الكتاب: التوحيد وبيان العقيدة السلفية النقية المؤلف: عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين بن حميد (المتوفى: 1402هـ) المحقق: أشرف بن عبد المقصود الناشر: مكتبة طبرية الطبعة: الأولى - 1412 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- التوحيد وبيان العقيدة السلفية النقية عبد الله بن حميد الكتاب: التوحيد وبيان العقيدة السلفية النقية المؤلف: عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين بن حميد (المتوفى: 1402هـ) المحقق: أشرف بن عبد المقصود الناشر: مكتبة طبرية الطبعة: الأولى - 1412 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة تشتمل على صفوة عقيدة أهل السُّنة وخُلاصَتها المستمدة من الكتاب والسّنة بقلم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي * قال رحمه الله مبينًا عقيدة أهل السُّنة والجماعة: العقيدة السَّفلية النقية: * وذلك أنهم: يُؤْمنون باللهِ ومَلائكتهِ وكُتُبهِ ورُسله واليوم الآخر، والقدَر خيره وشَرِّه. * فيشهدون: أن الله هو الربُّ الإله المعبود، المتفرِّد بكل كمال فيعبدونه وحْدَه، مخلصين له الدِّين. * فيقولون: إن الله هو الخالق البارئ المُصَوِّر الرزَّاق المُعْطِي المانع المدَبِّر لجميع الأمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وأنه المألوهُ المعبودُ الموحَّدُ المقصود، وأَنَّه الأوَّل الذي ليس قبله شيء، الآخر الَّذي ليس بَعْدَهُ شيء، الظَّاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء. وأَنَّه العليُّ الأعلى بكل مَعْنَى واعتبار، علو الذَّات وعلو القدر، وعلو القهر. وأَنَّه على العرش اسْتَوى، استواءً يَليق بعظمته وجلاله، ومع عُلوه المُطْلق وفوقيته، فعِلْمُه محيط بالظواهر والبواطن والعالم العلوي والسفلي، وهو مع العباد بِعِلْمِه، يعلم جميعَ أحوالهم، وهو القريب المُجِيب. وأَنَّه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، والكل إليه مُفْتَقِرون في إيجادهم وإيجاد ما يحتاجون إليه في جميع الأوقات، ولا غنًى لأحد عنه طرفة عين، وهو الرَّءوف الرَّحيم، الذي ما بالعباد من نعمة دينية ولا دنيوية، ولا دفع نقمة إلَّا من الله، فهو الجالب للنِّعم، الدَّافع للنِّقم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ومن رحمته أَنَّه يَنْزِلُ كل ليلة إلى السَّماء الدُّنيا يستعرض حاجات العباد حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: لا أسألُ عن عبادي غيري، مَنْ ذا الذي يَدْعُوني فأسْتَجِيبُ له، مَنْ ذا الذي يسألني فأُعطيه، مَنْ ذا الذي يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر. فهو ينزل كما يشاء، ويفعل كما يريد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . [الشورى: 11] . * ويعتقدون أَنَّه الحكيم، الذي له الحكمة التّامَّة في شرعه وقدره، فما خلق شيئًا عبثًا، ولا شرع الشَّرائع إلَّا للمصالح والحكم. وأنَّه التَّوَّاب العفوُّ الغفور، يقبل التَّوبةَ مِنْ عباده ويعفو عن السيئات، ويغفر الذنوب العظيمة للتَّائبين والمستغفرين والمُنيبين. وهو الشَّكور الذي يشكر القليل من العمل، ويزيد الشَّاكرين من فضله. * ويَصِفُونه بما وَصَفَ به نفسَه، وَوَصَفَهُ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 من الصِّفات الذَّاتية، كالحياة الكاملة، والسَّمع والبصر، وكمال القدرة والعظمة والكبرياء، والمجد والجلال والجمال، والحمد المطلق. ومن صفات الأفعال المتعلقة بمشيئته وقُدرته كالرَّحمة والرِّضا، والسُّخط والكلام، وأَنَّه يتكلم بما يشاء كيف يشاء، وكلماته لا تَنفد، ولا تبيد. وإن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بَدَأَ، وإليه يَعُود. وأَنَّه لم يَزَلْ ولا يزالُ موصوفًا بأنه يفعل ما يريدُ، ويتكلَّم بما شاء، ويحكم على عباده بأحكامه القَدَرِيَّة، وأحكامه الشَّرعية، وأحكامه الجزائية، فهو الحاكم المالك، ومَنْ سِوَاه مملوك محكوم عليه، فلا خروج لِلْعبادِ عن ملكه ولا عن حكمه. * ويُؤمنون بما جاء به الكتابُ وتواترت به السُّنَّة: أنَّ المؤمنين يَرَوْنَ رَبَّهم تعالى عيانًا جهرةً، وأن نعيمَ رُؤيتهِ، والفوزَ برضوانه أكبرُ النعيم واللذة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وأن مَنْ مات على غير الإيمان والتَّوحيد فهو مُخَلَّدٌ في نار جهنم أبدًا، وأن أرباب الكبائر إذا ماتوا على غير توبة، ولا حصل لهم مُكَفّرٌ لذنوبهم، ولا شفاعة فإنَّهم وإن دخلوا النَّار لا يخلَّدُون فيها، ولا يبقى في النار أحدٌ في قلبه مثقال حبَّة خردلٍ من إيمان إلَّا خَرَج منها. وأن الإيمان يشملُ عقائدَ القلوب وأعمالها، وأعمال الجوارح، وأقوال اللِّسان، فمن قام بها على الوجه الأكمل فهو المؤمن حقًّا، الذي استحق الثَّواب وسَلِمَ مِنَ العِقاب، ومَن انتقصَ منها شيئًا نقص مِن إيمانِه بقدر ذلك. ولذلك كان الإِيمان يزيدُ بالطاعة وفعل الخير، وينقصُ بالمعصية والشرِّ. * ومن أصولهم السَّعْيُ والجِدُّ فيما ينفعُ من أمور الدِّين والدُّنيا مع الاستعانة بالله. فهم حريصون على ما ينفعهم ويستعينون بالله. وكذلك يُحقِّقُون الإخلاصَ لله في جميع حركاتهم، ويتبعون رسول الله في الإخلاص للمعْبُود، والمتابعة للرسول، والنَّصيحة للمؤمنين أتْبَاعُ طَرِيقهِم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 * ويَشْهَدُون أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه أرسلَه الله بالهدى ودين الحق ليظهرَهُ على الدِّين كُلِّهِ، وأنه أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو خاتم النَّبيين، أُرْسِلَ إلى الإنس والجن بشيرًا ونذيرًا، ودَاعِيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أرسله بصلاح الدِّين وصلاح الدُّنيا، وليقوم الخلْقُ بعبادة الله، ويستعينوا برزقه على ذلك. * ويَعْلَمُون أنه أعلَمُ الخلق وأَصدقهم، وأَنصحهم وأعظمهم بيانا، فيعظمونه ويحبونه، ويقدِّمون محبته على محبة الخلق كُلِّهِم، ويتبعُونه في أصولِ دينهم وفُروعه. * ويقدِّمُون قَوْلَهُ وهَدْيَهُ على قولِ كُلِّ أحدٍ وهديه. * ويعتقدون أن الله جَمَعَ له من الفضائل والخصائص والكمالات ما لم يجمَعْه لأحد، فهو أعلى الخلق مقامًا، وأعظمهم جاهًا، وأكملهم في كل فضيلة، لم يبق خير إلا دلَّ أُمَّتَه عليه، ولا شر إلا حذَّرَهم منه. وكذلك يؤمنون بكل كتاب أنزله الله، وكُلِّ رسولٍ أرسله الله، لا يفرقون بين أَحَدٍ من رُسُلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 * ويؤمنون بالقَدَر كله، وأنَّ جميعَ أعمالِ العبادِ - خيرِها وشرِّها قد أحاط بها علمُ الله، وجرى بها قلمُه، ونفذت فيها مشيئته، وتعلقت بها حكمتُه، حيث خلق للعباد قدرةً وإرادةً، تقع بها أقوالهم وأفعالهم بحسب مَشيئتهم، لم يجبرهم على شيءٍ منها، بل مختارين لها، وخَصَّ المؤمنين بأن حَبَّبَ إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكَرَّه إليهم الكفرَ والفُسُوقَ والعِصْيان بعَدْلِهِ وحكمته. * ومِنْ أُصُول أهل السُّنَّة: أنهم يدينُونَ بالنَّصيحة لله ولكتابه ورسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويأمرون بالمعروف، ويَنْهَوْنَ عن المنكر على ما تُوجبه الشَّريعةُ، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والمماليك والمعاملين، ومن له حق، وبالإحسان إلى الخلق أجمعين. * ويَدْعُون: إلى مكارم الأخلاق ومَحَاسِنها، ويَنْهَوْن عن مَسَاوئ الأخلاق وأرذلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 * ويعتقدون: أن أكمل المؤمنين إيمانًا ويقينًا، أحسنُهُم أعمالًا وأخلاقًا. وأَصْدَقُهُم أقوالًا، وأهداهم إلى كل خير وفضيلة. وأبعدهم من كل رذيلة. * ويأمرون بالقيام بشرائع الدِّين، على ما جاء عن نبيهم فيها، وفي صفاتها ومكملاتها. والتَّحذير عن مفسداتها ومنقصاتها. ويَرَوْن الجِهَاد في سبيل الله ماضيًا مع البَرِّ والفاجِر، وأنه ذِرْوَةُ سَنام الدين. جهادَ العلمِ والحُجَّةِ. وجهادَ السِّلاحِ، وأنه فرضٌ على كلِّ مسلمٍ أن يدافعَ عَنِ الدّين بكل ممكن ومستطاع. * ومن أصُولهم: الحث على جَمْع كلمة المسلمين. والسَّعْي في تقريبِ قلوبهم وتأليفِهَا.. والتَّحْذير من التفرق والتعادي والتباغض والعمل بكل وسيلة توصل إلى هذا. * ومن أصولهم: النَّهْي عن أذيَّةِ الخلْقِ في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم، والأمرُ بالعدْل والإِنصاف في جميع المعاملات. والنَّدْب إلى الإحسان والفَضل فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 * ويؤمنون: بأن أفضلَ الأمم أمةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وأَفْضَلَهُمْ أصْحَابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. خصوصًا الخلفاءُ الراشدون، والعشرةُ المشهود لهم بالجنة، وأهلُ بدر. وبيعة الرضوان والسَّابقون الأوَّلُون من المهاجرين والأنصار. فيحبُّون الصَّحَابة، ويدينُون للهِ بذلك. * ويَنْشُرُونَ مَحَاسِنَهُم، ويسْكتون عَمَّا قيل عن مَسَاوئهم. * ويدينون لله: باحترام العلماء الهداة وأئمة العدل، ومَنْ لهم المقاماتُ العاليةُ في الدين والفضل المتنوع على المسلمين، ويسألون الله أن يعيذَهُم مِنَ الشَّك والشِّرْك، والشقاقِ والنفاقِ، وسُوء الأخلاق، وأن يُثَبِّتهم على دين نبيهم إلى الممات. هذه الأصُول الكلية بها يؤمنون، ولها يَعْتَقدون، وإليها يَدْعُون. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله الذي خلق العباد لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده، لا شريك له في رُبوبيته، وإلاهِيَّته، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع سَبِيله ودَعَا بِدَعْوَتهِ، وسَلِّم تَسْلِيمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين. وبعد:- فهذه نَبْذَهٌ يسيرة تُبَيِّن للمُسْلم العقيدة السَّلفية النَّقية عن كل ما يشُوبها من خُرَافة وبِدْعة، عقيدة أهل السُّنة والجمَاعة من سَلَفِ هذه الأُمَّة، من الصَّحابة والتَّابعين، ومن بعدهم من مُحَقِّقي العلماء الذين أجمع المسلمون على هِدَايتهم، ودِرَايتهم من السَّابقين الأَوَّلِين من المهاجرين والأنصار، والَّذين اتَّبعوهم بإحسان. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 * اعلم أن التَّوحيد الذي دلَّ عليه القرآن والسُّنة، وأجمع عليه سَلَفُ الأمَّة، ثَلاثَةُ أقْسَام: 1 - تَوحِيدُ الرُّبوبية. 2- تَوحِيدُ الأُلوهية. 3- تَوحِيدُ الأَسماء والصِّفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فصل في بيان توحيد الرُّبوبية * أَمَّا تَوحيد الرُّبوبية، فقد اعترف به المُشْرِكُون الَّذين بُعِثَ فيهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُدْخِلْهم في الإسلام، فهم مُقِرُّون بأنَّ الله هو الخالق الرَّازق، المُحْيي المُميت، المُتَصَرِّف في هذا العالم بما تَقْتَضِيه حِكْمَتُه وإرَادَتُه، ومجرد الاعتراف بهذا لا يكون به الإنسان مُسْلمًا، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} . [يونس: 31] . أي: أَفَلا تُفْرِدُونَه بالعِبَادة، وتَتْركُون عِبَادة مَا سِوَاه. فقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 31] أي: مَنْ ذا الَّذي يُنْزِل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 من السَّماء ماء المطر، فَيَشُق الأرض شَقًّا بِقُدْرته، ومَشِيئته، فيخرج منها حَبًّا، وعِنَبًا وقَضْبًا، وَزَيتونًا ونخلًا، وحدائق غُلْبًا، وفَاكِهَةً وَأبّاً، أإله مع الله؟ فسيقولون الله. وقوله: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس: 31] أي الَّذي وَهَبَكُم هذه القوة السَّامعة، والقوة البَاصِرة، ولو شاء لذهب بها، ولسَلَبَكُم إيَّاها، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} . [الملك: 23] . وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} . الآية [الأنعام: 46] . وقوله: {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31] بقدرته العظيمة، ومِنَّته العَمِيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وقوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس: 31] : أي مَنْ بيده مَلَكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وهو المُتصَرِّف الحاكم الذي لا مُعَقِّب لِحُكْمِه، ولا يُسْأَل عما يَفعل وهم يُسألون. {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فالمُلكُ كله العلوي والسُّفلي، وما فيهما من ملائكة وإنسٍ وجان، فقيرون إليه عبيد له، خَاضعون لَدَيه {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31] أي وهم يعلمون ذلك، ويَعْترفون به، {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجَهْلكم، فكثيرًا مما يحتجُّ سبحانه وتعالى على المشركين، بما اعترفوا به من توحيد الرُّبوبيَّة على ما أَنكروه من توحيد الأُلوهية، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 [المؤمنون: 84 - 89] . * وتوحيد الرُّبوبية، قد فُطِرت على قُبوله، والاعتراف به قُلوب بني آدم، فلم يُنكره إلَّا شُذَاذ قَليلون، من بني آدم، فَفِرْعَون القائل: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] ، والقائل: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] مُعتَرف في نفس الأمر بوجود الخالق المُوجد لهذا العالم، كما حكى الله عنه، في قوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وفيما حكى الله عن نبيه موسى عليه السَّلام في قوله لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فصل في توحيد الألوهية * وهو إِخْلاَصُ العبادة لله سُبْحَانه وتعالى وحده لا شريك له، فلا يُعْبد إلَّا الله وَحْدَه، ولا يُدْعَى إلَّا هو، دون غيره من الملائكة والنَّبيين والأولياء الصَّالحين وغيرهم. ولا يُلْتَجَأ لكشف الضُّر إلَّا إليه، ولا لِجَلْب الخير إلَّا إليه، ولا يُنْذَر إلَّا له، ولا يُذْبح إلَّا له، ولا يُتَوكَّل إلَّا عليه، ولا يُخَاف إلَّا منه سبحانه، ولا يُسْتَعان ولا يُسْتَغَاثُ إلَّا به وحده. إلى غير ذلك من أنواع العبادة، كالرَّغبة والرَّهبة، والإنابة إلى الله، والخُشوع له، فَصَرْفُ شَيءٍ منها إلى غير الله شِرْكٌ مُنَاف للتَّوحيد الذي أُرْسِل لأجله الرُّسل. فجميع الرُّسل أُرسلوا لتحقيق هذا النوع من التَّوحيد. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 [الأعراف: 59] فهذه دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك إلى عبادة الله وحده سبحانه. وقال هود لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] . وقال صالح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 61] . وقال شعيب لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85] . وقال إبراهيم عليه السَّلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 16] . وقال تعالى: مُخاطبًا لنبينا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 * وأوَّل ما أُمِر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد المُرْسلين، وخاتم النَّبيين توحيد الله بعبادته وَحْدَه، لا شَرِيك له، وإخلاص الدِّين له وَحْدَهُ، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3] ، ومعنى قوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، أي عظم ربك بالتَّوحيد، وإخلاص العبادة له وَحْدَهُ، لا شريك له، وهذا قبل الأمر بالصَّلاة، والزَّكاة، والصَّوم، والحج، وغيرهما من شعائر الإسلام. * ومعنى {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] ، أي أنذر عن الشِّرك في عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا قبل الإنذار عن الزِّنا، والسَّرقة والرِّبا، وظلم النَّاس، وغير ذلك من الذُّنوب الكبار. * وهذا النَّوع من التَّوحيد هو أَعظم أُصول الدِّين وأفرضها، فلأجله خلق الله الخلق، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، ولأجله أرسل الله الرُّسل، وأَنزل الكتب، كما قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . * ومعنى: {اُعْبُدُوا اللَّهَ} وَحِّدُوا الله، وأَفْرِدُوه بالتَّألُّه له تعالى، فالعبادة: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظَّاهرة، والباطنة" من الدُّعاء والخوف، والرَّجاء والتَّوكل، والرَّغبة، والرَّهبة، والخُشُوع، والخَشيْة، والاستعانة، والاسْتِغَاثة، والذَّبح، والنّذر، إلى غير ذلك من أنواع العبادة. وَصرْفُ شيء من هذا إلى غير الله شِرْكٌ بالله، ومُنَافٍ لكلمة التَّوحيد: لا إله إلَّا الله، التي أُرْسِل لأَجْلِها جميع الرُّسل، فإنَّها كلمة عظيمة، قامت بها الأرض والسَّماوات، وخُلِقَت لأَجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رُسُلَه، وأَنزل كُتُبه، وشرع شَرَائِعه، ولأجلها نُصِبَت الموازين، وَوُضِعت الدَّواوين، وقام سوق الجنَّة والنَّار، وبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفَّار، والأبرار والفُجَّار، فهي مَنْشَأُ الخلق والأمر، والثَّواب والعقاب، وهي الحق الذي خُلِقَت له الخَلِيقة، وعنها وعن حقوقها السُّؤال والحِسَاب، وعليها يقع الثَّواب والعقاب، وعليها نُصِبت القبلة، وعليها أُسِّسَت المِلَّة، ولأجلها جُرِّدت السُّيوف للجهاد، وهي حَقُّ الله على جميع العباد، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السَّلام، وعنها يُسْأَل الأَوَّلون والآخرون: "فلا تزول قدم العبد بين يدي الله حَتَّى يُسْأَل عن مَسْألتين: ماذا كُنْتُم تَعْبدون؟ وماذا أَجَبْتُم المُرْسَلين؟ فجواب الأولى: بتحقيق لا إله إلَّا الله، مَعْرفة وإِقرارًا وَعَملًا. وجواب الثَّانية: بتحقيق، أن محمدًا رَسُولُ الله معرفةً وإقرارًا وانقيادًا وطاعَةً". * ومعنى الإله: هو المأْلُوه المعبود الذي يَسْتَحِق العبادة، وليس هو الإله بمعنى القَادِر على الاختراع، فإذا فَسَّر المُفَسِّر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أن هذا المعنى هو أَخَصُّ وَصْف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التَّوحيد - كما يفعل ذلك من يفعله من مُتَكَلِّمة الصِّفاتية وغيرهم، لم يعرفوا حقيقة التَّوحيد الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ مُشْرِكي العَرَب كانوا مُقِرِّين بأنَّ الله وَحْدَه خَالِقُ كُلِّ شيء، وكانوا مع هذا مُشْركين. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] ومع ذلك كانوا يعبدون، ويدعون غيره، ويطلبون المَدَدَ من دون الله، وإذا قيل لهم: لم تعبدون وتدعون غير الله وأنتم تُقِرُّون بأنَّ الله هو الخالق لكل شيء؟ يُجيبون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وقد وقع كثير من النَّاس في كثير من أنواع الشِّرك الذي حذر عنه النَّبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الإسلام لمحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 * " ومنْ أنواع الشِّرك الذي وقع فيه الكثير طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتَّوجه إليهم، وهذا أَصْلُ شِرك العالم، فإنَّ الميت قد انقطع عَمَلُه، وهو لا يملك لنفسه نَفعًا ولا ضَرًّا، فضلا عَمَّن اسْتَغَاث به، أو سأله أن يَشْفع له عند الله، وهذا من جهله بالشَّافع والمَشْفُوع". ولكن يا حَسْرَة على العباد يعملون على قبور المشايخ وَمَشاهِدهم ما كان يعمله المُشْرِكُون على مَشَاهد أوْثَانهم. * قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: "هذه المَشَاهد المَشْهُودة اليوم قد اتَّخذها الغُلاة أعيادًا للصَّلاة إليها والطَّواف بها، وتَقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعِبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النَّصر، والرِّزق، والعافية وقضاء الدِّيون، وتفريج الكُربات، وإغاثة اللَّهفات، وغير ذلك من أنواع الطَّلبات، التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 كان عباد الأوثان يَسْأَلُونها أوثانهم، ومن لم يُصَدِّق ذلك، فليَحْضُر مَشْهدًا من مَشاهدهم المعروفة، حتى يَرَى الغُلاة، وقد نزلوا عن الأكوار والدَّواب - إذا رَأَوها من مكان بعيد- فَوَضعوا لها الجباه، وقبَّلوا الأرض، وكَشَفوا الرُّؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضَّجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النَّشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الرِّبح على الحجيج، فاستغاثوا بِمَن لا يُبدي ولا يُعيد، ونادوا، ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دَنَوا منها صَلُّوا عند القبر رَكْعَتين، وَرأوا أَنَّهم قد أحرزوا من الأجر كأَجر من صلَّى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر رُكَّعًا سُجَّدًا، يَبتغون فَضلا من الميت ورِضوانًا، وقد ملئوا أكُفَّهم خيبةً وخُسْرانًا، فلغير الله - بل للشَّيطان- ما يُراق هناك من العَبَرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميِّت من الحاجات، ويُسْأل من تَفريج الكُرُبات، وإغناء ذَوي الفَاقَات، ومُعَافاة أُولي العَاهات والبَلِيَّات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طَائفين تَشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جَعَله الله مُباركًا وهدى للعالمين، ثمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أخذوا في التَّقبيل والاستلام، أَرَأَيت الحجر الأسود وما يَفْعل به وفد البيت الحرام!! ثمَّ عفَّروا لديه تلك الجِبَاه والخُدود، التي يعلم الله أَنَّها لم تُعَفَّر كذلك بين يديه في السُّجود، ثم كملوا مَنَاسك حج القبر بالتَّقصير والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوَثَن؛ إذ لم يكن لهم عند الله من خَلاق، وقرَّبوا لذلك الوثن القَرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم، وقربانهم لغير الله رب العالمين. قال أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي رحمه الله تعالى: "لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار، مثل تعظيم القبور، والتزامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران، وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها، يا مولاي، افعل لي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركًا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر؛ اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 يتسمح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته الصديق أبو بكر، أو محمد وعلي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجًا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يُرق ماء الورد على القبر". * قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وَمَن جَمَع بين سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القُبور، وما أَمَر به ونَهَى عنه، وما كان عليه أَصْحَابُه، وما عليه أَكثر النَّاس اليوم، رأى أحدهما مُضَادًّا للآخر، مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاة إلى القبور، وهؤلاء يُصَلُّون عندها وإليها، ونهى عن اتَّخاذها مَسَاجد وهؤلاء يَبنون عليها المساجد، ويُسَمُّونها مَشَاهد؛ مُضَاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السُّرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل، ونهى عن أن تُتَّخذ عيدًا، وهؤلاء يَتَّخذونها أعيادًا وَمَناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أكثر، وأمر بتَسويتها