية في البلاد الهندية الشاسعة بطولها وعرضها، محققا أنهم على طريقة المشركين الأولين: (وإن كنت متوقفًا في تصوير حال المشركين وعقائدهم وأعمالهم؛ فانظر إلى حال العوام والجهلة من أهل الزمان، خصوصًا من سكن منهم بأطراف دار الإسلام؛ كيف يظنون الولاية وماذا يخيل إليهم منها ..... ؛ ويذهبون إلى القبور والآثار، ويرتكبون أنواعًا من الشرك، وكيف تطرق إليهم التشبيه والتحريف؟ ففي الحديث الصحيح: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل» . وما من آفة من هذه الآفات إلا وقوم من أهل هذا الزمان واقعون في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 ارتكابها، معتقدون مثلها) . 20 - وقال رحمه الله أيضًا مبينًا أن الشرك قد عم وطم: (فلست أرى أحدًا إلا وفيه الإشراك؛ كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] . قلت: نص هذا الإمام في بيان انتشار القبورية في البلاد الهندية لا يحتاج إلى تعليق، فهو بنصه وفصه يدل على أن أكثر المنتسبين إلى الإسلام في البلاد الهندية كانوا قبورية وثنية عبدة القبور وأهلها. 21 - وقال ابن عربشاه (854هـ) : واصفًا حال القبورية ببغداد وما وراء النهر وتهافتهم على عبادة القبور وأهلها تهافت الفراش على النار، حتى عبدوا الفسقة الفجرة * من الملوك الظلمة الجورة *؛ حيث كانوا يعبدون تيمور (806هـ) وقبره بأنواع من العبادات؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 إلى أن جعلوه وثنًا يعبد من دون الله: (* وقبره في مكانه المشهور * تنقل إليه النذور * وتطلب عنده الحاجات * ويبتهل عنده بالدعوات * وتخضع الملوك إذا مرت به إعظامًا * وربما تنزل عن مراكبها إجلالًا له وإكرامًا *) . 22 - ومن أوضح الحجج على أن أكثر الناس صاروا قبورية لجهلهم بالتوحيد - ما ذكره علماء الحنفية: من أن التتار لما أغاروا على بلاد الشام - كان القبورية يخرجون يستغيثون بالموتى عند القبور، يرجون عندها كشف الضر، ودفع التتار؛ ولذا قال بعض شعراء القبورية: يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر وفي لفظ: عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجكيم من الضرر وقد صرح علماء الحنفية بعد ذكر هذه القصة المؤلمة أيضًا: أن أهل العلم والفضل والفهم ممن كانوا يدركون الأمور ويعرفون الواقع - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 لم يشتركوا أولًا في قتال التتار؛ ولم ينجح القبورية بل التتار غلبوهم؛ لأن القيادة كانت بأيدي القبورية المستغيثين بالأموات، ولكن لما نصحوا وقبلوا النصيحة ونبهوا - انتبهوا، وأخلصوا الدعاء لله تعالى، وجاهدوا التتار بقيادة شيخ الإسلام فنصرهم الله تعالى على التتار. لأن الجهاد في المرة الأولى لم تكن فيه فائدة لا دينية ولا دنيوية؛ لعدم القتال الشرعي. قلت: ما أشبه الليلة بالبارحة؛ إنا لله وإنا إليه راجعون؛ فإن كثيرًا من الجهاد في أفغانستان كان بقيادة القبورية؛ ولذلك رأيت ما حدث الآن بعد جهاد استمر حوالي خمس عشرة سنة!؟! . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 23 - وبهذه المناسبة أذكر ما ذكره الشيخ عبد الرزاق البيطار الحنفي رحمه الله (1335هـ) : من أن جنود الفرنسيين والإفرنج حينما أغاروا على مصر صاح المحاربون في المسلمين وصرخوا مستغيثين بغير الله مع الله: (يا رب يا لطيف، ويا رجال الله، ونحو ذلك) ؛ 24- وعلق عليه حفيده الشيخ محمد بهجت البيطار بقوله: (قال تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] ، وقال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] .... ) . قلت: يظهر من هذا وأمثاله أن الشرك والقبورية والوثنية تموج أمواجًا * حتى صار المنهل العذب ملحًا أجاجًا * 25 - وبهذه المناسبة تذكرت ما ذكره الكوثري أحد أئمة القبورية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 ورافع لواء الجهمية وشيخ عصبة المتعصبة المقلدة الحنفية والوالغ في أعراض الأئمة: من أن أرض الشام يحرسها من الآفات والبلايا - أربعة من الأولياء الذين يتصرفون في قبورهم. انظر أيها المسلم إلى هذا الكفر البواح والشرك الصراح الذي ارتكبه قبورية الشام!؟! 26 - 27 - وقال الإمام المجاهد إسماعيل الدهلوي الملقب عند الحنفية بالشاه الشهيد (1246هـ) وتبعه الشيخ أبو الحسن علي الندوي مبينين استفحال الشرك بعبادة القبور وأهلها في البلاد الهندية، محققين أن أكثر الناس هم أهل الشرك بالله تعالى: واللفظ للثاني: (استفحال فتنة الشرك والجهالة في الناس: اعلم أن الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر ... ، مظاهر الشرك وأشكاله المتنوعة: ومن المشاهد اليوم أن كثيرًا من الناس - يستعينون بالمشائخ والأنبياء والأئمة والشهداء ... ، تقليد جهال المسلمين للمشركين القدامى: والحاصل أنه ما سلك عباد الأوثان في الهند طريقًا مع آلهتهم - إلا وسلكه الأدعياء من المسلمين مع الأنبياء والأولياء والأئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 والشهداء والملائكة والجنيات، واتبعوا سنن جيرانهم من المشركين شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وحذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل. فما أجرأهم على الله! وما أبعد الشقة بين الاسم والمسمى والحقيقة والدعوى، وصدق الله العظيم، إذ قال في سورة يوسف (106) : {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} . 28 - وله مبحث مهم وتحقيق حقيق وعميق في عودة الوثنية الأولى والجاهلية الجهلاء في كثير المنتسبين إلى الإسلام بل أكثرهم. 29 - وتبعه في ذلك الشيخ أبو الحسن الندوي. 30 - 31 - وقال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) وتبعه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) مبينين حال القبورية العراقية وغيرهم واللفظ للأول: (إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله من الأولياء: الأحياء منهم والأموات: مثل يا سيدي فلان! أغثني. وليس ذلك من التوسل المباح في شيء..) . وقالا واللفظ للأول أيضًا في بيان إشراك القبورية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 (وأعظم من ذلك: أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة، وتيسير كل عسير) . 32 - 36 - وقال رحمه الله وتبعه العلامتان: ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) والشيخان الرباطي والرستمي مبينين أن القبورية انتشرت في البر والبحر وأن شرك القبورية أشد وأعظم من شرك الوثنية الأولى: واللفظ للأول: (وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جم في بر أو بحر - دعوا من لا يضر ولا ينفع * ولا يرى ولا يسمع * ... ) . إلى آخر كلامه القامع للقبورية القاطع لدابرهم والقالع لشبهاتهم. 37 - 38 - وقال رحمه الله أيضًا وتبعه الشيخ الغلام الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن (1980م) مبينين أن القبورية في كثرتهم الكاثرة أكثر من الدود، وذلك في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] : (إنهم من يندرج فيهم كل من أقر بالله تعالى وخالقيته مثلًا، وكان مرتكبًا ما يعد شركًا كيفما كان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر ممن الله تعالى أعلم بحاله فيها، وهم اليوم أكثر من الدود) . 39 - وقال رحمه الله مبينًا أن أكثر العوام قد ارتكبوا شركًا أشد من شرك الوثنية الأولى، وذلك في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54] : (وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم: من الجؤار إلى غير الله .... - سفه عظيم وضلال جديد، ولكنه أشد من الضلال القديم ..... ) . 40 - 45 - وقال رحمه الله، وتبعه العلامتان: ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) والعلام الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن (1980م) والشيخان: الرباطي والرستمي، واللفظ للأول، مبينين أن القبورية يرتكبون أنواعًا من الإشراك بالله تعالى، وأنهم مفسدون للدين وضحكة لليهود والنصارى وأهل النحل والدهرية لسفاهتهم: (وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} .... إلخ [الحج: 73]- إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله، وينذرون لهم النذور .... ، قاتلهم الله! ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 أجهلهم! وأكثر افتراءهم! ...... ، وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة: من اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية) . 46 - 49 - وقال رحمه الله مبينًا كثرة القبورية المستغيثين بالأموات عباد القبور وأهلها بأنواع العبادات، وتبعه العلامتان ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) والشيخ الرستمي، وذلك في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الزمر: 45] : (وقد رأينا كثيرًا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله بها المشركين؛ يهشون لذكر أموات، يستغيثون بهم ويطلبون منهم ... ) . إلى آخر كلامه القامع للقبورية القاطع لدابرهم القالع لشبهاتهم. 50 - وقال رحمه الله رادا على خرافات الغزالي حجة إسلام الصوفية والقبورية والأشعرية الجهمية (505هـ) ، والرازي فيلسوف الأشعرية وأحد أئمة الجهمية المعطلة المشككة الغلاة (606هـ) ، مبينًا كثرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 القبورية سخفة العقول: وذلك في تفسير قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5] : (وكذا في حملها على النفوس الفاضلة المفارقة - إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول: من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد، على معنى أن الله فوض إليهم ذلك، ومنهم من خص ذلك بخمسة، والكل جهل، وإن كان الثاني أشد جهلا) . 51 - وقال العلامة السهسواني (1326هـ) مبينًا أن القبورية قد عمت البلاد * وطمت العباد * إلا من رحمه رب العباد *، ولا سيما بلاد اليمن، أما بلاد الهند ونحوها فالأمر فيها أطم وأعم: (ومن أنكر حصول النداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالًا - فليخبرنا ما معنى ما نسمعه في الأقطار اليمانية؟ : من قولهم: ((يا ابن العجيلي)) ، ((يا زيلعي)) ، ((يا ابن علوان)) ، ((يا فلان)) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ((يا فلان)) ؛ هل ينكر هذا منكر؟ ويشك فيه شاك؟ وأما ما عدا ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم! ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه، وفي كل مدينة جماعة منهم، حتى أنهم في حرم الله ينادون: ((يا ابن عباس)) ، ((يا محجوب)) ! فما ظنك بغير ذلك؟ فلقد تلطف إبليس وجنوده - أخزاهم الله تعالى - لغالب أهل الملة الإسلامية بلطفة تزلزل الأقدام عن الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون) . 52 - وقال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) مشتكيًا حال القبورية وإفراطهم وانتشارهم في هذا الزمان * وارتكابهم للشرك في كل مكان *: (وقد تعاظم الأمر في هذه الأزمان * وظهرت البدع في كل مكان * وبنيت القبب المذهبة على القبور * ونذرت لها النذور * وجعلت عليها الشبابيك من العين * وسرجت عليها السرج وقناديل اللجين * ووضعت عليها الأسلحة المجوهرة * وصرفت على سدنتها وبنائها القناطير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 المقنطرة * وطاف حولها الزائرون * وتبرك بتقبيلها والتمسح بأعتابها الداخلون * وطلبوا منهم قضاء الحاجات * وتفريج الكربات * وجعلوا ذلك من أعظم الطاعات * ورموا من زجرهم عن هذا الفعل الشنيع بأعظم الهنات * وأسمعوه ما يكره من الكلمات * ... ، فإنا لله وإنا إليه راجعون) . 53 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) بعدما ذكر عقائد المشركين السابقين وبعض أنواع الشرك الأكبر مبينًا أن القبورية عمت البلاد * وطمت العباد * إلا من شاء الله: (وهذا الجهل قد عمت به البلوى في زمن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، وقبله وبعده، كما قال في الكافية الشافية: ولقد رأينا من فريق يدعي ال ... إسلام شركًا ظاهر التبيان جعلوا له شركاء والوهم وسو ... ووهم به في الحب لا السلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 إلى آخر الأبيات) . 54 - وقال رحمه الله مبينًا أن القبورية عمت وطمت حتى ابتلي بها كثير من العلماء فضلًا عن العوام والصوفية: (وقد رأيت - والله! - بعيني رأسي من سجد للأعتاب * معرضًا عن رب الأرباب *، ولا أقول: إن العوام فقط على هذا المنوال * فكم قد رأينا وسمعنا عمن يدعي العلم قد فعل هذه الفعال *، وأما من ينتسب إلى طريقة من الطرائق الكثيرة - فعنده: أن الاستمداد من روحانية المشائخ والاستغاثة بهم من الواجبات الشهيرة؛ فلا حفظ الله لهم حريمًا * ولا صان لهم أديمًا * نسأله أن يطهر الأرض من أمثالهم * ويريح المسلمين من كفرهم وإضلالهم *) . 54 - وقال رحمه الله بعد ذكر فضائح القبورية وشركياتهم، وأن القبورية قد صنعوا ما صنع اليهود والنصارى والمشركون من عبادة القبور وأهلها، مبينًا أن القبورية قد عمت البلاد * وطمت العباد * إلا من عصمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 رب العباد *: (وقد عم هذا البلاء جميع بلاد المسلمين إلا ما ندر وقل، ولا ينجح الإنكار على ذلك شيئًا، بل ربما أوقعوا المنكر في مهاوي الهلكة، وبدعوه وضللوه) . 55 - وقال رحمه الله بعد ذكر فضائح القبورية مبينًا كثرة القبورية العراقية، وأنهم على طريقة إخوانهم من المشركين الأولين، بل أشنع شركًا منهم: (ومن ذهب إلى مشاهد أهل البيت وغيرهم من الأولياء في بغداد في مواسم الزيارات - تحقق ما ذكرناه، واستقل بالنظر إلى فعل هؤلاء ما كان يفعله المشركون عند آلهتهم، كاللات والعزى) . 56 - وقد ذكر رحمه الله تعالى حديث: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» .... . ثم قال: (فلا بد أن يكون الذين يحذون حذوهم - هم من بدل وغير وابتدع وحرف وحاكى الذاهبين الأولين في أفعالهم وأعمالهم. من بناء المشاهد والمساجد على قبور صالحيهم، وندائهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 المهمات والملمات، وغير ذلك مما كان يفعله اليهود والنصارى والمشركون ... ) . إلى آخر كلامهم الطيب المكذب للقبور القاطع لدابرهم القامع لدينهم والقاطع لشبهاتهم. 57 - وله رحمه الله كلام مهم في شرح الحديث المذكور وتحقيق عميق لإثبات أن دولة القبورية قد عادت فشب على الشرك الصغير وشاب عليه الكبير واتبعوا سنن اليهود والنصارى والمشركين، إلى آخر كلام يقطع دابر القبوريين. 58 - ولقد ذكر رحمه الله أن الجماهير من الناس ابتلوا بالشرك الأكبر من عبادة القبور وأهلها أنواعًا من العبادة. ثم ذكر عجائب من كفريات القبورية وشركياتهم، وهي أمثلة تدل على أن من أهل اليمن والمغرب والعراق ومصر وغيرها قبورية وثنية. 59 - وله رحمه الله كلام آخر مهم جدا يحقق أن غالب الناس شرق الأرض وغربها قبورية تصديقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» . فأصبح الدين منهم في أنين * والإسلام في بلاء مبين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. 60 - وله رحمه الله كلام في غاية الأهمية في تحقيق أن القبورية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 على عين ما كان عليه المشركون السابقون: من قولهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. ولقد تألم الشيخ مسعود الندوي (1373هـ) : جدا مشتكيًا إلى الله تعالى فساد عقائد المسلم في العالم الإسلامي كله. مبينًا: أن أكثر المسلمين في العالم قد عبدوا القبور بأنواع من العبادات بل قد عبدوا الأشجار والغارات، وقد ارتكبوا أنواعًا من الإشراك بالله تعالى. حتى تمكنت العقائد الوثنية في قلوبهم، ووقعوا في سفاهات ليسخر منهم بسببها الكفار المستشرقون إلى آخر ما ذكره من الوثنيات القبوريات. 61 - وقال العلامة الخجندي رحمه الله (1379هـ) بعد أن حقق أن الاستغاثة بالأموات * عند الكربات وإلمام الملمات * من أعظم العبادات * وأكبر الشركيات * مبينًا أن أكثر أهل بلاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ما وراء النهر والبلاد التركية وبخارى والبلاد الهندية والبلاد الأفريقية - قبورية: (فعلى كل طالب للحق بمطالعة تلك الكتب (كتب شيخ الإسلام وكتبه هو) ، ولا يكن كأكثر البخاريين والهنديين والأتراك والأفريقيين، عبادًا لأهل القبور والأرواح. فإنهم بهذا الاعتقاد مشركون، ولا ينفعهم عند الله دعوى الإسلام، أو المجاورة في الحرمين، إلا إذا تابوا وأصلحوا وبينوا .... ) . 62 - ولقد ذكر رحمه الله عدة أسباب لعودة الوثنية الأولى وانتشار القبورية في العالم. 63 - كما ذكر عدة قبور في العالم شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا جعلت أوثانًا تعبد من دون الله، فانتشر الشرك والقبورية بأوسع ما يكون في العباد والبلاد، من بخارى، وسمرقند، وتركستان، وخجند، وكاشغر، وكربلاء، ودمشق، والقاهرة، وطنطا، وقونية، وغيرها. 64 - وقال رحمه الله بعد ذكر مفاسد اتخاذ القبور مساجد في كلام قيم متين رصين، مبينًا كثرة القبورية في جميع العالم: (وكم نشأ عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظموها، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر فجعلوها مقصدًا يطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجاح المطالب .... ، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وهكذا في جميع أنحاء العالم الإسلامي عمومًا، وفي المدينة عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالجملة: أنهم لم يدعوا شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون ... ) إلى آخر كلامه القيم. 65 - وقال رحمه الله: (والعبد الضعيف في زياراتي الأربع للمدينة الطيبة قد أمعنت النظر فشاهدت في المسجد النبوي وعند قبره الشريف ما يضاد الإيمان ويهدم الإسلام، ويبطل العبادات: من الشركيات والوثنيات * الصادرة من الغلو وتراكم الجهالات *) . 66 - وقال رحمه الله مشتكيًا إلى الله تعالى مبينًا أن غالب أهل بلاد بخارى، وأفغانستان، والهند، وأجمير، وبغداد، ومصر، والشام، وغيرها، قبورية يرتكبون الشرك الأكبر بالله تعالى: (قلت: في هذه الآثار والأحاديث عبرة لمن اعتبر: أن تعظيم القبور وأصحابها، والعكوف عليها والتوجه إليها، والاستمداد منها - هو أصل الشرك. فما يفعله الجهلة، بل من هو في زي الصالحين ولباس أهل العلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 من العكوف على القبور والتوجه إليها والنذر لها والاستمداد منها، كغالب أهل بخارى، وأفغانستان، والهند، ... ، وأجمير، وبغداد، ومصر، ودمشق، وغيرها - فمصيبة عظيمة وبلاء جسيم موجبة لمقت الله وغضبه) . 67 - وقد تألم رحمه الله جدا مشتكيًا إلى الله تعالى لأجل أن جمهرة الناس في البلاد الروسية، وما وراء النهر، وبخارى، والتركستان، وأفغانستان، والصين، وعامة بلاد الهند قبورية يحجون إلى قبور المشائخ ويطوفون لها، وينذرون لهم النذور ويعتقدون فيهم أنهم يعلمون الغيب، وأنهم يتعرفون في الكون وأنهم حراس البلاد، إلى غير ذلك من الوثنيات والكفريات والشركيات. 68 - وقد ذكر رحمه الله - مبينًا كثرة القبورية في بلاد ما وراء النهر، والروسية وتركستان وبخارى، والبلاد الروسية -: أن سبب غلبة البلاء الأحمر السوفييت على هذه البلاد إنما هو الشرك وعبادة القبور، ثم حذر رحمه الله أهل الهند بقوله: يا أهل الهند! إني أخاف أن ينزل الطوفان الأحمر (السوفييت) عليكم وعلى بلادكم بسبب عبادة القبور وأهلها، فعليكم أن تستيقظوا من رقدتكم وتنتبهوا من غفلتكم وتوبوا إلى ربكم. 70 - وقال ابن آصف الفنجفيري (1407هـ) الملقب عند الحنفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 بشيخ القرآن مبينًا أن القبورية قد عمت البلاد والعباد إلا من رحمه ربك: (وقلما تجد بلدة إلا ولها آلهة تعبد وتستغاث بهم ويعتقدون أهلها فيهم أنهم يتصرفون فيها، جعلوهم للنصر، والرزق، والأولاد، ودفع الضر، وينذرون لهم. وقد امتلأت بلاد الأفاغنة (أفغانستان وما والاها) منها، حتى جعلوا الأعباد، والعروس على قبورهم في كل سنة وكل شهر وخميس وأحد، وغير ذلك من الأيام. فلذا قال الإمام ولي الله الدهلوي: وما من بلدة إلا ولها آلهة تعبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 فلذا ابتلوا بأنواع من الشرك، ولا سيما بالشرك الفعلي، ذكره في كتابه البدور البازغة 169) . 70 - ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي مبينًا حالة جمهرة المسلمين في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) رحمه الله: كانت العقائد الشركية قد نالت رواجًا بين عامة المسلمين بسبب اختلاطهم مع أصناف من المشركين ونفوذ الدولة الفاطمية الباطنية الإسماعيلية وانتشار الصوفية. فكانوا يحملون من العقائد الشركية في الأولياء والصالحين والمشايخ - ما كان يعتقده اليهود والنصارى والمشركون: من الطواف حول القبور والاستغاثة بأصحابها، والحج إليها، وبناء المساجد الفخمة عليها وعقد المهرجانات عليها عاما مقامًا، والنذور إلى القبور، وقد عمت وطمت هذه العقائد إلى أن جعلوا الميت كالإله، والشيخ الحي كالنبي، وكانوا قد عزلوا الله تعالى عن أن يتخذوه إلهًا، وعزلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون رسولًا، وارتكبوا ما كان محض دين المشركين والنصارى، وقد وصلوا في عبادة القبور والسجود إليها ودعاء أصحابها وجعل القبور قبلة وكعبة - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 إلى حد كان هؤلاء القبوريون المشركون بالقبور - يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب ما لا يجده أحدهم في مساجد الله. إلى أن كان الفسقة الفجرة أصحاب الكبائر من هؤلاء القبورية لا يتحاشون الكبائر. ولكن إذا رأوا الميت أو الهلال فوق رأس قبة القبر المعبود خشوا من فعل الفواحش، فيخشون المدفون تحت الهلال ولا يخشون خالق الأكوان، وكانوا يحلفون بالله بالكذب ولا يحلفون بالميت كذبًا، فكانوا في الشرك كما كان قوم إبراهيم حيث قال لهم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81] . وكان بعضهم يفضل شيخه على الأنبياء والمرسلين ويعتقد فيه الإلهية كالنصارى إلى غير ذلك في الكفريات والشركيات التي تدل على أن القبورية الوثنية قد عمت العباد وطمت البلاد إلا من شاء الله تعالى. 71 - ولقد ذكر الشيخ محمد يوسف الهندي تاريخ الوثنية القديمة وعقائد المشركين الأولين، ثم ذكر أن الشرك قد عم وطم بعبادة القبور وأهلها في هذه الأمة إلا من رحمه الله، وذكر أنواعًا من الإشراك الأكبر المخرج عن الملة - التي يرتكبها القبورية. بحيث عادت الجاهلية الأولى والوثنية الخرقاء إلى أن حصل الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 بهم أنهم صاروا أشد شركًا من المشركين السابقين؛ لأن السابقين كانوا لا يدعون الإله عند الكربات، وأما هؤلاء القبورية فيدعون غير الله عند الكربات فهم أضل من الكفار السابقين. وقال: (وإذا عرفت هذا فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر ... ) . 72 - (وهذا ملأ البر والبحر وشاع وذاع. حتى أن كثيرًا ممن يفعله يقوم الليل ويصوم النهار..) . 73 - ولقد اعترف الشيخ أحمد بن محمد الصديق الغماري أحد مشاهير القبورية بوجود الشرك الأكبر والكفر الصراح في القبورية مبينًا حالة القبورية المغربية، فقال: (إن كثيرًا من العوام بالمغرب ينطقون بما هو كفر في حق الشيخ عبد القادر الجيلاني (561هـ) ، وكذلك نرى بعضهم يفعل ذلك مع من يعتقده من الأحياء، فيسجد له، ويقبل الأرض بين يديه في حال سجوده، ويطلب منه في تلك الحال الشفاء والغنى والذرية ونحو ذلك مما لا يطلب إلا من الله تعالى. وإن عندنا بالمغرب من يقول في ابن مشيش (662هـ) : أنه الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 خلق الابن والدنيا. ومنهم من قال - والمطر نازل بشدة -: يا مولانا عبد السلام! الطف بعبادك. فهذا كفر) . قلت: الحمد لله، وله المنة على إتمام الحجة وإيضاح المحجة، فقد اعترف هذا الغماري أحد أئمة هؤلاء القبورية، بأن الشرك الصراح والكفر البواح قد وجدا في القبورية إلى حد جعلوا ابن مشيش ربًّا وخالقًا. وبعد هذا أقول: هذه كانت عدة نصوص لعلماء الحنفية وفي آخرها خاتم من شهادة ذلكم الغماري القبوري في وجود الشرك الأكبر في القبورية حتى في توحيد الربوبية فضلًا عن توحيد الألوهية. وهي تكذب دعوى القبورية في إنكار وجود الشرك وتعمهم وتعلق شبهاتهم. والآن ننتقل إلى مقارنة علماء الحنفية للقبورية بالوثنية الأولى وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق. **** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 المبحث الثاني في جهود علماء الحنفية في المقارنة بين القبورية الحديثة وبين الوثنية القديمة 1 - لقد قام كثير من علماء الحنفية بالمقارنة والمقابلة بين القبورية الوثنية الحديثة في هذه الأمة وبين الوثنية القديمة من المشركين السابقين، فحققوا أن كلا منهم أهل الشرك وأن القبورية الحديثة على طريقة الوثنية القديمة في الشرك وعبادة غير الله، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة والشبر بالشبر. 2 - وقد سبق كثير من نصوص علماء الحنفية في ذلك أيضًا. 3 - وسيمر بالقارئ الكريم كثير من نصوصهم في ذلك أيضًا إن شاء الله تعالى. 4 - بل للحنفية تحقيقات بديعة في أن القبورية الحديثة أشد شركًا من الوثنية القديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 5 - وأن القبورية الحديثة أعظم خوفًا وعبادة للقبور وأهلها منهم عند الكربات * لرب البريات وخالق الكائنات. وذلك بعرض علماء الحنفية لعقائد المشركين السابقين وأنهم كانوا معترفين بتوحيد الربوبية وإنما كان إشراكهم باستغاثتهم بآلهتهم والنذور لهم وجعلهم وسائط بينهم وبين الله. بل صرح علماء الحنفية: بأن الشرك والقبورية قد عما وطما إلى حد - لم يقتصرا في العوام والطغام فحسب بل سريا في كثير من أهل العلم والفضل والعقل والزهد والفقه وهم لا يشعرون. 6 - فوصل الأمر إلى أن: (تعذر على العارفين الأمر بالعرف * وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف) . (حتى نسج العالم الخبير على فيه من السكوت اللثام * وترك الأمر بالمعروف خوفًا من اللئام *) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 7 - الحاصل: أن القبورية أهل الشرك صدقًا وهم وثنية حقًا، عباد الأوثان بلا شك، عبد الأنصاب بلا امتراء، وأنهم أتباع المشركين الأولين بلا ريب، وأن الشرك الأكبر الصراح موجود واقع فيهم، وبعدما عرفنا ذلك ننتقل إلى المبحث الثاني؛ لأذكر جواب علماء الحنفية عن شبهة القبورية التي تشبثوا بها في عدم وقوع الشرك في الأمة. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 المبحث الثالث في جهود علماء الحنفية في الجواب عن شبهة القبورية التي تشبثوا بها في إنكار وجود الشرك في هذه الأمة لقد سبق أن ذكرت عدة شبهات للقبورية وسقت أجوبة علماء الحنفية عنها، منها شبهتهم في تعريف التوحيد. ومنها ست شبهات لجعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية. ومنها أربع عشرة شبهة لزعمهم أن المشركين كانوا مشركين في توحيد الخالقية والرازقية والمالكية والربوبية. ومنها شبهة في تعريف العبادة. ومنها شبهة في حصرهم للعبادة في عدة أعمال. ومنها شبهة في عدم جعل القبور أوثانًا. وقد سبق جواب الحنفية عنهما فصار كأن لم يغن بالأمس، بحمد الله وتوفيقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وللقبورية شبهات كثيرة سأذكرها مع أجوبة علماء الحنفية عنها إن شاء الله تعالى: منها ما يتعلق بالشرك. ومنها ما يتعلق بعلم الغيب. ومنها ما يتعلق بالتعرف في الكون. ومنها ما يتعلق بالاستغاثة بالأموات. ومنها ما يتعلق بسماع الأموات. ومنها ما يتعلق بالحياة البرزخية. ومنها ما يتعلق بالتوسل. ومنها ما يتعلق بالنذر للقبور. وغيرها من الشبهات القبورية الوثنية. وفي هذا المبحث أذكر أولًا شبهة القبورية التي تشبثوا بها في زعمهم أن الشرك لم يقع في هذه الأمة، ثم أذكر ثانيًا جواب علماء الحنفية عنها لإتمام الحجة وإيضاح الحجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 أولًا: عرض هذه الشبهة: لقد حاولت القبورية على عادتهم السيئة إخفاء وثنيتهم وستر إشراكهم الأكبر وتبرير عبادتهم لأموات ولا سيما عند الكربات بالتشبث بعدة شبهات قد سبق ذكر بعضها وسيأتي ذكر بعضها، ومن تلك الشبهات: زعمهم أن الشرك لم يقع في هذه الأمة وتشبثوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» . وغيره من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى، واستدلت القبورية بها، على أن الشرك غير واقع في جزيرة العرب ليأس الشيطان أن يعبده المسلمون. وقد فسرت القبورية جزيرة العرب بأنها: جنوبًا وشمالًا: من عدن إلى ديار بكر. وشرقًا وغربًا: من العراق إلى مصر. فتدخل فيها اليمن، والحجاز، ونجد، والعراق، والشام، ومصر. قال الشيخ سليمان بن عبد الوهاب (توفي حوالي سنة 1210هـ) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 في صدد تقرير استدلاله بهذا الحديث وأمثاله، ما حاصل كلامه: إن هذا الحديث يقرر أن الشيطان لا يعبد في جزيرة العرب، مع أن ما تعدونه كفرًا وشركًا وعبادة القبور والأوثان، من الاستغاثة بالأولياء والنذر لهم ونحوها - ملأت مكة، والمدينة، واليمن، والحجاز، والعراق من سنين متطاولة. ودل على أن الشرك لم يقع في الجزيرة فما بالك بغيرها. الجواب: ولقد أجاب علماء الحنفية بأجوبة: منها: أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: ((المصلون)) في هذا الحديث: هم المؤمنون الكاملون العارفون للتوحيد والشرك المصلون صلاة صحيحة أمثال الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان من أهل السنة والحديث والأثر، وليس المراد من يصلي فقط وينتمي إلى الإسلام مع ارتكابه الشرك والكفر. قال العلامة شكري الآلوسي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 (إن الشيطان لا يطمع أن يعبده المؤمنون في جزيرة العرب، وهم المصدقون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه المذعنون له الممتثلون لأوامره المنتهون عما نهى عنه. ولا شك: أن من كان على هذه الصفة - فهو على بصيرة ونور من ربه. فلا يطمع فيه الشيطان أن يعبده. وأما من تسمى باسم الإسلام، وتعاطى كل ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يسر ويعلن - فهو باسم المنافق أحق منه باسم المؤمن، وإن صام وصلى. فمن التجأ إلى غير الله، وتوكل على غيره، ودعاه * في سره ونجواه * - لم يكن مؤمنًا برب العالمين * ولا مقرا بوحدانية إله السماوات والأرضين * فوجود مثل هذا في جزيرة العرب - لا ينافي الحديث الصحيح * كما لا يخفى على من له قلب سليم وعقل رجيح * وإطلاق المصلين على المؤمنين * كثير في كلام العارفين*) . وقال: (ويحتمل: أن يراد بالمصلين: ((أناس معلومون)) ؛ بناء على أن تكون ((ال)) للعهد، وأن يراد بهم الكاملون فيها، بناء على أن تكون للكمال: وهم خير القرون، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 «ولكن في التحريش بينهم» ... ) . ولابن آصف الفنجفيري الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن (1407هـ) كلام قريب من هذا. الحاصل: أن الشرك قد وقع في القبورية من هذه الأمة، وهذا الحديث لا ينافي ذلك بحمد الله تعالى، وبعد هذا ننتقل إلى الفصل الثالث؛ لنعرف جهود علماء الحنفية في الرد على شبهات القبورية الأخرى. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الفصل الثالث في أجوبة علماء الحنفية عن شبهات القبورية الأخرى التي تشبثوا بها لتبرير إشراكهم الأكبر وعبادتهم القبور وأهلها للقبورية شبهات كثيرة لتبرير إشراكهم الأكبر بالله عز وجل وعبادتهم القبور وأهلها من الاستغاثة بهم عند الكربات والنذر لهم عند الملمات وغيرها من أنواع العبادات. وقد سبق أن ذكرت شيئًا كثيرًا من هذه الشبهات مع أجوبة علماء الحنفية عنها. وسيمر بك أيها القارئ الكريم شيء كثير منها مع أجوبة علماء الحنفية عنها في مناسبات شتى إن شاء الله تعالى. وفي هذا الفصل أذكر شبهات تشبثت القبورية بها لتبرير إشراكهم بالله تعالى وعبادتهم القبور وأهلها: الشبهة الأولى: شبهة الأحجار والأشجار والأصنام والأوثان. زعم القبورية - لتبرير إشراكهم بالله وعبادتهم لغير الله: أن المشركين السابقين كانوا يعبدون الأصنام والأحجار * ويعتقدون فيها الربوبية ويعبدون الأوثان والأشجار * التي لا تضر ولا تنفع * ولا ترى ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 تسمع * ولا مكانة لها عند الله ولا احترام لها عنده. أما نحن فنستغيث بالأنبياء والمرسلين * ونتوسل بالأولياء والصالحين إلى رب العالمين * فهم أحياء يسمعون ويتصرفون ويعلمون * ولهم مكانة عند الله تعالى، ويشفعون * فجاء هؤلاء الوهابية الخوارج - فعمدوا إلى آيات نزلت في المشركين - فحرفوها وحملوها على المؤمنين الموحدين المتوسلين المستغيثين بالأنبياء والأولياء، كما أنهم حرفوا الآيات التي نزلت في الأصنام والأوثان والأحجار - فحملوها على الأنبياء والأولياء، فقاس هؤلاء الوهابية الخوارج - المؤمنين الموحدين الذين يستغيثون بالأنبياء والأولياء - على المشركين الذين كانوا يعبدون الأحجار والأصنام - في أن كلا منهم أهل الشرك. وقاسوا الاستغاثة بالأنبياء والأولياء - على عبادة الأصنام، والأوثان - في أن كلا منها شرك. كما قاسوا الأنبياء والأولياء - على الأصنام والأوثان - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 في عدم النفع والضر وعدم الشفاعة. مع أن هذه الأقيسة فاسدة؛ إذ لا يصح قياس موحد مؤمن يستغيث بالأنبياء والأولياء - الذين لهم مكانة عند الله، وينذرون لهم وينادونهم - على مشرك يعبد الأحجار والأصنام والتماثيل التي لا تضر ولا تنفع، ولا تعقل ولا تسمع. كما لا يصح قياس الاستغاثة بالأنبياء والأولياء ودعائهم والنذر لهم - على عبادة الأصنام والأحجار والأوثان - التي لا مكانة لها ولا احترام لها عند الله ولا تضر ولا تنفع؛ لأن المشركين كانوا يعبدونها على أساس أنها تستقل بالنفع والضر وأن لها تأثيرًا وشرفًا ذاتيا واختيارًا وتدبيرًا وأما نحن فنستغيث بالأنبياء والأولياء - الذين لهم مكانة عند الله تعالى، وهم أحياء يعلمون ويسمعون. فأين هذا من ذاك؟!؟ الجواب: أن هذه الشبهة تتضمن شبهات كثيرة: منها: أن الاستغاثة بالأموات عند الكربات ليست من العبادة فليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 من الشرك بالله تعالى. وسيأتي الجواب عنها مفصلًا إن شاء الله تعالى. ومنها: أن الشرك لا يتحقق إلا باعتقاد الربوبية والخالقية والاستقلال بالنفع والضر في غير الله. وقد سبق الجواب عنها بحمد الله وتوفيقه. ومنها: أن المشركين السابقين كانوا يشركون آلهتهم بالله في الخالقية والرازقية والاستقلال بالنفع والضر. وقد سبق الجواب عنها بما لا يزيد عليه. ومنها: أن ((الوهابية)) (أهل التوحيد) خوارج يكفرون المؤمنين الموحدين وسيأتي الجواب عنها في إبطال شبهة التكفير. بقيت شبهة: أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام والأحجار * والأوثان والأشجار * التي لا تضر ولا تنفع * ولا ترى ولا تسمع * ولا مكانة لها عند الله ولا تشفع * وقد أجاب عنها علماء الحنفية بعدة أجوبة: الجواب الأول: أن المشركين الأولين - لم يكونوا يعبدون الأحجار والأشجار لذاتها، وإنما كانوا يعبدون الصالحين * على أساس أنهم من عباد الله المقربين * عند رب العالمين * فيكونون لهم عنده من الشافعين * وقد سبق مفصلًا محققًا أن بداية إشراكهم ونشأة القبورية والوثنية - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 إنما كان على هذا الأساس * كل ذلك بحيل الشيطان الخناس *. قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) محققًا أن إشراك المشركين قديمًا وحديثًا، إنما كان بعبادة الصالحين وجعلهم شفعاء عند الله: (فإن الشرك بقبر الرجل المعروف بالصلاح أقرب إلى النفس من الشرك بالأحجار، لما للشيطان من وساوس يلقيها في قلوب بني آدم، وقد أدخلها في قوالب يريهم أنها بظواهرها شرعيات * وما هي إلا زخارف وتمويهات * ثم إذا ألفوها لم تكد أن تفارقها النفوس * ولو قطعت بالسيوف * فمما ألقاه إليهم بكيده: أن قال: إن هؤلاء قوم صالحون * وعند الله مقربون *، ولهم عنده ما يشاءون * ولهم الجاه الأعلى * والمقام الرفيع الأسمى * فمن قصدهم لا يخيب سعيه * ولا يطيش رأيه *، وأن ببركتهم تدفع البليات * وتقضى الحاجات *، وبشفاعتهم يتقرب زوارهم إلى الله الغفار * فتحط عنهم بشفاعتهم عند الله الأوزار * إلى غير ذلك من التمويهات التي يملأ بها قلوب أهل الأماني * بمثل هذه المعاني *؛ فيتلاعب بعقولهم السخيفة * وآرائهم الضعيفة * ويحسن لهم البدع والمنكرات * بما يلقيه إليهم من الحكايات والخرافات * ويحثهم على التقرب إلى أهل القبور * بما يقدرون عليه من النحر والنذور * والطواف وتزيينها بالزينة المحرمة من القصب والذهب وتعليق القناديل، وإيقاد شموع العسل وتصفيح الجدران *، والأعتاب، والسقوف، والأبواب بالفضة والذهب وغيرها مما يجاوز الحساب، ويفهمهم: أنهم في مثل ذلك أحسنوا كل الإحسان فدخلوا الجنان *. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 ثم ما كفاه ذلك حتى استخفهم، فدعاهم إلى أن يطلبوا منهم النصر على الأعداء * والشفاء من عضال الداء * فأجابوه إلى ما دعاهم (إليه) مسرعين * وزادوا على ذلك بأن طلبوا منهم بقاء الحياة لأولادهم، فتراهم يقولون *: قد علقنا أولادنا عليهم. ومنهم من يطلب منهم النسل إذا كان عقيمًا * والشفاء إذا كان سقيمًا * وكثير منهم يطلب منصبًا فيه أخذ أموال العباد * والسعي في الأرض بكل فساد * فيجيء إليهم ويلازمهم معتقدًا: أن من لازمهم قضيت حاجته *، ونجحت سعايته * واقتربت سعادته *، وإذا فتحت بيوت قبورهم المذهبة * ورفعت ستور الأبواب المطلية المطرزة * وفاحت تلك الروائح المسكية من الجدران المخلقة * - وجد هذا الزائر في فؤاده من الخشية والرهب - ما لا يجد معشار جزء من عشرة بين يدي خالق السماوات والأرضين * وإله جميع العالمين *؛ فيدخل إلى القبر خاشعًا * ذليلًا متواضعًا * لا يخطر في قلبه مثقال ذرة من غير إجلاله * منتظرًا فيض كرمه ونواله *. فأقسم بالله! أنه لم يتصوره بشرًا قد وضع بأكفانه في لحده، ولو سلمنا: أنه خطرت له - وهو عنده - تلك الخطرة - لتعوذ بالله منها، ووقف عند حده. ويا مصيبة من أنكر عليهم حالهم * ويا شناعة من رد عليهم أمرهم * ويا خسارة من علمهم وأرشدهم * فإن ذلك عندهم قد تنقص حق الأولياء * وهضمهم مرتبتهم من السمو والارتقاء *. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 فبالله عليك أيها الناظر! إلا ما قابلت هذه مع ما ورد عن سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، متأملًا كيفية إذنه بعد المنع. وانظر إلى سبب المنع والإذن، وما علل النبي صلى الله عليه وسلم به الإذن وجعله في حكم الغاية والشرط ... ) . قلت: هذا النص يدل على أمور: الأول: أن القبورية فرقة مشركة عباد القبور والأوثان. الثاني: أن أصل شرك الوثنية الأولى والحديثة - هو عبادة الصالحين للتقرب بهم إلى الله تعالى وقضاء الحاجات. الثالث: أن أهل الشرك قديمًا وحديثًا قصدهم عبادة الصالحين المقربين عند الله تعالى للشفاعة بهم عنده. الرابع: أن أهل الشرك قديمًا وحديثًا لم يقصدوا عبادة الأوثان والأحجار * والأصنام والتماثيل والأشجار * وإنما كان قصدهم عبادة الصالحين ليشفعوا لهم عند رب العالمين. الخامس: أن أهل الشرك - لم يعتقدوا في آلهتهم أنهم شركاء في الخالقية والرازقية والمالكية والربوبية، والاستقلال بالنفع والضر. السادس: أن الاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات * والنذر والذبح لهم عند الكربات * من أعظم أنواع العبادات * ومن أكبر الأمور الشركيات *. السابع: أن الحكم على هؤلاء القبورية بالشرك - ليس من باب رمي الخوارج المسلمين بالكفر. وإنما هو من باب الحقيقة وبيان الحق وحماية التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وبذلك راحت شبهة القبورية هذه ومعها أمثالها أدراج الرياح. الجواب الثاني: أن علماء الحنفية قد حققوا: أن القبورية هم عبدة القبور، وعباد الأوثان والأنصاب والأشجار والأحجار. فالقبورية كما أنهم وثنية أقحاح كذلك هم نصبية أجلاد حجرية أصلاب. فلا فرق بينهم وبين المشركين السابقين إلا أن الأولين كانوا عبدة الأصنام أيضًا، وأما قبورية هذه الأمة - فليسوا عباد الأصنام؛ لأنهم لم ينقشوا ولم ينحتوا للأولياء الصور من الحجر، أو الخشب أو الحديد أو الصفر ونحو ذلك. ولكن القبورية شاركوا المشركين الأولين في كونهم جميعًا عباد القبور وأهلها وعبدة الأوثان والأنصاب والأحجار والأشجار. وامتازت قبورية هذه الأمة بأن شركهم أشد من شرك الأولين وأنهم أعظم عبادة وخوفًا ورجاء من الأموات منهم لخالق البريات. وبذلك قد اجتثت شبهة القبورية: من أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام والأحجار. أما نحن فنستغيث بالأولياء المقربين عند الله! فالقبورية كذبهم علماء الحنفية، كما كذبتهم أفعالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 وتحقق أن القبورية قديمًا وحديثًا - عباد الأحجار والأشجار وعبدة الأنصاب والأوثان، يعبدون القبور وأهلها. الجواب الثالث: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن جل شرك المشركين إنما كان بإشراكهم الصالحين بالله تعالى ولذلك نرى أن أكثر آلهتهم إنما كانت من عباد الله الصالحين من الأنبياء والأولياء. أمثال إبراهيم، وإسماعيل، والمسيح، وعزير عليهم السلام، ومريم، وود، وسواع، ويغوث، ويعوق، واللات، ومناة، وهبل وغيرهم. فإذا كان الأمر كذلك - فلا يصح للقبورية أن يقولوا: إن المشركين الأولين كانوا يعبدون الأحجار التي لا كرامة لها، ونحن نستغيث بالأنبياء والأولياء الذين لهم كرامة عند الله! فزالت شبهة من أصلها. الجواب الرابع: أن علماء الحنفية قد حققوا: أن الله عز وجل قد ذكر أوصاف العقلاء لآلهة المشركين في صدد الرد عليهم وعبر عن آلهتهم بصيغ العقلاء؛ فدل ذلك على أنهم إنما كانوا يعبدون الصالحين، ولم يكونوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 يقصدون الأحجار والأصنام بالعبادة لذاتها. وتفصيل ذلك على ما ذكره كثير من علماء الحنفية: أن الله تعالى قال في صدد الرد على المشركين مبينًا عجز آلهتهم: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21] ، وقال جل وعلا: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28-29] . وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194] ، وقال عز وجل: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [الكهف: 102] ، وقوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 13-14] ، وقال جل شأنه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6] ، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 إلى غيرها من الآيات التي فيها ذكر آلهة المشركين بصيغ العقلاء وصفات ذوي العقول؛ فأنت ترى: أن هذه الآيات الكريمات مشتملة على صفات العقلاء؛ لآلهة المشركين والتعبير عنهم بصيغ العقلاء: نحو: الذين، يخلقون، وأموات، وما يشعرون، ويبعثون، ونحشرهم، وقال شركاؤهم، ولغافلين، وعباد أمثالكم وفليستجيبوا، وعبادي، وما يملكون، ولا يسمعوا، و (لو سمعوا) ، وما استجابوا، و (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) ، و (هم) ، وغافلون، و (إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء) ، و (كانوا بعبادتهم كافرين) ، و {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} ، و (يرجون رحمته) ، و (يخافون عذابه) ، ونحو ذلك من الصيغ التي لا تستعمل إلا لذوي العقول عند العرب، وغيرهم والصفات التي لا توجد إلا في العقلاء في اللغة العربية، وغيرها؛ فإن الجمادات من الأصنام والأحجار والأشجار والتماثيل التي لا تعقل لا يقال فيها: (الذين لا يخلقون) ، و (لا يشعرون) ، ولا يملكون، ولا يستجيبون، ولا يسمعون ... ، كما لا يقال فيها: ( {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} ، وعباد أمثالكم، وأعداء، وعبادي، ونحشرهم، وغافلون، وغافلين، وكافرين، ويبعثون، ويبتغون، ويرجون، ويخافون) ... ؛ وهذه كلها براهين باهرة * وسلاطين قاهرة * وحجج ساطعة * وأدلة قاطعة * - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 على أن آلهة المشركين السابقين إنما كانوا عقلاء، وأنهم كانوا من عباد الله تعالى وليسوا جمادات بحتة، ولا أحجار صرفة، ولا أصنام خالصة، كما تزعم القبورية. وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ردا على ابن جرجيس خاصة * وعلى القبورية أتباع إبليس عامة * مجيبًا عن هذه الشبهة: (فأقول: يريد العراقي بهذا الكلام إثبات المساواة بين الأموات * والأحياء! ؛ ليغري الناس على ندائهم في الملمات * والدعاء! . وهذا يبطله ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 22] . وشبه بهم من لم ينتفع بسماع الهدى؛ وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أموات {غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 [النحل: 20 - 21] ، وليست هذه الآية في الأصنام - كما يزعمه من لم يتدبر؛ لأن الأصنام من الأخشاب والأحجار لا يحلها الموت ... ولا شعور لها. وقد قال تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} الآية، وإنما هي فيمن يموت ويبعث: من أهل الكرامات، والمعجزات، وغيرهم؛ كما لا يخفى على من تدبرها، وتأمل قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، وهذا إنما يستعمل فيمن يعقل؛ كما لا يخفى على من له معرفة باللغة العربية [بل بغيرها من اللغات أيضا] ؛ فالحمد لله على ظهور الحجة * وبيان المحجة) . قلت: بعد إتمام هذه الحجة * وإنارة هذه المحجة * لا يمكن للقبورية أن يقولوا: إن المشركين كانوا يعبدون الأحجار والأشجار، ونحن نستغيث بالأنبياء والأولياء. ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا ... وأنك تلقى باطل القول لجلجا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 أبن وجه نور الحق في صدر سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق الجواب الخامس: أن علماء الحنفية قد حققوا أن المشركين لم يكونوا يعبدون الأصنام والأحجار لذاتها في الحقيقة، وإنما كان قصدهم عبادة هؤلاء الصالحين الذين ظنوا أنهم مقربون عند الله، ويشفعون لهم عنده، وإنما صوروا لهم تماثيل ليجعلوها قبلة للتوجه إلى هؤلاء المقربين، كما أن الكعبة قبلة للمسلمين؛ لأنه لا يعقل في أحد من بني آدم أن ينحت بيده حجرًا أو خشبًا ثم يعتقد أنه إلهه ويعبده ويجعله شفيعًا بينه وبين الله، إذن لا يتصور إطباق جم غفير من العقلاء على عبادة الأصنام والأخشاب والأحجار لذاتها وجعلها آلهة بأعيانها؛ لأن هذا مما لا يصدر من عاقل، ولا يتصور أن يفعله أحد من بني آدم، فكيف يتصور ذلك من جم غفير من العقلاء؟ بل الحقيقة أن المعبود لهم لم يكن هذا الحاضر من الصنم المنحوت من الحجر أو الخشب، بل المعبود إنما كان ذلك الغائب الذي صوروه وجعلوا له صنمًا من خشب أو حجر أو صفر أو غيره، فالصنم لم يكن مقصودًا بالعبادة، وإنما كان المقصود هو ذلك المقرب الصالح، وإنما كان الصنم قبلة لتوجههم إلى هذا الصالح المقرب عند الله في زعمهم، الشفيع لهم عنده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 هذا هو ما عليه جمهرة المشركين، ولكن لا يمنع أن يكون فيهم بعض الحمقى السفهاء الذين لم يتفطنوا للفرق بين هذه الأصنام، وبين من هي على صورهم، فظنوها معبودات وآلهة بأعيانها. ولذلك نرى: أن الله تعالى تارة قد يرد على أمثال هؤلاء السفهاء أيضًا كقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] . قلت: لا ريب في أن القبورية الوثنية من هذه الأمة - على طريقة الوثنية الأولى بعينها، فإنهم أيضًا يعظمون آثار الصالحين كقبورهم، وأحجارهم، وأشجارهم، كأنها قبلة لتوجههم إلى هؤلاء الصالحين، فقد قال علماء الحنفية في بيان سبب تعظيم المشركين للأصنام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 (إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا: أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله تعالى، ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله) . ولذلك صرح الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) بأن المعبود الحقيقي عند المشركين إنما كان هو الله تعالى، وأما آلهتهم الأخرى فكانوا يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى. وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) محققًا أن المشركين السابقين لم يقصدوا عبادة الأحجار والأصنام لذاتها، بل كانوا يعبدون من يعتقدون فيهم الشفاعة عند الله، مبينًا أن القبورية في ذلك على طريقة الوثنية الأولى: (فإن قال [القبوري] : ((الشرك عبادة الأصنام)) ، فقل له: ((ما معنى عبادة الأصنام؟)) . أتظن أنهم كانوا يعتقدون: أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق، وترزق، وتدبر أمر من دعاها؟)) - فهذا يكذبه القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 وإن قال: ((هو قصد خشبة، أو حجرًا، أو بنية على قبر، أو غيره -[مما له تعلق بالصالحين]- يدعون ذلك ويذبحون له، ويقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع عنا [المصائب] ببركته)) . - فقل له: ((صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار، والأبنية التي على القبور وغيرها)) . فهذا قد أقر: أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام) . الجواب السادس: أنه لو سلم أن المشركين السابقين كانوا يعبدون الأصنام والأحجار لذاتها والقبورية من هذه الأمة لا يعبدون الأحجار، بل يستغيثون بالأنبياء، والأولياء، لكن لا نسلم أن القبورية غير مشركة؛ لأنه قد تحقق أن القبورية من أعظم أهل الشرك، وأن استغاثتهم بالأموات عند الكربات ونذورهم لهم عند الملمات * من أعظم الشركيات؛ لأنها من أعظم أنواع العبادات *؛ فالقدر المشترك بينهم وبين المشركين الأولين هو ارتكاب الشرك الأكبر وعبادة غير الله تعالى - سواء كان ذلك إنسانًا، أو جنا، أو ملكًا، أو صنمًا، أو حجرًا، أو شجرًا، حيًّا، أو ميتًا، قبرًا، أو غارًا، فمن عبد غير الله تعالى - فقد أشرك به سبحانه؛ فمن زعم أن المشركين السابقين - كانوا مشركين؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والأحجار؛ بخلاف القبورية - فإنهم لا يعبدون الأصنام ولا الأحجار، وإنما يستغيثون بالأموات عند الكربات وينذرون لهم عند الملمات - فهم ليسوا بمشركين - فهو إما مجنون، زائل العقل، مرفوع عنه القلم، ملحق بالأنعام * أو مستكبر، معاند، مكابر، سوفسطائي، مغرض، ممرض للأنام * فلسان حاله يقول: لا أنتهي لا أنثني لا أرعوي ... ما دمت في قيد الحياة ولا إذا ولكننا نقول له: فليس شعاع الشمس يخفى لناظر ... أفيقوا عن الإصرار ما بالكم لد وإليكم لتحقيق هذا المطلوب بعض نصوص علماء الحنفية: قال العلامة السهسواني (1326هـ) بعد ذكر عقائد المشركين مقارنًا بها عقائد القبورية من هذه الأمة: (وإذا تقرر هذا فلا شك: أن من اعتقد في ميت من الأموات، أو حي من الأحياء: أنه يضره أو ينفعه، إما استقلالًا، أو مع الله تعالى، وناداه، أو توجه إليه، أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق - فهو لم يخلص التوحيد لله، ولا أفرده بالعبادة، إن الدعاء بطلب وصول الخير إليه، ودفع الضر عنه - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 هو نوع من أنواع العبادة، ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه - حجرًا، أو ملكًا، أو شيطانًا، كما كان يفعل ذلك أهل الجاهلية، وبين أن يكون إنسانًا من الأحياء أو الأموات، كما يفعله الآن كثير من المسلمين. وكل عالم يعلم هذا، ويقر به، فإن العلة واحدة، وعبادة غير الله تعالى، وتشريك غيره معه - للحيوان، كما يكون للجماد، وللحي كما يكون للميت. فمن زعم: أن ثم فرقًا بين من اعتقد في وثن من الأوثان: أنه يضر أو ينفع، وبين من اعتقد في ميت من بني آدم، أو حي منهم: أنه يضر أو ينفع، أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلا الله - فقد غلط غلطًا بينًا، وأقر على نفسه بجهل كثير؛ فإن الشرك - هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغير الله فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره مما لا يتقرب به إلا إليه، وليس في مجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكًا: بالصنم، والوثن، والإله لغير الله - زيادة على التسمية بالولي، والقبر، والمشهد، كما يفعله كثير من المسلمين؛ بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن؛ إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئًا يختص به سبحانه، سواء أطلق على ذلك الغير ما كانت تطلقه عليه الجاهلية، أو أطلق عليه اسم آخر. فلا اعتبار بالاسم فقط، ومن لم يعرف هذا؛ فهو جاهل لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به أهل العلم، وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام - لم تكن إلا بتعظيمها، واعتقاد: أنها تضر وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة، والتقرب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم ... وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور [وأهلها] ... ) ، ثم حقق رحمه الله أن القبورية أشد شركًا من الوثنية الأولى، وأعظم عبادة للقبور وأهلها منهم لله عز وجل. 2 - وقال الشيخ الرستمي بعد ذكر قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] : (فمن اجتنب عن عبادة الأحجار والخشب، وابتلي في عبادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 القبور - فهو منكر هذه الآية، وداخل في حكم المشركين؛ فعلم من جميع هذا التفصيل: أن بين المشركين السابقين وبين عابدي القبور في هذا الزمان أو غيره ليس فرق ما، بل فصلنا في هذا الباب تفصيلًا طويلًا؛ ليوازي كل عابد قبر نفسه بالمشركين السابقين، ويظهر له باليقين: أن عبادة القبور أيضًا شرك وضلال، فلا يغتر هؤلاء الجهلة بأنا مؤمنون وموحدون، بل صدق عليهم قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 فيا أيها الإخوان! ، ويا مدعي الإسلام! ، الشرك الشرك، وعبادة القبور، وعبادة القبور؛ فإنها شرك الردى، يردى صاحبها، ويهوي صاحبها في مكان سحيق) . 3 - وقال حفظه الله: (وبعض الجهلة إذا سمعوا هذه المقالة - يقولون: ((إن هؤلاء الوهابيين يسوون بين الأنبياء والأولياء، وبين سائر الناس والأوثان والأصنام، ويذلونهم)) . فأقول لهم - تمثيلًا -: بأن من يصلي، وأكل بصلًا، أو فومًا في الصلاة - فتفسد صلاته بهذا الأكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 وكذا من أكل طعامًا لذيذًا مثل اللبن، أو الدجاج، أو غيرها في الصلاة - تفسد صلاته. فهل يجوز لأحد أن يقول: إن الفقيه سوى بين البصل واللبن؟ فكذا التوحيد يفسد بأن يعتقد في عامة الناس التصرف والملك للأصنام. أو يعتقد هذا الاعتقاد في الأنبياء والأولياء) . الحاصل: أن العبرة بارتكاب الشرك لا بالشريك، فالمشرك مشرك؛ سواء أشرك بالله تعالى: صنمًا، أو وثنًا، أو حجرًا، أو شجرًا، أو قمرًا، أو شمسا، أو نجمًا، أو أشرك بالله تعالى: ملكًا مقربًا، أو نبيا مرسلًا، أو وليًّا كاملًا، أو رجلًا عاميا. قلت: هذا الذي ذكرته من كلام الحنفية في هذا الجواب يكفي لقلع شبهة القبورية وقطع دابرهم: ولو كان هذا موضع القول لاشتفى ... به القلب لكن للمقال مواضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 الجواب السابع: أن علماء الحنفية قد حققوا: ((أن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس - من الشرك بشجر أو حجر، ولهذا نجد كثيرًا من الناس عند القبور: يتضرعون ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في مساجد الله تعالى، ولا في وقت السحر! ، ومنهم من يسجد لها، وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها ولديها ما لا يرجون في المساجد)) . قلت: لعلماء الحنفية أجوبة أخرى أيضًا في الجواب عن هذه الشبهة وإبطالها. وأقول: بناء على ذلك لو سلم أن المشركين السابقين كانوا عباد الأصنام والأشجار * وعبدة الأوثان والأحجار * التي لا كرامة لها ولا مكانة عند الله، ولا تضر ولا تنفع * ولا ترى ولا تسمع * - لكان شرك القبورية أشد وأسرع فليكن السابقون عباد الأحجار والأشجار، فإن ذلك لا ينفع القبورية عبدة القبور وأهلها، ولا يبرر شركهم ولا يجوز استغاثتهم بالأموات * ولا يبيح النذور لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 عند الكربات *؛ فالفريقان كلاهما أهل الشرك وكلهم جميعًا عبدة غير الله سبحانه؛ فإن تنج منها تنج من ذي ملمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا وبعد إبطال هذه الشبهة ننتقل إلى إبطال شبهتهم الأخرى: الشبهة الثانية: شبهة التكفير والخروج: لقد أثارت القبورية ضد التوحيد وأئمته كثيرًا من العوام الجهلة، وقاموا وقعدوا وهولوا وجولوا، وصاحوا وصرخوا، وقالوا: إن هؤلاء الوهابية قد كفروا الأمة المسلمة كلها جميعًا برمتها، ورموها بالشرك والكفر على طريقة إخوانهم الخوارج كلاب النار، فزعموا في المؤمنين الموحدين زوار القبور المستغيثين بالأنبياء والأولياء: أنهم يعبدون غير الله، وأنهم يشركون بالله، ويعمدون إلى آيات نزلت في الكفار والأصنام - فيحرفونها ثم يحملونها على المؤمنين الموحدين المتوسلين، مع أن زوار قبور الصالحين بريئون من الشرك بحمد الله. والقبورية يتشبثون لتحقيق شبهتهم هذه بتلك الأحاديث المطلقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 التي فيها ذكر قول ((لا إله إلا الله)) مطلقًا بدون قيد؛ كحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» ، وحديث أسامة: «يا أسامة! أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟» الحديث. وقالوا: إن هذه الأحاديث دالة على أن الكفر أمر باطني؛ فلا يجوز تكفير أحد ممن قال كلمة التوحيد؛ لكن هؤلاء الخوارج يكفرون الأمة الإسلامية جمعاء، حتى الصحابة والتابعين وأتباعهم، والمتكلمين، والفقهاء، والمحدثين، والصوفية إلى يوم القيامة. قلت: لعنة الله على الأفاكين البهاتين * وغضب الله على المتقولين الدجالين *!؟! وأقول: يجدر بي أن أسوق نصوص بعض القبور بحرفها وفصها في تقرير هذه الشبهة ليظهر للمسلمين تهورهم * وفي دركات البهتان تطورهم *: 1 - قال ابن عابدين الشامي (1252هـ) ، مبينًا تعريف الخوارج، مدرجًا فيهم أئمة الدعوة السلفية، معلقًا على قول الحصكفي (1088هـ) : [ (( ..... ، وخوارج: وهم قوم لهم منعة، خرجوا عليه [أي الإمام] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 بتأويل يرون أنه على باطل: كفر، أو معصية توجب قتاله بتأويلهم، ويستحلون دماءنا وأموالنا، ويسبون نساءنا، ويكفرون أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم)) ]-: ( ... ، كما وقع في زماننا في أتباع عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد، وتغلبوا على الحرمين، وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون، وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم، حتى كسر الله شوكتهم، وخرب بلادهم، وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين) . 2 - وقال جميع أئمة الديوبندية وشيوخهم، وعلى رأسهم خليل أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 السهارنفوري (1346هـ) في الجواب عن السؤال ((الثاني عشر)) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 (قد كان محمد بن عبد الوهاب النجدي يستحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وكان ينسب الناس إلى الشرك، ويسب السلف، فكيف ترون ذلك؟ وهل تجوزون تكفير السلف والمسلمين وأهل القبلة؟ أم كيف مشربكم؟. الجواب: الحكم عندنا فيهم: ما قال صاحب الدر المحتار ... ) ، ثم ساقوا كلامه المذكور آنفًا في الخوارج، ثم قالوا: (وقال الشامي في حاشيته: ((كما وقع في زماننا في أتباع عبد الوهاب .... )) ) . ثم ساقوا كلام ابن عابدين المذكور - الذي قرروا فيه: أن محمد بن عبد الوهاب وأتباعه خوارج مكفرون للمسلمين. 3 - وقال خرافي آخر وهو الشاه محمد أنور الكشميري (1352هـ) أحد كبار أئمة الديوبندية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 (أما محمد بن عبد الوهاب النجدي - فإنه كان رجلًا بليدًا، قليل العلم، فكان يتسارع إلى الحكم بالكفر، ولا ينبغي أن يقتحم في هذا الوادي إلا من يكون متيقظًا متقنًا عارفًا بوجوه الكفر وأسبابه) . 4 - وقال حسين أحمد الملقب عند الديوبندية بشيخ الإسلام، أحد كبار أئمة الديوبندية، وأحد مشاهير القبورية الخرافية، وأحد الأعداء الألداء للدعوة السلفية وأئمتها (1377هـ) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 (محمد بن عبد الوهاب النجدي كان يحمل خيالات باطلة، وعقائد فاسدة، وقاتل أهل السنة والجماعة، وقتلهم، وأجبرهم على اعتقاد خيالاته، وغنم أموالهم، ورأى أن قتلهم موجب لرحمة الله، وقد آذى أهل الحرمين أشد الأذى، وكان يسيء القول في السلف الصالح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وقد تضايق كثير من أهل الحرمين من إيذائه، فهاجروا، واستشهد بأيدي جنوده آلاف من الناس؛ فالحاصل: أنه كان ظالمًا، وباغيًا، سفاكًا، فاسقًا، ولهذا أبغضه العرب كما أبغضوا أتباعه، إلى حد لم يبغضوا اليهود، ولا النصارى، ولا المجوس، ولا الهندوك؛ نعم يجب بغضهم وعداوتهم لما صدر منهم من أنواع الإيذاء لهم ... ؛ إن بين عقائدنا، وعقائد أكابرنا، وبين عقائد الوهابية بونًا بعيدًا، وفرقًا شاسعًا، كما بين السماء والأرض ... ؛ وإليكم بعض الأمثلة من عقائد الوهابية..؛ العقيدة الأولى: أن محمد بن عبد الوهاب يعتقد أن جميع المسلمين في جميع العالم مشركون وكافرون، وأن قتلهم، وقتالهم، وسلب أموالهم جائز وحلال، بل واجب ... ؛ وأن الشيخ النجدي يعتقد تحريم مناكحتهم ومجالستهم، ويوجب هتك أعراضهم، وإيذاءهم في دينهم، وأنفسهم، وأموالهم) . إلى آخر ما ذكره في الطعن في أئمة الدعوة وعقيدتهم، ظلمًا وعدوانًا * وبغيًا وبهتانًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 5 - وهكذا نرى كثيرًا من الديوبندية يرددون أكاذيب أكابرهم في كتبهم الوثنية. قلت: هذه عدة نماذج من نصوص القبورية ولا سيما الديوبندية في تقرير هذه الشبهة. وبذلك تبين للمسلمين حقيقة الديوبندية * وأنهم قبورية خرافية * إلا من رحم ربك منهم. والحقيقة أن هؤلاء الديوبندية وأئمتهم - قد شهدوا على أنفسهم بلسانهم وبنانهم: أنهم فرقة قبورية خرافية * مبتدعة صوفية * - بتلك الخرافات الوثنية التي سجلوها في كتبهم، كما أنهم شهدوا على أنفسهم: أنهم كذبة في افترائهم على أئمة التوحيد والسنة والدعوة السلفية، فقد أظهروا للناس حقيقة أمرهم - بتلك الشهادات التي هي أعظم وثوقًا من شهادة من قال الله تعالى فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ..... [يوسف: 26] ، ومن قواعد الحنفية: ((المرء مؤاخذ بإقراره)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 فلا يلومن إلا نفسه. ولنعم ما قيل: فكانت كعنز السوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت التراب تثيرها وبعد هذا العرض لهذه الشبهة، ننتقل إلى جهود علماء الحنفية في الجواب عنها وإبطالها وقلعها وقطع دابر أهلها. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بعدة وجوه أذكر منها: الوجه الأول: أن علماء الحنفية قد حققوا: أن من ركني التوحيد: ركن النفي، وهو نفي جميع ما يعبد من دون الله؛ سواء كان صنمًا أو حجرًا أو شجرًا، أو وثنًا، أو ملكًا مقربًا، أو نبيا مرسلًا، أو وليا كاملًا، أو رجلًا عاديا عاميا، أو جنيا، أو غير ذلك؛ فمن أقر بكلمة التوحيد ((لا إله إلا الله)) - ولكنه لم يتجنب من عبادة غير الله من الاستغاثة بالأموات، والنذر لهم عند الملمات ونحو ذلك - فلا يتحقق توحيده، ولا ينفعه التلفظ بكلمة التوحيد. وللعلامتين الآلوسيين كلام في غاية الأهمية في أن المسلم إذا تلفظ بالكفر وجحد ما هو من الضروريات كالتوحيد الذي هو دين الرسل فقد كفر ولو مزحًا. إذن بطل اتهام القبورية بأن الوهابية خوارج يكفرون المؤمنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 الموحدين. الوجه الثاني: أن علماء الحنفية قد صرحوا: بأن من شروط صحة التوحيد - فهم معنى: ((لا إله إلا الله)) - فمن قال هذه الكلمة بدون فهم معناها، ويرتكب الشرك، ويعبد غير الله - لا يدخل في الإسلام ولا يصح توحيده. قلت: إذا كان الأمر كذلك - لا يصح زعم القبورية أن المستغيثين بالأموات والناذرين لهم عند الكربات - موحدون مؤمنون *؛ فبطل تهمة الخروج، وتهمة تكفير المؤمنين الموحدين *. الوجه الثالث: أن علماء الحنفية قد ذكروا في شروط صحة التوحيد: التصديق المنافي للتكذيب. ولا شك أن القبورية مع قولهم: ((لا إله إلا الله)) يكذبون معناها - بارتكابهم للشرك الأكبر، وعبادة غير الله؛ فالقبورية في الحقيقة مكذبون لهذه الكلمة لا مصدقون بها، وإن كانوا يقولونها باللسان. وبهذا ثبت أن القبورية ليسوا موحدين ولا مؤمنين * وبطلت شبهة تكفير المؤمنين الموحدين *. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 الوجه الرابع: أن علماء الحنفية اشترطوا لصحة التوحيد: الإخلاص المنافي للشرك. ولا ريب أن القبورية لم يحققوا هذا الشرط؛ لأنهم مع تلفظهم بكلمة التوحيد - يرتكبون الشرك البواح * والكفر الصراح * ويعبدون الأموات بأنواع من العبادات * فلا يصح توحيدهم * مع ندائهم الأموات عند الكربات *. وإذا كان الأمر كذلك - فأنى للقبورية أن يكونوا مؤمنين موحدين * وثبت أن القبورية كذابون متقولون على أئمة التوحيد والسنة في أنهم خوارج، وأنهم يكفرون المؤمنين الموحدين *. الوجه الخامس: أن علماء الحنفية صرحوا بأن الركن الأهم في الإيمان * - هو التصديق بالجنان *. وأئمتهم الثلاثة: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وغيرهم، كالطحاوي وغيره - يجعلون الإقرار باللسان أيضًا ركنًا للإيمان *. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 فإذا كان الأمر كذلك - فالقبورية لم يحققوا التصديق بالجنان * لارتكابهم الشرك الأكبر، وعبادتهم للأموات * من الاستغاثة، والنذور عند الكربات *؛ فزالت شبهة تكفير المسلمين المؤمنين الموحدين من أصلها، وبطلت تهمة الخروج. الوجه السادس: أن علماء الحنفية قد صرحوا بعدم تكفير أهل القبلة، لكن إذا لم ينكر أحد منهم ما هو من ضروريات الدين * فمن أنكر ما هو من ضروريات الدين *، وارتكب ما هو كفر بواح * وشرك صراح * - فهو عندهم كافر؛ حتى أن كثيرًا منهم لا يعذرون بالجهل في ذلك، وإن كان مواظبًا طول عمره على الطاعات. قلت: بناء على نصوص هؤلاء العلماء من الحنفية - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 لا شك أن القبورية قد ارتكبوا كفرًا بواحًا * وشركًا صراحًا * وأنكروا ما هو من ضروريات الدين: من التوحيد، وإفراد الله تعالى بالعبادة، فيتحقق كفرهم عند علماء الحنفية، ولا يعذرون بالجهل، ولكن لا يجوز تكفيرهم قبل إقامة الحجة عليهم وإيضاح المحجة لهم عند أئمة السنة، والحنفية. وبهذا قد بطلت شبهة القبوريين * وذهب اتهامهم لأئمة الدعوة بأنهم خوارج يكفرون المسلمين * - أدراج الرياح * وأنهم على أئمة السنة باغون أقحاح *، وأن القبورية في هذا الاتهام كذابون أفاكون * ساقطون عن العدالة خائنون مائنون * كما أنهم بهاتون متقولون في زعمهم أن الوهابية يعمدون إلى آيات نزلت في الكفار المشركين * والأوثان، فيحرفونها ويحملونها على المؤمنين الموحدين *. الجواب السابع: أن علماء الحنفية قديمًا وحديثًا أشد الناس في التكفير وأسرع الناس إليه ويكفرون بأشياء قد لا تكون من الكفر البواح مباشرة إلا بالوسائط التي لم يلتزمها ذلك القائل الذي يحكمون عليه بالكفر، وقد اشتكى تهورهم وإسراعهم إلى التكفير كثير من الناس. وقد خصص كثير من علماء الحنفية عدة مباحث للتكفير في كتبهم، وبوبوا لذلك واهتموا بجمع ألفاظ الكفر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 والتصريح بالتكفير بها، وفي ذلك من العجائب والغرائب من تكفير المسلمين، بأشياء قد تصدر خطأ، أو بزلة لسان * دون قصد الجنان *، وقد جمع العلامة القاري (1014هـ) ألفاظ الكفر وكلمات الارتداد عند الحنفية فأوعى. وذكر العلامة الآلوسي (1317هـ) طرفًا من ذلك أيضًا. بل قد ألف بعض الحنفية كتابًا في ألفاظ الكفر وكلمات الارتداد والأقوال التي يكفرون بها المسلم الذي صلى وصام، وزكى، وحج، وعبد الله طوال عمره. قلت: إذا كان الأمر كما وصفت - فلم لا يوجه القبورية - ولا سيما قبورية الحنفية * طعونهم وسهامهم إلى الحنفية؟!؟ * - ولم لا يحكمون عليهم بأنهم خوارج كلاب النار * وأنهم جعلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 المسلمين كالكفار *؟ وأنهم يكفرون المسلمين بمثل هذا التكفير الواسع الأرجاء؟ فلم هذا الإباء والإحجام والإرجاء؟ * ولكن القبورية في كتمان الحقائق واتهام الأبرياء كمن قيل فيه: أصم عن الشيء الذي لا أريده ... وأسمع خلق الله حين أريد وما قيل: فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا مع أن أئمة التوحيد والسنة لا يكفرون أحدًا بمثل هذا التكفير الواسع الذي يوجد عند الحنفية. كما أنهم لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة إلا بعد إتمام الحجة * وإيضاح المحجة * ولكن القبورية في عدم الإنصاف * وشدة الاعتساف * كمن قيل فيه: فرصاص من أحببته ذهب كما ... ذهب الذي لم ترض عنه رصاص بل هم في الظلم والعدوان * والبغي والاتهام والبهتان * كمن قيل فيه: إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا إذن لا ذنب لأئمة التوحيد والسنة، ولا مبرر للقبورية في ولوغهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 أعراضهم، فإن القبورية كذابون بهاتون في الحكم عليهم بأنهم خوارج، وأنهم يكفرون المسلمين. وأقول متمثلًا بما قيل: أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا الجواب الثامن: أن الحنفية قد صرحوا بأن الخوارج كانوا يكفرون المسلمين بارتكاب الكبيرة من الذنوب العملية دون الاعتقادية. فمن كفر أحدًا بارتكاب كفر بواح * وشرك صراح * بعد إقامة الحجة عليه * وتنور المحجة لديه * - لا يقال له: إنه خارجي يكفر المسلمين * المؤمنين الموحدين *! ومن زعم ذلك - فهو مغالط ماكر ملبس مغرض * غالط شاطر مدلس ممرض * فأئمة الدعوة لم يكفروا أحدًا من المسلمين بارتكاب الذنب الكبير العملي، ولا كفروا أحدًا بارتكاب الكفر والشرك إلا بعد إقامة الحجة عليه * وإيضاح المحجة لديه *؛ قال العلامة السهسواني (1326هـ) في الرد على دحلان أحد أئمة الدعاة إلى عبادة الشيطان (1304هـ) ؛ وكشف تلبيساته * وبيان أكاذيبه وتمويهاته وتدليساته *: (وأما المسألة الثالثة - وهي من أكبر تلبيسك الذي تلبس به على العوام -: أن أهل العلم قالوا: ((لا يجوز تكفير المسلم بالذنب)) ، وهذا حق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 ولكن ليس هذا مما نحن فيه، وذلك أن الخوارج يكفرون من زنا، أو سرق، أو سفك الدم، بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر [عندهم] ، وأما أهل السنة فمذهبهم: أن المسلم لا يكفر إلا [بالكفر] بالشرك، ونحن ما كفرنا الطواغيت وأتباعهم إلا بالشرك، لكنك رجل من أجهل الناس * [ومن أكذب الناس *] ؛ تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم - لا يكفر؛ فإذا كنت تعتقد ذلك - فما تقول في المنافقين الذين يصلون ويصومون ويجاهدون ... ؟؟؟ ما تقول في الذين اعتقدوا في علي بن أبي طالب مثل اعتقاد كثير من الناس في عبد القادر وغيره ... ؟؟ فأضرم لهم علي بن أبي طالب نارًا فأحرقهم بها وأجمعت الصحابة على قتلهم لكن ابن عباس رضي الله عنهما أنكر تحريقهم بالنار، وقال: ((يقتلون بالسيف)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 أتظن أن هؤلاء ليسوا من أهل القبلة؟ أم أنت تفهم الشرع!؟! ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفهمونه؟؟؟؟) . الحاصل: أن أهل التوحيد والسنة لا صلة لهم بالخوارج، وليست شبهة القبورية هذه إلا محض اتهام لإضلال العوام * ولحاجة في نفوس هؤلاء الطغام * رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئًا ومن أجل الطوي رمانيا الوجه التاسع: أن كثيرًا من علماء الحنفية قد صرحوا بأن أئمة الدعوة لا يرون تكفير من ارتكب الكفر والشرك - إلا بعد إقامة الحجة عليه * وتنوير المحجة لديه * وهذا غاية في الاحتياط، ونهاية في تقوى الله سبحانه وتعالى؛ قال العلامة السهسواني (1326هـ) في الرد على دحلان (1304هـ) : (السادس: أنك قد عرفت فيما تقدم: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يكفر السواد الأعظم من المسلمين، ومن كفره، فلم يكفره بارتكاب ذنب من الكبائر، كما هو مذهب الخوارج؛ وإنما كفره بدعوة غير الله، حيث يطلب فيها منه ما لا يقدر عليه إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 الله * وهذا لا يستريب أحد من أهل العلم والديانة: أنه عبادة لغير الله * وعبادة غير الله لا شك في كونها كفرًا؛ مع أنه لم يكفره أيضًا حتى عرفه الصواب * ونبهه [إلى طريقة السنة والكتاب] *. وأيضًا قد عرفت فيما مر: أن الشيخ ليس بمنفرد في هذا التكفير؛ بل جميع أهل العلم من أهل السنة والجماعة يشاركون فيه، لا أعلم أحدًا مخالفًا له ... ) . ثم عد جمعًا من العلماء بأسمائهم، أنهم كفروا القبورية بشركياتهم. وقد ساق العلامة السهسواني عدة نصوص لمجدد الدعوة الإمام، تنفي هذه التهمة الماكرة * وتكذب القبورية الكذابة الفاجرة. وذكر العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : أن المسلم، بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري، فيجب تنبيهه وتعليمه ليتوب، ولا يحكم بكفره لأجل جهله، وذلك إتمامًا للحجة * وإيضاحًا للمحجة *. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 وذكر الآلوسي أن أهل التوحيد لا يكفرون إلا من حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بكفره. قلت: هذا كما قال الإمام ابن القيم: من كان رب العالمين وعبده ... قد كفراه فذاك ذو الكفران قلت: لأجل عدم إتمام الحجة * وإيضاح المحجة * لم يحكم علماء الحنفية على القبورية بالكفر بمعنى خروجهم عن الملة والارتداد عن دين الإسلام. وأقول: إن عدم الحكم على القبورية - مع ارتكابهم الشرك الصريح الصراح * والكفر القبيح البواح * - بتكفيرهم وخروجهم عن الملة، وارتدادهم عن الإسلام - مثل عدم الحكم على الجهمية المعطلة بعدم الارتداد - مع ارتكابهم الكفر الواضح * والشرك الفاضح * - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 لأجل خوف عدم إقامة الحجة عليهم * وعدم إيضاح المحجة لديهم * ولقد أجاد أبو غدة الكوثري أحد كبار الكوثرية * وأحد الموالين للقبورية * وأفاد في جمع نصوص العلماء الأعلام * ولا سيما نصوص شيخ الإسلام * في عدم تكفير الجهمية لأجل عدم إقامة الحجة عليهم * وعدم تنوير المحجة لديهم * وذكر فيها قول شيخ الإسلام: ((لو وافقتكم كنت كافرًا ..... ، وأنتم لا تكفرون؛ لأنكم جهال)) . فتبين أن أئمة السنة ليسوا متهورين في التكفير * وأن القبورية كاذبون في النكير *. الوجه العاشر: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن القبورية يستحقون وصف الخوارج فإنهم هم أشد الناس تكفيرًا، بل هم أشنع تكفيرًا من الخوارج، والخوارج خير منهم؛ لأن الخوارج كانوا يكفرون الناس بارتكاب الكبائر، أما القبورية - فهم يكفرون أهل التوحيد بتوحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة. قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (يوضحه الوجه الثاني: أن الخوارج إنما كفروا الأمة بمخالفة أمره ومعصيته، وتمسكوا بنصوص متشابهة لم يردوها إلى المحكم؛ وأما عباد القبور - فكفروا بموافقة الرسول [صلى الله عليه وسلم] في نفس مقصوده، وجعلوا تجريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 التوحيد كفرًا وتنقصًا؛ فأين المكفر بالذنب من المكفر بموافقة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وتجريد التوحيد؟؟) . قلت: لقد ذكرني كلام الآلوسي هذا كلام ابن القيم (751هـ) رحمه الله، فقد قال مبينًا أن القبورية أشنع كفرًا من الخوارج: وخصومنا قد كفرونا بالذي ... هو غاية التوحيد والإيمان ومن العجائب أنهم قالوا لمن ... قد دان بالآثار والقرآن أنتم بذا مثل الخوارج إنهم ... أخذوا الظواهر ما اهتدوا لمعان فانظر إلى ذا البهت هذا وصفهم ... نسبوا إليه شيعة الإيمان سلوا على سنن الرسول وحزبه ... سيفين سيف يد وسيف لسان والله ما كان الخوارج هكذا ... وهم البغاة أئمة الطغيان كفرتم أصحاب سنته وهم ... فساق ملته فمن يلحاني إن قلت هم خير وأهدى منكم ... والله ما الفئتان مستويان شتان بين مكفر بالسنة ال ... عليا وبين مكفر العصيان الوجه الحادي عشر: وهو جواب عن تشبث القبورية بتلك الأحاديث المطلقة التي وردت في قول: ((لا إله إلا الله)) : والجواب: أن تلك الأحاديث لا تفيد القبورية شيئًا، ولا تدل على شيء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 مطلوبهم؛ فإن غاية ما في تلك الأحاديث وجوب الكف عن قتل من قال: ((لا إله إلا الله)) حتى يتبين أمره، وليس معناها أن من قال: ((لا إله إلا الله)) - فهو مسلم مؤمن موحد، وإن ارتكب كفرًا بواحًا * وشركًا صراحًا *!!! ؛ لما سبق تحقيقه: من أن هذه الأحاديث المطلقة مقيدة بقيود وردت في أحاديث أخرى، فلا يكفي مجرد قول كلمة التوحيد باللسان * دون تصديق معناها بالجنان *؛ قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (ولخصوم الحق، وأعداء الدين شبهة أخرى: وهي: أنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: ((لا إله إلا الله)) ، وقال: «أقتلته بعدما قال: ((لا إله إلا الله)) ؟» ) . وكذلك قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» ... ، إلى أحاديث أخر في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة: أن من قالها - لا يكفر، ولا يقتل، ولو فعل ما فعل .... ؛ فيقال لهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 من المعلوم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود، وسباهم، وهم يقولون: ((لا إله إلا الله)) ، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون: ((إن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)) ، ويصلون، ويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار. وهؤلاء الجهلة يقرون: أن من أنكر البعث - كفر، وقتل ولو قال: ((لا إله إلا الله)) ، وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام - كفر، وقتل ولو قالها؛ فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعًا من الفروع!؟! ، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس دين الرسل، ورأسه؟؟؟ ؛ ولكن أعداء الله لم يفهموا معنى الأحاديث! ؛ فأما حديث أسامة - فإنه قتل رجلًا ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 [النساء: 94] . أي: تثبتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه، والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام - قتل؛ لقوله: ((فتبينوا)) ، ولو كان لا يقتل إذا قالها - لم يكن للتثبت معنى، وكذلك الأحاديث الأخر معناها ما ذكرنا وأن من أظهر التوحيد والإسلام - وجب الكف عنه إلا أن يتبين منه ما يناقض ذلك ..... ) . قلت: لقد بطلت شبهات القبورية كلها المتعلقة بالتكفير بحمد الله وحسن توفيقه، وتبين أنهم في جميع ذلك كذابون أفاكون، دجالون، مضلون * والآن ننتقل إلى عرض شبهتهم الأخرى لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطالها: الشبهة الثالثة: شبهة تعظيم الأنبياء ومحبة الأولياء. زعم القبورية قديمًا وحديثًا - لتبرير كل ما يرتكبونه من الاستغاثة بالأموات عند الكربات * والنذور لهم، والسجدة لهم، واعتقاد التصرف وعلم الغيب لهم وغير ذلك من الشركيات والعبادات * - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 أن كل ذلك ليس من باب الإشراك بالله ولا من قبيل عبادة غير الله *، بل ذلك من تعظيم أولياء الله، ومحبة أحباب الله *. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بتحقيقات طويلة جعلوها كأمس الدابر. وحاصلها: أن تعظيم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومحبة الأولياء والصالحين - أمر مطلوب، وهو من الإيمان، ومن أعظم الأمور في الإسلام، ومن أجل العبادة لله تعالى، ولكن إذا كان في حدود الشريعة الغراء؛ بحيث لا يكون ذلك غلوًا ولا مفضيًا إلى الغلو، ولا يكون ذريعة إلى الإشراك بالله تعالى ولا وسيلة إلى عبادة غير الله تعالى، وأن لا يسمى الشرك الصريح، ولا عبادة الأموات باسم التعظيم والمحبة. ولا يرتكب الوثنية، ولا يعبد غير الله تحت ستار التعظيم والمحبة، وأما تعظيم الأنبياء والأولياء إذا كان بالغلو فيهم وإطرائهم ورفعهم عن منزلتهم، ويتذرع به إلى الاستغاثة بهم والنذور لهم واعتقاد التصرف وعلم الغيب فيهم، ونحوها من الكفريات والشركيات - فهو ليس بتعظيم، بل هو في الحقيقة تحقير لشأنهم، واستخفاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 بهم، بل هو استخفاف بالله تعالى أيضًا وتحقير لجنابه سبحانه وتعالى، وإنه في الحقيقة مبالغة في الإشراك بالله وعبادة غير الله، وهو شرك صريح، وكفر قبيح تحت شعار التعظيم، وانسلاخ عن جملة الدين، وهذا النوع من التعظيم هو من أعظم أسباب الوثنية، والإشراك بالله، وعبادة غير الله عز وجل قديمًا وحديثًا، وإنما التعظيم للأنبياء عليهم السلام، والأولياء، ومحبتهم، وتوقيرهم، واحترامهم - يكون باتباع سنتهم، والتأسي بهم في أفعالهم وأقوالهم، وسلوك طريقهم، دون عبادتهم وعبادة قبورهم، والعكوف عليها، واتخاذها أوثانًا، وتعظيمهم لا يقتضي الاستغاثة بهم، وليس كل تعظيم جائزًا في الإسلام. قلت: إن ((التعظيم)) ، و ((المحبة)) ، و ((التوسل)) ، و ((الكرامة)) ، و ((العبادة)) ، و ((التوحيد)) ، و ((الشرك)) ، و ((الاستغاثة)) ، و ((النذر)) ، و ((الألوهية)) ، و ((الصفات)) ، و ((التشبيه)) ، ونحوها - مصطلحات شرعية يجب تفسيرها وشرحها وفق ما ورد في الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 والسنة، وطبق مصطلحات الصدر الأول من الصحابة التابعين؛ فمن فسرها بغير تفسيرها، وحملها على مصطلحات أهل البدع من الروافض، والجهمية * والمعتزلة، والأشعرية، والماتريدية، والصوفية، والقبورية * وغيرهم من أصناف المبتدعة - فقد حرف الإسلام، وقلب الحقائق، وبدل الدين * وأتى بزندقة عظمى * وطامة كبرى * وإلحاد مبين * وتحريف قرمطي * وتخريف وثني * وتلاعب بالمصطلحات * وغير الحدود واللغات *. وهذه حقيقة واقعة اعترف بها أحد كبار أئمة القبورية * وأحد دعاة الجهمية * ذلكم الكوثري (1371هـ) ، فقد قال - عليه من الله ما يستحقه - مقرا ببعض الحق، شاهدًا على نفسه وأهله وذويه، ذابحًا للقبورية والجهمية في آن واحد بسيف لسانه * ومدية بنانه * وشفرة قوله، وسكين نصه وبيانه * وقانونه الكلي وتبيانه *: (أين التجليات التي اصطلح عليها الاتحادية؟ من تخاطب العرب، ومن تفاهم السلف والخلف بهذا اللسان العربي المبين؟ حتى يكون حمل النصوص والآثار على التجليات المصطلح عليها فيما بعد عهد التنزيل بدهور - استعمالًا لها في حقائقها؟ ومن زعم ذلك فقد زاغ عن منهج الكتاب والسنة، وتنكب سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 السلف الصالح، ومسلك أئمة أصول الدين، ونابذ لغة التخاطب، وهجر طريقة أهل النقد في الجرح والتعديل، والتقويم والتعليل ... ) . قلت: بناء على شهادة هذا الكوثري، إمام القبورية الوثنية * والمعطلة الجهمية الماتريدية *وشيخ عصبة التعصبات المذهبية * - أقول، وأقلب حجته عليهم جميعًا: إن القبورية، والماتريدية * والأشعرية، والصوفية * وغيرهم من أهل البدع، قد حملوا كثيرًا من نصوص الكتاب والسنة * ومصطلحات الصحابة والتابعين، وأئمة هذه الأمة *: كالتوحيد، والتشبيه، والصفات، والتوحيد، والشرك، والعبادة، والألوهية، والكرامة، والولاية، والتوسل، والتعظيم، والمحبة، وغيرها من المصطلحات الشرعية - على مصطلحات ومعان أحدثوها، وفسروها على ما يوافق مذهبهم البدعي والشركي القبوري، الوثني، الجهمي، الصوفي، الخرافي، كما تراه هاهنا مما فعلت القبورية الوثنية، حيث سمت الشرك الأكبر وعبادة الأموات * والاستغاثة بهم عند الكربات، والنذر لهم عند الملمات * - باسم التعظيم والمحبة، والولاية، والكرامة، والتوسل، ونحوها من المصطلحات التي كانت عند الصحابة والتابعين - على ضد ما تقصده القبورية، وتفعله وتقوله وتعتقده؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 فجاءت القبورية فعمدت إلى تلك المصطلحات القرآنية والسنية التي كانت لها معان أخرى عند الصحابة والتابعين - فحرفتها وحملتها على مصطلحات الوثنية الشركية الكفرية؛ إذن تحقق: أن القبورية - في حمل تلك المصطلحات على مصطلحاتهم - أبعد الناس من تخاطب العرب وتفاهم السلف، واللسان العربي المبين، وأنهم قد زاغوا - بهذا التحريف والتبديل والتغيير للمصطلحات - عن منهج الكتاب والسنة * وطريقة السلف أئمة هذه الأمة *، وأنهم بتخريفاتهم الوثنية هذه - تنكبوا سبيل السلف الصالح - باعتراف الكوثري وقانونه -. وأقول: إن الحمد لله الذي دفع أهل البدع بعضهم ببعض، وقطع دابر صغارهم بسيوف كبارهم، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] ، وقمعهم بسلاح كوثريهم؛ ومع ذلك ترى القبورية قديمًا وحديثًا في كل مكان وزمان * - يقاتلون أهل التوحيد والسنن بالسيف والسنان والبهتان * ولكن أهل التوحيد بتوفيق الرحمن * يقمعونهم بالحجة والبرهان * فإن عدت والله الذي فوق عرشه ... منحتك مسنون الغرارين أزرقا فإن دواء الجهل أن تضرب الطلى ... وأن يغمس العريض حتى يفرقا وبعد هذا ننتقل إلى شبهتهم الأخرى، وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 الشبهة الرابعة: شبهة تنقيص الأنبياء والأولياء: لقد تسلحت القبورية بسلاح فتاك * مسموم بسم قاتل سفاك * إضلالًا للعوام * وإغواء للأنام * قاتلت به أهل التوحيد والسنة قديمًا وحديثًا في كل مكان وزمان * بالظلم والبغي والعدوان والافتراء والبهتان * كما قاتلتهم بقوة السنان والسلطان * لعجزهم عن إقامة الحجة والبرهان * على استغاثتهم بالأموات وعبادتهم للأوثان * ولكونهم من أكذب الناس في البيان * وأقلهم خوفًا من الرحمن * وهو اتهامهم أهل التوحيد بأنهم يسيئون الأدب في حق الأنبياء والأولياء، ويستخفون بهم ويتنقصونهم، بل يحملون الضغينة، والبغض والطعن، والعداوة في قلوبهم لهم، وأنهم ينكرون الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفاعته كما أنهم ينكرون كرامات الأولياء. وأود أن أسوق كلام رجل لقبته الديوبندية بشيخ الإسلام * لتعرفوا حقيقة الديوبندية وتعلموا أن إمامهم هذا في هذا الاتهام * وطعنه في مجدد الدعوة الإمام والتقول عليه من أكذب الأنام * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 ألا وهو الشيخ حسين أحمد الملقب بشيخ الإسلام أحد كبار أئمة الديوبندية (1377هـ) ، وهذا نص كلامه في تقرير هذه الأكذوبة: (4- إن الوهابية يسيئون الأدب إلى شأن النبوة وحضرة الرسالة على صاحبها الصلاة والسلام بكلمات نابية؛ ويرون أنفسهم مماثلة لذات سيد الكائنات؛ ويعترفون له بفضيلة قليلة، ولكنهم يرونها محدودة بزمان تبليغ الرسالة، ولأجل شقاوة قلوبهم وضعف اعتقادهم - يرون: أنهم هداة العالم، ويزعمون: أنه لا حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم؛ كما أنهم يزعمون: أنه صلى الله عليه وسلم لا تفيد ذاته فائدة ولا تحسن إحسانًا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ ولأجل ذلك لا يجوز التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم في دعائهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ولأكابر الوهابية مقالة معاذ الله معاذ الله! وحكاية الكفر ليست بكفر؛ وهي: أن العصا أنفع منه صلى الله عليه وسلم؛ لأننا ندفع بالعصا كثيرًا من الشر، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يدفع شيئًا) . إلى آخر تلك الأكاذيب السافرة * والأساطير الفاجرة الماكرة * التي لا تصدر إلا عن الفسقة الفجرة * فضلًا عن أن يكون من شيوخ الإسلام البررة * هذه هي ديانة هؤلاء الديوبندية * وأمانة هؤلاء الكذبة القبورية * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 فهم كما قيل: عجبت لشيخ يأمر الناس بالتقى ... وما راقب الرحمن يومًا وما اتقى وبعد عرض هذه الشبهة الماكرة * لهؤلاء الكذبة القبورية الفاجرة * ننتقل إلى جواب علماء الحنفية عنها وقلعها من أصلها وقطع دابر أهلها. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن تلك الشبهة الماكرة لهؤلاء القبورية الخونة الفجرة عامة وهؤلاء الديوبندية الكذبة الجائرة خاصة بعدة أجوبة: الجواب الأول: أن هؤلاء القبورية كذابون أفاكون في هذه الفرية وهذا الاتهام * بهاتون متقولون على أئمة الإسلام يقولونهم ما لا يقولوا من الكلام * وأنهم بهذه الأكاذيب ساقطون عن درجات الصدق والعدالة والأمانة * إلى دركات الظلم والعدوان والبهتان والفسق والكذب والخيانة * وإليكم بعض نصوص بعض علماء الحنفية * لتعرفوا خيانة هؤلاء القبورية وكذب الديوبندية *: 1 - قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في الرد على ابن جرجيس أحد أئمة القبورية العراقية (1299هـ) خاصة وقبورية العالم عامة، مبطلًا هذه التهمة الفاجرة الماكرة: (والجواب أن يقال: إن هذا العراقي قد خلع - والعياذ بالله - جلباب الحياء عنه؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 ولم يراع وقوفه بين يدي مولاه * جل شأنه وعز علاه *؛ فأخذ يتكلم ما خطر على قلبه * وألقاه شيطانه على لسانه * ولم يستح من تكذيب الناس له؛ حتى أنه قد حدثني من أثق به: أن هذا الضال المبتدع - قد أخبره بخبر ظهر كذبه للعيان؛ فلما عاتبه على هذا الكذب - قال له: لأي شيء تعاتبني على الكذب؟ والحال أن الأنبياء يكذبون! انظر إلى تجاسر هذا المفتري! وإلى أي درجة وصل، وإلى أي حد انتهى؛ وما كفاه الافتراء على المؤمنين حتى ترقى إلى القدح برسل رب العالمين؛ فعياذًا بك اللهم؛ من هذا البلاء العظيم؛ وكم كان يقص في مجالسه على ضعفاء العقول من العوام قصصًا تقشعر منها جلود العقلاء؛ وكان يخبرهم أن القيامة تقوم سنة خمس وتسعين من المائتين والألف! ويبرهن لهم على ذلك؛ فلما مضى الوقت الذي عينه لهم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 تغافل عنه، وربما أبدى لهم بعض الأعذار الباردة؛ فمن كانت هذه صفته - كيف يستحي من الافتراء على أناس أظهروا شركه للعيان * وكفره بالبرهان *؛ وأعجب من هذا - تقول أمثال هذا العراقي من المبتدعة الغلاة- على أهل الحق * القاصرين الألوهية على خالق الخلق *: أنهم ينتقصون الرسول الأكرم * والنبي الأعظم * صلى الله عليه وسلم؛ وينسبون إلى جنابه * ما لا يليق بأعتابه *، وكذا ينسبونهم إلى الإنكار على خلص عباد الله * وبغض الأولياء وأهل الانتباه *! سبحان إله الخلق ما أحلمه؟! * وما أجل سلطانه وما أعظمه؟! * لا إله إلا أنت، تعاليت عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا - فاستمع ما كتبه الشيخ عبد الله ابن العلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تغمدهم الله برحمته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 حين ذهب الأمير محمد بن سعود لفتح الحرمين الشريفين وقد قرئ هناك بمحضر علماء المذاهب الأربعة ... ؛ وذلك قوله: ((إن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريق السلف الصالح التي هي الطريق الأسلم؛ بل الأحكم ...... ؛ وأما ما يكذب علينا سترًا للحق، وتلبيسًا على الخلق: بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأنه لا يعرف معنى: ((لا إله إلا الله)) حتى أنزل عليه، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب؛ لكون الحق والباطل فيها؛ وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق: أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه؛ ومن فروع ذلك: أنا لا نقبل بيعة أحد، إلا إذا أقر عليه بأنه كان مشركًا، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله، وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقًا؛ وأنا لا نرى حقا لأهل البيت..؛ فجميع هذه الخرافات - وأشباهها - لما استفهمنا عنها من ذكرنا - كان جوابنا عليه في كل مسألة: سبحانك هذا بهتان عظيم! ؛ فمن روى عنا شيئًا من ذلك أو نسبه إلينا - فقد كذب علينا وافترى؛ ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا - علم قطعًا: أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين، وإخوان الشياطين؛ تنفيرًا للناس عن الإذعان لإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك الذي نص الله على أن لا يغفره، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء؛ فإنا نعتقد: أن من فعل أنواعًا من الكبائر: كالقتل للمسلم بغير الحق، والزنى، والربا، وشرب الخمر؛ وتكرر منه ذلك - لا يخرج بفعل ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد في دار الانتقام؛ إذا مات موحدًا لله تعالى في جميع أنواع العبادة؛ والذي نعتقد: أن رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 الإطلاق؛ وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بلا ريب، وأن الله يسمعه سلام من يسلم عليه، وتسن زيارته إلا أنه لا يشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه؛ ومتى أنفق أنفس أوقاته بالصلاة عليه الواردة عنه - فقد فاز بسعادة الدارين، وكفى همه وغمه، كما جاء في الحديث، ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم؛ مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية؛ إلا أنهم لا يستحقون شيئًا من أنواع العبادة؛ لا حال الحياة ولا بعد الممات .... ؛ ونثبت الشفاعة لنبينا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ حيثما ورد أيضًا ... ؛ ولا يلزم أن نكون مجسمة وإن قلنا بالجهة ...... ؛ ولا نقول بكفر من صحت ديانته ... ؛ وإن كان مخطئًا في هذه المسألة، أو غيرها ... ؛ هذا ما نحن عليه مخاطبين من له عقل ودين وهو متصف بالإنصاف، خال عن الميل إلى التعصب والاعتساف؛ ينظر إلى ما يقال، ولا ينظر إلى من قال. وأما من شأنه لزوم مألوفه، وعادته - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 سواء كان حقا أو غير حق مقلدًا - فهو ممن قال تعالى فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ، عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال لا الرجال بالحق؛ فلا نخاطبه وأمثاله؛ فجنود التوحيد بحمد الله منصورة وراياتهم بالسعد والإقبال منشورة)) . انتهى كلامه ملخصا) . قلت: حاصل هذا الجواب: أن القبورية أكذب الناس وأشدهم تقولًا على أهل التوحيد. ولقد حقق علماء الحنفية في مباحث كثيرة سيأتي إن شاء الله: أن القبورية أكذب الناس وأشدهم تقولًا وافتراء على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الناس، بل هم أشد كذبًا وتقولًا من الخوارج والروافض. الجواب الثاني: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن حقيقة اتهام هؤلاء القبورية لأهل التوحيد بتنقيص الأنبياء والأولياء - وهي عقيدتهم أن من لا يستغيث بهم عند الكربات * ولا ينذر لهم عند الملمات * ولا يطوف بقبورهم لقضاء الحاجات * - فقد استخف بهم وتنقصهم وهضمهم حقهم، وهذه بعينها شبهة المشركين والنصارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (ومن المحن أن مشائخ المذاهب الأربعة وفقهاءهم - جزموا بوجوب هدم القباب، ونهوا عن الطواف بالقبور ودعاء أربابها بل دعاء الله عندها، ومنعوا من الذبح لها والغلو فيها، بل ومن عبادة الله بالصلاة عندها؛ فإذا عمل بمقتضى أقوالهم عامل، وألزم بها الناس - نسبه هؤلاء الجهال إلى الاستخفاف بالأنبياء والصالحين وإلى مخالفة العلماء) . الجواب الثالث: أن علماء الحنفية قد صرحوا: بأن القبورية هم الذين قد تنقصوا الأنبياء والأولياء بسبب مخالفة طريقتهم ومناقضتهم، وارتكابهم للإشراك بالله تعالى ونبذهم لأوامرهم، وتركهم لما جاءوا به. وبظنهم أن هؤلاء الأنبياء والأولياء راضون بشركهم وندائهم والاستغاثة بهم والنذر لهم، أو أنهم أمروهم بذلك. الجواب الرابع: أن علماء الحنفية قد حققوا أن القبورية لم يكتفوا بتنقيص الأنبياء والأولياء ولم يستخفوا بهم فحسب، ولم يهضموا حقهم فقط؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 بل إنهم قد تنقصوا الله عز وجل وهضموه حقه؛ قال الإمام البركوي (981هـ) : (وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية؛ وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، فإنهم ظنوا به ظن السوء؛ حتى أشركوا به، ولو أحسنوا الظن ((به)) - لوحدوه حق توحيده، ولم يرجوا شيئًا من غيره؛ ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عنهم في ثلاثة مواضع من كتابه: أنهم {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} : أي ما عرفوه حق معرفته، وكيف يعرفه حق معرفته من يجعل له عدلًا وندا يحبه ويخافه ويرجوه ويذل له) . وقال العلامة الرباطي: (فعكس المشركون ((أي القبورية)) هذا، وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثانًا تعبد؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقيص بالأموات؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 وهم قد تنقصوا الخالق سبحانه بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص؛ إذ ظنوا أنهم راضون منهم أو أنهم أمروهم به؛ وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان) . قلت: القبورية في الاستخفاف بالله تعالى على طريقة المشركين؛ فقد صرح الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] ، ونقل كلامه العلامتان: ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) وحفيده محمود شكري (1342هـ) ، وفضيلة الشيخ عبد السلام الرستمي أحد كبار علماء الحنفية المعاصرة -: أن القبورية على هذه الصفة التي وصف الله بها المشركين فإنهم يهشون ويطربون عند ذكر الأموات الذين يستغيثون بهم وذكر حكاياتهم الكاذبة، ويعظمون من يحكي لهم تلك الأكاذيب ولكنهم ينقبضون من توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، ويتضايقون من سرد ما يدل على تعظيمه سبحانه وتعالى، وينفرون من أهل التوحيد كل النفرة، ويكرهون من يذكر تعظيم الله تعالى وعظمته وجلاله وينسبونه إلى ما يكره، وقد رأيت يومًا رجلًا يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي يا فلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 أغثني، فقلت له: قل: يا الله واستغث بربك! فغضب علي وقال: أنت منكر للأولياء. قلت: وللعلامة السهسواني (1326هـ) كلام مهم في هذا الصدد. وأقول: لقد تذكرت بهذه المناسبة كلام الإمام ابن القيم؛ حيث قال: وإذا ذكرت الله توحيدًا رأي ... ت وجوههم مكسوفة الألوان بل ينظرون إليك شزرًا مثل ما ... نظر التيوس إلى عصا الجوبان وإذا ذكرت بمدحة شركاءهم ... يتباشرون تباشر الفرحان والله ما شموا روائح دينه ... يا زكمة أعيت طبيب زمان الجواب الخامس: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن أهل التوحيد الذين لا يغالون في الأنبياء والأولياء - من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة - في الحقيقة هم المعظمون للرسل، الموقرون لهم، العارفون بحقوقهم، القائمون بما يجب لله، وما يجب لعباده من الحقوق فهم ليسوا بأهل شرك بهم ولا أهل المعصية لهم، ولا نبذوا أوامرهم، ولا تركوا ما جاءوا به من الحق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 فهم أهل التوحيد لله تعالى وأهل طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإخلاص لله. فتركهم الاستغاثة بهم عند الكربات وترك الطواف بقبورهم عند الملمات هو عين التعظيم لهم، وتركهم النذور لهم، وترك السجود إليهم، وترك الغلو فيهم - هو عين التوقير لهم. قلت: هذه كانت أمثلة من شبهات هؤلاء القبورية الكذبة الخونة، ذكرتها وعرضت أجوبة علماء الحنفية لقلعها وقمع أصحابها ليعرف المسلمون: أنهم في تلك الشبهات أكذب الناس * * وأن دسائس هؤلاء القبورية هي من وساوس الخناس * وليعلم المنصفون: أن جدالهم إنما هو المكر والدجل والكذب والبهتان * ولذلك صرح الإمام ابن القيم بأن أولياء الرحمن لا يخافون شبهات أولياء الشيطان *: واصدع بما قال الرسول ولا تخف ... من قلة الأنصار والأعوان فالله ناصر دينه وكتابه ... والله كاف عبده بأمان لا تخش من كيد العدو ومكرهم ... فقتالهم بالكذب والبهتان فجنود أتباع الرسول ملائك ... وجنودهم فعساكر الشيطان شتان بين العسكرين فمن يكن ... متحيرًا فلينظر الفئتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 إلى أن قال رحمه الله: وادرأ بلفظ النص في نحر العدى ... وارجمهم بثواقب الشهبان لا تخش كثرتهم فهم همج الورى ... وذبابه أتخاف من ذبان وبعد هذا ننتقل إلى الباب الرابع لنعرف جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك وحماية حمى التوحيد وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك. * فنقول: وبربنا الرحمن المستعان نستعين * وبه نستغيث إذ هو المستغاث المغيث المعين *: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 الباب الرابع في جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك، وحماية حمى التوحيد، وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك وردهم على القبورية في ذلك كله وفيه فصول ثلاثة: - الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك. - الفصل الثاني: في ذكر القواعد الأصولية لعلماء الحنفية التي يستفاد منها في حماية حمى التوحيد وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك. - الفصل الثالث: في بيان عدة من ذرائع الشرك التي قد صرح علماء الحنفية بوجوب سدها لئلا يتذرع بها إلى الشرك وحماية لحمى التوحيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 كلمة بين يدي هذا الباب لقد ذكرت في الفصلين الأولين من الباب السابق نصوص علماء الحنفية في تعريف الشرك وأنواعه وتحقيقهم في مصدر عبادة القبور ونشأة القبورية وانتشارها، كما ذكرت نصوصهم في الرد على القبورية، حيث حرفوا تعريف الشرك وبدلوا مفهومه وغيروا حقيقته، وتبين أن تعريف الشرك عند القبورية تعريف مزيف باطل غير صحيح وغير جامع لأفراده بل غير صادق على شرك عامة المشركين من قديم الدهر وحديثه. وفي هذا الفصل أتحدث عن جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك؛ حيث أذكر نصوصهم في تفسير بعض الآيات وشرح بعض الأحاديث التي تحذر من الشرك حماية لحمى التوحيد وسدا لجميع الذرائع الموصلة إلى الشرك، كما سأذكر بعض أقوالهم الأخرى في التحذير من الشرك إن شاء الله؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 ليعلم المسلمون أن أضرار الشرك ومفاسده وعواقبه وخيمة في أقصى نهاية الشرور والمفاسد؛ إذ الشرك يضادّ التوحيد؛ فكما أن منافع التوحيد وفوائده وثماره الطيبة في أعلى ما يتصور من المنافع والفوائد، كذلك مفاسد الشرك في أقصى المفاسد فكما لا يتصور خير بعد خير التوحيد كذلك لا يتصور شر بعد شر الشرك فالشر يعرف بالخير " وبضدها تتبين الأشياء". وبناء على هذا يقتضي طبيعة هذا الفصل أن يكون مشتملًا على ثلاثة مباحث فأقول وبالله التوفيق: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 الفصل الأول في جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك وفي مباحث ثلاثة: - المبحث الأول: في ذكر بعض الآيات المباركة التي تحذر من الشرك مع أقوال علماء الحنفية في تفسيرها. - المبحث الثاني: في ذكر بعض الأحاديث التي تحذر من الشرك مع أقوال علماء الحنفية في شرحها. - المبحث الثالث: في ذكر بعض نصوص علماء الحنفية في التحذير من الشرك وعواقبه الوخيمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 المبحث الأول في ذكر بعض الآيات الصريحة التي تحذر من الشرك مع نماذج من أقوال مفسري الحنفية في تفسيرها إن التالي لكتاب الله والمتدبر لآياته يعلم علما يقينا: أن القرآن الكريم كله في التوحيد ومكملاته وفي التحذير من الشرك وأسبابه؛ فالآيات في التحذير من الشرك كثيرة جدًا يصعب إحصاؤها. ولقد اهتم علماء الحنفية بذكر كثير من الآيات التي تحذر من الشرك وذكروا أنها كثيرة جدّا، حتى قالوا: إن موضوع القرآن الكريم إنما هو التوحيد والتحذير مما يضاده وهو الشرك والكفر. من المعلوم أن " الموضوع " في أي كتاب أو في أي علم إنما هو " المضمون " الأهم المركزي الذي يورد الأدلة لإثباته وتحقيقه والشواهد لتقريره وتصديقه والأمثلة لإيضاحه والشرح لأحواله؛ " كالكلمة والكلام " موضوع علم النحو فكل ما في علم النحو إنما يدور حول هذا الموضوع فإذا كان " موضوع القرآن الكريم ": الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 إنما هو " التوحيد والتحذير من الشرك " فيكون جميع ما في القرآن الكريم من الأدلة والشواهد والأمثلة والتبشير والتخويف والترغيب والترهيب والقصص وغيرها- إنما يؤتى به لتحقيق هذا الموضوع وإثباته ونقض الشبهات حوله وهذا الموضوع الذي هو مطلوب أساسي للقرآن الكريم إنما هو يتمثل في " التوحيد والتحذير من الشرك "؛ فالقرآن الكريم كله لتقرير التوحيد والتحذير من الشرك، وهذا أمر ذكره كثير من كبار علماء الحنفية: قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) والعلامة القاري (1014هـ) واللفظ للأول: (وغالب سور القرآن الكريم متضمنة لنوعي التوحيد [توحيد الربوبية وغيرها من الصفات وتوحيد الألوهية] . بل كل سورة من القرآن الكريم - فالقرآن الكريم إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله: وهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه: فهذا التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة- فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام أهل توحيده وما فعل بهم في الدنيا والآخرة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 فهي جزاء توحيده؛ وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب: فهو جزاء من خرج من حكم التوحيد؛ فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه. وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم. قلت: إذا كان الأمر كذلك يصعب حصر تلك الآيات الصريحة المحذرة من الشرك ولكن ما لا يدرك كله أو لا يدرك جله لا يترك بعضه. لهذا أكتفي بذكر بعض الآيات الصريحات * في التحذير من الشركيات* مع ذكر بعض النصوص الحنفيات* في تفسير تلك الآيات* فأقول والله المستعان: الآية الأولى: في ضرب مثل للمشرك بأنه هالك ما بعد هلاك وممزق كل ممزق. قال الله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] . قال الزمخشري (ت 538) والنسفي (ت 710) والمهايمي (ت 835) والعمادي (951) والبروسوي (1137) والباني بتي (1225) والميرغني (1268) والألوسي (1270) وحسين علي (1362) والمودودي (1979م) والصابوني (؟) ، واللفظ للأول: (قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق مزقا في حواصلها؛ أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة) . الآية الثانية: في بيان أن الشرك أعظم الظلم وأظلمه وأكبر الكبائر على الإطلاق. قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] . قال هؤلاء العلماء الحنفية الذين ذكرت أسماءهم في تفسير الآية الأولى واللفظ للمودودي (قال المودودي ما تعريبه) : إن الظلم في الأصل معناه هضم حق آخر والمعاملة بدون الإنصاف والشرك ظلم عظيم لأن فيه استواء أشخاص لا دخل لهم في الخلق والرزق والنعم بالله سبحانه وتعالى في العبادة. فالشرك ظلم لا يتصور بعده ظلم آخر؛ وللخالق سبحانه على عبده المخلوق حق العبادة فيعبده وحده لا شريك له ولكن المشرك يضيع حق الله فيعبد غيره؛ ثم هو في هذا الظلم يستخدم عدة من القوى التي أعطاها الله في جسمه وما سخر الله له من النعم في السماء والأرض مع أن الله وحده خالق لهذه القوى والنعم؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 فلا يستحق أحد أن يستعمل له تلك القوى والنعم دون الله الذي خلقها ثم للعبد على نفسه حق آخر وهو: أن لا يذل نفسه ولا يبذلها في عبادة غير الله تعالى لئلا يستحق أليم عقاب الله تعالى ولكن المشرك يذل نفسه بعبادة غير الله تعالى ويوقعها في عذاب الله الأليم بسبب هذا الظلم العظيم وهكذا المشرك يمضي جميع عمره في الظلم إلى أن لا يخلو نفس من نفساته من الظلم العظيم الذي هو الشرك بالله العظيم. الآيتان الثالثة والرابعة: في أن كل ذنب وظلم يرجى مغفرته بدون التوبة ما خلا الشرك. قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 116] ، وقال أيضا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} . قلت: هاتان الآيتان من قبيل القضايا التي قياساتها معها؛ فقد حذر الله تعالى المشركين بأنهم لا يغفر لهم بدون التوبة أبد الآبدين* وعوض العائضين* ودهر الداهرين * ثم علل ذلك بأن المشرك قد افترى على الله افتراء عظيما ما بعده افتراء وأنه ضل عن التوحيد ضلالا بعيدا ما بعده ضلال فاستحق بشركه الذي هو ظلم عظيم وذنب أكبر وافتراء أقبح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 وضلال أبعد أن لا يغفر له بدون التوبة فيكون من الخالدين * في العذاب الأليم أبد الآبدين *. هذا حاصل ما ذكره المفسرون من الحنفية في تفسير هذه الآية ... وإليكم بعض نصوصهم: 1 - قال الإمام أبو الليث السمرقندي (375) : (يعني اختلق على الله كذبا عظيما ويقال: فقد أذنب ذنبا عظيما) . 2 - وقال النسفي (710) : (كذب كذبا عظيما استحق به عذابا أليما) . 3 - وقال العمادي (983) : (افترى واختلق مرتكبا إثما لا يقادر قدره ويستحقر دونه جميع الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا) . 4 - وقال المهايمي (835) : (وكيف يغفر للمشرك بالله تعالى {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى} أي قصد {إِثْمًا عَظِيمًا} تقتضي الحكمة التعذيب عليه بأعظم الوجوه وهو التخليد في النار) . 5 - وقال البروسوي (1137) : " افترى واختلق مرتكبا إثما فلا تتعلق به المغفرة قطعا " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 6 - وقال الباني بتي (1225) : " يعني ارتكب الكذب والفساد كذبا وفسادا عظيما يستحقر دونه الآثام وهذا وجه الفرق بينه وبين سائر الآثام ". 7 - وقال الميرغني (1268) : " وأي إثم أكبر من الشرك فإنه لا يصح معه عمل ". 8 - وقال الآلوسي: " استثناء مشعر بتعليل عدم غفران الشرك ... أي ارتكب ما يستحقر دونه الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا ". 9 - وقال الأستاذ أبو الأعلى المودودي (1979م) : " ليس القصد من هذه الآيات أن للإنسان أن يرتكب الذنوب ما خلا الشرك بل القصد منها: أن الشرك الذي صغروا وحقروا أمره هو أعظم من جميع الذنوب بحيث أن سائر الذنوب يرجى مغفرتها ما خلا الشرك فإنه ذنب لا يغتفر أبدا؛ وقد كان أحبار اليهود يهتمون بصغار المسائل الاجتهادية التي استنبطها أئمتهم ولكنهم يستخفون بشأن الشرك ويرونه هينا بحيث أنهم لم يكونوا يتنزهون من الشرك ولا ينهون أقوامهم من الخيالات الشركية وأعمالها؛ ولا يرون بأسا في تولي المشركين أيضا ". قلت: لقد صدق الأستاذ المودودي - رحمه الله تعالى - في التحذير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 من الشرك وغفلة أحبار اليهود في الاستهانة بشأن الشرك واهتمامهم بصغار الأمور وتعصبهم لآراء أئمتهم؛ فلقد تبعهم في هذا علماء السوء المبتدعة المقلدة المتعصبة الذين اتخذوا أئمتهم في التشريع من التحريم والتحليل أربابا يقدمون أقوالهم وآراءهم الاجتهادية الفقهية على صريح الكتاب والسنة ويتعصبون لهم كأنهم أنبياء أرسلوا إليهم ووصلوا في طاعتهم إلى حد عبدوهم من دون الله؛ فترى هؤلاء المتعصبة المقلدة ولا سيما بعض من ينسب إلى الحنفية منهم: كالكوثرية والديوبندية يبغضون السنة أشد البغض؛ فرفع اليدين عندهم أشد من وقع السيوف والتأمين بالجهر أشد من الرصاصة في قلوبهم؛ فأخلوا بتوحيد العبادة ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم- فإلى الله المشتكى وإليه الملتجى. الآية الخامسة: في بيان أنه لا يجوز الاستغفار للمشرك بعد موته لأن الله تعالى لا يغفر للمشرك فلا يجوز الاستغفار له إذ ليس له إلا النار. قال عز من قائل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] ، قال الأستاذ أبو الأعلى المودودي (1979م) : (إن الاستغفار لأي شخص مذنب يتضمن لأمرين: (1) أن للمستغفر شفقة ورحمة ومحبة لهذا المذنب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 (2) أن ذنبه قابل للمغفرة. وهذان الأمران لا يتحققان إلا في عبد وفى بتوحيد الله ولكنه ارتكب ذنبا دون الشرك، ولكن المشرك الذي هو باغ على الله بالعلانية، فالمحبة له وعد إجرامه قابلا للمغفرة- باطل أصلا؛ بل محبتنا له وعد شركه قابلا للمغفرة- يجعلان وفاءنا بالتوحيد مشوها؛ فلو أقدمنا للاستغفار للمشرك لمجرد أنه من أهل قرابتنا- لكان معناه أن القرابة عندنا أحق وأثمن من توحيد ربنا وتعظيمه والوفاء بحقه وأن محبتنا لله ولدينه ليس إلا سطحيا لم تخالط شيئا بشاشة قلوبنا ولم تصل إلى أعماقها؛ وبهذا كله تبين أن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى لا ينبغي أن يصدر عن عبد وحد الله عز وجل لأن ذلك خلاف الوفاء بالتوحيد ومناف للإيمان؛ ويجب علينا أن نحب من يحبه الله وأن نعادي من عادى الله؛ ثم في الآية نكتة لطيفة وهي: أن الله تعالى لم يقل " لا تستغفروا للمشركين "بل قال " ما كان للنبي ... " أي لا ينبغي الاستغفار لهم فليس هذا يزين بكم. فأفاد هذا الأسلوب: أنكم لو امتنعتم عن الاستغفار لهم بعد المنع - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 فهذا ليس فيه كبير عمل؛ بل الكمال في أن تمتنعوا عما لا يليق بكم ولا يزين لكم؛ بحيث يكون محرك محبتكم لله ووفاءكم له - مثيرا لشعوركم وإحساسكم - على أن لا تحبوا المشرك الباغي على الله، وأن لا تعدوا إجرامه قابلا للمغفرة. الآية السادسة: في بيان أن جميع أعمال الشرك حابطة وهباء منثورا. قال جل جلاله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] . ولقد ذكر الله تعالى ثمانية عشر من أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام. ثم قال: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 83-88] . قال الزمخشري (538هـ) والنسفي (710هـ) : واللفظ للأول: ( {وَلَوْ أَشْرَكُوا} مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم، كما قال تعالى وتقدس: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ) . وقال أبو السعود العمادي (951هـ) والألوسي (1270هـ) واللفظ للثاني: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 ( {وَلَوْ أَشْرَكُوا} أي [أولئك الأنبياء والرسل] المذكورون، {لَحَبِطَ} أي لبطل وسقط عنهم مع فضلهم وعلو شأنهم {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ثواب أعمالهم الصالحة؛ فكيف بمن عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم) . وقال البروسوي (1137هـ) والباني بتي (1225هـ) والصابوني واللفظ للأول: (أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم وعلو شأنهم {لَحَبِطَ عَنْهُمْ} أي بطل وذهب {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من الأعمال المرضية الصالحة فكيف بمن عداهم؟ وهذا غاية التوبيخ والترهيب للعوام والخواص) . وقال الشيخ حسين علي (1362) : (الضمير في قوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا} يرجع إلى جميع هؤلاء الأنبياء والمرسلين الذين سبق ذكرهم صراحة أو كناية؛ فصدور الشرك من الأنبياء محال، ولكن لو فرض ذلك المحال وأشركوا بالله لضاع جميع أعمالهم الصالحة، والقصد من هذا التعبير بيان غاية شناعة الشرك ونهاية قباحته) . وقال الأستاذ المودودي رحمه الله (1979م) : (يعني لا قرار للعمل الصالح البتة مع الشرك؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 فالذي أشرك بالله وعمل أعمالا كثيرة وظن أنها صالحة ونافعة له فهو ليس بمستحق لأجرها، وأن حياته تمضي كلها في خسران على خسران) . الآية السابعة: في بيان أن المشرك قد حرمت عليه الجنة أبد الآبدين* ومخلد في النار دهر الداهرين* قال عز من قائل: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] . قال الزمخشري (538هـ) والنسفي (710هـ) والعمادي (951هـ) والبروسوي (1137هـ) والباني بتي (1225هـ) والألوسي (1270هـ) واللفظ للأخير: (إنه أي الشأن {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} أي شيء في عبادته سبحانه أو فيما يختص به من الصفات والأفعال؛ كنسبة علم الغيب وإحياء الموتى بالذات إلى عيسى عليه الصلاة والسلام [أو إلى غيره] . {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} لأنها دار الموحدين والمراد يمنع دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم. {وَمَأْوَاهُ النَّارُ} فإنها معدة للمشركين؛ وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب * أثر بيان حرمانهم الثواب *؛ ولا يخفى ما في هذه الجملة من الإشارة إلى قوة المقتضي؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 لإدخاله النار) . الآية الثامنة: في بيان أن المشرك نجس؛ قال جل من قائل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] . قال العلامة الآلوسي (1270هـ) مفتي الحنفية ببغداد: ( {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أخبر عنهم بالمصدر للمبالغة كأنهم " عين النجاسة ". أو المراد: (ذو نجس) لخبث بواطنهم وفساد عقائدهم؛ أو لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ... ؛ ويجوز أن يكون (نجس) صفة مشبهة؛ وإليه ذهب الجوهري. ولا بد حينئذ من تقدير " موصوف " مفرد لفظا مجموع معنى؛ ليصح الإخبار به عن الجمع: أي " جنس نجس " ونحوه) . ثم ذكر أن أكثر الفقهاء ذهبوا إلى أن أعيانهم طاهرة، ثم قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 (وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ". قال: " وإلى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مال الإمام الرازي ". وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا بدليل منفصل؛ قيل: " على ذلك فلا يحل الشرب في أوانيهم ولا مؤاكلتهم ولا لبس ثيابهم "؛ ولكن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف خلافه. واحتمال كونه قبل نزول الآية -فهو منسوخ- بعيد والاحتياط لا يخفى "، ثم قال: ( {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} تفريع على نجاستهم؛ والمراد النهي عن الدخول إلا أنه نهى عن القرب للمبالغة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 قلت: وعلى هذا المنوال فسر الآية كثير من مفسري الحنفية. الحاصل: أن هذه الآيات تحذر من الشرك غاية التحذير لعواقبه الوخيمة. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 المبحث الثاني في ذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تبين عواقب الشرك الوخيمة مع ذكر بعض الأقوال الصريحة في شرحها لشارحي الحنفية لقد ذكرت في المبحث السابق ثماني آيات من الذكر الحكيم مع بعض أقوال مفسري الحنفية في تفسيرها في بيان شناعة الشرك وعواقبه الوخيمة؛ وفي هذا المبحث أذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تبين عواقب الشرك الوخيمة ومصير أصحابه مع ذكر بعض أقوال علماء الحنفية في شرحها؛ ليكون من أبلغ رد على القبورية الذين يباشرون العقائد الشركية والأعمال الخرافية والأقوال الوثنية مع دعواهم الإيمان وانتسابهم إلى الإسلام. فأقول وبالله التوفيق: الحديث الأول: في بيان أن " الشرك " أكبر الكبائر على الإطلاق. عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر - ثلاثا -، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " الإشراك بالله .... "» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 وفي رواية «أكبر الكبائر الإشراك بالله ... » . وهذا اللفظ عن أنس رضي الله عنه أيضا. قال الإمام البدر العيني أحد كبائر أئمة الحنفية (855هـ) : (وجه تخصيص هذه الأربعة بالذكر لأنها أكبر الكبائر والشرك أعظمها) . وقال ابن الملك وهو من أكابر الحنفية (797) : " إذ لا ذنب فوقه فيكون أكبر الكبائر ". الحديث الثاني: في بيان أن الشرك أعظم الذنوب على الإطلاق * وأكبرها دون شقاق*. «عن عبد الله قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي ذنب أعظم عند الله؟. قال: " أن تجعل لله ندّا وهو خلقك "» . وفي رواية عن عبد الله «قال رجل يا رسول الله: أي ذنب أكبر عند الله؟ قال: " أن تدعو لله ندّا وهو خلقك "» . قال الإمام البدر العيني (855) : " قوله: (أن تجعل لله ندّا قدمه لأنه أعظم الذنوب؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13. وقال العلامة القاري (1014) : والمراد أن أكبر الكبائر مع الشرك بالله بل الكفر مطلقا وإنما خص لأن الشرك لظلم عظيم ". وقد بوب الشيخ العثماني (1369) على هذا الحديث مثل ما بوب عليه النووي؛ حيث قال: " باب بيان كون الشرك أقبح الذنوب ... ". الحديث الثالث: في أن الشرك أعظم موبق من الموبقات وأكبر مهلك من المهلكات. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «" اجتنبوا السبع الموبقات ". قالوا: يا رسول الله تعالى وما هن؟ قال: " الشرك بالله تعالى ... "» . وفي رواية: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله تعالى ... » . قال الإمام البدر العيني (855) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 (قوله: " الموبقات ": أي المهلكات: أحدها الشرك بالله ". وقال: (لا إثم أعظم من الشرك) . وقال العلامة القاري (1014) ثم الكاندهلوي (؟) : " قوله: (اجتنبوا) أي احذروا فعلها " الموبقات " أي المهلكات ". وقال ابن الملك (797هـ) : " أي احذروا عن فعل الذنوب السبع المهلكة لمن ارتكبها؛ أو معنى " الموبقات " الحابسات على الصراط ". وقال الإمام الفتني (986) : (" الموبقات " أي الذنوب المهلكات) . * * * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 المبحث الثالث في نصوص علماء الحنفية في التحذير من الشرك 1 - قال الإمام محيي الدين البركوي أحد عظماء الحنفية (981) : (فإن الشرك ملزوم للتنقيص " لله تعالى " والتنقيص لازم له ضرورة شاء المشرك أو أبى؛ ولكون الشرك منقصا للربوبية اقتضى حكمته تعالى وكمال ربوبيته أن لا يغفره ويخلد صاحبه في النار؛ ولا تجد مشركا قط إلا وهو منتقص لله تعالى؛ وإن زعم أنه يعظمه؛ كما أنك لا تجد مبتدعا إلا وهو منتقص للرسول صلى الله عليه وسلم وإن زعم أنه معظم بالبدعة) . 2 - وقال رحمه الله تعالى: " فإن الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح وأنكر المنكر- كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى وأكرهها له؛ ولذلك رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب آخر سواه وأخبر أنه لا يغفره وأن أهله نجس ومنعهم قربان حرمه وحرّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 ذبائحهم ومناكحتهم وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين وجعلهم أعداء له ولملائكته ورسله والمؤمنين؛ وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم؛ وأن يتخذوهم عبيدا؛ وهذا لأن الشرك هضم لحقوق الربوبية وتنقيص لعظمة الإلهية وسوء ظن برب العالمين فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به ولو أحسنوا الظن لوحدوه حتى توحيده ولم يرجوا شيئا من غيره؛ ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عنهم في ثلاثة مواضع من كتابه: أنهم ما قدروا الله حق قدره) . 3 - وقال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342) : في بيان أن المشرك هو المنتقص لجناب الله تعالى وهو المسيء للظن بالله عز وجل: (الوجه الثامن: أنه من أعرض عن الله وقصد غيره وأعد ذلك الغير لحاجته وفاقته واستغاث به ونذر له ولاذ به فقد أساء الظن بربه؛ وأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به؛ فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس؛ فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته؛ ولهذا توعد سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 غيرهم؛ كما قال تعالى {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6] . وقال تعالى {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] . وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 87- 88] ؛ أي فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه وعبدتم غيره؛ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؛ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم؛ وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشرك فيه غيره؛ والعالم بتفاصيل الأمور فلا تخفى عليه خافية من خلقه؛ والكافي لهم وحده لا يحتاج إلى معين والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه [لما عبدتم غيره ولما استعنتم بغيره ولما جعلتم بينه وبينكم وسائط وشفعاء] . وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم من الوسطاء الذين يعينونهم على قضاء حوائجهم وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم؛ فأما القادر على كل شيء الغني بذاته عن كل شيء العالم بكل شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء- فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده وظن به ظن السوء؛ وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده؛ ويمنع في العقول والفطر؛ وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح؛ ويوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده متأله له خاضع ذليل له والرب تبارك وتعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال والتأله والخضوع والذل؛ وهذا في خالص حقه؛ فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره ويشرك بينه وبينه فيه ولا سيما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه؛ كما قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم: 28] ؛ أي إذا كان أحدكم يأنف أن مملوكه شريكه في رزقه فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به وهي: الإلهية التي لا تنبغي لغيري ولا تصلح لسواي؛ فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري ولا عظمني حق تعظيمي ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره كما قال تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 68] ، فما قدر من هذا شأنه وعظمته حق قدره من أشرك به في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة بل هو أعجز شيء وأضعفه؛ فما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل) . ثم قال بعد كلام طويل رد فيه على الجهمية المعطلة من الماتريدية والأشعرية وغيرهم: (فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟) ، ثم قال بعد كلام: (فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله تعالى، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه؛ وأنه يوجب الخلود في النار؛ وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه؛ بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله؛ وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك أو يرضى به؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ". 4 - وقد بوب الإمام الدهلوي (1246) للتحذير من الشرك فقال: (باب الاجتناب عن الإشراك) ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 ثم ذكر عدة آيات صريحات * وأحاديث صحيحات* في التحذير عن الشرك وبيان عواقبه الوخيمات* 5-6- وقال الإمام المجاهد الدهلوي (1246) والشيخ أبو الحسن الندوي واللفظ له: (الفصل الأول في التحذير عن الشرك: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:116] ، الفرق بين الشرك وسائر الذنوب: اعلم أن هنالك أنواعا من الذنوب والآثام يقترفها الناس إذا جمحت بهم النفوس وغلبهم الهوى؛ فمنهم من لا يميز بين حلال وحرام ومنهم من يقترف سرقة أو عملا من أعمال الفسوق؛ ولكن الذي تورط في الشرك فقد أسرف وظلم ظلما مبينا؛ لأنه قد جنى جناية لا يغفرها الله " بدون التوبة "، الشرك الجلي ثورة وخروج يحرك الغيرة الإلهية: الشرك الجلي الذي هو من آخر درجات الشرك ويكفر به الإنسان؛ يبقى صاحبه في النار خالدا مخلدا لا يخرج منها؛ ومثل ذلك أن الملك قد يعفو عن أناس من رعيته، يرتكبون سرقة وعن أناس يقطعون الطريق على قوافل؛ أو يشنون غارة ومنهم من يتكاسل عن الحراسة أو الخفارة فينام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 عنها؛ ومنهم من يتخلف عن حضور مجلس الملك ... ؛ ومنهم من يتولى يوم الزحف ويتسلل عن الحرب ... ؛ ولكل جناية من هذه الجنايات عقوبات محددة عند الملك إن شاء أخذ بها وإن شاء عفا عنه. وتقابل هذه الجنايات جنايات تنم عن الثورة على الملك والخروج عليه؛ مثلا يبايع بالملك لأمير أو وزير أو دهقان أو مرزبان؛ أو عمدة قرية أو موظف حكومي من أصحاب النباهة وأهل النبل؛ أو لكناس أو إسكاف من أهل المهن الوضيعة والطبقات السافلة فيضع له تاجا أو إكليلا ويهيئ له عرشا أو سريرا؛ أو يخلع عليه الألقاب الملوكية ويخاطبه بجلالة الملك وظل الله في الأرض ... ؛ فهذه الجناية أكبر من كل الجنايات وصاحبها لا محالة لاق جزاءه؛ وكل ملك يستهين بشأن هذه الجنايات ويغفل عن معاقبة هؤلاء المجرمين كان في ملكه وهن ونسبه العقلاء إلى قلة الغيرة وضعف الرأي وسقوط الهمة، أما مالك الملك تبارك وتعالى فهو أغير من كل غيور وأقوى من كل قوي فيجب أن يخشى بأسه ويتقي سطوته فكيف يعقل أن يتغافل عن المشركين وكيف لا يوفيهم حسابهم؛ لطف الله بالمسلمين ووقاهم آفات الشرك؛ الشرك ظلم ووضع للشيء في غير محله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 قال الله تعالى {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . ولقد هدت لقمان الحكمة العميقة التي أكرمه الله تعالى وخصه بها؛ إلى أفحش الظلم أن يجود الإنسان على أحد بحق غيره؛ فمن أعطى حق الله لأحد خلقه فقد عمد إلى حق أكبر كبير؛ فأعطاه أذل ذليل وكان كرجل وضع تاج الملك على مفرق إسكاف؛ وأي جور أكبر من هذا الجور وأي ظلم أفحش من هذا الظلم؟ وليعلم يقينا أن كل مخلوق كبيرا كان أو صغيرا هو أذل من إسكاف أمام عظمة الله وجلالته؛ وقد دلت الآية وشهد بها الشرع والعقل السليم أن الشرك أقبح العيوب؛ وما زال الناس يعتبرون إساءة الأدب مع كبرائهم وسادتهم- أكبر عيب وأعظم خرق؛ فلما كان تبارك وتعالى أكبر من كل كبير كانت إساءة الأدب إليه والإشراك معه عيبا ليس فوقه عيب؛ وخرقا لا يفوقه خرق؛ وقد اتفقت جميع الشرائع على المنع من الشرك والأمر بالتوحيد وهو الصراط المستقيم وطريق النجاة؛ وكل ما عداها من طرق وسبل، فهي طرق الضلال والسبل المردية ... ؛ إن الله تعالى لا يقبل إلا خالصا مخلصا ليس لأحد فيه نصيب كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه وأنا منه بريء» . وقد دل هذا الحديث على أن الله تعالى لا يقبل عملا أشرك فيه معه غيره فلا يقبل عبادة المشرك بل يتبرأ منها؛ وليس شأنه شأن الذين يأخذون نصيبهم من الشيء المشترك بينهم وبين غيرهم؛ فإنه أغنى من كل غني وأغير من كل غيور فلا يقبل إلا خالصا مخلصا ليس لأحد فيهم سهم أو نصيب "، ثم ذكرا حديث الميثاق في تفسير قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] ؛ فقالا: (وقد تبين من الحديث أنه سبق أمر الله بالتوحيد؛ والنهي عن الشرك لكل نسمة في عالم الأرواح وما بعث الرسل ونزلت الصحف إلا لتبين ذلك وتؤكده؛ وأخرج أحمد عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت» . فيجب على المسلم أن يصبر على ما يصيبه من الأذى؛ ولا ينبغي أن تحمله هذه الفتنة على وهن في الدين أو فساد في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 العقيدة فيحبط بذلك عمله ويخسر بذلك دينه الذي هو ملاك أمره ورأس ماله؛ وقد دل هذا الحديث على أن من مقت الشرك ونبذ الآلهة وكره تقديم النذور والقرابين إليها؛ وحارب العادات الجاهلية والتقاليد الباطلة فأصابته خسارة في المال أو رزية في الأولاد ... - فيجب عليه أن يصبر على ذلك ويستقيم على دينه؛ وأخرج الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «قال رجل يا رسول الله أي الذنب أكبر؟ قال: أن تدعو لله ندّا وهو خلقك» . وقد دل على هذا الحديث أن إشراك العبد أحدا بالله تعالى في علمه المحيط وقربه من كل أحد وقدرته على كل شيء فيستغيث به ويستصرخه- أكبر الكبائر؛ لأنه ليس في إمكان أحد أن يسعف بحاجته مثله وأن يكون [علمه] : في كل مكان لا يغيب عنه شيء. ثم إن كان الواقع أن الله تعالى هو الذي خلقنا وربنا ونحن نقر بذلك وجب علينا أن لا ننادي إلا إياه؛ ولا نستعين إلا به، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 وما لنا ولغيره؟ فمن كان من جملة عبيد ملك وصنائعه انقطع إليه كليّا؛ وأطبق عينه عن ملك ورئيس فضلا عن وضيع أو خسيس، أيجمل بنا أن نكون أقل غيرة أو أضعف وفاء من المملوك لمولاه المجازي؟ الموحد المذنب حري بأن يتوب وتدركه رحمة الله ولطفه بخلاف المشرك العابد؛ وأخرج الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «يا ابن آدم إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» . وقد دل هذا الحديث أن الإنسان مهما أتى به من الذنوب واقترف من آثام وإن كانت تعدل ذنوب أكبر العصاة والمجرمين كفرعون وهامان ولكنه سلم عن الإشراك بدل الله سيئاته حسنات وأتاه بقراب هذه الذنوب مغفرة؛ فظهر أن الذنوب تتضاءل أمام عقيدة التوحيد؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 وأن بركتها تغشى المذنب فتمحو خطاياه؛ كما أن للشرك شؤما وظلمة تغطي على جميع الحسنات؛ وتحبط جميع العبادات؛ فكان الموحد الفاسق خير من المتقي المشرك ألف مرة؛ كما أن الوفي المقصر من الرعية كان خيرا من الثائر المتملق؛ لأن الأول نادم على تقصيره؛ والثاني معجب بخديعته ونفاقه مدل بنفسه يحسب أنه يحسن صنعا) . * * * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 الفصل الثاني في عدة قواعد وضوابط فقهية لعلماء الحنفية يستفاد منها في حماية حمى التوحيد وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك كلمة بين يدي هذا الفصل: لقد جرت عادة الإنسان على حفظ الأشياء الثمينة من الضياع ودل على ذلك النقل الصحيح* والعقل الصريح*. وكلما كان الشيء أثمن وأغلى* وأنفع وأعظم وأعلى* كان التدبير لحفظه وحمايته أشد وأمتن وأكثر* وأدق وأحكم وأوفر*. ولما كان شأن التوحيد بتلك المكانة التي ذكرت نبذة منها من أنه الغاية من خلق الجن والإنس ولأجل تحقيقه أرسلت الرسل وللدعوة إليه أنزلت الكتب، وهو أعظم ما يحبه الله ويرضاه؛ وهو الغاية العظمى* والمقصد الأسمى * والهدف الأسنى* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 وكان الشرك بعكس ذلك أعظم ما يكرهه الله ويبغضه ويحبط به الأعمال ويخلد صاحبه في النار- استحكم تحذير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الشرك ومن كل ما يخل بالتوحيد، أو يكون سببا في الوقوع في ما يضاد التوحيد من الشرك فأوجب الله ورسوله حماية حمى التوحيد وسد كل ذريعة تفضي إلى الشرك؛ ونهى الله ورسوله عن كل ما يضاد التوحيد من الشرك ووسائله. ولما كان الأمر كما وصفت- سعى أئمة السنة* وأساطين هذه الأمة* سعيا حثيثا وشمروا عن ساق الجد والجهد في التحذير من كل ما يكون سببا للشرك من قريب أو بعيد؛ فحموا حمى التوحيد وسددوا جميع ما يضاده من الشرك وذرائعه. ولعلماء الحنفية رحمهم الله تعالى أيضا جهود في هذا السبيل فلهم قواعد عامة يمكن الاستفادة منها في هذا الباب من سد ذرائع الشرك. كما أن لهم أقوال خاصة في التحذير من وسائل الشرك بالله تعالى وفي كل ذلك عبرة للقبورية عامة والحنفية منهم خاصة. القاعدة الأولى: 1 - " درء المفاسد أولى من جلب المنافع ". 2 - " دفع المضرة أولى من جلب المنفعة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 أقول: حاصل كلام علماء الحنفية في ضوء هذه القاعدة المهمة: أن الأفعال التي لا تخلو من بعض المنافع ينظر في ارتكابها إلى مضارها. ويجب اجتنابها لأجل مضارها وإن كانت مشتملة على بعض المنافع فكيف إذا لم يكن في فعلها منفعة؟ بل يكون ارتكابها محض الضرر وخالص الشر. فزيارة القبور على الطريقة القبورية التي سيأتي شرحها وتوسلهم المتضمن للاستغاثة بالذوات والاستعانة منهم ونحو ذلك؛ كل ذلك يجب اجتنابها لما في ذلك من المفاسد ما لا يخفى. القاعدة الثانية: " اختيار أهون البليتين ". ولهم في ذلك عدة نصوص: 1 - " الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ". 2 - " المبتلى بين الشرَّين يتعين عليه أهونهما ". 3 - " يختار أهون الشرين ". 4 - " إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 أخفهما ". 5 - " إذا اجتمع للمضطر محرمان كل منهما لا يباح بدون الضرورة وجب تقديم أخفهما مفسدة وأقلهما ضررا لأن الزيادة لا ضرورة إليها فلا يباح ". 6 - ونحوها " إن المبتلى في أمرين يختار أهونهما ". 7 - " دفع الضرر العام واجب بإثبات الضرر الخاص ". 8 - " ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ". هذه القواعد الثمان ترجع إلى قاعدة واحدة: وهي: اختيار أهون البليتين إذا ابتلي الإنسان بين الشرين كل ذلك لدفع الشر الأكبر. فلو فرضنا أن هدم القباب والمساجد التي بنيت على القبور ونحوها فيه شيء من الشر- وهو إهدار الأبنية وما قد يتوهمه بعض الناس أن فيه إهانة للقبور- فبقاؤها على حالها وانتياب الناس إليها أفواجا بقصد الاستغاثة بأصحابها ونحوها من المفاسد العظمى * والبلايا الكبرى* التي هي إما شرك صراح * وكفر بواح* أو موصلة إلى الشرك الصريح * والكفر القبيح* وضرر أشد ومفسدة أعظم فلا بد من هدمها وإزالتها وتسوية تلك القبور * درءا لتلك الأضرار والشرور*. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 القاعدة الثالثة: " يتحتم ترك الحلال خشية الوقوع في الحرام ". 1 - " إذا اجتمع حظر وإباحة غُلّب جانب الحظر ". 2 - " إذا اجتمع ما يوجب الحل والحرمة في ذات واحدة ترجح الحرمة ". 3 - " إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام ". 4 - " ما اجتمع محرم ومبيح إلا غلب المحرم ". 5 - " الأصل الإباحة والحظر مقدم ". 6 - " وعند الاجتماع يغلب الحظر ". 7 - " إذا تحقق المعارضة رجح جانب الحرمة على الحل ". 8 - " وإذا تعارض الدليلان ... - قدم التحريم ". قلت: هذه النصوص الثمانية حاصلها: أن الترجيح للحرام؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 ومعناه: إذا تردد الأمر بين الحلال والحرام- تعين تركه خشية الوقوع في الحرام. وقد فرع على هذه القاعدة علماء الحنفية أن أفاعيل القبورية من توسلاتهم وزياراتهم معرضة لهم للوقوع في الشرك الصريح فتحتم عليهم التجنب منها. هذا لو فرضنا أن زيارتهم وتوسلاتهم مترددة بين الحظر والإباحة مع أن توسلاتهم وزياراتهم متضمنة للشرك الصريح* والكفر القبيح* والبدع الظلماء* والمنكرات الشنعاء*. القاعدة الرابعة: إذا تردد الأمر بين كونه سنة وبين كونه بدعة فتركه محتم. هذه القاعدة من أعظم القواعد التي بنى عليها علماء الحنفية مسائل كثيرة وجعلوها أصلا أصيلا وفرعوا عليه فروعا عديدة. 1 - قال ابن نجيم الملقب بأبي حنيفة الثاني (970هـ) : " ما تردد بين بدعة وواجب اصطلاحي فإنه يترك كالسنة ". 2 -4- وقال العلامة أحمد الرومي (1043هـ) والشيخ سبحان بخش الهندي والشيخ محمد إبراهيم السورتي؛ واللفظ للأول: (قال ابن الهمام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 وما تردد بين البدعة والسنة يتركه؛ لأن ترك البدعة لازم وأداء السنة غير لازم؛ وفي الخلاصة: مسألة تدل على أن البدعة أشد ضررا من ترك الواجب ... ثم عللوا ذلك بأن المعاصي يتاب عنها والبدعة لا يتاب عنها؛ لأن صاحب المعاصي يعلم أنه مرتكب المعصية فيرجى له التوبة والاستغفال وأما صاحب البدعة فيعتقد أنه في طاعة الله وعبادته فلا يتوب ولا يستغفر وهذا ما يريده إبليس فإن إبليس قصم ظهر بني آدم بالمعاصي وهم قصموا ظهره بالتوبة فاحتال عليهم إبليس فأحدث لهم البدع التي لا يتوبون منها) . 5 - قال العلامة اللكنوي: " والأمر إذا دار بين الكراهة والإباحة ينبغي الإفتاء بالمنع لأن دفع مضرة أولى من جلب منفعة ". التفريع: 6 - قال شيخ القرآن الفنجفيري ردّا على بدع القبورية بعدما فصل القول في تحقيق هذه القاعدة وطول النفس فيها: التفريع: فالبدعات المروجة في ديارنا كلها متروكة بهذا الأصل؛ وحجة المبتدعة بشيوع الفعل أو بعمل الشيوخ داحضة على أن المحققين من العلماء صرحوا في كتبهم على ذمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 كالميلاد وحيلة الإسقاط الوس والختمات للموتى أو على القبور ... ؛ وفي الشامي (ص210) : " ترك الشيء من لدن الصحابة إلى الآن حجة واتباع المنقول واجب ". القاعدة الخامسة: " متابعة النبي صلى الله عليه وسلم كما تكون في الفعل كذلك تكون في الترك ". هذه قاعدة مهمة بنى عليها علماء الحنفية كثيرا من المسائل؛ وأصل أصيل فرعوا عليه عدة فروع، وميزوا بذلك بين كثير من البدع من السنن. 1 -4- قال العلامة الملا علي القاري (1014هـ) والشيخ عبد الحق محدث الحنفية في الهند (1052هـ) . والعلامة محمد عابد السندي أحد كبار علماء الحنفية (1257هـ) ؛ والشيخ قطب الدين الدهلوي (1289هـ) ، واللفظ للأول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 (والمتابعة كما تكون في الفعل تكون في الترك أيضا. فمن واظب على فعل لم يفعله الشارع فهو مبتدع) . 5 -7- وقال الإمام أحمد الرومي (1043هـ) والشيخ سبحان بخش الهندي والشيخ محمد إبراهيم السورتي. واللفظ للأول: (وأما ما كان المقتضي لفعله في عهده صلى الله عليه وسلم موجودا من غير وجود المانع منه؛ ومع ذلك لم يفعله صلى الله عليه وسلم؛ فإحداثه تغيير لدين الله تعالى؛ إذ لو كان فيه مصلحة لفعله صلى الله عليه وسلم أو حثّ عليه؛ ولما لم يفعله صلى الله عليه وسلم ولم يحث عليه- علم أنه ليس فيه مصلحة بل هو بدعة قبيحة سيئة؛ مثاله: الأذان في العيدين؛ فإنه لما أحدثه بعض السلاطين أنكره العلماء وحكموا بكراهيته؛ فلو لم يكن كونه بدعة دليلا على كراهيته؛ لقيل: " هذا ذكر الله تعالى ودعاء الخلق إلى عبادة الله تعالى؛ فيقاس على أذان الجمعة "؛ أو يدخل في العمومات التي من جملتها قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33] ، لكن لم يقولوا ذلك؛ بل قالوا: " كما أن فعل ما فعله صلى الله عليه وسلم كان سنة كذلك ترك ما تركه صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي وعدم المانع منه كان سنة أيضا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بالأذان في الجمعة دون العيدين كان ترك الأذان فيهما سنة؛ وليس لأحد أن يزيده ويقول: " هذا زيادة العمل الصالح لا يضر زيادته "؛ فيقال له: " هكذا تغيرت أديان الرسل وتبدلت شرائعهم، فإن الزيادة في الدين لو جازت؛ لجاز أن يصلي الفجر أربع ركعات والظهر ست ركعات؛ ويقال: " هذا زيادة عمل صالح لا يضر زيادته "؛ لكن ليس لأحد أن يقول ذلك؛ لأن ما يبديه المبتدع من المصلحة والفضيلة؛ إذا كان ثابتا في عصره صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يفعله صلى الله عليه وسلم فيكون ترك مثل هذا الفعل سنة مقدمة على كل عموم وقياس؛ فمن عمل به مع اعتقاده أنه غير مشروع في الدين؛ يكون فاسقا غير مبتدع؛ وإن عمل به مع اعتقاده أنه مشروع في الدين؛ يكون فاسقا ومبتدعا؛ لأن الفسق أعم من البدعة؛ فكل بدعة فسق من غير عكس؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 وكذلك قيل: " البدعة شر من الفسق؛ فإن من يفعل البدعة فهو يتنقص الرسول " صلى الله عليه وسلم "، وإن كان في زعمه أنه يعظمه بالبدعة؛ حيث يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب؛ فيكون مشاقا لله ولرسوله " صلى الله عليه وسلم "؛ لاستحسانه ما كرهه الشرع ونهى عنه؛ وهو الإحداث في الدين؛ وإنه تعالى قد شرع لعباده من العبادات ما فيه كفاية لهم؛ وأكمل دينهم وأتم عليهم نعمته كما أخبر به في كتابه الكريم. 8 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري: (الأصل الثالث في الاتباع) . والاتباع كما يكون في الفعل كذلك يكون في الترك؛ لأنه قد ثبت أن عدم النقل يدل على الكراهة؛ وأن ما لا دليل عليه فهو مردود ... ؛ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحداث في الدين ... ؛ واعلم أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما تكون في الفعل تكون في الترك؛ وكما نتقرب إلى الله تعالى بفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم- كذلك نتقرب إلى الله تعالى بترك ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم- فالفاعل لما ترك كالتارك لما فعل؛ والكلام مفروض في ترك شيء لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مانع منه وتوفرت الدواعي على فعله؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 وذلك كتركه الأذان للعيدين والغسل لكل صلاة وصلاة ليلة النصف من شعبان والأذان للتراويح والدعاء بعد السنن بهيئة الاجتماع والختم للموتى؛ وقد ثبت أن أكبر الكبائر التقول على الله تعالى. 9 - وقال: (وقال الإمام ابن تيمية: فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا؛ ولا أمرنا به ولا فعله فعلا سن لنا أن نتأسى به فيه- فهذا ليس من العبادات والقرب فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم- مجموعة الرسائل 5\98-) . وقال أيضا: (وقال الحافظ ابن القيم: فإن تركه صلى الله عليه وسلم سنة كما أن فعله سنة؛ فإذا استحببنا فعل ما تركه، كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق ... ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 10 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري: (التفريع على هذه القاعدة: هذه القاعدة ينفعك في رد جميع ما أحدثوه من البدعات وألفت النفوس بها منذ قرون متطاولة؛ مثل الدعاء بعد السنة بهيئة الاجتماع وتقسيم الفدايا في القبور؛ وتداول الأيدي بها والدعاء بعد الجنازة [بهيئة اجتماعية] والذكر أمام الجنازة والذكر الجهري فيما لم ينقل عن الشارع ونهيقهم في السحور؛ على رأس المنبر. وعلى أبواب المساجد: " الصلاة رحمكم الله ". وخلف المشائخ في السكك؛ والصلاة المسماة بالقضاء العمري، وصلاة الرغائب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 وتخصيص الأيام والليالي بعبادة؛ كقراءة سورة الملك ليلة الجمعة والتصدق فيه. والقوالي والعرس والميلاد) . 11 - وقال أيضا: (ويتفرع على ذلك القيام بالمولد واتخاذ الموسم والعرس للمقبور) . ثم قال: ( وكل هدي النبي قد رجح ... فما أبيح افعل ودع ما لم يبح ) . القاعدة السادسة: عدم النقل يدل على العدم كما يدل على الكراهة والبدعة. هذه القاعدة من أهم القواعد التي ذكرها علماء الحنفية للتمييز بين الأمور البدعية والسنية؛ فقد صرحوا بأن الشيء إذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم- فهو دليل كونه بدعة في الدين؛ فإن قيل: عدم النقل لا يستلزم العدم، لجواز وقوعه وعدم نقله. قلنا: لقد أجاب علماء الحنفية بأن هذا لا يمكن؛ لأنه لو وقع ولو مرة واحدة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 لا بد من أن ينقل إلينا؛ لأنه من أمور الدين وقد تكفل الله تعالى ذلك؛ فلما لم ينقل إلينا ذلك- دل على أنه لم يقع ولم يفعله النبي محمد صلى الله عليه وسلم فليس من الدين في شيء بل بدعة ضلالة. وإليك بعض نصوص علماء الحنفية: 1 - قال الإمام ابن الهمام (861هـ) : (نفي المدرك الشرعي يكفي لنفي الحكم الشرعي) . 3 - وقال المولوي (1098هـ) : (والمراد بالحكم: الحكم الشرعي، ولا يكون ذلك إلا ثابتا بدليل شرعي) . 3 - وقال: (فعدم فعله يدل على الكراهية) . 4 - وقال ابن عابدين (1252هـ) : (فما لم يوقف على دليل المشروعية لا يحل فعله بل يكره " ... ثم نقل ذلك عن كثير من كتب الحنفية) . 5 - وقال الإمام الأكمل البابرتي (786هـ) في تحقيق أن عدم النقل دليل على العدم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 (ولنا أنه لم ينقل، وذلك دليل على أنه لم يفعل) . 6 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري (1407 هـ) : (وفي العناية: وعدم النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على عدم فعله) . 7 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري: (قال الإمام الحافظ ابن القيم: أما نقلهم لتركه صلى الله عليه وسلم فهو نوعان: أحدهما: تصريحهم بأنه تركه كذا وكذا؛ والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله؛ فحيث لم ينقل منهم واحد منهم البتة ولا حدّث به في مجمع أبدا- علم أنه لم يكن؛ وهكذا: كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة؛ وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين) ؛ ثم ذكر الأمثلة وقال: (ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير، ولا رجل ولا امرأة البتة وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 بها يوما واحدا) ؛ ثم مثّل وقال: (ومن ههنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة؛ فإن تركه صلى الله عليه وسلم سنة كما أن فعله سنة؛ فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق، فإن قيل: من أين لهم أنه لم يفعله، وعدم النقل لا يستلزم عدم الفعل؟ فهذا استدلال بعيد جدّا عن معرفة هديه، وسنته، وما كان عليه، ولو صح السؤال وقيل: لاستحب لنا الأذان للتراويح، انتهى بتصرف) . التفريع: قال شيخ القرآن الفنجفيري: (وقد ابتدعوا بدعا في دين الله ليس لهم بذلك برهان، وحجة من الكتاب والسنة، إلا اتباع الظن، أو ألفة العوائد، كالمشركين أو أتباع المشايخ الذين مضوا عليها {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} ، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 وهذه القاعدة تنفعك في ردّ جميع ما أحدثوه من البدعات، وألفت النفوس بها منذ قرون متطاولة) . ثم ذكر شيخ القرآن عدة مسائل في التفريع على هذه القاعدة. الحاصل: أن هذه القاعدة الحنفية تقلع جميع بدع القبورية وشركياتهم* كما تقطع أدبارهم وتستأصل جميع توسلاتهم واستغاثاتهم وشبهاتهم* القاعدة السابعة: " الأمور بمقاصدها "، أو " العبرة للمقصود لا للتبع "، أو " العبرة للمقاصد دون الصور ". هذه القاعدة من أهم قواعد الحنفية التي ذكروها وفرعوا عدة أحكام عليها، وقالوا: " إنما يبنى اللفظ على المقصود لا على ظاهر اللفظ ". قلت: لما كان قصد القبورية من زياراتهم للقبور الطواف بها* وأكل ترابها* والتمسح والتبرك بها * والنذر لهم- كان ذلك شركا صريحا، وإن تستروا بستار التوسل، والكرامة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 والولاية، والزيارة. قال شيخ القرآن الفنجفيري في الرد على المبتدعة والقبورية: (وها أنا في زمان تبدلت الشريعة* وجعلوا العبادة ذريعة للمعيشة* ووضعوا الألفاظ الصحيحة للنية الردية* فاستحلوا الرشوة باسم الهدية* والقتل بالرهبة، والزنى بالنكاح، والربا بالمنافع، والمغني بالحادي، والمطرب بالقوال، والمداهن بالمصلح، والخداعة بالسياسة، والكتمان بالمصلحة، والشرك بالله العظيم بتعظيم الأولياء الكرام، والعبادة للقبور والشيوخ بالتعظيم لهم، والجحد لصفات الله تعالى بالتنزيه، وإثبات الصفات له تعالى بالتجسم، والبدعة بالسنة، فبدلوا دين الله تعالى وشرائعه، وحرفوا الكلم عن مواضعه، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] ... ) . قلت: رحمة الله وبركاته على هذا الشيخ، فقد بين لنا حقيقة الجهمية المتكلمين من الماتريدية الحنفية والأشعرية الكلابية؛ كما بين لنا حقيقة القبورية الوثنية، الذين يجوزون التعطيل والوثنية بأسماء براقة خدعة وسترا للتعطيل والوثنية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 وبعد هذا ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في حماية حمى التوحيد، وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك.. وربنا الرحمن المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان*. * * * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 الفصل الثالث في بيان عدة ذرائع الشرك التي صرح علماء الحنفية بوجوب سدها لئلا يتذرع بها إلى الشرك وحماية لحمى التوحيد كلمة بين يدي هذا الفصل: لقد ذكرتُ في المباحث السابقة من الفصول التي مضت بعض جهود علماء الحنفية في تحقيق أن الشرك موجود في هذه الأمة وأن القبورية فرقة مشركة وثنية عباد القبور وعبدة الأوثان كما ذكرت بعض جهود علماء الحنفية في إبطال بعض شبهاتهم وقلعها وقمع أصحابها، وبينت بعض جهودهم في التحذير من الشرك، كما ذكرت عدة قواعد لهم يمكن الاستفادة منها في حماية حمى التوحيد، وأذكر في هذا الفصل جهود علماء الحنفية في حماية حمى التوحيد وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك؛ فأقول وبالله توفيقي* وعليه اعتمادي* وبه ثقتي*: اهتمام علماء الحنفية بسد جميع ذرائع الشرك: لقد اهتم علماء الحنفية بسد جميع ذرائع الشرك عامة، وصرحوا بوجوب سدها؛ لحماية حمى التوحيد، ولئلا يتذرع بها إلى الشرك بالله تعالى، ولهم جهود حسنة، وأقوال مهمة فيها قرة عيون الموحدين وشجى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 في حلوق القبورية. بل ذكروا عدة ذرائع وصرحوا بوجوب سدها لئلا يتذرع بها إلى الشرك، وحماية لحمى التوحيد؛ وفيما يلي أذكر بعض الأمثلة من تلك الذرائع مع كلام الحنفية في وجوب سدها، وهي ثلاثون ذريعة؛ فأقول- وبالله أستغيث وأستعين*؛ إذ هو المستعان المغيث وهو المعين*: الذريعة الأولى: الغلو في الصالحين: لقد اجتهد كثير من علماء الحنفية في سد هذه الذريعة، والتحذير منها، وصرحوا بأن الغلو في الصالحين- أعظم ذريعة على الإطلاق لعبادة الأصنام، والأوثان، والقبور، وهو السبب الأصل الرئيسي لكفر كثير من بني آدم، وشركهم، وأن كل ما يرتكبه القبورية قديما وحديثا: من بناء القبب والمساجد على القبور، والحج إليها، والنذور لأصحابها والاستغاثة بهم واعتقاد علم الغيب والتصرف في الكون فيهم- هو بسبب الغلو في الصالحين. هذا مجمل كلام الحنفية ومزيد التفصيل والتحقيق يكون في باب (الغلو) إن شاء الله. الذريعة الثانية: المبالغة في تعظيم الصالحين ومحبتهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 لعلماء الحنفية كلام وجهود في سد هذه الذريعة، وقد سبق شيء من ذلك في إبطال شبهة التعظيم. وقد صرح علماء الحنفية بأن محبة الصالحين إنما هو سلوك طريقهم المستقيم. وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) على المبالغين في تعظيم الصالحين: (إن المبالغة في تعظيم الرسول- صلى الله عليه وسلم - يحسب ما يراه كل أحد تعظيما: حتى الحج إلى قبره صلى الله عليه وسلم، والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج المكروبين، وأنه يشفع فيما يشاء* ويدخل الجنة من يشاء* فدعوى المبالغة في هذا التعظيم- مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين) . الذريعة الثالثة: التوجه إلى غير الكعبة بقصد القربة: قال العلامة الخجندي (1379هـ) : (والعمل الذي أنتم- أيها المدعون- تعملونه من التوجه إلى القبر النبوي بالتواضع- هو بعينه ما يفعله عباد الأوثان ... ) . وقال: (والتوجه بقصد القربة مخصوص شرعا بالكعبة خاصة؛ فمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 توجه إلى غيرها بقصد القربة، فقد أشرك في عبادة الله تعالى ... ) . وقال: (ولا شك أن التوجه إلى شيء أو إلى جهة بقصد التقرب وحصول الثواب عبادة حق الله خاصة دون غيره؛ وهذا لا يكون إلا إلى الكعبة فقط؛ فمن توجه إلى غير الكعبة بقصد القربة فقد أشرك بعبادة الله غيره، وهذا مناف للإسلام وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقبلة العبادة وقبلة التوجه، وقبلة الفيض والبركة، وقبلة الدعاء- إنما هي الكعبة لا غير في دين الإسلام ... ، فالذي يتوجه إلى القبر، ولو قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتخذه قبلة وكعبة، وذلك عين الشرك الأكبر، وعين عبادة الأوثان) . قلت: لكون التوجه إلى القبور بنية القربة- من وسائل الشرك- صرح علماء الحنفية بأن استقبال القبر الشريف لم يرد عن الصحابة-رضي الله عنهم- بل كانوا يدعون مستقبلين القبلة؛ فعن أبي حنيفة -رحمه الله-: أنه كان لا يستقبل القبر بل يستدبر ويستقبل الكعبة وقت الدعاء. الذريعة الرابعة: تعظيم القبور بما لم يرد به الشرع. وهذا هو أم الفتن التي افتتن بها القبورية وارتكبوا تحت ستاره الوثنية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 قال النابلسي (1143هـ) : من تعظيم الأولياء بناء القبب على قبورهم، والستور والثياب عليها؛ لأنهم أفضل من الكعبة، وكسوة الكعبة أمر مشروع، ومن تعظيم الأولياء إيقاد القناديل والشموع، عند قبورهم، وكذا وضع اليدين على القبور والتماس البركة من مواضع روحانيات الأولياء؛ ومن تعظيمهم نذر الزيت والشمع للأولياء لتوقد عند قبورهم وكذا نذر الدراهم والدنانير للأولياء؛ وأما قول بعض المغرورين: إن هذه الأمور كلها حرام؛ لأنها وسيلة إلى الشرك بالله واعتقاد العوام التصرف في الأولياء- فهذا إهانة للأولياء؛ بل هو كفر صريح مأخوذ من فرعون. إلى آخر ما هذى به هذا الصوفي الوثني الكذاب المضل القبوري الحنفي. وقال الإمام البركوي (981هـ) مبينا مفاسد هذه الذريعة محققا أن هذه الذريعة أعظم سبب للوثنيين وأصل عبادة الأصنام:-وغيره من الحنفية-: (وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عباد الأصنام؛ كما قال السلف من الصحابة والتابعين؛ فإن الشيطان ينصب لهم قبر رجل معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 ثم يوحي إلي أوليائه: أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا- وقد تنقصه وهضم حقه؛ فيسعى الجاهلون في قتله وعقوبته، ويكفرونه؛ وما ذنبه إلا أنه أمر بما أمر به الله تعالى ورسوله-صلى الله عليه وسلم-، ونهى عما نهى الله ورسوله) . الذريعة الخامسة: زيارة حديثي العهد بالشرك للقبور ولو كانت على السنة. يظهر لي من قواعد الحنفية التي ذكرتها في المبحث السابق: أن الشيء الجائز قد ينهى عنه؛ لما يترتب عليه من المفسدة، ولا شك أن الشخص إذا كان حديث العهد بالخرافات- يجب نهيه عن زيارة القبور مطلقا؛ وقد صرح علماء الحنفية بأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قد نهى المسلمين عن زيارة القبور في بدء الأمر لكونهم حديثي عهدهم بالجاهلية، فكان-صلى الله عليه وسلم- يخاف عليهم وقوعهم بسبب زيارة القبور في شيء من الشرك أو وسائله؛ فسد هذه الذريعة من أصلها، ونهاهم عن زيارة القبور نهيا باتا؛ ثم لما تمكن التوحيد في قلوبهم وارتفع خشية الوقوع في بدعة أو شرك- أذن لهم في زيارة القبور ولكن مع بيان طريقها المسنونة. قلت: بناء على هذا يمنع القبورية منعا باتا من زيارة القبور حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 يتوبوا. الذريعة السادسة: زيارة القبور على غير السنة. لعلماء الحنفية جهود كثيرة في أن زيارة القبور على غير السنة من أعظم وسائل الشرك، ومن أعظم طرق الوثنية، ولهم في ذلك تحقيقات نافعة رفعوا بها الأستار عن أسرار القبورية وكشفوا بها عن عوارهم وبينوا أن ذلك القبورية غيروا وبدلوا طريقة الزيارة المسنونة بالزيارة الشركية البدعية. وسيأتي بعض نصوص علماء الحنفية في مبحث زيارة القبور إن شاء الله. الذريعة السابعة: اتخاذ القبور عيدا. لقد عد علماء الحنفية اتخاذ القبور عيدا وانتيابها مرارا وتكرارا لا لأجل التزهيد في الدنيا وتذكير الآخرة والرغبة فيها؛ بل لأجل أمور بدعية، وشركية- ذريعة من أعظم ذرائع الشرك، وقد استدلوا على سدها بقول النبي-صلى الله عليه وسلم - «لا تجعلوا قبري عيدا» . وذكروا كثيرا من مفاسد هذه الذريعة، كل ذلك لحماية حمى التوحيد وسد ذرائع الشرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 تنبيه على شبهة والجواب عنها: لقد حرف بعض القبورية حديث: «لا تجعلوا قبري عيدا» إلى أن معناه: " لا تجعلوا قبري مثل العيد الذي يكون في السنة مرة أو مرتين، بل زوروا قبري مرارا وتكرارا كثيرا ودائما ". ولكن علماء الحنفية قد أبطلوا هذا التحريف؛ فقد قال الإمام البركوي (981هـ) ، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ، واللفظ للأول: قال ابن القيم في إغاثته: (لقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك، وشبها من اليهود بالتحريف؛ فقال: هذا أمر بملازمة قبره عليه الصلاة والسلام، والعكوف عنده واعتياده وقصده وانتيابه، ونهي أن يُجعل كالعيد الذي يكون في العام مرة أو مرتين؛ فكأنه قال: " لا تجعلوا قبري بمنزلة العيد الذي يكون من الحول إلى الحول؛ واقصدوه كل وقت وكل ساعة ". وهذا محادة ومناقضة لما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلب للحقائق؛ ونسبة الرسول إلى التدليس والتلبيس؛ إذ لا ريب أن من أمر الناس بملازمة أمر واعتياده، وكثرة انتيابه بقوله: «لا تجعلوا قبري عيدا» ؛ فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان؛ فإن لم يكن هذا تنقيصا، فليس للتنقيص حقيقة فينا؛ ولا شك: أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثما وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه عليه السلام وسنته؛ وهكذا غيرت ديانات الرسل [عليهم السلام] ، ولولا أنه تعالى - أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه - لجرى عليه مثل ما جرى على الأديان قبله؛ قال عليه السلام: «يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» . فإنه عليه السلام بين في هذا الحديث: أن الغالين يحرفون ما جاء به، وأن المبطلين ينتحلون: أن باطلهم هو ما كان عليه النبي-صلى الله عليه وسلم -، وأن الجاهلين يتأولونه على غير تأويله؛ وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث؛ فلو أراد رسول الله-صلى الله عليه وسلم -ما قاله هؤلاء الضالون لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ولم يلعن من فعل ذلك؛ فإنه عليه السلام إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها؟، وأن يعتاد قصدها وإتيانها؟، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول؛ وكيف يقول: «صلوا عليّ حيثما كنتم» - بعد قوله: «لا تجعلوا قبري» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 «عيدا» ؟!!؛ وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضالون الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟ ... ) . قلت: هذا النص مشتمل على عدة أجوبة عن تحريفات هؤلاء القبورية الوثنية الجامعة بين الشرك بالله وبين التحريف لدين الله؛ وحاصل هذه الأجوبة ما يلي: 1 - أن هذا الذي قاله هؤلاء الوثنية تحريف محض لهذا الحديث. 2 - هذا الذي قاله هؤلاء المحرفة يصادم شريعة الإسلام. 3 - هذا الذي قالوه في تحريف هذا الحديث يفتح باب الوثنية بمصراعيه. 4 - هذا الذي قاله هؤلاء القبورية يناقض سياق هذا الحديث. 5 - هذا التحريف ينفيه قوله-صلى الله عليه وسلم- «وصلوا عليّ حيثما كنتم» ، وهذه الجملة من جملة هذا الحديث. 6 - هذا الذي قاله هؤلاء الوثنية لم يفهمه أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فهل هم أعلم منهم وأفهم بمراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟؟؟ 7 - هذا الذي قاله هؤلاء المحرفون يناقض عمل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؛ فإنهم لم ينتابوا القبر الشريف على صاحبه أفضل الصلاة وأكمل التسليم. الحاصل: أن جعل القبور أعيادا من أعظم وسائل الشرك، وأنه يجب سد هذه الذريعة حماية لحمى التوحيد وسدّا لباب الوثنية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 الذريعة الثامنة: العكوف على القبور. لقد صرح علماء الحنفية بأن العكوف على القبور من أعظم أسباب الوثنية ومن أبين وثنيات عباد الأوثان وأنه هو السبب الوحيد لنشأة الشرك في قوم نوح عليه السلام، وبينوا أن القبورية اعتادوا العكوف على القبور كما كان أهل الشرك السابقون يعكفون على تماثيلهم، وذكروا أن عباد القبور وصلوا في الغلو في العكوف على القبور والمجاورة لها إلى أن رجحوه على مجاورة المسجد الحرام، وخدمته، ولهم جهود في الرد على القبورية في هذا الصدد يشكرون عليها. قلت: العكوف على القبور ظاهرة من ظواهر الوثنية، وفي معنى العكوف على القبور المراقبة عندها، والمراقبة عند القبور من أشهر سنن الديوبندية القبورية النقشبندية الماتريدية المجددية الحنفية، حتى التبليغية؛ فهذا إمام الديوبندية الشيخ خليل أحمد السهارنفوري (1346هـ) صاحب " بذل المجهود شرح سنن أبي داود "؛ ومؤلف كتاب " المهند على المفند " ذلكم الكتاب القبوري الوثني الصوفي الخرافي الذي هو عار وشنار على جميع الديوبندية حيث بين حقيقتهم- قد ذهب لزيارة قبر الخواجة معين الدين الجشتي إمام الصوفية الجشتية بمرافقة كبار الديوبندية منهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 أشرف على التهانوي الملقب عند الديوبندية بـ (حكيم الأمة) المتوفى (1362هـ) . ثم جلس للمراقبة أمام القبر واستغرق في المراقبة كأنه أغمي عليه، والناس كانوا يطوفون حول القبر ويسجدون له. قلت: وفي معنى العكوف على القبور- زيارة القبور لأجل حصول الفيوض من القبور. والاستفاضة من القبور من أعظم عقائد القبورية عامة، ومن أهم سنن الديوبندية خاصة؛ فقد نرى كبار أئمة الديوبندية مرضى بهذا الداء العضال الذي هو طريق مستقيم إلى الوثنية؛ وإن كنت في شك من هذا فاستمع لما يقوله هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 السهارنفوري إمام الديوبندية معبرا عن عقيدة جميع أئمة الديوبندية: (السؤال الحادي عشر: هل يجوز عندكم الاشتغال بأشغال الصوفية، وبيعتهم، وهل تقولون بصحة وصول الفيوض الباطنية عن صدور الأكابر وقبورهم؟؟؟ وهل يستفيد أهل السلوك من روحانية المشائخ الأجلة أم لا؟؟؟؟ الجواب: يستحب عندنا إذا فرغ الإنسان عن تصحيح العقائد، وتحصيل المسائل الضرورية من الشرع: أن يبايع شيخا راسخ القدم في الشريعة، زاهدا في الدنيا، راغبا في الآخرة، قد قطع عقبات النفس، وتمرن في المنجيات، وتبتل من المهلكات، كاملا مكملا؛ ويضع يده في يده ويحبس نظره في نظره، ويشتغل باشتغال الصوفية: من الذكر والفكر، والفناء الكلي فيه، ويكتسب النسبة التي هي النعمة العظمى، والغنيمة الكبرى، وهي المعبر عنها بلسان الشرع: " الإحسان " ... ؛ وبحمد الله تعالى وحسن إنعامه نحن ومشائخنا قد دخلوا في بيعتهم واشتغلوا بأشغالهم، وتصدوا للإرشاد والتلقين- والحمد لله على ذلك-، وأما الاستعانة من روحانية المشائخ الأجلة، ووصول الفيوض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 الباطنية من صدورهم وقبورهم؛ فيصح على الطريقة المعروفة في أهلها وخواصها، لا بما هو شائع في العوام) . ولإمام آخر للديوبندية الملقب عندهم بشيخ الإسلام (1377هـ) ألا وهو الشيخ حسين أحمد مؤلف " الشهاب الثاقب " و " نقش الحياة " ذينكم الكتابين القبوريين الوثنيين الصوفيين الخرافيين- كلام أشد ضررا وفسادا من كلام إمامه السابق السهارنفوري (1346هـ) ، فهو يقول جهارا كاشفا عن حقيقته وحقيقة الديوبندية؛ مقارنا بين الوهابية وبين الديوبندية متبرئا من عقائد الوهابية: (إن الوهابية يعدون الأشغال الباطنية، والأعمال الصوفية، والمراقبة، والذكر والفكر والإرادة والمشيخة، وربط القلب بالشيخ، والفناء والبقاء، والخلوة، وغيرها- من اللغو والباطل والبدعة، والضلالة، ويرون أقوال أكابر الصوفية وأفعالهم- من الشرك، كما يرون الانسلاك في هذه السلاسل مكروها ومستقبحا؛ بل يعدون ذلك أشد من هذا؛ ومن ذهب إلى الديار النجدية وخالط هؤلاء، يعلم ذلك منهم، والفيوض الروحية ليس بشيء عندهم، وبعكس هؤلاء الوهابية لو نظرت إلى أصول أكابر الديوبندية علمت: أن جميعهم كانوا منسلكين في طرق الصوفية الباطنية، والرياضة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 ودوام الفكر، والذكر، وهذا كله من شعارهم) إلى آخر ما شهد عليهم به لسانا وبيانا وبنانا. وقد تقدم الشيخ أنور شاه في حصول الفيوض من القبور، وهو من أعظم أئمة الديوبند كما سبق ذلك كله. الحاصل: أن هذه الظواهر من العكوف بالقبور، والمراقبة عندها وحصول الفيوض من القبور كلها ظواهر القبورية وهي وسائل الوثنية السافرة، فيجب سدها حماية لحمى التوحيد؛ ولئلا يتذرع بها إلى الشرك بالله عز وجل؛ وقد سبق أن فلاسفة اليونان تلامذة أرسطو - كانوا إذا وقعوا في مشكلة فلسفية- لجأوا إلى قبر شيخهم أرسطو لحصول الفيض من قبره؛ فظهر أن ظاهرة حصول الفيوض من القبور من ميراث هؤلاء الفلاسفة اليونانية الوثنية، ولذا اعترف الشاه أنور شاه الكشميري أحد أئمة الديوبندية (1352هـ) بأن الاستفاضة من القبور لم تثبت عند المحدثين، ولكنها جائزة؛ لأنها ثابتة عند الصوفية. الذريعة التاسعة: الصلاة إلى القبور، أو عند القبور. لعلماء الحنفية جهود قيمة وبحوث محققة في تحقيق أن الصلاة إلى القبور من أعظم أسباب الوثنية، وقد صرحوا بوجوب سد هذه الذريعة، حماية لحمى التوحيد؛ ولئلا يتذرع بها إلى عبادة غير الله عز وجل، وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 ذكروا في هذا الباب تلك الأحاديث الصحيحة التي تنهى عن الصلاة إلى القبور، واستدلوا بها على منع الصلاة إلى القبور ووجوب سد هذه الذريعة. وقد حذر علماء الحنفية من الصلاة عند القبور أو إلى القبور، ومن كل ما يتذرع به إلى الشرك؛ وعللوا ذلك بأن الشرك بالقبور المعظمة للرجال المعظمين أقرب إلى القلوب، وأسرع إلى النفوس من الشرك بالأحجار والأشجار. وقد استدل علماء الحنفية بحديث أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه- مرفوعا: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» . على النهي عن جميع ما ذكروه حماية لحمى التوحيد وسدّا لذرائع الشرك. الذريعة العاشرة: الدعاء عند القبور. لقد حقق علماء الحنفية أن زيارة القبور لأجل الدعاء عندها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 أعظم- ذرائع الشرك بالله ومن أعظم وسائل عبادة غير الله وطريق إلى الوثنية، وسبيل إلى جعل القبور أعيادا للمذنبين والمكروبين، فإن الشيطان يستدرج بابن آدم؛ فيزين له أن الدعاء عند القبور أقرب إلى الإجابة؛ ثم يستدرجه إلى نداء الأموات، والاستغاثة بهم عند الكربات، فلم يشرع الدعاء عند القبور؛ ولم يرد عن أحد من السلف أنه أتى إلى قبر نبي أو ولي لأجل الدعاء عنده، ولم يثبت أن الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين- يقصدون قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- للدعاء عنده؛ بل لم يشرع النبي- صلى الله عليه وسلم- قط لأمته: أنه إذا كان لأحد حاجة أن يقصد قبر نبي أو ولي؛ فيدعو عنده لنفسه، على ظن: أن الدعاء عند قبره يجاب؛ بل كل هذه من وسائل الشرك التي يجب سدها، والتحذير منها، حماية لحمى التوحيد؛ ولئلا يتذرع بها إلى الشرك بالله، وعبادة غير الله تعالى، ولذلك صرح الإمام أبو حنيفة: بأن لا يستقبل القبر عند الدعاء؛ بل يستقبل القبلة؛ ولكن القبورية خالفوا ذلك كله، فتراهم أعظم خشوعا وأكثر خوفا وأشد عبادة وتضرعا وقت الدعاء عند القبور منهم لخالق البريات في المساجد والسحر وغيره من الأوقات، فإن السنة الثابتة في زيارة القبور هي الزيارة لقصد التزهد في الدنيا وتذكر الآخرة، والاستغفار للميت، والدعاء له، ولكن أهل البدع غيروا الدين فبدلوا الدعاء للميت والإحسان إليه بدعائه نفسه أو الدعاء والاستشفاع به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 وبهذا كله تبين بطلان زعم القبورية عامة، والداجوي الديوبندي خاصة: أن السؤال عند قبور الصالحين ثابت متوارث. نعم ثابت متوارث ولكن عند الوثنية فقط، كما تبين بطلان زعم الديوبندية: أن المختار أن يستقبل الزائر القبر عند الدعاء. الذريعة الحادية عشرة: اتخاذ القبور مساجد. لقد حقق علماء الحنفية: أن اتخاذ القبور مساجد من أعظم وسائل الوثنية، وأنه من أصول الشرك بالله عز وجل، وأنه من أبين صنائع اليهود والنصارى- الملعونين، وأنه موجب للعنة الله تعالى والطرد من رحمته سبحانه وتعالى، وقد ذكر علماء الحنفية عدة أحاديث في التحذير من ذلك ولعن فاعله، وقالوا: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد حسم هذه المادة التي هي من أعظم ذرائع الشرك بلعن فاعلها والتحذير منها؛ حماية لحمى التوحيد ودرءا للمفاسد وسدّا لذرائع الشرك؛ وقد بين علماء الحنفية أيضا: أن معنى اتخاذ القبور مساجد: هو بناء المساجد عليها، أو بناء المساجد بجوارها أو عندها، أو جعل القبور مساجد بحيث يسجد إليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 وتجعل أوثانا تعبد من دون الله، كل ذلك داخل في اللعن والوعيد كما صرحوا بوجوب هدم تلك المساجد المبنية على القبور؛ لأنها أشد ضررا ومفسدة من مسجد الضرار، ولعلماء الحنفية جهود في كشف أسرار القبورية وبيان مفاسد اتخاذ القبور مساجد، وقلع شبهاتهم وقمعهم وكسر جموعهم. وبهذه التحقيقات قد قضى على تمويهات الكوثري (1371هـ) ، في الدعوة إلى الوثنية بمقالته الفاجرة الماكرة بعنوان: " بناء المساجد على القبور والصلاة إليها ". كما قضى على تلبيسات صديقه وخليطه في كثير من بدعه ذلكم الغماري الصوفي القبوري الخرافي (1380هـ) في كتابه الوثني: " إحياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور ". كما قطع دابر شقيقه؛ وقلع تدليساته في كتيبه: " إعلام الراكع الساجد بمعنى اتخاذ القبور مساجد ". الذريعة الثانية عشرة: البناء على القبور. هذه الذريعة أعم من السابقة؛ بأنها تشمل بناء المساجد على القبور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 والقباب عليها، وغيرها؛ كتجصيصها ورفعها عن حدها ونحو ذلك. ولقد حذر علماء الحنفية من البناء على القبور وصرحوا بأنه من أعظم وسائل الشرك والوثنية، وحققوا أنه من سنن اليهود والنصارى والمشركين، وأن إنفاق الأموال على ذلك إنفاق في الحرام، وصرحوا بوجوب هدم ما بني على القبور من المساجد أو غيرها من القباب ونحوها؛ فإنها أضر من مسجد الضرار، وقاموا بالرد على شبهات القبورية وقلعها وقمع أهلها، وبينوا مفاسد ذلك وعواقبها الوخيمة الوثنية وهتكوا أستارهم، وكشفوا أسرارهم، وساقوا كثيرا من الأحاديث الصحيحة في ذلك، واستدلوا بها على تحريمه ووجوب هدمه- كل ذلك حماية لحمى التوحيد وسدّا لذرائع الشرك؛ فشكر الله سعيهم ولله درهم. وهذه المباحث القيمة التي فيها قرة عيون للموحدين وشجى في قلوب الوثنيين- قضاء على كتاب " إحياء المقبور من أدلة بناء المساجد والقباب على القبور " للغماري المذكور خاصة ومزاعم الوثنية عامة. وللتفصيل موضع آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 الذريعة الثالثة عشر: إيقاد السرج على القبور: لقد شدد علماء الحنفية النكير على القبورية في إيقاد الشموع والسرج على القبور وصرحوا بأن فاعل ذلك ملعون مطرود من رحمة الله تعالى؛ لأنه من أعظم وسائل الشرك بالله تعالى، ودعوة إلى عبادة غير الله عز وجل- واستدلوا على ذلك بما ورد من النهي عنه؛ فصرحوا بوجوب سد هذه الذريعة حماية لحمى التوحيد، وسدّا لذرائع الشرك. فللحنفية في هذا الصدد كلام هو قرة عيون للموحدين* وسخنة أعين للقبورية الوثنيين*. وبذلك بطلت مزاعم القبورية كلها في إيقاد السرج والشموع على القبور للتبرك والتعظيم لروح الميت المشرقة على تراب جسده كإشراق الشمس على الأرض، إعلاما للناس: أنه ولي ليتبركوا به، ويدعوا الله عنده، فيستجاب لهم. لأن هذا الإعلام دعوة سافرة إلى الوثنية سبحان قاسم العقول! فقد قال الشيخان: عبد القادر الأرناؤطي وبشير بن محمد عيون - وهما من الحنفية- في شرح حديث «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 «والمتخذين عليها المساجد والسرج» : (إن إيقاد السرج على القبور وثنية لا يرضاها الإسلام) . الذريعة الرابعة عشرة: الكتابة على القبور: لقد صرح علماء الحنفية بمنع الكتابة على القبور وكتابة الألواح عليها، واستدلوا على ذلك بما ورد من النهي عنها. لأن ذلك تزيين للقبور وفيه مخافة أن يكون وسيلة إلى تعظيم القبور بما لم يرد في الشرع فيفضي إلى الشرك. الذريعة الخامسة عشرة: كل ما لم يعهد في السنة عند القبور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 لقد صرح علماء الحنفية بالمنع من ارتكاب كل ما لم يعهد في السنة عند القبور. سواء كان ذلك من قبيل الأقوال أو من باب الأفعال، فلا يجوز ارتكابه عند زيارة القبور؛ لأنه داخل في " الهجر ". وإنما تزار القبور وفق السنة النبوية على صاحبها ألف ألف تحية وتسليم؛ كل ذلك حماية لحمى التوحيد وسدّا لجميع وسائل الشرك، الذريعة السادسة عشرة: الحج إلى القبور. هذه من أعظم ظواهر الوثنية؛ ويعبر عنها بالسفر إلى القبور، وشد الرحال إليها. لعلماء الحنفية جهود في تحقيق أن الحج إلى القبور وشد الرحال إليها من وثنيات المشركين السابقين؛ وحققوا: أنه يجب سد هذه الذريعة حماية لحمى التوحيد؛ ولئلا يتذرع بها إلى الوثنية. ويما يلي نصوص علماء الحنفية إتماما للحجة وإيضاحا للمحجة: 1 - قال الإمام البركوي (981هـ) مبينا مفاسد اتخاذ القبور مساجد وأعيادا: (ومنها السفر إليها مع التعب الأليم والإثم العظيم؛ فإن جمهور العلماء قالوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة؛ لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول رب العالمين، ولا أستحبها أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك قربة وطاعة- فقد خالف الإجماع، ولو سافر إليها بذلك الاعتقاد - يحرم بإجماع المسلمين؛ فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة؛ ومعلوم؛ أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك؛ وقد ثبت في الصحيحين أنه عليه السلام قال: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» ... ) . 2 -3- وله وللإمام أحمد الرومي (1043هـ) كلام في غاية الأهمية سيأتي نصه. 4 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) مبينا أنواع الشرك: (ومنها الحج لغير الله، وذلك أن يقصد مواضع متبركة مختصة بشركائهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 يكون الحلول بها تقربا من هؤلاء؛ فنهى الشرع عن ذلك؛ وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ... ) . 5 - وله كلام مهم جدّا سيأتي نصه قريبا إن شاء الله تعالى. 6 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1343هـ) : (إن بعض غلاة القبورية يحج إلى القبور، وإن بعضهم ذهب للحج ولكن كان منتهى قصده قبر النبي-صلى الله عليه وسلم-؛ فلم يذهب إلى الكعبة، ومثله عند النبهاني وأمثاله أفضل من الحاج، ويعد عمله من الفضائل؛ وقد أفضى ببعض أئمة القبورية إلى أن قال: البيوت المحجوبة ثلاثة: الكعبة، وبيت المقدس، والصنم في الهند؛ وبعض القبورية يعرف عند مقابر الشيوخ كما يفعل بعرفة وهذا واقع في المغرب والمشرق) . 7 -11- وقال الإمامان: البركوي (981هـ) ، والرومي (1043هـ) ، والشيخان: الهندي والسورتي؛ واللفظ للأولين: (وقد آل الأمر بهؤلاء الضالين المضلين، إلى أن شرعوا للقبور حجا وصنفوا لها مناسك؛ حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه: " مناسك حج المشاهد "؛ مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام؛ ولا يخفى: أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 الأصنام؛ فانظر إلى ما بين ما شرعه النبي- عليه السلام-: من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وما قصدوه: من التباين؛ ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره) ، ثم ذكروا بعض تلك المفاسد الوثنية. قلت: لقد تبين بهذه التحقيقات لهؤلاء العلماء من الحنفية العارفين- حقيقة القبورية من أنهم وثنية وبطلان جميع مزاعم الديوبندية القبورية في الحج إلى القبور، ولا سيما في الحج إلى قبر النبي-صلى الله عليه وسلم-: فإن هؤلاء الديوبندية قد صرحوا جهارا دون إسرار: بأن زيارة قبر سيد المرسلين عندنا وعند مشائخنا من أعظم القربات *؛ وأهم المثوبات وأنجح لنيل الدرجات قريبة من الواجبات*؛ وإن كانت بشد الرحال* وبذل المهج والأموال* والزائر ينوي وقت الارتحال زيارة قبره عليه السلام-، وينوي معها زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم؛ بل الأولى ما قاله العلامة ابن الهمام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 إن الزائر يجرد النية لزيارة قبره-صلى الله عليه وسلم- وتكون زيارة المسجد تبعا لزيارة القبر الشريف، زيادة لتعظيمه-صلى الله عليه وسلم-، وكذا نقل عن العارف السامي الجامي. أنه أفرز الزيارة عن الحج، وهو أقرب إلى مذهب المحبين؛ وأما ما قالت الوهابية: من أن المسافر إلى المدينة لا ينوي إلا زيارة المسجد؛ استدلالا بحديث «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» فمردود؛ فإن البقعة الشريفة التي ضمت أعضاءه-صلى الله عليه وسلم- أفضل من الكعبة والعرش والكرسي؛ كما صرح به فقهاؤنا رضي الله عنهم؛ وقد صرح بهذه المسألة شيخنا العلامة شمس العلماء العاملين مولانا رشيد أحمد الجنجوهي - قدس الله سره- العزيز في رسالته " زبدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 المناسك "، ولشيخ مشائخنا مولانا المفتي صدر الدين الدهلوي قدس الله سره العزيز، رسالة سماها " أحسن المقال في شرح حديث لا تشدوا الرحال "، أقام فيها الطامة الكبرى على الوهابية، ومن وافقهم؛ وأتى ببراهين قاطعة وحجج ساطعة طبعت واشتهرت، إلى آخر ما قالوه بدون حياء مستندين في ذلك إلى ما ذكروه من أحاديث واهية باطلة ضعيفة في الزيارة واحتجوا بها، وقالوا: إن الوهابية لا يعتمدون على هذه الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل خالفوها وحكموا عليها بأنها موضوعة وضعيفة. قلت: أترك المجال للذين بغيتهم الإنصاف* وضالتهم الحق دون العاطفة والتعصب والاعتساف*- أن يحكموا على هؤلاء الديوبندية الصوفية النقشبندية الماتريدية! هل هؤلاء الديوبندية سنية سلفية * أم هم مبتدعة قبورية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 خرافية*؟!؟ مع العلم بأن كثيرا من علماء الحنفية قد قاموا بإبطال تلك الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي-صلى الله عليه وسلم -، وحكموا عليها بأنها باطلة موضوعة* فاسدة عاطلة مصنوعة*. الذريعة السابعة عشرة: السفر إلى آثار الصالحين للتبرك بها. لقد حذر علماء الحنفية من السفر إلى آثار الصالحين للتبرك بها سواء كان قبرا أو مسجدا غير المساجد الثلاثة، أو محلا لعبادة ولي من الأولياء، أو الطور أو شجرا أو حجرا أو نحو ذلك؛ فإن هذا من عادات أهل الجاهلية الوثنية، فيجب الامتناع منه سدّا لذرائع الشر وحماية لحمى التوحيد. وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية: 1 - قال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) : (قوله-صلى الله عليه وسلم-: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» . أقول: كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم، يزورونها ويتبركون بها؛ وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى؛ فسدّ النبي-صلى الله عليه وسلم- الفساد؛ لئلا يلتحق غير الشعائر بالشعائر؛ ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله تعالى؛ والحق عندي: أن القبر، ومحل عبادة ولي من أولياء الله والطور كل ذلك سواء في النهي والله أعلم) . 2 -3- وقال الإمام البركوي - رحمه الله تعالى- (981هـ) ، والإمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، واللفظ للأول: (وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير، كما روى غير واحد عن المعرور بن سويد أنه قال: صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة، صلاة الصبح فقرأ فيها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} ؛ ثم رأى الناس يذهبون مذاهب؛ فقال أين يذهب هؤلاء؟؛ فقيل: يا أمير المؤمنين! مسجد فيه صلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-؛ فهم يصلون فيه؛ فقال: " إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا؛ كانوا يتبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها " ... ) . وقد صرح الإمام البركوي (981هـ) والإمام أحمد الرومي (1043هـ) ، والشيخان: سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 وغيرهم من الحنفية بقطع كل شجرة وسدرة وإزالة كل حائط أو حجر ينتاب إليها الناس للتقرب والتبرك، حسما لمادة الفساد، وحماية لحمى التوحيد. الذريعة الثامنة عشرة: ربط الخيط أو التميمة ونحوها لدفع الحمى أو نحوه: لقد صرح علماء الحنفية بمنع ربط الخيط للحمى مثلا في العضد، وشدوا النكير على ذلك، قلت: إنه يجر إلى الشرك فما ظنك بما هو أعظم وسيلة إلى الشرك؟ قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (وقد اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم: أنه منع من تعليق الأوتار، والتمائم وأمر بقطعها ... ، حسما لمادة الشرك، وقطعا لوسائله، وسدّا لذرائعه، وحماية للتوحيد، وصيانة لجانبه ... ) إلى آخر كلامه المهم. الذريعة التاسعة عشرة: التبرك بكل ما لم يرد التبرك به. لقد صرح علماء الحنفية بأنه يجب إزالة كل ما يسبب الفتنة، والشرك من قبر نُصِب وعُبد، أو شجر أو حجر، والمساجد المبنية على القبور، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 وقنديل، أو سراج أو شمع على القبور، أو خرقة، أو مسمار، أو حائط، أو عين، أو عمود ونحوها؛ فالواجب هدم هذه كلها وإزالة أثرها والمبادرة إلى محوها لأنها يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء بها، والتبرك بها؛ وإن الفتنة قد عظمت بها واشتدت بها البلوى؛ إذ هي مبنية على معصية الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم- وهي سبب للعن الله تعالى والطرد من رحمته، فهي من الكبائر، إذ هي أعظم شرا ومفسدة من مسجد الضرار، كل ذلك حماية لحمى التوحيد، وسدّا لذرائع الشرك؛ لئلا تصير هذه الأشياء أوثانا تعبد من دون الله، كما هو الواقع. وقال الإمامان: الإمام البركوي (981هـ) ، والرومي (1043هـ) ، والشيخان: الهندي والسورتي، واللفظ للأول: (ومن عظيم كيده (أي: الشيطان) ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام التي هي رجس من عمل الشيطان، وقد أمر الله المؤمنين باجتنابه وعلق فلاحهم بذلك الاجتناب فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . فالأنصاب جمع نصب بضمتين أو بالفتح والسكون؛ وهو كل ما نُصِبَ وَعُبدَ من دون الله: من شجر أو حجر، أو وثن أو قبر، قال مجاهد وقتادة وابن جريج: " كان حول البيت أحجار، وكان أهل الجاهلية يعظمون تلك الأحجار ويعبدونها ويذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها وهي ليست الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 بأصنام، وإنما الصنم ما يصور وينقش ". وأصل اللفظ: الشيء المنصوب الذي يقصده من رآه؛ فمن الأنصاب: ما نصبه الشيطان للناس من شجرة أو عمود، أو قبر أو غير ذلك؛ فالواجب هدم ذلك كله ومحو أثره، ثم ذكروا أن عمر - رضي الله عنه- قطع شجرة الرضوان) . ثم قالوا: (فما حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب التي قد عظمت الفتنة بها واشتدت البلية بسببها؛ وأبلغ من ذلك أنه عليه السلام هدم مسجد الضرار، ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فسادا؛ كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها: أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض وكذلك القباب التي بنيت على القبور يجب هدمها لأنها أسست على معصية الرسول-صلى الله عليه وسلم-؛ وكل بناء أسس على معصيته ومخالفته فهو أولى بالهدم من مسجد الضرار؛ لأنه عليه السلام نهى عن البناء على القبور ولعن المتخذين عليها المساجد؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 وأمر بهدم القبور المشرفة، وتسويتها بالأرض. فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه ورسوله-صلى الله عليه وسلم- ولعن فاعله؛ وكذلك يجب إزالة كل قنديل وسراج، وشمع أوقدت على القبور؛ فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-؛ والله يقيم لدينه ولسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم- من ينصرهما ويذب عنهما؛ قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: " انظروا رحمكم الله تعالى! أينما وجدتم سدرة أو شجرة، يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامر، والخرق فهي ذات أنواط، فاقطعوها ". وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة - في كتاب " الحوادث والبدع ": الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 " ومن هذا القسم أيضا: ما قد عم به الابتلاء من تزيين الشيطان للعامة تخليق بعض الحيطان، والعمد، شرح مواضع مخصوصة من كل بلد يحكي لهم حاك: أنه رأى في منامه بها أحد ممن شهر بالصلاح، والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه؛ مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويظنون: أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها؛ وهي بين شجر، وحجر، وحائط، وعين "؛ يقولون: إن هذا الشجر وهذا الحجر، وهذا العين يقبل النذر أي العبادة من دون الله؛ فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ويتمسحون بذلك النصب ويستحلونه) . الذريعة العشرون: التبرك بمقام إبراهيم: قال الإمامان: البركوي (981هـ) ، والرومي (1043هـ) ، والشيخان: الهندي والسورتي، واللفظ للأول: (ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله تعالى أن يتخذ منه مصلى، كما ذكر الأزرقي في كتاب مكة عن قتادة في قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] ؛ قال: " إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا أن يمسحوه "، بل اتفق العلماء على أن لا يستلم ولا يقبل إلا الحجر الأسود؛ وأما الركن اليماني فالصحيح أنه يستلم ولا يقبل) . قلت: فيه عبرة للقبورية ولا سيما الديوبندية. الذريعة الحادية والعشرون: التبرك بالحجر الأسود. لقد صرح الإمام الشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) الذي عظمته الديوبندية إلى حد قالوا فيه: " حجة الله على العالمين "- بأن قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: " إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبلك ما قبلتك ". دليل على أن الحجر الأسود إذا لا ينفع ولا يضر، وأن تقبيله على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 خلاف القياس لمجرد التعبد لله عز وجل، لا لأجل التبرك به؛ فما ظنك بأحجار القبور وأشجارها؛ فلا يقاس عليه تقبيل غيره من الأحجار والأشجار، وفي كلام عمر -رضي الله عنه- إشارة إلى أن تقبيل الحجر لأجل الخوف والطمع والتعظيم فيه خوف الوقوع في الشرك؛ فلهذا نبه الناس بأنه لا يضر ولا ينفع وهذا دليل على أن الصحابة كانوا يهتمون بأمر التوحيد وحماية حماة وسد ذرائع الشرك. وقال الإمام البدر العيني (855هـ) ، والقاري (1014هـ) ، في شرح هذا الأثر، واللفظ للأول: (إنما قال ذلك؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام؛ فخشي عمر -رضي الله عنه-: أنه يظن الجهال بأن استلام الحجر هو مثل ما كانت العرب تفعله؛ فأراد عمر أن يعلم: أن استلامه لا يقصد به إلا تعظيم الله عز وجل، والوقوف عند أمر نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وأن ذلك من شعائر الحج التي أمر الله تعالى بتعظيمها، وأن استلامه مخالف لفعل الجاهلية في عبادتهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى؛ فنبه عمر على مخالفة هذا الاعقتاد، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلا من يملك الضر والنفع، وهو الله تعالى جل جلاله) . قلت: إذا لا يجوز تقبيل الحجر الأسود، واستلامه والتمسح به؛ لأجل التبرك به والاستشفاء به - فكيف يجوز التبرك بالقبور وأحجارها وأشجارها وخرقها وزيوتها، وشموعها ونحوها،؟؟ وفي ذلك عبرة للقبورية عامة والديوبندية التبليغية خاصة.!؟! فلو كان التبرك بهذه الأشياء جائزا لكان الحجر الأسود أولى وأحرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 وأليق؛ لأنه مسته أيدي الأنبياء والمرسلين* والصحابة والتابعين* والأولياء والصالحين* الذريعة الثانية والعشرون: التبرك بشجرة تشبه شجرة أهل الشرك. لقد صرح علماء الحنفية بمنع التعلق بشجرة تشبه شجرة المشركين ولو كان هذا التشبه في الاسم، فضلا عن التبرك بها، والعكوف عليها؛ فإن ذلك يتسبب إلى الوثنية، وقد استدلوا على سد مثل هذه الذريعة بحديث ذات أنواط؛ فقد قال الإمامان: البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) والشيخان: الهندي، والسورتي: (بل قد أنكر رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على الصحابة لما سألوه: أن يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، وأمتعتهم بخصوصها كما رواه البخاري في صحيحه: عن أبي واقد الليثي أنه قال: «خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم، وأمتعتهم، يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: " الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} " [الأعراف: 138] ، ثم قال: " إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم "» ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف حولها- اتخاذ إله مع الله! مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها شيئا- فما الظن بالعكوف حول القبر، والدعاء عنده، ودعاء صاحبه، والدعاء به؛ فمن له خبرة بما بعث الله به رسوله-صلى الله عليه وسلم- وبما عليه أهل البدع والضلال اليوم في هذا الباب- علم أن بين السلف، وبين هؤلاء الخلوف من البعد: أبعد ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 بين المشرق والمغرب) . (فما الظن بغيرها مما يقصده الناس: من شجر، أو حجر، أو قبر، ويعظمونه، ويرجون منه الشفاء، ويقولون: إن هذا الشجر، أو هذا الحجر، أو هذا القبر، يقبل النذر الذي هو عبادة وقربة، ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه) . ولعلماء الحنفية نصوص أخرى في الاستدلال بحديث ذات أنواط صرحوا فيها بوجوب قطع كل وسيلة يتذرع بها إلى الشرك ويتبرك بها، وفي ذلك عبرة للقبورية عامة، ونكال للديوبندية المتبركين بكثير مما لم ينزل به الله سلطانا، وقد اعترف القضاعي أحد أئمة القبورية بمفسدة شجرة الرضوان وقطع كل وسيلة شركية. الذريعة الثالثة والعشرون: التبرك بشجرة ذات حادث معظم كشجرة الرضوان ونحوها. قال الأئمة الثلاثة: البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) والشاة ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيوخ الثلاثة، سبحان بخش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 الهندي، وإبراهيم السورتي، ومحمد علي المظفري، واللفظ للثاني: (فالأنصاب ... ، كل ما نصب وعبد من دون الله تعالى: من شجر أو حجر، أو قبر، أو غير ذلك، والواجب هدم ذلك كله ومحو شره؛ كما " أن عمر -رضي الله عنه- لما بلغه أن الناس يتناولون الشجر التي بويع تحتها بالنبي- عليه السلام- أرسل إليها فقطعها "؛ فإذا كان عمر فعل هذا بالشجر التي بايع الصحابة رسول الله-عليه السلام- وذكر الله سبحانه في القرآن حيث قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] ، [فماذا] يكون حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب التي قد عظمت الفتنة بها، واشتدت البلوى بسببها ... ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 قلت: هذا النص لا يحتاج إلى إيضاح وتعليق، ولكن فيه عبرة للقبورية عامة، ونكال للديوبندية المتبركين بكثير مما لم ينزل الله به من سلطان!؟! تنبيه: ليس المراد من قولي: " التبرك بشجرة ذات حادث معظم ": أن التبرك بشجرة عادية جائز؛ بل المراد: أن التبرك إذا كان بشجرة معظمة غير جائز- بل الأولى والأحرى غير جائز بشجرة عادية، وقال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) : (ولا زالت الصحابة تسد ذرائع التوسل الذي ادعاه المجوزون؛ كما فعل عمر -رضي الله عنه-: من قطع الشجرة التي بويع تحتها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-) . وللتهانوي (1373هـ) كلام جيد حول قطع شجرة الرضوان فراجعه. وقد اعترف القضاعي أحد أئمة القبورية (1376هـ) بأن قطع شجرة الرضوان- كان لأجل حسم مادة الفساد، وسد الذريعة إلى الشرك. قلت: حول صحة قطع هذه الشجرة مبحث نافع ذكرته في كتابي " الماتريدية " فيه رد على شيخنا الألباني حفظه الله تعالى فراجعه؛ فإنه مفيد للغاية. الذريعة الرابعة والعشرون: التبرك بالقبور: لقد صرح علماء الحنفية بمنع التبرك بالقبور، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 مخافة وقوع الناس في الشرك الأكبر، إلى أن قالوا: إن الزائر لا يمس القبر ولا يقبله، ولا يعفر خده عليه ولا يأخذ ترابه، فضلا عن الاستغاثة بصاحب القبر؛ كل ذلك محافظة على التوحيد وحماية لحماه، وسدّا لذرائع الشرك؛ لأن كل ذلك من سنن عباد الأوثان التي يفعلونها بأوثانهم. قلت: لقد بطلت بهذا كله مزاعم القبورية عامة، والنابلسي الحنفي القبوري (1143هـ) والكوثري الحنفي الجهمي القبوري (1371هـ) خاصة- في الدعوة إلى الوثنية والتبرك بالقبور وأهلها. وأقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] ، {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] . الذريعة الخامسة والعشرون: التبرك والتوسل بالقبر المعظم. ليس معنى هذا العنوان: أن التبرك والتوسل بالقبر غير المعظم يكونان جائزين؛ بل معناه: أن التبرك والتوسل بقبر معظم: لنبي؛ أو ولي أسرع إيقاعا للمتبرك، والمتوسل في الشرك؛ ولذلك قال الإمامان: البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 (1043هـ) ، والشيخان الهندي، والسورتي، واللفظ للأول: (وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور- هي التي أوقعت كثيرا من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك؛ فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو حجر؛ ولهذا نجد كثيرا من الناس عند القبور يتضرعون، ويخشعون، ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة- لا يفعلونها في مساجد الله تعالى، ولا في وقت السحر؛ ومنهم من سجد لها، وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها ولديها ما لا يرجون في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها .... ) . قلت: من أعظم الأمثلة التي ضربها علماء الحنفية في صدد عدم جواز الشرك بالقبر المعظم والتوسل به- هو قبر دانيال النبي عليه السلام، فقد ذكر الإمام البركوي (981هـ) رحمه الله أثر أبي العالية أنه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 (قال: " لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب؛ فدعا كعبا فنسخه بالعربية؛ فأنا أول رجل من العرب قرأته، فقرأته مثل ما أقرأ القرآن، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم، وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد؛ فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال عليه السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاث مئة سنة. فقلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا إلا شعيرات من قفاه؛ إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع. فقلت: ما كان يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم- أبرزوا السرير، فيمطرون!؛ فقلت: فما صنعتم به؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 فلما كان الليل دفناه، وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس؛ فلا ينبشوه "؛ فانظر القصة! وما فعله المهاجرون والأنصار!؛ كيف سعوا في تعمية قبره؟! لئلا يفتن به الناس؛ ولم يبرزوا للدعاء عنده، والتبرك به؛ ولو ظفر به هؤلاء الخلوف*- لحاربوا عليه بالسيوف* ولعبدوه من دون الله تعالى؛ فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانيه ولا يقاربه؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 وبنوا عليها الهياكل. وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد أعظم من المساجد؛ فلو كان الدعاء والصلاة عند القبور فضيلة أو سنة، أو مباحا- لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك؛ ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكنهم كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه- من هؤلاء الخلوف الذين ضلوا عن الطريق المستقيم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل؛ وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمصار عدد كثير، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 وهو متوافرون؛ فما منهم من استغاث عند قبر أحد، ولا دعاه، ولا عابه، ولا استنصر به؛ فلو كان وقع شيء منها لنقل؛ إذ من المعلوم: أن مثل هذا ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله؛ فحينئذ يتبين: أن الدعاء عند القبور، والدعاء بأربابها لا يخلو- إما أن يكون أفضل منه في غير تلك البقعة، أو لا؛ فإن كان أفضل- كيف خفي علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟!؟؛ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة- جاهلة بهذا الفضل العظيم!؛ وتظفر به الخلوف علما وعملا!؟!؛ ولا يجوز أن يعلموه، ويزهدوا فيه- مع حرصهم على كل خير؛ لا سيما إذا ظهر لهم حاجة، فاضطروا إلى الدعاء؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 فإن المضطر يتشبث بكل سبب؛ وإن كان فيه كراهة ما؛ وهم كيف يكونوا مضطرين في كثير من الدعاء؟ ويعلمون فضل الدعاء عند القبور؟ ثم لم يقصدوه؟ هذا محال طبعا وشرعا؛ فتعين القسم الآخر: الذي هو أنه لا فضل للدعاء عند القبور؛ ولا هو مشروع ولا هو مأذون فيه؛ بل هو مما شرعه عباد القبور؛ ولم يشرعه الله ولم ينزل به سلطانا؛ وقد أنكر الصحابة ما هو دون ذلك بكثير ... ". وللعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) كلام قيم مهم في الاستدلال بهذه القصة على وجوب قطع مادة الشرك وسد ذرائعه حماية لحمى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 التوحيد؛ قطع به دابر القبورية. وللشيخ الفنجفيري (1407هـ) كلام حول هذه القصة مفيد نقله عن شيخ الإسلام. وقد اعترف الداجوي الديوبندي أحد أئمة القبورية في بلاد الأفغان وباكستان بأن إخفاء قبر دانيال كان لأجل خوف الافتتان. قلت: في هذه القصة أمر مهم فيه عبرة للقبورية ونكال للديوبندية لم أعرف أحدا نبه عليه: وهو أن هذه القصة تدل على أن التوسل بالصالحين من الأنبياء والأولياء عند مس الحاجات* والدعاء عند إلمام الملمات * إنما كان من صنيع المشركين السابقين، حتى الفرس؛ فإن قول أبي العالية رحمه الله تعالى: " كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون "؛ صريح في أن التوسل بالصالحين من خرافات المشركين السابقين ومن عاداتهم الشركية المتوارثة؛ التي ورثتها عنهم القبورية حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة. أقول: في هذه القصة أمر مهم آخر فيه جواب عن كثير من أكاذيب القبورية، وهو أن المشرك قد تقضى حاجته بتوسله بالقبر أو بالشجرة أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 بالحجر أو بالولي ونحو ذلك من الوسائل والأسباب المحرمة، ولكن هذا ليس بدليل على جواز تعاطي مثل هذه الأسباب كما سيأتي. الذريعة السادسة والعشرون: التبرك والتوسل بجثة معظمة أو سرير لشخص صالح ونحو ذلك من الآثار. قلت: التقرير ههنا هو بعينه ما سبق آنفا في قصة دانيال عليه السلام فلا حاجة إلى إعادته؛ فإن هؤلاء المشركين من الفرس؛ كانوا يتوسلون ويتبركون بسرير دانيال عليه السلام وإذا احتاجوا إلى المطر أبرزه توسلا منهم به إلى الله عز وجل ليغيثهم؛ ولكن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان قد أبطلوا هذا العمل الشركي حسما لمادة الشرك، وفي ذلك عبرة أيما عبرة! الذريعة السابعة والعشرون: القبر المشرف: وهو من أعظم وسائل الشرك التي أمرنا بإزالتها حماية لحمى التوحيد وسدّا لذرائع الشرك؛ فقد قال الإمام البركوي (981هـ) رحمه الله مبينا وجوب إزالة القبور المشرفة وهدمها حتى تستوي بالأرض لئلا يتذرع بها إلى الشرك: (وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض؛ فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم) . قلت: يشير إلى حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 " «ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته» ". وقد استدل بهذا الحديث كثير من علماء الحنفية على هدم القبور المشرفة وطمس التماثيل والصور حماية لحمى التوحيد وسدًّا لوسائل الشرك وحباله. الذريعة الثامنة والعشرون: عبادة الله تعالى في مكان يعبد فيه لغير الله تعالى. لقد صرح علماء الحنفية بمنع عبادة الله تعالى في موضع يعبد فيه لغير الله تعالى، وصرحوا بوجوب الاحتراز من ذلك؛ لئلا يتذرع إلى عبادة غير الله تعالى؛ فكيف بالتبرك بما لم يشرع في الشرع التبرك به؟! وكيف بعبادة غير الله سبحانه وتعالى؟! فمن عبد الله تعالى من صلاة أو ذبح أو نذر ونحوها في موضع يعبد فيه لغير الله تعالى من سجدة أو ذبح أو نذر أو استغاثة ونحوها- فقد وقع في نوع من التشبه بالمشركين وتكثير سوادهم على أقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 تقدير؛ وإن كانت نيته خالصة لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ولكن لما كان هذا الموضع خاصّا بعبادة غير الله تعالى؛ لا يجوز للمسلم أن يعبد الله تعالى فيه حماية لحمى التوحيد وسدّا لذرائع الشرك. قال العلامة شكري الآلوسي (1342) محذرا من ارتكاب مثل هذه الصنائع حسما لمادة الفساد* وحماية لتوحيد رب العباد*: (وقد اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم: أنه منع من تعليق الأوتار والتمائم وأمر بقطعها. وبعث رسوله بذلك؛ كما في السنن وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 قال: " من تعلق شيئا وكل إليه ". بل نهى عن قول الرجل: " ما شاء الله وشئت "، وقال لمن قال ذلك: «أجعلتني لله ندّا» . ومنع من التبرك بالأشجار والأحجار) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 ثم ذكر رحمه الله تعالى حديث ذات أنواط، ثم قال: (ونهى عن الصلاة عند القبور وإن لم يقصدها المصلي. ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله تعالى. ونهى عن الذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله. حسما لمادة الشرك وقطعا لوسائله وسدّا لذرائعه وحماية للتوحيد وصيانة لجنابه؛ فمن المستحيل شرعا وفطرة وعقلا: أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة وغيرها؛ بإباحة دعاء الموتى والغائبين [في الكربات] *؛ والاستعانة بهم في الملمات المهمات*؛ كقول النصراني: " يا والدة المسيح! اشفعي لنا إلى الله "؛ أو: " يا عيسى أعطني كذا وافعل بي كذا "؛ وكذلك قول القائل [الرافضي القبوري] : " يا علي يا حسين يا عباس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 أو يا عبد القادر أو يا عيدروس، أو يا بدوي، أو يا فلان وفلان! أعطني كذا أو أجرني من كذا أو أنا في حسبك ". ونحو ذلك من الألفاظ الشركية التي تتضمن العدل بالله تعالى والتسوية به تعالى وتقدس؛ فهذا لا تأتي شريعة ولا رسالة بإباحته قط؛ بل هو من شعب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار*؛ ومقت العزيز الغفار* وقد نص على ذلك شيخ الإسلام حتى ذكره ابن حجر في الإعلام، مقررا له؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 وتأويل الجاهلين* والميل إلى شبه المبطلين * هو الذي أوقع هؤلاء وأسلافهم الماضين* من أهل الكتاب والأميين * في الشرك برب العالمين * فبعضهم يستدل على شركه بالخوارق والكرامات *وبعضهم برؤيا المنامات * وبعضهم بالقياس على السوالف والعادات *وبعضهم بقول من يحسن الظن به؛ وكل هذه الأشياء ليست من الشرع من شيء؛ وعند رهبان النصارى وعباد الصليب والكواكب من هذا الضرب شيء كثير ... ". الذريعة التاسعة والعشرون: الصلاة في المقبرة؛ لقد كره علماء الحنفية الصلاة في المقبرة. وعللوا الكراهة بأن في ذلك خوف الوقوع في الشرك لأنه قد يتذرع بها إلى الشرك؛ فيجب حسم هذه المادة حماية لحمى التوحيد وسدّا لذريعة الشرك؛ قال الإمامان: البركوي (981هـ) والرومي (1043هـ) ، والشيخان السورتي والهندي: (فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها؛ وإن لم يقصد الصلاة عندها؛ وإذا قصد الرجل الصلاة عند المقبرة متبركا بالصلاة عند تلك البقعة؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 فهذا عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى؛ فإن العبادات مبناها على الاستنان والاتباع *؛ لا على الهوى والابتداع *؛ فإن المسلمين أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين نبيهم: أن الصلاة عند المقبرة منهي عنها ... " إلى آخر الكلام الطيب الذي رد على مزاعم كثير من المحرفين المبطلين) . قلت: هؤلاء العلماء من الحنفية يشيرون إلى أحاديث النهي عن الصلاة في المقبرة؛ منها حديث أبي سعيد مرفوعا: «الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة» . وحديث ابن عمرو مرفوعا: «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا» . أقول: الحاصل: أنه لا يجوز ارتكاب أي قول أو عمل يتسببان إلى أدنى ذريعة إلى الشرك ويخلان بحماية حمى التوحيد والإضرار بجانبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 الذريعة الثلاثون: الصلاة عند غروب الشمس وعند طلوعها واستوائها. لقد كره علماء الحنفية الصلاة عند طلوع الشمس واستوائها وغروبها. وعللوا ذلك بأن فيها تشبها بالمشركين عباد الشمس؛ فيجب سد هذه الذريعة حماية لحمى التوحيد وسدا لذريعة الشرك. قال الإمامان البركوي (981هـ) والرومي (1043هـ) ، والشيخان الهندي والسورتي: (فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها؛ حتى نهى عن الصلاة ... ، وقت طلوع الشمس وغروبها ووقت استوائها؛ فنهى أمته عن الصلاة وإن لم يقصد ما قصده المشركون) . قلت: هؤلاء العلماء من الحنفية يشيرون إلى أحاديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس واستوائها وغروبها؛ منها: حديث ابن عمر مرفوعا: «لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بقرني شيطان» . وحديث عقبة بن عامر أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها؛ أو أن نقبر» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 «فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب» . أقول: الحاصل أن علماء الحنفية قد اجتهدوا في سد جميع ذرائع الشرك سواء كانت بالواسطة أو بدون واسطة مباشرة؛ وذلك حماية لحمى التوحيد وحفظا لجنابه وقطعا لمادة الفساد؛ وفي ذلك عبرة للقبورية عامة وللديوبندية خاصة. وبعد أن عرفنا جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك وسد جميع ذرائعه حماية لحمى التوحيد- ننتقل إلى الباب الآتي لنعرف حقيقة غلو القبورية في الصالحين، ونطّلع على شركياتهم وكفرياتهم؛ من وصفهم الصالحين بل الطالحين بصفات الله تعالى من الألوهية والربوبية وعلم الغيب والتصرف في الكون والسمع والطاعة والبصر المطلقين والإحياء والإماتة وغيرها من صفات الله عز وجل، كما نعرف جهود علماء الحنفية في إبطالها وقلع شبهات القبورية وقطع دابرهم. فنقول وبربنا الرحمن المستعان نستعين * إذ هو المستغاث المغيث المعين* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 الباب الخامس في بيان غلو القبورية في الصالحين بل في الطالحين من اعتقاد علم الغيب لهم والتصرف في الكون لهم ووصفهم بصفات رب العالمين وفيه قسمان: - القسم الأول: في عرض أمثلة لغلو القبورية في الصالحين بل في الطالحين. - القسم الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال القبورية في الصالحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 كلمة بين يدي هذا الباب لقد بينت في الأبواب السابقة وفصولها ومباحثها ومطالبها جهود علماء الحنفية في أهمية العقيدة عامة، وأهمية توحيد العبادة خاصة، وتحقيق أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية، وتعريف التوحيد، والعبادة، وبيان أركانها، وأنواعها، وشروط صحتها، وتعريف الشرك وبيان أنواعه، وتاريخ القبورية ونشأتهم وانتشارهم في شرق الأرض ومغربها وتحقيق أن الشرك موجود في القبورية، وأنهم على طريقة الوثنية الأولى؛ وأنهم وثنية عباد القبور، وعبدة الأنصاب، وأهل الشرك. كما ذكرت مساعي علماء الحنفية في حماية حمى التوحيد، وسد جميع ذرائع الشرك ووسائله، وسقت نصوصهم لإبطال عقائد القبورية في ذلك كله وقطع دابرهم وقلع شبهاتهم التي تتعلق بالتوحيد والشرك وقمع جموعهم وكسر جنودهم ونصر أهل التوحيد بحمد الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 ولما كان أصل سبب ضلال هؤلاء القبورية خاصة والوثنية عامة- هو الغلو في الصالحين، ورفعهم فوق منزلتهم، واعتقادهم فيهم علم الغيب، والتصرف في الكون- أردت أن أسوق في القسم الأول من هذا الباب عدة أمثلة من غلو القبورية في الصالحين، واعتقادهم فيهم علم الغيب، والتصرف في الكون، ثم أذكر جهود علماء الحنفية في إبطال ذلك كله في القسم الثاني من هذا الباب، والأبواب الآتية؛ فأقول * بربي أستعين وأحول * وبه أثق وأصول*: * * * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 القسم الأول في عرض أمثلة لغلو القبورية في الصالحين بل في الطالحين وفيه فصول ثلاثة: - الفصل الأول: في بيان غلوهم في رسول الله. - الفصل الثاني: في بيان غلوهم في بعض الأولياء خاصة. - الفصل الثالث: في بيان غلوهم في الأولياء عامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 القسم الأول في عرض نماذج من غلو القبورية في الصالحين بل الطالحين لقد غالت القبورية في تعظيم الصالحين* بل الطالحين* ومحبتهم ورفعهم فوق منزلتهم- كدأب الوثنية الأولى، بل أشد- فاعتقدوا فيهم عجائب من العلم بالمغيبات* وأثبتوا لهم غرائب من التصرفات في الكون، وغير ذلك من الصفات *؛ بحيث جعلوهم آلهة يعبدونهم خصوصا عند الكربات * وإلمام الملمات، لدفع المضرات، وجلب الخيرات* بل جعلوهم أربابا لهذا الكون يتصرفون فيه كيف يشاؤون* يدمرون ويعمرون، يمنعون ويعطون، يعلمون ويسمعون كما يريدون* كل ذلك تمهيدا للاستغاثة بهم عند الملمات* طلبا لحاجات ورفعا لمضرات* وفيما يلي بعض الأمثلة لغلو القبورية في الصالحين*، ووصفهم إياهم بصفات رب العالمين*: ويقتضي هذا القسم أن يشتمل على فصول ثلاثة: الفصل الأول: في بيان غلو القبورية في رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 الفصل الثاني: في غلوهم في بعض الأولياء خاصة. الفصل الثالث: في غلوهم في الأولياء عامة. ********* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 الفصل الأول في بيان غلو القبورية في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه خمسة أقسام من الغلو: - القسم الأول: في علم الغيب له صلى الله عليه وسلم. - القسم الثاني: في التصرف في الكون له صلى الله عليه وسلم. - القسم الثالث: في سماع أصوات المستغيثين به صلى الله عليه وسلم. - القسم الرابع: في حياته صلى الله عليه وسلم حياة دنيوية في البرزخ. - القسم الخامس: في جعلهم إياه صلى الله عليه وسلم نورا لا بشرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 كلمة بين يدي هذا الفصل لقد غالت القبورية في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطروه بعدة أنواع من الغلو وأصناف من الإطراء - أجملها في خمسة أقسام: - القسم الأول: غلوهم في علم الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. - القسم الثاني: غلوهم في تصرفه صلى الله عليه وسلم في الكون. - القسم الثالث: غلوهم في سماعه صلى الله عليه وسلم لأصوات المستغيثين به صلى الله عليه وسلم. - القسم الرابع: غلوهم في حياته صلى الله عليه وسلم البرزخية بجعلها دنيوية. القسم الخامس: غلوهم من ناحية جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نورا لا بشرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 القسم الأول غلو القبورية في علم الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد غالت القبورية في علم الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فوصفوه بأنه عالم بجميع ما كان وما يكون أزلا وأبدا، وأنه يعلم جميع ما في اللوح المحفوظ؛ بل هذا بعض علومه صلى الله عليه وسلم؟ وأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما في الضمائر والقلوب من الأسرار، وأنه لا تخفى عليه خافية، وأنه لا يخرج من علمه شيء، والكلام ههنا في عدة أنواع: النوع الأول: علم ما كان وما يكون: تعتقد القبورية أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم جميع ما كان وما يكون من المخلوقات والموجودات أزلا وأبدا لا تخفى عليه منها خافية، وهذه العقيدة من أعظم عقائد البريلوية خاصة، صراحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 وتوجد عند غيرهم أيضا، وقالوا:إن الله تعالى أعطى المصطفى صلى الله عليه وسلم علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وما يكون وعلم ما في السماوات وما في الأرض؛ فمن اعتقد هذا فهو مؤمن ومن لم يعتقد هذا فهو كافر خارج عن دائرة الإسلام. النوع الثاني: علم جميع ما في اللوح والقلم وزيادة: تعتقد القبورية: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم جميع ما في اللوح والقلم، وأن هذا العلم جزء من بحر علومه صلى الله عليه وسلم، قلت: وأول من عرفته قال بهذه الخرافة- هو البوصيري (694هـ) ؛ حيث قال: فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 وتبعه الكوثرية وزادت عليهم البريلوية: أن علم اللوح والقلم سطر من سطور علمه صلى الله عليه وسلم ونهر من بحور علمه بل ذرة منها. النوع الثالث: علمه صلى الله عليه وسلم محيط بجميع الكون. لم يحجب عن روح رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، فهو المطلع على عرشه، وعلوه وسفله ودنياه وآخرته وناره وجنته؛ فعلمه محيط بجميع المعلومات الغيبية الملكوتية. النوع الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم يعلم علم جميع علوم المخلوقين من الأولين والآخرين والجن والإنس والملائكة وغيرهم من العالمين. قلت: يدخل في ذلك علوم السحرة والكهنة والمغنين والمطربين والشعراء والعشاق، والمعشوقات والماجنين والشياطين والكافرين والمنجمين والمهندسين والفلاحين والصناعيين والبنائين وغيرهم؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم جميع علوم هؤلاء أجمعين عند هؤلاء القبورية الخرقاء * الوثنية الحمقاء *؟!؟ النوع الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم جميع المخلوقات وجميع أحوالهم تماما وكمالا في الماضي والحال والمستقبل، فلا تخفى عليه خافية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 النوع السادس: علمه بخفيات الأمور وضمائر القلوب. قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لو وضع يده على حيوان- لعلم الحاضر والغائب؛ فما ظنك بالولي الذي وضع عليه النبي صلى الله عليه وسلم يده -؟! ألا يصير عالما بالشاهد والغائب، والذي يعلم أحوال قلوب الجمادات والحيوانات- ألا يعلم أحوال قلوب عشاقه؟!؟ تنبيه مهم: أقدم من عرفته ممن ارتكب هذه الخرافة الوثنية باهتمام وتفصيل الدعوة السافرة إليها- هو ابن الحاج (737هـ) , فقد قال في بيان آداب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وشد الرحال إليه للاستغاثة به: (فصل: وأما في زيارة سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه- فكل ما ذكر يزيد عليه أضعافه أعني في الانكسار والذل والمسكنة؛ لأنه الشافع المشفع الذي لا ترد شفاعته، ولا يخيب من قصده، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 ولا من نزل بساحته، ولا من استعان به أو استغاث به؛ إذ أنه عليه الصلاة والسلام- قطب دائرة الكمال، وعروس المملكة ... ؛ فمن توسل به، أو استغاث به أو طلب حوائجه منه فلا يرد، ولا يخيب ... ؛ وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم: " إن الزائر يشعر نفسه بأنه واقف بين يديه عليه الصلاة والسلام، كما هو في حياته؛ إذ لا فرق بين موته وحياته "؛ أعني في مشاهدته لأمته، ومعرفته بأحوالهم ونياتهم، وعزائمهم، وخواطرهم، وذلك عنده جلي، لا خفاء فيه ... ) إلى آخر خرافاته. وقد تبعه في هذه الخرافات جمع من القبورية؛ فنقلوا كلامه هذا بنصه وفصه، واستدلوا به وعدوه رطبا جنيّا* ونعمة غير مرتقبة وغنيمة باردة ولحما طريّا* منهم القسطلاني (923هـ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 فقد وقع في طامتين: الأولى: خرافة قبورية. والثانية: خيانة علمية حيث نقل كلامه بالنص والفص بدون العزو إليه. ومنهم الزرقاني (1122 هـ) ، ومنهم النبهاني (1350 هـ) وغيرهم من القبورية ولا سيما البريلوية، والكوثرية. النوع السابع: قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم حاضر وناظر في كل مكان وزمان وهو يشاهد العالم كله من المدينة. لا تستقر نطفة في فرج أنثى إلا ينظر إليها. وقولهم: إن السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى جميع الناس في زمان واحد وفي جميع الأقطار المتباعدة بدون أي إشكال كما قيل: كالشمس في كبد السماء وضوؤها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 روح النبي صلى الله عليه وسلم حاضر في بيوت أهل الإسلام، وإن القطب يملأ الكون ويكون حاضرا وناظرا وشاهدا في كل مكان في الكون فما بالك برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالوا: كل ما يحدث في الكون من المشرق إلى المغرب ومن السماء إلى الأرض حتى قبل إبراهيم بآلاف السنين فهو صلى الله عليه وسلم يعلمه ويراه حيث إنه موجود في كل مكان وزمان. النوع الثامن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الأمور الخمسة: وقت الساعة، وقت نزول الغيث، وما في الأرحام، وأوقات موت الأنفس، وأين تموت. ولم يكن يعلم علوم هذه الأمور الخمسة فحسب، بل كان يعطي علوم هذه الخمسة من يشاء من خدمه. النوع التاسع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم علم كل شيء ويعلم كل شيء، لأن الله تعالى قال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 قالوا: إن ضمير " هو " يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم بكل شيء عليم. وقد أعطي صلى الله عليه وسلم علم كل شيء قبل أن يفارق الدنيا. النوع العاشر: أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم القرآن قبل ولادته لأنه كان يعلم جميع ما في اللوح المحفوظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 القسم الثاني غلو القبورية في تصرفه صلى الله عليه وسلم في الكون لقد غالت القبورية في اعتقاد التصرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم تصرفا مطلقا في الكون بحيث جعلوه ربّا لهذا الكون ومالكه يتصرف فيه ما يشاء كل ذلك تمهيدا للاستعانة منه والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم؛ وإليكم بعض نصوصهم: 1 - إن النبي صلى الله عليه وسلم يقضي كل قسم من الحاجات؛ إن جميع أمور الدنيا والآخرة في اختياره. 2 - ماذا في كفة الله تعالى سوى الوحدة؛ إن كنت تريد شيئا فاطلبه من محمد صلى الله عليه وسلم. 3 - قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم هو عين الله تعالى، فالذي كان مستويا على العرش - قد نزل إلى المدينة فصار المصطفى. إن الله الذي أرانا حسنه وجماله قد جاء في صورة محمد. 4 - إن مفاتيح الكون كلها في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مالك الكل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 وإنه النائب الأكبر للقادر، وهو الذي يكلم كلمة " كن ". 5 - كل ما ظهر في العالم فإنما يعطيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بيده المفاتيح، فلا يخرج من الخزائن الإلهية شيء إلا على يديه، وإنه صلى الله عليه وسلم إذا أراد شيئا لا يكون خلافه؛ لأنه ليس لأمره صارف في الكون. قلت: أقدم من عرفته في القبورية المنتسبة إلى أحد المذاهب الأربعة ممن قال بهذه الخرافات الوثنية- هو القسطلاني (923هـ) ثم الزرقاني (1122هـ) ثم البريلوية: 6 - فقد قال القسطلاني: (فهو صلى الله عليه وسلم خزانة السر، وموضع نفوذ الأمر، فلا ينفذ أمر إلا منه، ولا ينقل خير إلا عنه، ولله در القائل: ألا بأبي من كان ملكا وسيدا ... وآدم بين الماء والطين واقف إذا رام أمرا لا يكون خلافه ... وليس لذاك الأمر في الكون صارف ) . 7 - وقال النبهاني (1350هـ) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 (إن المسلمين ... ، من أهل السنة والجماعة- وهم جمهور الأمة المحمدية -[يعني القبورية]- يعتقدون فيه صلى الله عليه وسلم. أنه يعلم الغيب، ويعطي ويمنع، ويقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، فهذا من أصح الاعتقادات، وإنكاره من أقبح المنكرات) . 8 - وقال أحمد رضا خان الأفغاني إمام البريلوية الوثنية (1340هـ) - في ديباجة كتابه: " الأمن والعلى لناعتي المصطفى بدافع البلاء ": (وصلى ربنا وسلم على دافع البلاء والوباء والقحط والمرض والألم*؛ سيدنا ومولانا ومالكنا ومأوانا محمد مالك الأرض ورقاب الأمم * ... ؛ قال الفقير المستدفع البلاء * من فضل نبيه العلي الأعلى * صلى عليه الله تعالى * عبد المصطفى أحمد رضا *المحمدي الحنفي القادري البركاتي البريلوي- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 دفع بنبيه عنه البلاء * ومنح قلبه النور والجلاء *) . 9 - وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبرئ من السقم والآلام والكاشف عن الأمة كل خطب، وهو المحيي، وهو الدافع للمعضلات والنافع للخلق، والرافع للرتب، وهو الحافظ والناصر، وهو دافع البلاء، وهو الذي برد على الخليل النار، وهو الذي يهب ويعطي وحكمه نافذ، وأمره جار في الكونين. 10 - وقال: (* منه الرجاء منه العطاء منه المدد ... في الدين والدنيا والأخرى للأبد *) . 11 - وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة الله الأعظم، وإنه متصرف في الأرض والسماء. 12 - وقالوا: المعاملة كلها بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي من شاء ما شاء لأن الدنيا والآخرة من جوده وعلم اللوح والقلم من علومه، فإن كنتم تريدون خيري الدنيا والآخرة فأتوا إلى بابه ثم اطلبوا ما شئتم. 13 - وقالوا: إن الله تعالى قد مكن النبي صلى الله عليه وسلم من إعطاء كل ما أراد من خزائن الحق، ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يخص من شاء بما يشاء، ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أقطعه أرض الجنة يعطي منها ما يشاء من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 يشاء. 14 - وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك الأرضين ومالك الناس، ومالك الأمم، ومالك الخلائق، بيده مفاتيح النصر والمدد، والجنة والنار، وهو يكون صاحب القدرة والاختيار يوم القيامة، ويكشف الكروب ويدفع البلاء، وهو حافظ للأمانة وناصر لها، وإليه ترفع الأيدي للاستنجاد. 15 - وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نائب مطلق عن الله تعالى، فالعالم كله تحت تصرفه، فهو يفعل ما يشاء، ويعطي ما يشاء من يشاء، ويسلب ما يشاء من يشاء؛ لا راد لقضائه في العالم كله، والعالم كله محكوم له، وهو مالك لجميع بني آدم، والأرض كلها والجنة كلها ملكه، وملكوت السماوات والأرض تحت أمره، مفاتيح الجنة والنار في يده، والرزق والخير وكل قسم من العطاء يوزع من عنده، إن الدنيا والآخرة حصة من عطاءه. 16 - وقالوا: قال الله تعالى: يا محمد كلهم يطلبون رضاي وأنا أطلب رضاك، وجعلت ملكي كله من العرش إلى الفرش فداء لك؛ حكمك جار على الشمس والقمر؛ لا يطلع الشمس حتى تسلم على ابنك الجيلاني غوث الثقلين وغيث الكونين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 القسم الثالث غلو القبورية في سماعه صلى الله عليه وسلم لنداء المستغيثين به ورؤيته لجميع ما في الكون لقد غالت القبورية في سماعه صلى الله عليه وسلم ورؤيته إلى حد زعموا أنه صلى الله عليه وسلم يسمع نداء المستغيثين في العالم كله مع اختلاف أصواتهم وألسنتهم وبلدانهم، ويراهم ويبصرهم. ونصوصهم التي ذكرتها في غلوهم في علم الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تدل على هذا، ولكن لمزيد من التحقيق أذكر نصوصهم الخاصة بالسماع والرؤية. قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمع صرير الأقلام في اللوح المحفوظ، ويسمع أصوات تسبيح الملائكة تحت العرش وهو كان في بطن أمه؛ بل كان يعلم الغيب من بدء الأمر. * * * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 القسم الرابع غلو القبورية في حياته صلى الله عليه وسلم البرزخية لقد غالت القبورية جميعا حتى الديوبندية ولا سيما البريلوية في حياته صلى الله عليه وسلم بعد موته؛ فأنكروا حياته البرزخية، وجعلوها حياة دنيوية تماما، بل أقوى منها، يصلي في قبره، حتى قالت البريلوية إنه صلى الله عليه وسلم يجامع زوجاته. وهكذا جميع الأنبياء يصلون ويحجون، وينكحون، ويقاتلون الكفار ويأكلون ويشربون؛ وإليكم بعض نصوصهم التي قالوها جهارا دون إسرار ولا حياء من العباد* ولا من رب العباد*. 1 - قال جميع أئمة الديوبندية وعلى رأسهم السهارنفوري (1346هـ) الذي قد شرحت بعض قبورياته: مبينا عقيدة جميع الديوبندية بلا استثناء: (الجواب: عندنا وعند مشايخنا حضرة [صاحب] الرسالة صلى الله عليه وسلم حي في قبره الشريف، وحياته صلى الله عليه وسلم دنيوية من غير تكليف؛ وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم، وبجميع الأنبياء صلوات الله عليهم، والشهداء؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 لا برزخية كما هي حاصلة لسائر المؤمنين؛ بل لجميع الناس؛ كما نص عليه العلامة السيوطي في رسالته: " أبناء الأذكياء بحياة الأنبياء "، حيث قال: " قال الشيخ تقي الدين السبكي: حياة الأنبياء والشهداء في القبر كحياتهم في الدنيا ... "؛ فثبت بهذا أن حياته دنيوية برزخية لكونها في عالم البرزخ؛ ولشيخنا شمس الإسلام والدين محمد قاسم العلوم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 المستفيدين، - قدس الله سره العزيز-. في هذا المبحث رسالة مستقلة دقيقة المأخذ- بديعة المسلك لم ير مثلها، قد طبعت، وشاعت في الناس، واسمها " آب حيات ": أي ماء الحياة) . قلت: هذه كانت عقيدة الديوبندية قاطبة، وقد عرفت ما فيها من الدعوة السافرة إلى القبورية. 2 - والآن استمع لما يقوله إمام الديوبندية على الإطلاق ذلكم النانوتوي (1297هـ) ، وغيره من كبائر أئمة الديوبندية: أمثال الجنجوهي الملقب عندهم بالإمام الرباني (1323هـ) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 والكشميري الملقب عندهم بإمام العصر (1352هـ) ، والتهانوي الملقب عندهم بحكيم الأمة (1362هـ) أمة الخرافات، والعثماني (1369هـ) ، وحسين أحمد الملقب عندهم بشيخ الإسلام إسلام القبورية (1377هـ) : إن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ الآن في قبره، فهو كمن انعزل عن الناس واعتكف أربعين يوما؛ فهو حي حياة دنيوية بجسده العنصري حياة مستمرة؛ وحياة حقيقية جسمانية لا روحانية بل هي حسية جسمانية ولذا لا تورث تركته ولا تنكح أزواجه، لأنه حي فلا معنى لتوريث الأحياء، وإنه يصلي في قبره بأذان وإقامة، ولذا يسمع صلى الله عليه وسلم صلاة الناس عليه وسلامهم، وهذه عقيدة جمهور الأمة وعقيدة أهل السنة بالاتفاق، وعقيدة جميع أكابرنا وأئمتنا كما هو المذكور في المهند، خلافا للوهابية؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 فإنهم منكرون لحياته صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة. قلت: إن الديوبندية قد ورثوا هذه الخرافة القبورية عن شيخهم وإمامهم الذي لقبوه ببيهقي الوقت ذلكم القاضي ثناء الله الباني بتي (1225هـ) ؛ فقد صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره ولذلك لم يورث ولم يتأيم أزواجه، فلا يحل نكاحهن لأحد لأجل ذلك. بل قالوا: إن الأولياء لا يموتون، ولكن ينقلون من دار الفناء إلى دار البقاء فما ظنك بالأنبياء عليهم السلام. قلت: هذه كانت خلاصة عقيدة الديوبندية وغلوهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البرزخ؛ وهذا من البراهين القاطعة على أنهم قبورية خرافية إلا من رحم ربك منهم. ما امتازت به البريلوية: لقد امتازت البريلوية بشيء لم أجده عند الديوبندية وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 يجامع أزواجه أيضا؛ فقد قال أحمد رضا خان الأفغاني إمام البريلوية الوثنية (1340هـ) : إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم في القبر حياة دنيوية، وقد طرأ عليه الموت لآن واحد (ثانية أو أقل) تحقيقا للوعد، ثم أعيدت إليه الحياة فورا، كما هي كانت في الدنيا، ولذا تربت عليها أحكام الدنيا كعدم توريث التركة وعدم حل نكاح أزواجه صلى الله عليه وسلم وعدم طروء العدة عليهن، بل قال سيدي محمد بن عبد الباقي الزرقاني: إن الأنبياء عليهم السلام تعرض عليهم أزواجهم فهم يبيتون معهن، ويجامعونهن في قبورهم، وإنهم يصلون ويحجون. لطيفة: لقد رد أحد الديوبندية على البريلوية فقال: إن القول بجماع الأنبياء بأزواجهم توهين واستخفاف بهم وبهن. فأجابه: أحد البريلوية بجواب معقول أفحم ذلك الديوبندي، بل أسكت الديوبندية جميعا؛ حيث قال: إذا كانت حياة الأنبياء حياة دنيوية جسمانية حسية حقيقية- فأي مانع من استلذاذ الأنبياء بهذه النعمة العظيمة، كما كانوا يجامعون أزواجهم في حياتهم الدنيوية فأي توهين في ذلك!؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 أقول: القول بخرافة جماع الأنبياء عليهم السلام في قبورهم أزواجهم يوجد عند القبورية قبل الديوبندية؛ فقد قال بهذه الخرافة الزرقاني (1122هـ) كما شهد عليه خلفه أحمد رضا خان الأفغاني إمام البريلوية الوثنية (1340هـ) كما سمعته آنفا، وقال بها علوي بن أحمد بن الحسن الحداد الحضرمي (1232هـ) ، وابن جرجيس الحنفي إمام القبورية البغدادية العراقية (1299هـ) ، وغيرهما من القبورية، وهذا نصهم: (أما الأنبياء- فلأنهم أحياء في قبورهم- يأكلون ويشربون، ويصلون ويحجون؛ بل ينكحون؛ كما وردت بذلك الأخبار؛ وتكون الاستغاثة معجزة منهم؛ والشهداء أيضا أحياء عند ربهم، شوهدوا نهارا جهارا، يقاتلون الكفار ... ) . الحاصل: أن القبورية يعتقدون أن العارفين لا يموتون. وقالوا: إن الحياة البرزخية أقوى من الحياة الدنيوية؛ بل الحياة الدنيوية موت بالنسبة إلى الحياة البرزخية؛ فهم يقتدرون على السمع والبصر* والعلم والاقتدار على النفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 والضر*. هكذا ترى القبورية والوثنية يجعلون عقيدة حياة الأنبياء والشهداء بل الأولياء عامة- تمهيدا لجواز الاستغاثة بهم عند الملمات؛ حيث قالوا: إنهم إذا كانوا أحياء في قبورهم حياة حقيقية حسية فأي مانع من الاستغاثة بهم. قلت: أشهر سلف القبورية في جعل الحياة البرزخية كالحياة الدنيوية تمهيدا لجواز الاستغاثة بالأموات- هو السبكي (756هـ) ؛ فقد أفرد لهذه الخرافة الباب التاسع، وجعل الفصل الأول في حياة الأنبياء عليهم السلام، والفصل الثاني في حياة الشهداء، والفصل الثالث في حياة سائر الموتى وسماعهم، وتبعه القبورية بعده إلى يومنا هذا؛ فهم يرددون صدى هذا السبكي ويبوبون في كتبهم ويعقدون فصولا في حياة الأنبياء والشهداء وكذا الأموات عامة؛ لجواز الاستغاثة بالأموات* عند إلمام الملمات* فيجعلون حياة الأموات* دليلا على جواز الاستغاثة بهم عند الكربات*. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 القسم الخامس غلو القبورية في رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية جعلهم إياه نورا لا بشرا وجعلهم إياه شفافا لا ظل له لقد غالت القبورية في رسول الله صلى الله عليه وسلم، قديما وحديثا؛ فزعموا أنه صلى الله عليه وسلم نور، ولم يكن له ظل في شمس ولا قمر؛ وعلل كثير منهم بأن الأنوار شفافة لا ظل لها. ولا سيما البريلوية فإنهم قد غالوا في هذا الباب* إلى حد خرقوا للهيبة الحجاب فأتوا بأعجب العجاب*؛ فلإمام البريلوية أحمد رضا خان الأفغاني (1340هـ) عدة كتب في كون النبي صلى الله عليه وسلم نورا لا بشرا ولا ظليلا، وجعله شفافا عديم الظل: 1 - صلاة الصفا في نور المصطفى صلى الله عليه وسلم. 2 - قمر التمام في نفي الظل عن سيد الأنام صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 3 - نفي الفيء عمن أنار بنوره كل شيء. 4 - هدي الحيران* في نفي الفيء عن سيد الأكوان صلى الله عليه وسلم. وكلامهم في هذا الصدد يرمي إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم جزء من الله تعالى وأنه صلى الله عليه وسلم مظهر لصفات الله تعالى، 1- قال أحمد رضا خان الأفغاني إمام البريلوية (1340هـ) : (اللهم لك الحمد يا نور * يا نور النور * يا نور قبل كل نور * ونور بعد كل نور * يا من له النور * وبه النور * ومنه النور * وإليه النور * وهو النور *! 2 - صل وسلم وبارك على نورك المنير الذي خلقته من نورك! وخلقت من نوره الخلق جميعا؛ وعلى أشعة أنواره* وآله وأصحابه نجومه وأقماره*) . 2 - وقال: (الحمد لله الذي خلق قبل الأشياء نور نبينا من نوره * وفتق الأنوار جميعا من لمعات ظهوره *؛ فهو صلى الله عليه وسلم نور الأنوار* ومهد جميع الشموس والأقمار*) . 3 - ويخاطب البريلوي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله إنك نور * وكل عضو من أعضائك نور* أنت عين النور*. 4 - وقالوا جهارا دون إسرار: إن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل ليسوا بشرا؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 وإن القول ببشرية الرسل من دأب الكفار. 5 - وقالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس عين الله ولا هو غير الله، بل هو مظهر صفات الله، محيي الأرواح، منه خلق الجن ومنه الإنس، ومنه ظهر العرش والكرسي، ومنه حواء ومنه آدم عليه السلام. 6 - والملائكة شرر تلك الأنوار. 7 - قلت: لقد اطلعت على قصيدة لأحمد رضا خان الأفغاني إمام البريلوية (1340هـ) سماها " قصيدة النور "، وهي في ديوانه الذي سماه حدائق بخشش (حدائق الهبة) ، وهي (59) بيتا؛ وموضوع هذه العقيدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نور وكله نور وجميع أعضائه نور، وأنه لا ظل له؛ لأن النور لا يوجد له ظل. 8 - وقال البريلوي الأفغاني (1340هـ) : إن ظل النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع على الأرض لأنه كان نورا فكان إذا مشى في الشمس أو القمر لا يرى له الظل، والأنوار لا ظل لها؛ لأنها شفافة لطيفة لا تحجب. 9 - وكان صلى الله عليه وسلم يُرى في الظلمة كما يُرى في الضوء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 الفصل الثاني في غلو القبورية في بعض الأولياء خاصة وفيه أمثلة غلوهم في أربعة: - الأول: الشيخ عبد القادر الجيلاني (561هـ) إمام القادرية. - الثاني: أحمد الرفاعي (578هـ) إمام الرفاعية. - الثالث: أحمد البدوي (675هـ) إمام البدوية. - الرابع: الشاه نقشبند الحنفي إمام النقشبندية (791هـ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 كلمة بين يدي هذا الفصل لقد غالت القبورية في كثير من الصالحين إلى أن جعلوهم آلهة يعبدونهم من دون الله- بل في كثير من الطالحين- بل جعلوهم أربابا لهذا الكون متصرفين فيه كيف يشاؤون واعتقدوا فيهم علم الغيب مطلقا، فوصفوهم بصفات الله تعالى، تحت ستار الولاية والكرامة؛ وأشركوهم بالله عز وجل في إلهيته وربوبيته فصار إشراكهم بالله أشنع وأبشع من إشراك المشركين السابقين، وفيما يلي أمثلة أربعة لهؤلاء الصالحين الذين غالت القبورية فيهم أنواع الغلو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 الأول الشيخ عبد القادر الجيلاني 561 هـ مؤسس الطريقة القادرية لقد غالت القبورية في كثير من الصالحين منهم الجيلاني، فقد عظموه إلى حد جعلوه إلها يعبدونه وجعلوا قبره وثنا يعبدونه من دون الله؛ بل جعلوه ربا لهذا الكون متصرفا فيه تصرفا مطلقا، كما جعلوا قبره وثنا يعبدونه من دون الله تعالى، وكفريات القبورية في الغلو فيه واسعة الذيل وفيما يلي بعض الأمثلة: 1 - تعتقد فيه عامة القبورية ولا سيما الديوبندية والبريلوية: أنه " الغوث الأعظم " و" غوث الثقلين " و" الغوث " و" غوث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 الأقطاب " و " غيث الكونين "، و" القطب الرباني ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 2 - كان الجيلاني يحيي الطيور الميتة والدجاج والمأكول، فكان يأمر العظام المأكولة أن تقوم فتحيى وتصير دجاجة سوية. 3 - يا غوثي! أنت المحيي، وأنت المميت. 4 - إن منزلة " كن " و " لا تكن " قد حصلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم منه للجيلاني. 5 - إن الجيلاني متصرف في العالم، ومأذون له، ومختار، ومدير للعالم. 6 - لا يمكن للشمس أن تطلع إلا بعد أن تسلم على غوث الثقلين الجيلاني وغيث الكونين. وكان الجيلاني يمشي في الهواء على رؤوس الأشهاد، ولا يمر سنة، ولا الشهر، ولا الأسبوع، ولا اليوم إلا ويسلم عليه وتخبره بما يجري، وإن السعداء والأشقياء يعرضون عليه، وعينه في اللوح المحفوظ، وهو غائص في بحار علم الله ومشاهدته. 7 - إن الجيلاني له استطاعة على كل شيء سوى الله. 8 - إن الجيلاني قد أخذ زنبيل الأرواح من عزرائيل، ورد كل روح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 إلى جسدها. 9 - إن الجيلاني قد غير القدر وبدل التقدير لرجل في اللوح المحفوظ، وأخرج سفينة غرقت قبل اثنتي عشرة سنة. 10 - إن الجيلاني كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة. 11 - ولابن حجر الهيتمي القبوري (974هـ) أعاجيب وأباطيل حول الجيلاني وغيره ممن يزعم أنهم أولياء متصرفين في الكون. 12 - وقالوا في الجيلاني: إنه: " سيد السماوات والأرض " و" النفاع الضرار " و" المتصرف في الأكوان " و " المطلع على أسرار الخليقة " و " محيي الموتى " و " مبرئ الأعمى والأبرص والأكمه " و " أمره من أمر الله " و " ماحي الذنوب " و " دافع البلاء " و" الرافع الواضع "، و" يا صاحب الثقلين أغنني وأمدني بقضاء حاجتي، وتفريج كربتي " و " يا حضرة الغوث الصمداني! عبدك ومريدك مظلوم عاجز محتاج إليك في جميع الأمور في الدين والدنيا والآخرة ". 13 - وقال فيض أحمد البدايوني الهندي (1274هـ) مغاليا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 الجيلاني: ملك الورى بكماله ... وهب الهدى لرجاله سمح العلى لعياله ... فطر الندى بنواله بضيائه ببهائه ... بغنائه ببقائه بولائه بوفائه ... قسما بكل خصاله برع العوالم كلها ... ملك المكارم جلها جمع المحاسن جمعها ... بجماله وجلاله وله الدهور مطيعة ... ولحكمه أسيرة وإليه مرجع كلها ... بكماله وجماله بلغ الأقاصي والأدا ... ني رشح بحر فيوضه أسف على أسف على ... متكبر وضلاله والعجب من هذا الوثني! أنه مع هذا الكفر البواح والشرك الصراح حتى في الربوبية يفتخر بهذه الأبيات ويدخرها لآخرته قائلا مستغيثا بالجيلاني: لا يفزعنك أنواء وساعات ... ولا يهمك أيام وليلات وناد شيخك واستشفع به عجلا ... ولا تؤخر ففي التأخير آفات ويوم حشر من الأعمال إن سألوا ... أقول لي في مديح الشيخ أبيات قلت: كفريات القبورية في غلوهم في الصالحين عامة وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 الجيلاني خاصة لا يعدها عاد* ولا يحصيها إلا رب العباد* وفيما ذكرت كفاية وبرهنة على ارتكابهم الشرك في الربوبية فضلا عن الشرك في الألوهية، والله المستعان على ما يصفون* {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} * [الزمر: 67] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 الثاني الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية 578 هـ 1 - لقد غالت القبورية في هذا الرجل مغالاتهم في كثير من الناس، فجعلوه إلها كما جعلوا قبره وثنا يعبدونها من دون الله؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 بل جعلوه ربا لهذا الكون متصرفا فيه كيف يشاء؛ يعطي ويمنع * يرى ويسمع * ويعلم المغيبات* ويفرج الكربات*. 2 - قالوا فيه: " الغوث الأكبر "، و" القطب الأشهر "، و" غوث الثقلين ". 3 - بل قالوا فيه: إنه تجاوز مرتبة القطب والغوث. 4 - قعد مرة على الشط، وقال أشتهي سمكة مشوية، فلم يتم كلامه حتى امتلأ الشط سمكا، وسألته بحق الله أن يأكلها؛ إلى آخر القصة العجيبة التي فيها تصرف في الكون وتسخير لحيوانات البحر. 5 - وقالوا فيه: إنه كان قطب الأقطاب في الأرض ثم انتقل إلى قطبية السماوات ثم صارت السماوات السبع في رجله كالخلخال. 6 - وقالوا فيه: كان يفقر ويغني، ويسعد ويشقي، ويميت ويحيي، والسماوات السبع في رجله كالخلخال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 7 - قالوا: إن الرفاعي قد اشترى بستانا من شخص بقصر في الجنة، وكتب له في ذلك صكا بحدوده الأربعة، من جانبه جنة عدن، وبجانبه الآخر جنة المأوى، وبجانبه الثالث جنة الخلد وبالجانب الرابع جنة الفردوس، مع جميع حوره، وولدانه، وفرشه، وأسرته، وأنهاره، وأشجاره؛ ثمنا لذلك البستان. 8 - قالوا: قيل له: (ما صفة الرجل المتمكن؟ فقال: أن يعطي التصريف العام في جميع الخلائق، وعلامته: أن يقول لبقايا هذه الأسماك (المشوية) : قومي، فاسعي! فتقوم فتسعى؛ ثم أشار إليها فكان كما ذكر) . 9 - قالوا: (رجل قد نزل عليه، فقال له: مرحبا بوتد المشرق، فقال له: إن لي عشرين يوما لم آكل ولم أشرب؛ وأريد أن آمر هذا الإوز الذي في السماء فتنزل واحدة مشوية، ففعل فنزلت كذلك؛ ثم أخذ حجرين من جانبه فصارا رغيفين، ثم مد يده إلى الهواء فأخذ كوز ماء؛ فأكل وشرب؛ ثم طار؛ فقال الشيخ لتلك العظام: " اذهبي باسم الله "؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 فذهبت وطارت) . 10 - قالوا: إن الصوفية أكلوا الطعام ثم غنوا ورقصوا بعد العشاء فداسوا طفلا بأرجلهم طول الليلة وهم يرقصون حتى ترضرض وبقي وجهه كالرغيف لا يعرف من ظهره؛ فأخبر به الرفاعي فنادى الطفل وقال " يا فلان اقعد، فرفع الطفل رأسه فقام كأن لم يكن به ألم، هكذا أحيى الطفل المقتول. 11 - قالوا: (وكان إذا تجلى الحق تعالى عليه بالتعظيم يذوب حتى يكون بقعة ماء، ثم يتداركه اللطف فيصير يجمد شيئا فشيئا حتى يرد إلى حجمه المعتاد ويقول: لولا لطف الله بي ما رجعت إليكم) . هكذا كان ينقلب ماء ثم يتحول إنسانا!؟! 12 - قالوا: لقد أوصل رجلا من العراق إلى جزيرة في البحر المحيط في لحظة ثم أرجعه في لحظة، وذلك بمناسبة قصة أشد خرافة من هذه. 13 - كان يقول للزائر بصوت جهوري من القبر: الحاجة قضيت. 14 - قالوا: إن الرفاعي كان يقول: إذا أراد الله عز وجل أن يرقى العبد إلى مقامات الرجال كلفه أولا بأمر نفسه، ثم بأهله، ثم بجيرانه، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 بأهل محلته، ثم بأهل بلده، ثم كلفه بالبلاد ثم كلفه بما بين السماء والأرض من الخلائق، (ثم لا يزال يرتفع من سماء إلى سماء حتى يصل إلى محل الغوث، ثم ترتفع صفته إلى أن تصير صفة من صفات الحق تعالى؛ وأطلعه على غيبه؛ حتى لا تنبت شجرة ولا تخضر ورقة إلا بنظره؛ وهناك يتكلم عن الله بكلام لا يسعه عقول الخلائق؛ لأنه بحر عميق غرق في ساحله خلق كثير ... ) 15 - قالوا: إنه كان يقول: (إن العبد إذا تمكن من الأحوال- بلغ محل القرب مع الله تعالى، وصارت همته خارقة للسبع السماوات وصارت الأرضون كالخلخال برجله، وصار صفة من صفات الحق جل وعلا لا يعجزه شيء .... ) ، إلى آخر تلك الكفريات التي في آخرها: أنه يصل إلى حد يقول للشيء كن فيكون. 16 - قالوا: فيه: إن الرفاعي مر على جهنم فأراد أن يطفئها ببزاقه، فحالت الملائكة بينه وبينها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 17 - قالوا: كان الرفاعي ينقل الأمراض كالجرب عن مريض إلى آخر، ومن إنسان إلى خنزير، كما أنه كان يرد البصر إلى العميان. 18 - قلت: هذا عجيب؛ لأن الرفاعي كان أعور؛ فلم يستطع أن يهب نفسه عينا سليمة؛ فكيف يهب لغيره؟؛ ولذلك يسبه أعداؤه ويطعنون فيه بقولهم: يا أعور، يا دجال، يا من يستحل المحرمات، يا من يبدل القرآن، يا ملحد يا كلب ابن كلب، يا مبتدع، يا من جمع بين الرجال والنساء. 19 - إن الرفاعي كان يقول: الولي المتمكن يحيي الموتى، ثم قالوا: إنه أحيا الدجاجة، ومرة أحيا شاة مذبوحة، ومرة أحيا ثورا افترسته السباع، ومرة أحيا أكثر من مئة طير فطارت. 20 - قالوا: إن الرفاعي قد أمر كل من كانت له حاجة: إن يولي وجهه شطر قبر الرفاعي من أي مكان في العالم، ويخطو ثلاث خطوات، ويقسم على الرفاعي أن يقضي له حاجته. 21 - من أعظم كراماته وتصرفاته الكونية ما قالوا فيه من: أن الرفاعي كان يصلي الصبح في مكة، والظهر في المدينة، والعصر في بيت المقدس، والمغرب في بعلبك، والعشاء في جبل قاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 تنبيه: على خرافة لم تحدث للأولين ولا للآخرين غير الرفاعي. لقد ذكرت القبورية ولا سيما الديوبندية خصوصا الشيخ زكريا إمام جماعة التبليغ (1402هـ) : وهي أن الرفاعي (لما حج وقف تجاه الحجرة الشريفة النبوية، وأنشد: في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني فهي نائبتي وهذه نوبة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك قد تحظى بها شفتي فخرجت اليد الشريفة من القبر حتى قبّلها والناس ينظرون) . وزاد شيخ التبليغية الديوبندية قوله: إن الذين زاروا يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تسعين ألفا تقريبا، ومنهم حضرة المحبوب السبحاني القطب الرباني الشيخ الجيلاني، وذلك سنة (555هـ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 قلت: كم من خلائق لا يعدهم العاد ولا يحصيهم إلا رب العباد قد أضلتهم القبورية بهذه الخرافة، ولا سيما شيخ الإسلام زكريا إمام التبليغية؛ فإنه قد سجل هذه الخرافة في كتاب هو منهج لجماعة التبليغ؛ بل هو من أعظم مصاحف أهل البدع. أقول: عند الديوبندية أمور أعظم من هذه الخرافة؛ فإن خروج اليد من القبر أهون بكثير من إتيان الموتى إلى الأحياء لقطع المنازعات، وفصل الأقضية، بأجسادهم العنصرية يقظة لا مناما. وهذه الخرافات القبورية والوثنيات الصوفية من تصرف الأرواح في الكون وتجسدها وإتيانها بالأجساد العنصرية أحياء يقظة لا مناما، مما تكتظ به كتب الديوبندية والتبليغية. وللعلامة محمود شكري الآلوسي كلام مهم في إبطال هذه الأسطورة الرفاعية الديوبندية التبليغية، وإبطال خروج اليد الشريفة من القبر الشريف للرفاعي، ورؤية الجيلاني إياها، وتحقيق أنها أكذوبة قبورية وثنية. وكلامه هذا مما يقطع دابر القبورية عامة والديوبندية خاصة ولا سيما التبليغية منهم. ******* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 الثالث البدوي 675 هـ لقد قرأت كثيرا من خرافات القبورية الوثنية* واطلعت على عجائب وغرائب من كفرياتهم في كتبهم الصوفية؛ فلم أجد أحدا غالت القبورية فيه كما غالت في هذا البدوي. فأيها القارئ الكريم! إنك لو اطلعت على كفرياتهم ووثنياتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 وغلوهم وزندقتهم وإلحادهم حول هذا البدوي، وجعلهم إياه إلها معبودا مطلقا، بل ربّا لهذا الكون كله علوه وسفله بره وبحره شرقه وغربه جنوبه وشماله سهله وحزنه ظاهره وباطنه، ومتصرفا فيه بما يشاء- نسيت غلوهم وكفرهم حول الجيلاني، والرفاعي وغيرهما؛ ممن جعلوهم آلهة وجعلوا قبورهم أوثانا يعبدونها من دون الله. كما أنني لم أر نظيرا لاحتفال هؤلاء الزنادقة الملاحدة الوثنية بمولد البدوي من حيث ارتكابهم أنواعا من الكفر والشرك والفسق والفجور. ومع ذلك كله تقول القبورية الكذبة: إن الشرك غير موجود* والكفر في هذه الأمة غير معهود*؟!؟ وأود أن أكتفي ببعض ما سجله الشعراني ذلكم الملحد الزنديق الوثني (973هـ) حول البدوي وتصرفه في الكون؛ مع ما سجله من قصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 فضاضة بكارة زوجته بدون حياء من العباد ولا من رب العباد؛ لأن هذا الوثني يعد من أعظم الأولياء في الأمة عند القبورية، حتى الديوبندية، ولتكون في ذلك عبرة للمعتبرين ونكال للقبوريين الوثنيين: قال الشعراني الوثني جهارا دون إسرار ولا حياء: (وسبب حضوري مولده كل سنة: 1 - أن شيخي العارف بالله تعالى محمد الشناوي رضي الله عنه أحد أركان بيته رحمه الله قد أخذ علي العهد في القبة تجاه وجه سيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه وسلمني إليه بيده فخرجت اليد الشريفة من الضريح وقبضت على يدي. 2 - وقال [الشناوي: يا] سيدي [البدوي] ! يكون خاطرك عليه [أي الشعراني] ؛ واجعله تحت نظرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 3 - [قال الشعراني] فسمعت سيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه من القبر يقول: نعم. 4 - ثم إني رأيته [أي البدوي] بمصر مرة أخرى ... 5 - ثم رأيته بعد ذلك، وقد أوقفني على جسر قحافة تجاه طندتا [طنطا] ، فوجدته سورا محيطا. 6 - وقال [لي] : قف هنا أدخل علي من شئت وامنع من شئت. 7 - ولما دخلت بزوجتي فاطمة أم عبد الرحمن، وهي بكر، مكثت خمسة شهور لم أقرب منها [لعل البدوي سلبه قوة الجماع؟!؟] . 8 - فجاءني [البدوي] وأخذني وهي معي. 9 - وفرش لي فرشا [غرفة النوم للعروسين] فوق ركن القبة [المبنية على قبر البدوي] على يسار الداخل. 10 - وطبخ لي حلوى [ليكون وليمة] . 11 - ودعا الأحياء، والأموات [من الأولياء] إليه [ليأكلوا من هذه الوليمة] . 12 - وقال [البدوي لي] : أزل بكارتها هناك [أي فوق قبة قبره] . 13 - [قال الشعراني بدون حياء] : فكان الأمر [أي إزالة بكارتها] تلك الليلة [فوق قبة قبر البدوي] . 14 - [قال الشعراني] : وتخلفت عن ميعاد حضوري للمولد [للبدوي] ، سنة ثمان وأربعين وتسع مئة. وكان هناك بعض الأولياء؛ فأخبرني: أن سيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه [ولعن أولياء الشيطان] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 كان ذلك اليوم [يوم مولده] يكشف الستر عن الضريح. 15 - ويقول- أبطأ عبد الوهاب [الشعراني الوثني عابد البدوي] ما جاء. 16 - [قال الشعراني] : وأردت التخلف [عن مولد البدوي] ، فرأيت سيدي أحمد [البدوي] ومعه جريدة خضراء. 17 - وهو يدعو الناس [إلى الاحتفال بمولده والحضور إليه جبرا وقهرا وقسرا] . 18 - من سائر الأقطار، والناس خلفه ويمينه وشماله: أمم لا يحصون [أفواجا كلهم يساقون قسرا وقهرا إلى مولده] . 19 - فمر [البدوي] علي وأنا بمصر؛ فقال: أما تذهب [إلى مولدي] ؟!؟، فقلت: بي وجع. فقال: الوجع لا يمنع المحب [عن حضور مولدي] . 20 - ثم أراني خلقا كثيرا من الأولياء وغيرهم الأحياء والأموات من الشيوخ [كلهم كانوا يساقون إلى مولده جبرا وقسرا وقهرا] . 21 - وألزمني [أي ربطني البدوي] بأكفانهم يمشون ويزحفون معه؛ يحضرون المولد. 22 - ثم أراني جماعة من الأسرى جاءوا من بلاد الأفرنج، مقيدين، مغلولين، يزحفون على مقاعدهم، [للحضور لمولد البدوي] ؛ فقال [لي البدوي] : انظر إلى هؤلاء في هذا الحال! ولا يتخلفون [عن مولدي] .فقوي عزمي على الحضور [لمولد البدوي] ؛ فقلت له: إن شاء الله تعالى سنحضر. 23 - فقال: لا بد من الترسيم [أي الرقابة والحجر والحرس] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 عليك!!! 24 - فرسم [أي وكل] علي سبعين عظيمين أسودين كالأفيال. 25 - وقال [البدوي لهما] : لا تفارقاه حتى تحضرا به ... 26 - [قال الشعراني عن شخص إنه] تخلف سنة عن الحضور [للمولد] ، فعاتبه سيد أحمد [البدوي] رضي الله عنه، وقال [في إجلال مولده] : موضع يحضر فيه رسول الله والأنبياء عليهم الصلاة والسلام معه، وأصحابهم والأولياء رضي الله عنهم! ما تحضره!؟! ... 27 - [قال هذا الوثني الشعراني] : وقد اجتمعت مرة ... ؛ بولي من أولياء الهند بمصر المحروسة ... ، فقلت له: من أي البلاد [أنت] ؟؛ فقال: من الهند! فقلت: ما حاجتك في مصر؟ فقال: حضرنا مولد سيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه. فقلت له: متى خرجت من الهند؟ 28 - فقال: خرجنا يوم الثلاثاء، فنمنا ليلة الأربعاء عند سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم [بالمدينة] ، [وبتنا] ليلة الخميس عند الشيخ عبد القادر [الجيلاني] ببغداد، [وبتنا] ليلة الجمعة عند سيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه بطندتا [طنطا بمصر] . [قال الشعراني] : فتعجبنا من ذلك!. 29 - فقال: [ذلكم الولي الهندي الكذاب] : الدنيا كلها خطوة عند أولياء الله عز وجل. 30 - [قال الشعراني الوثني] : واجتمعنا به [أي بذلك الولي الهندي] يوم السبت انفضاض المولد طلعة الشمس [أي بعد انتهاء الاحتفال بمولد البدوي بعد طلوع الشمس] ؛ فقلنا لهم [أي لهذا الولي الهندي ورفقته] : من عرفكم بسيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه في بلاد الهند!؟!. 31 - فقالوا: يا لله العجب! أطفالنا الصغار لا يحلفون إلا ببركة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 سيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه، [فلا يحلفون بالله ليكونوا أشنع شركا من الوثنية الأولى] . 32 - وهو من أعظم أيمانهم. [لأنه من أعظم إشراكهم بالله!] . 33 - وهل أحد يجهل سيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه؟! 34 - إن أولياء ما وراء البحر المحيط، وسائر البلاد والجبال يحضرون مولده رضي الله عنه [انتهى كلام الولي الهندي الكذاب] . 35 - [ذكر الشعراني] : أن شخصا أنكر حضور مولده [أي البدوي] ؛ [لأجل ما في مولد البدوي من الشرك والكفر والفسق والفجور] ؛ فسلب الإيمان فلم يكن فيه شعرة تحن إلى دين الإسلام؛ [أي جعله البدوي كافرا مسلوب الإيمان لأجل إنكاره على مولده] . 36 - فاستغاث بسيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه، [فأشرك بالله تعالى بجعل البدوي إلها ليعود إلى إسلام البدوية الشعرانية الوثنية القبورية] . 37 - فقال له البدوي: أقبل توبتك وأدخلك في إسلامنا [بشرط أن لا تعود إلى الإنكار على ما يرتكب من الفسق والكفر في مولدي] . 38 - فقال: [ذلك المنكر على المولد] : نعم. 39 - فرد [البدوي] عليه ثوب إيمانه. 40 - ثم قال [البدوي] له: وماذا تنكر علينا [في مولدنا] !؟! قال: [أنكر] اختلاط الرجال والنساء [وما يرتكبونه من الفسق والفجور في مولدكم] !!! . 41 - فقال له سيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه: ذلك واقع في الطواف [بالكعبة] ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 ولم يمنع أحد منه!!! [فلم تنكر على مولدنا لأجل ما فيه من الفسق والفجور؟!؟] . 42 - ثم قال [له البدوي] وعزة ربي ما عصى أحد في مولدي [سواء كان كفرا أو شركا أو زنا أو غيرها من الفسق والفجور] إلا تاب وحسنت توبته. 43 - [قال الشعراني: قال البدوي] : وإذا كنت أرعى الوحوش، والسمك في البحار، 44 - وأحميهم من بعضهم بعضا! 45- أفيعجزني الله عز وجل عن حماية من يحضر مولدي؟!؟ 46 - [ذكر الشعراني أن] أحد العلماء بالمحلة الكبرى وأحد الصالحين بها، كان بمصر فجاء إلى بولاق فوجد الناس مهتمين بأمر المولد، والنزول في المراكب، فأنكر ذلك وقال: هيهات أن يكون اهتمام هؤلاء بزيارة نبيهم صلى الله عليه وسلم مثل اهتمامهم بأحمد البدوي ... ؛ 47 - [قال الشعراني] : فعزم عليه شخص فأطعمه سمكا؛ فدخلت حلقة شوكة تصلبت فلم يقدروا على نزولها بدهن عطاس ولا بحيلة من الحيل، وورمت رقبته حتى صارت كخلاية النحل تسعة شهور؛ وهو لا يلتذ بطعام ولا شراب ولا منام. 48 - وأنساه الله تعالى السبب [أي سبب دخول شوكة السمكة في حلقومه لأجل أنه أنكر على مولد البدوي] ، فبعد التسعة شهور ذكره الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 بالسبب؛ 49- فقال- احملوني إلى قبة [قبر] سيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه فأدخلوه [إلى قبة قبر البدوي ليتوب ويخرج البدوي الشوكة من حلقومه] . 50 - فشرع يقرأ سورة يس، فعطس عطسة شديدة، فخرجت الشوكة مغمسة دما؛ 51- فقال: تبت إلى الله تعالى يا سيدي أحمد البدوي [من الإنكار على مولدك] . 52 - وذهب الوجع والورم من ساعته [بكرامة البدوي] . 53 - [لما تاب عن الإنكار على مولد البدوي وأشرك بالله تعالى واستغاث بالبدوي وحمل إلى عبادة هذا الوثن] . 54 - [قال الشعراني] : وأنكر ابن الشيخ خليفة بناحية إبيار بالغربية حضور أهل بلده إلى المولد؛ فوعظه شيخنا الشيخ محمد الشناوي [أن لا تنكر على مولد البدوي] ، فلم يرجع [عن الإنكار على مولد البدوي] . 55 - فاشتكاه [الشناوي] لسيدي أحمد [البدوي الميت من زمان] فقال [البدوي للشناوي: لا تحزن] ؛ 56- ستلطع له [أي في هذا الرجل الذي ينكر على مولدي] حبة [دمل] ترعى فمه ولسانه. 57 - فطلعت [الحبة أي الدمل في فمه] من يومه ذلك؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 58 - وأتلفت وجهه ومات بها [لأجل أنه أنكر على مولد البدوي] . 59 - [قال الشعراني] : ووقع ابن اللبان في حق سيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه؛ 60- فسلب [البدوي منه] القرآن والعلم والإيمان [فصار جاهلا كافرا] ؛ 61- فلم يزل يستغيث بالأولياء [ويشرك بالله عز وجل] ؛ 62- فلم يقدر أحد [من هؤلاء الأولياء] أن يدخل في أمره [ويشفع له عند البدوي خوفا منه وهيبة] ؛ 63- فدلوه على سيدي ياقوت العرشي. 64 - فمضى [العرشي في شفاعته] إلى سيدي أحمد [البدوي] رضي الله عنه، 65- وكلمة في القبر [الذي كالقصر] ، وأجابه [البدوي] ؛ 66- وقال [العرشي] له [أي البدوي] : أنت أبو الفتيان! رد على هذا المسكين [ابن اللبان] رأسماله؛ 67- فقال [البدوي: أرد عليه رأس ماله: القرآن والعلم والإيمان، ولكن] بشرط التوبة [من الإنكار عليّ] ؛ 68- فتاب [ابن اللبان من الوقوع في البدوي] ؛ 69- ورد [البدوي] عليه رأسماله [الذي سلبه منه البدوي، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 القرآن والعلم والإيمان] ... 70 - [قال الشعراني عن خرافي آخر: إن البدوي] بحر لا يدرك له قراره، 71- وأخباره ومجيئه بالأسرى من بلاد الإفرنج، 72- وإغاثة الناس من قطاع الطريق، وحيلولته بينهم وبين من استنجد به - لا تحويه الدفاتر رضي الله عنه. [عامله الله بما يستحقه] . 73 - [قال الشعراني الوثني] : وقد شاهدت أنا بعيني سنة خمس وأربعين وتسع مئة أسيرا على منارة سيدي عبد العال رضي الله عنه، مقيدا مغلولا، وهو مخبط العقل؛ 74- فسألته عن ذلك فقال [ذلك الأسير القبوري الوثني] : بينا أنا في بلاد الإفرنج آخر الليل توجهت إلى سيدي أحمد [البدوي] [لأن الاستغاثة بالله تضرني!؟!] . 75 - فإذا أنا به [أي جاءني البدوي فورا] فأخذني [ورفعني من السجن] ، 76- وطار بي في الهواء، 77- فوضعني هنا [أي أوصلني من بلاد الأفرنج إلى طنطا] ؛ 78-[قال الشعراني] : فمكث [ذلك الأسير] يومين ورأسه دائر عليه من شدة الخطفة [التي خطفها البدوي لهذا الأسير] ، رضي الله عنه [إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 كان يستحق ذلك وإلا لعنة الله تخطفه وأمثاله] ... ) . قلت: انظر أيها المسلم إلى هذه الوثنيات التي ذكرها هذا الوثني العشراني إضلالا مزيدا لإخوانه الوثنية القبورية!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 الرابع الشاه نقشبند البخاري 791 هـ مؤسس الطريقة النقشبندية فروعها المجددية، والديوبندية، والتبليغية، والفنجفيرية، ونحوها. 1 - لقد غالت القبورية في هذا الرجل إلى حد جعلوه إلها كما جعلوا قبره وثنا يعبدونهما من دون الله سبحانه، بل جعلوه ربّا لهذا الكون متصرفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 فيه حيث شاء؛ يعطي ويمنع* ويضر وينفع* ويرى ويسمع *ويعلم ويشفع* ويقلب ويدفع * ونحو ذلك. 2 - أقل ما قالوا فيه: إنه " الغوث الأعظم " و" غوث الخليقة " و " قطب الحقيقة " و"غوث الورى السبحاني ". 3 - كان يحيي ويميت. 4 - ولو شاء لجعل الجبل ذهبا. 5 - لو حرك كمه لجعل جميع أهل بخارى كبيرهم وصغيرهم والهين هائمين، ويتركون البيوت والدكاكين. 6 - وقال الشيخ أحمد السرهندي إمام الطريقة النقشبندية المجددية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 (1034هـ) في بيان منزلة الشيخ نقشبند، بل في بيان منزلته نفسه أيضا: (كثيرا ما يعرج بي فوق العرش المجيد، ولقد عرج بي مرة، فارتفعت فوقه بقدر ما بين مركز الأرض وبينه رأيت شاه نقشبند رضي الله عنه) . 7 - لقد رأيت عجائب من الكرامات وغرائب من المكاشفات والاطلاع على المغيبات التي سجلتها النقشبندية حول إمامهم نقشبند. 8 - ذكر النقشبندية في مناقب إمامهم نقشبند أنه قال: (إن التعلق بالسوى حجاب عظيم للسالك) ، ثم أنشد يقول: إن التعلق بالسوى أقوى حجاب ... والتخلص منه فاتحة الوصول فقال بعض مريديه: لقد خطر ببالي ساعتئذ: أن التعلق بالإيمان والإسلام أيضا كذلك؟!؟ فالتفت الشيخ نقشبند بالحال إليّ وتبسم، ثم قال: (أما سمعت قول الحلاج قدس الله سره وروحه: [هل روح الملحد الكافر مقدسة!؟!] : كفرت بدين الله والكفر واجب ... لدي وعند المسلمين قبيح 9 - قلت: لو ثبت هذا على نقشبند وصح عنه، فلا أشك في أنه من كبار الملاحدة الزنادقة الكفرة بدين الله عز وجل، ومن أتباع الحلاج إمام الملاحدة الزنادقة الحلولية الاتحادية، فضلا عن أن يكون وليا من أولياء الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 سبحانه. هذه كانت نبذة عن منزلة نقشبند: إمام النقشبندية، المجددية، الديوبندية، التبليغية، الصفدرية، الفنجفيرية، وغيرهم من أكثر الحنفية. ألا يستحي الفنجفيرية والديوبندية أن ينتسبوا إلى نقشبند؟!؟ مع دعواهم للتوحيد والسنة!. وبعد ما عرفنا غلو القبورية في هؤلاء الأعلام الأربعة خاصة- ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف غلو القبورية في الأولياء عامة؛ * فأقول وبالله أستغيث وأستعين*؛ * إذ هو المستغاث المستعان المغيث المعين*: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 الفصل الثالث في غلو القبورية في الأولياء عامة وفيه مباحث ثلاثة: - الأولى: في بيان أمثلة متفرقة لغلو القبورية في الصالحين عامة. - الثاني: في التنبيه على أمر مهم. - الثالث: في التنبيه على أمر أهم من الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 المبحث الأول في بيان أمثلة متفرقة لغلو القبورية في الصالحين عامة لقد غالت القبورية في الصالحين عامة فاعتقدوا فيهم الألوهية، وعبدوهم من دون الله، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد. بل جعلوهم أربابا لهذا الكون متصرفين فيه كيف يشاؤون. واعتقدوا فيهم أنهم يعلمون المغيبات؛ حتى الأمور الخمسة. وفيما يلي بعض أقوال القبورية التي تشهد لما ذكرت: 1 - هذه الأمور الخمسة يعلمها الأقطاب، فكيف بالغوث. 2 - الأولياء الذين يكون نظرهم في اللوح المحفوظ يعلمون هذه الأمور الخمسة. 3 - اللوح المحفوظ صدر العارف، متى توجه لشيء وجده أمامه. 4 - عند بعض الأولياء قدرة إن شاء ليسقط السماء على الأرض ويهلك من في الأرض ليفعلن ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 5 - من شروط كمال الولاية أن لا يستقر نطفة في فرج أنثى إلا ينظر إليها ذلك الرجل. 6 - لا تجلس العصافير على قبر الولي إلا وهو يعرف الذكر منها والأنثى. 7 - الأولياء يرون اللوح المحفوظ. 8 - إن الأولياء هم أطفال الله تعالى، فهم يعلمون الغيب والشهادة. 9 - إن الأولياء تنكشف لهم العلوم الغيبية مما كان وما يكون وجميع علوم اللوح المحفوظ، وهم أحياء في قبورهم حياة أبدية وعلمهم وإدراكهم أقوى، وسمعهم وبصرهم أقوى مما كان في حياتهم في الدنيا. 