الكتاب: الحوادث والبدع المؤلف: محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشى الفهرى الأندلسي، أبو بكر الطرطوشى المالكي (المتوفى: 520هـ) المحقق: علي بن حسن الحلبي الناشر: دار ابن الجوزي الطبعة: الثالثة، 1419 هـ - 1998 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الحوادث والبدع أبو بكر الطرطوشي الكتاب: الحوادث والبدع المؤلف: محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشى الفهرى الأندلسي، أبو بكر الطرطوشى المالكي (المتوفى: 520هـ) المحقق: علي بن حسن الحلبي الناشر: دار ابن الجوزي الطبعة: الثالثة، 1419 هـ - 1998 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قال الشيخ، الإمام، قدوة الإسلام، وواضح الدلائل، الإمام، أبو بكر الطرطوشي، رحمه الله تعالى ورضي عنه: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، ورسول رب العالمين. هذا كتاب أردنا أن نذكر فيه جُمَلا من بدع الأمور ومحدثاتها، التي ليس لها أصل في كتاب الله، ولا سنة، ولا إجماع، ولا غيره، فألفيت ذلك ينقسم إلى قسمين: قسم يعرفه الخاصة والعامة أنها بدعة محدثة؛ إما محرمة، وإما مكروهة. وقسم يظنه معظمهم - إلا من عصم الله - عبادات، وقربات، وطاعات، وسننا. فأما القسم الأول؛ فلم نتعرض لذكره؛ إذ كُفينا مؤنة الكلام فيه؛ لاعتراف فاعله أنه ليس من الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وأما الثاني؛ فهو الذي قصدنا جمعه، وإيقاف المسلمين على فساده ووبال عاقبته. أعلم أن ما حدث في سائر أقطار بلاد أهل الإسلام من هذه المنكرات والبدع لا مطمع لأحد في حصرها؛ لأنها خطأ وباطل، والخطأ لا تنحصر سبله، ولا تتحصل طرقه؛ فاخط كما شئت! وإنما الذي تنحصر مداركه وتنضبط مآخذه؛ فهو الحق؛ لأنه أمر واحد مقصود، يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه. وما مثل هذا إلا كالرامي للهدف؛ فإن طرق الإصابة تنحصر وتتحصل من إحكام الآلات، وأسباب النزع، وتسديد السهم. فأما من أراد أن يخطئ الهدف؛ فجهات الأخطاء لا تنحصر ولا تنضبط؛ إلا أن نذكر من ذلك حسب الإمكان. وأحصر ذلك في أربعة أبواب: الباب الأول: فيما انطوى عليه الكتاب العزيز من الأمور التي ظاهرها سِلْمٌ جرَّت إلى هُلْكٍ. والباب الثاني: فيما اشتملت عليه السنة من النهي عن محدثات الأمور. والباب الثالث: في أساليب الصحابة في كيفية ضبطهم للقانون الذي به تُحفظ قواعد الدين وتموت البدع. والباب الرابع: في نقل ما حدث من ذلك في الإسلام، وتنصيص العلماء على تحريمها وكراهتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الباب الأول فيما انطوى عليه الكتاب العزيز من الأمور التي ظاهرها سِلْمٌ جرَّت إلى هُلْكٍ * فأما الباب الأول؛ فيكفي الأمة منه قصة أصحاب السبت التي حكاها الله تعالى في كتابه. وكان مالك بن أنس يحتج بها على من خالفه في مسألة الذرائع: قال الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ} ... إلى قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . وذلك أن الله تعالى حرَّم الصيد على اليهود يوم السبت، وأطلقه لهم في سائر الأيام، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا - يعني: في مشارع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 المياه إلى أبواب بيوتهم، وقيل: شوارع ظاهرة على الماء كثيرة - ولا تأتيهم في سائر الأيام، فعمد رجال منهم يوم الجمعة، فحفروا الأنهار، ووضعوا آلات الصيد، فدخل الحيتان فيها، فأخذوها يوم الأحد، وكان يوما يجوز فيه الصيد ... إلى أن فشا ذلك فيهم، فذمَّهم الله تعالى، ومسخهم قردة وخنازير. وقال ابن زيد: " وأول من أخذ منهم رجل حوتا في يوم الأحد، فشواه، فوجد جاره ريح الحوت، فقال له: إني أرى الله سيعذبك. فلما لم يعجل عليه بالعذاب؛ سار معه، فأخذ في السبت الآخر اثنان، فلما لم يعاجلهما العذاب؛ تتابعوا فيه، فأخذوا وأكلوا، وكانوا نحوا من سبعين ألفا في قرية يقال لها: أيلة، بين مدين والطور. فصارت القرية أثلاثا: ثلثا نهوا - وكانوا اثني عشر ألفا - وثلثا قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} ، وثلثا هم أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا؛ قال المسلمون: لا نساكنكم. فقسموا القرية بجدار: للمسلمين باب، وللمعتدين باب، فلعنهم داود، فأصبح الناهون يوما في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا، فنظروا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الجدار، فإذا هم قردة، فقالوا: أي عباد الله! قرودا - والله - تعاوي! ففتحوا الباب، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القردة تأتي أنسابها من الإنس، فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم؟ ! فتقول برأسها: نعم ". قال قتادة: " صار شبابهم قرودا، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم ". واختلف العلماء في الفرقة الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} ؛ أكانت من الناجية أم من الهالكة؟ فأما ابن عباس؛ فقال: " هم ثلاث فرق: الواعظة، والموعوظة، والذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا} ، فالواعظة نجوا، والموعوظة هلكوا، ولا أرى الآخرين ذُكروا، فيا ليت شعري! ما فعل بهم ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها شيئا؟ ! ". قال عكرمة: " فقلت له: جعلني الله فداك! ألا تراهم كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم، فقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} ، فلم أزل به حتى عرفته أنهم نجوا، فكساني حلة ". وأيضا فإن الواعظين قالوا لهم: انتهوا عن هذا العمل السيئ قبل أن ينزل بكم العذاب؛ فإنا قد علمنا أن الله منزل بكم بأسه إن لم تنتهوا. فقالت لهؤلاء الفرقة الأخرى: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} إذ علمتم أن الله معذبهم عذابا شديدا، فلا تعظوهم؛ فإن الله مهلكهم. وقال جماعة من العلماء: بل هذا الفريق من الهالكين؛ لأنهم منعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الناهين، فأخطؤوا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عليهم، وإن كان التقدير غالبا؛ لأنهم وإن كانوا قد علموا بعذابهم، فلم يسقط عنهم فرض الأمر بالمعروف، وإن كان ما قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ} ؛ رضًى بالمنكر، لكن لأنهم اعتقدوا أنهم هالكون. * ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} . وذلك أن المسلمين كانوا يقولون: يا رسول الله! راعنا وأرعنا سمعك. وهي بالعبرانية كلمة سب من الرعونة، فكانت اليهود تقولها للنبي صلى الله عليه وسلم يقصدون سبه، فمنع الله المسلمين أن يقولوها - وإن كانت جائزة -؛ لئلا يتذرع اليهود بذلك إلى ما لا يجوز. وهذا في الحقيقة منع جائز في الظاهر؛ لما كان يتطرق به إلى باطن ممنوع. * ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} . فمنع الله سائر المسلمين من سب آلهة الكفار، وهو مباح؛ لئلا يصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 طريقا لهم إلى سب إله العالمين سبحانه وتعالى. * ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} . فمنع الله تعالى النساء أن يضربن بأرجلهن، وهو فعل جائز في الظاهر؛ لئلا يتذرعن إلى ما لا يجوز من الدعاء إلى أنفسهن. * ومما يدخل في هذا الباب والتحذير من الزيادة في دين الله تعالى والنقصان منه: قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} ... إلى قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} . قال أهل التأويل: طؤطئ لهم الباب؛ ليخفضوا رؤوسهم، فيدخلوا سجدا منحنين متواضعين، ويقولوا: حِطَّة؛ معناه: حط عنا خطايانا، فقالوا: حنطة. ويقال: إنهم قالوا: هطا سمقايا؛ يعنون حنطة حمراء؛ استخفافا بأمر الله، فأرسل الله تعالى عليهم رجزا ظلمة وطاعونا، فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا، فلقوا من البلاء ما لقوا - وإنما زادوا حرفا في الكلمة -؛ يعرفهم أن الزيادة في الدين والابتداع في الشرع عظيم الخطر. قال علماؤنا رضي الله عنهم: إذا كان تغيير كلمة في باب التوبة - وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 أمر يرجع إلى المخلوق- يوجب كل ذلك العذاب؛ فما ظنك بتغيير ما هو خبر عن صفات المعبود؟ ! * ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} . قال ابن عباس: " قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} : هي الأهواء المختلفة ". وقال غيره: ما فيه الناس من الاختلاف. {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} : يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب. واختلف في المراد بهذه الآية: فقال مجاهد وأبو العالية وغيرهم: " هي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ". فروى خالد بن زيد الخزاعي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى، ثم قال: سألت الله تعالى فيها ثلاثا، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت الله تعالى ألا يصيبكم بعذاب أصاب به من قبلكم فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم فأعطانيها، وسألته ألا يُلبسكم شيعا فمنعنيها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قال أبو العالية " [عن أبي بن كعب؛ قال] : هن أربع: ظهر اثنتان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعا، وأذيق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان، فهما ولا بد واقعتان: الخسف من تحت أرجلهم، والرجم والمسخ من فوقهم ". وهذا تأويل ابن مسعود. وعن ابن عباس: " ومِنْ فَوْقِكُم: أئمة السوء. ومِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ: خدم السوء ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الباب الثاني فيما اشتملت عليه السنة من التحذير من الأهواء والبدع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس» . وفي لفظ آخر: «النُّزَّاع من القبائل» . وفي لفظ آخر: «أناسٌ صالحون قليلٌ في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ومعنى هذا الحديث: أنه لما جاء الله بالإسلام، فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته وحيه غريبا فيهم، مستخفيا بإسلامه، قد جفاه الأهل والعشيرة، فهو بينهم ذليل حقير خائف يتغصص بجرع الجفاء والأذى، ثم يعود غريبا؛ لكثرة الأهواء المضلة، والمذاهب المختلفة، حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس؛ لقلتهم وخوفهم على أنفسهم. وقال ابن مسعود: «خط لنا النبي صلى الله عليه وسلم خطا، ثم خط إلى جانبه خطوطا، ثم قال للخط الأول: هذا سبيل الله يدعو إليه، وقال للخطوط: هذه سبل الشيطان، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} » . فحذر من البدع ومحدثات الأمور. ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ !» . وروى أبو داود في " السنن " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى - أو اثنتين - وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى - أو اثنتين - وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» . ورواه معاوية بن أبي سفيان؛ قال: «قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» . واعلم أن هذا الحديث قد طاشت فيه أحلام الخلق، وفي معرفة هذه الفرق، وهل كملوا بعد أم لا؟ ! 1 - فصل في تحقيق القول فيه اعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قالوا: أصول البدع أربعة، وسائر الأصناف الثنتين وسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا وتشعبوا، وهم: الخوارج - وهي أول فرقة خرجت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه - والروافض، والقدرية، والمرجئة. ولم يرد علماؤنا أن أصل كل بدعة من هؤلاء الأربع تفرعت وتشعبت على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 مقتضى أصل البدع، حتى كملت ثلاثة وسبعين فرقة؛ فإن ذلك لعله لم يدخل في الوجود إلى الآن، وإنما أرادوا أن كل بدعة وضلالة لا تكاد توجد إلا في هذه الأربع فرق، وإن لم تكن البدعة الثانية فرعا للأولى وشعبة من شعبها، بل هي بدعة مستقلة بنفسها، ليست من الأولى بسبب. وبيان ذلك بالمثال: أن القدر أصل من أصول البدع، ثم اختلف أهله في مسائل من شعب القدر، وفي مسائل لا تعلق لها بالقدر، فجميعهم متفقون أن أفعال العباد خلق لهم من دون الله تعالى، ثم اختلفوا في فرع من فروع القدر: فقال أكثرهم: لا يكون فعل بين فاعلين! وقال بعضهم - وهو المِرْدَار -: يجوز بين فاعلين مخلوقين على التولد. وأحال مثله بين القديم والمحدث. ثم اختلفوا فيما لا يعود إلى القدر في مسائل كثيرة؛ كاختلافهم في الصلاح والأصلح: فقال البغداديون منهم: يجب على الله - تعالى عن قولهم - فعل الأصلح لعباده في دينهم ودنياهم، ولا يجوز في حكمته تبقية وجه ممكن به الصلاح العاجل والآجل؛ إلا وعليه فعل أقصى ما يقدر عليه في استصلاح عباده. قالوا: وواجب على الله - تعالى - ابتداء الخلق الذين علم أنه يكلفهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ويجب عليه إكمال عقولهم وأقدارهم، وإزاحة عللهم! وقال البصريون منهم: لا يجب على الله - تعالى - إكمال عقولهم، ولا أن يؤتيهم أسباب التكليف. وقال البغداديون منهم: يجب على الله - تعالى عن قولهم - عقاب العصاة إذا لم يتوبوا، والمغفرة من غير توبة سفه من الغافر! وأبى البصريون ذلك. وابتدع جعفر بن مبشر من القدرية بدعة، فقال: " من استحضر امرأة ليتزوجها، فوثب عليها، فوطئها بلا ولي ولا شهود ولا رضىً ولا عقدٍ؛ حل له ذلك "! وخالفه في ذلك سلفه، وخالفه خلفه. وقال ثمامة بن أشرس: " إن الله - تعالى - يصير الكفار والملحدين وأطفال المشركين والمؤمنين والمجانين ترابا يوم القيامة؛ لا يعذبهم، ولا يعوضهم "! وقوله هذا في الكفار والملحدين خرق لإجماع الأمة؛ من أهل الإثبات، وأهل القدر، وغيرهم. وهكذا ابتدعت كل فرقة من هذه الفرق بدعا تتعلق بأصل بدعتها التي هي معروفة بها، وبدعا لا تتعلق بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فإن كان أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفرق أمته أصول هذه البدع التي تجري مجرى الأجناس للأنواع، والمعاقد للفروع؛ فلعلهم - والعلم عند الله - ما بلغوا هذا العدد إلى الآن؛ غير أن الزمان باق، والتكليف قائم، والخطوات متوقعة، وكل قرن عصر لا يخلوا إلا وتحدث فيه البدع. وإن كان أراد النبي صلى الله عليه وسلم بالفرق كل بدعة في دين الإسلام؛ مما لا يلائم أصول الإسلام، ولا تقبلها قواعده؛ من غير التفات إلى التقسيم الذي ذكرنا؛ سواء كانت البدع أنواعا لأجناس، أو كانت متغايرة الأصول والمباني - وهذا هو الذي أراده، والعلم عند الله -؛ فقد وجد من ذلك عدد كثير، أكثر من اثنين وسبعين. ووجه تصحيح الحديث - على هذا - أن يخرج من الحساب غلاة أهل البدع، ولا يعدون من الأمة ولا في أهل القبلة؛ كنفاة الأعراض من القدرية؛ لأنه لا طريق لحدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض، وكالحلولية، والمنصورية، وأشباههم من الغلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وسنذكر عند تمام الفصل أن البدعة تكون في الأفعال؛ كما تكون في الأقوال. ومن ذلك ما رواه أبو داود في " السنن " عن العرباض بن سارية قال: «صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذا موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي استعمل عليكم؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» . وروى أبو داود أيضا أن معاذ بن جبل كان لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال: " الله حكم قسط، هلك المرتابون، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن؛ حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والحر والعبد، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمُتَّبِعيَّ حتى ابتدع لهم غيره. فإياكم وما ابتُدع؛ فإنما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، ويقول المنافق كلمة الحق ". روى أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أهل البدع هم شر الخلق والخليقة» . وروى البخاري عن أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَلَ خيبر ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم؛ يقال لها: ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، لتركبن سَنَنَ من قبلكم .... » . فانظروا - رحمكم الله - أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير والخرق؛ فهي ذات أنواط؛ فاقطعوها. وروى مسلم في " صحيحيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجعل أحدكم للشيطان عليه حقا؛ يرى إذا صلى ألا ينصرف إلا عن يمينه» . وروى مالك في " موطئه " عن واسع بن حبان قال: " انصرفت من الصلاة من قبل شقي الأيسر، فقال لي عبد الله بن عمر: ما منعك أن تنصرف عن يمينك؟ قلت: رأيتك فانصرفت إليك. قال: أصبت. إن قائلا يقول: انصرف عن يمينك، وأنا أقول: انصرف كيف شئت عن يمينك أو عن يسارك ". وروى البخاري في " صحيحيه ": «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصام يوم الجمعة؛ إلا أن يصله بصيام قبله أو بعده» . وروى مسلم في " صحيحيه ": «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم الجمعة وعن قيام ليلتها» . 2 - فصل [في تعريف البدعة] فإن قيل لنا: فما أصل البدعة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قلنا: أصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احْتُذِيَ، ولا ألف مثله. ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} ؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض. وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة، وفيما تفعله الجوارح. والدليل على هذا ما سنذكره في أعيان الحوادث من تسمية الصحابة وكافة العلماء بدعا للأقوال والأفعال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الباب الثالث منهاج الصحابة في إنكار البدع وترك ما يؤدي إليها * فمن ذلك ما روى البخاري في كتاب الصلاة عن أم الدرداء؛ قالت: دخل علي أبو الدرداء مغضبا، فقلت له: ما لك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا. وروى مالك في " الموطإ " عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: " ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة ". يعني: الصحابة. وذلك أنه أنكر أكثر أفعال أهل عصره، ورآها مخالفة لما أدرك من أفعال الصحابة. وكذلك أبو الدرداء أنكر ما أدرك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرفه من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الزهري: " دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ضيعت ". وفي لفظ آخر أنه قال: " ما كنت أعرف شيئا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد أنكرته اليوم ". وقال الحسن: " سأل أبا الدرداء رجلٌ، فقال: رحمك الله! لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؛ هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه؟ فغضب واشتد غضبه، ثم قال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه؟ ! ". وقال المبارك بن فَضَالَةَ: " صلى الحسن الجمعة، ثم جلس فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ ! فقال: تلومونني على البكاء ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم؛ ما عرف شيئا مما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أنتم اليوم عليه؛ إلا قِبْلَتَكُمْ هذه؟ ! ". وروى البخاري عن أنس قال: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات. فانظروا - رحمكم الله - إذا كان في ذلك الزمان طمس الحق وظهر الباطل حتى لا يعرف من الأمر القديم إلا القبلة؛ فما ظنك بزمانك هذا؟ ! والله المستعان. * ومن ذلك قصة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك أنه كان لا يقصر في السفر، فيقال له: أليس قصرت مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: " بلى! ولكني إمام الناس، فينظر إليَّ الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون: هكذا فرضت "! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 تأملوا - رحمكم الله -؛ فإن في القصر قولين لأهل الإسلام: منهم من يقول: فريضة، ومن أتم؛ فإنه يأثم ويعيد أبدا. ومنهم من يقول: سنة، يعيد من أتم في الوقت. ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لما خاف من سوء العاقبة، وأن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان. * ومنه قصة الأضحية: قال حذيفة بن أسيد: " شهدت أبا بكر وعمر، وكانا لا يضحيان؛ مخافة أن يرى أنها واجبة ". وقال بلال: " لا أبالي أن أضحي بكبش أو بديك ". وعن ابن عباس: أنه كان يشتري لحما بدرهمين يوم الأضحى، ويقول لعكرمة: " من سألك؛ فقل له: هذه أضحية ابن عباس ". قال أبو مسعود البدري: " إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم؛ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة ". وقال طاوس: " ما رأيت بيتا أكثر لحما وخبزا من بيت ابن عباس؛ يذبح وينحر كل يوم، ثم لا يذبح يوم العيد، وإنما كان يفعل ذلك؛ لئلا يظن الناس أنها واجبة، وكان إماما يُقتَدى به ". وقال أبو أيوب الأنصاري: " كنا نضحي عن النساء وأهلينا، فلما تباهى الناس بذلك؛ تركناها ". انظروا - رحمكم الله -؛ فإن القول في هذا الأثر كالقول فيما قبله؛ فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 لأهل الإسلام قولين في الأضحية: أحدهما: سنة. والثاني: واجبة. ثم اقتحم الصحابة ترك السنة؛ حذرا أن يضع الناس الأمر على غير وجهه، فيعتقدونها فريضة. وقال ابن عباس: " ما من عام إلا تظهر فيه بدعة وتموت فيه سنة، حتى تظهر البدع وتموت السنن ". * ومن " صحيح مسلم ": قال مجاهد: " دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر مستند إلى حجرة عائشة رضي الله عنها، وإذا الناس في المسجد يصلون الضحى، فقلنا: ما هذه الصلاة؟ فقال: بدعة ". ومحمله عندي على أحد وجهين: إما أنهم كانوا يصلون جماعة. وإما أنهم كانوا يصلونها معا أفذاذا على هيئة النوافل في أعقاب الفرائض. * وروى مالك في " موطئه " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لو» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده؛ لمنعهن المساجد كما مُنِعَهُ نِسَاءُ بني إسرائيل» . قالت عائشة رضي الله عنها - في " مصنف عبد الرزاق " -: «وكان نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلا من خشب؛ ليشرفن بها على الرجال في المساجد، فحرم الله عليهن المساجد، وسلط عليهن الحيض» . وقال ابن مسعود: " كان رجال بني إسرائيل ونساؤهم يصلون جميعا، فإذا كان للمرأة خليل؛ لبست القالبين من خشب تطول بهما لخليلها، فألقي عليهن الحيض ". وكان ابن مسعود يقول: " أخروهن من حيث أخرهن الله ". وكان لإبراهيم ثلاث نسوة، ما صلت واحدة منهن في مسجد الحي. وقال الليث: " إنما منع نساء بني إسرائيل المساجد؛ لأنهن أكثرن التطيب، حتى إن إحداهن كانت تملأ يديها مسكا، فإذا مرت بمسجد فيه رجال؛ مالت بيدها كأنها تسوي ثيابها، فرمت به على الرجال ". هذا قول عائشة، وهي تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ، فرأت ترك السنة؛ حذرا من التذرع إلى الباطل. قال علماؤنا: والذي أنكرت عائشة على نساء المسلمين: التطيب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 والتجمل، وقلة الستر والملابس، وإنما كن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسن المروط فيخرجن بها متلفعات، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن صلاة العشاء؛ فلا تمسن طيبا» . وأعظم من ذلك ما يوجد اليوم في هذا الختم من اختلاط الرجال والنساء وازدحامهم وتلاصق أجساد بعضهم ببعض، حتى بلغني أن رجلا ضم امرأة من خلفها فعبث بها في مزدحم الناس! وجاءت إلينا امرأة تشكو، فقالت: حضرت عند الواعظ في المسجد الجامع، فاحتضنني رجل من خلفي والتذ مني في مزدحم الناس، فما حال بينه وبين ذلك مني إلا الثياب! ! فأقسمتْ ألا تحضره أبدا. وروى مالك في " موطئه " عن ابن عمر: " أنه رأى رجلا يدعو ويشير بأصبعين، أصبع من كل يد، فنهاه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 باب في صلاة التراويح وأحكامها وكيف كان بدؤها ومستقرها أعلم أن الأصل في صلاة التراويح ما رواه مالك في " موطئه " والبخاري ومسلم وأبو داود في " سننه " عن أبي هريرة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان؛ من غير أن يأمر بعزيمة، ثم يقول: من صام رمضان إيمانا واحتسابا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه» . وروي: «من قام رمضان» . قال ابن شهاب: " فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر ". وروت عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح؛ قال: قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن يفرض عليكم» . وذلك في رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 رواه مالك وأبو داود. وروته عائشة رضي الله عنها أيضا؛ قالت: «كان الناس يصلون في المسجد في رمضان أوزاعا، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربت له حصيرا، فصلى عليه ... » . وساقت القصة إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس! أما والله ما بت ليلتي هذه بحمد الله غافلا، ولا خفي علي مكانكم ... » . وروى أبو ذر؛ قال: «صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله! لو نفلتنا قيام هذه الليلة. فقال: إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف؛ حسب له قيام الليلة، فلما كانت الرابعة لم يقم بنا، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح - قلت: وما الفلاح؟ قال: السَّحُورُ -، ثم لم يقم بنا بقية الشهر» . وروت عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر؛ أحيى الليل، وشد المئزر، وأيقظ أهله» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وروى أبو هريرة؛ قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال: ما هؤلاء؟. فقيل: هؤلاء ناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي [بهم] ، وهم يصلون بصلاته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصابوا، ونعم ما صنعوا» . قال أبو داود: " هذا الحديث ليس بالقوي، يرويه مسلم بن خالد الزنجي، وهو ضعيف ". وروى مالك في " موطئه " عن أبي سلمة أنه سأل عائشة رضي الله عنها: «كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا. فقلت: يا رسول الله! أتنام قبل أن توتر؟ فقال: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وروى مالك في " موطئه " عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: «خرجنا مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون؛ يصلي الرجل لنفسه، ويصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد؛ لكان أمثل. فجمعهم على أبي بن كعب. قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون» . يعني: آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله. وقال أبو أمامة الباهلي: " ابتدعتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم، فدوموا عليه إذا فعلتموه؛ فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا، ولم يراعوها، فعابهم الله تعالى بتركها "، ثم قرأ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} إلى آخر الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 1 - شرح هذه المتون، ووجه الجمع بينها اعلم أن أصل قيام رمضان ثبت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله: أما قوله عليه السلام؛ فترغيبه في قيامه على ما بيناه أولا. وأما فعله؛ فجمعه بالناس ليلتين. فإن قال قائل: فالنبي صلى الله عليه وسلم قد ترك بقية الشهر ولم يصل معهم! ؟ فالجواب: أن هذا لا يدل على نسخ الجمع فيها؛ لأنه - عليه السلام - علل الامتناع بأنه خشي أن يفرض عليهم؛ إما لما جرت به عادته من أن ما داوم عليه على وجه الاجتماع من القرب؛ يفرض على أمته. قالت عائشة رضي الله عنها: «إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يجب أن يعمل به؛ خيفة أن يعمل به الناس، فيفرض عليهم» . قالت: «وما سبح النبي صلى الله عليه وسلم سُبْحَةَ الضحى قط، وإني لأسبحها» . قال القاضي أبو بكر: " ويحتمل أن الله تعالى أوحى إليه إن واصل هذه الصلاة معهم؛ فَرَضَهَا عليهم؛ إما لإرادته فرضها فقط على ما نذهب إليه من أن أفعال القديم تعالى غير معللة، أو لأنه يحدث فيهم من الأحوال والاعتقاد ما يكون الأصلح لهم فرض هذه الصلاة عليهم، ويحتمل أن يريد بذلك أنه خاف أن يظن أحد من أمته بعده - إذا داوم عليها - وجوبها على الناس ". وهذه المعاني كلها مأمونة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وإذا كان كذلك؛ فقد زالت العلة المانعة من الاجتماع بانقطاع الفروض بعده، فثبت جواز الاجتماع لقيام رمضان. فهذا الحديث أصل في جواز الاجتماع للنافلة في رمضان. فإن قيل: فأبو بكر رضي الله عنه لم يصلها معهم، وكذلك عمر؛ لأنه قال: " ... ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر "، وكذلك علي لم يصلها! قلنا: أما أبو بكر؛ فشغله أهل الردة وتدبير أمور الإسلام مع قصر مدته عن النظر في جمع المسلمين عليها. ويحتمل أن يكون رأى من قيام الناس في آخر الليل وقوتهم عليه ما كان أفضل عنده من جمعهم على إمام في أول الليل. وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فروى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي: " أنه صلى بهم في شهر رمضان، فكان يسلم بهم في كل ركعتين، ويقرأ في كل ركعة بخمس آيات ". وإنما نسب إلى عمر؛ لأنه جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بهم عشرين ليلة، فإذا كان العشر الأواخر تخلف في بيته، فيقال: أبِقَ أُبَيٌّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فأما الجماعة في سائر النوافل؛ فروى ابن حبيب عن مالك؛ قال: " ليس من الأمر الذي يواظب عليه العامة أن يصلي الرجل بالنفر سبحة الضحى وغيرها من النافلة بالليل والنهار غير نافلة رمضان؛ إلا أن يكون نفرا قليلا، الرجلين والثلاثة ونحوه، من غير أن يكون أمرا كثيرا مشهورا ". كأنه خاف أن يظنها كثير من الناس من جملة الفرائض لو ظهر الاجتماع لها، وأمن ذلك في رمضان؛ لما اشتهر من أنه نافلة، وقد قيل غير ذلك. 2 - فرع وهل الأفضل أن تصلى في البيوت أو في المساجد والجماعات؟ قال مالك في " المدونة ": " قيام الرجل في بيته أحب إلي لمن قوي عليه ". قال: " وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وبه قال ابن عمر ". وقال عبيد الله: " رأيت مشيختنا: القاسم وسالما ونافعا ينصرفون من العشاء في رمضان ولا يقومون مع الناس ". وقال أبو يوسف: " من قدر على أن يصلي في بيته كما يصلي مع الإمام في رمضان؛ فأحب إلي أن يصلي في بيته ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 واختلف أصحاب الشافعي عليه، وذلك أنه قال: " فأما قيام رمضان؛ فصلاة المنفرد أحب إلي منه ". فمن أصحابه من حمل كلامه على ظاهره، والمراد به: إذا كانت صلاته لا تخل بصلاة أهل المسجد؛ فإنه يصلي في بيته؛ لتكون صلاته أخلص وأطول. وقال أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي من أصحابه: " صلاة التراويح جماعة أفضل من الانفراد؛ لإجماع الصحابة على ذلك؛ لأن عمر جمع الناس على أبي، فكان يصلي عشرين ليلة، وإجماع الأعصار عليه ". وتأولوا قول الشافعي أن صلاة المنفرد أفضل منه؛ يعني: الوتر وركعتي الفجر. واحتج من اختارها في البيوت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة» . قال ابن حبيب: «رغب النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة، فقام الناس وحدانا؛ منهم في بيته، ومنهم في المسجد. فمات النبي صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، وكان الناس كذلك في خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم رأى عمر أن يجمعهم، فأمر أبيا وتميما أن يصليا بهم إحدى عشرة ركعة بالوتر» . فرع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 3 - فرع [صلاتها في البيت] فإذا صلاها في بيته؛ فهل الأفضل له أن يصليها منفردا أو يصليها بأهل بيته وإخوانه إن حضروا؟ قلنا: إن عبد الله بن هرمز كان يقوم في منزله بأهله. وأما قولها: «ما كان يزيد النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة..» ؛ يدل على أن الأفضل قيام العام كله، ولهذا قالت: «وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيعه؟ ! كان عمله ديمة» . فلما علم أن أمته لا تطيق من ذلك ما يطيقه؛ حضهم على أفضل الأوقات بالعمل، وهو رمضان. 4 - فرع [عدد القيام] وأما الكلام في عدد القيام؛ فلم يثبت فيه عدد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إنما صلى بهم ليلتين، ثم تخلف في بيته، ولم ينقل أحدٌ كم صلى فيها من ركعة. وأثبت حديث فيه حديث عائشة: «ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 «في غيره على إحدى عشرة ركعة» . وهو الذي أمرهم به عمر في أول الأمر، ثم ضعفوا عن طول القيام، فجعلها عشرين على ما سنبينه. واختلفت الرواية فيما كان يصلي به في زمن عمر: فروى مالك عن السائب بن يزيد: أن عمر بن الخطاب أمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. وقال: " وكان القارئ يقوم بالمائتين حتى كنا نعتمد على العِصِيِّ من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فُروعِ الفجر ". وهذه الرواية موافقة لقول عائشة رضي الله عنها. وقال مالك - في " مختصر ما ليس في المختصر " -: " والذي آخذ به في نفسي في قيام شهر رمضان الذي جمع عمر عليه الناس: إحدى عشرة ركعة بالوتر، وهي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وإحدى عشرة من ثلاث عشرة قريب ". وروى يزيد بن رومان: " أن عمر لما جمع الناس على أبي صلى بهم عشرين ركعة ". وروى مالك عن نافع قال: " أدركت الناس يقومون بتسع وثلاثين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ركعة، يوترون منها بثلاث ". قال مالك: " وهو الذي لم يزل عليه الناس، وهو الذي كان في زمن عثمان ". وروي أن أول من أمرهم به معاوية بن أبي سفيان. وروي أن عمر بن عبد العزيز أمر القراء يقومون بذلك. قال عبد الله بن أبي بكر: " وكنا ننصرف فنتعجل السحور خيفة الفجر ". قال مالك - في كتاب ابن شعبان -: " ويكره تأخير الختم إلى آخر رمضان ". وقال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل: " التراويح خمس ترويحات، كل ترويحة أربع ركعات بتسليمتين ". ووجه حديث يزيد بن رومان، ووجه ما اختاره مالك: اتفاق أهل المدينة عليه. وقد قال لنا بعض العلماء: إنما اختص أهل المدينة بهذا العدد؛ لأنهم أحبوا أن يساووا أهل مكة؛ لأن أهل مكة يطوفون سبعا بين كل ترويحتين، فجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 أهل المدينة مكان كل طواف أربع ركعات، فزادوا ست عشرة ركعة، وأوتروا بثلاث، فصار ذلك تسعا وثلاثين ركعة! ! قال: وليس لغير أهل المدينة أن يفعلوا ذلك؛ لأن أهل المدينة شرفوا بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره، فلهذا أرادوا مساواة أهل مكة؛ بخلاف غيرهم! وأجاب أصحابنا بجواب سديد تتفق عليه الأخبار، فقالوا: يحتمل أن يكون عمر أمرهم بإحدى عشرة ركعة، وأمرهم مع ذلك بطول القراءة؛ يقرأ القارئ بالمائتين في الركعة؛ لأن التطويل في القراءة أفضل الصلاة، فلما ضعف الناس عن ذلك؛ أمرهم بثلاث وعشرين ركعة تخفيفا من طول القيام، فاستدرك نقص الفضيلة بزيادة الركعات، فكان يقرأ بسورة البقرة في ثماني ركعات أو اثنتي عشرة ركعة - على حديث الأعرج -. ورواه مالك عن داود بن الحصين عن الأعرج قال: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. قال: " وكان القارئ يقرأ بسورة البقرة في ثماني ركعات، فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة؛ رأى الناس أنه قد خفف ". هذه الآثار الثلاثة رواها مالك في " موطئه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وقد قيل: إنه كان يقرأ من ثلاثين آية إلى عشرين، وكان الأمر على ذلك إلى يوم الحرة، فثقل عليهم القيام، فنقصوا من القراءة وزادوا في عدد الركعات، فجعلت ستا وثلاثين ركعة، والوتر بثلاث، فمضى الأمر على ذلك! وأمر عمر بن عبد العزيز في أيامه أن يقرأ في كل ركعة بعشر آيات. وكره مالك أن ينقص من ذلك أو تمد القراءة. وهذا الذي مضى عليه الأمر، واتفق عليه رأي الجماعة، فكان هو الأفضل لمعنى التخفيف. قال الشيخ أبو القاسم: " وهذا في الآيات الطوال، ويزيد على ذلك في الآيات الخفاف، وإنما هذا في الجماعات وفي المساجد، فأما المنفرد في خاصة نفسه؛ فإن استطاع أن يصلي بإحدى عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة بالمائتين؛ كان أفضل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت» ". 5 - فرع الفصل بين الترويحتين وجرت عادة الأئمة أن يفصلوا بين كل ترويحتين بركعتين خفيفتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 يصلونهما أفذاذا، إما لأنه أقرب إلى تصحيح عدد الركعات وأبعد من الغلط فيها، وإما أن يتمكن من فاتته ركعة مع الإمام من قضائها في تلك المدة. ويجوز لمن أراد أن يتنفل بين الترويحتين إذا أتم ركعتين وسلم، فإما أن يقف ويقرأ ينتظر الناس، فإذا قاموا؛ دخل معهم بإحرامه الأول، وأما بإحداث إحرام؛ فلا. 6 - فرع وهل يؤمهم في المصحف؟ كانت عائشة يؤمها غلام لها في المصحف. قال الزهري: " كان خيارنا يقرؤون في المصحف، ولم يزل الناس يفعلون ذلك منذ كان الإسلام ". وبه قال ابن سيرين، ويحيى بن سعيد، والليث. وأباه ابن المسيب، وقال: " يصلي بما كان معه، ويعيد، ولا يقرأ في المصحف ". وبه قال الحسن؛ قال: " لا يقرأ في المصحف؛ كما يفعل اليهود والنصارى ". وفي كتاب ابن شعبان؛ قال: " لا يصلي الحافظ خلف القارئ في المصحف في شهر رمضان ". قال: " ويؤم الذي يحفظ شيئا من السور الطوال، أو يحفظ المفصل؛ يردد ذلك في شهر رمضان: أحب إلي من أن يؤمهم الذي لا يحفظ ويقرأ في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 المصحف، فإن كان إنما يحفظ السورة الواحدة؛ فالذي يقرأ في المصحف أحب إلينا ". قال: " وقد قيل: يؤمهم في شهر رمضان في المصحف ". ومن تعايا عن القراءة في تنفله؛ تفكر قليلا، فإن تذكر، وإلا خطرف ذلك، وابتدأ سورة أخرى، ولا يسلم. 7 - فصل [القنوت] وأما القنوت - وهو لعن الكفرة في رمضان -؛ فعن مالك فيه روايتان: قال في " المدونة ": " وليس العمل على القنوت في رمضان؛ لا في أوله، ولا في آخره، ولا في نافلة، ولا في الوتر أصلا ". هذه رواية ابن القاسم وعلي بن زياد. وروى ابن وهب وابن حبيب عن مالك: " أن ذلك مستحب في النصف الآخر من رمضان، فيقنت الإمام؛ يلعن الكفرة، ويؤمن من خلفه ". وبه قال ابن عمر، ومعاذ، وجماعة من التابعين. وروى محمد بن يحيى عن مالك في " المدونة " أنه قال: " يلعن الكفرة في رمضان إذا أوتر الناس، فصلى الركعتين، ثم قام في الثالثة، فركع، فإذا رفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 رأسه من الركوع؛ وقف يدعو على الكفرة ويلعنهم ويستنصر للمسلمين، ويدعو مع ذلك بشيء خفيف غير كثير، وكان للإمام دعاء معروف يجهر به كما يجهر بالقراءة، وإنه لحسن، وهو أمر محدث لم يكن في زمان أبي بكر وعمر وعثمان ". قال ابن القاسم: " كان مالك ينكره إنكارا شديدا ". قال: " ولا أرى أن يعمل به ". قال محمد بن يحيى عن مالك: " كان الناس يدعون به ليلة خمس عشرة من الشهر ". وقال أبو حنيفة وأحمد: " يستحب القنوت في الوتر في جميع السنة ". وقال الشافعي: " يستحب في النصف الآخر من شهر رمضان ". واحتج أبو حنيفة بما روى أبي بن كعب قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ويقنت في الثالثة قبل الركوع» . ووجه من اختاره في النصف الآخر ما روي: " أن أبيا صلى بالناس في النصف الأول فلم يقنت، ثم مرض، فصلى مكانه معاذ، فقنت ". وروي " أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يقوم بهم عشرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ليلة، ولا يقنت إلا في النصف الثاني ". فحصل الاتفاق منهما، ومن سائر الصحابة الذين لم ينكروا على واحد منهما، على أن القنوت مشروع في النصف الآخر كما اختص بالركعة الأخيرة من صلاة الصبح. ووجه الرواية الثانية ما قاله مالك؛ أن هذا الأمر لم يدرك العمل عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بالمدينة، ولأنها صلاة وتر، فلم يكن القنوت مشروعا فيها كالمغرب. فأما ما احتج به أبو حنيفة، فقال أبو داود: " خبر القنوت في هذا الحديث ليس بصحيح "، وعلى أنا نخصه بما ذكرنا. فهذه جمل من أحكام قيام رمضان، ومنشئها، ومستقرها، وما روي فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وسائر الأئمة الراشدين على ما رواه مالك والبخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وسائر مصنفات المسلمين ودواوينهم الفقهية، لم يرووا في شيء من ذلك ما أحدثه الناس من هذه البدع؛ من نصب المنابر عند ختم القرآن، والقصص، والدعاء، بل قد حفظ عنهم النهي عن ذلك على ما رويناه. 8 - فصل [ختم القرآن] فأما ما أحدثه الناس من الخطب في أعقاب الختم؛ فقال مالك: " ليس ختم القرآن بسنة لقيام رمضان ". وأنكر مالك والأئمة أن يقرأ أحدهم في غير الموضع الذي انتهى إليه الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقال مالك في " المدونة ": " الأمر في رمضان الصلاة، وليس بالقصص بالدعاء ". فتأملوا - رحمكم الله -، فقد نهى مالك أن يقص أحد في رمضان بالدعاء، وحَكَى أن الأمر المعمول به في المدينة إنما هو الصلاة من غير قصص ولا دعاء. وروى محمد بن أحمد في " المستخرجة " عن ابن القاسم؛ قال: " سئل مالك عن الذي يقرأ القرآن فيختمه ثم يدعو؟ فقال: ما سمعت أنه يدعى عند ختم القرآن، وما هو من عمل الناس ". وهذه المسألة ذكرها ابن شعبان عن مالك أيضا في " مختصر ما ليس في المختصر "، وذكرها الشيخ أبو الحسن القابسي بالقيروان في " الكتاب الممهد "، وقد كانت القيروان دار العلم بالمغرب، ولم يكن في عصره من فقهاء المغرب أعلم منه. وأعظم من هذا مسألة قالها مالك في " مختصر ما ليس في المختصر "؛ قال مالك: " لا بأس أن يجتمع القوم في القراءة عند من يقرئهم أو يفتح على كل واحد منهم فيما يقرأ ". قال: " ويكره الدعاء بعد فراغهم ". وهذا غاية ما يكون في إنكار الأمور المحدثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 قال: وروى ابن القاسم أيضا عن مالك: " أن أبا سلمة بن عبد الرحمن رأى رجلا قائما عند المنبر يدعو ويرفع يديه، فأنكر، وقال: لا تقلص تقليص اليهود " قال مالك: " التقليص: رفع الصوت بالدعاء ورفع اليدين ". وروى ابن القاسم أيضا؛ قال: " سئل مالك عما يعمل الناس من الدعاء حين يدخلون المسجد وحين يخرجون ووقوفهم عند ذلك؟ فقال: هذا من البدع، وأنكر ذلك إنكارا شديدا ". قال بعض أصحابنا: إنما عنى بهذا: الوقوف للدعاء، فأما عند دخوله وخروجه ماشيا؛ فحسن جائز، وقد وردت فيه آثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: " وسئل عن التكبير خلف الصلوات بأرض العدو؟ فقال: ما سمعته، إنما هو شيء أحدثه المسودة. قيل له: إن بعض البلدان يكبرون دبر المغرب والصبح؟ فقال: هذا مما أحدثوه ". وسئل مالك عن الرجل يدعو خلف الصلاة قائما؟ فقال: " ليس بصواب، ولا أحب لأحد أن يفعله ". 9 - فصل في توجيه هذا الأصل اعلم أن الحرف الذي يدور عليه هذا المذهب إنما هو حماية الذرائع، وألا يزاد في الفروض ولا في السنن المسننة، وألا يعتقد أيضا في النوافل المبتدأة أنها سنن مؤقتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وهذا الأصل؛ كل من أباه في الجملة قد قال به في التفصيل فنذكر أولا موافقة أبي حنيفة والشافعي لمالك في هذا الأصل: فمن ذلك أن مالكا كره صيام ست من شوال، ووافقه أبو حنيفة، فقال: " لا أستحب صيامها "، وخالفهما الشافعي، فقال: " يستحب صيامها "! والحديث منصوص فيه، رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صام رمضان وأتبعه بست من شوال؛ فكأنه صام الدهر» . ولا حجة لمالك وأبي حنيفة إلا أنهما قالا: " التزام هذا يؤدي إلى الزيادة في الفروض، فيجيء الأعراب، وينشأ الأطفال، فإن رأوا الأسلاف والعموم يداومون على صومه؛ اعتقدوه فرضا "! وعلى هذا المنهاج تدرج صوم النصارى حتى صار خمسين يوما، وذلك أن الله تعالى فرض عليهم صوم شهر رمضان، وذلك بين في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، فأقاموا عليه برهة من دهرهم، فاشتد عليهم؛ لأنه ربما أتاهم في الحر الشديد، أو في البرد الشديد، فيضرهم في أسفارهم ومعايشهم، فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف! فجعلوه في الربيع، وزادوا فيه عشرة أيام؛ كفارة لما صنعوا، فصار أربعين يوما! ! ثم اشتكى ملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 لهم، فجعل لله عليه إن برئ من مرضه في صومه أسبوعا، فبرئ، فزادوه، ثم مات، فوليهم آخر، فقال: لو أكملتموه خمسين يوما! قال الحسن والشعبي وجماعة من العلماء: " وعلى هذا دل حديث عثمان في الإتمام في السفر ". وقد بيناه. وأما الشافعي؛ فقد وافق مالكا في أن الأضحية سنة، وخالفهما أبو حنيفة، وقال: " واجبة ". واحتج أصحاب مالك والشافعي جميعا بالأسلوب الذي ذكرناه في الباب الثالث؛ من ترك أبي بكر وعمر وجابر وابن عباس الأضحية؛ مخافة أن يرى الناس أنها واجبة! وهؤلاء الأئمة الثلاثة - وهم أثافي الإسلام - تركوا سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم لا يجوز أن نترك الخطب ونصب المنابر عند الختم في رمضان؛ خوفا من أن يظن الناس أن الخطبة عقيب الختم في رمضان سنة ثابتة عند هذين الشيئين - أعني: الختم والصوم -، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما سن قيامه وتلاوة القرآن فيه على هذا الوجه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وهكذا ذكر ابن شعبان في كتابه عند ذكره جملا من هذه الأمور المحدثة؛ قال: " ... إنما كرهه مالك؛ خيفة أن يلحق بما يجب فعله حتى يتخذ أمرا ماضيا ". وما لنا نقدر ذلك؟ ! بل قد وجدنا ما كنا نحذر! فأكثر المسلمين اليوم يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما شرع قيام رمضان على هذا الوجه، وأن ترك ذلك بدعة، مع القطع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجمع في رمضان إلا ليلتين، ولم ينقل أحد من المسلمين عدد الركوع، ولا دعاء، ولا خطبة. وقد بيناه. وهذا المذهب أيسر؛ لأنه ليس فيه ترك سنة، وفي ترك صيام ست من شوال وترك الأضحية ترك السنن، فهو بالإنكار أحق. فإن خالفنا أحد من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، ممن لا يطلع على أسرار المذهب وأغوار الأصول ولم يتحقق بالكليات، وإنما نظر في الأطراف والجزئيات، فقال: إن هذا ذكر لله تعالى، وتحميد، وثناء، ودعاء، واجتماع من المسلمين على طاعة الله، وفيه إظهار شعائر الإسلام؛ فينبغي أن يكون مشروعا مستحبا كنفس القيام! فالجواب أن نقول: هذا منقوص بما لا قبل لكم به: منها صيام ست من شوال على أصل أبي حنيفة، وترك الأضحية على أصل الشافعي؛ فإن هذه قرب وطاعات، ومناسك وعبادات، ثم كان تركها - عند خوف البدعة - خيرا من فعلها. ثم نقول: الذكر والثناء قد يكون استحبابه مشروطا بشروط؛ كما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الصيام والأضحية، وكما أن قراءة القرآن في الركوع والسجود والتشهد بدعة، وإن كان على غير هذا الوجه قربة. وينتقض بالخطبة والدعاء صبيحة الختم بالنهار، فلو أنه ختم بالليل ثم نصب كرسيه واختطب ودعا بالنهار؛ لكان مبتدعا! وإن كان ذكرا لله تعالى ودعاء! وينتقض بالخطبة والدعاء في آخر الشهر؛ فإن الناس لو نصبوا الكراسي واختطبوا ودعوا في أول ليلة من رمضان، وحضوا المسلمين على صيامه وقيامه والتشمير للعبادة في ليله ونهاره؛ لكان مبتدعا منهيا عنه! وهذا أشبه مما صرتم إليه؛ فإن الناس في أول الشهر أحوج إلى الخطبة والدعاء والتنبيه على خدمة مولاهم في هذا الشهر منهم إلى ذلك في آخره. ويشهد لذلك أيضا أصول الشرع: ألا ترى أن يوم الفطر والأضحى إنما شرعت الخطبة فيهما في أول النهار، فيختطب في صبيحة الأضحى، فيعلم الناس أمر مناسكهم وضحاياهم وقربانهم، ثم لو فعل ذلك في أول الشهر لم يجز، كذلك في آخره؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 10 - فصل [شيعوعة الفعل لا تدل على جوازه] في الكلام على فريق من العامة وأهل التقليد قالوا: إن هذا الأمر شائع ذائع في أقاليم أهل الإسلام وأقطار أهل الأرض، حتى قال بعض الأغبياء: إن القيروان كانت دار العلم بالمغرب، ولم يزل هذا الأمر بها فاشيا، لا منكر له! ! فالجواب أن نقول: شيعوعة الفعل وانتشاره لا يدل على جوازه؛ كما أن كتمه لا يدل على منعه. ألا ترى أن بيع الباقلاء في قشرته شائع في أقطار أهل الإسلام وعند الشافعي لا يجوز؟ والاستئجار على الحج شائع في بلاد أهل الإسلام وعند أبي حنيفة لا يجوز؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 واقتعاط العمائم شائع في أهل الإسلام، وهو بدعة منكرة. والاقتعاط: هو التعميم دون الحنك: نظر مجاهد رجلا قد اعتم ولم يتحنك، فقال: " اقتعاط كاقتعاط الشيطان؟ ! ". فهي عمامة الشيطان، وهذه كانت عمائم قوم لوط أصحاب المؤتفكات. وروى أبو بكر محمد بن يحيى الصولي في " غريب الحديث ": " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط ". يقال للعمامة إذا لاثها على رأسه ولم يجعلها تحت حنكه: اقتعطها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وهو المنهي عنه، وإذا أدارها تحت حنكه؛ يقال: تلحاها، وهو المأمور. وإسبال الثوب تحت الكعبين شائع في بلاد أهل الإسلام، وهو حرام لا يجوز؟ والتقنع بالثوب على الرأس شائع في بلاد المغرب، وهم أتباع مالك بن أنس، وقد سئل مالك عن التقنع؟ فقال: " أما لحر، أو لبرد أو لغيره من العذر؛ فلا بأس به، وأما لغير ذلك؛ فلا ". قال: " وكان أبو النضر يلزمه لحر يجده ". قال: " ورأت سكينة - أو فاطمة - بنت الحسين بعض ولدها مقنعا رأسه، فقالت: اكشف القناع عن رأسك؛ فإن التقنع ريبة بالليل، ومذلة بالنهار ". قال مالك: " وأنا أكرهه لغير عذر، وما علمته حراما، ولكنه ليس من لباس خيار الناس ". فهذه بدعة منكرة كما ترى، قد صارت سنة في خيار الناس اليوم، وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: " ما دخلت الخلاء مذ أسلمت إلا مقنعا رأسي حياء من ربي ". وأكثر أفعال أهل زمانك على غير السنة، وكيف لا وقد روينا قول أبي الدرداء إذ دخل على أم الدرداء مغضبا، فقالت له: مالك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ إلا أنهم يصلون جميعا، وما روينا هنالك من الآثار! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فإنه لم يبق فيهم من السنة إلا الصلاة في جماعة، كيف لا تكون معظم أمورهم محدثات؟ ! وأما من تعلق بفعل أهل القيروان؛ فهذا غبي يستدعي الأدب دون المراجعة! فنقول لهؤلاء الأغبياء: إن مالك بن أنس رأى إجماع أهل المدينة حجة، فرده عليه سائر فقهاء الأمصار، هذا وهو بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرصة الوحي، ودار النبوة، ومعدن العلم، فكيف بالقيروان؟ ! وأيضا؛ فإنما كان يكون فيه متعلق لو نقلتم عن علماء القيروان أنهم أفتوا بهذا؛ لأن الاقتداء إنما يكون بالعلماء لا بالعوام، وهذا ما لا ينقلونه أبدا، وإنما كان يفعله العوام والغوغاء، فإنكارنا عليهم كإنكارنا عليكم. والدليل على هذا أن الفتيا بالقيروان إنما كانت على مذهب أهل المدينة، وقد كان القوم من أشد الناس تمسكا بمذهب مالك، فكان علماؤنا إنما يقومون في رمضان في بيوتهم؛ لقول مالك: " قيام الرجل في بيته لمن قوي عليه أحب إلي "، وكان الغالب عليهم الورع والاتباع، وقد قال لهم في " المدونة ": " ليس الشأن في رمضان القصص بالدعاء "، فيبعد من حالهم أن يحدثوا هذه البدعة، وينصبوا المنابر، ويخطبوا عند الختم! ولو كان هذا؛ لشاع وانتشر، وكان يضبطه طلبة العلم، والخلف عن السلف، فيصل ذلك إلى عصرنا، فلما لم ينقل هذا أحد ممن يعتقد علمه، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ممن هو في عداد العلماء؛ علم أن هذه حكاية العوام والغوغاء. ثم يقال لهم: بم تنفصلون ممن يعارضكم بشكل آخر من جنسه، فيقول لكم: إن قرطبة أعظم من القيروان، وهي دار العلم والخلافة - فقد فضلت القيروان بالخلافة -، ثم لم يعهد فيها قط خطبة ولا منبر ولا دعاء ولا اجتماع عند ختم القرآن في رمضان؟ فإن قيل: فهل يأثم فاعل ذلك؟ فالجواب أن يقال: أما إن كان ذلك على وجه السلامة من اللغط، ولم يكن إلا الرجال، أو الرجال والنساء منفردين بعضهم عن بعض، يستمعون الذكر، ولم تنتهك فيه شعائر الرحمن؛ فهذه البدعة التي كرهها مالك. وأما إن كان على الوجه الذي يجري في هذا الزمان؛ من اختلاط الرجال والنساء، ومضامة أجسامهم، ومزاحمة من في قلبه مرض من أهل الريبة، ومعانقة بعضهم لبعض - كما حكي لنا أن رجلا وجد يطأ امرأة وهم وقوف في زحام الناس! وحكت لنا امرأة أن رجلا واقعها فما حال بينهما إلا الثياب! وأمثال ذلك من الفسق واللغط -؛ فهذا فسوق، فيفسق الذي يكون سببا لاجتماعهم. فإن قيل: أليس روى عبد الرزاق في " التفسير ": " أن أنس بن مالك كان إذا أراد أن يختم القرآن جمع أهله "؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 قلنا: فهذا هو الحجة عليكم؛ فإنه كان يصلي في بيته، ويجمع أهله عند الختم، فأين هذا من نصبكم المنابر، وتلفيق الخطب على رؤوس الأشهاد، فيختلط الرجال والنساء والصبيان والغوغاء، وتكثر الزعقات والصياح، ويختلط الأمر، ويذهب بهاء الإسلام ووقار الإيمان؟ ! وأيضا؛ فإنه ما روي أنه دعا، وإنما جمع أهله فحسب. وأيضا؛ فإن عمر سمع رجلا يقول: واحبذا صفرة ماء ذراعيها! لماء كانت قد توضأت به امرأة فبقي من أثر الزعفران، فعلاه بالدرة. وروي أنه نهى أن يجلس الرجل في مجلس المرأة عقيب قيامها منه. فكل من قال بأصل الذرائع؛ يلزمه القول بهذا الفرع، ومن أبى أصل الذرائع من العلماء؛ يلزمه إنكاره؛ لما يجري فيه من اختلاط الرجال والنساء. 11 - فصل في بيان الوجه الذي يدخل منه الفساد على عامة المسلمين روى مسلم في " الصحيح " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم؛ اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فتدبر هذا الحديث؛ فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم؛ أفتى من ليس بعالم، فيؤتى الناس من قبله. وقد صرف عمر هذا المعنى تصريفا، فقال: " ما خان أمين قط، ولكنه اؤتمن غير أمين فخان ". ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط، ولكنه استفتي من ليس بعالم؛ فضل وأضل. وكذلك فعل ربيعة؛ قال مالك: " بكى ربيعة يوما بكاء شديدا، فقيل له: أمصيبة نزلت بك؟ فقال: لا، ولكنه استفتي من لا علم عنده ". وروى البخاري في " صحيحه " عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 صلى الله عليه وسلم: «قبل الساعة سنون خداعات، يصدق فيهن الكاذب، ويكذب فيهن الصادق، ويخون فيهن الأمين، ويؤتمن الخائن، وينطق فيهن الرويبضه» . قال أبو عبيد: " هو الرجل التافه الخسيس ينطق في الأمور العامة ". وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " قدعلمت متى يهلك الناس: إذا جاء الفقه من قبل الصغير؛ استعص عليه الكبير، وإذا جاء الفقه من قبل الكبير؛ تابعه الصغير، فاهتديا ". وقال عبد الله بن مسعود: لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم؛ هلكوا. وتناقش العلماء فيما أراد عمر بالصغار: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فأما عبد الله بن المبارك؛ فقال: " الأصاغر: هم أهل البدع ". قال أبو بكر بن ثابت الخطيب الحافظ: " إنما أراد به صغير السن، وفي هذا ندب إلى التعليم في الصغر؛ مثل قول عمر أيضا: تفقهوا قبل أن تُسَوَّدوا؛ أي: إن لم تتعلموا تسودوا؛ استحييتم من التعليم، فأخذتم العلم عن صغاركم ". وأما أستاذنا القاضي أبو الوليد؛ فقال: " يحتمل أن يكون معنى الأصاغر: من لا علم عنده، وقد كان عمر بن الخطاب يستشير الصغار، وقد كان القراء أصحاب مشورته؛ كهولا كانوا أو شبابا، ويحتمل أن يريد بالأصاغر من لا قدر له ولا حال، ولا يكون ذلك إلا بنبذ الدين والمروءة، فأما من التزمهما؛ فلا بد أن يسمو أمره ويعظم قدره ". وقد روي عن مكحول أن قال: " تفقه الرعاع فساد الدنيا، وتفقه السِّفْلَةِ فساد الدين ". وقال الفريابي: " كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلاء النبط يكتبون العلم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 تغير وجهه! فقلت له: يا أبا عبد الله! أراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتد عليك؟ ! فقال: كان العلم في العرب وفي سادة الناس، فإذا خرج عنهم وصار إلى هؤلاء - يعني: النبط والسفلة -؛ غير الدين ". وقال سفيان: " كانوا يتعوذون بالله من شر فتنة العالم، ومن شر فتنة العابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ". وقال وهب بن منبه: " جمع المال وغشيان السلطان لا يبقيان من حسنات المرء إلا كما يبقي ذئبان جائعان سقطا في حظار فيه غنم، فباتا يجوسان حتى أصبحا ". وقال سفيان الثوري: " كان خيار الناس وأشرافهم الذين يقومون إلى هؤلاء الأمراء فيأمرونهم وينهونهم، وكان آخرون يلزمون بيوتهم، فكان لا ينتفع بهم ولا يذكرون، ثم بقينا حتى صار الذين يأتونهم فيأمرونهم شرار الناس، والذين لزموا بيوتهم خيار الناس ". وقال محمد بن سحنون: " كان لبعض أهل العلم أخ يأتي القاضي والوالي بالليل، ويسلم عليهما، فبلغه ذلك، فكتب إليه: أما بعد؛ فإن الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 يراك بالنهار يراك بالليل، وهذا آخر كتاب أكتبه إليك ". قال محمد: " فعرضته على سحنون، فأعجبه، وقال: ما أسمجه بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه، فلا يوجد فيه، فيقال: إنه عند الأمير ". وقال سحنون: " إذا أتى الرجل مجلس القاضي ثلاثة أيام متواليات من غير حاجة؛ فينبغي ألا تقبل شهادته ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الباب الرابع في نقل غرائب البدع وإنكار العلماء لها 1 - [فصل: القراءة بالألحان] فمن ذلك البدع المحدثة في الكتاب العزيز من الألحان والتطريب: قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} ؛ يعني: فصله تفصيلا، وبينه تبيينا، وترسل فيه ترسيلا، ولا تعجل في قراءته، وهو من قول العرب: ثغر رتل ورتل؛ إذا كان مفلجا ذا فرج. قال مالك: " ولا تعجبني القراءة بالألحان، ولا أحبها في رمضان ولا في غيره؛ لأنه يشبه الغناء، ويضحك بالقرآن، فيقال: فلان أقرأ من فلان ". وبلغني أن الجواري يعلمن ذلك كما يعلمن الغناء! أترى هذا من القراءة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 التي كان يقرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! وكذلك سعيد بن المسيب نهى عمر بن عبد العزيز وقد سمعه يطرب، فأرسل إليه سعيد، فنهاه عن التطريب، فانتهى. وقال إبراهيم النخعي: " كانوا يكرهون القراءة بتطريب، وكانوا إذا قرؤوا القرآن؛ قرؤوا حدرا مرسلا بحزن ". وقال عبد الله بن عمرو: يقال للقارئ يوم القيامة: اقرأ، واقرأ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا. وقال حذيفة: " إذا قرأتم القرآن؛ فاقرؤوه بحزن، ولا تجفوا عنه، وتعاهدوه، ورتلوه ترتيلا ". وقال محمد ابن سيرين: " أصوات القرآن محدثة ". وقال كعب: " ليقرأن القرآن أقوام هم أحسن أصواتا من العازفات بعزفهن، ومن حداة الإبل لإبلهم؛ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ". وقال أبو ذر: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف على أمته قوما يتخذون القرآن مزامير؛ يقدمون الرجل يؤمهم، ليس بأفقههم؛ إلا ليغنيهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: " سمعت أبي وقد سئل عن القراءة بالألحان؟ فقال: محدث ". وقال سلمان: " خطبنا علي يوما ... "، فذكر خطبة له طويلة، وذكر فيها فتنة قربها، وقال فيها: " ... تضيع حقوق الرحمن، ويتغنى بالقرآن ذو الطرب والألحان ". فأما أصحاب الألحان؛ فإنما حدثوا في القرن الرابع؛ منهم: محمد بن سعيد صاحب الألحان، والكرماني، والهيثم، وأبان ... فكانوا مهجورين عند العلماء، فنقلوا القراءة إلى أوضاع لحون الأغاني، فمدوا المقصور، وقصروا الممدود، وحركوا الساكن، وسكنوا المتحرك، وزادوا في الحرف، ونقصوا منه، وجزموا المتحرك، وحركوا المجزوم؛ لاستيفاء نغمات الأغاني المطربة. ثم اشتقوا لها أسماء، فقالوا: شذر، ونبر، وتفريق، وتعليق، وهز، وخز، وزمر، وزجر، وحذف، وتشريق، وإسجاح، وصياح! ثم يقولون: مخرج هذا الحرف من الأنف، وهذا من الرأس، وهذا من الصدر، وهذا من الشدق! فما خرج من القحف؛ فهو صياح، وما خرج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الجبهة؛ فهو زجر، وما خرج من اللهوات؛ فهو نبر، وما خرج من الأنف؛ فهو زمر، وما خرج من الحلق؛ فهو خرير وشذر، وما خرج من الصدر؛ فهو هرير! وسموها لحونا، ثم جعلوا لكل لحن منها اسما مخترعا، فقالوا: اللحن الصقلبي، فإذا قرؤوا قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يرقصون في هذه الآية كرقص الصقالبة بأرجلها وفيها الخلاخيل، ويصفقون بأيديهم على إيقاع الأرجل، ويرجعون الأصوات بما يشبه تصفيق الأيدي ورقص الأرجل، كل ذلك على نغمات متوازنة! ! ومن ذلك الرهب: أن نظروا إلى كل موضع في القرآن فيه ذكر المسيح؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} ، وكقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} ، فمثلوا أصواتهم فيه بأصوات النصارى والرهبان والأساقفة في الكنائس! ومن ألحانهم في القرآن: النبطي، والرومي، والحساني، والمكي، والإسكندراني، والمصري، والكاروندي، والراعي، والديباجي، والياقوتي، والعروسي، والزرجون، والمرجي، والمجوسي، والزنجي، والمنمنم، والسندي، وغيرها؛ كرهنا ذكر التطويل بها. فهذه أسماء ابتدعوها في كتاب الله تعالى {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فالتالي منهم والسامع لا يقصدون فهم معانيه؛ من أمر، أو نهي، أو وعد، أو وعيد، أو وعظ، أو تخويف، أو ضرب مثل، أو اقتضاء حكم، أو غير ذلك مما أنزل به القرآن، وإنما للذة، والطرب، والنغمات، والألحان؛ كنقر الأوتار، وأصوات المزامير؛ كما قال الله عز وجل يذم قريشا: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} . وإنما أنزل القرآن لتتدبر آياته وتفهم معانيه: قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} . وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} . وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} . وهذا يمنع أن يقرأ بالألحان المطربة والمشبهة للأغاني؛ لأن ذلك يثمر ضد الخشوع، ونقيض الخوف والوجل. وقوله تعالى فيهم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} . وهذا يفيد الأمر بتلاوته على هذا الوجه، وأن بكاءهم إنما كان مما فهموا من معانيه، لا من نغمات القارئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فأين هذا من دق الرجل، وثني العطف، وتحريك الرأس، والصياح، والزعق، والمكاء، والتصدية؟ ! قال الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . فليت شعري! ما الذي يورث خشية الله تعالى؟ ! أألحان الكرماني ونغمات الترمذي، أو فهم معانيه، وتدبر آياته، واستخلاص حكمه وعجائب مضمونه؟ ! قال بهز بن حكيم: " صليت خلف زرارة بن أوفى، فقرأ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} ، فخر ميتا، فكنت ممن حمله ". وقال أبو الربيع إدريس الخولاني: " كان أبو بكر البصري قد أوتي الحزن وحسن الصوت، وقراءته تقع على القلب من فضله، وكان يأتي إلى الليث بن سعد فيقرأ عنده، ويبكي الليث وأصحابه، ويقول الليث: لقد جعل الله لقراءته سلطانا على الأعين ". وقرأ رجل عند عمر بن الخطاب: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، حتى إذا بلغ: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} ؛ قال عمر: " بهذا جرى الحديث ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وإنما كان همه في معنى الآية، لا في ترجيع ونغمة. قال ابن أبي عبلة: " كانت أم الدرداء تأتينا من دمشق إلى بيت المقدس على بغلة لها، فإذا مرت بالجبال؛ تقول لقائدها: أسمع الجبال ما وعدها ربها، فيرفع صوته بهذه الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} ". وروى مالك قال: " قيل لزيد بن ثابت: كيف ترى في قراءة القرآن في سبع؟ فقال: حسن، ولأن أقرأه في نصف شهر أو عشرين أحب إلي، وسلني: لم ذلك؟ قال: فإني أسألك؟ قال: كي أتدبره وأقف عليه ". 2 - فصل في معنى الألحان قد ذكرنا أن مالكا كره القراءة بالألحان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 قال مالك: " ولا يعجبني النبر والهمز في القراءة ". وقال نافع بن أبي نعيم: " سمعت عبد الله بن هرمز يسأل عن النبر في القراءة؟ فقال: إن كانت العرب تنبر؛ فإن القرآن أحق أن ينبر ". وقال محمد بن جعفر: " نهيت عن نبر القرآن في النوم ". ومعنى هذا أن يمطط الحروف، ويفرط في المد، ويشبع الحركات حتى تصير حروفا؛ فإنه متى أشبع حركة الفتح؛ صارت ألفا، وإن أشبع حركة الضم صارت واوا، وإن أشبع حركة الكسر؛ صارت ياء! وأعظم من هذا أن الحرف الذي فيه واو واحدة تصير واوات كثيرة، ويكون في الحرف ألف واحد فيجعلونه ألفات كثيرة، وكذلك كل حرف من الآية يزيد فيه من الحروف بحسب ما تحتاج إليه نغمته ولحنه، فيزيل الحرف عن معناه، فتلحق الزيادة والنقصان على حسب النغمات والألحان، فلا تخلو من زيادة أو نقصان، وهذا أمر ليس في كلام العرب، ولا تعرفه الفصحاء والشعراء إذا ثبت هذا. واختلف قول الشافعي في هذا الأصل: فروى عنه المزني: " ولا بأس بالقراءة بالألحان وتحسين الصوت ". وروى عنه الربيع بن سليمان الجيزي أنه كره القراءة بالألحان. واحتجوا لهذه المقالة - أعني: قول المزني - بضروب من الحجج: منها قوله عليه السلام: «حسنوا أصواتكم بالقرآن» ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قلنا: لا حجة فيه؛ فإن التحسين أن يقرأه ترتيلا وحدرا وتحزينا، وقد بينا معنى الترتيل، فتكون آية الترتيل مفسرة. واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن» ! هذا لفظ " الصحيح ". وقد روي: « ... لنبي حسن الترنم بالقرآن» . والجواب: " ما أذن ": معناه: استمع، قال الله عز وجل: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} ؛ أي: استمعت. وقال الناظم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 أيها القلب تعلل بددن ... إن قلبي في سماع وأذن وروى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» . قلنا: لفظ التغني يحتمل ثلاثة معان: أحدها: الاستغناء. وهكذا رواه البخاري عن سفيان مفسرا، فقال: " قال سفيان: يستغني به ". وهكذا فسره أبو عبيد، فقال: " هو من الاستغناء ". وقد جاء في اللغة: يتغنى؛ بمعنى: يستغني؛ قال الناظم: وكنت امرءا زمنا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغني وروى الكسائي عن امرأة من العرب وقد سئلت عن أعنز عجاف في بيتها، فقالت: " نتغنى بها ". وروى ابن وهب في " موطئه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس! تعلَّموا!» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 «إن الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي الوسطي، ويد المعطى السفلى، فتغنوا ولو بجرم الحشف. اللهم هل بلغت؟» ؛ ثلاثا. وهذا واضح في صحة قول سفيان. والقول الثاني: أن المراد به الجهر، حكى أبو سليمان الخطابي: يتغنى؛ إذا أعلى صوته، وزعم أن رجلا منهم قال لآخر: غن يا ابن أخي! يقول: سل حاجتك، وارفع صوتك. والثالث: تحسين الصوت. فعلى هذا نقول بموجبه: فإنا نستحب تحسين الصوت، وهو الترتيل والحدر والتحزن. واستدلوا بما رواه البخاري؛ قال: «سئل أنس: كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان يمد مدا. ثم قرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) ؛ يمد (بسم الله) ، ويمد (الرحمن) ، ويمد (الرحيم) » . وقال عبد الله بن مُغَفَّلٍ: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته وهي تسير وهو يقرأ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 «من سورة الفتح قراءة لينة، يقرأ وهو يرجع» . وروى مسلم في " صحيحيه " عن معاوية بن قرة: «سمعت عبد الله بن مغفل يقول: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له سورة الفتح على راحلته، فرجع في قراءته» . قال معاوية: " لولا أني أخاف أن يجتمع علي الناس؛ لحكيت لكم قراءته "، وروى أنه كان يقرأ: " آآ آ ". فالجواب نقول: كل هذا حجة عليكم، إذ ليس فيه للألحان ذكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت قراءته ترتيلا. قالت عائشة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة، فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها» . وهذا هو المروي عن أكثر الصحابة، وهو نص القرآن. وقد سئل مالك عن الهذ في القراءة؟ فقال: " من الناس من إذا هذ؛ كان أخف عليه، وإذا رتل؛ أخطأ، ومن الناس من لا يحسن يهذ، والناس في ذلك على ما يخف عليهم، وذلك واسع ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قال القاضي أبو الوليد: " ومعنى هذا أنه يستحب لكل إنسان ملازمة ما يوافق طبعه ويخف عليه، فربما تكلف ما يخالف طبعه ويشق عليه، فيقطعه ذلك عن القراءة والإكثار منها، فأما من تساوى في حقه الأمران؛ فالترتيل أولى ". ورأيت أصحاب الشافعي يرفعون الخلاف ويجمعون بين قوليه، فقالوا: الموضع الذي قال: " لا بأس به ": إذا لم يمطط ويفرط في المد، والذي كرهه: إذا أفرط فيه على الوجه الذي بيناه. وأما الترجيع؛ فإن أراد به ترديد الكلمة؛ مثل أن يتلو آية تخويف أو تحزين فيرددها خوفا أو تخشعا؛ فلا بأس به. 3 - [فصل ما لا ينبغي في قراءة القرآن] وسئل مالك عن قراء مصر الذين يجتمع الناس إليهم، وكل رجل منهم يقرئ العُصبَة يفتح عليهم؟ قال: " إنه حسن لا بأس به ". وقد قال مرة: إنه كرهه وعابه، وقال: " يقرأ ذا ويقرأ ذا؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ". وأما أن يجتمع القوم، فيقرؤون في السورة مثل ما يعمل أهل الإسكندرية، وهو الذي يسمى القراءة بالإدارة؛ فكرهه مالك وقال: " هذا لم يكن من عمل الناس ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 قال القاضي أبو الوليد: " إنما كرهه للمجاراة في حفظه، والمباهاة بالتقدم فيه ". وأما القوم يجتمعون في المسجد أو غيره، فيقرأ لهم الرجل الحسن الصوت؛ فإنه ممنوع؛ قاله مالك؛ لأن القراءة مشروعة على وجه العبادة، والانفراد بذلك أولى، وإنما يقصد بهذا صرف وجوه الناس، والأكل به خاصة، ونوع من السؤال به، وهذا مما يجب تنزيه القرآن عنه. وأما قراءة القرآن في الطرق؛ فقد قال مالك في " العتبية ": " أما الشيء اليسير؛ فلا بأس به، وأما الذي يديم ذلك؛ فلا ". قال سحنون: " ولا بأس أن يقرأ الراكب والمضطجع ". قيل: فالرجل يخرج من قريته؛ أيقرأ ماشيا؟ قال: " نعم ". قيل فيخرج إلى السوق، فيقرأ في نفسه ماشيا؟ قال: " أكره أن يقرأ في السوق ". وسئل عن القراءة في الحمام؟ فقال: " ليس الحمام موضع قراءة، وإن قرأ الإنسان الآيات؛ فلا بأس بذلك ". 4 - فصل [التفقه في القرآن] ومما ابتدعه الناس في القرآن الاقتصار على حفظ حروفه؛ دون التفقه فيه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 روى مالك في " موطئه ": " أن عبد الله بن عمر مكث في سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها ". قال علماؤنا: معنى ذلك: أنه كان يتعلم فرائضها، وأحكامها، وحلالها، وحرامها، ووعدها، ووعيدها، وغير ذلك من أحكامها. وروي عن مالك في " العتبية " قال: " كتب إلى عمر بن الخطاب من العراق يخبرونه أن رجالا قد جمعوا كتاب الله تعالى، فكتب عمر: أن افرض لهم في الديوان. قال: فكثر من يطلب القرآن، فكتب إليه من قابل أنه قد جمع القرآن سبع مائة رجل. فقال عمر: إني لأخشى أن يسرعوا في القرآن قبل أن يتفقهوا في الدين. فكتب ألا يعطيهم شيئا ". قال مالك: " معناه: مخافة أن يتأولوه غير تأويله ". وهذا هو حال المقرئين في هذه الأعصر؛ فإنك تجد أحدهم يروي القرآن بمائة رواية، ويثقف حروفه تثقيف القدح، وهو أجهل الجاهلين بأحكامه، فلو سألته عن حقيقة النية في الوضوء، ومحلها، وعزوبها، ورفضها، وتفريقها على أعضاء الوضوء؛ لم يخرج جوابا، وهو يتلو عمره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} . بل لو سألته عن أول درجة، فقلت له: أمر الله تعالى على الوجوب هو؟ أم على الندب والاستحباب؟ أم على الوقف؟ أم على الإباحة؟ فطلبته بفهم هذه الدقائق ووجوهها وترتيبها؛ لم يجد جوابا! وسئل مالك عن صبي ابن سبع سنين جمع القرآن، فقال: " ما أرى هذا ينبغي ". وإنما وجه إنكاره ما تقرر في الصحابة من كراهة التسرع في حفظ القرآن دون التفقه فيه. ومن ذلك حديث مالك عن عبد الله بن مسعود: إنكم في زمان كثير فقاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يبدؤون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي زمان قليل فقاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يبدؤون أهوائهم قبل أعمالهم. وقال الحسن: " إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من قبل أوله؛ قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ، وما تدبر آياته إلا اتباعه بعلمه، أما والله ما هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن كله ما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما رئي القرآن له في خلق ولا عمل، وإن أحدهم ليقول: والله إني لأقرأ السورة في نفس [واحد] ، ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء الورعة، متى كان القراء يقولون مثل هذا؟ ! لا كثر الله في الناس مثل هذا ". قال الحسن: " ولقد قرأ القرآن ثلاثة نفر: فرجل قرأ القرآن، فأعده بضاعة؛ يطلب به ما عند الناس، من مصر إلى مصر. وقوم قرؤوا القرآن فثقفوه تثقيف القدح، فأقاموا حروفه، وضيعوا حدوده، واستدروا به ما عند الولاة، واستطالوا به على أهل بلادهم، وما أكثر هذا الصنف من حملة القرآن! لا كثر الله صنفهم تعالى ". قال: " ورجل قرأ القرآن، فبدأ بدواء ما يعلم من القرآن، فجعله على داء قلبه، فهملت عيناه، وسهر نومه، وتسربل الحزن، وارتدى الخشوع، فبهم يسقي الله الغيث، وينفي العدو، ويدفع البلاء، فوالله لهذا الضرب من حملة القرآن أقل في الناس من الكبريت الأحمر ". وقد قال الله تعالى فيمن يحفظ الكتب المنزلة من السماء ولا يعلم أحكامها وحلالها وحرامها: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 كانوا يحفظون التوراة ولا يعلمون ما استودع الله تعالى فيها من الحكم والعبر، فوصفهم الله تعالى بأنه ليس عندهم من ذلك إلا أماني، والأماني: التلاوة، واحدها: أمنية؛ قال الناظم: تمنى كتاب الله آخر ليلة ... تمني داود الزبور المنزلا وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} ، فشبه تالي القرآن من غير أن يفهمه كمثل الحمار يحمل أسفارا، وفيه وجهان: 1 - قال ابن عباس: " كلفوا العمل بها، فأقروا بها، ثم لم يعملوا بما فيها ". 