لما روى مسلم في صحيحه، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لِي عَلِيٌّ: " «أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن لا تَدَع صُورةً إلَّا طَمَسْتَهَا وَلا قَبْرًا مُشَرّفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ» ". وحديث ثُمامة بن شفي، وهو عند مسلم أيضًا قال: " كُنَّا مع فُضالة بن عبيد بأرض الرُّوم برودس، فتوفي صَاحِبٌ لنا، فأمر فُضَالة بقبره فَسُوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُر بِتَسْوِيتها"، وهؤلاء يُبَالِغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويَعْقِدون عليها القباب، ونَهى عن تجصيص القبر والبناء عليه - لما روى مسلم في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، قال: «نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عن تَجْصِيصِ القبر، وأن يُقْعَدَ عَلَيه، وأَن يُبْنَى عليه» ، وَنَهى عن الكِتابة عَليها - لما روى أبو دَاود في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 سننه: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن تَجْصِيص القُبور، وأن يُكْتَبَ عَلَيها» . قال الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهؤلاء يَتَّخِذون عليها الألواح، وَيكْتُبون عليها القُرآن وغيره، ونهى عن أن يُزاد عليها غير تُرابها، كما روى أبو داود عن جابر -أيضًا-: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُجَصَّص القَبر، أو يُكْتَب عليه، أو يُزاد عليه» ، وهؤلاء يَزِيدون عليه الآجر، والجَص، والأحجار، قال إبراهيم النخعي: "كَانُوا يكرهون الآجر على قبورهم .... ". والمقصود أنَّ هؤلاء المُعَظِّمين للقُبور، المُتَّخِذِينها أعيادًا، الموقدين عليها السُّرج، الذين يبنون عليها المَسَاجد والقباب، المناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 اتِّخاذها مَسَاجد، وإيقاد السُّرج عليها، وهو من الكبائر، وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه. قال أبو محمد المقدسي:ولو أبيح اتخاذ السُّرج عليها لم يُلْعَن من فَعَله؛ ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام. قال: ولا يجوز اتخاذ المَسَاجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَعَن اللهُ اليهود والنَّصارى؛ اتَّخذُوا قُبور أَنبيائِهم مَسَاجِد،» يُحَذِّر مَا صَنَعوا. متفق عليه. ولأنَّ تخصيص القُبور بالصَّلاة عندها يُشبْه تعظيم الأصنام بالسُّجود لها، والتَّقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتِّخاذ صورهم، والتَّمسح بها، والصَّلاة عندها". انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 * قال العلامة المباركفوري الهندي في كتابه: تُحفة الأحوذي بشِرَح جامع التِّرمذي: على قول علي لأبي الهياج الأسدي: «أبعثك على ما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم: "أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالًا إلا طمسته"» ما نصه: "ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولًا أوليًّا، القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكى لها الإسلام، منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، بل ظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر، فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها، واستغاثوا، وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئًا ما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومع هذا المنكر الشَّنيع، والكفر الفظيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 لا نجد من يَغضب لله، ويغار حميه للدين الحنيف، لا عالمًا ولا متعلمًا، ولا أميرًا ولا وزيرًا، ولا ملكًا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرًا من هؤلاء القبوريين، أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من خصمه حلف بالله فاجرًا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم، وتلكأ، وأبى، واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة. فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا؟! لَقَد أَسْمَعْتَ لَو نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِن لاَ حَيَاة لِمَن تُنَادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وَلَو نارًا نَفَخْتَ بِها أَضَاءَت ... وَلكِن أَنْتَ تَنْفُخُ في رَمَادِ * قال العلامة ابن القيم رحمه الله - في قصة هدم الَّلات لما أسلمت ثَقيف-: "فيه أنَّه لا يجُوز إبقاء مَوَاضع الشِّرك والطَّواغيت بعد القُدرة على هَدْمها، وإبطالها يَومًا واحدًا، وكذا حكم المَشَاهد التي بُنِيت على القبور، والتي اتُّخذت أوثانًا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى، ومناة، أو أعظم شركًا عندها وبها ... فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتَفَاقم الأمر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين" ا. هـ. ملخصًا. * وماذا يُفيد الملتجئون إلى أصحاب القُبور، وهم لا يملكون لأنفسهم نَفعًا ولا ضرًّا، بل هم محتاجون إلى رحمة الله، وإلى من يَدْعُو لهم من الأحياء بالرحمة والمغفرة لهم. فهذا سيد الخلق، وأشرف المرسلين، وأكرم البرية يقول لأعز النَّاس عنده بنته فاطمة، والتي هي بِضْعة منه، وعمه عباس بن عبد المطَّلب، وعمته صفية بنت عبد المُطَّلب، ولعشيرته الأقربين: " «يا مَعْشَر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم؛ (أي بالإيمان بالله، والعمل الصَّالح) ، لا أُغْني عَنْكُم مِن الله شَيْئًا، يا عبَّاس بن عبد المُطَّلب لا أغني عَنْكَ من الله شَيْئًا،» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 «يا صَفِيَّة عَمَّة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لا