10 - إن أئمة الفقهاء والصوفية كلهم يشفعون في مقلديهم ويلاحظون أحدهم عند طلوع روحه، وعند سؤال منكر ونكير له وعند الحشر والنشر والحساب والميزان والصراط، ولا يغفلون عنهم في موقف من المواقف. وجميع الأئمة يشفعون في أتباعهم ويلاحظونهم في شدائدهم في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة حتى يجاوز الصراط. 11 -18- قالوا: إن من تصرفات الأولياء إحياء الموتى، من الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 والطيور، وكلام الموتى، وانفلاق البحر وجفافه، والمشي على الماء، وانقلاب الأعيان كانقلاب الخمر عسلا أو سمنا، وانزواء الأرض؛ بحيث يصل أحدهم من بلد إلى آخر في لحظة، وكلام الحيوانات والنباتات والجمادات، وإبراء العلل والعاهات، وطاعة الأسد والوحوش كركوب الأسد، وطي الزمان ونشره، والإخبار بالمغيبات، والبلوغ إلى درجة مقام التصريف في الكون، ورؤيته الأماكن البعيدة من وراء الحجب، والتطور والتشكل بأشكال مختلفة في صور متعددة، ورؤيته الكعبة والطائفين بها من مكان بعيد كمصر وغيرها، بل طواف الكعبة بالأولياء، وخروج الكعبة لاستقبال الأولياء، ووضع الحصير في الهواء والصلاة عليه، وسماع صوت الهواتف [الهاتف الغيبي] ، وغيرها، وهذه كلها كرامات للأولياء. 19 - خروج الأولياء من القبور للمهمات من أعظم عقائد القبورية. 20 - وحصول الأبدان المتعددة لولي واحد في أمكنة متباعدة. 21 - بل قالوا: إن الولي إذا صلى المغرب ثم خطا خطوة إلى بلد آخر لم تغرب فيه الشمس لم تلزمه إعادة صلاة المغرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 22 - وقال الكوثري (1371هـ) أحد أئمة القبورية والجهمية في آن واحد، ومجدد الماتريدية: (إن الأرواح البشرية الخالية عن العلائق الجسمانية المشتاقة إلى الاتصال بالعالم العلوي بعد خروجها في ظلمة الأجساد تذهب إلى عالم الملائكة، ومنازل القدس، ويظهر منها آثار في أحوال هذا العالم؛ فهي المدبرات أمرا) . 23 - وقال التفتازاني فيلسوف الماتريدية (792هـ) ثم الكوثري واللفظ للأول: (ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع الملمات فإن للنفس بعد المفارقة تعلقا بالبدن وبالتربة التي دفن فيها؛ فإذا زار الحي تلك التربة وتوجهت نفسه تلقاء نفس الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات) . 24 - قلت: هذه الوثنية التفتازانية الكوثرية بعينها وثنية الفارابي (339هـ) وابن سينا الحنفي القرمطي (428هـ) . 25 - وقال الجرجاني الحنفي الصوفي الاتحادي (818هـ) ثم الكوثري (1371هـ) واللفظ للأول: (ولذلك كانت زيارة مراقدهم معدة لفيضان أنوار كثيرة منهم على الزائرين) . 26 - وقال الكوثري الوثني الجهمي (1371هـ) : (إن النفس في الإفاضة والاستفاضة لم تكن مفتقرة إلى الآلة، فهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 أقوى بعد المفارقة عن البدن؛ فلا بد من الاستمداد بأرواح الأجلة؛ إذ هم المالكون لأزمة الأمور في نيل المراد. والحاصل أن التصرف للأولياء كما هو ثابت في الحياة كذلك ثابت بعد الممات، بل هو أقوى، إذ هو أمر روحاني لا يعتريه الفوات) . 27 - قلت: هكذا يعتقد هؤلاء الوثنية أن تصرف الولي بعد الموت أقوى مما كان في حياته. 28 - بل صرحوا بأن الميت أسرع قضاء للحاجة. 29 - وأن الولي بعد الموت أقوى تصرفا وسمعا لأصوات العالم ونصرا لهم. 30 - وقالوا: إن الولي في الدنيا كالسيف في الغمد، فإذا مات تجرد، فيكون أقوى في التصرف. 31 - ومن وثنيات هؤلاء الوثنية: أن السماوات لا تقوم بغير الغوث. 32 - ومن كفريات القبورية قولهم: إن العارف يملك التصرف من العرش إلى الفرش. قلت: فما بالك بالقطب والغوث؟!؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 33 - ومن أوضح وثنيات القبورية ما قاله أحمد بن محمد الحموي الحنفي القبوري الوثني (1098هـ) إن تصرف الأولياء قد وصل إلى حد كانوا يبيعون المطر، وهذا مقام التصريف. قلت: تعالى الله عما يشركون؟.؟ 34 - ومن خرافاتهم زعمهم: أن الأولياء في اليقظة يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى حالهم إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، وأنهم يشاهدون ملكوت السماوات والأرض، وينظرون الأنبياء أحياءً غير أموات. 35 - ومن أعظم كفرياتهم الفاضحة ووثنياتهم الواضحة ما قالوا: (إن من كرامات الولي أن يقول للشيء كن فيكون) . 36 - ومن أكبر وثنيات القبورية في بيان سعة علم الغيب للأولياء، وسعة قدرتهم وتصرفهم في الكون، وسرعة وصولهم إلى جميع الأمكنة لإغاثة المستغيثين بهم، وسماعهم لجميع الأصوات من قريب ومن بعيد، ولا سيما أصوات المستغيثين بهم، وسرعة قضاء حوائجهم، ما قالوه: إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 جميع العالم في يد الأولياء أصحاب الأرواح القدسية، وأصحاب القوى والقدرة القدسية، كالكف أمام كل إنسان، فهم مع كون أحدهم في مكان واحد، ينظرون إلى الكون نظر أحدنا إلى الكف، فهم حاضرون وناظرون في كل مكان من الكون، وإذا ناداهم أحد واستغاث بهم من أية بقعة كانت قريبة أم بعيدة، فهم يسمعون جميع تلك الأصوات، ويغيثون جميع هؤلاء المستغيثين بهم، ويقضون حوائجهم، وهم يصلون إليهم لقضاء حوائجهم بأسرع سير، سواء كانوا يذهبون إليهم بأجسامهم المثالية، أم بأجسامهم العنصرية التي دفنت في قبورهم، أم يذهبون إليهم بروحانيتهم. وهذه القدرة والتصرف والسماع والعلم والحضور في كل مكان ونظرهم إلى جميع الكون، كل ذلك ثابت لجميع الأولياء. إلى غير ذلك من كفرياتهم ووثنياتهم التي سئمت من سرد بعضها وفيه كفاية. وبعد هذا كله ننتقل إلى أمرين مهمين، والثاني أهم من الأول؛ لتعلقهما بخرافات من القبورية في غلوهم في الصالحين بل الطالحين، فأقول والله المعين المغيث المستعان * فبه أستعين وأستغيث وعليه التكلان*: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 المبحث الثاني في التنبيه على أمر مهم لقد رأيت في كلام صبغة الله المجددي - أحد قادة الأفغان- كلاما يعج بكفر سافر وشرك ماكر يفوق شرك مشركي العرب، أذكره ههنا للعبرة، ولما فيه من شرك واضح في ربوبية الله سبحانه فضلا عن الألوهية: قال: إن الأولياء الكرام والصوفية العظام يعتقدون: أن جميع أمور الحل والعقد في هذا العالم تصدر أولا من الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة، ثم تطبيق هذه الأمور كلها يكون من قبل الأولياء الكرام. وقد جاء في بعض كتب التصوف: أن كل سنة ينعقد مؤتمر من قبل الأولياء الكرام المتصرفين في الأرض باسم " ديوان الصالحين "، والغالب أنه يحضره روح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون أعضاء هذا الديوان غوث الوقت وقطب الوقت وأفراد الأولياء. وإذا حضر روح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الديوان يكون غوث الوقت منشئا لذلك الديوان ونائبا عنه، وإذا لم يحضر روح رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون غوث الوقت رئيس مجلس الديوان، وقطب الوقت يكون منشئا للديوان ونائبا عن الغوث، ووظيفة هذا الديوان هي تنفيذ الأوامر الصادرة من الله عز وجل وتطبيقها بالقدرة التي منحهم الله تعالى إياها. وقد نقل عن الصوفية الكرام: أن لكل بلد من البلدان الموجودة على وجه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 الأرض مدبرا، ومتصرفا يتصرف فيه من هؤلاء الأولياء، وطريقة التصرف: أن الله تعالى يصدر الأوامر إلى هذا الولي ويكون هذا الولي موظفا لتطبيق تلك الأوامر وتنفيذها، فوضع البلاد من الاضطراب والسكون مرتبط بطبيعة ذلك الولي المدير لتلك البلاد، وحسب مزاج ذلك الولي المتصرف فيها: فإذا كان الولي المتصرف في بلد صاحب الجلال والنشاط والحركة والشدة؛ تكون في ذلك البلد انقلابات واضطرابات وأخذ ورد، أما إذا كان الولي المتصرف في بلد هينا لينا يكون السكون هو السائد على ذلك البلد كما هو المشاهد. فالمتصرفون في البلاد نوعان؛ نوع من حيث الشدة في المزاج، ونوع من حيث اللين في المزاج. والآن أضرب مثالين: المثال الأول: هو أن رجلا من محبوبي الله تعالى نزل مدينة بخارى، فرأى أن الأمن والاستقرار سائدان على هذه المدينة، فأراد أن يفتش عن ولي مدبر متصرف في هذه المدينة، فبينما هو كذلك، إذ رأى رجلا في السوق يبيع الكراث، - وكان متصرفا ومدبرا لهذه المدينة-، فسلم هذا الولي الزائر عليه ودفع إليه شيئا من المال ليشتري منه حزمة من الكراث، فهذا البائع للكراث - الذي كان متصرفا في هذه المدينة- عمد إلى أحسن نوع من الكراث وأعطاه حزمة جيدة. فغضب هذا الولي المشتري وقال للولي البائع المدبر لهذه المدينة: إن كل ما عندك من الكراث فاسد غير صالح. فقال الولي البائع للولي المشتري: لا تغضب ولا تحزن أعطيك حزمة أخرى؛ فلما سمع الولي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 المشتري كلام البائع المتصرف في هذه المدينة عرف أنه هو المدبر القائم على تدبير هذه المدينة، وقبل يديه، وقال له: إن هذا الأمن والاستقرار السائدين في هذه المدينة لأجل أن في مزاجك لينا وسماحة وصبرا وتأنيا وحلما. المثال الثاني: هو أن هذا الولي الزائر المذكور قد زار مدينة بخارى مرة ثانية بعد سنين متطاولة، فرأى فيها الانقلاب والاضطراب والهرج والمرج، فأراد أن يفتش عن الولي المدبر لهذه المدينة المتصرف فيها القائم بأمورها، فبعد تفتيش وسعي وتعب رأى رجلا سقاءً حاملا قربة ماء ليسقي الناس- وكان وليا متصرفا في هذه المدينة- فذهب إليه وقال له اسقني ماء. فهذا السقاء الولي المتصرف في هذه المدينة ناوله كأسا، ولكن هذا الولي الزائر قال له: إن ماءك غير صالح، وأريد منك ماءً طاهرا. فغضب هذا السقاء الولي المدبر لهذه المدينة لكونه جلاليا، وقال: هل ظننت بي أنني مثل ذلك الولي بائع الكراث. فعلم هذا الولي الزائر أن هذا السقاء الجلالي هو المدبر لهذه المدينة القائم بأمورها؛ حيث إن ذلك الهرج والمرج والاضطراب مطابق لجلالية هذا الولي. وبعد ذلك كله سلط ناس على مدينة بخارى فحرقوا المدارس والمكتبات وقتلوا العلماء وأبادوا الروحانيين [يعني الصوفية] ، وصاروا مهاجرين مثلكم [يعني أنتم الأفغان] ، فوقع في بال أحد محبوبي الله فقال لم وقعت مدينة بخارى في مثل هذه الكارثة بعد حضارتها وعظمتها؟ ثم رأى في توجهه الروحاني حضرت شاه نقشبند بهاء الدين مصرف البلاد الشمس المشرقة بعالم فخر قطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 بخارى قطب ظاهرة الولاية بهاء الحق والدين، رآه بعيدا بعيدا، فقال: " قيدونا أولا، ثم جاءوا بالروس ثانيا " ... ) . قلت: هذا الذي ذكره صبغة الله المجددي الأفغاني هو دين الصوفية الوثنية الزنادقة الملاحدة، فلهم عجائب من الكفر والمروق في وصف ديوان الأولياء، وما فيه من تصرفات الأغواث والأقطاب في هذا الكون وتدبيرهم له. وأقول: هذا هو دين المجاهد العظيم القائد صبغة الله المجددي الحنفي الصوفي الخرافي الذي انتخب أول رئيس للدولة الإسلامية في أفغانستان!؟!؛ أهذا هو نتيجة ذلكم الجهاد المستطر!؟!؛ أهذا كان هو المرجو والمنتظر!؟!؛ إذا كان رب البيت بالطبل راضيا ... فلا تلم الأولاد فيه على الرقص إذا لم يكن صدر المجالس سيدا ... فلا خير فيمن صدرته المجالس وبعد معرفة الأمر المهم الأول، ننتقل إلى الأمر الثاني الأهم من الأول؛ لنعرف ماذا يعتقد أئمة الفنجفيرية والتبليغية: الديوبنديون * والله المستعان على ما يصفون* ********* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 المبحث الثالث في التنبيه على أمر أهم من الأول لقد كنت أحسن الظن بالديوبندية؛ لما عندهم من العلوم الجمة والعقول والرد على القبورية في كثير من البدع والشركيات. ولكن رأيت عندهم من الشركيات والقبوريات الوثنيات، وتصرف الأرواح، والاستفاضة من القبور والاستمداد من روحانية المشائخ شيئا كثيرا، هو كنموذج من خرافاتهم القبورية التي لم أطلع عليها وهي تدل على ما وراءها مما لا يعلمه إلا الله عز وجل. ولقد توصلت إلى أنه لا فرق بين البريلوية وبين الديوبندية في هذه القبوريات إلا في أمور: الأول: الإفراط في الغلو: فإن البريلوية قد أفرطوا في الغلو في الصالحين؛ فهم غلاة الغلاة، بخلاف الديوبندية فإنهم من الغلاة، ولكنهم دون البريلوية. الثاني: أن البريلوية يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما كان وما يكون بخلاف الديوبندية. الثالث: أن البريلوية يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم نور لا بشر، بخلاف الديوبندية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 الرابع: أن البريلوية صرحاء في القبورية والوثنية، بخلاف الديوبندية؛ فإنهم يتظاهرون بالتوحيد!!! الخامس: أن البريلوية مطردون لأقوالهم في الوثنية؛ فهم غير متناقضين، بخلاف الديوبندية؛ فإنهم تارة يردون على القبورية، ثم تراهم يرتكبون أفكارا قبورية، فهم بالنسبة إلى البريلوية كالماتريدية والأشعرية بالنسبة إلى الجهمية الأولى. السادس: أنه يوجد بين الديوبندية من وفق لمطالعة كتب الأئمة الأعلام: شيخ الإسلام (728هـ) وابن القيم الإمام (751هـ) ومجدد الدعوة الهمام (1206هـ) ، فعرفوا جانبا كبيرا من توحيد الألوهية فتجردوا للرد على القبورية كالفنجفيرية ونحوهم ممن عرفوا بعض جوانب التوحيد، بخلاف البريلوية؛ فهم كلهم قبورية وثنية والله المستعان على ما يصفون. ولذلك ألف أرشد القادري أحد كبار كتاب البريلوية كتابا بعنوان " الزلزلة "؛ ذكر فيه نصوصا كثيرة جدا من كتب الديوبندية المقدسة عندهم لكبار أئمة الديوبندية؛ أمثال: "الأرواح الثلاثة " و" السوانح القاسمية " و" أشرف السوانح " و " الأنفاس القدسية " و" الكرامات الإمدادية " و" تذكرة الرشيد " و" نقش الحياة " و" حياة الولي "، وغيرها من كتبهم المقدسة. وهذه النصوص التي ذكرها ذلك البريلوي في كتابه " الزلزلة " تنادي وتصرخ بالوثنية القبورية. وإنما جمع ذلك البريلوي تلك النصوص في كتب الديوبندية؛ ليبين لأهل الإنصاف أن البريلوية ليسوا متفردين بتلك العقائد القبورية، بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 الديوبندية شركاؤهم وخلطاؤهم في ذلك كله. فلم هذا الطعن في البريلوية فقط؟ ولم هذا التنابز والتنابذ والتقاطع للبريلوية دون الديوبندية؟ هذا هو موضوع كتاب " الزلزلة ". وهذا الكتاب قد زلزل الديوبندية كلهم بدون شك، ولا محيد لهم ولا مفر إلا أن يتوبوا إلى عز وجل؛ أو يقولوا للبريلوية: نحن وأنتم إخوان خلطاء في القبورية. قلت: أصل السر والسبب الوحيد لانخراط الديوبندية في العقائد القبورية هو أنهم صوفية نقشبندية أصحاب بيعة. ولذلك اعترف بهذا السبب أحد كبار كتاب الديوبندية؛ ألا وهو الشيخ " عامر العثماني مدير مجلة التجلي بديوبند " في صدد كلامه على كتاب " الزلزلة " معترفا بجميع ما نسب فيه إلى الديوبندية من الخرافات القبورية، مبينا سبب انخراط مشايخه الديوبندية في القبوريات؛ وقال: إن السبب الوحيد لوقوع مشايخنا الديوبندية في الخرافات القبورية هو أنهم كانوا صوفية مع علومهم الجمة، والشخص مهما كان محتاطا في التصوف، وعلى حذر منه؛ يدخل عليه تصوفه أنواعا من الكشوف والكرامات؛ وأنواعا من الأساطير في التصرفات في الكون. ثم مما زاد الطين بلة: أن هؤلاء المريدين للمشايخ لأجل غلوهم في المشايخ يبالغون في تعظيمهم، فينسجون حولهم ما يضاد الكتاب والسنة والعقائد الإسلامية، ولذا يقول الذين يرون الكتاب والسنة معيارا وميزانا للحق: إن التصوف أفيون وتخدير وسفسطة وعدو للشريعة، وكل ما أورده أرشد القادري من النصوص عن كتب مشايخنا الديوبندية فهو موجود في كتب مشايخنا؛ وإن صاحب الزلزلة لم يرتكب أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 نوع من الخيانة في النقل؛ فهو قد نقل تلك النصوص بغاية الأمانة والدقة. وقد كشف لنا أرشد القادري بكتابه الزلزلة عجائب من الخرافات التي توجد في كتبنا المقدسة؛ بحيث اندهشت من تلك الخرافات وأقول: أستغفر الله ثم أستغفر الله. وأقول: إن جرائد الفسق والفجور لم تضر الإسلام كما ضرت تلك الكتب التي نقدسها ونعظمها. وأقول أيضا: إن ما أورده أرشد القادري في كتابه " الزلزلة " على مشايخنا من الإيرادات والاعتراضات فهي حق وثابتة لا يمكن أن يجيب عنها شخص منطقي كبير، ولا علامة الدهر؛ لأنها حقائق ثابتة موجودة في كتب مشايخنا. وقد ذكر الشيخ عامر العثماني سببا آخر أيضا: وهو أن التقليد الأعمى الذي هو داء عضال قد سرى في عروق الديوبندية؛ فهم يزعمون أن مشايخنا محفوظون عن الخطأ، ويعظمون مشايخهم إلى حد لا يرون الفضل إلا فيهم؛ فكل ما يصدر عنهم فهم يسلمونه كالحقائق المسلمة ... إلى آخر ما ذكره واعترف به الشيخ عامر العثماني أحد كبار كتب الديوبندية. أقول: بعد هذا يحسن أن أذكر بعض الأمثلة من خرافات الديوبندية التي تشهد عليهم بأنهم قبورية لتكون شواهد قواطع لما قلت، ويكون ذلك تصديقا لكتاب " الزلزلة "، وتأكيدا لما اعترف به الشيخ عامر العثماني الديوبندي، وبيانا للحقيقة التي خفيت على كثير من الناس، حتى على كثير من أهل التوحيد من أن الديوبندية أهل التوحيد والسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 وليس ذلك من باب تتبع العورات، بل من باب الجرح والرد على أهل البدع وقلع بدعهم؛ لأن الديوبندية مع تلك الخرافات القبورية المكشوفة السافرة الظاهرة لم يرجعوا إلى التوحيد الصحيح، بل هم مصرون على ما في كتبهم القبورية الخرافية الصوفية؛ فبها يعتنون وبها يدينون وبها يوالون ويعادون، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ فأمرهم الآن كما كان: المثال الأول: أنه قد تقدم أن الديوبندية يعتقدون في الشيخ عبد القادر الجيلاني (561هـ) أنه " الغوث الأعظم " و" غوث الثقلين "، كما قالوا في إمام النقشبندية: إنه " غوث الورى السبحاني "، وهذه جريمة قبورية ووثنية سافرة. ولا تنس أيها القارئ معنى " الغوث " عند الصوفية. المثال الثاني: أنه قد بالغت الديوبندية وأفرطت في نصب العداء لأهل التوحيد الذي يسمونهم " الوهابية "، ولهم في شتمهم وسبهم عجائب يستحي منها من عنده حياء ولا يرتكب مثل هذه الأفعال إلا من لا يخاف الله رب العالمين. وقد تقدم نماذج من ذلك. ولذا أتمثل بقول الشاعر: عجبت لشيخ يأمر الناس بالتقى ... وما راقب الرحمن يوما وما اتقى المثال الثالث: أنه قد ألف الشيخ خليل أحمد السهارنفوري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 (1346هـ) كتابه المعروف " المهند على المفند "، والشيخ حسين أحمد المدني (1377هـ) كتابه المشهور " الشهاب الثاقب "؛ وكلاهما في البراءة من عقائد أهل التوحيد الذين يسمونهم " الوهابية ". وهما من أعظم أكابر الأئمة الديوبندية؛ وهذان الكتابان مكتظان بالخرافات القبورية والخزعبلات الصوفية، وكلاهما من أقدس كتب الديوبندية المعول عليها، ولا سيما " المهند على المفند "؛ فإنه في صلب عقيدة الديوبندية؛ ولذا سمي " عقائد علماء أهل السنة الديوبند". وقرظه كبار أئمة الديوبندية. المثال الرابع: أن كتاب " المهند على المفند " باللغة العربية، وقد ترجم قريبا إلى اللغة الأردية، وطبعت الترجمة مع الأصل، وسميت الترجمة " ماضي الشفرتين على خادع أهل الحرمين "؛ وكم أضلت هذه الترجمة من خلائق لا يحصون.. *وهذا برهان على أن الديوبندية الآن * على ما كانوا عليه في سابق الزمان* المثال الخامس: أن لكبار أئمة الديوبندية كتبا يقدسها الديوبندية، وهي مكتظة بالخرافات القبورية والوثنيات الصوفية، نحو " الأرواح الثالثة " و " إمداد المشتاق " و " تذكرة الخليل " و " تذكرة الرشيد " و " السوانح القاسمية " و " أشرف السوانح " و " نقش الحياة " و " أب حيات " أي " ماء الحياة " و " تبليغي نصاب " أي " نصاب التبليغ " و" منهج التبليغ " وغيرها. وهؤلاء الديوبندية لم يعلنوا البراءة من هذه الكتب ولا حذروا منها ولا أوقفوا طباعتها ولا منعوا بيعها ولا شراءها، وأسواق الهند وباكستان وغيرها مكتظة بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 المثال السادس: أن الشيخ حمد الله الداجوي الباكستاني - هو من أكبر علماء الديوبندية في مناطق بشاور والديار الأفغانية وقد تجرد للدعوة السافرة إلى الوثنية، وقد ألف كتابا ضخما في الدعوة إلى القبورية سماه " البصائر " ونقل جل نصوصه عن كتب الديوبندية، ولم ينقل نصا واحدا عن البريلوية. والديوبندية في تلك البلاد كلهم تبعوا هذا الوثني، ولم يعارضه من الديوبندية إلا عدة أعيان خرجوا عن خرافات الديوبندية في توحيد الألوهية فقط كالفنجفيرية. المثال السابع: أنه قد ظهر كتاب جديد بعنوان " إمام الزنادقة ابن تيمية " لمجموعة من علماء الديوبندية في مناطق بشاور ومردان وسوات ودير من مناطق باكستان؛ * وفي هذا الكتاب عجب العجاب* من الوثنيات والشتائم والسباب* المثال الثامن: أنه من ذا الذي لم يعرف الكوثري؟ فالكوثري إمام القبورية والجهمية وشيخ عصبة التعصب في آن واحد، وشتائمه لأئمة السنة وولوغه في علماء الأمة، ولا سيما شيخ الإسلام (728هـ) وابن القيم الإمام (751هـ) ومجدد الدعوة الهمام (1206هـ) مما لا يخفى على من يهتم بالتوحيد وأهله، ويعرف البدعة وأهلها. ومن أخبث كتب الكوثري على الإطلاق كتب ثلاثة؛ " تبديد الظلام " (الرد على النونية) ، و " المقالات "، و " التأنيب ". وهذه الكتب كلها معظمة عند الديوبندية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 وإن كنت في شك من ذلك فعليك بمقدمة البنوري الكوثري أحد أئمة الديوبندية (1397هـ) التي كتبها في إجلال هذه الكتب الثلاثة. وفي الكتابين الأولين عجائب من الوثنيات السافرة والقبوريات الماكرة الفاجرة. الحاصل: أن للكوثري موقعا عظيما في قلوب الديوبندية ومن الإعظام له ولكتبه ومقالاته الوثنية الجهمية والإجلال ما لا يخطر بالبال. المثال التاسع: أن المفتي عبد الشكور بن عبد الكريم - هو من كبار علماء الديوبندية المعاصرة، وهو مدير المدرسة الحقانية بمدينة ساهيوال بباكستان- قد ألف كتابا بعنوان " فيض روحاني أو أولياء رباني " يعني " الفيض الروحاني من الأولياء الربانيين "، وألف كتابا آخر سماه " عقائد أهل السنة والجماعة "، واسمه الآخر: " خلاصة عقائد علماء الديوبندية "؛ والكتاب مشتمل على (52) عقيدة، والكتاب فيه دعوة سافرة إلى الوثنية، وعليه تقريظات لخمسة عشر علما من كبار أعلام الديوبندية، منهم تقريظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 لرئيس المدرسة الديوبندية: الشيخ محمد طيب الملقب عند الديوبندية بحكيم الإسلام، وحجة الإسلام (1404هـ) . ومن عجب العجاب أن هذا الكتاب الوثني قد طبع في آخر كتاب " المهند على المفند " طبعة جديدة حديثة؛ وهذا سلطان قاهر وبرهان باهر على أن الخلف على قبورية السلف من الديوبندية!؟!. المثال العاشر: أن الشيخ غلام الله الديوبندي الباكستاني (1980م) رحمه الله قد ألف كتابا في التفسير سماه " جواهر القرآن "؛ أجاد فيه الرد على القبورية وبين وثنيتهم فجزاه الله عن التوحيد وأهله خير الجزاء. ولما كان شاذا عن عقائد الديوبندية عند جمهور الديوبندية تصدى له الشيخ عبد الشكور المذكور وكيل الديوبندية؛ فألف في الرد عليه كتابا سماه " هداية الحيران في جواهر القرآن " حقق فيه أنه قد شذ عن الديوبندية وخرج على عقائدهم. وكتابه " هداية الحيران " أيضا دعوة إلى القبورية، وقد شحن فيه نصوصا من كتب كبار أعلام الديوبندية لمناصرته والرد على مؤلف " جواهر القرآن ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 المثال الحادي عشر: أن الشيخ محمد طاهر بن آصف الفنجفيري الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن (1407هـ) ، من معاصري الديوبندية الباكستانية-رحمه الله تعالى- قد وفقه الله تعالى لمطالعة كتب أئمة الإسلام ولا سيما شيخ الإسلام (728هـ) وابن القيم الهمام (751هـ) ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) فتجرد للرد على القبورية، وشن الغارة عليهم، فنفع الله به خلقا كثيرا، وانتشر تلاميذه في مناطق بشاور والقبائل الحرة وأفغانستان (مع ما عنده من العقائد الماتريدية والأفكار الصوفية النقشبندية وطامات الديوبندية والتعصب للمذهب الحنفي الكوثري) . ولكن الديوبندية عارضوه وصاروا ضده وعليه يدا واحدة ورموه عن قوس واحدة وحاربوه وشنوا عليه الغارات زعما منهم أنه شذ عن جماعة الديوبندية والتحق بالوهابية. قلت: كان رحمه الله حنفيّا متعصبا ماتريديا جلدا نقشبنديا صوفيا بحتا، ولكن كان ذنبه عند الديوبندية أنه كان حربا شعواء على القبورية، فرحمه الله رحمة واسعة وإيانا، وسامحه وغفر لنا وله. المثال الثاني عشر: أن الديوبندية في مناطق بشاور قد أعادوا طباعة كتاب خرافي وثني لرجل خرافي وثني ألا وهو كتب " غوث العباد " لمصطفى أبي سيف الحمامي الزيني الأزهري المصري (1368هـ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 وهؤلاء الديوبندية وعلى رأسهم إمامهم في الوثنية: الشيخ حمد الله الداجوي الباكستاني الأفغاني قد نشروا هذا الكتاب وطبعوه في آخر كتاب " البصائر " لحمد الله الداجوي المذكور؛ كأنه تتمة للأول وجزء ثان له.. قال الداجوي الديوبندي في سبب إلحاق " غوث العباد " بكتابه " البصائر ": (خاتمة الطبع: الحمد لله الذي وفقنا لطبع كتاب " غوث العباد "؛ فإنه لما كان في كتاب " البصائر " [للداجوي نفسه] بيان أحوال ابن تيمية، وبعد ما طبع الكتاب المذكور [أي البصائر]- وصل إليّ كتاب " غوث العباد " فيه تأكيد ما أقول ومزيد تفصيل وتحقيق في بعض المسائل؛ فإن صاحب البيت أدرى بما فيه- أردت أن ألحقها بكتاب " البصائر " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 تأييدا ومن الله التأييد، وبه الاعتصام. وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. العبد الأواه محمد حمد الله الداجوي، 20 \ رمضان المبارك سنة 1385هـ) . المثال الثالث عشر: أن الديوبندية كلهم جميعا صوفية نقشبندية أصحاب بيعة. حتى الفنجفيرية الرادين على القبور منهم. أقول: لا تنس أيها القارئ الكريم اعتراف الشيخ عامر العثماني أحد كتاب الديوبندية: بأن سبب انخراط مشايخنا الديوبندية في الخرافات القبورية إنما هو التصوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 والديوبندية الفنجفيرية يوصون تلاميذهم: أن يكونوا صوفية، وأن تكون الطرق الأربعة الصوفية عندهم كالمذاهب الأربعة الفقهية. المثال الرابع عشر: عقيدة الديوبندية في تصرف الأموات وتجسد الأرواح وتدمير الأعداء ونصر الأولياء: قال القاضي ثناء الله الباني بتي أحد كبار أعاظم أئمة الديوبندية الملقب عندهم ببيهقي الوقت (1225هـ) ، في تفسير قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة: 154] : (يعني أن الله يعطي لأرواحهم قوة الأجساد، فيذهبون من الأرض والسماء والجنة حيث يشاؤون؛ وينصرون أولياءهم ويدمرون أعداءهم) . قلت: تدبر أيها المسلم إلى هذه الوثنية السافرة ... ولقد استدل بكلام هذا القاضي ونقله الداجوي الديوبندي، وغيره. واحتج البريلوية على الديوبندية بكلام إمامهم هذا إتماما للحجة عليهم. هكذا عقيدة تصرف الأرواح وإتيانها إلى أبواب بيوتهم، وتسرفها في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 الإنسان الحي وغيره، من أوضح عقائد الديوبندية. تنبيه: لقد شن الفنجفيرية الغارة على هذا الداجوي لأجل هذه الخرافات، والفنجفيرية في ذلك على حق.. ولكن هذا الداجوي إنما تبع أئمته الديوبندية، فما بال الفنجفيريه يعظمون الباني بتي ويحكمون على الداجوي بأنه مشرك؟!؟ المثال الخامس عشر: أن عقيدة إتيان الموتى في أجسادهم العنصرية البشرية المادية للقضاء والفصل يقظة - من أعظم عقائد كبار أئمة الديوبندية، ولهم في هذا الباب أساطير عجيبة غريبة؛ ومنها إتيان إمام الديوبندية ومؤسس مدرستهم: الشيخ النانوتوي (1297هـ) لفصل القضاء على المخاصمة التي وقعت في مدرسة ديوبند. وللشيخ أشرف علي التهانوي الملقب بحكيم الأمة عند الديوبندية (1362هـ) عجائب في التعليق على هذه القصة، فزاد الطين بلة* والمريض علة* وللديوبندية أعاجيب في الدفاع عن هذه الأساطير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 وقد احتجت البريلوية على الديوبندية بهذه الأسطورة الوثنية. وفي ذلك عبرة ونكال فهل من مدكر؟!؟ . قصة أخرى: في إتيان إمام الديوبندية بعد موته لمناظرة عالم ديوبندي في مناظرته لرجل بريلوي، ولم يكن لهذا الديوبندي المسكين بمناظرة هذا البريلوي القوي أي قبل وقوة، وكاد أن ينهزم لولا إتيان النانوتي لمناصرته؟!؟ أسطورة ثالثة: في إتيان الخواجة الأجميري الجشتي إمام الصوفية الجشتية (627 هـ) لمناصرة الشيخ إمداد الله إمام أئمة الديوبندية في التصوف والبيعة (1317هـ) وذلك يقظة دون منام وبجسده العنصري البشري الدنيوي، والقصة طويلة، ولكنها وثنية محضة. المثال السادس عشر: أن عقيدة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما في هذه الحياة الدنيا من أبرز العقائد الديوبندية. والديوبندية قد ادعوا وقوع ذلك، ولهم في ذلك أساطير. وقد ادعى ذلك قبلهم كثير من الصوفية؛ ومنهم التفتازاني فيلسوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 الماتريدية والقبورية (792هـ) ؛ حيث إنه ادعى رؤيته النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه تفل في فيه فتضلع علما ونورا. وقد صدقه في هذا الإفك البواح كله بعض الديوبندية. وللسيوطي في ذلك رسالة خرافية، سماها: " تنوير الحلك في إمكانية رؤية النبي والملك ". فالديوبندية قد ورثت ميراث الخرافة من سلفهم أهل الخرافة!؟!. ولا يخفى مفاسدها. المثال السابع عشر: خرافة أسطورة خروج يد رسول الله صلى الله عليه وسلم للرفاعي (578هـ) سنة (555هـ) وقد زارها حوالي (90000) شخص؛ منهم القطب الرباني الشيخ الجيلاني (561هـ) . المثال الثامن عشر: أن عقيدة الاستمداد من أهل القبور وروحانية المشايخ وحصور الفيض من قبورهم وصدورهم من أعظم عقائد أكابر الديوبندية. وقد صرح الشيخ أنور شاه الملقب عندهم بإمام العصر (1352هـ) بأن الاستفاضة من أهل القبور تجوز لكونها ثابتة عند أرباب الحقائق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 الصوفية. قلت: هذه ظاهرة وثنية قبورية؟!؟ وللديوبندية في ذلك عجائب وغرائب واهتمام بالغ واعتناء كامل. وقد احتجت البريلوية بهذه النصوص الوثنية على الديوبندية وقالوا للديوبندية: أنتم إذا تجوزون الاستمداد من الأموات إلى هذا الحد فلم تنكرون علينا؟!؟ المثال التاسع عشر: أن عقيدة الاستغاثة والاستعانة بالأموات من أكبر عقائد الديوبندية، وإليكم نص ما قاله الشيخ شبير أحمد العثماني (1369هـ) ؛ قال في تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] : (علم من هذه الآية الشريفة: أنه لا يجوز الاستمداد في الحقيقة من غير الله؛ ولكن إذا جعل شخص مقبول واسطة لرحمة الله، ويطلب منه العون على اعتقاد أنه غير مستقل في الإعانة، فهذا جائز؛ لأن هذه الاستعانة بهذا الولي في الحقيقة استعانة بالله تعالى) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 وقالوا: إن الاستمداد من أرواح الأموات هو عقيدة جميع أهل السنة بدليل أن الله تعالى قد سخر الملائكة لإعانة خلفه ومددهم. قلت: هذا الذي قاله هؤلاء الديوبندية هو اعتقاد جميع القبورية في استغاثتهم بالأموات* والاستعانة منهم عند إلمام الملمات * فكلهم يقولون: إننا لا نستغيث بالأولياء على اعتقاد أنهم مستقلون بالنفع والضر؛ بل إن الله تعالى جعلهم وسيلة وواسطة بينه وبين عباده لقضاء حوائجهم. وقالوا: لا يتحقق الشرك إلا إذا اعتقد أحد فيهم الاستقلال بالنفع والضر والقدرة دون العطاء من الله تعالى. وقد أبطلت هذه العقيدة بكلام علماء الحنفية بحمد الله وبينت على لسان علماء الحنفية: أن المشركين السابقين أيضا لم يعتقدوا في آلهتهم القدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر، وإنما كان شركهم شرك الشفاعة والواسطة والتوسل. فكلام الديوبندية وغيرهم من القبورية لا يختلف عن كلام المشركين السابقين. المثال العشرون: أن العكوف والمراقبة إلى القبور من سمات أكابر علماء الديوبندية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 فقد ذهب الشيخ خليل أحمد السهارنفوري (1346هـ) مؤلف المهند على المفند، وبذل المجهود، وأحد كبار أئمة الديوبندية بمرافقة الشيخ أشرف علي التهانوي الملقب عند الديوبندية بحكيم الأمة الديوبندية (1362هـ) إلى ضريح الخواجة معين الدين الأجميري إمام الصوفية الجشتية (627هـ) وبمجرد وصوله إلى قبره جلس إلى القبر مراقبا، واستغرق في المراقبة إلى حد لم يشعر بما جرى وبما يجري، والناس كانوا يسجدون إلى القبر ويطوفون به ويرتكبون أنواعا من الشرك. قلت: مع هذا الشرك البواح لم تتمعر جباه هؤلاء الأئمة، ولم ينكروا على هؤلاء الوثنية الذين جعلوا هذا القبر وثنا يعبدونه من دون الله بكلمة واحدة؛ بل جلس هذا الإمام للمراقبة إلى القبر لأن هذا كان يهمه وقد فعل! وقد صرح الشيخ رشيد أحمد الجنجوهي (1323هـ) الإمام الثاني للديوبندية بأن الشيخ الحاج [أظنه إمداد الله (1317هـ) شيخ الديوبندية] قد جلس مراقبا إلى قبر الحضرة قلندر إلى آخر القصة التي فيها عبرة ونكال. ومن العجاب العجاب أن أئمة الديوبندية قد يذكرون هذه الأساطير الوثنية بدون أي إنكار عليها كأنها وحي من السماء؟!؟ بل يعدونها من أعظم المناقب وأكبر الكرامات، سبحان قاسم العقول!!! وكل هذا من آفة التصوف والجهل بحقيقة توحيد الأنبياء والمرسلين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 ومع ذلك كله يقول الديوبندية إن أئمتنا جمعوا بين الشريعة والطريقة وجعلوا الطريقة خادمة للشريعة، وأخذوا لب التصوف وتركوا قشره، ونظفوا التصوف من كل باطل وخرافة، وأخذوا التصوف النقي الطاهر. المثال الحادي والعشرون: أن عقيدة وحدة الوجود من العقائد الصوفية القبورية التي تسربت إلى كبار مشايخ الديوبندية وأئمتهم الأجلة وأكابرهم. 1 - وقد اعترف الشاه أنور الملقب عندهم بإمام العصر (1352هـ) بأن مشايخنا مولعون بعقيدة وحدة الوجود ولكني لست بمتشدد فيها. 2 - وقال الشيخ حكيم الأمة (أمة الديوبندية) أشرف علي التهانوي (1362هـ) أحد كبار أئمة الديوبندية وشيخهم الثالث في التصوف، عن الشيخ إمداد الله إمام الديوبندية وشيخهم الأول في التصوف (1317هـ) أنه قال: (أعجبني بعض الأمور الطيبة في الحرمين: منها أن عقيدة وحدة الوجود انتشرت كثيرا في الناس وارتكزت فيهم حتى الأطفال، فقد ذهبت مرة إلى مسجد قباء، فسمعت شخصا يقول: يا الله يا موجود فقال الآخر: بل في كل الوجود. فلما سمعت ذلك- طرأ علي حال؛ ثم رأيت الأطفال يلعبون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 فقال أحدهم: يا الله ليس غيرك. فطربت منه إلى حد زالت قواي؛ فقلت لهم: لم تذبحونني؟!؟) . تنبيه: الذي يعتقد عقيدة وحدة الوجود يقال له: " الموحد " عند الصوفية الوجودية الاتحادية. بناء على هذا الاصطلاح الوثني استمع أيها المسلم للقصة التالية: 3 - قال حكيم أمة الديوبندية (1362هـ) عن الشيخ إمداد الله الشيخ الأول في التصوف للديوبندية (1317هـ) : (قيل لموحد: إذا كان الحلوى والخرء شيئا واحدا فكل الحلوى والخرء جميعا!!! فجعل هذا الموحد شكله شكل الخنزير، فأكل الخرء ثم حول نفسه من صورة الخنزير إلى صورة الآدمي، فأكل الحلوى) ... وقد علق على هذه الأسطورة الإلحادية الوثنية والوجودية الصوفية الشيخ أشرف علي الملقب بحكيم الأمة فقال: (إن هذا المعترض على هذا الموحد كان غبيا؛ ولذلك تكلف هذا الموحد هذا التصرف، وإلا فالجواب ظاهر وهو أن الحلوى والخرء متحدان في الحقيقة لا في الأحكام والآثار) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 قلت: أيها المسلم دقق النظر في هذه الأسطورة الإمدادية الديوبندية الصوفية الاتحادية، وهذا التعليق الأشرفي الحكيمي الديوبندية الصوفي الإلحادي يتبين لك فيها الطامات الآتية: الأولى: تسمية هذا الاتحادي الصوفي الإلحادي " موحدا "؛ فالصوفية الاتحادية والحلولية الإلحادية لا يسمون الشخص موحدا إلا إذا أنكر توحيد الأنبياء والمرسلين، واعتقد أن الله تعالى هو كل شيء وهو الاتحاد أو أنه تعالى هو كل شيء، وهو الحلول. وأما الجهمية الأولى: فيسمون معطل الصفات والأسماء موحدا. وأما المعتزلة: فيسمون معطل الصفات موحدا. وأما الماتريدية والأشعرية: فيسمون معطل بعض الصفات موحدا. وأما القبورية: فيسمون المستغيث بالأموات موحدا. الطامة الثانية: أن هذا الولي الموحد الاتحادي الإلحادي الوثني-!!! قد وصل في القدرة والتصرف إلى حد كان قادرا على قلب الأعيان والحقائق!!!؛ حتى قلب نفسه خنزيرا ثم انقلب من الخنزير آدميا بقدرة كن فيكون!!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 الطامة الثالثة: عقيدة وحدة الوجود: وأن جميع ما في هذا الكون شيء واحد في الحقيقة؛ وإنما الفرق في الأحكام والآثار؛ وأن الخالق والمخلوق شيء واحد في الحقيقة؛ فما ثم إلا هو؛ وإنما الفرق بالاعتبار لا بالحقيقة. الطامة الرابعة: تناول هذا الولي الموحد الإلحادي الاتحادي الوثني الخرء وأكله إياه بعدما انقلب خنزيرا أنجس الحيوانات في خلق الله تعالى؛ ويلزم هذا الخنزير أن يجامع أمه وأخته وبنته ومحارمه؛ لأن هذا الولي لما انقلب خنزيرا حل له أكل أغلظ النجاسات وهو الخرء؛ فيحل له وطء المحارم أيضا؛ لأن الخنزير غير مكلف فلا محارم له؟!؟ الطامة الخامسة: مناصرة ذلك الولي الاتحادي الإلحادي الوثني والدفاع عنه؛ والطعن فيمن ينكر على هؤلاء الملاحدة، ممن لا يعتقد عقيدة وحدة الوجود بأنه غبي أحمق في الاعتراض على ذلك الولي الموحد الإلحادي الاتحادي الوثني!!؟!! 4 - ولقد قال بعض الصوفية الملاحدة الاتحادية: إنني قد سجدت لله حينما لم تكن ذات الله ولا صفاته. فقال الشيخ أشرف علي التهانوي عن شيخ الديوبندية إمداد الله: إن معناه: أنني عبدت الله حينما كان الله في مرتبة الأعيان، ولم يكن وقت الظهور العيني لذاته وصفاته. 5 - وقد قال كثير من الصوفية الملاحدة الزنادقة الاتحادية الإلحادية بقدم العالم؛ فقال الشيخ أشرف علي حكيم أمة الديوبندية (1362هـ) عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 الشيخ الأول في التصوف للديوبندية إمداد الله (1317هـ) : إن معناه أن العالم قديم في مرتبة الأعيان؛ لأن هذا النور والشعاع لصفات الله تعالى؛ وصفاته قديمة. 6 - وقد صرح شيخ الديوبندية إمداد الله بعقيدة وحدة الوجود في صدد الثناء على الله تعالى. 7 - كما صرح بأن عقيدة وحدة الوجود هي عقيدته وعقيدة جميع مشايخه وعقيدة جميع مريديه وذكر فيهم الشيخ النانوتوي الإمام الأول للديوبندية والشيخ الجنجوهي الإمام الثاني للديوبندية. 8 - ومن شعار الديوبندية في باب وحدة الوجود قولهم: (لا موجود إلا الله ولا مقصود إلا الله ولا محبوب إلا الله) . 9 - ومن شعارهم ما يرددون من قول الحلاج (309هـ) : (سبحاني ما أعظم شأني) . 10 - ومن مظاهر عقيدة وحدة الوجود عند أئمة الديوبندية ما ذكره الشيخ أشرف علي الملقب بحكيم الأمة عند الديوبندية عن شيخ الديوبندية في التصوف إمداد الله (1317هـ) : أنه قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان واصلا بالحق سبحانه صح أن يقال لعباد الله: عباد الرسول؛ كما قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] ، فضمير ياء المتكلم في قوله: يا عبادي يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم) . وقد علق عليه الشيخ حكيم الأمة بقوله: (إن القرينة أيضا تؤكد هذا المعنى؛ لأن الله تعالى قال بعده: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} ، ولو كان ضمير ياء المتكلم في قوله: يا عبادي يرجع إلى الله تعالى- لكان المناسب أن يقول: لا تقنطوا من رحمتي ... ) . 11 - وقد حكى الديوبندية عن شيخهم إمداد الله (1317هـ) أنه قال: ... لي انشراح الصدر في مسألة وحدة الوجود، وقالوا: إن الشيخ كان إذا تكلم في وحدة الوجود يطرأ على السامعين الاطمئنان والوجد. قلت: هذا هو التصوف التقي النقي اللب الخالص من القشور كما تزعم الديوبندية!؟! نعم تصوف الديوبندية نقي خالص، ولكن عن توحيد الأنبياء والمرسلين * وعن سنة السلف الصالح أئمة هذا الدين* المثال الثاني والعشرون: خرافة عجيبة غريبة ذكرها حكيم الأمة عن شيخ الديوبندية إمداد الله: أنه قال: (لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم والتقى بموسى عليه السلام؛ استفسره موسى عليه السلام، وقال: إنك قلت: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل "!! ، كيف يصح هذا؟!؟ فحضر حجة الإسلام الغزالي، وسلّم بإضافة: " وبركاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 ومغفرته ". فقال له موسى عليه السلام: ما هذا الطول أمام الأكابر "؟! فقال له الغزالي: إن الله تعالى قال لك: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه:17] ، فلمَ طولت في الجواب، وقلت: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للغزالي: " أدب يا غزالي ") .. وقد علق على هذه الأسطورة حكيم أمة الديوبندية فقال: قوله: " أدب يا غزالي " يمكن أنه كشف لأحد الأكابر، وأن هذه المكالمة بين الغزالي وبين موسى في المعراج أيضا كشفت له لأن هناك اجتماع الأرواح وليس المراد المعراج الجسدي..) . أقول: تفكّر أيها القارئ طالب الحق في هذه الأسطورة كم فيها من الطامات: الطامة الأولى: نسبة حديث " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه حديث لا أصل له موضوع * باطل مختلق مصنوع *. الطامة الثانية: تصرف روح الغزالي وقدرته إلى أن وصل إلى مجلس الأنبياء والمرسلين في السماوات العلى؟!؟ الطامة الثالثة: انهزام موسى عليه السلام. في المناظرة أمام الغزالي، وغلبة الغزالي على موسى عليه السلام!؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 الطامة الرابعة: نسبة قول " أدب يا غزالي " إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ليس بكلام عربي فصيح، بل هو كلام ركيك عربية نحوية. والعبارة الفصيحة أن يقال: " الأدب أيها الغزالي ". قلت: هذا كله من آفات التصوف النقي اللب الخالص من القشور الذي يدعيه الديوبندية؟! المثال الثالث والعشرون: أسطورة الكلب الولي صاحب الكرامة: قال الشيخ حكيم أمة الديوبندية عن شيخ الديوبندية إمداد الله (1317هـ) أنه قال: (كان الحضرة الجنيد البغدادي جالسا، فمر كلب أمامه، فوقع نظره عليه؛ فصار الكلب صاحب الكمال إلى حد تبعته كلاب تلك المدينة، ثم جلس ذلك الكلب في مكان، وجلست تلك الكلاب حوله كالحلقة، وانشغلت كلها في المراقبة) . قلت: هذه حالة الكلب في الكمال والولاية والكرامة لأجل نظرة وقعت عليه من نظرات الجنيد؛ فما ظنك بإنسان وقعت عليه نظرة من نظراته؟!؟ المثال الرابع والعشرون: قول الديوبندية في قدرة الأولياء أحياء وأمواتا ومدهم لزوارهم: 1 - قال الشيخ نصر الدين الغورغشتوي إمام الديوبندية في مناطق بشاور وأفغانستان (1388هـ) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 (إن للأولياء مددا ظاهرا بالغا لزوارهم بحسب أدبهم) . 2 - قالوا: (إن للأولياء قدرة من الله تعالى إلى حد يستطيعون أن يقدروا على السهم المتدفق المرسل من القوس؛ فيردوه إلى القوس قبل أن يصل إلى الهدف، ويستطيعون أن يجعلوا " قل " [أي كن] بدل " لا تقل " [أي لا تكن] ، وأن هذا من الكرامات الحسية) . 3 - قالوا: (إن شخصا صاحب الكشف أراد زيارة قبر الحافظ محمد ضامن رحمة الله عليه ليقرأ عليه سورة الفاتحة؛ فلما ذهب إلى قبره وقرأ عليه سورة الفاتحة، قال لرفقته: إن هذا الولي مزّاح عجيب إلى الغاية؛ لأنني حينما كنت أقرأ عليه سورة الفاتحة قال لي: اذهب إلى ميت فاقرأ عليه الفاتحة!!! ماذا تصنع ههنا؟!؟ جئت لتقرأ الفاتحة على الأحياء) !!! يعني: أن هذا الولي يقول: أنا حي لا حاجة لي أن تقرأ عليّ الفاتحة، اذهب إلى ميت فاقرأ عليه!؟! قلت: انظر أيها المسلم إلى قدرة هذا الولي المقبور الحي في قبره؛ حيث إنه قد سمع سورة الفاتحة وعلم بالزائر ثم كلمه ذلك الكلام الذي فيه سخرية ومزاح، وإخبار بأنه حي لا يحتاج إلى الفاتحة، وأن الفاتحة لا تقرأ إلى على ميت!؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 ثم انظر إلى صاحب هذا الكشف الزائر وقدرته على سماع كلام المقبور، مع أنه لم يرد السفر إلى زيارة القبور؛ كما أنه لم يرد قراءة الفاتحة عليها. ولكن كل ذلك من شؤم التصوف القبوري الذي يزعمون أنه نقي وتقي ولب خالص عن القشور!؟! المثال الخامس والعشرون: أن شد الرحال إلى القبور والسفر والحج إليها من أفصح عقائد الديوبندية. فقد تقدم عدة أقوال لهم في هذا الباب. بل قالوا: إنه ينبغي أن يجرد الزائر نيته للسفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويكون المسجد تابعا للقبر الشريف. المثال السادس والعشرون: التبركات البدعية: عند الديوبندية ولا سيما أئمتهم وأكابرهم عجائب وغرائب من التبركات البدعية، كل ذلك من ظواهر الصوفية ومظاهر القبورية. وإليكم بعض النماذج من تلك التبركات البدعية: 1 - التبرك بختم كتاب " إحياء العلوم " للغزالي (505هـ) . قلت: هل يتبرك بكتاب صوفي قبوري خرافي؟!؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 وللقبورية الصوفية شغف عظيم بهذا الكتاب، وهو مصحف من مصاحف الصوفية والقبورية جميعا؛ وقد حكوا عن الإمام النواوي رحمه الله تعالى (676هـ) أنه قال: " كاد الإحياء أن يكون قرآنا ". قلت: لم يحققوا ثبوت هذه المقالة على النووي وما أظنها إلا كذبا عليه. 2 - التبرك بالمثنوي للرومي الحنفي (672هـ) إمام الصوفية المولوية. للديوبندية شغف بهذا المصحف وختمه والاحتفال به، وقد تهافت عليه القبورية الرومية والتركية والإيرانية والأفغانية والهندية تهافت الفراش على النار. وقد سماه القبورية: " قرآنا بهلويا "؛ أي: القرآن الفارسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 وقال الرومي نفسه في الثناء على كتابه المثنوي مضاهئا به القرآن: ( ... بأيدي سفرة كرام بررة* يمنعون أن لا يمسه إلا المطهرون * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... ) . 3 -11- التبركات بالحجرة النبوية والتبرك بالغلاف والتبرك بتمر المدينة النبوية والتبرك بنوى التمر والتبرك بتراب الحجرة الشريفة والتبرك بأقمشة المدينة وثيابها، بل التبرك بالزيت المحروق في الحجرة الشريفة والتبرك بإدخال الأطفال إلى الحجرة الشريفة. 12 -15- التبركات بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وموضع جلوسه، وما مسته يده الشريفة، وما مرت عليه قدمه صلى الله عليه وسلم وكذا المنبر. المثال السابع والعشرون: اهتمام الديوبندية بدلائل الخيرات للجزولي الخرافي (863هـ) أو (870هـ) . درسا وقراءة ورواية وإجازة. وهذه آية القبورية الواضحة الفاضحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 المثال الثامن والعشرون: شغف الديوبندية بقصيدة البردة، للبوصيري (696هـ) الخرافي القبوري الصوفي. درسا وقراءة ورواية وإجازة وهي متوارثة عندهم. وللقبورية عامة إعظام وإجلال لها وتبرك بها. وقال الشيخ حسين أحمد أحد كبار أئمة الديوبندية (1377هـ) في المقارنة بين أهل التوحيد الذين يسمونهم " الوهابية " وبين الديوبندية: (إن الوهابية الخبيثة تستقبح جدّا قراءة دلائل الخيرات، والقصيدة البردية، والقصيدة الهمزية، ويجعلون بعض آيات قصيدة البردة من قبيل الشرك؛ كقول البوصيري: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم مع أن أئمتنا وأكابرنا كانوا يأمرون مريديهم بقراءة مثل هذه الكتب ويجيزونها؛ والشيخ محمد قاسم النانوتوي والشيخ الجنجوهي رحمهما الله أجازا قراءتها لآلاف من الناس، وكانا يقرآنها. وقد أنشد الشيخ محمد قاسم النانوتوي مثل هذا البيت الذي في قصيدة البردة فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 انصر أيها الكرم الأحمدي لأنه ليس لقاسم أحد سواك، فإذا أنت لم تسأل عن حالنا فمن يسأل، ومن يكون معينا لنا غيرك؟!؟) . المثال التاسع والعشرون: إجلال الديوبندية للملاحدة الزنادقة الوجودية الإلحادية الاتحادية الحلولية؛ من الصوفية القبورية الوثنية؛ فقد قال الشيخ حسين أحمد صدر المدرسين بدار العلوم ديوبند وأحد كبار أئمة الديوبندية (1377هـ) في المقارنة بين أهل التوحيد الذين يسمونهم " الوهابية " وبين الديوبندية: (إن الوهابية يطعنون في أئمة الطريقة أمثال الخواجة بهاء الدين نقشبند والخواجة معين الدين الجشتي وغوث الثقلين عبد القادر الجيلاني والشيخ الأكبر ابن عربي والشيخ عبد الوهاب الشعراني وغيرهم قدس الله أسرارهم أجمعين، ويسيئون الأدب في حقهم. لكن أئمة الديوبندية يحبون هؤلاء ويعظمونهم، ويرون أن التوسل بمحبتهم وتعظيمهم مفيد إلى الغاية وضروري وباعث للبركات وموجب لرضا الله سبحانه وتعالى. الحاصل: أنه لا علاقة لعقائد الوهابية بأكابر الديوبندية) . المثال الثلاثون: أن التوسل بالصالحين أحياء وأمواتا، بل التوسل بأمثال ابن عربي الاتحادي الملحد الوجودي (638هـ) والشعراني الوثني (973هـ) من أعظم عقائد الديوبندية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 وقد جعلوا مسألة التوسل بالأحياء والأموات من المسائل التي امتازت الديوبندية بها عن الوهابية. المثال الواحد والثلاثون: غلو الديوبندية في التقليد الأعمى إلى حد اعترفوا بأن الحق في مسألة كذا مذهب الشافعي. ولكن مقلدون يجب علينا تقليد إمامنا أبي حنيفة. وقالوا: المنتقل من مذهب إلى آخر يستوجب التعزير ولو باجتهاد وبرهان. قلت: هذا الغلو في التقليد هو في الحقيقة نوع من أنواع الشرك إذ هو من اتخاذ الأئمة أربابا من دون الله تعالى. وهذا النوع من الطاعة المطلقة لغير الله شرك بالله عز وجل. ومن هذا القبيل عدم تجويز إمام الفنجفيرية الانتقال من مذهب إلى آخر. المثال الثاني والثلاثون: عقيدة الديوبندية في اطلاع الأولياء على اللوح المحفوظ: قال القاضي الباني بتي (1255هـ) شيخ الديوبندية والملقب عندهم ببيهقي الوقت، وتبعه الشيخ صفدر الديوبندي، واللفظ للأول: (ومن هذا القبيل ما قيل: إنه قد ينكشف على بعض الأولياء في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 بعض الأحيان اللوح المحفوظ: فينظرون فيه القضاء المبرم والمعلق ... ) . المثال الثالث والثلاثون: خَلْعُ إمامِ الديوبندية * على الجيلاني خِلْعةَ الألوهية * لقد وقفت على كفر بواح * وشرك صراح * لم أره عند الأولين* ولا عند الآخرين* من قبورية هذه الأمة الإسلامية* إلا عند مشركي الجاهلية * وهو أنّ إمداد إمام الديوبندية * قد نص على أنّ الجيلاني فاز بمرتبة الألوهية * حيث قال: (لقد تناظر رجلان فقال أحدهما: إنّ الشيخ معين الدين الجشتي رحمة الله عليه أفضلُ من الحضرة الغوث الأعظمِ [الجيلاني] قدس سره. وقال الآخرُ: إنّ الحضرة الغوث المطهر [الجيلانيّ] أفضل من الشيخ [الجشتيّ] ؛ فقلت: لا ينبغي لنا أن نفضل بعض الأولياء على بعض، وإن كان الله تعالى قال: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} . فقال [مُفَضِّلُ الجيلانيّ على الجشتيِّ] : لما قال الحضرة الغوث المطهر [الجيلانيُّ] : " قدمي على رقاب أولياء الله "- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 قال الحضرة معين الدين [الجشتي] : " بل على عيني ". فثبت أفضليةُ الغوث [الجيلانيِّ] [على الجشتيِّ] . [قال إمداد الله إمام الديوبندية] فقلت: هذا يدل على أفضلية الحضرة معين الدين [الجشتيِّ] على الحضرة الغوث [الجيلانيِّ] ؛ لأن الحضرة الغوث [الجيلانيَّ] في ذلك الوقت كان في مرتبة " الألوهية " وكان الحضرة الشيخ [الجشتيّ] في مرتبة " العبودية ". قلت: سبحانه وتعالى عن أن يكون معه أحد في مرتبة " الألوهية "!!!، والغوثية؟؟؟. وأقول: ما كنت أظن أن الديوبندية قد وصلوا في خرافاتهم القبورية الصوفية إلى حد التنصيص على " ألوهية " الجيلاني. ولكن تبين أن الديوبندية كمن قيل فيه: " وكنت أرى زيدا كما قيل سيدا ... إذ إنه عبد القفا واللهازم " وأقول أيضا: قد كنت أسمع أن كتب الديوبندية مكتظة بالخرافات القبورية الصوفية، ولكن كنت أستنكر تلك الأخبار، وأستكبرها، وأستكثرها عليهم، وكنت أقول: لعلها كذب عليهم؛ لما عندهم من العلوم الجمة وتظاهرهم بالسنة؛ ثم لما أمعنت النظر في كتبهم- وجدت عندهم من الطامات القبورية والخزعبلات الصوفية ما لا يخطر بالبال، فكان الأمر كما قيل: " وأستنكر الأخبار قبل لقائه ... لما التقينا صدّق الخبرَ الخبرُ " هذه عدة أمثلة كقطرة من البحر أو حبة من الصبرة، ذكرتها لبيان أن الديوبندية قبورية إلا من شاء الله منهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 فهل يشك أحد في قبوريتهم؟ وقد رأيتم تصوفهم النقي فما ظنكم بغير النقي؟!؟ " فحسبكم هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح " وللتفصيل موضع آخر؛ " ولو كان هذا موضع القول لاشتفى ... به القلب لكن للمقال مواضع " وبعد هذا ننتقل إلى ذكر جهود علماء الحنفية* في الرد على هذه العقائد القبورية* والله المستعان * وعليه التكلان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 القسم الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في الصالحين وفيه فصول ثلاثة: - الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال الغلو إجمالا. - الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في حياة الأموات، وسماعهم نداء المستغيثين بهم عند الكربات. - الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية بجعلهم النبي نورا لا بشرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 الفصل الأول في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في الصالحين إجمالا وفيه مطالب ثلاثة: - المطلب الأول: في استدلال علماء الحنفية بالكتاب على إبطال غلو القبورية في الصالحين. - المطلب الثاني: في استدلال علماء الحنفية بالسنة على إبطال غلو القبورية في الصالحين. - المطلب الثالث: في نصوص علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في الصالحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 الفصل الأول في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في الغلو في الصالحين لعلماء الحنفية جهود كثيرة في ذم الغلو وإبطاله وذم أهله، وقد صرحوا بأن الغلو في الصالحين هو من أعظم أسباب وقوع بني آدم في الشرك. وعلماء الحنفية قد استدلوا في صدد إبطالهم الغلو بالكتاب والسنة. لذا أرى من المناسب أن أجعل هذا الفصل في ثلاثة مطالب: المطلب الأول: في استدلال علماء الحنفية بالكتاب على إبطال الغلو في الصالحين. المطلب الثاني: في استدلال علماء الحنفية بالسنة على إبطال الغلو في الصالحين. المطلب الثالث: في نصوص علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في الغلو في الصالحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 المطلب الأول في استدلال علماء الحنفية بالكتاب على إبطال الغلو في الصالحين لقد استدل علماء الحنفية بعدة آيات من آي الذكر الحكيم على إبطال الغلو في الصالحين، أكتفي بذكر آيتين منها مع تفسير الحنفية: الآية الأولى: قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} [النساء: 171] . الآية الثانية: قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] . قد استدل علماء الحنفية بهاتين الآيتين على إبطال الغلو في الصالحين وتقرير استدلالهم هو: أن الله تعالى قد بين: أن النصارى قد ضلوا بسبب أنهم قد غلوا في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام. حيث إنهم رفعوه فوق منزلته البشرية العبدية الرسولية إلى درجة الألوهية. وأن اليهود قد ضلوا وأضلوا كثيرا من الناس عن التوحيد بسبب غلوهم في الدين وتجاوزهم الحدود في الشرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية في تقرير استدلالهم بهاتين الآيتين: 1 - قال الإمام أبو الليث السمرقندي (375هـ) في تفسير الآية الأولى: (قال بعض أهل اللغة: " الغلو " مجاوزة القدر في الظلم، ويقال: " الغلو " أن تجاوز ما حد لك ... ، يعني: لا تفرطوا في دينكم، فإن دين الله بين المقصر والمغالي، وغلا في القول: إذا تجاوز الحد) . ثم ذم رحمه الله النصارى بسبب غلوهم في عيسى عليه السلام. 2 - وقال رحمه الله في تفسير الآية الثانية: (يقول: لا تجاوزوا الحد، و" الغلو " هو الإفراط، والاعتداء، ويقال: لا تتعمقوا..) . 3 -6- وقال الزمخشري (538 هـ) ، والنسفي (710 هـ) ، والعمادي (983 هـ) ، والألوسي (1270 هـ) ، واللفظ للأخير: ( {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} : أي لا تتجاوزوا الحد، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام عن رتبة الرسالة إلى ما تقولوا في حقه من العظمة، وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية إلى ما تنحلوه لها عليها السلام، ونهي لليهود- على تقدير دخولهم في الخطاب- عن وصفهم له عليه السلام، وكذا لأمة عن الرتبة العلية إلى ما افتروه من الباطل والكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 الشنيع، وذكرهم بعنوان أهل الكتاب، للإيمان إلى أن في كتابهم ما ينهاهم عن الغلو في دينهم، {غَيْرَ الْحَقِّ} : نصب على أنه صفة مصدر محذوف: " أي غلو غير الحق "، وتوصيفه به للتوكيد، فإن الغلو لا يكون إلا غير الحق على ما قاله الراغب..) . 7 - وقال البروسوي (1137 هـ) في تفسير الآية الأولى: (أي لا تجاوزوا الحد في دينكم بالإفراط في رفع شأن عيسى وادعاء ألوهيته، والغلو: مجاوزة الحد. واعلم: أن الغلو والمبالغة في الدين والمذهب حتى يجاوز حده غير مرضي، كما أن كثيرا من هذه الأمة غلوا في مذهبهم. فمن ذلك مذهب الغلاة من الشيعة في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، حتى ادعوا ألوهيته ... ) . قلت: هذه كانت نصوص لهؤلاء العلماء من الحنفية في تفسير هاتين الآيتين، وهي كما ترى رد على اليهود والنصارى وإبطال لغلوهم. كذلك رد على القبورية وإبطال لغلوهم في الصالحين ووصفهم بصفات رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 وقد استدل كثير من علماء الحنفية بهاتين الآيتين وغيرهما على ذم الغلو وإبطال عقيدة القبورية في الغلو في الصالحين، وصرحوا بأن الغلو في الصالحين من أعظم أسباب الكفر والشرك وعبادة غير الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 المطلب الثاني في استدلال علماء الحنفية بالسنة على إبطال الغلو في الصالحين لقد استدل علماء الحنفية بعدة أحاديث على إبطال الغلو في الصالحين وذم أهل الغلو، أذكر منها ثلاثة أحاديث مع أقوال الحنفية في شرحها: الحديث الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» . وقد استدل علماء الحنفية بهذا الحديث على ذم الغلو. الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 «أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» . وقد استدل علماء الحنفية بهذا الحديث على ذم الغلو في الصالحين. وذكروا: أن الإطراء هو المديح بالباطل والإفراط في المدح ومجاوزة الحد والكذب فيه. كما فعلته النصارى في شأن عيسى عليه السلام حيث ادعت فيه الألوهية. واستدلوا به على إبطال عقيدة القبورية في الغلو في الصالحين، وصرحوا بأن سبب وقوع القبورية في أنواع من الشرك إنما هو غلوهم في الصالحين. الحديث الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا: «هلك المتنطعون» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 وقد استدل علماء الحنفية بهذا الحديث على ذم الغلو، وقالوا: إن المتنطع هو المتعمق المغالي في الكلام. ولا شك أن القبورية من أعظم المتنطعين المغالين في الصالحين الناذرين لهم والمستغيثين بهم عند الكربات * والعابدين لهم بأنواع من العبادات *. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 المطلب الثالث في نصوص علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في الغلو في الصالحين وتحقيق علماء الحنفية أن الغلو من أعظم أسباب وقوع القبورية في أنواع من الشركيات لقد ذكرت استدلال علماء الحنفية بالكتاب والسنة على إبطال عقيدة القبورية في الغلو في الصالحين. وفي هذا المطلب أذكر عدة أقوال لعلماء الحنفية في الرد على غلو القبورية في الصالحين وتحقيق أن سبب وقوع القبورية في الشرك- هو غلوهم في الصالحين: 1 -6- قال الإمام محمود الآلوسي (1170هـ) ، وتبعه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) ، والشيخ غلام الله الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن، والعلامة الرباطي، والعلامة الرستمي: (وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} [الحج:73] إلخ..- إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى، وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون: إنهم وسائلنا إلى الله ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 ورأيت كثيرا منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعا في قبورهم.. وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف ... قاتلهم الله. ما أجهلهم. وأكثر افتراءهم. ومنهم من يزعم: أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم يقولون: إنما تظهر أرواحهم متشكلة، وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد، أو غزال، أو نحوه ... وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة * وكلام سلف الأمة* وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة: من اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية، نسأل الله تعالى العفو والعافية) . 7 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (وقد علمت: أن الذي أوقع المشركين السابقين في شبكة الشرك هو غلوهم في المخلوق، وإثبات خصائص الألوهية لغير الله سبحانه، كما هو ديدن غلاة زماننا، كالعراقي [ابن جرجيس] وأضرابه) . 8 - وقال رحمه الله: (إن أريد بها [أي بالمبالغة في التعظيم]- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما- حتى الحج إلى قبره، والسجود له، والطواف به، واعتقاد: أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين* ويفرج كربات المكروبين* وأنه يشفع فيمن شاء * ويدخل الجنة من يشاء *- فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين. 9 - وقال رحمه الله: (ومن خصالهم [أي المشركين] الغلو في الصالحين من العلماء والأولياء ... ، فاتخاذ أحبار الناس أربابا، يحللون ويحرمون ويتصرفون في الكون وينادون في رفع ضر أو جلب نفع- من جاهلية الكتابيين، ثم سرت إلى غيرهم من جاهلية العرب، ولهم بقايا في مشارق الأرض ومغاربها، وهم الغلاة في أهل القبور، فإنك ترى غالب الناس اليوم معرضين عن الله، وعن دينه الذي ارتضاه متوغلين في البدع، تائهين في أودية الضلال الأشنع، معادين لكتاب الله والسنة ومن قام بهما، فأصبح الدين منهم في أنين* والإسلام في بلاء مبين*، والنبهاني له من ذلك الحظ الوافر ... والله المستعان) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 10 - وقال رحمه الله: (الثانية والأربعون: الغلو في الأنبياء، والرسل عليهم السلام ... والغلو في المخلوق أعظم سبب لعبادة الأصنام والصالحين، كما كان في قوم نوح من عبادة لنسر، وسواع، ويغوث، ونحوهم، وكما كان من عبادة النصارى للمسيح عليه السلام) . 11 - وقال رحمه الله: (وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية: مثل أن يقول: يا سيدي فلان، انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال- فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل ... ) . 11 - ومثله كلام للعلامة الخجندي رحمه الله (1379هـ) . 12 - وقال العلامة الخجندي (1379هـ) أيضا: (إن من أعظم مكائد الشيطان على بني آدم قديما وحديثا- إدخال الشرك فيهم في قالب تعظيم الصالحين وتوقيرهم بتغيير اسمه بالتوسل، والتشفع، ونحوه، فالمشرك مشرك شاء أم أبى، والزنا زنا وإن سمي جماعا، والخمر خمر وإن سمي شرابا ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 ومن الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره ... ، فلا أضل ممن دعا غير الله، وقد ثبت أن سبب كفر أكثر بني آدم وتركهم دينهم- هو الغلو في الصالحين، واتخاذهم شفعاء بدعائهم، وطلب رغبتهم والالتجاء إليهم، وهم أموات غافلون عنهم لا يقدرون ولا يسمعون لما طلبوه منهم وأرادوه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 الفصل الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية في حياة الأموات وسماعهم نداء المستغيثين بهم عند الكربات وفيه ثلاثة مباحث: - المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في حياة الأموات، وجعلها حياة دنيوية. - المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى نداء المستغيثين بهم عند النوازل. - المبحث الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية في حياة الأموات وسماعهم نداء المستغيثين بهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 المبحث الأول في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في حياة الأموات حياة دنيوية لقد سبق أن ذكرت: أن القبورية تعتقد أن الأموات من الصالحين ولا سيما الأنبياء والشهداء- أحياء في قبورهم حياة دنيوية جسدية، حسية، حقيقية، عنصرية، بل أعلى وأقوى من حياتهم الدنيوية، وقصدهم بذلك أن الأموات من الصالحين أحياءٌ يسمعون نداء المستغيثين بهم ويعلمون أحوال المستنجدين بهم، ليبرروا بهذا التمهيد الاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات. ولعلماء الحنفية نصوص ترد على عقيدة القبورية هذه، وحاصلها: أن الحياة البرزخية ثابتة لجميع الموتى، ولكن تلك الحياة تختلف عن الحياة الدنيوية لا تقاس عليها، فإن الحياة البرزخية لا تُحَسّ ولا تدرك بمشاعر الأحياء، قال الله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] . 1 - قال الإمام النسفي (710هـ) في تفسيره قوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] : (لا تعلمون ذلك، لأن حياة الشهيد لا تعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 حسا) . 2 - وقال الإمام أبو السعود العمادي (982هـ) : (ولكن لا تشعرون بحياتهم، وفيه رمز إلى أنها ليست مما يشعر به المشاعر الظاهرة من الحياة الجسمانية، وإنما هي أمر روحاني لا يدرك بالعقل، بل بالوحي) . 3 - وقال الإمام أبو منصور الماتريدي (333هـ) : (إن أرواح الشهداء في الغيب ... ) . 4 - وقال الإمام الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1170هـ) : (أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم بالمشاعر، لأنها من أحوال البرزخ التي لا يطلع عليها، ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي) . 5 - وقال رحمه الله: (وعندي: أن الحياة في البرزخ ثابتة لكل من يموت شهيد وغيره، وأن الأرواح- وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها- مغايرة لما يحس به من البدن، لكن لا مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف) . 6 - وقال رحمه الله أيضا: (وما يحكى من مشاهدة بعض الشهداء الذين قتلوا منذ مئات السنين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دما إذا رفعت العصابة عنها، فذلك مما رواه هيان بن بيان، وما هو إلا حديث خرافة * وكلام يشهد على مصدقية تقديم السخافة*) . قلت: الحاصل: أن الحياة البرزخية ليست من جنس الدنيوية، فللحياة الدنيوية أحكامها، كما أن للحياة البرزخية أحكامها، فلا تقاس الحياة البرزخية على الحياة الدنيوية البتة. وأقول: لقد بطل بتصريح هؤلاء الأعلام من الحنفية جميع أباطيل القبورية وأساطيرهم من سماع الأموات نداء الأحياء، وعلمهم بأحوال المستغيثين بهم، وتصرف الأرواح في الكون، وتشكلها بأشكال مختلفة، وإتيانها إلى بيوت أهل الدنيا، وإتيان الموتى بالأجساد العنصرية المادية الدنيوية، وخروجها من القبور لإغاثة المستغيثين وإنجاد المستنجدين، إلى غير ذلك من وثنيات القبورية التي ذكرت بعض الأمثلة منها. ولذلك قال الإمام الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد مبطلا مزاعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 القبورية الذين يزعمون أن الأرواح تتشكل وتأتي إلى بيوت أهل الدنيا وتنصر الأولياء، وتدمر الأعداء، ونقل كلامه كل من العلامتين: نعمان، وشكري، وشيخ القرآن، والشيخين الرباطي والرستمي: (ومنهم [أي من القبورية الغلاة] من يثبت التصرف لهم جميعا في قبورهم..، وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف، قاتلهم الله تعالى.. ما أجهلهم.. وأكثر افتراءهم.. ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم [أي أئمة القبورية] يقولون: إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد، أو غزال، أو نحوه؛ وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة* وكلام سلف الأمة*، وقد أفسد هؤلاء [أي القبورية وعلماؤهم] على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى، وكذلك لأهل النحل والدهرية. نسأل الله العفو والعافية) . وقال رحمه الله أيضا في إبطال قول من زعم: أن أرواح الأولياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 مدبرات لأمر هذا العالم، وتبعه حفيده شكري الآلوسي (1342هـ) واللفظ للجد: (وفي حملها [أي في حمل {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} ، [النازعات: 5] على النفوس الفاضلة [أي أرواح الأولياء] المفارقة [بعد موتهم]- إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول: من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم: بنحو من شفاء المريض، وإنقاذ الغريق، والنصر على الأعداء، وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى: أن الله تعالى فوض إليهم ذلك، ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء. والكل جهل، وإن كان الثاني أشد جهلا ... ) . قلت: الحاصل: أن الحياة البرزخية ليست حياة دنيوية، فلم يثبت أن الميت يتصرف في الأمور كما يتصرف الحي فيما تحت الأسباب. فبطل زعم القبورية: أن الأولياء بعد موتهم يسمعون نداء المستغيثين بهم وأصوات المستنجدين بهم، وأنهم يغيثونهم، ويعلمون بحالهم، بحجة أنهم أحياء حياة دنيوية جسدية محسوسة، ولذلك قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (وكون الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وكذا الخلص من عباد الله- أحياء في قبورهم حياة برزخية- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 لا يقتضي أن يثبت لهم شيء من خصائص الإلهية، كما أن حياتهم الحقيقية لا تقتضي ذلك) . وقال جده الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) في الرد على هؤلاء القبورية المعتقدين أن الأموات أحياء حياة دنيوية، المستغيثين بالأموات مبينا لهم: أن الأموات غافلون عن ندائهم: (إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات، وغيرهم: مثل يا سيدي فلان.. أغثني.. وليس ذلك من التوسل المباح في شيء ... واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وأن لا يحوم حماه، وقد عده أناس من العلماء شركا، وإن لا يكنه [على سبيل الفرض] فهو قريب منه، ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد: أن المدعو الحي الغائب، أو الميت المغيب، يعلم الغيب، أو يسمع النداء، ويقدر بالذات، أو بالغير على جلب الخير، ودفع الأذى، وإلا لما دعاه * ولا فتح فاه * وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله القوي الغني الفعال لما يريد، ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من: " «أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق رضي الله عنه: " قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 «هذا المنافق ". فجاءوا إليه فقال: " إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله تعالى» ". لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور - الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه* والإصاخة إلى أهل ناديه*- أمر يجب اجتنابه * ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه*، ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضي حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء، وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به، فيظن: أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات ... هيهات.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 إنما هو شيطان أضله وأغواه* وزين له هواه*، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام* ليضل عبدتها الطغام* وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له ... ولقد ساء ما يحكمون .... ) . قلت: الحاصل: أنه قد تبين من نصوص هؤلاء الأعلام من الحنفية أمور مهمة آتية، كلها تقضي على عقائد القبورية: الأول: أن الحياة البرزخية ليست حياة دنيوية محسوسة. الثاني: قياس الحياة البرزخية على الحياة الدنيوية باطل، لأنه قياس مع الفارق. الثالث: أن عقيدة تصرف الأرواح وتشكلها بأشكال مختلفة من العقائد الخرافية والأباطيل والأساطير. الرابع: أن عقيدة خروج الأرواح من القبور وإتيانها إلى أبواب أهل الدنيا ومناصرتها لأوليائها، وتدميرها لأعدائها، من أباطيل القبورية الوثنية. الخامس: أن إتيان الموتى إلى الدنيا بأجسادها العنصرية لفصل القضاء، وغيره من المهمات ومناصرة الأولياء، وتدمير الأعداء- من أعظم أباطيل القبورية الوثنية وأساطيرهم الخرافية. وأود أن أذكر ههنا نصين مهمين لعلماء الحنفية، لتكون فيهما عبرة للقبورية، ونكال للديوبندية: الأول: قول الفقهاء الحنفية: (إن من ظن: أن الميت ينصرف في الأمور دون الله، واعتقاده ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 كفر) . والثاني: قول الفقهاء الحنفية أيضا: (من قال: أرواح المشائخ حاضرة تعلم يكفر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 المبحث الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى نداء المستغيثين بهم عند النوازل والكلام ههنا في مقامين: المقام الأول: في عرض عقيدة القبورية في سماع الموتى. 1 - لقد اعتقد القبورية أن الموتى يسمعون كلام الأحياء ويسمعون نداء المستغيثين بهم. 2 - ولقد سبق بعض نماذج من خرافاتهم في سماع الموتى سماعا واسعا. 3 - وعلمهم الواسع بالمغيبات وبأحوال هذا الكون وبجميع ما في اللوح المحفوظ. 4 - ونظرهم الواسع على الكون وعلى اللوح المحفوظ. 5 - وقد صرحوا بأن الولي يصل إلى درجة يكون سمعه كسمع الله، وبصره كبصر الله، فلا تخفى عليه خافية كما لا تخفى على الله. 6 - وقالوا: إن سمع الأولياء وبصرهم وعلمهم وإدراكهم أقوى مما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 كان في حياتهم. 7 - وإن الولي أقوى تصرفا وسمعا لأصوات العالم. 8 - وإنه يسمع ما يقوله الزائر. 9 - وقالوا: (إن الميت يمسع تسبيح نحو الحشيش الذي لا يدرك للأحياء بنص الأئمة الذين هم عمدة أهل الفتوى [أئمة القبورية ومفتوهم] ، كيف ينفي السماع عن صوت المنادي له (أي الميت) ... ؟) . وقالوا: إن الميت يسمع قراءة القرآن حيث كانت القراءة. وإنه يسمع سلام الأحياء عليه. والميت إذا جاز أن يعلم جاز أن يسمع، لأن العلم يستلزم السماع. والأموات من المؤمنين يسمعون. والأموات أحياء في قبورهم يسمعون من يخاطبهم. 10 - وقالوا: قد صح للأموات المؤمنين الحياة ولوازمها من السمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 842 والبصر والكلام. 11 - وقالوا: إذا كان سماع الموتى ثابتا فأي حرج في نداء الأموات؟. 12 - وقد اهتم القبورية بمسألة سماع الموتى قديما وحديثا، لأن إثبات سماع الموتى من أعظم أدلتهم على جواز الاستغاثة بهم، فقد ألفوا في سماع الموتى عدة كتب. 13 - وأما التبويب وعقد الفصول والمقاصد ونحوها من العناوين البارزة في سماع الأموات * توصلا بذلك إلى جواز نداء الأموات عند الكربات* والاستغاثة بهم لدفع الملمات* فهو هجيري عامة القبورية في كتبهم القبورية الوثنية. 14 - قلت: سلف هؤلاء القبورية في كثير من هذه القبوريات، ولا سيما السماع لنداء المستغيثين- هو السبكي (756هـ) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 فإنه اهتم بهذا تمهيدا لجواز الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم. وتبعه القبورية بعده إلى يومنا هذا. فتراهم يبوبون ويعقدون فصولا وعناوين بارزة في سماع الموتى لأصوات المستغيثين بهم، وعلمهم بأحوالهم؛ ليتوصلوا بذلك إلى جواز الاستغاثة بالأموات عند نزول الكربات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 المقام الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى: لقد تصدى علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى وأبطلوها بعدة وجوه، أذكر منها عشرة: الوجه الأول: استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36] . قالوا في صدد تقرير استدلالهم بهذه الآية: " إن الله تعالى قد شبه الكفار بالموتى الذين لا يسمعون ". فدل على أن الموتى لا يسمعون. الوجه الثاني: استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80] . وتقرير استدلالهم بهذا الآية: أن الله تعالى شبه الكفار بالموتى الذين لا يسمعون، وبالصم الذين لا يسمعون إذا قابلهم الداعي المنادي، فكيف إذا كان الصم مدبرين بعيدين، فحينئذ لا يسمع الصم نداء الداعي بالطريقة الأولى. قال الشيخ الجنجوهي (1323هـ) : (استدل المنكرون [لسماع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 الموتى] ومنهم عائشة، وابن عباس، ومنهم الإمام [أبو حنيفة] بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، فإنه لما شبه الكفار بالأموات في عدم السماع - علم: أن الأموات لا يسمعون، وإلا لم يصح التشبيه ... ) . وقال: (إن في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} استعارة مصرحة، و" الموتى " مشبه بهم، و " الكفار " مشبهون، ووجه الشبه يكون أقوى في المشبه به , وإلا لم تصح الاستعارة) . وللإمام صنع الله الحلبي (1120هـ) كلام مهم في تفسير هذه الآية، لتحقيق أن الموتى لا يسمعون نداء المستغيثين بهم. الوجه الثالث: استدلالهم بقوله تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم: 52] وتقرير الاستدلال بعينه هو ما سبق في الآية التي قبلها آنفا، قال الإمام النسفي (710هـ) في تفسير هذه الآية، مبينا فائدة تقييد " الصم " بتولية الإدبار: (فإن قلت: الأصم لا يسمع مقبلا أو مدبرا، فما فائدة هذا التخصيص؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 قلت: هو [أي الأصم] إذا كان مقبلا يفهم بالرمز والإشارة، فإذا ولي لا يسمع ولا يفهم بالإشارة) . قلت: ويظهر من هذا أن الميت لا يسمع في حال من الأحوال، سواء كان مقبلا أو مدبرا، وأن الميت كما لا يسمع صوتا كذلك لا يفهم الرمز والإشارة أيضا. وللعلامة الآلوسي (1270هـ) تحقيق مهم في عدم سماع الموتى في تفسير هذه الآية. قلت: لقد ذكر علماء الحنفية أربعة فروق بين الميت وبين الأصم، لتحقيق أن الميت أبعد عن السماع من الأصم: الفرق الأول: قيد تولي الإدبار في الصم دون الموتى؛ فإن الأصم إذا كان مقبلا يفهم بالإشارة والرمز، بخلاف الميت- كما سبق آنفا في كلام النسفي. الفرق الثاني: أن الأصم قد يسمع في بعض الأحوال، فيمكن سماعه بخلاف الميت. الفرق الثالث: أن الأصم قد يمسع الصوت الهائل، كصوت الرعد القوي، بخلاف الميت. الفرق الرابع: أن الله تعالى لم يذكر المفعول الثاني حينما قال: {لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، لكنه ذكر المفعول الثاني حينما قال: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 فأطلق الإسماع في الموتى وقيده في الصم، لتحقيق: أن الموتى لا يسمعون شيئا من المسموعات على العموم. قال الآلوسي: (وإطلاق الإسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات) . الوجه الرابع: استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] . قالوا في تقرير الاستدلال بهذه الآية على نفي سماع الموتى: (المراد بيان كون الكفار بالنسبة إلى سماعهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم والوحي النازل عليه- دون حال الموتى؛ فإن الله يُسْمعُ الموتى إذا شاء والنبي صلى الله عليه وسلم لا يُسْمِعُ من مات وقُبِرَ؛ فالموتى سامعون من الله، والكفار كالموتى لا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم) . وقال التفتازاني (792هـ) : (وأما قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} - فتمثيل لحال الكفرة بحال الموتى، ولا نزاع في أن الميت لا يسمع) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 وقال الإمام ابن الهمام (861هـ) بعد ذكر قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} مستدلا بهما: (إنهما يفيدان تحقيق عدم سماعهم؛ فإنه تعالى شبه الكفار بالموتى لإفادة تعذر سماعهم، وهو فرع عدم سماع الموتى) . ونقل كلامه كثير من أعلام الحنفية وأقروه. الوجه الخامس: استدلال الحنفية بقوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] . وتقرير الاستدلال بهذه الآية على نفي سماع الموتى- 1- ما قاله الشيخ محمد حسين النيلوي، ومحمد أمير البنديالي - وهما من علماء الحنفية المعاصرة، واللفظ للأول-: (قد علمت ... ، أن عزيرا لم يعلم في هذه المدة الطويلة شيئا، ولم ير شمسا تطلع وتغرب، ولا قصرا، ولا نجما، ولا سحابا، ولم يحس مطرا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 ولم يسمع صوت الرعد ونحوه من الأصوات الهائلة، ولم يشعر مرور النهار، وكر الليالي، ولم يحس الحر ولا الزمهرير. ولو قلنا بشعوره وإحساسه لزم الكذب. 2 - وما قال غلام الله الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن في تفسير هذه الآية: (إن هذا النبي عزيرا عليه السلام قد أماته الله تعالى ليشاهد كيفية إحياء الموتى ثم مرّ عليه مائة عام وهو ملقى على ظهر الأرض غير مقبور، فلما أحياه الله وسأله: كم لبثت؟ - أجاب بالظن والتخمين فقال: لبثت يوما، أو بعض يوم، ولم يعلم أنه مرّ عليه مائة عام؛ فعلم من هذا: أن هذا النبي الجليل القدر عليه السلام- لم يشعر باختلاف الليل والنهار، ولم يعلم انقلابات الزمان طول هذه المدة فلو كان يعرف هذه الأمور ويشعر بها- لبين: أنه لبث مائة عام، ولم يقل: لبثت يوما أو بعض يوم، وقد علم من هذا الحادث الجلل: أن الموتى لا يسمعون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 لأن هذا النبي- عزيرا عليه السلام- لم يشعر بجميع تلك الانقلابات التي حدثت طول هذه المدة، ولم يعرف في مدة مائة عام الليل من النهار، كما أنه لم يسمع طول هذه المدة الطويلة أي صوت من الأصوات التي تحدث، مع أنه لم يكن مقبورا في بطن الأرض. بل كان ملقى على ظهر الأرض ... ، كما علم من هذه الواقعة المهمة: أن أرواح الأنبياء عليهم السلام لا توجد في أبدانهم المباركة بعد موتهم، وأن موتهم موت حقيقي، وأن حياتهم في القبور حياة برزخية، لا دنيوية ناسوتية) . قلت: لقد تبين من نصوص هؤلاء الأعلام من الحنفية عدة أمور: الأول: أن الأنبياء لا يعلمون الغيب، ولا سيما بعد الموت، فكيف يعلمه الأولياء؟.. الثاني: أن هذا النبي- مع كونه موضوعا على ظهر الأرض غير مقبور في بطنها- لم يشعر بأحوال هذه الدنيا واختلافها وانقلاباتها من ليل ونهار، وحرّ وقرّ. وصيف وشتاء، وشمس وقمر، ونجم وكوكب، وهب الرياح وسكونها، وأمطار وسحب، وكانت الشمس تطلع عليه، وتمطر عليه الأمطار، وتهب عليه الرياح، ويأتي عليه اختلاف الليل والنهار، وغير ذلك من أحوال هذا العالم، وما يحدث في هذا الكون، ولم يعلم شيئا من ذلك؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 حتى لم يدر المدة التي لبثها؛ فإذا كان الأمر كذلك- هو نبي، أو رجل صالح- على أقل تقدير- وكان مع ذلك موضوعا على وجه الأرض، ولم يكن مقبورا في بطنها- فكيف يطلع على أحوال المستغيثين به والمستنجدين به ... ؟؟ الثالث: أن هذا النبي إذا لم يعلم أحوال هذا الكون على التفصيل الذي ذكرت آنفا مع أنه ملقى على وجه الأرض- فكيف يعلمها الأولياء ... ؟ وكيف يطلع الأموات على أحوال المستغيثين بهم ... ؟ الرابع: أن حياة الأنبياء والأولياء والشهداء حياةً برزخيةً لا علاقة لها بأحوال هذا العالم، وأن حياتهم ليست من جنس الحياة الدنيوية، فلا يمكن قياس الحياة البرزخية على الحياة الدنيوية إطلاقا. الخامس: أن الأموات عامة سواء كانوا أنبياء، أو أولياء أو شهداء، أو غيرهم- لا يسمعون شيئا من الأصوات التي تحدث في هذا الكون: سواء كانت أصوات الرعد أو أصوات الرياح* أو أصوات السباع أو أصوات الأمطار في المساء والصباح* فضلا عن أصوات المستغيثين بهم ونداءهم عند الكربات* ودعائهم وصراخهم صراخ الثكالى عند إلمام الملمات والمهمات* السادس: أنه قد بطلت خرافات القبورية عامة، وخرافات الديوبندية خاصة، ومزاعمهم القبورية في حياة الأنبياء، والشهداء، وغيرهم، وسماع الموتى، وفي ذلك عبرة للقبورية، أيما عبرة، ونكال للديوبندية أيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 نكال..؛ وهكذا يفضح الله الخرافيين* ويخزي القبوريين الصوفيين * الوجه السادس: استدلال علماء الحنفية بقصة أصحاب الكهف على إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى. فقد قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} ..* {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ..* وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ... * ... {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 11، 18-19، 25-26] . وتقرير الاستدلال بهذه القصة القرآنية على نفي سماع الموتى: 1 - ما قاله الشيخان النيلوي والبنديالي من الحنفية المعاصرة: إن الله تعالى قد أنام أصحاب الكهف إنامة ثقيلة بحيث إن الأصوات لا تنفذ إلى مسامعهم، وضرب الله على آذانهم حجابا يمنع السماع، فناموا نومة لا توقظهم الأصوات؛ مع أن النائم إذا سمع الصوت ينتبه، ثم هؤلاء قد لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا، ومع ذلك لم يعرفوا ذلك، فقال بعضهم بالتخمين، والظن: " لبثنا يوما أو بعض يوم "، وقال بعضهم: " ربكم أعلم بما لبثتم "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 ولو كانوا يعلمون ذلك لكان كلامهم هذا كذبا محضا، ولكن لما كان كلامهم هذا مبنيا على الظن- لم يكن كذبا [بمعنى أنهم لم يأثموا بذلك، مع كونه خلافا للواقع؛ لأن النائم لا يمكن له أن يحصي مدة نومه، و (لما لم يسمعوا شيئا من الأصوات، ولم يحسوا شيئا مما في عالم الدنيا مع كونهم نياما أحياءً - فكيف بعد الممات لمثل هؤلاء الأولياء. فثبت عدم سماع الأموات من هذه الآية - بطريق دلالة النص، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 والدلالة كالعبارة في القطعية- على ما تقرر في الأصول ... ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 على أنا قد أنكرنا سماع الموتى والمثبتون يدعون سماع الموتى والدليل إنما يجب على المدعي دون المنكر، فإن المنكر يكفيه منع المقدمة في الدليل ... ) 2 - وما قال غلام الله الملقب بشيخ القرآن عند الحنفية (1980م) : (لقد تبين من قصة أصحاب الكهف عدة أمور مهمة: الأول: أن من آيات الله تعالى ما هو أعجب من قصة أصحاب الكهف. الثاني: أن نومهم طول هذه المدة إنما كان بمحض قدرة الله تعالى، وليس في ذلك أي دخل وقدرة لأصحاب الكهف. الثالث: أن أصحاب الكهف مع كونهم أولياء الله لم يكن في قدرتهم أن يدفعوا عن أنفسهم الأعداء؛ فاضطروا للفرار والهجرة حتى لجأوا إلى الغار فارين بدينهم، فلو كانوا يملكون النفع والضر والتصرف في الكون- لما لجؤوا إلى الفرار والدخول في الغار. الرابع: أنهم لأجل عجزهم كانوا يدعون الله تعالى أن يرحمهم ويحفظهم من كيد الأعداء؛ وهذا دليل على أنهم لم يكونوا يملكون شيئا من القدرة والتصرف في الكون والنفع والضر لأنفسهم، فكيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 لغيرهم ... ؟ الخامس: أن الله تعالى قد ضرب على آذانهم فناموا نومة ثقيلة لم يسمعوا شيئا من الأصوات طول تلك المدة؛ وقد مرّت عليهم أحوال هذا العالم، ولم يعلموا أنهم سينامون هذه النومة الطويلة؛ فدل على أنهم لم يكونوا يعلمون الغيب، ولم يكونوا متصرفين في الكون. السادس: أنهم لم يكونوا يستطيعون أن ينتبهوا من سباتهم الطويل طول هذه المدة؛ ولكن الله تعالى هو الذي أيقظهم من هذه النومة الطويلة، وهذا دليل عجزهم. السابع: أن أصحاب الكهف لم يعلموا: أنهم لبثوا ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا؛ فهذا برهان على أنهم لم يكونوا يعلمون الغيب، فهم إذ لم يعلموا أحوال أنفسهم- فهم بالطريق الأولى لم يكونوا يعلمون أحوال غيرهم. الوجه السابع: استدلال الحنفية بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر 13-14] . وتقرير الاستدلال بهاتين الآيتين على نفي سماع الموتى عامة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 وعلى نفي سماع الذين يدعونهم القبورية قديما وحديثا- موقوف على تمهيد مهم، وهو أن علماء الحنفية قالوا في تفسير هاتين الآيتين: إن هاتين الآيتين ليستا في الأصنام والأحجار والأشجار، بل هما في حق العقلاء من الأنبياء والأولياء والملائكة الذين كان المشركون يستغيثون بهم عند الكربات* وينادونهم عند إلمام الملمات * ويهتفون بأسمائهم لدفع البليات* ويصرخون مستنجدين بهم لقضاء الحاجات*؛ لأن هذه الصيغ المذكورة في هاتين الآيتين: نحو " الذين " و " يملكون "، و "تدعوهم"، و " لا يسمعوا "، و " ولو سمعوا "، و " ما استجابوا "، و " يكفرون "- من صيغ العقلاء؛ بل قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} صريح في أن المراد العقلاء؛ لأن الأحجار والأشجار والأصنام لا يعقل أن يقال فيها: إنهم يوم القيامة يكفرون بشرككم؛ ولو كان المراد الأصنام والأحجار والأشجار- لكان حق الكلام أن يقال: (والتي تدعونها من دونه ما تملك من قطمير، إن تدعوها لا تسمع دعاءكم، ولو سمعت ما استجابت لكم ... ) ؛ وهذا كله برهان باهر، وسلطان قاهر، على أن المراد أن المشركين كانوا يدعون عباد الله الصالحين من الأنبياء والأولياء دون الأصنام المجردة والأحجار الصرفة والأشجار البحتة؛ ثم قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 [يونس: 28-29] ، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ..* فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} ... [الفرقان17-19] . وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ... [المائدة: 116] ، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} ... [سبأ 40- 41] ؛ فدل هذا كله دلالة قاطعة على أن المراد أنهم كانوا يدعون الصالحين من الأنبياء والملائكة والأولياء؛ لأن هذه الصفات كلها من صفات ذوي العقول، وهذه الصيغ كلها لا تستعمل في اللغة العربية إلا في ذوي العقول؛ ثم من المعلوم: أنه ليس في العالم أحد يعبد هذه الحجارة المنحوتة ثم يقول: إنها إلهي؛ لأن هذا مخالف لبداهة العقل والعلم الضروري الحسي، فلا يعتقد أحد في حجارة منحوتة أنها إلهه؛ لعلمه علما ضروريا أنها ليست بإله ولا خالق ولا رب ولا رازق؛ بل كان المشركون يعتقدون في الأموات من الصالحين أنهم مجابو الدعاء، مقبولو الشفاعة عند الله تعالى؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 فكانوا يدعونهم وينادونهم على اعتقاد أنهم شفعاء لهم عند الله تعالى لا على اعتقاد أنهم هم المستقلون بالنفع والضر، المتصرفون في الكون بقدرتهم الذاتية، أو أنهم هم المالكون لهذا الكون؛ ثم اتخذوا على صورهم تماثيل وأصناما لتكون قبلة لعبادتهم لهؤلاء الصالحين؛ فكان المقصود عبادة هؤلاء الصالحين دون الأحجار والأصنام؛ فالقبورية الذين يقولون: " إن المشركين هم الذين كانوا يعبدون الحجارة، ومن لا يعبد الحجارة فليس بمشرك - فهم لا يعرفون معنى العبادة، ولا معنى الشرك، ولم يطلعوا على أحوال المشركين في القرون الخالية؛ نعم الأصل أن هذه الآيات وأمثالها كلها واردة في ذوي العقول من الأنبياء والملائكة والأولياء ولكن إن فرض أن من الناس من يعبد الأحجار والأصنام لذاتها- فهذه الآيات ترد عليهم بالطريق الأولى والأحرى. هذا هو خلاصة ذلك التمهيد الذي حققه علماء الحنفية في تفسير هاتين الآيتين. ثم قال هؤلاء الأعلام من الحنفية مستدلين بهاتين الآيتين على إبطال سماع الموتى: إذا تحقق أن هاتين الآيتين وأمثالهما في ذوي العقول من الصالحين كالأنبياء والأولياء- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 فاعلم أن الله تعالى قد صرح بأن هؤلاء الأنبياء والأولياء الذين ماتوا- لا يسمعون شيئا من دعاء هؤلاء المستغيثين بهم ونداءهم وصراخهم والهتاف بأسمائهم وأصواتهم، كما أنهم لا يملكون لأنفسهم من قطمير، فضلا عن غيرهم؛ فهاتان الآيتان من أعظم الحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، والأدلة السابغة* على إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى؛ فتحقق كالشمس في رابعة النهار*أن الموتى لا يسمعون ولا يميزون الليل من النهار*. وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) ، وتبعه شيخ القرآن (1980م) ، والشيخان: النيلوي، والبنديالي - وهم من علماء الحنفية المعاصرين- واللفظ للأول: ( [قوله تعالى] : {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} - استئناف مقرر لما قبله كاشف عن جلية حال ما يدعونه بأنه جماد ليس من شأنه السماع. هذا إذا كان الكلام مع عبدة الأصنام، ويحتمل أن يكون [الكلام] مع عبدتها، وعبدة الملائكة، وعيسى، وغيرهم من المقربين وعدم السماع حينئذ: إما لأن المعبود ليس من شأنه ذلك [أي السماع] كالأصنام، وإما لأنه في شغل شاغل وبعد بعيد عن عابده كعيسى عليه السلام، وروي هذا عن البلخي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 أو لأن الله عز وجل حفظ سمعه من أن يصل إليه مثال هذا الدعاء، لغاية قبحه وثقله على سمع من هو في غاية العبودية لله سبحانه ... ؛ {وَلَوْ سَمِعُوا} على سبيل الفرض والتقدير- {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ؛ لأنهم لم يرزقوا قوة التكلم، والسماع لا يستلزم ذلك ... ) . قلت: الحاصل: أنه قد تبين من هذه المباحث للحنفية أن الموتى لا يسمعون أصوات أهل هذا الكون من الأحياء، فبطل سعي المستغيثين بغير الله تعالى، لأن هؤلاء الأموات لا يسمعون نداءهم ودعاءهم فضلا عن أن يملكوا لهم من قطمير. الوجه الثامن: استدلال علماء الحنفية الرادين على القبورية بقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6] . وطريق الاستدلال وتقريره بهاتين الآيتين على إبطال عقيدة القبورية في سماع الموتى - هو بعينه ما سبق في الوجه السابق من التمهيد الذي ذكره الحنفية: من أن هاتين الآيتين وأمثالهما في حق ذوي العقول الصالحين من الأنبياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 863 والملائكة والأولياء، وإذا تحقق هذا فهاتان الآيتان صريحتان في أن الذين يدعونهم هؤلاء المستغيثون- هم غافلون عن دعائهم فضلا عن أن يسمعوا نداءهم وصراخهم، فلا يعلمون أحوالهم فضلا عن أن يملكوا لهم نفعا وضرّا؛ بل هم يوم القيامة يكونون أعداء لهم كافرين بنداءهم واستغاثتهم ونذورهم، فضلا عن أن يكونوا أولياء لهم ينصرونهم ويحبونهم؛ ولو فرض أن أمثال هذه الآيات تشمل الأصنام والأحجار أيضا- فالأصنام والأحجار لا تسمع نداء المستغيثين بها بالطريق الأولى. فالحاصل: أن المستغيثين بالأموات * عند إلمام الملمات لدفع المضرات وقضاء الحاجات* - هم أشد ضلالا وأبعد غورا في الضلال من كل ضال، حيث ينادون من لا يرى ولا يسمع* ولا يضر ولا ينفع ولا يجلب ولا يدفع*، هذا هو ما يهدف إليه كلام هؤلاء العلماء من الحنفية. الوجه التاسع: قول علماء الحنفية في صدد بيان مسألة التلقين. لقد ذكر فقهاء الحنفية أن المحتضر يلقن الشهادتين، والمحتضر من قرب من الموت، فيلقن الشهادتين تذكيرا له وتثبيتا لجنانه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 864 وهذه الفائدة لا توجد بعد موته، وقد صرحوا أن بناء هذه المسألة على مسألة أخرى: وهي أن الميت لا يسمع عند الحنفية وللإمام ابن الهمام (861هـ) رحمه الله كلام مهم جدّا في هذا الباب. الوجه العاشر: قول علماء الحنفية في صدد بيان مسألة الحلف في الكلام والضرب والزيادة ونحوها: لقد صرح فقهاء الحنفية قديما وحديثا بأن من حلف أن لا يكلم فلانا أو لا يضربه أو لا يزوره، ونحو ذلك من الأيمان- تقيد يمينه بحال الحياة؛ فلو كلمه بعد موته لا يحنث؛ لأن المقصود من الكلام الإفهام، والموت ينافيه؛ لأن الميت لا يسمع، فلا يفهم؛ لعدم السماع للميت، ولو ضربه بعد موته لا يحنث؛ لأن الضرب اسم لفعل مؤلم يتصل بالبدن؛ والإيلام لا يتحقق في الميت، ولو زاره بعد موته لا يحنث؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 865 لأن الميت لا يزار وإنما يزار قبره لا هو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 866 قلت: الحاصل: أنه قد تبين من نصوص هؤلاء العلماء من الحنفية أن الأموات لا يسمعون شيئا من أصوات أهل هذا العالم ألبتة، ولكن إذا أراد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع، نعم.. إن الله تعالى إذا أراد أن يسمع ميتا- فهو على ذلك قدير؛ فالله سبحانه وتعالى يسمع الجبال والأحجار والأشجار، ولا كلام لنا في قدرة الله تعالى. فالميت في عدم السماع لأصوات أهل هذا العالم- كالجماد من الأحجار والأشجار، فمن استغاث بالأموات* عند إلمام الملمات والكربات* فهو كمن استغاث بالأحجار* أو استنجد بالأشجار* وبذلك قد تبين سفاهة القبورية الوثنية المستغيثين بالأموات* تاركين الاستغاثة برب البريات لدفع البليات وجلب الخيرات* فانقلعت شبهة سماع الأموات من جذورها. ويحسن أن أسوق بعض نصوص أئمة الحنفية لتحقيق أن الأموات لا يسمعون نداء المستغيثين بهم عند الكربات * ولا دعاءهم ولا صراخهم وأصواتهم وضجيجهم عند البليات*: 1 - قال العلامة النيلوي أحد كبار علماء الحنفية المعاصرة في الرد على مزاعم القبورية عامة والديوبندية خاصة، مبينا عقيدة الإمام أبي حنيفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 867 رحمه الله (150هـ) : (رأى الإمام أبو حنيفة من يأتي القبور بأهل الصلاح، فيسلم ويخاطب ويتكلم ويقول: يا أهل القبور هل لكم من خير، وهل لكم من أثر؟ إني أتيتكم وناديتكم من شهور، وليس سؤالي منكم إلا الدعاء، فهل دريتم أم غفلتم؟ فسمع أبو حنيفة يقول يخاطبه بهم فقال: هل أجابوا لك؟ قال: لا! فقال: سحقا لك، وتربت يداك!؛ كيف تكلم أجسادا لا يستطيعون جوابا، ولا يملكون شيئا، ولا يسمعون صوتا؟؛ وقرأ: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] ... ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 868 2 -7- وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) ، وتبعه العلامتان: ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) ، والشيخان الرباطي والرستمي، واللفظ للأول: (وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع * ولا يرى ولا يسمع*) . 8 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبينا عقيدة القبورية في سماع الأموات، مبطلا عقيدتهم الوثنية هذه، مبينا أن هؤلاء الغلاة من الزنادقة المشركة: (وهذا الذي ذكرناه: من أن الغلاة [من القبورية] يعتقدن في النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه - هو مما لم يمكنهم إنكاره، كيف؟ والنبهاني - على ما أسلفناه- يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان وزمان. وقد تكلمت يوما مع أحد غلاة الرفاعية الزنادقة ومشركيهم إذا استغاث بالرفاعي قبل الشروع في ذكرهم [أي وردهم الشركي] فقلت له: هل يسمع الآن نداءك الرفاعي؟؟؟؛ وهو في قبره في أم عبيدة!!!، ويمدك؟؟؟ قال:نعم؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 869 فقلت له: فإذا اتفق مثلك في بلاد كثيرة، ومواضع متعددة ألوف مؤلفة، وإن كانوا في أقطار شاسعة!! فهل يسمعهم أحمد الرفاعي ويغيثهم؟ قال: نعم, قلت: هذا هو الغلو الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم، قال: ليس هذا من الغلو، بل هو مقتضى الدين؛ ألم تسمع حديث الأولياء؟: وهو قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري: «وما زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ... » الحديث. فظن هذا الغبي الجاهل: أن معناه ما يعتقده إخوانه أهل الزيغ والإلحاد: من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات- أنه يصير في معنى الحق [يعني الله] ؛ تعالى الله عن ذلك ... ) . ثم بين رحمه الله المعنى الصحيح لهذا الحديث، وردَّ على إلحاد هؤلاء القبورية الصوفية الزنادقة الملاحدة المحرفة للدين تحريفا قرمطيّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 باطنيّا، ثم قال: (والمقصود: أن الغلاة [القبورية] يعتقدون: أن الولي يعلم كما يعلم الله، ويبصر كما يبصر الله، ويسمع كما يسمع الله، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟؟؟؛ وهو سيد الأولياء والأصفياء؟؟؟؛ فلا بد أنهم يعتقدون [فيه] فوق اعتقادهم في الولي ... ) . 9 - وقال رحمه الله أيضا: (ومن العجيب: أن كثيرا من الغلاة أهل القبور الذين يندبون الصالحين ويستغيثون بهم ويستمدون منهم- في السراء والضراء* والشدة والرخاء* يعتقدون: أن مدعويهم يسمعون الأصوات* سواء في ذلك من قرب ومن كان في أبعد الجهات* وإذا توجهت إلى أحدهم سهام الطعن- يقول: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: « ... كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ... » الحديث؟؟؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 871 وقد حمله بعض أهل الزيغ [من القبورية الصوفية الاتحادية والحلولية] على ما يدعونه: من أن العبد إذا لزم العبادة الظاهرة والباطنة، حتى يصفى من الكدورات- أنه يصير في معنى الحق [يعني الله تعالى] . تعالى الله عن ذلك ... وقد تكلمت مع بعضهم [من هؤلاء القبورية الصوفية الحلولية الوثنية] يوما، حيث استمد بأحد الشيوخ الذين أماتهم الله تعالى منذ مئين من السنين [وهو الرفاعي كما سبق قريبا] ، فزعم أنه يحضر روحه فينال الاستفاضة منه، فقلت له: بينك وبين مدعوك هذا عدة فراسخ وأميال!؟!، وربما كان مثلك في مائة بلد وأكثر!!، وكلهم استمدوا من الشيخ [الرفاعي] في آن واحد!!؛ فهل يسمعهم [ويسمع نداءهم وصراخهم وأصواتهم] ؟؟؟، و [هل] يحضر عندهم جميعا؟؟؟، قال: نعم. قلت: قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171، والمائدة:77] . قال: هذا ليس من الغلو؛ وذكر الحديث السابق: [ .... كنت سمعه ... ] ، قال: فإذا كان الله سمع المقربين بالنوافل- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 872 لا يستغرب مثل ذلك [يعني حضور الولي في كل مكان وزمان، وسماعه لجميع الأصوات وعلمه بحال جميع الناس] ، فإن الله تعالى لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. قلت: فإذن تعددت الآلهة؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا؛ حيث لم يبق فرق عند هؤلاء الزنادقة بين الله سبحانه، وبين من يدعون: أنه كان يتقرب بالنوافل ... ) . 10 - وقال العلامة الخجندي (1397هـ) في كلام طويل حاصله: أن من اعتقد أن أوراح المشائخ حاضرة وتعلم يكفر، ومن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله يكفر، ومن اعتقد أن المرشدين حاضرون، أو أن الأموات حاضرون- فقد كفر؛ لأن الأموات لا علم لهم بحال الأحياء، ومن اعتقد أن الجيلاني غوث أعظم يسمع نداء المستغيثين به، فعقيدته تخالف الإسلام، وتجر إلى الشرك، والغوث الأعظم هو الله؛ والأولياء لا قدرة لهم على سمع نداء المستغيثين بهم، ومن اعتقد في غير الله أنه حاضر وناظر في كل زمان ومكان فقد أشرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 873 قلت: بعدما عرفنا بطلان عقيدة القبورية في سماع الموتى- وأنها عقيدة شركية- ننتقل إلى المبحث الآتي؛ لنعرف جهود الحنفية في إبطال شبهات القبورية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 874 المبحث الثالث في إبطال علماء الحنفية لشبهات القبورية في حياة الأموات وسماع الموتى للقبورية شبهات كثيرة تشبثوا بها لإثبات زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، وأن الموتى يسمعون كلام الأحياء ونداءهم واستغاثتهم بهم، وأقوى هذه الشبهة وأشهرها أربع: شبهتان تتعلقان بحياة النبي صلى الله عليه وسلم في القبر حياة دنيوية. وشبهتان تتعلقان بسماع الموتى لكلام الأحياء ونداءهم. وقد أبطلها علماء الحنفية فجعلوها كأمس الدابر. وفيما يلي ذكرها مع جهود علماء الحنفية في إبطالها: الشبهة الأولى: أن القبورية عامة، والديوبندية خاصة، تشبثوا لإثبات زعمهم القبوري: أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، بقوله تعالى: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] ؛ قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، ولذلك لا تجوز مناكحة أزواجه صلى الله عليه وسلم، لأن الحي لا يجوز نكاح زوجته. وقد أجاب عن هذه الشبهة علماء الحنفية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 875 بأن هذه مغالطة مكشوفة، ودجل شيطاني قبوري وثني، وليست علة حرمة نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لأجل أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، بل علة حرمة نكاح أزواجه صلى الله عليه وسلم، لأجل أنه صلى الله عليه وسلم بمنزلة الأب لأمته، وأن أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، كل ذلك احتراما له صلى الله عليه وسلم وإكراما لأزواجه رضي الله عنهن؛ قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] ، وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم) . وفي مصحف أبي بن كعب رضي الله عنه: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) . وقد ذكر علماء الحنفية في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 876 عدة علل لتحريم نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. منها إكرام النبي صلى الله عليه وسلم واحترامه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم، وأن فيه أذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ينافي غيرته صلى الله عليه وسلم، وأن المرأة تكون لآخر زوجها في الجنة. ولم يذكر أحد أن العلة هو حياة النبي صلى الله عليه وسلم حياة دنيوية، بل قالوا: إن مطلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا لا تحل لأحد. قلت: لو كانت العلة الحياة- لجاز نكاح مطلقته صلى الله عليه وسلم، وبهذه التحقيقات بطلت هذه الشبهة من أصلها والحمد لله. الشبهة الثانية: هي زعم القبورية عامة، والديوبندية خاصة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، ولذلك لا تورث تركته، فإن الحي لا يورث. وقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة: بأن العلة لعدم كون تركة النبي صلى الله عليه وسلم تورث - إنما هي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 وقد صرح علماء الحنفية في شرح هذا الحديث بأن ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صدقة لا تورث، وأن الحكمة في سبب عدم ميراث الأنبياء عليهم السلام: أنه لا يظن بهم أنهم جمعوا المال لورثتهم. أو لئلا يخشى على وارثهم أن يتمنى لهم الموت فيقع في محذور عظيم. أو لأن الأنبياء كالآباء لأممهم، فمالهم حق لأممهم جميعا، لا لفرد واحد منهم. وهذا معنى الصدقة، فمالهم صدقة على أممهم جميعا. قلت: لقد تبين بهذا التحقيق بطلان هذه الشبهة القبورية، وقضي عليها بحمد الله تعالى. الشبهة الثالثة: تشبث القبورية بحديث قليب بدر، وهو «أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وقد ألقى فيها القتلى من صناديد قريش، فقال لهم: " أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا ... "؟ قال عمر: يا رسول الله! كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ قال: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» ... " الحديث. وقد استدل بهذا الحديث عامة القبورية على سماع الأموات * ليتوسلوا بذلك إلى جواز الاستغاثة بهم عند الكربات * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 878 الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بأن هذا كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خاصا به صلى الله عليه وسلم. وقد أحياهم الله تعالى ليسمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، توبيخا لهم، وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما؛ فلا دلالة في هذا الحديث على أن جميع الموتى يسمعون؛ فلا يقاس عليهم غيرهم. قلت: ويؤيد ذلك قول قتادة الراوي عن أنس رضي الله عنه: (أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 879 الحاصل: أن هذا الحديث خارج عن موضوع النزاع، لأنه في الأحياء لا في الأموات. ولأنه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الخارقة للعادات* لا في سائر الأموات ولا سائر الأحوال والأوقات* فبطل استدلال القبورية به على ثبوت سماع الأموات* تمهيدا لجواز الاستغاثة بهم عند إلمام الملمات* أقول: حديث القليب هذا من أعظم الحجج الساطعة والبراهين القاطعة على نفي سماع الأموات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كلم هؤلاء الكفار الموتى الملقون في القليب-قليب بدر- استغرب ذلك عمر بن الخطاب جدّا وقال أمام بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: (يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟؟؟) . وفي لفظ: (يا رسول الله، كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟؟؟) . وفي لفظ: (يا رسول الله، كيف يسمعوا؟؟؟ وأنى يجيبوا؟؟؟ وقد جيفوا ... ) . فدل ذلك على أن عقيدة الصحابة رضي الله عنهم: أن الأموات لا يسمعون، ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على استغراب عمر، واستبعاده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 880 الشبهة الرابعة: تشبثت القبورية بحديث قرع النعال، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحاب، وإنه ليسمع قرع نعالهم- أتاه ملكان فأقعداه ... » الحديث. قالوا: إن هذا الحديث يدل على أن الأموات يسمعون، فثبت سماع الأموات* فجاز نداؤهم عند الكربات*. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية بعدة أجوبة أذكر منها ثلاثة: الجواب الأول: أن هذا الحديث غاية ما فيه أنه يدل على أن الميت يسمع قرع نعال الناس أول ما يوضع في القبر، فالدعوى أعم من الدليل، والدليل أخص من الدعوى؛ لأن الدعوى: أن الميت يسمع كل حين جميع أصوات المستغيثين به، فلا مطابقة بين المدعى وبين الدليل، وقالوا: لا بد أن يحمل هذا الحديث على أول وضع الميت في القبر جمعا بينه وبين قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] ، وقوله سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] ؛ لأنهما يفيدان تحقيق عدم سماعهم، فلا بد من حمل هذا الحديث على أول وضعه، دفعا للتعارض بين هاتين الآيتين وبين هذا الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 881 الجواب الثاني: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن الميت تعاد إليه روحه عند سؤال الملكين؛ قال العيني (855هـ) : (جاز أن يكونوا سامعين، إما بآذان إذا قلنا: إن الأرواح تعاد إلى الأجساد عند المسألة، وهو قول الأكثر من أهل السنة ... ) . قلت: إذا كان الأمر كذلك فهذا الحديث يكون خارجا عن محل النزاع، لأن النزاع في سماع الميت، لا في سماع الحي. قال العلامة عبد السلام الرستمي حفظه الله- وهو من كبار علماء الحنفية الرادين على القبورية-: (ويدل عليه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في عذاب القبر طويلا وفيه: " وتعاد روحه في جسده ... ". رواه أحمد، وأبو داود، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 882 ومشكاة، ص26 ج1) . الجواب الثالث: أنه لا يلزم من سماع قرع النعال سماع الكلام. قال العلامة عبد السلام الرستمي حفظه الله: (والجواب الثالث: على تقدير الظاهر: أن الثابت منه سمع خفق النعال فقط، لا سمع الكلام، ولا فهم الكلام، كما أن من كان تحت السقف، وفوق السقف رجل يمشي على السقف ويتكلم فالذي تحته لا يسمع كلامهم ولا يفهم، نعم يسمع خفق نعاله فقط) . قلت: الحاصل: أنه قد تبين من هذه التحقيقات الحنفية أنه لا يوجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 883 أي دليل ولا شبه دليل يدل على سماع الأموات* كل وقت وحين جميع أصوات المستغيثين بهم عند الكربات* بل الحجج السابقة براهين باهرة، وسلاطين قاهرة على أن الأموات* لا يسمعون نداء المستغيثين بهم لدفع المضرات، وجلب الخيرات* وأن القبورية في عقيدتهم وغلوهم في حياة الأموات وسماعهم في أقبح السفاهات* وأن وصفهم للموتى بسماع جميع الأصوات في كل الأوقات* وعلمهم بأحوال الكون من أعظم الوثنيات* وللعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) كلام مهم حقق فيه أن القول بأن الأنبياء والأولياء يسمعون أصوات العباد كلهم، وأصوات الخلائق كلها، وأنهم يعلمون ما يفعله العباد كلهم، ويجيبون دعاءهم- كفر من جنس قول النصارى في المسيح، وأنه شرك وتأليه لغير الله، فليس هذا إلا لله وحده الذي يسمع أصوات الخلائق كلهم. تنبيه النبيه: لقد أجاب الفنجفيرية من الحنفية الماتريدية النقشبندية الديوبندية عن هذا الحديث الصحيح، وحديث قليب بدر- وغيرهما- بأنها من أخبار الآحاد الظنية المخالفة لقطعيات القرآن - فلا يؤخذ بها، إذ لا عبرة بالظن في باب الاعتقادات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 884 قلت: هذا فاسد باطل* كاسد عاطل* لأن هذا من خرافات الجهمية وأفراخهم الماتريدية والحق أن مثل هذه الأحاديث المحتفة بقرائن الصحة، ولا سيما أحاديث الصحيحين- قطعية مفيدة للعلم القطعي النظري. وأقول: لما عرفنا بطلان عقيدة القبورية في الحياة والسماع للأموات*- بطلت عقيدتهم في الاستغاثة بهم عند الكربات* والآن ننتقل إلى الفصل الآتي- لنعرف بطلان زعمهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم نور، لا بشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 885 الفصل الثالث في جهود علماء الحنفية في إبطال غلو القبورية بجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم نورا لا بشرا وفيه مبحثان: - المبحث الأول: في ذكر كلام بعض علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبورية هذه. - المبحث الثاني: في تنبيهات ثلاثة على فوائد ثلاث لشرح الكلام السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 887 المبحث الأول في ذكر كلام بعض علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبورية من أن النبي صلى الله عليه وسلم نور لا بشر من السفاهات العجيبة، والحماقات الغريبة، التي ارتكبها كثير من القبورية، ولا سيما البريلوية- هي عقيدتهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم نور لا ظل له كما سبق. ولما كانت هذه العقيدة من أعظم السفاهات والسفسطات* وتخالف العلوم الضرورية والمحسوسات والبديهيات*- أردت أن لا أطول فيها وأكتفي بنبذة يسيرة من كلام علماء الحنفية في إبطال هذه السفسطة؛ وأحسن ما وجدت من كلام علماء الحنفية في إبطال هذه العقيدة، من ناحية الاختصار والقوة والنصيحة والجامعية- هو كلام الشيخ المفتي رشيد أحمد اللديانوي أحد كبار علماء الحنفية المعاصرة؛ فأكتفي به، فأقول: لقد سئل الشيخ المفتي رشيد أحمد اللديانوي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 889 ما حكم من يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نور، بينوا تؤجروا؟؟؟ فقال في الجواب: الجواب باسم ملهم الصواب: لقد أطلق على النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نور؛ ومعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم نور بمعنى أنه على الهداية التامة من الله، وأنه هاد لغيره إلى صراط مستقيم، وبهذا المعنى يصح أن يقال: أن جميع الأنبياء عليهم السلام أنوار، لأنهم على الهداية وأنهم هداة الأمم، فالنور ههنا بمعنى الهداية [والهادي] ؛ وبهذا المعنى يصح أن يقال: إن كل مؤمن على نور من الله تعالى، أي على الدين والإيمان؛ كما قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] ؛ فالهداية نور، والضلالة ظلمة، فالهداية نور باطني، كما أن الشمس والقمر والنجوم أنوار ظاهرية، والنور الباطني أفضل من النور الظاهري؛ ولذا نقول: إن المؤمن أشرف المخلوقات، فضلا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الرسل الذين هم أفضل بني آدم؛ فمن أنكر بشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله نورا لا ظل له كنور الشمس والقمر والنجوم مثلا- فقد استخف برسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة التعظيم، وصار هذا المحب كالصديق الأحمق الذي يضر بصديقه لحماقته وبلادته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 890 فهو أخس من العدو العاقل وأضر؛ فإن الله تعالى قد أمر الملائكة أن تسجد إلى آدم؛ فدل هذا على أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ فلا منافاة بين كونه صلى الله عليه وسلم بشرا وبين كونه نبيّا ورسولا، كما أنه لا منافاة بين كونه صلى الله عليه وسلم نورا بمعنى هاديا، وبين كونه بشرا؛ والحقيقة أن من يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نور لا بشر ويرى المنافاة بين البشرية والرسالة- فقد اعتقد عقيدة الكفار السابقين المنكرين للرسل عليهم السلام، الذين كانوا يرون المنافاة بين الرسالة والبشرية. وقد رد الله عليهم في عدة مواضع من كتابه الحكيم. الغرض: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نور أيضا بمعنى الهادي، وبشر أيضا، فمن أنكر كونه صلى الله عليه وسلم بشرا- فقد كفر؛ لأنه إنكار لعدة نصوص قرآنية، واستخفاف برسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: لما كان كلامه مجملا- أردت أن أفصله وأبرهن عليه في المبحث الآتي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 891 المبحث الثاني في تنبيهات ثلاثة على فوائد ثلاث لشرح الكلام السابق التنبيه الأول: أن قوله: (وقد رد الله عليهم في عدة مواضع من كتابه الحكيم) . يشير به إلى تلك الآيات التي رد الله تعالى فيها على المشركين السابقين المنكرين للرسل. حيث كانوا يزعمون أن الرسول لا يكون بشرا، 1- كما قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود:27] . 2 - وقال سبحانه: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] ، 3- وقال جل وعلا: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94] . 4 - وقال عز وجل: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] . 5 - وقال جل جلاله: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [المؤمنون: 24] ، 6- وقال تباركت أسماؤه: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 893 {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34- 35] . 7 - وقال جلت صفاته: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] . 8 - وقال جل مجده: {قَالُوا .... * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ... [الشعراء: 153-154] . 9 - وقال سبحانه: {قَالُوا ... * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ... [الشعراء: 185- 186] . 10 - وقال تعالى: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] . 11 - وقال سبحانه: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24] . 12 - وقال جل وعلا {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] . وغيرها من الآيات؛ وفيها دليل على أن عقيدة إنكار كون النبي صلى الله عليه وسلم بشرا هي بعينها عقيدة المشركين السابقين؛ فالبريلوية ومن على شاكلتهم من القبورية الغلاة في الحقيقة خلف لهؤلاء السلف من كبار الكفار المشركين الذين كانوا منكرين لبشرية الرسل، ويعتقدون أن الرسل ليسوا من جنس البشر!!! التنبيه الثاني: أن قوله: (لأنه إنكار لعدة نصوص قرآنية) يشير به إلى تلك الآيات التي بين الله تعالى فيها للمشركين أن الرسل إنما هم بشر مثلكم- في أنهم من بني آدم، وأنهم رجال، وأنهم معروفون بالنسب فيكم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 894 يأتي عليهم مثل ما يأتي على بني آدم من عوارض البشرية، كالنسيان، والعجز، والمرض، والجوع، والعطش، والزواج، والذرية، ونحو ذلك؛ غير أن الله تعالى أكرمهم بالرسالة، وفضلهم، ومنّ عليهم، وجعلهم هداة للأمم؛ 1- كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109] . 2 - وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] ، 3 - وقال جل وعلا: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] ، 4 - وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل: 43] ، 5 - وقال سبحانه: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:93] ، 6 - وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110، وفصلت: 6] ، 7 - وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ... * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: 7- 8] ، 8 - وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] ؛ وهذا في الجواب عن شبهة المشركين وقولهم فيما حكاه الله عنهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 895 {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] ، وغيرها من الآيات الكريمات التي تدل على أن جميع الرسل عليهم السلام وعلى رأسهم أبو القاسم محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بشر، وأنهم في العوارض البشرية مثل سائر الناس، وأن لهم آباء وأبناء وأزواج، ومأكل ومشرب، وحوائج بشرية، وأنهم مركبون من اللحم والشحم والعظام. التنبيه الثالث: أن هذه الآيات براهين باهرة، وسلاطين قاهرة على سفاهة البريلوية وغيرهم من القبورية - الذين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نور لا بشر، وأنه لا ظل له؛ ومعنى ذلك أنه كان نورا حسيا شفافا كالزجاج، وتدل هذه الآيات أيضا على أن هؤلاء القبورية في اعتقادهم هذا على اعتقاد المشركين السابقين، وبينهم جميعا قدر مشترك في هذه العقيدة؛ وهو أن المشركين السابقين وهؤلاء القبورية يرون المنافاة بين البشرية والرسالة، هذا هو القدر المشترك، ولكن ههنا فارق بين المشركين السابقين وبين هؤلاء القبورية، وهو أن المشركين السابقين كانوا يشاهدون بشرية الرسل فلم يمكن إنكار بشريتهم؛ لأن إنكار الحس والمشاهدة لا يصدر إلا من مجنون. ولكن أنكروا رسالتهم، لأن رسالتهم لم تكن من الأمور المحسوسة؛ فقالوا: أنتم بشر، فكيف تدعون الرسالة؟!؟ أما هؤلاء القبورية- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 896 فهم يؤمنون برسالة الرسل؛ لأنهم منتسبون إلى الإسلام، والإيمان بالرسل من ضروريات هذا الدين؛ بحيث لم يشتبه على أحد من الرجال والنساء، ولكنهم لما لم يشاهدوا بشريتهم، وكانوا من الغلاة في التعظيم- أنكروا بشرية الرسل عليهم السلام، فهذا هو الفارق بين هؤلاء القبورية وبين الوثنية الأولى، وإلا فهم جميعا مشتركون في القدر المشترك من أصل هذه العقيدة الفاسدة، وهو زعم المنافاة بين البشرية والرسالة. وبعد هذا ننتقل إلى الباب السادس؛ لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة علم الغيب، والتصرف في الكون لغير الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 897 الباب السادس في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب والتصرف في الكون للصالحين بل للطالحين وفيه ثلاثة فصول: - الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله. - الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في التصرف في الكون لغير الله. - الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها في علم الغيب والتصرف في الكون لغير الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 899 الفصل الأول في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله سبحانه وفيه مطالب ثلاثة: - المطلب الأول: في استدلال علماء الحنفية ببعض الآيات الكريمة على إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله. - المطلب الثاني: في استدلال علماء الحنفية ببعض الأحاديث الصحيحة على إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله تعالى. - المطلب الثالث: في نصوص علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله وتصريحهم بأن هذه العقيدة شرك وكفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 901 كلمة بين يدي هذا الفصل لقد ذكرت أمثلة من أعاجيب غلو القبورية في زعمهم أنواعا من العلوم بالمغيبات للصالحين [بل للطالحين] : من علم ما في اللوح المحفوظ، وعلم ما في الكون كله، وعلم ما في الدنيا والآخرة، وعلم ما كان وما يكون أزلا وأبدا- إلى غير ذلك من الغلو الذي هو شرك صراح، وكفر بواح، وقد ذكرت بعض جهود علماء الحنفية إجمالا في إبطال عقيدة القبورية في غلوهم في الصالحين، وفي هذا الفصل أذكر بعض جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب للصالحين أحياءً وأمواتا من الأنبياء والأولياء، وكل ما سبق من جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في حياة الأموات وسماع الموتى- فهو أيضا دليل ساطع على إبطال عقيدتهم في علم الغيب لغير الله تعالى، وسيف قاطع لدابرهم؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 903 وأريد أن أذكر تعريف الشرك بالله تعالى في علم الغيب عند الحنفية ليُحدَّدَ بذلك موضوع علم الغيب؛ لأن أهل السنة يرون أن اطلاع الأنبياء على بعض المغيبات أمر حق، وكذا الاطلاع على شيء من الأمور الغائبة بواسطة الأسباب العادية التي هي تحت قدرة الإنسان - لا يدخل في باب الشرك بالله تعالى. قال الإمام إسماعيل المجاهد الدهلوي (1246هـ) ، وتبعه الشيخ أبو الحسن الندوي، واللفظ للأخير: ( ... الإشراك في العلم المحيط لغير الله تعالى: وإن كان هذا الإثبات لنبي، أو ولي، أو شيخ، أو شهيد، أو إمام، أو سليل إمام، أو عفريت أو جنية- سواء اعتقد أنه يعلم من ذاته أو يعلم أنه منحة من الله وعطاء منه .... كل ذلك شرك) . وقال غلام الله الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن (1980م) : المراد من الشرك بالله في العلم: اعتقاد ثبوت علم الغيب لغير الله تعالى من نبي أو ملك أو مرشد أو فقير، وليس المراد: أن يعتقد المرء أن علم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو علم المرشد مساوٍ لعلم الله تعالى؛ فإن هذا الاعتقاد لم يقع لأحد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 904 بل المراد: أن يعتقد أن غير الله تعالى يعلم ما في السموات والأرض، أو يعلم أعمالنا وأفعالنا، أو يعلم ما في الصدور، فإن هذا شرك في العلم؛ لأن هذا العلم من صفات الله تعالى الخاصة به، وسواء في ذلك أن يعتقد أن فلانا يعلم الغيب في كل وقت، أو يعتقد أنه لا يعلم الغيب كل وقت؛ ولكن الله تعالى أعطاه قدرة يستطيع بها أن يعلم كل ما يشاء، كما أن الله تعالى أعطى أحدنا قوة باصرة، يستطيع أن يبصر بها، فاعتقاد ثبوت علم الغيب لغير الله تعالى على هذه الطريقة كفر وشرك. وقال ابن آصف الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن (1407هـ) : (الشرك في العلم: وهو أن يعتقد غيره تعالى عالما بكل ما كان وما يكون وبكل ما يستتر الإنسان ويجهر به ... ) . وقال العلامة الرستمي الملقب عند الحنفية المعاصرة بشيخ القرآن، وشيخ الحديث: (فالشرك في العلم: هو أن يعتقد أن غيره تعالى يعلم الغيب، ويعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 905 جميع ما كان وما يكون ... ؛ والمراد بالغيب: ما لا يدرك بالحس، ولا بالعقل، ولا بالوحي ... ، وهو العلم بلا سبب) . وبعد تبيين موضوع النزاع ننتقل إلى ذكر بعض جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زعمهم علم الغيب للصالحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 906 المطلب الأول في استدلال علماء الحنفية ببعض الآيات على إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله تعالى لقد استدل علماء الحنفية بكثير من الآيات القرآنية على إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله تعالى، وتلك الآيات تدل على اختصاص علم الغيب بالله، ونفيه عن غيره تعالى من الملائكة والأنبياء، والأولياء، والجن. وهي آيات كثيرة أذكر منها بعضها على سبيل المثال: 1 -2- قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [هود: 123، النحل: 77] . 3 - قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 26] . 4 - قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33] . 5 - قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 38] . 6 - قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحجرات: 18] . 7 - قوله سبحانه: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} [يونس: 20] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 907 8 - قوله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ... [الأنعام: 59] . 9 - قوله عز وجل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} ... [النمل: 65] . 10 - قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} ... [لقمان: 34] . 11 - قوله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 187] . 12 - قوله جل وعلا: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63] . 13 -14- قوله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النازعات: 42- 44] . 15 -18- قوله سبحانه وتعالى: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109، 116، التوبة 78، سبأ 48] . 19 -28- قوله سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73، التوبة: 94، 105، الرعد: 9، المؤمنون: 92، السجدة: 6، الزمر: 46، الحشر: 22، الجمعة: 8، التغابن: 18] . 29 -30- قوله سبحانه وتعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3، الجن: 26] . 31 - قوله تبارك وتعالى عن رسوله نوح عليه الصلاة والسلام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 908 {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود: 31] . 32 - قوله تعالى آمرا أشرف رسله: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] . 33 - قوله سبحانه آمرا أفضل أنبيائه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] . 34 - وقوله عز وجل: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: 101] . 35 - وقوله سبحانه آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9] . 36 - وقوله جل وعلا: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] . 37 -39- وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ .... فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ... فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 69- 74] . 40 -44- وقوله عز وجل: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 909 {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَي قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} ... {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الحجر: 51-57] . 45 - 50 - قوله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} ... {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الذاريات: 24- 31] . 51 -55- قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 77-81] . 56 - 60- قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} ........ {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ} ...... {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر] : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 910 61 - 71 ] . 61 -63- قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 20-22] . 64 -65- قوله جل وعلا: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص: 21- 22] . 66 -74- قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} .... {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} .... {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} .... {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} .... {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 66- 82] . 75 - قوله تعالى: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 21] . 76 - قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 911 77 - قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31] . 78 -79- قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ .... وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ... وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} ... [يوسف: 15- 18] . 80 - قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] . 81 - قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] . 82 - قوله سبحانه عن الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] . 83 - قوله تعالى في حق الجن: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14] . 84 - قوله تعالى في حق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] . 85 - قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} ... [البقرة: 259] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 912 86 - قوله تعالى في الأولياء الكرام أصحاب الكهف: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ... {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} ... [الكهف: 19-26] . 87 - قوله تعالى في حق الأموات من الأنبياء والأولياء وغيرهم ممن كان المشركون ينادونهم عند الكربات: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20- 21] . 88 - قوله تعالى أيضا في حق الأموات من الأنبياء والأولياء وغيرهم ممن كان المشركون ينادونهم عند الكربات ويدعونهم لدفع المضرات وجلب الخيرات: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ... [فاطر: 13-14] . 89 - قوله تعالى أيضا في حق الأموات من الأنبياء والأولياء وغيرهم ممن كان المشركون ينادونهم عند الكربات * ويدعونهم لدفع المضرات وجلب الخيرات * ويستغيثون بهم عند إلمام الملمات ونزول البليات *: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5] . 