2 - والثاني: أن هذا من الحمالة والضمان، لا من الحمل على الظهر؛ يقول: حملوا ما في التوراة، ثم لم يرضوا بها. {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} ؛ قال الفراء: " الأسفار: الكتب العظام، واحدها سفر، وهو مأخوذ من الإسفار، قال الله العظيم: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} ؛ لأن الكتاب يسفر عما استودعته فيه؛ فكما أن الحمار يحملها ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 يدري ما فيها، كذلك التوراة والإنجيل إذا دلتهم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم لم يقروا به، ولم يعملوا بما فيها من الدلالة على نبوته؛ لم ينفعهم حفظها. فدخل في عموم هذا من يحفظ القرآن من أهل ملتنا، ثم لا يفهمه، ولا يعمل بما فيه، وفيه قال الناظم: زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك لا يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر فبئس مثل القوم. وأيضا؛ فقد قال الله تعالى {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} . قال سفيان: " ليس في كتاب الله تعالى آية أشد علي من قوله تعالى {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} ، وإقامتها: فهمها والعمل بها ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 5 - [فصل كتابة القرآن] ومن ذلك ما روي في " المستخرجة "؛ قال: " كره مالك أن يكتب القرآن أسداسا وأسباعا في المصاحف، وشدد فيه الكراهية، وعابه ". قال: " قد جمعه الله تعالى، وهؤلاء يفرقونه ". قيل لمالك: هل يكتب في السورة عدة آيِهَا؟ فكره ذلك في أمهات المصاحف، وكره أن يشكل أو ينقط. فأما ما يتعلم فيه الصبيان وألواحهم؛ فلا بأس به. قيل لمالك: فما كتب اليوم من المصاحف؛ يكتب على ما أحكم الناس من الهجاء اليوم؟ قال: " لا، ولكن يكتب على الكتابة الأولى ". قال: " وبيان ذلك أن براءة لم يوجد في أولها: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، فتركت؛ لئلا يوضع شيء في غير موضعه، ويكتب في الألواح في أولها: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، سواء بدأ بأول [الـ] سورة أو غيره؛ لأنه لا يجعل إماما ". قيل لمالك: كيف قدمت السور الكبار في التأليف وقد نزل بعضه قبل بعض؟ قال: " أجل! ولكن أراهم إنما ألفوه على ما كانوا يسمعون من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 قال: " وكره مالك علم الأعشار في المصاحف بالحمرة ونحوه، وقال: يعشر بالحبر ". وقال غيره: أول من أحدث الأعشار والأخماس وكتب أوائل السور بالحمرة الحجاج بن يوسف. 6 - فصل فيما أحدث من الحوادث والبدع في المساجد فمن ذلك المحاريب: روى عبد الرزاق في: " مصنفه "؛ قال: " جاء الحسن إلى ثابت البناني يزوره، فحانت الصلاة، فقال: تقدم يا أبا سعيد. فقال الحسن: بل أنت تقدم. قال ثابت: والله لا أتقدمك أبدا. فتقدم الحسن واعتزل الطاق أن يصلي فيه ". قال: " وكره الصلاة في طاق الإمام: النخعي، وسفيان الثوري، وإبراهيم التيمي ". قال الضحاك بن مزاحم: " أول شرك كان في أهل الصلاة هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 المحاريب ". وصلى في طاق الإمام: سعيد بن جبير، ومعمر. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمرت بتشييد المساجد» . قال ابن عباس: أما والله لتزخرفنها. وروي «أن أبي بن كعب وأبا الدرداء ذرعا المسجد، ثم أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بالذراع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل عريش كعريش موسى: ثمام وخشب، فالأمر أعجل من ذلك» . وروى البخاري في " صحيحه " أن عمر أمر ببنيان مسجد، وقال: أكن الناس من المطر، إياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس! . وقال أيضا: أليس يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى. وقال أبو الدرداء: " إذا حليتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم؛ فالدبار عليكم ". وقال حوشب الطائي: " ما أساءت أمة أعمالها؛ إلا زخرفت مساجدها، ولا هلكت أمة قط؛ إلا من قبل علمائها ". وقال علي: " إن القوم إذا زينوا مساجدهم؛ فسدت أعمالهم ". وأصل الزخرف الذهب، وإنما يعني به تمويه المساجد بالذهب ونحوه، ومنه قولهم: زخرف الرجل كلامه؛ إذا موهه وزينه بالباطل. والمعنى في ذلك: أن اليهود والنصارى إنما زخرفوا المساجد عندما حرفوا وبدلوا وتركوا العمل بما في كتبهم، فأنتم تصيرون إلى مثل حالهم إذا طلبتم الدنيا بالدين، وتركتم الإخلاص بالعمل، فصار أمركم إلى المراءاة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 المساجد، والمباهاة بتشييدها وتزيينها. ومر ابن مسعود على مساجد منقشة بالكوفة، فقال: " من بنى هذا أنفق مال الله في معصيته ". وكان يقول: " سيأتي بعدكم قوم يرفعون الطين ويضعون الدين، ويسمنون البراذين، ويصلون في قبلتكم ". وروى ابن وهب عن مالك، قال: لقد كره الناس يوم بني المسجد حين عمل بالذهب والفسيفساء - يعني: الفصوص - ورأوا أن ذلك مما يشغل الإنسان في صلاته بالنظر إليه ". قال مالك: " وكان الوليد بن عبد الملك بنى المسجد بناء عجيبا ". قال ابن القاسم: " وسمعت مالكا يذكر مسجد المدينة وما عمل فيه من التزويق في قبلته، فقال: كره الناس ذلك حين فعله؛ لأنه يشغلهم بالنظر إليه. ولما ولي عمر بن عبد العزيز؛ أراد نزعه، فقيل له: إنه لا يخرج منه كبير شيء من الذهب، فتركه ". وروى سعيد بن عفير في " تاريخه ": " أن عمر بن عبد العزيز أمر بمسجد دمشق أن ينزع ما فيه من الفسيفساء ومذهبة، وبيعه، وإدخال ثمنه في بيت المال، فكلمه كبراء أهل دمشق، وأخبروه بما لقي المسلمون في بنائه مع الوليد السنين الطويلة، وحمل فسيفسائه من أرض الروم، فأمر أن تستر عجائبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بالكرابيس - يعني: ثياب القطن الغلاظ -؛ لئلا يلهي المصلي ". وإنما فعل ذلك حين حاجه الدمشقيون، فقال: " حمل الوليد من ذلك ما تحمل "! ثم بلغ عمر بن عبد العزيز أن بطريقا عظيما وفد من أرض رومية - دمرها الله - فلما نظر إلى مسجد دمشق - وكان قبل ذلك كنيسة -؛ هاله ذلك، وقال: ما كنا نتحدث بتعجيل دولتنا، والله ما رفع هذا البيت لنا ولا لغيرنا من ملوك الأرض وأهل القوة في إقبال الدنيا وعمارتها، ورفع لهم ذلك عند انقطاع من الدنيا وإذن في خرابها، وإن لهم لدولة مدة طويلة. فبلغ مقالته عمر بن عبد العزيز، فقال: " لا أرى مسجد دمشق إلا غيظا للكفار ". فأمر كاتبه بتخريق رقعة الستور. وسئل مالك عن المساجد: هل يكره أن يكتب في قبلتها بالصبغ نحو آية الكرسي، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين، ونحوها؟ فقال: " أكره أن يكتب في قبلة المسجد بشيء من القرآن والتزويق ". ويقول: " إن ذلك يشغل المصلي ". ولقد كره مالك أن يكتب القرآن في القراطيس، فكيف بالجدران؟ ! وقال أصبغ: " كان في جوار ابن القاسم مسجد بني من الأموال الحرام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فكان لا يصلي فيه، ويذهب إلى أبعد منه، ولا يراه واسعا لمن صلى فيه، والصلاة عظم الدين، وهي أحق ما احتيط فيه ". قال محمد بن مسلمة: " ولا يؤتى شيء من المساجد يعتقد فيه الفضل بعد الثلاثة مساجد؛ إلا مسجد قباء ". قال: " ويكره أن يعمد له يوما بعينه يؤتى فيه؛ خوفا من البدعة، وأن يطول الناس الزمان، فيجعل ذلك عيدا يعتمد، أو فريضة تؤخذ، ولا بأس أن يؤتى في كل حين؛ ما لم تجئ فيه بدعة ". قال: " فأما سواه من المساجد؛ فلم أسمع عن أحد أنه أتاها راكبا ولا ماشيا كما أتى قباء، وقد قال عمر: لو كان بأفق من الآفاق؛ لضربنا إليه أكباد الإبل ". قال ابن وهب: " سمعت مالكا يسأل عن مسجد بمصر يقال له: مسجد الخلوق، ويقولون فيه كذا وكذا، حتى ذكر أنه رئي فيه الخضر، أفترى أن يذهب الناس إليه متعمدين إلى الصلاة فيه؟ فقال: لا والله ". قال وهب بن منبه: " وفيما أوحى الله تعالى إلى أشعياء عليه السلام: قل لبني إسرائيل يتقربون إلي بذبح الغنم، وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها عليهم، ويشيدون البيوت، ويزرقون المساجد، وأي حاجة إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وإلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 تزويق المساجد ولست آتيها! إنما أمرت برفعها؛ لأذكر فيها وأسبح ". 7 - فصل [القصص في المساجد] قال مالك: " وإني لأكره القصص في المساجد ". قال: " وقد قال تميم الداري لعمر بن الخطاب: دعني أدع الله وأقص وأذكر الناس. فقال عمر: لا. فأعاد عليه. فقال: أنت تريد أن تقول: أنا تميم الداري؛ فاعرفوني! ". قال مالك: " ولا أرى أن يجلس إليهم، وإن القصص لبدعة ". قال: " وليس على الناس أن يستقبلوهم كالخطيب ". قال: " وكان ابن المسيب وغيره يتخلفون والقاص يقص ". قال مالك: " ونهيت أبا قدامة أن يقوم بعد الصلاة فيقول: افعلوا كذا وكذا ". قال سالم: " وكان ابن عمر يلفى خارجا من المسجد، فيقول: ما أخرجني إلا صوت قاصكم هذا ". وقال أبو إدريس الخولاني: " لأن أرى في ناحية المسجد نارا تأجج أحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 من أن أرى قاصا يقص ". قال علماؤنا رحمهم الله: لم يقص في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمان أبي بكر وعمر، حتى ظهرت الفتنة، فظهرت القصص. فلما دخل علي المسجد؛ أخرج القصاص من المسجد، وقال: " لا يقص في مسجدنا ". حتى انتهى إلى الحسن، في علوم الأعمال والأحوال، فاستمع إليه، ثم انصرف ولم يخرجه. وجاء ابن عمر إلى مجلسه من المسجد، فوجد قاصا يقص، فوجه إلى صاحب الشرطة أن أخرجه من المسجد، فأخرجه. قال مالك بن أنس: «كان رجل من المنافقين يقوم كل جمعة في المسجد، فيحض على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوم خيبر؛ انصرف بالناس من قتال العدو، ثم قام بعد ذلك في المسجد، فحض على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرج من المسجد، فقال: لا أبالي ألا أصلي في حش بني فلان» . قال أبو التياح: " قلت للحسن: إمامنا يقص فيجتمع الرجال والنساء، فيرفعون أصواتهم بالدعاء، ويمدون أيديهم! فقال الحسن: رفع الصوت بالدعاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 بدعة، ومد الأيدي بالدعاء بدعة، والقصص بدعة ". وقيل لابن سيرين: " لو قصصت على إخوانك؟ فقال: قد قيل: لا يتكلم على الناس إلا أمير أو مأمور أو أحمق، ولست بأمير، ولا مأمور، وأكره أن أكون الثالث ". قال معاوية بن قرة: " قلت للحسن البصري: أعود مريضا أحب إليك أو أجلس إلى قاص؟ قال: عد مريضك. قلت: أشيع جنازة أحب إليك أو أجلس إلى قاص؟ فقال: شيع جنازتك. قلت استعان بي رجل في حاجة؛ أعينه أو أجلس إلى قاص؟ قال: اذهب في حاجتك ... حتى جعله خيرا من مجالس الفراغ ". وقال ضمرة: " قلت للثوري: نستقبل القاص بوجوهنا؟ قال: ولوا البدع ظهوركم ". وقال أبو معمر: " رأيت سيارا أبا الحكم يستاك على باب المسجد، وقاص يقص في المسجد، فقيل له: يا أبا الحكم! إن الناس ينظرون إليك. فقال: إني في خير مما هم فيه، أنا في سنة وهم في بدعة ". " ولما دخل سليمان بن مهران الأعمش البصرة؛ نظر إلى قاص يقص في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 المسجد، فقال: حدثنا الأعمش عن أبي إسحاق، وحدثنا الأعمش عن أبي وائل ... ". قال: " فتوسط الأعمش الحلقة، ورفع يديه، وجعل ينتف شعر إبطيه! فقال له القاص: يا شيخ! ألا تستحي؟ نحن في علم وأنت تفعل هذا؟! فقال الأعمش: الذي أنا فيه خير من الذي أنت فيه. قال: كيف ذلك؟ قال: لأني في سنة وأنت في كذب، أنا الأعمش، وما حدثتك مما تقول شيئا! ! فلما سمع الناس ذكر الأعمش؛ انفضوا عن القاص، واجتمعوا حوله، وقالوا: حدثنا يا أبا محمد! ". وقال أحمد بن حنبل: " أكذب الناس القصاص والسؤال، وما أحوج الناس إلى قاص صادق صدوق؛ لأنهم يذكرون الموت وعذاب القبر ". قيل له: أكنت تحضر مجالسهم؟ قال: " لا ". وروي أن عامر بن عبد الله بن قيس المعروف بـ (راهب هذه الأمة) انقطع عن مجلس الحسن البصري، فجاءه الحسن في منزله، فإذا عامر في بيت قد لف رأسه، وليس في البيت إلا رمل، فقال له الحسن: يا أبا عبد الله! لم نرك منذ أيام؟ فقال له: إني كنت أجلس هذه المجالس، أسمع تخليطا وتغليطا، وإني كنت أسمع مشيختنا فيما روي عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «إن أصفى» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 «الناس إيمانا يوم القيامة أكثرهم فكرة في الدنيا، وأكثر الناس ضحكا في الجنة أطولهم بكاء في الدنيا، وأشد الناس فرحا في الآخرة أطولهم حزنا في الدنيا» ، فوجدت البيت أخلى لقلبي، وأقدر لي من نفسي على ما أريد منها. فقال له الحسن: أما إنه لم يعن مجالسنا هذه، إنما عنى مجالس القصاص في الطرق، والذين يخلطون ويقدمون ويؤخرون. قال ابن القاسم: " وأول قاص كان بالمدينة إنما جعله عمر بن عبد العزيز ولم يكن بها قبل ذلك قاص ". قال مالك: " لم يكن القصاص فيما مضى حتى كان عمر بن عبد العزيز أميرا، فجعل قاصا ورزقه دينارين في الشهر ". وفي كتاب الوضوء من " المدونة ": أن عمر بن عبد العزيز كان له قاص؛ يعني: واعظا يذكره. 8 - فصل آداب المسجد قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} . دلت الآية على أن المساجد إنما رفعت لأعمال الآخرة؛ دون حرث الدنيا واكتسابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ولقد كره مالك التابوت الذي جعل في المسجد للصدقات، ورآه من حرث الدنيا. وسئل مالك عن الأكل في المسجد، فقال: " أما الشيء الخفيف؛ مثل السويق ويسير الطعام؛ فأرجو أن يكون خفيفا، ولو خرج إلى باب المسجد؛ كان أعجب إلي، وأما الكثير؛ فلا يعجبني، ولا في رحابه ". قال مالك: " وأكره المراويح التي في مقدم المسجد، التي يروح بها الناس ". قال مالك: " وما كان يفعل ذلك فيما مضى، ولا أجيز للناس أن يأتوا بالمراويح يتروحون بها ". وقال في الذي يأكل اللحم في المسجد؛ قال: " أليس يخرج يغسل يده؟ ". قالوا: بلى. قال: " فليخرج ليأكل ". قال: " وأكره أن يتكلم بألسنة العجم في المسجد ". وقال: " إنما ذلك لما قيل في ألسنة الأعاجم أنها خب ". قال: " فلا يفعل في المسجد شيء من الخب ". قال: " وهو لمن يحسن العربية أشد خبا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 قال: " وأكره أن يبني مسجدا ويتخذ فوقه مسكنا يسكن فيه بأهله، ولا يقلم أظفاره في المسجد، ولا يقص فيه شاربه، وإن أخذه في ثوبه، وأكره أن يتسوك في المسجد من أجل ما يخرج من المسواك فيلقيه في المسجد ". قال: " ولا أحب أن يتمضمض في المسجد، وليخرج؛ ليفعل ذلك ". وأما المبيت في المسجد: فجوزه مالك للغرباء دون الرجل الحاضر. وقال ابن القاسم في " العتبية ": " لا بأس به للحاضر الضعيف، دون من له منزل ". وروى ابن حبيب عن ابن وهب: " لا يرقد شاب في المسجد ". قال مالك: " قد كان يبيت في المسجد أهل الصفة وغيرهم؛ لعدم البيوت ". قال ابن عمر: " ما كان لي مبيت ولا مأوى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا المساجد ". وقد كان مبيت عطاء بن أبي رباح في المسجد أربعين سنة. وفي الحديث: «قيل: يا رسول الله! أتأذن لي في الترهب؟ قال: ترهب.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قال ابن حبيب: " لا بأس بالاستلقاء في المسجد للراحة ". قال: " ولا بأس بالقائلة في المسجد والنوم فيه نهارا للحاضر المقيم، ولا بأس بالمبيت فيه للمسافر والمنتاب إلى أن يرتاد مسكنا، ولا ينبغي أن يتخذه مسكنا؛ إلا رجل قد تبتل للعبادة، وتجرد فيه لقيام الليل، فلا بأس أن يكون في دهره إذا كان مرافقه لوضوئه ومعاشه في غير المسجد ". وفي الحديث: " «إن الله تعالى يقول: إني أهم بعذاب عبادي، فأنظر إلى عمار المساجد، وجلساء القرآن، وولدان الإسلام، فيسكن غضبي» ". وروى عباد بن تميم عن عمه: " «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد، واضعا إحدى رجليه على الأخرى» ". قال ابن المسيب: " وكان عمر وعثمان يفعلان ذلك ". قال: " وسئل مالك عن الرجل يتخذ في المسجد فراشا يجلس عليه، أو وسادة يتكئ عليها؟ قال: ليس ذلك من عمل الناس، ولا أحبه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وكان يرخص في الخمرة والنخاع والمصليات، ويقول: " قد كان ذلك يتخذ في مسجدنا ليستوطأ أو يستدفأ به من برد الحصباء في شدة البرد ". والخمرة: حصير من جريد. والنخاع: بسط طوال. قال: " وكانت الأقناء تعلق في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لمكان أضياف النبي صلى الله عليه وسلم المساكين؛ يأكلون منه، وأراه حسنا أن يعلق في سائر البلاد التي فيها التمر في المساجد ". وسئل مالك عن الرجل في رمضان يكون في المسجد فيأتيه الطعام؟ فقال: " أما الشيء الخفيف؛ مثل السويق والطعام اليسير؛ فأرجو أن يكون خفيفا، وأما الطعام؛ مثل اللحم والألوان؛ فلا يعجبني ". فقيل له: فرحاب المسجد؟ قال: " رحاب المسجد من المسجد ". وكره أكل الطعام في المسجد، قيل له: فإن بعض الأئمة يعشون الناس في المسجد. قال: " ليس بإمام الذي يطعم الناس في المسجد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قال أشهب: " وسئل مالك عن قوم يفطرون في رمضان على الكعك والتمر المنزوع نواه والزبيب؟ قال: ما يعجبني، كيف يصنعون بأذاه وبالمضمضة؟ قيل: يؤتى به في منديل وليس به أذى، ويخرجون من المسجد فيتمضمضون. قال: إن كان هذا؛ فأرجو أن يكون خفيفا ". وروى ابن وهب عن مالك: " ولو خرج إلى باب المسجد، فأكل وشرب هناك؛ كان أحب إلي ". وقال ابن عبد الحكم: " سمعت مالكا يسأل عن الماء الذي يسقى في المسجد، أترى أن نشرب منه؟ قال: نعم؛ وإنما جعل للعطشان، ولم يرد به أهل المسكنة، فلم يترك شربه؟ ولم يزل هذا من أمر الناس بهذا المكان وغيره ". قال ابن حبيب: " رأيت القرب بالماء العذب معلقة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم على الحصباء وتحتها أقداح نضار، فمن أحب شرب الماء في المسجد ". قال ابن القاسم: " رأيت مالكا يشرب في المسجد ". قال ابن حبيب: " وقد فعله ابن الزبير في المسجد الحرام، ورأيت ابن الماجشون وغيره من علماء المدينة يشربون الماء في المسجد ". وكره مالك قتل القمل ودفنها في المسجد، ولا يطرحها من ثوبه في المسجد، ولا يقتلها بين النعلين في المسجد. وقال مالك في المعتكف: " لا يدخل إليه حجام؛ ليأخذ من شعره وأظفاره ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قال ابن القاسم: " إنما كرهه لحرمة المسجد ". وروى ابن حبيب وابن القاسم عن مالك: " أنه نهى عن قتل القمل والبراغيث في المسجد، ولا يدفنها فيه ". قال ابن حبيب: " أخبرني مطرف أن البرغوث كان أخف عند مالك من القمل، وليصرها حتى يلقيها خارجا ". «ورأى النبي صلى الله عليه وسلم في جدار مخاطا أو بصاقا أو نخامة في القبلة، فحكه» . وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها» . قال مالك: " لا أرى أن يبصق على حصير المسجد ويدلكه برجله، ولا بأس أن يبصق تحت الحصير، وإن كان المسجد محصبا؛ فلا بأس أن يحفر الحصباء ويبصق فيه ويدفنه ". قال ابن القاسم: " إن لم يكن المسجد محصبا، لا يقدر على دفن البصاق فيه؛ فلا يبصق فيه ". وسئل مالك عن التنخم في النعلين، فقال: " إن كان لا يصل التنخم تحت الحصير؛ فلا بأس، وإن كان يصل؛ فلا يتنخم في نعليه ". قال محمد بن مسلمة: " لم يزل الناس يتنخمون في المسجد ويبصقون فيه منذ كان، قبل أن يحصب وبعدما حصب، وأخبرني مالك أن أول من حصبه عمر بن الخطاب، وإن الناس كانوا يبصقون قبل أن يحصب عن يسارهم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قال: " فكان مالك يفتي به في المساجد التي ليست محصبة ". وسئل مالك عن السؤال الذين يسألون في المساجد ويلحون في المسألة؟ قال: " أرى أن ينهوا عن ذلك ". وقال غيره: يحرم الصدقة. وروى مالك في " موطئه ": أن عطاء بن يسار كان إذا مر عليه من يبيع في المساجد؛ دعاه، فسأله: ما معك؟ وما تريد؟ فإن أخبره أنه يريد بيع ما عنده؛ قال: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذه سوق الآخرة. قال القاضي أبو الوليد: العمل في المسجد على ضربين: قربة وغير قربة: فالقرب: مثل الصلاة، والتلاوة، والذكر، ويدخل فيه درس العلم والمناظرة فيه. وما ليس بقرب؛ فعلى ضربين: أفعال، وأقوال: فأما الأفعال؛ فكالبيع، والشراء، والأكل، وعمل الصنائع، ونحوه. فأما البيع: فروى ابن القاسم عن مالك في " المجموعة ": " لا بأس أن يقضى الرجل في المسجد ذهبا، فأما ما كان بمعنى التجارة والصرف؛ فلا أحبه ". وإنما أراد بالقضاء المعتاد الذي فيه يسير العمل، وقليل العين، وأما لو كان قضاء المال جسيما، يحتاج إلى المؤنة والوزن والانتقاد، ويكثر فيه العمل؛ فإنه مكروه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وقال مالك في " المبسوط ": " لا أحب لأحد أن يظهر سلعة في المسجد للبيع، فأما أن يساوم رجلا ثوبا عليه، أو سلعة تقدمت رؤيته لها ومعرفته بها؛ فيواجبه البيع فيها؛ فلا بأس به ". وقال محمد بن مسلمة: " لا ينبغي لأحد أن يبيع في المسجد ولا يشتري شيئا حاضرا ولا غائبا: أما الحاضر؛ فإن المسجد ليس بموضع للسلع، ولو جاز ذلك؛ صار المسجد سوقا. وأما ما ليس بحاضر؛ كالدور والأصول وبيع الصفة وأشباه ذلك؛ فلما فيه من اللغط واللغو، وعلى هذا القول دل قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} الآية ". وقد كره غيره أن يشتري الرجل في المسجد القربة من الماء؛ ليسيلها، وقال: يخرج إلى الباب، ويشتريها هنالك، ثم يسيلها. وفي الحديث: " «لا تقوم الساعة حتى يتبايع الناس في المساجد» ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وروى البخاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فقال: أيها الناشد! غيرك الواجد» . وروى مسلم في " صحيحه " «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا ينشد ناقته في المسجد، فقال: لا جمعها الله عليك! إن المساجد لم تبن لهذا» . قال مالك في " المبسوط ": " ولو لم يرفع بذلك صوته؛ فلا بأس بذلك؛ لأنه من جنس المحادثة، وذلك غير ممنوع ". وأما الكتابة في المساجد: فروى ابن القاسم عن مالك في " المجموعة " في ذكر الحق يكتب في المسجد؛ قال: " أما الشيء الخفيف؛ فنعم، وأما الشيء يطول؛ فلا أحبه ". ويجري على أصل محمد بن مسلمة أن لا يكتب فيه اليسير ولا الكثير ". قال القاضي أبو الوليد: " ولم أر شيئا في كتب المصاحف في المساجد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 قال: " فأما الرجل المتوقي الذي يصون المساجد ويكتب المصاحف؛ ظاهره الجواز ". وأما تعليم الصبيان في المساجد: فكرهه سحنون، ويتفرع في تعليله وجهان: أحدهما: قلة توقيهم للنجاسة. والثاني: أنه صنعه وتكسب. قال القاضي أبو الوليد: " فيلزم على هذا التعليل منع كتابة المصاحف فيه ". قال ابن حبيب: " ويكره دخول الصبيان المسجد وتعليمهم فيه؛ إلا أن يدخل الصبي للصلاة ثم يخرج ". وقال غيره: في تعليمهم فيه بالأجر تكسب، وهي إجازة من جنس التجارة، وقد نهي عنه، ويجوز أن يؤتى بالصبي إلى المسجد إذا كان قد علم الأدب، ولم يعبث لصغره، ثم يخرج. وأما الخياطة وغيرها من الأعمال الظاهرة التي لا تتعلق بالقرب: فقد قال سحنون: " لا يجلس فيه للخياطة ". ويلزم أن تكون سائر الأعمال التي في معنى الخياطة على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 9 - فصل في البطحاء روى مالك بن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبة في ناحية المسجد تسمى البطحاء، وقال: " من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة ". واعلموا أنه لما رأى عمر جلوس الناس في المسجد، وحديثهم فيه، وربما أخرجهم ذلك إلى اللغط - وهو المختلط من القول وارتفاع الأصوات - وربما تناشدوا شعرا واتسع الخوض في أخبار الدنيا: بنى البطحاء مرتفعة نحو الذراع وحصرها بجدار قصير، وبسطها بالحصباء ملاصقة المسجد، ليخلص المسجد لذكر الله تعالى. قال السائب: كنت في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت؛ فإذا عمر بن الخطاب، فقال لي: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ ومن أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! إن مسجدنا هذا لا نرفع فيه الأصوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وقال ابن القاسم في " المبسوط ": " رأيت مالكا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد ". وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين: إحداهما: أنه يجب أن ينزه المسجد من مثل هذا؛ لأنه مما أمر بتعظيمه وتوقيره. والثانية: أنه مبني للصلاة، وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار، فكان يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولا. قال مالك في " العتبية ": " وقد كان عمر بن الخطاب يجلس في المسجد ويجلس إليه رجال، فيحدثهم عن الأجناد، ويحدثونه بالأحاديث ". وفي لفظ آخر: " ويحدثونه عن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ". فيقتضي هذا أن الحديث على وجه لا لغط فيه ولا رفع صوت، والأمر الخفيف من ذلك إذا لم يطل؛ أنه لا بأس به، لا سيما في مثل أخبار الأجناد والسرايا. وقد روي أن مسجدا من المساجد ارتفع إلى السماء شاكيا من أهله يتكلمون فيه بكلام الدنيا، فاستقبلته الملائكة، فقالوا: " بعثنا بهلاكهم ". وروي أن الملائكة يشكون إلى الله تعالى من نتن فم المغتابين والقائلين في المساجد بكلام الدنيا. وروي أن المسيح عليه السلام مر على قوم يتنازعون في المسجد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فجعل يضربهم ويقول: " يا بني الأفاعي! اتخذتم مساجد الله أسواقا، إنما هذا سوق الآخرة ". وجوز مالك التعزير في المسجد بالأسواط اليسيرة دون ما كثر من الضرب والحدود. 10 - فصل في اجتماع الناس في سائر الآفاق يوم عرفة قال ابن وهب: " سألت مالكا عن الجلوس يوم عرفة؛ يجلس أهل البلد في مسجدهم، ويدعو الإمام رجالا يدعون الله تعالى لللناس إلى غروب الشمس؟ فقال: ما نعرف هذا، وإن الناس عندنا اليوم ليفعلونه ". قال ابن وهب: " وسمعت مالكا يسأل عن جلوس الناس في المسجد عشية عرفة بعد العصر، واجتماعهم للدعاء؟ فقال: ليس هذا من أمر الناس، وإنما مفاتيح هذه الأشياء من البدع ". قال مالك في " العتبية ": " وأكره أن يجلس أهل الآفاق يوم عرفة في المساجد للدعاء، ومن اجتمع إليه الناس للدعاء؛ فلينصرف، ومقامه في منزله أحب إلي، فإذا حضرت الصلاة؛ رجع فصلى في المسجد ". وروى محمد بن وضاح أن الناس اجتمعوا بعد العصر من يوم عرفة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يدعون، فخرج نافع مولى ابن عمر، فقال " يا أيها الناس! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 إن الذي أنتم فيه بدعة وليست بسنة، أدركت الناس لا يصنعون هذا ". قال مالك بن أنس: " ولقد رأيت رجالا ممن اقتدي بهم يتخلفون عشية عرفة في بيوتهم ". قال: " وإنما مفاتيح هذه الأشياء من البدع، ولا أحب للرجل الذي قد علم أن يقعد في المسجد في تلك العشية؛ مخافة أن يقتدى به، وليقعد في بيته ". قال الحارث بن مسكين: " كنت أرى الليث بن سعد ينصرف بعد العصر يوم عرفة، فلا يرجع إلى قرب المغرب ". وقال إبراهيم النخعي: " الاجتماع يوم عرفة أمر محدث ". وقال عطاء الخراساني: " إن استطعت أن تخلو عشية عرفة بنفسك؛ فافعل ". وكان أبو وائل لا يأتي المسجد عشية عرفة. فاعلموا رحمكم الله أن هؤلاء الأئمة علموا فضل الدعاء يوم عرفة، ولكن علموا أن ذلك بموطن عرفة لا في غيرها، ولم يمنعوا من خلا بنفسه فحضرته نية صادقة أن يدعو الله تعالى، وإنما كرهوا الحوادث في الدين، وأن يظن العوام أن من سنة يوم عرفة بسائر الآفاق الاجتماع والدعاء، فيتداعى الأمر إلى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 يدخل في الدين ما ليس منه. وقد كنت ببيت المقدس، فإذا يوم عرفة؛ حبس أهل السواد وكثير من أهل البلد، فيقفون في المسجد مستقبلين القبلة مرتفعة أصواتهم كأنه موطن عرفة! وكنت أسمع هناك سماعا فاشيا منهم: أن من وقف ببيت المقدس أربع وقفات؛ فإنها تعدل حجة، ثم يجعلونه ذريعة إلى إسقاط فريضة الحج إلى بيت الله الحرام! ! وروى المالكي في كتاب " رياض النفوس ": " أن يحيى بن عمر الفقيه الأندلسي كان يغير في القيروان على موضع ناس حاكة، فإذا كانت أيام العشر؛ يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل، فنهاهم، فلم ينتهوا، ثم نهاهم، فلم ينتهوا، وكان شديدا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ". قال: " فدعا الله عليهم، فانقرضوا، وخربت ديارهم برهة من الزمان ". 11 - فصل في منتصف شعبان قال الله تعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 اعلموا - رحمكم الله - أن لأهل العلم في هذه الليلة قولين: فقال بعضهم: هي ليلة النصف من شعبان. واستدلوا بما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ليلة النصف من شعبان؛ فقوموا ليلتها، وصوموا يومها؛ فإن الله تعالى ينزل لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له؟ ألا مبتلى فأعافيه؟ ألا مسترزق فأرزقه؟ ألا كذا؟ ألا كذا؟ ... حتى يطلع الفجر» . وهذا مذهب عكرمة مولى ابن عباس؛ قال: " هي ليلة النصف من شعبان، يبرم فيها أمر السنة، وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج، فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد ". وروى عثمان بن المغيرة؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له، ولقد خرج اسمه في الموتى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وقال قتادة، وابن زيد، ومجاهد، والحسن، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأكثر علماء العراق: هي ليلة القدر، أنزل الله تعالى القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم أنزله على نبيه في الليالي والأيام. قالوا: فيبرم في ليلة القدر من شهر رمضان كل أجل وعمل ورزق وما يكون في تلك السنة. قال سعيد بن جبير: " يؤذن للحاج في ليلة القدر، فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد، ولا يزاد، ولا ينقص ". وقال هلال بن يساف: " انتظروا القضاء في شهر رمضان ". وعلى هذا القول علماء المسلمين. وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم؛ قال: " ما أدركنا أحدا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول، ولا يرون لها فضلا على ما سواها ". وقيل لابن أبي مليكة: إن زيادا النميري يقول: إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر. فقال: " لوسمعته وبيدي عصا؛ لضربته ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وكان زياد قاصا. والدليل على صحة هذا القول قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . وهذه الكناية كناية عن غير مذكور؛ إلا أنه قد جرى في قوله تعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ... ؛ نزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فوضع في بيت العزة، وأملاه جبريل على السفرة، ثم كان ينزله جبريل عليه السلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم نجوما. وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة. ألا تراه سماها مُبَارَكَةٍ، وإنما البركة من خصائص ليلة القدر؛ من أنها خير من ألف شهر، فهذا هو الخير والبركة والمغفرة؟ والاشتقاق يقتضيه أيضا؛ لأنه مأخوذ من التقدير، فتقدر فيها الأشياء؛ أي: يقضي الله تعالى فيها قضاء السنة كلها. وقيل: ليلة العظمة والشرف وعظم الشأن؛ من قولك: رجل له قدر؛ يقال: قدرت فلانا؛ أي: عظمته؛ قال الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ؛ أي: ما عظموه حق تعظيمه، وهذا تأويل الزهري. وقيل: لأن كل عمل صالح يوجد فيها من المؤمن يكون ذا قدر وقيمة عند الله تعالى؛ لأنه مقبول. وقيل: سميت بذلك لأن من لم يكن ذا قدر وخطر يصير في هذه الليلة ذا قدر وخطر إذا أحياها. وهذه المعاني هي تحقيق البركة، فأما مجرد فصل القضاء، وفرق كل أمر حكيم؛ فهو عمل الله تعالى. فبان بهذا أن قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ؛ إنما أراد به ليلة القدر. وقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} ؛ أي يفصل ويبرم، هو المعنى الذي ذكرناه في معنى القدر. وأخبرني أبو محمد المقدسي؛ قال: " لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في أول سنة (448) ثمان وأربعين وأربع مائة: قدم علينا في بيت المقدس رجل من نابُلُس يعرف بابن أبي الحمراء، وكان حسن التلاوة، فقام، فصلى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل، ثم انضاف إليهما ثالث، ورابع، فما ختمها إلا وهم في جماعة كثيرة! ! ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير، وشاعت في المسجد. وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى، وبيوت الناس ومنازلهم، ثم استقرت كأنها سنة إلى يومنا هذا "! فقلت له: فأنا رأيت تصليها في جماعة؟ قال: " نعم؛ وأستغفر الله منها "! قال: " وأما صلاة رجب؛ فلم تحدث عندنا في بيت المقدس إلا بعد سنة ثمانين وأربع مائة، وما كنا رأيناها ولا سمعنا بها قبل ذلك ". 12 - [فصل مسجد مكة] وروى الأزرقي في " كتاب مكة " بإسناده عن عثمان الأسود؛ قال: " كنت مع مجاهد، فخرجنا من باب المسجد، فاستقبلت الكعبة، فرفعت يدي، فقال: لا تفعل! إن هذا لفعل اليهود ". وروى أيضا بإسناده عن قتادة في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ؛ قال: " إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يأمروا بمسحه، ولقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثره وأصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق وانماح ". 13 - فصل في رجب نذكر أولا الأشهر الحرم وخصائصها وصيامها وقيامها، وهل أحكامها منسوخة أم لا؟ قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ، وهن: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. ومعنى حُرُمٌ: تعظم انتهاك المحارم فيها بأشد مما تعظم في غيرها. وكانت العرب تعظمها حتى لو لقي الرجل منهم قاتل أبيه؛ لم يهجه، وكانوا يسمون رجبا: (منصل الأسنة) ؛ ينزعون فيه الأسنة من الرماح؛ توقيا للقتال. وأصل هذا اللفظ من (الحرام) ، و (الحرام) : المحظور بعض أحواله، فالأم حرام؛ لحظر نكاحها، والخمر حرام؛ لحظر شرابها والاتخاذ لها والمعاملة بها، والمسجد الحرام؛ لحظر صيده وسفك الدم فيه وابتذاله بما يبتذل به غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وأما قوله تعالى في أول (براءة) : {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} . . .؛ ففيه قولان: أحدهما: أن المراد بها هذه بعينها. والثاني: أن المراد بها الأربعة التي جعل الله لهم أن يسيحوا فيها آمنين، وهو قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ، وهي عشرون من ذي الحجة والمحرم، وصفر، وربيع، وعشر من ربيع الآخر. قاله الحسن. فأما قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} ؛ فقال ابن عباس: " الضمير عائد على الشهور كلها ". وقال قتادة: " بل هو عائد على الأربعة الحرم؛ لعظم أمرها ". فإن قيل: لم جعل بعض الشهور أعظم حرمة من بعض؟ قلنا: أفعال القديم عندنا لا تعلل؛ لأنه تعالى لا يفعل لغرض وعلة، ومن لا يفعل لغرض وعلة؛ لا يجوز أن يقال فيه: لم فعل؟ ولم لم يفعل؟ وأصحاب اللطف يجيبون عن ذلك؛ لما في ذلك من المصلحة في الكف عن الظلم فيها؛ لعظم منزلتها في حكم خالقها، فربما أدى ذلك إلى ترك الظلم رأسا؛ لانطفاء النائرة في تلك المدة، وانكشاف الحمية، ولأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الأشياء تجر إلى أشكالها، وتباعد من أضدادها. وإنما سمي رجب [بذلك] ؛ لأنهم كانوا يرجبونه؛ أي: يعظمونه؛ يقال: رجَّبْته ورجَبْته؛ بالتشديد والتخفيف؛ أي: عظمته. قال الكميت: ولا غيرهم أبقى لنفسي جنة ... ولا غيرهم ممن أجل وأرجب وقيل: سمي بذلك لترك القتال فيه؛ من قولهم: رجل أرجب؛ إذا كان أقطع لا يمكنه العمل. وفي الحديث: «إن في الجنة نهرا؛ يقال له: رجب، ماؤه أشد بياضا من الثلج، وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب؛ شرب منه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} ؛ قال ابن عباس: " باستحلال القتل والغارة في جميع شهور السنة ". وقيل في التفسير: " {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} ؛ في الأشهر الحرم؛ بالعمل بمعصية الله تعالى، وترك طاعته ". وقال محمد بن إسحاق بن يسار: " لا تجعلوا حلالها حراما، ولا حرامها حلالا؛ كما فعل أهل الشرك، وهي النسيء ". قال قتادة: " إن العمل الصالح والأجر أعظم في الأشهر الحرم، والظلم والذنب فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما شاء، ويصطفي من خلقه من شاء ". واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم: فقال قتادة وعطاء الخرساني: " كان القتال كبيرة من الكبائر في الأشهر الحرم، ثم نسخ وأحل القتال فيه؛ لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} ؛ يقول: فيهن وفي غيرهن ". وقال الزهري: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله تعالى من تحريم ذلك، حتى نزلت {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ} . . .