أُغْنِي عَنْكِ مِن الله شَيئًا، ويا فَاطمة بنت مُحَمَّد، سَلِيني من مَالي ما شِئْتِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شيئًا» ". فإذا كان سيد المرسلين صرح بأنه لا يغني شيئًا عن سيدة نساء العالمين، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، فتبين له التوحيد وغربة الدين. وفي الحديث: رد على من تعلق على الأنبياء والصالحين، ورغب إليهم؛ ليشفعوا له، وينفعوه، أو يدفعوا عنه. كما أن فيه: دلالة صريحة على أنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا بما يقدر عليه من أمور الدنيا، وأما الرحمة والمغفرة والجنة، والنجاة من النار، ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يطلب إلا منه تعالى، فإن ما عند الله لا ينال إلا بتجريد التوحيد، والإخلاص له بما شرعه لعباده أن يَتَقَرَّبوا به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 إليه، فإذا كان لا ينفع بنته ولا عمه، ولا عمته، ولا قرابته، إلا ذلك فغيرهم أولى وأحرى، وفي قصة عمه أبي طالب معتبر. فانظر إلى الواقع الآن من كثير من الناس من الالتجاء إلى الأموات، والتوجه إليهم بالرغبات والرهبات، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضرًا، ولا نفعًا، فضلًا عن غيرهم، يتبين لك أنهم ليسوا على شيء {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30] أظهر لهم الشيطان الشرك في قالب محبة الصالحين، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشرك في الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد. * ولا ريب أن محبة الصالحين إنما تحصل بموافقتهم في الدين، ومتابعتهم في طاعة رب العالمين، لا باتخاذهم أندادًا من دون الله يحبونهم كحب الله؛ إشراكًا بالله، وعبادة لغير الله، وعداوة لله ولرسوله، والصالحين من عباده، كما قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116، 117] . ونحن مع هذا لا ننكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء والصالحين، فقد صح أن الأنبياء يشفعون،، والأولياء يشفعون، والأفراط يشفعون، لكن لا نطلب الشفاعة منهم، ولكن نطلبها من الله، فلا يشفع أحد إلا بإذن الله له، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، وهو سبحانه وتعالى لا يأذن إلا لمن رضي الله قوله وعمله، كما في قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] . فنقول: اللهم لا تحرمنا شفاعة نبيك، اللهم شفعه فينا، وأمثال هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 والأحياء يشفعون للميِّت إذا قاموا يصلون عليه بدعائهم له، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يموت فيقومون على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه» ، وكما في دعاء المصلين على الطفل المتوفى، فإنهم يقولون في دعائهم: "اللهم اجعله لوالديه فرطًا وأجرًا، وشفيعًا مجابًا"، فيسألون الله أن يقبل شفاعة هذا الفرط لوالديه، لا لأنهم يطلبون الشفاعة من الفرط نفسه؛ لأن الشفاعة ملك لله، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 44] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فصل في توحيد الأسماء والصِّفات * هو: اعتقاد انفراد الله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلال، وذلك بإثبات ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رَسُوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات بغير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، بل نعتقد أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فلا ننفي عنه بما وصف به نفسه، ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نلحد في أسماء الله وآياته. * فمن صفات الله التي وصف بها نفسه: الاستواء. 1 - فقال عزَّ من قائل في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 2 - وقال في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] . 3 - وقال في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2] . 4 - وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . 5 - وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] . 6 - وقال في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4] . 7 - وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فهذه سبعة مواضع، أخبر فيها سبحانه أَنَّه على العَرش، وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الله عزَّ وَجَلَّ كَتَبَ كِتَابًا قبل أنْ يَخْلُق الخلق: إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَت غَضَبِى، فهو عِنْدَهُ فَوق العَرش» . وقد سُئِل الإمام مالك رحمه الله عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق مالك، وعلته الرحضاء- يعني العرق-، وانتظر القوم ما يجيء منه، فيه فرفع رأسه، وقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وهذا الجواب من مالك -رحمه الله- في الاستواء كاف وشاف في جميع الصفات؛ مثل النزول، والمجيء، واليد، والوجه، وغيرهما، فيقال في النزول: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وهكذا يُقال في سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ولا يجوز تأويل الاستواء على العرش بالاستيلاء؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه؛ إذ هو مستولٍ على العرش، وعلى الخلق، ليس للعرش مزية. قال الإمام أبو بكر بن خزيمة -رحمه الله-: "من لم يقر بأن الله على عرشه استوى فوق سبع سماوات، بائن من خلقه فهو كافر، يستتاب، فإن تاب، وإلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ضُربت عنقه، وأُلْقِي على مَزْبلة؛ لئلا يَتَأَذَّى بريحه أهل القبلة، وأهل الذمة". كما أن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته، بائن من