90 -91- قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} ... {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} ... [آل عمران: 37- 40] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 913 92 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8] . 93 - قوله تعالى في حق مريم التي هي من أعظم وليات الله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ... [آل عمران: 47] . 94 -95- قوله تعالى في حقها: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} ... [مريم: 17-20] . تنبيه: من الآيات التي تبطل زعم القبورية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر وناظر كل حين وآن * وأنه موجود في السماوات والأرض وفي كل مكان وفي كل زمان*. 96 - قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . 97 - وقوله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص: 44] ، 98 - وقوله عز وجل: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 45] ، 99 - وقوله جل وعلا: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 46] ، 100 - وقوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 914 إلى غيرها من الآيات المباركات؛ ولقد استدل علماء الحنفية بهذه الآيات وغيرها- على أن علم الغيب صفة مختصة بالله تعالى، وأن الأنبياء عليهم السلام، والأولياء، والملائكة، والجن، لا يعلمون المغيبات؛ فالله تعالى هو وحده عالم الغيب والشهادة، وهو وحده علام الغيوب، وعنده وحده مفاتيح الغيب، وهو وحده يعلم الأمور الخمسة المذكورة في آخر سورة لقمان؛ وهو وحده يعلم السر وأخفى، وهو وحده يعلم ما في الصدور، وهو وحده لا تخفى عليه خافية، وقد تقدم في هذه الآيات أنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب غير الله تعالى، وأن الأنبياء لا يعلمون الغيب، وأن الأولياء كأصحاب الكهف، ومريم، وغيرهم لم يكونوا يعلمون الغيب، وأن الله تعالى قد ساق في كتابه كثيرا من أخبار أنبيائه وأوليائه دليلا على أنهم لم يكونوا يعلمون الغيب، كقصةِ آدمَ والملائكةِ، وإبراهيمَ، ولوطٍ، ويعقوبَ، ويوسفَ، وزكريا، وعزير، ومريمَ، وأصحابِ الكهفِ، وغيرِها؛ وهي كلها أدلة قاطعة علىأنهم لم يكونوا يعلمون الغيب كله، وهكذا الجن لم يكونوا يعلمون الغيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 915 قلت: هذه كانت أمثلة لاحتجاج الحنفية بالكتاب على إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله. وفي المطلب الآتي أمثلة احتجاجهم بالسنة على بطلان تلك العقيدة الوثنية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 916 المطلب الثاني في استدلال علماء الحنفية ببعض الأحاديث الصحيحةعلى إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله تعالى لقد احتج كثير من علماء الحنفية بكثير من الأحاديث الصحيحة على إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله تعالى، أذكر عدة منها على سبيل المثال: الحديث الأول: حديث جبرئيل المعروف المشهور، وفيه «قال جبريل: (متى الساعة؟) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما المسئولُ عنها بأعلم من السائل ... ، في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ... الآية» [لقمان: 34] . وقد استدل علماء الحنفية بهذا الحديث الصحيح على أن جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكونا يعلمان الوقت المحدد لقيام الساعة؛ بل لا يعلم ذلك أحد غير الله تعالى من ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي؛ لدلالة الحصر؛ وهذه الأمور الخمسة هي مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا الله سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 917 وتعالى. الحديث الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» . ولقد استدل علماء الحنفية بهذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم هذه المفاتيح. الحديث الثالث: حديث أم سلمة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم ولعل بعضكم أبلغ من بعض، فأحسبه أنه صدق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 918 ولقد استدل بهذا الحديث الصحيح علماء الحنفية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم الغيب؛ فلم يكن يعرف الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل في الخصمين، ولذلك حذرهما بهذه الكلمة الجامعة التي فيها عبرة لكل مسلم. الحديث الرابع: حديث الحوض، وفيه عدة ألفاظ: 1 - «أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني فأقول: يا رب أصحابي؛ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟» . 2 - لفظ: « ... ، فلأقولن: أي رب أصيحابي، أصيحابي؛ فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟» 3 - لفظ: «فأقول: إنهم مني؛ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟؛ فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدي» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 919 4 - لفظ: «إنهم مني؛ فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك؟؛ فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي» . 5 - لفظ: «إنهم مني؛ فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك؟؛ فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي» . 6 - لفظ: «فأقول: يا رب أصحابي؛ فيقول: إنك لا علم لك ما أحدثوا بعدك؟؛ إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» . 7 - لفظ: «إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ ناس دوني؛ فأقول: يا رب مني ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟؛ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم» . 8 - لفظ: «أنا على حوضي أنتظر من يرد عليَّ؛ فيؤخذ بناس من دوني؛» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 920 «فأقول: أمتي؛ فيقول: لا تدري مشوا على القهقري» . 9 - لفظ: «ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال؛ فأقول: يا رب أصيحابي؛ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ ؛ فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] ؛ فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» . 10 - لفظ: «إني على الحوض أنتظر من يرد عليَّ منكم، فوالله ليتقطعن دوني رجال؛ فلأقولن: أي رب، مني ومن أمتي؛ فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم» . 11 - لفظ: «إني لكم فرط على الحوض، فإياي لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال؛ فأقول: فيم هذا؟؛ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 921 «فأقول: سحقا» . قلت: لهذا الحديث عدة ألفاظ عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم، وكل واحد منها حديث مستقل برأسه. وأقول: لقد صرح علماء الحنفية بأن هذا الحديث متواتر، وأنه روي عن أكثرَ من ثلاثين صحابيا رضي الله عنهم. وأقول أيضا: إن علماء الحنفية قد احتجوا بهذه الأحاديث- أحاديث الحوض- على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم الغيب كله ولا يكون يعلم الغيب كله: لا أزلا، ولا أبدا ولا ما كان، ولا ما يكون؛ وأنه ليس بحاضر ولا ناظر في كل مكان وزمان؛ وأنه لا يعرف أحوال هذا الكون عامة وأحوال أمته خاصة؛ بدليل: " لا تدري "، و " لا علم لك "، و " هل شعرت "، ونحو ذلك من ألفاظ هذا الحديث المتواتر القاطع للنزاع * والقالع لشبهات القبوريين الرعاع * ودل هذا الحديث المتواتر على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم أعمال أمته وأن روحه ليست بمطلعة على أحوال الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 922 قلت: إذا كان أفضل الرسل لا يعلم الغيب - فما بالك بغيره من الرسل والأنبياء، فضلا عن الأولياء، بله الحلولية الملاحدة الفسقة الفجار * والزنادقة والاتحادية الأشرار* وأئمة أهل البدع الكذبة الفجرة الأشقياء * الذي تدعي القبورية أنهم أولياء * وفي هذا كفاية لمن كان من أولي الألباب، طالب الحق والصواب* أما المعاند المكابر فحري بأن يربط بخيشومه في إصطبل الدواب* وبعد ما عرفنا احتجاج الحنفية بالكتاب والسنة على بطلان عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله- ننتقل إلى المطلب الآتي لنطلع على بعض نصوص الحنفية في إبطال هذه العقيدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 923 المطلب الثالث في ذكر بعض نصوص علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله لعلماء الحنفية نصوص كثيرة على أن علم الغيب صفة مختصة بالله تعالى، لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي صالح، ولا جن لطيف، وأن أحدا من الخلق لا يعلم شيئا من الغيب- إلا ما أعطاه الله تعالى شيئا جزئيا، قطرة من البحر، فلا يوجد أحد غير الله تعالى يعلم علم ما كان وما يكون. أو يعلم علم جميع ما في اللوح، أو يعلم علم الغيب أزلا وأبدا، أو يعلم علم جميع ما في الكون وأحواله وأحوال الناس. أو يكون حاضرا ناظرا في كل مكان وزمان؛ وقد صرح علماء الحنفية بإجماع منهم- بأن من اعتقد ذلك فهو مشرك كافر بالله تعالى؛ وفيما يلي أمثلة لنصوصهم في ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 925 1 - قول الإمام أبي حنيفة (150هـ) رحمه الله: لقد ذكر علماء الحنفية عن الإمام أبي حنيفة (150هـ) رحمه الله: أن المنصور (149هـ) رأى في منامه صورة ملك الموت، فسأله عن مدة عمره فأشار الملك بأصابعه الخمس؛ فعبر المعبرون هذه الرؤيا بخمس سنوات، وخمسة أشهر، وخمسة أيام؛ فقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: هذه إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] ؛ فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله. قلت: في كلام هذا الإمام عبرة للقبورية عامة، وللبريلوية والكوثرية خاصة. 2 - قول الإمام الطحاوي رحمه الله (321هـ) : قال الإمام الطحاوي في شرح صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: (لأن تلك الصلاة كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 926 ولولا ذلك لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموضع الذي انتهى إليه أبو بكر من القراءة ولا علم من خلف أبي بكر) . قلت: هذا النص دليل قاطع على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يعلمون السر وما خفي من الأمور. 3 - قول الإمام محمد بن الحسن الشيباني الإمام الثالث للحنفية على الإطلاق رحمه الله (198هـ) : لقد ذكر علماء الحنفية عن شداد بن حكيم رحمه الله (220هـ) : (أن امرأته بعثت إلى زوجها السحور في رمضان على يدي الخادم، فأبطأت الخادم في الرجوع إلى المرأة؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 927 فاتهمته المرأة؛ فقال شداد بن حكيم: " لم يكن بيننا شيء "، فطال الكلام بين شداد وبين امرأته؛ فقال شداد بن حكيم لامرأته: " تعلمين الغيب "؟، فقالت: " نعم "؛ فكتب شداد إلى محمد بن الحسن، -وكان هو من أصحاب زفر رحمه الله تعالى-؛ فأجاب محمد: أن جدد النكاح، فإنها كفرت) . 4 - قول الإمام البدر العينتابي (855هـ) في شرح حديث المفاتيح: (من ادّعى أنه يعلم شيئا من هذه الخمس [مفاتيح الغيب]- فقد كفر بالقرآن العظيم) . 5 -16- كلام جمع من فقهاء الحنفية: لقد صرح جمع من فقهاء الحنفية وقالوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 928 (رجل تزوج بغير شهود، وقال: أشهد الله ورسوله، والملك - قالوا يكفر؛ لأنه اعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والملك يعلمان الغيب، وهو صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم الغيب حين ما كان في الأحياء، فكيف بعد الموت؟) . 17 -21- قول جمع من فقهاء الحنفية: (رجل قال: " أنا أعلم المسروقات "- قال الشيخ الإمام محمد بن الفضل: " هذا القائل ومن صدقه يكون كافرا ". قيل له: " فإن قال هذا القائل: أنا أخبر بإخبار الجن إياي بذلك "- قال: " هو ومن صدقه يكون كافرا بالله لقوله عليه السلام: «من أتى كاهنا فصدقه فيما قال-» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 929 «فقد كفر بما أنزل على محمد» "؛ لا يعلم الغيب إلا الله، لا الجن، ولا الإنس؛ يقول الله في الإخبار عن الجن: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14] ... ) . 22 -27- قول جمع من فقهاء الحنفية: (من قال أرواح المشائخ حاضرة تعلم يكفر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 930 قلت: في هذا النص خاصة، وغيره عامة، قطع لدابر القبورية الذين يعتقدون التصرف لأرواح الأموات* ولا سيما عند الاستغاثة بهم في الملمات* 28-31- قول جماعة من فقهاء الحنفية: (امرأة قالت لزوجها: أتعلم سر الله تعالى؟، قال: نعم. قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله تعالى: يكفر الرجل؛ لأن السر، والغيب واحد؛ ومن ادعى علم الغيب كان كافرا) . 32 -37- قول ابن الهمام (861هـ) وغيره من كبار الحنفية: (يجوز كونه [النبي صلى الله عليه وسلم] غير عالم ببعض المسائل التي يفرعها الفقهاء والمتكلمون التي لا يخل عدم العلم بها بمعرفة التوحيد، ويجوز كونهم [الأنبياء] غير عالمين بلغات كل من بعثوا إليهم، إلا لغة قومهم و [يجوز كونهم غير عالمين بـ] جميع مصالح أمور الدنيا، ومفاسدها، والحرف، والصنائع ... ؛ وكذا علم المغيبات، إلا ما أعلمه الله تعالى به أحيانا؛ وذكر الحنفية تصريحا بالتكفير باعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب لمعارضته لقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 931 [النمل: 65] ، والله أعلم) . قلت: في هذا النص عدة أمور مهمة: 1) عدم علم الأنبياء والرسل عليهم السلام ببعض المسائل الفقهية. 2) عدم علمهم ببعض المسائل الكلامية. 3) عدم علمهم ببعض اللغات. 4) عدم علمهم بمصالح بعض الأمور. 5) عدم علمهم بمفاسد بعض الأمور. 6) عدم علمهم ببعض الحرف. 7) عدم علمهم ببعض الصنائع. 8) عدم علمهم بالمغيبات. 9) من قال: إن الأنبياء يعلمون الغيب فهو كافر عند الحنفية. 10) عقيدة علم الغيب لغير الله كفر، معارضة لكتاب الله. 38 - قول العلامة الخجندي (1379هـ) : (وفي محك الطالبين مسطور: أن طائفة من الدراويش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 932 الجاهليين والعاميين يقولون: إن المشائخ كل وقت حاضرون، ويقولون: إن الأموات الذين ماتوا حاضرين- يكفرون بقولهم المذكور. لأن الأموات ليس لهم اطلاع، وعلم بأحوال الأحياء. كذا في كتاب زاد المتقين ... ) . 39 - قوله الآخر: (اعلم أن اعتقاد علم الغيب للميت والغائب، واعتقاد علم الغيب لغير الله تعالى شرك وكفر، وأن من دعاء غير الله من الأموات وطلب الحوائج منه، واعقتد أنه يعلم الغيب- فقد كفر؛ وقد اتفق جميع أهل العلم في هذا التكفير. ولا أعلم أحدا من أهل السنة والجماعة على خلافه) . 40 - قول العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (ومن شنيع مقالاتهم [أي القبورية] في الإسلام قولهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 933 " إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان ولا مكان " يريدون بذلك: أنه ما من زمان إلا وهو فيه موجود، ولا مكان إلا وهو فيه موجود ... وهذه مقالة شنيعة في الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم. وإنزال له فوق منزلته التي أنزله الله بها؛ فإن هذا إشراك للنبي صلى الله عليه وسلم في أخص أوصاف الباري جل شأنه ... ) . 41 - قوله الآخر: قال رحمه الله في الرد على أحد القبورية الذين يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم جميع المكونات: (قلت له: أترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم عدد الشعرات التي في لحيتك؟ " فقال: " لا ". فقلنا: " أفترى أن لحيتك ليست من المكونات؟ " فانقطع في ميدان المناظرة قبل أن ينقل فيه قدما ... ) . 42 - قوله الآخر: قال رحمه الله أيضا في الرد على النبهاني أحد أئمة القبورية (1350هـ) ، مبطلا زعمه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حاضر وناظر في كل مكان وزمان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 934 (إن من دقق النظر وجده غير معترف بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو لا يؤمن به؛ لأنه يزعم أنه مؤمنٌ برجلٍ موجودٍ في كلِّ مكانٍ وكلّ زمانٍ، كما دلّ عليه شعره؛ ونبينا صلى الله عليه وسلم ولد بمكة وتوفي بالمدينة، ونزل عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 31] ؛ فالرجل الذي هو موجودٌ في كل مكانٍ وكل زمانٍ- لم يوجد، ولا يوجد ... ؛ كالاعتقاد بما هو موهوم غير ثابت ولا معلوم) . قلت: بعد ما عرفنا بعض جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب لغير الله، وأنها عقيدة شركية وثنية كفرية- ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف بعض جهود الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في التعرف في الكون لغير الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 935 الفصل الثاني في جهود علماء الحنفية لإبطال عقيدة القبورية في التصرف في الكون لغير الله سبحانه وفيه مباحث ثلاثة: - المبحث الأول: في ذكر الآيات الكريمة التي استدل بها علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية هذه. - المبحث الثاني: في ذكر الأحاديث التي استدل بها علماء الحنفية على إبطال تلك العقيدة. - المبحث الثالث: في نصوص علماء الحنفية في إبطال تلك العقيدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 937 كلمة بين يدي هذا الفصل لقد ذكرت عدة أمثلة لعقيدة القبورية في زعمهم التصرف في الكون للأرواح والأموات من الأنبياء والأولياء. فضلا عن الأحياء. وهذا من أعظم الغلو في الصالحين، وأوضح أنواع الشرك بالله سبحانه. وقد ذكرت نصوص علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في غلوهم في الصالحين. وأريد أن أذكر بعض جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زعمهم التصرف في الكون للصالحين. ويحسن أن أذكر تعريف الشرك في التصرف عند الحنفية ليحدد الموضوع الذي أنا بصدد الرد عليه؛ لأن أهل السنة يرون أن التصرف تحت الأسباب العادية ليس من الشرك بالله تعالى. قال الشيخ العلامة عبد السلام الملقب عند الحنفية المعاصرة بشيخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 939 القرآن والحديث: (الشرك في التصرف: اسم جامع لجميع صفات الملكية، والملوكية، والخلق، والأمر، والتدبير، والقدرة، والربوبية، والإحياء، والإماتة، وغيرها. فاعتقاد: أن غيره تعالى يملك النفع ويتصرف في جميع الأمور فوق الأسباب- شرك [بالله] في [صفة] التصرف ... ) . وبعد ما تعين محل النزاع وموضوعه- ننتقل إلى ذكر بعض جهود الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زعمهم التصرف في الكون للصالحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 940 المبحث الأول في ذكر الآيات القرآنية التي استدل بها علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية في التصرف في الكون لغير الله لقد استدل كثير من علماء الحنفية بكثير من الآيات القرآنية على إبطال عقيدة القبورية في التصرف في الكون للصالحين والأرواح. وفيما يلي ذكر بعض تلك الآيات المباركات التي تثبت التصرف في الكون لله وحده وتنفي التصرف فيه عن غيره سبحانه. وتثبت أن الأنبياء والأولياء عباد فقراء إلى الله، محتاجون إليه، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، فضلا عن أن يملكوا لغيرهم: 1 - كقوله تعالى: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142] . 2 - وقوله سبحانه: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة 284، آل عمران: 109، 129، النساء: 126، 131، 132، النجم: 31] . 3 - وقوله عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النساء: 170، يونس: 55، النور: 64] . 4 - وقال جل وعلا: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255، النساء: 171، يونس: 68، إبراهيم: 2، طه: 6، الحج: 64، الشورى: 4، 53] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 941 5 - وقال سبحانه: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النحل: 52] . 6 - وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المائدة: 17، 18، 120، النور: 42، الشورى: 49، الجانثة: 37] . 7 - وقال عز وجل: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 107، المائدة: 40، الأعراف: 158، التوبة: 116، الفرقان: 2، الزمر: 44، الزخرف: 85، الحديد: 2، 5،البروج:9] . 8 - وقال عز وجل: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن: 1] . 9 - وقال جل وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [تبارك: 1] . 10 - وقال تعالى: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 2] . 11 - وقال سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] . 12 - وقال جل وعلا: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55] . 13 - وقال عز وجل: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 84] . 14 - وقال جل وعلا: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88- 89] . 15 - وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام: 12] . 16 - وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [يونس:66] . 17 - وقال سبحانه: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنبياء: 19] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 942 18 - وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84-85] . 19 - وقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2، الأنعام: 45، يونس: 10، الصافات: 182، الزمر: 75، غافر: 65] . تنبيه: وصف الله سبحانه بأنه رب العالمين في عدة آيات، انظر: 20-53-[الفاتحة: 2، البقرة: 131، المائدة: 28، الأنعام: 45، 71، 162، الأعراف: 54، 61، 68، 104، 121، يونس: 10، 37، الشعراء: 16، 47، 77، 98، 109، 127، 145، 164، 165، 180، 192، النمل: 8، 44، القصص: 30، السجدة: 2، 87، الصافات: 87، 182، الزمر: 75، غافر: 66، فصلت: 9،الزخرف: 46، الجاثية: 26، الواقعة: 80، الحشر: 16، القلم: 52، الحاقة: 43، التكوير: 27، 29، المطففين:9] . 54 - وقال سبحانه: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 36] . 55 - وقال جل مجده: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [الرعد: 16] . 56 - وقال سبحانه: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86] . 57 - وقال جل جلاله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الصافات: 5، ص: 66] ، {رَبِّ} ... [الدخان: 7، النبأ: 37] ، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 14] . 58 - وقال جل وعلا: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 63، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 943 الشورى: 12] . 59 - وقال جل مجده: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 180، الحديد:10] . 60 - وقال سبحانه: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87، يونس: 109، يوسف: 80] . 61 - وقال تعالى: {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 25] . 62 - وقال جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57، يوسف: 40، 67] . 63 - وقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] . 64 - وقال تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70، 88] . 65 - وقال جل شأنه: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] . 66 - وقال عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] . 67 - وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون: 7] . 68 - وقال جل وعلا: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 4، 7] . تنبيه: هذه الآيات وأمثالها كلها تدل على أن الله تعالى: هو الرب المالك المتصرف في الكون وحده لا شريك له سبحانه. 69 - وقال سبحانه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 944 [الأعراف: 188] . 70 - وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [يونس:49] . 71 - وقال جل وعلا: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21] . 72 - وقال سبحانه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] . 73 - وقال عز وجل: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41] . 74 - وقال سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] . 75 - وقال جل شأنه: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19] . 76 - وقال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء 90-93] . 77 - وقال جل وعلا: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 57-58] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 945 78 - وقال سبحانه: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] . 79 - وقال جل وعلا: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17] . 80 - وقال عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [يونس: 107] . تنبيه: هذه الآيات وأمثالها تدل دلالة قاطعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عن أن يملك لغيره، وفضلا عن أن يتصرف في الكون. 81 - وقال جل وعلا عن رسوله نوح عليه السلام: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [هود: 31] . 82 - وقال سبحانه: {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] . 83 - وقال جل وعلا: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 45-47] . 84 - وقال عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 946 85 - وقال سبحانه حكاية عن خليله: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة: 4] . 86 - وقال تعالى حكاية عن الكريم ابن الكريم: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 67] . 87 - وقال جل ثناؤه: {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 68] . 88 - وقال جل وعلا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة: 25] . 89 - وقال سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] . تنبيه: هذه الآيات دالات على أن جميع الأنبياء عليهم السلام لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فضلا عن أن يملكوا لغيرهم، وأنهم عباد محتاجون فقراء إلى الله تعالى، وأنهم كانوا يدعونه لدفع المضرات وجلب الخيرات، وأنهم كانوا يخافون ربهم، فكيف يملكون التصرف في الكون؟ 90 - وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] . 91 - وقال عز وجل: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الرعد: 16] . 92 - وقال سبحانه وتعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 947 93 - وقال جل جلاله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] . 94 - وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17] . 95 - وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 13-14] . 96 - وقال عز من قائل: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] . 97 - وقال جل من قائل: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21- 22] . 98 - وقال جل ثناؤه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] . 99 - وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 40] . 100 - وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ .... * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 948 [الأحقاف: 4-5] . 101 - وقال جل ثناؤه: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2] . 102 - وقال جل من قائل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31-32] . 103 - وقال عز من قائل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] . إلى غير ذلك من الآيات المباركات. تنبيه: هذه الآيات تدل دلالة قاطعة على أن الذين كان المشركون يدعونهم عند الكربات لدفع المضرات، وجلب الخيرات- لم يكونوا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؛ فضلا عن أن يملكوا لغيرهم، ولم تكن لهم قدرة على التصرف في الكون، وكان في هؤلاء كثير من الأنبياء والأولياء. تقرير استدلال الحنفية بهذه الآيات: لقد استدل بهذه الآيات كلها وغيرها معها، علماءُ الحنفية على إبطال عقيدة القبورية في زعمهم التصرف في الكون للصالحين، والقدرة للأرواح على التصرف، وإبطال زعمهم أن الأولياء لهم قدرة على الإحياء والإماتة وقلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 949 الحقائق من شيء إلى آخر وأن لهم قدرة على دفع الضر عمن يستغيث بهم، وجلب النفع لمن يستمد بهم؛ فدلت هذه الآيات على أن عقيدة القبورية هذه فاسدة كفرية شركية، وأن الأنبياء عبادٌ لله محتاجون، فقراء إليه، خاشعون لله، خائفون من الله، وأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فضلا عن أن يملكوا لغيرهم من الأقارب والأجانب وأنهم بحاجة إلى أن يدعوا الله تعالى عند الكربات لدفع المضرات وجلب الخيرات. وثبت من هذه الآيات أيضا أن هؤلاء الأنبياء والأولياء لا يعلمون الغيب ولا يسمعون نداء المستغيثين بهم، وليس لهم اطلاع على أحوالهم، وهم عن نداءهم غافلون؛ فالأنبياء والأولياء لا يملكون لهم نفعا ولا ضرا، ولا يسمعون لهم صوتا ولا نداء ولا صراخا ولا دعاء، لا سرا، ولا جهرا، ولا يعلمون الغيب، ولا يطلعون على أحوالهم وما في ضمائرهم. فالقبورية مع سفاهتهم في هذه العقائد مرتكبون أنواعا من الشرك والكفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 950 قلت: بعد هذا ننتقل إلى المبحث الآتي لنعرف احتجاج الحنفية على بطلان هذه العقيدة بالسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 951 المبحث الثاني في ذكر بعض الأحاديث التي استدل بها علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية في التصرف في الكون للصالحين لقد استدل كثير من علماء الحنفية بكثير من الأحاديث الصحيحة على إبطال عقيدة القبورية في زعمهم التصرف في الكون للصالحين. وفيما يلي بعض الأمثلة منها، مع تقرير استدلال الحنفية بها: الحديث الأول: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم: أن الأمة إذا اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 953 ولقد استدل علماء الحنفية بهذا الحديث على إبطال عقيدة القبورية في التصرف في الكون للأولياء؛ حيث: إن هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي تثبت التصرف في الكون لله وحده لا شريك له، وتنفي عن غيره تعالى، ويدل على أن الأنبياء والأولياء وغيرهم من المخلوقين- لا يملكون لأنفسم نفعا ولا ضرا؛ فضلا عن أن يملكوا لغيرهم، كما أنهم لا يملكون موتا ولا حياةً ولا نشورا، وأن غيره تعالى غير قادر على العطاء والمنع * ودفع الضر وجلب النفع* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 954 وللملا علي القاري (1014هـ) كلام مهم في شرح هذا الحديث، يقطع دابر القبورية. الحديث الثاني: حديث عبد الله بن حوالة الأزدي: قال: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغنم على أقدامنا فرجعنا فلم نغنم شيئا، وعرف الجهد في وجوهنا، فقام فينا فقال: اللهم لا تكلهم إليّ فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم» . ولقد استدل علماء الحنفية بهذا الحديث على إبطال عقيدة القبورية في زعمهم التصرف في الكون للأنبياء والأولياء؛ فإنه صريح، ونص على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك نفعا ولا ضرا، وأنه عاجز عن حفظ نفسه، فكيف يملك حفظ غيره؟؟؟؛ كما دل هذا الحديث على أن حفظ الخلق صفة خاصة بالله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 955 تعالى. الحديث الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: «قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، قال: " لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، على رقبته فرس لها حمحمة، يقول: يا رسول الله، أغثني!، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، وعلى رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله.. أغثني!؛ فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، أو على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله! أغثني!؛ فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك "» . ولقد استدل بهذا الحديث علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية من أن الأنبياء والأولياء يتصرفون في الكون ويملكون النفع والضر؛ فإن هذا الحديث صريح في أن سيد البشر، وأفضل الأنبياء لا يملك نفعا ولا ضرا حتى لأصحابه، فما بالك بغيره؟؟؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 956 الحديث الرابع: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] . قال: " يا معشر قريش - أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم.. لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني ما شئت من مالي! لا أغني عنك من الله شيئا "» . ولقد استدل علماء الحنفية بهذا الحديث على إبطال عقيدة القبورية في زعمهم التصرف في الكون للأنبياء والأولياء. وبينوا: أن هذا الحديث صحيح صريح، بل نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك نفعا ولا ضرا لبنته، وعمه، وعمته، وأقاربه، وأنه لا يستطيع أن يخلصهم من بطش الله وعذابه ... فما ظنك بغيره!؛ فلو كان صلى الله عليه وسلم يملك القدرة والتصرف والنفع والضر- لكان أقاربه أحق الناس بأن يدفع عنهم الضر ويجلب لهم الخير، ولم يقل لهم: " إني لا أملك لكم، ولا أغني عنكم من الله شيئا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 957 قلت: هذه كانت عدة أمثلة من تلك الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التي استدل بها علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية في زعمهم التصرف في الكون للأنبياء والأولياء، فقد عرفت أن هذه الآيات والأحاديث تدل دلالة قاطعة على ان الأنبياء والأولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؛ فكيف يملكون ذلك لغيرهم ... ؟؛ فضلا عن أن يملكوا الإحياء، والإماتة، والإقطاع في الجنة، والإغناء، والشقاء، والسعادة، والهداية، والشقاء، والإعطاء. وأقول: بعد هذا ننتقل إلى المبحث الآتي، لنطلع على نصوص الحنفية على أن هذه العقيدة شركية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 958 المبحث الثالث في نصوص علماء الحنفية ردا على عقيدة القبورية في زعمهم التصرف في الكون للصالحين وبيان أن هذه العقيدة عقيدة شرك وكفر لقد صرح علماء الحنفية بأن التصرف في الكون من صفات الله تعالى الخاصة به، وأنه لا متصرف في الكون غير الله تعالى، كما أنه لا رب، ولا خالق للكون غيره تعالى. وأن من يعتقد في الأموات والأرواح أنها تتصرف في الكون فقد كفر؛ فما ظنك بمن يعتقد أن فلانا يملك الجنة والنار..، وأن السماوات والأرض كالخلخال في رجله..، وأنه يحيي ويميت، وأن بيده الهداية والشقاء ... ، وأنه يملك الإقطاع من الجنة، ونحو ذلك من الكفريات التي ذكرتُها عن القبورية في غلوهم في الصالحين. وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية على إبطال هذه العقيدة وتكفير أهلها: 1 -8- فتوى جمع من فقهاء الحنفية وأئمتهم في تصرف الأموات: (ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك شيئا، ومنها أن ظن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 959 أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى، واعتقاد ذلك كفر) . قلت: هذا النص نص صريح ناطق حاكم على القبورية بأن عقيدتهم في التصرف في الكون للأولياء: عقيدة باطلة، بل كفر صريح. 9 -17- فتوى جماعة من فقهاء الحنفية وكبارهم في تصرف الأرواح وتشكلهم وإتيانهم وحضورهم: قالوا: (من قال أرواح المشائخ حاضرة تعلم يكفر) . قلت: في هذا النص عبرة بالغة للقبورية عامة، وللديوبندية خاصة. 18 -23- كلام جمع من كبار علماء الحنفية في الرد على القبورية، واللفظ للألوسي (1270هـ) قالوا: (وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير، وخطب جسيم في بر أو بحر: دعوا من لا يضر ولا ينفع * ولا يرى ولا يسمع *) . 24 -28- قول جمع من كبار علماء الحنفية في الرد على القبورية: واللفظ للإمام صنع الله الحلبي الحنفي (1120هـ) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 960 (هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين [من القبورية] جماعات * يدعون أن للأولياء تصرفاتٍ في حياتهم وبعد الممات * ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهم تكشف المهمات* فيأتون قبورهم، وينادونهم في قضاء الحاجات * مستدلين على أن ذلك منهم كرامات * ... ، أما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات *- يرده قوله جل ذكره: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 60، 61، 62، 63، 64] . [وقوله سبحانه] : {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] . [وقوله تعالى] : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284، آل عمران: 109، 129، النساء: 126، 231، 132، النجم: 31] . وما هو نحوه من الآيات الدالة على أنه [سبحانه وتعالى هو] المنفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شركة لغيره في شيءٍ منها بوجه من الوجوه؛ فالكل تحت ملكه، وقهره، تصرفا، وملكا،وإحياءً، وإماتةً، وخلقا؛ وعلى هذا اندرج الأولون ومن بعدهم، وأجمع عليه المسلمون، ومن تبعهم، وفاهوا به كما فاهوا بقولهم: لا إله إلا الله؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 961 وتمدح الرب تعالى بانفراده في ملكه بآيات من كتابه العزيز، كقوله: ... ، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] . [وقوله] : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194] . وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 197] ..، إلى غير ذلك من الآيات التي لا تستقصي؛ فقوله: {مِنْ دُونِهِ} في هذه الآيات كلها: أي من غيره تعالى، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته: من شيطان وولي- تستمده. فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟ ... ؛ إن هذا من السفاهة لقول وخيم، وشرك عظيم..؛ فكيف حال من كذب على أولياء الله بهذا السؤال [الاستغاثة] ، وجعلهم متصرفين في الأفعال؟؛ فهذا من أقبح الضلال وأشنع * وأجرى في الفرية على الرب وأبدع* وأما القول بالتصرف بعد الممات * فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة * قال جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 962 30] ، [وقال سبحانه] : {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] ، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} ... [الزمر: 42] ... ؛ فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت؛ وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة..؛ فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته، فضلا عن [التصرف في] غيره بحركة؛ وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر،. فإذا عجز عن حركة نفسه، فكيف يتصرف في حق غيره؟؛ فالرب سبحانه وتعالى يخبر: أنه يمسك الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون [القبوريون] يقولون: إن الأرواح مطلقة!!!؛ {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} . {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . وأما ما ذكروه عن فلان وفلان [من الحكايات، كزعمهم:] أنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 963 رأوه [أي الولي] بعد الموت يتصرف- فهو من التصرفات الدجالية * والزخرفات الخيالية الشيطانية * ... ؛ أما اعتمادهم بأن هذه التصرفات لهم من الكرامات- فهو من المغلطة؛ لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه..؛ لا عن قصد لهم فيه ولا تحدي ولا قدرة ولا علم، كما في قضية مريم بنت عمران ... ؛ فلا يقال: إنه من تصرفاتهم ... ؛ وأما قولهم [أي القبورية] : ويستغاث بهم في الشدائد والبليات * وبهم تنكشف المهمات * فهذا أقبح مما قبله وأبدع * وأفظع في الأسماع وأشنع * لمصادرته قوله جل ذكره {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 62] ..؛ [وقوله سبحانه] : {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17] ، وما هو نحو ذلك من الآيات؛ فإنه جل ذكره قرر أنه [هو] الكاشف للضر لا غيره، وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب، وأنه [هو] المنفرد لإجابة دعاء المضطرين لا غيره، وأنه المستعان لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر ... وأنه القادر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 964 على إيصال الخير، فهو المنفرد بذلك؛ فإذا تعين هو جل ذكره- خرج غيره من ملك، ونبي، وولي، وغيره [أي الجن] ؛ كما فسر به قوله جل ذكره: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56] . بدليل ما بعدها، [وهو قوله تعالى] : {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} الآية [الإسراء: 57] ؛ فإنه صريح في أن الأنبياء لا يستطيعون كشف ضر أحد، فكيف بغيرهم ممن هو أدنى منهم؟؟؟؛ ولكن {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} ... ؛ وأما كونهم [أي القبورية] معتقدين التأثير منهم، وأن لهم التصرف في قضاء حوائجهم، وكما تفعله جاهلية العرب، والصوفية الجهال، وينادونهم، ويستنجدون بهم- فهذا من المنكرات؛ لأن الأحياء إذا انتفى عنهم التصرف كما مرّ- فكيف يثبت للأموات!؟!؛ قال جل ذكره: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل: 80] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 965 [وقال جل وعلا] : {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] ، فهل على الله استدراك ... ؟ فإنه تعالى أخبر بأن أهل القبور لا تسمع..؛ وأما ما ذكروه من تصرف الأرواح- فهو من الأقوال القباح، ... ؛ وقد قال جل ذكره: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42] . أي فلا يردها، وتبقى عنده، وينقطع تعلقها عن الأحياء، وتصرفها في الأبدان ... ؛ فكيف لهؤلاء القوم [أي القبورية] التصرف بما أرادوه، وأن أرواح أشياخهم متصرفة؟ وإذا قضى الله حاجة لهم- نصبوا لمشائخهم رايات، وعدوا ذلك لهم كرامات؛ وهذا من خرافات الشيطان للإنسان؛ قال جل ذكره: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 36-37] . [وقال سبحانه وتعالى] : {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120] ؛ فمن اعتقد أن لغير الله: من نبي، أو ولي، أو غير ذلك في كشف [ضر] ، أو قضاء حاجة تأثيرا- فقد وقع في وادي جهل خطير * فهو على شفا حفرة من السعير * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 966 وأما كونهم مستدلين على أن ذلك من كرامات- فحاشا الله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة؛ أو يظن بهم: أن دفع الضر وجلب النفع منهم كرامة؛ فهذا ظن أهل الأوثان، كما أخبر الرحمن: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] . [وقالوا] : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ؛ وأما أهل الإيمان فليس لهم غير الله دافع* ومنه تحصل المنافع*.. قال جل ذكره ... ، [حكاية عن ولي من أوليائه] : {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23] ؛ فإنه ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وملك وولي، [فطلب] الأمداد [منهم] إشراك مع الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 967 إذ لا قادر على الدفع غيره* ولا خير إلا خيره* ... ؛ فمن اعتقد: أن جلب المنافع، ودفع المضار من غير الله، أو ممن أشركه مع الله- فقد افترى في دينه فرية* ما مثلها بلية* [واعلم] : أن الكرامة لا تجدي فيها، ولا هي عن قصد حتى تكون من تصرفاتهم؛ وفي التنزيل: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام:109، العنكبوت:50] ، [وفي التنزيل أيضا] : {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الأعراف: 188] ، فهذا خطاب لأكبر رسل الله!!!؛ فكيف بغيره من أولياء ... ) . 29 -32- قول الإمام البزازي (827هـ) ، وغيره من كبار أئمة الحنفية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 968 (سئل الزعفراني: عمن يزعم: أنه رأى ابن أدهم يوم التروية بكوفة ورآه أيضا في ذلك اليوم بمكة. قال: كان ابن مقاتل يكفر ... ؛ وقال محمد بن يوسف: يكفر، وعلى هذا ما يحكيه جهلة خوارزم: أن فلانا كان يصلي سنة الفجر بخوارزم، وفرضه بمكة) . قلت: هذا النص صريح في تكفير هؤلاء القبورية الذين يزعمون أن الولي يصلي صلاة كذا وكذا في مكان كذا وكذا، ويصلي صلاة كذا وكذا مثلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 969 في مكة أو المدينة، إلى غير ذلك من خرافاتهم. كما هو صريح في تكفير هؤلاء القبورية الذين يزعمون وجود شخص واحد في عدة أمكنة متباعدة في آن واحد. 33 -34- قول الإمام ابن أبي العز أحد أئمة الحنفية (792هـ) ، وبعض الحنفية: (وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم [الصوفية] و [بين] أهل الاستقامة فحرك - تَرَ [أي جَرِّبْ- تَعْرِفْ] ، وكذا من يقول بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا!!! فهلا خرجت الكعبة إلى الحديبية فطافت برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر عنها؟؟؟ وهو يود منها نظر!!! وهؤلاء [الصوفية القبورية] لهم شبه بالذين وصفهم الله تعالى حيث يقول: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر: 52] إلى آخر السورة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 970 قلت: في هذا النص عبرة ونكال للقبورية الذين زعموا مثل هذه الخرافات. 35 - كلام العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في إبطال مزاعم القبورية في الغوث: (أما سؤال السائل عن القطب الغوث الفرد الجامع- فهذا قد يقوله طوائف من الناس، ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام؛ مثل تفسير بعضهم: أن الغوث الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم؛ حتى قد يقولون: إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته؛ فهذا من جنس قول النصارى في المسيح، والغالية في علي؛ وهذا كفر صريح يستتاب صاحبه؛ فإن تاب، وإلا قتل ... ) . 36 - قول العلامة الخجندي (1397هـ) بعد ذكر قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} الآية [الحج:73] : (يخاطب الله تعالى عامة الناس: عربهم وعجمهم، ذكرهم وأنثاهم، عالمهم وجاهلهم، ويأمرهم بالاستماع له وتفهم ما يقول من المثل: إن الذين تدعون في عباداتكم* أو طلباتكم، وقضاء حاجاتكم* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 971 من دون الله من الملائكة أو الكروبيين * أو الروحانيين، أو الأنبياء والأولياء [والصالحين] * أو أي مدعو كان- لن يستطيعوا أبدا، ولا يقدرون قطعا أن يخلقوا ذبابا، ولو اجتمع أولهم وآخرهم لأجل ذلك، والحال أنه أصغر المخلوقات وأضعفها، وإنما خلقه الله تعالى لإذلال الجبارين والمتكبرين ... ؛ فيا أيها الناس!! إن كان الأمر هكذا- كيف ظننتم في بعض المخلوقين واعتقدتم أنه يضركم أو ينفعكم أو ينقذكم من عذاب الله؟!؟؛ فعبدتموهم، ونذرتم له، أو توجهتم إليه، فاتخذتم هذه الأنداد، وهذه الأصنام، وهذه الأوثان، وهذه القبور التي بنيتم عليها القبب والبنيان الشامخات، وجلستم متوجهين إليها راجين منهم، وسائلين إياهم وخائفين منهم، وقد أخذ الشيطان عقولكم وزين لكم الشرك بالله، فأشركتم بربكم وأنتم لا تشعرون؛ لأنكم جهلتم معاني كتاب ربكم الحكيم العليم، وأخرجتم أنفسكم عن حيز الإنسانية* إلى حضيض الحيوانية بل إلى سعير الشيطانية * ... ، فلا تلوموا إلا أنفسكم أيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 972 المجرمون ... ) . قلت: بعد ما عرفنا بعض جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في علم الغيب والتصرف لغير الله- ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف جهودهم في إبطال شبهات القبورية في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 973 الفصل الثالث في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تثبتوا بها لدعم عقيدتهم في علم الغيب والتصرف في الكون لغير الله تعالى للقبورية شبهات كثيرة تشبثوا بها، تشبث الغريق لدعم عقيدتهم الفاسدة في زعمهم علم الغيب والتصرف في الكون لغير الله. أذكر منها أشهرها مع كلام علماء الحنفية في إبطالها: الشبهة الأولى: شبهة الاستقلال والعطاء. زعمت القبورية: أن الشرك هو اعتقاد أن غير الله تعالى يعلم الغيب علما ذاتيا استقلاليا، وأما إذا اعتقد الإنسان أن الأنبياء، والأولياء يعلمون الغيب بإعطاء الله تعالى لا بالاستقلال - فهذا لا يدخل في باب الشرك؛ فكل ما ورد من النصوص التي فيها نفي علم الغيب من غير الله تعالى- فالمراد: نفي علم الغيب على سبيل الاستقلال، لا على سبيل الإعطاء من الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 975 الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بعدة وجوه: الوجه الأول: أن يقال: لا ريب أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم وجود عطائي لا ذاتي وكذا رسالته صلى الله عليه وسلم أمر عطائي لا ذاتي، وهكذا القرآن الكريم عطاء من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فجميع علومه صلى الله عليه وسلم عطائية لا ذاتية، وإذا ثبت ذلك- فلا يمكن أن يعتقد أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم علم الغيب علما ذاتيا بالاستقلال، لأن الموصوف إذا كان عطائيا- فلا يعقل أن تكون صفاته ذاتية بالاستقلال دون العطاء، وهذا أمر ضروري معلوم ببداهة العقول. الوجه الثاني: أن يقال: إن من قال: إن الله تعالى إله وخالق ورازق بالاستقلال وبالذات، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إله، وخالق، ورازق بالعطاء، لا بالذات ولا بالاستقلال- فلا شك أنه كافر خارج عن ملة الإسلام، مرتد عن الدين، ومشرك شركا صراحا، وكافر كفرا بواحا؛ مع أنه لم يدع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خالق ورازق وإله بالذات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 976 والاستقلال، فهكذا حكم من اعتقد أن الله تعالى عالم الغيب بالذات والاستقلال، وأن الأنبياء والأولياء يعلمون الغيب بالعطاء. الوجه الثالث: أن يقال: إن الله تعالى لم يعط أحدا علم الغيب كله فالله هو وحده يعلم المغيبات كلها؛ أما غيره تعالى فلا يعلم الغيب كله لا استقلالا ولا عطاء؛ وقد صرح علماء الحنفية بأن الله تعالى لم يشرك أحدا في علم غيبه على سبيل العطاء. وقد صرح علماء الحنفية في تفسير قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس: 69] : بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد علم الشعر؛ فبطلت شبهة العلم العطائي من أصلها. ونص علماء الحنفية في تفسير قوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164] : على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط علم أخبار الرسل كلهم، بل الله تعالى أعطاه علم بعض أخبار بعض الرسل؛ فهذا دليل قاطع على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط علم الغيب كله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 977 فلم يعلم الغيب كله حتى على سبيل العطاء من الله تعالى. الشبهة الثانية: شبهة الكرامة: لقد تشبثت القبورية لجواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات بكرامات يذكرونها عن أوليائهم الذين يستغيثون بهم عند الشدائد، ويقولون بجواز الاستغاثة بهم عند الملمات بحجة أن الله تعالى أكرمهم بالكرامات التي بها يقتدرون على كشف المكروبين، وإجابة دعاء المضطرين، وبها يتصرفون في الكون، وبها يعلمون حال الداعين، وبها يسمعون نداءهم. وهذه الشبهة من أهم الشبهات التي يذكرها عامة القبورية في كتبهم. ويقولون: إن الكرامة تظهر من الولي بقصده وبغير قصده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 978 وقصدهم بذلك أن الأولياء لهم قدرة على التصرف في الكون، وأن ذلك منهم كرامة، وأن الكرامة تصدر منهم بقصد منهم أيضا، ويقولون: إن الكرامة لا تنقطع بعد الموت، وجازف بعض أئمة القبورية كالكوثري وغيره فقالوا: " الولي في الدنيا كالسيف في غمده فإذا مات تجرد منه، فيكون أقوى في التصرف ". وهكذا نرى أئمة القبورية يصرحون أن الأولياء أقوى تصرفا وقدرة بعد الموت منهم في حياتهم؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 979 ولذلك يقولون: الاستمداد من الموتى أسرع في قضاء الحاجة. وإنه أنجح لمقصوده، وأقرب إلى الإجابة. ويقولون جهارا دون إسرار بلا حياء من رب العباد ولا من العباد: اعتناء الولي باللائذين به بعد موته يكون أكثر من اعتنائه بهم في حياته؛ لأنه كان مشغولا بالتكليف، وبعد موته يطرح عنه الأعباء وتجرد؛ ولأن الحي فيه بشرية وخصوصية، والميت ليس فيه إلا الخصوصية فقط، فالولي لم يفقد في قبره شيئا من علمه وعقله وقواه الروحانية، بل يزداد علما وحياةً وروحانيةً وتوجها، فينفع بعد مماته أكثر مما ينفع في حياته. هكذا اهتم أئمة القبورية بكرامات الذين يستغيثون بهم في الشدائد ليحتجوا بها على جواز الاستغاثة بهم، بل على وجوبها. فنراهم قد أفردوا لها مباحث وفصولا وأبوابًا، بل رسائل ومؤلفاتٍ، وقد أتوا في هذا الباب بأعجب العجب من الأكاذيب والأساطير. وإذا أنكر عليهم أحد وقال لهم: إن هذه الخوارق بعد موت الأولياء باطلة لا أصل لها- قاموا عليه وهولوا وجولوا وصاحوا وصرخوا وهاجوا وماجوا قديما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 980 وحديثا. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن شبهة الكرامات، وأبطلوا تشبث القبورية بها بعدة أجوبة جعلوها كأمس الدابر، أذكر منها ثمانية: الجواب الأول: أنه لا ملازمة بين الكرامات وبين الاستغاثة بأصحابها، لأن الكرامة لا تقتضي جواز الاستغاثة بصاحبها ولا تبيحها، بل الاستغاثة بأصحاب الكرامات ليست إلا طريقة أهل الأوثان؛ قال الإمام صنع الله الحلبي: (وأما كونهم مستدلين على أن ذلك من الكرامات، فحاشا الله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة، وأن يظن بهم أن دفع الضر وجلب النفع منهم كرامة، فهذا ظن أهل الأوثان، كما أخبر الرحمن [عنهم بقوله] : {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 981 [يونس: 18] . وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] . وأما أهل الإيمان فليس لهم غير الله دافع* ومنه تحصل المنافع، قال جل ذكره: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 40-41] ... ، فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وملك وولي وغيره على وجه الإمداد إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره* ولا خير إلا خيره) . وقال العلامة شكري الآلوسي في الرد على ابن جرجيس البغدادي مبينا أن الكرامة لا تبيح الاستغاثة بأهلها، ومحققا أن ثبوت الكرامة لا يستلزم جواز الاستغاثة: (ثم ساق كلاما طويلا يتعلق بإثبات كرامات الأولياء، ظنا منه أن ثبوته يبيح له ولأمثاله دعاء الصالحين ونداءهم في الملمات، والاستغاثة بهم في الشدائد، فسبحان الله العظيم ما أشغف هذا الرجل بكل ما يخالف الشريعة الغراء* ويألفه العوام والجهلاء * فلذلك أفتى بكل نكير * ولم يعترف بوجود منكر في العالم بتقرير ولا تحريم، وأثقل ما يكون عليه الأمر بالمعروف، ما وردت به السنة، وإذا ذكر الله وحده اشمأز قلبه * واكفهر وجهه* وصار في أعظم محنة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 982 وخلاصة الكلام * أنه أحد إباحية الطغام*) . الجواب الثاني: أن الكرامة أمر خارق للعادة يظهرها الله تعالى على يد ولي من أوليائه بدون اختياره، وهي من فعل الله عز وجل ولا يد للولي فيها، بل ليس للولي كسب في الكرامة. وقد صرح بذلك كثير من أئمة القبورية، وكلامهم حجة على إخوانهم من أهل مشربهم؛ بل صرح النابلسي أحد كبار مشاهير أئمة القبورية (حنفي 1143هـ) بأن الكرامة بمحض قدرة الله تعالى وإرادته، ولا مدخل لقدرة العبد فيها، ولا لإرادته، ومن زعم أن للولي تأثيرا فيها فقد كفر. بل صرّح علماء الحنفية بأن المعجزة أيضا ليست إلا فعلا لله سبحانه. وقال الإمام صنع الله الحلبي مبطلا شبهة الكرامة ومبينا أن الكرامة ليست في قدرة الولي واختياره: (وأما اعتمادهم بأن هذه التصرفات لهم من الكرامات- فهو من المغلطة.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 983 لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به من أولياءه وأنبياءه، لا عن قصد لهم ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم ... ، فلا يقال: إنه من تصرفهم أو يطلق عليه ما قالوه من التصرف، " وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا "؛ فالمؤمنون المخلصون مبرأون من مثله) . وقال رحمه الله أيضا: (والكرامة ليست من هذا الباب لأنها من إظهار التكرم لأهل تقواه بدون الإذن لهم ودون التحدي والقصد منهم) . وقال رحمه الله أيضا: (وهي أمر خارق للعادة كالمعجزة غير أنها لا تقرن بدعوى نبوة ولا بتحدي، ولا فيها قصد بحيث كلما أراد جرت، لأنها من الآيات وهي على وفق إرادته تعالى؛ قال جل ذكره: {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام:109، العنكبوت: 50] . وليس للمخلوق فيها تصرف بما أراد، ومن أراد، وأن لا تكون مصادمة للشريعة الغراء) . قال العلامة شكري الآلوسي مبطلا شبهة المستغيثين بالأموات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 984 المتشبثين بالكرامات: (وأما الجواب عن مسألة الكرامات- فيقال: إن كرامات الأولياء حق لا شبهة فيها ... ؛ ولكن الكرامة فعل الله لا فعل للولي فيها، ولا قدرة له عليها، ولا تأثير، وكل من يذكر تعريف الكرامة وحدها يقول: " هي خرق الله العادة لوليه، لحكمة ومصلحة تعود عليه أو على غيره "، وعلى هذا التعريف لا فعل للولي فيها ولا إرادة، فقد تكون سببا يقتضي دعاء من قامت به أو فعلت له، ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا، وأفضل الناس الرسل، والملائكة من أفضل خلق الله، ولهم من المعجزات والكرامات ما ليس لغيرهم، فقد جاء عيسى ابن مريم بما هو أعجب المعجزات والكرامات: يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئهم من الغيب بما يأكلون وما يدخرون، وقد أنكر الله تعالى على من قصده ودعاه في حاجته وملماته، وأخبر أن فاعل ذلك كافر بربه ضال بعبادة غيره؛ قال تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} ... [آل عمران: 80] الآية، والأرباب هم المعبودون المدعوون، وقال تعالى فيمن عبدوا المسيح: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76] ،. وسيأتيك أن الدعاء والنداء بما لا يقدر عليه إلا الله داخل في مسمى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 985 العبادة فتنبه، فأخبر تعالى عن المسيح أنه لا يملك لمن دعاه نفعا ولا ضرا،. وإن قل؛ كما يفيده التنكير، وأبطل عبادته، وأنكرها أشد الإنكار* ومعجزاته أوضح من الشمس في وسط النهار) . وقال رحمه الله أيضا: (لا يستغاث بالمخلوق فيما يختص بالخالق، ولو كان المخلوق قد ثبت له من الكرامة ما ثبت، فالكرامة فعل الله لا فعل غيره، والمستغاث هو الله لا غيره؛ ولم يكن الصحابة يستغيثون ويسألون من ظهرت له كرامة أو حصلت له خارقة من الخوارق؛ فهذا الكلام الذي قاله الغلاة جهل مركب يليق بقائله، وكل إناء بالذي فيه ينضح) . الحاصل: ما قاله العلامة خرم علي البلهوري (1273هـ) . (نتأسف على حال المسلمين حيث إنهم نسوا واجباتهم التي أمروا بها في القرآن واتبعوا الحكايات الكاذبة والأساطير الواهية، وبنوا اعتقادهم عليها، وليس المراد أننا ننكر كرامات الأولياء، فإن كراماتهم حق ثابتة، يظهرها الله على أيدي أوليائه، ولكن الكرامة لا تصدر منهم كل وقت، ولا هم قادرون عليها، ولا اختيار لهم في صدور الكرامات بحيث يفعلونها ما يشاءون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 986 فإذا ثبت أن الكرامة ليست في اختيار الأولياء، ولا لهم قدرة عليها فالاستغاثة بهم بحجة الكرامات سفه محض، وإن لم يكن هذا سفه، فما هو السفه؟) . الجواب الثالث: أن علماء الحنفية قد صرحوا: بأن الكرامة بمعنى صدور أمر خارق للعادة تسلب بعد موت الولي. قلت: وذكر علماء الحنفية أن الحكمة في صدور الكرامة من الولي بمعنى أمر خارق للعادة هو التثبت على الحق واليقين والاجتهاد في العبادة والاحتراز عن السيئات. قلت: هذا لا يُحتاج إليه بعد موت الولي، لأن عين اليقين يحصل بعد الموت، وما بعد الموت ليس وقت التكليف، ولأجل هذا صرح علماء الحنفية بأن الكرامة ليست مقصودة، بل المقصود هو الاستقامة، وقالوا: إن الكرامة الحقيقية هي الاستقامة، وقالوا: إن الاستقامة جزء من ألف كرامة؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 987 بل قالوا: " وأما الكرامة فعندهم حيض الرجال"، وقالوا: " كن طالبا للاستقامة لا طالبا للكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب شكر الاستقامة "، وقالوا في فضل الاستقامة على الكرامة وبيان الحكمة في صدور الكرامة: (والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة يقينا، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة فهي كالكرامة) . قلت: هذه حقيقة قد اعترف بها بعض أئمة القبورية أيضا؛ فقد قال محمد بن سليمان البغدادي الحنفي النقشبندي (1234هـ) : (والكرامة أمر خارق للعادة على يد ولي غير مقارن لدعوى النبوة منه، وفيها تثبيت له، ولهذا ربما وجدها أهل البدايات في بداياتهم، وفقدها أهل النهايات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 988 في نهاياتهم، لأن ما هم عليه من الرسوخ والتمكن لا يحتاجون معه إلى تثبت، ولذلك قل ظهورها على يد السلف من الصحابة والتابعين، وصاحب الكرامة لا يستأنس بها بل يشتد خوفه، مخافة أن يكون ذلك استدراجا) . وقد ذكر العلامة اللكنوي المعظم لدى الحنفية عامة، والكوثري والكوثرية خاصة الفائدة والحكمة من الكرامة، ثم قال: (وإذا كانت هذه هي الحكمة من الكرامة بمعنى خرق العادة- علم أن الكرامة لا تكون بعد الممات؛ لأنه لا معنى لازدياد اليقين بعد الموت) . الجواب الرابع: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأنه لو ثبتت الكرامة بمعنى خرق العادة لشخص من الأولياء- فإنه يجتهد في إخفائها ولا يركن إليها، ويخاف أن تكون من قبيل الاستدراج، ويسعى في أن لا يطلع عليه أحد، ويحاول كتمانه، خوفا من الاغترار والاشتهار. قلت: فعلى هذا لا يمكن للولي أن يجعل كرامته سلاحا يحارب به، ولا آلة للتصرف في الكون، ولا سببا لإغاثة المستغيثين به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 989 الجواب الخامس: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن كل أمر خارق للعادة ليس من الكرامة ولا دليلا على الولاية، بل قد يكون الأمر الخارق للعادة من قبيل الاستدراج الشيطاني، والأحوال الشيطانية التي تصدر من الفسقة والفجرة، بل من الكفرة والمشركين، حتى أمثال فرعون، والسامري، والدجال؛ فلا يدل الأمر الخارق للعادة على أنه كرامة، ولا على أن صاحبه من أولياء الله؛ فإن الدجال يقول للسماء: أمطري، فتمطر، وللأرض: أنبتي، فتنب، وللخربة: أخرجي كنزك فتخرج؛ ومع هذا فإنه دجال، أبتر، كذاب، ملعون؛ فلا اعتداد بمخاريقهم وإن طاروا في الهواء، ومشوا على الماء. قلت: فلم يبق مستمسك للقبورية بالخوارق على الاستغاثة بالأموات عند الكربات. الجواب السادس: أن كثيرا مما يظنه القبورية كراماتٍ- هي في الحقيقة ليست بكراماتٍ لأولياء الرحمن؛ بل الحقيقة أن الشياطين قد تظهر لهم بصورة شيوخهم وأوليائهم، وأتوا بغرائب من الخوارق إضلالا لهم واستدراجا لهم، فيظنون أن هذه من كرامات الأولياء، وتتمثل لهم الشياطين فيظنون أن الولي الفلاني قد حضر للإغاثة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 990 وأن فلانا الولي قد خرج من القبر، وأن الولي الفلاني قد كلمه أو عانقه، والشيطان ربما يقضي بعض حاجته، فيظن أن هذه من كرامات الولي مع أن هذه أحوال شيطانية تصدر من هؤلاء الشياطين. وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المرام: 1 - قال الإمام محمد البركوي (981هـ) رحمه الله، والعلامتان السهسواني (1326هـ) ، وشكري الآلوسي (1342هـ) واللفظ للأول: (وهذه الأمور المبتدعة عند القبور على مراتب: أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب في بعض الأزمان، كما يتمثل لعباد الأصنام؛ فإنه يدعو من يعظمه فيتمثل له الشيطان ويخاطبه ببعض الأمور الغائبة ... ، وكذلك يوجد بعباد القبور عند القبور أحوال يظنونها كرامات، وهي من الشيطان؛ مثل أن يوضع عند قبر من يظن كرامته مصروع، فيرون أن الشيطان قد فارقه، فإنه يفعل ليضل) . وفي تمثل الشياطين للقبورية وتلاعبهم بهم واستدراجهم وإضلالهم- كلام مهم للإمام أحمد الرومي (1043هـ) أحد كبار الحنفية وللشيخين سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي. 2 - وقال الإمام صنع الله الحلبي (1120هـ) : (لأن غالب من يتكلم في هذه العصور بالولاية ممن خلا عن العلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 991 وجعل تقواه في الخلوات وترك الجماعات ... ، ليتصل بإخوانه من الجن ويتكلم بطامات يظنونها من كرامات) . 3 - وقال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) ، وابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) واللفظ للأول: (ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات.. هيهات،!؟!؛ إنما هو شيطان أضله وأغواه* وزين له هواه* وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام* ليضل عبدتها الطغام* وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته، كرامة له، ولقد ساء ما يحكمون) . ومثله كلام للإمام أحمد الرومي (1043هـ) ، والشيخين سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي. 4 - وقد ذكر العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : أن كثيرا ممن يزعم القبورية أنهم أولياء الرحمن، وأن لهم كرامات هم في الحقيقة أولياء الشيطان، ولهم اتصال بالجن والشياطين، فيصدر منهم أمور شيطانية يظنونها كرامات الأولياء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 992 فمنهم من يحمل إلى مكان ثم يعود، ومنهم من يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين ونأتيه به، ومنهم من تدل الشياطين على السراق، وبعضهم قد لا يريدون الكذب، ولكن يتخيل لهم أشياء وهمية يظنونها أمورا واقعة في الخارج ويظنون أنها كرامات الأولياء، وتكون من تلبيسات الشياطين. 5 - وقال رحمه الله في بيان تمثل الشياطين للقبورية لإغوائهم: (وهؤلاء مستندهم على العادة قول طائفة: قبر معروف، أو غيره ترياق مجرب، ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء، وقضى بعض الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان، فإن الشياطين تتمثل لهم، ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال المقام) . 6 - وقال العلامة الخجندي (1379هـ) في بيان أن الشياطين تتمثل للقبورية فيظنون أن الولي قد أتى بالكرامة لإغاثتهم: (وقد يتمثل الشيطان بصورة المستغاث به ويخاطبه ويقضي بعض حوائجه، ويخبره ببعض الأمور الغائبة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 993 فيغتر الغر أنه المستغاث به فيقع في الضلال- نعوذ بالله منه) . وللإمام أحمد الرومي (1043هـ) ، والشيخين سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي كلام في غاية الأهمية. 7 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) : (ومعلوم أن المشركين من عباد الأصنام وغيرهم كانت الشياطين تضلهم فتكلمهم وتقضي لهم بعض حوائجهم وتخبرهم بأمور غائبة عنهم ... ، وهكذا المشركون في زماننا الذين يدعون غير الله كالشيوخ الغائبين والموتى- تتصور لهم الشياطين في صور الشيوخ، حتى يظنوا أن الشيخ حضر، وأن الله صور على صورته ملكا، وأن ذلك من بركة دعائه؛ وإنما يكون الذي تصور لهم شيطان من الشياطين ... ، وهذه الخلوات قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان ولا إقامة، ولا مسجد تصلى فيه الصلوات الخمس، إما مساجد مهجورة، وإما غير مساجد، مثل الكهوف، والغيران التي في الجبال ومثل المقابر، ولا سيما قبر يحسن به الظن، ومثل المقابر التي يقال إن بها أثر نبي أو رجل صالح، ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية يظنونها كرامات رحمانية، فمنها: أن صاحب القبر قد جاء إليه- وقد مات من سنين كثيرة ... ، والشياطين كثيرا ما يتصورون بصور الإنس في اليقظة والمنام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 994 وقد يأتي لمن لا يعرفه فيقول: أنا الشيخ الفلاني، والعالم الفلاني، وربما قال: أنا أبو بكر، وعمر، وربما قال: أنا المسيح، أنا موسى، أنا محمد صلى الله عليه وسلم ... ، ومن هؤلاء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي أن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من قبره في صورته فيكلمه، ومن هؤلاء من رأى في دائرة الكعبة صورة شيخ قال: إنه إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الحجرة وكلمه، وجعلوا هذا من كراماته، ومنهم من يعتقد أنه إذا سئل المقبور أجابه، وبعضهم كان يحكي أن ابن منده كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه، وآخر من أهل الغرب حصل له مثله وجعل ذلك من كراماته، حتى قال ابن عبد البر لمن قال ذلك: ويحك، أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 995 فهل كان في هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت فأجابه؟ وقد تنازع الصحابة رضوان الله عليهم في أشياء، فهلا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم؟؟؟ وهذه ابنته فاطمة رضي الله عنها تنازعت في ميراثها، فهلا سألته صلى الله عليه وسلم فأجابها؟؟؟) . 8 - وقال رحمه الله في بيان تمثل الشياطين للقبورية: (هكذا كان المشركون يعوذون برجال من الجن وقد يتمثل لهم الجن، وقد يخبرهم ببعض المغيبات ويحصل لهم نوع من التصرفات، وكذلك كانت الشياطين تضل المشركين وتدخل في الأصنام فتكلمهم، فهكذا المشركون [القبوريون] يستغيثون بالمشائخ فيحصل لهم قضاء الحوائج) . 9 - وذكر شيخ القرآن الفنجفيري أيضا: أن القبورية لما استغاثوا بغير الله تعالى، وعظموا القبور والمشائخ، وطلبوا منهم الحوائج- أطاعهم الشياطين ليكفروا بالله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 996 فمنهم من تطير به الشياطين في الهواء إلى مكة أو إلى بيت المقدس أو غيرهما من البلاد ... ، وقد يرى أحدهما القبر قد انشق وخرج منه الميت، فعانقه أو صافحه، أو كلمه، وهو يظن أنه الولي صاحب القبر، ويكون ذلك شيطانا تمثل على صورة صاحب القبر ليضله، وهذا يوجد كثيرا عند قبور الصالحين. 10 - وقال رحمه الله أيضا: (وكثير من الناس يعظمون قبور الكافرين والمنافقين، وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل هو قبر كافر، وعندها شياطين تضل بها من تضل، ومنهم من يرى شخصا في المنام يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا تصور بصورته أو بغير صورته كالشياطين الذين يكونون للأصنام وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين، وهذا كثير في زماننا وغيره ويخرج الشيطان فيقضي حوائجه ومثل هذا كثير في شيوخ الكفار) . 11 - وقال العلامة الرباطي، مبينا وجه تمثل الشياطين للقبورية: (لا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشائخ الغائبين ولا الميتين مثل أن يقول: يا سيدي فلان. أغثني، وانصرني، وادفع عني. أنا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 997 حسبك ... ، ونحو ذلك، بل كل هذا من الشرك الذي حرَّم الله ورسوله، وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم- لما كانوا من جنس عباد الأوثان- صار الشيطان يضلهم ويغويهم كما يضل عباد الأصنام ويغويهم، فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة كما تخاطب الشياطين الكهان، وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك أو يظن أن الله صوَّر ملكا على صورته فعل ذلك. ويقول أحدهم: هذا سر الشيخ وحاله، وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به.. كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب، وهو اليوم موجود في المشركين من الشرك والهند وغيرهم) . الجواب السابع: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن القبورية كثيرا ما ينادون الفسقة والفجرة، وتارة يطلبون المدد من الزنادقة والملاحدة، وأخرى يستغيثون بأعداء الله الكفرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 998 فهل هم أولياء الله؟؟؟، وهل ما صدر منهم يعد من الكرامات؟؟؟، كلا بل هم من أولياء الشيطان* وهم من أعداء الرحمن * وأن خوارقهم من استدراج الشياطين* ليضلوا بها هؤلاء القبورية المساكين* ولكن القبورية الحمقى، وصلوا في السفاهة إلى حد يستغيثون بالفساق الفجار الكفار عند الملمات* ويعدون خوارقهم من ولاية الله والكرامات* وفيما يلي نصوص بعض علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب: 1 - قال الإمام أحمد الرومي (1043هـ) ، وتبعه الشيخان سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي، واللفظ للأول: (ومنهم من يستغيث بالمخلوق سواء كان المخلوق حيا أو ميتا، أو مسلما أو غير مسلم، ويتصور الشيطان بصورته، ويقضي حاجة من يستغيث به، فيظن أنه هو الذي استغاث به؛ وليس كما يظن، بل إنما هو الشيطان أضله؛ لما أشرك بالله؛ فإن الشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته ... ؛ فإنه إذا أعانهم على مقاصدهم- فهو يضرهم أضعاف ما ينفعهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 999 فإذا كان منتسبا إلى الإسلام- إذا استغاث بمن يحسن به الظن من شيوخ المسلمين، يجيء إليه الشيطان في صورة ذلك الشيخ، فإن الشيطان كثيرا ما يجيء على صورة الصالحين، ولا يقدر أن يتمثل بصورة رسول رب العالمين، ثم إن ذلك الشيخ المستغاث به- إن كان ممن له علم- لا يخبره الشيطان بأقوال أصحابه المستغيثين به، وإن كان ممن لا علم له- يخبره بأقوالهم، وينقل إليهم كلامه- فيظن أولئك الجهلة: أن الشيخ سمع أصواتهم، وأجابهم مع بعد المسافة، وليس كذلك، بل إنما هو بتوسط الشيطان، وقد روي عن بعض المشائخ الذين قد جرى لهم مثل ذلك ... ، أنه قال: يرى لي شيء بَرَّاق مثل الماء أو الزجاج، ويمثل لي فيه ما يطلب مني من الأخبار، فأخبر الناس به، وبهذا الوجه يصل إليَّ كلام من يستغيث بي من أصحابي، فأجيبه، فيصل إليه جوابي، وكثير من هذه الخوارق يحصل لكثير من الشيوخ الذين لا يعلمون الكتاب والسنة ولا يعلمون بهما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1000 فإن الشيطان كثيرا ما يلعب بالناس ويريهم الأشياء الباطلة في صورة الحق ... ) . 2 - قال الإمام صنع الله الحلبي (1120هـ) : (وإذا قضى الله حاجة لهم، نصبوا لمشائخهم رايات، وعَدُّوا ذلك لهم كرامات، وهذا من زخارف الشيطان للإنسان، قال جل ذكره {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 36- 37] . وقال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120] ، فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي، أو غير ذلك في كشف ضر، أو قضاء حاجة تأثيرا- فقد وقع في وادي جهل خطير* فهو على شفا حفرة من السعير* وأما كونهم مستدلين على أن ذلك من الكرامات- فحاشا الله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، وأن يظن بهم أن دفع الضر وجلب النفع منهم كرامة- فهذا ظن أهل الأوثان) . 2 - وقال رحمه الله مبينا أن غالب من يستغيث بهم القبورية هم فسقة فجرة: (لأن غالب من يتكلم في هذه العصور بالولاية، ممن خلا عن العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1001 وجعل تقواه في الخلوات وترك الجماعات ... ، ليتصل بإخوانه من الجن، ويتكلم بطامات يظنونها منه كرامات) . 4 - وقال رحمه الله أيضا: (كما يقع لبعض الظلمة والفساق والجهال والكفرة أحيانا استدراجا لهم زيادة في غيهم ... ؛ فمنهم من يحمل في الهواء، ومنهم من يؤتى بالأموال المسروقة، ومنهم من يدب على السرقة ليحتال على أخذ أموال الناس بالولاية، ونحو ذلك من الشعوذات التي يسمونها كرامات ... ، فلا يكون مثلها كرامات ... ، فإن أولياء الرحمن هم المتقون) . 5 - وقال رحمه الله أيضا، ردا على القبورية، مبينا أن ما يسمونه كرامات هي في الحقيقة ليست بكرامات لأولياء الرحمن؛ بل هي تلبيسات تصدر من هؤلاء الفسقة أولياء الشيطان: (وأثبتوا التصرف لأرواحهم لأنها باقية، وقالوا بزعمهم ما لم يأذن به الله افتراء على الله، ولم يفرقوا بين كرامات الرحمن لأوليائه وتلبيسات الشيطان لأعدائه، فتركوا حقائق الإيمان، وأعرضوا عن نصوص القرآن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1002 و " {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} "، " {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ") . 6 - وقد رثى حال هؤلاء الملاحدة القبورية الوثنية، العلامة المؤرخ عبد الرحمن بن حسن الجبرتي، أحد كبار علماء الحنفية (1237هـ) ، مبينا ما يحدث في مولد العفيفي من الفسق والفجور جهارا دون حياء باعتقاد أن هذا قربة وعبادة لله عز وجل، وأنهم أبادوا أموالا هائلة في سبيل الشيطان، وأن العلماء يشاركونهم فيقرونهم على هذا الفسق والفجور: (وبنوا على قبره قبة معقودة، وعملوا له مقصورة، ومقاما في داخلها، وعليه عمامة كبيرة، وصيّروه مزارا عظيما يقصد للزيارة، ويختلط به الرجال والنساء، ثم أنشأوا بجانبه قصرا عاليا، عمّره محمد كتخذا أباظه، وسوروا له رحبة متسعة مثل الحوش لموقف الدواب من الخيل والحمير، ودثروا بها قبورا كثيرة بها كثير من الأولياء والعلماء والمحدثين وغيرهم من المسلمين والمسلمات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1003 ثم إنهم ابتدعوا له موسما وعيدا في كل سنة يدعون إليه الناس من البلاد القبلية والبحرية، فينصبون خياما كثيرة وصواوين، ومطابخ، وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم، وفلاحي الأرياف، وأرباب الملاهي، والملاعب، والغوازي، والبغايا، والقرادين، والحواة. فيملأون الصحراء والبستان فيطأون القبور، ويوقدون عليها النيران، ويصبون عليها القاذورات، ويبولون، ويتغوطون، ويزنون، ويلوطون، ويلعبون، ويرقصون، ويضربون بالطبول والزمور ليلا ونهارا، ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر، ويجتمع لذلك أيضا الفقهاء والعلماء وينصبون لهم خياما أيضا، ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار، والعامة، من غير إنكار، بل ويعتقدون ذلك قربة وعبادة، ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء فضلا عن كونهم يفعلونه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1004 فالله يتولى هدايتنا أجمعين) . 7 - وقد حقق العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : أن القبورية أشنع شركا من الوثنية الأولى من ناحية أنهم كثيرا ما يدعون الفسقة والفجرة والزنادقة والكفرة عند الملمات بحجة أنهم أولياء، وأن لهم كرامات، قال رحمه الله تعالى: (والأمر الثاني: أن الأولين كانوا يدعون مع ربهم أناسا مقربين عند الله، إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة ... ، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنى، والسرقة، وترك الصلاة وغير ذلك، ومن يعتقد في الصالحين ومن يعبد ما لا يعصي كالخشب والحجر- أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به) . 8 - وقد صرح العلامة شكري الآلوسي بأن كثيرا من أئمة القبورية زنادقة وإباحية، بل منكرون للمعاد، وأنه لا جنة ولا حساب ولا نار ولا كتاب. وصرح بأن غالب من يظنون فيهم الولاية والكرامة هم وجودية وحلولية ملاحدة، أمثال: ابن عربي (638هـ) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1005 وابن الفارض (632هـ) ، وذكر نماذج من كفرهم وزندقتهم وكفرياتهم في الحلول والاتحاد والإلحاد، وذكر أن القبوريين مع ذلك يجعلونهم من أولياء الله تعالى، ويستغيثون بهم في الملمات* بحجة أنهم أولياء أصحاب الكرامات* مع أنهم أولياء الشيطان * وخوارقهم من تلبيسات الشيطان* 9- وقال العلامة شكري الآلوسي، مبينا أن غالب من يستغيث بهم القبورية، ويزعمون أنهم أولياء الله، وأن لهم كرامات- هم في الحقيقة من إخوان الشياطين، وخوارقهم ليست كرامات، بل هي من الأحوال الشيطانية: والكلام على بدع الطرائق وأهلها مفصل في غير هذا الموضع، وفي كتاب " كشف أحوال المشائخ الأحمدية، وبيان أحوالهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1006 الشيطانية " ما يشفي صدور المؤمنين وتقر به عين الموحدين) ، ثم ذكر رحمه الله أن هذه الطرق الصوفية: من الخلوتية، والشاذلية، والقادرية، والرفاعية، والنقشبندية- ليست طرقا علية، بل هي طرق البدع والضلالات* ولا بركة في هذه الخزعبلات* 10- وقد قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) رحمه الله في الصيادي إمام الرفاعية ووليهم في عصره: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1007 إنه دجال العصر، وشيخ الضلال، ومنبع الكذب والافتراء، وكم له من المكائد والدسائس، وكم انتحل لأحمد الرفاعي كتابا وافترى له دعاوى باطلة، وإنه خبيث له من المكائد والحيل ما يعجز الشيطان عن مثلها، وإن شر هذا الزائغ قد سرى إلى جميع مردته ومنهم هذا النبهاني الزائغ؛ لقد جربتهم فرأيت منهم ... خبائث بالمهيمن نستجير وهذا اللعين لعله من نسل ابن صياد اليهودي؛ لأن أفعاله تؤيد هذه النسبة، وإن فاتكم أصل امرئ ففعاله ... تنبيكم عن أصله المتناهي وهو اليوم أعظم بلاء على المسلمين، وقد أضر الدولة والملة، وبواسطته قد وسد الأمر إلى غير أهله، وأضر ببيت مال المسلمين؛ ولو كان هذا موضع القول لاشتفى ... به القلب لكن للمقال مواضع ذكره تصفيق ورقص وضرب دفة، وإباحة المحرمات، والمنكرات، وسل منه غداة يهز رأسا ... بحلقة ذكره ويدير دبرا أقال الله صفق لي وغن ... وقل كفرا وسم الكفر ذكرا فويلك قد كفرت ولست تدري ... ولم تبرح على هذا مصرا 11 - وقال رحمه الله في الكشف عن ديانة النبهاني وشيخه الصيادي رئيس الرفاعية ووليهم، وعامة المتصوفة الذين يظن بهم القبورية أنهم من أولياء الله، وهم في الحقيقة من أولياء الشيطان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1008 أين زهد النبهاني وورعه وتقواه؟ وقد صرف عمره في الأحكام القانونية الوضعية الكفرية، والحكم بغير ما أنزل الله! أما يستحي من هذا حاله أن يدخل نفسه في عداد المسلمين؟ فضلا عن أولياء الله؟ وشيخه وشيطانه الصيادي مقتدى الدجالين، خبيث النفس والأفعال، أبي البدع وعنوان الضلال!، وهكذا غالب متصوفة زماننا، فإنهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار. 12 - وقد شنع شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) على القبورية: بأنهم كثيرا ما يعظمون قبور الكافرين المنافقين على ظن أنهم أولياء الله، وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل هو قبر كافر، وذكر أن القبورية كثيرا ما لا يذهبون إلى قبور أولياء الله صدقا، بل يذهبون إلى قبور أمثال الإسماعيلية الباطنية، بحجة أنهم أشراف علويون، وإلى قبور النصارى. وذكر أن فيمن يستغيث بهم القبورية على ظن أنهم أولياء الرحمن- هم في الحقيقة أولياء الشيطان، فمنهم من تطير به الشياطين في الهواء حملا له من مكان إلى مكان، فتارة تذهب به إلى مكة، وتارة إلى بيت المقدس، وغيرهما من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1009 البلاد، ويكون زنديقا كافرا، فاقترن به الشياطين وخدموه لما فيه من الكفر والزندقة والفسوق والعصيان. ولما كان كثيرٌ من أصحاب الخوارق فسقةً وفجرةً، بل كفرةً- حذر علماء الحنفية من الاغترار بكل صاحب الخوارق، وحذروا منهم فقالوا: (ولو نظرتم إلى رجل أعطي نوعا من الكرامات حتى تربع في الهواء، ومشى على الماء- فلا تغتروا به- حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الأحكام الشرعية) . قلت: لقد صدق هؤلاء العلماء من الحنفية، فقد وصلت القبورية إلى حد لم يكتفوا بالاستغاثة بالصالحين، بل عدوا كثيرا من الفسقة والفجرة والزنادقة والملاحدة والاتحادية، والحلولية في عداد الأولياء؛ وعدوا فسقهم وفجورهم وخروجهم على شرع الله من الكرامات، واستغاثوا بهم؛ بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1010 استغاثوا بالكلاب، والحرباء أيضا!، وفيما يلي أذكر بعض الأمثلة لتكون شاهدة لما قاله هؤلاء العلماء من الحنفية: المثال الأول: أن الشعراني أحد كبار أئمة القبورية، بل أحد الزنادقة الصوفية، ذكر من كرامات علي وحيش المجذوب (917هـ) أنه كان يفعل الفاحشة بحمارة أمير البلد في الشارع العام أمام الناس جهارا بدون حياء؛ فكان يأمر الأمير أن يمسك رأس حمارته ليفعل بها الفاحشة، وفي ذلك يقول الشعراني: (وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة ويقول له أمسك رأسها لي حتى أفعل فيها، فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع يمشي خطوة وإن سمع حصل له خجل عظيم، والناس يمرون عليه، وكان له أحوال غريبة، وقد أخبرت عنه سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه فقال: هؤلاء يخيلون للناس هذه الأفعال وليس لها حقيقة) ! قلت: انظر أيها المسلم إلى هؤلاء الزنادقة الفسقة الفجرة! المثال الثاني: أن الصيادي ذكر أن أحد المشائخ كان يضاجع زوجته ويجامعها أمام تلميذه امتحانا واختبارا له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1011 المثال الثالث: أن الحسين الخزرجي (657هـ) ذكر في أحد ممن يزعمونه وليا صاحب المكاشفات أنه كان يدخل الجامع، فكان لا يرى يصلي، ويفطر في رمضان، وكان للناس به شغل رضي الله عنه. قلت: لعنة الله وغضبه على من يلعب بشرع الله، ويعد أعداء الله، وأحباء الشيطان في عداد أولياء الله. المثال الرابع: أن شمس الدين محمد الحنفي الملقب بالسلطان (847هـ) الذي جعلته القبورية إلها يستغيثون به وحكوا له عجائب وغرائب من الكرامات- كان تكبسه النساء الأجنبيات جهارا دون حياء، وهذا من أعظم الفسق والفجور. المثال الخامس: أن الحسين الخزرجي (657هـ) قال: " إن الموله أحمد كان كثير الضحك يصلي ويضحك في الصلاة ". المثال السادس: أن الحسين الخزرجي (657هـ) قال: " رأيت مولها بالقاهرة مقعدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1012 يُعَظّمُ ولا يصلي، وكان يسمى بالحلبي رضي الله عنه ". قلت: الذي لا يصلى لا يكون من أولياء الرحمن، بل يكون من أولياء الشيطان. المثال السابع: أن من أعظم زندقة هؤلاء الصوفية الذين جعلتهم القبورية أولياء الرحمن: أنهم يشترطون للولاية ارتكاب الموبقات التي لا يقرها عقل ولا نقل، فلا يكون الشخص عندهم وليا إلا إذا ارتكب الزندقة، وفي ذلك يقول الشعراني أحد مشاهير أئمة القبورية الوثنية: (لا يبلغ الرجل عندنا مبلغ الرجال حتى يشهد فيه ألف صديق من علماء الرسوم بأنه زنديق؛ وذلك لأن أحوالهم وراء النقل والعقل) . قلت: نعم! العقل والنقل لا يقران فسقهم وفجورهم. المثال الثامن: أن هؤلاء الزنادقة الملاحدة يرتكبون الفسق والفجور أمام الناس جهارا دون حياء، ومع ذلك ترى أتباعهم ومردتهم يعللونها ويعتذرون عنها بأنها ليست على الحقيقة، فقد قال الشعراني أحد هؤلاء الزنادقة القبورية الوثنية - بعدما ذكر قصة فاحشة وليه علي وحيش بالحمارة في الشارع أمام الناس جهارا دون حياء-: (وقد أخبرت عنه سيدي محمد بن عنان رضي الله عنه. فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1013 هؤلاء يخيلون للناس هذه الأفعال وليس لها حقيقة) . قلت: انظر أيها المسلم إلى زندقة هؤلاء الزنادقة الملاحدة، كيف يبرئون الفحشاء والفسق والفجور؟؛ وإذا ارتكب الولي الزنى - قالوا: إنما زنى رحمة بمريده!؟!، فهل هؤلاء أولياء الرحمن؟ أم هم من أعظم أولياء الشيطان؟؟؟؛ وهكذا يبرؤون أولياءَهم بأنهم يرتكبون المعاصي لغرض صحيح، وإذا شرب الولي خمرا- تتحول لبنا في فيه!؟!. المثال التاسع: أن الشاه نقشبند إمام النقشبندية (791هـ) كان يأمر مريديه بطاعته التامة المطلقة، حتى كان يأمرهم بالسرقة. المثال العاشر: أن الشاه نقشبند كان يتمثل بقول الحلاج الكافر الملحد الزنديق المقتول على زندقته (309هـ) : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1014 كفرت بدين الله والكفر واجب ... لدي وعند المسلمين قبيح ويستدل به ويؤمن به. قلت: هل من يكفر بدين الله يكون من أولياء الله؟ حتى يكون الغوث الأعظم محييا، مميتا، متصرفا مطلقا في الكون؟ إلها يعبد من دون الله؟؟؟ المثال الحادي عشر: أن الشاه نقشبند كان يخدم الكلاب ويعظمها ويطلب منها المدد. فهل وصلت الكلاب إلى منزلة صارت بها من أولياء الله حتى يستغيث بها هؤلاء الوثنية؟؟؟ المثال الثاني عشر: أن الشاه نقشبند كان يطلب الشفاعة من الحرباء. فهل كانت الحرباء من الأولياء والأغواث والأقطاب أيضا حتى يطلب منه الشفاعة؟؟؟. المثال الثالث عشر: أن الشعراني أحد مشاهير الزنادقة، وكبار الملاحدة، وأئمة القبورية الوثنية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1015 قد فض بكارة زوجته فاطمة فوق ركن قبة قبر وليه وإلهه أحمد البدوي (675هـ) ، وجمع لوليمته الأولياء كلهم شرقا وغربا، أحياءً وأمواتا، وسجل هذه المخازي في كتابه مفتخرا بها، مجاهرا بها دون حياء من العباد* ولا من رب العباد* أقول: بالله عليك أيها المسلم ... هل هؤلاء أولياء الرحمن* أم هم أولياء الشيطان؟؟؟ * المثال الرابع عشر: أن بعض هؤلاء الصوفية الزنادقة كانوا يخرجون إلى الشوارع عراة، جهارا دون حياء ويقول شيخهم في تعليل ذلك مبررا فعلهم الفاحش: " ما أمرتهم إلا ليكونوا عراة من الذنوب ". سبحان قاسم العقول!! فهل أمثال هؤلاء أولياء الله؟؟ أم هم فسقة فجرة أعداء الله!! * إذا فاتك الحياء فافعل ما شئت! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1016 المثال الخامس عشر: ما قيل: إن كثيرا من هؤلاء الإباحية قد ارتكبوا الفاحشة بالنساء المريدات وباتوا معهن حتى السحر. فهل هذا وصف أولياء الله؟!؟ المثال السادس عشر: ما ذكره ابن الجوزي من فسق كثير منهم، وفجورهم، واختلاطهم بالنساء الأجنبيات والمردان واشتغالهم بالغناء. المثال السابع عشر: أن الشبلي (234هـ) قد حلق لحيته بعد ما مات ولده. هل هذه سيرة أولياء الرحمن؟؟؟. المثال الثامن عشر: أن كثيرا من الصوفية، ومنهم حجة إسلامهم الغزالي إمام الغزالية (505هـ) : يفضلون سماع الغناء على تلاوة القرآن من سبعة أوجه. المثال التاسع عشر: ما يوجد قديما وحديثا من اختلاط الرجال والنساء وارتكاب المناهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1017 عند قبور عظمائهم، ولا سيما وقت احتفالهم بمواليدهم على قبورهم، خصوصا ما يقع في مولد البدوي حتى باعترافهم، وما يقع في الهند، وباكستان، وأفغانستان، ولا سيما في مزار؟!؟، وإذا أنكر عليهم منكر هذه الفواحش والفسق والفجور- قال البدوي في تبريرها: " ذلك واقع في الطواف [بالكعبة] ولم يمنع أحد منه "؛ ثم قال: " وعزة ربي ما عصى في مولدي إلا وتاب وحسنت توبته، وإذا كنت أرعى الوحوش والسمك في البحار، وأحميهم من بعضهم بعضا، أفيعجزني الله عز وجل عن حماية من يحضر مولدي؟!؟ ". المثال العشرون: ما قاله الشعراني أحد أئمة الزنادقة الوثنية القبورية، والملاحدة الدجالين الكذابين في سياق كرامات يوسف العجمي الكوراني (768هـ) : (وكان رضي الله عنه إذا خرج من الخلوة يخرج وعيناه كأنهما قطعة جمر تتوقد!، فكل من وقع نظره عليه انقلبت عينه ذهبا خالصا!، ولقد وقع بصره يوما على كلب فانقادت إليه جميع الكلاب، إن وقف وقفوا، وإن مشى مشوا،. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1018 فأعلموا الشيخ بذلك، فأرسل خلف الكلب وقال: اخسأ، فرجعت عليه الكلاب تعضه حتى هرب منها،. ووقع له مرة أخرى أنه خرج من خلوة الأربعين، فوقع بصره على كلب فانقادت إليه جميع الكلاب،. وصار الناس يهرعون إليه في قضاء حوائجهم،. فلما مرض الكلب اجتمع حوله الكلاب يبكون ويظهرون الحزن عليه، فلما مات أظهروا البكاء والعويل، وألهم الله بعض الناس فدفنوه، فكانت الكلاب تزور قبره حتى ماتوا؛ فهذه نظرة إلى كلب فعلت ما فعلت، فكيف لو وقعت على إنسان) . وذكر الشعراني من كرامات هذا العجمي أنه كان يحول الاسطوانة ذهبا خالصا، وأن النهر انقلب له لبنا خالصا فشرب منه. قلت: أيها المسلم!! تدبر قول هذا البدوي كيف يدعو جهال البدو والأعراب إلى الفسق والفجور والانحلال تحت ستار الولاية والكرامة؟!؟؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1019 فأشركوا حتى استغاثوا بالكلاب! وأقول: هذه صفحات سوداء لهؤلاء القوم!! ومع ذلك كله إذا أنكر عليهم منكر- يهولون ويجولون ويقومون ويقعدون ويصرخون ويقولون له: أتنكر على الأولياء؟، ويقولون: لعنة الله على من ينكر على أوليائه!! ويرفعون بذلك أصواتهم حتى تصير لهم ضجة!! بل يخوفون من ينكر عليهم هذه الطامات والفواحش، ويقولون: من أنكر على الأولياء يسلب منه الإيمان والقرآن والعلم، ويخشى عليه سوء الخاتمة، ويصاب بكذا، ولهم في ذلك حكايات وأساطير للتخويف حتى لا ينكر عليهم منكر ويستمروا في ارتكاب الفواحش. ويقولون: إن قوما قطعت ألسنتهم، وآخرين عذبوا في قدر أغلي فيها الماء حتى تطاير منها الشرر إلى أن تهرى لحومهم وعظامهم لأجل أنهم ينكرون على أولياء الله، أمثال ابن الفارض، وابن عربي. وإن القاضيَ عياضا كان ينكر على إحياء الغزالي فدعا عليه فمات في الحمام، وفلان كان ينكر عليه فأمر ابن سهلة به فضربه. الحاصل: أن هذه الأمثلة ومعها آلاف الآلاف تدل على أن كثيرا من هؤلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1020 الذين يستغيث بهم القبورية بحجة أنهم أولياء الرحمن، وأن لهم كرامات يغيثون من استغاث بهم- ليسوا من أولياء الرحمن، بل هم من أعظم أولياء الشيطان، فلا ولاية لهم ولا كرامة، فزالت شبهة الكرامة من أصلها؛ لأن هؤلاء زنادقة ملاحدة فسقة فجرة أهل الخيانة* فلا كرامة ولا ديانة* الجواب الثامن: أن هؤلاء القبورية أكذب الناس في نقل تلك الحكايات التي افتعلوها لإثبات الكرامات لأوليائهم الأموات الذين يستغيثون بهم عند الكربات * فهذه الأساطير التي ذكروها في كتبهم محض الأباطيل، وخالص الأكاذيب، فلا اعتماد على حكاياتهم، ولا تقبل رواياتهم؛ لأنهم ساقطون عن العدالة والصدق والديانة* إلى دركات الكذب والفسق والخيانة* فإنهم أكذب الناس، وبيوت الكذب، ومعادن البهت؛ كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. الشبهة الثالثة: شبهة المجاز العقلي: لقد تشبثت القبورية لتبرير شركهم، وتجويز استغاثتهم بالأموات* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1021 عند نزول النوازل وإلمام الملمات، لجلب الخيرات ودفع المضرات* بشبهة أخرى: وهي: أنهم يقولون: إن تصرف الأولياء في الكون، وشفاءَهم للأمراض، وكونهم يدمرون الأعداء، وينصرون الأولياء، ويغيثون المستغيثين- إنما نقصد بذلك كله المجاز العقلي! فالمتصرف في الكون هو الله في الحقيقة، والشافي للأمراض هو الله في الحقيقة، والناصر والمغيث هو الله في الحقيقة، وهو النافع الضار في الحقيقة، وهو الفاعل في الحقيقة، ولكن نسبة ذلك كله إلى الولي نسبة المجاز العقلي، لا على وجه الحقيقة. هذه هي شبهة المجاز العقلي، وهي من أعظم شبهات القبورية عامة، قديما وحديثا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1022 الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بعدة وجوه، أذكر بعضها: الوجوه الأول إلى الخامس: ما قاله شيخ القرآن ابن آصف الفنجفيري (1407هـ) رحمه الله تعالى: (ومن شبهاتهم [أي القبورية] : ما يقولون: ... ، فقول المسلم إذا استغاث بالميت من قبيل المجاز العقلي، كقولهم: بنى الأمير المدينة. والجواب أولا: لو فتح هذا التأويل لما يصح الشرك، وحكم الكفر على أحد من الناس؛ وإن سب الله تعالى، وسب الأنبياء عليهم السلام- نعوذ الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1023 من ذلك، و [لو] أنكر البعث، والحشر، والنشر، وأباح الفواحش، وادعى الألوهية؛ مثلا يكون معنى قول القائل: " الرسول خالق السماوات والأرض ": " رب الرسول"- بحذف المضاف، ومعنى قول فرعون: " أنا ربكم الأعلى "-: " أنا أقول: ربكم الأعلى "، بتقدير القول: وكذلك يكون معنى من يدعو الأصنام ويتضرع إليهم: أنه يدعو الله الذي هو مالك الأصنام، ويتضرع إليه تعالى. فما قال أحد من المسلمين بهذه التأويلات الفاسدة في الاعتقاد. وثانيا: أن عباد القبور أكثرهم [عوام جهال] لا يدرون المجاز العقلي [الذي اصطلح عليه هؤلاء المجازيون] ، ولا يعرفون هذه المسألة. وثالثا: أنهم [أي القبورية] يعتقدون في أهل القبور التصرف والإعطاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1024 ولا يفهمون إلا أنهم أهل للإعطاء والإيجاد، ويسمونهم أقطابا [وأغواثا] . ورابعا: أنهم [أي القبورية] إذا نذروا للأموات وتأخروا فيه، فيصيبوا في ذلك بأمر الله. يقولون: إن الشيخ الفلاني أصابني بالمصيبة، لأني لم أوف بنذره، و [هكذا] يحذرون من شرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1025 وخامسا: إن المشركين الذين أنزل الله فيهم القرآن- إنما كانوا يدعونهم شفعاء [لهم] إلى الله، وكانوا يقولون: إنما ندعوهم ليقربونا إلى الله زلفى، أي منزلة ودرجة، ويشفعوا لنا في حاجاتنا ... ) . قلت: هذه الوجوه كلها قاطعة لأدبار القبورية * وقالعة لشبهاتهم القرمطية* الوجه السادس: ما قاله العلامة جوهر الرحمن من كبار علماء الحنفية المعاصرة الرادين على القبورية: إن النسبة المجازية [على فرض وجود المجاز] : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1026 هي نسبة الفعل إلى غير الفاعل الذي صدر منه ذلك الفعل، لكونه ظرفا للفعل، كقول القائل: " أنبت الربيع البقل "، أي: " أنبت الله البقل في وقت الربيع "، أو لكونه سببا في صدور ذلك الفعل، كقول القائل: " بنى الأمير المدينة "، أي: " بنى المعماريُ المدينة بأمر الأمير ونفقته "، وإذا عرفت هذا- فاعلم: أن الذي ينادي ميتا، أو حيا غائبا، ويستغيث به، ويقول: يا فلان.. أغثني، أو اشفني، أو أنجني- لا ينطبق عليه أنه ناداه واستغاث به مجازا من ناحية كونه ظرفا للفعل، لأن الميت، والغائب، ليسا بظرف للفعل، فلا يقال: إن الميت أو الغائب ظرف للنداء أو الإغاثة أو الشفاء أو الإنجاء، حتى يقال: إن هذه النسبة نسبة مجازية، والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، فهذا المجاز لا يتصوره أحد، ولا يصح في مثل هذه الصورة ألبتة، بقيت الصورة الثانية من المجاز، وهي: أن هذا المنادِيَ المستغيث يقصد: أن الشافيَ والناصرَ والمنجيَ والمغيثَ هو الله تعالى في الحقيقة، ولكن يرى أن الوليَّ الفلانيَّ الذي يستغيث به ويناديه- هو مجرد سبب لذلك. نقول: هذا الاحتمال أيضا غير وارد، ولا يصح المجاز في هذه الصورة أيضا؛. لأن هذا المنادِي المستغيث بهذا الولي الميت، أو الحي الغائب- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1027 لا بد له من أن يعتقد فيه عقائدَ ثلاثا: الأولى: أن يعتقد: أن هذا الولي الميت أو الحي الغائب يسمع صوته ونداءه ودعاءه فوق الأسباب العادية. الثانية: أن يعتقد فيه: أنه يعلم بحاله ويطلع على مصيبته. الثالثة: أن يعتقد فيه أنه يقضي حاجته بأن يشفع له عند الله تعالى. نقول: لا بد من هذه العقائد الثلاث، وإلا لا يمكن جعله سببا. وإذا تحقق: أنه لا بد من أن يعتقد هذا المنادِي المستغيثَ في ذلك المنادي المستغاثِ الميتِ أو الحي الغائبِ- نقول: إن السمع المطلق، والعلم المطلق، والقدرة المطلقة، كلها من صفات الله تعالى الخاصة به. فالميت، أو الحي الغائب لا يسمع نداء المستغيث، ولا يعلم بحاله ولا يطلع على مصيبته؛ فقد قال الله سبحانه: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] ، وقال تعالى: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] ، فبطل دعوى المجاز؛ على أن من يعتقد أن الميت أو الحيَّ الغائبَ يشفع له عند الله تعالى - فهو على طريقة المشركين السابقين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1028 فعقيدته هذه هي بعينها عقيدة الوثنية الأولى؛ وقد قال سبحانه وتعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ؛ وإذا بطل المجاز في هذه الصور كلها بطلت هذه التأويلات كلها، على أننا نقول: إن مثل هذه التأويلات مع بطلانها وفسادها- قد يتشبث بها من كان له علم بنكات علم البيان ودقائق علم المعاني؛ أما العوام الجهلة- فهم لا يخطر بقلوبهم مثل هذه التأويلات ودعوى المجاز؛ لأنهم بمعزل عن معرفة هذه الدقائق البيانية؛. فالذي يدافع عن القبورية ويحاول تصحيح أقوالهم الشركية وتصويب أفعالهم الكفرية وتجويز عقائدهم الوثنية- بمثل هذه التأويلات الفاسدة البعيدة الباطلة- فهو في الحقيقة يدفع هؤلاء العوام الجهلة إلى مهاوي الإشراك بالله تعالى؛ فهلا يعلمهم تلك الأدعية المأثورة الصافية الخالصة عن الشرك وشوائبه- بدل أن يرغبهم في الشركيات والكفريات بمثل هذه التأويلات. الشبهة الرابعة: شبهة الكسب والسب: تشبثت القبورية بهذه الشبهة، لتبرير إشراكهم بالله تعالى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1029 واستغاثتهم بالأموات * عند إلمام الملمات ونزول النوازل والكربات لدفع المضرات وجلب الخبرات* وتبريء أكاذيبهم وكفرياتهم الوثنية وعقائدهم الباطلة، وغلوهم في الصالحين، بل في الفسقة الطالحين: من التصرف في الكون، والإحياء، والإماتة، والقدرة، والعلم بالغيوب، وتسخير الأمور، وغير ذلك مما سبق أمثلته في باب الغلو؛ وقالوا: إن الاستغاثة بالأنبياء والأولياء من أعظم الأسباب لاجتلاب البركات، واستنزال الخيرات والرحمات، واستجابة الدعوات وسرعة قضاء الحاجات، والتوسل بهم من قبيل الأخذ بالأسباب، وليس ذلك من باب الشرك بالله، ولا من قبيل عبادة غير الله، وإن طلب الغوث منهم على سبيل الكسب والتسبب، ومن الله تعالى على سبيل الخلق والإيجاد. فإن الله تعالى جعل الأولياء مفاتيحَ للخير ومنابعَ للبر، وسحبا يمطر منها على عباده أنواع الخيرات. وغاية ما يعتقد الناس في الأموات أنهم متسببون ومكتسبون كالأحياء؛ لا أنهم خالقون موجدون، والتسبب والتكسب مقدوران للميت، وفي إمكانه كالحي، فمن يستطيع أن يقول: إن ذلك شرك؟ قلت: هذه كانت شبهة الكسب والسبب التي تشبث بها القبورية قديما وحديثا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1030 الجواب: لقد أجاب عن هذه الشبهة علماء الحنفية بعدة وجوه، فجعلوها كأمس الدابر، أذكر منها ما يلي: الوجه الأول: أن احتمال التكسب والتسبب في الاستغاثة بالأموات المقبورين، والأحياء الغائبين لا يمكن صحته ولا يتصور وقوعه، لعدم قدرتهم على ذلك، فاحتمال الكسب والسبب ههنا باطل من أصله؛ قال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وابن أخيه شكري الآلوسي (1342هـ) ، واللفظ للثاني: (فإن قلت: إن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسببية، فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى- كما يزعمه هذا العراقي الجهول [ابن جرجيس المخذول] ، وأضرابه [من القبورية] . قلنا له: إن كلامنا فيمن يستغاث به عند إلمام ما لا يقدر عليه إلا الله، أو السؤال بما لا يعطيه و [لا] يمنعه إلا الله، وأما فيما عدا ذلك مما يجري فيه التعاون والتعاضد بين الناس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1031 واستغاثة بعضهم ببعض- فهذا شيء نقول به، [ولا نمنعه] [ولا ننكره] ، ونعد منعه جنونا؛ كما نعد إباحة ما قبله -[وهو ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى]- شركا. والعراقي- عامله الله تعالى بعدله - أورد نصوص المباح في الممنوع * واستدل بدلائل المشروع على غير المشروع* قاتله الله!! ما أجهله! * وما أبعده عن الحق، وأضله! * وكون العبد له قدرة كسبية* لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية* [فتحقق أنه] لا يستغاث به [أي بالعبد] فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعان به [أي بالعبد] ، ولا يتوكل عليه، ولا يلتجأ في ذلك إليه [إلا بالله وعليه وإليه] ؛ فلا يقال لأحدٍ، حيّ، أو ميتٍ، قريبٍ، أو بعيدٍ: " ارزقني، أو أمتني، أو أحي ميتي، أو اشف مريضي "- إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الأحد الفرد الصمد؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1032 قل يقال لمن له قدرة كسبية، قد جرت العادة بحصولها ممن أهَله الله تعالى لها: " أعني في حمل متاعي " أو غير ذلك، والقرآن ناطق بحظر الدعاء عن كل أحد [غير الله فوق القدرة] ، لا من الأحياء، ولا من الأموات، سواء كانوا أنبياء، أو صالحين، أو غيرَهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة، أو بغيرها، فإن الأمور الغير المقدورة للعباد لا تطلب إلى من خالق القدر * ومنشئ البشر* كيف؟ والدعاء عبادة، وهي مختصة به سبحانه * أسبل الله علينا بفضله عفوه ورضوانه* فالقصر على ما تعبدنا فيه من محض الإيمان * والعدول عنه عين المقت والخذلان* وبالجملة: فالاستغاثة، والاستعانة، والتوكل، أغصان دوحة التوحيد* المطلوب إخلاصه من العبيد*) . الوجه الثاني: أن الاستغاثة بالأموات* عند إلمام الملمات على أن هؤلاء الأموات سبب في دفع المضرات* وأنهم من الأسباب لجلب المنافع والخيرات *- هي بعينها عقيدة المشركين السابقين *؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1033 فالقبورية خلف لسلفهم الوثنيين الأولين* قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (يريد به [أي يقصد ابن جرجيس العراقي بمقالته]- أن دعاءهم ومسألتهم بطريق التسبب والشفاعة لا يضر. ومن بلغت به الجهالة والعماية إلى هذه الغاية- فقد استحكم على قلبه الضلال والفساد * ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد * ومن له أدنى نهمة في العلم والتفات إلى من جاءت به الرسل- يعرف: أن المشركين من كل أمة في كل قرن- ما قصدوا من معبوداتهم وآلهتهم التي عبدوها مع الله- إلا التسبب والتوسل والتشفع، ليس إلا، ولم يدعوا الاستقلال، والتصرف لأحد دون الله، ولا قاله أحد منهم سوى فرعون، والذي حاج إبراهيم ربه؛ وقد قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده، قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم بدعاء غيره: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس الآية: 18] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ... ؛ فأخبر تعالى: أنهم تعلقوا على آلهتهم، ودعوهم مع الله للشفاعة، والتقريب إلى الله تعالى- بالجاه، والمنزلة ... ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1034 ولم يريدوا منهم تدبيرا، ولا تأثيرا، ولا شركة، ولا استقلالا؛ يوضحه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31-32] ، وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] ، وقوله: ... {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] ، ... ، فتأمل هذه الآيات* وما فيها من الحجج والبينات * تطلعك على جهل هذا العراقي [ابن جرجيس] * وأمثاله [من القبورية أهل الشرك والتلبيس *] ، وأنهم ما عرفوا شرك المشركين * وما كانوا عليه من القصد والدين* ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله، وأتباعهم من توحيد رب العالمين* وتأمل كيف استدل سبحانه وتعالى على توحيد إلهيته ووجوب عبادته وحده لا شريك له- بما أقر به الخصم، واعترف به: من توحيد ربوبيته واستقلاله بالملك والخلق والتأثير والتدبير، وهذه عادة القرآن دائما يعرج على هذه الحجة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1035 لأنها من أكبر الحجج، وأوضحها، وأدلها على المقصود، فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة* والفصاحة، والجلالة، والفخامة وأدلها على المقصود* فأي شبهة بعد هذا تبقى للمماحل المغرور ... ؛ وهذا الأحمق [العراقي ابن جرجيس] زاد في غير موضع من كتابه: قيدا، فقال: " لا يشرك إلا من قصد، وأعتقد الاستقلال من دون الله ". مع أن في تلبية المشركين في الجاهلية: " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك "؛ فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال، وعلى زعم هذا [العراقي وأضرابه من القبورية] فليسوا بمشركين ... ) . قلت: لكن التالي اللازم باطل- فالمقدم الملزوم مثله. الوجه الثالث: تحقيق أن الأموات ليسوا من أسباب قضاء الحوائج شرعا: لقد حقق علماء الحنفية أن الأموات ليسوا سببا من أسباب قضاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1036 حوائج المستغيثين بهم، في شرع الله عز وجل، وطالبوا القبورية بإقامة حجة واحدة على ذلك، ولكن القبورية لم يأتوا بدليل واحد ولا بشبه دليل على ذلك، ولن يستطيعوا أن يأتوا بحجة على ذلك، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.! فأين في شرع الله تعالى: أن الله سبحانه جعل الأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك- سببا لقضاء حوائج المستغيثين بهم؟؟؟ بل شرع الله تعالى كله على نقيض ذلك، ودين الأنبياء والمرسلين جميعا يناقض عقيدة هؤلاء القبورية، فأنى للقبورية إثبات كون الأموات* أسبابا لقضاء الحاجات* أين العنقاء لتطلب ... وأين السمندل ليجلب قال العلامة السهسواني (1326هـ) - وكان أولا حنفيا-: (نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، ولكن [نقول] : من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟؟؟ ومن ذا الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب: - من البشر كان أو غيره- كان ذلك سببا في حصول الرزق، والنصر، والهدى، وغير ذلك: مما لا يقدر عليه إلا الله؟؟؟ ومن ذا الذي شرع ذلك وأمر به؟؟؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟؟؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى [إثبات] مقدمتين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1037 إحداهما: أن هذه [الاستغاثات بالأموات] أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله. والثانية: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها ... ) . وقال رحمه الله أيضا: (أقول: كون ذكر هؤلاء الأخيار [أي الاستغاثة بهم] سببا عاديا من أين علم؟ وأي دليل عليه؟؟؟ .... ) . وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (لا يجوز أن يعتقد: أن الشيء سبب إلا بعلم ... فمن أثبت شيئا سببا بلا علم، أو علمه يخالف الشرع، واتخذه مع ذلك سببا- كان مبطلا، مثل من يظن كون النذر [لغير الله] سببا في دفع البلاد* وحصول النعماء) . الوجه الرابع: أن نقول: لو سلم أن الأموات* والاستغاثة بهم سبب لقضاء الحاجات* لكان هذا سببا كونيا فحسب، لا سببا شرعيا، وكم من الأشياء هي أسباب كونية للمنافع، ولكنها لما كانت محرمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1038 في شرع الله- لم تصح كونها أسبابا شرعية، فلا يجوز تعاطي أي سبب إلا إذا علم أنه سبب شرعي وأمر مباح، قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (وأيضا فليس كل سبب يباح، بل من الأسباب ما هو محرم، وما هو كفر، كالسحر، والتكهن، [وهذا] الغبي [يعني ابن جرجيس] يظن: أن الدليل يسلم له، إذا أراد السبب لا الاستقلال، وعبّاد الكواكب وأصحاب النيرنجيات، ومخاطبات النجوم- يرون: أنها أسباب، ووسائل نافعة، ويظنونها كالأسباب العادية، وعباد القبور، و [عباد] الأنفس المفارقة- يرون: أن تعلق قلب الزائر، وروحه بروح المزور- سبب لنيل مقصوده، وتحصيل نصيب مما يفيض على روح ذلك المزور، كما ذكره الفارابي وغيره [كابن سينا الحنفي القرمطي] : من عباد الكواكب والأنفس المفارقة [والقبور وأصحابها] ... ) . وقال العلامة السهسواني (1326هـ) : (إن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1039 إحداهما: أن هذه [الاستغاثات بالأموات] أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله. والثانية: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، [ولا بد من إثبات هاتين المقدمتين] ، فإنه ليس كل ما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه [شرعا] ، فإن المسافر قد يكون سفره سببا لأخذ ماله، وكلاهما محرم، والدخول في دين النصارى قد يكون سببا لمال يعطونهم، وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سببا لنيل مال يؤخذ من المشهود له، وهو حرام، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سببا لنيل مطالب، وهو محرم، والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب، وهو محرم، وكذلك الشرك كدعوة الكواكب، والشياطين، بل عبادة البشر قد تكون سببا لبعض المطالب، وهو محرم؛ فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كانت مفسدته راجحة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1040 مصلحته، كالخمر، وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحيانا، وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقا وأمرا، [أي كونيا وشرعا] ، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية) . وقال رحمه الله أيضا: (أقول: كون ذكر هؤلاء الأخيار [أي الاستغاثة بهم]- سببا عاديا في ذلك التأثير من أين علم؟؟؟ وأي دليل عليه؟؟؟ ولو سلم [على سبيل فرض المحال]- فالسببية لا تستلزم المشروعية، ألا ترى: أن كثيرا من العقود الفاسدة- سبب لتحصيل المنافع، وليست بمشروعة) . قلت: هذه النصوص لهؤلاء العلماء من الحنفية، كافية للقضاء على شبهات القبورية* وشافية للمرضى بأدواء هؤلاء الوثنية* وبعد ذلك ننتقل إلى الباب السابع، لنعرف عقيدة القبورية في استغاثتهم بالأموات عند الكربات ونعرف بعض جهود علماء الحنفية في إبطال عقائدهم الوثنيات في الاستغاثات* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1041 الباب السابع في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وعرض عقيدة القبورية في الاستغاثة وتحقيق أنهم أشد شركا من الوثنية الأولى وفيه فصول ثلاثة: - الفصل الأول: في عرض أمثلة لعقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. - الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وتحقيق أنها شرك بل هي أم لعدة أنواع من الإشراك بالله تعالى. - الفصل الثالث: في تحقيق علماء الحنفية أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى، وأنهم أشد خوفا ورجاء وأكثر خضوعا وخشوعا وأعظم عبادة للأموات منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1043 الفصل الأول في عرض أمثلة لعقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله وفيه مباحث ثلاثة: - المبحث الأول: في أن الاستغاثة بغير الله أهم العقائد القبوريات عند القبورية. - المبحث الثاني: في أن الاستغاثة بغير الله، ولا سيما الأموات، أنفع للمكروب وأسرع لقضاء الحاجات عند القبورية من الاستغاثة بخالق الكائنات. - المبحث الثالث: في بيان أمثلة متفرقة لعقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله عند الكربات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1045 المبحث الأول في أن الاستغاثة بالأموات أهم العقائد القبوريات عند القبورية تعتقد القبورية عدة عقائد وثنية، كعقيدة التصرف في الكون للصالحين، وعقيدة علم الغيب لهم، وعقيدة سماع الموتى أصوات المستغيثين بهم، وعقيدة حياة الأموات حياةً نبويةً، وعقيدة بناء القبب والمساجد على القبور، وعقيدة الحج إلى القبور، وعقيدة النذر لأهل القبور، وغير ذلك من العقائد الوثنية والغلو في القبور وأهلها، ولكن الهدف الأسمى للقبورية والغاية العظمى، والمقصد الأعلى لهم من هذه العقائد كلها- هو استغاثتهم بالأموات عند إلمام الملمات * لدفع الكربات والمضرات، وجلب المنافع والخيرات* أما سائر عقائدهم الوثنية - فهي وسائل لهذا المقصد الأسنى، والغاية الكبرى عندهم؛ ولذلك ترى القبورية يحاولون إثبات علم الغيب للأموات* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1047 والغائبين الذين يستغيثون بهم عند الكربات والملمات* ويعتقدون فيهم التصرف المطلق في الكائنات* كما أنهم يحاولون إثبات أن حياة الأموات بعينها حياة الأحياء، بل أقوى، وأن الموتى يسمعون نداء المستغيثين بهم في كل زمان ومكان، ويهتمون بوفاء النذور لهم أشد من أداء كل فريضة لله، كما أنهم ينفقون ملايين الملايين من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة- على بناء القبب والمساجد على قبور المستغاث بهم، كما ترونها في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها، وعربها وعجمها، وسهلها وجبالها، وتشاهدون أنهم يحجون إلى قبورهم من كل فج عميق، يعجون ويثجون، ويضرعون ويخشعون عند قبورهم، ولا سيما وقت مواسم موالدها* وأداء مناسك مشاهدها* كل ذلك لتحقيق الاستغاثة بهم لدفع الكربات* وجلب الخيرات* ولذلك ترى القبورية يستدلون بعلم الغيب للأموات* وبتصرفهم في الكائنات، وبسماعهم للاستغاثات* وبحياتهم كحياة الأحياء، بل أقوى، لا كحياة الأموات* وبجميع ما يفتعلونه من الحكايات والأساطير والكرامات* على جواز الاستغاثة بهم بل على ترجيحها على الاستغاثة برب البريات* فيجعلون جميع تلك العقائد الوثنيات* أدلة على جواز الاستغاثة بالأموات* ومن المعلوم عند المؤلف والمخالف: أن المقصد الأسمى، والغاية العظمى- إنما هو المدلول، والدعوى، والثمرة، والنتيجة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1048 وإنما يساق الدليل، وتورد الحجة، ويؤتى بالبرهان، لإثبات المدلول، والدعوى، فالدليل لا يكون مقصودا بالذات، - وإنما هو وسيلة للتوصل إلى المقصود، وهو الدعوى، فثبت بهذا كله: أن المقصود للقبورية- هو الاستغاثة بالأموات لدفع الكربات، وجلب الخيرات، وأما سائر عقائدهم الوثنية: كعقيدتهم في علم الغيب للأموات* أو عقيدتهم في تصرف الأموات في الكائنات* أو عقيدتهم في سماع الموتى للاستغاثات*؛ ونحو ذلك من عقائدهم الوثنية - فشبهات تشبهوا بها لجواز الاستغاثة بالأموات* ووسائل للقبورية توصلوا بها إلى الاستمداد من الأموات * فالغاية العظمى للقبورية، ومقصدهم الأسمى، وهدفهم الأسنى، ومطلوبهم الأعلى بهم- هو الاستغاثة بالأموات لدفع البليات، وجلب الخيرات، وأما بقية عقائدهم، فهي لها تبع؛ ولذلك صرح علماء الحنفية، بأن الاستغاثة بغير الله تعالى، فيما لا يقدر عليه إلا الله- أمّ الشركيات؛ إذ هي متضمنة لعدة أنواع من الشرك، أبْيَنُها ثلاثة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1049 الأول: اعتقاد المستغيث: أن المستغاث يعلم الغيب. الثاني: اعتقاده: أنه يسمع نداءه. الثالث: اعتقاده: أنه قادر على دفع الضر وجلب الخير. وإلا لما دعاه ولا فتح بالاستغاثة فاه وكل واحد من هذه الأنواع أبيَنُ أنواع الشرك، كما سبق نصوص علماء الحنفية على ذلك في البابين السابقين، وكما ستأتي نصوصهم الأخرى في هذا الباب إن شاء الله. ولأجل اهتمام القبورية بالاستغاثة بالأموات عند الكربات * ألف كثير من أئمتهم الوثنية في الدعوة إلى الاستغاثة بالأموات* كتبا سموها بأسماء تشعر بالاستغاثة بغير الله تعالى: 1 - منهم: أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي (634هـ) ، وسمى كتابه: " مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1050 2 - ومنهم: ابن النعمان المالكي المغربي (683هـ) ، واسم كتابه الوثني هو الأول بعينه، مخطوط حتى الآن فيما أعلم. وهذا الوثني قدوة كل قبوري بعده، وعمدته، فتراهم ينهلون من مستنقعاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1051 وقد ذكر هذا الوثني في سبب تأليف كتابه هذا: أن كثيرا من أئمة الإسلام قد صنفوا في الاستغاثة بالله تعالى وحده- فأردت أن أؤلف في الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم والالتجاء إليه، فصنف: " مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام ". 3 - ولهذا الوثني كتاب آخر في الدعوة إلى الوثنية، سماه: " سفينة النجاء لأهل الالتجاء في كرامات أبي النجاء ". 4 - ومنهم: النبهاني (1350هـ) ، فقد ألف في الدعوة إلى الوثنية كتابه الفاضح المفضوح الكاسر المكسور: " شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق ". 5 - ومنهم: أحمد رضا خان الأفغاني، الملقب بعبد المصطفى، إمام البريلوية (1340هـ) فقد ألف كتابا سماه: " أنوار الانتباه بحل النداء بيا رسول الله ". 6 - وله كتاب آخر سماه: " بركات الاستمداد ". 7 - وآخر سماه: " حدائق بخشش " يعني حدائق الهبات، كله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1052 استغاثات بالأموات. 8 - ومنهم: الميرغني الحنفي الوثني (1207هـ) ؛ فقد ألف كتابا سماه: " تحريض الأغبياء على الاستغاثة بالأنبياء والأولياء ". 9 - ومنهم: الحموي الحنفي القبوري (1098هـ) ، له كتاب وثني سماه: " نفحات القرب والاتصال بإثبات التصرف للأولياء بعد الانتقال ". وأما عقد القبورية أبوابا وفصولا في كتبهم الوثنية للاستغاثة بالأموات عند الكربات- فحدث ولا حرج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1053 المبحث الثاني في أن الاستغاثة بغير الله ولا سيما الأموات أنفع للمكروب وأسرع لقضاء الحاجات عند القبورية من الاستغاثة بخالق الكائنات تمهيد: لذكر عدة أمثلة لعقيدة القبورية: من أن الاستغاثة بغير الله أنفع للمكروب، وأسرع لقضاء الحاجات*- من الاستغاثة برب البريات* تعتقد القبورية أن الاستغاثة بالله تضر بالمكروب، وتؤخر جلاء كربته، وأن الاستغاثة بغير الله تعالى أنفع للمكروب، وأسرع لقضاء حاجته، فإن الله لا يهمه أمر المبتلى بالمصائب، أما الولي فيهتم بأمر من يستغيث به، بل الاستغاثة بالله تعالى قد تؤدي إلى عدم استجابة دعاء المضطر عندهم؛ ولذلك ترى القبورية يرجحون الاستغاثة بالأموات على الاستغاثة برب البريات جهارا دون إسرار، جرأة على الله بلا حياء من العباد، ولا من رب العباد، ولا خجل ولا ندامة، وإليك بعض الأمثلة من وثنياتهم لتحقيق ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1055 المثال الأول: ما قاله أحمد رضا خان الأفغاني، الملقب بعبد المصطفى، إمام البريلوية (1340هـ) : إن سيد الطائفة: الجنيد البغدادي (298هـ) - جاء إلى نهر دجلة ليعبره، فقال: " يا الله "، ومشى عليه كما يمشي على الأرض!!! فرآه شخص، وأراد أن يعبره فلم يجد سفينة، فقال للجنيد: إني أريد أن أعبر هذا النهر، فكيف السبيل..؟ فقال له الجنيد: " قل: يا جنيد. يا جنيد - مُرَدِّدا لهذا النداء، فتعبره ". فقال الرجل: يا جنيد، يا جنيد - مُرَدِّدا له ومكررا له كالورد والذكر، ومشى على النهر كما يمشي على الأرض، فلما وصل إلى وسط النهر- وسوس إليه الشيطان، وقال له: إن الجنيد كان يقول: " يا الله. يا الله. "، ويقول لك: " قل: يا جنيد. يا جنيد! فَلمَ لا تقول أيضا: يا الله.يا الله "؟؟؟. فجعل الرجل يقول: " يا الله، يا الله "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1056 فغرق في الماء، فصرخ ونادى الجنيد وقال: " أيها الحضرة!! قد غرقتُ "!!! فقال له الجنيد: " قل: يا جنيد. يا جنيد.، مكررا مرارا ". فجعل الرجل يقول: " يا جنيد. يا جنيد. "مرارا وتكرارا، فنجا من الغرق، وعبر النهر، ثم قال الرجل للجنيد: " أيها الحضرة، ما السر في أنك كنت تقول: يا الله. فتعبر النهر.؟؟ ولما قلتُ: يا الله ... غرقتُ!!! فقال له الجنيد: نعم أيها الأحمق! إنك لم تصل بعد إلى منزلة الجنيد، وتطمع في الوصول إلى الله مباشرة؟؟؟ الله أكبر!!! المثال الثاني: ما استدل به النبهاني (1350هـ) قائلا: (إن سيدي محمد الحنفي قدس الله سره (؟؟؟) فرش سجادته على البحر وقال لمريده: قل: يا حنفي، وامش، فمشى المريد خلفه، فخطر له: لِمَ تقول: يا حنفي؟؟؟ هلا قلت: يا الله؟؟؟؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1057 فلما قالها (أي قال: يا الله) - غرق، فأمسك الشيخ (الحنفي) بيده وقال له: " أنت الحنفي تعرفه، فكيف بالله؟؟؟ فإذا عرفت الله فقل: يا الله ". يشير إلى أن الوسائط لا بد منهم ... , لولا الوسائط لكنا من الوسائط ... ) المثال الثالث: ما قاله الإمام الآلوسي (1270هـ) في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [54 من سورة النحل] : (وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم: من اللجوء إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم، بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا- عند إصابة الضر لهم، وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية- سفه عظيم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1058 وضلال جديد، لكنه أشد من الضلال القديم، ومما تقشعر منه الجلود* وتصعر له الخدود الكفرة* أصحاب الأخدود * فضلا عن المؤمنين باليوم الموعود * أن بعض المتمشيخين قال لي وأنا صغير: " إياك ثم إياك [و] أن تستغيث بالله تعالى- إذا خطب دهاك، فإن الله تعالى لا يعجل في إغاثتك * ولا يهمه سوء حالتك* وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين، فإنهم يعجلون في تفريج كربك* ويهمهم سوء ما حل بك* فمج ذلك سمعي* وهمي ودمعي * وسألت الله تعالى أن يعصمني والمسلمين* من أمثال هذا الضلال المبين * ولكثير من المتمشيخين اليوم كلمات مثل ذلك) . المثال الرابع: ما قاله الآلوسي أيضا في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]- وتبعه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) : (وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين: يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم، ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم، واعتقادهم فيهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1059 ويعظمون من يحكي لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده، ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزية عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت- يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات، وينادي: يا فلان! أغثني- فقلت: له: قل: يا الله، فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]- فغضب، وبلغني أنه قال: فلان [الآلوسي] منكر على الأولياء، وسمعتُ عن بعضهم أنه قال: " الولي أسرع إجابة من الله عز وجل "!!! وهذا من الكفر بمكان * نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1060 والطغيان *) . المثال الخامس: ما قاله كثير من القبورية الصوفية في تحريف قوله تعالى: {عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29] : (أي أعرض عمن استغرق واستهلك في ذات الله تعالى، فلا يذكره. وإن ذكره حصل له فتور في الشهود، فلا تكلفه بالذكر!!، وإليه يشير خاتم الأولياء الشيخ الأكبر محيي الدين رضي الله عنه بقوله: بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنطمس البصائر والقلوب وترك الذكر أفضل منه حالا ... فإن الشمس ليس لها غروب المثال السادس: ما استدل به النابلسي الحنفي الوثني (1143هـ) ؛ قال: (وكذلك وقع لسيدي محمد الحنفي الشاذلي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1061 أنه كان يعدي من مصر إلى الروضة ماشيا على الماء هو وجماعته، فكان يقول لهم: " قولوا: يا حنفي، وامشوا خلفي، وإياكم أن تقولوا: يا الله، تغرقوا "، فخالف شخص منهم وقال: يا الله، فزلقت رجله فنزل إلى لحيته في الماء، فالتفت إليه الشيخ وقال: يا ولدي إنك لا تعرف الله تعالى، حتى تمشي باسمه على الماء، فاصبر حتى أعرفك بعظمة الله تعالى، ثم أسقط الوسائط ". انتهى) . المثال السابع: ما قال واستدل به ذلكم النابلسي الحنفي الوثني المذكور: (إن معروف الكرخي كان يقول لأصحابه: " إن كان لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي، ولا تقسموا عليه به تعالى "، فقيل له في ذلك: [لِمَ] ؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1062 فقال: " هؤلاء لا يعرفون الله تعالى، فلم يجبهم، ولو أنهم عرفوه لأجابهم " ... ) المثال الثامن: أن بعض كبار الصوفية القبورية الوثنية ركب البحر ومعه مريد، فهاجت ريح خيف منها، فجعل يقول: " يا الله "، فطفق المريد يقول " يا الله " أيضا، فكاد أن يغرق؛ فأشار إليه الشيخ: أن يهتف باسمه، فهتف باسمه فنجا. المثال التاسع: ما اطلعتُ عليه من عجائب الوثنية: وهو: (أن امرأة كف بصرها، ومات ولدها، فنادت وليها [أي إلههَا ومعبودَها الباطلَ] وقالت: " أما الله، فقد صنع ما ترى!!! ولم يبق إلى حسبك فيّ" ... ) . المثال العاشر: ما قالوه من أنّ (الاستغاثة بالمخلوق ليكون شافعا إلى الله ووسيلة إليه لا شك أن ذلك أرجح، لا كراهة فيه، إذا كان المستغاث أهلا لذلك) . المثال الحادي عشر: ما قاله القضاعي أحد أئمة القبورية الوثنية (1376هـ) ونصه: (إن الاستغاثة به [صلى الله عليه وسلم] من موجبات تنزل الرحمات وسرعة قضاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1063 الحاجات) . المثال الثاني عشر: قوله: (إن زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين، ونداءَهم والاستغاثةَ بهم، والتوسل بهم إلى الله عز وجل، وبما يتعلق بهم [كالتوسل، والتبرك بآثارهم، وقبورهم، ومجالسهم، ونحوها]- من أقوى الأسباب التي وضعها الحكيم العليم لاجتلاب البركات واستنزال الرحمات، واستجابة الدعوات، وسرعة قضاء الحاجات) . المثال الثالث عشر: عنوان القضاعي بقوله: بيان أن من ودِّه عز وجل لأحبائه سرعة إغاثة المستغيثين بهم في غيبتهم وبعد وفاتهم) . المثال الرابع عشر: قول هذا الوثني جهارا بدون حياء: (إن دعاءهم [أي دعاء المضطرين] لله [بدون الواسطة مباشرة] من غير توسل به [صلى الله عليه وسلم] كالمفتاح بلا أسنان، أو بأسنان غير تامة، والمفتاح إذا كان كذلك [بلا أسنان ... ] قلما يقع الفتح به) . المثال الخامس عشر: ما قاله هذا القضاعي أيضا بدون حياء: (إن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والشكوى إليه والاستغاثة به في الملمات* من أقوى الأسباب التي وضعها الله لإزالة البليات، وكشف الكربات * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1064 ونيل الحاجات، والفوز بسعادة الدارين) . المثال السادس عشر: ما قاله أيضا، [وتبعه محمد علوي المالكي القبوري المعاصر] : (إن الاستغاثة بأكابر المقربين من أعظم مفاتيح الفرج، ومن موجبات رضى رب العالمين) . المثال السابع عشر: ما قاله أيضا دعوةَ منه إلى الشرك السافر: إنّ التوجهَ إليه صلى الله عليه وسلم ونداءَه بقوله: " يا محمد! "والاستنجادَ به - ليس شركا، ولا حراما، ولا مكروها، ولا خلاف الأولى؛ بل ذلك أفضل في الأدب من الربوبية، وأشد اجتلابا للرحمة، واستنزالا للقبول، وأقوى مظنة بالإجابة، وأدنى للرشد، وأبعد من الرد والحرمان. المثال الثامن عشر: ما قاله الكوثري، إمام الجهمية والقبورية * ومجدد الماتريدية وشيخ عصبة العصبية والوالغ في أئمة السلفية * (1371هـ) ، وهذا نصه: (لا بد لأهل السلوك والرشاد من التوسل والاستغاثة والاستمداد بأرواح الأجلة، والسادة الأمجاد، إذ هم المالك لأزمة الأمور في نيل ذلك المراد) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1065 قلت: إنما أطلت بعض الإطالة في ذكر الأمثلة من اهتمام القبورية بالاستغاثة بغير الله تعالى، وترجيحها على الاستغاثة بالله تعالى مباشرة - ليعلم المسلمون أن هؤلاء القبورية قد وصلوا في الوثنية إلى حد رجحوا الاستغاثة بالأموات* على الاستغاثة برب البريات* بل صرحوا بدون حياء من العباد* ولا من رب العباد* مستخفين برب الكائنات* بأن الاستغاثة بالله تضر المكروب، وتمنع قضاء الحاجات* وأن الاستغاثة بغير الله أنفع للمضطر، وأسرع لدفع الملمات* فإن الله لا يهمه سوء حالة المضطرين * وإن الأولياء يهتمون بإزالة كرب المكروبين* إلى آخر إلحادهم الشنيع* وشركهم الفظيع* والله المستعان على ما يصفون *وتعالى الله عما يشركون* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1066 المبحث الثالث في بيان أمثلة متفرقة لعقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله عند الكربات وتوسلهم البدعي بالأحياء والأموات وفيه مطالب ثلاثة: ا لمطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في الاستغاثة بالأحياء الغائبين وبالأموات بعدة من التعبيرات وفي جميع الحالات. المطلب الثاني: في بيان ترجيح القبورية الاستغاثة بالأموات على الاستغاثة بالأحياء عند الكربات، وأن الميت أقدر على إنجاح الحاجات. المطلب الثالث: في بيان استغاثات القبورية المتفرقات من المنظومات والمنثورات الوثنيات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1067 المطلب الأول في عرض عقيدة القبورية في الاستغاثة والتوسل بالأحياء الغائبين وبالأموات بعدة من التعبيرات وفي جميع الحالات لقد سبق في المبحث الأول، أن الاستغاثة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى- أهم عقيدة للقبورية على الإطلاق بالنسبة إلى سائر عقائدهم الوثنية القبورية، وأن بقية عقائدهم إنما هي أدلة لهم لدعم الاستغاثة بغير الله، ووسائل لهم يتوصلون بها إلى استغاثتهم بغير الله سبحانه. وسبق في المبحث الثاني: أن القبورية وصلوا في الإلحاد والكفر والشرك إلى حد استخفوا بالله تعالى، فرجحوا الاستغاثة بالأموات* على الاستغاثة برب البريات* وهذا من الكفر بمكان، ونهاية في الإلحاد* وعدم الحياء من رب العباد والبلاد* وأود أن أسوق في هذا المبحث أمثلة أخرى من عقيدتهم في الاستغاثة بالغائبين والأموات* لدفع الملمات وجلب الخيرات* بأنواع من الكلمات والتعبيرات * في جميع الأوقات والحالات* وأبين أن القبورية يرجحون الاستغاثة بالأموات* على الاستغاثة بالأحياء عند الكربات* وأذكر أيضا عدة أمثلة لاستغاثاتهم المتفرقات* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1069 من المنظومات والمنثورات دعوة منهم إلى الوثنيات* فأقول وبالله أستعين * إذ هو المستعان وهو المعين*: إن وضع هذا المبحث يقتضي أن يشتمل على مطالب ثلاثة، وإن المطلب الأول منها يشتمل على أمرين: الأمر الأول: في بيان عدة من التعبيرات * لاستغاثة القبورية بالغائبين والأموات * لقد توسعت القبورية الضلال* للإغواء والإضلال * في الاستغاثة بالغائبين والأموات* بعدة أنواع من الكلمات والألفاظ والتعبيرات* فارتكبوا صرائح الوثنيات* الفاضحات الواضحات* 1 - فقالوا: (إن الدعاء والاستغاثة بغير الله تعالى يكون على وجوه ثلاثة: الأول: أن يهتف باسمه مجردا، مثل أن يقول: " يا محمد، يا علي، يا عبد القادر، يا أولياء الله، يا أهل البيت " ونحو ذلك. الثاني: أن يقول: " يا فلان، كن شفيعي إلى الله في قضاء حاجتي، أو ادع الله أن يقضيها" أو ما شابه ذلك. الثالث: أن يقول: [يا فلان] " اقض ديني، أو اشف مريضي، أو انصرني على عدوي " وغير ذلك. وليس في شيء من هذه الوجوه الثلاثة مانع، ولا محذور، فضلا عما يوجب الإشراك والتكفير ... ) . 