، فأحل قتال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 المشركين ". قال محمد بن إسحاق: " فسألت سفيان الثوري عن القتال في الشهر الحرام؟ فقال: هذا منسوخ، ولا بأس فيه وفي غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف، وحاصرهم في شوال وفي بعض ذي القعدة ". وهذا واضح في استحلاله ونسخه. وقيل: إنه غير منسوخ. قال ابن جريج: " حلف عطاء بن أبي رباح بالله: ما يحل للناس أن يغزوا في المحرم، ولا في الأشهر الحرم؛ إلا أن يقاتلوا فيها، وما نسخت ". قال ابن حبان: " نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة ". * فأما فضل صيامها: فروى أبو داود «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل قد غيره طول الصيام: لمَ عذَّبت نفسك؟ صم شهر الصبر، ويوما من كل شهر. قال: زدني؛ فإني فيَّ قوة.» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 «قال: صم يومين. قال زدني؛ فإن في قوة. قال: صم ثلاثة أيام. قال: زدني؛ فإن في قوة. قال: صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك» . انظر في السند؛ فإنه يرويه عن موسى بن إسماعيل عن حماد عن سعيد الجُريري عن أبي السليل عن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها عن النبي صلى الله عليه وسلم! وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وإن أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة من الليل» . قال عثمان بن حكيم: " سألت سعيد بن جبير عن صيام رجب؟ فقال: أخبرني ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم حتى نقول: إنه لا يفطر، ويفطر حتى نقول: إنه لا يصوم» . وروى مالك والبخاري ومسلم عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يخص شهرا من السنة بصوم» . وروى ابن وضاح أن عمر بن الخطاب كان يضرب الرجبيين الذين يصومون رجبا كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 قال أبو محمد بن أبي زيد: " وكره ابن عباس صيام رجب كله؛ خيفة أن يرى الجاهل أنه مفترض ". وروي أن ابن عمر كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب؛ كرهه، وقال: صوموا منه وأفطروا؛ فإنما هو شهر كانت تعظمه أهل الجاهلية. وعن ابن عباس: " لا تتخذوا رجبا عيدا؛ إذا أفطرتم قضيتموه ". وعن أبي بكر أنه دخل على أهله وقد أعدوا لرجب، فقال: " ما هذا؟ قالوا: رجب؛ نصومه. فقال: أجعلتم رجبا كرمضان؟ ! ". وقد ورى ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب» . والله أعلم بصحة هذا الخبر؛ لأنه ليس على شرط الصحة. وروى الفاكهي في " كتاب مكة " بإسناده عن خرشة بن الحر؛ قال: " رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب أيدي أو أكف الناس في رجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 إذا رفعوها حتى يضعوها في الطعام، ويقول: كلوا؛ فإن رجبا كان أهل الجاهلية يعظمونه ". وروى أيضا بإسناده عن ابن عباس؛ قال: لا تتخذوا رجبا عيدا ترونه حتما مثل شهر رمضان، إذا أفطرتم منه صمتم. دلت هذه الآثار على أن الذي في أيدي الناس من تعظيمه إنما هي غبرات من بقايا عقود الجاهلية. وروى مسلم في " صحيحه ": " أن أسماء أرسلت إلى ابن عمر: بلغني أنك تحرم صوم رجب! فقال لها ابن عمر: فكيف بمن يصوم الأبد؟ ! ". وقديما حرف العامي على الخاص: هذا ابن عمر كان يكره صوم رجب كله؛ إما حذرا أن يعتقد الجاهل أنه مفروض، وإما حذرا أن يعتقده سنة ثابتة موقتة، فقال الناس: حرم ابن عمر صيام رجب. وهذا التحريف ديدن الناس اليوم. والله المستعان! وفي الجملة: أنه يكره صومه على أحد ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إذا خصه المسلمون بالصوم في كل عام؛ حسب العوام ومن لا معرفة له بالشريعة - مع ظهور صيامه - أنه فرض كرمضان. أو: أنه سنة ثابتة خصه الرسول بالصوم كالسنن الراتبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 أو: أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على سائر الشهور، جار مجرى صوم عاشوراء، وفضل آخر الليل على أوله في الصلاة، فيكون من باب الفضائل لا من باب السنن والفرائض، ولو كان من باب الفضائل؛ لسنه عليه السلام أو فعله ولو مرة في العمر؛ كما فعل في صوم عاشوراء، وفي الثلث الغابر من الليل، ولما لم يفعل؛ بطل كونه مخصوصا بالفضيلة، ولا هو فرض ولا سنة باتفاق، فلم يبق لتخصيصه بالصيام وجه، فكره صيامه والدوام عليه؛ حذرا من أن يلحق بالفرائض والسنن الراتبة عند العوام. فإن أحب امرؤ أن يصومه علي وجه تؤمن فيه الذريعة وانتشار الأمر حتى لا يعد فرضا أو سنة؛ فلا بأس بذلك. 14 - فصل في جوامع من البدع روى محمد بن وضاح؛ قال " كان نافع يكره الضج مع الإمام حين يقرأ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ، ونحوه، وكرهه سفيان ". وقال المعرور بن سويد: " خرجنا حجاجا مع عمر بن الخطاب، فلقينا مسجدا، فجعل الناس يصلون فيه، فقال عمر: أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم باتباع مثل هذا حتى اتخذوها بيعا، فمن عرضت له فيها صلاة؛ فليصل، ومن تعرض له صلاة؛ فليمض ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وروى مالك: " أن عمر بن الخطاب ضرب المنكدر على صلاة بعد العصر ". ورواه غيره: " فقيل له: أعلى الصلاة؟ قال: " على خلاف السنة ". وقال ابن عباس: «قال لي النبي صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته: هات القط! . فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف، فقال: مثل هذا - ثلاث مرات - وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين» . وقال مالك في " المدونة ": " بلغني أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانو يكرهون أن يترك الرجل العمل يوم الجمعة؛ كما تركت اليهود والنصارى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 السبت والأحد ". وروى أستاذنا القاضي أبو الوليد في " المنتقى " أن ابن عمر حضر جنازة، فقال: " لتسرعن بها وإلا رجعت! ". انظروا - رحمكم الله - لما ترك الإسراع - وهو سنة -؛ هم ابن عمر بالانصراف، ولم ير أن قيراطين من الأجر بقيا بترك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم! وسئل مالك: هل يقول عند أضحيته: اللهم منك وإليك؟ فقال: " لا، وهذة بدعة ". قال مالك بن أنس: " وليس أيضا هذا موضع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ". قال مالك بن أنس: " وقول الناس: يبدأ بيمين النعش؛ هذه بدعة ". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب: «ما أخوف ما تخاف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: أئمة مضلين. قال: صدقت، قد أسر إليَّ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وقال سهل بن عبد الله: " آخر عقوبة يعاقب بها ضلال هذه الأمة: كفر النعم، واستحسان المساوئ ". وقال مالك رحمه الله: " دخلت يوما على ابن هرمز، فذكر شرائع الإسلام، وما انتقض منه، وما يخاف من ضيعته ... وإن دموعه لتسيل على لحيته ". قال مالك: " وأخبرني من دخل على ربيعة، فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أدخلت عليك مصيبة؟ قال: لا، ولكن استفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم ". وقال يسار أبو الحكم: " خرج رهط من القراء؛ منهم معضد، وعمر بن عتبة، حتى بنوا مسجدا بالنخيلة قريبا من الكوفة، فوضعوا جرارا من ماء، وجمعوا أكواما من الحصباء للتسبيح، ثم أقاموا في مسجدهم يتعبدون، وتركوا الناس، فخرج إليهم ابن مسعود، فقالوا: مرحبا بأبي عبد الرحمن! انزل. فقال: والله ما أنا بنازل حتى يهدم مسجد الخبال هذا. فهدموه، ثم قال لهم: والله إنكم لتمسكون بذنب ضلالة، أو أنتم أهدى ممن كان قبلكم؟ أرأيتم لو أن الناس كلهم صنعوا ما صنعتم؛ من كان يجمعهم لصلاتهم في مساجدهم، ولعيادة مرضاهم، ولدفن موتاهم؟ ! فردهم إلى الناس ". وقال ابن مسعود: " إن منكر اليوم لمعروف قوم ما جاؤوا بعد، وإن معروف اليوم لمنكر ما جاؤوا بعد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وقال حسان بن عطية: " ما من قوم يحدثون في دينهم بدعة؛ إلا نزع الله من دينهم من السنة مثلها، ثم لا يعيدها عليهم إلى يوم القيامة ". وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى الإماء عن لبس الإزار؛ يقول: " لا تتشبهن بالحرائر ". وقال لابنه عبد الله: " ألم أخبر أن جاريتك لبست الإزرار؟ لو رأيتها؛ لأوجعتها ضربا ". ومعلوم أن هذه سترة، ولكن فهموا أن مقصود الشرع المحافظة على حدوده، وأن لا يظن الناس أن الحرة والأمة في الستر سواء، فتموت سنة وتَحْيَى بدعة. وقال الحسن: " حسب المرء من الشر أن يشار إليه بالأصابع في دينه أو دنياه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فقيل: يا أبا سعيد إن الناس إذا رأوك أشاروا إليك بالأصابع. قال: " يقولون ماذا؟ ". قال: يقولون: هذا الحسن رجل صالح. فقال: " الحمد لله الذي ستر القبيح وأظهر الجميل؛ إنما أريد بذلك البدع في الدين والفسوق في الدنيا ". فأخبر أن الشهرة ليست في الأصلح. قال عوف بن مالك الأشجعي: «نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء، فقال: هذا أوان يرفع العلم. فقال له رجل: يا رسول الله! كيف يرفع العلم وقد أثبت في الكتب، ووعته القلوب؟ فقال: إن كنت لأحسبك أفقه أهل المدينة. ثم ذكر اليهود والنصارى وضلالتهم على ما في أيديهم من كتاب الله تعالى» . قال عوف: " ألا أخبركم بأول ذلك؟ يرفع الخشوع حتى لا يرى خاشع ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «هذا أوان يرفع العلم» ؛ أى: قد قرب. وروى محمد بن وضاح: " أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم لأن الناس كانوا يذهبون تحتها، فخاف عمر الفتنة عليهم ". قال: " وكان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قباء وأحدا. ودخل سفيان بيت المقدس، وصلى فيه، ولم يتبع تلك الآثار، ولا الصلاة فيها، وكذلك فعل غيره أيضا ممن يقتدى به ". قال محمد بن وضاح: " فكم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكرا عند من مضى، وكم من متحبب إلى الله بما يبغضه الله عليه، ومتقرب إلى الله بما يبعده منه، وكل بدعة زينة وبهجة ". وسئل سفيان الثوري عمن يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ؛ لا يقرأ غيرها، فكرهه، وقال: " إنما أنزل القرآن ليقرأ، ولا يخص شيء دون شيء، وإنما أنتم متبعون، ولم يبلغنا عنهم مثل هذا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وسئل مالك بن أنس عن قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في ركعة مرارا؟ فكرهه، وقال: " هذا من محدثات الأمور ". وقال الأوزاعي: " بلغني أن من ابتدع بدعة؛ خلاه الشيطان والعبادة، وألقى عليه الخشوع والبكاء؛ لكي يصطاد به ". وقال بعض الصحابة: أشد الناس عبادة مفتون. واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج: «يحقر أحدكم صلاته في صلاته، وصيامه في صيامه، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرَّميَّةِ» . وقال حذيفة: " كل عبادة لم يتعبدها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا تتعبدها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالا، فاتقوا يا معشر القراء! وخذوا بطريق من كان قبلكم ". وقال مجاهد: " كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر أو العصر، فقال: اخرج بنا؛ فإن هذه بدعة ". ومعنى التثويب: هؤلاء الذين يقومون على أبواب المساجد، فينادون: الصلاة، الصلاة. وقال علي: " كان للمجوس كتاب كانوا يدرسونه، فوقع ملكهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أخته، فأرادوا إقامة الحد عليه، فامتنع، وقال: لا أعلم دينا خيرا من دين آدم، وإنه زوج ابنه من ابنته، ولا أرغب بكم عن دينه. ثم أمر أهله، فقاتلوا القوم، فأسري بكتابهم، ورفع العلم من صدروهم ". وكان يجلس إلى سفيان الثوري فتى كثير التفكر، طويل الإطراق، فأراد سفيان أن يحركه؛ ليسمع كلامه، فقال: " يا فتى! إن من كان قبلنا مروا على خيل عتاق، وبقينا على حمر دبرة ". فقال: " يا أبا عبد الله! إن كنا على الطريق؛ فما أسرع لحوقنا بهم! ". قال مالك: " ولم تكن القراءة في المصحف في المسجد من أمر الناس القديم، وأول من أحدثه الحجاج ". قال: " وأكره أن يقرأ في المصحف ". * ومن البدع اجتماع الناس بأرض الأندلس على ابتياع الحلوى ليلة سبع وعشرين من رمضان. وكذلك على إقامة (ينير) بابتياع الفواكه؛ كالعجم، وإقامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 العنصرة، وخميس إبريل؛ بشراء المجبنات والإسفنج، وهي من الأطعمة المبتدعة، وخروج الرجال جميعا أو أشتاتا مع النساء مختلطين للتفرج. وكذلك يفعلون في أيام العيد، ويخرجون للمصلى، ويقمن فيه الخيم للتفرج لا للصلاة. ودخول الحمام للنساء مع الكتابيات بغير مئزر، والمسلمين مع الكفار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 في الحمام والحمام من البدع، ومن النعيم. ورجع الناس ينافسون في الضحية؛ للافتخار لا للسنة، ولا لطلب الأجر، بل لإقامة الدنيا. * ومن البدع قراءة القارئ يوم الجمعة عشرا من القرآن عند خروج السلطان. وكذلك الدعاء بعد الصلاة. وقراءة الحزب في جماعة. وقراءة سورة الكهف بعد العصر في المسجد في جماعة. وكذلك قول من يقول عند قيام الإمام في المحراب قبل تكبيرة الإحرام: اللهم أقمها وأدمها ما دامت السماوات والأرض! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وهذا دعاء المحال؛ لأن ما بقي لقيام الساعة أقل مما مضى؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، وقرن السبابة والوسطى. * ومن البدع: اتخاذ الألوان، والأكل على الخوان. واستعمال الطيب في آنية الفضة - ويرجع من الوليمة عند رؤية آنية الفضة -. * ومن البدع: الإنذار للعروس وللجنازة؛ للمباهاة، والتفاخر لكثرة الناس. وكذلك الإنشاد ورفع الصوت عند حمل الجنازة. * ومن البدع: السؤال في المسجد، والكلام، ولا سيما والإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 يخطب للجمعة. وكذلك الإنذار للصلاة قبل الإمام وبعده. وعمل التوابيت للموتى. وحفر القبر دون لحد. وكذلك الاجتماع لغير ذكر الله في المسجد. وكذلك تقديم اللحم على الفاكهة، والله تعالى يقول: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} ، - والأولى استعمال أدب القرآن، وتقديم ما قدم الله، وتأخير ما أخر الله -. وأكل اللحم من غير نهش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وشرب الماء غير مص. واستعمال السواك غير عرض. والأكل بأزيد من ثلاثة أصابع مكروه. قال: وأرى أن يقاموا من المسجد إذا اجتمعوا فيه للقراءة في يوم الخميس أو غيره. قال مالك في " مختصر ما ليس في المختصر ": " ولا تكتب المصاحف بالذهب، ولا تعشر به، ولا تزوق ". قال: " ومن قرأ منكوسا أدب، والذى يقرأ السورة من آخرها إلى أولها يؤدب ". قال أبو وائل: " جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: إن رجلا يقرأ القرآن منكوسا. فقال: ذلك منكوس القلب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 قال: " ولا يتخذ على القبور مساجد، ويكره أن يبنى على القبور بالحجارة ". قال ابن شعبان: " معناه البلاطة التي ينقش فيها عند رأس الميت ". واعلم أنه روى البخارى: «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حجرا عند قبر عثمان بن مظعون، وقال: أتَعَلَّمُ بهِ قبرَ أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي» . وهذا دليل على استحسان جعل الأحجار على القبور علامة، وحمل قول مالك على ظاهره، وأن لا تبنى القبور بالحجارة؛ لأنه قد ثبت «أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء» . رواه أبو داود في " السنن ". ولا يتمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمسح كذلك المنبر، ولكن يدنو من المنبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو مستقبلا القبلة؛ يوليه ظهره - وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 لا يوليه ظهره - ويصلي ركعتين قبل السلام عليه. وقيل: واسع أن يسلم عليه قبل أن يركع. قال: " ويكره السجع في الدعاء وغيره، وليس من كلام الماضين ". وروى ابن وهب عن عروة بن الزبير أنه كان إذا عرض عليه دعاء فيه سجع عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه؛ قال: " كذبوا، لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه سجاعين ". وروى البخاري في " صحيحه " أن ابن عباس قال لعبيد بن عمير: " اقصص يوما ودع يوما، ولا تمل الناس، وإياك والسجع في الدعاء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك "؛ أي: ترك السجع. قال مالك: " ويقول الداعي في دعائه: اللهم يا رحمن! يا رحيم! ... أحب إلينا من قوله - كما جاء في القرآن -: اللهم ... فقط ". قال: " ولا يؤذن بالجنائز على أبواب المساجد ". قال: " ولا بأس أن يمشي في الخلق يذكر ذلك في خفية ". قال: " ولا يصاح عليها في الطريق ". قال: " ولا يعزى المسلم بقريبه الكافر؛ لقول الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} قال: " ولا أعرف رش القبور بالماء حين يفرغ من دفن الميت ". قال: " ولا بأس أن ينزل في القبر بخفيه ونعليه ". قلت: وإن الناس ليقبلون القصة اليوم. وقال غير مالك - وهو الشافعي -: " من بنى مسجدا في طريق واسع بغير إذن الإمام؛ فإن كان لخاصة نفسه؛ لم يجز، وإن كان لجماعة المسلمين، فصدمه إنسان، فمات؛ ففي وجوب الضمان عليه قولان. وكذلك لو حفر بئرا في طريق المسلمين لمنفعة جميعهم؛ مثل أن يحفر بئرا لماء المطر أو نحوه. وكذلك إذا سقف مسجدا فوقع على إنسان، أو فرش حصيرا في المسجد فعثر فيه إنسان، أو وضع فيه جذعا أو رفا، فوقع على إنسان، فإن كان بإذن الإمام؛ فلا ضمان عليه، وإن كان بغير إذنه؛ ففي الضمان قولان ". قال أصحاب الشافعي: " إذا بالت دابة في الطريق، فزلق فيه إنسان، وسقط، ومات؛ وجبت ديته على عاقلة من يده على الدابة؛ سواء كان راكبها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أو قائدها، أو ساقيها. وكذلك إذا رش ماء في الطريق ليزيل شعثه، فزلق به إنسان، أو طرح فيه قشور بطيخ أو غيره، فزلق به إنسان؛ فإن الدية على عاقلته ". 