خلقه، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] . {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران آية: 55] {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] . وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلا تَأْمَنُوني، وأَنَا أَمِينُ مَنْ في السَّمَاء» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه-: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي. ومنكر أن يكون الله في جهة العلو بعد هذه الآيات والأحاديث مخالف لكتاب الله، ومنكر لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مالك بن أنس: "الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان". وقال عبد الله بن المبارك: "نعرف ربنا فوق سبع سماوات بائنًا من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه ها هنا، وأشار إلى الأرض"، بل نعتقد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الله سبحانه وتعالى فوق سَمَاواته مُسْتو على عرشه، وأنه ينزل كل ليلة إلى سَماء الدُّنيا، فيجب الإيمان والتَّسليم لذلك، وترك الاعتراض عليه، وإمراره من غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل، ولا نفي لحقيقة النُّزول. فروى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَنْزِلُ رَبُّنا عزَّ وجلَّ كل ليلة إلى سماء الدُّنيا، حين يبقى ثُلث اللَّيل الآخر، فيقول: مَن يَدْعُوني فأَسْتَجِيبُ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَه، مَن يَسْتَغْفِرنَي فَأَغْفِرُ لَهُ، حَتَّى يَطْلُع الفَجر» . وفي لفظ: «يَنْزل الله عزَّ وَجَلَّ» ولا يصح حمله على نزول القدرة ولا الرحمة، ولا نزول ملك، لما روى مسلم - بإسناده- عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك من ذا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 «الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له حتى يضيء الفجر» . وروى رفاعة بن عروبة الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مضى نصف الليل، أو ثلث الليل ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا، فيقول: لا أسأل عن عبادي أحدًا غيري، من ذا الذي يستغفرني أغفر له، من ذا الذي يدعوني أستجيب له، من ذا الذي يسألني أعطيه، حتى ينفجر الصبح» . رواه الإمام أحمد. وهذان الحديثان يقطعان تأويل كل متأول، ويدحضان حجة كل مبطل. وروى حديث النزول علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وجبير بن مطعم، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وعمرو بن عبسة، وأبو الدرداء، وعثمان بن أبي العاص، ومعاذ بن جبل، وأم سلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وخلق سواهم رضي الله عنهم، ونحن مؤمنون بذلك، مصدقون من غير أن نصف له كيفية، أو نشبهه بنزول المخلوقين. اليدان: ومن صفاته سبحانه الواردة في كتابه العزيز، والثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليدان، قال الله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ، وقال عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] . فلا نقول: يد كيد، ولا نكيف ولا نشبه، ولا نتأول اليدين على القدرتين، كما يقول أهل التأويل، بل نؤمن بذلك، ونثبت الصفة من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا يصح حمل اليدين على القدرتين؛ فإن قدرة الله عز وجل واحدة، ولا على النعمتين؛ فإن نعم الله عز وجل لا تحصى. كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] . *وثبت لله عز وجل صفة النفس التي وردت في كتاب الله تعالى، وثبتت في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قال الله عزَّ وجلَّ -إخبارًا عن نَبِيِّه عيسى عليه السَّلام أنه قال-: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] ، وقال عز وجل {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ} [الأنعام: 54] ، وقال سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] ، وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] . وروى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعًا، وإن اقترب إلي ذراعًا اقتربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» . رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 * الوَجْه: ومن الصِّفات التي نطق بها القرآن، وصَحَّت بها الأخبار: الوَجه. قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] ، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] . وفي حديث أبي موسى قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع، فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، ثم قرأ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} » [النمل: 8] . فهذه صفة ثابتة بنص الكتاب، وخبر الصادق الأمين، فيجب الإقرار بها، والتسليم كسائر الصفات الثابتة بِواضح الدِّلالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 * ونعتقد أن الله سبحانه وتعالى يرى في الآخرة -كما جاء في كتابه-، وصح به النقل عن رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22] . وروى جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: «إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته» الحديث. قال مالك بن أنس رضي الله عنه: "الناس ينظرون إلى الله تعالى بأعينهم يوم القيامة". * وفي معتقد أهل السنة والجماعة إن الله عز وجل لم يزل متكلمًا بكلام إذا شاء متى شاء، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الله عزَّ وجلَّ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] . * قال أبو العباس بن سريج: "إن جميع الآي الواردة عن الله في ذاته وصفاته والأخبار الصادقة الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفاته التي صححها أهل النقل، يجب على المرء المسلم الإيمان بكل واحد منه كما ورد، وتسليم أمره إلى الله كما أمر، وذلك مثل قوله سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] ، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، وقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] . ونظائرها مما نطق به القرآن، كالفوقية، والنفس، واليدين، والسمع، والبصر، والكلام، والعين، والنظر، والإرادة، والرضاء، والغضب، والمحبة، والكراهة. والقرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 والبعد، والسخط والاستجابة، وصعود الكلام الطيب إليه، وعروج الملائكة والروح إليه، ونزول القرآن منه، وندائه الأنبياء وقوله للملائكة، وقبضه وبسطه، وعلمه، ووحدانيته، وقدرته، ومشيئته، وصمدانيته، وفردانيته، وأوليته، وآخريته، وظاهريته، وباطنيته، وحياته، وبقائه، وأزليته، ونوره، وتجليه، والوجه، وخلق آدم بيده، ونحو قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] . وسماعه من غيره، وسماع غيره منه، وغير ذلك من صفاته المذكورة في كتابه المنزل، وجميع ما لفظ به المصطفى من صفاته، كغرس جنة الفردوس بيده، وشجرة طوبى بيده، وخط التوراة بيده، والضحك والتعجب، ووضعه القدم، وذكر الأصابع، والنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، وغيرته، وفرحه بتوبة العبد، وأنه ليس بأعور، وإن كلتا يديه يمين، "وحديث القبضتين" وله كل يوم كذا وكذا نظره في اللوح المحفوظ، وأنه "يوم القيامة يحثو ثلاث حثيات من حثياته، فيدخلهم الجنة"، وحديث "القبضة التي يخرج بها من النار قومًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 لم يعملوا خيرًا قط"، وإثبات الكلام بالحرف والصوت، وكلامه للملائكة، ولآدم، ولموسى، ومحمد، والشهداء، وللمؤمنين عند الحساب، وفي الجنة، ونزول القرآن إلى سماء الدنيا، وكون القرآن في المصاحف، «وما أذن الله بشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن» ، وصعود الأقوال والأعمال والأرواح إليه. وغير هذا مما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار الواردة في صفات الله سبحانه ما بلغنا، وما لم يبلغنا مما صح عنه، اعتقادنا فيه أن نقبلها ولا نردها، ولا نتأولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نزيد عليها، ولا ننقص منها، ولا نكيفها، ولا نشير إليها بخواطر القلوب، بل نطلق ما أطلقه الله، ونفسر ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون، والأئمة المرضيون من السلف المعروفين بالدين والأمانة، ونُجمِعُ على ما أجمعوا عليه، ونمسك عما أمسكوا عنه، ونسلم الخبر لظاهره، والآية لظاهرها، مع اعتقاد معناها وما دلت عليه، لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية، والجهمية، والملحدة، والمُجَسِّمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 والمشبهة، والكرامية، والمكيفة، بل نقبلها بلا تأويل، ونؤمن بها بلا تمثيل، ونقول: الإيمان بها واجب على وجه يليق بجلاله". * قال نعيم بن حماد شيخ البخاري رحمه الله: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله نفسه تشبيهًا". وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد على المشبهة، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد على المعطلة. * فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقية من غير أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 تكون من جنس صفات المخلوقين، فمن قال: لا أعقل علمًا ويدًا إلا من جنس العلم واليد المعهودة، قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذات المخلوقين؟! ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب الذي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] إلا ما يناسب المخلوقين فقد ضل في عقله ودينه. وما أحسن ما قال بعضهم: "إذا قال لك الهجمي: كيف استوى؟ أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا؟ أو كيف يراه ونحو ذلك؟ فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري غير معقول للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن يعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي". ومن أول نصوص الصفات، أو قال: إنها ألفاظ لا يعقل معناها، ولا يدري ما أراد الله ورسوله منها، ولكن نقرأها ألفاظًا لا معاني لها، فقد أخطأ خطأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 بينا، بل هي آيات بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها. * وبالجملة: إن مذهب أهل السنة والجماعة: إثبات ما أثبته الرب لنفسه، وما أثبته له أعلم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، كالاستواء، والمحبة، والغضب، والرضا، والسمع والبصر، والرحمة، والعلم، والكلام، واليدين، والوجه، والنداء، وإن هذا القرآن المحفوظ في صدورنا المتلو بألسنتنا المسموع بآذاننا هو كلامه حقيقة، كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [فاطر:29] ، وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ، إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إثبات الصفات له جل وعلا، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، مع اعتقاد معناها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وما دلت عليه، على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4] . وهذا هو حقيقة مَذْهب سَلَف هذه الأمة من الصَّحابة والتَّابِعين، وأئمة العلماء المُحققين، والله سُبْحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين. عبد الله بن محمد بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى والرئيس العام للمجمع الفقهي 15\ 11\ 1409 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60