2 - وقال القضاعي - أحد أئمة الوثنية القبورية الصوفية الكوثرية (1376هـ) -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1070 اعلم أن التوسل بالسادة على أنحاء: الأول: أن يدعو الله بهم، كأن يقول: اللهم إني أسألك بأنبيائك، أو بالصالحين، أو بحرمتهم، أو بجاههم، أو بحقهم. الثاني: أن يطلب المستغيث من المستغاث به: أن يشفع له إلى ربه في قضاء حاجته. بأن يقول: ادع لي أن يرد عليّ بصري. الثالث: أن يطلب المستغيث من المستغاث به قضاء حاجته، بأن يقول: يا فلان، ردّ عليّ بصري. 3 -9- وقال ابن الحاج (737هـ) في آداب الزيارة، وتبعه كثير من خلطائه الوثنية: ثم يتوسل بالأنبياء عليهم السلام إلى الله في قضاء حوائجه ويستغيث بهم، ويطلب منهم الحوائج، ولا سيما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يخيب من استعان به، أو استغاث به، فإنه قطب دائرة الكمال، وعروس المملكة، فمن توسل به، أو استغاث به، أو طلب منه حوائجه، فلا يرد ولا يخيب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1071 والزائر يشعر نفسه بأنه واقف بين يديه عليه الصلاة والسلام كما هو في حياته، إذ لا فرق بين موته وحياته في مشاهدته لأمته، ومعرفته بأحوالهم، ونياتهم، وخواطرهم، وذلك جلي عنده، لا خفاء فيه. 10 - وقد جوز المتمرد الحسيني الحصني، أحد كبار أئمة القبورية والمعطلة والوالغين في أئمة السلفية في آن واحد (829هـ) - طاعنا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1072 شيخ الإسلام* وداعية إلى الشرك والوثنية للعوام*: أن يقول المضطر والمكروب عند الاستغاثة بميت أو غائب طالبا منه قضاء الحاجات: يا سيدي الشيخ فلان، أنا في حسبك، أو في جوارك، أو يقول عند هجوم العدو: يا سيدي فلان، يستوحيه، أو يستغيث به، أو يقول نحو ذلك عند مرضه، وقال: إن من يرى ذلك حراما، وشركا وكفرا -[يعني شيخ الإسلام]- فهو زنديق، تابع لليهود، وتقشعر الجلود من قوله، لما في قوله من الخبائث والفجور. 11 -20- وقال التقي السبكي (756هـ) ، وتبعه السمهودي (911هـ) ، والقسطلاني (923هـ) ، والهيتمي (974هـ) ، والزرقاني (1122هـ) ، وابن جرجيس الحنفي العراقي (1299هـ) ، ودحلان (1304هـ) ، والنبهاني (1350هـ) ، وغيرهم من القبورية * وخلطائه الخرافية* واللفظ للثالث: (واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو التشفع، أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1073 التجوه، أو التوجه، لأنها من الجاه والوجاهة، ومعناه علو القدر والمنزلة، وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه ... ) . الأمر الثاني: في بيان عقيدة القبورية في الاستغاثات والتوسلات* بغير الله في جميع الأوقات والحالات * تقدم في الأمر الأول: بيان عقيدة القبورية في الاستغاثة بغير الله تعالى، وأنها تجوز بأية لفظة كانت، فتوسعوا في التعبيرات عن الاستغاثات* بعدة ألفاظ وصيغ وكلمات * وأبين للقراء ههنا: أن القبورية قد توسعوا أيضا في الدعوة إلى الاستغاثات بغير الله من المخلوقات* في جميع الأوقات والحالات دعوة منهم إلى الوثنيات* وإليكم نصهم بحرفه: قال ابن النعمان المغربي المالكي (683هـ) ، وتبعه كثير من خلطائه القبورية، كالسبكي (756هـ) ، والسمهودي (911هـ) ، والقسطلاني (923هـ) ، والهيثمي (974هـ) ، والزرقاني (1122هـ) ، وابن جرجيس الحنفي العراقي (1299هـ) ، ودحلان (1304هـ) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1074 والنبهاني (1350هـ) ، والقضاعي (1376هـ) ، وغيرهم من القبورية الوثنية، واللفظ للرابع: ( ... ، ثم إن كلا من الاستغاثة والتوسل والتشفع، والتوجه بالنبي صلى الله عليه وسلم، - كما ذكره في " تحقيق النصرة "، و" مصباح الظلام " - واقع في كل حال: قبل خلقه، وبعد خلقه في مدة حياته، وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة ... ) . هذه أربع أحوال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1075 المطلب الثاني في بيان ترجيح القبورية الاستغاثة والتوسل بالأموات على الاستغاثة بالأحياء عند الكربات وأن الميت أقدر على إنجاح الحاجات لقد سبق في المطلب الأول: أن القبورية توسعوا في الاستغاثات* بغير الله من الأحياء الغائبين وبالأموات* بأنواع من العبارات والكلمات * وفي جميع الأوقات والحالات* وأذكر في هذا المطلب: أنهم في الحقيقة يرجحون الاستغاثة بالأموات* على الاستغاثة بالأحياء عند الملمات والكربات* وذلك لعقيدتهم الفاسدة الباطلة* الكاسدة العاطلة* الوثنية الشركية* القبورية الكفرية*: أن الأموات أقوى تصرفا من الأحياء* إلى آخر خرافاتهم الجاهلية الجهلاء الخرقاء الحمقاء * وفيما يلي عدة نصوص لهؤلاء القبورية الوثنية لتشهد على وثنيتهم: 1 -2- قال النبهاني (1350هـ) : (قال قطب الإرشاد عبد الله بن علوي الحداد رضي الله عنه: الولي يكون اعتناؤه بقرابته واللائذين به بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1077 موته أكثر من اعتنائه بهم في حياته؛ لأنه في حياته كان مشغولا بالتكليف، وبعد موته طرح عنه الأعباء وتجرد، والحي فيه خصوصية وبشرية، [الخصوصية: أي الألوهية والربوبية] !؟! وربما غلبت إحداهما على الأخرى، وخصوصا في هذا الزمان، فإنها تغلب البشرية، والميت ما فيه إلا الخصوصية فقط، وقال القطب الحداد أيضا: إن الأخيار إذا ماتوا لم تفقد منهم إلا أعباؤهم وصورهم، وأما حقائقهم فموجودة، فهم أحياء في قبورهم، وإذا كان الولي حيا في قبره؛ فإنه لم يفقد شيئا من علمه وعقله وقواه الروحانية؛ بل تزداد أرواحهم بعد الموت بصيرة وعلما وحياة روحانية، وتوجها إلى الله تعالى فإذا توجهت أرواحهم إلى الله تعالى في شيء- قضاه سبحانه وتعالى وأجراه إكراما لهم ... ، فأهل البرزخ من الأولياء في حضرة الله تعالى، فمن توجه إليهم وتوسل بهم- فإنهم يتوجهون إلى الله تعالى في حصول مطلوبه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1078 2 - وقال عن أبي المواهب: (ومعلوم أن الأولياء أحياء في قبورهم إنما ينقلون من دار إلى دار ... ، ومن الأولياء من ينفع مريده الصادق بعد موته أكثر مما ينفعه حال حياته، ومن العباد من يتولى تربيته بنفسه غير واسطة، ومنهم من تولاه بواسطة بعض أوليائه، ولو ميتا في قبره، فيربي مريده وهو في قبره، ويسمع صوته من القبر) . 4 -7- وقالوا دعوة إلى الوثنية جهارا دون حياء: (الولي في الدنيا كالسيف في غمده، فإذا مات تجرد منه، فيكون أقوى في التصرف) . 8 -9- وقال الرازي (606هـ) فيلسوف الأشعرية، وتبعه الكوثري خاتمة الماتريدية وأحد أئمة الوثنية (1371هـ) ، واللفظ للأول: (إن تلك النفوس لما فارقت أبدانها- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1079 فقد زال الغطاء والوطاء، وانكشف لها عالم الغيب ... ) . 10 -12- وقال الرازي (606هـ) أيضا، وتبعه الكوثري والداجوي الديوبندي، واللفظ للأول: (ثم الأرواح البشرية الخالية عن العلائق الجسمانية المشتاقة إلى الاتصال العلوي- بعد خروجها من ظلمة الأجساد- تذهب إلى عالم الملائكة، ومنازل القدس على أسرع الوجوه ... ؛ ثم إن هذه الأرواح الشريفة العالية لا يبعد أن يكون فيها ما يكون لقوتها وشرفها- يظهر منها آثار في أحوال هذا العالم؛ فهي {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} ... ) . قلت: الحاصل أن تصرف الأموات عند القبورية أقوى من تصرف الأحياء، فلذا يرجحون الاستغاثة بالأموات * على الاستغاثة بالأحياء عند إلمام الملمات* وهذا من أعظم الحجج على أنهم أبعد غورا في الوثنيات*، ولأجل أن الاستغاثة بالأموات* أرجح عند القبورية منها بالأحياء عند الملمات*- ترى القبورية يدعون ويرغبون في الحج إلى القبور* ولا سيما القبور المعظمة للاستغاثة بالمقبور * وإليك بعض الأمثلة لذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1080 المثال الأول: قبر موسى الكاظم (183هـ) : قالوا: (قبر موسى الكاظم ترياق مجرب لإجابة الدعاء) . وللقبورية الوثنية عجائب في زيارة مشهده. المثال الثاني: قبر معروف الكرخي (200هـ) . قالوا: (قبره ظاهر هناك يتبرك به، وأهل بغداد يستسقون به ويقولون: قبره ترياق مجرب) . وقالوا: (قبره معروف بقضاء الحوائج) . وللشعراني الوثني نصيب في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1081 والعجب من إمامنا الهمام* ناقد الرجال ومؤرخ الإسلام*!!! كيف سكت على هذه الأسطورة الوثنية* ولم يعلق عليها كعادته السلفية*؟ ولكن الله تعالى قد وفق لمحقق هذا المجلد التاسع من السير الشيخ كامل الخراط الحنفي فرد على هذه الأسطورة الوثنية في تعليقه عليها فأجاد وأفاد، فجزاه الله خيرا على التوحيد وأهله. مع كون هذا الشيخ كامل الخراط منخرطا بكامله في طامات خليطه الكوثري من الطعن في كبار أئمة الإسلام؛ دفاعا عن الحسن بن زياد الحنفي الكذاب (204هـ) - الذي كذبه ابن معين الحنفي - عند الكوثري - وأبو داود، وأبو ثور، ويعقوب بن سفيان، والنسائي والدارقطني وغيرهم، وجروح أمثال ابن المديني، ويزيد بن هارون، وصالح جزرة له واسعة الذيل، فولغ هذا المنخرط الخراط في أعراض هؤلاء الأئمة وطعن في دينهم وديانتهم، وأمانتهم، لأجل سواد عيني ابن زياد، ذلكم الكذاب- سامحه الله وإيانا-؛ والعجب كل العجب من الشيخ شعيب الأرناؤوطي الحنفي المشرف على هذا المجلد التاسع من السير الذي حققه هذا المنخرط الكامل!!! كيف أقر خبث الكوثري، وكيف سكت على مسايرة هذا المنخرط الكامل في تلبيسات الكوثري وطعونه في أئمة الإسلام ... ؟؟؟.؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1082 ولكن التعصب للتمذهب يلعب بأهله!؟!. المثال الثالث: قبر محمد السلطان الحنفي (847هـ) : قال الشعراني الوثني (973هـ) ، وتبعه كثير من خلطائه الوثنية: (قال سيدي محمد رضي الله عنه في مرض موته: من كانت له حاجة فليأت إلى قبري ويطلب حاجته- أقضها له؛ فإن ما بيني وبينكم غير ذراع من تراب، وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل) . قلت: أساطير القبورية الوثنية التي تتعلق بالقبور والمقبور خارجة عن نطاق البيان، والبنان، وفي هذه الأمثلة كفاية لبيان وثنيتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1083 المطلب الثالث في بيان استغاثات القبورية المتفرقات من المنظومات والمنثورات الوثنيات وفيه أمران: الأمر الأول: في الاستغاثات* المنظومات*: لقد أكثرت القبورية من الاستغاثات بالأموات في أشعارهم، ليفتكوا بالقلوب دعوة منهم إلى الوثنية؛ لما للشعر من التأثير على القلوب ما ليس للكلام المنثور. وإليكم عدة أمثلة لاستغاثة القبورية بالأموات في أشعارهم: 1 - قال البوصيري (694هـ) ، وتبعه خلطاؤه الوثنية: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1085 2 -3- وقولتِ البريلوية، والديوبندية الإمامَ أبا حنيفة أنه قال: يا أكرم الثقلين يا كنز الورى ... جد لي بجودك وأرضني برضاك أنا طامع بالجود منك ولم يكن ... لأبي حنيفة في الأنام سواكا 4 -5- واستدل بعض الديوبندية بما قوِّلَهُ الإمام زين العابدين (94هـ) : يا رحمة للعالمين ... أدرك لزين العابدين محبوس أيدي الظالمين ... في موكب والمزدحم 6 -8- ومن استغاثات الديوبندية والبريلوية قولهم: يا شفيع العباد خذ بيدي ... أنت في الاضطرار معتمدي ليس لي ملجأ سواك أغث ... مسني الضر سيدي سندي غشني الدهر ابن عبد الله ... كن مغيثا فأنت لي مددي 9 -11- ومن وثنيات القبورية * في استغاثاتهم الشعرية* بالشيخ الجيلاني (561هـ) قولهم الوثني الركيك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1086 المدد يا شاه شاهان المدد ... المدد يا بير بيران المدد المدد يا فخر قطبان المدد ... المدد يا شمس جيلان المدد المدد يا غوث غوثان المدد ... المدد محبوب رحمان المدد 12 -13- وقال أحمد رضا خان الأفغاني إمام البريلوية (1340هـ) مستغيثا به: أي ظل الإله الشيخ عبد القادر ... شيئا لله الشيخ عبد القادر عطفا عطفا عطوف عبد القادر ... رأفا رأفا رؤوف عبد القادر اصرف عنا الصروف عبد القادر 14 -15- وقال عن بعض الوثنية مستدلا به: ناد عليا مظهر العجائب ... تجده عونا في النوائب كل همّ سينجلي ... بولايتك يا علي يا علي 16 -17- وذكر الديوبندية والبريلوية عن الشيخ زروق أنه قال: أنا لمريدي جامع لشتاته ... إذا ما سطا جور الزمان بنكبة وإن كنت في ضيق وكرب ووحشة ... فناد بيا زروق آت بسرعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1087 18 - ومن عجائب وثنيات هؤلاء القبورية الوثنية: أنهم لما غزتهم التتار في بلاد الشام- جعلوا يستغيثون بقبر أبي عمر، وفي ذلك يقول أحد شعرائهم: يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر 19 -20- وقال أبو المواهب (1037هـ) في قصيدة استغاثية: أغث يا سيدي يا لهفي ... وإلا من له أذهب بك استنصرت فانصرني ... فمن تنصره لا يغلب وقد استدل بقصيدته النبهاني لدعم وثنيته، ومنها هذان البيتان. والعجب من الخفاجي الحنفي (1069هـ) حيث قال: (وله استغاثات يعجبني منها قوله ... ) فذكرها ومنها هذان البيتان!. الأمر الثاني: في الاستغاثات* المنثورات*: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1088 بعد ما ذكرت أمثلة من استغاثات القبورية المنظومة، يجدر أن أذكر على سبيل المثال بعض استغاثاتهم المنثورة، فأقول: للقبورية استغاثات كثيرة أذكر منها ما يلي: 1 - قالوا: الإنسان إذا ضاع له شيء فليقف على مكان عال وليقل: (يا أحمد بن علوان إن لم ترد عليّ حاجتي نزعتك من ديوان الأولياء) . 2 - أسطورة مثلها بعينها ولكنها في الاستغاثة بعمر بن حمدان. 3 - 5- استغاثاتهم بالشيخ معصوم السرهندي (1099هـ) الحنفي الصوفي. قالوا: (ومن كراماته: أن أحد خلفائه الكرام الخواجة محمد صديق كان في سفر على فرس فجفلت، فسقط إلى الأرض وبقيت رجله في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1089 الركاب، وجعلت الفرس تعدو به حتى أيقن بالهلاك؛ فاستغاث بشيخه المذكور [محمد معصوم] قال: فرأيته حضر، وأوقفها، وأركبني. ومنها: أن الشيخ محمد صديق المذكور وقع في البحر ولم يكن يعرف السباحة فكاد أن يغرق؛ فناداه مستغيثا به، فحضر وأخذ بيده، وأنقذه من الغرق، ومنها: أنه رضي الله عنه كان جالسا يوما مع أصحابه في رباطه، إذ ابتلت يده الشريفة وكمه إلى إبطه؛ فعجبوا من ذلك، وسألوه عنه، فقال قدس الله سره: استغاث بي رجل من المريدين تاجر كان راكبا في السفينة وقد كادت أن تغرق، فخلصتها من الغرق، فابتل لذلك كمي ويدي ... ) . 6 - أسطورة استغاثتهم بالسلطان محمد الحنفي المصري الصوفي (847هـ) : قال الشعراني أحد أئمة القبورية (973هـ) : (كان يتوضأ يوما فورد عليه وارد فأخذ فردة قبقابه [إحدى نعليه، وحذائه] فرمى بها وهو داخل الخلوة [أي في داخل الغرفة] ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1090 فذهبت في الهواء، وليس في الخلوة طاق تخرج منها [أي لم يكن في الغرفة منفذ ولا شباك] ، فقال لخادمه: " خذ هذه الفردة [إحدى نعليه الباقية] عندك حتى تأتيها أختها؛ فبعد زمان جاء رجل من الشام مع جملة هدية وقال: جزاك الله عني خيرا إن اللص لما جلس على صدري ليذبحني- قلت في نفسي: يا سيدي محمد يا حنفي؛ فجاءته [أي فجاءت فردة القبقاب من الغيب فأصابته] في صدره فانقلب مغمى عليه، ونجاني الله عز وجل ببركتك) . 7 - أسطورة وثنية أخرى في الاستغاثة: قالوا: كان وليان متعاصران صديقان، وكان بينهما بحر، فطبخ أحدهما الحلوى فأعطى خادمه شيئا منه، وقال له: اذهب إلى صديقي وأعطه، فقال: يا مرشدي كيف أعبر البحر؟؟؟ فقال: إذا وصلت إلى شاطئ البحر- فقل له: إني جئت من قبل الذي لم يجامع زوجته إلى اليوم- فتحير الخادم، لأن هذا الولي كان له أولاد!!!، ولكنه امتثل أمره واستغاث به وقال ما لقنه، فعبر البحر، فوصل إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1091 الولي الآخر وأعطاه الحلوى فأكله، وقال له سلم على مرشدك، فقال الخادم: كيف أعبر البحر؟؟؟ فقال له: إذا وصلت إلى البحر فقل له: إني جئت من قبل الذي لم يأكل شيئا منذ ثلاثين سنة، فتعجب الخادم، لأنه قد رآه يأكل الحلوى!!!، ولكنه سكت تأدبا، ومشى، فلما وصل إلى البحر استغاث به وقال ما لقنه، فعبر البحر، فلما وصل إلى مرشده سأله عن حقيقة أمرهما؛ فقال: أفعالنا ليست لأنفسنا. قلت: هذه كانت عدة أمثلة لوثنيات هؤلاء الوثنية في استغاثاتهم بالأموات عند الكربات* قد ذكرتها لتكون شاهدة على وثنيتهم وارتكابهم لأوضح الشركيات* وقد سئمت منها مع أنها بمنزلة القطرة من بحر وثنياتهم، والآن ننتقل إلى جهود علماء الحنفية في إبطالها وقلعها وقمع أهلها، والله المستعان، فإياه نعبد، وإياه نستعين* إذ هو المستغاث المغيث المعين* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1092 الفصل الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله وفيه مبحثان: - المبحث الأول: في استدلال علماء الحنفية بالكتاب والسنة على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. - المبحث الثاني: في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أمر محرم في شرع الله، وأنه إشراك بالله تعالى، بل هو أم لعدة أنواع من الإشراك بالله جل وعلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1093 المبحث الأول في استدلال علماء الحنفية بالكتاب والسنة على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله وفيه مطلبان: المطلب الأول: في استدلال علماء الحنفية بعدة من الآيات القرآنية على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله. المطلب الثاني: في استدلال علماء الحنفية بعدة من الأحاديث النبوية على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1095 كلمة تمهيدية بين يدي هذا الفصل لقد ذكرت في الفصل الأول عدة أمثلة من شركيات القبورية في استغاثتهم بالأحياء الغائبين، والأموات* التي تدل وتشهد على أنهم مرتكبون لأوضح الشركيات* وواقعون في أصرح الوثنيات باستغاثتهم بغير الله عند الكربات* وأذكر في هذا الفصل بعون الله تعالى جهود علماء الحنفية في استدلالهم بالكتاب والسنة النبوية* على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله عند الكربات، لتحقيق أن صنيعهم هذا من صنائع الوثنية* كما سأذكر جهود علماء الحنفية في الفصل الآتي إن شاء الله؛ لتحقيق أن القبورية بتلك الاستغاثات مرتكبون للشرك الأكبر، بل أنهم أشد شركا من الوثنية الأولى، وأنهم أعظم خوفا وتضرعا وعبادة للأموات* منهم لرب البريات* وهذه المقارنة العلمية في غاية من الدقة والقوة والمتانة، وفيها عبرة بالغة للمعتبرين* ونكال شديد للمعاندين المستكبرين * ثم أذكر بتوفيق الله تعالى في الباب الذي بعده أشهر شبهات المستغيثين بغير الله ولا سيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1097 بالأموات* لجلب الخيرات ودفع الملمات فيما لا يقدر عليه إلا خالق الكائنات * مع جهود علماء الحنفية في إبطالها وقلعها من أصلها، وقمع أهلها، وبذلك يكون الرد على القبورية مستوفيا بحمد الله تعالى؛ لتتم عليهم الحجة* وتتضح لهم المحجة* إن شاء الله تعالى، وبناء على هذا التفصيل، تقتضي طبيعة مباحث الاستغاثة: أن تكون في بابين لطولها وكونها لب هذه الرسالة، وبيت قصيدها، وكونها الغاية العظمى للقبورية أهم عند القبورية من بقية عقائدها؛ فأقول وبربي أستغيث وأستعين* إذ هو المستغاث المستعان وهو المعين*: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1098 المطلب الأول في استدلال علماء الحنفية بعدة آيات من كتاب الله على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله لقد اطلع القراء الكرام على عجائب من وثنيات القبورية * وغرائب من شركيات هؤلاء الخرافية* في استغاثتهم بالأحياء الغائبين والأموات* عند إلمام الملمات لدفع المضرات وجلب الخيرات* ومن هنا أبدأ بالرد عليهم لإبطال عقيدتهم من كتب علماء الحنفية مظهرا بعض جهودهم. فأقول: إن علماء الحنفية قد استدلوا بعدة آيات قرآنية للرد على القبورية وإبطال عقيدتهم في الاستغاثة بغير الله، أذكر بعضها مع تقرير استدلالهم بها، فأقول وبالله التوفيق: ذكر بعضهم الآيات القرآنية التي استدل بها علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية في الاستغاثة بغير الله: 1 - قال الله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأنعام: 71] . 2 - وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1099 3 - وقال جل وعلا: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . [المؤمنون: 117] . 4 - وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . [فاطر:14] . 5 - وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن: 20] . 6 - وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] . 7 - وقال سبحانه: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} . [الحج: 12] . 8 - وقال عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] . 9 - وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} . [الجن: 18] . 10 - وقال جل وعلا: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213] . 11 - وقال سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . [القصص: 88] . 12 - وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 56] . 13 - وقال تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1100 {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] . 14 - وقال تعالى عن أصحاب الكهف: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14] . 15 - وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 197] . 16 - وقال عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62] . 17 - وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] . 18 - وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] . 19 - وقال جل وعلا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [الأحقاف: 4] . 20 - وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر: 40] . 21 - وقال عز وجل: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} . [الزمر: 38] . 22 - وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14] . 23 - وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1101 [النحل: 20] . 24 - وقال سبحانه: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف: 86] . 25 - وقال جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء:56] . 26 - وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ} [سبأ: 22] . 27 - وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194] . 28 - وقال عز وجل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] . 29 - قال تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} . [الصافات: 125] . 30 - وقال عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 22-23] . 31 - وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1102 [الزمر: 8] . 32 - وقال سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] . 33 - وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] . 34 - وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] . 35 - وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] . 36 - وقال جل وعلا: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] . 37 - وقال تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف 29] . 38 - وقال سبحانه: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65] . 39 - وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14] . 40 - وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] . 41 - وقال سبحانه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف: 128] . 42 - وقال تعالى عن نبيه يعقوب: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1103 [يوسف: 18] . 43 - وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 112] . 44 - وقال عز وجل: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] . وقد استدل علماء الحنفية بهذه الآيات وغيرها على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله تعالى من الغائبين الأحياء، والأموات، عند المصائب والكربات* وتقرير الاستدلال عندهم بهذه الآيات المباركات يتلخص فيما يلي من الفقرات*: 1 - أن هذه الآيات المباركات تدلّ دلالة قاطعة على أنّ دعاء غير الله تعالى فيما وراء الأسباب العادية كفر وشرك. 2 - وأنه عبادة لغير الله عز وجل. 3 - وأنه ظلم. 4 - وأنه ضلال بعيد. 5 - وأنه منهي عنه. 6 - وأن جزاء فاعله جهنم. 7 - وأنه شطط. 8 - وأن الذين يدعونهم هؤلاء القبورية ويستغيثون بهم - لا يملكون نفعا ولا ضرا؛ لا لأنفسهم ولا لغيرهم. 9 - وهم عن دعائهم غافلون، فلا يعلمون بحالهم ولا يسمعون دعاءهم. 10 - وهم براء عن شركهم، ويكونون لهم أعداء يوم القيامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1104 11 - وأن الله تعالى زجر وخوّف المستغيثين بغيره بعذاب أليم. 12 - وأن الله أمر أمرا باتا قاطعا ألا ندعوا إلا الله وحده لا شريك له. 13 - وأنه رغّب في دعائه، والاستعانة منه وحده لا شريك له. 14 - وأن الله تعالى وحده هو المستعان وحده لا شريك له. 15 - وأن دعاء الله تعالى وحده رغبا ورهبا- هو منهج الأنبياء والمرسلين* وطريق عباد الله الصالحين* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1105 المطلب الثاني في ذكر بعض الأحاديث التي استدل بها علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية من نداءهم غير الله تعالى من الأحياء الغائبين والأموات واستعانتهم بهم عند إلمام الملمات لقد استدل علماء الحنفية في صدد ردّهم على عقائد القبورية، واستغاثتهم بغير الله تعالى بعدة أحاديث، أذكر منها ما يلي: الحديث الأول: «عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» . الحديث. أقول: لقد استدل بهذا الحديث المبارك علماء الحنفية على إبطال عقيدة القبورية من استغاثتهم بغير الله تعالى. وقد تقدم تقرير الاستدلال به، وتخريجه، وتصحيحه، والردّ على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1107 خيانات الكوثري، وقدحه في هذا الحديث. كل ذلك بنصوص علماء الحنفية، فلا حاجة إلى الإعادة. الحديث الثاني: عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي، كلكم جائعٌ إلا من أطعمته فاستطعموني أُطْعِمْكم. يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوت فاستكسوني أكْسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم» . الحديث. وقد استدل به علماء الحنفية في صدد الرد على القبورية على إبطال استغاثتهم بغير الله عند الملمات. والحديث واضح في أن الله يأمر عباده بأن يدعوه في جميع الملمات والكربات وحده لا شريك له. الحديث الثالث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1108 «يستغفرني فأغفر له؟» . وقد استدل علماء الحنفية بهذا الحديث في الرد على القبورية على إبطال نداء غير الله تعالى عند الكربات والملمات. قال العلامة الآلوسي في شرح هذا الحديث: هذا الحديث أصل الدين، ولكن القبورية الغلاة الذين يستحبون الاستغاثة بغير الله، ويجعلون الوسائط بينهم وبين الله- يهدمون هذا الأصل، ويسدون بابه؛ فهم بضد هذا الحديث- يستغيثون بالأنبياء والصالحين [بل الطالحين] *ويرغبون إليهم في الحاجات الطالبين والسائلين * وضرورات المضطرين * من خلق الله أجمعين *. الحديث الرابع: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «استعن بالله ولا تعجز» . الحديث. قال الشيخ الرستمي: " ففي هذا الحديث أمر للعباد بأن يستعينوا بالله في كل ما أصابهم من شيء ". الحديث الخامس: عن جابر بن سليم قال: «قلت: " أنت رسول الله "؟» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1109 «قال: " أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرّ فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوته ردّها عليك "» . ولقد استدل علماء الحنفية بهذا الحديث على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله تعالى، والحديث واضح في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله سبحانه هو وحده المستعان، وهو وحده يُدعى، وهو وحده يُنادى عند البليات، والكربات. قلت: هذا الحديث وأمثاله من النصوص تدلّ دلالة قاطعة على أنّ الله تعالى هو وحده يردّ الضالة، وأنّه هو وحده يستغاث به عند الكربة، وأنه هو وحده المستعان لا شريك له، فتبا لهؤلاء القبورية الذين يرجحون الاستغاثة بالأموات على الاستغاثة بالله، ويقولون: الولي أسرع إجابة من الله! أو يقولون: الولي الفلاني يرد الضالة، كما ذكرناه فيما ذكرنا من خرافاتهم. الحديث السادس: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1110 «الله: " أي الذنب أكبر عند الله؟ " قال: " أن تدعوا لله ندا وهو خلقك " ... ؛ فأنزل الله تعالى تصديقها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} » [الفرقان:68] . قلت: الحديث صريح في أن دعاء غير الله تعالى ما وراء الأسباب شرك أكبر، وهو أكبر الذنب على الإطلاق.، ولقد استدل علماء الحنفية به في الرد على القبورية على أنّ نداء غير الله تعالى من الأحياء الغائبين أو الأموات عند البلايا والكربات شرك بالله تعالى. وقال القاري: " أن تدعو لله ندا، أي أن تجعل نظيرا لله في دعائك، وعبادتك ". وقال الكاندلوي: " أكبر الذنوب أن تدعو لله ندا شريكا مع علمك بأنه لم يخلقك أحد غيره، ولم يقدر على أن يدفع عنك السوء والمكاره غيره، بل لله عليك الإنعام بما لا تقدر على عدّه ". الحديث السابع: قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من لم يسأل الله يغضب عليه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1111 وفي لفظ: «من لم يسأل الله غضب الله عليه» . وفي لفظ: «من لم يسأله يغضب عليه» . وفي لفظ: «من لم يدع الله سبحانه غضب عليه» . قلت: هذا الحديث أقل أحواله أنه حسن. وقد استدل به كثير من علماء الحنفية على أهمية دعاء الله تعالى وحده عند الكربات ونزول الملمات، وذكروا في معناه قول القائل: " الرب يغضب إن تركت سؤاله ... وبُنيّ آدم حين يُسْأل يغضب " قال الشيخ فضل الله الجيلاني الحنفي (1979م) في شرح هذا الحديث، مبينا أهمية دعاء الله تعالى، ووجوب الالتجاء إليه عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1112 الكربات: " فيه دليل على أنّ دعاء العبد ربّه من أهم ما يجب عليه من حق الله تعالى، وأعظم ما فرض، لأن تجنب ما يغضب الله منه لا خلاف في وجوبه ". الحديث الثامن: قول النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث سلمان رضي الله عنه: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا» . وفي لفظ: «إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفرا- أو قال: خائبتين-» . وفي لفظ: «إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما خائبتين» . وفي لفظ: «إن الله حيي كريم يستحيي من عبده أن يبسط إليه يديه ثم يردهما خائبتين» . وفي لفظ: «إن الله عز وجل يستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1113 «فيهما خيرا فيردهما خائبتين» ) . أقول: لقد استدل كثير من علماء الحنفية بهذا الحديث على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله تعالى من الأحياء الغائبين، والأموات عند نزول النوازل وإلمام الملمات. ولا شك أن هذا الحديث صريح في معناه، وهو يحرك همم المكروبين، ويرغبهم في الاستغاثة بالله سبحانه وتعالى، ويزيدهم رجاء، ويبشرهم بكشف الكربات، ويثير عواطف المضطرين، ويبين أن الله تعالى حيي كريم، رحيم، رؤوف، يستحي من عبده إذا استغاث به أن لا يغيثه. الحديث التاسع: قوله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» . وسيأتي تحقيقه وتخريجه، وتقرير استدلال علماء الحنفية به على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بغير الله سبحانه وتعالى إن شاء الله عز وجل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1114 وبعد أن ذكرت استدلال علماء الحنفية بهذه الآيات والأحاديث - على إبطال عقيدة القبورية في الاستغاثة بغير الله عند الكربات- انتقل إلى المبحث الآتي لأذكر بعض جهود علماء الحنفية ونصوصهم على أن الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك بالله؛ بل أمّ لعدة أنواع من الشرك به سبحانه، وتحقيقهم أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى، وأنهم أشد خوفا وأكثر خضوعا وأعظم عبادة للأموات منهم لخالق البريات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1115 المبحث الثاني في نصوص علماء الحنفية في تحقيق أن الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أمر محرم في دين الله، بل إشراك بالله، بل أم لعدة أنواع من الإشراك بالله تعالى وفيه مطالب ثلاثة: - المطلب الأول: في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله أمر محرم في دين الله تعالى. - المطلب الثاني: في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله إشراك بالله سبحانه. - المطلب الثالث: في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله أم لعدة أنواع من الإشراك بالله جل وعلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1117 كلمة بين يدي هذا البحث لقد سبق في المبحث السابق بيان بعض جهود علماء الحنفية في استدلالهم بعدة آياتٍ قرآنيةٍ، وأحاديث نبويةٍ، على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بالأموات عند الكربات، وتبين أن ذلك من أعظم أنواع الإشراك بالله سبحانه وتعالى، وأذكر في هذا المبحث بعض نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى: أمرٌ محرم في شرع الله، بل إشراك بالله، بل أمُّ الإشراك به تعالى، وبناء على ذلك تقتضي طبيعة هذا المبحث أن يكون مشتملا على مطالب ثلاثة، فأقول وبربي أستغيث وأستعين* إذ هو وحده المستعان وهو وحده المعين*: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1119 المطلب الأول في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أمر محرم في شرع الله ومحذور في دين الله لقد حذر علماء الحنفية، ولا سيما أئمتهم القدامى أمثال: الإمام أبي حنيفة (150هـ) ، والإمام أبي يوسف (182هـ) ، والإمام محمد (189هـ) : الأئمة الثلاثة للحنفية على الإطلاق، وكذا الإمام أبو جعفر الطحاوي (321هـ) ، وغيرهم- من دعاء غير الله، والاستغاثة بغيره سبحانه، فيما لا يقدر عليه إلا هو تعالى، ولهم في ذلك نصوص قاطعة للنزاع، كما هي قاطعة لدابر القبورية، ولا سيما الحنفية منهم، وقالعة لشبهاتهم، وفيما يلي بعض نصوصهم التي فيها عبرة للمعتبرين* ونكال وتنكيل للمعاندين المستكبرين* 1 - نص الإمام أبي حنيفة (150هـ) فيما رواه عنه الإمام أبو يوسف (182هـ) ، وعنه الإمام بشر بن الوليد (238هـ) ، ونقله كثير من علماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1121 الحنفية وأقروه، مستدلين به على منع الاستغاثة بغير الله سبحانه. للإمام أبي حنيفة رحمه الله مقالة مهمة، تقطع دابر القبورية المستغيثين بالأموات* لدفع الملمات، وجلب المنافع والخيرات* معرضين عن الاستغاثة برب البريات، وخالق الكائنات* وهي مقالة قد حمى بها الإمامُ أبو حنيفة حمى التوحيد من كل شرك، ووسائله، وسد بها جميع الذرائع الموصلة إلى ما يناقض التوحيد: توحيد الأنبياء والمرسلين* على ما فهمه خيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الدين* وهي مقالة سارت بها الركبان * واشتهرت واستفاضت عند علماء الحنفية بحيث لم يختلف في صحتها اثنان* ولم يناطح فيها كبشان* وهي مقالة فيها قرة عيون للموحدين السنيين* وسخنة أعين للمشركين والقبوريين* وشجى في حلوق المستغيثين بغير الله من الأموات والغائبين* وهذه المقالة الحنفية لها أهمية عظيمة في باب توحيد الألوهية* كما أن للمقالة المالكية أهمية عظيمة في باب توحيد الصفات الإلهية* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1122 فكما أن المقالة المالكية قطع بها الإمامُ مالك دابرَ كل جهميّ، وفرخه من كل ماتريديّ وأشعريّ* كذلك المقالة الحنفية قد قطع بها الإمام أبو حنيفة دابرَ كل مشركٍ وثنيٍّ، وفرخه من كل صوفيّ وقبوريّ* فالمقالة المالكية هي قولة الإمام مالك (179هـ) : (الاستواء معلوم، والكيف مجهول ... ) . وأما المقالة الحنفية الحنيفية: فهي قولة الإمام أبي حنيفة (150هـ) ونصها: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله تعالى إلاّ به، وأكره أن يقول [المرء] : أسألك بمعاقد العز من عرشك، وأكره أن يقول: وبحق أنبيائك، ورسلك، وبحق البيت الحرام) . 2 -4- وقد رواها الإمام القدوري (428هـ) عن الإمام بشر بن الوليد (238هـ) : أنه قال: سمعت أبا يوسف (182هـ) يقول: قال أبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1123 حنيفة (150هـ) : (لاينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به ... ) فذكرها بتمامها في كتابه الذي شرح به مختصر الإمام الكرخي (340هـ) . 5 -10- ونقلها عن شرح الإمام القدوري (428هـ) لمختصر الإمام الكرخي (340هـ) - كثير من كبار علماء الحنفية، مستدلين بها على إبطال عقيدة القبورية في استغاثتهم بالأموات عند الكربات، فحققوا بها أن القبورية مخالفون لشرع الله، كما أنهم مخالفون لأئمة هذه الأمة في المعتقد، ولا سيما أئمة الحنفية، وبهذه المقالة قد اجتثوا جميع شبهات القبورية في الاستغاثة بغير الله من أصلها، واستأصلوا جميع مزاعمهم في التوسل الباطل من جذورها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1124 11 - لفظ آخر لمقالة الإمام أبي حنيفة (150هـ) رحمه الله- 12- فيما رواه عند الإمام أبو يوسف (182هـ) رحمه الله. 13 - فقد قال الإمام الحصكفي (1088هـ) : 14 -15- (وفي التتار خانية معزيا للمنتقى، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، [أنه قال] : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه، المأمور به: ما استفيد من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1125 (الأعراف: 180) - وكره قوله: بحق رسلك، وأنبيائك، وأوليائك، أو بحق البيت..) . 16 -20- ونقله عن العلاء الحصكفي آخرون من الحنفية. 21 - وقال الإمام ابن عابدين الشامي (1252هـ) في شرح كلام الإمام أبي حنيفة: (" إلا به ": أي بذاته، وصفاته، وأسمائه) . 22 - وتبعه العلامة الرستمي فنقل قوله وأقره، ثم قال في الرد على القبورية عامة والقبورية من الحنفية خاصة: (فعلم من هذا القول [أي قول أبي حنيفة] حصر التوسل الأسمى في الأدعية في أسماء الله تعالى وصفاته. والحال أن هؤلاء المقلدين يتركون قول إمامهم، ويتبعون أهواءهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1126 بغير علم فضلوا وأضلوا) . 23 - ولشيخنا الفاضل العلامة الأديب، جامع المعقول والمنقول، أحد أفاضل الحنفية المنصفين، والرادين على القبورية، كلام مهم في الاستدلال بمقالة الإمام أبي حنيفة، ونقل أقوال علماء الحنفية- يقطع دابر القبورية، ولا سيما الحنفية منهم. 24 -32- وقد ذكر هذه المسألة عدة من كبار علماء الحنفية غير من ذكر وأقروها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1127 33 - 36- وقال الإمام البركوي (981هـ) . وتبعه العلامتان: شكري الآلوسي (1342هـ) ، والرباطي، واللفظ للأول: (قال ابن بلدجي، في شرح المختار: " ويكره أن يدعو الله إلاّ به، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك، ونحو ذلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على خالقه [وجوبا أوجبه عليه غيره] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1128 أو يقول في دعائه: أسالك بمعقد العز من عرشك ... ، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: " أكره كذا "- هو حرام عند محمد، وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف: هو إلى الحرام أقرب* وجانب التحريم عليه أغلب *) . قلت: هذا النص هو في الحقيقة نص أبي حنيفة، وصاحبيه السابق، وهو يدل دلالة قاطعة على بطلان استغاثات القبورية وتوسلاتهم البدعية؛ كقولهم: "بفلان، أو ببركة فلان، أو بحرمة فلان، أو بحق فلان، أو بطفيل فلان، أو بخاطر فلان، أو لأجل فلان، أو بجاه فلان، أو شيئا لله، ونحو ذلك من العبارات* فضلا عن قولهم في ندائهم الأموات*: يا فلان اشفع لي، أو اشفني، أو اقض حاجتي، أو أغثني، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو أنا تحت نظرك، أو أنا تحت ظلك، أو لا تحرمني، أو لا تطردني، ونحو ذلك من الاستغاثات بالأموات* عند إلمام الملمات، ونزول الكربات* التي هي وثنيات صريحات* تحت ستار التوسل والكرامات* 37 -40- قول الأئمة الثلاثة للحنفية * فيما قاله الإمام الطحاوي أحد كبار أئمة الحنفية* لقد ألف الإمام الطحاوي (321هـ) كتابه المعروف في عقيدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1129 أهل السنة والجماعة، وصرح في أوله بأن هذه العقيدة- عقيدة الأئمة الثلاثة، وقولهم جميعا، جاء في أوله النص الآتي: (هذا ما رواه الإمام أبو جعفر الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، رضوان الله عليهم أجمعين* وما يعتقدون من أصول الدين* ويدينون به لرب العالمين*) . قال رحمه الله تعالى في أهمية دعاء الله والاستغاثة به وحده لا شريك له: (والله تعالى يستجيب الدعوات * ويقضي الحاجات* ويملك كل شيء، ولا يملكه شيء *، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين* ومن استغنى عن الله طرفة عين*- فقد كفر، وصار من أهل الحين*) . قلت: هذا النص واضح في معناه، قاطع لدابر القبورية الذين يقولون بدون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1130 حياء من العباد، ورب العباد: إن المضطر ينبغي له أن يستغيث بالأموات عند الكربات* لأن الولي أسرع إجابة من الله تعالى في دفع المضرات، وجلب الخيرات* إلى آخر هذيانهم الكفري الإلحادي الذي ذكرتُ أمثلة منه في ترجيحهم الاستغاثة بالأموات * على الاستغاثة برب البريات*؛ لأن هذا النص مشتمل على عدة من الأمور المهمات * التي تبطل جميع مزاعم القبورية في استغاثتهم بالأموات*: الأول: أن الله تعالى يستجيب الدعوات، ويقضي الحاجات، فبطل كفر هؤلاء القبورية: أن الولي أسرع إجابة من الله. الثاني: أن الله يملك كل شيء، وقادر على كل شيء، فهو المالك المطلق، والغني القادر المطلق، وحده لا شريك له. فبطلت خرافات القبورية في زعمهم التصرف في الكون للأولياء. الثالث: أنه لا غنى لأحد عن الله تعالى طرفة عين. فبطل بذلك زعم القبورية في دعوة العباد إلى الاستغاثة بالعباد ولا سيما الأموات. الرابع: حكم هؤلاء المستغيثين المستكبرين عن الاستغاثة بالله، المعرضين عنها، الراغبين في الاستغاثة بالأموات، الداعين إليها: وهو أنهم قد ارتكبوا كفرا بواحا، وشركا صراحا. هذا هو حكم الأئمة الحنفية القدامى على مثل هؤلاء القبورية الوثنية المرجحين للاستغاثة بالأموات* على الاستغاثة بخالق الكائنات*، والمعتقدين فيهم العلم بالمغيبات* وسماع أصوات الاستغاثات* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1131 والتصرف في الكون، وغير ذلك من الخرافات والشركيات*. 41 -46- ولقد شرح هذه العقيدة كثير من كبار علماء الحنفية، ولهم كلام مهم في شرح قول الإمام الطحاوي المذكور- الذي هو في الأصل قول للأئمة الثلاثة للحنفية على الإطلاق، ويطول المقام أن أسوق كلام كل واحد من هؤلاء الشراح في شرح هذا القول الفيصل؛ لذلك أود أن أذكر حاصل مجموع كلام هؤلاء الحنفية * وهم ستة أعلام، ليكون ذلك إجهازا على هؤلاء الجرحى القبورية *: قالوا:إن الله تعالى أمر عبادة بالدعاء، ووعد بالإجابة، فرغب العباد إلى دعائه وحده لا شريك له؛ لأن الله سبحانه حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يدعهما صفرا؛ فالله سبحانه وتعالى قد أكد وأمر عباده أن يدعوه وحده عند الكربات، وقد وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تؤكد هذا المطلوب، وتوجبه على العباد، ليدعوا رب العباد عند الكربات، لا غيره من المخلوقات؛ لأن الله تعالى هو وحده يملك كل شيء، فلا يتعذر عليه شيء، ولا يصعب عليه إعطاء شيء؛ ثم هو حيي، كريم، رحيم، جواد، وهاب، يعطي، ويجيب، وقادر على قضاء الحوائج، وهو موصوف بكمال الرحمة، وقادر على كل شيء؛ فلا تلحقه مشقة في قضاء حاجات المحتاجين، ولا غنى لأحد من المسلمين والكافرين عن الله تعالى طرفة عين؛ فإن المشركين أيضا محتاجون إلى الله تعالى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1132 فقد كانوا إذا مسهم الضر في البحر لم يكونوا يدعون إلا الله سبحانه وحده لا يشركون معه غيره، فهؤلاء الكفار قد فهموا هذه النكتة المهمة، فكانوا يعتقدون أنه لا غنى لأحد عنه سبحانه عند الكربات؛ ولأجل أن كل ما سوى الله مفتقر إليه، وأنه هو الغني وحده- قد ندب الله سبحانه إلى دعائه، ورغبهم في أن يسألوه حوائجهم وحده لا شريك له، لأن ذلك يتضمن عدة من المطالب العالية، والصفات الكمالية، وهي الوجود، والغنى، والسمع، والعلم، والكرم، والرحمة، والقدرة، لأن المعدوم، والفقير، والأصم، والبخيل، والقاسي، والعاجز- لا يُدْعَوْنَ، فالله سبحانه وتعالى يفرح بدعاء عبده وسؤاله منه، وإظهار تضرعه إليه، فمن لم يسأل الله عند الكربات* ولم يدعه عند الملمات* يكرهه ويغضب عليه، بخلاف ابن آدم، كما قيل: الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبُنيُّ آدم حين يسأل يغضب فمن رأى نفسه مستغنيا عن الله طرفة عين، معرضا عنه، مستغيثا بغيره تعالى- فقد كفر، ويكون مخلدا في النار، فأي هلاك أشد من هذا!!!؛ لأن من لا يدعو الله تعالى- فهو لا يعرفه، وإن ادعى أنه يعرفه؛ لأنه وإن أقر به- فقد نقض إقراره بترك دعائه وسؤاله عند الكربات* وعدوله إلى غيره سبحانه من المخلوقات*. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1133 قلت: هذا الكلام لا يحتاج إلى أي تعليق فهو واضح في معناه وقاطع لدابر القبورية. 47 -49- وقال الإمام الآلوسي محمود المفسر، مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) ، وتبعه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، والعلامة الخجندي (1379هـ) ، واللفظ للأول: (وتحقيق الكلام في هذا المقام: أن الاستغاثة بمخلوق، وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه- لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا ... ؛ وأما إذا كان المطلوب منه ميتا أو غائبا- فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف ... ؛ ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم- وهم أحرص الخلق على كل خير-: أنه طلب من ميت شيئا ... ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1134 المطلب الثاني في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه إشراك بالله عز وجل لقد سبق نصوص علماء الحنفية وأئمتهم القدامى على أن الاستغاثة بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله - أمر محرم في شرع الله، وينافي دين الله عز وجل، ويناقض توحيده جل وعلا. وأذكر في هذا المطلب عدة نصوص لعلماء الحنفية- على أن الاستغاثة بغير الله- ليست محرمة في دين الله فحسب، بل هي شرك، من أقبح أنواع الشرك بالله. وإليكم بعض تلك النصوص على سبيل المثال* لتكون فيها عبرة ونكال للقبورية الضّلال، أهل الإضلال*: 1 -4- سبق في كلام الإمام الطحاوي، وهو في الحقيقة كلام للأئمة الثلاثة للحنفية على الإطلاق: أبي حنيفة، وصاحبيه أبي يوسف، ومحمد - رحمهم الله تعالى- قولهم: (ومن استغنى عن الله طرفة عين * فقد كفر، وصار من أهل الحين*) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1135 قلت: هذا النص ينطبق تماما على القبورية الذين يزعمون أن الاستغاثة بالله تعالى تضر المكروب المضطر، وتؤخر قضاء حاجته؛ لأن الله تعالى لا يهمه أمر المضطر المكروب الملهوف، بخلاف الولي، فإنه أسرع إجابة من الله تعالى، وإنه يهتم بأمر المضطرين أكثر من الله تعالى. فهؤلاء الوثنية هم في الحقيقة مستغنون عن الله تعالى، المستكبرون عن دعائه وحده، المعرضون عن الاستغاثة به عند الكربات* الراغبون في الاستغاثة بالأموات* المرجحون للاستغاثة بالأموات* على الاستغاثة برب البريات* فهؤلاء قد ارتكبوا كفرا بواحا* وأمرا إمْرًا نُكرا إدّا، وشركا صراحا* 5 -7- وقال الإمام الفتني الملقب عند الكوثري، والكوثرية، بملك المحدثين وهو أحد الأئمة الحنفية الكبار (986هـ) - في صدد الرد على القبورية، وتبعه بعض علماء الحنفية، واللفظ للأول: (فإن منهم من قصد بزيارة قبور الأنبياء والصلحاء: أن يصلي عند قبورهم، ويدعو عندها، ويسألهم الحوائج، وهذا لا يجوز [لأن ذلك من العبادة] فإن العبادة، وطلب الحوائج، والاستعانة، حق لله وحده) . قلت: هذا النص المهم لهذا الإمام العظيم المبجل عند الحنفية، والملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1136 للمحدثين عند الكوثري، أحد أئمة القبورية، والجهمية الماتريدية، ولا سيما الكوثرية (1371هـ) - دالّ على أن الاستغاثة بغير الله شرك بالله، إذ هي من قبيل العبادة لغير الله تعالى. 8 -11- وقال الإمامان: البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) ، وتبعه آخران من الحنفية، واللفظ للأول: (إن فتنة الشرك بالصلاة فيها [أي عند القبور] ، ومشابهة عبادة الأوائل- أعظم بكثير من مضرة الصلاة بعد العصر، والفجر ... ؛ فكيف بهذه الذريعة التي كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك بدعاء الموتى وطلب الحوائج منهم) . قلت: هذا النص صريح في أن الاستغاثة بالموتى وطلب الحوائج منهم ودعائهم، شرك بالله عز وجل، فدل على أن القبورية مرتكبون للشرك الأكبر، بالله جل وعلا. 12 - وقال الإمام البركوي (981هـ) رحمه الله - أيضا- مبينا مخازي القبورية وفضائحهم وقلبهم دين التوحيد إلى دين الشرك: (فقلب هؤلاء الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصودَ بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءَه، وسؤاله الحوائجَ، واستنزال البركات منه، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى أنفسهم، وإلى الميت) . قلت: هذا النص لهذا الإمام صريح في أن الاستغاثة بالأموات عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1137 الملمات، إشراك بخالق الكائنات، وأن القبورية بزيارتهم الوثنية- للشرك مرتكبون * وإلى أنفسهم، وإلى الميت مسيئون* 13-17- وقال الإمامان: البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) ، وتبعهما الشيخان: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، والعلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) ، في بيان المفاسد الشركية بسبب جعل القبور أعيادا: واللفظ للأول: (إن غلاة متخذيها عيدا إذا رأوها من موضع بعيد ينزلون* من الدواب ويضعون الجباه على الأرض ويقيلون* ويكشفون الرؤوس وينادون من مكان بعيد* ويستغيثون بمن لا يبدي ولا يعيد* ويرفعون الأصوات بالضجيج* ويرون أنهم قد زادوا في الربح على الحجيج* حتى إذا وصلوا إليها يصلون عندها ركعتين* ويرون أنهم قد أحرزوا من الأجر أجر من صلى إلى القبلتين* فتراهم حول القبور سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا* وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسرانا* فلغير الله تعالى، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات* ويرتفع من الأصوات* ويطلب من الميت الحاجات* ويسأل من تفريج الكربات* وإغناء ذوي الفاقات * ومعافاة أولي العاهات والبليات*) . قلت: هذا النص الفصيح البليغ الذي يثير عواطف أهل التوحيد، ويشن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1138 الغارة على أهل الشرك- يدل دلالة قطعية على أن حج القبورية إلى القبور* ودعاء من في القبور* والاستغاثة بهم- من أعظم أنواع الشرك بالله جل وعلا؛ لأن كل ذلك من أعظم أنواع العبادة لله عز وجل، فصرفها لغير الله من أعظم أنواع الإشراك بالله عز وجل. فهذا النص من قبيل القضايا التي قياساتها معها كما قيل: وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد 18 -22- وقال البركوي رحمه الله تعالى، والإمام أحمد الرومي، والشيخ سبحان بخش الهندي، والشيخ السورتي، والعلامة الخجندي، كاشفين الأستار عن أسرار القبورية واستغاثتهم الشركية، ومقارنين للقبورية بالوثنية، واللفظ للأول: (وأمّا الزيارة البدعية: فزيارة القبور لأجل الصلاة عندها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود عليها، وأخذ ترابها، ودعاء أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النصر، والرزق والعافية، والولد، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان، وغير ذلك من الحاجات التي كان عبّاد الأوثان يسألونها من أوثانهم- فليس شيئا من ذلك مشروعا باتفاق أئمة الدين؛ إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة، والتابعين، وسائر أئمة الدين، بل أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذة عن عباد الأصنام) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1139 23 - ثم طوّل البركوي رحمه الله النّفَسَ في تحقيق مقارنة القبورية بالوثنية الأولى. قلت: هذا النص يدل دلالة قاطعة على أن الاستغاثة بالأموات* من أعظم أنواع الإشرك برب البريات* وأنها من دين الوثنية الأولى * وجاهلية من الجاهلية الجهلاء الحمقاء*. 24 -25- قول ابن الرومي في شرح المختار في بيان أن استغاثة القبورية شرك، على ما قاله العلامة الخجندي: (وقال ابن الرومي في شرح المختار: " قد قرّر الشيطان في عقول الجهال: أن الإقسام على الله بالولي، والدعاء به، أبلغ في تعظيمه، وأنجح لقضاء حوائجه، فأوقعهم بذلك في الشرك "..) . 26 -30- قول جمع من كبار علماء الحنفية: أولهم الإمام صنع الله الحلبي (1120هـ) ، وتبعه آخرون- محققين أن الاستغاثة بالأموات* عند الكربات* إشراك برب الكائنات* وأن القبورية في ذلك على طريقة الوثنية الأولى- في كلام طويل مهم قد سبق فلا حاجة إلى إعادته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1140 31 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي الملقب عند الحنفية " بحجة الله على العالمين " (1176هـ) . في بيان شركيات القبوريين، وأن استغاثتهم بغير الله تعالى شرك به سبحانه وتعالى: (وأمّا الإشراك بالله استعانة- فحده: أن يطلب حاجة عالما بأن فيه قدرة إنجاحها من صرف الإرادة النافذة: كالشفاء من المرض، والإحياء، والإماتة، والرزق، وخلق الولد، وغيرها مما يتضمنه أسماء الله تعالى، والإشراك بالله تعالى دعاء: فحده: أن يذكر غير الله تعالى، عالما بأنّ فعله ذلك نافع في معاده، أو قربه إلى الله تعالى، كما يذكرون شيوخهم إذا أصبحوا) . 32 - وقال رحمه الله محققا أن القبورية باستغاثتهم بالأموات* مثل الوثنية الأولى عبدة العزى واللات*: (كل من ذهب إلى بلدة أجمير، أو إلى قبر سالار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1141 مسعود، أو ما ضاهاها: لأجل حاجة يطلبها، فإنه آثم إثما أكبر من القتل والزنى، ليس مثله إلا مثل من كان يعيد المصنوعات، أو مثل من كان يدعو اللات والعزى) . قلت: هذا النص، لهذا الإمام، يقطع دابر القبورية المستغيثين بالأموات* فقد حكم عليهم هذا الإمام الهمام، بأنهم في استغاثاتهم وثنية كعباد اللات والمصنوعات* 33 - وقال رحمه الله في الرد على القبورية المستغيثين بالأموات* معرضين عن الاستغاثة برب البريات*، مبينا أن استغاثتهم بغير الله إشراك بخالق البريات*: (يا أيها الناس ما لكم أشركتم بالله ما لم ينزل به سلطانا، اتخذ أهل كل بلد من أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [يستغيثون بهم، معرضين عن الله] ، أتعلمون أن الله بعيد عنكم [حتى أعرضتم عنه] ؟!؟، وأنّ هؤلاء [الأموات أو الأحياء الغائبين] أقربُ إليكم منه؟؟؟ [حتى اخترتموهم للاستغاثة بهم عند الملمات!!!] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1142 كلا، إن الحق العلي الكبير، مع كونه منزها غاية التنزيه، تدلى إلى خلقه، فما من أحد يقول: يا ربي يا ربي، إلا وهو يقول بإزائه: يا عبدي) . 34 - وقال رحمه الله في الرد على القبورية مبينا أن طلب الحوائج من الأموات كفر يناقض الإسلام، وكلمة التوحيد: (واعلم أن طلب الحوائج من الموتى، عالما بأنه سبب لإنجاحها- كفر يجب الاحتراز عنه، تُحرِّمه هذه الكلمةُ [كلمة التوحيد] ، والناس [القبورية] اليوم فيها منهمكون) . 35 -36- ونقله آخرون من الحنفية مستدلين به رادين به على القبورية، حاكمين على أن الاستغاثة بغير الله كفر وشرك. 37 -42- وقال رحمه الله مبينا عقائد المشركين الأولين وأنواع إشراكهم بالله تعالى، ذاكرا منها الاستغاثة بغير الله، محققا أنها شرك بالله، وتبعه في هذا التحقيق عدة من كبار علماء الحنفية، واللفظ له: (ومنها [أي من أنواع شرك المشركين الأولين] : أنهم كانوا يستعينون بغير الله في حوائجهم من: شفاء المريض، وغناء الفقير، وينذرون لهم، يتوقعون إنجاح مقاصدهم بتلك النذور، ويتلون أسماءهم رجاء بركتها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1143 فأنزل الله تعالى عليهم أن يقولوا في صلاتهم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، وقال تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] ، وليس المراد من " الدعاء ": " العبادة". كما قاله بعض المفسرين، بل هو الاستعانة كقوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41] ..) . 43 -45- وقال رحمه الله، وتبعه بعض الحنفية، مبينا أن أوراد القبورية التي فيها استغاثتهم بالأموات- هي أوراد شركية: (الأوراد الشركية من علامات القبورية، أنهم يعتقدون في مشائخهم،أنهم يعلمون أسرارهم، وينادونهم عند الكربات، فيقول بعضهم: يا بهاء الدين مفرج الكربات، وبعضهم يستغيثون لبسط الرزق: يا نظام الدين أولياء واهب الرزق، وبعضهم يقولون- قياما وقعودا- عند الكربات: يا شيخ عبد القادر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1144 الجيلاني شيئا لله) . 46 -49- وقال القاضي ثناء الله الباني بتي الملقب عند الحنفية ببيهقي الوقت (1225هـ) وتبعه كثير من علماء الحنفية، منهم الشيخ الجنجوهي (1323هـ) ، مبينا أن استغاثات القبورية بالأموات شرك بالله تعالى وكفر به: (لا يجوز عبادة غير الله، ولا استعانة من غيره تعالى، لأن ذلك من حق الله تعالى وحده، كما قال سبحانه بصيغة الحصر: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فلا يجوز النداء للأولياء، لأنه من العبادة [العبادة لغير الله شرك] ، كما لا يجوز الانحناء إلى القبور، ولا الطواف بها، لأن الطواف لا يكون إلا بالكعبة، ولأن الطواف كالصلاة، فلا تجوز لغير الله، ولا يجوز أيضا دعاء الأنبياء والأولياء في الكربات* سواء كانوا من الأحياء أو من الأموات * لأن الدعاء من العبادة بصريح الكتاب والسنة، ولكن بعض الجهال يقولون عند الكربات: " يا شيخ عبد القادر الجيلاني شيئا لله "، ويقول بعضهم: " يا خواجة شمس الدين الباني بتي شيئا لله "، فهذا لا يجوز، بل هو شرك، وكفر؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1145 [الأعراف: 194] ، فالذين يدعونهم القبورية- هم عباد مثلهم، لا قدرة لهم على النفع والضر وإنجاح الحوائج. فإن قال قائل من هؤلاء القبورية: إن هذه الآية نزلت في حق الكفار، وهم كانوا يدعون الأصنام، أما نحن فلا ندعوا الأصنام. بل ندعوا أولياء الله تعالى. فالجواب: أن لفظ من دون الله بمعنى " غير الله "- لفظ عام، فالعبرة لعموم اللفظ، لا لخصوص النزول، فيدخل فيه: الأنبياء، والأولياء، وكل ما سوى الله تعالى، فلا يجوز نداء غير الله عند الكربات. سواء كان من الأصنام، أو الأحياء، أو الأموات*) . 50 - ولقد عد الإمام الشاه عبد القادر، أحد كبار علماء الحنفية الملقب عندهم بالإمام الكبير (1230هـ) - عدةَ أنواع للشرك ذكر منها الاستغاثة بغير الله. 51 -53- وقال الإمام الشاه عبد العزيز الملقب عند الحنفية بسراج الهند (1239هـ) وتبعه آخرون من الحنفية مبينين أن الاستغاثة بغير الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1146 شرك من أفعال المشركين: (إن بعض المشركين [القبورية] يدعون غير الله لدفع البليات) . 54 -55- وقال الإمام المجاهد الشاه إسماعيل الدهلوي (1246هـ) حفيد الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، وتبعه الشيخ أبو الحسن الندوي، مبيِّنين أن الشرك بالاستغاثة بأهل القبور قد عم وطمّ، واللفظ للثاني: (استفحال فتنة الشرك والجهالة في الناس: اعلم أن الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر، وأصبح التوحيد غريبا ... ؛ مظاهر الشرك: ومن المشاهد اليوم أن كثيرا من الناس يستغيثون بالمشايخ، والأنبياء، والأئمة، والشهداء، والملائكة، والجنيات، عند الشدائد، فينادونها بأسمائها، ويصرخون بأسمائها، ويسألون عنها قضاء الحاجات وتحقيق المطالب ... ) . 56 -75- وقالا- واللفظ للثاني أيضا- في المقارنة بين القبورية وبين الوثنية الأولى: (حقيقة شرك أهل الجاهلية وضلالهم ... ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1147 فما كان كفرهم وشركهم إلا نداءهم لآلهتهم، والنذور التي كانوا ينذرونها ... ؛ واتخاذهم لهم شفعاء ووكلاء، فمن عامل أحدا بما عامل به الكفار آلهتهم- وإن كان يقر بأنه عبد ومخلوق- كان هو، وأبو جهل في الشرك بمنزلة سواء) . 58 - وللإمام الشاه محمد إسحاق الدهلوي (1262هـ) تحقيق مهم في أن الاستغاثة بالأموات* من أعظم أنواع الإشراك بخالق الكائنات* 59 -60- وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) ، وتبعه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، محققا تحريم استغاثة هؤلاء المفرطين* وأنه من الذنوب العظائم، ومن أفعال الملعونين المشركين* المعرضين عن الاستغاثة برب العالمين* المستغيثين بالأموات المحتاجين العاجزين الغافلين عن إغاثة هؤلاء المستغيثين *: (والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله، فأقسموا عليه عزّ شأنه بمن ليس في العير ولا في النفير* وليس عنده من الجاه قدر قطمير* وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور* نحو إشفاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1148 المريض وإغناء الفقير* ورد الضالة وتيسير كل عسير * وتوحي إليهم شياطينهم خبر: " إذا أعيتكم الأمور ..... إلخ ". وهو حديث مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم: عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن على ذلك، فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة من أصحابها؟!؟ سبحانك! هذا بهتان عظيم!!!!) . 61 -66- وقال الإمام محمود الآلوسي، مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) - أيضا- وتبعه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) ، وآخرون من الحنفية: مبينين أن القبورية بارتكاب شركهم بالاستغاثة بالأموات على طريقة الوثنية الأولى: (وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} ... إلخ [الحج: 73]- إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى؛ حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى ... ؛ ولا يخفى أنهم .... - أشبه بعبدة الأوثان القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ... ؛ وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة* وكلام سلف الأمة* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1149 وقد أفسد هؤلاء [القبورية] على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى، وكذا لأهل الملل والنِحل والدهرية، نسأل الله تعالى العفو والعافية) . 67 -69- وقال العلامتان نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وابن أخيه شكري الآلوسي (1342هـ) عن شيخ الإسلام (728هـ) ، في تحقيق أن الاستغاثة بالأموات* من أعظم الإشراك برب البريات * وأنها من أعظم أسباب دمار البلاد* وأعظم موجبات غضب الله القهار على العباد* المستغيثين بالأموات* عند إلمام الملمات * [والكلام في الأصل لشيخ الإسلام (728هـ) ] : (ونحن نعلم بالضرورة أن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام- لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات: لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، كما أنه [عليه السلام] لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك، وأن ذلك من الشرك الذي حرّمه الله تعالى ورسوله [صلى الله عليه وسلم] ، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين- لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول [صلى الله عليه وسلم] مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1150 بها، وقال: " هذا أصل دين الإسلام "، وكان بعض أكابر الشيوخ من أصحابنا يقول: " هذا أعظم ما بينته لنا "، لعلمه بأن هذا أصل دين الإسلام، وكان هذا وأمثاله يدعون الأموات، ويسألونهم، ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه أعظم؛ لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعون دعاء المضطر راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم لله تعالى؛ فإنهم يفعلونها في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام [التتار] لما قدم دِمَشق الشام: خرجوا [أي القبورية] يستغيثون بالموتى عند القبور، يرجون عندها كشف الضر، وقال بعض الشعراء [القبورية] " كامل ": يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر أو قال: عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكم من الضرر فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم، لو كانوا معكم [أحياء] في القتال، لانهزموا [ولانهزمتم معهم أيضا، لأنكم تشركون بالله بالاستغاثة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1151 بهم] ، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين، والمكاشفة [أي العارفون للواقع] ، لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله تعالى به، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولما يحصل بذلك من الشر، والفساد، وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا، ولا ثواب الآخرة لمن عرف هذا ... ؛ [لأن هذا القتال كان تحت قيادة القبورية وإمرتهم وتحت رايتهم] ، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين [أي التوحيد] لله تعالى، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا به، لا يستغيثون بملك مقرب، ولا نبي مرسل، فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم عز وجل- نصرهم على عدوهم نصرا عزيزا لم يتقدم نظيره، ولا انهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك!!!، لما صح من توحيد الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم- ما لم يكن قبل ذلك؛ فإن الله ينصر رسله {وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} . انتهى باقتصار) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1152 قلت: ما أشبه الليلة بالبارحة!!! وما أشبه كارثة أفغانستان بكارثة الشام!!! فإن الله تعالى لم يسلط عليها الدمار والشنار!! إلا لأسباب أعظمها الإشراك بالله، وعبادة القبور وأهلها، ولما كان قتالهم مشوبا بالشرك وعبادة القبور، وقتل أهل التوحيد والسنة- حصل ما حصل بعد قتال طويل، ودمار مستطير، وسيل دماء جرار، فهل من مدكر!؟! وإن كنا لا نعني بذلك الطعن في الجهاد* فكل يبعث على نيته يوم المعاد* 70 - وقال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) رحمه الله، في الرد على القبورية والتحذير من الاستغاثة بالأموات* وتحقيق أنه إشراك بخالق البريات*: (ومما يفتى به في هذا المقام* ما أنشد فيه لنفسه مفتي مصرنا مدينة السلام* وهو قوله " بسيط ": لا تدع في حاجة بازا ولا أسدا ... الله ربك لا تشرك به أحدا وهو كلام يترشح منه التوحيد * ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد*) . 71 -72- وقال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1153 والخجندي (1379هـ) في بيان أن استغاثة القبورية شرك من قبيل عبادة الأصنام: (إن الدعاء لغيره تعالى سواء كان المدعو حيا [غائبا] أو ميتا، وسواء كان من الأنبياء عليهم السلام، أو غيرهم: بأن يقال: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا مستجير بك، أو نحو ذلك؛ فهذا شرك بالله تعالى، وهو مثل عبادة الأصنام في القرون الماضية ..... ) . 73 -74- وقال الأديب الناثر* والشاعر المجيد الماهر* إلطاف حسين الحالي (1333هـ) ، وتبعه الأستاذ أبو الأعلى المودودي (1979م) ، في بيان أن القبورية باستغاثتهم بالأموات* مرتكبون للشرك الأكبر بخالق الكائنات: (هل يعقل؟.؟ أن من عبد الصنم يكون كافرا* وأن من اتخذ لله ولدا يكون كافرا* وأن من سجد للنار يكون كافرا* وأن من رأى التصرف في الكواكب يكون كافرا*!!! ولكن القبورية الذين ينتمون إلى الإسلام قد فتحت لهم الطرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1154 كلها، وهم أحرار في أن يعبدوا من شاءوا من دون الله، وهم مع ذلك لا يكفرون؟.؟ وفي أن يرفعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزلة الله تعالى، وهم مع ذلك لا يكفرون؟.؟ وفي أن يرفعوا الأئمة فوق منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم، ومع ذلك لا يكفرون؟.؟ وفي أن ينذروا للقبور نذورا، وهم مع ذلك لا يكفرون؟.؟ وفي أن يستغيثوا بالشهداء، ويطلبوا منهم الحاجات، وهم مع ذلك لا يكفرون؟.؟ سبحان الله!!! لا يكفرون؟.؟ ، ولا يقع الخلل في توحيدهم؟.؟ ولا يختل إسلامهم؟.؟، ولا يذهب إيمانهم؟.؟) . 75 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ، كاشفا حال ابن جرجيس العراقي الحنفي الوثني (1299هـ) ، مبينا أن الاستغاثة بالأموات* إشراك برب الكائنات * حاكما على القبورية * بأنهم على طريقة الوثنية*: (وحقيقة حال هذا العراقي مصادمة ما في القرآن من النهي عن دعوة غير الله [فوق الأسباب] ، والقرآن ينهى عن دعوة كل ما سوى الله [فيما لا يقدر عليه إلا الله] ، وهذا [العراقي] يقول: يجوز أو يستحب أن يدعى، أو يستغاث مع الله غيره، وليس عنده إلا تشكيك، وتخميش، وتغير على التوحيد * ونصرة الشرك والتنديد* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1155 ولا يخفى أن جل شرك المشركين في حق من عبدوه مع الله تعالى - إنما هو بدعائه وسؤاله قضاء حاجاتهم * وتفريج كرباتهم *) . 76 - وقال رحمه الله في كلام شواظ من النار* أرسله على القبورية الأغمار* مبينا أن استغاثتهم بالأموات* إشراك برب البريات كاشفا الأستار عن بعض الأسرار* لبعض أئمة القبورية المضلين الأشرار* حاكما عليهم بأنهم فسقة زنادقة فجار* فأنى لهم أن يكونوا من أولياء الله الأخيار الأبرار*: (وليس كل من ادعى أنه صوفي يسلم له الزهد والورع، ولا سيما صوفية هذا العصر، فإنهم ذئاب* عليهم من جلود الشياه ثياب *!!!! كما نسمع عن شيخ مبتدعة الرفاعية في دار السلطنة - فإنه فاق على إبليس في مكره، وحيله، وخبثه، وزندقته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1156 كما نسمع عن شيخ القادرية في بغداد ممن ينتمي إلى الكيلاني ويرشدون الناس، وعندهم خاتم كبير يختمون به ما يعطون لمن يسلك عليهم مكتوب فيه: " * لا إله إلا الله* عبد القادر شيئا لله* "، وقد كفروا بذلك، كما ذكر فقهاء السادة الحنفية، ففي منظومة ابن وهبان: " * (بدر ويش در ويشان) كفر بعضهم * كذا قول شيء لله بعض يكفر* " والنقيب أولاده وسائر أفراد عائلتهم- هم أعظم الناس بلاء على الأمة، ليست معصية في الدنيا إلا وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1157 استباحوها، وكبيرهم النقيب * بل الذيب* - هو بريد الشر على العراق وهم أرفاض زنادقة، يسبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علنا، ويشربون الخمور، ويتعاطون كل منكر، وعسى الله يعين على إفراد كتاب ينبسط فيه أحوال هؤلاء الزنادقة تحذيرا للمسلمين منهم هؤلاء شيوخ صوفية عصرنا، والأمر لله، وابن حجر [الهيتمي القبوري] إن عظم أمثال هؤلاء الفجرة- فهو لا شك من أعداء الله) . 77 - وله رحمه الله كلام آخر من هذا القبيل في بيان فضائح القبورية، ولا سيما الصوفية منهم، وتحقيق أن استغاثتهم بالأموات* من أعظم الإشراك والوثنيات* 78 - وقال رحمه الله أيضا- بعد تحقيق مهم في وجوب سد ذرائع الشرك، وحماية حمى التوحيد بذكر عدة أمثلة- مبينا أن الاستغاثة بالأموات عند الكربات* من أعظم الإشراك بخالق الكائنات*: ( ... ، فمن المستحيل شرعا، وفطرة، وعقلا: أن تأتي هذه الشريعةُ المطهرةُ الكاملةُ، وغيرُها- بإباحة دعاء الموتى والغائبين [عند الكربات*] والاستغاثة بهم من الملمات والمهمات* كقول النصراني: " يا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله ". أو: " يا عيسى، أعطني كذا "، أو: " افعل بي كذا "، وكذلك قول القائل [القبوري] : " يا علي، أو ياحسين، أو يا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1158 عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو يا بدوي، أو يا فلان، ونحو ذلك من الألفاظ الشركية التي تتضمن العدل بالله، والتسوية به تعالى وتقدس؛ فهذا لا تأتي شريعة، ولا رسالة بإباحته قط، بل هو من شعب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار* ومقت العزيز الغفار* وقد نص على ذلك مشايخ الإسلام* حتى ذكره ابن حجر في الأعلام * مقررا له) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1159 79 - قال الشيخ الجوهر - وهو من كبار مشاهير علماء الحنفية المعاصرة- عن شيخ الإسلام (728هـ) ، في تحقيق أن الاستغاثة بالغائبين والأموات* من أعظم أنواع الشرك برب البريات*: (فهذه أنواع من خطاب الملائكة، والأنبياء، والصالحين بعد موتهم عند قبورهم، وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم- هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين من غير أهل الكتاب، وفي مبتدعة أهل الكتاب، والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات، ما لم يأذن به الله تعالى: [قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] ، فإن دعاء الملائكة، والأنبياء بعد موتهم، وفي مغيبهم، وسؤالهم، والاستغاثة بهم، والاستشفاع بهم في هذه الحال، ونصب تماثيلهم، بمعنى طلب الشفاعة منهم- هو من الدين الذي لم يشرعه الله، ولا ابتعث به رسولا، ولا أنزل به كتابا] ، وليس هو واجبا، ولا مستحبا باتفاق المسلمين* ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين* لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين* [وإن كان ذلك مما يفعله كثير من الناس ممن له عبادة وزهد، ويذكرون حكايات ومنامات] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1160 فهذا كله من الشيطان، [وفيهم من ينظم القصائد في دعاء الميت، والاستشفاع به، والاستغاثة به، أو يذكر ذلك في ضمن مديح الأنبياء والصالحين* فهذا كله ليس بمشروع، ولا واجب، ولا مستحب باتفاق أئمة المسلمين* ومن تعبد بعبادة ليست واجبة، ولا مستحبة، وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة، لا بدعة حسنة، باتفاق أئمة الدين] . قلت: هذا النص لا يحتاج إلى تعليق، فهو واضح، ونص على أن الاستغاثة بالغائبين والأموات * من أعظم أنواع الشرك بخالق الكائنات* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1161 والآن ننتقل إلى المطلب الثالث لنعرف على لسان علماء الحنفية أن هذه الاستغاثة ليست شركا بالله فحسب، بل هي أم لعدة أنواع من الشرك بالله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1162 المطلب الثالث في نصوص علماء الحنفية على أن الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أم لعدة أنواع من الشرك بالله لقد صرح علماء الحنفية أن الاستغاثة بغير الله تعالى، فيما لا يقدر عليه إلا الله ليست بإشراك بالله سبحانه فحسب، بل هي أمّ لعدة أنواع من الإشراك بالله تعالى، وإليكم تحقيق ذلك على لسان علماء الحنفية وشهادتهم: 1 - قال جمع من علماء الحنفية: إن الاستغاثة بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه - متضمنة لثلاثة أنواع من الشرك الصريح-: الأول: اعتقاد المستغيث أن المستغاث يعلم الغيب، وإلا لما دعاه البتة. الثاني: اعتقاد المستغيث أن المستغاث يسمع صوته ونداءه، وإلا لما هتف باسمه. الثالث: اعتقاد المستغيث أن المستغاث يقدر على قضاء حاجته، من دفع المضرات، وجلب الخيرات* وإلاّ لما ناداه عند الكربات وإلمام الملمات* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1163 وقد سبق في البابين (الخامس، والسادس) أن هذه العقائد كلها شركية وثنية. 11 -12- قال الإمام محمود الآلوسي - مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) ، وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) ، والعلامة الأديب الرباطي، واللفظ للأول: (إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم: مثل: يا سيدي فلان، أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وقد عده أناس من العلماء شركا، وإن لا يكنه [على سبيل فرض المحال]- فهو قريب منه، و [الحق أنه أمّ أنواع الإشراك، لأنني لا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد [عقائدَ ثلاثا:] [الأولى] : أن المدعو الحي الغائب، أو الميت المغيب يعلم الغيب، و [الثانية أنه] يسمع النداء. و [الثالثة أنه] يقدر بالذات، أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى. وإلا لما دعاه * ولا فتح فاه* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1164 {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} . فالحزم التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من الله تعالى، القوي الغني، الفعال لما يريد) . 13 -14- وقال شارح مختصر القدري على ما قاله العلامة الخجندي (1379هـ) في بيان أن استغاثة القبورية ليست من الشرك فحسب، بل أمّ الشركيات، ومتضمنة لعدة أنواع من الشرك: (وها أنا أذكر لك نصوص المذهب الحنفي عن الكتب المعتبرة، والفتاوى المشهورة: ففي شرح القدوري: " أن من يدعو غائبا أو ميتا عند غير القبور، وقال: يا سيدي فلان ادع الله تعالى في حاجتي فلانة، زاعما أنه يعلم الغيب ويسمع كلامه في كل زمان ومكان* ويشفع له في كل حين وآن* فهذا شرك صريح، فإن علم الغيب من الصفات المختصة بالله تعالى. وكذا إذا قال عند قبر نبي، أو صالح: يا سيدي فلان، اشف مريضي أو اكشف عني كربتي، وغير ذلك- فهو شرك جلي، إذ نداءُ غير الله تعالى طالبا بذلك دفع شر، أو طلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1165 نفع فيما لا يقدر عليه الغير دعاءٌ، والدعاء عبادة، وعبادة غير الله شرك، وهذا أعم من أن يعتقد فيهم: أنهم مؤثرون بالذات، أو أعطاهم الله تعالى التصرفات في تلك الأمور، أو أنهم أبواب الحاجة إلى الله تعالى، وشفعاؤه، ووسائله، وفيه اعتقاد علم الغيب لذلك المدعو، وهو شرك، نسأل الله الحفظ والعصمة عن الشرك والكفر والضلال) . 15 -16- وقال الإمام المجاهد إسماعيل بن عبد الغني بن ولي الله الدهلوي (1246هـ) ، والشيخ أبو الحسن الندوي، واللفظ للثاني- مُحَقّقين: أن الاستغاثة بالأموات متضمنة لأنواعٍ أخرى من الشرك: (نداء الأموات من بعيد، أو من قريب، للدعاء - إشراك في العلم. وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] ، وقد دلت هذه الآية على أن المشركين قد أمعنوا في السفاهة، فقد عدلوا عن القادر العليم [السميع] إلى أناس - لا يسمعون دعاءهم، وإن سمعوا ما استجابوا، وهم لا يقدرون على شيء ... ؛ وقد يكتفي بعض الناس فيقولون: " يا سيدنا: ادع الله لنا، يقضي حاجاتنا " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1166 ويظنون أنهم ما أشركوا، فإنهم ما طلبوا منهم قضاء الحاجة، [أي أنهم لم يقولوا: اقض حاجتنا] ، وإنما طلبوا منهم الدعاء [أي الشفاعة] وهذا باطل؛ فإنهم وإن لم يشركوا عن طلب قضاء الحاجة- فإنهم أشركوا عن طريق النداء، فقد ظنوا: أنهم يسمعون نداءهم ... ؛ مع أن الله سبحانه وتعالى قال: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} ... ) . قلت: هذا النص مشتمل على أن الاستغاثة بالأموات- متضمنة للشرك في العلم، وللشرك في السماع، وللشرك في التصرف. 16 - وللإمام الشاه محمد إسحاق الدهلوي (1262هـ) تحقيق حقيق بالقبول في الرد على القبورية، حاصله: أن الاستغاثة بالأموات * متضمنة لعدة أنواع من الإشراك برب البريات* كالشرك في العلم، والشرك في التصرف، والشرك في السماع. أقول: بعدما عرفنا: أن الاستغاثة بالغائبين والأموات* شرك بل أمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1167 لعدة أنواع من الإشراك برب البريات* ننتقل إلى الفصل الآتي؛ لنطلع على تحقيق الحنفية: أن القبورية- أعظم شركا من الوثنية الأولى، وأعظم عبادة للأموات* منهم لخالق الكائنات* في باب الاستغاثات* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1168 الفصل الثالث في جهود علماء الحنفية في تحقيقهم أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى، وأنهم أشد خوفا وأكثر خضوعا وأعظم عبادة للأموات منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات وفيه مبحثان: - المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى. - المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد خوفا وأكثر خضوعا وأعظم عبادة للأموات منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1169 المبحث الأول في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى لقد تبين في المباحث السابقة على لسان علماء الحنفية: أن الاستعانة بالأموات محرمة في شرع الله، بل إشراك بالله، بل أُمّ لعدة أنواعٍ من الشرك بالله. وفي هذا المبحث أذكر نصوص علماء الحنفية على أن القبورية باستغاثتهم بالأموات أشد شركا من الوثنية الأولى، حيث يدعون غير الله عند إلمام الملمات* ويتركون رب البريات* كما سأذكر في المبحث الذي يليه نصوص علماء الحنفية على أن القبورية أشد خوفا، وأكثر خضوعا، وأعظم عبادة للأموات* منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات* وبهذه المباحث يتحقق لكل منصف، طالب للحق، ذي عينين: أن القبورية باستغاثتهم بالأموات، لم يرتكبوا إشراكا بالله تعالى فحسب، بل ارتكبوا أمّا لعدة أنواعٍ للشرك. وأن القبورية قد وصلوا في إلحادهم وإشراكهم بالله، ووثنيتهم، وعبادتهم للقبور وأصحابها- إلى حد صار شركهم أشد من الوثنية الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1171 وأنهم وصلوا في الاستخفاف برب الكائنات* واستغاثتهم بالأموات عند الكربات* إلى حد قالوا: إن الاستغاثة بالله تضر بالمكروب، وتؤخر قضاء الحاجات* وإن الولي أسرع إجابة من الله حينما يدعوه المكروب لدفع الكربات* بل يتبين أن القبورية قد وصلوا في التهوين بشأن الله تعالى وعبادته وخوفه والتضرع إليه إلى حد صاروا أشد خوفا، وأكثر خضوعا، وأعظم عبادة للأموات* منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات* وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية * لتحقيق هذه المباحث، كشفا عن فضائح هؤلاء القبورية * * فأقول وبالله أستغيث * وبه أستعين* * إذ هو المستغاث المغيث* وهو المستعان المعين *: 1 -5- قال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) - وتبعه العلامتان ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) ، والشيخان: الأديب الأريب الرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول، والرستمي الملقب بشيخ القرآن والحديث- في تفسير قوله تعالى: .... {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ... [يونس: 22] ، واللفظ للأول: (.. الآية دالة على أن المشركين [السابقين كانوا] لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال [من الشدة] ، وأنت خبير بأن الناس [القبورية] اليوم- إذا اعتراهم أمر خطير* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1172 وخطب جسيم* في بر أو بحر- دعوا من لا يضر ولا ينفع* ولا يرى ولا يسمع * فمنهم من يدعو الخضر وإلياس* ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس* ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة* ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة* ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه* بتضرعه ودعاه* ولا يكاد يمر له ببال* أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال* فبالله تعالى عليك: قل لي: أي الفريقين [القبورية والوثنية] من هذه الحيثية [في الاستغاثة عند الشدائد] أهدى سبيلا*؟؟؟، وأي الداعيين [المشرك المستغيث بالله في الشدة، أو القبوري المستغيث بالميت في الشدة] أقوم قيلا *؟؟؟ وإلى الله المشتكى من [أهل] زمان عصفت فيه ريح الجهالة* وتلاطمت [فيه عليهم] أمواج الضلالة* وخرقت سفينة الشريعة* واتخذت الاستغاثة بغير الله للنجاة ذريعة* وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف* وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف*) . 6 -7- وقال رحمه الله تعالى أيضا مبينا أن ضلال القبورية في باب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1173 الاستغاثة بالأموات أشد من ضلال المشركين الأولين، وأن القبورية عندهم من الاستخفاف بالله تعالى وإجلال الأولياء ما لا يوجد عند الوثنية الأولى، وذلك في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54] ، وتبعه الشيخ غلام الله الملقب بشيخ القرآن (1980م) ، واللفظ للأول: (وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام* [القبورية وأئمتهم الطغام*]- من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم، بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا عند إصابة الضر لهم، وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية - سفه عظيم* وضلال جديد، ولكنه أشد من الضلال القديم* [لأن المشركين الأولين كانوا يدعون الله عند الشدائد، بخلاف القبورية اليوم] ومما تقشعر منه الجلود* وتصعر له الخدود* الكفرة أصحاب الأخدود* فضلا عن المؤمنين باليوم الموعود* أن بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير: إياك، ثم إياك* أن تستغيث بالله تعالى إذا خطب دهاك* فإن الله تعالى لا يعجل في استغاثتك* ولا يهمه سوء حالتك* وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين* [دون الاستغاثة برب العالمين*] ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1174 فإنهم يعجلون في تفريج كربك* ويهمهم سوء ما حل بك* فمجّ ذلك سمعي* وهمي ودمعي * وسألت الله تعالى أن يعصمني والمسلمين* من أمثال هذا الضلال المبين*، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات* مثل ذلك [من الوثنيات*] ... ) . 8 -12- وقال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) أيضا. وتبعه العلامتان: ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) ، والشيخان: الرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول، والرستمي، في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] ، مبينين أن القبورية شاركوا الوثنية الأولى في الإشراك بالله تعالى باستغاثتهم بالأموات* ولكن فاقوهم في الكفر بسبب قولهم: إن الولي أسرع إجابة من رب البريات عند الكربات* وهذه غاية في الاستخفاف بخالق الكائنات* ونهاية في الإجلال والتعظيم للأموات* واللفظ للألوسي الجد: (وقد رأينا كثيرا من الناس * [القبورية الضلال بوساوس الخناس] على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين [حيث سلك هؤلاء القبورية مسلك المشركين الأولين*] يهشون لذكر أموات يستغيثون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1175 بهم، ويطلبون منهم* ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم * ويعظمون من يحكي لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده، ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة، وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يوما لرجل- يستغيث في شدة ببعض الأموات، وينادي: يا فلان! أغثني. فقلت: له: قل: يا الله. فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] . فغضب، وبلغني أنه قال فلان [يعني الآلوسي] منكر على الأولياء [مستخف بهم] ، و [لقد فاق كفرُ بعض القبورية كفر المشركين الأولين من حيث إنني] سمعت عن بعضهم أنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1176 " الولي أسرع إجابة من الله عز وجل ". وهذا من الكفر بمكان* [لم يعرف عن عباد الأوثان*] نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان) . 13 -14- وقال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وابن أخيه شكري الآلوسي (1342هـ) مُبَيِّنين أن كفرَ القبورية شر من كفر الوثنية، واللفظ للأول، والثاني شريكه في المضمون فقط: (وهذا الكفر شر من كفر عباد الأصنام: فإن أولئك لم يكونوا يطلبون من الأوثان كل ما يطلبونه من الرحمن، بل [كانت] لهم مطالب لا يطلبونها إلا من الله، كما قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40-41] ، فبين أنه إذا جاء عذاب الله، أو أتت الساعة- لا يدعون إلا الله، فلا يطلبون كشف الشدائد* وإنزال الفوائد* إلا منه، فمن جوز طلب ذلك من المخلوق- كان أضل من هؤلاء المشركين؛ وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] ) . 15 -16- وقالا رحمهما الله في بيان أن القبورية أشد شركا من المشركين السابقين، واللفظ للثاني: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1177 ( .... سيما إذا استغيث بهم لدفع الشدائد والملمات* ولدفع الكرب والمهمات*: مما لا يقدر على دفعه ورفعه إلا خالق الأرض والسماوات* وقد كان المشركون الأولون إذا وقعوا في شدة- {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ، ومن فعل هذا بحالتي الشدة والرخاء* بل في قسمي المنع والعطاء* - فقد غلا وجاوز حده* واستحق أن يكون سيفُ الرسالة غِمْدَه * ... ) . 17 -18- وقال العلامتان السهسواني (1326هـ) ، والخجندي (1379هـ) في بيان أن القبورية أعظم شركا من الوثنية الأولى، في باب الاستغاثة بالأموات عند الكربات والملمات- واللفظ للأول: (فقد اعتقدوا في الأموات ما اعتقده أهل الأصنام في أصنامهم ... ؛ بل هؤلاء القبوريون قد وصلوا إلى حد في اعتقادهم في الأموات لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم، وهو أن [أهل] الجاهلية كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله وحده، وإنما يدعون أصنامهم مع عدم نزول الشدائد عند الأمور كما حكى الله عنهم بقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1178 [الإسراء: 67] ، وبقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40] ... ؛ وبقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] ، بخلاف المعتقدين في الأموات فإنهم إذا دهمتهم الشدائد- استغاثوا بالأموات ونذروا لهم. وقل من يستغيث بالله سبحانه في تلك الحال، وهذا يعلمه كل من له بحث عن أحوالهم. ولقد أخبرني بعض من ركب البحر أنه اضطرب اضطرابا شديدا، فسمع من أهل السفينة من الملاحين وغالب الراكبين معهم ينادون الأموات ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط، قال: ولقد خشيت في تلك الحال الغرق لما شاهدته من الشرك بالله) . 19- وقال العلامة السهسواني رحمه الله (1326هـ) : (فإذا عرفت هذه فاعرف أن المشركين الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف شركا من عباد مشركي زماننا؛ لأن أولئك كانوا يخلصون لله في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1179 الشدائد، وهؤلاء يدعون مشائخهم في الشدة والرخاء، والله المستعان) . 20 -21- ولقد حقق العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) رحمه الله، والشيخ فضل الله أحد المعاصرين: أن القبورية أشد كفرا، واشنع شركا في باب الاستغاثة بالأموات عند الكربات من الوثنية الأولى - من جهتين: الأولى: أن المشركين السابقين كانوا يخلصون الاستغاثة لله سبحانه عند الكربات بخلاف هؤلاء القبورية فإنهم يدعون الأموات عند أشد الكربات والبليات الملمات. والثانية: أن المشركين السابقين كانوا يدعون الأنبياء والأولياء والملائكة، بخلاف هؤلاء القبورية، فإنهم كثيرا ما يدعون الفسقة والفجرة الأموات. والنص للأول رحمه الله: فاستمع له وأنصت لتعرف حقيقة شرك القبورية: (اعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل عصرنا من وجهين: أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] . وقال تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1180 {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40-41] . وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} ... إلى قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8] . وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] . فمن فهم هذه المسألة التي أوضحها الله تعالى في كتابه: وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدعون الله، ويدعون غيره في الرخاء. وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله تعالى وحده لا شريك له وينسون ساداتهم- تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهما راسخا والله المستعان. والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناسا مقربين عند الله، إما أنبياء، أو أولياء، وإما ملائكة ... ؛ وأهل زماننا يدعون مع الله أناسا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور في الزنى والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك. ومن يعتقد في الصالحين، ومن يعبد ما لا يعصي كالخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1181 22 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) رحمه الله، في بيان أن القبورية وصلوا في الشرك إلى حد أشركوا بالله حتى في الربوبية، فصار إشراكهم عند الاستغاثة بالأموات واعتقادهم التصرف بهم أعظم وأشد من شرك المشركين الأولين: ( ... ، ما يعتقده عباد القبور في معبوداتهم من الصالحين وغيرهم، وأن لهم قدرةً على إجابة المضطر وإغاثة الملهوف وقضاءِ حوائج السائلين- فهذا شرك في الربوبية، لم يبلغه شرك المشركين من أهل الجاهلية، بل هو قول غلاة المشركين الذين يرون لآلهتهم تصرفا وتدبيرا) . 23 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) رحمه الله- أيضا- في بيان إبطال قول البوصيري (694هـ) الصوفي الخرافي، رادا على من حاول تأويله ممن كان على شاكلة البوصيري من القبورية، مبينا ما فيه من شناعة وشرك أعظم، وأن شرك القبورية في باب الاستغاثة بالأموات عند الكربات والملمات أشنع وأبشع وأعظم وأشد من شرك مشركي الجاهلية الأولى: (وأما ما انتقده أهل العلم والدين على كلام البوصيري - فكثير جدا، من ذلك قوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم ... ، إن قول البوصيري هذا أشنع وأبشع ... ؛ لما تضمنه من الحصر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1182 ولما فيه من اللياذ بغير الله في الخطب الجلل، والحادث العمم، وهو قيام الساعة، وقد قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40] ؛ فدعاء غير الله في الأمور العامة الكلية- أبشع من دعاء غيره في الأمور الجزئية، ولذلك أخبر أن عباد الأصنام لا يدعون غيره عند إتيان العذاب أو إتيان الساعة التي هي الحادث العمم. وأما من قال من الغلاة في الاعتذار عنه: إن مقصوده الشفاعة والجاه- فهذا لا يفيده شيئا؛ لأن عامة المشركين إنما يقصدون هذا، ولم يقصد الاستقلال إلا معطلة الصانع، وعامة المشركين إنما قصدوا الجاه والشفاعة، كما حكاه القرآن في غير موضع) . 24 - وقال العلامة شكري الآلوسي رحمه الله (1342هـ) ، مبينا أن القبورية أعظم شركا من أهل الجاهلية الأولى في باب الاستغاثة بالأموات* عند الكربات ونزول البليات وإلمام الملمات*: (ومن ذهب إلى مشاهد أهل البيت وغيرهم من الأولياء في بغداد في موسم الزيارات- تحقق ما ذكرناه، واستقل بالنظر إلى فعل هؤلاء ما كان يفعله المشركون عند آلهتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1183 كاللات والعزى، وقد رأيت والله بعيني رأسي من سجد للأعتاب * معرضا عن رب الأرباب* ولا أقول: إن العوام فقط على هذا المنوال* فكم قد رأينا وسمعنا عمن يدعي العلم- قد فعل هذه الفعال*) . 25 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) رحمه الله ذاكرا أنواعا كثيرة من الشرك الذي وقع فيه أهل الهند وغيرها من أهل البلاد، مبينا أن القبورية قد وصلوا في الشرك إلى حد عجزت الجاهلية عن أقل قليل شرك القبورية، وأن القبورية أشركوا الأحجار، والآبار، والصخور، والأشجار، بالله سبحانه: (ومن ذلك عند الناس شيء كثير من أحجار، وآبار، وصخور، وأشجار، يزعمون منها شفاء الأمراض، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ولو بسطت الكلام في ذلك- مما يستعمله الرجال والنساء، أو يختص بالنساء من أشياء يعلقنها عليهن، ويبين خواصها وتأثيراتها في أزواجهن، ويسمينها بأسماء- لو رجعتِ الجاهلية الأولى لعجزت عن أقل القليل من هذه الجهالات، وسوء الاعتقادات- لاحتمل مجلدات) . 26 - وقال رحمه الله- بعد الاستدلال بقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} ... [النمل: 65] ، مبينا أن القبورية أشد شركا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1184 المشركين الأوائل: (انظر إلى هذا الاستفهام، وحسن موقعه، بعدما تقدم من الاستفهامات التي هي حجج وآيات على ما بعدها، تعرف به فحش ما جاء به عباد القبور من دعائهم آلهتهم، والاستغاثة بهم في الملمات * والشدائد المذهلات* وأن أهل الجاهلية كانوا يخلصون في الشدائد* ويعترفون بأنه المختص بإجابة المضطر وكشف السوء، وهؤلاء [القبورية] يشتدُّ شركهم عند الضر ونزول الشدائد *) . 27 - وقال رحمه الله، مبينا أن عباد القبور أشد شركا من عباد الأصنام: (والرسول صلى الله عليه وسلم أبطل دين المشركين ومداره على الاستغاثة والالتجاء إلى غيره، وهي كانت عبادة الوثنيين، وكالذبح، والنذر، غير أنهم كانوا عند النوائب ليستغيثون بالله سبحانه، بخلاف عباد القبور في عصرنا) . 28 - وقال رحمه الله مبينا أن شرك القبورية أدهى وأمر من شرك المشركين السابقين: ( .... يغالون في الصالحين بما لا يرضى الله به، ويبنون على قبورهم المساجد والمشاهد، ويوقدون السرج، إلى غير ذلك من البدع، ثم إنهم يندبونهم في المهمات* ويستغيثون بهم عند طلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1185 الحاجات* وكل ذلك وأمثاله مما لا يرضى به الله ورسوله، ولا أهل العلم والدين، فإنه من أفعال مشركي العرب في الجاهلية، بل هو أدهى وأمر) . قلت: لأن المشركين الأولين كانوا لا يستغيثون بغير الله عندما كربتهم الكروب، بخلاف القبورية فإنهم يستغيثون بالأموات* حتى في أعظم الشدائد والكربات * فصار شركهم أدهى وأمر من شرك المشركين السابقين. 29 - وقال العلامة محمد سلطان المعصومي الخجندي (1379هـ) رحمه الله، مبينا أن القبورية أشد شركا في باب الاستغاثة من الوثنية الأولى: (إن هؤلاء القبوريين قد وصلوا إلى حد في اعتقادهم في الأموات* لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم، وهو أن [أهل] الجاهلية كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله وحده، كما حكاه الله تعالى عنهم في [عدة] آيات، بخلاف المعتقدين في الأموات، فإنهم إذا دهمتهم الشدائد- استغاثوا بالأموات، ونذروا لهم النذور، وقل من يستغيث بالله سبحانه وحده في تلك الحال) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1186 30- وقال رحمه الله في الرد على مؤلف كتاب " آه مهجوران " الحنفي، مبينا أن القبورية، ولا سيما هذا المؤلف أخبث حالا وأشد شركا من مشركي الجاهلية في باب الاستغاثة: (اعلموا أيها المسلمون، وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، أن مخمود مؤلف " آه مهجوران "- أخبث حالا، وأشد شركا وكفرا من مشركي الجاهلية - الذين ذمهم الله تعالى، وأوعدهم؛ لأنهم كانوا يدعون الله تعالى وحده عند الشدائد، كما قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1187 32] ، بخلاف المخمود، فإنه إنما دعا عبد القادر الجيلاني وحده، وطلب منه كشف الشدائد، ودفع البلاشفة، فهو أشد كفرا وشركا من كل المشركين، نعوذ بالله منه ومن شركه) . 31 - ولقد ذكر الشيخ الغلام الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن (1980م) - عدة آيات تدل على أن المشركين كانوا يدعون الله وحده عند الملمات والكربات، ثم قال: (تنبيه: لقد تبين من هذه الآيات أن مشركي مكة لم يكونوا يدعون عند نزول الملمات إلا الله عز وجل وحده لا شريك له، ومع ذلك كانوا مشركين؛ لأنهم كانوا يدعون غير الله في غير ذلك الوقت، ولكن مشركي اليوم القبورية، قد سبقوا مشركي مكة وتجاوزوا الحد؛ لأنهم يدعون غير الله حتى وقت نزول الملمات بهم، فيقول أحدهم: إن السفينة قد وقعت في بحر البلاء: المدد يا معين الدين الجشتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1188 ويقول الآخر: يا بهاء الحق ادفع السفينة وأخرجها) . 32 -33- وقال ابن آصف الملقب بشيخ القرآن (1407هـ) ، والعلامة الرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول، مبينين أن شرك القبورية أشد، وكفرهم أعظم من الوثنية الأولى: (وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه: أن كثيرا من هؤلاء القبورية أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه- حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني- تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إن الله تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة، فيا علماء الدين* ويا ملوك المسلمين* أي رزء للإسلام أشد من هذا الكفر؟؟؟ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟؟؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟؟؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا؟؟؟) . 34 - وقد ذكر العلامة الرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1189 صدد رده على القبورية، وإبطال استغاثاتهم بالأموات عند الكربات: قولهم: " يا سيدي فلان اشفني، أو اشف مريضي، أو اكشف كربتي، واقض حاجتي، أو أهلك عدوي، وعليك أن تفعل كذا وكذا، وأنت وكيلي، وأنت كفيلي، ثم قال في إبطال قولهم مبينا أنهم في هذه الاستغاثات بالأموات عند الكربات أشد شركا من المشركة الأولى: (ليس [هذا] من التوسل المباح في شيء، بل هو كفر بواح، وإشراك بالله في التصرف والقدرة والدعاء، يجب استتابة المبتلى به، فإن تاب وإلا يقتل، وليس هذا أقل من شرك المشركين الذين أنزل لإصلاحهم القرآن، وبعث لدعوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو أزيد من شركهم بكثير، وذلك لأن مشركي مكة وغيرهم كانوا قائلين بوجود الله تعالى، وأنه خالق السماوات والأرضين، وخالقهم، وخالق آبائهم الأولين، وأن بيده ملكوت السماوات والأرض وأنه يدبر الأمر، وأنه يجير ولا يجار عليه، وأنه سخر الشمس والقمر، وأنه يجري السحاب، وينزل الأمطار، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [" فإذا .... " العنكبوت: 65] ؛ ولم يكن أحد من المشركين يثبت لله شريكا يساويه في العلم والقدرة وسائر الصفات، وهذا مما لم يوجد إلى الآن، وإنما اتخذوا من دون الله أولياء قصدوا بعبادتهم التقرب إلى الله، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وكانوا يحجون، ويعتمرون، ويطوفون بالبيت، ويلبون، ويقسمون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1190 بالله، وكانت أصنامهم تماثيل الأنبياء، والملائكة، والجن، والصالحين من عباد الله والكواكب العلوية، وكان مبدأ شركهم هو الغلو في الصالحين) . ثم ذكر ثلاثين آية لتحقيق هذه المطالب، كما ذكر عدة أحاديث لبيان عقائد المشركين السابقين. 35 - وقال أيضا بعدما ذكر عدة آياتٍ وأحاديث وأقوال أهلِ العلمِ في بيان عقائد المشركين الأولين، مبينا أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى في استغاثاتهم بالأموات عند الملمات والكربات: (وإذا أحطت بما ذكرنا علما- أدركت أن كفرَ المشركين من المؤمنين في أمة رسولنا صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم، أعظمُ من كفر الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت أن الله تعالى ذكر عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر تركوا غير الله من السادة والقادة والطواغيت، فلم يدعوا أحدا منهم، ولم يستغيثوا بهم، بل أخلصوا لله وحده لا شريك له، وأنت ترى أن المشركين المدعين للإيمان من المسلمين- وفيهم من يدعي أنه من أهل العلم والفضل، وفيه الصلاح والزهد، والاجتهاد في العبادة- إذا مسه الضرر وأهمه أمر من أمور الدنيا- قام يستغيث بغير الله من الأولياء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1191 كمعروف الكرخي والشيخ عبد القادر الجيلاني، وسالار مدار ونحوهم ... ؛ وأشنع وأفظع وأقبح وأعظم جرما وأطم ضلالة- أنهم يستغيثون بالطواغيت، والأجداث، وأهل القبور، والمردة من الجن والشياطين، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويسافرون إلى أنصابهم، ويفزعون إلى أحبارهم ورهبانهم) . 36 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري رحمه الله (1407هـ) بعدما ذكر عدة نصوص، مبينا أن شرك القبورية أقبح، وأشد، وأشنع، وأبشع من شرك الوثنية الأولى: (فتبين أن شرك هؤلاء وكفرهم أعظم من شرك العرب وكفرهم، وأن اتخاذ هؤلاء الشفعاء الذين يشركون بهم أعظم كفرا من اتخاذ أولئك) . 37 - وقال رحمه الله أيضا مبينا أن القبورية أعظم شركا من المشركين الأولين أضعافا مضاعفة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1192 (ولا شك أن هذا الشرك قد شاع أضعافا مضاعفة مما كان عليه مشركو العرب، كما قيل والمشركون أقل شركا منهم ... هم خصصوا ذا الاسمَ بالأوثان ) 38 - وقال رحمه الله أيضا لتحقيق هذا المطلوب: (فالمشركون كلهم أجمعون كانوا يقرون بالخالق الواحد، كما أخبر سبحانه في غير ما آية، لكن شركهم أقل من شرك المستنجدين بالقبور اليوم، فإنهم كانوا يدعون الله تعالى في المصائب الشديدة، والأهوال العظيمة، كما قال تعالى: / 30 {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ... ) . 39 - وقال رحمه الله محققا أن القبورية أشد شركا من المشركين السالفين: ( .... لكن المشركون الذين أنزل فيهم القرآن- كانوا يدعون الله في الأمور العظام، وهؤلاء المشركون [القبورية] يدعون غيره، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1193 [يونس: 22] ، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ، وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32] ، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] ... ) . ثم ذكر قصة إسلام عكرمة بن أبي جهل التي تدل على أن المشركين كانوا يدعون الله في الشدائد فقط. 40 - وقال رحمه الله: (وقد زادوا أوصافا للأولياء الكرام والأنبياء العظام مشركين بالله العظيم، فقالوا: بعلم الغيب لهم، وأن لهم التصرف فيما يختارون ويهبون للناس ما يشاءون وتقربوا بهم إلى الله العظيم بالوسائل الشركية كالمشركين، الذين كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، ويستغيثون بهم في الشدائد ويتضرعون إليهم ويتقلبون أعتابهم، ويطوفون حول قبورهم، وينذرون لهم ويسجدون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1194 فوق عابدي اللات والعزى ... ؛ ويسألون من الموتى النصر، والرزق، والعافية من الأمراض، وقضاء الدين، وتفريج الكربات التي كان عباد الأصنام يسألون منهم، وجعلوا من العبادة غير الله كالدعاء، والاستغاثة، والنذر، والنحر وغيرها) . 41 - وقال الرستمي الملقب بشيخ القرآن والحديث بعد ما ذكر قصة إسلام عكرمة بن أبي جهل، وحقق أن المشركين الأولين كانوا لا يدعون في الملمات إلا الله تعالى وحده- مبينا أن القبورية أشد شركا منهم: (فلا يخفى على من تدبر وتفكر أن الناس [القبورية] اليوم أعظم شركا من المشركين السابقين؛ لأنهم كانوا يدعون في الشدائد الإله الحق [فحسب] ، وأهل هذا الزمان [من القبورية] يدعون في البليات الأولياء، ويقول أهل ناحيتنا: " يا بير بابا، أدركني "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1195 ويقول بعضهم: " يا بهاء الحق، ادفع السفينة وأخرجها "، ومثل هذا، فما هذا إلا شرك أعظم) . 42 - وقال بعدما ذكر عدة آيات ونصوص بعض العلماء في بيان عقيدة المشركين السابقين، وتحقيق: أنهم كانوا معترفين بتوحيد الربوبية، وأنهم لم يكونوا يدعون غير الله تعالى عند الملمات، مبينا أن القبورية من هذه الناحية أعظم شركا منهم: (فعلم من جميع هذا التحقيق الأنيق* والتفصيل الدقيق*: أن المشركين السابقين كانوا يجحدون توحيد الإله فقط [ولا ينكرون توحيد الرب] ، فليتأمل الذين يعتقدون: أن الأنبياء أعطاهم الله التصرف في أمورنا وأموالنا وأنفسنا، وهم يدفعون عنا البلايا بالقوة العطائية، ولذا ينذرون لهم، ويستبشرون بقصصهم، ولو كان مما لا يستمع له أولو العقل، والبصيرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1196 كما اشتهر في شأن الشيخ عبد القادر جيلاني، من أنه بدل التقدير لرجل في اللوح المحفوظ، أو أنه أخرج سفينة مشحونة غريقة بعد اثني عشر سنة، فليتدبر!! أي فرق بين هذه الطائفة الضالة [القبورية] ، وبين الذين قبحهم الله، وأنذرهم بالعذاب المهين الأليم؟؟؟، [بل القبورية أشد شركا منهم لدلالة هذه الآيات الكريمة التي مرت] .... ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1197 المبحث الثاني في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن القبورية أشد خوفا ورجاء وأكثر خضوعا وتضرعا وأعظم توجها وعبادة للأموات منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات ولو كانوا في أفضل البقاع وأشرف الأوقات لقد سبق في المباحث السابقة على لسان علماء الحنفية أن القبورية باستغاثتهم بالأموات* عند الكربات والملمات* مرتكبون للشرك الأكبر بخالق الكائنات*، بل هم مرتكبون للشرك الذي هو أمّ لعدة أنواع من الشرك برب الأرضين والسماوات* وتحقق أيضا على لسان علماء الحنفية في بيان مقارنتهم للقبورية بالوثنية الأولى - مقارنة دقيقة* علمية عميقة*- أن القبورية أشد شركا من المشركين السابقين. وأذكر في هذا المبحث بعض جهود علماء الحنفية لتحقيق: أن القبورية أشد خوفا ورجاءً، وأكثر خضوعا وتضرعا، وأعظم توجها وعبادة للأموات * منهم لخالق البريات في باب الاستغاثات، ولو كانوا في أفضل البقاع، وأشرف الأوقات* وسيظهر بحمد الله تعالى للمنصفين الطالبين للحق على لسان علماء الحنفية: أن القبورية يستغيثون بالأموات* بغايةِ التوجهِ، وإقبالِ القلوب إليهم عند الملمات* ونهاية التذللِ والخضوعِ والتضرعِ لهم لدفع المضرات* وأعظمِ الرجاء منهم عندما يريدون منهم جلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1199 الخيرات* وذلك لا يتصور منهم لخالق الكائنات* ولو كانوا في بيوت الله من المساجد، والأسحار في الأوقات* وأن ما تفعله القبورية من بعض العبادات* لرب الأرضين والسماوات*- فهو إنما يفعلونه له على سبيل التكلف والعادات* وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية، لتحقيق هذا المطلوب، والله المستغاث المغيث، وهو المعين المستعان* وبه الثقة والحول والقوة، وعليه الاعتماد والتكلان*: 1 -4- قال الإمامان: محمد البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) ، والشيخان: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، واللفظ للأول: محققين أن القبورية أعظم نشاطا وأكثر اهتماما بالحج إلى القبور وأهلها الأموات* منهم بالحج إلى بيت خالق الأرض والسماوات* وأن الحج إلى القبور عند هؤلاء الطغام*- أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام*: (ثم في اتخاذ القبور عيدا من المفاسد العظيمة- التي لا يعلمها إلا الله- ما يغضب لأجله كل من كان في قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد، وتقبيح للشرك، وتهجين للكفر والبدع، ولكن [غالب العلماء* والأمراء والوزراء* - بين قبوريين أو أموات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1200 أو نيام* وفي المثل:] ما لجرح بميت إيلام*، فمن مفاسد اتخاذها عيدا: أن غلاة متخذيها عيدا [عند حجهم إليها]- إذا رأوها من موضع بعيد- ينزلون من الدواب* ويضعون الجباه على الأرض [تحقيقا للآداب*] ، ويكشفون الرؤوس، وينادون من مكان بعيد* ويستغيثون بمن لا يبدي ولا يعيد*، ويرفعون الأصوات بالضجيج* ويرون أنهم قد ازدادوا في الربح على الحجيج*، حتى إذا وصلوا إليها يصلون عندها ركعتين* ويرون أنهم قد أحرزوا من الأجر أجر من صلى إلى القبلتين* فتراهم حول القبور سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا* وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسرانا*، فلغير الله تعالى، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات* و [ما] يرتفع من الأصوات* ويطلب من الميت من الحاجات* [ما لا يطلب إلا من رب البريات*] ويسأل من تفريج الكربات* وإغناء ذوي الفاقات* ومعافاة أولي العاهات والبليات* [ما لا يسأل إلا من خالق الكائنات*] ، ثم إنهم ينتشرون حول القبر طائفين* تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله تعالى مباركا وهدى للعالمين*، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1201 ثم يأخذون في التقبيل والاستلام* كما يفعل بالحجر الأسود في المسجد الحرام*، كذلك يخرون على الجباه، والخدود* والله تعالى يعلم أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود*، يكملون مناسك حج القبر بالتقصير، والحلاق* ويستمتعون من ذلك الوثن، إذ لم يكن لهم نصيب عند من هو الخلاق*، ثم يقربون لذلك الوثن القرابين* وتكون صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين*، ثم نراهم يهنىء بعضهم بعضا [جاهرا] * ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا* ثم إذا رجعوا [من هذا الحج * بعد أداء مناسك العج والثج*]- يسألهم بعض غلاة المتخلفين* [المتأسفين على فوات الحج إلى المقبورين] *: أن يبيع ثواب حجة القبر بحجة البيت الحرام* فيقول: لا، ولو بحجك كل عام*، هذا ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم [مما جرى على لساني قالهم، وحالهم] * ولا استقصينا جميعَ بدعِهم وضلالِهم [مما في أقوالهم، وأفعالهم] *، إذ هي فوق ما يخطر بالبال* ويدور في الخيال*) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1202 5 -10- وقال الأئمة الثلاثة: محمد البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) ، والشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيوخ الثلاثة: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، ومحمد علي المظفري، والفظ للأول: مبينين أن القبورية بدلوا شرع الله في زيارة القبور، كتبديل اليهود، ولكن القبورية فاقوهم بكونهم أشد خضوعا عند قبور الأموات* الذين يستغيثون بهم، منهم لله في المساجد والأسحار من الأوقات*: (فبدل أهل البدع، والضلال، قولا غير الذي قيل لهم [في زيارة القبور] ، فإنهم بدلوا الدعاء له [أي الميت] بدعائه نفسه، أو بالدعاء به، وبدلوا الشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم- -إحسانا إلى الميت، وإلى الزائر- سؤال الميت، والإقسامَ به على الله تعالى، وخصصوا تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وجعلوا حضورَ القلب، وخشوعه عندها أعظمَ منه في المساجد، وأوقات الأسحار .... ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1203 11 -17- وقال الإمامان: محمد البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) ، والشيخان: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، والعلامتان: شكري الآلوسي (1342هـ) ، والخجندي (1379هـ) ، وابن آصف الملقب بشيخ القرآن (1407هـ) ، واللفظ للأول، مبينين: أن القبورية أشد تضرعا وخشوعا وخضوعا وعبادةً عند قبور الأموات* الذين يستغيثون بهم لدفع الكربات وجلب الخيرات، منهم لخالق البريات في المساجد والأسحار من الأوقات*: (فإن الشركَ بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه- أقربُ إلى النفوس من الشرك بشجر، أو بحجر، ولهذا نجد كثيرا من الناس عند القبور- يتضرعون، ويخشعون، ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم- عبادةَ لا يفعلونها في مساجد الله تعالى، ولا في وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها، ولديها- ما لا يرجون في المساجد) . 18 - وقال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) مبينا أن الشرك قد عم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1204 وطم بسبب الجهل بآثار الرسالة، ومن ذلك الاستغاثة بالأموات عند الكربات* وأن القبورية أعظم تضرعا وعبادة للأموات، منهم لرب السماوات*: (ولا يُجوِّزُ ذلك إلا مَنْ جهَلَ آثارَ الرسالةِ، ولهذا عمت الاستغاثة بالأموات عند نزول الكربات* يسألونهم ويتضرعون إليهم، فكان ما يفعلونه معهم أعظم من عبادتهم واعتقادهم في رب السماوات*) . 19 -20- وقال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، ومحمود شكري الآلوسي (1342هـ) رحمهما الله، في بيان أن القبورية أشنع شركا، وأعظم عبادة للقبور، وأهلها وأشد تعظيما، وخشوعا عند الاستغاثة بالأموات عند الكربات: ( .... ، وربما كان ما يفعلونه أعظم؛ لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعون دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، أو الدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم لله تعالى، فإنهم يفعلونها في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف) . ولهذا النص بداية، ونهاية مهمتان قد سبقتا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1205 21 - وقال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) مبينا أن القبورية أعظم عبادة للأموات* منهم لله عز وجل، حيث أنهم يرجحون النذور للأموات، والسفر إلى قبورهم على الحج والعج والثج لرب البريات*: ... ، كيف لا، وقد اتسع الخرق على الراقعين* وقدّمَ السفر إلى مقابر الأولياء على سائر الفرائض كثيرٌ من الجاهلين* بل يقدمه عامة أهل البدع على الحجّ* ويُعد إيفاءُ نذرِه لأصحابها أفضل من العج والثجّ* ويُحسب الطواف حول ذلك الميتِ * شبهَ الطوافِ بينَ أركانِ البيتِ* فألهاهم عن الواجبات التفاخرُ بذلك والتكاثر* وظنوا أن أصلح الأمة من واظب على السفر إلى المقابر *) . 22 - وقال العلامة السهسواني (1326هـ) مبينا أن القبورية أعظم عبادة، وأشد خوفا وأكثر تعظيما للأموات* منهم لله سبحانه في الحرم وأشرف الأوقات*: (وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها، واعتقاد أنها تضر وتنفع، والاستعانة بها عند الحاجة والتقريب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور- فإنهم قد عظموها إلى حد لا يكون إلا لله سبحانه، بل ربما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1206 يعتقده، أو قريبا منه لمخافة تعجيل العقوبة ذلك الميت، وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله أو في مسجد من المساجد، أو قريبا من ذلك، وربما حلف بعض غلاتهم بالله كاذبا ولم يحلف بالميت الذي يعتقده) . 23- وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ناقلا كلام شيخ الإسلام (728هـ) رحمهما الله تعالى، مستدلا به على أن القبورية أعظم عبادة، وأكثر خضوعا للأموات * منهم في المساجد لخالق الأرضين والسماوات في باب الاستغاثات* محققا أن بعض الغلاة يرجح الحج إلى القبر الشريف على الحج إلى الكعبة المشرفة، وأن القبورية في استغاثتهم بالأموات على طريقة الوثنية الأولى، وأن هذا حال كثير من أهل الزهد والعبادة والعلم من القبورية، فما ظنك بالعوام الطغام* الذين هم أضل من الأنعام*: (ومما يبين حكمة الشريعة، وأنها كسفينة نوح [عليه السلام] ، [من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق]- أن الذين خرجوا عن المشروع- خرجوا إلى الشرك، وطائفة منهم يصلون [إلى الميت] ، ويدعو أحدهم الميت فيقول: " اغفر لي، وارحمني "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1207 ومنهم من يستقبل القبر، ويصلي إليه مستدبر الكعبة، ويقول: " القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة "، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع [فما ظنك بمريده العامي] ، فلعله أمثل أصحاب شيخه يقوله عن شيخه، وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق، والاجتهاد في العبادة والزهد- يأمر المريد أول ما يتوب: أن يذهب إلى قبر الشيخ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1208 فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها، وجمهور هؤلاء [القبورية] المشركين بالقبور- يجدون عند عبادة القبور من الرقة، والخشوع، وحضور القلب [والخوف والرجاء من المقبور]- ما لا يجدونه في المساجد [والأسحار] ، وآخرون يحجون إلى القبور، وطائفة صنفوا كتبا، وسموها " مناسك حج المشاهد "، وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ، وإن لم يسموها منسكا وحجا، فالمعنى واحد، [ومن هؤلاء من يقول: " وحق النبي الذي تحج إليه المطايا "، فيجعل الحج إلى النبي لا إلى بيت الله عز وجل، وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لا حج البيت] ، وبعض الشيوخ المشهورين بالزهد والصلاح- صنف كتابه " الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1209 [وهذا الضال استعان بهذا الكتاب، وذكر في مناقب هذا الشيخ، أنه حج مرة، وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وجعل هذا في مناقبه] . وبسبب الخروج عن الشريعة- صار بعض [أكابر] الشيوخ [عند الناس] : ممن يقصده [الملوك، والقضاة، والعلماء، والعامة- على طريقة ابن سبعين] ، قيل عنه: إنه كان يقول: " البيوت المحجوجة ثلاثة، مكة، وبيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1210 المقدس، والبلد الذي بالهند الذي للمشركين"، لأنه [كان] يعتقد أن دين اليهود والنصارى حق، وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال: " أريد أن أسلك على يديك "، فقال له: " على دين اليهود، أو النصارى، أو المسلمين؟ "، فقال له: " واليهود والنصارى ليسوا كفارا؟ "، قال: " لا تشدد عليهم، ولكن الإسلام أفضل "، [ومن هؤلاء من يرجح الحج إلى المقابر على الحج إلى البيت، لكن قد يقول أحدهم: " إنك إذا زرت قبر الشيخ مرتين، أو ثلاثا- كان كحجة] ، ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ كعرفات- يسافرون إليها وقت الموسم فيعرفون بها، [كما يعرف المسلمون بعرفات] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1211 كما يفعل بالمغرب والمشرق، [ومنهم من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه- أفضل من الحج، ويقول أحد المريدين للآخر- وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق-: " أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع؟ "، فشاور الشيخ، فقال: " لو بعت لكنت مغلوبا "، ومنهم من يقول: " من طاف بقبر الشيخ سبعا- كان كحجة "، ومنهم من يقول: " زيارة المغارة الفلانية ثلاث مرات كحجة "، ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال: " كل خطوة إلى قبره كحجة، ويوم القيامة لا أسع بحجة "، وأنكر بعض الناس ذلك- فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ في منامه، فزبره على إنكاره ذلك،] وهؤلاء، وأمثالهم صلاتهم، ونسكهم لغير الله، فليسوا على ملة إبراهيم، [وليسوا من عمار مساجد الله ... ، فعمار مساجد الله لا يخشون إلا الله، وعمار مساجد المقابر يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى أن طائفة من أصحاب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلونه من القبائح- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1212 كان إذا رأى قبة الميت، أو الهلال الذي على رأس القبة- خشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: " ويحك هذا هلال القبة "، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض، وهؤلاء إذا نوظروا- خوفوا مُناظرهم، كما صنع المشركون بإبراهيم عليه السلام ... ؛ وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت يطلب قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما حلّله، والحرام ما حرّمه، وكانوا في أنفسهم قد عزلوا الله عن أن يتخذوها إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يتخذوه رسولا ... ؛ فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى، وفيه من الكذب والجهل ما لا يستجيزه كل مشرك ونصراني .... ،] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1213 والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته موجودة في كلام بعض الناس [من القبورية] مثل يحيى الصرصري، ومحمد بن النعمان، و [بعض] هؤلاء لهم صلاح، ولكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد، ويدعوه، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم- وله فضل وعلم وزهد- إذا نزل به أمر- خطا إلى جهة [قبر] الشيخ عبد القادر [الجيلاني] خطوات، واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس [أهل العلم من القبورية فضلا عن عوامهم الجهال] ، وهؤلاء [القبورية المستغيثون بالأموات علماؤهم وجهالهم] مستندهم-[على جواز الاستغاثة بالأموات* عند الكربات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1214 والملمات*] مع العادة [العامية الجاهلية التي ألفوها وعاشوا عليها في بيئتهم القبورية]- قول طائفة [من القبورية] : " قبر معروف، أو غيره ترياق مجرب "؛ ومعهم [شبهة أخرى أقوى من الأولى، وهي:] ، أن طائفة استغاثوا بحي، أو ميت، فرأوه قد أتى في الهواء، وقضى بعض الحوائج، وهذا كثير واقع [حتى] في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان [، فلا مستند للقبورية في هذه الحكايات] ، فإن الشياطين تتمثل لهم، [لاستدراجهم وإضلالهم] ، ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا- لطال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1215 المقام) . 24- ثم علق العلامة الآلوسي (1342هـ) على كلام شيخ الإسلام السابق، مستدلا به قاطعا دابر القبورية عامة، ودابر النبهاني (1350هـ) خاصة، محققا أن القبورية أشد خوفا، وأكثر رجاء، وأعظم عبادة للأموات* منهم لخالق الأرض والسماوات في باب الاستغاثات* قائلا: (فتأمل هذا الكلام* [كلام شيخ الإسلام *] ، فإنه يستبين منه ضلال النبهاني، وأضرابه من الغلاة، وقد صرح شيخ الإسلام* [في كلامه هذا، وما أطيب هذا الكلام* بعدة من الفوائد* التي هي من الدرر الفرائد*: منها] : أن السنة كسفينة نوح، ومعلوم أن دعاء الأنبياء [والأولياء] ليس من السنة، بل هو من البدع الشركية. ومنها: أن بعضهم [من هؤلاء القبورية] أفضى به ذلك- إلى أن يصلي للميت، ويقول: " اغفر لي، وارحمني "، وهذا جائز عند النبهاني، وإخوانه من عباد القبور، سائغ لا ينكر. ومنها: أن بعض المستغيثين يعكف على القبر عكوف أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1216 التماثيل، وهذا واقع منهم أيضا [وليس مجرد اتهام وخيال * ولا فرض مقال محال *] ، وهذا من لوازم قولهم بجواز الاستغاثة [بالأموات* عند الكربات] . ومنها: أن جمهور هؤلاء المشركين بالقبور [وأهلها]- يجدون عند عبادتها [وعبادة أصحابها] : من الرقة، والخشوع، وحضور القلب- ما لا يجدونه في المساجد، [ولا في أوقات الأسحار!!!، ويجدون من الخوف والرجاء من الأموات* ما لا يجدونه من رب البريات*] !!!. ومنها: أن بعضهم يحج إلى القبور، وهذا عند النبهاني، ومن على شاكلته- من الفضائل التي لا تنكر. ومنها: إنكار الشيخ [شيخ الإسلام] على من صنف كتاب الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، [وهو: مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام] في اليقظة والمنام. ومنها: أن هذا المصنف [من طاماته القبورية: أنه قد] حج مرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1217 وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع، ولم يذهب إلى الكعبة، وفاعل ذلك عند الغلاة أفضل من الحاج!!! ومنها: أن ذلك أفضى ببعضهم إلى أن قال: " البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والصنم الذي في الهند ". و [منها: أن] بعضهم لا يرى ذلك للصنم الذي في الهند، ويراه لمن يعتقده، وما يتأله به من المشايخ. ومنها: أن بعضهم يعرف عند مقابر الشيوخ، كما يفعل بعرفة. و [منها] : أن هذا وقع في المغرب والمشرق [وليس بمجرد اتهام] . ومنها: أن الشيخ [شيخ الإسلام] نفى العلم عمن يستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم، كالصرصري، وابن النعمان، [وأمثالهما من القبورية الجهلة بحقيقة التوحيد، وإن كانوا علماء فضلاء في علوم أخرى] . و [منها:] أنهم جروا على عادة العامة الذين يستغيثون بالمشايخ في الشدائد ويدعونهم، [بحكم البيئة وعادة العوام فحسب، لا بحكم الكتاب والسنة] . ومنها: أن من له فضل، وعلم، وزهد، قد يقع منه الشرك، والاستغاثة بغير الله، [لأجل جهلة بعلم التوحيد، وإن كان في نفسه فاضلا] . و [منها:] أن مستندهم [في الاستغاثة بالأموات] مع العادة [العامية الجاهلية]- قول طائفة [من القبورية] : " قبر معروف، أو غيره ترياق مجرب "، [وليس مستندهم كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا آثار السلف] . و [منها: أنه] من المعلوم أن هذا القول صدر عن غير معصوم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1218 وجمهور أهل العلم والإيمان قد ردوه، وأنكروا على فاعله. و [منها: أنه] قد مضى فيما مر من عبارات شيخ الإسلام: أن هذا لا يعرف في عهد القرون المفضلة، وكفى بهذا ذمّا. ومنها: قوله: إن طائفة استغاثوا بحي، أو ميت، فرأوه قد أتى في الهواء، وقضى بعض الحوائج، [وهذا من تلبيس إبليس] . و [منها: أن هذا ليس مجرد الخيال والاتهام، بل] هذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة، أو الأنبياء، أو الكواكب، أو الأوثان ... ) . 25 - وقال رحمه الله تعالى أيضا- مبينا أن القبورية أعظم عبادة، وأشد خوفا ورجاء، وأكثر خضوعا وخشوعا وتعظيما للأموات* منهم لخالق البريات* محققا أن شرك القبورية أشنع وأبشع في باب الاستغاثة بالأموات* عند الكربات والملمات*: (ومن أعظم البدع في هذا الزمان: معابد يعتقدون أن الصلاة عندها أفضل من الصلاة في جميع بيوت الله، وهم وإن لم يصرحوا، ولكن طبعت قلوبهم على ذلك، فتراهم يقصدونها من الأماكن البعيدة، وربما أن تكون بحذائهم مساجد مهجورة، فيعطلونها، وإذا ألجِئوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1219 للصلاة فيها- صلوا كارهين، وتلك [المعابد] يهرعون إليها!؟! ولو في أوقات الكراهة، وهي أفضل عندهم من الصلاة في الأوقات الفضيلة في المساجد. وتلك المساجد التي بحذاء القبور- ليست مقصودة، لكونها بيوتا لله، بل لكونها حضرات لمن انتسبت إليه من أهل تلك القبور، يدلك على ذلك كله أنهم لا يسمونها إلا حضرات، فإذا قلت لأحدهم: أين صليت؟ - قال لك: صليت في حضرة الشيخ فلان، وليس مقصودهم به إلا التقرب به، وبحضرته، وكلما أكثر الرجل الترداد إلى القبور- - ولو كانت مشتملة على أنواع المنكرات من ستور الحرير والديباج، والترصيع بالفضة، والعقيان، فضلا عن غيرها- كان مشهورا بين الناس بالديانات* مغفور الزلات* مقربا عند أصحاب تلك الحضرات*، ولقد امتلأت قلوب العوام، [بل قلوب كثير من الخواص]- من رجائهم ومخافتهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1220 فتراهم إذا عضلت عليهم الأمور*- أوصى بعضهم بعضا بقصد أصحاب القبور* وكذلك إذا وقع على أحد يمين الله- حلف به من غير أدنى وجل* أو حذر [أو خجل*] ، وإذا قيل له: احلف بفلان عند قبره- خصوصا إذا أمره بالغسل لهذا اليمين، ليكون ذلك من أقوى العبادات- خاف خوفا يظهر على جميع جوارحه، فلو أنه أدخل إلى قبره- ارتعدت فرائصه، وانحلت قواه [من شدة الخوف والهيبة] ، وربما أن أحدهم- لكثرة أوهامه، وشدة خوفه- تبطل حواسه، فيزدادون كفرا * وتضحك عليهم الشياطين جهرا* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1221 وترى كثيرا منهم يعلقون مرضاهم عليهم، فيأخذون المريض- وهو في غاية شدته-، فيدخلونه على قبره، والسعيد عندهم من يدخلونه داخل شباكه، ويتعلق بستر قبره، والرزية العظمى: أنهم في حالتي السراء، والضراء، يتلاعب إبليس بهم، فإن مات مريضهم- قالوا: ما قَبِلنَا الشيخُ فلان- يعنون به صاحب القبر-. وإن صادف القدر، فعوفي- - لا سيما إذا وافق مطلوبهم ذلك الوقت- فرحوا بما عندهم من الكفر، فأرسلوا القرابين، ومعها شموع العسل موقدة من بيوتهم- إظهارا لقدرة صاحب القبر [على قضاء الحوائج] ، وتنبيها على إلهيته [بل ربوبيته] ، وكثيرا ما ينشرون الرايات له على طريقة أهل الجهل من الأعراب: من أن من يفعل شيئا عظيما نشرت له راية بيضاء، وقد رأيت من لم يفعل ذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1222 ولكنه ينصب راية بيضاء على سطح داره ثلاثة أيام- يصيح كل يوم وقت المغرب بأعلى صوته: الراية البيضاء لفلان بيض الله وجهه، وبالجملة: فأكثر البدع الخبيثة نشأت من هنالك، حتى إني رأيت بدمشق الشام أناسا ينذرون للشيخ عبد القادر الجيلي قنديلا يعلقونه في رؤوس المنائر، ويستقبلون به جهة بغداد، ويبقى موقدا إلى الصباح، وهم يعتقدون: أن ذلك من أتم القربات إليه، كأنهم يقولون بلسان حالهم: " أينما توقدوا، فثم وجه عبد القادر "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1223 فيا لله العجب، ما هذه الخرافات؟ * وأين دين الله الذي قد مات؟ * بال الشيطان في عقولهم* وأضلهم عن سبيلهم* ولا ترى أحدا ينهى عن أمثال ذلك* وأعظم ما هنالك * ومن أقبح المنكرات* ما يستعمله جميع النساء [القبوريات*] عند وضع الحمل، ولا سيما في شدة الطلق، فإنهن يستغثن بعلي بن أبي طالب [رضي الله عنه] ، وكلما اشتد الطلق- صاحت النساء بأعلى أصواتهن داعيات ومستغيثات به، ليفرج عنهن ما قد كربهن، ومن يسمعهن- يتيقن إشراكهن، وقلما تسلم امرأة منهن في هذا الحال العظيم* والخطب الجسيم* وكثير منهن يزعمن: أنه الموكل بالأرحام* والموكول إليه في هذه الأحوال العظام* والحاصل: أنه لو أراد الإنسان أن يفصل منكرات القبور* وتكيات المتصوفة ومنكرات الحيطان، والآبار، والصخور* والأحجار، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1224 والتماثيل ... ،- لضاق عنه نطاق التحرير* وعجز عن ضبطه من تصدى للتسطير*) . 26 - وقال رحمه الله تعالى، في بيان الزيارة الشركية التي يرتكبها القبورية، مبينا أن إشراكهم أعظم وأشنع* وأكبر وأبشع* حيث إن أحدهم يجد في قلبه من الخشية والرهبة عند القبور، وعند الاستغاثة بأصحابها- ما لا يجد لخالقه عز وجل في المساجد والأسحار: ( ... وجد هذا الزائر في فؤاده من الخشية والرهبة- ما لا يجد أدنى معشار جزء من عشرة بين يدي خالق السماوات والأرضين* وإله جميع العالمين*، فيدخل إلى القبر خاشعا ذليلا، متواضعا، لا يخطر في قلبه مثقال ذرة من غير إجلاله* منتظرا فيض كرمه، ونواله) . 27 - وقال التهانوي (1362هـ) : مبينا أن القبورية أشد خوفا من الأموات* منهم من رب البريات*: إن كثيرا من عابدي القبور، بسبب تعظيم قبور الأولياء، وإرخاء الستور عليها- حصل لهم الضرر العظيم في اعتقادهم، حتى اعتقدوا في الأولياء التأثير مع الله، فتراهم يتركون النذر لله، وأكثروا النذور للأولياء، والتقرب إليهم، وتركوا الحلف بالله حتى صار عندهم الحلف بالله كالعدم، ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1225 يتجاسرون الحلف بالأولياء، لاعتقادهم: أن من حلف بولي خائنا كاذبا- يضره في بدنه، وماله، وأولاده، وهذا من الشرك، والعياذ بالله، ثم ذكر عن بعض علماء الروم وقضاتهم الموصوفين بالعلم والصلاح: أنه قال: " لو مكنت من هدم قبور الأولياء لهدمتها، كما فعل عمر بشجرة الرضوان، والمصيبة: أن فقهاء القرى يأمرون العوام عند توجه الحلف بالولي، ويقولون: إن فيه إظهارا للحق!؛ فانظر إلى هؤلاء الفقهاء [السفهاء] كيف يتوسلون إلى إظهار حق الخصم الدنيوي، بضياع الدين من أصله؛ [لأن من نذر لغير الله، أو حلف بغير الله، أو سجد لغير الله- فهو مشرك بالله] . 28 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) بعدما حقق أن شرك القبورية أعظم من شرك أهل الجاهلية الأولى، مبينا أن القبورية أعظم عبادة للقبور وأهلها في المشاهد*، منهم لله، في المساجد*: (ولهذا يرى هؤلاء دعاء الموتى عند القبور، ويتوجهون إليهم، ويستغيثون بهم، ويقولون: إن أرواحنا إذا توجهت إلى روح المقبور في القبور- اتصلت به ففاضت عليها المقاصد من جهته؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1226 وكثير منهم، ومن غيرهم من الجهال- يرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء عليهم السلام، والصالحين من أهل البيت وغيرهم- أفضل من الصلوات الخمس، والدعاء في المساجد، وأفضل من حج البيت العتيق) . 29 - وقال الشيخ أبو الحسن الندوي، مبينا أن القبورية أعظم خوفا من الأموات* منهم لخالق الكائنات* كاشفا عن حال القبورية في الشام وغيرها: (يخشون القبور وأصحابها، ولا يخشون الله!! حتى أن طائفة من أصحاب الكبائر الذين لا يتحاشون فيما يفعلون من القبائح - كان إذا رأى قبة البيت، أو الهلال الذي على رأس الميت- خشي من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض .... ) . وقال: (وقاحة المشركين [يعني القبورية] وجرأتهم!!؛ ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذبا [يعني بالله] ، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه اليمين الغموس كاذبا ... ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1227 30 - وقال العلامة الرستمي، مبينا أن القبورية أعظم خوفا من الأموات* منهم لخالق البريات*: (بعضهم يذهبون إلى قبور الأولياء من بعيد، ومعهم الضأن والمعز والدجاجة وغيرها، نذرا لصاحب القبر، ويتقربون إليها بذبحها هناك ... ؛ يلتزمون على أنفسهم ... ؛ ولا يقصرون فيه، ولا يتأخرونه عن وقته، ولا ينقصون منه خوفا من الضرر، ولا يكون في قلوبهم ميلا إلى الصلاة لله تعالى، ولا إلى أداء الزكاة له تعلق، والتصدق له تعالى، بل تركوه نسيا منسيا، فلو لم يكن هذا شركا- فلا يكون الشرك إلا اسما، ولا يكون له مصداق) . قلت: هذه كانت بعض نصوص علماء الحنفية الدالة على أن الاستغاثة بالأموات* من أعظم الإشراك بخالق الكائنات* وأنها ليست بشرك فحسب، بل هي أمّ لعدة أنواع من الإشراك برب البريات* وأن القبورية أعظم شركا من الوثنية الأولى في باب الاستغاثات* وأنهم أشد خوفا ورجاء وأكثر خشوعا وخضوعا، وأعظم عبادة للأموات* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1228 منهم لخالق الأرضين والسماوات* ولو كانوا في أشرف المقامات وأسعد الأوقات* وقد تحقق بهذه التحقيقات الحنفية * أن القبورية فرقة مشركة وثنية من الفرق الوثنيات* وبعد هذا ننتقل إلى الباب الآتي لنعرف شبهات المستغيثين بالأموات* كما نعرف جهود علماء الحنفية في قلعها، وقمع أصحابها- مستغيثين برب البريات* الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1229 الباب الثامن في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها لتبرير الاستغاثة بالأموات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1231 كلمة بين يدي هذا الباب للقبورية شبهات كثيرة، فإن جميع عقائدهم مبنية على الشبهات الشيطانية، وقد ذكرت منها أربعاً وأربعين شبهة، مع أجوبة علماء الحنفية عنها: منها شبهة في تعريف التوحيد، وشبهة في تعريف الشرك، وست شبهات في جعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية، وأربع عشرة شبهة في زعمهم أن المشركين الأولين كانوا مشركين في توحيد الربوبية، والخالقية، والرازقية، والمالكية. وشبهة في حصرهم للعبادة في عدة أعمال. وشبهة في تعريفهم للعبادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1233 وشبهة في عدم جعلهم للقبور أوثاناً. وشبهة في عدم وقوع الشرك. وشبهة الأحجار والأصنام. وشبه التكفير والخروج. وشبهة قول لا إله إلا الله. وشبهة التعظيم والمحبة للأولياء. وشبهة تنقيص الأولياء. وشبهة في تعظيم القبور. وشبهة في جعل القبور أعياداً. وشبهة إيقاد السرج على القبور. وشبهة في الحج والسفر إلى القبور. وشبهة التبرك الباطل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1234 وشبهتان في الحياة البرزخية. وشبهتان في سماع الموتى. وشبهة الاستقلال والعطاء. وشبهة المجاز والحقيقة. وشبهة الكرامة والولاية. وشبهة الكسب والسبب. وستأتي ثلاث شبهات في باب التوسل، مع جهود علماء الحنفية في قلعها وقمع أصحابها، كما سأذكر ثماني شبهات في باب النذر لغير الله، والبناء على القبور، فتصير خمساً وخمسين شبهة قبورية باطلة، على لسان علماء الحنفية. وسأذكر في هذا الباب عشرين شبهة، تشبثت بها القبورية لتبرير الاستغاثة بالأموات، وهي أشهر شبهاتهم في هذا الباب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1235 مع جهود علماء الحنفية في قلعها وقمع أصحابها، وقطع دابرهم، كل ذلك بتوفيق الله عز وجل، وتكون مع أخواتها خمساً وسبعين شبهة * إن في إبطالها للموحد نزهة *. فأقول، وبربي أستغيث * إذ هو المستغاث المغيث * وبه أثق وأستعين * إذ هو المستعان المعين *: الشبهة الأولى: حياة الأولياء في قبورهم: تشبثت القبورية في جواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات * بأن الأولياء أحياء في قبورهم، فلا مانع من الاستغاثة بهم في الملمات لأنهم أحياء غير أموات *. ولذلك نرى القبورية يذكرون مباحث حياة الأموات في قبورهم - حياة دنيوية للأموات - * تمهيداً لجواز الاستغاثة بهم عند الكربات *. وقد سبق الجواب عن هذه الشبهة على لسان علماء الحنفية، بما لا داعي لإعادة جوابهم ههنا. فجزى الله هؤلاء الحنفية الرادين على القبورية خيراً، حيث قلعوا شبهات القبورية، كما قطعوا أدبارهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1236 الشبهة الثانية: هي تلك الحكايات التي شحنت بها القبورية كتبهم، أو تناقلوها كابراً عن كابر، لإثبات جواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات * بل لإثبات وجوبها وترجيحها على الاستغاثة بالله عز وجل عند الملمات *: من أن فلاناً استغاث بالولي الفلاني فأغاثه. وفلان ذهب إلى قبر فلان فتعافى، وقضى حاجته. والقبورية يذكرون لتأييد قبوريتهم أقوال كثير ممن ينتسبون إلى العلم والفضل والزهد. وقد ذكرت عدة نماذج في الفصل الأول من الباب السابع. وهذه الشبهة أقوى سلاح للقبورية لدعم قبوريتهم، وإجلال أوليائهم، والتنويه بكراماتهم، وفي ذلك دعوة سافرة للمضطرين إلى الاستغاثة بهم وندائهم عند الكربات، ونزول الملمات * موهمين الناس أنه لو لم تكن الفائدة في الاستغاثة بالأموات عند الكربات، لما تقضى الحوائج عند قبورهم، ولما تنكشف البليات بالاستغاثة بهم - إلى آخر تلك الحكايات * الجواب: لقد شمر كثير من علماء الحنفية عن ساق الجد والجهد لإبطال هذه الشبهة، وكشفوا عن حقيقة حكايات هؤلاء القبورية، وبينوا فضائحهم بعدة أجوبة، أذكر منها: الجواب الأول: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن هذه الحكايات التي تناقلتها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1237 القبورية لدعوة المضطرين إلى الاستغاثة بالأموات بحجة أن هذه الحكايات كرامات لهؤلاء الأولياء * -. هي محض الأساطير، وعين الأكاذيب، وهي ليست كرامات، بل هي أباطيل الحكايات؛ لأن رواتها هم هؤلاء القبورية السفهاء *؛ وهم من أكذب الناس، ومعادن الكذب، وبيوت الإفك، فلا اعتبار لرواياتهم، فهم في نقل هذه الحكايات فسقة كذبة ساقطون من مكانة الصدق والديانة * إلى دركات الفسق والفجور والكذب والخيانة * وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب: 1 - قال الأئمة الثلاثة: محمد البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) ، والشاه ولي الله (1176هـ) . والشيوخ الثلاثة: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، ومحمد علي المظفري، وشيخ القرآن الفجنفيري، في بيان أسباب الشرك - واللفظ للأول -: (ومنها حكايات حكيت لهم عن أهل تلك القبور: أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها. وفلان دعاه، أو دعا به في حاجة فقضيت حاجته. وفلان نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره. وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير، يطول ذكره. وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1238 2 - وقال الإمام صنع الله الحلبي المكي (1120هـ) مبيناً أكاذيب القبورية في حكاياتهم وأنه لا اعتماد على نقل تلك الأساطير: (وأما ما ذكروه عن فلان، وفلان: أنهم رأوه بعد الموت يتصرف - فهو من التصرفات الدجالية * والزخارف الخيالية الشيطانية *) . 3 - وقال رحمه الله: (وينقلون عن فلان، وفلان، افتراءات الإفك. مما ليس للأصدقاء ناصر * ولا للأعداء كاسر *) . 4 - وقال الإمام محمود الآلوسي الجد (1270هـ) في الكشف عن مخازي القبورية وحكاياتهم المكذوبة، وذلك في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الزمر: 45] ، ونقل كلامه العلامتان: ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) ، والشيخ الرستمي: (وقد رأينا كثيراً من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين؛ يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم، توافق هواهم واعتقادهم فيهم، ويعظمون من يحكي لهم ذلك، وينقبضون من ذكر الله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1239 وحده .... ) إلى آخر كلامه القاطع لدابر القبورية، والكاشف لإلحادهم وأكاذيبهم، وقد ذكرته بطوله. 5 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً أكاذيب وحكايات القبورية: (إن قول النبهاني في شأن ما استشهد به من الشعر والأبيات .... دعوى كاذبة ليس عليها دليل سوى حكايات يرويها الغلاة، وهم بيت الكذب ..... وأكثر ما يدعو هؤلاء الغلاة إلى دعاء القبور والصالحين - ما يحكونه من أن فلاناً دعا فاستجيب له، واستغاث فأغيث، وفلان رد عليه بصره، وعند السدنة وعباد القبور من هذا شيء كثير، قد أورد منه النبهاني شيئاً كثيراً، جعله من قواعد مذهبه وأدلة شركه) . 6 - وقال رحمه الله أيضاً في تحقيق أن أهل الحديث والقبورية في طرفي النقيض: (وقد صان الله أهل الحديث وحفاظ السنة من الكذب والحمد لله، نعم! إن المتصوفة والمتشيخين هم بيت الكذب ومعدنه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1240 7 - وقال رحمه الله مبيناً أكاذيب حكاياتهم وقلة دينهم وعلمهم: (وإنما يصنع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه، وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف، ونحن لو روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبة عمن لا ينطق عن الهوى -لما جاز التمسك بها حتى تثبت بطرق أهل الحديث، فكيف بالمنقول عن غيره؟) . 8 - وقال رحمه الله في الكشف عن مخازي ابن جرجيس، أحد أئمة القبورية (1299هـ) ، مبيناً أنه نقل تلك الحكايات المكذوبة عمن لا خلاق لهم من الغلاة عباد القبور: (والجواب أن يقال: قد رأينا ما ساقه من الأدلة التي هي أوهن من بيت العنكبوت * ويا ليته قد كسا فمه لثام السكوت *؛ فإن ما ذكره ما بين حكايات مصنوعة * وأخبار موضوعة * وأحاديث ضعيفة لا مساس لها بالمقام * وآيات قرآنية قد صرفها بفهمه الفاسد بما هو بعيد عن مراد الملك العلام *. وقد افترى على العلماء في نسبته ذكرها إليهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1241 إذ لم يذكرها إلا بعض من لا خلاق له من الغلاة وعباد القبور) . 9 - وقال رحمه الله مبيناً أن القبورية أشد كذباً، وأعظم افتراء على الله ورسوله من الخوارج والروافض: (ولا ريب أن الروافض والخوارج لم يصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء: من الجهل والكذب على الله ورسوله وعلى الأمة) . 10 - وقال العلامة الخجندي (1379هـ) مبيناً دسائس الشياطين لإيقاع القبورية في الشرك، وتبديل اسم الشرك باسم التوسل، والتشفع، وتعظيم الصالحين، وبيان أن القبورية يكذبون في حكاياتهم المضلة: (وإن من أعظم مكائد الشيطان على ابن آدم قديماً وحديثاً، إدخال الشرك فيهم في قالب تعظيم الصالحين وتوقيرهم بتغيير اسمه بالتوسل، والتشفع، ونحوه. فالمشرك مشرك شاء أم أبى، والزنى زنى وإن سمي جماعاً، والخمر خمر وإن سمي شراباً، وكل معبود من دون الله فهو جبت وطاغوت، ويدخل فيه رءوس الضلال والكهان وسدنة الأوثان وعباد القبور وغيرهم بما يكذبون من الحكايات المضلة للجهال الموهمة: المقبور يقضي حاجة من توجه إليه وقصده، فيوقعهم في الشرك الأكبر وتوابعه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1242 11 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) مبيناً كذب القبورية، وأنه لا اعتماد على حكاياتهم الكاذبة: (باب فضائل الأعمال والأماكن والقبور، اتسع فيه الكذب والبهتان - بأمور، منها: قضاء حوائجهم عند القبور، والمستنجدين بهم، وعباد الكواكب ودعاة الشياطين: أنه استغاث بالقبر الفلاني فاستجيب له، وقضيت حاجته، وشفي مريضه وخيله، ويقولون: نحن نذهب بالفرس التي بها مغل إلى قبورهم - فتشفى عند قبورهم) . 12 - وقال رحمه الله: (فالمبتدعون هم إخوان الشياطين، لا يبالون بالكذب والافتراء ... {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأعراف: 112] ، و .... {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النساء: 50] ... ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1243 الجواب الثاني: أن قضاء الحوائج عند الاستغاثة بالموتى ليس لأجل الاستغاثة بالموتى، بل ذلك بمحض قدرة الله تعالى وتقديره المقدر بوقته، فيصادف ذلك الاستغاثة بالموتى، فيظن المستغيث أن المستغاث هو الذي قضى حاجته، فيعد ذلك من كرامته ويجعله دليلاً على كونه ولياً متصرفاً في الكون مغيثاً، ويهشون ويفرحون، ويرفعون الرايات إظهاراًَ لقدرة صاحب القبر. وقد صرح كثير من علماء الحنفية بهذا، وأجابوا بذلك عن حكاياتهم القبورية. الجواب الثالث: أن علماء الحنفية صرحوا في الجواب عن تلك الحكايات الشركية بأن كثيراً ما تقضى حاجات المستغيثين بالأموات، لا لأجل أنه استغاث بالمقبور، بل لأجل أن هذا المستغيث يكون مضطراً مكروباً فيدعو بحرقة وانكسار وذلة، فيستجيب الله تعالى له ويقضي حاجته، لصدق توجهه وتضرعه واضطراره وانكساره وذلته , ولكن الجاهل يظن أن للمقبور تأثيراً في إجابة تلك الدعوة وقضاء تلك الحاجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1244 الجواب الرابع: أن علماء الحنفية قد صرحوا في الجواب عن حكايات القبورية بأن الله تعالى كثيراً ما يستجيب دعاء الكفار والمشركين عند أصنامهم لاضطرارهم، وإظهار إنكسارهم، فيجيب الله تعالى دعاء المضطر، ولو دعا في الخانة والخمارة، والحمام، والسوق، بل قد يستجيب لمن يدعو عند الأوثان، فيظن الجاهل أن للمقبور تأثيراً في قضاء الحوائج واستجابة الدعاء. الجواب الخامس: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأنه كثيراً ما تقضى حوائج القبورية عند التجائهم إلى القبور وأهلها، ولكن لا لأجل أن للمقبور تأثيراً في ذلك، بل يحدث ذلك استدراجاً من الشياطين لهذا القبوري المشرك الذي يستغيث بالأموات، فتأتي الشياطين وتساعده في بعض حاجاته استدراجاً له، وازدياداً له في الإضلال والإغواء، بل قد تطيعه الشياطين فيقضون بعض حوائجه لما بينه وبينهم من الصلة والأخوة بسبب الشرك وعبادة غير الله تعالى من الاستغاثة بالأموات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1245 وكثيراً مما تتمثل له الشياطين في صورة صاحب القبر وتكلمه، فيرى أن القبر قد انشق وخرج منه المقبور، وهو يظن لأنه ذلك الولي فيعانقه ويكلمه، فيعد ذلك من كراماته، وهكذا تلعب الشياطين بالقبورية كما كانت تلعب بالكفار عبدة الأصنام. وقال الإمام صنع الله الحلبي المكي (1120هـ) : (وإذا قضى الله حاجة لهم نصبوا لمشائخهم رايات، وعدوا ذلك لهم كرامات، وهذا من زخارف الشيطان للإنسان، قال جل ذكره: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 36-37] ... ) . الجواب السادس: أنه قد يكون سبب كوني معقول لقضاء بعض حوائج القبورية عند بعض القبور، فقد يكون لبعض القبورية فرس مريض بمرض الإمساك الشديد والقبض المؤلم، بحيث لا يستطيع أن يتروث، فيذهب به صاحبه القبوري إلى بعض القبور التي يكون المقبور فيه كافراً أو فاجراً يعذب عذاباً شديداً، ويصيح صيحات مرتفعة مخيفة مهولة، فيسمعها ذلك الفرس، فيخاف خوفاً شديداً بحيث يسهل ويتروث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1246 من شدة الخوف، فيزول منه الإمساك فيتعافى، فيظن ذلك القبوري أن المقبور قد قضى حاجته وشفى فرسه، مع أن الفرس قد تعافى بسبب الإسهال الذي حدث له لأجل خوف شديد لما سمع من صراخ ذلك المقبور الذي كان يعذب في قبره. وفي ذلك يذكر شيخ القرآن الفنجفيري كلاماً عجيباً عن شيخ الإسلام لا ينتبه له إلا مثل شيخ الإسلام من الجهابذة والنحارير، يقول: (ويقولون: نحن نذهب بالفرس التي بها مغل إلى قبورهم فتشفى عند قبورهم، قال الحافظ [يعني شيخ الإسلام] فقلت لهم: هذا من أعظم الأدلة على كفرهم، وطلبت طائفة من سياس الخيل، فقلت: أنتم بالشام ومصر [إذا أصاب الخيل مغل أين تذهبون بها؟ فقالوا: في الشام] نذهب بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية كالعليقة والمنقية ونحوهما، وأما في مصر فنذهب بها إلى دير هناك للنصارى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1247 [ونذهب بها] إلى قبور الأشراف، وهم يظنون أن العبيديين شرفاء، لما أظهروا أنهم من أهل البيت، فقلت: هل تذهبون بها إلى قبور صالحي المسلمين مثل قبر الليث بن سعد، والشافعي، وابن القاسم، وغير هؤلاء؟ . فقالوا: لا. فقلت لأولئك: اسمعوا. إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار والمنافقين، وبينت لهم سبب ذلك. قلت: لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم، والبهائم تسمع أصواتهم، كما ثبت في الحديث الصحيح، فإذا سمعت ذلك فزعت، فبسبب الرعب الذي يحصل لها - تنحل بطونها فتروث، فإن الفزع يقتضي الإسهال، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1248 فيعجبون من ذلك) . الجواب السابع: إن علماء الحنفية قد صرحوا بأنه لو سلم صحة بعض تلك الحكايات فغاية ما فيها أن ذلك قد يكون سبباً لقضاء الحاجة، ولكن لا يلزم من ذلك جواز الاستغاثة بالأموات، والتضرع عند القبور، والالتجاء إلى أهلها لدفع الكربات وجلب المنافع؛ لأنه لا يجوز تناول كل سبب من الأسباب إلا ما هو مباح شرعاً منها؛ لأن الأسباب منها ما هو حرام، ومنها ما هو مباح، فلا يجوز الوصول إلى مقصود بسبب حرام. ولا ريب أن الاستغاثة بالأموات، والالتجاء إلى القبور وأهلها لدفع البليات وجلب المنافع، من الأسباب المحرمة في دين الله تعالى، فلا يجوز تناول هذا السبب أبداً؛ لأن الاستغاثة عبادة، بل مخ العبادة؛ فصرفها لغير الله شرك قطعاً، وكم من عبد دعا دعاء غير مباح فقضيت حاجته في ذلك الدعاء، وكان ذلك سبب هلاكه في الدنيا والآخرة، وكثير من الكفار والمشركين يدعون عند الأوثان فيستجاب لهم، وكثير من المقاصد تحصل بأسباب محرمة قطعاً كالسحر، والتكهن، وشهادة الزور، والفاحشة، والظلم، والسرقة، والخمر، بل الشرك والكفر قد يحصل بهما بعض المقاصد، فليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون مشروعا؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1249 فلا يجوز تعاطي الأسباب المحرمة لإنجاح المقاصد. قلت: هذا الجواب في غاية من الدقة، والتحقيق، والإنصاف، لأن من لا يفكر في الأسباب ولا يميز المباح منها عن المحرم منها، ويريد الوصول إلى المقاصد بأية وسيلة كانت - فهو من الملحدين الذين يقولون: ((الغاية تبرر الوسيلة)) . الجواب الثامن: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأنه لا يمكن إثبات شرع الله تعالى بمثل هذه الحكايات، فإن هذه الحكايات دائرة بين نقل عمن ليس قوله حجة من الحجج الشرعية؛ فلا يجوز إثبات الشرع بمثله؛ فإن أصحاب هذه الحكايات ليسوا من الأنبياء ولا الصحابة ولا الأئمة المجتهدين؛ فالدين لا يثبت بفعل أمثال أصحاب هذه الحكايات من العوام، والجهلة، والمتصوفة الغلاة. وبين قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله. وإنما المتبع في إثبات الأحكام والعبادات إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع أئمة السنة؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1250 وهو سبيل السابقين الأولين من هذه الأمة؛ فلا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصاً أو استنباطاً بحال أصلاً عند المسلمين. وإثبات الشرع بمثل هذه الحكايات إنما هو طريق اليهود والنصارى وأمثالهم ممن ينقلون عن غير الأنبياء؛ فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط شيء كثير. قلت: بعد هذا كله إن أصرت القبورية وتشبثوا بالخرافات والمنامات، وأقوال الغلاة، وتركوا نصوص الكتاب والسنة، ونبذوا أقوال أئمة السنة، وسلف هذه الأمة - يبقى الخلاف بين القبورية وبين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح، وكفى به خزياً مبيناً. الجواب التاسع: أن علماء الحنفية قد أجابوا عن تلك الأقوال التي يذكرها القبورية في كتبهم لتأييد قبوريتهم عن كثير ممن ينتمون إلى العلم والفقه والفضل والزهد - بأن بعض هذه الأقوال المنقولة عن هؤلاء ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ أو يصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1251 محذور فيه، فحرف النقل عنه. وبعضهم قد لا يريدون بلفظة التوسل الاستغاثة بالأموات القبورية، فحرفوا اصطلاحهم وأرادوا من التوسل الاستغاثة بالأموات. قلت: الحاصل أن هذه الأقوال والحكايات تطرقت إليها عدة احتمالات أخرجتها عن حيز الاستدلال، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال؛ فلا يصح للقبورية أن يستدلوا بتلك الأقوال التي نقلوها عن بعض من ينتمي إلى العلم والصلاح والزهد - على جواز الاستغاثة بغير الله والالتجاء إلى القبور وأصحابها بوجه من الوجوه، ولله الحمد. الجواب العاشر: أن علماء الحنفية صرحوا بأن كثيراً ممن ينتمون إلى العلم والفضل والصلاح والزهد، قد وقعوا في الشرك بالله، والاستغاثة بالأموات، وارتكبوا الأفعال والأقوال الشركية، وكانوا يدعون الناس إلى الشرك والاستغاثة بالأموات، بأفعالهم وأقوالهم الشركية، وهؤلاء القبورية إنما ارتكبوا الأفعال الشركية، وقالوا تلك الأقوال القبورية - لأجل عادة العوام التي جروا عليها، لا لأجل أن لهم دليلاً شرعياً على ذلك، ولكن لما كان خطؤهم عن حسن قصد ونية صالحة، ونبهوا على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1252 خطئهم - انتبهوا ورجعوا عن تلك الشركيات دون عناد ولا إصرار. وليس هذا احتمالاً عقلياً ذهنياً فحسب، بل قد وقع هذا فعلاً، فقد كان بعض الشيوخ الذين لهم فضل وعلم وزهد - إذا نزل به أمر خطا إلى جهة قبر الشيخ عبد القادر الجيلاني خطوات معدودة، واستغاث به - كعادة كثير من الناس، ولما نبه على خطئه وبين له أن هذا من الشرك بالله عز وجل - انتبه وعلم أن ما كان عليه لم يكن من دين الإسلام، بل مشابهة لعباد الأصنام. ولهذا ما بينت مسألة التوحيد قط لشخص يعرف أصل الإسلام - إلا تفطن لها، واعترف وقال جهاراً دون إسرار: ((إن هذا أصل دين الإسلام)) . وكان بعض أكابر الشيوخ الذين كانوا يستغيثون بالأموات عند الكربات، لما بينت له مسألة التوحيد، وأن الاستغاثة بالأموات عند الكربات إشراك برب البريات -تاب وكان يقول: هذه أعظم ما بين لنا، لعلمه أن هذا أصل دين الإسلام. وكان هذا الشيخ وأمثاله من ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه أعظم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1253 لأنهم إنما كانوا يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فكانوا يدعونه دعاء المضطر. قلت: هذا الجواب في غاية من الدقة والتحقيق والإتقان، فقد رأيت كثيرا ممن لقب بشيخ القرآن، وشيخ الحديث، وجامع المعقول والمنقول، ومن له اطلاع واسع على المنطق والفلسفة وعلم الكلام، ومن له خبرة تامة على دقائق علم الفقه والأصول - من أعظم الناس إشراكاً بالله، واستغاثة بالأموات عند الكربات، وذلك جرياً منهم على عادات وعوائد وتقاليد عاشوا عليها، فصاروا مع علومهم الواسعة، كالعوام الطغام * وأضل من الأنعام *. ثم من كان في قلبه إنابة إلى الله وإخبات، وإقبال على الحق، ولم يكن معانداً ولا مكابراً، وكان خطؤه عن حسن قصد ونية صالحة - إذا نبه على خطئه وبين له أن هذا إشراك بالله تعالى - انتبه ورجع إلى التوحيد الخالص فوراً بدون إصرار ولا عناد. الحاصل: أنه لا يجوز التمسك بزلات العلماء وأخطائهم الاجتهادية وعاداتهم الجاهلية وتقاليدهم العامية، فما نقل عنهم من الأقوال الشركية، فهو من هذا القبيل، فلا يجوز به التمسك والاستدلال * بحال من الأحوال *. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1254 الشبهة الثالثة: هي ما تشبثت به القبورية من نصوص الكتاب والسنة، التي تدل على جواز استغاثة بعض الناس ببعضهم، والاستمداد والاستنصار والاستعانة فيما تحت الأسباب، وهي نصوص كثيرة لا تعد ولا تحصى. أما من كتاب الله تعالى: فكقوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] . وقوله تعالى عن ذي القرنين: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95] . وقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] . وقوله سبحانه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] . وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وغير ذلك من الآيات الكريمات. وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1255 وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] فقد استغاث يوسف [عليه السلام] بالمخلوق. وغيرها من الآيات الكريمات. وأما من السنة النبوية: فكحديث الشفاعة الطويل: « ((فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم)) » . وفي لفظ: « ((يا محمد ارفع رأسك واشفع تشفع، وسل تعطه)) » . وفي لفظ: « ((يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع)) » . وأحاديث ترغيب المسلم في قضاء حاجة أخيه، كحديث: « ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1256 «عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة)) » . الحديث. وحديث: « ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) » . الحديث. وغير ذلك. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة التي تتضمن عدة شبهات: أن القبورية في التشبث بهذه الآيات والأحاديث - محرفون الكلم عن مواضعه، وواضعون لنصوص الكتاب والسنة في غير موضعها، وموردون للأدلة خارج محل النزاع. فهم في هذا الصنيع ملبسون * مدلسون * متلاعبون بالنصوص * تلاعب اللصوص *؛ لأن هذه النصوص إنما تدل على جواز مناصرة بعض الناس بعضاً، واستغاثة بعضهم ببعض فيما يقدرون عليه، وهو المعني بما تحت الأسباب *. ولا تدل إطلاقاً بحال من الأحوال على جواز استغاثة الناس بعضهم ببعض فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهو المعني بما فوق الأسباب *. ولكن القبورية المحرفين الملبسين يستدلون بنصوص الاستغاثة المباحة على الاستغاثة المحرمة الشركية * كدأب أهل التحريف من اليهود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1257 والمتفلسفة المتكلمة الجهمية * ولعل بعضهم لجهله لم يتصور محل النزاع * ولا عرف منار البحث والدفاع * فإن طلب الدعاء من الأحياء مسألة، ونداء غير الله تعالى أمواتاًَ وأحياءً بما هو من خصائص الألوهية مسألة أخرى، وبين المسألتين بون بعيد * وفرق ما عليه من مزيد *. فهذا النوعان من الاستغاثة الاستعانة والاستنصار والاستمداد، أمران متضادان * ومسألتان متباينتان * وهما حقيقتان مختلفتان * ومفهومان متغايران *. لكل واحد حكم مغاير لحكم الآخر، فلا يجوز الخلط بين الحكمين حتى لا يكون تلبيساً. فالنوع الأول جائز بلا ظنون * لا بد منه، ولا ينكره إلا مجنون * لكنه خارج عن محل النزاع. وأما النوع الثاني فهو محل النزاع وهو لا يجوز؛ لأنه إشراك بالله عز وجل، ومتضمن لعبادة غير الله سبحانه وتعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1258 قلت: هذا الذي ذكره علماء الحنفية في الفرق بين النوعين من الاستغاثة - حقيقة قد اعترف بها بعض كبار أئمة القبورية، أمثال ابن جرجيس (1299هـ) ، ((وكفى الله المؤمنين القتال)) . وهذا التحقيق في غاية من الإتقان والتدقيق * فهو بالقبول حقيق *. وأول من قاله فيما أعلم هو شيخ الإسلام. الشبهة الرابعة: استدلالهم بحديث الاستسقاء. وفيه: «أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ... ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب ... ، ثم قال: يا رسول الله: هلكت الأموال، وانقطعت السبيل، فادع الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا ..... )) ثلاثاً» . وفي لفظ: «أن رجلاً دخل يوم الجمعة ... فقال: يا رسول الله هلكت المواشي، وانقطعت السبيل فادع الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال:» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1259 « ((اللهم اسقنا ..... ثلاثاً)) » . والجواب: أن القبورية باستدلالهم بهذا الحديث على جواز الاستغاثة بالأموات - ملبسون، ومحرفون الكلم عن مواضعه؛ فإن هذا الحديث لا يدل على جواز الاستغاثة بالغائب والميت، كما لا يدل على طلب ما لا يقدر عليه إلا الله؛ بل يدل على جواز طلب الدعاء من الحي الحاضر، وهذا مما لا كلام فيه؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو لهم. وكذلك يجوز الآن أن تأتي رجلاً صالحاً فتطلب منه الدعاء، بل يجوز للأعلى أن يطلبه من الأدنى؛ وهذا الحديث في الاستسقاء مثال لذلك؛ حيث طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله عز وجل لهم ليغيثهم ويسقيهم. الشبهة الخامسة: وهي استدلال القبورية بقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] . ولهم عجائب من الخزعبلات وغرائب من المخازي في الاستدلال بهذه الآية على جواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات، فقد قال ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1260 برجيس (1299هـ) . (وأمرنا الله بالاستعانة بالأعراض قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} . ولم يقل: استعينوا بالله .... ) . ونقل النبهاني (1350هـ) إمام القبورية النبهانية، عن عبد الغني النابلسي (1143هـ) إمام القبورية النابلسية. من قال: لا ينبغي الاستعانة بغير الله فقد كفر، لمخالفته نص الكتاب في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} .... وقال القضاعي إمام القبورية القضاعية (1376هـ) ، وتبعه علوي المالكي - أحد أئمة قبورية هذا العصر -: (وكيف تنكر الاستعانة بغيره تعالى وقد جاء الأمر في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} . . .) والجواب: أن القبورية قد وصلت في التمويه، والتخريف * والتلبيس، والتحريف * إلى حد لا يتصور بالبال * كأنهم تلاميذ اليهود الضلال *؛ فإن هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بجواز الاستغاثة بالأموات عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1261 الكربات * والاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله رب البريات *. بل هذه الآية من أقوى الأدلة، وأعظم البراهين، على وجوب الالتجاء إلى الله عز وجل والاستغاثة به عند الملمات * والتوسل إليه تعالى بالأعمال الصالحات * والصبر والصلاة من أعظم الأعمال الصالحات * التي يتوسل بها إلى الله عند الكربات *. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر توسل إلى الله تعالى بالصلاة، وقد صرح المفسرون من علماء الحنفية في بيان معنى هذه الآية بأن الله تعالى لما أمر اليهود بترك الضلال والالتزام بالشرائع، وكان ذلك شاقاً عليهم - عالج مرضهم بهذا الخطاب، فأمرهم بالاستعانة بالصبر بأن يصبروا؛ لما فيه من كسر الشهوة، وتصفية النفوس، الموجبين للانقطاع إلى الله تعالى، ولأن الصبر موجب لإجابة الدعاء. وأما الاستعانة بالصلاة - فلما فيها من أنواع العبادة مما يقرب إلى الله تعالى قرباً يقتضي الفوز بالمطلوب * والعروج إلى المحبوب *. وناهيك عن عبادة تكرر في اليوم والليلة خمس مرات، يناجي فيها العبد علام الغيوب * ويغسل بها العاصي درن العيوب *. وقد روى حذيفة رضي الله عنه، «أنه صلى الله عليه وسلم: إذا حزبه أمر صلى» ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1262 وروى أحمد: «أنه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة» ، إلى آخر ما قاله علماء الحنفية في تفسير هذه الآية. قلت: قد اعترف بهذه الحقيقة كثير من القبورية أيضاً. وقال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) ، وحفيده العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في معنى هذه الآية، واللفظ للأول: (واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية، بالصبر على ما يفعل بكم لكي تصلوا إلى مقام الرضا، والصلاة التي هي المراقبة وحضور القلب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1263 وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في بيان كشف سفاهة ابن جرجيس الذي استدل بهذه الآية على جواز الاستعانة بغير الله: (ثم تكلم العراقي بكلام هو محض هذيان * يظهر ذلك لأقل الصبيان * ... ؛ فما أدري ما أقول فيه؟ ! * وأي عبارة تصف ما فيه من الجهل والتمويه *) . ثم ذكر رحمه الله كلاماً عن المفسرين في تفسير هذه الآية ثم قال: (فتبين بما ذكرنا أن الآية ليست مما نحن فيه؛ إذ لم يرد سبحانه بالأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة - نداءهما وطلب الحوائج منهما، وذلك ظاهر، بل الآية من قبيل قوله تعالى {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] ، وقد سبق أن المراد بها الأعمال الصالحة) . الشبهة السادسة: استدلال القبورية بقصة هاجر رضي الله عنها. والقصة: أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما ترك ابنه إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وزوجه هاجر رضي الله عنها بوادي مكة قبل أن يبني فيها الكعبة، وقبل ظهور ماء زمزم، ولم يكن بمكة يومئذ أحد ولا ماء، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1264 ماء، فجعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش إسماعيل عليه السلام، وجعل يتمرغ من شدة العطش، فوجدت هاجر الصفا أقرب جبل إليها، فقامت عليها لترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا ثم أتت المروة، فقامت عليها فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبعاً، ( «فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً..؛ فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء ... ؛ فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله» ... ) الحديث. وفي لفظ: ( ... «فإذا هي بصوت فقالت: أغث إن كان عندك خير. فإذا جبريل» ... ) الحديث. قلت: هذه القصة أقوى الأدلة على الإطلاق للقبورية فيما أعلم، فإن فيها تنصيصاً على الاستغاثة بالغائب عن البصر * وعلى طلب الغوث والمدد من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1265 الغائب عن النظر *. ولا أعلم للقبورية دليلاً يكون في القوة والتنصيص مثل هذه القصة، ثم يزيد هذا الدليل قوة على قوة أن البخاري رحمه الله رواه في صحيحه. ولذا قال ابن جرجيس هاشاً باشاً في صدد استدلاله بهذه القصة، على جواز الاستغاثة بالأموات * وطلب الغوث والمدد منهم عند الكربات *: (فلو كان طلب الغوث من غير الله شركاً لما جاز لها استعماله، ولما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولما نقله الصحابة من بعده، [ولما] ذكره المحدثون، [و] لا سيما البخاري الذي أجمعت الأمة على أن ما بعد كتاب الله أصح من كتابه. فإن هذا الغائب الذي طلبت منه الغوث - وإن كان في الحقيقة هو ملك - لكن في حال غيبته محتمل أن يكون شيطاناً، ومحتمل أن يكون جنياً، ومحتمل أن يكون ملكاً، ومحتمل أن يكون إنساناً. والمانعون لا يجوزون الاستغاثة بالغائب مطلقاً، لا بنبي مرسل، ولا ملك مقرب، كالميت، كما صرحوا به في مواضع، فلو يعلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محذوراً - لوجب التنبيه عليه، خصوصاً إذا كان شركاً أكبر مخرجاً من الملة) . قلت: هذا هو كان تقرير القبورية للاستدلال بهذه القصة على جواز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1266 الاستغاثة بالأموات، ولكن سرعان ما ينتبه من دقق النظر في هذه القصة إلى أن القبورية في استدلالهم بهذه القصة على جواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات * لمن أعظم أصحاب التمويهات والتلبيسات * كما سيظهر الآن الجواب * الذي يقطع دابر أهل الارتياب *: الجواب: أن هذه القصة لا صلة لها بالاستغاثة بالغائب الذي لا يقدر ولا ينفع * أو الميت الذي لا يعلم ولا يرى ولا يسمع * كما لا علاقة لها بطلب ما لا يقدر عليه إلا الله. بل تدل على جواز الطلب من الحي الحاضر فيما يقدر عليه، فإن هاجر قد سمعت جبريل الحي الحاضر، فطلبت منه ما كان يقدر عليه وإن لم تكن تراه، ومن ظن غير ذلك فقد افترى على أمنا هاجر، وتقول على أهل بيت النبوة * وبهت أهل الصفوة والفتوة *. وأتى بتمويه وتحريف * وجاء بتلبيس وتخريف *. قال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وابن أخيه شكري الآلوسي (1342هـ) ، واللفظ للأول: (إن كلامنا فيمن يستغاث به عند إلمام ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، أو لسؤال ما لا يعطيه ويمنعه إلا الله سبحانه. وأما فيما عدا ذلك مما يجري فيه التعاون والتعاضد بين الناس، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1267 واستغاثة بعضهم ببعض - فهذا شيء لا نمنعه ولا ننكره. كما قال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] [بل] نعد منعه جنوناً، كما نعد إباحة ما لا يقدر عليه إلا الله شركاً وضلالاً) . قلت: هذا جواب عام عن هذه القصة وعن كل ما استدل به القبورية من هذا القبيل. وأما الجواب الخاص عن هذه القصة - فهو ما يلي: قال العلامة شكري الآلوسي مبيناً مخازي ابن جرجيس في التشبث بهذه القصة: والجواب عن سخافة هذا العراقي أن يقال: (إن هذه القصة من أقوى الدلائل على أن سيدنا إبراهيم وآل بيته صلى الله تعالى عليه وعليهم أجمعين - قد بلغوا من الوثوق بالله والالتجاء إليه - ما لا يمكن بيانه، ولا يسعنا شرحه ........ وقد ترك ولده الذي هو من أعز الناس عليه، مع أمه، في أرض قفراء غبراء، لا ماء فيها ولا مرعى، ولا أنيس ولا جليس، مع شيء نزر من التمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1268 والماء، ثم انصرف إلى أهله بالشام، ثقة بأن الله تعالى سيخلفه على أهله، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون ..... وانظر إلى حسن ظن أهل بيته بالله تعالى؛ فإن هاجر لما رأت منه العزيمة على السفر إلى دياره - قالت له: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، حتى قال لها: إن ذلك بأمر الله، فقالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت؛ علماً منها أنه سبحانه خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، وبقيت صابرة على ما تكابده من قضاء الله وقدره، على ما تراه من حال ولدها، وشدة ما يقاسيه من الجوع والعطش، وهو يومئذ ابن سنتين، حتى أشرف على الهلاك، وجعل يشهق ويعلو صوته وينخفض، كالذي ينازع الموت، فقامت تسعى سعي الإنسان الجهود، وتنتظر فرج الله، فسعت سبع مرات، وهي تتشوف بريد الفرج. وكانت كل مرة تتفقد إسماعيل وتنظر ما حدث له بعدها، فتشاهده في حال الموت .... فلما أشرفت على المروة في المرة الأخيرة - سمعت صوتاً وأيقنت بحصول ما كانت ترجوه من الله تعالى، وتيقنت أنه من رسل رب الأرض والسماء، قالت: قد أسمعت * وتحققت الذي قد أزمعت * وعرفت أنك حاضر * وإن لم ترمقك النواضر *. فأغثني إن كان عندك خير * فقد لحقنا الجوع والعطش، والضر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1269 والضير *. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحثه بعقبه حتى ظهر الماء بإذن الحكيم الأحكم .... فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هنا بيتاً لله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله .... وفي حديث علي عند الطبراني بإسناد حسن: ((فناداها جبريل فقال: من أنت؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم، قال: فإلى من وكلكما؟ قالت: إلى الله. قال: وكلكما إلى كاف)) . فقد تبين أن هاجر لم تطلب إلا ممن هو حاضر محسوس، ليس ما طلبته مما اختص طلبه بالله سبحانه، فإنها طلبت من صاحب الصوت ما يسد جوعتها، ويروي غلتها، كما يقول المنقطع في الطريق العادم الزاد والماء - إذا مر عليه أحد أو أحس به: أغثني بما عندك من ماء وطعام * وأعطني مما تفضل الله به عليك من الإنعام *. أفيقال لهذا: إنه طلب ما لا يقوم عليه إلا الله * والتجأ في شدته إلى من سواه *؟ . وفي زعم هذا العراقي: أن هاجر رضي الله عنها طلبت من غائب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1270 مخلوق شيئاً منع المانعون طلبه من غيره سبحانه، حتى احتمل عنده أن يكون المستغاث به المطلوب منه شيطاناً، والعياذ بالله تعالى. فانظر إلى هذا الجهل الوخيم * والتجاسر العظيم * حتى نسب ما نسب إلى بيت النبوة * وأهل الصفوة والفتوة * فقاتل الله أهل الكفر والضلال * كيف لعب الشيطان بعقولهم حتى أوردهم المهالك والأهوال *؟ . ولا بدع من هذا العراقي أن يصدر منه ما صدر * فقد بلغ به الكفر والجهل والوقاحة إلى حد لا يمكن أن يذكر *. نسأل الله تعالى العفو والعافية * وقلوباً عن أكدار الجهل صافية *) . الشبهة السابعة: تشبثت القبورية بحديث ابن مسعود مرفوعاً: ( «وإذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة، فليناد: يا عباد الله احبسوا، يا عباد الله احبسوا، فإن لله عز وجل في الأرض حاضراً سيحبسه» ) . قلت: إن القبورية يعدون هذا الحديث من أقوى حججهم في الاستغاثة بالأموات عند الكربات، ويزعمون أنه يفيد الاستغاثة برجال الغيب، وأن هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1271 مجرب، وأن المانعين لا يرون الاستغاثة بالغائب، كالميت، سواء كان نبياً أو ملكاً أو جنياً. ولعل القبورية بنوا على هذه الأسطورة المصنوعة أخلوقتين حول أحمد بن علوان، وعمر بن حمدان. الجواب: أن علماء الحنفية قد أجابوا عن هذه الشبهة بجوابين اثنين: الجواب الأول: أن هذا الحديث غير ثابت، فلا يصح للاستدلال * إلا عند الأغمار الضلال * وذلك لوجهين مهمين: الوجه الأول: أن في إسناده معروف بن حسان، وهو ضعيف، منكر الحديث. والوجه الثاني: أن إسناده منقطع، فالحديث ضعيف ساقط عن حيز الاحتجاج. وأما الجواب الثاني: فسيأتي تقريره وتحقيقه بعد الجواب الأول عن الشبهة الآتية إن شاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1272 الله تعالى. الشبهة الثامنة: تشبثت القبورية بحديث عتبة بن غزوان مرفوعاً: ( «إذا أضل أحدكم شيئاً، أو أراد عوناً، وهو بأرض ليس بها أنيس، فليقل: يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني، فإن لله عباداً لا نراهم» ) . قلت: هذا الحديث كسابقه أيضاً من أقوى حجج القبورية على الاستغاثة بالأموات عند الكربات، ويزعمون أن هذا مجرب محقق، وأن المسافرين يحتاجون إليه، وأن فيه حفظاً للأمة. ويقولون: إن في هذا الحديث تنصيصاً على نداء الغائب، والمانعون لا يجوزون نداء الغائب مطلقاً. الجواب: إن علماء الحنفية قد أجابوا عن هذا الحديث بجوابين: الجواب الأول: أن هذا الحديث إسناده منقطع، فهو ضعيف لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1273 يصلح للاحتجاج، والاستناد * ولا سيما باب الاعتقاد * وأما الجواب الثاني: - وهو الجواب عن الحديث السابق أيضاً -: فهو أن القبورية في الاستدلال على مثل هذه الأحاديث - بعد تسليم صحتها - محرفون للكلم عن مواضعه؛ لأن مثل هذه الأحاديث لا علاقة لها بالاستغاثة بالأحياء الغائبين * ولا صلة لها بطلب المدد من الأموات عند الكربات، والاستنجاد بالمقبورين * بل غاية ما فيها أنها تدل على جواز الطلب من الحي الحاضر فيما يقدر عليه. قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في الكشف عن تمويهات ابن جرجيس وتلبيساته في التشبث بهذين الحديثين: (والجواب عن هذا هو الجواب عن سابقه، فإنه على نمطه، فإن ما يفيده الحديث -[هو] نداء حاضر، كنداء زيد عمراً مثلاً ليمسك دابته، أو ليرجعها، أو ليناوله ماء، أو طعاماً، أو نحو ذلك، وهذا مما لا نزاع فيه. غاية ما في الباب أن عمراً مثلاً محسوس، وهؤلاء لا يرون، لأنهم إما مسلمو الجن، أو ملائكة موكلون؛ لا نداء لأجل شيء لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وأين هذا من الاستغاثة بأصحاب القبور من الأولياء والمشايخ؟ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1274 وكون المراد بعباد الله غير من ذكر - كما زعم بعض المتصوفة: أنهم ((رجال الغيب)) ، أو أنهم كذا وكذا - مردود، بل هو من الخرافات، والعياذ بالله تعالى. ومثله: زعم وجود الأوتاد، والأقطاب، والأربعين، وما أشبه ذلك من الهذيان * والأسماء التي لا حقائق لها في العيان * بل هي أشبه شيء بالعنقاء * وثور السماء * ضحك الشيطان بها على عقولهم السخيفة * وآرائهم الضعيفة *. والحكايات التي أوردها العراقي لا تفيد شيئاً أيضاً لما قدمناه .... وأما قوله: إن المانع لا يجوز نداء الغائب .... إلخ -فمردود أيضاً بأن هؤلاء العباد ليسوا بغائبين، وعدم رؤيتهم لا يستلزم غيبتهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1275 فإنا لا نرى الحفظة، ومع ذلك فهم حاضرون ... وقوله: ثم ما يدريك أن هذا الغائب [شيطان] إلخ - فيه من الجهل والخبط ما يعجز القلم عن ذكره، كيف يكون شيطاناً وقد خلق الشيطان للإفساد، لا للإصلاح، وللتفرقة لا للإجتماع، ثم إن في هذا الحديث إضافة العباد إلى الله، وقد قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42، والإسراء: 65] ، وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً، ولا يضاف إليه إلا الطيب، يقال للكعبة: ((بيت الله)) لما فيه من الهدى والبركة ما لا يمكن بسطه، وكذلك المساجد، ولا يضاف إليه البيوت المستقذرة، مع أن لله ما في السماوات وما في الأرض، فلا يقال للشياطين: ((عباد الله)) بهذا المعنى في مثل هذا المقام) . وللإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيخ محمد المظفري كلام يؤيد ما ذكره الآلوسي. الشبهة التاسعة: استدلال القبورية بأسطورتين وثنيتين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1276 الأولى: حديث مفتعل مصنوع: *: ( «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أهل القبور» ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1277 والثانية: حديث مختلق موضوع *: (( «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور» )) . الجواب الأول: أنهما من الأساطير المفتعلة الموضوعة * والروايات المختلقة المصنوعة * التي وضعها القبورية أشباه عبدة الأصنام * الجهلة الطغام الذين هم أضل من الأنعام *. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1278 والجواب الثاني: أنهما مع كونهما مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مناقضة لدين الإسلام * وهما مما أوقع عباد القبور في الشرك الذي كان عليه عباد الأصنام *. الشبهة العاشرة: تشبثت القبورية بحديث وثني: ( «لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه» .... ) . الجواب: أن علماء الحنفية قد أجابوا عن هذه الأخلوقة بأجوبة ثلاثة: الجواب الأول: أن هذه الأسطورة من المكذوبات المختلقات * والمفتعلات الموضوعات * التي وضعها المقابرية أشباه عباد الأصنام * وهي مناقضة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1279 لدين الإسلام *. الجواب الثاني: أن علماء الحنفية قد صرحوا في الجواب عن هذه الخرافة الوثنية * والأسطورة القبورية الشركية * بأنها مناقضة لدين الإسلام * ومناصرة لدين عباد الأصنام * فلقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل لقتل من أحسن ظنه بالأحجار والأشجار *. فعباد القبور لهم أسوة بعباد الأصنام، وفي ذلك نكال للأشرار وعبرة لأولي الأبصار *. الجواب الثالث: ما ذكره العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (إنك تجد كثيراً من هؤلاء الذين يستغيثون عند قبر نبي أو غيره - كل منهم قد اتخذ وثناً أحسن به الظن وأساء الظن بآخر، وكل منهم يزعم أن قبره يستجاب عنده، ولا يستجاب عند غيره، فمن المحال إصابتهم جميعاً، وموافقة بعضهم دون بعض تحكم وترجيح بلا مرجح، والتدين بدينهم جميعاً جمع بين الأضداد؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1280 فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثيرهم فيما يزعمون بقدر إقبالهم على وثنهم، وانصرافهم عن غيره، وموافقتهم جميعاً فيما يثبتونه دون ما ينفونه - يضعف التأثير على زعمهم، فإن الواحد إذا أحسن الظن بالإجابة عند هذا وهذا وهذا - لم يكن تأثيره مثل تأثير حسن الظن بواحد دون آخر، وهذه كلها من خصائص الأوثان) . الشبهة الحادية عشرة: شبهة الواسطة: ولها صورتان عند القبورية قديماً، وحديثاً: الأولى: صورة فلسفية منطقية كلامية. والثانية: صورة أمية عامية عادية. أما صورة هذه الواسطة صورة فلسفية منطقية كلامية - فتقريرها: ما ذكره كثير من القبورية المتفلسفة الكلامية، كالرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ) ، والتفتازاني فيلسوف الماتريدية (792هـ) ، والنبهاني (1350هـ) ، والكوثري (1371هـ) : أن النفوس التي فارقت أبدانها أقوى من هذه النفوس المتعلقة بالأبدان من بعض الوجوه؛ لأنها لما فارقت أبدانها - زال عنها الغطاء والوطاء، وانكشف لها عالم الغيب، فالإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوي النفس كامل الجوهر شديد التأثير، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1281 ووقف عند قبره ساعة، وتأثرت نفسه من تلك التربة - حصل لنفس هذا الزائر تعلق بتلك التربة، وقد عرفت أن لنفس ذلك الميت تعلقاًَ بتلك التربة أيضاً، فحينئذ يحصل لنفس الحي ولنفس الميت ملاقاة بسبب اجتماعهما على تلك التربة، فصارت هاتان النفسان شبيهتين بمرآتين صقيلتين وضعتا بحيث ينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى الأخرى، وبهذا السبب ينعكس النور من نفس الميت المزور إلى نفس هذا الحي الزائر، وبهذا الطريق تصير تلك الزيارة سبباً لحصول المنفعة الكبرى، فهذا هو السبب الأصلي في شرعية الزيارة، ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع الملمات. ولأجل هذه الواسطة الفلسفية قال الرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ) : (وأيضاً سمعت: أن أصحاب أرسطا طاليس كلما أشكل عليهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1282 بحث موضوع - ذهبوا إلى قبره وبحثوا في تلك المسألة، فكانت المسألة تنفتح، والإشكال يزول) . هكذا يرى القبورية حصول المدد من الأموات ووصول الفيوضات من قبورهم إلى المستغيثين بهذه الواسطة الفلسفية. وأما الصورة الأمية العامية العادية للواسطة - فتقريرها عند القبورية ما ذكروه للاستدلال على جواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات، بل على وجوبها: من أن الأنبياء عليهم السلام والأولياء، واسطة في العون والمدد والإغاثة بين الله وبين المكروبين المضطرين، لعلو شأنهم، ورفيع منزلتهم عند الله تعالى، وأن المكروب المستغيث يرى نفسه ملطخاً بالذنوب، فهو بعيد عن الله تعالى لا يصل إليه إلا بواسطة أحبابه من الأولياء الذين يشفعون لهم عند الله تعالى، وقاسوا رب العباد على ملوك البلاد، وقاسوا الأنبياء والأولياء على الوزراء والأمراء * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1283 فقالوا: كما أنه لا يمكن للرعايا الوصول إلى الملوك إلا بواسطة الوزراء والأمراء * كذلك لا يمكن الوصول إلى الله لإنجاح الحوائج إلا بواسطة الأنبياء والأولياء *. وهذه الشبهة من أعظم براهين القبورية العقلية وأشهرها، وعامة القبورية يتشبثون بها قديماً وحديثاً، حتى إخوان الصفا من القرامطة الباطنية. واختلقوا استناداً إلى هذه الشبهة أساطير كثيرة، منها أخلوقة السلطان الحنفي. وقال النبهاني (1350هـ) في تقرير الواسطة العادية وشفاعتهم الشركية: (ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم له عند الله تعالى قدر علي ومرتبة رفيعة وجاه عظيم، وفي العادة: أن من كان له عند الشخص قدر بحيث إنه إذا استشفع عنده قبل شفاعته) . وقال: (فالمستغيث على هذا هو الذي يدعو الله تعالى، ويجعل واسطة القبول عنده عز وجل نبيه الأعظم، وحبيبه الأكرم صلى الله عليه وسلم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1284 وقال: فما الذي يمنع الاستغاثة بالأنبياء وجعلهم واسطة بين العباد وبينه عز وجل ووسيلة إلى قضاء حوائجهم الدنيوية والأخروية. ويحسن أن أسوق بعض نصوص أئمة القبورية في تقرير الصورة الأمية العامية العادية للواسطة: 1 - قال اليافعي (768هـ) : 2 - ثم القباني (1157هـ) : (قد جرت العادة أن من له حاجة قد يتوسل ذلك الوجيه بأوجه إلى من يراد منه قضاء الحاجة؛ كما يتوسل الإنسان من الرعية بالأمير، والأمير يتوسل بالوزير، والوزير يشفع عند السلطان في قضاء حاجة ذلك الإنسان، فكذلك نحن نتوسل إلى اله الكريم بنبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم، وقد نتوسل بالأولياء في نادر من الأوقات في قضاء بعض الحاجات، والأولياء يتوسلون بالنبي الكريم فيشفع عند الله عز وجل فيسمع سبحانه شفاعته ويقبل) . 3 - وقال الحمامي (1168هـ) في بيان تقرير هذه الواسطة العامية العادية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1285 (وكل ما في الأمر أن المتوسل يرى نفسه ملطخاً بقاذورات المعاصي، أبعدته الغفلات عنه تعالى أيما إبعاد، فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه، وقضاء حاجاته [إن دعا الله مباشرة] .... لأجل هذا يتقدم المتوسل إليه تعالى بأحبابه الذين لا يعرفون إلا طاعته، مبتهلاً إليه بجاههم عنده، وحرمتهم لديه: أن يقضي له حاجته لأجل هؤلاء الأحباب الذين عودهم تعالى، وإذا كان هذا هو السر في التوسل - فلا أثر إذن فيه لحياة المتوسل بهم أو موتهم؛ فإنهم أحباب ربنا تعالى على أي حال كانوا .... أحياء كانوا أم أمواتاً) . 4 - ولمحمد علوي المالكي - أحد المشاهير المناضلين عن القبورية - تلبيس عجيب في التشبث بشبهة الواسطة حيث يقول: (لابد من الواسطة، وليس كل من اتخذ بينه وبين الله واسطة يكون مشركاً، وإلا لكان البشر كلهم مشركين؛ لأن أمورهم جميعاً تنبني على الواسطة؛ فجبريل واسطة للنبي صلى الله عليه وسلم في تلقي القرآن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واسطة للصحابة رضي الله عنهم، فكانوا يفزعون إليه في الشدائد ويتوسلون به إلى الله، ويجوز وصف أي شخص عادي بأنه فرج الكربة، وقضى الحاجة، أي بالواسطة، فكيف بالنبي العظيم الكريم، أشرف الكونين، وسيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1286 الثقلين، وأفضل خلق الله) . 5 - وقال إخوان الصفا - من القرامطة الباطنية، الوثنية، القبورية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1287 إن الحكماء لما عرفوا أن للعالم صانعاً - طلبوا القربة إليه، والتوسل بصفوة خلقه، وطلبوا الزلفى لديه بتعظيمهم لهم كما يفعل أبناء الدنيا من القربة إلى ملوكهم بالتوسل إليهم بأقاربهم وندمائهم ووزرائهم، وكتابهم، وخواصهم، وقوادهم؛ فهكذا وعلى هذا المثال فعل الحكماء. اعلم يا أخي، أن أهل المعارف الذين يعرفون الله حق معرفته وهم أولياء الله - فهم لا يتوسلون إليه بأحد غيره، وأما من قصر فهمه ومعرفته - فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه، ورسله، والأئمة، وأوصيائهم، وأولياء الله، فبهم يتقرب إلى الله، وبتعظيمهم، والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم، والدعاء، والصلاة، والصيام عند قبورهم، طلبا للقربة إلى الله والزلفى لديه. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بعدة أجوبة، وجعلوها هباء منثورا. الجواب الأول: أن القبورية في تشبثهم بكلمة ((الواسطة)) ملبسون ومدلسون؛ حيث إنهم خلطوا الباطل بالحق؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1288 فإن كون الأنبياء عليهم السلام واسطة بين الله وبين سائر الناس، يحتمل معنى حقاً ومعنى باطلاً؛ فمن أراد أنهم واسطة في تبليغ أوامر الله ونواهيه، وبيان دينه وشرحه وتوضيح ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه - فهذا معنى حق وصواب؛ فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه، وماذا أمر به وماذا نهى عنه إلا بواسطة الرسل عليهم السلام، فإنهم المبلغون عن الله سبحانه وتعالى. وأما من أراد بالواسطة أن الأنبياء والأولياء واسطة بين العباد وبين رب العباد في جلب المنافع، ودفع المضار، والرزق، والنصر، والإغاثة، وكشف الكربات * والناس يرجعون إلى الأنبياء والأولياء في ذلك، ويسألونهم قضاء الحاجات * وكشف الكربات * ويستغيثون بهم عند نزول النوازل وإلمام الملمات * وينادونهم في غيابهم في الحياة وبعد الممات لجلب الخيرات ودفع الآفات *- (فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين ... فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار: مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين .... فمن أثبتهم وسائط بين الله وبين خلقه - كالحجاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1289 وزعم أن الله إنما يرزق العباد بتوسطهم، فالخلق يسألونهم، وهم يسألون الله - كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك [مباشرة] لكونهم أقرب من الطالب للحوائج - فمن أثبتهم وسائط بين الخلق وبين الله على هذا الوجه - فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل. وهؤلاء مشبهون لله بالملوك، وشبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أنداداً. وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا يتسع له هذه الفتوى .... والمقصود أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية، فهو مشرك؛ بل هذا دين المشركين عباد الأوثان) . قلت: لقد تبين بهذا أن القبورية يتشبثون بلفظة ((الواسطة)) ، ليتستروا بهذا اللفظ المجمل الذي يحتمل المعنى الحق والباطل، ليخفوا إشراكهم الصريح الذي هو دين المشركين السابقين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1290 وهكذا عادة أهل البدع. فقد صرح علماء الحنفية أيضاً بأن المتكلمين من الماتريدية والأشعرية وغيرهم، تشبثوا بكثير من الألفاظ المجملة التي تحمل حقاً وباطلاً: كالمكان، والجهة، والحد، والحيز، ونحوها من الألفاظ المجملة الكلامية، وتستروا بها ليخفوا بها تعطيلهم لصفات الله تعالى. والقاعدة الكلية في ذلك أنه لا يجوز الحكم عليها نفياً أو إثباتاً إلا بعد التفصيل، وتبين المعنى الحق من المعنى الباطل، فيقبل المعنى الحق، ويرد المعنى الباطل، وبذلك ينكشف أمر أهل البدع. الجواب الثاني: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن القبورية في جعلهم الأنبياء والأولياء واسطة بين العباد ورب العباد، كالوزراء والأمراء بالنسبة للملوك لجلب المنافع ودفع المضرات * ليستغيثوا بهم عند الكربات - * مرتكبين للشرك الأكبر الذي كان عليه الوثنية الأولى التي كانت في الأيام الخاليات * فإن المشركين السابقين كان شركهم هو هذه الواسطة التي هي أصل الوثنيات * وتبعتهم القبورية، فالقبورية والوثنية الأولى في هذه الواسطة من واد واحد. فمن اتخذ هذه الواسطة فهو كافر مشرك، حلال الدم، يستتاب وإلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1291 قتل. وقد قال كثير من علماء الحنفية: إن المشركين السابقين زعموا أن الله سبحانه في غاية من الرفعة ونهاية في التعالي. فلا يمكن وصولنا إليه إلا بواسطة عباده المقربين إليه، وقاسوا ذلك على الملوك ووزرائهم قياساً باطلاً. فقالوا: كما أن الرعية لا يمكن لهم الوصول إلى الملوك إلا بواسطة الوزراء والأمراء - وهم يشفعون للرعية عند الملوك لا يردون شفاعتهم - كذلك لا يمكن لنا الوصول إلى الله تعالى إلا بواسطة أوليائه المقربين عنده، فنحن نلتجئ إليهم في دفع المضرات وجلب الخيرات وهم يقربوننا إلى الله زلفى، ويشفعون لنا عند الله، فالله يقبل شفاعتهم لنا. فجاءت القبورية فسلكوا مسلك الوثنية الأولى في الواسطة والتوسل * والشفاعة والتوصل * حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة. والحاصل: أن هذه الواسطة طريقة الكفار والمشركين عباد الأصنام السابقين *. فمن اتخذ هذه الواسطة فهو مشرك حلال الدم يستتاب وإلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1292 قتل، بفتوى الحنفيين *؛ كما سبق آنفاً. وإليك بعض نصوص علماء الحنفية في إبطال هذه الواسطة، وأن هذه من دين المشركين: 1 -4- قال الإمام محمد البركوي (981هـ) ، والعلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وشكري الآلوسي (1342هـ) ، وشيخ القرآن الحنفي (1407هـ) - في بيان إبطال تلك الواسطة الفلسفية، المنطقية، الكلامية، الشركية، وأنها مأخوذة من المشركين السابقين، وأنها هي أصل عبادة الأصنام، وأن هذه الواسطة الفلسفية قد أخذها عنهم أمثال الفارابي (339هـ) ، وابن سينا (428هـ) ، وغيرهما من المتفلسفة الملاحدة القبورية، الذين يرون حصول المدد ووصول الفيوض من القبور بهذه الواسطة الفلسفية - واللفظ للأول: (وأما الزيارة البدعية: فزيارة القبور لأجل الصلاة عندها، والطواف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1293 بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود عليها، وأخذ ترابها، ودعاء أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النصر، والرزق، والعافية، والولد، وقضاء الديون، وتفريج الكربات * وإغاثة اللهفات * وغير ذلك من الحاجات التي كان عباد الأوثان يسألونها من أوثانهم [المعبودات *] فليس شيء من ذلك مشروعاً باتفاق أئمة المسلمين *؛ إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة والتابعين وسائر أئمة الدين * بل أصل هذه الزيارة البدعية الشركية -[التي دان بها القبورية الطغام *] مأخوذة عن عباد الأصنام، [المشركين في غابر الأيام *] ؛ فإنهم قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى، وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به وأدناه منه - فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية، والماء الصافي، ونحوهما على الجسم المقابل له. ثم قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره. وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم - كان أقرب إلى انتفاعه به. وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1294 والفارابي، وغيرهما، وصرح به عباد الكواكب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1295 وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها نور. ولهذا السر عبدت الكواكب واتخذ لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات واتخذت لها الأصنام. وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها * وتعليق الستور عليها * وإيقاد السرج عليها * وإقامة السدنة لها * ودعاء أصحابها * والنذر لهم، وغير ذلك من المنكرات * [التي ترتكبها القبورية عند الملمات] * والله هو الذي بعث رسله * وأنزل كتبه * لإبطاله وتكفير أصحابه * ولعنهم وإباحة دمائهم وأموالهم * وسبي ذراريهم *. وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه * [وقاتل المشركين عليه] *. فوقف هؤلاء الضالون المضلون في طريقه، وناقضوه في قصده وقالوا [تأسياً بالمشركين من فلاسفة اليونان وغيرهم] : إن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله تعالى، وتوجه إليه بهمته وعكف بقلبه عليه - صار بينه وبين ذلك الميت اتصال يفيض به عليه نصيب مما يحصل له من الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1296 وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وقرب من السلطان، وهو شديد التعلق به، فما يحصل من السلطان من الإنعام والإفضال - ينال ذلك المتعلق به من حصته بحسب تعلقه به. وبهذا السبب عبدوا القبور وأصحابها واتخذوهم شفعاء، على ظن أن شفاعتهم تنفعهم عند الله تعالى في الدنيا والآخرة؛ والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد عليهم وإبطال رأيهم .... قال الله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] . وقال الله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] .... وقال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ...... سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] . فبين سبحانه وتعالى: أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذ الشفعاء، وإنما تحصل بإذن الله تعالى للشافع ورضاه عن المشفوع له، فمن اتخذ شفيعاً من دون الله - فهو مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه .... ) . 5 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في عصره على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1297 الإطلاق (1176هـ) في إبطال هذه الواسطة الأمية العامية العادية، مبيناً عقيدة المشركين السابقين * ومحققاً أن القبورية على طريقة إخوانهم الوثنيين * في جعل الصالحين * واسطة بينهم وبين رب العالمين *: (ومنهم من اعتقد أن الله هو السيد، وهو المدبر، لكنه قد يخلع على بعض عبيده لباس الشرف والتأله، ويجعله متصرفاً في بعض الأمور الخاصة، ويقبل شفاعته في عباده، بمنزلة ملك الملوك يبعث على كل قطر ملكاً ويقلده تدبير تلك المملكة فيما عدا الأمور العظام .... وهذا مرض جمهور اليهود والنصارى والمشركين وبعض الغلاة من منافقي دين محمد صلى الله عليه وسلم يومنا هذا) . 6 - وقد حقق الإمام ابن أبي العز (792هـ) أن هذا النوع من الشفاعة والتوسل هو أصل شرك العرب وغيرهم من مشركي الهند والترك والبربر. 7 - وقال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) بعد ذكر عقائد المشركين الأولين، مبطلاً تلك الواسطة الشركية؛ وأنها أصل دين المشركين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1298 (فكان جل أحوال المشركين مع آلهتهم - التوكل عليهم والالتجاء بشفاعتهم - ظناً منهم أنها نافعة عنده تعالى لهم، فرد الله تعالى عليهم .... ) . 8 - وقال رحمه الله تعالى: (إذا تبين هذا فالمشركون قد كانت عبادتهم لآلهتهم هذا الالتجاء والرجاء والدعاء لأجل الشفاعة، معتقدين أنها المقربة لهم؛ فبسبب هذا الاعتقاد والالتجاء أريقت دماؤهم واستبيحت أموالهم .... فهذا الالتجاء بطلب الشفاعة ورجائها عبادة لا تصلح إلا له عز وجل، وأنها من صرف حقوقه تعالى ومن الشرك) . 9 - وقال رحمه الله أيضاًَ: (وإذا اعتقد أنهم وسائل لله عز وجل بذواتهم، فسأل منهم الشفاعة للتقريب إليهم - فذلك عين ما كان عليه المشركون الأولون) . 10 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناًَ أن القبورية في جعلهم الصالحين وسائط بين الله وبين الناس لجلب الخيرات ودفع المضرات - على طريقته الوثنية الأولى، راداً على بعض القبورية: (وسمعت من بعض أغبياء الغلاة وجهلتهم من أهل الثياب المعلمة * والأقفاء المورمة، والألقاب المفخمة *: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1299 قال: .... فإذا قال القائل مستغيثاً بأحد من الأموات: يا فلان.. افعل كذا وكذا - فالمقصود الطلب من الله أن يقضي حاجته. [يعني أن الميت واسطة وشفيع وسبب فقط] . وبعد أن فرغ من هذا الهذيان وسكت - قلت له: ..... وينبغي على قولك هذا أن يطلب من المخلوق كل شيء يطلب من الخالق، وينبغي أن لا يعترض على عبدة الأصنام وطلبهم ما يطلب من الله، فإنهم أيضاً كانوا يعتقدون أن أصنامهم وسائط ووسائل وشفعاء، وكانوا: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، ونحو ذلك من الكلام. وإذا سئلوا: {مَنْ يَرْزُقُكُمْ} [يونس: 31] ، و {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] . وقد سبق في هذا الكتاب في عدة مواضع بيان ذلك، وأن كلام الغلاة هذا، وكلام عبدة الأصنام من واد واحد، وقد تشابهت قلوبهم، وأوردت له عدة آيات ونصوص) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1300 11 - وقال رحمه الله تعالى أيضاً، مبيناً أن هذه الواسطة الشركية، وتلك الشفاعة - هي طريق مشركي العرب: (عبدة الأصنام، وهم الذين أقروا بالخالق، وابتداء الخلق، ونوع الإعادة ... وعبدوا الأصنام وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا، وقربوا القرابين وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر، وأحلوا وحرموا، وهم الدهماء من العرب. وإقرارهم بالخالق - هو الذي يسمى توحيد الربوبية، وهو الذي أقر به الكفار جميعهم، ولم يخالف أحد منهم في هذا الأصل إلا الثنوية وبعض المجوس .... وأما غيرهما من سائر فرق الكفر والشرك - فقد اتفقوا على أن خالق العالم ورازقهم ومدبر أمرهم، ونافعهم وضارهم ومجيرهم واحد؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1301 لا رب، ولا خالق، ولا رازق، ولا مدبر، ولا نافع، ولا ضار، ولا مجير غيره. كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ... {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31] . وكانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام - عبادة الله تعالى والتقرب إليه، لكن بطرق مختلفة: فرقة قالت: ليس لنا أهلية لعبادة الله تعالى بلا واسطة، لعظمته، فعبدناها لتقربنا إليه تعالى، كما قال حكاية عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وفرقة قالت: الملائكة ذوو جاه ومنزلة عند الله؛ فاتخذنا أصناماً على هيئة الملائكة؛ ليقربونا إلى الله. وفرقة قالت: قد جعلنا الأصنام قبلة لنا في عبادة الله تعالى، كما أن الكعبة قبلة في عبادته ... ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1302 الجواب الثالث: أن علماء الحنفية قد أجابوا عن شبهة الواسطة: 1 - بأن القبورية في جعلهم الصالحين واسطة بين الخلق وبين الحق تعالى لدفع المضرات * وجلب الخيرات * مشبهة مرتين بتشبيهتين من جهتين اثنتين *. فمرة شبهوا المخلوق بالخالق في صفات الكمال، فصاروا مشبهة * وأخرى شبهوا الخالق بالمخلوق في صفات النقص فصاروا مشبهة *. 2 - 4- أما كون القبورية مشبهة شبهوا المخلوق بالخالق في صفات الكمال - فقد صرح علماء الحنفية بأنهم قد غلوا في الصالحين ورفعوهم فوق منزلتهم ووصفوهم بصفات الله تعالى من العلم والقدرة والسمع والإغاثة ونحوها، فعبدوهم من دون الله تعالى. 5 - وقال العلامة شكري الآلوسي في تحقيق كون القبورية مشبهة، شبهوا الصالحين بالله تعالى في صفات الكمال * يستغيثون بهم عند الشدائد والأهوال *: (إن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم، والخضوع، والحلف به، والنذر له، والسجود له، والعكوف عند بيته، وحلق الرأس له، والاستغاثة به، والتشريك بينه وبين الله تعالى في قولهم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1303 ليس لي إلا الله وأنت، وأتكل على الله وعليك، وهذا من الله ومنك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما شاء الله وشئت، وهذا لله ولك، وأمثال ذلك. فهؤلاء هم المشبهة حقاً ... ) . 6 - وقال قولاً عاماً، وكلاماً كلياً، وقانوناً مطرداً: (كل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه .... ) . 7 - وأما كون القبورية مشبهة شبهوا الخالق بالمخلوق في صفات النقص - فقد صرح كثير من علماء الحنفية بأن القبورية - قد قاسوا رب العالمين * بالملوك والسلاطين * وشبهوا خالق الأرض والسماء * بالملوك الذين لا يتوصل إليهم إلا بالأمراء والوزراء *. 8 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي، إمام الحنفية على الإطلاق في عصره (1176هـ) ، مبطلاً شبهة الواسطة، ومزيفاً قياس رب الأرباب على الملوك في هذا الباب، ومحققاً أن المشركين بسبب هذه الواسطة وهذا القياس مشبهون: (فمن تلك الأصول [المسلمة عندهم] : القول بأنه لا شريك لله تعالي في خلق السماوات والأرض وما فيها من الجواهر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1304 ولا شريك له في تدبير الأمور العظام، وأنه لا راد لحكمه، ولا مانع لقضائه إذا أبرم وجزم. وهو قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] . وقوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 41] . وقوله تعالى: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] . لكن كان من زندقتهم قولهم: إن هنالك أشخاصاً من الملائكة والأرواح تدبر أهل الأرض فيما دون الأمور العظام، من إصلاح حال العابد فيما يرجع إلى خويصة نفسه وأولاده وأمواله، وشبهوهم بحال الملوك بالنسبة إلى ملك الملوك، وبحال الشفعاء والندماء بالنسبة إلى السلطان المتصرف بالجبروت ... قياساً للغائب على الشاهد، وهو الفساد) . وللعلامة الخجندي (1379هـ) تحقيق منهم في كون القبورية مشبهة بقياسهم ملك الملوك على هؤلاء الملوك، وابتغاء الوسيلة إليه بواسطة الأولياء - ابتغاء الناس الوسائل إلى الملوك بواسطة الوزراء والأمراء *. الجواب الرابع: أن علماء الحنفية قد حققوا أن المسلمين، بل الكافرين، يدعون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1305 الله تعالى مباشرة بلا واسطة، والله تعالى يجيبهم، فزالت شبهة الواسطة من أصلها: قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (وبالجملة فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل في الرغبة والرهبة - مثل دعائهم عند الكسوف، والاعتداد لدفع البلاء، وأمثال ذلك - إنما يدعون في مثل ذلك الله وحده لا يشركون به شيئاً، لم يكن للمسلمين أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله؛ بل كان المشركون في جاهليتهم يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله، أفتراه بعد التوحيد والإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ ..... ) . الجواب الخامس: أن علماء الحنفية قد حققوا أن هذه الواسطة التي تشبثت القبورية بها باطلة من أصلها، إذ هي متضمنة لعدة مفاسد كفرية؛ كما حققوا أن قياس القبورية لله على الملوك قياس من أفسد الأقيسة، إذ هو قياس مع الفارق الذي استلزم عدة من أنواع الكفر: الأول: أن الملوك لأجل جهلهم بحقائق الأمور وعدم علمهم بأحوال الرعية - يحتاجون إلى الوسائط من الأمراء والوزراء والندماء والوجهاء والعرفاء ليبلغوهم أحوال الرعية، ويرفعوا إليهم حوائجهم، بخلاف عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية، فمن ظن أن الله تعالى مثل الملوك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1306 فهو كافر. الثاني: أن الملوك عاجزون عن تدبير أمورهم والقيام على حقوق رعاياهم ودفع أعدائهم، فهم في حاجة إلى أعوان وأنصار من الوزراء ليعينوهم في تدبير مملكتهم وسياسة رعاياهم وحفظ بلدانهم وأوطانهم، بخلاف رب الكائنات، الخالق، الحي، القيوم، القادر، المالك، الغني، القاهر، القوي، العزيز، فمن ظن أن الله تعالى مثل الملوك فهو كافر. الثالث: أن الملوك ليسوا مريدين لنفع الرعية والإحسان إليهم ورحمتهم - إلا بمحرك يحركهم من خارج، فاحتاجوا في ذلك إلى الشفعاء والنصحاء ينصحوهم ويشفعوا عندهم للمضطرين والمكروبين من رعاياهم، ليقوموا بقضاء حوائجهم بهذا الترغيب والنصيحة والشفاعة. بخلاف الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الرءوف، الذي هو أرحم الراحمين، وأرحم بخلقه من أية والدة بولدها، ومن ظن أن الله تعالى مثل الملوك فقد كفر كفراً مبيناً. الرابع: أن الملوك مضطرون إلى قبول شفاعة أمرائهم ووزرائهم لحاجتهم إليهم في حفظ البلاد وسياسة العباد؛ فالملوك يقبلون شفاعتهم بإذنهم وبدون إذنهم، لمن يرضون عنه ولمن يسخطون عليه، بخلاف رب الأرباب، فإنه غني حي قيوم، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وهو مالك الأكوان، ليس له لأحد فيها من شريك، ولا له من خلقه من ظهير، فهو سبحانه وتعالى لا يقبل الشفاعة إلا لمن أذن له، ورضي له قولاً، ومن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1307 ظن أن الله تعالى مثل الملوك فقد كفر كفراً صراحاً. فتبين من هذا أن هذه الواسطة الكفرية الشركية باطلة فاسدة من عدة وجوه، متضمنة عدة من المفاسد؛ وأن قياس خالق الملوك على الملوك قياس فاسد أشد الفساد؛ إذ هو قياس مع الفارق الذي يستلزم عدة من أنواع الكفر البواح. وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، وهذا أصل شرك الخلق، فهم أجهل الناس بالله وبحقه وما يجب له، وما يمتنع عليه، حيث قاسوا الخالق المالك الرب المعبود الغني، على المخلوق المملوك المربوب العابد الفقير المحتاج. الجواب السادس: أن شبهة الواسطة باطلة من أصلها، مجتثة من جذورها، بل تصور وجود الواسطة ههنا غير وارد أصلاً، وذلك لوجوه: الأول: أن الأموات لا يعلمون بحال المضطرين المكروبين المستغيثين المستشفعين بهم، كما سبق في باب علم الغيب. فكيف يشفعون لهم؟ وكيف يكونون واسطة بينهم وبين الله؟ . الثاني: أن الأموات لا تصرف لهم في الكون، كما سبق في باب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1308 التصرف، فكيف يتصرفون تصرف الشفعاء والوزراء؟ . الثالث: أن الأموات لا يسمعون دعاء المستغيثين بهم، كما صرح بذلك علماء الحنفية، فكيف يمكن لهم الشفاعة والتوسط بدون أن يسمعوا نداءهم؟ . الرابع: أنه لم يثبت في الشرع أن الميت يشفع لمن يستغيث به، كما حققه علماء الحنفية. الشبهة الثانية عشرة: شبهة الشفاعة: وهي أن الصالحين أحياء وأمواتاً يشفعون للمستغيثين بهم عند الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يقبل شفاعتهم فيهم فتقضى حوائجهم. هذا حاصل تقرير القبورية لشبهة الشفاعة، وهي في الحقيقة شبهة الواسطة. الجواب: جواب شبهة الشفاعة هو بعينه جواب شبهة الواسطة، فراجعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1309 الشبهة الثالثة عشرة: شبهة التوسل: وتقرير هذه الشبهة عند القبورية: أن نداء الأموات عند الكربات * والاستغاثة بهم عند الملمات * نوع من أنواع التوسل بالصالحين * الأحياء منهم والمقبورين * فإذا جاز التوسل بالصالحين أحياء وأمواتاً - جاز طلب المدد منهم والاستغاثة بهم. هكذا يشركون بالله، ويستغيثون بالأموات عند البليات * تحت ستار التوسلات *. والجواب: سيأتي إن شاء الله تعالى في باب التوسل. الشبهة الرابعة عشرة: شبهة الكسب والسبب: تزعم القبورية أنه يجوز الاستغاثة بالصالحين ونداؤهم عند الكربات، وطلب الغوث منهم، على أن الغوث منهم كسباً وتسبباً، ومن الله تعالى خلقاً وإيجاداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1310 والجواب عنها قد سبق بعون الله سبحانه وتعالى. الشبهة الخامسة عشرة: شبهة المجاز العقلي: لقد تسترت القبورية المستغيثين بالأموات عند الكربات، تحت ستار لفظ ((المجاز)) ليخفوا شركهم البواح، فاعتذروا بعذر باطل كذب فاسد عاطل *. فزعموا أن كل ما نطلبه من الأولياء فإنما نطلبه على سبيل المجاز، وإنما الطلب في الحقيقة من الله تعالى. وقالوا: إن قول القائل في الاستغاثة بغير الله: أغثني يا رسول الله، فهو من الإسناد المجازي. وقول القائل للولي: افعل كذا وكذا. وقول القائل: يا محمد، يا علي، يا عبد القادر، يا أولياء الله، اقض حاجتي، أو اشف مريضي، أو انصرني على عدوي، ونحو ذلك، مجاز في الإسناد. وقول القائل: نفعني النبي، أو الولي، أو أخذ بيدي، أو أغاثني. وقول القائل: رد علي بصري. ونحو ذلك، إسناد مجازي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1311 أما الجواب عنها فقد تقدم بحول الله تعالى وتوفيقه. الشبهة السادسة عشرة: شبهة الاستقلال: تزعم القبورية المستغيثون بالأموات عند الكربات لإخفاء شركهم: أننا لا نعتقد استقلال الأولياء بالنصر والإغاثة وكشف الكربات، وإنما المستقل بذلك هو الله تعالى وحده. قلت: الحقيقة أن شبهة الاستقلال وشبهة المجاز، وشبهة الكسب والسبب، وشبهة التوسل، وشبهة الشفاعة، وشبهة الواسطة، ونحوها من الشبهات - كلها شبهة واحدة: وهي أن القبورية يقولون: إننا لا نعتقد في الأولياء الاستقلال بالتأثير، ولا الخلق والإيجاد، بل نعتقد أن الاستقلال بالتأثير وإيجاد النفع لله تعالى، وإنما نعتقد فيهم أنهم أسباب ووسائل ووسائط، وأنهم شفعاء لنا عند الله تعالى لما لهم من المنزلة الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى. وقد سبق الجواب عن شبهة الاستقلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1312 وجميع الأجوبة عن هذه الشبهات جواب عن كل شبهة من هذه الشبهات. الشبهة السابعة عشرة: شبهة الأحجار والأشجار والأصنام: تزعم القبورية - معتذرين بعذر باطل * ليخفوا شركهم - بستر عاطل *: أن مشركي العرب كانوا يعبدون الأحجار، والأشجار، والأصنام، التي لا احترام لها عند الله تعالى، ولم يكونوا يستغيثون بالصالحين، ولم يتشفعوا بهم إلى الله، وأما نحن فنستغيث بالأنبياء، والأولياء، ونتوسل بهم، أحياء وأمواتاً، لما لهم من المكانة العظيمة، والمنزلة الرفيعة عند الله تعالى. قلت: وهذه من أعظم شبهاتهم، وعامتهم يتشبثون بها. وقد سبق الجواب عنها، فصارت كأمس الدابر بتوفيق الله تعالى. الشبهة الثامنة عشرة: شبهة كفرية، زندقية، إلحادية * حلولية، اتحادية وجودية *. تعتقد غلاة القبورية جهاراً دون إسرار، ولا حياء من العباد ولا من رب العباد * أن الولي قد يصل إلى درجة، يصل إلى الله، تعالى [عن الأنداد] * بحيث أن الله تعالى إنما يحل فيه فيكون الولي مظهراً من مظاهر الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1313 تعالى، أو يكون الولي عين الله تعالى؛ فيكون يد الولي وسمعه وبصره - يد الله وسمعه وبصره؛ فحينئذ طلب المدد من الولي والاستغاثة به - في الحقيقة طلب من الله تعالى واستغاثة به. وتشبثوا لإثبات هذا الإلحاد والزندقة وجواز الاستغاثة بالأموات، وطلب الغوث والمدد منهم بناء على أن الولي عين الله، أو أن الله حل في الولي - بحديث قدسي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال: (( «من عادى لي ولياًَ فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته - كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1314 «بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» )) ... ) . ويجدر بي أن أسوق بعض أقوال القبورية في تقرير هذه الشبهة الكفرية الإلحادية، وتشبثهم بهذا الحديث الصحيح بعد تحريفهم له تحريفاً معنوياً، باطنياً، قرمطياً، زندقياً، ليثبتوا الحلول والاتحاد أولاً، ثم يبنوا عليه دعاء الأموات عند الكربات: 1 - قال ابن جرجيس، أحد أئمة القبورية العراقية (1299هـ) : (إن الحديث القدسي الوارد في أولياء الله تعالى كما في البخاري: (( «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» ... )) - مما يدل على أن الطلب من أولياء الله طلب من الله تعالى.) . 2 - وقال أيضاً: ((والاستعانة بأنبياء الله وأوليائه استعانة بالله في الحقيقة) . 3 - وقد نقل العلامة شكري الآلوسي عن صوفية عصره كلاماً أصرح من هذا في التشبث بهذا الحديث لجواز الاستعانة بغير الله. 4 - والصوفية القبورية الملاحدة يستدلون بهذا الحديث ويقولون: (إن العبد في القرب الأول [أي القرب بالفرائض] يصير جارحة لله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1315 جل مجده، والله سبحانه نفسه يكون جارحة لعبده في القرب الثاني [أي القرب بالنوافل] .... ) . 5 - ويقول ابن الفارض (632هـ) أحد كبار أئمة الملاحدة الزنادقة الوثنية الاتحادية: فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت) يعني هذا الغاوي الغوي: إن دعوت الله فقد دعوت الولي، وإن دعوت الولي فقد دعوت الله، لأن الله والولي شيء واحد، ومن خبثه أنه عبر عن الله بالأنثى! . 6 - وقال ابن عربي (638هـ) تشبثاً بهذا الحديث بعد تحريفه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1316 تحريفاً قرمطياً * كفرياً اتحادياً وثنياً *: أخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق تعالى: (بأنه عين السمع، والبصر، واليد، والرجل، واللسان، أي هو عين الحواس) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1317 7 - وقال عبد الكريم الجيلي (832هـ) أحد ملاحدة الصوفية الاتحادية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1318 مستدلاًَ بهذا الحديث على كفره الاتحادي، محرفاً له تحريفاً قرمطياً إلحادياً: (وها هو سمع بل لسان أجل بدا ... لنا هكذا بالنقل أخبر شارع فعم قوانا والجوارح كونه ... لساناً وسمعاً ثم رجلاً تسارع) 8 - وهكذا نرى الحلاج إمام هؤلاء الملاحدة الإلحادية * والزنادقة الاتحادية * (309هـ) ينفخ في بوق إلحاده وكير اتحاده قائلاًَ: (يا عين عين وجودي يا مدى هممي ... يا منطقي وعباراتي وإيمائي يا كل كلي ويا سمعي ويا بصري ... يا جملتي وتباعيضي وأجزائي) 9 - ونقل العلامتان: محمود الآلوسي (1270هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) عن الصوفية قولهم: (إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم، فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه؛ بل من حيث ظهور الحق فيه، فإن ذلك غير محظور؛ لأنه استغاث بالحق حينئذ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1320 10 - وقال هؤلاء الملاحدة الحلولية الاتحادية الوثنية - في تحريف قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات:5] ، تحريفاً قرمطياً كفرياً حلولياً وثنياً: (إن المراد بها قلوب الكاملين، فإنهم إذا وصلوا إلى الحق - يتصفوا بصفات الله تعالى، فيرجعوا من تدبير دعوة الحق إلى الخلق) . 11 - وبعض غلاة القبورية الصوفية الملاحدة الحلولية الاتحادية يزعمون، مستدلين بهذا الحديث بعد تحريفهم له تحريفاً قرمطياً إلحادياً قبورياً وثنياً: أن الولي إذا وصل إلى هذا الحد الذي ذكر في هذا الحديث - يكون مسلوب الاختيار عن نفسه، ويكون في قبضته تعالى، وأن الله تعالى يتصرف بجميع أموره، فحينئذ تضمحل ذاته في ذاته، وصفاته في صفاته، ويغيب عنه كل ما سواه، فلا يرى في الوجود إلا هو، وهذا ما يسمونه الفناء في الله، أي الانسلاخ عن دواعي نفسه. قلت: قصدهم بهذه القرمطة الإلحادية أن الولي إذا صار سمع الله وبصره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1321 ويده -تسلب عنه قواه البشرية، ويعطى القوة الربوبية والألوهية، فيستحق العبادة، ولا سيما الاستغاثة به، فإنه هو الله * أو حل فيه الله *! . 12 - وإلى هذه يهدف حجة إسلام الجهمية والقبورية والصوفية في آن واحد: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (505هـ) بقوله: وهل أنا إلا أنت ذاتاً ووحدة ... وهل أنت إلا نفس عين هويتي فصرت إذا وجهت وجهي مصلياً ... فرائض أوقاتي فنفسي كعبتي فصار صيامي لي ونسكي وطاعتي ... ونحري وتعريفي وحجي وعمرتي وحولي طوافي واجب وخلاله است ... تلامي لركني من مناسك حجتي وذكري وتسبيحي وحمدي وقربتي ... لنفسي وتقديسي وصفو سريرتي ولو لم أؤد الفرض مني إلي لم ... يصح بوجه لي ولم تبر ذمتي الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة الإلحادية الزندقية بعدة أجوبة، أذكر منها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1322 الجواب الأول: أن القبورية قد برهنوا بهذه الشبهة كتابة ببنانهم * وشهدوا على أنفسهم إقراراً بلسانهم * بأنهم أهل الحلول والاتحاد * اللذين هما من أقبح أنواع الزندقة، وأشنع أصناف الإلحاد * لأن هذه الشبهة مبنية على الحلول والاتحاد * وهما من أعظم أنواع الكفر، وأقبح الإلحاد * ولكن زندقة الاتحاد أعظم من إلحاد الحلول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1323 فالقبورية في التشبث بهذه الشبهة بناء على تحريفهم هذا الحديث الصحيح تحريفاً باطنياً * قرمطياً حلولياً اتحادياً إلحادياً كفرياً وثنياً * لجواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات * وعبادتهم أنواعاً من العبادات * - مسايرون للملاحدة الزنادقة الإلحادية * الاتحادية الصوفية الوثنية *: أمثال: الحلاج (309هـ) . وابن الفارض (632هـ) . وابن عربي (638هـ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1324 وابن سبعين (669هـ) . والقونوي (673هـ) . والتلمساني (690هـ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1325 وأمثالهم من الذين نعقوا بالزندقة، ونهقوا بالإلحاد * ونقوا بالاتحاد * محرفين لنصوص الكتاب والسنة تحريفاً باطنياً، قرمطياً، لإثبات إلحادهم الاتحادي، ومن تلك النصوص التي حرفوها تحريفاً باطنياً * قرمطياً، إلحادياً، اتحادياً * - هو هذا الحديث الصحيح، ليتذرعوا بذلك إلى عبادة الأموات * والاستغاثة بهم عند الكربات *. وبعد هذا التمهيد أذكر نصوص علماء الحنفية في عدة مطالب لتحقيق هذا الجواب * وبيان أن القبورية على طريقة الحلولية والاتحادية في هذا الباب *. **** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1326 المطلب الأول في ذكر زندقة رءوس هؤلاء الملاحدة على سبيل الإجمال قال الإمام تاج الدين أبو محمد أحمد بن عبد القادر القيسي، المعروف بابن مكتوم، أحد كبار الحنفية (749هـ) ، والعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) - نقلاً عن أبي حيان الأندلسي (754هـ) في بيان زندقة هؤلاء الصوفية الاتحادية الحلولية الإلحادية - واللفظ للثاني: (إن من النصارى من قال: إن المسيح هو الله، ومنهم من قال: هو ابن الله، ومنهم من قال: هو ثالث ثلاثة، وتقدم أنهم ثلاث طوائف: ملكانية، ويعقوبية، ونسطورية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1327 وكل منهم يكفر بعضهم بعضاً. ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تسربل بالإسلام ظاهراً، وانتمى إلى الصوفية - حلول الله تعالى في الصور الجميلة. ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة: كالحلاج [309هـ] ، والشوذي، وابن أحلى، وابن عربي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1328 [638هـ] ، المقيم بدمشق، وابن الفارض [632هـ] ، وأتباع هؤلاء، كابن سبعين [669هـ] ، والششتري تلميذه [668هـ] ، وابن مطرف المقيم بمرسية، والصفار المقتول بغرناطة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1329 وابن لباج، وابن الحسن المقيم كان بلورقة، وممن رأيناه يرمى بهذا المذهب الملعون، العفيف التلمساني (690هـ) ، وله في ذلك أشعار كثيرة، وابن عياش المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق، وعبد الواحد المؤخر المقيم كان بصعيد مصر، والأيكي العجمي الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1330 كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة من ديار مصر، وأبو يعقوب بن مبشر، تلميذ الششتري المقيم كان بحارة زويلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1331 في القاهرة، والشريف عبد العزيز المنوفي، وتلميذه عبد الغفار القوصي. وإنما سردت أسماء هؤلاء - نصحاً لدين الله - يعلم الله تعالى ذلك - وشفقة على ضعفاء المسلمين؛ ليحذروا منهم أشد من الفلاسفة الذين كذبوا الله ورسله، ويقولون بقدم العالم، وينكرون البعث. وقد أولع جهلة ممن ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء، وادعائهم أنهم صفوة الله تعالى وأولياؤه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1332 والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين) . *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1333 المطلب الثاني في ذكر أمثلة زندقة هؤلاء الحلولية والاتحادية ونماذج كفريات هؤلاء الملاحدة على سبيل التفصيل بعد هذا الإجمال أود أن أذكر أمثلة لكفريات بعض سلاطين هؤلاء الملاحدة الوثنية * وأساطين هؤلاء الزنادقة الاتحادية * على لسان علماء الحنفية، فأقول: أولاً: الحلاج: 1 - أما الحلاج (309هـ) فكان لغلوه في الزندقة والإلحاد والاتحاد يقول: (أنا الحق) ، (وما في الجبة إلا الله) . 2 - ومثل هذا قولهم: (أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا) 3 - ومن كفرياته الاتحادية قوله: جحودي لك تقديسي ... وعقلي فيك منهوس فما آدم إلاكا ... وما في الكون إبليس) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1335 4 - والحلاج كان ادعى الربوبية وصار يقول لأصحابه: (أنت آدم، ولهذا: أنت نوح، ولهذا: أنت محمد) . 5 - وكان يدعي التناسخ، وكان كافراً، خبيثاً، ساحراً، مشعوذاً، مموهاً، سيئ الاعتقاد. 6 - وكان يقول: (من نظف بيتنا وصلى فيه كذا وطاف به كذا، وتصدق بكذا - أغناه عن الحج) . فاتفق علماء بغداد على كفره، وأجمعوا على قتله وصلبه. قلت: هذا كله مبني على اعتقاده الإلحادي الاتحادي الكفري الزندقي. 7 - وكان هذا الملحد يقول: أنا الحق، وكان يعتقد صحة كل مذهب من أهل الملل والنحل. 8 - وادعى النبوة، كما ادعى حلول الله تعالى في خلقه. 9 - وأحل اللواطة، وكان مردوداً. 10 - ومن كفرياته الصريحة، وزندقته الفضيحة، قوله القبيح: (كفرت بدين الله والكفر واجب ... لدي وعند المسلمين قبيح) قلت: وكان الشيخ نقشبند (691هـ) إمام النقشبندية الوثنية القبورية، وإمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1336 المجددية، والديوبندية، والتبليغية، والفنجفيرية، من أكثر الحنفية - يستشهد بهذا البيت الكفري ويتمثل به مستدلاً به .... ثانياً: ابن الفارض: وأما ابن الفارض (632هـ) فكان يقول بمثل قول بعضهم: 1 - (ما في الجبة إلا الله، وأنا الحق) . 2 - وقال في تائيته الكبرى المسماة بنظم السلوك، جاهراً بالاتحاد * صارخاً بالإلحاد *: (لها صلواتي في المقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل , واحد ناظر إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة) 3 - وقال ابن الفارض أيضاًَ صارخاً بزندقته الإلحادية * الاتحادية الوثنية *: وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت إلي رسولاً كنت مني مرسلاً ... وذاتي بآياتي علي استدلت فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت إلى أمثال هذا الكلام. 4 - ولهذا كان القائل عند الموت ينشد [وهو ابن الفارض نفسه] : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1337 (إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي أمنية ظفرت نفسي بها زمناً ... واليوم أحسبها أضغاث أحلامي) فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه - تبين له بطلان ما كان يظنه. ثالثاً: ابن عربي: وأما ابن عربي (638هـ) فمن أمثلة كفره الاتحادية * ونماذج زندقته الإلحادية *: 1 - ما نقل عنه الإمام ابن أبي العز (792هـ) ، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : أنه كان يعتقد: أن كل كلام: من شرك، وكفر، وكذب، وزور، وقبيح، نثراً كان أو شعراً - هو كله كلام الله تعالى. وفي ذلك يقول هذا الملحد: (وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره أو نظامه) 2 - ومن نماذج كفره ما نقله عنه الإمام ابن أبي العز (792هـ) ، والعلامة شكري الآلوسي: من أنه كان يزعم أن الولي أفضل من النبي. وفي ذلك يقول هذا الزنديق: (مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1338 3 - ولقد اشتهر إلحاد ابن عربي وزندقته الاتحادية * وكفرياته الإلحادية الوثنية *. فوقف له الشيخ أبو عبد الله علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري الحنفي (841هـ) بمرصاد، فنادى بتكفيره، وتجرد لكشف الأستار عن أسراره الإلحادية * وزندقته الاتحادية * وألف في الرد عليه كتابه: ((فاضحة الملحدين وناصحة الموحدين)) . كما ألف في الرد عليه العلامتان: الثاني التفتازاني فيلسوف الماتريدية (792هـ) * والعلامة القاري (1014هـ) أحد كبار الحنفية *. 4 - وقد وصفه الإمام ابن أبي العز (792هـ) بأنه إمام الاتحادية، وذكر عنه أنه قال: إن أهل النار يتلذذون بها. 5 - وذكر الشيخ أحمد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني مجدد الألف الثاني (1034هـ) شيئاً كثيراً من كفريات هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1339 الملحد الإلحادية * وزندقته الاتحادية *. 6 - وقد رفع السؤال إلى المفتي الإمام شيخ الإسلام سعدي أفندي الجلبي (945هـ) وهو استفتاء فيه ذكر أمثلة لكفريات ابن عربي الاتحادية * وزندقته الإلحادية * الموجودة في فصوص كفر هذا الملحد. وفي آخر هذا الاستفتاء بعد ذكر كفرياته ما نصه: (أفتونا مأجورين بالوضوح والبيان * كما أخذ الله الميثاق للبيان * لأن الملحدين بسبب هذا الكتاب [فصوص الكفر لابن عربي الملحد] يجعلون الكفر إيماناً * والجهل عرفاناً * والشرك توحيداً والعصيان طاعة، لا يستحق العاصي عنده وعيداً * ولا فرق عنده بين عبادة الصنم و [بين عبادة] الصمد، وأن من سجد للصنم هو عنده أعظم ممن كفر به ... ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1340 فأفتى شيخ الإسلام المذكور قائلاً: (الجواب يرحمك الله تعالى: الله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، ما تضمنته هذه الصحيفة * من الكلمات الشنيعة السخيفة * يأباه المعقول * وترده النقول * بعضه سفسطة، وبعضه كفر وزندقة، ومروق من الدين * وخرق لإجماع المسلمين بل المليين* وإنكار لما هو من ضروريات الإسلام * وإلحاد في كلام المهيمن العلام * فمن صدقه، بل تردد، أو شك فيه - فهو كافر بالله العظيم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1341 وإن أصر عليه ولم يتب يقتل) . 7 - وقال الإمام صفي الدين، أحد كبار علماء الحنفية (1200هـ) ، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في بيان بعض إلحاد ابن عربي الاتحادي:- في فصوصه وفتوحاته أشياء تقتضي الكفر. 8 - وقد كفره جماعة من العلماء، منهم: الحافظ ابن حجر؛ وقد باهل أحد أتباعه فقتله الله، وقال السراج البلقيني: هو كافر. وقد صنف بعض العلماء جزءًا حافلاً جمع فيه كلاماً في ذم ابن عربي. 9 - فمما قال في الجزء المذكور: إن الذهبي قال في العبر: إن ابن عربي قدوة القائلين بوحدة الوجود، وقد اتهم بأمر عظيم. 10 - وقال في تاريخ الإسلام: إن ابن عربي سمع من طيش دماغه خطاباً اعتقده من الله ولا وجود له في الخارج. 11 - وقال في الميزان: إن ابن عربي تصوف تصوف الفلاسفة وأهل الوحدة، وقال أشياء منكرة عدها طائفة من العلماء مروقاً وزندقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1342 12 - الحاصل: أن ابن عربي ومن على شاكلته ضلال جهال خارجون عن طريقة الإسلام؛ فهم باسم الزندقة أحق. 13 - وقال العلامة القاري (1014هـ) مبيناًَ بعض كفريات ابن عربي الاتحادية الإلحادية: وأما ما ذكره المولوي الجامي: أن معنى ((لا إله إلا الله)) *: ليس شيء مما يدعي إلهاً غير الله * - فهو غير صحيح * بل كفر صريح *. محصله: كل ما يدعى إلها فهو إله،أي كل شيء إله. وهذا كقول ابن عربي: من عبد الصنم فقد عبد الصمد! . نعوذ بالله من هذا الباطل، وإنما هو من مشرب الوجودية. 14 - وهذا الملحد قد جوز إمامة النساء للرجال. 15 - وقال بإيمان فرعون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1343 16 - وكان يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجاً. 17 - وفصوصه وفتوحاته فيهما كفر صريح. قلت: هذا كله مبني على عقيدته الإلحادية الاتحادية * الكفرية الوثنية *. 18 - وقال العلامة نعمان الآلوسي: (وقال العلامة القاري أيضاً: ثم اعلم أن من اعتقد حقيقة عقيدة ابن عربي، فكافر بالإجماع * من غير نزاع *) . 19 - إن من شك في كفر اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر. 20 - ومن كفرياته الاتحادية * قوله السافر عن الوثنية *: (العبد رب والرب عبد ... فليت شعري من المكلف) 21 - ولقد قال هذا الملحد ومن على شاكلته: إن عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله سبحانه. لأن الله تعالى قضى أن لا تعبدوا إلا إياه، فما وقع إلا ما قضى، فلم يعبد إلا الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1344 22 - وأن قوم نوح كانوا مصيبين محقين في قولهم: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا} [نوح: 23] ؛ لأنهم لو تركوا عبادتهم لتركوا عبادة الله؛ لأن لله في كل معبود وجهاً. 23 - والعارف يعرف من يعبده، في أي صورة ظهر، أما الجاهل: فيقول: هذا حجر، وهذا شجر، وأما العارف فيقول: هذا محل إلهي يجب تعظيمه، فلا يقصر معبوده في شيء. 24 - لأن النصارى قد خصصوا معبودهم في شيء، ولم يعمموا فأخطأوا، وأما العارف فهو يعبد كل شيء، والله تعالى أيضاً يعبد كل شيء؛ لأنه ما ثم إلا هو، وما ثم غيره، واسمه العلي، ولكن عماذا؟ وما ثم إلا هو! وعلى ماذا؟ وما ثم غيره! فالمسمى محدثات، وهي علية لذاتها، وليست إلا هو. 25 - فالله ما نكح إلا نفسه، وما ذبح إلا نفسه [فهو الناكح المنكوح؟ !] . والمتكلم هو عين المستمع. 26 - وإن موسى إنما عتب على هارون؛ لأن هارون قد نهاهم عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1345 عبادة العجل، مع أنهم لم يعبدوا إلا الله تعالى، فكان موسى أعلم من هارون؛ لأن موسى علم أنهم لم يعبدوا إلا الله، وأن هارون ظن أنهم عبدوا العجل، وأن أعلى ما عبد فهو الهوى، وأن كل من اتخذ إلهه هواه - فما عبد إلا الله. 27 - وإن فرعون كان من أعظم العارفين. 28 - وإن السحرة قد صدقوه في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] ...... 29 - ومن أشنع كفره الإلحادي الاتحادي: أنه يمدح الكفار مثل قوم نوح، وهود، وفرعون، وغيرهم، وبعكس ذلك ينتقص الأنبياء: كنوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون، وغيرهم، صلوات الله وسلامه عليهم. 30 - كما أنه يذم شيوخ المسلمين، وبعكس ذلك يمدح المذمومين، كالحلاج ونحوه من الملاحدة الاتحادية * والزنادقة الحلولية القبورية الوثنية *. 31 - بل هذا الملحد لغلوه في الإلحاد والاتحاد - أنكر على الجنيد قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1346 (التوحيد: إفراد الحدوث عن القدم) ؛ حيث بين الجنيد الفرق بين الخالق والمخلوق، وأما هذا الملحد [ابن عربي] فلا يرى الفرق بينهما، فلذا أنكر قول الجنيد، وقال له في مخاطبته الخيالية الشيطانية * [الوهمية الوثنية] *: (يا جنيد: هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما؟) ؛ لأن قول هذا الملحد أن وجود المحدث عين وجود القديم. 32 - فقد قال في فصوصه: (ومن أسمائه الحسنى: ((العلي)) على من؟ وما ثم إلا هو، وعماذا؟ وما هو إلا هو؛ فعلوه لنفسه، وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها؛ وليست إلا هو) . 33 - فيقال لهذا الملحد: ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول - أن يكون ثالثاًَ غيرهما؛ فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وبين غيره، وليس هو ثالث؛ فالعبد يعرف أنه عبد، ويميز بين نفسه وبين خالقه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1347 والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده. 34 - ومن كفرياته الاتحادية * وتأويلاته الباطنية * وتحريفاته القرمطية لكتاب الله عز وجل، بحيث جعل الكفار أولياء الله، وجعل النار عذباً - ما ذكره العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) بقوله: إن هذا الملحد الاتحادي الزنديق القرمطي المحرف الباطني، قال في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6-7] : إن الذين كفروا: ستروا محبتهم، سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم استوى عندهم إنذارك وعدم إنذارك؛ لما جعلنا عندهم، لا يؤمنون بك ولا يأخذون عنك، إنما يأخذون عنا، ختم على قلوبهم: فلا يعقلون إلا عنه، وعلى سمعهم: فلا يسمعون إلا منه، وعلى أبصارهم غشاوة: فلا يبصرون إلا إليه، ولا يلتفتون إليك، وإلى ما عندك، بما جعلناه عندهم وألقيناه إليهم، ولهم عذاب: من العذوبة. عظيم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1348 35 - وقد وصل الكفر الاتحادي بهذا الملحد الزنديق إلى حد - وصف الله عز وجل ورماه جل وعلا بجميع الأفعال القبيحة الموجودة في المخلوقات، من الكفر، والشرك، والزنى، واللواط، والكذب، والخيانة، والسرقة، وغيرها من الفسق، والفجور؛ لأن الله عند هذا الخبيث هو بعينه المخلوقات، والمخلوقات عنده بعينها هي الله سبحانه وتعالى. 36 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً بعض كفريات ابن عربي الاتحادية: (وفي كتاب ((فصوص الحكم)) ما تقشعر به جلود المؤمنين. 37 - قال شرف الدين إسماعيل المعروف بابن المقري، من قصيدة [يرد فيها على ابن عربي الملحد الاتحادي الإلحادي] : فقال: بأن الرب والعبد واحد ... فربي مربوب بغير تغاير وأنكر تكليفاً إذ العبد عنده ... إله وعبد , فهو إنكار حائر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1349 وخطأ إلا من يرى الخلق صورة ... وهوية لله عند التناظر وقال: يحل الحق في كل صورة ... تجلى عليها وهو إحدى المظاهر وأنكر أن الله يغني عن الورى ... ويغنون عنه لاستواء المقادر إلى آخر ما قال، والقصيدة طويلة في ديوانه. 38 - وهو الذي قال ما قال الشيخ محيي الدين [ابن عربي الزنديق] الذي يقول: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره أو نظامه والمقصود أن من يذهب مذهب الغلاة من أهل القبور فريقان: الفريق الأول: من يقول بالاتحاد والحلول، .... الفريق الثاني الجهال..) . رابعاً: ابن سبعين: وأما ابن سبعين (669هـ) فقد وصل في الزندقة والإلحاد والاتحاد إلى حد -: 1 - ضاقت عليه بلاد الإسلام بما رحبت، فقد كان يريد الذهاب إلى الهند، وقال: إن أرض الإسلام لا تسعه؛ لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء حتى النباتات والحيوانات، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1350 وهذا حقيقة قول الاتحادية. 2 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في بيان بعض مخازي ابن سبعين: (وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة - يقدمون الأولياء على الأنبياء، ويذكرون أن النبوة لم تنقطع، كما يذكر ابن سبعين ونحوه. 3 - ويجعلون المراتب ثلاثاً: يقولون: العبد أولاً يشهد طاعة ومعصية، ثم طاعة بلا معصية، ثم لا طاعة ولا معصية) ، ثم قال في الرد على هذا الكفر البواح: (الشهود الأول - وهو الشهود الصحيح - هو الفرق بين الطاعات والمعاصي. 4 - وأما الثاني: - فيريدون به شهود القدر، كما أن بعض هؤلاء يقول: 5 - ((أنا كافر برب يعصى)) ..... 6 - ويقول شاعرهم: ((أصبحت منفعلاً لما تختاره ... مني ففعلي كله طاعات)) .... ) 7 - ثم قال: والمرتبة الثالثة: أن لا يشهد طاعة ولا معصية، فإنه يرى أن الوجود واحد، [أي الخالق والمخلوق شيء واحد] ، وعندهم أن هذا هو غاية التحقيق، والولاية لله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1351 وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته، وغاية العداوة لله. 8 - فإن صاحب هذا المشهد - يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار - أولياء ... ؛ ولا يتبرأ من الشرك والأوثان؛ فيخرج عن ملة إبراهيم الخليل) عليه السلام. خامساً: القونوي: وأما صاحب ابن عربي: الصدر الرومي القونوي (673هـ) : 1 - فهو أبعد عن الشريعة والإسلام؛ لأن حقيقة قوله في الإلحاد والاتحاد: أنه ليس لله وجود أصلاً. 2 - وكان هو وشيخه ومن على شاكلة هؤلاء يصرحون بأن ذات الكلب والخنزير والبول والعذرة عين وجود الله تعالى. سادساً: التلمساني: 1 - وأما الفاجر التلمساني الملقب بالعفيف (690هـ) - 2 - فهو أخبث القوم، وأعمقهم كفراً. 3 - فما ثم - عنده - غير، ولا سوى بوجه من الوجوه. 4 - وكان إباحياً يستحل جميع المحرمات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1352 5 - وكان يقول: (البنت، والأم، والأجنبية، شيء واحد، ليس في ذلك حرام علينا. 6 - وإنما هؤلاء المحجوبون [يعني علماء الإسلام] قالوا: حرام؛ فقلنا: حرام عليكم) . 7 - وكان يقول: (القرآن كله شرك ليس فيه توحيد. 8 - وإنما التوحيد في كلامنا) . 9 - وكان يقول: (أنا ما أمسك شريعة واحدة) . 10 - وكان إذا أحسن القول يقول: (القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى) . 11 - وله ديوان شعر في صناعة الشعر جيد ولكنه كما قيل: (لحم خنزير في طبق صيني) . 12 - وقد صنف التلمساني للنصيرية عقيدة، وحقيقة أمرهم: أن الله تعالى بمنزلة البحر، والموجودات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1353 بمنزلة أمواجه. 13 - ولم أر قط أحداً فيهم كفر مثل كفر التلمساني، وآخر يقال له البلباني من مشائخ شيراز. 14 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً زندقتهم الإلحادية الاتحادية: (وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم، وهو أحذقهم في إلحادهم. 15 - لما قرئ عليه ((الفصوص)) [نصوص الكفر لابن عربي الملحد]- قيل له: القرآن يخالف قولكم. 16 - فقال: ((القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا)) . 17 - فقيل له: إذا كان الوجود واحداً - فلم كانت الزوجة حلالاً والأخت حراماً؟ قال: ((الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا - حرام، فقلنا: حرام عليكم)) . 18 - وهذا مع كفره العظيم تناقض ظاهر؛ فإن الوجود إذا كان واحداً فمن المحجوب؟ ومن الحاجب؟ 19 - ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده: ((من قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب)) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1354 فقال له مريده: فمن هو الذي يكذب؟ 20 - وقالوا لآخر: ((هذه مظاهر)) ، فقال لهم: المظاهر غير الظاهر أم هي هو؟ فإن كانت غيرها - فقد قلتم بالتثنية، وإن كانت هي إياها - فلا فرق) . 21 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) أيضاً: (وهؤلاء الاتحادية يقولون ما يقوله التلمساني: إنه ثبت عندنا بالكشف ما يناقض صريح العقل، ويقولون: من أراد التحقيق - فليترك العقل والشرع) . 22- ثم قال في الرد على كفرهم هذا: ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم، وخبرهم أصدق من خبرهم؛ والأنبياء صلوات الله عليهم يخبرون بمجازات العقول لا بمحالات العقول، ولا يمكن أن يكون في خبرهم ما يناقض العقل؛ لامتناع تعارض الدليلين القطعيين، سواء كانا عقليين أو سمعيين، أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً. 23- فكيف يترك العقل والشرع لكشف هؤلاء المتخيلين * الذين يظنون تلبيسات الشياطين * أنها من كرامات الصالحين * سابعاً: البلباني: 1 - وآخر يقال له البلباني من مشائخ شيراز -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1355 كفره مثل كفر التلمساني. 2 - فمن شعر هذا البلباني: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه عينه 3 - ومن قوله الاتحادي الكفري: وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائقه 4 - ومن كفرياته الصريحة قوله: وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواكم 5 - ومن زندقته الاتحادية قوله: وما البحر إلا الموج لا شيء غيره ... وإن فرقته كثرة المتعدد ثامناً: الجيلي (832هـ) 1 - ذكر العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) : أن عبد الكريم الجيلي (832هـ) لغلوه في إلحاده الاتحادي - قد حرف قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تحريفاً قرمطياً * إلحادياً، كفرياًَ، اتحادياً * بأن معناه: أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعينه هو الله أحد؛ فضمير ((هو)) يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. 2 - ثم قال العلامة الآلوسي في الرد على هذا الملحد الزنديق الإلحادي الاتحادي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1356 (وهل هذا من الشطحات والسكر * أم من الضلالات والكفر *) ؟ ***** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1357 المطلب الثالث في الكلام على هؤلاء الملاحدة الإلحادية القبورية الوثنية عامة 1 - قال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) في بيان بعض فضائح هؤلاء الوثنية عامة: وهؤلاء الملاحدة الزنادقة، الاتحادية * منهم، والحلولية الإلحادية * - ظهورهم أكبر أسباب ظهور التتار، واندراس شريعة الإسلام، وأن هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذاب، الذي يزعم أنه هو الله؛ فالدجال عند هؤلاء مثل فرعون من كبار العارفين، وأكبر من الرسل بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان سلف الأمة وسادات الأئمة يرون كفر الجهمية [الحلولية منكري علو الله على خلقه وفوقيته على عباده، القائلين بأن الله في كل مكان]- أعظم من كفر اليهود؛ كما قال عبد الله بن المبارك، والبخاري، وغيرهما، وإنما كانوا يلوحون تلويحاً، وقل أن كانوا يصرحون بأن ذاته في كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1359 مكان، وأما هؤلاء الاتحادية - فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية، وكان السلف والأئمة أعلم بالإسلام وبحقائقه، فكانوا يعرفون سر أقوال هؤلاء الملاحدة وينفرون منها؛ ولذا قال بعضهم: (متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء، وذلك أن المتكلمين من الجهمية المعطلة ينفون صفات الله تعالى ويصفونه بصفات العدم [بل بصفات الممتنع] ؛ فيقولون: إن الله ليس بكذا، وليس بكذا: [أي إن الله لا فوق العرش، ولا تحت العالم، ولا اليمين، ولا الشمال، ولا الخلف، ولا الأمام] ؛ [فهؤلاء المتكلمون لا يعبدون شيئاً موجوداً، بل يعبدون معدوماً ممتنعاً] ، أما الصوفية الاتحادية الملاحدة - فهم يزعمون أن الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، فيعبدون جميع المخلوقات والكائنات بما فيها الشمس، والقمر، والبشر، والأوثان، فيجمعون كل شرك يرتكبه أصناف المشركين في العالم كله، وقد يجمع الرجل بين إلحاد المتكلمين وبين اتحاد هؤلاء الصوفية في آن واحد، فينفي صفات الله تعالى معطلاً لها واصفاً ربه بصفات المعدوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1360 والممتنع على طريقة المتكلمين المعطلة نفاة الصفات، فيعبد المعدوم بل الممتنع، ومع ذلك يرى في الوقت نفسه: أن الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، على طريقة الصوفية الاتحادية الملاحدة، فيعبد كل شيء، وهكذا يتناقض فيجمع بين النقيضين. فإذا قيل له: لم تجمع بين، النقيضين إلى هذا الحد؟ أين ذلك النفي من هذا الإثبات؟ قال في الجواب: ذلك وجدي، وهذا ذوقي! ! . فيقال لهذا الضال: كل ذوق ووجد لا يطابق الاعتقاد - فأحدهما أو كلاهما باطل. وهؤلاء الملاحدة لو سلكوا طريق الأنبياء والمرسلين الذين أمروا بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله، واتبعوا طريق أئمة السنة * سلف هذه الأمة * - لسلكوا طريق الهدى ووجدوا برد اليقين * وقرة العين *؛ فإن الرسل جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل؛ بخلاف المعطلة فإنهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل. 2 - وقال رحمه الله تعالى: وهؤلاء الزنادقة الملاحدة الاتحادية - مع هذا الكفر البواح والاتحاد الصراح - يوهمون الناس أنهم مشائخ الإسلام، وأئمة الهدى - الذين جعل الله لهم لسان صدق في الأمة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1361 أمثال سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والثوري، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد. 3 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : ومن أشنع كفر هؤلاء الملاحدة زعمهم أن الولي أفضل من النبي، ويقولون في ذلك: (مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي) ولذا يقول بعضهم: أنا أحتاج إلى محمد في علم الظاهر دون الباطن، لأنه بعث بعلم الظاهر دون الباطن، وهذا القائل كافر، أكفر وأشر من اليهود والنصارى، وكفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب. 4 - وقال رحمه الله تعالى: وهؤلاء الملاحدة المدعون ولاية الله تعالى من أشنع كفرياتهم: أن جبريل كان خيالاً في نفس النبي [صلى الله عليه وسلم] ، ويزعمون أنهم أعلم من الأنبياء، مع أن جبريل عليه السلام قد وصفه الله تعالى بأنه روح القدس، ووصفه بصفات يتبين منها: أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء العقلاء، وأنه جوهر قائم لا خيال كما يزعم هؤلاء الملاحدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1362 5 - وقال رحمه الله تعالى: إن حقيقة أمر هؤلاء الملاحدة الوجودية الاتحادية - جحد الخالق، فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق، وحقيقة قول هؤلاء الزنادقة - قول فرعون الذي عطل الصانع، لكن هؤلاء الملاحدة أضل من فرعون؛ لأنهم زعموا أن فرعون هو الله، بل جعلوا عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله؛ بل قال هؤلاء الملاحدة المحرفين تحريف القرامطة: إن السحرة لما عرفوا صدق قول فرعون، وعلموا أنه ربهم الأعلى - قالوا لفرعون: صدقت {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72] . 6 - وقال رحمه الله تعالى: ثم هؤلاء أنكروا حقيقة اليوم الآخر: فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة، فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله، مع دعواهم أنهم خلاصة الخاصة من أهل الله، وأنهم أفضل من الأنبياء، مع أنهم أعظم الناس ولاية للشيطان، فقد قيض الله تعالى لهم شياطين، تخاطبهم وتتمثل لهم، فيظنون أنها ملائكة، وأنها من كرامات الأولياء، ومن هذه الأرواح الشيطانية - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1363 ذلك الروح الذي يزعم ابن عربي صاحب الفتوحات: أنه ألقى إليه ذلك الكتاب ((الفتوحات)) ؛ مع أن هذه كلها من الأحوال الشيطانية، وهم كانوا بها مناقضين للرسل صلوات الله عليهم. 7 - وقال رحمه الله تعالى: ومن أشنع نماذج كفرهم الذي ارتكبوه بسبب القول بوحدة الوجود أنهم: (يقولون بأن النصارى إنما كفروا - لما خصصوا المسيح بأنه هو الله، ولو عمموا - لما كفروا، وكذلك يقولون في عباد الأصنام: إنما أخطئوا - لما اعتقدوا بعض المظاهر دون بعض، فلو عبدوا الجميع - لما أخطئوا عندهم. وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم - فيه ما يلزمهم دائماً من التناقض، لأنه يقال لهم: فمن المخطئ؟) . 8 - وقال رحمه الله تعالى: ومن كفرياتهم الإلحادية، وهذيانهم الاتحادي الذي وصلوا بسببه إلى غاية التنقص بالله عز وجل، ووصفهم له سبحانه، ورميهم له جل وعلا بجميع الأفعال القبيحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1364 التي توجد في المخلوقات: من الكفر، والشرك، والزنى، واللواط، والكذب، والخيانة، والغش، والسرقة، وكل ما يتصور من القبائح، وبعكس ذلك يصفون المخلوق بجميع الصفات الكمالية لرب العالمين؛ وفي ذلك يقول العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) كاشفاً الأستار عن أسرار هؤلاء الملاحدة الكفرة الزنادقة: (يقولون: إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق، ويقولون: إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق .... وهم مع هذا الكفر لا يندفع عنهم التناقض؛ فإنه من المعلوم بالحس والعقل: أن هذا ليس هو ذلك) . 9 - ثم هؤلاء الملاحدة الزنادقة الحلولية الاتحادية * الوجودية القبورية الوثنية * - مع تلك الكفريات، وهذه الزندقة التي ذكرت بعض أمثلتها الوثنيات * - يزعمون أنهم أولياء الله تعالى، وأنهم أصحاب الكرامات * - وأنهم خلاصة الخاصة من أهل الله تعالى؛ بل يزعمون أنهم أفضل من الأنبياء، وأعلم منهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1365 10 - وقال الشيخ أبو الحسن علي الندوي الحنفي في بيان كفريات هؤلاء الملاحدة الزنادقة من الصوفية الاتحادية، أمثال ابن عربي (638هـ) ، مبيناً عقيدة وحدة الوجود لهؤلاء الملاحدة عامة، ولا سيما ملاحدة الصوفية في الهند خاصة: (وقد كانت هذه الصبغة الوجودية في القرن العاشر .... هي السائدة في الهند؛ حتى كان الشعراء المتذوقون لهذه المعاني [العقائد الوجودية] يتغنون بهذه العقيدة، ويساوون بين الكفر والإيمان؛ بل قد يتعدون حدود ذلك إلى ترجيح الكفر على الإيمان، وكان الناس يرددون أبياتاً معناها: الكفر والإيمان قرينان، فمن لم يتمتع بالكفر لم يتمتع بالإيمان. ثم قيل في بعض الكتب شرحاً لهذا البيت، وإيضاحاً لمعناه: ((ثبت من ذلك أن الإسلام في الكفر، والكفر في الإسلام؛ يعني: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران: 27] ؛ فالمراد بالليل هو الكفر، والمراد بالنهار هو الإسلام)) .... ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1366 قلت: الحاصل: أن هذه الشبهة في الحقيقة من أعظم كفر هؤلاء الملاحدة الاتحادية * الصوفية، الحلولية، الزنادقة، الإلحادية، وقلدهم هؤلاء القبورية الوثنية * وقد عرفت بعض أمثلة كفرهم وإلحادهم وزندقتهم، وارتدادهم الصريح عن دين الإسلام * وخروجهم على النقل والعقل والحس وإجماع الأنام، ولا سيما الأئمة الأعلام *. ومن تلك الطامات هذه الشبهة التي تشبث بها القبورية * بدون أن يعرفوا حقيقة هؤلاء الاتحادية * تمهيداً لجواز الاستغاثة بالأموات * عند إلمام الملمات *. تعالى الله عما يشركون * وسبحانه عما يصفون *. هذا هو الجواب الأول، وأما الجواب الثاني فهو ما يلي: الجواب الثاني: أن هؤلاء القبورية الذين تشبثوا بهذا الحديث بعد تحريفهم له تحريفاً معنوياً * - قرمطياً حلولياً اتحادياً وثنياً * - هم مقلدون لهؤلاء الزنادقة الحلولية * الملاحدة الاتحادية * الذين ذكرت أمثلة كفرهم ونماذج زندقتهم في الجواب الأول: 1 - قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في تحقيق هذا الجواب: (والنبهاني الضليل * ليس من أولئك القبيل * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1367 بل خسته مشهورة * ودناءته مذكورة * مع ما ضم إلى ذلك الضلال من العقائد الفاسدة في الإله عز اسمه، حيث أنه ممن قلد القائلين بالحلول والاتحاد، والغلو في النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى اعتقد فيه أنه موجود في كل زمان ومكان، والإغراء على دعاء غير الله , والالتجاء إلى ما سواه، وكل ذلك من متفرعات القول بوحدة الوجود؛ فإن القائلين بها لم يخطئوا عبدة الأصنام في عبادتهم، وكل كلام الله تعالى ينطبق على كلام غيره، فعندهم: أن ما تكلم به الإنسان نظماً ونثراً - فهو كلامه، وعليه قول الشيخ محيي الدين [ابن عربي الاتحادي الإلحادي] : ((وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه)) فلا شك أن روح النبهاني الخبيثة من جنود هذه الأرواح، وقد تعانقت مع أرواح الغلاة فائتلفت * وتناكرت مع أرواح الأصفياء الطاهرة القدسية فاختلفت *. ..... أفلا يستحي من هذا حاله؟ * ووصفه، أو اعتقاده، وجهله وضلاله * أن يخاصم أهل الحق، وفرسان العلم، وأئمة الإسلام، وبحور الفضل، وورثة الأنبياء، وهو ليس من قبيل هؤلاء الرجال * بل ولا ممن يعد في صف النعال *. وقد حمله شيطانه على إلقاء نفسه في هذه المهالك * وقاده إلى هذه المعارك *. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1368 وما أحسن ما قال القائل: ولقد أقول لمن تحرش بالهوى ... عرضت نفسك للبلا فاستهدف) 2 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً أن من تشبث النبهاني بقوله في الاستغاثة بالأموات عند الكربات: من الشعراء - هم من الحلولية أو الاتحادية * القبورية الوثنية * وأن القول بالحلول والاتحاد هو الذي سوغ له ولهم ذلك الشرك. (الوجه السابع: أن الشعراء الذين أورد النبهاني من شعرهم في الاستدلال على جواز الاستغاثة بغير الله والاحتجاج على مشروعية دعاء من سواه سبحانه - بل كل من كان على هذا المنهج من الغلاة - فهو إما من القائلين بالحلول والاتحاد، وهو الذي يسوغ له ذلك الدعاء والالتجاء؛ إذ الكل واحد؛ وعلى ذلك قول قائلهم: ((وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواه)) وقال آخر: ((الرب عبد والعبد رب ... يا ليت شعري من المكلف)) وعندهم الوجود واحد؛ ولذلك قال من قال: ((سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها)) ؛ فإذا كان الله عين كل شيء [عند هذا الملحد]- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1369 فله أن يعبد كل شيء، إذ هي عين الحق. . . . والمقصود: أن من يذهب مذهب الغلاة في أهل القبور - فريقان:. الفريق الأول: من يقول بالاتحاد والحلول؛ إذ لا فرق حينئذ بين الخالق والمخلوق، ولا بين التراب ورب الأرباب، ومنهم النبهاني الزائغ؛ على ما أشعر كلامه واعتقاده في النبي صلى الله عليه وسلم؛ مع ما هو عليه من المسلك، وقد ذكرنا ذلك في أول الكتاب، ومثله كثير ممن أورد شعره. الفريق الثاني: الجهال بحقائق الدين ودقائقه، وهم أكثر من نقل النبهاني شعره؛ فهم لا يعلمون ما في كلامهم من المحاذير، ولو نبهوا عليها لانتبهوا؛ وهم في شعرهم وما قالوه في النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو - {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] ، وقد رأينا من يعمل في قبور الأصفياء ما يعمل من المنكرات والأعمال التي لم تشرع - كلهم من العوام، وإن كانوا في زي العلماء الأعلام؛ فبطل جميع ما استشهد به من الشعر والحمد لله) . الجوابان: الثالث والرابع: ما قاله الإمام محمود الآلوسي (1270 هـ) ، وتبعه في ذلك حفيده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1370 العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ، والشيخ الرستمي: (وقال بعض .... الصوفية: ((إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم، فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه؛ بل من حيث ظهور الحق فيه، فإن ذلك غير محظور؛ لأنه استغاثة بالحق حينئذ)) . وأنا أقول: إذا كان الأمر كذلك، فما الداعي للعدول عن الاستغاثة بالحق من أول الأمر؟ . وأيضاً إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية - فلتسغ الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له - من تلك الحيثية أيضاً، ولعل القائل بذلك قائل بهذا! بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيح! ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره! . فالطريق المأمون عند كل رشيد قصر الاستغاثة والاستعانة على الله عز وجل، فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده؛ فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1371 قلت: هذا النص مشتمل على جوابين: حاصل الجواب الأول: أنكم أيها القبورية الحلولية في قولكم الكفري هذا - قد طولتم الطريق على أنفسكم؛ فإنكم تزعمون جواز الاستغاثة بالولي من حيث ظهور الحق تعالى فيه، وأن المقصود هو الاستغاثة بالله تعالى لا بالولي؛ فهلا تستغيثون بالله تعالى مباشرة من أول الوهلة، ولم تطولون الطريق إلى الله على أنفسكم؟ . فمثلكم - مع كفركم الحلولي - كمن يمسك أذنه اليمنى من جانب الأذن اليسرى من قفاه. وقد قيل في أمثالكم من الحمقى ما قيل * مع كونكم من أهل الضلال والتضليل *: (أرى الأمر يفضي إلى آخر ... يصير آخره أولا) ولله در القائل الذي قال في أمثالكم السفهاء * أهل السفسطة والقرمطة مجانين العقلاء *: (أقام يعمل أياماً رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء) وأنتم أيها القبورية الحلولية في زعمكم هذا - كالماتريدية، والأشعرية، ونحوهم من الجهمية المعطلة المحرفة الذين يحرفون صفة ((الاستواء)) إلى ((الاستيلاء)) ؛ ثم يقولون: المراد من ((الاستيلاء)) ما هو اللائق بالله عز وجل؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1372 فهلا قالوا ذلك في ((الاستواء)) - قبل تعطيلهم وتحريفهم - من أول الوهلة؟ ؟ . ولذلك نرى الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) يقول مبيناً حماقتهم وتناقضهم وجهدهم الخاسر: (وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه [أي الكيف لا المعنى] إلى الله تعالى؛ فهم يقولون: استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه .... وأن تفسير ((الاستواء)) بـ ((الاستيلاء)) - تفسير مرذول؛ إذ القائل به لا يسعه أن يقول: ((كاستيلائنا)) ؛ بل لابد أن يقول: هو ((استيلاء)) لائق به عز وجل، فليقل من أول الأمر: هو ((استواء)) لائق به جل وعلا) . قلت: هذا إذا صدقناكم أنكم في استغاثتكم بالولي تقصدون الله عز وجل - مع أن هذا حلول بواح وإلحاد صراح؛ وإلا فالأمر أدهى وأمر وأعظم * والبلية أشد وألهم وأعم *. هذا هو حاصل الجواب الأول، وهو الثالث بالنسبة إلى ما تقدم. وحاصل الجواب الثاني: أنكم أيها القبورية إذا جوزتم الاستغاثة بالولي من حيث إن الله تعالى قد حل فيه - فعليكم أن تجوزوا للولي الصلاة والصوم والزكاة وغيرها من العبادات من هذه الحيثية أيضاً؛ واعبدوا الأولياء بجميع العبادات * كما تعبدونهم بالاستغاثة بهم عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1373 الملمات * - بحجة أن الله تعالى قد حل فيهم، وإذا لم تعبدوا الأولياء بالصلاة والصوم والزكاة ونحوها من العبادات * فأحرى وأولى أن لا تستغيثوا بالأولياء عند الكربات * لأن الاستغاثة عند الكربات - مخ العبادات ولبها. وهذا هو الجواب الرابع بالنسبة إلى ما تقدم. الجواب الخامس: ما قاله العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ، مبيناً مفاسد هذه الشبهة وعواقبها الوخيمة، كاشفاً عن تحريفهم القرمطي الوثني لهذا الحديث، محققاً أن هؤلاء الزنادقة يقولون بتعدد الآلهة: 1 - (ومن العجيب أن كثيراً من الغلاة [في] أهل القبور الذين يندبون الصالحين ويستغيثون بهم ويستمدون منهم في السراء والضراء * والشدة والرخاء * - يعتقدون أن مدعويهم يسمعون الأصوات * سواء في ذلك من قرب ومن كان في أبعد الجهات *، وإذا توجهت إلى أحدهم سهام الطعن - يقول: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم: (( «ما زال عبدي يتقرب إلي .... كنت سمعه الذي يسمع به» .... )) الحديث، وقد حمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه: من أن العبد إذا لزم العبادة الظاهرة والباطنة - حتى يصفى من الكدورات - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1374 أنه يصير في معنى الحق - تعالى الله عن ذلك - ..... [أي أن الولي صار مثل الله في السمع والبصر والعلم والقدرة والإعطاء والمنع] . وقد تكلمت مع بعضهم يوماً حيث استمد بأحد شيوخه الذين أماتهم الله تعالى منذ مئين من السنين؛ فزعم أنه يحضر روحه، فينال الاستفاضة منه، فقلت له: بينك وبين مدعوك هذا عدة فراسخ وأميال، وربما كان مثلك في مائة بلدة وأكثر، وكلهم استمدوا من هذا الشيخ في آن واحد! فهل يسمعهم ويحضر عندهم؟ ..... قال: نعم. فقلت: قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171، والمائدة: 77] . قال: هذا ليس من الغلو - وذكر الحديث السابق - قال: فإذا كان الله سمع المقربين - لا يستغرب مثل ذلك؛ فإن الله لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. قلت: فإذن تعددت الآلهة - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - حيث لم يبق فرق عند هؤلاء الزنادقة - بين الله سبحانه وبين من يدعون أنه كان يتقرب بالنوافل .... ) . 2 - وقال رحمه الله أيضاًَ، كاشفاً عن كفريات النبهاني (1350هـ) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1375 وسلفه السبكي (756هـ) ، وغيره من غلاة القبورية قديماً وحديثاً؛ مبطلاً شبهتهم في تحريف هذا الحديث تحريفاًَ وثنياً حلولياً؛ محققاً أن هذا يتضمن الكفر البواح الصراح من القول بتعدد الآلهة: (الوجه السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم، يعلم - عند النبهاني وأسلافه - ما كان وما يكون، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فما فائدة إعلامه بما أعلمه به السبكي [756هـ] ؟ : ((من أنه رجل شافعي المذهب، أشعري العقيدة! إلى آخر ما هذى .... )) ؛ وهذا الذي ذكرناه - من أن الغلاة يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه - هو مما لم يمكنهم إنكاره؛ كيف والنبهاني - على ما أسلفنا - يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان * وكل زمان * وقد تكلمت يوماً مع أحد الغلاة الرفاعية الزنادقة ومشركيهم - إذا استغاث بالرفاعي (578هـ) قبل الشروع في ذكرهم - فقلت له: هل يسمع الآن نداءك الرفاعي - وهو في قبره في أم عبيدة ويمدك؟ قال: نعم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1376 قلت: فإذا اتفق مثلك في بلاد كثيرة ومواضع متعددة ألوف مؤلفة، وإن كانوا في أقطار شاسعة -[وكلهم ينادونه لدفع الضر مثلاً] فهل يسمعهم أحمد الرفاعي ويمدهم ويغيثهم؟؟ قال: نعم. قلت: هذا هو الغلو الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم. قال: ليس هذا من الغلو، بل هو مقتفى الدين؛ ألم تسمع حديث الأولياء ..... (( «كنت سمعه الذي يسمع به» ... )) الحديث؟ فظن هذا الغبي الجاهل أن معناه ما يعتقده إخوانه أهل الزيغ والإلحاد: من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة - حتى يصفى من الكدورات - يصير في معنى الحق - تعالى الله عن ذلك .... والمقصود: أن الغلاة يعتقدون أن الولي يعلم كما يعلم الله، ويبصر كما يبصر الله، ويسمع كما يسمع الله! فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم - وهو سيد الأولياء والأصفياء؟ فلا بد أنهم يعتقدون [فيه صلى الله عليه وسلم] فوق اعتقادهم في الولي .... إن السبكي أخطأ فيما فعله وأبان به جهله وغيه وضلاله، هذا حال السبكي الذي أعده النبهاني المسكين سلاحاً في ميدان الطعن بشيخ الإسلام [728هـ] وجرحه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1377 والحمد لله الذي جعل أعداء أهل الحق في كل عصر وزمان - من أجهل الناس وأضلهم وأغواهم .... ومن العجائب أن السبكي - مع هذه ..... - قد جعله ابن حجر المكي [794هـ] من المجتهدين الاجتهاد المطلق .... وأنه إمام التحقيق والتدقيق، وأنه ليس له نظير ولا قريب في كل فن .... فإذا جرى ذكر تقي الدين ابن تيمية وأصحابه من أهل الحديث الحفاظ المتقنين - شتمهم بكل ما خطر له ... فانظر إلى هذا التعصب وعدم الإنصاف؛ وهذا أحد الأسباب التي أوجبت انحطاط الإسلام إلى ما نرى، وأعظمها تطاول السفهاء، وإناطة الأمر إلى غير أهله، وعنده يترقب الخراب العام. وابن السبكي [771هـ] الذي جرى مجرى أبيه [في مناصرة القبوريات]- لم يدع منقبة من مناقب الأولين والآخرين إلا وأثبتها لوالده!! ظناً منه أن الحقائق تخفى، وما درى هذا المسكين أن الأمر كما قيل: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1378 وفي المثل السائر: ((كل فتاة بأبيها معجبة)) . والمقصود: أن قدح السبكي بمثل شيخ الإسلام - كصرير باب * وطنين ذباب * ولولا التقى لقلنا: لا يضر السحاب * نبح الكلاب*) . الجواب السادس: استئصال هذه الشبهة باجتثاث جذورها بإبطال تحريفهم لهذا الحديث، وبيان معناه الصحيح: 1 - قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً عدة معان لهذا الحديث: والجواب من وجوه: الأول: أن معناه: كنت سمعه وبصره في إيثاره لأمري وطاعتي. والثاني: أن معناه: أنه لا يسمع إلا ما يرضيني ولا يرى إلا ما أمرته به. والثالث: أن معناه: أني أعجل له مقاصده. والرابع: أن معناه: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده على عدوه. والخامس: أنه على حذف المضاف والتقدير: كنت حافظ سمعه وبصره، بمعنى: أنه لا يسمع ولا يبصر إلا ما يحل له. والسادس: أن السمع مصدر بمعنى المسموع، كالأمل بمعنى المأمول. والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكري، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1379 ولا يمد يده إلا فيما يرضيني. والسابع: أن هذه عبارة عن ساعة إجابة دعائه. أي أن الله تعالى يقضي حوائجه السمعية والبصرية واللمسية. الحاصل: أن هذا الحديث كناية عن نصرة الله تعالى لعبده المطيع له، وتأييده وإعانته. ولهذا وقع في رواية: (( «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي» )) . والمحصول: أنه لا دلالة في هذا الحديث على ما زعمته الاتحادية [* القبورية الوثنية الحلولية *] ولا متمسك لهم فيه بوجه من الوجوه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ومن أعظم الحجج الساطعة، والبراهين القاطعة لدابر هؤلاء الاتحادية قوله صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث: (( «ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» )) فإنه صريح في الرد على هؤلاء الاتحادية [* الزنادقة الحلولية القبورية الوثنية*] ؛ فكما أن آخر هذا الحديث وما قدمناه في المعنى الصحيح يرد على الاتحادية، كذلك يرد على ابن جرجيس [إمام قبورية البغداية * المسائل لهؤلاء الوثنية الاتحادية *] ، وكذلك النصوص القطعية دالة على أن لا يدعى غير الله تعالى فيما هو من خصائصه سبحانه. 2 -7- قلت: هكذا فسر هذا الحديث كثير من علماء الحنفية؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1380 وردوا على الملاحدة الحلولية والزنادقة الاتحادية * الذين هم أشنع أنواع القبورية الوثنية * - تحريفهم الاتحادي والحلولي لهذا الحديث. قلت: المقصود: أن هذه الشبهة باطلة فاسدة؛ وهي من كفريات الملاحدة الاتحادية، والزنادقة الوجودية، والوثنية الحلولية. الشبهة التاسعة عشرة: أن دعاء الأموات عند الكربات * ليس من العبادات * فليس من الشركيات * لقد سبق أن القبورية قد انحرفت عن الجادة الصحيحة في مفهوم العبادة، فحصرت العبادة في عدة الأعمال الظاهرة الإسلامية من الصلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1381 والزكاة والصوم والحج ونحوها، وبعض الأعمال القلبية من اعتقاد الربوبية. بناء على ذلك أخرجوا الدعاء والاستغاثة من مفهوم العبادة؛ فقالوا: إن الدعاء والاستغاثة بالأولياء * ونداءهم وطلب المدد منهم عند البلاء * - ليست هذه الأمور من العبادة في شيء، ولا من الشرك بالله عز وجل؛ لأن العبادة لا تتحقق إلا إذا اعتقد في غير الله القدرة الذاتية، والاستقلال بالنفع والضر، والربوبية، ونفوذ المشيئة لا محالة، وإذا كان الأمر كذلك - فمن استغاث بالأولياء ودعاهم لدفع الضر وجلب النفع، وطلب منهم المدد فهو لم يعبد غير الله، وإذا لم يعبد غير الله تعالى - لم يشرك به سبحانه أحداً من خلقه؛ إذن لا حرج على المضطر المكروب أن يستغيث بأولياء الله تعالى عند الكربات. ولقد سقت كثيراً من نصوص القبورية في مبحث العبادة في الباب الأول. ولكن يحسن للبرهنة على ذلك أن نسوق بعض نصوص القبورية الآخرين في صدد تقريرهم لهذه الشبهة: 1 - قال ابن جرجيس أحد أئمة القبورية العراقية (1299هـ) : إن أعداء الله الخوارج الوهابية ترويجاً لبدعته، وحرصاً على تكفير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1382 المسلمين بنوا قواعد مذهبهم على أن نداء أهل القبور والتشفع بهم إلى الله - عبادة، وهو خطأ محض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا العبادة،وهي الدين كما في حديث جبريل، من الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والإيمان بالله، والملائكة، وكتبه، ورسله، والقدر، والعبادة عبارة عن هذه الأشياء، وهي الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، ولا يتصور أن أحداً يؤمن بالله - يفعل شيئاً من هذه لأحد غير الله، ولم يقل أحد: إن النداء والتوسل عبادة، ولا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك. 2 - وقال: (وأما التوسل، والنداء، فليس من العبادة عند جميع المسلمين، لا لغة، ولا شرعاً، ولا عرفاً) . 3 - وقال هذا الملبس ابن جرجيس أيضاً: (إن الدعاء الذي ذكره الله عن الكفار والمشركين - معناه: ((العبادة)) التي هي السجود والركوع والذبح والتقرب إلى ذواتهم على أنهم أرباب وآلهة، ولم يكن هذا في المسلمين ولله الحمد ممن يتوسل بالصالحين ويناديهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1383 والنداء لأهل القبور والغائبين يسمى دعاء في اللغة، ولكن ليس هو ((دعاء العبادة)) ، ولو كان مطلق النداء والطلب يكون ((دعاء عبادة)) - لزم أن جميع من ينادي أحداً حياً أو ميتاً، ويطلب منه شيئاً - يكون مشركاً، عابداً للمنادى والمطلوب، ولا قائل بذلك لا عاقل ولا مجنون) . 4 - ومثله كلام للقضاعي (1376هـ) ، هكذا ترى القبورية يعمدون إلى جميع تلك الآيات الناهية عن دعاء غير الله فيحرفونها بتأويلها الباطل * القبوري الفاسد العاطل *: وهو أن المراد بالدعاء في تلك الآيات - هو العبادة بمعنى الصلاة والزكاة والركوع والسجود والذبح، على اعتقاد الربوبية لغير الله تعالى، وليس المراد من الدعاء في تلك الآيات - نداء الأموات وطلب الغوث منهم عند الملمات * والاستغاثة بهم عند الكربات *؛ فإن ذلك ليس من العبادة في شيء، وليس فيه أي محذور. والقبورية بناء على تعريفهم للعبادة تعريفاً غير جامع لجزئياتها وقصرها على بعض أفرادها - لإخراج دعاء الأموات عند الكربات * والاستغاثة بهم لدفع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1384 الملمات * - صرحوا بإبطال تعريف أئمة السنة وعلماء هذه الأمة للعبادة؛ فقد قالت القبورية في تعريف شيخ الإسلام للعبادة: (وقوله [أي شيخ الإسلام] : ((العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)) - هراء، ليس بتعريف للعبادة) . الحاصل: أنه قد تبين من نصوص القبورية: أنهم قد حصروا ((العبادة)) على بعض أفرادها بتعريفهم الباطل للعبادة، الذي هو غير جامع لأفرادها، وأن تعريف أئمة السنة وأعلام الأمة للعبادة ولا سيما ما قاله شيخ الإسلام - باطل عندهم وهراء؛ كل ذلك لإخراج دعاء الأموات عند الكربات * والاستغاثة بهم لدفع الملمات *. هذا هو كان تقرير هذه الشبهة، والآن أنتقل إلى الجواب عنها وإبطالها بنصوص علماء الحنفية، فأقول، والله المستعان * وعليه التكلان: إبطال هذه الشبهة: لقد تصدى كثير من علماء الحنفية للرد على شبهة القبورية هذه، كما تصدوا لغيرها من شبهاتهم، فقد كشفوا تدليسهم عن تلبيسهم للحق بالباطل بعدة أجوبة، أذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1385 منها: خمسة: الجواب الأول: بذكر معاني ((العبادة)) و ((النداء)) و ((السؤال)) ، و ((الشفاعة)) و (الاستشفاع)) و ((النصر)) و ((الاستنصار)) و ((المدد)) و ((الاستمداد)) و ((العون)) و ((الاستعانة)) و ((الغوث)) و ((الاستغاثة)) و ((الدعاء)) ، وتحقيق أن دعاء الأموات عند الكربات، والاستغاثة بهم عند الملمات من أعظم أنواع العبادات. فأقول وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق *: 1 - العبادة: أما ((العبادة)) فقد تقدم في ضوء علماء الحنفية معنياها اللغوي، والاصطلاحي الشرعي، وأن الحق والصواب عند علماء الحنفية في تعريف العبادة - هو: أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، مع مراعاة غاية الخضوع وغاية الذل، وأن هذا التعريف للعبادة هو التعريف الصحيح طرداً وعكساً، جامع لجميع أفرادها، مانع عن دخول غيرها فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1386 وأن تعريف القبورية للعبادة تعريف باطل مزيف، غير جامع لأفرادها، لخروج كثير من أنواع العبادات عن هذا التعريف، كالحب، والخضوع، والتوكل، والإنابة، والخوف، والرجاء، والطاعة، والدعاء، فكل هذا يصرف لغير الله سبحانه وتعالى بحجة أنها ليست من العبادة. وفيه قصر العام على بعض أفراده، وهو باطل بدون دليل مخصص؛ إذ لابد في التعريف الصحيح من أن يكون جامعاً مانعاً. وبناء على هذا يدخل ((الدعاء)) ، ونداء الأموات، والاستغاثة بهم في تعريف العبادة، بل ذلك من أعظم أنواع العبادة وأجلها. 2 - النداء: وأما النداء: (فهو إحضار الغائب، وتنبيه الحاضر، وتوجيه المعرض، وتفريغ المشغول، وتهييج الفارغ، وهو في الصناعة: تصويتك بمن تريد إقباله عليك لتخاطبه ... والنداء: رفع الصوت وظهوره، وقد يقال للصوت المجرد ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1387 والنداء للاستحضار ... ) وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (إن النداء - هو: رفع الصوت بالدعاء، أو الأمر، والنهي، ويقابله النجى الذي هو المسارة وخفض الصوت، هذا بإجماع أهل اللغة ... ، وسمي هذا النداء دعاء ...... ) . قلت: ويظهر من هذا التعريف للنداء - أن النداء أعم من الاستنصار، والاستمداد، والاستعانة، والاستغاثة، لأن النداء قد يكون لمجرد الإقبال والمحبة، ولا يقصد به طلب العون والغوث، غير أن المنادي إذا قصد بندائه إقبال المنادى وإرضاءه معتقداً أنه يسمع ويعلم فوق الأسباب العادية - فقد أشرك بالله تعالى في صفة السمع والعلم. وأما إذا قصد مع ذلك طلب ما لا يقدر به إلا الله - فهو إشراك بالله تعالى بالطريق الأولى. كما سبق تحقيقه في ضوء نصوص علماء الحنفية. 3 -4- السؤال، والطلب: أما السؤال: فهو طلب الأدنى من الأعلى. وأما الطلب: فهو عام فيما تسأله من غيرك ومن نفسك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1388 والسؤال: لا يقال إلا فيما تطلبه من غيرك. قلت: تقدم تحقيق علماء الحنفية في أن من طلب من غير الله تعالى ما لا يقدر عليه إلا الله - فقد أشرك بالله تعالى. أما من طلب من غير الله ما يقدر عليه فهذا خارج عن الموضوع، ومنعه جنون، والخلط بين المسألتين تلبيس للحق بالباطل، كما تفعله القبورية. 5 -6- الشفاعة، والاستشفاع: وأما الشفاعة: (فهي سؤال فعل الخير، وترك الضر عن الغير لأجل الغير على سبيل الضراعة، ولا تستعمل لغة إلا بضم الناجي إلى نفسه من هو خائف من سطوة الغير) . وأما الاستشفاع: فهو استفعال: وهو طلب الشفاعة، يقال: (أشفعه إلى فلان: سأله أن يشفع له إليه) . قلت: بناء على هذا - من طلب من الحي الغائب أو الميت أن يشفع له عند الله في جلب النفع أو دفع الضر - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1389 على اعتقاد أنه يسمع ويعلم بحاله - فقد وقع في الشرك الذي وقع فيه الوثنية الأولى؛ فإن أصل إشراكهم بالله - هو هذا الاستشفاع كما حققه علماء الحنفية. 7 -8- النصر، والاستنصار: فأما النصر (فهو أخص من المعونة، لاختصاصه بدفع الضر) . والاستنصار: استفعال، وهو طلب النصر من الغير، يقال: (استنصره على عدوه: سأله أن ينصره عليه) . قلت: لقد سبق في ضوء نصوص علماء الحنفية أن الشرك، منه طلب النصر والمعونة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. أما طلب النصر من الشخص فيما يقدر عليه لا شك في جوازه، ولا يمنعه أحد، بل يعد منعه جنوناً؛ ولكن لا يجوز أن يجعل ما هو المباح دليلاً على ما هو الشرك، لأن هذا تلبيس للحق بالباطل، وخروج عن الموضوع، ووضع الأدلة في غير موضعها؛ لأن النوع الأول [وهو طلب النصر من الغائب أو الميت] شرك بالله تعالى؛ لأن الغائب وكذا الميت لا يسمعان نداء المكروب، ولا يعلمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1390 بحاله، ولا يقدران على نصره. قال الإمام الآلوسي رحمه الله (1270هـ) في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ... لَا يَسْمَعُوا} ... ) [الأعراف: 197-198] : ( {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي تعبدونهم، أو تدعونهم من دونه سبحانه وتعالى للاستعانة بهم ..... {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} في أمر من الأمور ... {لَا يَسْمَعُوا} أي دعاءكم، فضلاً عن المساعدة والإمداد) . أما النوع الثاني - وهو طلب النصر من الحي تحت الأسباب العادية - جائز لا محذور فيه؛ لقوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] ؛ قال الإمام النسفي (710هـ) : (أي إن وقع بينهم وبين الكفار قتال وطلبوا منكم المعونة فواجب عليكم أن تنصروهم على الكافرين) . 9 -11- المدد، والإمداد، والاستمداد: وأما المدد فهو: (ما يمد به الشيء، أي يزاد ويكثر، ومنه: أمد الجيش بمدد: إذا أرسل إليه زيادة) . وأما ((الإمداد)) : فهو الإعطاء، والإعانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1391 وأكثر ما يستعمل ((الإمداد)) في الخير بخلاف ((المد)) . وأما ((الاستمداد)) : فهو استفعال، وهو طلب المدد. قلت: التفصيل في الاستمداد كالتفصيل في الاستنصار والدعاء والطلب، فيجوز الاستمداد من الحي الحاضر تحت الأسباب، وأما الاستمداد من الغائب أو الميت - فهو إشراك بالله تعالى - على ما سبق مفصلاً محققاً بنصوص علماء الحنفية؛ فلا يجوز الخلط بين المسألتين، لأنه تلبيس للحق بالباطل. 12 -14- ((العون)) ، و ((المعونة)) ، و ((الاستعانة)) : وأما ((العون)) : فهو المعين والظهير على الأمر. وأما ((المعونة)) : فهي: الإعانة. وأما ((الاستعانة)) : فهي استفعال، معناه: طلب المعونة وطلب الإعانة. ولقد صرح علماء الحنفية بأن الاستعانة من غير الله تعالى على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1392 نوعين: الأول: الاستعانة من الحي الحاضر فيما تحت الأسباب العادية، فهذا لا حرج فيه. والثاني: الاستعانة من الغائب أو الميت، فهذا إشراك بالله تعالى؛ إذ هذا النوع من الاستعانة من أعلى أنواع العبادة؛ ولكن القبورية يلبسون الحق بالباطل؛ فيستدلون بالمباح منها على الشرك منها. 15 -16- ((الغوث)) ، و ((الاستغاثة)) : وأما ((الغوث)) : (فهو النصر والعون) . وأما ((الاستغاثة)) فاستفعال: وهي (طلب الغوث والنصر) . وقال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وشكري الآلوسي (1342هـ) : (اعلم أن الاستغاثة بشيء: طلب الإغاثة منه، كما أن الاستعانة بشيء طلب الإعانة منه، فإذا كانت بنداء من المستغيث للمستغاث - كان ذلك سؤالاً منه، وظاهر أن ذلك ليس توسلاً إلى غيره) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1393 قلت: يظهر من موارد لفظة ((الاستغاثة)) : أنها أخص من الاستمداد، والاستنصار، والاستعانة؛ لأن ((الاستغاثة)) تكون عند مس الحاجات * ونزول الملمات * وحدوث الكربات * فالنصر، والمدد، والعون الذي يطلبه المضطر والمكروب عند الكربة والشدة - هو الغوث، وفعل ذلك المضطر وطلب ذلك المكروب يسمى ((استغاثة)) ، يظهر ذلك من كلام أهل اللغة من الحنفية؛ فقد قال الزبيدي (1205هـ) ، والمفسر الآلوسي (1270هـ) ، واللفظ للأول: (ويقال: استغثت فلاناً ............. قال شيخنا: قالوا: الاستغاثة: طلب الغوث، وهو التخليص من الشدة والنقمة، والعون على الفكاك من الشدة، ولم يتعد في القرآن إلا بنفسه كقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] . وقد يتعدى بالحرف كقول الشاعر: حتى استغاث بما لا رشاء له ... من الأباطح في حافاته البرك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1394 ويقول المضطر الواقع في بلية: أغثني، أي فرج عني) . وقال الإمام ابن معط: (وتلحق اللام إذا استغثتا ... بمن تناديه إذا دهمتا) قلت: لأجل أن ((الغوث)) هو النصر عند الكربة خاصة - قالت الوثنية من الصوفية القبورية: (الغوث: هو القطب حينما يلجأ إليه، ولا يسمى في غير ذلك الوقت غوثاً) . ولذلك ترى هؤلاء القبورية الوثنية يسمون آلهتهم الباطلة أغواثاً، لاعتقادهم أنهم يغيثون المضطرين المكروبين المستغيثين بهم. قلت: إن من الواقع الملموس والشاهد المحسوس: أن عامة القبورية إنما يدعون الأموات * ويطلبون منهم المدد والنصر عند نزول الملمات ومس الحاجات وحدوث الكربات *. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1395 ولقد سبق عدة نصوص لعلماء الحنفية على أن القبورية أعظم عبادة وأشد تضرعاً وانكساراً وأكثر خضوعاً وذلاً للأموات * عند الاستغاثة بهم لدفع الكربات * - منهم في المساجد وأوقات الأسحار لخالق الكائنات *. فكيف يقال: إن الاستغاثة بالأموات لدفع الكربات * - ليست من العبادات؟ !! . وسبق أيضاً عدة نصوص لعلماء الحنفية: على أن القبورية في باب الاستغاثة بالأموات - أعظم شركاً من الوثنية الأولى، فكيف يقال: إن الاستغاثة بالأموات لدفع البليات * - ليست من الإشراك بخالق البريات *؟ !! فمن زعم أن الاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات * ليست من العبادات، وليس من الإشراك بخالق البريات * - فهو أجهل من أبي جهل بالله سبحانه، وبحقوقه جل وعلا. 17 - ((الدعاء)) : وأما ((الدعاء)) - فهو مصدر ((دعا)) ((يدعو)) وهو لغة يأتي لعدة معان ذكرها علماء الحنفية: 1) النداء: يقال: دعوت فلاناً وبفلان: ناديته وصحت به. 2) السؤال: دعوت فلاناً: سألته. 3) الاستغاثة: دعوت فلاناً: استغثته، والدعاء: الغوث، فالدعاء: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1396 النداء والاستغاثة. 4) والطلب: دعوت فلاناً: استدعيته، وطلب جلب النفع ودفع الضر. 5) الحث على فعل الشيء والدعوة إليه: دعا إليه: طلبه إليه. 6) السوق: يقال: دعاه: ساقه إلى الأمير. 7) التسمية: يقال: دعوت الولد زيداً، أو بزيد: إذا سميته بهذا الاسم. 8) الجعل: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 88] : أي جعلوا. 9) العبادة: يطلق ((الدعاء)) ويراد به ((العبادة)) . 10) رفعة القدر، ورفع الذكر. و ((الدعاء)) في الاصطلاح الشرعي: اسم لجميع العبادة والاستعانة، فالدعاء الاصطلاحي نوعان: دعاء العبادة، ودعاء المسألة. أما النوع الأول: وهو دعاء العبادة - فمعناه: (الطلب والمسألة بامتثال الأمر واجتناب النهي) . وأما النوع الثاني: وهو دعاء المسألة - فمعناه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1397 (المسألة، والطلب بالصيغة القولية) . فالدعاء على هذا: (الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير، والابتهال إليه بالسؤال، ومنه قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] ... ) . تعريف آخر للدعاء وهو: (استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه) . تعريف آخر للدعاء وهو: (سؤال الله تعالى والاستعانة به في الشدائد وطلب إنجاح الحوائج وكشف المشكلات - معتقداً بأنه مالك للنفع والضر بلا حاجة إلى سبب) . قلت: معنى ((دعاء العبادة)) بعبارة أوضح: هو العبادة نفسها، فيكون ((الدعاء)) و ((العبادة)) اسمين مترادفين لمسمى واحد. أما ((دعاء المسألة)) فمعناه: النداء والاستمداد والاستنصار والاستغاثة لدفع الضر وجلب النفع، قولاً وسؤالاًَ وطلباًَ باللسان، ثم دعاء المسألة - فوق الأسباب - مخ العبادة، فإذا أردنا من ((الدعاء)) ((دعاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1398 العبادة)) - يكون ((الدعاء)) بعينه ((العبادة)) ، وهما شيء واحد؛ كالأسد، والغضنفر، وغيرهما من المترادفات. وأما إذا أردنا من ((الدعاء)) ((دعاء المسألة)) - فإن كان فيما فوق الأسباب - يكون ((الدعاء)) نوعاً من أنواع العبادة، وفرداً من أفرادها، وجزيئاً من جزيئاتها؛ فيكون دعاء غير الله شركاً في العبادة، بل أمّا للشرك؛ لأن ((العبادة)) أمر كلي شامل لعدة من الجزئيات التي تندرج تحتها، ومن تلك الجزئيات ((دعاء المسألة)) ؛ فيكون ((دعاء المسألة)) خاصاً وأخص من ((العبادة)) التي هي أمر عام وأعم، فتكون النسبة بينهما عموم وخصوص مطلقاً: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1399 بأن يكون الدعاء أخص مطلقاً، والعبادة أعم مطلقاً. وأن كل دعاء عبادة ولا عكس. قلت: حاصل هذه المباحث اللغوية والاصطلاحية الشرعية التي ذكرها علماء الحنفية - هو إثبات أن دعاء الأموات * ونداءهم عند الكربات * والطلب منهم لإزالة المشكلات * والاستغاثة بهم لجلب المنافع ودفع المضرات * والاستغاثة بهم عند إلمام الملمات * والاستمداد منهم عند نزول الكربات - نوع من أعظم أنواع العبادات؛ فيكون شركاً من أكبر أنواع الإشراك بالله تعالى؛ فبطلت شبهة القبورية، وراحت أدراج الرياح. الجواب الثاني: بإثبات ورود لفظ ((الدعاء)) بالمعنيين السابقين. لقد صرح علماء الحنفية بأن لفظ ((الدعاء)) قد ورد في الكتاب والسنة بمعنى ((السؤال)) تارة، وبمعنى ((العبادة)) أخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1400 أما ورود الدعاء بمعنى السؤال، والنداء، والطلب، والاستغاثة، من الكتاب: 1 - فكقوله تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]- قد فسر بدعاء المسألة. 2 - وقوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} [الأنعام: 41] . 3 - وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]- قد فسر بدعاء المسألة، أي الاستغاثة. فقد قال الإمام ولي الله وغيره من علماء الحنفية مستدلين بهاتين الآيتين: إن المراد من الدعاء فيهما: هو الاستعانة، لا العبادة؛ لأن المشركين كانوا يستعينون بغير الله في حوائجهم، فرد الله تعالى عليهم وأمرهم أن لا يدعوا إلا إياه. 4 - وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] . 5 - وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40] . 6 - وقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1401 قال العلامة شكري الآلوسي في الاستدلال بهذه الآيات على أن الدعاء فيها دعاء المسألة: الدعاء في هذه الآيات دعاء المسألة حال الشدة والضرورة، لمناسبة الحال والضرورة، وما زال أهل العلم يستدلون بالآيات التي فيها الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غيره - على المنع من مسألة المخلوق ودعائه بما لا يقدر عليه إلا الله، وكتبهم مشحونة بذلك. 7 - وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] . وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] .. فالدعاء ههنا: النداء والاستغاثة. أي دعاء المسألة. وقد ساق بعض علماء الحنفية عدة آيات غير ما ذكر لتحقيق أن ((الدعاء)) هو السؤال والنداء والاستغاثة لدفع الكربات * والاستمداد والاستنصار والطلب لجلب الخيرات *. وأن الدعاء بهذا المعنى نوع من أنواع العبادة، بل من أعظم أنواعها وأجلها، وأن دعاء الأموات لدفع الكربات وجلب الخيرات من أعظم أنواع الشرك وأكبرها: 9 - كقوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1402 10 - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14] . 11 - وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39] . 12 - وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56] . 13 - وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] . 14 - وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر: 8] . 15 - وقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] . 16 -17- وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ) [فاطر: 13-14] . 18 - وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194] . 19 -20- وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 72-73] . 21 - وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن ((الدعاء)) نداء، وطلب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1403 واستغاثة عند الكربات * وأنه من أعظم أنواع العبادات وأجلها، وأن نداء الأموات من أكبر الشركيات *. والمقصود: أن أهل العلم يستدلون بهذه الآيات التي فيها الأمر بدعاء الله وحده، والنهي عن دعاء غيره سبحانه - على المنع من سؤال المخلوق ما لا يقدر عليه؛ فكيف يصح زعم القبورية: أن المراد من ((الدعاء)) في هذه الآيات - هو الدعاء، بمعنى العبادة التي هي الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، لا الدعاء بمعنى السؤال، والطلب، والاستعانة، والاستغاثة ......... ؟ وأما ورود ((الدعاء)) بمعنى السؤال، والطلب في السنة: فكقول الله فيما يرويه عليه الصلاة والسلام: (( «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه» .... )) . وأما ما ورد في الكتاب والسنة من احتمال لفظ ((الدعاء)) للمعنيين: ((العبادة)) ، و ((الاستعانة)) . 1 - فكقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] . فالدعاء في هذه الآية يحتمل المعنيين: الأول: ((العبادة)) : فمعنى ((ادعوني)) : (اعبدوني وأطيعوا أمري) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1404 ومعنى ((أستجب لكم)) : (أثبكم) . والثاني: ((السؤال والطلب)) : فيكون معنى ((ادعوني)) : (استغيثوني إذا نزل بكم ضر) و (سلوني) . ومعنى ((أستجب لكم)) : (أعطكم) . 2 - وكقوله صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء هو العبادة» )) . فقد فسر هذا الحديث بكلا النوعين من الدعاء: ((العبادة)) ، و ((السؤال)) . الحاصل: أنه قد تبين من تحقيق علماء الحنفية في ضوء الكتاب والسنة: أن ((الدعاء)) يرد بمعنى ((العبادة)) - وهذا نزر قليل جداً، وحينئذ تكون ((الاستغاثة)) نوعاً من أنواع الدعاء الذي هو بمعنى ((العبادة)) . ويرد بمعنى ((النداء، والطلب، والسؤال، والاستغاثة، والاستعانة)) وهذا الاستعمال أكثر في القرآن والسنة، وأغلب وأظهر وأصرح * وأقرب وأوفر وأوضح *. وحينئذ يكون ((الدعاء)) نوعاً من أنواع العبادة، بل من أفضل أنواعها وأجلها * ومخها ولبها *. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1405 فمن دعا الأموات وناداهم واستغاث بهم عند الكربات * فقد عبد غير الله تعالى بأعظم أنواع العبادات * وأشرك أكبر أنواع الشرك بخالق الكائنات *. الجواب الثالث: أن ((الدعاء)) ، و ((العبادة)) بينهما تلازم، فأحدهما يستلزم الآخر، قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (والمقصود هنا: أن دعاء الله - قد يكون ((دعاء عبادة)) لله، يثاب العبد عليه في الآخرة، مع ما يحصل له في الدنيا. وقد يكون ((دعاء مسألة)) تقضى به حاجته، ثم قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله، وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة، وقد يكون سبباً لضرر دينه، فيعاقب على ما ضيعه من حقوق الله تعالى) . وقال رحمه الله: (فإن ابتغاء الوسيلة إليه - هو طلب ما يتوسل - أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه وتعالى، سواء كان على وجه العبادة، والطاعة، وامتثال الأمر [واجتناب النهي، وهذا هو الدعاء بمعنى العبادة] . أو كان على وجه السؤال له [سبحانه وتعالى] ، والاستعاذة به رغبة في جلب المنافع ودفع المضار [وهذا هو الدعاء بمعنى السؤال، والنداء، والطلب] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1406 ولفظ ((الدعاء)) في القرآن [وكذا في السنة] يتناول هذا وهذا: ((الدعاء)) بمعنى ((العبادة)) ، و ((الدعاء)) بمعنى ((المسألة)) ، وإن كان كل منهما يستلزم الآخر، لكن العبد قد تنزل به النازلة، فيكون مقصوده طلب حاجاته، وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال، والتضرع - وإن كان ذلك من العبادة، والطاعة .... ثم الدعاء، والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز وجل ومعرفته، ومحبته، والتنعم بذكره ودعائه - ما يكون أحب إليه وأعظم قدراً عنده من تلك الحاجة التي أهمته .... وقد يفعل العبد ابتداءً ما أمر به لأجل العبادة لله، والطاعة له، ولما عنده من محبة، وإنابة إليه، وخشية، وامتثال أمره - وإن كان ذلك يتضمن حصول الرزق، والنصر، والعافية) . وقال رحمه الله: (إنهما متلازمان، فكل عابد سائل، وكل سائل عابد .... ولفظ الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، سميت به لتضمنها معنى الدعاء: دعاء العبادة والمسألة .... ) . الجواب الرابع: أن علماء الحنفية قد حققوا بالكتاب والسنة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1407 أن ((الدعاء)) بمعنى النداء، والطلب، والسؤال، والاستمداد، والاستعانة، والاستغاثة فيما فوق الأسباب - من أعظم أنواع العبادة، وأجلها * ومخها، ولبها *. أ- أما الكتاب: 1 - فقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] . وقد سبق كلام علماء الحنفية - آنفاً - في تفسير هذه الآية على أحد الوجهين: أن معناها: استغيثوني إذا نزل بكم الضر واسألوني، أعطكم وأغثكم. ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (عن دعائي) . قلت: لقد صرح كثير من علماء الحنفية في تفسير هذه الآية: بأن إطلاق ((العبادة)) على ((الدعاء)) - * لأجل أن ((الدعاء)) مخ العبادة ولبها * ومن أعظم أنواعها، وأجل أفرادها *. قال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) وغيره من علماء الحنفية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1408 واللفظ للأول: (وجوز أن يكون المعنى: ((اسألوني أعطكم)) - وهو المروي عن السدي. فمعنى قوله تعالى: {يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} -: (يستكبرون عن دعائي) ، لأن الدعاء نوع من العبادة، ومن أفضل أنواعها، بل روى ابن المنذر، والحاكم وصححه، عن ابن عباس أنه قال: (( «أفضل العبادة الدعاء» )) ، وقرأ الآية، والتوعد على الاستكبار عنه؛ لأن ذلك عادة المترفين المسرفين، وإنما المؤمن يتضرع إلى الله تعالى في كل تقلباته، وفي إيقاع ((العبادة)) صلة الاستكبار - ما يؤذن بأن ((الدعاء)) باب من أبواب الخضوع؛ لأن ((العبادة)) خضوع، ولأن المراد بالعبادة ((الدعاء)) ، والاستكبار إنما يكون عن شيء إذا أتي به لم يكن مستكبراً .... وهذا الوجه [أي جعل الدعاء بمعنى السؤال، وجعل العبادة ههنا بمعنى الدعاء]- أظهر بحسب اللفظ، وأنسب إلى السياق؛ لأنه لما جعل المجادلة في آيات الله تعالى من الكبر - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1409 جعل ((الدعاء)) وتسليم آياته من الخضوع؛ لأن الداعي له تعالى، الملتجئ إليه عز وجل - لا يجادل في آياته ... ) . 2 - وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6] . لقد استدل بهذه الآية الكريمة كثير من علماء الحنفية، منهم الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيخ محمد المظفري - على أن الاستغاثة بالأموات شرك؛ لأنها عبادة لغير الله تعالى، بدليل قوله تعالى: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ؛ وأن القبورية قد عبدوا الأموات بسبب استغاثتهم بهم عند الملمات من حيث لا يشعرون. ب- وأما السنة: 1 - فقوله صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء هو العبادة» )) ، ثم قرأ الآية؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1410 فقد استدل بهذا الحديث جمع من علماء الحنفية على أن ((الدعاء)) - بمعنى النداء والاستعانة، والاستمداد، والاستغاثة - من أعظم أنواع العبادة وأجلها وأفضلها ومخها ولبها. وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب: قال العلامة القاري (1014هـ) في شرح هذا الحديث، وكثير غيره من علماء الحنفية، واللفظ له: (( ( «الدعاء هو العبادة» )) أي هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة، لدلالته على الإقبال على الله * والإعراض عما سواه *؛ بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه * قائماً بوجوب العبودية * معترفاً بحق الربوبية * عالماً بنعمة الإيجاد * طالباً لمدد الإمداد * على وفق المراد * وتوفيق الإسعاد *، ((ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ؛ قيل: استدل بالآية على أن ((الدعاء)) ((عبادة)) ؛ لأنه مأمور به، والمأمور به عبادة، وقال القاضي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1411 استشهد بالآية لدلالتها على أن المقصود يترتب عليه ترتب الجزاء على الشرط، والمسبب على السبب، ويكون أتم العبادات، ويقرب من هذا قوله: (( «مخ العبادة» )) . أي خالصها. وقال الراغب: ((العبودية إظهار التذلل، ولا عبادة أفضل منه، لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى)) . وقال الطيبي رحمه الله: ((يمكن أن تحمل ((العبادة)) على المعنى اللغوي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1412 وهو غاية التذلل والافتقار والاستكانة، وما شرعت ((العبادة)) إلا للخضوع للباري، وإظهار الافتقار إليه، وينصر هذا التأويل ما بعد الآية المتلوة: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ؛ حيث عبر عن عدم الافتقار والتذلل بالاستكبار، ووضع: {عِبَادَتِي} موضع: (دعائي) ، وجعل جزاء ذلك الاستكبار الهوان والصغار)) . قال ميرك: أتي بضمير الفصل، والخبر المعرف باللام؛ ليدل على الحصر في أن ((العبادة)) ليست غير ((الدعاء)) مبالغة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1413 ومعناه: ((الدعاء)) معظم ((العبادة)) ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( «الحج عرفة» )) . أي معظم أركان الحج الوقوف بعرفة، أو المعنى: أن ((الدعاء)) هو ((العبادة)) سواء استجيب أو لم يستجب؛ لأنه إظهار العبد العجز والاحتياج من نفسه، والاعتراف بأن الله تعالى قادر على إجابته، كريم لا بخل له ولا فقر ولا احتياج له إلى شيء، حتى يدخر لنفسه ويمنعه عن عباده، وهذه الأشياء هي العبادة، بل مخها .... 2- وقوله صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء مخ العبادة» )) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1414 لقد استدل كثير من علماء الحنفية بهذا الحديث على أهمية الدعاء بمعنى النداء والطلب والاستعانة والاستغاثة، وأنه مخ العبادة ولبها، وأنه من أهم أنواع العبادة: وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية في شرح هذا الحديث لتحقيق هذا المطلوب: 1 - قال الحكيم الترمذي (320هـ) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1415 (الأصل السابع والعشرون والمائة في بيان أن الدعاء لم صار مخ العبادة ... إنما صار مخاً لها، لأنه تبري من الحول والقوة، واعتراف بأن الأشياء كلها له، وتسليم إليه، إن كان رزق، أو عافية، أو نوال، أو دفع عقاب، فمنه، إذا سأله فقد تبرأ من الاقتدار، والتملك، والحول، والقوة، والدعاء سؤال حاجة وافتقار، فإنما يظهر على القلب، ثم على اللسان، فما على القلب يسمى عبودة، وما على اللسان عبادة) . 2 -4- وقال العلامة القاري (1014هـ) ، والشيخ عبد الحق الدهلوي (1052هـ) ، والغورغوشتوي (1388هـ) واللفظ للأول: (الدعاء مخ العبادة: أي لبها، والمقصود بالذات من وجودها، قيل: مخ الشيء خالصه، وما يقوم به كمخ الدماغ الذي هو نقيه، ومخ العين ومخ العظم شحمهما، والمعنى: أن العبادة لا تقوم إلا بالدعاء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1416 كما أن الإنسان لا يقوم إلا بالمخ) . 5 - وقال الإمام الفتني الملقب عند الحنفية بملك المحدثين (986هـ) : (الدعاء مخ العبادة، لأنه امتثال أمر الله بقوله: {ادْعُونِي} [غافر:60] ، ولأنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع أمله عما سواه، ودعاه لحاجته وحده، وهذا أصل العبادة، ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها، وهو المطلوب بالدعاء) . 6 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي الملقب عند الحنفية بحجة الله على العالمين، وحجة الهند (1176هـ) : (ومنها الدعاء، فإنه يفتح باباً عظيماً من المحاضرة، ويجعل الانقياد التام والاحتياج إلى رب العالمين في جميع الحالات بين عينيه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء مخ العبادة» )) .... ) . 7 - وللعلامة شكري الآلوسي كلام مهم في شرح هذا الحديث وتحقيق أن الدعاء لب العبادة، ومن أجل أنواع العبادة، وأن الدعاء إيمان، أي من أعظم أعمال الإيمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1417 8 - وللشيخ فضل الله الجيلاني الحنفي (1979م) كلام نحو هذا. 3 - وقوله صلى الله عليه وسلم: (( «أشرف العبادة الدعاء» )) . قال الشيخ فضل الله الجيلاني الحنفي (1979م) في شرح هذا الحديث: (أشرف العبادة: أي الأمور التي يظهر فيها المرء عبوديته وكونه عبد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1418 الله - فمن أشرفها الدعاء، أي ليس الدعاء إلا إظهار المرء فاقته والاستكانة إلى ربه .... إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله، والاستكانة له، ولذا جعل جزاء الاستكبار الصغار والهوان ...... وإذا اعتبرنا العبادات الشرعية سوى الدعاء - وجدنا الشارع قد شرع الدعاء في كل منها بما يوافق ذلك القصد، فصار الدعاء عبارة عن الأمرين: السؤال باللسان، والقصد بالجنان؛ لأن الدعاء باللسان إنما هو ترجمة لذلك القصد، فإذا صح هذا: فإننا إذا أفرزنا الدعاء من العبادة - وهو القصد القلبي، وترجمته اللسانية - لم يبق من العبادة إلا صورتها، ولا شك أن القصد القلبي مع الترجمة عنه - أكرم على الله تعالى وأشرف من صورة العبادة مجردة عن ذلك، ولهذا صح أن (( «الدعاء مخ العبادة» )) . وهو معنى: أن الدعاء هو العبادة، على وزان قوله [صلى الله عليه وسلم] : (( «الحج عرفة» )) ... ) . الحاصل: أن علماء الحنفية قد حققوا في ضوء نصوص الكتاب والسنة أن نداء الأموات عند الملمات * والاستغاثة بهم من أعظم العبادات * وأن هؤلاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1419 القبورية بسبب استغاثتهم بالأموات عند البليات * قد عبدوهم وأشركوهم بخالق الأرضين والسماوات *. ولذلك قال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيخ محمد المظفري، بعد ذكر عدة آيات كريمات، منها: قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ .... وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6] : لقد تبين أن هذا النوع من الدعاء في الحقيقة نوع من أنواع العبادة، لأن الله تعالى قد بين أن هؤلاء المدعوين سيكفرون بعبادة هؤلاء الداعين، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء هو العبادة» )) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء مخ العبادة» )) ، فثبت أن دعاء هؤلاء القبورية ونداءهم الأولياء عند الكربات * واستغاثتهم بهم عند الملمات * أو زيارة قبورهم للاستعانة بهم - هو في الحقيقة عبادة من هؤلاء القبورية لهؤلاء الأولياء، وإن هم يزعمون أنهم يذهبون لزيارة قبورهم، ولا يعبدونهم، فهم قد عبدوهم وهم لا يشعرون. قلت: المقصود أنه قد ثبت بالكتاب والسنة ونصوص علماء الحنفية أن الدعاء والاستغاثة من أعظم أنواع العبادة ومخها ولبها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1420 وأن القبورية باستغاثتهم بالأموات عند الكربات والملمات * قد عبدوا غير الله، وأشركوا بخالق البريات * فبطل زعمهم: أن الدعاء ليس من العبادات. الجواب الخامس: أن علماء الحنفية حققوا: أن المشركين السابقين قد كانت عبادتهم لآلهتهم الباطلة - هي هذا الالتجاء إليهم، من الدعاء والنداء عند الملمات * والاستعانة بهم والاستغاثة عند الكربات * وأن إشراكهم بالله هو استغاثتهم بغير الله عند البليات * وأن القبورية في ذلك على طريقة الوثنية الأولى، فكيف يصح زعمهم أن الدعاء ليس من العبادة؟ . وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب، وبالله التوفيق: 1 -2- قال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وشكري الآلوسي (1342هـ) ، بعد تحقيق أن المشركين لم يشركوا بالله في الخالقية، والرازقية، والربوبية، واللفظ للأول: (فكان جل أحوال المشركين مع آلهتهم - التوكل عليهم، والالتجاء إليهم بشفاعتهم .... ومن تأمل بعين الاستبصار في الشفاعة المنفية أولاً - علم أن المقصود بنفي الشفاعة نفي الشرك: وهو أن لا يعبد إلا الله، والدعاء عبادة كما ورد، وقال سبحانه: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] ؛ فلا يسأل غيره، ولا يتوكل على غيره لا في شفاعة، ولا في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1421 غيرها .... فالشفاعة التي نفاها القرآن مطلقاً ... ما كان فيها شرك، وتلك منفية مطلقاً، والشفاعة المثبتة ما يكون بعد الإذن يوم القيامة، ولا تكون الشفاعة إلا لمن ارتضى .... إذا تبين هذا - فالمشركون قد كانت عبادتهم لآلهتهم هذا الالتجاء والرجاء والدعاء لأجل الشفاعة، معتقدين أنها المقربة لهم، فبسبب هذا الاعتقاد والالتجاء - أريقت دماؤهم، واستبيحت أموالهم ...... فهذا الالتجاء بطلب الشفاعة ورجائها - عبادة لا تصلح إلا له عز وجل، وإنها من صرف حقوقه، ومن الشرك. فإن قلت: ((إن المشركين كانوا يعبدونهم ونحن لا نعبدهم)) . فالجواب: أن عبادتهم هي هذا الالتجاء الذي أنت فيه، وكما أنك تدعو النبي صلى الله عليه وسلم ....... وتدعو غيره ملتجئاً إليهم بطلب الشفاعة منهم - كذلك الأولون كانوا يدعون صالحين أنبياء ومرسلين * طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين * كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ، فبهذا الالتجاء والتوكل على هذه الشفاعة والرجاء - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1422 أشركوا) . 3 -4- وقالا أيضاً، واللفظ للثاني: (ولئن قلت: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم مأذون له فيها)) . فالجواب: أنه صلى الله عليه وسلم الآن موعود بالشفاعة، ووعد الله حق، لكنها مشروطة بيوم القيامة، وأنها بعد إذن الله ورضاه عن المشفوع فيه، فلا تطلب منه الآن - ولو كانت تطلب منه الآن - لجاز لنا أن نطلبها أيضاً ممن وردت الشفاعة لهم، كالقرآن، والملائكة، والأفراط، والحجر الأسود، والصالحين - ولجاز لنا أن ندعوهم، ونلتجئ إليهم، ونرجوهم بهذه الشفاعة؛ إذ لا فرق بين الجميع في الثبوت والإذن - فنصير إذن والمشركين الأولين في طريق واحد، وحال واحد، ولم نفترق إلا بالأسماء الظاهرة، وقول كلمة التوحيد من غير عمل بما فيها ولا اعتقاد لحقيقتها، ولا يقدم على ذلك من له أدنى مسكة من عقل، أو فكرة فيما صح من النقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1423 ومن نظر بعين الإنصاف * وتجنب سبيل الاعتساف * ونظر إلى ما كان عليه الأولون، وعرف كيف كان شركهم؟ وبماذا أرسل الله لهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما هو التوحيد؟ وما معنى الإله والتأليه؟ وتبصر في العبادات وأنواعها - تحقق له: أن هذا الالتجاء والتوكل والرجاء، بمثل طلب الشفاعة - هو الذي حورب من أجله الأولون * وأرسل لأجل قمعه المرسلون * وبذلك نطق الكتاب * وبينه لنا خير من أوتي الحكمة وفصل الخطاب * سيما إذا استغيث بهم لدفع الشدائد والملمات * مما لا يقدر على دفعه ورفعه إلا خالق الأرض والسماوات * وقد كان المشركون الأولون إذا وقعوا في شدة - {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ، ومن فعل ذلك بحالتي الشدة والرخاء * بل في قسمي المنع والعطاء * - فقد جاوز حده * واستحق أن يكون سيف الرسالة غمده * قال سبحانه: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14] . إذا علمت هذا - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1424 ظهر لك قول العراقي [ابن جرجيس] : ((إن هذه الآية واردة في الأصنام)) الخ. فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما نبه عليه الأصوليون، وإلا لتعطلت جميع المسائل، وكذا قوله [ابن جرجيس] : ((فهي رد على الكفار لا على المسلمين)) الخ. فإنا قد ذكرنا: أنه لا فرق بين الفعلين * ولا تغاير بين الصنيعين * فما يستوجبه أحدهما يستوجبه الآخر؛ فإنه سبحانه إذا ذم فعلاً ورتب عليه حكماً - لا يختص به فرد دون فرد، ولا شخص دون شخص) . 5 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) محققاً أن عبادة المشركين لآلهتهم - هي هذا الدعاء والالتجاء والنداء والاستغاثة: (فالجواب عن هذه العبارة الركيكة، والكلام السخيف: قد سبق غير مرة، وذلك أن يقال: إن غالب عبدة الأصنام - لم تكن عبادتهم لها سوى ما ذكره العراقي، كما يدل على ذلك قوله سبحانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1425 {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، وغير ذلك من الآيات، فطلب ما لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه، والنداء في الشدائد، والالتجاء، ونحوه من أي مخلوق كان - هو عين عبادة الأصنام * من غير فرق عند ذوي البصائر، والأفهام * والتفرقة بينهما من غير فارق * ومن فرق فهو زائغ مارق*) . تنبيه: للعلامة الخجندي كلام - يأتي نصه - يصلح أن يكون جواباً سادساً، وهو وجه عقلي وجيه. الشبهة العشرون: شبهة التسمية: تزعم القبورية أن المشركين السابقين كانوا يسمون آلهتهم أرباباً، ويسمون معاملتهم معهم عبادة، بخلافنا نحن، فنحن لا نسمي الأولياء أرباباً، ولا نسمي معاملتنا معهم عبادة، بل نتوسل بهم، ونستغيث بهم، وهذا ليس بعبادة. وفي ذلك قال ابن جرجيس (1299هـ) : (أولاً: أن المشركين الكفار اتخذوا من دون الله أولياء أي أرباباً .... ثانياً: أن الكفار يقولون: نعبدهم. وأما التوسل، والنداء، فليس من العبادة عند جميع المسلمين، لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1426 لغة، ولا شرعاً، ولا عرفاً) . ومثله كلام لجميل صدقي الزهاوي العراقي (1354هـ) . والجواب: أن الحقائق لا تتغير بتغيير الأسماء، فالعبرة للحقائق الثابتة الواقعة، لا للأسماء، فالخمر خمر وإن غير اسمها، والزنى زنى وإن غير اسمه باسم مزخرف. وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لإبطال هذه الشبهة: 1 - قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) بعد نقله قول ابن جرجيس العراقي (1299هـ) السابق: (وأما قول العراقي: ........ فقد أراد به التفرقة بين الفريقين: أعني هو وأضرابه المغالين في خلص عباد الله، والمشركين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1427 وحاصل ما فرق به: أن المشركين كانوا يسمون أولياءهم أرباباً، وهؤلاء لا يسمونهم بهذا الاسم. وأن معاملتهم مع أوليائهم كانوا يسمونها عبادة، وهؤلاء لا يسمون استغاثتهم بالصالحين وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله منهم، ونداءهم في الملمات، ودفع الشدائد، والالتجاء إليهم، والنذر لهم، والحلف بهم - لا يسمون ذلك عبادة ...... وهذا كله باطل، قاده إليه سوء فهمه، واتباعه لهواه، وبدعته، فإنه قد سبق أن الرب وضع للمعبود، كما وضع للمالك، والمربي، والخالق، وكذا لا يلزم أن لا يكون العمل عبادة إلا بالتسمية، فمن سجد لآخر - فقد اتخذه ربا وعبده، وإن لم يسم سجوده عبادة والمسجود له رباً، كما أسلفنا ذلك. وقد مر أيضاً مراراً عديدة: أن من العبادة طلب ما لا يقدر عليه إلا الله، ونحو ذلك من خصائص الألوهية، والعبادة ليست منحصرة في الركوع والسجود) . 2 - وقال رحمه الله محققاً أن العبرة بالمسميات لا بالتسمية: (وأما قوله: ...... - فمما يضحك الثكلى، بل لا تجد له معنى ولا محصلاً، وكأن مراده: أن الأفعال الشركية لا تكون شركاً - ما لم يسمها فاعلها عبادة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1428 فيلزم أن لا يكون السجود مثلاً لغير الله تعالى شركاً - ما لم يسمه الساجد عبادة، (( {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} )) . وقد صرح العلماء بأن المسميات ليست تابعة للأسماء، فالذهب مثلاً ذهب وإن سميناه رصاصاً، أو لم نسمه باسم) . 3 - وقال رحمه الله أيضاً، مبيناً أن لا عبرة للأسماء، وإنما العبرة للحقائق والمسميات: (قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] ؛ فسجل على من أمر بدعاء الصالحين والاستعانة بهم - بالجهالة، سواء سمى ذلك توسلاً وتشفعاً واستنصاراً أو كرامة، أو لم يسمه) . 4 - وقال الإمام محمد البركوي (981هـ) مبيناً أن العبرة للحقائق والمسميات، مبطلاً شبهات القبورية في الأسامي: (فالمعرض عن التوحيد مشرك وكافر، شاء أم أبى. والمعرض عن السنة مبتدع ضال، شاء أم أبى) . 5 - وقريب منه كلام للإمام أحمد الرومي (1043هـ) . 6 -7- والشيخين: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1429 8 -9- وقد سبق قريباً كلام الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) وتبعه الشيخ المظفري: أن القبورية باستغاثتهم بالأموات عند الكربات - يعبدونهم من حيث لا يشعرون، وإن هم يقولون: لا نعبدهم. 10 - وقال العلامة الخجندي (1379هـ) محققاً أن محاولة تغيير الحقائق والمسميات والمصطلحات - بتغيير أسمائها - مكيدة من مكائد الشيطان التي أدخل بسببها الشرك على القبورية في قوالب شتى مزينة، وأسماء مزخرفة: (نحن نعلم بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لأحد أن يدعو أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم - بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك، بل نعلم يقيناً أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من أعظم مكائد الشيطان على بني آدم قديماً وحديثاً - إدخال الشرك فيهم في قالب تعظيم الصالحين، وتوقيرهم، بتغيير اسمه بالتوسل والتشفع، ونحوه، فالمشرك مشرك، شاء أم أبى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1430 والزنى زنى، وإن سمي جماعاً، والخمر خمر وإن سمي شراباً، وكل معبود من دون الله - فهو جبت وطاغوت، ويدخل فيه رءوس الضلال، والكهان، وسدنة الأوثان، إلى عباد القبور، وغيرهم - بما يكذبون من الحكايات المضلة للجهال، الموهمة أن المقبور يقضي حاجة من توجه إليه وقصده - فيوقعهم في الشرك الأكبر وتوابعه * نعوذ بالله منه وطابعه *) . 11 - وقال رحمه الله أيضاً، محققاً أن الحقائق والمسميات - لا تتغير بتغير الأسماء، مع تحقيق أن ((نداء الأموات)) عبادة: (اعلم: أن كثيراً من الناس يسمون أنفسهم: ((موحدين)) ، وهم يفعلون مثل ما يفعل جميع المشركين: من دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، والنذر لهم، ولكنهم لا يسمون أعمالهم هذه: ((عبادة)) ، فيفسدون في اللغة، كما يفسدون في الدين، وقد يسمونها: ((توسلاً)) ، و ((شفاعة)) ، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله: ((شركاء)) ، ولكنهم لا يأبون أن يسموهم: ((أولياء)) ، و ((شفعاء)) ، وإنما الحساب والجزاء على الحقائق، لا على الأسماء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1431 ولو لم يكن منهم إلا دعاء غير الله، ونداؤه - لقضاء الحاجات * وتفريج الكربات * - لكفى ذلك عبادة له، وشركاً بالله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( «الدعاء مخ العبادة» )) ، رواه أبو داود، والترمذي، وهذا يفيد حصر العبادة الحقيقية في الدعاء، ومن تأمل تعبير الكتاب العزيز عن ((العبادة)) بـ ((الدعاء)) - في أكثر الآيات الواردة في ذلك - يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم: أن ((الدعاء)) هو: ((العبادة)) الحقيقية الفطرية - التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس، ولا سيما عند الشدة، وأما ما عدا الدعاء من العبادات في جميع الأديان - فكله أو جله، تعليمي تكليفي، يفعل بالتكليف، والقدوة، وقد يكون في الغالب خالياً عن الشعور - الذي به يكون القول، أو العمل: ((عبادة)) ، وهو الشعور بالسلطة الغيبية - التي هي وراء الأسباب العادية، أما ترى إلى حافظ الأدعية الراتبة - يحرك بها لسانه - وقلبه مشغول بشيء آخر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1432 وإنما العبادة جد العبادة: في الدعاء - الذي يفيض على اللسان من سويداء القلب، وقرارة النفس، وهذا الدعاء الخالص - الذي يغشاه جلال الإخلاص) . [ولذا نقول: إنه هو العبادة ومخها ولبها] . قلت: لقد تبين للقراء الكرام بعد اطلاعهم على تحقيقات علماء الحنفية وجهودهم وأجوبتهم عن شبهات القبورية - التي تشبثوا بها لدعم وثنيتهم، وجواز استغاثتهم بالأموات * عند الكربات لدفع المضرات وجلب الخيرات *. أن القبورية لا يمكن لهم الآن أن يخوفوا أحداً من أهل التوحيد بشبهاتهم التي هي أوهن من بيت العنكبوت * الذي لا قرار له، ولا له شيء من الثبوت * وتبين أن شبهاتهم كصرير باب * أو كطنين ذباب *. فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة الذباب يضيرني؟ وستعلم القبورية أيضاً أن علماء الحنفية قد حاسبوهم حساباًَ شديداً، حيث كشفوا الأستار عن أسرارهم، وبينوا أكاذيبهم وتلبيساتهم، وحققوا أنهم في استغاثاتهم بالأموات وثنية على دين الوثنية الأولى، وبهذه المناسبة أتمثل بالبيت الآتي: ستعلم ليلى أي دين تدينت ... وأي غريم في التقاضي غريمها وستعرف القبورية أن أهل التوحيد الذين ينبزونهم بالوهابية ليسوا وحدهم، رادين على القبورية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1433 فلست وحيداً يا ابن حمقاء فانتبه ... ورائي جنودي كالسيول تدفق وبعد ما عرفنا بطلان أهم شبهات القبورية في باب الاستغاثة - ننتقل إلى الباب الآتي في التوسل، لأن توسل القبورية في الحقيقة استغاثة بغير الله، وبذلك يستوفى الرد على القبورية في الاستغاثة بالأموات عند الكربات، فنقول وبربنا الرحمن المستعان نستعين *وعليه التكلان وبه نستغيث إذ هو المعين *: ***** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1434 الباب التاسع في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية في التوسلات الشركية والبدعية وفيه فصول ثلاثة: - الفصل الأول: في تعريف التوسل والوسيلة لغة واصطلاحاً شرعياً عند علماء الحنفية وعند القبورية. - الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في بيان أنواع التوسل، الشرعية منها والقبورية، وإبطال التوسلات القبورية، الشركية منها والبدعية. - الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية في توسلاتهم الشركية والبدعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1435 الفصل الأول في تعريف التوسل والوسيلة لغة واصطلاحاً شرعياً عند علماء الحنفية وعند القبورية. وفيه مطالب ثلاثة: - المطلب الأول: في تعريف التوسل والوسيلة لغة. - المطلب الثاني: في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح الشرع عند علماء الحنفية. - المطلب الثالث: في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح القبورية وأنواع التوسل عندهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1437 المطلب الأول في تعريف التوسل والوسيلة لغة لقد ذكرت بعض جهود علماء الحنفية في المباحث السابقة في إبطال عقيدة القبورية في الاستغاثة بغير الله تعالى. وحققت على لسان علماء الحنفية: أن القبورية باستغاثتهم بالأموات مرتكبون للشرك برب البريات. بل واقعون في أم لعدة أنواع من الشرك بخالق الكائنات، وأنهم أشد وأشنع وأبشع شركاً من الوثنية الأولى في باب الاستغاثات. وأنهم أشد خوفاً ورجاء وأكثر خشوعاًَ وخضوعاً وأعظم عبادة للأموات منهم لخالق الأرضين والسماوات في المساجد والأسحار من الأوقات. وبهذه التحقيقات والمقارنة التي قام بها علماء الحنفية تحقق أن القبورية فرقة مشركة وثنية. ولما كان توسل القبورية من جنس استغاثتهم بالأموات، ناسب الكلام عليه عقب باب الاستغاثة. لذا عقدت له في هذا الباب. ويقتضي وضع هذا الباب أن يكون مشتملاً على فصول ثلاثة. أما الفصل الأول ففيه مطالب ثلاثة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1439 أتولى فيها الكلام على التوسل لغة، واصطلاحاً، وأميز بين أنواع التوسل الشرعي، وبين أنواع التوسل الشركي البدعي. وأذكر بعض جهود علماء الحنفية في إبطال التوسل القبوري. كما أذكر بعض جهودهم في إبطال شبهات المتوسلين بالأموات. فأقول وبربي أستغيث وأستعين، إذ هو المستغاث المغيث، المستعان المعين: أ- التوسل لغة: ((التوسل)) تفعل من مادة ((وس ل)) وله معان ثلاثة: الأول: التقرب إلى الشيء بشيء: بعمل، أو كتاب، أو قرابة، أو سبب آخر. فالتوسل: هو التقرب إلى شيء بوسيلة أيا كانت. وبلفظ آخر: التوسل: هو ابتغاء الوسيلة ليتقرب بها إلى شخص آخر، للحصول على مطلوبه منه بسببها. الثاني: الشفاعة: يقال: شفعت: إذا كنت متوسلاً له. الثالث: السرقة: يقال: أخذ فلان إبل فلان توسلاً: أي سرقة خفية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1440 قلت: يمكن أن يرجع المعنيان: الثاني والثالث إلى الأول، لأن الشفاعة أيضاً وصول إلى المطلوب بسبب، وأخذ فلان إبل فلان توسلاً أيضاً، حصول لهذا المطلوب بنوع من السبب الخفي. الحاصل: أن ((التوسل)) مصدر من باب ((التفعل)) . وباب ((التفعل)) له عدة معان، منها ((الاتخاذ)) ، نحو ((توسد الحجر)) فمعنى ((التوسل)) اتخاذ الوسيلة إلى الشخص لحصول المطلوب منه. ب- ((الوسيلة)) لغة: إذا كان التوسل: هو اتخاذ الوسيلة، وابتغاؤها، فما معنى الوسيلة؟ . والجواب أن الوسيلة لها عدة معان أذكر بعضها: 1 - التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من ((الوصيلة)) لتضمنها لمعنى الرغبة. 2 - كل ما يتوصل به إلى الشيء وما يتقرب به إلى الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1441 3 - القربة. 4 - الرغبة. 5 - الحاجة. قلت: من شواهد هذا المعنى للوسيلة قول عنترة بن شداد: إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1442 فقد استشهد به السيوطي (111هـ) وغيره لكون الوسيلة بمعنى الحاجة. ولكن جعله الإمام ابن جرير الطبري (310هـ) وغيره شاهداً لكون الوسيلة بمعنى القربة. واضطرب صنيع بعض الفضلاء فذكره شاهداً للمعنيين: (الحاجة والقربة) . قلت: لا يصلح هذا البيت شاهداً لكون الوسيلة بمعنى ((القربة)) لأن الشاعر يقصد (مخاطباً زوجه منكراً على إنكار زوجه على اهتمامه بمهره) : أنه دائماً يهتم بتربية مهره ليكون مستعداً لدفع هجوم أعدائه، لأنهم إن أسروه استخفوا به، ويمشي على أقدامه، وإن أسروها يكرموها ويركبوها، لأن لهم حاجة ماسة إليها وهي أيضاً ستكتحل لهم وتتخضب لتتزين لهم، بحكم الأنوثة، كما يدل على كل ذلك قصيدته التي منها هذا البيت. 6 - المحبة. 7 - الطلب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1443 8 - المسألة. قلت: ((المسألة)) و ((الطلب)) و ((الحاجة)) بمعنى واحد. 9 - القربى. 10 - الوصلة. قلت: يمكن رجوع ((القربى)) إلى ((القربة)) وكذا ((الوصلة)) . 11 - المنزلة عند الملك. 12 - الدرجة. قلت: هذا المعنى أعم من الذي قبله. 13 - الذريعة والسبب. قلت: يمكن رجوع هذا المعنى إلى الأول. 14 - وكيل الرجل. وغيرها من معاني الوسيلة. أقول: يظهر من كلام أهل اللغة: أن ((الوسيلة)) قد يراد بها المعنى الاسمي، نحو: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1444 ((الحاجة)) ، و ((المنزلة)) ، و ((القرابة)) ، و ((الوكيل)) ، و ((كل ما يتوسل به إلى المقصود)) . وقد يراد بها المعنى المصدري، نحو: ((المحبة)) ، و ((الرغبة)) ، و ((الطلب)) ، ونحو ذلك. هذه كانت عدة معان لغوية للوسيلة، ذكرتها عن علماء الحنفية وغيرهم، وبعد هذا أنتقل إلى معنى التوسل والوسيلة الاصطلاحي الشرعي عند علماء الحنفية. ***** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1445 المطلب الثاني في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح الشرع عند علماء الحنفية لقد سبق أن ذكرت معاني التوسل والوسيلة اللغوية عن علماء الحنفية وغيرهم. وفي هذا المطلب أذكر معنى التوسل والوسيلة الاصطلاحي الشرعي عند علماء الحنفية. فأقول وبالله التوفيق: لقد صرح علماء الحنفية بأن الوسيلة في شرع الله تعالى هي القربة إلى الله عز وجل، وما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى. أقول: ((القربة)) إلى الله عز وجل - معنى مصدري للوسيلة. و ((ما يتقرب به إلى الله سبحانه)) معناها الأسمى. والمناسبة بين المعنى اللغوي، وبين المعنى الاصطلاحي للوسيلة - أن المعنى اللغوي أعم مطلقاً، وأن المعنى الاصطلاحي أخص مطلقاً، فيكون معناها الاصطلاحي فرداً من أفراد معناها اللغوي، وإذا ثبت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1447 أن ((الوسيلة)) الشرعية إنما هي: ((القربة)) أو ((ما يتقرب به)) ، ولكن لا مطلقاً؛ بل إلى الله جل وعلا - فيكون معنى ((التوسل)) اتخاذ ((القربة)) ، و ((ابتغاؤها)) ، و ((اتخاذ)) ((ما يتقرب به)) و ((ابتغاؤه)) ، ولكن لا مطلقاً، بل إلى الله سبحانه وتعالى. ثم المراد من ((القربة)) إلى الله تعالى، واتخاذ ((القربة)) وابتغاؤها، ليس مطلقاً أيضاً. بل المراد من ((القربة)) إلى الله سبحانه وتعالى، واتخاذ ((القربة)) وابتغائها إليه جل وعلا - ((القربة)) و ((ابتغاؤها)) إليه سبحانه بما يرضيه، وذلك لا يمكن إلا بطاعته: من امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وذلك بفعل الطاعات، وترك السيئات، فهذا مسمى ((الوسيلة)) ومصداقها. فالتوسل الاصطلاحي الشرعي - هو التقرب إلى الله عز وجل بفعل الطاعات، وترك المنكرات. هذا هو حاصل كلام علماء الحنفية في تعريف التوسل والوسيلة في اصطلاح الشرع، وبيان مسماها ومصداقها. **** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1448 المطلب الثالث في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح القبورية وأنواع التوسل عندهم لقد ذكرت خلاصة مذهب علماء الحنفية في تعريف التوسل والوسيلة في شرع الله تعالى. وبيان مصداقهما، ومسماهما: أن ((الوسيلة)) هي القربة إلى الله عز وجل بما يرضيه، وأن ((التوسل)) هو التقرب إلى الله جل وعلا بما يرضاه، وذلك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. ولكن القبورية شذوا فأدخلوا في مفهوم ((الوسيلة)) و ((التوكل)) الاستغاثة بالأموات، لرفع الكربات وجلب الخيرات، وقد سبق أن ذكرت عقيدة القبورية في الاستغاثة والتوسل بالأموات على وجه التفصيل، فلا حاجة إلى الإعادة. ولكن أذكر ما لا بد من ذكره ههنا لعرض مذهب القبورية في التوسل بالأموات، في عدة من الفقرات والكلمات، فأقول وبربي أستعين وأستغيث، إذ هو المعين وهو المغيث: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1449 1 - قول عامة القبورية: إن الاستغاثة والتوسل شيء واحد، قالوا: (واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو التشفع، أو التجوه أو التوجه، لأنهما من الجاه، والوجاهة، ومعناه: علو القدر والمنزلة، وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه ....... ) . 2 - قول القبورية: إن ((الباء)) في ((المستغاث به)) ، و ((المتوسل به)) للاستغاثة، فالتوسل عندهم نوع من الاستغاثة والاستعانة. قال السبكي (756هـ) وتبعه آخرون من خلطائه القبورية: (وأما الاستغاثة: فهي طلب الغوث، وتارة يطلب الغوث من خالقه، وهو الله وحده ..... ، وتارة يطلب ممن يصح إسناده إليه على سبيل الكسب، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذين القسمين تعدى الفعل تارة بنفسه ... ، وتارة بحروف الجر ...... فيصح أن يقال: استغثت النبي صلى الله عليه وسلم، واستغثت بالنبي صلى الله عليه وسلم - بمعنى واحد، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه - على النوعين السابقين في التوسل، من غير فرق، وذلك في حياته، وبعد مماته ... فصار لفظ الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم له معنيان: أحدهما: أن يكون مستغاثاً. والثاني: أن يكون مستغاً به، ويكون الباء للاستعانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1450 فقد ظهر إطلاق ((الاستغاثة)) ، و ((التوسل)) جميعاً .... ) . 3 - أحوال جواز التوسل عند القبورية. لقد سبق أن القبورية يجوزون التوسل بمعنى الاستغاثة والاستعانة بغير الله تعالى: من الأنبياء والأولياء الأحياء والأموات. 4 - بل سبق أنهم يرجحون التوسل بمعنى الاستغاثة بالأموات، على التوسل بمعنى الاستغاثة والاستعانة بالأحياء. 5 - أنواع التوسل عند القبورية: الأول: أن يدعوا الله تعالى بذات الميت، أو ببركته، أو بحرمته، أو بحقه، أو بجاهه، ونحو ذلك؛ نحو: اللهم إني أسألك بوليك فلان. الثاني: أن يطلب من الميت الشفاعة عند الله في قضاء حاجته، بأن يقول للميت: يا فلان! ادع الله لي: أن يرد علي بصري. الثالث: أن يطلب من الميت حاجته نفسه، ونحو ذلك بأن يقول للميت: يا فلان! رد علي بصري، واقض حاجتي، واشف مريضي، ونحو ذلك. 6 - ألفاظ التوسل عند القبورية: لقد سبق أن القبورية يجوزون التوسل والاستغاثة بالأموات، بأنواع من الألفاظ والكلمات وشتى التعبيرات. فقالوا: يجوز بلفظ الاستغاثة، والتوسل، والتشفع، والتجوه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1451 والتوجه. فهذه خمس كلمات. الكلمة السادسة: أن يقول: بفلان؛ فقد قال السبكي (756هـ) : (يسأل الله تعالى به ... ) . الكلمة السابعة: أن يقول: بذات فلان. الكلمة الثامنة: التوسل ببركة فلان؛ فقد صرح به السبكي (756هـ) وغيره. الكلمة التاسعة: التوسل بحرمة فلان. الكلمة العاشرة: التوسل بشرف فلان. الكلمة الحادية عشرة: التوسل بقرب فلان. الكلمة الثانية عشرة: التوسل بحق فلان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1452 إلى غيرها من ألفاظ التوسل عند القبورية. الكلمة الثالثة عشرة: التوسل بوجه فلان. الكلمة الرابعة عشرة: التوسل بروحانية فلان. إلى غيرها من ألفاظ التوسل البدعي القبورية. 7 - الحاصل: أن القبورية قد أدخلوا في مفهوم التوسل الاستغاثة بالأموات، التي ليست بشرك فحسب، بل أم لعدة أنواع من الإشراك بخالق الأرض والسماوات. وحرفوا دين الله أشنع التحريفات بأبشع التبديلات، وغيروا المصطلحات الشرعية بما هو عين الوثنيات، وفسروا بتوسلاتهم البدعية نصوص الكتاب والسنة، وادعوا إجماع السلف والخلف، فافتروا على أئمة الأمة، بل تقولو على الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين. قال السبكي (756هـ) وتبعه خلطاؤه القبورية إلى يومنا هذا: (اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى. وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين، وسير السلف الصالحين، والعلماء والعوام من المسلمين، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1453 حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار. وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار. وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوكل، قول لم يقله عالم قبله، وصار بين أهل الإسلام مثله .... ) . وقال البروسوي القبوري الحنفي، الإسلامبولي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1454 الجلوتي الاتحادي الصوفي، (1127هـ) ، أو (1137هـ) في تفسير الوسيلة ومسماها: (الوسيلة علماء الحقيقة، ومشايخ الطريقة) . قلت: هذه كانت عقيدة القبورية في التوسل والوسيلة وأنواعها، الشركية والبدعية. وبعد هذا أنتقل إلى الفصل الثاني؛ لنعرف أنواع التوسل الشرعية، وأنواعه القبورية عند علماء الحنفية *. كما نعرف جهودهم في إبطال توسلات القبورية، الشركية منها والقبورية *. * والله المغيث والمستعان * وهو المعين وعليه التكلان * **** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1455 الفصل الثاني في جهود علماء الحنفية في بيان أنواع التوسل، الشرعية منها والقبورية وإبطال التوسلات القبورية، الشركية منها والبدعية وفيه مطالب ثلاثة: - المطلب الأول: في بيان أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية. - المطلب الثاني: في بيان أنواع التوسل القبوري الشركي والبدعي عند علماء الحنفية. - المطلب الثالث: في إبطال علماء الحنفية لتوسلات القبورية، الشركية منها والبدعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1457 المطلب الأول في أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية لقد سبق أن ذكرت معنى التوسل لغة، ومعناه الاصطلاحي عند علماء الحنفية، ومعناه عند القبورية. كما ذكرت أنواع التوسل وكلماته عند القبورية، وفي هذا الفصل سأذكر جهود علماء الحنفية في بيان أنواع التوسل الشرعي، وأنواع التوسل الشركي والبدعي وإبطال توسلات القبورية. أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية: لقد حقق علماء الحنفية أن حقيقة التوسل الشرعي ومصداقها: هو التقرب إلى الله تعالى بفعل الطاعات، وترك السيئات، قال العلامة نقيب أحمد الرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول عند الحنفية المعاصرة: (اعلم أن حقيقة الوسيلة الشرعية، ومصداقها - أعني ما يكون ذريعة للوصول إلى الله تعالى والفوز بالنعم، والأمن من النقم - إنما هي اتباع أوامره والاجتناب عن نواهيه بعد الإيمان به واعتقاد أن له سلطة غيبية، وله الحكم وبيده الأمر، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1459 فحقيقة التوسل الشرعي ليست إلا عبادة الله وحده والأعمال الصالحة، فالتوحيد الاعتقادي والعملي هو حقيقة الوسيلة إلى الله تعالى، وخلاصة ذلك لبه، ولله - هو اتباع سنة سيد المرسلين [صلى الله عليه وسلم] ) . وقال حفظه الله: (وقال الراغب: حقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة، تفسير المنار 6\396، والتفسير الماجدي 251 ... ) . قلت: إذا ثبت أن حقيقة التوسل إلى الله تعالى عند علماء الحنفية هي التقرب إليه جل وعلا بفعل الطاعات وترك السيئات؛ فأقول: إن التوسل الشرعي إلى الله تعالى عند علماء الحنفية على عدة أنواع لا تخرج عن التوسل بالطاعات: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1460 الأول: التوسل بالطاعات مطلقاً. قلت: هو أن يقول: اللهم إن كنت فعلت هذا لرضاك - فارحمني وأجب مسألتي، واشفني، واكشف كربتي واقض حاجتي، ونحو ذلك. الثاني والثالث: التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا. قلت هو: أن يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، وغيرها من الأسماء الحسنى. أو يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، وأسألك برحمتك وإحسانك وقدرتك، ونحوها من صفات الله العلي. قلت: لقد سبق أن ذكرت تلك المقالة الحنفية المشهورة المستفيضة القاطعة للوثنية المؤيدة للحنفية، وهي مقالة الإمام أبي حنيفة وغيره من كبار أئمة الحنفية: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به) . وقد سبق تفسير هذه المقالة بأن المراد: هو التوسل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. الرابع: التوسل بالفقر والحاجة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1461 قلت: ذلك أن يقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] . أو يقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك. أو يقال: اللهم أنت الغني، ونحن الفقراء، فأنزل علينا الغيث. أو يقال: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. أو يقال: اللهم أنت رب المستضعفين، ومغيث المضطرين. أو يدعو ربه {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] . أو يقول: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] . ونحو ذلك من إظهار الفقر والحاجة والتذلل إلى الله عز وجل. الخامس: التوسل بالاعتراف بالذنب. قلت: ذلك أن يقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] . أو يقول: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . أو يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . السادس: التوسل بذكر وعد الله جل وعلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1462 كأن يقول: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 194] . السابع: التوسل بدعاء الحي الحاضر. (هو أن يطلب من أحد حي (حاضر) أن يسأل الله تعالى كشف كربته عنه، ودفع حاجته، وأمثلته كثيرة من القرآن والحديث، أذكر ههنا نبذة منها: قال تعالى: {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97] .... ) . قلت: هذه أهم أنواع التوسل الشرعي عند الحنفية وأشهرها. وإذا عرفنا أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية - ننتقل إلى المطلب الآتي لنعرف أنواع التوسل الشركي والقبوري عند علماء الحنفية. * والله المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان * ***** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1463 المطلب الثاني في بيان التوسل الشركي والبدعي عند علماء الحنفية لقد ذكرت في المطلب السابق أشهر أنواع التوسل الشرعي وأهمها عند علماء الحنفية. وبهذه المناسبة أذكر في هذا المطلب أنواع التوسل الشركي والبدعي عند علماء الحنفية، فأقول وبالله أستعين، إذ هو المغيث وهو المعين: إن أحسن ما رأيته وأجمعه وأدقه من كلام علماء الحنفية في ذكر أنواع التوسل الشركي والبدعي، هو كلام العلامة الرباطي الملقب عند الحنفية المعاصرة بجامع المعقول والمنقول. قال حفظه الله: (إلى هذا كان الكلام في تحقيق التوسل الشرعي، وأما القسم الذي نعبر عنه بالتوسل الغير الشرعي - فحان أن نشرع فيه؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1465 فأقول وبالله التوفيق: التوسل الغير الشرعي على أنحاء سبعة؛ حسبما وقع عليه عمل كثير من الناس المفتونين بالقبور والمشاهد: النحو الأول: أن يأتي قبر نبي أو ولي أو غيرهما ممن يحسن عقيدته عليه، فيقول: يا سيدي فلان، اشفني، أو اشف مريضي، أو اكشف كربتي، واقض حاجتي، أو أهلك عدوي، وعليك أن تفعل كذا وكذا، وأنت وكيلي، وأنت كفيلي. وغير ذلك من الألفاظ المختلفة باختلافهم. والثاني: أن يدعو غائباً أو ميتاً من بعيد من غير الإتيان إلى قبره والحضور لديه بهذا النحو من الكلمات. والثالث: أن يأتي القبر، ويقول: يا فلان! ادع الله أن يقضي حاجتي، واشفع لي في حاجتي هذه، فإنك مقبول الشفاعة، لا جائز أن يرد الله شفاعتك. والرابع: أن يدعو غائباًَ أو ميتاً بعيداً عن القبر بهذا النحو من الدعاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1466 الخامس: أن يأتي القبر ويسأل الله وحده معتقداً أن الدعاء عند مزار الولي أقرب إلى الإجابة. السادس: أن يدعو من غير شهود المقابر والمزارات: يا إلهي! اقض حاجتي بحق فلان، وفلان. السابع: أن يقول في دعائه: بوسيلة فلان، أو ببركته، أو بخاطره، أو بطفيله، أو بحرمته، أو بجاهه، وغير ذلك مما يؤدي مراده. فهذه جملة الأسماء التي يسميها عباد القبور بالتوسل - وينكرون أشد النكير على من أنكر عنها، وينسبونه إلى إنكار الوسيلة، وإنكار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1467 الكرامات، وتوهين الأولياء، وغير ذلك من المطاعن .... ) . وللشيخ عبد السلام الرستمي أحد كبار علماء الحنفية المعاصرة الرادين على القبورية أيضاً كلام حسن في بيان أنواع التوسل الشركي والبدعي -. الحاصل: أن هذه عدة أنواع التوسل الشركي والبدعي التي يرتكبها القبورية. وأما حكمها عند علماء الحنفية فبيانه في المطلب الآتي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1468 المطلب الثالث في إبطال علماء الحنفية توسلات القبورية لقد ذكرت أنواعاً من توسلاتهم الشركية والبدعية بأنحاء من الكلمات وفي عدة من الأوقات. وذكرت في المطلب الثاني من هذا المبحث بيان علماء الحنفية لبعض أنواع التوسلات الشركية والبدعية التي ترتكبها القبورية. وأذكر في هذا المطلب جهود علماء الحنفية في إبطال هذه التوسلات القبوريات ببيان أن بعضها من الوثنيات الفاضحات، وبعضها من البدع الواضحات. فأقول وبربي أستعين وأستغيث، إذ هو المعين المستعان، وهو المستغاث المغيث: لعلماء الحنفية في إبطال توسلات القبورية عدة وجوه، أذكر بعضها: الوجه الأول: قول ستة وثلاثين إماماً من أئمة الحنفية. لقد سبق أن ذكرت مقالة ستة وثلاثين إماماً من أئمة الحنفية، وعلى رأسهم أئمتهم الثلاثة على الإطلاق: أبو حنيفة (150هـ) ، أبو يوسف (182هـ) ، ومحمد (189هـ) ، ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1469 بشر الكندي (238هـ) ، وعالم بن العلاء (286هـ) ، والحاكم الشهيد (334هـ) ، والقدوري (428هـ) ، وطاهر البخاري (542هـ) ، والمرغيناني (593هـ) ، وابن أبي العز (792هـ) ، والحلبي (956هـ) ، والبركوي (981هـ) ، والتمرتاشي (1004هـ) ، والقاوي (1014هـ) ، وشيخي زاده (1087هـ) ، والحصكفي (1088هـ) ، والطوري (1138هـ) ، وابن عابدين الشامي (1252هـ) وغيرهم. مقالتهم: (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله تعالى إلا به، والدعاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1470 المأذون فيه والمأثور به، ما استفيد من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ، وكره قوله: بحق رسلك، وأنبيائك، وأوليائك، أو بحق البيت ... ) . وقد سبق أيضاً شرح قولهم: ((إلا به)) بأن المراد: هو التوسل بذاته وأسمائه وصفاته، سبحانه وتعالى. أقول: هذه المقالة لهؤلاء الأئمة الحنفية تقطع دابر القبورية المتوسلين بالأموات. وتبطل التوسل بحق فلان، والوجه، والجاه، والطفيل، والخاطر، والحرمة والشرف والبركات. وإذا تبين بطلان التوسل بمثل هذه الكلمات بطل ما هو عين الاستغاثة بالأموات. لأنه إذا لم يجز أن يقول المرء في دعائه: اللهم اشفني بحق فلان أو ببركة فلان أو بحرمة فلان أو بجاه فلان مثلاً - فلا يجوز أن يقول: يا فلان الولي! اشفني وأغنني، واكشف كربتي، ونحو ذلك من نداء الغائبين والأموات - بالطريق الأولى والأحرى. الوجه الثاني: أن غالب توسلات القبورية بالأموات إنما هي استغاثات بهم لدفع المضرات وجلب الخيرات، وقد سبق على لسان علماء الحنفية أن هذا إشراك بخالق الأرض والسماوات. بل تحقق على لسانهم أنه ليس بشرك فحسب بل أم لعدة أنواع الإشراك برب البريات. وأن القبورية أشد شركاً من الوثنية الأولى في باب الاستغاثة بالغائبين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1471 والأموات. وأنهم أشد خوفاً ورجاء وأكثر خضوعاً وأعظم عبادة للموتى منهم لله في المساجد والأسحار من الأوقات. وقد سقت لتحقيق هذه المطالب ما يقارب مئتي نص من نصوص علماء الحنفية. التي فيها قرة عيون للموحدين، وسخنة أعين للقبوريين الوثنيين. فكل توسل فيه نداء الأموات لدفع المضرات وجلب الخيرات، أو فيه طلب الشفاعة من الموتى لقضاء الحاجات، كأن يقول: يا فلان اشفني، واقض حاجتي، واكشف كربتي. أو يقول: يا فلان: ادع الله تعالى أن يزيل همي ويدفع عني ويغفر حوبتي - كما سبق في الأنواع الأربعة الأول للتوسل القبوري - هو شرك بواح برب البريات، بل هو أم لعدة أنواع من الشرك بخالق الكائنات. قال العلامة الرباطي في بيان الحكم على هذه الأنواع الأربعة، محققاًَ أن هذه الأنواع من التوسل إشراك بالله العظيم: (أما النحو الأول فليس من التوسل المباح في شيء، بل هو كفر بواح وإشراك بالله في التصرف والقدرة والدعاء، يجب استتابة المبتدي به، فإن تاب وإلا يقتل؛ وليس هذا أقل من شرك المشركين الذين أنزل لإصلاحهم القرآن، وبعث لدعوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو أزيد من شركهم بكثير) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1472 ثم ساق الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك. ثم ذكر حكم النوع الثاني، وبين أنه شرك مثل النوع الأول، وأقام البراهين القاطعة والسلاطين القاهرة الساطعة من الكتاب والسنة على ذلك أيضاً. ثم ذكر حكم النوع الثالث، وبين أيضاً أنه شرك بالله وأنه من قبيل شرك الشفاعة. وأنه عين وثنية الوثنيين السابقين والمشركين الأولين الذين كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وأنهم يقربونا إلى الله زلفى. ثم ذكر حكم النوع الرابع، وحقق أنه أيضاً إشراك بالله تعالى مثل النوع الثالث، في أنه شرك وأنه من وثنيات المشركين الأولين في باب الشفاعة الشركية. مع كونه مثل الثالث، إشراكاً بالله في صفتي العلم والسمع أيضاً وللشيخين: العلامة عبد السلام الرستمي والفاضل جوهر الرحمن - وهما من فضلاء الحنفية المعاصرة - تحقيق أنيق في كون هذه الأنواع من التوسل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1473 شركاً صريحاً، وأنها من وثنيات الوثنية الأولى. الوجه الثالث: بيان حكم التوسل ببركة فلان، وحقه، وجاهه، ووجهه، وخاطره، وطفيله، وحرمته، وشرفه، ونحوها. لقد صرح علماء الحنفية بعدم جواز التوسل الذي يكون من هذا القبيل. وذلك لأمور ثلاثة: الأول: أن الدعاء مخ العبادة ولبها، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة هذا الدين جواز ذلك. فهو لا شك أنه بدعة ضلالة في عبادة الله تعالى. الثاني: أن مثل هذا النوع من التوسل من أعظم الذرائع الموصلة إلى الشرك، فيجب سدها والتحذير منها، حماية لحمى التوحيد، وحفظاً لجانبه. الثالث: إن كثيراً من الأئمة قد نهوا عن مثل هذا، ولا سيما أئمة الحنفية، هذه الوجوه الثلاثة هي أهم الوجوه التي ذكروها لبطلان هذه الأنواع من التوسل. وذكروا وجوهاً أخرى أيضاً لا حاجة إلى سردها، وفي هذه كفاية، لمن له دراية، وقدر له الهداية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1474 وأما من تعود أن يقول عنزة وإن طارت - فهو من أهل العناد والمكابرة والغواية. وإذا ثبت أن هذه الأنواع من التوسل بدعة بلا ريب، فالتعبد بالبدعة ضلال أيما ضلال، فصاحبه مبتدع ضال والداعية إليه صاحب الإضلال. الوجع الرابع: بيان حكم التوسل ببركة فلان خاصة. لقد صرح بعض فضلاء الحنفية الرادين على القبورية أن قول المتوسل القبوري: اللهم إني أسألك ببركة فلان الولي أن تشفيني أو تكشف كربتي ونحو ذلك - محتمل لأن يكون شركاً بواحاً صراحاً، ومحتمل لأن يكون بدعة على أقل تقدير، فلا يجوز التوسل بمثل هذه الكلمة مطلقاً. قال العلامة عبد السلام الرستمي: (وما يقولون في أدعيتهم توسلاً ببركة فلان - فلا معنى له، ولا يجوز، لأن ذلك المصدر ((البركة)) إما مضاف إلى الفاعل - فالمعنى: المبارك ((بصيغة اسم الفاعل)) هو الفلان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1475 فهذا شرك، كما ثبت قبل، وإما مضاف إلى المفعول - فالمعنى: المبارك ((بصيغة اسم الفاعل)) هو الفلان، فلا معنى لهذا التوسل، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة من العلم. فهذا اللفظ ((البركة)) موهم للشرك، وقد نهانا الله عن الألفاظ الموهمة للشرك بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} الآية [البقرة: 104] . وقال في الفتاوى الرشيدية ص 145: ((إن الألفاظ الموهمة ممنوعة شرعاً، ولذا لا يجوز ما يقولون في ((درود تاج)) ، ((دافع البلاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1476 والوباء والقحط والألم)) ، وقال في ((منهاج التأسيس)) : ((إن قولهم ببركة فلان - لا يجوز، لعدم نقله عن السلف في ألفاظ الدعاء، والدعاء عبادة، ومبنى العبادات على النقل الشرعي)) . وقال الجصاص في قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1477 الآية [البقرة: 59] . ((يحتج بها فيما ورد من التوقيف في الأذكار والأقوال بأنه غير جائز تغييرها ولا تبديلها [إلى غيرها] إلخ، أحكام القرآن 1\36، شيخ القرآن محمد طاهر. فيجب على من يدعي الإيمان والتوحيد أن يجتنب من الألفاظ الشركية، ومن الألفاظ الموهمة للشرك لئلا يصير مثل المنافق المتذبذب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1478 الذي هو في الدرك الأسفل من النار ولن تجد له نصيراً)) . الوجه الخامس: أن كل ما فيه توجه إلى الأموات، ونداؤهم عند الكربات * - ليس ذلك من التوسل في اللغة بل هو عين الاستغاثة التي هي إشراك برب البريات *. قال العلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) وابن أخيه شكري الآلوسي (1342هـ) ، واللفظ للأول: (ومن نظر بعين الإنصاف * وتجنب سبيل الاعتساف * ونظر إلى ما كان عليه الأولون، وعرف كيف كان شركهم [وما عليه القبوريون] ، و [عرف أنه] بماذا أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف التوحيد * وما معنى الإله والتأله؟ وتبصر في العبادات وأنواعها [بفهم رشيد]- تحقق أن هذا الالتجاء * والتوكل والرجاء [والنداء] * بمثل طلب الشفاعة، هو الذي نهى عنه الأولون * وأرسل لأجل قمعه المرسلون * وبذلك نطق الكتاب * وبينه لنا خير من أوتي الحكمة وفصل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1479 الخطاب * سيما إذا استغيث بهم لدفع الشدائد والملمات ولرفع الكرب والمهمات * مما لا يقدر على دفعه إلا خالق الأرض والسماوات *. وقد كان الأولون إذا وقعوا في شدة دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إذا هم يشركون * [بخلاف القبورية المتوسلين بالأموات والمستنجدين] * ومن فعل هذا بحالتي الشدة والرخاء * بل في قسمي المنع والعطاء * - فقد غلا وجاوز حده * [واستحق أن يكون سيف الرسالة غمده] * .... إذا علمت هذا، فاعلم: أن الاستغاثة بالشيء طلب الإغاثة والغوث منه؛ كما أن الاستغاثة بشيء طلب الإغاثة منه، فإذا كانت بنداء من المستغيث للمستغاث، كان ذلك سؤالاً منه، وظاهر أن ذلك ليس توسلاًَ به إلى غيره، بل طلب منه؛ إذ جرت العادة أن من توسل بأحد عند غيره - أن يقول لمستغاثه: ((أستغيثك على هذا الأمر بفلان)) ، فيوجه السؤال إليه، ويقصر أمر شكواه عليه، ولا يخاطب المستغاث به، و [لا يناديه ولا يدعوه، بأن] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1480 يقول له: أرجو منك، وأريد منك، أو أستغيث بك. [أو يناديه] ، و [يخاطبه، بأن] يقول [له]-: ((إنه [أي إنك] وسيلتي إلى ربي)) - فإن هذا غير معروف [كونه توسلاً في لغة العرب، بل هذا عين الاستغاثة] . وإن كان [هذا المستغيث سماه توسلاً] كما يقول - فما قدر عظم المتوسل إليه حق قدره وتعظيمه، وقد رجا وتوكل والتجأ إلى غيره، [و] كيف [يصح جعله توسلاً لغة] ؟؟؟ واستعمال العرب يأبى عنه!!! فإن من يقول: ((صار لي ضيق فاستغثت بصاحب القبر، فحصل لي الفرج)) - يدل دلالة جليلة على أنه قد طلب الغوث منه، ولم يفد كلامه أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1481 توسل به عند غيره. بل إنما يراد هذا المعنى إذا قال (مخاطباً لله تعالى دون الميت) : (( (اللهم إني) توسلت (إليك بفلان)) ) . أو (قال) : ((استغثت عند الله تعالى (أي استغثت بالله) بفلان)) ، أو يقول لمستغاثه - وهو الله سبحانه: (اللهم إني) استغثت إليك بفلان. فيكون حينئذ مدخول الباء متوسلاً به. ولا يصح إرادة هذا المعنى إذا قلت: ((استغثت بفلان)) ، وتريد التوسل به. سيما إذا كنت داعيه، وسائله (ومخاطبه ومناديه) ، بل قولك هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1482 نص على أن مدخول الباء مستغاث، وليس بمستغاث به. والقرائن التي تكشفه: - من الدعاء له، وقصر الرجاء عليه، (وخطابه له، وطلبه منه) - شهود عدول، ولا محيد عما شهدت به ولا عدول. فهذه الاستغاثة، وتوجه القلب إلى المسئول بالسؤال والإنابة - محظورة على المسلمين، لم يشرعها لأحد من أمته رسول رب العالمين. قال الشيخ محمد الأمين السويدي الشافعي: ((ولا يجوز ذلك إلا من جهل آثار الرسالة: ولهذا عمت الاستغاثة بالأموات، عند نزول الكربات، يسألونهم ويفزعون إليهم، فكان ما يفعلونه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1483 معهم أعظم من عبادتهم واعتقادهم في رب السماوات)) انتهى) . قلت: الحاصل أن توسل القبورية نوعان: النوع الأول: ما فيه خطاب ونداء للميت وطلب منه، مثل أن يقول: يا فلان الولي اكشف كربتي واشفني واغفر حوبتي واقض حاجتي ونحوها. أو يسأله الشفاعة عند الله تعالى لقضاء الحاجة، مثل أن يقول: يا فلان الولي اشفع لي عند الله أن يقضي حاجتي ويكشف كربتي، ونحو ذلك - فهذا كله وأمثاله ليس من التوسل بالميت لغة، بل هو استغاثة بالميت وطلب منه، وهو إشراك صريح بالله تعالى. بل هو أم لعدة أنواع من الشرك بالله تعالى، كالشرك في علم الغيب، والشرك في التصرف، والشرك في السمع، كما سبق تحقيقه على لسان علماء الحنفية. النوع الثاني: وهو ما لم يكن فيه خطاب ونداء للميت ولا فيه طلب قضاء الحاجة منه، ولا طلب الشفاعة منه له عند الله لقضاء الحاجة، بل يكون توجيه الكلام إلى الله والاستغاثة به تعالى، والطلب منه، والنداء له تعالى فقط لا للميت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1484 كأن يقول: اللهم إني أسألك أن تكشف كربتي وتغفر حوبتي وتقضي حاجتي - بجاه فلان، وحرمة فلان، ووجه فلان، ووسيلة فلان، ونحو ذلك. فهذا النوع قد يمكن أن يقال فيه: إنه توسل لغة ولكن هل هو جائز شرعاً؟ الجواب: أن هذا النوع من التوسل غير جائز شرعاً، لوجهين: الأول: أنه بدعة ضلالة في العبادة التي هي مخ العبادات. ألا وهي الدعاء، لأن هذا النوع من التوسل لم يعهد في الكتاب والسنة، ولم يفعله أحد من الصحابة والتابعين ولا إمام من أئمة الأمة. الثاني: أنه ذريعة كبيرة لفتح باب الشرك بمصراعيه، فيجب سدها حماية لحمى التوحيد، يوضحه النص الآتي: وهو قول العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) : (إنه (أي التوسل بالذات) مكروه كراهة تحريم، وهذا إذا كان الداعي متوجهاً إلى ربه متوسلاً إليه بغيره، مثل أن يقول: أسألك بجاه فلان عبدك أو بحرمته، أو بحقه. وأما إذا توجه إلى ذلك الغير - فطلب منه [وليس ذلك من التوسل في شيء] كما يفعله كثير من الجهلة. فهو شرك [بل هو أم لعدة أنواع من الشرك] ، كما تقدم) . يوضحه الوجه السادس: الوجه السادس: أن توسلات القبورية ليست من التوسل الشرعي الاصطلاحي الذي اصطلح عليه الكتاب والسنة، والصحابة والتابعون، فإن التوسل في اصطلاح الكتاب والسنة والصحابة والتابعين - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1485 إنما هو التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، أو التوسل بالأعمال الصالحة، أو التوسل إلى الله تعالى بدعاء شخص حي حاضر، بأن يطلب منه الدعاء والشفاعة، ثم هذا الحي الحاضر يدعو الله تعالى ويتضرع إليه ويشفع عنده بالدعاء. هذا هو التوسل الشرعي الاصطلاحي المسنون المعروف في لغة القرآن واصطلاحه، ولغة السنة واصطلاحها، ولغة الصحابة والتابعين واصطلاحهم. فكل ما هو مخالف لهذا التوسل الشرعي المصطلح عليه في الكتاب والسنة واصطلاح السلف الصالح من الصحابة والتابعين - فهو دائر بين أن يكون إشراكاً بالله تعالى - إذا كان من باب الاستغاثة بالغائبين والأموات - وبين أن يكون بدعة ضلالة مكروهاً محرماً، منكراً في القول وزوراً؛ وذريعة إلى الإشراك بالله تعالى. فلفظ ((التوسل)) فيه إجمال واشتراك بحسب اصطلاح الصحابة ولغة القرآن والسنة، وبحسب اصطلاح القبورية. فهو في اصطلاح القرآن والسنة، والصحابة والتابعين، وأئمة السنة شيء. وفي اصطلاح القبورية المستغيثين بالأموات شيء آخر. وما بين هذين الشيئين من البعد كما بين السماء والأرض، وكما بين التوحيد والشرك، وكما بين الإسلام والكفر. ولكن القبورية عمدوا إلى نصوص التوسل الحق المسنون المصطلح عليه في الكتاب والسنة واصطلاح السلف الصالح - فاستدلوا بها على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1486 إثبات التوسل الباطل الذي - نوع منه: استغاثة بالأموات عند الكربات، وهو إشراك صريح، بل هو أم لعدة أنواع من الإشراك بالله العظيم. كقول القبوري: يا فلان الولي! أغثني، واكشف كربتي، واقض حاجتي، ونحو ذلك. أو قول القبوري: يا فلان الولي: ادع الله لي، أو اشفع لي عند الله! أن يكشف كربتي ويقضي حاجتي، ويغفر حوبتي، ومثل ذلك. ونوع منه: بدعة ضلالة، ومنكر من القول وزور، وباب إلى الشرك بالله تعالى، يجب سده، كقول القبوري: اللهم اكشف كربتي واقض حاجتي بوسيلة فلان، وحرمته، وحقه وجاهه، ونحو ذلك من التوسل الذي لم يفعله أحد من السلف. هذا هو حاصل كلام علماء الحنفية في هذا الوجه. وللعلامة نعمان الآلوسي كلام آخر مثله في غاية من التحقيق والإتقان. قلت: كلام هؤلاء الحنفية في غاية من الإنصاف والدقة والتحقيق، وهو الحقيقة الواقعة التي إنكارها مكابرة وعناد، لا يليق إلا بأهل الإضلال والإفساد والإلحاد، وقد اعترف بها الشاه أنور الكشميري، أحد كبار أئمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1487 الديوبندية وأحد مشاهير الحنفية (1352هـ) . وأصل هذا التحقيق من كلام المجاهد المجتهد الهمام، الإمام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية، شيخ الإسلام. وقد ذكر العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) : أن القبورية يذكرون كلاماً مجملاً في التوسل يحتمل ستة أنواع من التوسل، بعضها باطل إما شرك وإما بدعة، وبعضها حق، فيدخلون الباطل في الحق. الوجه السابع: أن حمل ((الوسيلة)) المصطلح عليها في الكتاب والسنة، واصطلاح السلف الصالح وعلماء السنة وأئمة الأمة، على ((الوسيلة)) المصطلح عليها في اصطلاح القبورية، تحريف لنصوص الكتاب والسنة وتبديل للمصطلحات الشرعية. حتى باعتراف القبورية، ولا سيما الكوثرية. لقد سبق بغاية من التحقيق، ونهاية من الدقة والتدقيق، على لسان علماء الحنفية، الرادين على عقائد القبورية، أن توسلات القبورية ليست من التوسل المصطلح عليه في لغة الكتاب والسنة، واصطلاح الصحابة والتابعين وأئمة هذه الأمة؛ لأن توسل الصحابة والتابعين عين توحيد رب العالمين، وأما توسلات هؤلاء القبورية، فإما من الأفعال الوثنية وإما من الأعمال البدعية. الحاصل: أن توسل القبورية وتوسل السلف أمران متضادان لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1488 يجتمعان، كالتوحيد والشرك، والإسلام والكفر، والسنة والبدعة، والنور والظلمة، والحق والباطل، فحمل ((الوسيلة)) المصطلح عليها في لغة الكتاب والسنة، وفي اصطلاح الصحابة والتابعين وأئمة هذه الأمة على ((الوسيلة)) المصطلح عليها عند القبورية، تحريف لنصوص الكتاب والسنة وتبديل للمصطلحات الشرعية، ليس إلا، ولا بد منه، ولا خلاص، ولا مفر ولا محيد، ولا محيص، ولات حين مناص. وهذا باعتراف القبورية، ولا سيما الكوثرية، فقد وضع الكوثري قانوناً كلياً لا استثناء فيه: وهو أن حمل نصوص الكتاب والسنة على المصطلحات التي اصطلح عليها بعد عهد التنزيل بدهور - زيغ عن منهج الكتاب والسنة، وتنكب عن سبيل السلف الصالح، ومنابذة للغة التخاطب، وفيما يلي أسوق قانون الكوثري بنصه وفصه، ثم أقلبه عليه خاصة، وعلى القبورية، ولا سيما الكوثرية عامة في باب التوسل والوسيلة، فأقول: قال الكوثري (1371هـ) في الرد على الصوفية الذين يزعمون أن مصطلحاتهم يدل عليها ظاهر الكتاب والسنة، مبيناً أن هذا تحريف للكتاب والسنة وزيغ عن منهجهما، ومنابذة للغة العربية: ( .... وأين التجليات التي اصطلح عليها الاتحادية من تخاطب العرب؟ ومن تفاهم السلف والخلف بهذا اللسان العربي المبين؟ ؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1489 حتى يكون حمل النصوص والآثار على التجليات المصطلح عليها فيما بعد عهد التنزيل بدهور - استعمالاًَ لها في حقائقها؟ ؟ . ومن زعم ذلك - فقد [ارتكب سبع طامات موبقات] : [الأولى أنه] زاغ عن منهج الكتاب والسنة. و [الثانية أنه] تنكب سبيل السلف الصالح. و [الثالثة أنه ناقض] مسلك أئمة أصول الدين. و [الرابعة لأنه] نابذ لغة التخاطب. و [الخامسة أنه] هجر طريقة أهل النقد في الجرح والتعديل، والتقويم والتعليل. و [السادسة أنه] جانب أصفياء الصوفية القائلين بالتوحيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1490 الشهودي، بل [ترقى في الإلحاد فارتكب الطامة] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1491 [السابعة] ، حيث حاد عن فرق هذه الأمة جمعاء، غير الحلولية من طوائف المشبهة) ، انتهى كلام الكوثري. قلت: أيها المسلم المنصف المنشد لضالة الحق! هذا كان كلام الكوثري أحد أئمة القبورية والجهمية، وشيخ عصبة التعصب من المقلدة الحنفية، وهو كلام حق، صواب وصدق، والكذوب قد يصدق، والأعرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1492 قد يسبق، فالكوثري وإن كان أكذب من طغى وسطا، ولكن ههنا نراه أصدق من القطا، ولكن صدقه ههنا ليس له ولا لجماعته القبورية، بل صدقه سيف قطع به دابره ودابر جميع القبورية والجهمية الذين حملوا نصوص الكتاب والسنة، ومصطلحات السلف وأئمة الأمة، على مصطلحاتهم البدعية، وعقائدهم القبورية والجهمية، فالكوثري مع تناقضه الفاضح، واضطرابه الواضح، قد قطع عنقه من قفاه، لئلا يفتح فاه. فكان كعنز السوء قامت بظلفها إلى مدية تحت التراب تثيرها؛ لأن هذا الكوثري البهات المأبون * الصادق المحق في هذا القانون * - قد ناقض وتناقض. حيث فسر ((الوسيلة)) المصطلح عليها في لغة الكتاب والسنة، واصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة هذه الأمة، بالوسيلة المصطلح عليها عند القبورية الوثنية، فتلاعب بنصوص الكتاب والسنة، ومصطلحات الشرع، في هذه الأمة. * حيث قال هذا المحرف * المتقول الأفاك المخرف *: (وهم في إنكارهم التوسل محجوجون بالكتاب والسنة والعمل المتوارث [القبوري الوثني] والمعقول، [معقول القبورية الوثنية] ، أما الكتاب، فمنه قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] و ((الوسيلة)) بعمومها تشمل التوسل بالأشخاص، والتوسل بالأعمال، بل المتبادر من ((التوسل)) في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1493 الشرع، هو هذا [أي التوسل بالأعمال] وذاك [أي التوسل بالأشخاص] رغم تقول كل مفتر أفاك ... ) . قلت: أخي المسلم! لقد اطلعت على قانون الكوثري إمام الكوثرية، الذي وضعه صارماً لقطع دابره ودابر قومه من القبورية الجهمية. ثم رأيت أنه عارضه، فتناقض لأنه ناقضه، حيث فسر ((الوسيلة)) المصطلح عليها في الكتاب والسنة، وفي اصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة هذه الأمة، بالوسيلة المصطلح عليها عند القبورية، فتلاعب بالنصوص والمصطلحات الشرعية. فالآن يحق لي بحق أن أقلب قانون الكوثري عليه وعلى قومه. وأقلب عليه حجته، وأحاربه بسلاحه، وأبين تناقضه ليصحو من غفوته وسباته ونومه وغفلته؛ فأقول وبربي أستغيث وأستعين، إذ هو المستغاث المستعان المغيث المعين: إن القبورية الذين فسروا ((الوسيلة)) المصطلح عليها في لغة الكتاب والسنة وفي اصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة هذه الأمة، بالوسيلة المصطلح عليها عند هؤلاء الوثنية. وحملوا نصوص الكتاب والسنة، وأقوال أئمة هذه الأمة - في باب ((الوسيلة)) - على ((الوسيلة)) في اصطلاح هؤلاء القبورية، كما فعل هذا الكوثري وغيره من أئمة هؤلاء الوثنية - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1494 قد تلاعبوا بنصوص الكتاب والسنة، وحرفوا المصطلحات الشرعية في هذه الأمة، لأننا نقول لهم في ضوء قانون هذا الكوثري: أين التوسلات التي اصطلح عليها القبورية الوثنية، والصوفية الحلولية الاتحادية وأذيالهم من الخرافية، من تخاطب العرب؟. وأين مصطلحات هؤلاء الخلف، من تفاهم السلف، وأية مناسبة لها بهذا اللسان العربي المبين، حتى يكون حمل النصوص والآثار السلفية على التوسلات المصطلح عليها عند هؤلاء القبورية، التي ابتدعوها بعد عهد التنزيل بدهور. - فما المناسبة بين الظلمات والنور؟؟ . استعمالاً لها في حقائقها، ومن زعم ذلك، كالكوثري المتهالك الهالك، فقد ارتكب سبع طامات، مع ما عنده من موبقات: الأولى: أنه زاغ عن منهج الكتاب والسنة. والثانية: أنه تنكب سبيل سلف الأمة. والثالثة: أنه ناقض مسلك أئمة أصول الدين. والرابعة: أنه نابذ لغة التخاطب بلسان عربي مبين. والخامسة: أنه هجر طريقة أهل النقد في الجرح والتعديل، والتقويم والتعديل، للإفساد والتضليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1495 والسادسة: أنه جانب أصفياء أهل السنة القائلين بتوحيد الأنبياء والمرسلين الرادين على القبوريين، بل ترقى في الإلحاد، فارتكب الطامة: السابعة: حيث حاد من فرق هذه الأمة جمعاء بتلك التحريفات القبورية الوثنية الحمقاء غير الحلولية، من طوائف المشبهة القبورية، والصوفية الاتحادية، والجهمية، والوثنية. أقول: هذا كان قانون الكوثري، وقد عرفت كيف سلط الله عليه ما وضع بيديه، ووقع في التناقض الواضح والاضطراب الفاضح بما لديه. وقد قال الكوثري نفسه: (والتناقض شأن من اصيب في عقله أو دينه) . قلت: هذا مثال آخر لانتحار الكوثري!. انظر عافاك الله تعالى وإياي، فقد شهد الكوثري على نفسه ببيانه، واعترف اعترافاً بلسانه وبنانه، أن الكوثري لتناقضه أصيب في عقله أو دينه. وأما قول الكوثري في كل من قال بالتوسل المصطلح عليه عند السلف: (رغم تقول كل مفتر أفاك) . فالجواب عنه من وجهين: الأول: أن الكوثري هو المتقول على الله، المفتري على رسوله صلى الله عليه وسلم، الأفاك على الصحابة والتابعين، لأنه يحمل نصوص التوسل وأقوال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1496 السلف فيه - على التوسل المصطلح عليه عنده وعند القبورية. والثاني: أن العلامة محمد أنور شاه الكشميري، إمام الكوثرية والديوبندية (1352هـ) - الذي أكبره الكوثري نفسه، وعظم أمره وأجله إجلالاً عظيماً وأقره أبو غدة الكوثري - قد صرح بأن التوسل في اصطلاح السلف وعرفهم ولغتهم - غير التوسل في اصطلاح المتأخرين [أي القبورية] وعرفهم ولغتهم. فالآن نسأل الكوثري: هل الشاه أنور الكشميري الذي تجله إجلالاً عظيماً وتكبره إكباراً جليلاً - كان متقولاً؟ مفترياً؟ أفاكا؟ أم الكوثري هو المقول المتقول، المفتري الأفاك؟؟. حيث استدل بالتوسل الحق المصطلح عليه عند السلف - على التوسل الباطل الشركي البدعي المصطلح عليه عنده وعند القبورية. هذه كانت بعض الحجج الدامغة والبراهين الباهرة القاهرة التي ذكرها علماء الحنفية لإبطال توسلات القبورية، الشركية منها والبدعية. وبعد هذا ننتقل إلى المبحث الآتي لنرد على بعض شبهات القبورية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1497 في التوسل، على لسان علماء الحنفية، لنعرف جهوداً أخرى لهم في إبطال عقائد القبورية. والله المستعان وعليه التكلان. **** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1498 الفصل الثالث في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية في توسلاتهم الشركية لقد سبق أن ذكرت بعض جهود علماء الحنفية في بيان التوسل الشرعي وأنواعه، وبيان التوسل القبوري منه والبدعي، وصوره وأصنافه، وبعض جهودهم في إبطال التوسل القبوري، ولكن لا يتم الرد على الوجه الأكمل إلا بإبطال شبهاتهم، لذا أذكر بعض جهود علماء الحنفية في هذا المبحث لإبطال أهم شبهات القبورية وأشهرها التي تشبثوا بها في باب التوسل القبوري. فأقول وبربي أستعين، إذ هو المستعان المعين، وبه أستغيث، إذ هو المستغاث المغيث: لقد تشبثت القبورية لإثبات توسلهم القبوري، الشركي منه والبدعي - بشبهات كثيرة لا يمكن لي أن أسردها كلها ثم أذكر أجوبة علماء الحنفية عنها، لأن هذا يحتاج إلى تأليف مستقل ضخم، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك بعضه أو جله. لذا أكتفي بذكر ثلاث من شبهاتهم التي هي أقوى الشبهات على الإطلاق، وأشهرها لديهم في باب التوسل، فهي وإن لم تكن جل الشبهات عدداً وكماً، ولكنها جلها كيفاً وقوة ومعنى ووزناً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1499 مع كلام علماء الحنفية في الرد عليها والجواب عنها وقلعها وقمع أصحابها. فأقول وبالله التوفيق، وبيده أزمة التحقيق: الشبهة الأولى: تشبث القبورية بقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] . لقد استدل عامة القبورية بهذه الآية الكريمة على إثبات توسلهم القبوري، الشركي منه والبدعي. فقد قال البروسوي الإسلامبولي الحنفي، الخلوتي الاتحادي، الصوفي (1127هـ) أو (1137هـ) مستدلاً بهذه الآية على وثنيته: (الوسيلة علماء الحقيقة، ومشايخ الطريقة) . وتبعه بعض الديوبندية القبورية من المعاصرين. بل صرح بعض غلاة القبورية الوثنية - كابن جرجيس الحنفي (1199هـ) أن المراد من ((الوسيلة)) في هذه الآية - هو التوسل بذوات الصالحين لا غير. وكثير من هؤلاء القبورية استدلوا بهذه الآية على إثبات التوسل القبوري، الشركي منه والبدعي، زعماً منهم أن لفظ ((الوسيلة)) عام يشمل التوسل بالأعمال ويشمل التوسل بذوات الصالحين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1500 وأغرب القضاعي أحد أئمة القبورية (1376هـ) في وضع العنوان وتبعه المالكي أحد أئمة القبورية المعاصرة؛ ولكنه سارق كلام الأول، حيث لم يحل عليه لا تصريحاً ولا تلميحاً، فقالا: (أدلة ما عليه المسلمون من التوسل [والاستغاثة بالأنبياء والصالحين] ، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} والوسيلة كل ما جعله الله سبباً في الزلفى عنده، ووصلة إلى قضاء الحوائج منه. ولفظ الوسيلة عام في الآية كما ترى. فهو شامل للتوسل بالذوات الفاضلة من الأنبياء والصالحين في الحياة وبعد الممات، وبإتيان الأعمال الصالحة على الوجه المأمور به) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1501 قلت: وجه انحراف هذا العنوان هو قولهما: (أدلة ما عليه المسلمون من التوسل) فإن فيه تعريضاً بجعل أهل التوحيد غير مسلمين، وأن المسلمين هم هؤلاء القبورية الوثنية فقط؟؟. وأما الكوثر الكرار، الشاطر الجرار، الشاتم المهذار، فيقول جهاراً دون إسرار: (وهم (يعني أهل التوحيد) في إنكارهم التوسل محجوجون بالكتاب والسنة، والعمل المتوارث [أي القبوري الوثني] والمعقول [معقول الوثنية] ، أما الكتاب فمنه قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] ، و ((الوسيلة)) بعمومها تشمل التوسل بالأشخاص، والتوسل بالأعمال، بل المتبادر من ((التوسل)) في الشرع - هو هذا (أي التوسل بالأعمال) ، وذلك (أي التوسل بالأشخاص) رغم تقول كل مفتر أفاك ... ) . قلت: هذا هو استدلال القبورية بهذه الآية على إثبات توسلهم القبوري. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة القبورية بوجهين، وحاربوهم من جهتين اثنتين. الوجه الأول: وهو جواب إجمالي يقمع به هذه الشبهة وغيرها من الشبهات أيضاً، وهو: أنه قد تحقق على لسان علماء الحنفية كالشمس في رابعة النهار أن التوسل في لغة الكتاب والسنة، واصطلاح الصحابة والتابعين وأئمة هذه الأمة - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1502 هو التوسل بأسماء الله وصفاته والأعمال الصالحة، دون التوسل بالأموات والاستغاثة بهم عند الكربات. وإذا ثبت هذا - فحمل نصوص الكتاب والسنة في التوسل المصطلح عليه في عهد التنزيل على التوسل المصطلح عليه عند القبورية، ليس إلا تحريفاً لتلك النصوص، وتلاعباً بالمصطلحات، وذلك كحمل نصوص الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والوضوء، والنكاح، وغيرها من المصطلحات الشرعية، على مصطلحات أخرى حدثت بعد عهد التنزيل، وهذا ليس تحريفاً فحسب، بل هو قرمطة في النقليات، وسفسطة في العقليات، وقد صرح الكوثري - الذي يرمي أهل التوحيد بقوله: ((رغم كل مفتر أفاك)) - بأن هذا الصنيع زيغ عن منهج الكتاب والسنة، وتنكب لسبيل السلف الصالح، ومسلك أئمة أصول الدين، ومنابذة للغة التخاطب، وهجر لطريقة أهل النقد في الجرح والتعديل، والتقويم والتعليل، وبعد من تخاطب العرب، وتفاهم السلف بهذا اللسان العربي المبين. وإذا ثبت هذا على لسان الكوثري - فقد ثبت ثبوتاً لا يحتمل النقيض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1503 أن الكوثري ومن على شاكلته من القبورية - الذين يستدلون بالوسيلة الواردة في الكتاب والسنة وآثار السلف المصطلح عليها عندهم - بأنها أسماء الله وصفاته، والأعمال الصالحة - على الوسيلة القبورية، الشركية منها والبدعية المصطلح عليها عند الكوثري وخلطائه من القبورية - هم متقولون على كتاب الله، ومحرفون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومفترون على الصحابة والتابعين، وأفاكون على أئمة هذا الدين، وأنهم هم اللعابون بالمصطلحات الشرعيات، وأنهم يقرمطون في النقليات ويسفسطون في العقليات. وبهذا القدر من التحقيق تبين بطلان هذه الشبهة، وأنه لا حجة للقبورية في هذه الآية على توسلهم القبوري البتة. فقد قال العلامة الكشميري، محمد أنور، أحد كبار أئمة الديوبندية، والكوثرية (1352هـ) الذي أكبره الكوثري والكوثرية، فضلاً عن الديوبندية غاية الإكبار، وأعظموه نهاية الإعظام غلواً وإطراءً: (وأما قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} - فذلك وإن اقتضى ابتغاء واسطة لكن لا حجة فيه على التوسل المعروف بالأسماء فقط [دون التوسل بدعاء الحي الحاضر] .... ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1504 قلت: الآن نسأل الكوثري - القائل: ((رغم تقول كل مفتر أفاك)) -: من هو المتقول المفتري الأفاك؟؟. هل الكوثري ومن على شاكلته من القبورية؟؟ أم الشاه أنور الكشميري الذي يجلونه ويكبرونه ويعظمونه؟؟. وفي هذا القدر كفاية لمن له دراية. الوجه الثاني: أن ((الوسيلة)) في هذه الآية إنما المراد بها فعل الطاعات وترك السيئات، وقد أطبقت على ذلك كلمة المحققين من الحنفية في تفسير هذه الآية، وإليكم أمثلة من نصوص بعضهم إقامة للحجة وإيضاحاً للمحجة: 1 - قال الإمام أبو الليث السمرقندي (375هـ) أحد كبار أئمة الحنفية: (أي اطلبوا القربة والفضيلة بالأعمال الصالحة) . 2 - 3- وقال الزمخشري الحنفي اللغوي البلاغي (538هـ) ، وتبعه الإمام النسفي (710هـ) مبيناً معنى ((الوسيلة)) لغة، وشرعاً، وأن ((الوسيلة)) الشرعية أخص من ((اللغوية)) : (هي كل ما يتوسل به - أي يتقرب - من قرابة أو صنيعة، أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1505 الطاعات وترك السيئات) . وهذا بعينه نص كلام الزمخشري، غير أنه قال: (الوسيلة كل ما يتوسل به ... فاستعيرت ... من فعل الطاعات وترك المعاصي) . 4 - وقال الإمام أبو السعود العمادي (983هـ) : (هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله تعالى: من فعل الطاعات وترك المعاصي) . 5 - 6- وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1506 (هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عز وجل: من فعل الطاعات، وترك المعاصي ..... واستدل بعض الناس [من القبورية] بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين، وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد. والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال: ((اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا)) ، ومنهم من يقول للغائب، أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: ((يا فلان! ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا)) . ويزعمون: أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور)) أو ((فاستغيثوا بأهل القبور)) . وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل) . الشبهة الثانية: تشبث القبورية بتوسل عمر بالعباس رضي الله عنهما: فعن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)) قال: فيسقون) . وقد استدل عامة القبورية بهذا الأثر على إثباتهم للتوسل القبوري، الشركي منه والبدعي، قديماً وحديثاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1507 الجواب: لقد أجاب عن هذه الشبهة علماء الحنفية بعدة وجوه، أذكر منها أربعة: الوجه الأول: أنه قد سبق محققاً مدققاً على لسان علماء الحنفية أن التوسل المصطلح عليه في الكتاب والسنة، وفي اصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الأمة، هو التوسل بأسماء الله الحسنى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1508 وصفاته الكمالية العلى، والتوسل بالطاعات، من فعل الحسنات وترك السيئات، حتى اعترف بهذه الحقيقة الشيخ أنور الكشميري (1352هـ) أحد كبار أئمة الديوبندية. والكوثري والكوثرية يعظمه غاية التعظيم ويجله غاية الإجلال، وأما إكبار الديوبندية له وغلوهم فيه غلواً لا نهاية له، فحدث ولا حرج، فقوله حجة على الديوبندية، والكوثري والكوثرية. وإذا ثبت أن توسل السلف غير توسل القبورية - فقد تبين بطلان حمل توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما - على التوسل المصطلح عليه عند الكوثرية والديوبندية خاصة، والقبورية عامة. وظهر أن الاستدلال بهذا الأثر وغيره من نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح - على التوسل القبوري الشركي منه والبدعي - هو من قبيل توجيه قول القائل بما لا يرضى به قائله، وقد سبق أن ذكرت قانوناً وضعه الكوثري ببيانه وقاله بلسانه، وكتبه ببنانه. وهو أن حمل النصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد التنزيل بدهور - بعد عن اللسان العربي المبين، وزيغ عن منهج الكتاب والسنة وتنكب لسبيل السلف، ومنابذة للغة التخاطب، وهجر لطريقة أهل النقد. إلى غير ذلك من المفاسد التي ذكرها الكوثري، فكيف يجوز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1509 للكوثري وغيره من القبورية بعد وضع هذا القانون وبعد معرفة مذهب السلف في التوسل - أن يستدلوا بنصوص الكتاب والسنة وآثار السلف على التوسل المصطلح عليه عند القبورية، الذي هو دائر بين أن يكون شركاً بواحاً صراحاً. وبين أن يكون بدعة ضلالة ووسيلة إلى الشرك بالله تعالى. الحاصل: أن استدلال القبورية عامة والكوثرية والديوبندية خاصة بهذا الأثر - على التوسل المصطلح عليه عندهم - باطل ومحال، وتحريف، وتخريف، إذ هو من قبيل القرمطة في النقليات والسفسطة في العقليات، بل الحق الحقيق، والواقع والتحقيق: أن التوسل في هذا الأثر - هو التوسل بدعاء الحي الحاضر. فاستمع للوجه التالي. وأنصت لتكتسب الدرر العوالي. الوجه الثاني: أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن ((التوسل)) المذكور في هذا الأثر هو التوسل بدعاء الحي الحاضر، فعمر بن الخطاب الخليفة الراشد فقيه الصحابة رضي الله عنه، قد توسل بدعاء العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، ولم يكن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما من قبيل التوسل القبوري الشركي منه والبدعي، فلم يكن هذا التوسل بذات العباس رضي الله عنه، ولا بحرمته، ولا بحقه، ولا بجاهه، ولا بوجهه، ولا ببركته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1510 وإنما هو التوسل بدعائه رضي الله عنه، وإليكم بعض نصوص كبار أئمة الحنفية في شرح هذا الأثر وتوسل عمر بالعباس رضي الله عنهما: 1 - قال الإمام الشاه ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في عصره (1176هـ) : توسل عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه، إنما كان بدعائه، ولا شك في جوازه. 2 - وقال الإمام ابن أبي العز أحد كبار علماء الحنفية (792هـ) محققاً أن توسل عمر بالعباس إنما كان بدعائه لا غير: (فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه [حيث] يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صلى الله عليه وسلم - قال عمر رضي الله عنه - لما خرجوا يستسقون -: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1511 ((اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)) ، معناه: بدعائه هو ربه، وشفاعته، وسؤاله. [و] ليس المراد: أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك. إذ لو كان ذلك مراداً - لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس [رضي الله عنه] ... ) . 3 -4- وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) ، وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) واللفظ للوالد: (إن معنى ((الاستشفاع)) به صلى الله عليه وسلم - طلب الدعاء منه، وليس معناه: الإقسام به على الله تعالى ... وعلى هذا لا يصلح ((الخبر)) [أي خبر التوسل والاستشفاع] ولا ما قبله [في آية الوسيلة]- دليلاً لمن ادعى جواز الإقسام [والتوسل] بذاته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقاً، قياساً عليه، عليه الصلاة والسلام، بجامع الكرامة.. وتساوي حالتي حياته ووفاته صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن - يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه؛ ففي صحيح البخاري، عن أنس: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله عنه، فقال: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1512 فيسقون؛ فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار - لما [تركوا التوسل به صلى الله عليه وسلم، ولما] عدلوا [عن التوسل به] إلى [التوسل بشخص] غيره [صلى الله عليه وسلم] بل كانوا يقولون [حتى بعد موته صلى الله عليه وسلم] : ((اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا)) ، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس - وهم يجدون أدنى مساغ لذلك - فعدوا لهم هذا - مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم و [هم أعرف منا بحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام] و [هم أدرى منا بكل] ما يشرع [في دين الله] من الدعاء وما لا يشرع. وهم في وقت ضرورة ومخمصة، [وكانوا] يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق - دليل واضح على أن المشروع [هو] ما سلكوه: [من التوسل بدعاء الحي الحاضر] دون غيره [من توسلات القبورية، الشركية منها والبدعية] .... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1513 [فلذلك نقول:] إن هذا التوسل [أي توسل عمر بالعباس] ليس من باب الإقسام [على الله تعالى] بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا، وقد ذكر المجد: أن لفظ ((التوسل)) بالشخص، والتوجه إليه وبه - فيه إجمال وإشراك [يختلف المراد منه] بحسب الاصطلاح [السلفي، والقبوري الخلفي] ، فمعناه في لغة الصحابة [رضوان الله عليهم أجمعين] : أن يطلب منه الدعاء، والشفاعة، فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس [عبدة القبور]- فمعناه: أن يسأل الله تعالى بذاته، ويقسم به عليه، وهذا هو محل النزاع. وقد علمت الكلام [والحجج الدالة على خلافه، وعرفت ما] فيه [من المفاسد الشركية والبدعية] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1514 و [تحقق لك أنه قد] جعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل: ((اللهم أسألك بجاه فلان)) ، فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك ....... ) . 5 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في شرح هذا الأثر مبيناً أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان توسلاً بدعاء العباس رضي الله عنه لا غير: (وقول عمر رضي الله عنه: ((إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)) . معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله [صلى الله عليه وسلم] و [الآن] نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته [و] ليس المراد به: أنا نقسم عليك به، وأما ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقول الناس [من القبورية] : أسألك بجاه فلان عندك، و [من هؤلاء القبورية من] يقولون: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1515 نتوسل إلى الله بأنبيائه، وأوليائه، فإنه لو كان هذا [التوسل القبوري] هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه، كما ذكر عمر رضي الله عنه - لفعلوا ذلك بعد موته [صلى الله عليه وسلم] ، ولم يعدلوا عنه إلى العباس [رضي الله عنه] ، مع علمهم بأن السؤال به، والإقسام به [صلى الله عليه وسلم على فرض جوازه شرعاً]- أعظم من [التوسل بعمه] العباس [رضي الله عنه] فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه - هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك، والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره) . 6 - وله رحمه الله كلام مهم آخر في شرح أثر عمر وتوسله بالعباس رضي الله عنهما، وتحقيق أن هذا التوسل هو التوسل بدعاء الحي الحاضر لا غير. 7 - وله أيضاً كلام آخر في غاية الدقة والإتقان يقطع دابر القبورية ولا سيما الكوثرية. 8 - تحقيق الشيخ الشاه محمد أنور الكشميري، الملقب عند الديوبندية والكوثرية بإمام العصر ومحدث العصر (1352هـ) ، وهو من كبار أئمة الديوبندية. والديوبندية قد أطروه إطراءً لا غاية له، وأكبروه إكباراً لا نهاية له. حيث قالوا في إجلاله وإكباره: إنه بحر البحور، عديم النظير، بقية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1516 السلف، حجة الخلف، أمة وحده، جمع ميزات كل من الذهبي (748هـ) ، وابن حجر (852هـ) ، وابن دقيق العيد، والبحتري، وسحبان، وأنه إعجاز الدين، مثل سفيان (161هـ) ، والبخاري (256هـ) ، وأحمد (241هـ) ، والترمذي (279هـ) ، والزهري (124هـ) ، بلا خلاف. إلى غير ذلك من الثناء والمدائح التي كالوها له جزافاً وغلواً، وأما الكوثري نفسه والكوثرية - فهم أيضاً أتوا بالعجائب من الإجلال له وإكباره وإعظامه: بأن الكشميري ((إمام العصر المحدث الكبير)) و ((الإمام المحدث الكبير)) و ((الإمام الكشميري)) ، ((والعلامة فقيد الإسلام المحدث المحجاج)) ، وأنه ((لم يأت بعد ابن الهمام مثله)) ، إلى آخر تلك المبالغات الديوبندية والكوثرية في هذا الكشميري. قلت: إنما أطلت هذه الإطالة في ذكر أمثلة إطراء الديوبندية والكوثري والكوثرية لهذا الكشميري وغلوهم فيه تخرصاًَ وجزافاً وتهوراً، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1517 لأنقل كلامه في توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما، ثم أنقل كلاماًَ للكوثري مناقضاً لكلام الكشميري، ليكون كلام الكشميري قاطعاً لدابر الكوثري خاصة ولدابر الديوبندية والكوثرية عامة، ولسائر القبورية أيضاً. فأقول وبالله أستعين، إذ هو المستعان المعين: قال العلامة الشاه محمد أنور الكشميري، أحد كبار أئمة الديوبندية والكوثرية (1352هـ) ، في شرح هذا الأثر محققاًَ أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما - إنما كان توسلاً بدعائه، ولم يكن من قبيل توسل المتأخرين: (قوله: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم)) - ليس فيه ((التوسل)) المعهود [عند المتأخرين] الذي يكون بالغائب، حتى قد لا يكون به شعور [للمتوسل به] أصلاً، بل فيه [أي أثر عمر هذا] توسل السلف، وهو: أن يقدم [المتوسل] رجلاً ذا وجاهة عند الله تعالى، ويأمره أن يدعو لهم، ثم يحيل عليه في دعائه، كما فعل بعباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه توسل المتأخرين [القبورية]- لما احتاجوا بإذهاب عباس رضي الله عنه معهم، ولكفى لهم التوسل بنبيهم بعد وفاته، (وكفاهم التوسل أيضاً) بالعباس رضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1518 الله عنه مع عدم شهوده معهم .... ) . 9 - وقال رحمه الله أيضاً مبيناً أن توسل السلف غير توسل الخلف: (واعلم أن التوسل بين السلف - لم يكن كما هو المعهود بيننا [أي الديوبندية خاصة والقبورية عامة] ، فإنهم [أي السلف الصالح] إذا كانوا يريدون أن يتوسلوا بأحد - كانوا يذهبون بمن يتوسلون به أيضاً معهم، ليدعو لهم، ثم يستعينون بالله ويدعونه، ويرجون الإجابة منه ... أما التوسل بأسماء الصالحين كما هو المتعارف في زماننا - بحيث لا يكون للمتوسلين بهم علم بتوسلنا، بل لا تشترط فيه [أي في هذا التوسل القبوري] حياتهم، [فيتوسلون بالأحياء والأموات] أيضاً. وإنما يتوسل [عند القبورية] بذكر أسمائهم فحسب، زعماً منهم أن لهم وجاهة عند الله وقبولاً، فلا يضيعهم بذكر أسمائهم - فذلك أمر لا أحب أن أقتحم فيه ... وأما قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] . فذلك وإن اقتضى ابتغاء واسطة، لكن لا حجة فيه على التوسل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1519 المعروف، بالأسماء فقط [بطلب الدعاء من المتوسل به] .... ) . 10 - وقال رحمه الله أيضاً مبيناً الفرق بين توسل السلف وبين توسل الخلف: (قوله: ((إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون)) قلت: وهذا توسل فعلي [أي بدعاء حي حاضر وفعله، كما هو عند السلف] ، لأنه [أي عمر] كان يقول له بعد ذلك: ((قم يا عباس فاستسق)) ، فكان [العباس يدعو الله تعالى، و] يستسقي لهم، فلم يثبت منه [أي من هذا الأثر من توسل عمر بالعباس] التوسل القولي [القبوري] : أي الاستسقاء بأسماء الصالحين [بمجرد ذكرهم على اللسان] فقط، [بأن يقال: اللهم بوسيلة فلان أو بحرمة فلان أو ببركة فلان أو بحق فلان] بدون شركتهم [، وحضورهم ودعائهم] .... ) . قلت: لقد قرأ القراء الكرام المنصفون المنشدون لضالة الحق هذه النصوص الثلاثة لإمام الديوبندية والكوثرية جميعاً، ألا وهو العلامة أنور الكشميري (1352هـ) . وهو يقرر في هذه النصوص أمرين مهمين: الأول: الفرق بين توسل السلف وبين توسل هؤلاء الخلف القبورية. الثاني: بطلان استدلال هؤلاء الخلف القبورية بهذه الآية الكريمة وهذا الأثر في توسل عمر بالعباس، محققاً أن هذه الآية وهذا الأثر لا يشملان توسل هؤلاء الخلف القبورية، لأن توسل عمر بالعباس إنما كان بدعاء العباس، لأن العباس كان يدعو لهم وهم كانوا يؤمنون بدعائه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1520 بخلاف توسل هؤلاء الخلف القبورية، فإنهم يتوسلون بالشخص من دون أن يدعو لهم، ومن دون أن يحضر ويشترك معهم في التضرع إلى الله. قلت: هذه كانت خلاصة نصوص العلامة الكشميري، وأن ترى أنها تقطع دابر القبورية عامة، ودابر الديوبندية، ودابر الكوثري والكوثرية خاصة. تنبيه: بمناسبة هذه النصوص الثلاثة للعلامة الكشميري (1352هـ) الذي يجله الكوثري والكوثرية فضلاً عن الديوبندية بالمبالغات التي ذكرت أمثلة منها - لا بد من أن أذكر كلمة في إبطال تلك الكلمات الوقحة التي هذى بها الكوثري بلسانه وسجلها ببنانه حيث قال: إن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} يشمل التوسل بالأشخاص والتوسل بالأعمال، (رغم تقول كل مفتر أفاك ... ) . وقال بعد استدلاله بتوسل عمر بالعباس رضي الله عنهما على توسل القبوري: (قول عمر ... نص على توسل الصحابة بالصحابة ... وقصر ذلك على ما قبل وفاته صلى الله عليه وسلم تقصير عن هوى، وتحريف لنص الحديث، وتأويل بدون دليل. ومن حاول إنكار جواز التوسل بالأنبياء بعد موتهم، بعدول عمر إلى العباس في الاستسقاء - قد حاول المحال، ونسب إلى عمر ما لم يخطر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1521 له على بال، فضلاً عن أن ينطق به؛ فلا يكون هذا إلا محاولة إبطال السنة الصحيحة الصريحة بالرأي) . قلت: بتحقيق هؤلاء الأعلام من أئمة الحنفية ولا سيما العلامة الكشميري الذي يجله الكوثري ويكبره إكباراً - تبين: أن الكوثري هو المتقول على الله تعالى، وأنه هو المفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الأفاك على السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الأمة، وأنه هو المقصر عن هوى، وأنه هو المحرف لأثر توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما، وأنه هو الذي قد حاول المحال، وأنه هو الذي قد نسب إلى عمر ما لم يخطر له على بال، وأن أفاعيله محاولات لإبطال السنة الصحيحة الصريحة بالرأي، وإلا لكان هؤلاء الأعلام من أئمة الحنفية - ولا سيما العلامة الكشميري (1352هـ) أحد أئمة الديوبندية والكوثرية - متقولين، مفترين، أفاكين، محرفين للحديث، مبطلين للسنة الصحيحة، محاولين للمحال، ناسبين إلى عمر ما لم يخطر له على بال - بتصريح هذا الكوثري - لكن التالي باطل فالمقدم مثله؛ لأن الكوثري قد وضع بنفسه قانوناً كلياً في عدم جواز حمل النصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد التنزيل بدهور، وأن من فعل هذا - فقد زاغ عن منهج الكتاب والسنة، وأنه تنكب سبيل السلف الصالح، مسلك أئمة أصول الدين، وأنه نابذ لغة التخاطب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1522 وأنه هجر طريقة أهل النقد، إلى آخر ذلك القانون الكلي الذي وضعه الكوثري بنفسه لقطع دابره ودابر قومه القبوريين. فالكوثري مع تناقضه الفاضح، واضطرابه الواضح - ممن يأمرون ولا يأتمرون، وعلى الكتاب يتقولون، وعلى السنة يفترون، ولنصوصهما يحرفون. حيث يحمل نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف على مصطلحات جديدة بدعية قبورية شركية، فهو المتقول المفتري الأفاك الكذاب. فهل يرعوي عن أباطيله هذا المرتاب؟؟؟. ويجدر بي أن أتمثل بمناسبة حال الكوثري بأبيات آتية ترثي حاله وحال خلطائه: ودع سليمى إن تجهزت غادياً ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا على حين عاتبت المشيب على الصبا ... فقلت ألما أصح والشيب وازع فإن تنج منها تنج من ذي ملمة ... وإلا فإني لا أخالك ناجيا وأكتفي بهذا القدر وأنتقل إلى الجواب الثالث في الوجه الآتي: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 112] . الوجه الثالث: لقد سبق في الوجه السابق أن متن هذا الأثر يدل على أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان توسلاً بدعائه، وقد ذكر علماء الحنفية عدة من القرائن الموجودة في متن هذا الأثر الدالة على أن هذا التوسل لم يكن إلا بدعاء العباس رضي الله عنه، ولم يكن من قبيل توسلات القبورية، وفي هذا الوجه أذكر كلام علماء الحنفية وتحقيقهم بإقامة شاهدي عدل من كلام عمر والعباس أنفسهما - على أن التوسل إنما كان بدعاء العباس رضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1523 الله عنه، ولا أكتفي بذلك؛ بل أذكر اعتراف كبار أئمة القبورية وشهادتهم على أن هذا التوسل إنما كان بدعاء العباس، وكفى بذلك إتماماً للحجة وإيضاحاً للمحجة، فيكون الجواب السابق من قبيل ما قيل: وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد وهذا معنى قولهم: ((هذه القضايا قياساتها معها)) . وأما هذا الجواب - فيكون من قبيل ما قيل: ونديمهم وبهم عرفنا فضله ... والفضل ما شهدت به الأعداء وما قيل: ومليحة شهدت لها ضراتها ... والحسن ما شهدت له الضرات بل هو من قبيل ما قال الله تعالى فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ... فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26-27] . فأقول وبربي أستعين وأستغيث، إذ هو المستعان المعين، والمستغاث المغيث: 1 - قال الإمام البدر العيني إمام الحنفية في عصره (855هـ) في بيان صفة دعاء العباس في الاستسقاء: (إن العباس قال ذلك اليوم: اللهم إن عندك سحاباً، وإن عندك ماء، فانشر السحاب، ثم أنزل منه الماء، ثم أنزله علينا، واشدد به الأصل، وأحل به الفرع، وأدر به الضرع. اللهم شفعنا إليك عمن لا منطق له من بهائمنا، وأنعامنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1524 اللهم اسقنا سقيا وادعة بالغة طبقاً مجيباً. اللهم إنا نشكو إليك سغب كل ساغب، وعدم كل عادم، وجوع كل جائع، وعري كل عار، وخوف كل خائف ... ) . 