15 - فصل من لطيف الكلام في هذا الباب هل الأفضل أن تتحرى النوافل من المواضع التي كان يتحراها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قال مالك في " مختصر ما ليس في المختصر ": " فأما موضع النافلة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالأفضل موضع مصلاه ". وقد قيل: إنه أبى أن يحد لموضع منه في النافلة استحباب. 16 - شرح وهذان قولان في تعيين محل الفعل: أحدهما: لا يتعين للفضيلة، وإليه صار عمر بن الخطاب، فروى المعرور بن سويد؛ قال: " صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح، فقرأ فيها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} . . .، و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} ، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين! مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يصلون فيه. فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 منكم في هذه المساجد؛ فليصل، ومن لا؛ فليمض ولا يتعمدها ". وهكذا أيضا أرسل عمر، فطمس موضع الشجرة التي بايع تحتها أصحاب الشجرة. وقد ذكرناه. والقول الثاني: يتعين للفضيلة، وبه قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع. «أما سلمة؛ فكان يصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقال له يزيد بن أبي عبيد: أراك تتحرى الصلاة ها هنا؟ قال: فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها» . وأما ابن عمر؛ فروي عنه أنه جاء إلى مسجد بني معاوية من الأنصار، فقال: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم من مسجدهم؟ ثم صلى فيه ابن عمر. سأل ابن عمر بلالا: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل الكعبة؟ فصلى فيه. وكذلك فعل في مسجد قباء. وروى البخاري: قال موسى بن عقبة: " رأيت سالما - ابن عبد الله - يتحرى أماكن من الطريق، ويصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة ". قال موسى: " وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة ". وقد روي «أن ابن عمر أدار راحلته في الطريق مرتين أو ثلاثا، فسئل عن ذلك؟ فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أدار راحلته» . وأصل هذا الباب أن زمان الفعل ومكانه وقرائنه كل ذلك شرط في الفعل؛ وجوبا أو استحبابا. وقد بيناه في أصول الفقه. 17 - فصل في قراءة القرآن بالإدارة قال مالك في " مختصر ما ليس بالمختصر " لابن شعبان: " ولا يجتمع القوم يقرؤون في سورة واحدة؛ كما يفعل أهل الإسكندرية، هذا مكروه ولا يعجبنا ". قال: " ويكره أن يقرئ المقرئ جماعة ". ثم خفف للجماعة بعد. وذكر في " المنتقى "؛ قال: " سئل مالك عن قراء مصر الذين يجتمع الناس إليهم، فكل قارئ منهم يقرئ العصبة يفتح عليهم؟ قال: إنه حسن، لا بأس به ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقد قال مرة: إنه كرهه وعابه، وقال: " يقرأ ذا ويقرأ ذا، يقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ". قال: ولو كان يقرأ واحد ويستثبت من يقرأ عليه، أو يقرأ عليه واحد بعد واحد؛ لم أر به بأسا ". وأما أن يجتمع القوم، فيقرؤون في السورة مثل ما يقرأ في الإسكندرية، وهو الذي يسمى الإدارة؛ فكرهه مالك، وقال: " هذا لم يكن من عمل الناس ". قال في " مختصر ما ليس في المختصر ": " والذين يجتمعون ويقرؤون سورة واحدة حتى يختموها كل واحد منهم على إثر صاحبه مكروه منكر ". قال: " فلو قرأ أحد منهم منها آيات، ثم قرأ الآخر على إثر صاحبه، والآخر كذلك؛ لم يكن بذلك بأس، هؤلاء يعرضون بعضهم على بعض ". 18 - شرح لم يختلف قوله إلا إذا قرؤوا جماعة معا على المقرئ، وسواء على هذا كانوا في سورة واحدة أو سور مختلفة، والمسألتان لا تفترقان؛ لأن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} يمنع قراءة اثنين معا، سواء قرآ على مقرئ في سورة أو سور، أو قرؤوا بالإدارة في سورة. فإن قيل في مسألة الجماعة على المقرئ: قد وجد الإنصات من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 المقرئ ولم يوجد في الإدارة! قلنا: قوله تعالى {وَأَنْصِتُوا} خطاب لجميع الحاضرين، فلو قرأ اثنان وأنصت ألف؛ دخل الاثنان في النهي؛ لأن قوله تعالى: {وَأَنْصِتُوا} متوجه إليهما. ثم يلزم على هذا إذا قرأ جماعة بالإدارة في سورة واحدة، وواحد منصت يستمع: أن ترتفع الكراهة. فالصواب أن يرد أحد جوابيه إلى الآخر، فيمنع في الموضعين، ووجه المنع قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} . فإن قيل: إن هذه الآية إنما نزلت في الصلاة بإحماع العلماء: قال ابن مسعود: " كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فنزلت ". وقال بشير بن جابر: " صلى ابن مسعود، فسمع ناسا يقرؤون مع الإمام، فقال لهم: أما آن لكم أن تفقهوا {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ؟ ". قلنا: من أصلنا أن الخطاب إذا نزل على سبب، وكان مستقلا بنفسه؛ وجب حمله على العموم، ولا يقصر على سببه. فإن قيل: قد قال مالك في " مختصر ما ليس في المختصر ": " من سمع رجلا يقرأ؛ فليس عليه أن يستمع له ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 قال: " ولا حرج على متكلم وقارئ يقرأ ". قال ابن شعبان: " هذا إجماع الأمة، ففيه دليل على قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} في الصلاة "! قلنا: معنى هذا إذا قعد جماعة لمعايشهم وأشغالهم، فابتدأ أحدهم بالقراءة من غير إذنهم؛ فليس عليهم أن يستمعوا له، ولهم أن يتكلموا فيما يعنيهم؛ لأن القارئ قد آذاهم وقطعهم عن منافعهم وتجارتهم؛ فقد فعل مكروها. فأما إذا اجتمع القوم للتلاوة والعبادة، أو قرأ القارئ بإذن الجماعة، أو مر الناس إلى مجالس القراء؛ فعليهم أن ينصتوا للقارئ، ولا يتكلموا. فهذا المراد بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} . ألا ترى أن في الخطبة وفي الإمام إذا جهر في الصلاة، ولا يقرأ المأموم ولا يتكلم! وإن كان - أو جاء - رجل يعظك ويقرأ القرآن بحضرتك من غير أن تامره بذلك؛ لم يجب عليك الاستماع، وكان لك أن تتكلم فيما يعنيك. فإن قيل في الصلاة والخطبة: هما واجبان، فكان الاستماع والإنصات واجبين، فأما اجتماع الجماعة للتلاوة فليس بواجب، فلم يكن الإنصات فيه واجبا، فنشأ منه جواز القراءة بالإدارة! قلنا: وإن لم يكن واجبا؛ إلا أن تلاوة القرآن فضيلة ومنقبة، واستماعه أيضا فضيلة، فإذا كان أصل القراءة على وجه مأمور به مندوبا إليه؛ جاز أن يكون الاستماع مأمورا به مندوبا إليه. وقد علل القاضي أبو الوليد المنع من قراءة الإدارة؛ قال: " إنما كرهه مالك للمجاراة في حفظه والمباهاة بالتقدم فيه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 19 - فصل في الاجتماع لقراءة القرآن روى أبو داود في " السنن " عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفت بهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» . وروى مسلم في " صحيحه " عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة يوم القيامة، ومن يسر على معسر؛ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما؛ سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفت بهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله؛ لم يسرع به نسبه» . وروى مالك في " الموطإ " عن محمد بن سيرين: " أن عمر بن الخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 رضي الله عنه كان في قوم وهم يقرؤون القرآن، فذهب لحاجته، ثم رجع وهو يقرأ القرآن، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! أتقرأ القرآن ولست على وضوء؟ فقال له عمر: ومن أفتاك بهذا! أمسيلمة؟ ". فالجواب: أن هذه الآثار تقتضي جواز الاجتماع لقراءة القرآن على معنى الدرس له والتعلم والمذاكرة، وذلك يكون بأن يقرأ المتعلم على المعلم، أو يقرأ المعلم على المتعلم، أو يتساويا في العلم، فيقرأ أحدهما على الآخر على وجه المذاكرة والمدارسة، هكذا يكون التعليم والتعلم؛ دون القراءة معا. وجملة الأمر أن هذه الآثار عامة في قراءة الجماعة معا على مذهب الإدارة، وفي قراءة الجماعة على المقرئ. وقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} خاص في وجوب الإنصات عند القراءة. فإن قيل: الآية خاصة في وجوب الإنصات عند القراءة؛ عامة في المحل، فيخص عمومها، وتحمله على صلاة الجهر وعلى الخطبة؛ بدليل حديثه الخاص، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسونه .... » ! قلنا: حديثكم أيضا خاص من وجه، عام من وجه، فخصوصه في تدارس القرآن، وعمومه في وجه التدارس، إذ لم يبين على أي وجه يتلونه ويتدارسونه؛ لأن التدراس يحتمل ما قلتم وقلنا، فنفس الإنصات خصوص غير محتمل، وإنما عمومه في شيء آخر، فأما التلاوة والتدارس؛ فعام في نفسه على ما ذكرناه، فيمضي عليه خصوص آيتنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 والسر فيه أن قوله صلى الله عليه وسلم: " يتلونه ويتدارسونه " خطاب عربي، ومعلوم من لسان العرب أنهم لو رأوا جماعة اجتمعوا لقراءة القرآن على أستاذهم، ورجل واحد يقرأ القرآن؛ لجاز أن يقولوا: هؤلاء جماعة يقرؤون القرآن ويتدارسونه وإن كانوا كلهم سكوتا. وكذلك لو مر العربي بجماعة اجتمعوا لتدريس العلم والتفقه فيه ولسماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لجاز أن يقول: هذه جماعة يدرسون العلم، ويقرؤون العلم والحديث. وإن كان القارئ واحدا. 20 - فصل في التعزية اعلم أن التعزية لأهل المصيبة سنة مرغب فيها، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عزَّى مسلما مصابا؛ كان له مثل أجره» . وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر قال: «قبرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ميتا، فلما» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 «فرغنا؛ انصرف وانصرفنا معه، فلما حاذى بابه؛ لقي فاطمة في الطريق، فقال لها: ما أخرجك يا فاطمة؟ . قالت: أتيت - يا رسول الله! - أهل هذا البيت، فرحمت إليهم ميتهم، أو عزيتهم به. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: فلعلك بلغت معهم الكُدى! ... » ، فذكر تشديدا في ذلك. قال ربيعة وغيره: " الكُدى: القبور ". وكأنه مأخوذ من الكدية، وهي القطعة الصلبة من الأرض، والقبور إنما تحفر بالمواضع الصلبة؛ لئلا تنهار. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي جاءت التعزية، فسمعوا صوتا من جانب البيت يقول: " السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا؛ فإن المصاب من حرم الثواب ". ويقال: إنه كان الخَضر عليه السلام! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 إذا ثبت هذا؛ فإن العزاء من حين يموت الميت إلى أن يدفن وعقيب الدفن، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة والثوري: " لا يعزى بعد الدفن؛ لأن الدفن عاقبة أمره، وكما لو طال الزمان ". ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «من عزى مصابا؛ كان له مثل أجره» ، ولم يفرق. وأيضا؛ فإن عقيب الدفن يكثر الجزع؛ لأنه وقت مفارقة شخصه، والانقلاب عنه، فتستحب التعزية. فحصل اتفاق أبي حنيفة والشافعي على أنه لا يعزى بعد الدفن إذا طال. وروي أن محمد بن عبد الحكم أرسل إلى الشافعي يعزيه في ميت له: إنا معزوك لا أنَّا على ثقةٍ ... من البقاء ولكن سنة الدين فلا المُعزَّى بباق بعد صاحبه ... ولا المُعَزِّي وإن عاش إلى حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وأحسن ألفاظ التعزية ما ذكرناه من تعزية الخضر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيه. ويعزى الكبير والصغير، والرجل والمرأة؛ إلا أن تكون شابة؛ فلا يعزيها إلا ذو رحم. قال علماؤنا المالكيون: التصدي للعزاء بدعة ومكروه، فأما إن قعد في بيته أو في المسجد محزونا من غير أن يتصدى للعزاء؛ فلا بأس به؛ فإنه «لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم نعي جعفر؛ جلس في المسجد محزونا، وعزاه الناس» . قال مالك: " ولا بأس أن يبعث إلى أهل الميت طعام، وسواء فيه القريب والبعيد، وذلك «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه نعي جعفر؛ قال: اصنعوا لآل جعفر طعاما؛ فإنه جاءهم ما يشغلهم عنه» ". وهذا الطعام مستحب عند معظم العلماء؛ لأن ذلك من البر والتقرب للأهل والجيران، فكان مستحبا. فأما إذا أصلح أهل الميت طعاما ودعوا الناس إليه؛ فلم ينقل فيه عن القدماء شيء، وعندي أنه بدعة ومكروه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وهذه المسألة مما وافقنا عليه الشافعي. قال أبو نصر بن الصباغ في " الشامل "؛ قال: " لم ينقل فيه شيء، وهو بدعة غير مستحب ". وقد روى أبو داود في " السنن " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عقر في الإسلام» . وذلك أنه كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد، يقولون: نجازيه على فعله؛ لأنه كان يعقرها في حياته، فيطعمها الأضياف، فنحن نعقرها على قبره؛ ليأكلها الطير والسباع فيكون مطعما بعد مماته؛ كما كان مطعما في حياته. ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره؛ حشر في القيامة راكبا، ومن لم يعقر عنه؛ حشر راجلا! وهذا رأي من كان يرى البعث بعد الموت، فجاء الإسلام بإبطال ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 21 - فصل [التصبر] اعلم أن التصبر واجب، وإظهار الجزع حرام، والنياحة حرام، والبكاء مباح: فأما الصبر؛ فالقرآن جميعه دل عليه: قال الله عز وجل: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . ثم وعد ما علمت. وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ} إلى قوله: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} . وقد قيل: إنه ليس في كتاب الله تعالى أسلى من هذه الآية. فأما الجزع؛ فليس هو إلا مرارة الفقد، ومضاضة الثكل؛ فإن هذا مركوز في الجبلة، وإنما المذموم إظهار ما لا ينبغي إظهاره بالقول والفعل. وقد قيل لبعض الحكماء - وقد ظهر عليه الحزن والجزع -: أخرج هذا من قلبك. فقال: ليس بإذني دخل. وأما النياحة؛ فحرام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وروى أبو سعيد الخدري؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله النائحة والمستمعة» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب» . ومن " صحيح مسلم " عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من حلق، ومن سلق، ومن خرق» . وقال الرسول عليه السلام: «تكسى النائحة يوم القيامة سربالا من قطران، ودرعا من جرب» . رواه مسلم في " الصحيح ". وفيه أخبار كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك يشبه التظلم والاستغاثة على الله عز وجل، وفيه تشبه بالاستعداء. وما فعله الله تعالى؛ فهو حق وعدل. وكذلك لا يجوز الصراخ على الميت، والدعاء بالويل والثبور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فأما البكاء من غير شيء من ذلك؛ فهو مباح. والدليل عليه «أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ابنه إبراهيم في حجره، وكان ينزع، فبكى عليه، وقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» . وروي «أن النبي صلى الله عليه وسلم فاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: إنها رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» . فإذا ثبت هذا؛ فإن البكاء مباح إلى أن تخرج الروح، فإذا خرجت؛ كره البكاء؛ لما روى عبد الله بن عتيك؛ قال: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن ثابت يعوده، فوجده قد غلب، فصاح به، فلم يجبه، فاسترجع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: غلبنا عليك يا أبا الربيع. فصاح النسوة وبكين، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعهن؛ فإذا وجب؛ فلا تبكين باكية» . يعني: مات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 22 - فصل [المآتم] فأما المآتم؛ فممنوعة بإجماع العلماء: قال الشافعي: " وأكره المآتم، وهو اجتماع الرجال والنساء؛ لما فيه من تجديد الحزن ". قال: " ويكره المبيت في المقبرة لما فيه من الوحشة ". والمأتم: هو الاجتماع في الصبحة، وهو بدعة منكرة لم ينقل فيه شيء. وكذلك ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث والسابع والشهر والسنة، فهو طامة. وقد بلغني عن الشيخ أبي عمران الفاسي - وكان من أئمة المسلمين - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أن بعض أصحابه حضر صبحة، فهجره شهرين وبعض الثالث، حتى استعان الرجل عليه، فقبله وراجعه، وأظنه استتابه ألا يعود. فأما ما يوقد فيها من الشمع والبخور؛ فتبذير وسرف، وإن أنفقه الوصي من مال التركة؛ ضمنه، وسقطت به عدالته، واستأنف الحاكم النظر في الوصاية. قال ابن السماك: " سألت بعض رهبان الأكواخ: لم سمي الاجتماع في المصيبة مأتما؟ قال: فبكى، ثم قال: لأن المجتمع عليه ومن أجله لم يتم ". 23 - فصل [خروج النساء للجنازة] ومن البدع المنكرة عند جماعة العلماء خروج النساء لاتباع الجنائز، والدليل عليه حديث فاطمة الذي ذكرناه في أول الفصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 قال مالك: " وأكره أن تخرج النساء إلى الجنازة، وإن كان من أقاربها؛ إلا الأبوين والزوج والولد والأخوة ". قال علماؤنا: فيجبر الزوج على مضيها خلفه إلى الجنازة دفعة واحدة؛ لأن في منعها إضرارا بها، فإن حلف عليها الطلاق؛ لم يحنث؛ لأن ما يدخل عليها من ضرر الطلاق أكثر من ضرر منع الزيارة؛ بخلاف ما لو حلف عليها أن لا تصلي ولا تصوم؛ فإنها تصلي وتصوم ويحنث. قال مالك: " ولا ينبغي لها أن تخرج فيمن عداهم؛ من عم، أو خال، أو غيرهما، فأما الصلاة؛ فإذا حضرت؛ جاز لها الصلاة على الجنازة ". 24 - فصل [الجنائز] قد ذكرنا عن مالك أنه قال: " لا يؤذن بالجنائز على أبواب المساجد، ولا بأس أن يمشي في الخلق يذكر ذلك في خفية، ولا يصاح عليها في الطريق ". وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي. وقد يحكى عن أبي حنيفة أنه قال: " يجوز أن ينادى على الميت ". وليس يعني ما يفعله الناس اليوم بأرض مصر من الصياح بين يدي الجنازة؛ من حين يخرج الميت إلى أن يتم من دفنه، وإنما يعني " إعلام الناس في مثل أبواب المساجد، ومجامع الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ودليلنا ما روي عن حذيفة بن اليمان؛ قال: «إذا مت؛ فلا تنعوني؛ فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين ينهي عن النعي» . قال عبد الله بن المبارك: " تأويله النداء على الميت ". والله أعلم وأحكم. تم كتاب " الحوادث والبدع " بحمد الله تعالى وحسن عونه. وصلى الله على محمد وآله وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178