2 - وقال رحمه الله أيضاً، ذاكراً دعاء آخر دعا به العباس رضي الله عنه، محققاً أن هذا التوسل إنما كان بدعائه: (فلما صعد عمر، ومعه العباس المنبر - قال عمر رضي الله عنه: ((اللهم إنا توجهنا إليك بعم نبيك، وصنو أبيه، فاسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين)) . ثم قال: ((قل يا أبا الفضل)) ، فقال العباس [رضي الله عنه] : اللهم: لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا بالتوبة، فاسقنا الغيث)) . قال [ابن عباس] : فأرخت السماء شآبيب مثل الجبال، حتى أخضبت الأرض وعاش الناس) . 3 - وقال العلامة الشاه محمد أنور الكشميري أحد أئمة الديوبندية، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1525 والكوثرية، والملقب عندهم جميعاً بإمام العصر، ومحدث العصر، مبيناً صفة دعاء العباس رضي الله عنه، محققاً أن هذا التوسل إنما كان بدعائه ليس غير: (وصفة استسقاء العباس ما أخرجه الحافظ رحمه الله تعالى: ((اللهم لم ينزل بلاء إلا بذنب ... )) ا. هـ) . قلت: هذه كانت أمثلة لشهادة علماء الحنفية لتحقيق أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما - إنما كان بدعائه ليس إلا، بدليل أن عمر رضي الله عنه طلب منه الدعاء، وأن العباس رضي الله عنه قد دعا لهم. وأما شهادة أئمة القبورية وذكرهم طلب عمر الدعاء من العباس وأن العباس قد دعا لهم - فبيان ذلك: أنه ذكر كثير من أئمة القبورية أن عمر طلب من العباس أن يدعو لهم، وأن العباس قد دعا لهم، ثم ذكروا نص دعائه، حتى اعترف بذلك الكوثري، فشهد بما يقطع وتينه. وهذا من الحجج القاهرة والسلاطين الباهرة على أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1526 إنما كان بدعائه، فكان العباس رضي الله عنه يدعو لهم، والباقون يؤمنون. الحاصل: أنه قد ثبت بنصوص هؤلاء الأعلام من الحنفية وشهادة هؤلاء الخصوم القبورية: أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان توسلاً بدعائه، ولم يكن هذا التوسل من قبيل توسلات هؤلاء القبورية. ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا ... وأنك تلقى باطل القول لجلجا الوجه الرابع: أن هذا الأثر من أقوى السلاطين القاهرة، ومن أعظم البراهين الباهرة، على إبطال توسلات القبورية بجميع أنواعها، الشركية منها والبدعية. وأنه من أوضح الأدلة القاطعة، وأظهر الحجج الدامغة الساطعة، على إثبات أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما - إنما كان بدعائه ليس غير. قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (والجواب: أن المراد من التوسل - الدعاء لهم، يدل عليه ثبوت دعائه لهم بطلب السقيا، كما جاء في بقية الروايات. وهذا المعنى هو الذي عناه الفقهاء في كتبهم، ومرادهم التوجه إلى الله بدعاء الصالحين بأن يدعوا لهم. ولو كان التوسل بالذوات - هو المطلوب، والمدلول الذي أقاموا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1527 عليه الدليل - وهم بمقتضى دليلهم لا يخصون الأحياء بهذا التوسل، ويستحبون التوسل بالذوات الشريفة، ولو بندائهم ودعائهم كما مر تقريره من دليلهم، وأنه على معنى الشفعاء، يدعون لهم. وقالوا: لا مانع من ذلك عقلاً، وشرعاً. فإنهم أحياء في قبورهم - لكان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأمر المهم - وهم عنده بالمدينة - أولى. ولكان قولهم - كما في رواية البخاري: ((أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون)) - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1528 عبثاً ضائعاً، بل مخلاً بما يقولون ويدعون، بل هو أقوى الأدلة وأرجحها وأعلاها وأوثقها وأوضحها وأصدقها لما ندعيه. فإن قول عمر: ((اللهم: إنا إذا أجدبنا توسلنا ... )) إلخ - يدل دلالة ظاهرة على انقطاع ذلك الذي هو الدعاء، بدليل قوله: ((إنا كنا)) . ولما كان العباس حياً طلبوه منه، فلما مات - فات. فقصرهم له على الموجودين - ولو كانوا مفضولين - دليل ساطع، وبرهان لامع، على هذا المراد، ولو كان المقصود الذوات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1529 - كما يقولون - لبقيت هذه التوسلات عندهم على حالها، ولم تتغير ولم تتبدل إلى المفضولين بعد وجود الفاضلين، سيما الأنبياء والمرسلين. فتأمل في هذا، فإنه أحسن ما في هذه الأوراق، حقيق بأن يضرب عليه رواق الاتفاق. والله يهديك السبيل، فهو نعم المولى ونعم الوكيل) . قلت: بهذا القدر أكتفى في قلع هذه الشبهة، فلا حاجة إلى مزيد من الإطالة، وبعد قطع دابر القبورية بهذه الصوارم القواطع - ننتقل إلى الشبهة الثالثة، لنطلع على جواب علماء الحنفية عنها. الشبهة الثالثة: دعوى القبورية الإجماع على التوسل القبوري. لقد ادعى السبكي (756هـ) وغيره من خلطائه القبورية الإجماع - إجماع هذه الأمة، بل إجماع جميع أهل الأديان - على حسن التوسل والاستغاثة بالأموات عند الكربات، وأنه فعل الأنبياء والمرسلين، ومن سير السلف الصالحين، ولم ينكر ذلك أحد من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1530 حتى جاء ابن تيمية فأنكر الاستغاثة والتوسل، وابتدع ما لم يقله عالم قبله، وصار به بين الأنام مثله. وقال الكوثري، الأفاك المفتري: (وهم في إنكارهم التوسل محجوجون بالكتاب والسنة والعمل المتوارث، والمعقول ... ، رغم تقول كل مفتر أفاك) . وقال هذا الكوثري الجهمي الوثني: (وعلى التوسل بالأنبياء والصالحين أحياء وأمواتاً - جرت الأمة طبقة فطبقة، وقول عمر في الاستسقاء: ((إنا نتوسل إليك بعم نبينا)) - نص على توسل الصحابة بالصحابة. وفيه إنشاء التوسل بشخص العباس رضي الله عنه..، وقصر ذلك على ما قبل وفاته عليه السلام، تقصير عن هوى، وتحريف للحديث ... ومن حاول إنكار جواز التوسل بالأنبياء بعد موتهم بعدول عمر إلى العباس في الاستسقاء - قد حاول المحال، ونسب إلى عمر ما لم يخطر له على بال، فضلاً عن أن ينطق به. فلا يكون [يعني إنكار الاستغاثة والتوسل بالأموات] إلا محاولة إبطال السنة الصحيحة الصريحة بالرأي) . الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة الفتاكة الأفاكة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1531 بوجهين، وحاربوا القبورية من جهتين اثنتين: الوجه الأول: أنه قد تحقق على لسان علماء الحنفية أن التوسل في اصطلاح السلف الصالح من الصحابة والتابعين - إنما هو التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا، والتوسل بالأعمال الصالحة، والتوسل بدعاء حي حاضر ليس غير، وقد أقام علماء الحنفية على ذلك براهين باهرة، وسلاطين قاهرة. وساقوا لذلك حججاً قاطعة، وأدلة ناصعة، وثبت بهذا كله أن أهل التوحيد والسنة هم على ما عليه هذه الأمة وليسوا متقولين ولا مفترين، ولا كذابين ولا أفاكين، وأنهم ليسوا مبطلين للسنة، ولا هم خارجين على إجماع هذه الأمة، وأنهم ليسوا مثلة بين الأنام، ولا هم أهل شرك وابتداع كالقبورية الطغام. وإنما المتقولون والمبطلون للسنة والأفاكون، والمحرفون للكتاب والسنة، والخارجون على إجماع هذه الأمة، وأهل الشرك والابتداع، والمثلة بين الأنام - هم هؤلاء القبورية الدعاة إلى الوثنية في الإسلام. فإن السلف لم يستغيثوا بالأموات عند الكربات، ولا توسلوا بمجرد الذوات عند إلمام الملمات. قال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) وتبعه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) في إبطال هذا الإجماع القبوري الباطل، وذلك في تفسير آية الوسيلة: (واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين ... وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل، وتحقيق الكلام في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1532 هذا المقام: أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه، لا شك في جوازه، إن كان المطلوب منه حياً.. وأما إذا كان المطلوب منه ميتاً أو غائباً - فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف.. ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم - وهم أحرص الخلق على كل خير - أنه طلب من ميت شيئاً ... وقد شنع التاج السبكي - كما هو عادته - على المجد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1533 فقال: ((ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك، وعدل عن الصراط المستقيم، وابتدع ما لم يقله عالم، وصار بين الأنام مثلة)) انتهى. وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة - ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى الله عليه وسلم. ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك - فمؤول بتقدير مضاف، كما سمعت، أو نحو ذلك، كما تسمع إن شاء الله تعالى. ومن ادعى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1534 النص فعليه البيان) . قلت: هذا هو كلام علماء الحنفية في إبطال دعوى هؤلاء القبورية الإجماع على استحسان الاستغاثة بالأموات، والتوسل بهم عند إلمام الملمات لدفع الكربات وجلب الخيرات، وقد عرفت أن أمثال السبكي والكوثري من أئمة القبورية، في دعواهم الإجماع على صحة الاستغاثة بالأموات، وفي قولهم: إن الأمة طبقة فطبقة على ذلك رغم تقول كل مفتر أفاك، وإن منكر الاستغاثة والتوسل بالأموات مبتدع ومثلة بين الأنام - هم في الحقيقة خارجون على إجماع هذه الأمة، مبطلون ومحرفون لنصوص الكتاب والسنة، وأنهم هم المتقولون على الله تعالى، وأنهم هم المفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم هم الأفاكون الكذابون على الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة هذا الدين. وأنهم هم أهل الشرك والابتداع في صميم الإسلام، وأنهم هم المثلة بين الأنام، وأن الأمة طبقة فطبقة من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، لم يقل أحد منهم قط بجواز التوسل والاستغاثة بالمقبورين، لكن هؤلاء القبورية المتهورين زعموا أن لا جواب لدعواهم وإن كذبوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1535 فسلط الله عليهم علماء الحنفية فكشفوا عن أسرارهم الأستار وبينوا أكاذيبهم وتلبيساتهم وأظهروا الحق كالشمس في رابعة النهار، وتحدوهم تحدي الفرسان في مضمار الرهان. فقطعوا دابرهم وصرعوا لهم أميراً ووزيراً، فلم يجدوا لهم مجيراً ولا نصيراً، فانقطعوا منهزمين مكسورين أذلة صاغرين مع كثرتهم نفيراً. فلم يكن لهم جواب هذا التحدي ولن يمكن لهم ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. ستعلم ليلى أي دين تدينت ... وأي غريم في التقاضي غريمها والحقيقة أن هؤلاء الأعلام من الحنفية غرماء لهؤلاء القبوريين، وأن هؤلاء القبورية الصرعى لا يمكن لهم قضاء دينهم إلى يوم الدين. قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها وبعد هذا أنتقل إلى الجواب الثاني في الوجه الآتي: الوجه الثاني: أن هذا التعامل وهذا الإجماع الذي ذكرهما القبورية ليسا من التعامل والإجماع الشرعيين، حتى يكونا حجة عند النزاع، وذلك لوجوه: الأول: أن أصحاب هذا التعامل وهذا الإجماع - ليسوا من الصحابة والتابعين ولا من الأئمة المجتهدين، وإنما هم خليط أمشاج من العوام الطغام، والملوك الجهلة، ومن انتموا إلى العلم ولكنهم أجهل خلق الله بتوحيد الأنبياء والمرسلين، كما سيأتي تحقيقه على لسان علماء الحنفية. والثاني: أن هذا التعامل، وذلك الإجماع ليسا من الحجج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1536 الشرعية، لأن بناءهما ليس على الكتاب والسنة، بل بناؤهما على العادة المتوارثة المأخوذة عن العوام الطغام طبقة فطبقة، حسب البيئات والتأثيرات الداخلية والخارجية، ولا شك أن العادات المخالفة للشرع - ليست من الحجج الشرعية. والثالث: أن التعامل، والإجماع لا يكونان من الحجج، إلا عند صلاح الأزمنة التي ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد علمت أنها قد تعطلت منذ أزمنة، كما صرح به علماء الحنفية. قلت: الحاصل: أنه قد تحقق تحقيقاً لا مزيد عليه أن إجماع الصحابة والتابعين والفقهاء المحققين والأئمة المجتهدين - على عدم جواز الاستغاثة والتوسل بالأموات، عند إلمام الملمات لدفع الكربات وجلب الخيرات، فإذا كان في الدنيا إجماع صحيح فهو هذا. وأما الإجماعات الأخرى: كإجماع الوثنية من أهل الملل والنحل، أو إجماع القبورية من هذه الأمة، أو إجماع الفسقة والفجرة من الناس، أو إجماع أهل البدع، أو إجماع العوام - فهي من أبطل الباطل * وأنها أمر كاسد فاسد عاطل * فإن كان القبورية يعرضون عن أصح الإجماعات، ويتشبثون لدعم وثنيتهم بأبطلها - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1537 فحينئذ هم ساقطون عن مرتبة الخطاب * إلى إسطبل الدواب * وذي سفه يواجهني بجهل ... فأكره أن أكون له مجيبا فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو لطخت وجهك بالمداد أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا فليس شعاع الشمس يخفى لناظر ... أفيقوا عن الإصرار ما بالكم لد وفي هذا القدر كفاية * لمن رزق الدراية والهداية * والله الهادي إلى سواء السبيل * وهو حسبي ونعم الوكيل *. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1538 الباب العاشر في جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية من النذر لأهل القبور والتبرك على الوجه المحذور وزيارتهم للقبور والبناء عليها وفيه فصول ثلاثة: - الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور والتبرك على الوجه المحذور. - الفصل الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور. - الفصل الثالث: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في البناء على القبور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1539 الفصل الأول في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور والتبرك على الوجه المحذور وفيه مبحثان: - المبحث الأول: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور. المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في التبرك على الوجه المحذور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1541 المبحث الأول في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور وفيه مطالب ثلاثة: - المطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في نذورهم لأهل القبور. - المطلب الثاني: في إبطال علماء الحنفية عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور. - المطلب الثالث: في إبطال علماء الحنفية لبعض شبه القبورية في النذور لأهل القبور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1543 المطلب الأول في عرض عقيدة القبورية في نذورهم لأهل القبور من الأمثال الشركية التي وقع فيها القبورية عبادة لغير الله تعالى - النذور لأهل القبور. وفيما يلي عدة نماذج من أقوال أئمة القبورية في جواز النذور لأهل القبور. 1 - قال القباني (1157هـ) وهو أحد كبار أئمة القبورية: (فإن ذبح للكعبة أو للرسل تعظيماً لكونها بيت الله أو لكونهم رسل الله، جاز) . 2 - وقد بوب السمنودي المنصوري المصري، أحد كبار أئمة القبورية (المتوفى بعد 1326هـ) قائلاً: (الباب التاسع في الكلام على النذر والذبح للأنبياء والصالحين) ثم ذكر ما هو دعوة سافرة إلى الوثنية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1545 3 - وقال الملا جيون الهندي الحنفي * الجهمي الصوفي الخرافي * (1130هـ) : (ومن ههنا علم أن البقرة المنذورة للأولياء كما هو الرسم في زماننا، حلال طيب، لأنه لم يذكر اسم غير الله عليها وقت الذبح، وإن كانوا ينذرونها له [أي لغير الله] .... ) . 4 - وقد عقد القضاعي أحد كبار أئمة غلاة القبورية الكوثرية (1376هـ) فصلاًَ في الدعوة السافرة إلى الوثنية عامة والنذور للأموات خاصة، فقال: (فصل في توضيح بطلان القول بأن الذبح للميت والنذر له شرك، وتحقيق أن ذلك [أي النذر للميت] من القرب الواصل نفعها إلى الحي والميت جميعاً) ، ثم طول النفس في الدعوة إلى الوثنية السافرة عامة، وإلى النذر للأموات خاصة، بحجة أن الناذرين لا يعتقدون فيهم الخالقية والرازقية والربوبية، كما طعن على عادته الكوثرية في أهل التوحيد والسنة بكلمات وقحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1546 5 - وقال محمد الفقي أحد غلاة القبورية الوثنية: (المبحث الثالث في النذور، النذر للأنبياء والأولياء وغيرهم من القرب التي يدعو إليها الدين) . هكذا ترى القبورية يعقدون عناوين بارزة للنذور للأموات، دعوة منهم إلى عبادة غير الله تعالى. الحاصل: أن خلاصة عقيدة القبورية في النذر للأموات ما يلي: 1 - أن النذر للأموات من أعظم القربات، والأعمال الصالحات. 2 - أن النذر للأموات يجوز ما لم يعتقد الناذر أن الميت خالق ورب. 3 - أن الذبح يجوز للميت، بشرط أن لا يذكر اسمه على المذبوح عند الذبح. 4 - أنه يبدو لي أن مقصود القبورية بالنذر للأموات هو الاستغاثة بهم لدفع المضرات وجلب الخيرات. وهذه خلاصة عقيدة القبورية في النذور للأموات وبعد هذا ننتقل إلى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1547 المطلب الثاني في إبطال علماء الحنفية عقيدة القبورية في نذورهم لأهل القبور لقد صرح كثير من العلماء الحنفية في الرد على القبورية بأن النذر لغير الله تعالى حرام، بل هو شرك؛ لأنه نوع من أعظم أنواع العبادة، وعبادة غير الله شرك، ولأنه متضمن أنواعاً أخرى للشرك بالله تعالى، فإن الذي ينذر شيئاً للميت لابد من أن يعتقد فيه عدة عقائد شركية: 1 - أن يعتقد أنه يعلم حال هذا الناذر. 2 - أن يعتقد أنه يتصرف في الأمور، من شفاء المريض وغناء الفقير، وإغاثة الملهوف ونحو ذلك. 3 - أنه يسمع نداء الناذر واستغاثته به. وهذه العقائد كلها شركية وثنية كما سبق تحقيقها على لسان علماء الحنفية في الأبواب السابقة. وفيما يلي عدة نصوص لعلماء الحنفية دالة على أن النذر لغير الله تعالى حرام، بل إشراك صريح بالله وأنه من أعمال المشركين السابقين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1549 1 -16- قال الإمام قاسم بن قطلوبغا (879هـ) وتبعه كثير من أئمة الحنفية المشاهير، كالإمام ابن نجيم، الملقب بأبي حنيفة الثاني (970هـ) ، والإمام خير الدين الرملي (993هـ) ، والإمام سراج الدين عمر بن نجيم (1005هـ) ، والإمام علاء الدين الحصكفي (1088هـ) ، وفقيه الحنفية الشامية ابن عابدين (1252هـ) ، والشيخ رشيد أحمد الجنجوهي، الإمام الثاني للديوبندية الملقب بالإمام الرباني (1323هـ) ، والعلامتان شكري الآلوسي (1342هـ) والخجندي (1379هـ) والشيخ علي محفوظ الحنفي المصري (1361هـ) وغيرهم، واللفظ للأول على ما نقله عنه الثاني ثم الآخرون: (وأما النذر الذي ينذره أكثر العوام - على ما هو مشاهد - كأن يكون لإنسان، غائبٌ أو مريضٌ، أو له حاجة ضرورية، فيأتي بعض [قبور] الصلحاء، فيجعل ستره على رأسه فيقول: يا سيدي فلان! إن رد غائبي، أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب كذا ومن الفضة كذا ومن الطعام كذا ومن الماء كذا ومن الشمع كذا ومن الزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع، لوجوه: منها: أنه نذر مخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز، لأنه عبادة، والعبادة لا تكون للمخلوق. ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. ومنها: [أنه] إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى واعتقاده ذلك كفر ... ) ، زاد الحصكفي: (وقد ابتلي الناس بذلك، ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1550 سيما في هذه الأعصار) . وزاد ابن عابدين فيما حكاه عن النهر الفائق: (ولا سيما في مولد البدوي) . قلت: هذا النص لهؤلاء الأعلام من الحنفية دال دلالة قاطعة على أن النذر لغير الله تعالى من أعظم أنواع الشرك؛ لأن النذر عبادة وعبادة غير الله شرك بواح، ولأن المنذور له ميت والميت لا يملك شيئاً، ومن اعتقد التصرف في الكون للميت فقد كفر كفراً مبيناً، وهذا النص من قبيل القضايا التي قياساتها معها، وفي ذلك عبرة بالغة لمن فيه إنابة إلى الحق من القبورية، ونكال شديد أليم للمعاندين المكابرين المستنكفين منهم. كما يدل على أن القبورية الناذرين لأهل القبور هم عباد القبور، بل هم وثنية، حيث جعلوا القبور وأهلها أوثاناً يعبدونها من دون الله تعالى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1551 يوضحه النص الآتي: 17 -21- وهو قول الإمام محمد البركوي (981هـ) في صدد البرهنة على أن القبورية وثنية، حيث يعبدون القبور وأهلها أنواعاً من العبادات، ويشركون بالله تعالى أنواعاً من الإشراك، منها النذر لهم، وتبعه آخرون من كبار أعلام الحنفية: أمثال الإمام الشيخ أحمد الرومي (1043هـ) والشيخين: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (ثم يقربون لذلك الوثن القرابين * وتكون صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير رب العالمين *) . 22 -25- وقالوا كلهم غير الأخير: (لو كان اتخاذ السرج عليها مباحاً لم يلعن من فعله، وقد لعن، ولأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة، وإفراطاً في تعظيم القبور تشبيهاً بتعظيم الأصنام؛ ولهذا قال العلماء: لا يجوز أن ينذر للقبور لا شمع ولا زيت ولا غير ذلك، فإنه نذر معصية، لا يجوز الوفاء به اتفاقاً ...... ) . 26 -29- وقالوا أيضاً مبينين عدة أنواع للشرك الذي يرتكبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1552 القبورية: (ومنها النذر لها ولسدنتها) . 30 -31- ونقله الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) والشيخ محمد علي المظفري وأقرانه. 32 - وقال الإمام البركوي (981هـ) رحمه الله تعالى في كشف الستار عن أسرار القبورية، وتحقيق أنهم على طريقة المشركين الأوائل عبدة الأصنام السفلية * والأجرام العلوية * مقارناً لهؤلاء القبورية بأولئك الوثنية: ( .... ولهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصنفت لها الدعوات، واتخذت لها الأصنام، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وإقامة السدنة لها، ودعاء أصحابها، والنذر لهم، وغير ذلك من المنكرات، والله هو الذي بعث رسله وأنزل كتبه لإبطاله وتكفير أصحابه، ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم ........ ) . 33 - وقال رحمه الله تعالى مبيناً أن القبورية يعبدون عدة من الأوثان بعدة أنواع من العبادة، منها النذر الذي هو عبادة للمنذور: ( ...... ثم يتجاوز هذا إلى أن يعظم وقع الأماكن في قلوبهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1553 فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي بين شجر وحجر وحائط وعين، يقولون: إن هذا الشجر، وهذا الحجر وهذه العين يقبل النذر، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له .... ) . 34 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) مبيناًَ أنواع الشرك التي ارتكبها أهل الشرك في القديم والحديث، ولا سيما مشركي العرب - منها النذر لغير الله تعالى، ومحققاً أن القبورية في هذه الشركيات على طريقة الوثنية الأولى: (ومنها أنهم كانوا يستغيثون بغير الله في حوائجهم: من شفاء المريض وغناء الفقير، وينذرون لهم، يتوقعون إنجاح مقاصدهم بتلك النذور، ويتلون أسماءهم رجاء بركتها، فأوجب تعالى عليهم أن يقولوا في صلاتهم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 4] ، وقال تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] . 35 - وقال ابن عربشاه (854هـ) مبيناً أن القبورية يعبدون القبور وأهلها، حتى عبدوا الفسقة الفجرة منهم بأنواع العبادات، حيث عبدوا تيمور الفاسق الفاجر * ذلكم الملك الظالم الجائر * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1554 ( .... وقبره في مكانه المشهور * تنقل إليه النذور* وتطلب عنده الحاجات * ويبتهل عنده بالدعوات * .... ) . 36 - وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) . 37 - وتبعه غلام الله الملقب بشيخ القرآن (1980م) ، في بيان وجود الشرك في المنتسبين إلى الإسلام وبيان فضائح القبورية، وأن القبورية يعبدون القبور وأهلها بأنواع من العبادات، منها النذر لها ولأهلها، وأنه إشراك بالله تعالى، لأنه عبادة، وعبادة غير الله شرك، وأن القبورية قد كثروا في هذه الأمة حتى صاروا أكثر من الدود، وذلك في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] : (ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها، المعتقدون للنفع والضر [في أهلها] ممن الله أعلم بحاله فيها [أي في القبور] ، وهم اليوم أكثر من الدود) . 38 - وقال العلامة الرباطي: (ثم اعلم أن بيان هذا المرام - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1555 أعني أن المنذورات لغير الله وكل ما أهل لغير الله به - فهو حرام قطعاً ونجس، ليس حرمته دون حرمة الكلب والخنزير - من وجهين: الأول: أن ذلك عبادة، وقد عرفت أن العبادة مطلقاً من حقوق الله، فإعطاؤها لغير الله كفر صريح وشرك قبيح. والثاني: أن النصوص القرآنية قد وردت في تحريمها بخصوصها فكانت محرمة من هذا الوجه أيضاً) . 39 - وقال الشيخ الرستمي: (فالنذر لله عبادة له تعالى، كما قال جمهور الفقهاء، فمن نذر لغير الله تعالى فقد عبد لغير الله، والعبادة لغير الله كفر وشرك، والتجربة شاهدة بأن النذر إنما يكون لمن يرجى منه كشف المهمات * ودفع البليات وإنجاح الحاجات * .... فمن ينذر لغير الله فهو يعتقد أن ذلك الغير يشفي مرضي، ويجيب دعوتي وينجح حاجتي؛ ورجاء إنجاح الحاجات من غير الله شرك. قلت: الحاصل: أن هذه عدة نصوص لكبار علماء الحنفية تدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1556 على عدة أمور مهمة: الأول: أن القبورية ينذرون للقبور وأهلها. الثاني: أنهم ينذرون لدفع الكربات وجلب الخيرات. الثالث: أنهم يعتقدون أن الأموات يعلمون بنذورهم. الرابع: أنهم يعتقدون فيهم التصرف في الأمور. الخامس: أن النذر للقبور وأهلها من أعظم أنواع الإشراك بالله العظيم. السادس: أن النذر عبادة وعبادة غير الله شرك بلا شك. إلى غيرها من المطالب في كلام هؤلاء الأعلام، وبعد هذا ننتقل إلى عرض بعض شبهات القبورية مع ذكر أجوبة علماء الحنفية عنها، قلعاً لأعذارهم * وقطعاً لأدبارهم *. ***** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1557 المطلب الثالث في إبطال علماء الحنفية لبعض شبه القبورية التي تشبثوا بها لتبرير نذورهم للقبور وأهلها لقد تشبثت القبورية لتبرير النذور للقبور وأهلها بشبهات كثيرة أهمها ثلاث، أود أن أسوقها مع جواب علماء الحنفية عنها وكلامهم في قلعها وقمع أهلها: الشبهة الأولى: أن ما يقرب إلى القبور وأهلها من المنذورات - لا يدخل في باب عبادة غير الله تعالى، فإن هذه النذور ليست من قبيل العبادة لأن العبادة لا تحقق إلا باعتقاد الربوبية والخالقية في المخضوع له. والجواب: أنه قد أجمع علماء الحنفية على أن النذر عبادة، دل على ذلك تعريفهم للنذر، فقد قال الجرجاني (816هـ) : (النذر إيجاب عين الفعل المباح على نفسه، تعظيماً لله تعالى) وقد صرحوا بأنه لا يجوز النذر للقبور وأهلها، ونصوا على أنه شرك بالله تعالى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1559 وعللوا ذلك بأنه عبادة، وعبادة غير الله شرك بالله. وقد سبق مفصلاً محققاً على لسان علماء الحنفية: أن العبادة لا يشترط فيها اعتقاد العابد في المعبود أنه رب وخالق. وأقول: من اختبر حال القبورية وعلم الدافع لهم على النذور للأموات، ولا سيما المضطرين منهم الذين يريدون بنذورهم للأموات استعطاف الأموات لدفع الملمات وجلب الخيرات، ورأى ما هم فيه من الخشوع والخضوع والتذلل لهم - عرف أنهم أعظم عبادة للأموات * منهم لخالق البريات * ومن أنكر هذا فهو مكابر غالط * ومعاند مغالط *. الشبهة الثانية: أن القبورية زعمت أن الإنسان إذا نذر لغير الله تعالى، ولم يذبح منذوره باسم غير الله تعالى، بل ذكر اسم الله تعالى عليه عند الذبح - فهو جائز حلال، فالمنذور لا يحرم إلا إذا ذكر اسم غير الله عليه عند الذبح ويذبح باسم غير الله تعالى. قال الملا جيون الهندي الحنفي * الماتريدي القبوري الخرافي (1130هـ) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1560 (ومن ههنا علم أن البقرة المنذورة للأولياء - كما هو الرسم في زماننا - حلال طيب؛ لأنه لم يذكر اسم غير الله عليها وقت الذبح؛ وإن كانوا ينذرونها له) . الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة أن العبرة في النذر لغير الله تعالى للنية لا لذكر اسم غير الله عند ذبح المنذور، فمن نذر بقرة لميت مثلاً فقد أشرك بمجرد نذره إياه له، سواء ذكر اسم الله عند ذبحها أو ذكر اسم ذلك الميت، فإن العبرة لنية هذا الناذر المتقرب إلى ذلك الميت الطالب بنذره له كشف المعضلات وجلب الخيرات منه؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] ، وقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3، والنحل: 115] وقوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] فما أهل به لغير الله أعم من المذبوح باسم غير الله؛ فإن ما أهل به لغير الله قد يكون من قبيل المشروبات، أو الملبوسات، أو المشمومات، بل قد يكون من المعادن كالذهب والفضة والياقوت والمرجان ونحوها، وقد يكون من المطعومات التي لا تحتاج إلى الذبح، كالسمك والزيت والسمن والعسل ونحوها؛ لأن ((الإهلال)) هو رفع الصوت بالشيء وليس معناه الذبح، فمن زعم: أن معنى قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} -: ما ذبح باسم غير الله بأن يذكر اسمه عليه وقت الذبح، فقد غلط غلطاًَ مبيناً، وقيد مطلق الكتاب وخصص عامه بدون دليل مسوغ، وتقول على اللغة العربية ما لا يعرفه العرب، فإن الإهلال لم يعرف عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1561 العرب بمعنى الذبح، وأما ما ذكره بعض المفسرين في تفسير هذه الآية: ((وما ذبح للأصنام والطواغيت)) ونحو ذلك، فليس هذا معناها اللغوي الكامل - بل قصدهم بيان فرد من أفراد {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ، فإن المشركين السابقين كانوا عادة، إذا نذروا شيئاً من الأنعام لآلهتهم ذبحوه بأسمائها، بخلاف القبورية في هذه الأمة، فإنهم إذا نذروا بقرة مثلاً لأوليائهم الأموات مثلاً، ذبحوها باسم الله تعالى لساناً وظاهراً، حيلة منهم، ولكن هذا المنذور المذبوح يكون مذبوحاً في الحقيقة باسم ذلك الولي الميت، فهم وإن لم يذكروا اسم هذا الولي المنذور له ظاهراً على ألسنتهم عند ذبح ذلك الحيوان المنذور، لكنهم يذكرون اسم وليهم باطناً في قلوبهم قبل ذبحه وعند ذبحه وبعد ذبحه، دل على ذلك نذرهم له ونيتهم وتقربهم إليه واستعطافهم إياه لدفع الملمات وجلب الخيرات. إذاً لا تأثير لذكر اسم الله تعالى عليه عند الذبح ما دام المنذور لغير الله تعالى، فذبحهم باسم الله تعالى ليس إلا حيلة قبورية لا تنجيهم من الشرك والتحريم؛ لأن العبرة للنية لا لذكر اسم الله تعالى على اللسان، فهذا الناذر مشرك وهذا المنذور حرام وإن ذكر اسم الله عليه وقت الذبح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1562 قال المهايمي الحنفي (835هـ) مبيناً أن ما أهل به لغير الله فهو حرام في الحالين، سواء ذكر اسم الله عليه أم لا: (فإنه وإن ذكر معه اسم الله فقد عارض المطهر فيه المنجس مع نجاسته بالموت - وإن لم يذكر فقد زيد في تنجيسه) . وقال الإمامان التمرتاشي (1004هـ) والحصكفي (1088هـ) وتبعهما العلامة ابن عابدين الشامي (1252هـ) ، والعلامة اللكنوي (1304هـ) : [شخص] (ذبح) [ضأناً مثلاً] (لقدوم الأمير) ونحوه كواحد من العظماء (يحرم) ، لأنه أهل به لغير الله، (ولو) وصلية (ذكر اسم الله تعالى) .... وهل يكفر؟ قولان ... ونحوه في شرح الوهبانية عن الذخيرة، ونظمه: * وفاعله جمهورهم قال: كافر * وفضلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1563 وإسمعيلي ليس يكفر *. الشبهة الثالثة: لقد احتال القبورية في الاعتذار عن نذورهم للأموات بحيلة ماكرة عجيبة، وهي أنهم يقولون: نحن إذا نذرنا للأولياء - فإن نذرنا في الحقيقة لله تعالى، وإنما قصدنا إيصال ثواب نذرنا إلى الأولياء. هكذا ترى القبورية يحتالون بهذه الحيلة الماكرة، ويعتذرون هذا الاعتذار البارد الفاسد. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة الماكرة بأن هذه المعذرة حيلة محضة لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن القبورية غير صادقين في هذا الاعتذار، لأمارات وشواهد، وفيما يلي أسوق كلام بعض كبار الحنفية لقلع هذه الشبهة للقبورية * قمعاً لأعذارهم * وقطعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1564 لأدبارهم * وإقامة للحجة * وإيضاحاً للمحجة *: 1 -2- قال أحمد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني ومجدد الألف الثاني (1034هـ) وتبعه محمد مراد المنزلوي - محققاً أن النذر لغير الله تعالى من أعظم الإشراك بالله سبحانه، لأنه عبادة، ومبيناً أن كثيراً من أهل الهند الجهلة القبورية يرتكبون أنواعاً من الشرك بأنواع من النذور لغير الله، والاستغاثات، ومبطلاً هذه الشبهة القبورية، بأن القبورية في اعتذارهم هذا - غير صادقين: (والاستمداد من الأصنام والطاغوت في دفع الأمراض والأسقام * - كما هو شائع فيما بين جهلة أهل الإسلام - * عين الشرك والضلالة .... ، وأكثر النساء مبتليات بهذا الاستمداد الممنوع ... ومفتونات بأداء مراسم الشرك وأهل الشرك، خصوصاً وقت عروض مرضى الجدري المعروف فيما بين نساء الهنود بالستيلة، فإن ذلك الفعل مشهود ومحسوس من خيرهن وشرهن ... وتعظيم الأيام المعظمة عند اليهود، وأداء رسوم الأيام المتعارفة عند اليهود - مستلزم للشرك، ومستوجب للكفر، كما أن جهلة أهل الإسلام خصوصاً طائفة نسائهم يؤدون رسوم أهل الكفر ... ، كل ذلك شرك وكفر بدين الإسلام، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] . وما يفعلونه من ذبح الحيوانات المنذورة للمشايخ عند قبور المشايخ المنذورة لهم، جعله الفقهاء أيضاً في الروايات الفقهية داخلاً في الشرك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1565 وبالغوا في هذا الباب وألحقوه بجنس ذبائح الجن الممنوع عنها شرعاً .... ومثل ذلك صيام النساء بنية المشايخ ... ، ويجعلن مطالبهن، ومقاصدهن مربوطة بتلك الصيام. ويطلبن حوائجهن منهم بواسطة تلك الصيام، وذلك الفعل إشراك للغير في عبادة الله تعالى، وطلب لقضاء الحوائج عن الغير بواسطة العبادة إليه ... وقول بعض النساء وقت إظهار شناعة هذا الفعل: ((نحن نصوم هذا الصيام لله تعالى، وإنما نهدي ثوابها لأرواح المشايخ)) - حيلة منهن، فإن كن صادقات في ذلك فلأي شيء يحتاج إلى تعين الأيام للصيام، وتخصيص الطعام، وتعين أوضاع شنيعة مختلفة في الإفطار * وكثيراً ما يرتكبن المحرمات وقت الإفطار * ويفطرن بشيء حرام، ويسألن شيئاً من غير حاجة، ويفطرن به، ويزعمن قضاء حوائجهن مخصوصاً بارتكاب هذا المحرم، وهذا عين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1566 الضلالة، وتسويل الشيطان اللعين، والله العاصم) . 3 -8- وقال الإمام الآلوسي محمود، مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) ، وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) وآخرون من الحنفية، مبينين أن النذر لغير الله تعالى شرك، وأن عبدة القبور كعبدة الأصنام، ومبطلين اعتذارهم بأنه من أبطل الحيل، وأنهم غير صادقين في ذلك، ومحققين أن القبورية عار شنار على هذه الأمة وضحكة لأهل الملل والنحل: (وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} إلخ -[الحج: 73] إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى * حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى * وينذرون لهم النذور، والعقلاء منهم يقولون: ((إنهم وسائلنا إلى الله تعالى، وإنما ننذر لله عز وجل ونجعل ثوابه للولي)) . ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم، أو رد غائبهم أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل [لهم] : انذروا لله تعالى، واجعلوا ثوابه لوالديكم؛ فإنهم أحوج من أولئك الأولياء - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1567 لم يفعلوا. ورأيت كثيراً منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعاً في قبورهم، لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة؛ وإذا طولبوا بالدليل - قالوا: ((ثبت ذلك بالكشف)) !!! . قاتلهم الله تعالى!! ما أجهلهم!! وأكثر افتراءهم!!! ، ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور، ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم يقولون: ((إنما تظهر أرواحهم متشكلة، وتطوف حيث شاءت، وربما تشكلت بصورة أسد، أو غزال، أو نحوه)) . وكل ذلك باطل، لا أصل له في الكتاب والسنة * وكلام سلف الأمة * وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية، نسأل الله تعالى العفو والعافية) . قلت: هذا كان جواباً دامغاً لحيلة القبورية هذه. والآن ننتقل إلى المبحث الآتي لنعرف جهود الحنفية في إبطال تبركات القبورية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1568 المبحث الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية في التبرك على الوجه المحذور وفيه مطلبان: - المطلب الأول: في عرض عقيدة القبورية في التبركات الشركية والبدعية. - المطلب الثاني: في إبطال علماء الحنفية تبركات القبورية الشركية والبدعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1569 المطلب الأول في عرض عقيدة القبورية في التبركات الشركية والبدعية من أشهر عقائد القبورية التبركات الشركية والبدعية، فهم يهتمون بالتبرك بقبور الصالحين وأتربة قبورهم وآثارهم ومجالسهم التي لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1571 يوجد الدليل الشرعي على جواز التبرك بها، كما يهتمون بالتبرك بكثير من الكتب البدعية الخرافية، لمؤلفيها الذين لهم إجلال وإكبار في قلوب هؤلاء القبورية. وفيما يلي عدة أمثلة لتبركات القبورية الشركية والبدعية: 1 - التماس البركة من قبور الأولياء جائز. 2 - تعظيم القبور والتبرك بها ولمسها وتقبيلها وتقبيل أعتاب مشاهدها، والتمسح بها والطواف حولها، جائز شرعاً وراجح عقلاً. 3 - تبرك القبورية بقبر أبي منصور الماتريدي، إمام الماتريدية الحنفية (ت 333هـ) . 4 - وقال أحمد رضا خان الأفغاني إمام البريلوية الحنفية (1340هـ) : (لا بأس بوضع تمثال مقبرة الحسين في البيت للتبرك) . 5 - تبركات أخرى يرتكبها القبورية قديماً وحديثاً. 6 - تبركات الديوبندية الحنفية الماتريدية النقشبندية القبورية، بالحجرة الشريفة، على صاحبها ألف تحية وصلاة وسلام. 7 - وتبركاتهم بالغلاف. 8 - وتبركاتهم بتمر المدينة النبوية. 9 - وتبركاتهم بنوى التمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1572 10 - وتبركاتهم بتراب الحجرة الشريفة. 11 - وتبركاتهم بأقمشة المدينة الطيبة. 12 - وتبركاتهم بالزيت المحروق في المسجد النبوي. 13 - وتبركاتهم بالزيت المحروق في الحجرة النبوية. 14 - وإدخالهم الأطفال إلى الحجرة للتبرك. 15 - وتبركاتهم بقبر النبي صلى الله عليه وسلم. 16 - وتبركاتهم بموضع جلوس النبي صلى الله عليه وسلم. 17 - وتبركاتهم بما مسته يده الشريفة صلى الله عليه وسلم. 18 - وتبركاتهم بما مرت عليه قدمه صلى الله عليه وسلم. 19 - وتبركاتهم بالمنبر في المسجد النبوي. 20 - وتبركاتهم بكتاب ((إحياء العلوم)) للغزالي الصوفي (505هـ) ذلكم الكتاب الخرافي * الجهمي القبوري الصوفي *. 21 - وتبركاتهم بكتاب ((المثنوي)) للرومي الحنفي * الحلولي الاتحادي الصوفي القبوري الخرافي * (672هـ) ، الذي أطراه القبورية حتى جعلوه قرآناً فارسياً. هذه التبركات القبورية الديوبندية البدعية غير الشرعية - كلها - موجودة عند الديوبندية الذين هم أقرب إلى السنة والتوحيد بالنسبة إلى بقية القبورية. وقد سبق بيانها بالتوثيق. 22 - تبركات القبورية الأتراك بقصيدة البردة للبوصيري الصوفي الخرافي (696هـ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1573 23 - تبركات القبورية بكتاب ((مختصر القدوري)) (428هـ) . 24 - تبركات القبورية بالقبور وأتربتها. 25 - ولعلي الأحمدي كتاب في الدعوة إلى التبركات القبورية الشركية والبدعية، سماه ((التبرك)) . هذه كانت عدة أمثلة ذكرتها لبيان عقيدة القبورية في التبركات الشركية والبدعية، وبعد هذا ننتقل إلى المطلب الثاني لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطالها. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1574 المطلب الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في التبرك على الوجه المحذور اعلم أخي المسلم أن التبرك نوعان: نوع مشروع: وهو ما ورد الشرع بجوازه، فهذا النوع من التبرك لا كلام فيه. وليس هو موضوعنا ههنا، ومن أراد أن يطلع على كثير مما ثبت التبرك به شرعاً فليرجع إلى كتاب ((التبرك أنواعه وأحكامه)) ، وغيره. فكل ما ثبت في شرع الله تعالى التبرك به يجوز التبرك به ولا ينافي التوحيد ولا السنة. ونوع ممنوع غير مشروع: وهو التبرك الذي لم يرد الشرع بجوازه، أو ورد الشرع بخلافه، فهذا النوع من التبرك هو بيت القصيد ههنا، وهو صنفان: الصنف الأول: تبرك شركي: وهو ما كان فيه طلب الخير والنماء من غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، أو أن يعتقد المتبرك [بصيغة اسم الفاعل] : أن المتبرك به غير الله تعالى يعطي الخير والنماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1575 فوق الأسباب العادية، وقد سبق على لسان علماء الحنفية أن من أنواع التبرك: الشرك في التبركات. وهذا النوع من التبرك يرجع إلى عقيدة التصرف في الكون لغير الله سبحانه وتعالى؛ وقد سبق مفصلاً محققاً على لسان علماء الحنفية، أن هذه العقيدة من أعظم أنواع الإشراك بالله تعالى في الربوبية، وأن صاحب هذه العقيدة من أوضح أصناف المشركين. قال العلامة الرستمي حفظه الله تعالى - وهو من كبار علماء الحنفية المعاصرة - محققاً أن القبورية واقعون في شرك البركات، مبيناً معنى (بسم الله الرحمن الرحيم) : (فالمعنى: ((متبركاً باسم الله الرحمن الرحيم أقرأ)) ؛ فيه إشارة إلى أن البركة في اسمه تعالى، وهو يبارك في الأشياء وحده لا شريك له في هذا؛ وفي هذا رد على من يشرك [بالله تعالى في القبورية] في البركات، ولذا ينذرون للأولياء، وغيرهم من سوى الله تعالى، ويقولون: ((إذا أعطينا نذورهم من الأنعام أو الحرث فينظر الأولياء إلى أموالنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1576 بنظر الشفقة، ويباركون فيه)) ، وبعضهم يقرءون أسماءهم في وظائفهم وخلواتهم للتبرك بها، وما هذا إلا شرك في البركات .... فالذي يعتقد: أن فلان - الولي يبارك في أموالنا وفي حرثنا وفي أنعامنا - فهو مشرك بالله تعالى؛ فالله تعالى هو ((المبارك)) باسم الفاعل وحده، الذي يعطي له [أي عبده] نعيم الدنيا والآخرة ويزداد له في قليل ماله؛ فهو [أي العبد] يسمى: ((مباركاً)) باسم المفعول؛ كما قال الله تعالى: في شأن بيته المعظم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] ؛ فالله بارك في هذا الموضع بأنه يزيد ثواب عمل فيه أضعافاً مضاعفة، وكذا فيه منافع كثيرة للناس؛ فلذا سمي مباركاً، وقال تعالى في شأن عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} الآية [مريم: 31] ؛ فبارك الله في عيسى عليه السلام بأن ينتفع به عباد الله، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1577 يدعوهم إلى الله وإلى توحيده، وعبادته، وجعل في عبادته منافع كثيرة لأتباعه .... وما يقولون في أدعيتهم توسلاً: ((ببركة فلان)) فلا معنى له ولا يجوز؛ لأن ذلك المصدر [البركة] إما مضاف إلى الفاعل، فالمعنى: ((المبارك هو الفلان)) - فهذا شرك؛ كما ثبت قبل؛ وإما مضاف إلى المفعول - فالمعنى: ((المبارك هو الفلان)) - فلا معنى لهذا التوسل، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة من العلم) . قلت: القبورية في تبركاتهم الباطلة على طريقة الوثنية الأولى؛ فقد صرح الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) بأن المشركين كانوا يتلون أسماء من يتغيثون بهم للتبرك ويعتقدون أن أسماءهم مباركة للحلف بها، وكانوا يقصدون مواضع يعظمونها للتبرك بها. الصنف الثاني: تبرك بدعي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1578 وهو ما لم يكن فيه طلب الخير والنماء من غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ بل كان فيه طلب الخير والنماء من الله تعالى، ولكن بواسطة شيء لم يرد الشرع به: كطلب البركة من الله تعالى بواسطة غلاف الكعبة أو طلب البركة من الله تعالى بواسطة استلام الحجرة النبوية أو طلب البركة من الله تعالى بواسطة تمر المدينة النبوية، ونحوها مما لم يرد به الكتاب والسنة، وقد ذكرت عدة أمثلة للتبركات البدعية التي يرتكبها القبورية عامة والديوبندية خاصة. والتبركات البدعية قناطر التبركات الشركية، بل قد تكون شركية فعلاً إذا اعتقد المتبرك: أن المتبرك به يقدر على البركة؛ ولقد حذر علماء الحنفية من جميع التبركات البدعية أيضاً كما حذروا من التبركات الشركية، فقد صرحوا بوجوب إزالة كل ما يتبرك به القبورية تبركاً بدعياً: من قبر، ونصب وشجر وحجر، ومسجد بني على قبر، وقنديل، وسراج، وشمع على قبر، وخرفة، ومسمار، وحائط، وعين، وعمود، ونحوها وقالوا: إن الواجب هدم هذه الأشياء كلها، وإزالة أثرها، والمبادرة إلى محوها؛ لأن الناس يقصدونها، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء بها والتبرك بها، حسماً للفتنة التي قد عظمت بها، وقطعاً للبلوى التي اشتدت بها، إذ هي سبب للعنة الله تعالى والطرد من رحمته سبحانه؛ ولأنها أعظم شراً ومفسدة من مسجد الضرار؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1579 ولأن هذه التبركات البدعية قنطرة للتبركات الشركية، فوجب منع ذلك، حماية لحمى التوحيد، وسداًَ لذرائع الشرك؛ لئلا تصير هذه الأشياء أوثاناً تعبد من دون الله. ولقد صرح علماء الحنفية أيضاً بمنع التبرك والتمسح بحجر مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على أن لا يقبل الركن اليماني، ونصوا أيضاً على أن يقبل الحجر الأسود للتعبد لا للتبرك، فلا يجوز تقبيل الحجر الأسود للتبرك، حماية للتوحيد، وسداً لذرائع الشرك. ولقد صرح علماء الحنفية أيضاً بمنع التعلق بشجرة تشبه شجرة للمشركين، ولو كان هذا التشبه بالاسم فقط، فضلاً عن التبرك بها، والعكوف عليها، فإن ذلك يتسبب إلى الوثنية، واستدلوا بحديث ((ذات أنواط)) . وكذلك صرحوا بمنع انتياب الناس إلى شجرة ذات حادث جلل فضلاً عن التبرك بها، ووجوب المبادرة إلى قطعها وإزالة أثرها، واستدلوا بأثر عمر بن الخطاب في إزالة شجرة الرضوان؛ كل ذلك حماية لحمى التوحيد وقطعاً لوسائل الشرك. قلت: الحاصل أنه إذا كان التبرك بأمثال الحجر الأسود والركن اليماني، وذات أنواط، وشجرة الرضوان وغيرها مما لم يرد بالتبرك به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1580 الشرع - فكيف يجوز التبرك بالأتربة، والمنبر والزيت المحروق في المسجد النبوي، وغير ذلك فضلاً عن التبرك بالقبور عامة وأتربتها، والقبور المعظمة خاصة؛ كما سبق ذلك في تحقيقات علماء الحنفية ومنعهم وتحذيرهم من التبركات الشركية والبدعية، واستدلالهم بعمل الصحابة رضي الله عنهم في قصة دانيال وأمر عمر بن الخطاب بدفنه وتعمية أمره وأثره، وأن أمثال هذه التبركات والتوسلات - من أفعال الوثنية الأولى. نتيجة هذا البحث: لقد وصلنا في مبحث التبرك إلى نتائج: 1 - تعريف التبرك لغة واصطلاحاً. 2 - التبرك المشروع، وهو ما ورد الشرع بجوازه. 3 - التبرك الشركي، وهو شرك بالله في التصرف والربوبية. 4 - التبرك البدعي، وهو دون التبرك الشركي في الإثم. 5 - التبرك البدعي قنطرة للتبرك الشركي. 6 - التبرك البدعي قد يصير تبركاً شركياً. 7 - تبركات القبورية كتوسلاتهم فيها شرك وبدعة. 8 - التبرك غير المشروع من أفعال الوثنية الأولى. 9 - القبورية في تبركاتهم الشركية والبدعية على طريقة المشركين السابقين. 10 - هذه التحقيقات لعلماء الحنفية فيها عبرة للقبورية عامة وللديوبندية الماتريدية النقشبندية خاصة. وبعد هذا ننتقل إلى الفصل الثاني والله المستعان * وهو المبارك، وعليه التكلان *. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1581 الفصل الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور وفيه مبحثان: - المبحث الأول: في عرض عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور. - المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1583 المبحث الأول في عرض عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور لقد سبق محققاً مفصلاً مبرهناً على لسان علماء الحنفية، أن سبب وقوع بني آدم في الوثنية إنما هو الغلو في الصالحين، والافتتان بقبورهم، ولذلك نهى الشارع الحكيم أولاً عن زيارة القبور حسماً لمادة الشرك، ثم لما استقر التوحيد في قلوب المسلمين، وزال الخوف أذن لهم في زيارة القبور مع بيان صفة الزيارة والحكمة فيها والمقصود منها، وهو التزهيد في الدنيا وتذكير الآخرة والدعاء والاستغفار لأهل القبور بدون ارتكاب أي نوع من الشرك والبدعة وغير ذلك من المعاصي. ولكن الشيطان قد احتال على قبورية هذه الأمة، واستدرجهم لأجل جهلهم بحقيقة توحيد الأنبياء والمرسلين، وزين لهم كثيراً من أنواع الشرك ووسائله، وصاغ لهم الشرك والبدع في قالب الدين ومحبة الأولياء وتعظيمهم، فأعاد هذا الخسيس إبليس * - بأنواع من التدليس والتلبيس * - الوثنية الأولى في كثير من المنتسبين إلى الإسلام، ومن مظاهرها زيارتهم للقبور زيارة شركية وبدعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1585 وفيما يلي أذكر أمثلة من زيارة القبورية للقبور، والمشاهد، على طريقة شركية وبدعية؛ فأقول وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق *: للقبورية في زياراتهم الشركية والبدعية للقبور ألوان وأفنان، أذكر منها ما يلي: 1 - زيارة القبور للمراقبة عند القبر، وقد ارتكبها الشيخ خليل أحمد السهارنفوري (1346هـ) مؤلف ((بذل المجهود)) و ((المهند على المفند)) - ذلكم الكتاب القبوري - وأحد كبار أئمة الديوبندية النقشبندية، مع رفقة من كبار علماء الديوبندية، وكان منهم الشيخ أشرف علي التهانوي (1362هـ) الذي لقبوه بحكيم الأمة، وهو حكيم ولكن للأمة الديوبندية. فقد زار الشيخ السهارنفوري مع هؤلاء الركب الديوبندي، ضريح الخواجة معين الدين الجشتي إمام الصوفية الجشتية، وبمجرد الوصول إلى القبر جلس للمراقبة واستغرق في المراقبة كأنه أغمي عليه والناس حول القبر بين طائف وساجد ومرتكب للشرك. 2 - زيارة القبور لأجل حصول الفيوض من قبور الأكابر. قلت: هذا نوع من الزيارة من أعظم عقائد الديوبندية، وأقول: كانت الفلاسفة اليونانية إذا دهمتهم نازلة يذهبون إلى قبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1586 ((أرسطاطاليس)) المنطقي وشيخ الفلاسفة والمعلم الأول لهم (322 ق م) لحصول المدد والفيض من قبره. وأقول: زيارة القبور لأجل حصول الفيوض من القبور وأهلها قد دعا إليها دعوة سافرة المتفلسفة في الإسلام، أمثال الفارابي (339هـ) الملقب بالمعلم الثاني، الضال الكافر، وابن سينا الحنفي القرمطي (428هـ) الملقب بالرئيس، ذلكم الملحد الذي فعل بالإسلام كما فعل بولس اليهودي (65م) بالنصرانية. صرح بذلك كثير من علماء الحنفية. 3 - زيارة القبور لأجل الدعاء والصلاة والقيام عندها، وطلب القربة إلى الله تعالى والزلفى لديه بواسطة أهلها. وأول من اطلعت عليهم من القبورية الذين ارتكبوا هذه الزيارة ودعوا إليها - هم إخوان الصفا، المتفلسفة الباطنية. وأخذها عنهم الرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ) ، والتفتازاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1587 فيلسوف الماتريدية (792هـ) ، ثم تبعهم عامة القبورية حتى الديوبندية، والكوثرية. حتى صرح بعضهم بأن السؤال عند قبور الصالحين ثابت متوارث. وأن المختار أن يستقبل الزائر القبر عند الدعاء. وقد سبق الكلام عليه. وقد صرح النابلسي الحنفي أحد أئمة القبورية (1143هـ) - وتبعه الكوثري إمام الكوثرية القبورية الجهمية (1371هـ) - بجواز إيقاد السراج على قبر ولي من أولياء الله تعظيماً لروحه المشرقة على تراب جسده كإشراق الشمس على الأرض؛ إعلاماً للناس أنه ولي ليتبركوا به، ويدعوا الله عنده فيستجاب لهم. 4 - زيارة القبور بالسفر إليها، وشد الرحال إليها، والحج إليها. وهذا النوع من الزيارة هو بيت القصيد عند القبورية قديماً وحديثاً. أقول: هذا النوع من الزيارة قد كان عند المشركين السابقين، كما صرح بذلك الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) . ثم تسربت هذه الزيارة إلى الروافض، فقد صنف ابن النعمان شيخ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1588 الرافضة، المعروف بابن المعلم، والملقب بالمفيد (413هـ) كتابا سماه: ((مناسك حج المشاهد)) ، وقد أفضى ببعض القبورية إلى أنه قد حج إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يذهب إلى الكعبة المشرفة، وبعض القبورية يعد هذا العمل من الفضائل وأن فاعله أفضل من الحاج، وهذا لازم كلام الديوبندية لأن القبر الشريف أفضل من الكعبة والعرش عندهم. 5 - زيارة الديوبندية لقبر النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة تناقض السنة * وتصدم عمل سلف هذه الأمة *، وهي من أوضح عقائد الديوبندية وبدعهم؛ فقد صرحوا بأن الزائر يجرد نيته لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم عند السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون زيارة قبره صلى الله عليه وسلم هي المقصد الأعظم من السفر، أما زيارة المسجد النبوي فتكون تبعاً وضمناً؛ فإن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة والعرش والكرسي. قلت: هذه من عجائب الديوبندية، مع أنهم أقرب إلى السنة، فما ظنك بغيرهم من القبورية؟؟ . 6 - زيارة القبور لأجل الاستمداد من أهلها والاستغاثة بهم لدفع الملمات وجلب الخيرات. وللنذر لها ولأصحابها، ولا سيما الذبح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1589 عندها ولها ولأصحابها، وللاحتفال بمواليد أصحابها عندها، وللطواف بها، وأكل ترابها، وتقبيلها واستلامها، ولغيرها من الشركيات والبدع التي يرتكبها القبورية عند زيارة القبور في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها مما هو مشاهد ملموس * ومرئي ومسموع ومحسوس *. وهذه المشاهد مئات بل آلاف * وأنواع وألوان وأقسام وأصناف * وقد اهتم القبورية بهذه الأنواع من الزيارات للقبور، حتى جعلوها أهم من فروض الأعيان، فتراهم يتحملون عناء السفر في تحقيقها، وينفقون للوصول إليها أموالاً هائلة، ويذهبون إليها خفافاً وثقالاً، وينفرون إليها ثباتاًَ وجميعاً، ويطيرون إليها زرافات ووحداناً، ويجتمعون عندها رجالاً ونساء وصغاراً وكباراً، وشباباً، وشيوخاً، فيتهافتون على القبور - تهافت الفراش على النار، ويسبب ذلك فتناً كثيراً، منها: موت كثير من الخلائق من شدة الزحام *، فضلاً عن ارتكاب الفسق والفجور وكبائر الآثام *. هذه نماذج من زيارات القبورية للقبور ذكرتها مثالاً لما عندهم من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1590 العقائد الشركية والبدعية في زيارة القبور؛ وبعد هذا ننتقل إلى المبحث الثاني؛ لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطال هذه الزيارات وقلعها وقمع أصحابها، والله المستعان وعليه التكلان. **** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1591 المبحث الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور لعلماء الحنفية جهود كثيرة في الرد على القبورية الزائرين للقبور زيارة شركية وبدعية، ولهم نصوص قاطعة لدابر القبورية وقامعة لشبهاتهم، أسوق بعضها للإنذار * وحسماً للأعذار * وإتماماً للحجة * وإيضاحاً للمحجة *: 1 -8- قال الأئمة الثلاثة: محمد البركوي (981هـ) وأحمد الرومي (1043هـ) ، والشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيوخ الثلاثة: المظفري، وسبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي، والعلامتان: نعمان الآلوسي (1317هـ) وشكري الآلوسي (1342هـ) في بيان الفرق بين الزيارتين: السنية، والشركية البدعية؛ محققين أن طريقة حصول الفيوض من القبور وأهلها طريقة للوثنية الأولى، وأن هذه الزيارة أخذها منهم المتفلسفة في الإسلام ثم عامة القبورية - واللفظ للأول بكامله وللآخرين قطعات منه -: (فإذا كان ذلك فاللائق بالزائر أن يتبع السنة ويقف عند ما شرع له، ولا يتعداه؛ ليكون محسناً إلى نفسه، وإلى الميت، فإن زيارة القبور نوعان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1593 زيارة شرعية * وزيارة بدعية *؛ [بل شركية] . أما الزيارة الشرعية: التي أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمقصود منها شيئان: أحدهما: راجع إلى الزائر: وهو الاعتبار والاتعاظ. والثاني: راجع إلى الميت: وهو أن يسلم عليه الزائر، ويدعو له. وأما الزيارة البدعية: فزيارة القبور لأجل الصلاة عندها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود عليها، وأخذ ترابها، ودعاء أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النصر، والرزق، والعافية، والولد، وقضاء الديون، وتفريج الكربات * وإغاثة اللهفات * وغير ذلك من الحاجات * التي كان عباد الأوثان يسألونها من أوثانهم؛ فليس شيء من ذلك مشروعاً باتفاق أئمة المسلمين * إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة والتابعين * وسائر أئمة الدين * بل أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذة عن عباد الأوثان؛ فإنهم قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى، وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علق الزائر روحه به، وأدناه منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية، والماء الصافي ونحوهما على الجسم المقابل له، ثم قالوا: فتمام الزيارة أن يتوجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1594 الزائر بروحه إلى الميت، ويعكف بهمته عليه * ويوجه قصده وإقباله إليه * بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره، وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعها، وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا، والفارابي وغيرهما؛ وصرح به عباد الكواكب؛ وقالوا: إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها نور؛ ولهذا السر عبدت الكواكب، واتخذت لها الهياكل وصنفت لها الدعوات، واتخذت لها الأصنام، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وتعليق الستور عليها، وإيقاد السرج عليها، وإقامة السدنة لها، ودعاء أصحابها، والنذر لهم، وغير ذلك من المنكرات، والله هو الذي بعث رسله، وأنزل كتبه لإبطاله، وتكفير أصحابه، ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبى ذراريهم، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1595 ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه فوقف هؤلاء الضالون في طريقه، وناقضوه في قصده؛ وقالوا: إن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله تعالى وتوجه إليه بهمته، وعكف بقلبه عليه - صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه نصيب مما يحصل له من الله تعالى؛ وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وقرب من السلطان، وهو شديد التعلق به، فما يحصل من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به من حصته بحسب تعلقه به، وبهذا السبب عبدوا القبور، وأصحابها، واتخذوهم شفعاء على ظن أن شفاعتهم تنفعهم عند الله في الدنيا والآخرة؛ والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد عليهم، وإبطال رأيهم ....... ) . قلت: هذا النص لا يحتاج إلى تعليق ما، وفيه عبرة ونكال للديوبندية المتبركين الزائرين لأجل الفيوض، فضلاً عن غيرهم من القبورية المحضة. 9 -14- وقال هؤلاء الأئمة الثلاثة: البركوي (981هـ) والرومي (1043هـ) والشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيوخ الثلاثة: سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي، والمظفري، في بيان المقارنة بين الزيارة السنية وبين الزيارة الشركية - البدعية، - محققين أن القبورية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1596 خالفوا السنة في زيارة القبور، من عدة وجوه، وأنهم غيروا وبدلوا القول الذي قيل لهم في شرع الرحمن * بالذي أخذوه من شرع الشيطان * فناقضوا التوحيد والسنن * وارتكبوا أنواعاً من الشرك والفتن * - واللفظ للأول، وللباقين فقرات من هذا النص -: (ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في [زيارة] القبور وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وبين ما عليه أكثر الناس [من القبورية] اليوم - رأى أحدهما [يعني الزيارة البدعية] مضاداً للآخر، مناقضاً له [يعني الزيارة السنية] ؛ بحيث لا يجتمعان أبداً [لأن القبورية ناقضوا السنة والتوحيد في زيارتهم للقبور من وجوه: الأول: صلاتهم عندها] فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة إلى القبور، وهم يخالفونه ويصلون عندها. و [الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام] نهى عن اتخاذ المساجد عليها؛ وهم يخالفونه ويبنون عليها مساجد، ويسمونها مشاهد. و [الثالث: أنه] نهى عن إيقاد السرج عليها؛ وهم يخالفونه ويوقدون عليها القناديل والشموع؛ بل يوقفون لذلك أوقافاً. و [الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم] أمر بتسويتها؛ وهم يخالفونه، ويرفعونها من الأرض كالبيت. و [الخامس: أنه صلى الله عليه وسلم] نهى عن تجصيصها والبناء عليها؛ وهم يخالفونه ويجصصونها، ويعقدون عليها القباب. و [السادس: أنه صلى الله عليه وسلم] نهى عن الكتابة عليها؛ وهم يخافونه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1597 ويتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره. [والسابع: أنه صلى الله عليه وسلم] نهى عن الزيادة عليها غير ترابها، وهم يخالفونه ويزيدون عليها سوى التراب: الآجر والجص. [والثامن: أنه صلى الله عليه وسلم] نهى عن اتخاذها عيداً، وهم يخالفونه ويتخذونها عيداً، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد وأكثر. الحاصل: أنهم مناقضون لما أمر به الرسول عليه السلام، و [ما] نهى عنه، ومحادون لما جاء به. و [التاسع: أنه] قد آل الأمر بهؤلاء الضالين المضلين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه: ((مناسك حج المشاهد)) ؛ مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر [أيها المسلم] ما بين ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم: من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء [القبورية] وما قصدوه من التباين، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره: فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها. ومنها: تفضيلها على أحب البقاع إلى الله تعالى، فإنهم يقصدونها مع التعظيم، والاحترام، والخشوع، ورقة القلب، وغير ذلك مما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره، ولا قريب منه؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1598 وذلك يقتضي عمارة المشاهد * وخراب المساجد * ودين الله الذي بعث فيه رسوله بضد ذلك؛ ولهذا كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين، إذ عمروا المشاهد * وخربوا المساجد *. ومنها: اعتقاد أن بها يكشف البلاء * وينصر على الأعداء * ويستنزل الغيث من السماء * إلى غير ذلك من الرجاء *. ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها .... ومنها: الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها. ومنها: المشابهة بعباد الأصنام بما يفعلونه عندها: من العكوف عليها، والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، واتخاذ السدنة لها؛ حتى أن عبادها [القبورية] يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد. ومنها: النذر لها، ولسدنتها. ومنها: المخالفة لله ولرسوله [صلى الله عليه وسلم] والمناقضة لما شرعه في دينه. ومنها: إماتة السنن، وإحياء البدع. ومنها: السفر إليها مع التعب الأليم، والإثم العظيم؛ فإن جمهور العلماء قالوا: السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين * ولا أمر بها رسول رب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1599 العالمين * ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين *؛ فمن اعتقد ذلك قربة وطاعة فقد خالف السنة والإجماع؛ ولو سافر بذلك الاعتقاد يحرم بإجماع المسلمين؛ فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلا لذلك؛ وقد ثبت في الصحيحين أنه عليه السلام قال: (( «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» )) . ومنها: إيذاء أصحابها؛ فإنهم يتأذون بما يفعل عند قبورهم مما ذكر، ويكرهونه غاية الكراهة؛ كما أن المسيح [على نبينا وعليه السلام] يكره ما يفعله النصارى في حقه، وكذلك غيره من الأنبياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله [القبورية] أشباه النصارى في حقهم وهم يتبرءون منهم يوم القيامة .... ومنها: أن الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة، والاتعاظ، والاعتبار بحال المزور، والإحسان إليه بالدعاء له والترحم عليه؛ حتى يكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت؛ فقلب هؤلاء الأمر، وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه، وسؤاله الحوائج، واستنزال البركات منه، ونحو ذلك؛ فصاروا مسيئين إلى أنفسهم، وإلى الميت ... ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1600 قلت: هذا النص لا يحتاج إلى التعليق. ولكن أقول: فيه عبرة بالغة للديوبندية الذين يشدون الرحال إلى القبور، ويرون ذلك قربة عظيمة، ويزورون القبور لأجل حصول البركات والفيوض من القبور وأهلها، مع تظاهرهم بالتوحيد والسنة!! ونكال شديد لغيرهم من القبورية المحضة المرتكبين أنواعاًَ من الشركيات الوثنيات عند القبور. 15 -19- وقال الإمامان: البركوي (981هـ) وأحمد الرومي (1043هـ) والشيخان: سبحان بخش 1الهندي، وإبراهيم السورتي، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) بعد كلام طويل متين في بيان مفاسد الزيارة الشركية والبدعية، وذكر فضائح القبورية، وإبطال كثير من أفعالهم الشركية والبدعية التي يرتكبونها عند زيارة القبور؛ محققين أن الاحتفال بالقبور والحج إليها، والحضور للاجتماع عند مواليد أصحابها، وجعلها أعياداً - من أعظم أسباب الوثنية، وأن ذلك متضمن لعدة أنواع من الإشراك بالله، وعبادة غير الله جل وعلا، فضلاً عن البدع، والفتن * ما ظهر منها وما بطن *؛ فاستمع أيها المسلم إلى كلام هؤلاء العلماء من الحنفية - واللفظ للأول -: (ومنها: أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن اتخاذها عيداً؛ كما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1601 الصلاة والسلام قال: (( «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، ولا تجعلوا قبري عيداً؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» )) ......... فإن قبره عليه الصلاة والسلام لما كان سيد القبور، وأفضل قبر على وجه الأرض - وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن اتخاذه عيداًَ - فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1602 كان .... وأشار صلى الله عليه وسلم بذلك [القول] إلى أن ما يناله منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبره، وبعدكم عنه؛ فلا حاجة بكم إلى الاتخاذ [لقبره] عيداً؛ كما اتخذ المشركون من أهل الكتاب قبور أنبيائهم وصالحيهم عيداً؛ فإن اتخاذ القبور عيداً - هو من أعيادهم التي كانوا عليها قبل مجيء الإسلام؛ وقد كان لهم أعياد زمانية ومكانية؛ فلما جاء الإسلام أبدلها الله تعالى وعوض عن أعيادهم الزمانية: عيد الفطر، وعيد النحر وأيام منى [ويوم الجمعة] كما عوض عن أعيادهم المكانية: الكعبة البيت الحرام، وعرفات ومنى، والمشاعر، [والمسجد النبوي والمسجد الأقصى] . [شبهة، وقلعها، وقمع أصحابها] : قال ابن القيم في ((إغاثته)) : قد حرف هذه الأحاديث الناهية عن اتحاذ القبور أعياداً بعض من أخذ شبهاً من النصارى بالشرك، وشبهاً من اليهود بالتحريف فقال: هذا [الحديث فيه] أمر بملازمة قبره عليه الصلاة والسلام، والعكوف عنده، واعتياد قصده، وانتيابه، و [فيه] نهي [عن] أن يجعل [قبره] كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين؛ فكأنه [صلى الله عليه وسلم] قال: ((لا تجعلوا [زيارة] قبري بمنزلة العيد الذي يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1603 من الحول إلى الحول؛ [بل زوروا قبري مراراً وتكراراً، كل حين وفين] ، واقصدوه كل وقت وكل ساعة)) . وهذا محادة ومناقضة لما قصده الرسول عليه الصلاة والسلام، وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس؛ إذ لا ريب أن من أمر الناس بملازمة أمر واعتياده، وكثرة انتيابه بقوله: (( «لا تجعلوا قبري عيداً» )) فهو إلى التلبيس، وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان؛ فإن لم يكن هذا تنقيصاً [للنبي صلى الله عليه وسلم] فليس للتنقيص حقيقة فينا؛ ولا شك أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثماً، وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك [التحريف] في دينه عليه السلام وسننه؛ وهكذا غيرت ديانات الرسل؛ ولولا أنه تعالى أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله؛ قال عليه السلام: (( «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» )) ؛ فإنه عليه الصلاة والسلام بين في هذا الحديث: أن الغالين يحرفون ما جاء به وأن المبطلين ينتحلون أن باطلهم هو ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ وأن الجاهلين يتأولونه على غير تأويله؛ وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث؛ فلو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1604 ما قال هؤلاء الضالون - لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ولم يلعن من فعل ذلك؛ فإنه عليه السلام إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها - فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها، وأن يعتاد قصدها، وإتيانها، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول؟؟ . وكيف يقول: (( «وصلوا علي حيث ما كنتم» )) بعد قوله: (( «لا تجعلوا قبري عيداً» )) !! وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضالون الذين جمعوا بين الشرك والتحريف ...... ثم في اتخاذ القبور عيداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى: ما يغضب لأجله كل من كان في قلبه وقار لله تعالى وغيرة على التوحيد؛ وتقبيح للشرك وتهجين للكفر والبدع؛ ولكن ما لجرح بميت إيلام؛ فمن مفاسد اتخاذها عيداً: أن غلاة متخذيها عيداً إذا رأوها من موضع بعيد * ينزلون من الدواب، ويضعون الجباه على الأرض، ويقبلون، ويكشفون الرءوس، وينادون من مكان بعيد * ويستغيثون بمن لا يبدي ولا يعيد * ويرفعون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1605 الأصوات بالضجيج * ويرون أنهم قد زادوا في الربح على الحجيج * حتى إذا وصلوا إليها يصلون عندها ركعتين * ويرون أنهم قد أحرزوا من الأجر أجر من صلى إلى القبلتين * فتراهم حول القبور - سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً * وقد ملؤا أكفهم خيبة وخسراناً * فلغير الله تعالى بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات * و [ما] يرتفع من الأصوات * و [ما] يطلب من الميت من الحاجات * و [ما] يسأل من تفريج الكربات * وإغناء ذوي الفاقات * ومعافاة أولي العاهات والبليات *. ثم إنهم ينتشرون حول القبر طائفين * تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله تعالى مباركاً وهدى للعالمين * ثم يأخذون في التقبيل والاستلام * كما يفعل بالحجر الأسود في المسجد الحرام * ثم يخرون على الجباه والخدود * والله تعالى يعلم أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود * ثم يكلمون مناسك حج القبر بالتقصير والحلاق * ويستمتعون من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم نصيب عند من هو الخلاق *. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1606 ثم يقربون لذلك الوثن القرابين * وتكون صلاتهم، ونسكهم، وقربانهم لغير الله رب العالمين * ثم نراهم يهنئ بعضهم بعضاً، ويقول [جاهراً] * أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً * ثم إذا رجعوا يسألهم بعض غلاة المتخلفين: أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة البيت الحرام * فيقول: لا ولو بحجك كل عام * هذا ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم؛ إذ هي فوق ما يخطر بالبال * و [فوق] ما يدور في الخيال * ...... ) . أقول: هذا النص من هؤلاء الأعلام من الحنفية سيف قاطع لأعناق هؤلاء القبورية. 20 -21- وللإمامين الآلوسيين: الجد (1270هـ) والابن (1317هـ) نص مهم فيه عبرة للديوبندية خاصة وللقبورية عامة فليرجع إليه. 22 علق عليه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) قائلاً: (قلت: وقد تعاظم الأمر في هذا الزمان * وظهرت البدع في كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1607 مكان * وبنيت القبب المذهبة على القبور * ونذرت لها النذور * وجعلت عليها الشبابيك من العين * وسرجت عليها السرج وقناديل اللجين * ووضعت عليها الأسلحة المجوهرة * وصرفت على سدنتها وبنائها القناطير المقنطرة * وطاف حولها الزائرون * وتبرك بتقبيلها والتمسح بأعتابها الداخلون * وطلبوا منهم قضاء الحاجات * وتفريج الكربات * وجعلوا ذلك من أعظم الطاعات * ورموا من زجرهم عن هذا الفعل بأعظم الهنات * وأسمعوه ما يكره من الكلمات * ... وأكثر عملهم في ذلك من الكبائر * كما صرحت به الجهابذة الأكابر *) . 23-24- وللإمام الشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) نصان مهمان في إبطال الزيارة الشركية قد قطع بهما دابر القبورية، وقد سبق أن ذكرتهما. 25 -28- وللعلامة الآلوسي الحفيد (1342هـ) نصوص أربعة قامعة رادعة في بيان كشف الستار عن أسرار القبورية الزائرين للقبور زيارة شركية، قد سبق ذكرهما. 29 -31- وقال الإمامان: الكمال ابن الهمام (861هـ) وابن نجيم الملقب بأبي حنيفة الثاني (970هـ) وغيرهما من أعلام الحنفية في بيان الزيارة السنية والبدعية: (ويكره النوم عند القبر، وقضاء الحاجة؛ بل كل ما لم يعهد من السنة؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1608 والمعهود منها ليس إلا زيارتها والدعاء عندها قائماً [يعني الدعاء لأهل القبور] ؛ كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع) ؛ ثم ذكر الدعاء المأثور لأهل القبور بالعافية والمغفرة. قلت: هذا النص يدل دلالة قاطعة على أن كل ما تفعله القبورية مما لم يرد في السنة فهو باطل؛ فضلاً عما يرتكبونه من الشرك البواح والكفر الصراح وعبادة القبور، وأهلها وما يرتكبونه من الفسق والفجور وغير ذلك من المنكرات. وفيما ذكرت من نصوص الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية - كفاية، والله الهادي إلى سواء السبيل * من ضل عن التوحيد والسنة من كل ضليل * ولننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في تحريم البناء على القبور. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1609 الفصل الثالث في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في البناء على القبور وفيه مباحث ثلاثة: - المبحث الأول: في عرض عقيدة القبورية في البناء على القبور. - المبحث الثاني: في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في البناء على القبور. - المبحث الثالث: في إبطال علماء الحنفية لبعض شبه القبورية في البناء على القبور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1611 المبحث الأول في عرض عقيدة القبورية في البناء على القبور تعتقد القبورية جواز بناء المساجد والقبب على القبور؛ بل يدعون دعوة سافرة إلى بناء المساجد والقباب على القبور، ولهم في ذلك بحوث ومقالات وكتب: 1 - فقد عقد السمنودي (بعد 1326هـ) عنواناً بلفظ: (مبحث البناء على القبور من المذاهب الأربعة، مع بيان الأدلة) ، ثم طول النفس في ذكر الخرافات التي ظنها أدلة على جواز بناء المساجد والقباب على القبور. 2 - وعقد الحسن العاملي العراقي (1371هـ) فصلاً تاسعاً قائلاً: (الفصل التاسع في بناء القبور، والبناء عليها وتجصيصها، وعقد القباب فوقها وعمل الصندوق والخلعة لها، وهذا مما حرمه الوهابية، وأوجبوا هدم القبور والقباب التي عليها والبناء الذي حولها) . ثم جمع كثيراً من الخرافات في تحقيق مزاعمه الباطلة وتجرد للوثنية الصريحة في كلام طويل مكتظ بالخرافات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1613 3 - وعقد فصلاً آخر قائلاً: (الفصل الحادي عشر في اتخاذ المساجد على القبور واتخاذها مساجد) ، ثم طول النفس في دعم خرافاته القبورية. 4 - وعنون محمد النوري [ابن] رشيد النقشبندي الدير شوي القبوري بقوله: (البناء على القبور) ثم ذكر طائفة من خرافاته ليدعم بها الوثنية القبورية. 5 - وللكوثري الحنفي الجهمي الماتريدي القبوري (1371هـ) مقالة فتاكة بعنوان: (بناء مساجد على القبور والصلاة إليها) . 6 - وللبنوري الديوبندي الحنفي الكوثري القبوري (1397هـ) مقدمة لمقالات الكوثري أبعد غوراً في الضلال والفساد * والإضلال والإفساد * أطرى فيها مقالات الكوثري إطراءً منكراً، وأكبرها إكباراً عظيماً، ومن تلك المقالات مقالة في الدعوة السافرة إلى القبورية الوثنية وعدة مقالات في الدعوة إلى التجهم والتعطيل، وجعل كتاب التوحيد لابن خزيمة، والسنة لعبد الله ابن الإمام أحمد، ورد الدارمي على بشر المريسي وغيرها من كتب أئمة السلف - كتباً وثنية، وجعل عقيدة أئمة الإسلام السلفية عقيدة وثنية مع كون هذه المقالات الكوثرية مكتظة بشتائم فظيعة شنيعة لأئمة السنة وأعلام هذه الأمة أمثال: الدارمي والإمام ابن الإمام عبد الله بن أحمد وإمام الأئمة ابن خزيمة وشيخ الإسلام وابن القيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1614 الإمام، ومجد الدعوة وغيرهم من أئمة الإسلام. 7 - قال الكوثري مستبشعاً هدم القبور صارخاً مهولاًَ ومجولاً قائماً وقاعداً منكراً على أهل التوحيد والسنة الذين أفتوا بوجوب هدم القباب على القبور: (فعلى هذا الرأي من صاحب التوقيع يجب على أولياء الأمور في بلاد الإسلام أن يمسكوا بمعاول الهدم ليعملوها في هدم قباب الصحابة وأئمة الدين، وصالحي الأمة في مشارق الأرض ومغاربها، والمساجد المضافة إليهم، وقباب ملوك الإسلام، وأمراء الإسلام وغيرهم في كل قطر!!) . 8 - 9- وقال الكوثري ناقلاً كلام لأبي مقرراً له مجوزاً بناءً المساجد والقباب على القبور: (فأما من اتخذ مسجداً قرب رجل صالح، أو صلى في مقبرته قصداً للتبرك بآثاره، وإجابة دعائه هناك فلا حرج ... ) . 10 -11- وقال الكوثري مستدلاً بكلام النابلسي الحنفي القبوري الصوفي الخرافي (1143هـ) ، في جواز اتخاذ القبور مساجد وجواز بناء المساجد عليها دعوة سافرة منهما إلى القبورية الوثنية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1615 (وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح، أو صلى في قبره وقصد به الاستظهار بوجه، أو وصول أثر من آثار عبادته إليه لا للتعظيم له، والتوجه إليه - فلا حرج .... ) . 12 -13- وقالا، ناقلاً اللاحق عن السابق في بيان جواز إيقاد الشموع على القبور، وجواز بناء المساجد على القبور للتبرك ووصول الفيوض من القبور وأهلها: ( ...... وهذا كله إذا خلا من فائدة، وأما إذا كان موضع القبور مسجداً أو على طريق، أو كان هناك أحد جالس، أو كان قبر ولي من أولياء الله، أو عالم من المحققين، لروحه المشرقة على تراب جسده كإشراق الشمس على الأرض؛ إعلاماً للناس أنه ولي ليتبركوا به، ويدعوا لله عنده فيستجاب لهم، فهو أمر جائز لا منع فيه..) . 14 -15- لذلك نرى كثيراً من القبورية، منهم العاملي (1371هـ) والكوثري (1371هـ) على عادة أهل البدع الخبيثة قديماً وحديثاً، ولا سيما الروافض والجهمية والقبورية، يطعنون ظلماً وعدواناًَ في الأحاديث الصحيحة الناهية عن البناء على القبور. 16 - ولقد اهتمت القبورية علماء وجهالاً، خواص وعوام، رجالاً ونساءً، ملوكاً وأمراء ووزراء، وقواداً - اهتماما بالغاً بتعمير القبب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1616 والمساجد على القبور، وتعمير العمائر الشامخات عليها، وتعمير المنارات الناطحات السماء، وأنفقوا على ذلك ملايين الملايين من الأموال الهائلة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة؛ وأما ما ينفق على خدمها وسدنتها وصيانتها، وكذا ما ينفق على الأطعمة والأشربة عند احتفال القبورية على مواليد أصحابها ثاجين * عاجين * وأيضاً ما ينفق على الحج والسفر إليها من كل فج عميق، ناذرين * ذابحين * متبركين * مستغيثين * - فحدث ولا حرج. كما ترى ذلك التبذير والإسراف والإفراط * في الإنفاق على هذه المزارات والمشاهد والمواليد المبنية على غير سواء الصراط * مما يرى في مشرق الأرض ومغربها * وشمالها وجنوبها * وما هو مشاهد ملموس * ومرئي ومسموع ومحسوس *. 17 - وهذه المشاهد والمزاور مئات وألوف * وأنواع وألوان وأقسام وصنوف * فقد صنفوا عدة تأليفات * في تراجم المشاهد والمزاور الشامخات * 18 - وقد جعلت كالكعبة تحج إليها، وجعلت أوثاناً تعبد من دون الله تعالى. 19 - ولو أنفقت هذه الأموال الهائلة على المساجد والمدارس والفقراء والمساكين * واليتامى والأرامل، والمجاهدين والمهاجرين * وغير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1617 ذلك من سبل البر في صالح الإسلام والمسلمين * لزال الفقر بالكلية * ولكانت كلمة المسلمين علية *. 20 - ومع هذا كله قد ألف أبو الفيض أحمد بن محمد الغماري (1380هـ) الصوفي الخرافي القبوري دعوة سافرة إلى الوثنية رسالة سماها: (إحياء المقبور * من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور) ، كما ألف أبو الفضل عبد الله بن محمد الصديق الغماري الصوفي الخرافي القبوري دعوة إلى القبورية رسالة سماها: (إعلام الراكع الساجد * بمعنى اتخاذ القبور مساجد) . الحاصل: أنه قد تبين بما ذكرت من أمثلة لأقوال القبورية ونماذج من أفعالهم الوثنية - في الدعوة إلى بناء القبب والمساجد على القبور - أن القبورية يرون بناء القبب والمساجد من أعظم القربات * ومن أجل الطاعات، ومن أعظم العبادات * مع أن هذا العمل من أعظم وسائل الشرك بخالق الكائنات * وأنه موجب لأنواع اللعنات من رب البريات * وأنه من أبشع المعاصي الموبقات وأشنع الكبائر المنكرات * كما سيتحقق على لسان علماء الحنفية في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1618 المبحث الثاني في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في البناء على القبور وفيه مطلبان: - المطلب الأول: في استدلال علماء الحنفية بالأحاديث الصحيحة الصريحة المحذرة من البناء على القبور والموجبة لهدم ما بني عليها. - المطلب الثاني: في جهود علماء الحنفية في بيان مفاسد البناء على القبور ونصوصهم على وجوب المبادرة إلى هدمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1619 المطلب الأول في استدلال علماء الحنفية بالأحاديث الصحيحة الصريحة المحذرة من البناء على القبور والموجبة لهدم ما بني عليها لقد سبق أن ذكرت بعض الأمثلة لعقيدة القبورية في بناء القبب والمساجد على القبور، وأن ذلك من أعظم الطاعات عندهم، فحرفوا الدين وقلبوا الحقائق وناقضوا التوحيد وعاكسوا الإسلام وجعلوا ما هو سبب للإشراك برب البريات * وما هو موجب لأنواع اللعنات من خالق الكائنات * قربة من أجل القربات التي أنفقوا عليها القناطير المقنطرات * على ظن التقرب إلى الله مالك الأرض والسماوات * ولكنهم وقعوا بسبب ذلك في أنواع من الوثنيات * لأجل ذلك وقف لهم علماء الحنفية بمرصاد * فشنوا عليها الغارات وقاتلوهم بأنواع من العتاد * وكشفوا الأستار عن أسرار هؤلاء القبورية الحيارى * وحققوا أن هذه الأعمال من أعمال اليهود المغضوب عليهم والضالين النصارى * وأنها موجبة لأنواع اللعنات * وسبب لألوان من المفاسد والوثنيات * واستدلوا بعدة أحاديث صحيحة محكمة صريحة، أذكر منها ما يلي: الحديث الأول: حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه، وفي لفظ ((مات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1621 فيه)) : « ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، قالت: ((ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)) » وهذا الحديث مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً. وقد استدل بهذا الحديث المتفق على صحته علماء الحنفية على أن البناء على القبور، واتخاذ القبور مساجد - من أعظم موجبات لعنة الله تعالى، وأنه سبب عظيم إلى الشرك بالله، وأن ذلك من أفعال اليهود والنصارى، وأن ذلك من أسباب لعنهم وطردهم من رحمة الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز للمسلم ارتكاب ما يوجب لعنة الله تعالى فضلاً أن يجعل ما يوجب لعنة الله تعالى قربة إليه سبحانه وتعالى. الحديث الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها، وابن عباس رضي الله عنهم: (( «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» )) . وتقرير استدلال علماء الحنفية بهذا الحديث هو ما سبق في الحديث الأول بعينه. الحديث الثالث: حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: (( «أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح بنوا» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1622 «على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله» )) . وقد استدل الحنفية بهذا الحديث على تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد، وأن ذلك موجب للعنة الله تعالى، وأنه من أفعال اليهود والنصارى. الحديث الرابع: حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس: (( .... «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد؛ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ إني أنهاكم عن ذلك» )) . وقد استدل بهذا الحديث الصحيح علماء الحنفية على تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد، وأن ذلك من أفعال المشركين السابقين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهمه هذا الأمر ويخاف منه على أمته؛ ولذلك حذرهم منه في مرضه الذي مات فيه، فصار ذلك من وصاياه المهمة التي تحمي حمى التوحيد وتسد ذرائع الشرك. قلت: في هذه الأحاديث عبرة بالغة لمن يعتبر، ونكال شديد للمعاندين المكابرين من القبورية. الحديث الخامس: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1623 (( «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه» )) . وفي رواية ......... (( «وأن يكتب عليها» ...... )) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1624 وقد استدل بهذا الحديث كثير من علماء الحنفية على تحريم بناء المساجد والقبب على القبور، وتحريم تجصيصها، ووجوب المبادرة إلى هدمها؛ لأن ذلك من أفعال المشركين، وذرائع الشرك وموجبات اللعنة. قلت: إذا كان الأمر كذلك فكيف يجعل ذلك قربة إلى الله عز وجل؟؟ . الحديث السادس: مرسوم رسمي * أقوى وأهم من مرسوم ملكي *، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1627 فقد «قال أبو الهياج حيان بن حصين الأسدي الكوفي: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاًَ إلا سويته)) » . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1628 وقد استدل بهذا الحديث الصحيح كثير من علماء الحنفية على تحريم بناء المساجد والقباب على القبور، وعلى وجوب المبادرة إلى هدم المساجد والقباب المبنية على القبور. ويدل هذا الحديث الصحيح على أن البناء على القبور من أكبر العظائم الموبقات والمهلكات؛ فكيف يجوز لمسلم أن يجعل الموبقات المهلكات * قربة إلى الله عز وجل وطاعة من الطاعات *؟؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1633 الحديث السابع: أن ثمامة بن شفي قال: (( «كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا؛ فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي؛ ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها» )) . وقد استدل كثير من علماء الحنفية بهذا الحديث الصحيح على تحريم البناء على القبور وعلى وجوب هدم ما بني ما عليها. الحاصل: أنه قد تبين من هذه الأحاديث الصحيحة: أن بناء القبب والمساجد على القبور من أعظم أسباب الشرك، وأنه من موجبات لعنة الله تعالى والطرد من رحمته سبحانه، وأنه من الكبائر الموبقات المهلكات؛ فكيف يجوز للقبورية أن يجعلوا مثل ذلك قربة إلى الله تعالى؟؟ وبعد هذا ننتقل إلى المطلب الثاني لنعرف جهود الحنفية الأخرى في إبطال عقيدة القبورية في البناء على القبور، وبيان مفاسد ذلك. ***** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1634 المطلب الثاني في جهود علماء الحنفية في بيان مفاسد البناء على القبور ونصوصهم على وجوب المبادرة إلى هدمه لقد حذر علماء الحنفية قديماً وحديثاً من بناء المساجد والقباب على القبور، أو عند القبور، أو اتخاذها مساجد؛ لما في ذلك من المفاسد العظيمة والموبقات المهلكات، ولأنها موجبة للطرد من رحمة الله تعالى، ومستلزمة لأنواع اللعنات من الله تعالى، وأنها من أعظم أسباب الإشراك بالله تعالى، وأنها من أفعال المشركين والكفرة السابقين؛ وفيما يلي أسوق عدة نصوص لعلماء الحنفية في مفاسد ذلك إيضاحاً للمحجة * وإتماماً للحجة * فأقول وبربي أستغيث وأستعين * إذ هو المستغاث المغيث، والمستعان المعين *. 1 -7- قال الأئمة الثلاثة: البركوي (981هـ) ؛ وأحمد الرومي (1043هـ) وولي الله الدهلوي (1176هـ) والشيوخ الثلاثة: سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي، ومحمد المظفري والعلامة الرباطي - والمضمون للأول وللباقين قطع منه - ذاكرين تاريخ الوثنية وتطورها وبعض أسبابها - محققين أن الوثنية بدأت في بني آدم من فتنة القبور والبناء عليها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1635 وتعظيمها بما لم يأذن به الله تعالى - مبينين مفاسد بناء المساجد والقبب عليها -: ومن أعظم مكائد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه: من الفتنة بالقبور؛ حتى عبدوها من دون الله، كما أنهم عبدوا أربابها، وبنوا عليها الهياكل، وبهذا السبب بدأ داء الشرك في قوم نوح عليه السلام، فكان ذلك مبدأ لعبادة الأصنام؛ ولأجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد والقبب عليها، ولعن فاعله وبين أنه من أفعال اليهود والنصارى الملعونين الأشرار، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من أفعال اليهود والنصارى وعامة المشركين في مرضه الذي لم يقم منه؛ فعمل الصحابة رضي الله عنهم بوصيته صلى الله عليه وسلم، فلم يبرزوا قبره الشريف صلى الله عليه وسلم؛ خشية أن يتخذ مسجداً، ويجعل وثنا يعبد من دون الله، [وساقوا عدة أحاديث في ذلك ثم قالوا] : وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها، والصلاة إليها، متابعة منهم للسنة الصريحة؛ ونص أصحاب أحمد ومالك والشافعي على تحريم ذلك، والذين قالوا بكراهته أرادوا بالكراهة التحريم؛ لأنه لا يعقل أن يكون فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله - مكروهاً فحسب، ولم يكن محرماً!!! ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1636 وقد صرح الفقهاء بتحريم ذلك؛ فلو كان اتخاذ السرج عليها مباحاً لم يلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، مع أنه قد لعنه؛ لأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة؛ ولأن فيه إفراطاً في تعظيم القبور؛ ولأن فيه تشبهاً بعبدة الأوثان. ثم نَهْيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور يشمل البناء عليه بالحجارة، وما يجري مجراها؛ كما يشمل ضرب الخبأ عليه، فكلاهما من صنيع أهل الجاهلية، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب؛ لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد؛ وهؤلاء المردة [أي القبورية] كانوا يزعمون أن الصلاة لقبورهم تعظيم لها، وهذا شرك جلي؛ ويزعمون أن التوجه إلى قبورهم حالة الصلاة أعظم موقعاً عند الله تعالى؛ وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور - هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك؛ فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو بحجر؛ ولهذا نجد كثيراً من الناس عند القبور يتضرعون ويخشعون ويخضعون ويعبدون - بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في مساجد الله تعالى ولا في وقت السحر؛ ومنهم من يسجد لها، وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها ولديها ما لا يرجون في المساجد ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1637 8 -14- وقال الأئمة الثلاثة: البركوي (981هـ) والرومي (1043هـ) والشاه الدهلوي (1176هـ) ، والشيوخ الثلاثة: سبحان بخش الهندي، وإبراهيم السورتي، ومحمد المظفري، في بيان مفاسد بناء المساجد والقباب على القبور؛ وتحقيق أن القبوريين مناقضون لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، واللفظ للأول؛ وللباقين فقرات منه: (ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به وما نهى عنه، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم [أي القبورية]- رأى أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً [من وجوه] : أ- فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة إلى القبور، وهم يخالفونه ويصلون عندها. ب- ونهى عن اتخاذ المساجد عليها، وهم يخالفونه ويبنون عليها مساجد ويسمونها مشاهد. ج- ونهى عن إيقاد السرج عليها؛ وهم يخالفونه ويوقدون عليها القناديل، والشموع، بل يوقفون لذلك أوقافاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1638 د- وأمر بتسويتها. وهم يخالفونه ويرفعونها من الأرض كالبيت. هـ- ونهى عن تجصيصها والبناء عليها، وهم يخالفونه ويجصصونها ويعقدون عليها القباب. و ونهى عن الكتابة عليها، وهم يخالفونه ويتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره. ز- ونهى عن الزيادة عليها غير ترابها؛ وهم يخالفونه ويزيدون عليها سوى التراب: الآجر والأحجار والجص. ح- ونهى عن اتخاذها عيداً؛ وهم يخالفونه ويتخذونها عيداً ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد وأكثر. والحاصل: أنهم مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، ومحادون لما جاء به .... فانظر ما بين ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء [القبورية] وما قصدوه من التباين؛ ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره: فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها. ومنها: تفضيلها على أحب البقاع إلى الله تعالى؛ فإنهم يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب، وغير ذلك مما لا يفعلونه في المساجد ... ومنها: اعتقاد أن بها يكشف البلاء * وينصر على الأعداء ويستنزل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1639 الغيث من السماء * إلى غير ذلك من الرجاء * ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها .... ومنها: الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها. ومنها: المشابهة بعباد الأصنام بما يفعلونه عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، واتخاذ السدنة لها؛ حتى أن عبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: المخالفة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمناقضة لما شرعه في دينه. ومنها: إماتة السنن، وإحياء البدع. ومنها: السفر إليها مع التعب الأليم والإثم العظيم) . 15 -20- وقال هؤلاء الأعلام من الحنفية جميعاً؛ محققين أن القبورية المنصوبة التي يعبدها القبورية وبنوا عليها المساجد والقباب - هي أنصاب وأوثان لغة واصطلاحاً؛ وأن القبورية الذين يعبدون هذه القبور - هم عباد الأنصاب والأوثان؛ وأنه يجب المبادرة إلى هدم تلك المساجد والقباب المبنية على تلك القبور؛ لأن فسادها وضررها أعظم من مسجد الضرار؛ واللفظ للأول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1640 (ومن عظيم كيده [أي الشيطان] ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام التي هي رجس من عمل الشيطان ... فالأنصاب جمع نصب بضمتين أو بالفتح والسكون، وهو كل ما نصب وعبد من دون الله: من شجر أو حجر، أو وثن، أو قبر ... وأصل اللفظ: الشيء المنصوب الذين يقصده من رآه؛ فمن الأنصاب ما نصبه الشيطان للناس: من شجر أو عمود، أو قبر، وغير ذلك؛ والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره، كما أن عمر رضي الله عنه بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها؛ فإذا كان عمر رضي الله عنه فعل ذلك بالشجرة التي بايع تحتها الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .... - فما حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب التي قد عظمت الفتنة بها * واشتدت البلية بسببها * وأبلغ من ذلك أنه عليه السلام هدم مسجد الضرار؛ ففي ذلك دليل على هدم ما هو أعظم فساداً: كالمساجد المبنية على القبور؛ فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه السلام نهى عن البناء على القبور ولعن المتخذين عليها مساجد، وأمر بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1641 فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله؛ وكذلك يجب إزالة كل قنديل وسراج، وشمع أوقدت على القبور؛ فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقيم لدينه ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ينصرهما ويذب عنهما) . 21- ولقد ذكر الإمام ابن أبي العز رحمه الله (792هـ) عدة أحاديث لتحقيق تحريم بناء القبب والمساجد على القبور، وأن ذلك موجب للعنة والطرد من رحمة الله تعالى، وأنه من أعمال الكفرة الأولى اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين؛ وأن ذلك من أسباب الإشراك بالله عز وجل؛ وأنه تجب المبادرة والمسارعة لهدم ما بني على القبور. 22 - وقد ساق الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) عدة أحاديث في تحريم بناء المساجد والقبب على القبور ووجوب هدمها، وأن ذلك موجب للعنة من الله تعالى، وأنه من أفعال الكفار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1642 السابقين، وأن ذلك من أسباب الشرك بالله تعالى وأنه من الكبائر الموبقات المهلكات، وأن الصلاة إليها وعليها والتبرك بها، كل ذلك من المحرمات الكبائر. 23 - ثم قال: (قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركاً به، عين المحادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل؛ للنهي عنها، ثم إجماعاً، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور؛ إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك؛ وأمر بهدم القبور المشرفة؛ وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ولا نذره) . 24 - وله رحمه الله كلام مهم آخر في قلع شبهات القبورية وقمع جموعهم؛ وتحقيق أن بناء القبب والمساجد على القبور من أعظم وسائل الشرك ومن الكبائر المبوقات وأنه من أفعال المشركين الأولين، وأنه مستوجب للعنة الله تعالى، وأنه عين المحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1643 وأنه يجب هدم جميع تلك القبب والمساجد المبنية على القبور. 25 - وللعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) كلام مهم في بيان شناعة البناء على القبور وبيان مفاسدها، وأنه من أعظم وسائل الشرك بالله عز وجل، وأنه تجب المبادرة إلى هدم ذلك - بقمع القبورية وبقلع شبهاتهم وهو قريب من كلام والده الآلوسي. 26 - وأهم من ذلك كلام العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) - في تحقيق أن بناء القبب والمساجد على القبور من أعظم أسباب الشرك بالله تعالى، وأنه موجب للعنة الله تعالى، وأنه تجب المبادرة إلى هدمه حماية لحمى التوحيد؛ لأن ذلك من أفعال اليهود والنصارى وغيرهم من الكفرة. 27 -29- وقال العلامة الخجندي (1379هـ) وشيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) والرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول - بعد ما ساقوا عدة أحاديث في تحريم بناء القبب والمساجد على القبور؛ مبينين مفاسد هذا العمل الملعون أهلها: (ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث [الناهي عنه] دخولاً أولياً - القبب والمشاهد المعمورة على القبور؛ وأيضاً هو من اتخاذ القبور مساجد؛ وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك؛ كما سيأتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1644 وكم سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام: منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحل، وتمسحوا بها، واستغاثوا. وبالجملة: أنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا وفعلوه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ ومع هذا المنكر الشنيع * والكفر الفظيع * - لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف: لا عالما، ولا متعلماً، ولا أميراًَ، ولا وزيراً، ولا ملكاً، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه - حلف بالله فاجراً؛ وإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكأ - وأبى، واعترف بالحق؛ وهذا من أبين الأدلة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة؛ فيا علماء الدين * ويا ملوك المسلمين! * أي رزء للإسلام أشد من الكفر؟؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1645 وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجباً؟؟ . لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في الرماد قلت: هذا النص يقمع القبورية من جهة، وفيه عبرة للمثلجين الباردين الساكتين على هذه المنكرات الفظيعة والشركيات الشنيعة ممن ينتمون إلى التوحيد والسنة؛ كما يقطع دابر تلك الجماعات والأحزاب التي همهم الوصول إلى الحكم فحسب دون الجهاد في سبيل التوحيد وقمع وثنيات القبورية * من هؤلاء الأحزاب السياسية * الذين يزعمون أن الاشتغال بالرد على القبورية اشتغال في غير الأمور المهمة، وأن هذا يسبب تفريق الأمة. وفي هذا القدر كفاية لمن عنده دراية. والآن ننتقل إلى المبحث الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطال بعض شبهات القبورية. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1646 المبحث الثالث في إبطال علماء الحنفية لبعض شبه القبورية في البناء على القبور للقبورية قديماً وحديثاً شبه كثيرة تشبثوا بها واستدلوا بها على جواز بناء المساجد والقبب على القبور، ولا غرو في ذلك؛ فإن القبورية قبورياتهم كلها شبهات، ولكن الله تعالى وفق بعض علماء الحنفية فوقفوا لهم بالمرصاد وردوا كيدهم في نحورهم وقلعوا شبهاتهم وقمعوا جموعهم وقطعوا دابرهم؛ وفيما يلي أذكر أهم تلك الشبهات التي استدل بها القبورية - مع أجوبة علماء الحنفية عنها؛ فأقول والله المعين وهو المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان: الشبهة الأولى: القدح في أحاديث تحريم البناء على القبور. وقد سبق مفصلاً مدللاً محققاً أن علماء الحنفية قد صححوا تلك الأحاديث وقالوا بمقتضاها، من القول بتحريم البناء على القبور، والقول بوجوب المبادرة إلى هدمه؛ كما سبق الأجوبة عن تمويهات الكوثري وتلبيساته في قدحه في بعض تلك الأحاديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1647 فلا حاجة إلى إعادتها؛ وإن عدتم عدنا. وإن عادت العقرب عدنا لهم ... وكانت النعل لها حاضرة فإن عدت والله الذي فوق عرشه ... منحتك مسنون الغرارين أزرقا فإن دوار الجهل أن تضرب الطلى ... وأن يغمس العريض حتى يغرقا الشبهة الثانية: أن القبورية زعموا أن النهي الوارد في تلك الأحاديث - إنما هو عن بناء المساجد وإيقاد السرج على القبور أي فوق القبور، بدليل كلمة (على) ؛ ولكن لو بني المسجد بجوار قبر ولي وأوقد السراج بجوار قبره لا حرج في ذلك؛ لأن النهي في تلك الأحاديث لا يشمل ذلك؛ لأن ذلك النهي مقيد بكلمة (على) ؛ فقيد (عليها) يفيد أن اتخاذ المسجد بجنبها لا بأس به. الجواب: لقد أجاب عن هذه الشبهة بعض علماء الحنفية بأن كلمة (عليها) الواردة في أحاديث النهي عن بناء المساجد والقبب على القبور، تشمل بناءها فوق القبور؛ كما تشمل بناءها بجوار القبور؛ لأن كلمة (على) في الكتاب والسنة ولغة العرب تأتي لمعنى المجاورة أيضاً؛ فقد قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259] ؛ فليس معنى ذلك أن هذا المار مر فوق جدران هذه القرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1648 وقال تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ؛ فهل معنى هذه الآية نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القيام فوق قبور المنافقين؛ دون القيام بجوارها؟؟ . وقد ورد في حديث الإسراء والمعراج: (( «فأتيت على آدم» )) و (( «فأتيت على عيسى» )) و (( «فأتيت على يوسف» )) و (( «فأتيت على إدريس» )) و (( «فأتيت على هارون» )) و (( «فأتيت على موسى» )) ، و (( «فأتيت على إبراهيم» )) ؛ كما ورد فيه: (( «فرجعت فمررت على موسى» )) ؛ فهل يعقل أن معاني هذه الجمل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى ومر فوق رءوس هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟؟ . «وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم جنازة امرأة ماتت في نفاسها، ((فقام عليها للصلاة)) » رواه أبو داود 2 100؛ فهل معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فوق هذه المرأة للصلاة؟؟ . الحاصل: أن هذه الشبهة باطلة من أصلها. وأن النهي في هذه الأحاديث شامل لجميع تلك الصور، والأعمال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1649 بالنيات. الشبهة الثالثة: استدلال القبورية بقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21] ؛ قالوا: معناه: (لنتخذن على باب الكهف مسجداً يصلي فيه المسلمون، ويتبركون بمكانهم) ، وهذا يدل على الجواز؛ هكذا استدل بهذه الآية الكريمة كثير من الروافض والبريلوية، والكوثرية، الديوبندية وغيرهم - على جواز بناء المساجد والقبب على قبور الأولياء والتبرك بآثارهم بالصلاة في تلك المساجد. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بأن هذه الآية لا تدل على أن هذا من فعل المسلمين الموحدين أتباع سنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام، بل الظاهر أن هؤلاء كانوا من المشركين فبنوا ذلك على عادتهم الوثنية؛ ولو سلم أن هذا من فعل المسلمين فلا نسلم أن ذلك من فعل أهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1650 السنة أتباع الرسل صلى الله عليهم وسلم، بل ذلك من فعل المبتدعة الخرافية من المسلمين على أقل تقدير؛ فإنه لم يأت شرع نبي من الأنبياء على جواز بناء المساجد والقبب على القبور؛ فإن هذا من أعمال المشركين قديماً وحديثاً، ومنهم أخذه المبتدعة من المسلمين أهل الخرافات، ولو سلم على سبيل فرض المحال: أن هذا كان جائزا في الشرائع السابقة - فالجواب: أن الشرائع السابقة غير حجة في شريعتنا هذه إلا إذا كانت شريعتنا مؤيدة لها مقررة لها؛ ودون ذلك خرط القتاد؛ فإن شريعتنا جاءت بالإنكار على بناء المساجد والقباب على القبور، وتحريم ذلك ولعن فاعله، وطرده من رحمة الله تعالى؛ وصرحت بأن هذا من أعمال اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين السابقين الذين لعنهم الله تعالى بمثل هذه الأعمال التي هي أبواب إلى الوثنية والإشراك بالله عز وجل، فلا حجة في ذلك أصلاً؛ فبطل استدلال القبورية بعملهم هذا على جواز بناء القبب والمساجد على القبور والتبرك بذلك. الحاصل: أن استدلال القبورية بهذه الآية على جواز بناء القبب والمساجد على القبور - ليس إلا تحريفاً لكتاب الله تعالى وتبديلاً لشرع الله عز وجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1651 قال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) مبطلاً استدلال القبورية بهذه الآية قالعاً شبهتهم قاطعاً دابرهم: (واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء، واتخاذ مسجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك؛ وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي؛ وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد) . ثم ذكر الإمام الآلوسي عدة من الأحاديث الصحيحة المحكمة الصريحة في تحريم بناء القبب والمساجد على القبور، وتحقيق أن هذا موجب للعنة الله تعالى والطرد من رحمته سبحانه، وأنه من أعمال الكفرة السابقين اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين، وساق نصوص كثير من أهل العلم في التحذير من هذا العمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1652 المعلون أهله؛ وأنه من الكبائر الموبقات المهلكات، وأنه من أعظم أسباب الشرك بالله تعالى، وحقق أنه يجب المبادرة إلى هدمه والمسارعة إلى إزالته، وأنه أعظم ضرراً من مسجد الضرار، وأن العلماء أفتوا بهدم جميع القباب المبنية على القبور حتى القبة على قبر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى؛ وساق نصوصاً مهمة لابن حجر الهيتمي (974هـ) في ذلك مع كونه من أئمة القبورية إتماماًَ للحجة على القبورية وإيضاحاً للمحجة لهم؛ ثم قال: (والأحاديث، وكلام العلماء المنصفين المتبعين لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء عن السلف الصالح أكثر من أن يحصى. لا يقال: إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ... لأنا نقول: مذهبنا في شرع من قبلنا - وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا لكن لا مطلقا؛ بل إن قصه الله تعالى علينا بلا إنكار - وإنكار رسوله صلى الله عليه وسلم كإنكاره عز وجل - وقد سمعت أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور؛ على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع؛ وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة؟؟ مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفاً احتجاج الأئمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1653 بها؛ وليس فيها [أي في هذه الآية التي استدل بها القبورية] أكثر من حكاية قول طائفة من الناس، وعزمهم على فعل ذلك؛ وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم؛ فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً [نبياً]- لا يدل فعلهم فضلاً عن عزمهم، على مشروعية ما كانوا بصدده؛ ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم، القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين، كما روي عن قتادة. وعلى هذا لقائل أن يقول: إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور؛ فأشاروا بالبناء على الكهف وسده، وكف كف التعرض عن أصحابه - فلم يقبل الأمراء منهم، وغاظهم ذلك؛ حتى أقسموا على اتخاذ المسجد) ، ثم ذكر رحمه الله تعالى احتمالات أخرى في معنى الآية يسقط بها استدلال القبورية أيضاً. ثم قال: (وبالجملة: لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1654 إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة * والآثار الصريحة *؛ معولاً على الاستدلال بهذه الآية * فإن ذلك في الغواية غاية * وفي قلة النهى نهاية *؛ ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها وبنائها بالجص والآجر، وتعليق القنادل عليها، والصلاة إليها، والطواف بها، واستلامها، والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة، إلى غير ذلك، محتجاً بهذه الآية الكريمة، وبما جاء في بعض روايات القصة، من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً، وجعله إياهم في توابيت من ساج، ومقيساً البعض على البعض؛ وكل ذلك محادة لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل، ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره عليه الصلاة والسلام؛ وهو أفضل قبر على وجه الأرض؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1655 بل أفضل من العرش، والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له، والسلام عليه، عليه الصلاة والسلام، فتتبع ذاك * وتأمل ما هنا وما هناك * والله سبحانه وتعالى يتولى هداك *) قلت: الحاصل: أن تشبث القبورية بهذه الآية باطل كاسد * وعاطل فاسد *. وذلك لوجوه: الأول: أن هذا الفعل فعل وثني قد فعله الكفار المشركون. والثاني: أنه لو سلم أنهم كانوا مسلمين - على سبيل فرض المحال - فالجواب: أن فعلهم هذا بدعة وثنية * لا فعلة سنية *. والثالث: أنه لو سلم على سبيل فرض المحال أيضاً: أن عملهم هذا كان من شرائع من قبلنا - فالجواب: أن ما كان من شرائع من قبلنا - لا يحتج به إلا إذا أقره شرعنا؛ ففسد ما هذى به هؤلاء القبوريون * {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} *. الشبهة الرابعة: زعم القبورية أن بناء المساجد والقباب على قبور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1656 الأنبياء والأولياء عمل توارثته الأمة الإسلامية خالفاً عن سالف في مشارق الأرض ومغاربها، صرح بذلك الكوثري وغيره من القبورية. وهذا يعني إجماع الأمة على جواز ذلك إجماعاً عملياً. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه المغالطة المكشوفة - بأن هذا ليس من باب إجماع الأمة في شيء، ولا من قبيل العمل الذي توارثته الأمة الإسلامية خالفاً عن سالف؛ وإنما هو من البدع الشنيعة * والعادات القبيحة الفظيعة * - التي توارثها أهل البدع والملوك الجهلة والعوام * والمتصوفة الذين كانوا أضل من الأنعام * وأيدهم المنتسبون إلى العلم من أئمة البدع والضلال الطغام * وهل أفسد الدين إلا الملوك * وأحبار سوء ورهبانها * فكم من ظلم ومنكر وبدعة قد توارثته العامة كابراً عن كابر حتى في الحرمين * فضلاً عن بقية بلاد الإسلام في الخافقين * (ففي الحرمين الشريفين من شيوع الظلم وكثرة الجهل وقلة العلم وظهور المنكرات وفشو البدع وأكل الحرام والشبهات) . فهل كل ذلك صار من إجماع الأمة، وحجة يحتج بها؟؟ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1657 وقد صرح جمع من الحنفية بأن هذا التوارث هو عمل منكر لا حجة فيه؛ إذ هو من أفعال العوام الجهلة لا من أعمال العلماء. وقالوا: (فإن قلت: هو إجماع فعلي فهو حجة، كما صرحوا به. قلت: ممنوع؛ بل هو أكثري فقط؛ إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه؛ وبفرض كونه إجماعاً فعلياً - فمحل حجته - كما هو ظاهر - إنما هو عند صلاح الأمة بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وقد تعطل ذلك منذ أزمنة) . وقد اعترف به بعض الغلاة من القبورية أيضاً. قلت: الحاصل: أن هذا التوارث هو توارث أهل البدع والجهلة من العوام والملوك الذين كانوا على مذهب العامة، والمنتسبين إلى العلم من أئمة القبورية الذين كانوا يباشرون البدع ويدعمون الوثنيات ويفتون لإرضاء الملوك والعامة بما يجافي دين الله ويناقض التوحيد، وساعدهم سكوت كثير من العلماء وتهاونهم في دين الله، فمثل هذا لا يحتج به إلا ممرض مغرض. الشبهة الخامسة: تشبث القبورية بالقبة التي بنيت على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1658 لقد تشبثت كثير من القبورية بالقبة التي فوق قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، على جواز بناء المساجد والقباب على قبور الأنبياء والأولياء. هكذا أوحاهم الشيطان هذا القياس المفارق مع الفارق، الذي هو قرة عين الشيطان، والذي قد صدق به إبليس عليهم ظنه. الجواب: لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة من وجهين: الوجه الأول: أن البناء على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس من باب البناء على القبور، لأن أصل هذا البناء كان موجوداً قبل أن يقبر تحته النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان حجرة لعائشة رضي الله عنها؛ وكان من بيوت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فاتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في حجرة عائشة رضي الله عنها فدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحجرة؛ بناءً على الحديث الوارد في ذلك؛ فعن عائشة رضي الله عنها: ( «لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه؛ فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ما نسيته، قال: ((ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)) ؛ ادفنوه في موضع فراشه» ) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1659 فدفنوه في حجرة عائشة رضي الله عنها؛ فلم يكن هذا البناء على قبره صلى الله عليه وسلم بنية البناء على القبر لأنه كان سابقاً عليه؛ وأما دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما - فكان تبعاً لدفن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان؛ فلم يكن هذا البناء أيضاً على قبورهما على سبيل القصد والتعمد. الحاصل: أن دفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها، كان من الأمور الاتفاقية التي تحدث حدوث القضايا الاتفاقية من دون تعمد وقصد وخطة مدبرة، ولا بنية البناء على القبر؛ فقياس بناء المساجد والقباب على القبور على الحجرة النبوية - قياس فاسد عاطل * كاسد باطل *؛ لأنه قياس مع الفارق * لا يشك فيه إلا مغرض ممرض مفارق *. الوجه الثاني: أن القبة على ضريح النبي صلى الله عليه وسلم - لم تكن موجودة على عهد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين * ولا على عهد التابعين ولا على عهد أتباع التابعين * ولا على عهد أئمة السنة * في خير القرون من قرون هذه الأمة *. قال العلامة الخجندي (1379هـ) مبيناً تاريخ بناء هذه القبة الخضراء المبنية على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، محققاً أنها بدعة حدثت بأيدي بعض السلاطين * الجاهلين الخاطئين الغالطين * وأنها مخالفة للأحاديث الصحيحة * المحكمة الصريحة *؛ جهلاً بالسنة، وغلواً وتقليداً للنصارى * الضلال الحيارى *: (ابتداء القبة الخضراء على القبر الشريف: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1660 اعلم أنه إلى عام (678هـ) لم تكن قبة على الحجرة النبوية التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما عملها وبناها الملك الظاهر المنصور قلاوون الصالحي في تلك السنة (678هـ) ، فعملت تلك القبة. قلت: إنما فعل ذلك لأنه رأى في مصر والشام كنائس النصارى المزخرفة فقلدهم جهلاً منه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسنته؛ كما قلدهم الوليد في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1661 زخرفة المسجد، فتنبه، كذا في وفاء الوفاء .... اعلم أنه لا شك أن عمل قلاوون هذا - مخالف قطعاً للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الجهل بلاء عظيم * والغلو في المحبة والتعظيم وباء جسيم * والتقليد للأجانب داء مهلك؛ فنعوذ بالله من الجهل ومن الغلو ومن التقليد للأجانب..) . قلت: الحاصل: إن بناء هذه القبة ليس من السنة في شيء، ولا من عمل الصحابة والتابعين * ولا من طريقة الأئمة المهتدين * بل هو من صنيع الملوك الجاهلين * بحقيقة توحيد الأنبياء والمرسلين * فلا يجوز الاستدلال بأفعال المبتدعين الخرافيين * على جواز بناء المساجد والقبب على المقبورين * فقد اتضح للقبورية المحجة * ولعلهم تقام به عليهم الحجة* فإن الحق لا بد أن يظهر * والباطل لا محالة يقمع ويقهر ويكسر * كما قيل: ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا ... وأنك تلقى باطل القول لجلجا وكان علي بيان الحق والصواب * وحساب أهل الباطل على رب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1662 الأرباب *. كما قيل: أبن وجه نور الحق في وجه سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق بل كثير من القضايا التي خالها القبورية * هي من الأمور الواضحة البديهة *. كما قيل: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل وبهذا تنتهي مقاصد هذه الرسالة بتوفيق الملك الوهاب * والآن ننتقل إلى خاتمة هذا الكتاب * والحمد لله رب العالمين * والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين * وآله وصحبه أجمعين * ***** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1663 الخاتمة وفيها أمور ثلاثة: - الأمر الأول: النتائج. - الأمر الثاني: الاقتراحات. - الأمر الثالث: الفهارس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1665 الأمر الأول النتائج لقد وصلت في التفتيش والتنقيب لجمع مادة هذا الكتاب وتصنيفه إلى عدة من النتائج، وفيما يلي ذكر أهمها: 1 - أن القبورية أشد بلاء وأعظم محنة على الإسلام والمسلمين من جميع فرق أهل القبلة. 2 - لأنهم جمعوا بين التعطيل والتشبيه، وناقضوا توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية؛ بل عارضوا توحيد الربوبية أيضاًَ. 3 - أن القبورية أشد شركاً من الوثنية الأولى في باب الاستغاثة بغير الله تعالى. 4 - أن القبورية أعظم عبادة وأكثر خشوعاً للأموات منهم لخالق البريات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1667 5 - القبورية والصوفية والمتكلمون، إخوان أشقاء خلطاء في كثير من الشركيات والخرافات. 6 - القبورية جعلوا توحيد الألوهية عيناً لتوحيد الربوبية؛ كإخوانهم المتكلمين. 7 - فالغاية العظمى عندهم هي توحيد الربوبية. 8 - القبورية جانبوا الجادة الصحيحة في تفسير المطالب العظيمة من التوحيد والشرك والعبادة والتوسل والاستغاثة ونحوها؛ حيث حرفوها إلى معان أخرى تدعم وثنيتهم. 9 - أهم عقيدة للقبورية هو الاستغاثة بالأموات لدفع الكربات وجلب الخيرات، أما بقية عقائدهم - فهي وسائل إلى تحقيق هذه الغاية. 10 - تبرقعت القبورية لتنفيذ خططهم المدبرة ضلالاً وإضلالاً بتعظيم الأنبياء والأولياء وحبهم؛ فارتكبوا أنواعاً من الإشراك تحت ستار الولاية والكرامة والحب والتعظيم. 12 - سمت القبورية عقائدهم الفاسدة بأسماء براقة؛ حيث سموا الإشراك بالله بالتعظيم للأولياء، وزيارة قبورهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1668 والاستغاثة بغير الله بالتوسل، وتصرف الأولياء في الكون بالكرامة، وعلم الغيب لهم بالمكاشفة، ونحوها. 13 - القبورية فرقة بعيدة المدى، هي أم كثير من الطوائف الباطلة عبر القرون، فهي بدأت في عهد نوح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطورت؛ فكانت الأمم الخالية من عاد وثمود ومدين والفلاسفة اليونانية واليهود والنصارى ومشركي العرب وأمثالهم كلهم قبورية. 14 - ولكن أعني بالقبورية قبورية هذه الأمة، وهي شاملة للروافض والباطنية والمتفلسفة في الإسلام والصوفية الطرقية والشيعة والزيدية، وكثيراً من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة. 15 - القبورية في هذه الأمة تتفاوت في شركياتهم من حيث الغلو والإفراط، فالمتفلسفة في الإسلام والروافض والصوفية من غلاة الغلاة القبورية، وقاربهم أمثال البريلوية والكوثرية ونحوهم، كبعض الديوبندية وبعض التبليغية، فهم غلاة القبورية؛ ثم القبورية غير الغلاة؛ كبعض الديوبندية، والتبليغية، وهناك قسم رابع، وهو من تأثر ببعض أفكار القبورية؛ فمن هذه الحيثية استحق وصف كونه قبورياً. 16 - انتشرت القبورية انتشاراً واسعاً في أقطار الأرض، شرقها وغربها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1669 وجنوبها وشمالها، وهندها ورومها، وسهولها وجبالها، وبرها وبحرها، والله المستعان على ما يصفون. 17 - من القبورية كثير من أهل الفضل والعلم والزهد، فقد ترى شخصاً إماماً في اللغة والتفسير والحديث والفقه، ومع ذلك يكون قبورياً محضاً، ولله في خلقه شئون. 18 - وقد يكون مع هذا صاحب نية صادقة مخلصاً طالباً للحق إذا نبه يتنبه ويرجع إلى الحق من دون عناد وإصرار ومكابرة. 19 - من وسائل انتشار القبورية الجهل العام الطام وارتكاب جمهرة الناس للعقائد القبورية، وفيهم كثير من المتكلمين والفقهاء واللغويين والملوك ممن لهم التأثير والسلطان على العباد والبلاد. 20 - القبورية من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة تتفاوت من حيث العدد؛ فهم في الحنفية أكثر وأوفر وأشهر، وتليهم قبورية المالكية والشافعية، ونذر قليل من الحنبلية. 21 - أن القبورية أنكروا وجود الشرك في هذه الأمة، ولهذا يرون كل ما يرتكبونه من الشرك الأكبر وأسبابه توحيداً وطاعة لله عز وجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1670 22 - أن أكثر القبورية أصحاب النيات الصالحة، ولا سيما العوام، يرون أن ما يرتكبونه من العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة - هو من دين الله تعالى؛ ولكن كثيراً منهم ولا سيما أئمتهم وخواصهم أهل النيات الفاسدة مغرضون ممرضون. 23 - أن القبورية - ولا سيما الديوبندية والكوثرية - أعداء ألداء للتوحيد والسنة والعقيدة السلفية وأئمتها. 24 - أن القبورية من أعظم الفرق الباطلة كذباً وافتراء على العباد * وعلى رب العباد. 25 - أن القبورية من أشنع الفرق الباطلة تحريفاً لنصوص الكتاب والسنة وأقوال علماء هذه الأمة. 26 - أن القبورية كثيراً ما يعبدون الفسقة والفجرة والدجاجلة الاتحادية الوجودية الزنادقة، واستغاثوا بهم على ظن أنهم من عباد الله الصالحين الأولياء للرحمن، مع أنهم أولياء للشيطان. 27 - أن القبورية كما أنهم يعبدون القبور وأهلها كذلك يعبدون بعض الأشجار والأحجار والمغارات المعظمة عندهم، فهم كما أنهم عبدة القبور، كذلك هم عبدة الأنصاب والأوثان؛ لأن القبور والأشجار والأحجار ونحوها إذا عبدت - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1671 تصير أوثاناً وأنصاباً، معبودات من دون الله تعالى. 28 - كل ما ذكرته من النتائج فهو من جهود علماء الحنفية وعلى ألسنتهم، وليس لي في ذلك إلا جهد وتحمل العناء في إبراز جهودهم وجمع أقوالهم في صعيد واحد؛ لكن مع التوثيق والتخريج والتصحيح والتوظيف. 29 - اهتم علماء الحنفية قديماً وحديثاً بالرد على القبورية. 30 - غير أن القدماء منهم ردهم قليل عام، وأما المتأخرون منهم فهم أصرح في الرد على القبورية وأشد وأقوى. 31 - بل وجدت كثيراً من علماء الحنفية ردوا على القبورية بكلام هو شواظ من النار، فقطعوا دابر القبورية وقمعوا شبهاتهم بأجوبة كالصوارم المهندة وكلمات قاسية تستحقها القبورية. 32 - أن علماء الحنفية قد أطلقوا على القبورية أنهم مشركون، أهل الشرك، وثنية، عباد القبور، عبدة القبور، أشباه عباد الأصنام، وغيرها من الألقاب التي يستحقونها. ستعلم ليلى أي دين تدينت ... وأي غريم في التقاضي غريمها 33 - أن علماء الحنفية مع ذلك كله لم يكفروا القبورية، بل صرحوا بعدم تكفيرهم قبل إقامة الحجة عليهم. 34 - أن غالب علماء الحنفية في الرد على القبورية تابعون لأئمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1672 السنة، أمثال شيخ الإسلام (728هـ) وابن القيم الهمام (751هـ) ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) ، عالة عليهم وتلاميذ لهم؛ ناقلون عنهم. فلهم فضل الرد على القبورية فضلاًَ أولياً، ولهؤلاء الحنفية الرادين على القبورية فضل ثانوي. 35 - إن كثيراً من علماء الحنفية لما لم يكونوا من أهل الحديث والأثر وأصحاب العقيدة السلفية وأهل السنة المحضة - لم يكن ردهم على القبورية خالياً عن الدخن؛ لما عندهم من الأفكار الصوفية النقشبندية والماتريدية والمرجئة ونحوها. 36 - أن بعض من تجرد من الحنفية للرد على القبورية قد وفقهم الله تعالى للتمسك بمذهب أهل الحديث والسنة المحضة والعقيدة السلفية، فتركوا الحنفية أصلاً وفرعاً بدون خوف تعيير وملام *. وعيرني الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها 37 - أن كثيراً من الحنفية الرادين على القبورية قد انخرطوا في شيء من بدع القبورية أيضاً. 38 - أن القبورية من الفرق الضالة الباطلة، الموجودة في واقعنا الماضي وحياتنا المعاصرة، المنتشرة في العباد والبلاد بالكثرة الكاثرة، وليسن من الفرق المنقرضة كما يزعم ذلك بعض الجهلة الضالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1673 المضلة. 39 - القبورية لهم طرق ومكر ودهاء وخطط مدبرة لنشر عقائدهم الباطلة بشتى الطرق، وهم يظهرون بأسماء شتى ودعوات متنوعة، تارة باسم الإصلاح والإرشاد والتبليغ وتهذيب الأخلاق، وتارة في صورة منظمة سياسية أو جهادية، وتارة في لون تأسيس الجامعات لنشر العلم والمعارف؛ فهم طرق وألوان * وأنواع وأفنان * ولهم ظلم وعدوان * وبغي وبهتان وسلطان * ولهم اهتمام ونشاط * لتحقيق ما هم عليه من التفريط والإفراط *. 40 - أن كثيراً من القبورية قد تظاهروا بالتوحيد والسنة، وهم في الحقيقة على توحيد الماتريدية الجهمية * وعلى سنة الصوفية النقشبندية الخرافية؛ * كالديوبندية التبليغية؛ لا ينتبه لهم إلا المتمكن من العقيدة السلفية، الحكيم المجرب العارف بواقع هذه الأمة عامة وحقيقة القبورية خاصة. 41 - لعلماء الحنفية جهود عظيمة لإبطال عقائد القبورية وقطع دابرهم وقلع شبهاتهم وقمع جموعهم وكسر جنودهم، ولهم في ذلك مؤلفات مفيدة نافعة كثيرة بلغات شتى، ولا سيما العربية والفارسية والأردية والأفغانية، مع ما في غالبها من العقائد الماتريدية * والأفكار الصوفية * فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وسامحهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1674 42 - وهذا دليل على أن أئمة السنة الذين ينبذهم القبورية بالوهابية ليسوا منفردين بالرد على القبورية * بل شاركهم في ذلك هؤلاء الأعلام من الحنفية *. فلست وحيداً يا ابن حمقاء فانتبه ... ورائي جنود كالسيول تدفق * والله المستعان * وعليه التكلان* ***** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1675 الأمر الثاني الاقتراحات لي اقتراحات على إخواني أهل العلم وطلابه، أرجو الاهتمام بها لما أرى في تحقيقها من نفع للإسلام والمسلمين، وأهمها ما يلي: 1 - أقترح عليهم إبراز جهود المالكية والشافعية أيضاً في الرد على القبورية؛ ليعلم المسلمون أن القبورية قد خالفوا الأئمة الأربعة. 2 - أقترح عليهم إبراز جهود علماء المذاهب الثلاثة من الحنفية والمالكية والشافعية في مناصرة العقيدة السلفية وإبطال عقائد الجهمية والمرجئة والمتعصبة المذهبية. 3 - أقترح عليهم تحقيق كتب علماء الحنفية التي ألفوها في الرد على القبورية تحقيقاً علمياً، مع التنبيه على أخطاء علمية وقعوا فيها، وطبعها في حلل قشيبة سندسية؛ كزيارة القبور للبركوي، ومجالس الأبرار لأحمد الرومي، وجلاء العينين لنعمان الآلوسي، وغاية الأماني وفتح المنان لشكري الآلوسي، وتقوية الإيمان لإسماعيل الدهلوي، ونحوها. 4 - أقترح عليهم تعريب أهم كتب الحنفية في الرد على القبورية، وترجمة كتبهم العربية الرادة على القبورية إلى اللغات الأعجمية لتعميم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1677 فائدتها وتكثير خيرها وتوفير نفعها. وما ذلك على الله العزيز. 5 - أقترح على جميع أهل العلم وطلابه الغيورين على التوحيد والسنة: أن يكونوا على حذر من كيد القبورية لأهل التوحيد، وأن يكونوا ناصحين هينين لينين لعامتهم، أطباء لأدوائهم، هداة لجهلتهم الضالين طلاب الحق طيبي النبات، فإن هذا من الرحمة والشفقة، وأن يكونوا صوارم مهندة لقطع دابر أئمتهم المضلين المعاندين المكابرين، الدعاة إلى الوثنية، وأن يقلعوا شبهاتهم ويقمعوا جموعهم ويكسروا جنودهم؛ درساً وتدريساًَ وخطابة وتأليفاً، وأن لا يعدوا ضررهم هيناً، فإنهم هم الداء العضال على الإسلام والمسلمين، وهم أم العقائد الفاسدة من الوثنية والجهمية والمرجئة، وأرجو أن لا يكونوا مثلجين باردين ساكتين مسالمين لهم وموالين؛ فإن الرد على أهل البدع ولا سيما القبورية من أعظم الجهاد في سبيل الله تعالى * ومن أجل الطاعات لله جل وعلا *. واللين مع الفرقة الباطلة من أعظم أسباب خمول أهل السنة، وقوة أهل البدع، كما نرى الآن؛ فتداركوا الأمر قبل فوات الأوان * لئلا يؤول الأمر إلى أسوأ مما نراه الآن *. وإلا {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1678 والله المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان *. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين * وآله وصحبه أجمعين، والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين *. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. أخوكم في الله شمس الدين السلطاني الأفغاني السلفي المدني 21 \12\ 1413 هـ ***** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1679