الكتاب: شرح منظومة الإيمان المؤلف: البشير بن محمد عصام المسفيوي المراكشي   [الكتاب مرقم آليا] ---------- شرح منظومة الإيمان عصام البشير المراكشي الكتاب: شرح منظومة الإيمان المؤلف: البشير بن محمد عصام المسفيوي المراكشي   [الكتاب مرقم آليا] شرحُ منظومة الإيمان المسماة: "قلائد العقيان بنظم مسائل الإيمان" كلاهما: لأبي محمد عصام البشير المراكشي شكر وتحية: إلى والدَيَّ الكريمين الذين ربياني على معاني الإيمان الراسخة … إلى أمِّ عطية التي ساعدتني كثيرا في إعداد هذا الكتاب … إلى أبي الفاروق الذي تابع المشروع من أوله، وله علي أفضال كثيرة … إلى شيخي أبي الفضل الذي شجعني كثيرا على إتمام الكتاب، ثم قام بمراجعته والتقديم له … إلى أهل التوحيد في كل مكان … مقدمة بقلم الشيخ أبي الفضل عمر بن مسعود الحدوشي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وبعد: فقد سعدت منذ سنوات بمعرفة نخبة من طلبة العلم أذلال عائض وسلمان وسفر في تأجج نهيتهم، وتوقد حجاهم، وحصافة رأيهم، وفسيح خيالهم، وخصب عطائهم، وجسارة عقلهم، وشجاعة قلبهم، نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله. منحهم الله نبراس النبوغ، ومصباح الإرهاف الحسي، واليراع السيال، والحكمة البليغة، والتأمل والتدبر والإمعان والإنعام في آي رب الأنام، يحلون فيها كل غامض، ويفتحون كل مغلق، ويفسرون كل معجم، ويبينون كل مجمل، ويوضحون كل مبهم، ويقيدون كل مطلق، ويخصصون كل عموم، ويميزون الناسخ من المنسوخ، ويوضحون كل ظاهر، ويحذرون من زغل العلوم، ومن اللمة والشرذمة الضالة المضلة، وينيرون الذاكرة النقية، ويغسلون الضمائر من أوضار وأضرار البدع والمحدثات، ويطهرون الأنوطة من أدران الشرك، وينظفون الفؤاد من أخباث النفاق، ويصقلون الصدور من أوساخ الإلحاد، يدبجون في (دفاترهم) (1)   (1) - وقديما قيل: (ما حفظ فر، وما كتب قر) ، والأفضل الجمع بينهما لأن للكتب آفات. ... عليك بالحفظ دون الجمع في كتب ... ... ... فإن للكتب آفات تفرقها ... الماء يغرقها والنار تحرقها ... ... ... والفأر يخرقها واللص يسرقها ومن طرائف ما يروى في المحافظة على الكتب وأوراق العلم ما يرويه المبرد: (أن رجلا أتى الأصمعي فسأله أن يكتب له شيئا من العلم فكتبه له، فلما كان بعد أيام عاد إليه فقال: يا أبا سعيد إن ذلك القرطاس الذي كتبته لي سقط مني فأكلته الشاة، فأحب أن تكتب لي غيره ثانيا، فكتب له، وكتب أيضا: ... قل لبغاة الآداب ما وصلت ... ... منها إليكم فلا تضيعوها ... ضمنوا علمها الدفاتر والحبر ... ... بحسن الكتاب أوعوها ... إن اشتريتم يوما لأهلكم ... ... شاة لبونا فلا تجيعوها ... فإن عجزتم ولم يكن علف ... ... يشبعها عندكم فبيعوها (تقييد العلم) (ص147) و (كيف تقرأ كتابا) : (ص84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 كل ما يمر بهم من الشوارد والفوائد والفرائد (1) ، وما تجود به أرْيَحِيَّتهم النقية، وبذُرْعة وواسطة حرصهم وسهرهم أدركوا ونضجوا وأينعوا، وترفرفت عليهم ألوية الحكمة العميقة الجذور، والمترعرعة الأفنان، وتعلموا وعلِموا وعلّموا، واستنبطوا بقريحتهم الجياشة بحوثا وأحكاما زاملهم فيها مبين النصر والنجاح والفلاح، واستخذى وتطامن وقنب وبخع وخضع لهم اليراع، وعرجوا الفوائد في الأوراق رقما، وأصحت نَحِيزتهم وشنشنتهم (2) ونحيتهم الغوص في بطون الأمات (3) الست وأذلالها. رأيتهم قد أتوا فهوما وعلوما وذكاء وزكاء، وتصدروا بعد أن تأهلوا، وتزببوا بعد أن تحصرموا، لسانهم سئول وقلبهم عقول، وبدنهم غير ملول، يجيدون حسن السؤال، (يسألون تفقها لا تعنتا) . ويجيدون حسن الإنصات والاستماع، وحسن الفهم والحفظ، والعمل ومراعاة الحدود، وحسن التعليم، فلا يضغطون على عكد اللسان والشفتين إلا ليعبروا عن غيرتهم الدينية المضمرة في النياط، فأحببتهم في أول لقاء ووقتئذ رمقت فيهم شابا عاقلا سئولا يدعى (أبو محمد البشير عصام المراكشي) . رأيته مطلقا طلقا، سهل المرام، قريب المتناول مباح الحمى، إن قورع قرع، وإن جوري جرى، يبتسم بحساب، ويضحك بحساب، ويأكل بحساب، ويشرب بحساب، ويعمل بحساب، وينام بحساب، ويجلس مع الأصدقاء بحساب، ويتكلم بحساب، ويسأل بلا حساب، ويقرأ بلا حساب، همته عالية، (يعشق) الشدائد   (1) - شأنهم في ذلك شأن ابن القيم في (فوائده) وابن الجوزي في (صيد الخاطر) . (2) - الشنشنة: هي العادة والطبيعة والخليقة والسجية والضريبة والشيمة والدربة والنحية والنحيزة والبنية والجبلة والديدن، وفي المثل: (شنشنة أعرفها من أخزم) . وأخزم هذا كان رجلا عاقا لأبيه، فمات، وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه فقال ذلك، كما في (اللسان-شنن) وفي (مجمع الأمثال) (1/361) للميداني (الحدوشي) . (3) - الأمات: الأصل فيه أن يكون لغير عاقل، والأمهات أن يكون للعاقل (الحدوشي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 والصعاب والتعب في طلب العلم، وكأني به ولسان حاله يقول: (لا راحة بدون تعب، ولا تيجان بدون أشواك، ولا عروش بدون مسئوليات جسام، ولا حصاد بدون زرع، ولا سبق بدون مباراة، ولا لذة بدون ألم، ولا نصر بدون كفاح) . وكأني به أيضا يقول: (من عرف ما قصد هان عليه ما وجد) ، ويقول: (لتكن الشدائد سُلّما أرتقي به إلى ذرا المجد ... وليس مثل المشقة مربٍّ للأفراد والأمم ... والإنسان في حياته لا يقوى خلقه، وتعظم ثقته بنفسه، وتزداد قوة احتماله وجلده، إلا بمواجهة الصعاب والشدائد. وعرف أن: (دماغ الكسلان، معمل الشيطان) ، أو: (قلب الكسلان، مركب الشيطان) . كما في المثل (الانجليزي) المشهور. فطريق الصعاب يوصل إلى غاية الغايات، لأن: ... من طلب العلا من غير كد ... ... ... أضاع العمر في طلب المحال على قدر المشقة (1) تكون الفائدة والثمرة، وعلى قدر اختيار الكلام وتأليفه يكون الفلاح والنجاح، (واختيار الكلام أصعب من تأليفه وقديما قيل: (اختيار الرجل وافد عقله) . فأخونا الشيخ البشير يكتب أحسن ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب، ويتحدث بأحسن ما يحفظ وكأن يحيى بن خالد عناه حين قال: (الناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويتحدثون بأحسن ما يحفظون) ، وقديما قيل: ... قد عرفناك باختيارك إذ كا ... ... ن دليلا على اللبيب اختياره   (1) - قال يحيى بن أبي كثير: (لا يستطاع العلم براحة الجسم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وهو يأخذ من العلم أحسنه. قال ابن سيرين: (العلم أكثر من أن يحاط به فخذ من كل شيء أحسنه، وفيما بين ذلك سقطات الرأي وزلل القول، ولكل عالم هفوة، ولكل صارم نبوة) (1) . لأن (عقول الناس مدونة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم) (2) . فأخونا الشيخ البشير - بارك الله فيه وفي جهوده - لما رأى العقيدة أصبحت - في عصرنا - كقوس قزح، حيث تجمعت حولها الغيوم الإرجائية، واكتنف بها ظلام الخارجية، نشطت نفسه في نظم قصيدة في أذلال قصيدة (الكافية الشافية) لابن القيم، استفرغ فيها غايته، وبذل جهده في إظهار العقيدة الصحيحة في مسمى الإيمان والكفر، فأضاف إلى مكتبتنا الإسلامية - في جانب العقيدة - سفرا نفيسا (3) يحتاج إليها الأكابر من فرسان المحابر بله طلبة العلم الصغار، وقديما قيل: (كم من صغير احتاج إليه الأكابر) . وأنا أقول: (كم من كبير احتاج إليه الأكابر) .   (1) - يقال: سيف صارم، أي: قاطع، ورجل صارم، أي: شجاع، أو بات في أمره ماض. ويقال: نبا السيف عن الضريبة: كل وارتد عنها ولم يقطع. من (العقد الفريد) (1/12/13) (الحدوشي) . (2) - كما قال أفلاطون لعنه الله. (3) - وهذا الكتاب يخالف الكتب التي يطلع بها علينا من لا يملك ربع ما يملك أخونا الشيخ البشير من العلم وأدواته، يطلعون علينا في كل ساعة بله الأيام بما لا يسمن من شبع ولا يغني من جوع. أما كتاب أخينا فسيكون ثريا وسريا معا لطلبة العلم. فأنا مسرور جدا أن أضيف إلى مكتبتي الخاصة هذا الكتاب وهذا الجهد القيم. فقد جمع فيه خلاصة ونبذة كلام الأئمة من بطون الكتب وجعله في باقة واحدة. جزاه الله خيرا. (الحدوشي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 هذا، وقد طلب مني أخي الشيخ البشير قراءة ومراجعة هذه الرسالة لأقول فيها رأيي - وأنا لست بتلك الدرجة التي ظنها أخونا - ونزولا عند رغبة أخينا قرأتها كلها (1) - رغم ضيق وقتي وكثرة الشواغل والصوارف - بتدبر وإمعان بل وإنعام النظر، فوجدت اسمها مطابقا لمسماها. وجدتها رسالة مفيدة نافعة جامعة مانعة، فريدة في بابها تصلح أن تكون في مكتبة كل مسلم ومسلمة، فشكر الله لأخينا الشيخ البشير عمله وسدد قلمه لنقد الآراء الباطلة، ولبيان الأخطاء الفاحشة، وليجتنب التعرض للأشخاص دون ما منفعة، وللنوايا والبواطن، وليعدل مع المخالف وينصفه، ولا يحكم عليه قبل أن يقيم عليه الحجة، ويبين له المحجة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة) . (ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك بالشك) . ولا سيما إن كان الخطأ في بعض المسائل الدقيقة في العقيدة فهي لا توجب التضليل والتبديع بله التكفير، فإذا لا بد من التبين والتثبت والتوثيق بالرجوع إلى كتبه إن كان ميتا، والاتصال به إن كان حيا، قبل إصدار الأحكام واتخاذ المواقف، ولا بد من لزوم حمل الكلام على أحسن محامله، ما دام يحتمل ذلك، ومن إحسان الظن بالمسلمين، ولا بد أن نعلم بأن المسلم يوزن بحسناته وسيئاته، والعبرة بكثرة الصواب والمحاسن، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله. ... وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... ... ... جاءت محاسنه بألف شفيع   (1) - وقديما قيل: (إذا استحسنت الكتاب واستجدته ورجوت منه الفائدة ورأيت ذلك فيه، فلو تراني وأنا ساعة بعد ساعة أنظر كم بقي من ورقة مخافة استنفاذه. الحيوان: 1/53) . والله أنا ذلك الرجل مع هذه الرسالة. فقد – والله – عجبت من غرائب فوائدها ونوادرها ووجدت فيها تكوينه –أخينا الشيخ البشير – العقدي قويا سليما من الزيغ جهبذا فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 قال محمد بن عبد الوهاب: (فإذا تحققتم الخطأ بينتموه، ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن، فإني لا أدعي العصمة) . قال ابن القيم: (فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله، ولهذا من رجحت حسناته على سيئاته أفلح، ولم يعذب ووهبت له سيئاته لأجل حسناته) (1) . ولازم القول ليس قولا.. وعدم الإلزام لما لا يلزم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والصواب أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإنه إن كان أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبا) . وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (والتحقيق أن الذي يدل عليه الدليل، أن لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه، ولم يشر إليه، ولم يلتزمه ليس مذهبا، لأن القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر، فبأي برهان تلزم القائل ما لم يلتزمه وتقوله ما لم يقل) . وأستسمح عن الإطالة الزائدة فما قاله الشيخ الفاضل في هذه الرسالة يشفي ويكفي فدونكم الرسالة عضوا عليها بالنواجذ. وكتبه أخوه أبو الفضل عمر بن مسعود الحدوشي في تطوان يوم السبت (24/جمادى الثانية/1421 23/9/2000) . المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ -   (1) - انظر (مدارج السالكين) (1/328/329) وتاريخ نجد (2/161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 - يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا - - يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (-) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا - أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ... فإن الناظرَ في حال أمتنا في هذه الأعصار، يتعجب من الفتن المتلاحقة التي عَمَّت البلاد والعباد، وغشِيت القلوب والأجسام، فتفتَّتت من حرِّها أكبادٌ ومهج، وتشتتت في دهاليزها أذهان وعقول، كان حَرِيًّا بها أن تكون شُموسا للمعارف يهتدي في ضوئها السالكون، وأقمارا للعلوم تشُق صفائحُ أنوارها حَنادسَ ظلام الجهل والضلال. ... فشريعة الحكيم الخبير محفوظة في أحشاء الدفاتر، وفوق خدود الطروس، لكن قوانين الغاب الجاهلية، وبُرايَة أذهان الكفرة هي المحَكَّمة في الأموال والفروج والنفوس. ... والمساجد وحلق العلم – إن وجدت – ومجالس الذكر- إن عقدت – تضِجُّ بالشكوى إلى بارئها مما يعاملها به المسلمون من الصد والهجران، بينما تعُج أماكن اللهو والخلاعة بالمرتادين، وتكتظ دور الفسق والفجور ومحادةِ الله ورسوله بالزائرين، حتى إنها لتشكو من الزحام وكثرة الوصال. ... والزوايا والتكايا والمواسمُ الشركية والأعياد الوثنية تُخرج كل يوم طوابيرَ متلاطمةً من الجهلة والمبتدعة وسَدَنة القبور وحُجَّاب الطواغيت الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 .. ووسائل الإعلام العميلة – في الداخل والخارج – تقدم لشباب الأمة المنقطعين عن جذورهم، أطباقا شهية – وحفت النار بالشهوات كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - – تلبي نداء غرائزهم، وتستحِثُّ شهواتهم من مكامنها، ثم تدُس لهم في تلك الأطباق سما زعافا من الإلحاد والعلمانية واللادينية. » … فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينَه بعرض من الدنياَ « (1) . ... وأشد من هذه الفتن كلها، أن الأمة تتخبط في دَيجور من الجهل – بسيطِه ومركَّبِه – تتراءى في جَنَباتِه أنوارٌ خافتة لا تكاد تلمع حتى تخبوَ مرة أخرى. جهل بدينها، وجهل بتاريخها، وجهل بأسباب قوتها، وجهل بالمؤامرات التي تحاك لها ليلا ونهارا!! ... أليس عجبا أن تكون الأمةُ المحمدية التي خاطبها رب العزة جل ثناؤه بقوله: - كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ -، قد وصل بها الحال إلى هذا التشرذم والضياع؟! ... ثم إن هذا العجب سرعان ما يتحول إلى حسرةٍ تقض المضاجع، وألمٍ يملأ الجفونَ دمعا ساخنا، عندما تكتشف أن القائمين على إيقاظ الأمة من سُباتها، والمكلفين بإحياء القلوب والهمم، يتخبطون هم أنفسُهم في أنواع من البدع والجهالات – إلا من رحم الله. ... فهذه طائفة كبرى منتسبة إلى هذه " الصحوة الإسلامية " الواعدةِ، لا تلقي للعقيدة بالا، بل همُّها توحيد الكلمة ولو على غير كلمة التوحيد. مستعدة في تحركها إلى أن تتنازل عن أصول مقدساتها إرضاءً للجماهير. متميعةٌ في ولائها وبرائها، متلطخةٌ بأدران الديموقراطية الكفرية، متشبعة حتى النخاع بنتاجات الحضارة الغربية الملحدة.   (1) - رواه مسلم في كتاب الإيمان-باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل الفتن، برقم: 186 (ص:72) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 .. وهذه نابتةٌ غريبة، هَجينة الأصول، متذبذبة المنهج والطريق، غامضة الغايات والأهداف، تنتسب إلى السلف، والسلفُ منها براء. همها التجريح والقدح في الآخرين، مع كونها مستكينةً إلى جبرية عقدية وسياسية بغيضة، ومتشبتةً بأذيال إرجاء عصري لقيط، صنعته بيدها ولم تستطع التخلص منه. ... وهذه فرقة شاذة صغيرة – لكن يخشى أن تتطور وتنتشر – تنسُج على منوال الخوارج، فتُكَفِّر المجتمعات وتهجرها، وتشترط شروطا طويلة لإثبات الإسلام الحكمي، ابتدعوها من أهوائهم، واصطلى المسلمون بنارها. ... أضف إلى هؤلاء كلهم، شراذم من أصحاب العقيدة الأشعرية، والسلوك الصوفي، ما زالوا يعيشون على ذكريات الماضي، وأمجاد التاريخ! ... طيف الظل من الفرق والتيارات والأهواء! ! ... فإن أظلمتْ عليك الصورة يا أخي، وتساءلت في حرقة وأسى:» فأين الحق بين هذه الظلمات التي بعضها فوق بعض؟! «، فجوابُك في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: » لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك « (1) ، ... فإن قلت: فأين هي في هذا الزمان؟ أجبتك: مَنْ تأمل بعين البصيرة وجدَ ما يُؤَمِّله، ومن انتكست فطرتُه لم تُؤْمن في وهَج الشمسِ عثرتُه: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... ... وينكر الفم طعم الماء من سقم وإن أعظم ما يميز هذه الطائفة عن غيرها، أنها متمسكة بعقيدة سنية سليمة، ومتحركة وفق منهج فكري قويم، يأخذ الإسلام بشموله فلا يغفل منه شيئا. ... وإن من أهم أركان هذه العقيدة: مسائل الإيمان والكفر. وهي التي تسمى كذلك مسائل الأسماء والأحكام، وذلك لأنها أسماءٌ ذات حقيقة شرعية كالإيمان والكفر والظلم والفسق وغيرها، عُلِّقَت عليها أحكامٌ شرعية متعددة في الدنيا والآخرة.   (1) - أخرجه بهذا اللفظ مسلم في كتاب الإمارة-باب قوله عليه الصلاة والسلام: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق.. برقم: 1920 (ص:795) وله ألفاظ أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 .. فالإيمان أنيط به الولاءُ والمحبة في الدنيا، وتكفل الله لأهله في الدنيا بالعزة وعدم الهوان، ووعدهم في الآخرة بالجنة والفلاح والرضوان. وأما الكفر فقد علق عليه البراء والبغض من المؤمنين، وأحكام الجهاد والقتال، وأوعد الله أهله في الآخرة بالنار والبَوار والخسران. ... وعلى أهمية هذا الموضوع وخطورة ما يُبنى عليه من الأحكام، فإن كثيرا من المنتسبين إلى العلم مرتبكون في مسائله، متخَبِّطون في قضاياه تخبُّطا عجيبا. وأشد الناس غلطا فيه قوم من المرجئة العصريين متلبسون بخليط من البدع والتناقضات في هذا الباب، مع أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ... ومن هنا كانت الحاجة متأكدة إلى جمع شتات هذا الموضوع وتقديمه إلى شباب " الصحوة "، وطلبة العلم، والدعاة إلى الله، بأسلوب ميسر، ووفق منهج علمي متناسق. ... ولقد طالما تمنيت أن أجد متنا من متون العقائد، جامعا لمسائل الإيمان، ميسَّرا لمن رغب في حفظه، أو أراد تدريسه وتعليمه للمبتدئين، مع كونه موافقا لروح العصر، معبِّرا عن التطبيقات الواقعية لهذه المسائل. لكنني لم أجد بغيتي إلى هذا الحين. ... لذلك استعنت الله عز وجل في تأليف هذه» المنظومة الإيمانية «، التي حاولت أن أجمع فيها أهم مسائل الإيمان، وأغفلت ما ليس ذا فائدة مما كثر حوله الجدال العقيم. وضمنت ذلك في مائة بيت – غير المقدمة والخاتمة – من بحر الرجز، وسميتها: "قلائد العِقْيان من مسائل الإيمان". ... ثم لما رأيت أن النفع بها لا يتم إلا بشرحٍ يحُل ألفاظها، ويقيد مطلقها، ويخصص عمومها، ويوضح مقاصدها، شرعت – مستعينا بالرب جل ثناؤه – في هذا الشرح الذي قد أتوسع فيه في بعض المواضع، فأخرج عن المذكور في المنظومة، دون أن أهجر لب الموضوع، إذ ليست المنظومةُ مقصودةً لذاتها، ولكن المقصود هو فهم هذه المسائل والإحاطة بعلمها. ... وقد قسمت الشرح - تبعا للمنظومة - إلى الأبواب والفصول التالية: شرح خطبة المتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الباب الأول في حقيقة الإيمان، ويتضمن الفصول التالية الفصل الأول: تعريف الإيمان لغة. - الفصل الثاني: تعريفه شرعا عند أهل السنة ويتضمن الكلام على: قول القلب. قول اللسان. أعمال القلوب. أعمال الجوارح. الفصل الثالث: أقوال أهل البدع في حقيقة الإيمان. الباب الثاني في زيادة الإيمان ونقصانه، وفيه: الفصل الأول: أدلة الزيادة والنقصان. الفصل الثاني: أوجه الزيادة والنقصان. الفصل الثالث: أقوال المخالفين. الباب الثالث في الكفر وضوابط التكفير، وفيه: تعريف الكفر لغة واصطلاحا. قاعدة تكفير المعين وموانع التكفير. 3- ... قواعد في التكفير. ... الباب الرابع في نواقض الإيمان: في الربوبية. في الإسماء والصفات. في الإلوهية. في النبوات والمغيبات وأمور أخرى. - ... ... خاتمة الكتاب. ... هذا وأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا العمل المتواضع من أقبل عليه بِنية التعلم والفهم، وأن يدخر لي ثوابه وأجره إلى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ... وأرجو ممن وجد فيه عيبا أو قصورا أن يغُض الطرف عنه ويعذرني بما أنا فيه من القصور والتقصير، فإن وجد خطأ أو زللا فليُخبرني به مشكورا، فإنني - إن شاء الله تعالى - راجع إلى الحق، وما غيرَ الحقِّ أريد. وكتبه أبو محمد المراكشي في الرباط، جمادى الثانية، 1420. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 (قال) المعترفُ بتقصيره وذنبه، الفقيرُ إلى عفو ربه (أبو محمدٍ) البشيرُ (عصام) بن محمد المسفيوي المراكشي، السُّني مُعتقدا، طالبُ العلم وخادمُه، والمنافح عن اعتقاد أهل السنة والجماعة منافحةَ مَن يرى ذلك من أعظم الجهاد. ولفظُ» قال «ماض، ولكن المراد منه الاستقبالُ كما هو وارد في كلام العرب، وذكروا منه قوله تعالى: - أَتَى أَمْرُ اللَّهِ -. (دام) أي استمرَّ وطال (له) ولإخوانه من أهل السنة والجماعة ولكافة المؤمنين (من) لابتداء الغاية (ربه) سبحانَه وتعالى (الإنعامُ) أي التفضل بأنواع النعم التي لا يحصرها المحصي، ولا يحيط بها المُستقصي: - وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 (الحمد) أي جميعُ أنواعه مما علِمناه وممَّا لم يحط بعلمه إلا اللهُ عز وجل، ثابتٌ (لله) جل ذكره وشأنُه، وتعاظم سلطانُه، فهو المستحقُّ سبحانه لجميع المحامد، وليس لأحد من خلقه شيء من ذلك على جهة الاستقلال. والكلام على الحمدلة طويل ومبسوط في محاله. و» الحمد لله «وما بعدها إلى آخر المنظومة في محل نصبٍ مَقولُ القول. (السلام) من أسماء الله عز وجل، ومعناه السالم من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله، كما ذكر ابن كثير في تفسير آخر سورة الحشر (المؤمن) قال ابن عباس أي أمَّن خلقَه من أن يظلمهم (هادي) أي: موفقِ (العباد) المؤمنين إلى الإيمان والتقوى تفضلا منه سبحانه وتكرما (البارئ) أي الخالق الذي برأ البريات، وأوجد الأرضين والسموات (المهيمن) قال ابن عباس: أي الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى هو رقيب عليهم، كقوله تعالى - وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - وغيرها من الآيات (من) أي الّّذي (غمرت) أي غطت من غمر الماء غمَارة وغمورة إذا كثر كما في القاموس (نعمه) الظاهرة والباطنة (أهل التقى) مصدر اتقى يتقي بمعنى حذر، قال تعالى: - هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى - أي أهلٌ أن يتقى عقابه. وحاصل التقوى: فعل المأمور واجتناب المحظور. وإنما خصصتُ أهل التقوى مع أن نعم الله عز وجل الدنيوية يستوي فيها المؤمن والكافر، لأنهم هم الذين يشكرون هذه النعم ويستعملونها في التعرف على المنعِم بها لذلك ذكرت أنهم جعلوا التدبرَ في هذه النعم سببا في السلوك إلى ربهم عز وجل، فقلت (فسلكوا) الفاء سببية (إليه) سبحانه (كل مرتقى) وهو ما يُرتقى أي يُصعد، والمعنى أنهم سعوا للوصول إلى رضا الله عز وجل، بأن تلبسوا بأنواع الطاعات، وأصناف القرُبات. والسلوك مخصوص في اصطلاح المتأخرين بارتقاء مقامات الإحسان، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 (بالعلم) متعلق بسلكوا، أي العلم بالله عز وجل وبتمام ربوبيته، والعلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، والعلم باستحقاقه لكمال العبودية، امتثالا لقوله تعالى: - فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ -، (و) بـ (الحب) الذي هو من أعظم أعمال القلوب، حتى جعله الله عز وجل ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - ركنا من أركان الإيمان كما سيأتي بيانه في محله. ثم إن محبة الله عز وجل لا تصح إلا (مع) كمال (التذلل) والإذعان له سبحانه وتعالى، وهذا يستلزم تمامَ المتابعة لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: - قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ -. (والخوف والرجاء) وهما الجناحان اللذان بهما يطير المؤمنُ في سلوكه إلى رب العزة جل جلاله، فإذا ضعُف جناحُ الخوف أقبل العبد على المعاصي دون وَجَلٍ، واستقلَّ ذنوبَه وآثامه، وإذا ضعف جناح الرجاء أساء العبدُ الظنَّ بربه، فشدد على نفسه وعلى إخوانه، وتنطع في دين الله عز وجل (والتوكل) على الله جل ذكره: - وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ -. ولا يقدر السالك على الوصول إلى مبتغاه إلا بتخليص التوكل على بارئه ومولاهُ سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 (وأعظم) مبتدأ خبره الجار والمجرور في عَجُز البيت (الصلاة والتسليم) وأزكاهما وأشرفهما (على الحبيب) الذي محبته من الإيمان، كما في الحديث الصحيح:» لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين « (1) (المصطفى) المجتبى المختارِ لأداء الرسالة العظيمة، وتحمل الأمانة الجسيمة (الرحيم) بأمته، الذي وصفه ربه بقوله: - بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ -. ثم الكلام على الصلاة والسلام على خير الأنام، أطول من أن أحيط به في هذه العجالة، فلينظر في الكتب المخصصة له، مثل "جلاء الأفهام" لابن القيم و"القول البديع" للسخاوي وغيرهما. (مَن) أي: الذي (أشرقَت) أي بزغت وطلعت (مِن) سَنَا (نورِه) الهادي إلى الحق بإذن الله تعالى (الأنوارُ) فاعل أشرقت، فكل نور من أنوار الهداية مستمد من نوره، وكل داعية إلى الخير لا بد مقتبسٌ من الخير الذي أُرسل به، بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -. (فانفتحت) الفاء سببية، بفعل تلك الأنوار الهادية إلى الحق (على الهدى) والتقوى والصلاح (الأبصار) أي البصائر، وهي أعينُ الأفئدة والأرواحِ. (وانبجست) معطوف على انفتحت، أي نبعت من بجس الماء والجرح يبجسه ويبجسه إذا شقه، وبجَّسه بالتشديد تبجيسا: فجَّره فانبجس، (عينُ الصلاح) والهدى (من يده) الشريفة، أي من جهاده ودعوته، وهذا انبجاس معنوي مشبهٌ بالانبجاس الحسي الثابت في معجزاته الحسية - صلى الله عليه وسلم -.   (1) - رواه البخاري في كتاب الإيمان-باب: حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان، برقم: 15 (ص:26) ، ومسلم في الإيمان، برقم:44 (ص:50) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 (وأخمد) معطوف على انفتحت، أي أطفأ (الكفرَ) أي: نارَه الخبيثةَ (سنا) وهو الضوء كما في المصباح، أو ضوء البرق، أو الضوء الساطع، أقوالٌ، (مهنده) أي سيفِه البتار، من هند السيف إذا شحذه. وقد ثبت في الحديث:» نصرت بالرعب مسيرة شهر (1) «، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمشركي قريش:» أما إني قد جئتكم بالذبح « (2) وقال عليه الصلاة والسلام:» أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله « (3) وهذا الأمر مما علم بالاضطرار من سيرة المصطفى المختار - صلى الله عليه وسلم -. (وبعد) مبني على الضم لقطعه عن الإضافة، والمعنى: مهما يكن من شيء بعد حمد الله عز وجل والصلاة والسلام على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فـ (هذا) الذي بين يديك أيها القارئ (رجز) أي نظمٌ موضوعٌ على بحر الرجَزِ، وهو مستفعلن ستَّ مرات، من صفته أنه (مفيد) ونافع (لقارئٍ) ودارس ومعلم ومتعلم مِن نعته وصفته أنه (نورَ) مفعول به مقدم وهو مضاف (الهدى) مضاف إليه (يريد) أي يطلب ويقصد. وهذا النظم ميسر للحفظ، مهيء للتدريس، جامع للمقصود، والحمد لله سبحانه وتعالى. (موضوعه) أي: هذا الرجز (مسائل الإيمان) أي أهمها وأنفعها، (أرجو) أي أؤمل (بـ) نظمـ (ـه إحسان) وتفضل ومنة الله (ذي الإحسان) والجود والكرم.   (1) - رواه البخاري في مواضع منها كتاب التيمم، برقم: 335 (ص:86) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم: 521 (ص:211) . (2) - رواه أحمد وابن حبان والبزار من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال الهيثمي: "وقد صرح ابن إسحق بالسماع، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وصححه الشيخ الألباني. (3) - رواه البخاري في الإيمان، برقم:25 (ص28) ، ومسلم في الإيمان، برقم:22 (ص43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 (وأسأل الرحمان واسع الكرم) جل جلاله أن يمن علي وعلى والديَّ وعلى أهل بيتي ومشايخي وإخواني من أهل السنة والجماعة وعلى كافة المؤمنين الموحدين، بشيء (من الثواب) الجزيل (والهبات) الوافرة (والنعم) المستديمة، إنه سبحانه وتعالى أكرم مسؤول، وأرجى مأمول، لا تغيض بحارَ خزائنِه نفقتُه، ولا تضيقُ بالسائل المضطرِّ مغفرتُه. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الباب الأول: حقيقة الإيمان الفصل الأول: تعريفُ الإيمان لغةً قلت في النظم: في اللغةِ الإيمانُ كالإقرارِ وكونُه التصديقَ بالأخبارِ عندَ المُحققينَ لا يُسَلمُ لأوجهٍ من الفُروقِ تُعلمُ (في اللغة) متعلقٌ بالإيمان (الإيمانُ) مبتدأ خبره (كالإقرار) الكاف للتشبيه، وهذا يفيد التغايُرَ بينَ مُسمَّيَيِ الإيمانِ والإقرارِ، إذ الأصل أن المشبَّهَ ليس في قوةِ المشبهِ به: وقد يُعكس في التشبيهِ المقلوبِ، وفي الحالتين معا فهما مختلفان إجمالا، وإن اتفقا في بعض الأمورِ، فأنت لا تشبِّهُ الشيءَ بما هو مرادف له. وسيأتي كلام شيخ الإسلامِ ابن تيميةَ رحمه الله في هذه المسألة، بحول الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 (وكونُه) مبتدأ، والضمير عائد على الإيمان اسم الكون و (التصديق) خبره منصوب، وهو مصدر صدَّق يصدِّق إذا نسبه إلى الصدق و (بالأخبار) متعلق بالتصديق، وهو جمع خبر، والخبرُ – وهو قَسيم الإنشاء – هو ما احتمل الصدقَ والكذبَ لذاته، أي لغير قرينة خارجية، فبعض كلام الله تعالى خبر مع أنه لا يحتملُ غيرَ الصدق، ولكن ذلك لقرينة خارجية وهي الجزمُ بصدقِ المتكلِّم به (عند المحققين) أي العلماء المدققين في الفهم والتمحيص، الغائصين وراء دُرَرِ المعاني (لا يسلم) به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ: "كونه" (لأوجه) متعلق بلا يسلم (من الفروق) اللفظية والمعنوية بين الإيمان والتصديق (تعلم) لمن تأمل هذه القضية بعيدا عن التعصب لما دَرَج عليه المتأخرون من اللغويين والمتكلمين من الترادف بين اللفظتين، حتى كاد أن يكون إجماعا لديهم. وحاصل هذا المبحث أن الإيمانَ في اللغة مصدرُ آمن يُؤمِنُ إيمانا فهو مؤمن، قال الجوهري: أصل آمن أأمن بهمزتين لُيِّنت الثانية. واشتقاقه من الأمن، كما في القاموس (1) وغيره، وأصل الأمن كما ذكر الراغب: طمأنينة النفس وزوال الخوف (2) . قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول:» فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة. وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديقُ والانقياد « (3) . قال الزمخشري في الكشاف:» الإيمان إفعال من الأمن، ثم يقال آمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنه من التكذيب والمخالفة « (4) .   (1) - القاموس المحيط: 1060. (2) - مفردات ألفاظ القرآن: 90. (3) - الصارم المسلول: 519. (4) - الكشاف: 1/47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 هذا عن الاشتقاق اللغوي للفظة الإيمان، أما معناه في اللغة، فاختلفوا فيه على أقوال، منها ما ذكره الفيروزأبادي:» هو الثقة، وإظهار الخضوع، وقبول الشريعة « (1) ، ولعله لاحظ المعنى الاصطلاحي أيضا. ومنها الطمأنينة والإقرار. لكن أشهرها هو التصديق، قال الألوسي:» والإيمان في اللغة التصديق أي الإذعان لِحُكمِ المُخبِر وقَبولُه وجعله صادقا « (2) . ولعل الأصح أن يقول» ونسبته إلى الصدق «بدل» وجعله صادقا «إذ المخبر إما صادق وإما كاذب في نفس الأمر، لا بجعل جاعل، والله أعلم. وتأمل في هذا التعريف الذي ذكره الألوسي، كيف أنه جعل التصديق شاملا للإذعان والقبول! بل نقل الزَّبيدي الاتفاقَ على أنه التصديق فقال:» الإيمان هو التصديق وهو الذي جزم به الزمخشري في الأساس واتفق عليه أهلُ العلم من اللغويين وغيرهم، وقال السعد رحمه الله تعالى: إنه حقيقة « (3) ، أي ليس مجازا. ورغم شهرة تعريف الإيمان لغة بالتصديق، فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية نظرا في هذه المسألة، ذكره في كتاب الإيمان. وحاصله أن هناك فرقا بين الإيمان والتصديق لأوجه (4) : الوجه الأول: أن بينَهما فرقا من جهة التعدي، وهو فرق في اللفظ. وذلك أنه يقال للمخبر: صدَّقَه، ولا يُقال آمَنَه بل آمن به أو آمَن له. كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} وقال: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} وقال فرعون: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إلى غيرها من الآيات. فالصدق يتعدى بنفسه بخلاف الإيمان، فلا يقال آمنته، إلا من الأمان الذي هو ضدُّ الإخافة.   (1) - القاموس: 1060. (2) - روح المعاني: 1/110. (3) -تاج العروس:. (4) -مجموع الفتاوى: 7/290 و 7/530 (بتصرف واختصار) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فإن قيل: فقد يقال: ما أنت بمصدق لنا. فالجواب أن اللام تدخل على ما يتعدى بنفسه إذا ضعُف عملُه، إمَّا بتأخيره أو بكونه اسمَ فاعلٍ أو مَصدرا، أو باجتماعهما، فيقال فلان يعبد الله ويخافه ويتقيه، ثم إذا ذكر باسم الفاعل قيل، هو عابد لربه، متق لربه، خائف لربه، كما أنه إذا ذكرتَ الفعل وأخرتَه، تُقوِّيه باللام كقوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} وقوله {إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} مع أنك تقول: يرْهَب ربه ويعبر رُؤياه. الوجه الثاني: أن لفظَ الإيمانِ ليس مُرادفا للفظ التصديق في المعنى، فإن كلَّ مُخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، وأما لفظ الإيمان فلا يُستعملُ إلا في الخبر عن غائبٍ، وذلك أنه مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبرٍ يُؤتمن عليه المخبر، كالأمر الغائب، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ آمن له إلا في هذا النوع. الوجه الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابَلْ بالتكذيب كلفظ التصديق، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادقٌ لكن لا أتبعك، بل أعاديكَ وأُبْغِضُك وأخالفك ولا أوافقك، لكان كفرُه أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، عُلم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط. الوجه الرابع: أن الإيمانَ في اللغة مشتق من الأمن الذي هو ضد الخوف، فهو متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة كما يدل عليه الاستعمالُ والاشتقاق، أما التصديق فلا يتضمن شيئا من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 فهذه الأوجُهُ الأربعة تبطل دعوى الترادفِ بين لفظي الإيمان والتصديق. وعلى فرض أنه مرادف للتصديق فإنه تصديقٌ وأمنٌ أو تصديق وطمأنينة، وهو متضمن للالتزام بالمؤمن به سواء كان خبرا أو إنشاء، بخلاف لفظ التصديق المجرَّد، الذي هو عبارة عن حكمٍ ذهني بإيقاعِ النسبةِ أو انتزاعها، كما يزعُمه المتكلمون (1) .   (1) -الإدراك إن كان مع حكم يسمى تصديقا عند المناطقة والمتكلمين، وهذا الإدراك متضمن لتصور الطرفين وتصور النسبة، ثم الحكم بإيقاع النسبة أو انتزاعها. انظر البناني على المحلي على جمع الجوامع: 1/148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وعلى تعريفِ المتكلمين للتصديق فإنه لا يمكن أن يكونَ إلا بالقلب أو اللسان، وهذا معترض بما ثبت في السنةِ وأقوالِ السلفِ من تسمية الأفعال تصديقا، كما جاء في الحديث:» إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينِ النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كلَّه أو يكذبه « (1) . وقال الحسن البصري:» ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وَقَر في القلب وصدَّقَتْه الأعمال « (2) . وروى محمد بن نصر المروزي أن عبدَ الملكِ بن مروان كتب إلى سعيد بن جبير يسأله عن هذه المسائل، فأجابه:» سألتَ عن الإيمان، فالإيمانُ هو التصديق، أن يصدق العبد بالله وملائكته وما أنزل الله من كتاب وما أرسل من رسول، وباليوم الآخر. وسألتَ عن التصديق، والتصديق أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن، وما ضعف عن شيء منه وفرَّط فيه عرف أنه أذنب واستغفر الله وتاب منه ولم يصر عليه، فذلك هو التصديق … « (3) . قال شيخ الإسلام رحمه الله:» وهذا معروف عن غير واحد من السلف والخلف، أنهم يجعلون العمل مصدقا للقول « (4) .   (1) - أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان-باب زنا الجوارح دون الفرج، برقم: 6243 (ص1202) ، ومسلم في كتاب القدر، برقم 2657 (ص1066) . (2) - انظر مجموع الفتاوى: 7/294. (3) - نفس المرجع: 7/294. (4) - نفس المرجع: 7/296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ونتيجة هذا المبحث، أن الإيمان في اللغة - عند المحققين من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - ليس مرادفا للتصديق، وأنه على فرض الترادف بينهما فليس المقصودُ بالتصديق مجردَ الحكمِ الذهني بنسبةِ المحمولِ للموضوع، كما هو الأمر في اصطلاح أهل المنطق والكلام (1) ، ولكنه التصديقُ في عُرف السلف، الشاملُ للالتزام العملي الذي يقتضيه تمامُ الإذعان. وعليه، فإن أصلحَ تعريف للإيمان من جهة اللغة هو الإقرارُ لا التصديق، والإقرار يتضمن أمرين اثنين هما: قول القلب وهو التصديق وعمل القلب وهو الانقياد، أي تصديق الرسول فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر (2) . قال شيخ الإسلام عليه رحمة الله:» … فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقربَ من تفسيره بلفظ التصديق، مع أن بينهما فرقا « (3) الفصل الثاني: تعريف الإيمان شرعا عند أهل السنة والجماعة: قلت في النظم: في الاصطلاح عند من قد سلفا بالقول والفعل لديهم عُرفا والبعضُ بالسنة زاد اعتصما وزاد الاعتقادَ بعضُ العلما وبعضُهم بنية قد عَبروا وأول المُعرفات أظهر الشرح: (في الاصطلاح) أي في الشرع، متعلقٌ بعُرف (عند مَن قد سلفا) أي عند السلف الصالح، رضوان الله عليهم، والألفُ لإطلاق القافية (بالقول) أي: قولِ القلب وقول اللسان (والفعل) أي: عمل القلب وعمل الجوارح (لديهم) أي لدى السلفِ (عرِّفا) بتشديد الراء والبناء للمجهول، والألفُ للإطلاق. والمعنى أن السلف عَرَّفوا الإيمان في الشرع بأنه قول وعمل، وستأتي النقول بذلك عنهم.   (1) - أي أغلبهم، وقد جعل بعضهم التصديق شاملا للإذعان والقبول، مثل السعد في شرح العقائد النسفية: 423 كما في الجامع في طلب العلم الشريف:2/536، والبيجوري في شرح الجوهرة: 67. (2) -.مجموع الفتاوى: 7/638. (3) - مجموع الفتاوى: 7/291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 (وزاد) في تعريف الإيمان (الاعتقادَ) القلبيَّ (بعضُ العلما) ء من أهل السنة، وهو مقصور للوزن، (والبعض) من أهل الحق (بالسنة زاد اعتصما) الألفُ مُبدلةٌ من نونِ التوكيد المُخَففة، والمعنى أن بعض السلفِ زاد في تعريف الإيمان ركنَ الاعتصامِ بالسنة. (وبعضهم بنية قد عبروا) أي أن بعضَ السلفِ زاد النية في تعريف الإيمان، وهذه الأقوالُ حقٌّ كلُّها، ولا تعارضَ بينها عند التمحيص، وسيأتي توجيهُها من كلام شيخ الإسلام (و) لكن (أول المعرفات) المذكورة وهو أن الإيمان قول وعمل (أظهرُ) من غيره من حيثُ موافقةُ الدليل، وأشهرُ عند سلف الأمة رضوان الله عليهم. وبيان ذلك أن أئمةَ السلف قد نقلوا فيما جمعوه وألَّفوه إجماعات الصحابة والتابعينَ ومَن بعدهم على أن الإيمان قول وعمل. وهذه الإجماعاتُ خير دليل على أنَّ هذا المعنى الشرعي للفظ الإيمان قد تواتر واشتهر في خطاب الشرع عند سلف هذه الأمة الذين هم نَقَلةُ الكتاب والسنة إلى مَن بعدهم، وأعرفُ الناس بمراد الشرع. يقول الإمام البخاريُّ كما نقله عنه اللالكائي في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة":» كتبتُ عن ألفِ نفر من العلماء وزيادة ولم أكتب إلا عن من قال: الإيمان قول وعمل « (1) . وعزا اللالكائي هذا القول أيضا إلى سبعة من الصحابة، وثمانية من التابعين، وعدد كبير من الفقهاء يبلغ الثلاثين (2) . ثم أورد جملة صالحة من ذلك بأسانيده، كما هو دَيْدَنُه في كتابه الحافل هذا.   (1) - اللالكائي: 5/959. (2) - اللالكائي: 4/913. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 لذلك قال الحافظ في الفتح:» وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين وكلِّ من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين. وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة « (1) . وقال أيضا:» وما نقل عن السلف – أي من أن الإيمان قول وعمل – صرح به عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعيُّ وابنُ جريج ومعمر وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم « (2) . ويقول الإمام المزني في عقيدته التي ذَكر في آخرها أن ما فيها "اجتمع عليه الماضون الأولون من أئمة الهدى":» والإيمان قول وعمل، وهما شيئان ونِظامان وقرينان لا يُفرَّق بينهما « (3) . ويقول إماما أهل الحديث أبو زرعةَ وأبوحاتمٍ رحمهما الله تعالى:» أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا، فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص « (4) . كما نقل ابنُ عبد البر في التمهيد الإجماعَ على أن الإيمان قول وعمل (5) . والحق أن تتبُّعَ مثلَ هذه النقولِ عن السلف أمر طويل ليس المقصودُ استقصاءَه، وإنما المرادُ الإشارة إلى شهرة هذا التعريف، بل تواترِه، كما هو واضح. هذا وقد نقل عن السلف أقوالٌ أخرى في تعريف الإيمان أشرتُ إليها في النظم، من ذلك قولُ البعض إنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (6) . ومنهم من قال إنه قول وعمل ونية كما نقله اللالكائي عن الإمام الشافعي، قال:» وكان الإجماع من الصحابة والتابعين مِن بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان قول وعمل ونية ولا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر « (7) .   (1) - الفتح: 1/65. (2) - الفتح: 1/64. (3) - اجتماع الجيوش الإسلامية: 83. (4) - اجتماع الجيوش الإسلامية: 121. (5) -التمهيد: 9/248. (6) -مجموع الفتاوى: 7/170. (7) -اللالكائي: 5/957. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ومنهم من زاد في تعريف الإيمان الاعتصامَ بالسنة. قال الأوزاعي:» لا يستقيم الإيمان إلا بالقول ولا القول إلا بالعمل ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة « (1) . وأصرحُ منه قولُ سهل التستري لما سئل عن الإيمان ما هو، فقال:» قول وعمل ونية وسنة « (2) . والحقُّ أن هذه الأقوالَ كلَّها صحيحة ولا تعارض بينها عند التحقيق (3) . فمن قال منهم إنه قول وعمل - وهذا هو المشهور عندهم كما سلف بيانُه - أراد أنه قول باللسان وبالقلب وعمل بالقلب وبالجوارح، وذلك لأن قول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ، وكذلك فإن عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين التي لا يقبلُها الله. ومَن زاد الاعتقاد في التعريف خاف أن لا يُفهم من لفظ القول إلا القولُ الظاهر، فزاد الاعتقاد بالقلب. ومن زاد النية قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك. ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوبا لله إلا باتباع السنة، والأولون حين لم يذكروا اتباع السنة فلأنهم أرادوا من الأقوال والأعمال ما كان مشروعا أي موافقا للسنة. ثم هاهنا مسألة يمكن إثارتها في هذا الموضع وهي: كيف يكون المعنى الاصطلاحي للفظةِ الإيمان مخالفا لمعناه اللغويِّ؟ فلْيُعلمْ بأنه اختُلف في إطلاق الألفاظ الشرعية كالصلاة والإيمان وغيرها على معانيها، على أقوال ثلاثة مشهورة: أن الشارع نَقَلَها عن مسماها في اللغة إلى مسمى آخر. أن الشارع تصرَّف فيها تصرُّف أهلِ العرف، فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز، وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة.   (1) -اللالكائي: 5/956. (2) -مجموع الفتاوى: 7/170. (3) -انظر مجموع الفتاوى: 7/170-171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أن الشارع لم ينقلها ولم يغيِّرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة (1) . وهذا القول الثالث هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واستدل عليه بأدلة متعددة وطويلة (2) . والمسألة تبحث في علم أصول الفقه، فلتنظر تفاصيلها هناك (3) . وإذا علم هذا، فإن الألفاظ الموجودة في الكتاب أو السنة يُنظر في بيان المراد بها إلى مقصود الشارع لا إلى اللغة أو العُرف الحادث. ألا ترى أننا إذا قرأنا في الكتاب أو السنة أمرا بإقامة الصلاة فإن أذهاننا تنصرف إلى وجوب إقامة تلك العبادة المخصوصة التي تبدأ بالتكبير وتختم بالتسليم؟ ونفس الشيء يقال بالنسبة لألفاظ أخرى كالزكاة والصوم والحج وغيرها. ولفظ الإيمان - ومثله ألفاظ الإسلام والنفاق والكفر والفسق وغيرها - من هذا النوع، فلا ينبغي أن يؤخذ تعريفُها إلا من بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يقول شيخ الإسلام رحمه الله:» فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّنَ المراد بهذه الألفاظ بيانا لا يُحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك، فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله، فإنه شافٍ كاف « (4) . وسأذكر- بحول الله عز وجل - أدلةَ كون الإيمان قولا وعملا من الكتاب والسنة وأقوال السلف، عند تفصيل الكلام على أركان الإيمان فيما سيأتي والله أعلم. الكلام على قول القلب: قلت في النظم: فالقول قول القلب أي تصديقُه بما عن الرسول جا توثيقه والجزم فيه أعظم المطلوب فنقضُه بالشك والتكذيب الشرح:   (1) - حاشية ابن الحاج على شرح ميارة: 289. (2) - مجموع الفتاوى: 7/298. (3) - إرشاد الفحول: 49 وشرح المحلي على جمع الجوامع: 1/302. (4) - مجموع الفتاوى: 7/287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 (فالقول) الذي هو ركن في الإيمان الشرعي - كما سبق بيانه – نوعان، الأول منهما هو (قول القلب أي تصديقه) وإيقانه الجازم (بـ) كل (ما عن الرسول) محمد - صلى الله عليه وسلم - (جا) ءَ، مقصور للوزن (توثيقه) بنصوص الكتاب الجلية، والأحاديث النبوية السَّنِيَّة. (والجزم) أي: القطعُ والتيقن بأي طريق حصل (فيه أعظم المطلوب) أي أول ما يطلب. لذلك (فنقضه) يكون (بالشك) وهو التردد بين أمرين دون ترجيح أحدهما (والتكذيب) وهو نقيض التصديق. واعلم بأن هذا الركن العظيم – أعني تصديقَ القلب – قد تظافرت أدلة الكتاب والسنة على اعتباره وبيان خطورته، كما أجمع الناس – باستثناء الكرامية – على كونه ركنا في الإيمان. قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} . قال مجاهد: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أصحابُ القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة فيقولون هذا ما أعطيتمونا فعمِلنا فيه بما أمرتمونا. قال ابنُ كثير في تفسيره:» وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير فإنه جاء بالصدق وصدق المرسلين وآمن بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله « (1) .   (1) - تفسير ابن كثير: 4/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} ، أي: لم يشُكُّوا، مِن رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة. قال العلامة الألوسي::» وجعل عدمَ الارتيابِ متراخيا عن الإيمان (أي: باستعمال حرف "ثم") مع أنه لا ينفك عنه لإفادة نفيِ الشك فيما بعد عند اعتراء شبهة كأنه قيل: آمنوا ثم لم يَعْترِهم ما يعتري الضعفاءَ بعد حين، وهذا لا يدل على أنَّهم كانوا مرتابين أوَّلًا بل يدل على أنهم كما لم يرتابوا أوَّلًا لم يحدُث لهم ارتياب ثانيا « (1) . وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ} قال الألوسي:» أي: من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى « (2) . وجاء في حديث الدرجات العلى قوله عليه الصلاة والسلام:» بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين « (3) . والشاهد منه واضح. ومن حديث أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:» … أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شاك فيهما إلا دخل الجنة «وفي رواية:» … لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة «. وعنه رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه بنَعليه فقال:» … من لقيتَ من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة «الحديث (4) .   (1) - روح المعاني: 26/168 وما بين القوسين من زيادتي. (2) - روح المعاني: 7/198. (3) - أخرجه مسلم في الإيمان- باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، برقم: 27 (ص45) . (4) - أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، برقم:31 (ص46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ويجدر التنبيه إلى أن الشك المذكور في هذه الأحاديث، والذي هو ناقض لركن التصديق القلبي إنما هو التردد المستقر في القلب، وهذا من سيما المنافقين، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} . أما بعض الوساوس التي يلقيها الشيطان لابن آدم ليزعزعه عن إيقانه، ويشككه في مسلمات دينه، فليست – إن شاء الله تعالى – مما يضر بالإيمان إذا تصدى لها المرء بالعلاج النبوي الناجع، وهو ما رواه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:» يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته «وفي رواية:» فليقل: آمنت بالله « (1) . قال أبو زميل: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: ما شيءٌ أجدُه في نفسي – يعني شيئا من شك – فقال لي:» إذا وجدت في نفسك شيئا فقل: هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم « (2) . ثم إن المقصود بالشك في هذا المقام هو معناه اللغوي وهو خلاف اليقين (3) ، لا معناه الاصطلاحي وهو قسيم الوهم والظن، كما يذكره الأصوليون، وقد عقده صاحب مراقي السعود بقوله: والوهم والظن وشك ما احتملْ ... ... لراجحٍ أو ضدِّه أو ما اعتدل (4) .   (1) - أخرجه البخاري في بدء الخلق، برقم: 3276 (627) ، ومسلم في الإيمان برقم: 134 (ص78) ، والرواية الأخرى عند أبي داود في السنة-باب في الجهمية، برقم: 4721 (2/417) . (2) - رواه أبو داود في كتاب الأدب- باب في رد الوسوسة برقم:5110 (2/500) ، وذكره الألباني في صحيح الكلم الطيب: 57. (3) - القاموس المحيط: 850. (4) - نشر البنود: 1/62 والمحلي على جمع الجوامع: 1/154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 واعلم أن أرباب المقالات نقلوا ما يفيد التفريق بين التصديق والمعرفة. فنقل ابن أبي العز الحنفي عن الجهم بن صفوان: أن الإيمان عنده هو المعرفة، وعن أبي منصور الماتريدي أنه عنده هو التصديق (1) . وكذلك الإيجي قال بعد أن ذكر أن الإيمان عنده هو التصديق:» وقيل هو المعرفة. فقوم: بالله، وقوم: بالله وبما جاءت به الرسل « (2) . وقد بحث شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة في كتاب الإيمان، فلتنظر هناك (3) . وحاصله عُسْرُ التفريق بين معرفة القلب وبين التصديق القلبي المجرد عن الانقياد، كما يزعمه ابن كُلاب والأشعري وغيرهما. والله أعلم. ب- الكلام على قول اللسان: قلت في النظم: قول اللسان نطق غير الأبكم بكِلْمة الشهادتين فافهم وهل يقوم غيرها مقامها؟ أم لا يساوي غيرها أحكامها؟ الشرح: (قول اللسان) الذي هو الركن الثاني من أركان الإيمان كما سبق بيانه، هو (نطق غيرِ) العاجز عن الكلام مثل (الأبكم) وهو الأخرس (بكِلْمة) بتسكين اللام، لغة في الكَلِمة بكسرها (الشهادتين) والمقصود كلمة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله (فافهم) تكملة للبيت. (وهل) وفائدةُ الاستفهام الإشارة إلى الخلاف الوارد في هذه المسألة (يقوم غيرها) من الأقوال والأعمال (مقامها) في ثبوت حكم الإسلام وعصمة الدم والمال، وغير ذلك، (أم لا يساوي غيرها أحكامها) التي جعلها لها الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؟   (1) - شرح العقيدة الطحاوية: 333. (2) - المواقف: 384. والمعنى: قال قوم: هو المعرفة بالله، وقال قوم آخرون: هو المعرفة بالله وبما جاءت به الرسل. (3) - مجموع الفتاوى: 7/395-400 وانظر التسعينية من الوجه 18 إلى الوجه 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 والحق أن الكلام على هذه الكلمة العظيمة – أعني كلمةَ لا إله إلا الله – أطولُ وأعظم من أن أحيط به في هذه الأسطر، وإلا خرجتُ عن لب الموضوع، وجوهر المقصود. فإن كلمة لا إله إلا الله هي أساس دين الإسلام، وركيزة دعوة المرسلين، وبها كُلِّف الخلائق أولا، كما قال تعالى: {وَمَا خَلقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِي} ، أي لآمرهم بإفرادي بالعبادة، وهذا هو مدلول كلمة لا إله إلا الله. وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، فتأملْ كيفَ اجتمعتْ شهادة رب الأرباب جل ذكره، وشهادة الملائكة وهم العباد المكرمون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وشهادة أولي العلم وهم ورثة الأنبياء والموقعون عن رب العالمين، على أجَلِّ مشهودٍ عليه وأعظمِه وهو: لا إله إلا الله. وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ} ، فانظر كيف أكد الله جل ذكره الكلمةَ الأولى التي تثبت وحدانية الإله، بالكلمة الثانية – أي كلمة الإخلاص – المتضمنة من المعاني ما ليس في الأولى (1) . وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:» أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابُهم على الله تعالى « (2) . وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:» بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان « (3) .   (1) - انظر شرح الطحاوية: 109. (2) - سبق تخريجه. (3) - البخاري في الإيمان، برقم:8 (ص25) ، ومسلم في الإيمان برقم: 16 (ص40) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -::» لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحبُّ إلي مما طلعت عليه الشمس « (1) . وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:» من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مِرار، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيلَ « (2) . فانظر كيف جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمةَ الإخلاص أول الدعائم التي يقوم عليها الإسلام، والأمرَ الذي يعصِمُ دم ومالَ صاحبِه، وأحب أنواع الذكر وأعظمها (3) . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا. بقي أن أتكلم على كلمة "لا إله إلا الله" من أوجُه لغوية ثلاثة ضرورية، لفهم هذه الكلمة ومقتضياتها فهْمًا شاملا، فأقول على وجه الاختصار: الوجه الأول: معنى كلمة "إله": قال الجوهري في الصحاح:» ألِهَ – بالفتح – إلاهة، أي عبد عبادة، ومنه قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: {وَيَذَرَكَ وَإلَهَتَكَ} بكسر الهمزة، قال وعبادتك، وكان يقول: إن فرعون كان يعبد في الأرض، ومنه قولُنا "الله" وأصله: "إله" على فعال بمعنى مفعول أي معبود، كقولنا: إمام، فعال: لأنه مفعول أي مؤتم به « (4) . الوجه الثاني: تقدير الخبر: اعلم بأن أداة "لا" نافية للجنس تعمل عمل إن، وتدخُل على النكرات. قال ابنُ مالك في فصل "لا التي لنفي الجنس" من الألفية: عملَ إنَّ اجْعلْ لِلا في نكرة …   (1) - أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، برقم: 2695 (1081) . (2) - أخرجه البخاري في كتاب الدعوات-باب فضل التهليل، برقم: 6404 (ص1229) ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء، برقم: 2693 (ص1081) . (3) - ورد ذلك صريحا في حديث جابر عند الترمذي. (4) - الصحاح للجوهري: 6/2223 مادة: أله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فنحتاج إذن إلى تقديرِ خبرِها لأنه غيرُ مذكور في هذه الكلمة. وقد قدره البعض: "موجود" أو "كائن" وهو خطأ محض، لأن الكتاب والسنة ومشاهدة الواقع تمنع أن ينصَبَّ النفيُ على وجود المعبودات غير الله سبحانه وتعالى. فهذه المعبودات موجودة، كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} ، وغيرها من الآيات. وإنما النفي في كلمة الإخلاص مُنصبٌّ على استحقاق المعبودات غير الله تعالى أن تقصد بالعبادة. فوجب تقدير الخبر: "حق". ويكون معنى كلمة "لا إله إلا الله" هو "لا معبودَ حقٌّ إلا الله"، أي: أن الله هو المعبود الحق وأن ما سواه من المعبودات باطل. الوجه الثالث: دلالة النفي والإثبات: اتفق البلاغيون على أن "النفي والاستثناء" في مثلِ "لا عالمَ إلا زيد" أو "ما قام إلا عمرو" يفيد معنى الحصر (1) ، أي: حصر العلم في زيد في المثال الأول، وحصر القيام في عمرو في المثال الثاني. وهذه الصيغة تدل – عند جماهير الأصوليين – بالمنطوق على نفي العلم عن غير زيد والقيام عن غير عمرو، وبالمفهوم على إثبات العلم لزيد والقيام لعمرو. وفي هذا نقاش عند الأصوليين (2) . فيكون معنى كلمة "لا إله إلا الله" هو حصر استحقاق العبادة في الله عز وجل. فلا يكون المرء مُوحِّدا إلا عندما يفرد الله جل ثناؤه بالعبادة حبا وتذللا وتعظيما. والكلام في هذا الموضوع طويل الذيل وعظيم النفع، فلينظر في مظانه من كتب التوحيد (3) . والله أعلم.   (1) - انظر مثلا شرح عقود الجمان للسيوطي: 44 وشروح التلخيص: 2/191. (2) - انظر حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع: 1/253. (3) - انظر شروح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومجلد "توحيد الألوهية" من مجموع الفتاوى، ورسالة في العبادة للشيخ أبابطين ضمن مجموعة التوحيد، وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أما مسألة ما يمكن أن ينوب عن الشهادتين في إثبات الإسلام الحكمي، فهي قضية خلافية. يقول ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: "وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء كمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما هل يصير مسلما أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الإسلام" (1) . وعليه فيكفي لإثبات حكم الإسلام مثلا قول "إني مسلم" أو الصلاة أو الأذان، أو شهادة رجل مسلم له، أو التبعية للوالدين المسلمين أو أحدهما. ولكل واحد من هذه الأمور دليله، لكنني أتركه اختصارا. ج- الكلام على عمل القلب: قلت في النظم: والقلب فعله في الانقياد للمنتمى لسيد العباد فجوهر الإسلام في التسليم للمصطفى وشرعة الحكيم وتدخل التوبة والإنابة والحب والرجاء والمهابة حب الرسول فعله مطلوبه ليس المحب عاصيا محبوبه ومثل ذي الأعمال ما أكثرها! وفي حساب الدين ما أخطرها! الشرح:   (1) - شرح الطحاوية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 (والقلب فعله) أو عمله يَكْمُن (في الانقياد) أي: الإذعان والخضوع (للمنتمى) اسم مفعول من انتمى يَنْتمِي أي انتسب (لسيد العباد) وأشرف المخلوقين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. والمقصودُ هو الانقياد لما جاء به هذا النبي الكريم من العقائد الواضحة الجَلية، والشرائع المُنيفة السنية. (فجوهر) ولبُّ (الإسلام في التسليم) ظاهرا وباطنا مع تحقق الرضا وانتفاء الحرج (لـ) سنة (المصطفى) محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولـ (شرعة) أي شريعة (الحكيم) الخبير سبحانه وتعالى. (وتدخل) في أعمال القلوب (التوبة) بشرائطها المعروفة عند العلماء، وهي الإقلاع والعزم والندم، (والإنابة) وهي الرجوع إلى الحق سبحانه وتعالى والفرار إليه لا منه (والحب) أي حب الله عز وجل وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحب الإسلام وأهله (والرجاء) في الله عز وجل وفي عظيم ثوابه وواسع رحمته، مع تحقق العمل الصالح وإلا كان أمنيات كاذبة (والمهابة) وهي الخوف من الله عز وجل ومن شديد عقابه وأليم عذابه. ولما كانت المحبةُ من أعظم أعمال القلوب وأهمها، مع ما دخل معناها وحقيقتها من المفاهيم الباطلة، خصصتُ لها بيتا بينت فيه لازمها ومقتضاها، فقلت: (حب الرسول) - صلى الله عليه وسلم - من طرف العبد المؤمن هو (فعله مطلوبه) أي ما طلبه منه الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - من أوامرَ ونواهٍ، إذ (ليس المحب عاصيا محبوبه) أي لا يمكن أن يجتمعَ حب الشخص الآخر مع عصيانه أوامرَه، وذلك على حد قول القائل: تعصى الإلهَ وأنت تزعم حبه ... ... هذا لعمري في القياس شنيع لو كان حبُّك صادقا لأطعته ... ... إن المحب لمن يحب مطيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وفي هذه الإشارة اللطيفة تورُّكٌ على الصوفية الذين يدعون محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم من أشد الناس بعدا عن سنته، وإعراضا عن شريعته. (ومثل ذي الأعمال) الإشارة إلى التوبة والإنابة والخوف والرجاء والمحبة (ما أكثرها) وما أقلَّ من يعمل بها ويتفطن لأهميتها. ومن أراد تفصيلها فليرجع إلى كتاب "مدارج السالكين" (1) للعلامة ابن القيم رحمه الله، وكتاب "التحفة العراقية" (2) لشيخه ابن تيمية رحمه الله. (وفي حساب الدين ما أخطرَها) وما أعظم أهميتها، فهي الفيصل الحقيقي بين المؤمن والكافر، وهي اللازم الطبيعي للتصديق القلبي، والباعثُ الأكبر نحو أعمال الجوارح. كما أن مَن أدخلها في مسمى الإيمان لزِمه أن يُدخل أعمال الجوارح أيضا، كما سيأتي بيانه فيما يلي. وقد دلت نصوص كثيرة من القرآن والسنة على أهمية أعمال القلوب، فمن ذلك قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . قال ابن القيم رحمه الله: " أقسَم سُبحانه بنفسه المقدسة قسما مؤكدا بالنفي قبلَه على عدم إيمان الخلق حتى يُحَكموا رسولَه في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يُثبت لهم الإيمانَ بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفيَ عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يُثبت لهم الإيمان بذلك أيضا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضا والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض" (3) .   (1) - وهو شرح لكتاب "منازل السائرين" لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري المتوفى سنة 481. (2) - وهو مطبوع ضمن مجموع الفتاوى، المجلد 10. (3) - التبيان في أقسام القرآن: 1/274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} وقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} . هذا في التسليم والانقياد، وأما المحبة فقال جل ذكره: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وقال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وهذه تسمى عند أهل العلم آيةَ المحنة، لأنها امتحان شديد نصبه الله عز وجل لكل من يدعي محبته سبحانه، فمن اتبع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، نجح في الامتحان وكان من المحبين لله تعالى حقا لا ادعاء، بل جوزي بتحقق محبة الله تعالى له على قاعدة "الجزاء من جنس للعمل" وهي قاعدة مطردة في القرآن (1) ، بل وفي الشرع كله (2) ، وزاده الله من فضله مغفرة الذنوب، وأعظِمْ به فضلا وجزاء. فتدبر أيها الأخ السني عظيم ثواب الاتباع، ولا تكن من الغافلين! على أنني أود أن أنبه إلى أن أصل المحبة في القلب، وأن الاتباعَ إنما هو ثمرة لها، فلا ينبغي التسوية بينهما كما قد يفهمه البعض. فاشدد يدك على هذه الفائدة، واسْعَ إلى ترسيخ جذور المحبة في قلبك، كما تسعى إلى ظهور ثمار الاتباع على جوارحك. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما"الحديث (3) . وقال عليه الصلاة والسلام: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" (4) .   (1) - كما في قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم) وقوله: (إن تنصروا الله ينصركم) ، فتأمل. (2) - راجع كتاب "الجزاء من جنس العمل" للسيد عفاني، فهو في غاية النفاسة. (3) - أخرجه البخاري في الإيمان-باب حلاوة الإيمان، برقم: 16 (ص26) ، ومسلم في الإيمان برقم: 43 (ص50) . (4) - سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وأما الخوف فقال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا} وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وأما الرجاء فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال سبحانه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} وأما النية والإخلاص فقال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"الحديث (1) . والحق أن النصوص المبينة لأعمال القلوب، ولاندراجها في مسمى الإيمان الشرعي لا تكاد تُحصى كثرةً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عَسُر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق، وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن انقياد وغيره من أعمال القلب" (2) .   (1) - البخاري-الحديث الأول (ص21) ومسلم في كتاب الإمارة برقم: 1907 (ص792) . (2) - مجموع الفتاوى: 7/400. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وليُعْلم بأن إخراج أعمال القلوب من مسمى الإيمان قول شنيع (1) ، لما يلزم عنه من اللوازم الفاسدة المخالفة لما علم من الدين بالضرورة. فإنه يلزم عنه مثلا أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين كاملي الإيمان، لأنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما السلام، ولم يتبعوهما ولا انقادوا للشرع الذي جاءا به، ولهذا قال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاء إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} ، وقال تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} . وكذلك فإن أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم، وهم مع ذلك كافرون به معادون له. وأبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ولقد علمتُ بأن دين محمد ... ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامةُ أو حِذارُ مسبة ... ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا ويلزم عن هذا القول أيضا أن إبليس مؤمن كامل الإيمان، فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، كما جاء في القرآن الكريم: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} ، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} . فهذه اللوازم المستبشعة تبين لكل مُنصف أن قَصْر الجزءِ القلبي من الإيمان على التصديق المجرد عن الانقياد مصادِمٌ أشدَّ المصادمة لنصوص الشرع ومقاصد الرسالة. وإذا علم بأن أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان، فإن هذا يستلزم أن تكون أعمال الجوارح كذلك. وبيان هذا الاستلزام من وجهين:   (1) - لذلك أنكره قوم من المتكلمين، كما سبق ذكره عن التفتازاني والبيجوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الأول: أن انقيادَ القلب يستلزم انقياد الجوارح ولا بد، إذ يمتنع أن يكون القلب عامرا بالطاعة والمحبة والإذعان والرضا ولا يظهر لذلك أثر على الجوارح. يقول ابن أبي العز الحنفي: " ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد، لأطاعت الجوارح وانقادت، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا، بخلاف العكس" (1) . الثاني: أن من يقر بأن أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان، يكون قد أقر بالحقيقة المركبة للإيمان، وأنه ليس شيئا واحدا لا يتركب ولا يتعدد، كما يزعمه المرجئة والخوارج. فيلزمه حينئذ أن يُدخل أعمال الجوارح أيضا. يقول ابن تيمية رحمه الله: " … لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا" (2) . د- أعمال الجوارح الظاهرة: قلت في النظم: ثم الذي تظهره الجوارح مثل الذي تضمره الجوانح يدخل في حقيقة الإيمان في المذهب الجلي ذي الرجحان كالذكر والصلاة والقتال وترك ما يشين بامتثال الشرح: (ثم الذي تُظهره الجوارح) وهي الأعضاءُ كما سبق ذكره، والمقصود أعمال الجوارح الظاهرة وهي الركن الرابع من أركان الإيمان (مثل الذي تضمره) وتخفيه (الجوانح) جمع جانحة، وهي الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر، قاله في القاموس (3) ، والمقصودُ أعمال القلوب الباطنة التي سبق شرحها (يدخل في حقيقة الإيمان) الشرعي وذلك (في المذهب الجَليِّ) الواضح (ذي الرجحان) على غيره من المذاهب والأقوال، بل هو المذهب الذي لا ينبغي القول بغيره، ولا العدول عنه لأنه الحق الذي لا محيص عنه، وكيف لا يكون كذلك وهو مذهب أهل السنة، وقول سلف الأمة، وأدلَّتُه أظهرُ من أشعة الجَوْناء في كبد السماء!!   (1) - شرح الطحاوية: 341. (2) - مجموع الفتاوى: 7/194. (3) - القاموس المحيط: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ثم ذكرتُ أمثلة لأعمال الجوارح الظاهرة فقلت: (كالذكر) وهو من أعمال اللسان، ويشمل تلاوةَ القرآن، والتحدث بالعلم النافع، والثناء على الله وحمده والتسبيح والتهليل وغير ذلك، (والصلاة) وهي عمود الإسلام، وأعظم أركانه العملية على الإطلاق (والقتال) في سبيل الله، وهو ذروة سنام الإسلام، والفيصل بين العز والهوان. وهذه الثلاثةُ أفعالٌ، ولما كان التركُ فعلًا على الصحيح (1) ذكرتُه بقولي (وترك ما يشين) أي المحرمات العملية (بامتثال) أي مع الإخلاص لله عز وجل، لأن الثواب في التُّروكِ مَنُوطٌ بالامتثال، خلافا للأفعال المحضة. وقد أجمعَ السلفُ رضوان الله عليهم على دخول أعمال الجوارح الظاهرة في مسمى الإيمان، وبَدَّعوا من خالف في ذلك، وشددوا عليه النكير. وكيف لا، والكتاب والسنة ناطقان بذلك أفصحَ النطق وأبينه؟! فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} . قال الإمام البخاري في كتاب الإيمان من الجامع الصحيح:" باب الصلاة من الإيمان، وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} يعني صلاتكم عند البيت" (2) . ثم نقل بسنده حديث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام بمكة، ثم قال: " قال زهير (3) : حدثنا أبو إسحق عن البراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} " (4) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " في هذا الحديث من الفوائد الرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانا" (5) .   (1) - انظر شرح المحلي على جمع الجوامع عند قوله (لا تكليف إلا بفعل) : 1/215. (2) - البخاري (مع الفتح) : 1/128. (3) - قال الحافظ: " يعني بالإسناد المذكور بحذف أداة العطف كعادته، ووهم من قال إنه معلق". (4) - البخاري (مع الفتح) : 1/129. (5) - فتح الباري: 1/132، وانظر السنة لللالكائي: 4/798 و 4/897. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 ومنه حديث شعب الإيمان (1) ، وهو – في لفظ مسلم – قوله عليه الصلاة والسلام:" الإيمانُ بضع وسبعون – أو بضع وستون شعبة – فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". قال البغوي: " واتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ، فجعل الأعمال كلها إيمانا، وكما نطق به حديث أبي هريرة (يعني حديث الشعب) " (2) . ومنه حديث وفد عبد القيس، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم" (3) . ووجه الدلالة منه ظاهر بحمد الله تعالى. ومن أراد المزيد من النصوص، فليرجع إلى أبواب الإيمان من كتب السنة خصوصا منها صحيح البخاري وكتاب السنة لللالكائي.   (1) - البخاري في الإيمان-باب أمور الإيمان برقم:9 (ص25) ، ومسلم في الإيمان-باب: بيان عدد شعب الإيمان برقم:35 (ص48) . (2) - شرح السنة:. (3) - البخاري في الإيمان-باب أداء الخمس من الإيمان برقم:53 (ص34) ، ومسلم في الإيمان برقم: 17 (ص40) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 كما أن السلف أنكروا إنكارا شديدا على من أخرج الأعمال من الإيمان (1) . وممن أنكر ذلك من السلف وعدَّهُ قولا مُحدَثا: سعيد بن جبير وميمون بن مهران وقتادة وأيوب السختياني وإبراهيم النخعي والزهري ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم. وقال الثوري: هو رأي محدث، أدركنا الناس على غيره. وقال الأوزاعي: كان مَن مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل. قلت في النظم: وترك جنس عمل مكفر وعند ترك بعضه فينظر فقد يكون مخرجا من ملة أو يجعل الفاعل في المشيئة الشرح: (وتركُ جنس عمل) أي: ترك العمل مطلقا (مكفر) لصاحبه كفرا أكبر مخرجا من الملة، (وعند ترك بعضه) أي بعض الأعمال أو فعلِه (فينظر) في العمل المتروك أو المفعول ما هو؟ وهنا حالتان، (فقد يكون) هذا الفعل أو الترك مكفِّرا كفرا أكبر (مخرجا من ملة) الإسلام، كما في الاستهانة بالمصحف إجماعا، أو ترك الصلاة على الصحيح. هذه الحالة الأولى. (أو يُجعل الفاعل) أو التارك (في المشيئة) الإلهية، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وهو في الجنة حتما إما ابتداء وإما مآلا، كما في عقوق الوالدين أو شرب الخمر أو غير ذلك من الكبائر مما هو دون الشرك. ومفهوم جعل صاحب الحالة الثانية في المشيئة أن صاحب الحالة الأولى ليس كذلك، وهو مفهوم صحيح، لأن الله عز وجل قضى أنَّ مَن مات على الشرك فهو خالد في النار، وحرام عليه الجنة. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . فتبين أن في هذين البيتين الكلام على مسألتين: مسألة جنس العمل. مسألة آحاد العمل وأفراده. مسألة جنس العمل:   (1) - جامع العلوم والحكم: 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 سبق أن ذكرنا أن تعريفَ الإيمان الذي أطبق عليه السلف هو أنه قول وعمل. فالقول والعمل ركنان في مسمى الإيمان، أي أنهما جزءان من ماهِيته، مع كونهما يلزم من عدمِ أي واحد منهما عدمُ الإيمان الذي هما ركنان فيه. لذلك كان التعبير بركنية العمل في الإيمان أولى من التعبير بشرطيته (1) . ثم إن العمل لفظ كلي، وهو كلُّ لفظ أفْهَمَ الاشتراك بين أفرادِه بمُجرد تعقله. قال الأخضري في السلم: ... ... فمفهم اشتراك الكلي ... ... كأسد وعكسه الجزئي (2) فتصورُ مفهومِ العمل لا يمنع من صِدقه على كثيرين، فالصلاة عمل وشرب الخمر عمل، وهكذا. وهذا اللفظ الكلي إذن جنس (3) بالنسبة لأفراده، وهي آحادُ الأعمال. فإذا انتفى جنسُ العمل انتفى أحد ركني الإيمان، فذهب الإيمان كله، لأن الشيء ينتفي بانتفاء ركنه. أمَّا لو انتفت بعض أفراد العمل فقد ينتفي الإيمان وقد لا ينتفي بحسب التفصيل الذي سيأتي في المسألة الثانية (4) .   (1) - لأن الشرط خارج عن الماهية بخلاف الركن. انظر: "حقيقة الخلاف بين السلفية الشرعية وأدعيائها في مسائل الإيمان" لمحمد أبورحيم: 27. (2) - شرح القويسني على متن السلم في المنطق: 14. (3) - الجنس هو الكلي المقول على كثيرين مختلفين في الحقيقة في جواب ما هو كالحيوان، انظر القويسني على السلم: 15. (4) - انظر "حقيقة الخلاف" لأبورحيم: 29-30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 روى الخلال عن الحميدي (1) قال: أُخبرت أن ناسا يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموتَ، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقرا بالفرائض واستقبال القبلة. فقلت (أي الحميدي) : ذلك الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين. قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به" (2) . وقال محمد بن نصر المروزي رحمه الله: " فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقا ينقل من الملة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفرا لا يثبت معه توحيد" (3) . وقال الإمام الشافعي رحمه الله: " كان الإجماع من الصحابة والتابعين مِن بعدهم ومَن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر" (4) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ففي القرآن والسنة مِن نَفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضعُ كثيرة كما نفى فيها الإيمان عن المنافق" (5) . وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: " لا خلافَ أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختلَّ شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند ككفر فرعون وإبليس وأمثالهما" (6) .   (1) - هو عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري وأحد أعلام السلف. (2) - مجموع الفتاوى: 7/ 209. (3) - مجموع الفتاوى: 7/333. (4) - مجموع الفتاوى: 7/209. (5) - مجموع الفتاوى: 7/142. (6) - كشف الشبهات (مع شرحه للشيخ العثيمين) : 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فانظر يا أخا السنة إلى هذه النقول الواضحة الجلية، والبراهين الدامغة القوية، والإجماعات القاطعة السَّنِيَّة، ثم اعجب من كثرة الجاهلين والمتجاهلين، واسلُك سبيلَ الحق الأبلجِ ولا يضرَّنك قلةُ السالكين. واعلم أن هذه المسألة فيصل بين أهل السنة وبين طوائف المرجئة القائلين بأن تارك جنس العمل ناقص الإيمان لا كافر. وقولهم هذا "من أشد ثمرات ابتداعهم خطورة بين المجتمع المسلم، بل هو مِعولُ هدم للأحكام الشرعية، والمبادئ الخلقية التي بني عليها الجيل الأول" (1) . فإن قال قائل من المنافحين عن عقيدة الإرجاء – وما أكثرهم في هذه الأعصار -: سلَّمْنا أن تارك جنس العمل كافر، ولكن العمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح كما هو معلوم، فلنا أن نفترض شخصا قد أتى بعمل القلب كاملا، ولم يأت من أعمال الجوارح بشيء، فليس كافرا لأنه ليس تاركا لجنس العمل، مع كونه تاركا للأعمال الظاهرة مطلقا؟ والجواب أن هذا الفرض ممتنع، بل هو من أمحل المحال. قال ابن تيمية رحمه الله: " وقد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجبا ظاهرا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات.." (2) . وقال أيضا: " وإنما قال الأئمة بكُفر هذا لأن هذا فرضُ ما لا يقع، فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئا مما أمر به من الصلاة والزكاة والحج، ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، مثل الصلاة بلا وضوء إلى غير القبلة ونكاح الأمهات، وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه" (3) . وقال ابن القيم رحمه الله: " من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية" (4) .   (1) - حقيقة الخلاف: 45. (2) - مجموع الفتاوى: 7/621. (3) - مجموع الفتاوى: 7/218. (4) - رسالة الصلاة: 1/61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فعاد التكفير بجنس العمل راجعا إلى التكفير بترك أعمال الجوارح الظاهرة، المستلزمِ لانتفاء أعمال القلوب الباطنة. فتأمل هذا فإنه مهم جدا. 2- ... مسألة آحاد العمل وأفراده: من الأعمال الظاهرة ما يكون تركُه كفرا أكبر مخرجا من الملة، ومنها ما ينقص الإيمان بسببه ولكن لا يُذهب أصلَه. وسنرجئ الكلام عن القسم الأول إلى محله من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. أما القسم الثاني فأدلته من الكتاب والسنة كثيرة جدا. فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فميز الله سبحانه بين الشرك وغيره، وأخبر أن الشرك غير مغفور، وأما ما كان دونه فهو معلق بالمشيئة. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . فانظر كيف لم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وأثبت أخوته لولي القصاص، والمراد أخوة الدين قطعا. ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . ثم إن نصوص الكتاب والسنة دلت على أن الزاني والسارق ونحوهما لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد، إذ المرتدُّ يقتل إجماعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وفي حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله عليه فهو إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه" (1) . وفي حديث أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قال لي جبريل: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ولم يدخل النار. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق" (2) . وفي حديث ابن مسعود مرفوعا: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" (3) . والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وبالجملة، فإن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكبَ الكبيرة (4) لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية، بل هو في الجنة إما ابتداء وإما مآلا. أي: أن الله قد يعفو عنه فيدخلُه الجنة بغير عقاب، أو يدخله النار بما سبق له من العمل السيء ولكن لا يخلد فيها، بل يخرج بإذن الله ويكون مآله الجنة، جعلنا الله من أهلها، وجنبنا عذابَه بمنِّه ولُطفه آمين.   (1) - أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم: 18 (ص27) ، ومسلم في كتاب الحدود برقم: 1709 (709) . (2) - أخرجه البخاري في بدء الخلق-باب ذكر الملائكة، برقم: 3222 (ص619) ، ومسلم في الإيمان برقم: 94 (ص64) . (3) - أخرجه مسلم في كتاب الإيمان برقم: 91 (ص63) . (4) - الكبيرة تشمل الشرك أيضا، إذ هو أكبر الكبائر بنص الحديث، ولكن المقصود بها عند الإطلاق هو ما دون الشرك، وضابطها ما ورد فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة. انظر شرح الطحاوية:371، ورسالة في الموضوع للشيخ عبد الله بن الصديق رحمه الله بعنوان: تنوير البصيرة ببيان علامات الكبيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وقد خالف في هذا الأصل العظيم طائفتان من المبتدعة هم الخوارج والمعتزلة. وسأذكرهما في البيتين التاليين، بحول الله عز وجل. الفصل الثالث: أقوال أهل البدع في حقيقة الإيمان: قلت في النظم: ليس كما زعمت الخوارج فقولهم عن الصواب خارج وما لمذنب من المآل وافقهم فيه ذوو اعتزال الشرح: (ليس) ما سبق ذكره في البيتين السابقين من كون مرتكب الكبيرة دون الشرك في مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، وهو قول أهل السنة والجماعة (كما) أي كالذي (زعمت الخوارج) وهم فرقة بدعية معروفة. (فقولهم) هذا (عن الصواب) أي الحقِّ المؤيد بالأدلة النقلية والعقلية (خارج) أي بعيد ومجانب. وفيه جناس غير تام. (وما) أي الذي (لمذنب) أي مرتكبِ كبيرةٍ ليست بشرك (من المآل) أي المصير في الآخرة (وافقهم) أي الخوارجَ (فيه) أي في مآل مرتكب الكبيرة (ذوو اعتزال) وهم الفرقة البدعية المشهورة باسم المعتزلة. وقد ذكرتُ في هذين البيتين مذهب كل من الخوارج والمعتزلة في مسألة مرتكب الكبيرة. وحاصله ما يلي: مذهب الخوارج: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 تعتبر بدعة الخوارج (1) من أقدم البدع العقدية في الأمة، إن لم تكن أقدمَها مطلقا، فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدِلْ يا رسول الله. فقال: ويلك ومَن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: دعه، فإن له أصحابا يحقرُ أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية … آيتهم رجل إحدى يديه مثل ثدي المرأة، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي - صلى الله عليه وسلم -" (2) . ومن حديث علي مرفوعا: " سيخرُج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرُقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة" (3) . وعن ابن أبي أوفى مرفوعا: " الخوارج كلاب النار" (4) . وقد صحت الأحاديث النبوية في الخوارج من أوجه متعددة وطرق كثيرة جدا (5) .   (1) - انظر للتفصيل: التنبيه والرد للملطي: 47 وما بعدها و178 وما بعدها، والملل والنحل للشهرستاني: 1/106. (2) - أخرجه البخاري في الأدب-باب ما جاء في قول الرجل ويلك برقم: 6163 (ص1188) ، ومسلم في كتاب الزكاة برقم: 1064 (ص409) . (3) - أخرجه البخاري في المناقب برقم: 3611 (ص690) ومسلم في الزكاة برقم: 1066 (ص411) . (4) - أخرجه ابن ماجه في المقدمة برقم: 169، وأحمد في مسند الكوفيين (5) - انظر مثلا جمع الفوائد: 4/168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وقد ابتدأ أمر الخوارج فِعليًّا يوم صفين، حين أنكروا على علي رضي الله عنه قبوله بالتحكيم، ثم خرجوا عليه بالسيف، فقاتلهم بالحجة والسنان، حتى رجع منهم الكثير، وقتل منهم الكثير دون أن يستطيع استئصالهم. وبلغ الأمر بأحدهم وهو الشقيُّ عبدُ الرحمن بن ملجم أن اغتال عليا رضي الله عنه وأرضاه، وهو آنذاك أفضلُ مَن على وجه الأرض. ثم استمرت المغامرة السياسية للخوارج في ظل حكم بني أمية وبني العباس وغيرهم من دول الإسلام (1) . وبموازاة مع خروجهم المتواصل على الحكام المسلمين، كانت أفكارهم وعقائدهم تتطور وتزداد رسوخا، حتى أصبحت لهم عقائد معروفة يتميزون بها عن غيرهم من الفرق، خصوصا في مسائل الإيمان والكفر. والذي يهمنا منها هنا أنهم جعلوا الإيمان شاملا للإقرار اللساني والتصديق القلبي وجميع أنواع الطاعات صغيرة أو كبيرة. فالإيمان هو مجموع هذه الأشياء وترك أي خصلة من هذه الخصال كفر (2) . فمرتكب الكبيرة عندهم خارج من الدين بالكلية. وهذا من أشنع أقوالهم، وليس لهم فيه مستند إلا التمسك ببعض الشبهات التي هي أوهى من نسْج العنكبوت. مذهب المعتزلة: أشهرُ ما جاء في سبب تسمية هذه الفرقة بالمعتزلة (3) ، أنَّ واصلَ بنَ عطاءٍ – وهو مؤسس هذه الفرقة – اعتزل حلقة الحسن البصري لما ورد عليه سؤال عن مرتكب الكبيرة، وشرع يُقَرر مذهبه في حلقة خاصة به. ثم كبرت الفرقة واشتهرت، وبدأت أصولها ترسخ وتتقرر. وعلى كثرة اختلافهم فيما بينهم، فإنهم متفقون على أصولٍ خمسةٍ يجادلون عنها، ويتبرءون ممن خالفهم فيها، وهي: العدل ويتوصلون به إلى نفي القدر. التوحيد ومعناه عندهم نفي الصفات. الوعد والوعيد وثمَرتُه عندهم إنكار الشفاعة وإنكار كون عصاة الموحدين في المشيئة. المنزلة بين المنزلتين وهي حكم مرتكب الكبيرة عندهم.   (1) - انظر كتب التاريخ خصوصا البداية والنهاية لابن كثير. (2) - تفسير الرازي الكبير: 2/23. (3) - التنبيه والرد: 35 والملل والنحل: 1/38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتوصلون به إلى الخروج على الحكام المسلمين بالقتال إذا جاروا. فتأمل يا أخا السنة في هذه البدعِ المتراكمة، والضلالات المتزاحمة. حتى قال أبو الحسين الملطي: "واعلم أن للمعتزلة من الكلام ما لا أَسْتجيزُ ذِكرَه لأنهم قد خرجوا عن أصول الإسلام إلى فروع الكفر" (1) . والذي يهمنا من عقائدهم قولُهم إن العاصيَ ليس مؤمنا ولا كافرا، ولكن نسميه فاسقا. فالخوارج قالوا: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، وهم قالوا: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين! ولكنهم قضوا بتخليد في النار أبدا كالخوارج: " فوافَقوهُم مآلا، وخالفوهم مَقالا، وكان الكلُّ مخطئين ضُلَّالا" (2) . قلت في النظم: هذا وقال البعض في الإيمان بأنه التصديق بالجنان والبعض زاد النطق باللسان كما اكتفى به أولو الخذلان وهذه الأقوال في التدقيق بعيدة عن منهج التحقيق قد فرقوا شرائع الإيمان فخالفوا طريقة الرحمن تجمعهم عقيدة الإرجاء ومنهج الفتون والأهواء الشرح: بعد أن ذكرتُ تعريفَ أهل السنة والجماعة للإيمان، وشرحتُ أركانَه بشيءٍ من التفصيل، ثم ميَّزتُ مذهبَ أهل السنة عن مذهبِ مَن وافقهم في التعريف وخالفهم في فَهْمِه وتطبيقه، انتقلتُ في هذه الأبيات إلى الكلام على من خالف أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان وهُم طوائف المرجئة، فقلت:   (1) - التنبيه والرد: 41. (2) - معارج القبول: 3/1020، وانظر شرح الطحاوية: 317 وغيرها من كتب العقائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 (هذا وقال البعض) مِن أهل القبلة (في الإيمان) أي في تعريفه (بأنه التصديق بالجنان) فجعلوا مُسَمَّى الإيمانِ هو التصديق القلبي المجرد، وهذا القول الأول. (والبعض زاد) في تعريف الإيمان (النطق باللسان) ، فالإيمان عندهم هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا القول الثاني. (كما) أنه قد (اكتفى) في تعريف الإيمان (به) الضمير راجع للنطق باللسان (أُولُو) فاعلُ اكتفى مرفوع، وعلامة رفعه الواوُ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (الخذلان) أعاذنا الله منه. وهؤلاء هم الكَرَّاميَّة الذين جمعوا صنوفا من البدع والضلالات ومن بينها جعلهم الإيمان هو الإقرار باللسان فقط!! وهذا هو القول الثالث. (وهذه الأقوال) الثلاثة (في) أي عند (التدقيق) والتمحيص، كلُّها (بعيدة عن منهج التحقيق) وهو كمال الفهم والغوص وراء المعاني. (قد فرقوا شرائع الإيمان) لما أدخلوا البعض في مسمى الإيمان وأخرجوا البعض الآخر، تحكما وتعسفا، ومستندهم في ذلك شَقشقاتٌ لفظية، وخيالات عقلية، وأنواع من السَّفسطةِ والمكابرة، (فخالفوا طريقة) أي نهج وسبيل (الرحمن) سبحانه وتعالى، الذي أرشدنا إلى أَقوَم السُّبل وأهداها، ولكن مَنْ يضلل الله فلا هادي له. (تجمعهم عقيدة الإرجاء) سيأتي التعريف بها، (ومنهج الفتون) جمع فتنة (والأهواء) أعاذنا الله منها بمنه ولطفه آمين. أصول بدعة الإرجاء: سُئل ابن عيينة عن الإرجاء، فقال: " الإرجاء على وجهين: قوم أَرْجَوا أمر علي وعثمان، فقد مضى أولئك. فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل. فلا تجالِسوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولا تصلوا معهم ولا تصلوا عليهم" (1) . فهذا الإمام الجليل يفرق بين الإرجاء الأول المرتبط بالفتنة التي وقعت زمن الخليفتين عثمان وعلي رضي الله عنهما، والإرجاء – في الاصطلاح المشهور – عند استقرار المذاهب وتبين عقائدها.   (1) - تهذيب الآثار: 2/181 كما في ظاهرة الإرجاء: 1/320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وعلى هذا المعنى الأول ينبغي أن يفهم ما ينقله أهل المقالات من أن أوَّلَ مَن تكلم في الإرجاء هو الحسن ابن محمد بن علي بن أبي طالب. فقد قال عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة إنهما دخلا على الحسن بن محمد، فلاماه على الكتاب الذي وضع في الإرجاء، فقال لزاذان: يا أبا عَمرو، لَوَدِدتُ أني كنت مت ولم أكتبه" (1) . يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: " … قلت المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه، غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان". ثم نقل شيئا من كلام محمد بن الحسن في كتابه المذكور آنفا، ثم قال: " فمعنى الذي تكلم فيه الحسن، أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئا أو مصيبا، وكان يُرجئ الأمر فيهما. وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان فلم يعرج عليه، فلا يلحقه بذلك عابٌ، والله أعلم" (2) . أما الإرجاء الثاني فهو إرجاءٌ عَقَدي يرتكز على كون الإيمان هو الإقرار والتصديق، ولا يضر معهما شيء من المعاصي العملية. فحقيقة الإيمان عند أهل الإرجاء منفصلةٌ عن العمل الظاهر. بل وُجد منهم من غلا وأفرط وتجاوز الحد في الاستهانة بالعمل، حتى زعم أن من عرف الله بقلبه أنه لا شيء كمثله، فهو مؤمن وإن صلى نحو المشرق أو المغرب وربط في وسطه زنارا (3) !! ولا يخفى على المتأمل أن هذا الغلو في الإرجاء لا يعدو أن يكون نتيجة حتمية لفكرة إخراج العمل من مسمى الإيمان، وهي الفكرةُ التي تتساوى فيها جميع طوائف المرجئة. لذلك كان إنكارُ السلف على أهل الإرجاء – بجميع صوره وأشكاله – شديدا، سدًّا للذريعة وحَسْمًا لهذه المادة. وكمْ من الأمور لا تظهر شناعتها وخطورتها إلا عند التأمل في لوازمها ومقتضياتها.   (1) - نقله الحافظ في ترجمة الحسن بن محمد من تهذيب التهذيب: 2/290. (2) - تهذيب التهذيب: 2/291. (3) - التنبيه والرد للملطي: 149، وانظر كلاما آخر لهم في الصفحات التالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 واعلمْ أنَّ طوائفَ المرجئة كثيرة جدا، ولكن أصولها ترجع إلى أقوال ثلاثة (1) في تعريف الإيمان، وهي المذكورة في النظم: القول الأول: الإيمان يكون بالقلب واللسان معا دون غيرهما من الجوارح. وأشهرُ من ينتسب إلى هذا القول أبو حنيفة وأصحابه وهم المُلقَّبون عند أئمة السلف بمرجئة الفقهاء. وعامة كلام السلف في الإنكار على المرجئة وتبديعِ أهل الإرجاء إنما يُقصد به هؤلاء المنتسبون إلى مدرسة الكوفة الإرجائية. وهذا القول مذكور في كتب المقالات عن الشمرية أتباع أبي شمر، والنجارية أتباع الحسين بن محمد النجار (2) . واختلفوا في الذي يقوم بالقلب هل هو المعرفة أم التصديق، على قولين اثنين. وهل يكفي في المعرفة القلبية الاعتقاد الجازم أم لا بد من العلم الصادر عن الاستدلال؟ قولان أشهرهما الأولُ الذي يَحكُم أصحابه بإيمان المقلد (3) . واختلفوا أيضا في متعلَّق هذهِ المعرفة، ومحقِّقوهُم على أن المعتبرَ فيها هو العلمُ بكل ما عُلم بالضرورة كونُه من دين محمد - صلى الله عليه وسلم -.   (1) - انظر تفسير الرازي: 2/23 وشرح الطحاوية: 332 وحقيقة الخلاف: 15-16. (2) - مجموع الفتاوى: 7/546. (3) - الاعتقاد هو الإدراك الجازم القابل للتغيير بتشكيك أو غيره بخلاف العلم فهو الإدراك غير القابل للتغيير لكونه صادرا عن استدلال. المحلي على جمع الجوامع: 1/151. والخلاف في مسألة صحة إيمان المقلد مشهور في كتب المتكلمين. انظر شرح جوهرة التوحيد: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 القول الثاني: الإيمانُ محصورٌ في القلب. وأصحاب هذا القول نوعان: أحدهما يقول إن الإيمان عبارة عن معرفة الله بالقلب، حتى أن من عَرفَ الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقرَّ به فهو مؤمن كامل الإيمان. وهذا قول الجهم بن صفوان وأبي الحسن الصالحي أحد رؤساء القدرية. وثانيهما يقول بأن الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب. وهذا مذهبُ أبي منصور الماتريدي، وروي عن أبي حنيفة، ونقله الفخر الرازي في التفسير عن الحسين بن الفضل البجلي، واختارَه. وهذا الذي استقر عليه عامةُ متكلمي الأشاعرة المتأخرين، كما في المواقف وشروحه. القول الثالث: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، ومنهم من جعل حصولَ المعرفة في القلب شرطا في كون الإقرار اللساني إيمانا، وهذا قول غيلان الدمشقي والفضل الرقاشي، ومنهم من لم يشترطه وهم الكَرَّامية. فالمنافقون عندَهم مؤمنون كامِلو الإيمان، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وهذا قول ظاهرُ الفساد كما يقول ابن أبي العز في شرح الطحاوية. وقد استدل الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان ويحصرون هذا الأخير في التصديق ببعض الأدلة (1) ، سأذكرها وأجيب عنها بحول الله تعالى على وجه الاختصار:   (1) - إنما أفردت هذا القول بذكر أدلته والجواب عنها لشدة خطورته، وانتشاره في الأمة كما لا يخفى. وانظر هذه الأدلة في تفسير الرازي الكبير: 2/24 والمواقف: 385. وهي عندي مع الأجوبة عليها بتفصيل في رسالة خاصة اسمها: " حقيقة الإيمان من خلال تفسير الإمام الرازي – عرض وتحليل ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الدليل الأول: أن الإيمان في أصل اللغة للتصديق، فوجب أن يكون كذلك في عرف الشرع، لئلا ينافيَ وصفَ القرآن بكونه عربيا. وقد سبق الجواب عنه عند الكلام على معنى الإيمان في اللغة. وأزيد هنا قول شيخ الإسلام رحمه الله: " وأهلُ البدع إنما دخل عليهم الداخل لأنهم أعرضوا عن هذه الطريق (1) ، وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها، إما في دلالة الألفاظ، وإما في المعاني المعقولة، ولا يتأملون بيان الله ورسوله، وكلُّ مقدماتٍ تخالف بيان الله ورسوله، فإنها تكون ضلالا" (2) . الدليل الثاني: أن الإيمان أكثرُ الألفاظ دَوَرانا على ألسنة المسلمين، فلو صار منقولا إلى غير مسماه الأصلي، لاشتهر وبلغ حد التواتر. والجواب عن هذا القياس الاستثنائي من الشرطية المتصلة (3) ، أننا نلتزم المقدمةَ الكُبرى، ولكننا نمنع الصغرى التي هي في حالتنا هذه رفعٌ للتَّالي من الكبرى. وبعبارة أخرى أكثرَ وضوحا لسنا نقر عدم تواتر المعنى الشرعي للفظ الإيمان، عَلِمَ ذلك مَنْ عَلِمه وجهله مَن جهله. فقد سبق أن نقلتُ من النقول عن السلف الصالح رضوان الله عليهم ما يكفي – إن شاء الله تعالى – في إثبات كون هذا المعنى الشرعي متواترا لديهم، ومُجمعا عليه عندهم. لذلك قال ابن تيمية رحمه الله في معرِضِ ردِّه على القاضي أبي بكر الباقلاني: " قوله: لو فُعِل لتَواتَر، قيل: نعم، وقد تواتر أنه أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج معانيها المعروفة، وأراد بالإيمان ما بيَّنهُ بكتابه وسنة رسوله من أن العبد لا يكون مؤمنا إلا به … فقد تواتر عنه من معاني اسم الإيمان وأحكامه ما لم يتواتر عنه في غيره، فأيُّ تواتُرٍ أبلغُ من هذا؟ " (4) .   (1) - أي طريق البيان النبوي الشافي. (2) - مجموع الفتاوى: 7/288. (3) - انظر "ضوابط المعرفة" لحبنكة الميداني: 269، وغيره من كتب المنطق. (4) - مجموع الفتاوى: 7/129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أما إنكار المتكلمين وقوع هذا التواتر، فلقلة بضاعتهم من صناعة الأحاديث والآثار، بخلاف أهل الحديث فإنهم فرسان هذا الميدان وجهابذته، وأهل التقدم فيه على غيرهم. الدليل الثالث: أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ} وقوله {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ، وغيرها من الآيات. والتحقيق في هذه المسألة أن هذه النصوص لا تنفي كون الأعمال جزءا من مسمى الإيمان، بل " غايةُ ما فيها بيانُ أن إيمان القلب هو الأصل والأساس لإيمان الجوارح" (1) ، وهذا المعنى صحيح، وتوجد نصوص كثيرة تشهد له، ولا تَعارُضَ بين هذا المعنى وبينَ قولِ أهل السنة إن الإيمانَ قول وعمل. فالقلبُ هو الباعث والمُحرِّكُ الذي مِنه ينطلق التوجيه إلى الجوارح بالعمل خيرا أو شرا، والإرادةُ القلبية هي الحاكمة على أعمال الجوارح طاعةً وإيمانًا إن كانت الإرادةُ إيمانيةً، ومعصية وكفرا إن كانت الإرادة كفرية، كما في الحديث المعروف: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" (2) . فالنصوصُ المذكورة في تقرير هذا الدليل الثالث، إنما تدل على أهمية الجزء الباطن من الإيمان، دونما نفيٍ للجزء الظاهر منه الذي دلت عليه نصوص أخرى كثيرة وصريحة. على أننا نضيف أن الذي يقوم بالقلب من الإيمان ليس هو مجرد التصديق، بل هو أمرٌ زائد وهو عمل القلب الذي سبق توضيحه وبيان ركنيته في الإيمان. وكنت قد أسلفت الكلام على استلزام دخولِ أعمال القلوب في مسمى الإيمان، دخولَ أعمال الجوارح فيه أيضا، فليُتأمَّل.   (1) - ظاهرة الإرجاء للحوالي: 2/544، وفيه فوائد جمة في هذا الموضوع، فلتنظر هناك. (2) - رواه البخاري في الإيمان-باب فضل من استبرأ لدينه برقم: 52 (ص34) ، ومسلم في المساقاة برقم: 1599 (ص651) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الدليل الرابع: جاء الإيمان مقرونا بالعمل الصالح في غير موضع من الكتاب نحو: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، فدل على التغايُر بين مفهومَيْهما. والجوابُ منعُ استلزامِ التغاير، فإن مِن أنواع العطف – كما ذكر ابن هشام الأنصاري في المغني (1) : عطف العام على الخاص وبالعكس نحو {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ونحو {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} وغيرها. بل إن منها عطف الشيء على مرادفه نحو {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} و {عِوَجًا وَلا أَمْتًا} وغيرها (2) . وذلك إنما يكون لنُكتٍ بلاغيةٍ معروفة عند أهل الفن، كما يقول العلامة بهاء الدين السبكي في شرحه لمتن التلخيص: " من أسباب الإطنابِ إيرادُ الخاصِّ بعدَ العام ويؤتى به للتنبيه على فضل الخاص حتى كأنَّه ليسَ مِن جِنْس العامِّ تنزيلا للتغاير في الوصف - فيما حصل به للخاص التمييزُ عن غيره - بمنزلةِ التغاير في الذاتِ على الأسلوبِ الذي سَلَكهُ المُتنبي في قوله: فإن تَفُقِ الأنامَ وأنت منهم ... ... ... فإن المسك بعض دم الغزال" (3) . فعطفُ العمل الصالح على الإيمان هو – إذن – من عطف الخاص على العام، ويمكن أن يقال بأن علةَ ذلك هي شدةُ الاعتناءِ بالأعمال، وتنبيه المخاطب إلى خطورتها، وتحذيره من إغفالها.   (1) - مغني اللبيب: 2/411. (2) - انظر تفصيلا نافعا لشيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: 7/172. (3) - عروس الأفراح شرح تلخيص المفتاح – ضمن شروح التلخيص -: 3/216، ومثله في عقود الجمان للسيوطي: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وهنالك جوابٌ آخر ذكره صاحب " ظاهرة الإرجاء " (1) - نفع الله به -، وهو أن أعمالَ الجوارح في الأصل ليست من الإيمان، بل الإيمانُ أصلُه ما في قلبه، والأعمال لازمة له، لا تنفك عنه. ثم أدخلها الشارع فيه، فأصبح اسمُ الإيمان شاملا لها على الحقيقة شَرْعًا فكثُر في كلامه عطفُها عليه توكيدا لذلك، لكيلا يظنَّ ظان أن الإيمانَ المطلوب هو ما في القلب فقط، بل يعلم أن لازمَه - وهو العملُ - ضروريٌّ كضرورَتِه. الدليل الخامس: أن نصوصَ الكتاب وأصولَ الشرعِ قد دلَّت على أن الإيمان لا ينتفي عن الذي يترك بعضَ الأعمال، وهذا يدُلُّ - بزعمهم - على أن الأعمال ليست جزءا من مسمى الإيمان أو ركنا فيه، إذ الشيءُ يرتفعُ بارتفاعِ رُكنه، كما هو معلوم. والحقُّ أن هذا الدليل إنما يجاب به عن بدعة الخوارج والمعتزلة، لا على مذهب أهل السنة القائلين بأن جنس العمل ركن في الإيمان، بخلاف آحاده فإن فيها التفصيلَ السابقَ ذكره. فتأمَّلْه هداك الله تعالى للحق بإذنه. الباب الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه الفصل الأول: أدلة الزيادة والنقصان قلت في النظم: وعند أهل السنة الإيمان يدخله المزيد والنقصان دل على الزيد الكتاب والسنن والنقص لازم لذاك فأفهمن الشرح:   (1) - ظاهرة الإرجاء: 2/766. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 (وعند أهل السنة) والجماعة، أهلِ الحق وحُماتِه، فـ (الإيمان) أي مسماه الشرعي (يدخله المزيد) وهو الزيادة، قال في القاموس (1) : الزيد، بالفتح والكسر والتحريك، والزيادة والمزيد والزيدان: بمعنىً، والأخيرُ شاذ. اهـ (والنقصان) مصدر نقَص ينقُص، نَقْصا ونُقْصانا. ولما ذكرتُ الحقَّ في هذه المسألة، أردفتُه ببيان دليله فقلت: (دل على الزيد) وهو مصدر زاد يزيد كما سبق نقله من القاموس (الكتاب) أي بعض آياته التي سيأتي ذكرها (والسنن) النبوية الواضحة، وسأذكرُ بعضا منها إن شاء الله تعالى. (و) أما (النقص) في الإيمان فهو (لازم لذاك) أي للزيادة، والمعنى أن قبول الإيمان للزيادة يستلزم قبوله للنقصان. (فافهَمنْ) تكملة للبيت. تعتبر مسألة زيادة الإيمان ونقصانه من أهم وأكبر مباحث الإيمان، وذلك لكثرة ما وقع من التنازع بين المنتسبين للقبلة حولها، ولشدة تعلقها بقضايا الإيمان الأخرى مثل حقيقة الإيمان الشرعي، وحقيقة الكفر وضوابط التكفير، وحكم الاستثناء في الإيمان، وغير ذلك. ولا يخفى على المتأمل الفطن أن هذه المواضيعَ المتشابكةَ من أهم مواضيع العقيدة ومباحث الدين، لما يترتب عليها من الأحكام الشرعية في الدنيا والآخرة، تتعلق سعادةُ العبد وشقاوتُه في الدارين بها، ويتوقف عزُّ الأمة أو هوانها على طبيعة الفهم السائد لها. فإذا وُجد الفهم الصحيح، الذي ينتج عنه الاعتقاد النافع والعمل الصالح، كان ذلك عنوانَ نهضة الأمة ورفعتها، وأما إذا سادت الفُهومُ الفاسدة، والآراء الكاسدة - كما هو الحال الغالب على الأمة مند فترة - فإن النتيجةَ الحتمية تكون اعتقادا باطلا، وعملا عشوائيا عقيما.   (1) - القاموس المحيط: 259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وقبل الشروع في إبراز أدلة زيادة الإيمان ونقصانه، نُقرِّر التلازمَ المذكور في البيت الثاني، فنقول: إنَّ كلَّ دليلٍ دل على زيادة الإيمان فإنه يدل أيضا على نقصانه، وكذلك العكس، وذلك لأن الزيادةَ تستلزم النقصَ. قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لباب زيادة الإيمان ونقصانه من صحيح البخاري:» ثم شرع المصنف - يقصد الإمام البخاري - يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحةٍ بالزيادة، وبثبوتِها يَثبُتُ المُقابل، فإنَّ كل قابل للزيادة قابلٌ للنقصان ضرورةً « (1) . ولما أورد البخاري قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، قال:» فإذا تَرك شيئا من الكمال فهو ناقص « (2) . قال الحافظ في الشرح:» ... وأما الكمال فليس نصا في الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله للزيادة « (3) . وقال الإمام أحمد:» إنْ كان قبلَ زيادته - أي الإيمان - تاما فكيف يزيد التام فكما يزيد كذا ينقص « (4) . وقال ابن حزم:» فإذ قد وضح وجودُ الزيادة في الإيمان (..) فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورةً ولابُدَّ، لأن معنى الزيادة إنما هي عدد مضاف إلى عدد، وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقصٌ عند عدم الزيادة فيه.. « (5) . وقال البيهقي:» فثبت بهذه الآيات - يقصد الآيات المصرحة بزيادة الإيمان - أن الإيمانَ قابلٌ للزيادة، وإذا كان قابلا للزيادة فعُدِمت الزيادة كان عدمُها نُقصانا « (6) . إذا تقرَّر هذا التلازُمُ، فاعلم بأن الأدلة على زيادة الإيمان كثيرة جدا، سوف أكتفي فيما يلي بذكر أشهرها وأصرحها. من القرآن:   (1) - فتح الباري: 1/47. (2) - صحيح البخاري (مع الفتح) : 1/103. (3) - فتح الباري: 1/104. (4) - السنة للخلال: 1030. (5) - الفصل: 2/218. (6) - شعب الإيمان:1/60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ورد في القرآن الكريم آيات ستة صريحة الدلالة على زيادة الإيمان، وهي قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، وقوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، وقوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} ، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} ، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقد أورد البخاري رحمه الله هذه الآيات في الباب الذي عقده في صحيحه، وخصصه لزيادة الإيمان ونقصانه. ومازال علماء الإسلام يستدلون بها، كما نقله الحافظ ابن كثير في تفسيره لآية سورة الأنعام السابقة، فقال:» .. وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضُله في القلوب كما هو مذهب جمهور الأمة، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمدَ بن حنبل وأبي عبيد «. وقال أيضا عند آية سورة التوبة:» وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء «. وقال شيخ الإسلام:» والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَاَ} (1) «. ثم فصل رحمه الله أوجه هذه الزيادة من خلال الآيات القرآنية المذكورة. وقد عقد اللالكائي بابا في سياق ما جاء في القرآن والسنة من أدلة على زيادة الإيمان ونقصانه، أورد فيه هذه الآيات إلى جانب أدلة أخرى (2) . وقال العلامة الألوسي عند قوله تعالى {زَادَتْهُمْ إِيمَانًَاَ} :» وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وبه أقول (3) ، لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة، من غير مُعارِضٍ لها عقلا.. « (4) .   (1) - الإيمان: 215. (2) - اللالكائي: 3/18. (3) - مخالفا بذلك مذهب إمامه أبي حنيفة رحمه الله، وقد صرح بالمخالفة في تفسيره: 9/167. (4) - روح المعاني: 9/165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ومن أظهر الآيات الدالة على زيادة الإيمان، الآيات المصرحة بزيادة الهدى مثل قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} أو زيادة الخشوع مثل قوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} إذ الهدى والخشوع من الإيمان. ومنها الآيات الدالة على تفاضل المؤمنين، وذلك لا يكون إلا بسبب تفاضلِهم في الإيمان، وهذا يستلزمُ الزيادة والنقصان، إذ التفاضل بينهم ما حصل إلا لكون إيمانهم يزيد وينقص. ومنها قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، وقد سبق أن نقلت استدلال الإمام البخاري بها، وكلام الحافظ في شرحه. ومنها قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . وهي من أدلة البخاري في صحيحه. قال الحافظ:» أشار - أي البخاري - إلى تفسير سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما لهذه الآية، فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال: قوله {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: يزيد يقيني، وقال مجاهد لأزداد إيمانا إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم عليه السلام مع أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد أمر باتباع ملته، كأنه ثبت عن نبينا كذلك «. من السنة: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة تدل على زيادة الإيمان ونقصانه، سوف أجتزئ بذكر بعضها مع بيان وجه الدلالة فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 - منها حديث أبي هريرة مرفوعا:» لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن « (1) . دل هذا الحديث على أن مرتكب المعاصي لا يفعلها وهو كامل الإيمان، أي أن مرتكبي الكبائر – غير الشرك- لا يكفرون بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان. وهذا ظاهر في الدلالة على زيادة الإيمان ونقصانه، ولهذا بوب عليه أبو داود في سننه:» باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه «. - ومنها حديثُ شعب الإيمان، وهو في الصحيح، وقد أخرجه الترمذي في باب» ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه «من السنن. ووجه الدلالة فيه أن الناس متفاوتون في أداء هذه الشعب التي يتكون منها الإيمان تفاوتا كبيرا، يؤدي إلى تفاضل أهل الإيمان. وهذا يدل على الزيادة والنقصان. - ومنها حديث أنس بن مالك مرفوعا:» يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعير من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير « (2) . وقد احتج البخاري بهذا الحديث في باب زيادة الإيمان ونقصانه من كتاب الإيمان (3) ، وذلك لدلالته على أن أهل» لا إله إلا الله «- أي من معهم أصل الإيمان- متفاوتون في إيمانهم، حتى وجد منهم من لا يزيد إيمانه على أصل التوحيد إلا بمقدار قليل جدا.   (1) - رواه البخاري في كتاب المظالم-باب النهبى بغير إذن صاحبه، برقم: 2475 (ص467) ومسلم في الإيمان برقم:57 (ص55) . (2) ا- رواه البخاري في الإيمان برقم: 44 (ص32) ، ومسلم في الإيمان برقم: 192 (ص108) . (3) -البخاري (مع الفتح) : 1/103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 - ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا:» أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا « (1) وهو صريح في أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بحسن الخلق وينقص بنقصه. لذلك قال ابن عبد البر:» ومعلوم أنه لا يكون هذا أكمل، حتى يكون غيرُه أنقص « (2) . - وهنالك أحاديث أخرى متعددة في هذا المعنى، مثل حديث أبي أمامة الباهلي مرفوعا:» من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان « (3) ، ومثل حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا:» من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان « (4) ، وغيرها. من الإجماع وأقوال السلف: سبق أن نقلتُ في الفصل الأول قولَ الإمام البخاري:» لقيت أكثر من ألف رجل من علماء الأمصار فما رأيت أحدا يختلف في أن الإيمانَ قول وعمل، ويزيد وينقص « (5) . وقال الإمام عبد الرزاق الصنعاني:» لقيتُ اثنين وستين شيخا () كلهم يقولون: " الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص" « (6) . وقال يحيى بن سعيد القطان:» كل من أدركت من الأئمة كانوا يقولون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.. « (7) . وقال ابن عبد البر:» أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية « (8) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:» وأجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص « (9) .   (1) -رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة: 284. (2) -التمهيد: 9/245. (3) -رواه أبو داود وغيره وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة: 380. (4) -رواه مسلم في الإيمان برقم: 49 (ص51) . (5) -ذكره الحافظ في الفتح: 1/47. (6) -اللالكائي: 5/1029. (7) -سير أعلام النبلاء: 9/179. (8) -التمهيد: 9/238. (9) -مجموع الفتاوى: 7/672. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وبالجملة، فإن المُتتبِّعَ للآثار عن السلف رضوان الله عليهم، يجزِم بأن هذه العقيدة كانتْ مستقرةً عندهم، لا يدور حولها خلاف. فمن أراد السلامة في دينه ودنياه، فلينهَجْ سبيلَهم، ولينسُجْ على مِنْوالهم، وأما من تَنكَّبَ عن طريقهم، وربأَ بفهمه عن فهومهم فلا يلومَنَّ إلا نفسه والله تعالى أعلم. الفصل الثاني: أوجه الزيادة والنقصان. قلت في النظم: تفاضل الإيمان ذو أسباب قد ظهرت لدى أولي الألباب من بينها تفاضل التصديق وذاك ظاهر لدى التحقيق ومنه ما يكون بالأعمال بين مقصر وذي كمال الشرح: (تفاضل الإيمان) زيادة ونقصا (ذو أسباب) كثيرةٍ سيأتي ذكرُ بعضِها (قد ظهرت لدى أولي الألباب) من أهل العلم، (مِن بينِها) أي مِن بينِ أوجُه تفاضلِ الإيمان (تفاضل التصديق) أي حصول الزيادة والنقص في نفس قول القلب، وهذا أمر ممكن وحاصل خلافا لمن أنكره، لذلك قلت: (وذلك) التفاضل (ظاهر) لكثرة أدلته العقلية والنقلية (لدى التحقيق) في هذه المسألة بعيدا عن التعصب والجُمود. (ومنه) أي: أن من التفاضل (ما يكون بـ) سببِ (الأعمال) الظاهرة، ما (بين مُقَصِّرٍ) في الإتيان بهذه الأعمال، فإيمانه ناقص تبعا لتقصيره، وبين آخرَ (ذي كمال) في التزامِه العملي بالشريعة، أي في إتيانه بالطاعات واجتنابه للمعاصي، فإيمانه زائد تبعا لأعماله الصالحة. واعلم بأن هذه الوجه الثاني، هو أشهر أوجه زيادة الإيمان ونقصانه، حتى إن بعض أهل العلم قد يقتصر عليه فلا يُعَرِّج على غيره. كما أن الوجه الأول فيه من الخفاء ما جعل العلماء يختلفون حوله فينكره بعضهم. ولأجل هذا ذكرت هذين الوجهين في النظم ولم أذكر غيرهما، مع أن أوجه زيادة الإيمان ونقصانه أكثر من ذلك، فقد حصرها شيخ الإسلام ابن تيمية في تسعة أوجه (1) : الوجه الأول:   (1) - انظر مجموع الفتاوى: 7/232-237 و 7/562-574 وكتاب ''زيادة الإيمان ونقصانه: 136 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الإجمال والتفصيل فيما أُمر به عبادُ الله المؤمنون، فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان بالله ورسوله، فإنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، كما أن مَن عرف القرآن والسنن ومعانيَها، لزمه من الإيمان المفَصل بذلك ما لا يلزم غيره، ولو آمن رجل بالله وبالرسول ظاهرا وباطنا، ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين، مات مؤمنا بما وجب عليه من الإيمان وليس ما وجب عليه ولا ما وقع منه مثل إيمان من عرف الشرائع بتفاصيلها فآمن بها وعمل بها، بل إيمان هذا الأخير أكمل وجوبا ووقوعا. الوجه الثاني: الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم، رغم تساويهم فيما وجب عليهم من الإيمان. فها هنا مراتب ثلاث، كلٌّ منها أكملُ من التي بعدها: مَن طلب علم ما وجب عليه فتعلمه وعمل به. من عرف ما يجب عليه والتزمه وأقر به لكنه لم يعمل به وهو مع ذلك خائف من عقوبة ربه، معترفٌ بذنبه. من لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب بل هو في غفلة مع إقراره بالنبوة باطنا وظاهرا. فهذه مراتب ثلاثة اشترك أصحابها في الوجوب، وتفاوتوا في الوقوع. الوجه الثالث: أن العلم والتصديق نفسه يكون بعضه أقوى من بعض، وأثبتُ وأبعدُ من الشك والريب، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، فيجد أن علمه بمعلومه يتفاضل حاله فيه، كما يقع التفاضلُ في أمور الحواس الظاهرة، فإن رؤية الناس للهلال مثلا، وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتمَّ من بعض، ونفس الشيء في السماع والشم والذوق فكذلك علم القلب وتصديقه يتفاضل، بسبب التفاضل في المعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وهذا التفاضل في التصديق هو الذي استقرَّ عليه قولُ عامة المحققين من أهل العلم. يقول الإمام النووي- كما نقله عنه الحافظ ابن حجر-:» والناس يتفاضلون في تصديق القلب على قدر علمهم ومعاينتهم، فمن زيادته بالعلم قوله تعالى {زَادَتْهُمْ إِيمَانًَاَ} ومن المعاينة قوله تعالى: {لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} . فجعل له مزية على علم اليقين «. ثم قال الحافظ:» ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا وتوكلا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها « (1) . وقال ابن رجب الحنبلي:» وهذا مبنيٌّ على أن التصديق القائم بالقلوب متفاضل، وهذا هو الصحيح (..) فإن إيمان الصديقين الذي يتجلى الغيب لقلوبهم حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك والارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لا يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شُكِّكَ لدَخَلَه الشكُّ « (2) . وقال شيخ الإسلام:» إن التصديق نفسه يتفاضل كُنهه، فليس ما أثنى عليه البرهان بل تشهد له الأعيان، وأميط عنه كل أذى وحسبان، حتى بلغ درجات الإيقان، كتصديقٍ زعزعته الشبهات وصدفته الشهوات، ولعب به التقليد، ويضعف لشُبَهِ المعاند العنيد، وهذا أمر يجده من نفسه كل منصف رشيد « (3) . ويذكر الإمام الرازي أن زيادة التصديق تكون على وجوه ثلاثة (4) :   (1) - فتح الباري: 1/46. (2) - جامع العلوم والحكم: 113-114. (3) - مجموع الفتاوى: 6/480. (4) - مفاتيح الغيب: 15/96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الأول: بحسَبِ كثرة الدلائل وقوَّتها، لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين قال الرازي:» وهو الذي عليه عامَّة أهل العلم على ما حكاه الواحدي رحمه الله «. ثم أورد على هذا الوجه اعتراضا عقليا ورده، ولكنْ على عادته المعروفة من تفصيل الإيرادات والشبه، والتقصير في الجواب عنها. ولا يخفى على المتأمل في الإيراد العقلي الذي ذكره، ضعفُ تركيبه وهلهلة نسجه، ولكن ليس هذا محل بسط ذلك. الثاني: بتوالي التكاليف، فكلما حدث تكليف جديد ازداد التصديق والإقرار، لأن من صدق إنسانا في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد. الثالث: بالاطلاع المتعاقب على آثار حكمة الله في مخلوقاته، وهذا بحرٌ لا ساحل له. الوجه الرابع: أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكملُ من التصديق الذي لا يستلزم عمله، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فمَن آمن وصدق بأن الله حق ورسولَه حق، والجنة حق والنار حق، وأوجب له هذا التصديق محبة الله وخشيته كان إيمانه أكمل من الذي لم يوجب له إيمانه ذلك. الوجه الخامس: أن أعمال القلوب كالمحبة والخشية والخشوع والتوكل والخوف والرجاء كلها من الإيمان كما سبق بيانه، وهذه الأعمال يتفاضل فيها الناس تفاضلا عظيما كما هو ظاهر بدلالة الشرع والعقل. ويكفي هنا ذكر التفاضل في المحبة الذي دل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} ، لذلك قال شيخ الإسلام:» فإنه من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن، أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء والكبر والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق والنصح لهم (..) وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه، فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة « (1) . الوجه السادس:   (1) - مجموع الفتاوى: 7/563. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 أن الأعمال الظاهرة أيضا من الإيمان، ويتفاضل الناس فيها وتزيد وتنقص، وهذا شامل لأعمال اللسان والجوارح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:» وأما زيادة العمل الصالح الذي على الجوارح ونقصانه فمتفق عليه وإن كان في دخوله في مطلق الإيمان نزاع. والذي عليه أهل السنة والحديث أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص « (1) . الوجه السابع: أن ذكر الإنسان بقلبه ما أمره الله به واستحضاره لذلك، وثباته عليه أكمل ممن صدق بالمأمور به ولكنه غفل عنه. لذلك قال عمير بن حبيب الخطمي الصحابي:» إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه « (2) . وقد قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . وكلما تذكر الإنسان ما عرفه قبل ذلك، وعمل به، حصل له معرفة شيء آخر لم يكن عرفه قبل ذلك. وفي الحديث الصحيح:» مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت « (3) . الوجه الثامن: أن الإنسان قد يكون مكذبا أو منكرا لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها، وأمر بها، ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر. فإذا ظهر له بوجه من الوجوه أن هذه الأمور من الإيمان، فإنه يصدق بما كان مكذبا به، ويعرف ما كان منكرا له فهذه زيادة في الإيمان. ومن هذا الباب من ابتدع في دين الله عز وجل قولا خطأ وهو مؤمن بالرسول وقاصد للاتباع لا الابتداع، ثم تبين له خطؤه فترك ما كان عليه ورجع إلى الصواب. الوجه التاسع:   (1) - مجموع الفتاوى: 6/479. (2) - رواه أحمد وغيره، وقال ابن القيم في تهذيب السنن: 12/350: "وأقدمُ من رُوي عنه زيادة الإيمان ونقصانه من الصحابة: عمير بن حبيب الخطمي … ". (3) - رواه البخاري في الدعوات-باب فضل ذكر الله عز وجل برقم: 6407 (ص1230) ، واللفظ له، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، برقم: 779 (ص307) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أن التفاضل يحصل في هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها، فمن كان مستند تصديقه ومحبته أدلةً توجب اليقين وتبين فساد الشبه العارضة، لم يكن بمنزلة من كان تصديقه لأسباب دون ذلك. فإنه من الظاهر أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها، وبفساد الشبه المعارضة لذلك وبطلانها ليس كالعلم المستند على دليل واحد من غير معرفة بالشبه المعارضة له وفسادها. فهذا مجمل الوجوه التي يحصل بها زيادة الإيمان ونقصانه، كما ذكرها شيخ الإسلام مفصلة. والله أعلم. الفصل الثالث: أقوال المخالفين. قلت في النظم: وخالف الأحناف في التفاضل وقولهم عار عن الدلائل ومثلهم أتباع جهم ذي البدع كذا الخوارج ومن لهم تبع الشرح: (وخالف الأحناف) أتباع الإمام الجليلِ أبي حنيفةَ النعمانِ بنِ ثابت رحمه الله، أهل السنة والجماعة (في) مسألة (التفاضل) الحاصل في الإيمان بالزيادة والنقصان، فنفوا ذلك كما سيأتي بحول الله تعالى، (و) لكن لا عبرة بخلافهم، إذ (قولهم) هذا (عارٍ عن الدلائل) الشرعية الصحيحة والصريحة. (ومثلهم) في هذا القول (أتباعُ جهم) وهو الجهم بن صفوان رأس البدعة وإمام أهل الزندقة والإلحاد، (ذي البدع) صفة للجهم، فإن له في كل باب من أبواب العقائد قولا مبتدعا تفرد به وتبعه عليه أهل الإلحاد، فهو في الإيمان مرجئي وفي القدر جبري وفي الأسماء والصفات مُعطِّل. نسأل الله السلامة في الدين والثبات على اليقين. لذلك قال الحافظ الذهبي في ترجمته:» ما أعلمه روى شيئا ولكنه زرع شرا عظيما « (1) . (كذا الخوارجُ) قائلون بعدم قبول الإيمان الزيادة ولا النقص، (و) مثلهم (من لهم تبع) والمقصود بهم المعتزلة، وبعض علماء الأشاعرة والماتريدية.   (1) - ميزان الاعتدال: 1/426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وسوف أكتفي عند ذكر المخالفين، بالكلام على من يقول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأن هذا هو أشهر الأقوال المخالفة لمذهب أهل السنة في هذه المسألة، على أنه تجدر الإشارة إلى أن هنالك قولين آخرين (1) : أولهما أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان لعدم ورود النص المصرح به. وهذه إحدى الروايتين عن الإمام مالك. وثانيهما أنه يزيد ولا ينقص، وهو مأثور عن بعض الأشاعرة ورواية عن أبي حنيفة، وهو قول الغسانية والنجارية والإباضية. أما القول المشهور بعدم الزيادة ولا النقصان، فأشهر من قال به هو الإمام أبو حنيفة، ومن تبعه من أعيان مذهبه. وهذا القول مستفيض عنه رحمه الله- بحيث لا مجال لإنكاره أو دفعه، فقد اتفقت كتب الفرق والمقالات على نسبته إليه، كما أن هذا القول مذكور في عامة كتب الأحناف وفي كتب العقيدة المنسوبة إلى أبي حنيفة. وقد بلغ التعصب لهذا القول ببعض الأحناف مبلغا شنيعا فقد عد بعضهم من الأمور المكفرة التي يكفر صاحبها القول بأن الإيمان يزيد وينقص (2) !! وعده آخرون منهم قولا مبتدعا، مع أن القائلين به هم الصحابة والتابعون، ومن تبعهم بإحسان من جماهير علماء هذه الأمة (3) ! والله المستعان. وممن يقول بعدم زيادة الإيمان ولا نقصانه فرقة الجهمية أتباع الجهم بن صفوان، التي اتفقت كلمة السلف على تبديعها وتضليلها بل وتكفيرِها، يقول ابن القيم في نونيته حاكيا هذه العقيدة عنهم: قالوا وإقرارُ العباد بأنه ... ... ... خَلاقُهم هو مُنتهى الإيمان والناس في الإيمان شيءٌ واحد ... ... ... كالمشطِ عند تماثُل الأسنان (4)   (1) - انظرها مفصلة في كتاب زيادة الإيمان ونقصانه: 277 وما بعدها. (2) - وهو ابن نجيم في البحر الرائق، فيما نقله عنه صاحب زيادة الإيمان ونقصانه: 331. (3) - زيادة الإيمان ونقصانه: 332. (4) - النونية (مع شرحها لخليل هراس) : 1/28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 فالجهمية يسوون بين الإيمان والتصديق، والتصديق عندهم يتساوى فيه العباد، ولا يقبل الزيادة والنقصان، فإيمان الملائكة والأنبياء والصديقين مساوٍ لإيمان الفُسَّاق وأهل الفجور! ومن القائلين بهذا القول الخوارج والمعتزلة، إذ الإيمان عندهم كلٌّ واحدٌ لا يتجزأ، إذا ذهب بعضه ذهب كله. يقول ابن تيمية رحمه الله:» وإنما أوقع هؤلاء كلَّهم - أي المرجئة - ما أوقع الخوارجَ والمعتزلة في ظنهم أن الإيمان لا يتبعض، بل إذا ذهب بعضه ذهب كله، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يتبعض وأنه ينقص ولا يزول جميعه « (1) . ومنهم عدد من أئمة الأشاعرة والماتريدية. قال مُرتضى الزَّبيدي:» وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يزيد الإيمان ولا ينقص، واختاره أبو منصور الماتريدي ومن الأشاعرة إمامُ الحرمين وجمعٌ كثير « (2) . الباب الثالث: الكفر وضوابط التكفير الفصل الأول: تعريف الكفر لغة واصطلاحا. قلت في النظم: في اللغة الكفر لستر راجع فالليل كافر كذاك الزارع وفي اصطلاح ناقض الإيمان في القلب والأعضاء واللسان الشرح: (في اللغة) جار ومجرور متعلق بـ''الكفر''، و (الكفر) مبتدأ خبره ''راجع'' و (لستر) جار ومجرور متعلق بـ''راجع'' (راجع) أي أن أصل الكفر في اللغة هو الستر والتغطية ومن أمثلته في اللغة ما ذكرته في الشطر الثاني، (فالليل) لغة (كافر) لأنه يستر الناس ويغطي كل شيء (كذاك الزارع) وهو الفلاح، وفي جواز تسميته زارعا خلاف، والصحيح الجواز كما ذكره السهيلي في الروض الأنف (3) . (و) أما (في اصطلاح) فهو (ناقض الإيمان) ، ويكون هذا النقض (في القلب) بانتفاء التصديق أو العمل القلبي (والأعضاء) بالأعمال أو التروك المكفرة (واللسان) بالأقوال المكفرة أو بترك الأقوال التي هي ركن في الإيمان.   (1) - شرح العقيدة الأصبهانية: 143. (2) - إتحاف السادة المتقين: 2/256. (3) - الروض الأنف: 1/85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وحاصل ما ذكرت في هذين البيتين أن أصل الكفر في اللغة هو الستر والتغطية، ومنه تسمية الليل كافرا كما قال لبيد بن ربيعة في معلقته: حتى ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها (1) . ومن محاسن التورية (2) قول البهاء زهير المتوفى سنة 656هـ من قصيدة غزلية أكثر فيها من استعمال المحسنات البديعية: يا ليل طل، يا شوق دم ... ... إني على الحالين صابر لي فيك أجر مجاهد ... ... إن صح أن الليل كافر (3) . ومنه تسمية الفلاح كافرا لستره الحب وتغطيته إياه بالتراب، كما في قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ، قال ابن كثير:» أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزراع كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها « (4) . وتحتمل الآية أن يقصد بالكفار المعنى الاصطلاحي، كما ذكره العلامة الألوسي في تفسيره (5) . وأما في الاصطلاح فالكفر هو نقيض الإيمان. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:» الكفر عدم الإيمان، باتفاق المسلمين، سواء اعتقد نقيضه وتكلم به، أو لم يعتقد شيئا ولم يتكلم « (6) .   (1) - انظر شرح المعلقات السبع للزوزني: 96. (2) - التورية هي أن يطلق لفظ له معنيان: أحدهما قريب غير مراد، والآخر بعيد هو المراد، ويدل عليه بقرينة يغلب أن تكون خفية لا يدركها إلا الفطن. انظر جواهر البلاغة: 310. (3) - المنتخب من أدب العرب: 2/102. (4) - تفسير ابن كثير: 4/274. (5) - روح المعاني: 28/185. (6) - مجموع الفتاوى: 20/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وإذا كان الكفر هو نقيض الإيمان، فإن تعريفه يؤخذ من تعريف الإيمان، لأن الشيء تتبين حقيقته بمعرفة ما يضاده وينافيه. وأجمع ما عرف به الكفر قول ابن حزم:» وهو - أي الكفر - في الدين، صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معا، أو عمل عملا جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان « (1) . فبين - رحمه الله تعالى - أن الكفر الذي هو نقيض الإيمان، لا يخرج عن أحد أمور أربعة مستخلصة من الأركان الأربعة التي تتشكل منها حقيقة الإيمان الشرعي، كما سبق بيانه، وهذه الأمور هي: 1- التكذيب (أو الشك) الذي يناقض تصديق القلب. 2- عمل قلبي كفري يناقض عملا من أعمال القلوب الإيمانية، مثل البغض الذي يناقض المحبة. 3- قول لساني كفري يناقض شهادة أن لا إله إلا الله، أو الامتناع عن النطق بالشهادتين لغير عذر شرعي. 4- عمل ظاهر من أعمال الجوارح مثل التولي عن طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو التشريع من دون الله تعالى، أو ترك الصلاة على الصحيح، وغير ذلك من الأعمال المناقضة لإيمان الجوارح القائم على الانقياد والخضوع. وقد استقصى علماء الإسلام في كتب الفقه جملة الأقوال والأعمال المناقضة للإيمان بما لا مزيد عليه، كما تجده مسطرا في أبواب الردة من أسفار الفقه الإسلامي (2) . قلت في النظم: أنواعه التكذيب والجحود والشك الاستكبار والتقليد كذاك جهل، وهو في حكم الدنى قول وفعل، لا الذي القلب جنى الشرح:   (1) - الإحكام: 1/49. (2) - ولكن ينبغي التنبيه على أن ما يذكره الفقهاء من الأعمال والأقوال قد يكون من قبيل المختلف في التكفير به، كما أن تنزيل حكم الكفر على الأعيان لا بد أن يخضع لضوابط التكفير التي سيأتي ذكرها فيما يلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 (أنواعه) باعتبار البواعث الباطنة على الإتيان بأسباب الكفر القولية والعملية كثيرة منها (التكذيب والجحود والشك الاستكبار) بحذف أداة العطف في الأخير (والتقليد كذاك جهل) ، فهذه أهم أقسام الكفر وأنواعه. (وهو) بتسكين الهاء، أي الكفر (في حكم الدنى) جمع دنيا، أي أنه في الأحكام الدنيوية القضائية (قول) مكفر (وفعل) مكفر (لا الذي القلب جنى) أي لا ما جناه القلب من الاعتقادات الكفرية، فإنها ليست كفرا في أحكام الدنيا، إن كانت مجردة عن القول المكفر والفعل المكفر. - ينقسم الكفر إلى أقسام كثيرة باعتبارات متعددة (1) ، لكن إنما يهمنا منها هنا أقسامه باعتبار الباعث القلبي الذي يحمل الكافر على الإتيان بالقول أو الفعل المكفر، وقد ذكرت منها في النظم ستة أنواع هي: 1- التكذيب الذي ينافي التصديق القلبي ويضاده، والتكذيب معناه النسبة إلى الكذب. قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وقال: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، وقال: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ} . 2- الجحد أو الجحود، ومعناه إنكار الشخص للشيء مع علمه به (2) ، كما في قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، فقوم فرعون مستيقنون بأن الذي جاءهم به موسى حق، ولكنهم أنكروا بألسنتهم وأظهروا التكذيب. فالجحد يجامع التكذيب في الظاهر ويخالفه في حكم الباطن (3) . وقد يستعمل أحد الاصطلاحين- الجحود والتكذيب- بنفس المعنى الذي يستعمل فيه الآخر، لذلك قال ابن القيم عن كفر الجحود:» إن سمي هذا كفر تكذيب أيضا فصحيح، إذ هو تكذيب باللسان» (4) .   (1) - انظرها مجملة في كتاب الجامع في طلب العلم الشريف: 2/512. (2) - نقله صاحب لسان العرب عن الجوهري. (3) - الجامع: 2/446. (4) - مدارج السالكين: 1/337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 3- الشك أو الريب المنافي لليقين (1) ، كما في قوله تعالى حكاية عن الكفار: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} ، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} . 4- الاستكبار والإباء ككفر إبليس الذي ذكره الله عز وجل في قوله: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} ، وككفر اليهود، كما في قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} ، وككفر مشركي قريش، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} . 5- التقليد ومعناه أخذ قول الغير دون معرفة دليله (2) ، والمقصود به هنا اتباع الرؤساء والكبراء والآباء والأجداد في الكفر ومجانبة الحق على غير بصيرة وبدون دليل. قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} . وهذا هو الباعث الغالب في كفر اليهود والنصارى، لذلك حذرهم رب العزة جل جلاله بقوله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} . والآيات في هذا المعنى كثيرة.   (1) - وقد سبق الكلام عليه عند مبحث التصديق من أركان الإيمان. (2) - انظر المحلي على جمع الجوامع: 2/393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 6- الجهل المنافي لمعرفة القلب بالله تعالى وبرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به على وجه الإجمال، وقد سبق الكلام على المعرفة عند الكلام على التصديق فلينظر. قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} . وبالاعتبار المذكور آنفا - أي باعتبار البواعث القلبية على الكفر- فإن للكفر أقساما أخرى لم أشر إليها في النظم مثل كفر الإعراض كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} ، وكفر التولي عن الطاعة كما في قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} ، وكفر الحسد كما في قوله تعالى عن أهل الكتاب: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، وكفر البغض والكراهية كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وكفر الاستهزاء كما في قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، وغير ذلك من الأنواع. هذا، ولما كانت هذه البواعث أمورا باطنة لا سبيل إلى الاطلاع عليها إلا بما يظهره صاحبها من قول أو عمل، لم ينط الشارع الأحكام الدنيوية المتعلقة بالكفر، بهذه البواعث الخفية، وإنما أناطها بما هو ظاهر ومنضبط وهو الأقوال والأعمال. وقد تقرر في علم الأصول أن الحكم يناط بالعلة لا بالحكمة، وذلك لأن العلة وصف مناسب ظاهر منضبط بخلاف الحكمة، فعلة قصر الصلاة هي السفر لا المشقة لعدم انضباطها، وعلة العدة هي الطلاق لا العلوق لخفائه (1) .   (1) - انظر حاشية البناني على المحلي على جمع الجوامع: 2/235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 إذا علم هذا، فالكفر على الحقيقة يكون- كما سبق بيانه- باعتقاد كفري أو بقول أو عمل مكفر، لكنه في الأحكام الدنيوية والقضائية لا يكون إلا بقول مكفر أو عمل مكفر. والمقصود بالأحكام الدنيوية ما يفرق به.- في الدنيا - بين المسلم والكافر كأحكام الموالاة والتناكح والتوارث والدفن والصلاة والسلام وغير ذلك. فمن كفر بقلبه-بشيء من البواعث التي سبق تفصيلها- ولم يظهره في قول أو عمل، فهو مسلم في أحكام الدنيا، ولكنه في الحقيقة عند الله كافر خارج من الملة، وهو المنافق نفاقا أكبر. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس» (1) ، وقال لأسامة عندما قتل من قال ''لا إله إلا الله'' في المعركة: «أفلا شققت عن قلبه « (2) . لذلك جمع الطحاوي رحمه الله هذا المعنى في قوله: «ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى» . قال ابن أبي العز في شرحه: «لأنا قد أمرنا بالحكم بالظاهر، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم» (3) . ومن أمثلة تفريق أهل السنة بين سبب الكفر الظاهر- وهو القول أو العمل- وبين نوع الكفر – وهو الباعث الباطن على الإتيان بسبب الكفر- إجماعهم على الحكم بكفر من سب الله أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغض النظر عن كونه وقع منه هذا القول المكفر تكذيبا أو بغضا أو حسدا أو غير ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل» (4) .   (1) -.أخرجه البخاري في المغازي برقم: 4351 (ص822) ومسلم في الزكاة، برقم: 1064 (ص410) .. (2) - أخرجه مسلم في الإيمان برقم: 96 (ص65) . (3) - شرح الطحاوية: 379. (4) - الصارم المسلول: 512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ويوضح شيخ الإسلام هذه القاعدة بقوله: «إن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه، أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عنه اتباعا لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر، وقد يكون كافرا من لا يكذبه إذا لم يؤمن به» (1) . وواضح أن كلام شيخ الإسلام هو في الرد على المرجئة الذين يشترطون للحكم بالكفر في الدنيا، تحقق وجود التكذيب القلبي. وهذا مفرع عن مذهبهم في الإيمان من أنه يرادف التصديق، فلأجل ذلك لا يكون الكفر عندهم إلا بالتكذيب. ومثلهم الجهمية في اشتراطهم الجهل لأن الإيمان عندهم هو المعرفة. وإنما أوردت هذه المسألة في النظم، وشرحتها بشيء من التفصيل هنا، لرد هذه الشبهة الإرجائية- أعني عدم التفريق بين نوع الكفر وسببه- فإنها من الشبه القديمة التي أحياها مرجئة العصر. فتنبه لذلك، وشد على هذه القاعدة بالنواجذ لتسلم من خلط الملبسين وزيغ المضللين. قلت في النظم: فليس محصورا في الاعتقاد وهل ترى خبيئة الفؤاد؟ الشرح: لما ذكرت في البيت السابق أن الكفر يكون بقول مكفر أو عمل مكفر، ذكرت في هذا البيت الرد على شبهة المرجئة المعروفة بجعلهم الكفر الذي به تحصل المؤاخذة في الدنيا اعتقاديا فقط، فقلت (فليس) الكفر الأكبر المخرج من الملة (محصورا في الاعتقاد) القلبي كما يزعمه المرجئة، ثم أوردت عليهم إنكارا في صيغة سؤال فقلت: (وهل ترى خبيئة) ...................................   (1) - مجموع الفتاوى: 3/315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 (الفؤاد؟!) . وحاصل الإنكار أن من حصر الكفر في الاعتقاد القلبي- كما هو مذهب طوائف المرجئة- يلزمه أن لا يكفر أحدا إلا بعد اطلاعه على باطن قلبه وتحققه من وجود الاعتقاد الكفري فيه! ولما كان هذا أمرا محالا لزمهم تضييق دائرة التكفير إلى أبعد الحدود. فغلاتهم التزموا عدم التكفير بالذنوب المكفرة لذاتها، ففارقوا الإجماع، ومعتدلوهم – وهم مرجئة الفقهاء- تمحلوا وتأولوا ليتأتى لهم أن ينفصلوا عن هذا الالتزام، وبيان هذا عنده شرح البيت المقبل. وأما أدلة صحة هذه القاعدة، أقصد قاعدة اعتبار الظاهر في الحكم بالكفر، وعدم حصره في الاعتقاد الباطن، كثيرة جدا، أذكر بعضها: - قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» (1) . وهو ظاهر في أن حرمة الإسلام لا تثبت إلا بأمور ظاهرة غير خفية. - قوله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة لما قتل من قال '' لا إله إلا الله '' في القتال: «أشققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا» (2) . قال النووي في الشرح: «فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر» (3) . - قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ذمة الله وذمة رسوله» (4) . وهو واضح في المقصود. - قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم» (5) وذلك لما قال له خالد: «وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه» .   (1) - سبق تخريجه. (2) - سبق تخريجه. (3) - شرح مسلم: 1/89. (4) - رواه البخاري في الصلاة-باب فضل استقبال القبلة، برقم: 391 (ص98) . (5) - سبق تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 - قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة» (1) . - وعن ابن عباس قال: لحق المسلمون رجلا في غُنَيمة له، فقال: «السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا تلك الغنيمة، فنزل قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (2) . فإنكار الله عز وجل على هؤلاء، لأنهم لم يكتفوا بما أظهره الرجل لهم من تحيتهم بتحية الإسلام. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل من المنافقين ظواهرهم، ولا يؤاخذهم في الأحكام الدنيوية بما استقر في قلوبهم من تكذيب وريب، وفي ذلك تشريع ظاهر للأمة من بعده. فهذه بعض الأدلة التي تيسر جمعها (3) ، وكلها واضحة في أن الكفر ليس محصورا في الاعتقاد الباطن، وإنما المعتبر - في أحكام الدنيا - هو العمل والقول الظاهر، والله أعلم. قلت في النظم: وما يكفر من الأعمال لا يشرط النظر في استحلال أما الكبائر فليس يكفر فاعلها بلا اعتقاد يضمر الشرح:   (1) - رواه البخاري في الشهادات-باب الشهداء العدول برقم: 2641 (ص500) . (2) - رواه البخاري في تفسير القرآن، برقم: 4591 (872) . (3) - انظرها مفصلة في كتاب: قواعد في التكفير لأبي بصير: 113 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 لما ذكرت في البيت السابق أن الكفر ليس محصورا في الاعتقاد، بل قد يكون بقول أو عمل، بل لا يكون في أحكام الدنيا إلا كذلك، استطردت هنا بالكلام على الأعمال المكفرة، فقلت: (وما) موصول مبتدأ (يكفر) صاحبه أي يجعله كافرا ويخرجه من ملة الإسلام (من الأفعال) والأقوال، (لا يشرط) للتكفير به (النظر) ممن يريد إلحاق حكم التكفير (في استحلال) الفاعل لذلك الذنب المكفر، وفي هذا رد على المرجئة الذين يشترطون ذلك. (أما الكبائر) التي هي دون الشرك، وذلك مثل الزنا وشرب الخمر (فليس يكفر فاعلها) خلافا للخوارج الذين يكفرون بمثل هذه الذنوب (بلا اعتقاد) كفري (يضمر) في القلب، والمقصود بهذا الاعتقاد، استحلال هذه الذنوب، بل لو استحلها لكفر بمجرد الاستحلال ولو لم يفعل شيئا منها، فليتنبه! سبق أن بينت أن الكفر- عند أهل السنة والجماعة- كما يكون بالاعتقاد فإنه يكون بالعمل، كما سبق أن ذكرت أن ترك جنس العمل كفر، فلا أعيد هنا ما شرحته آنفا. والذي أود تفصيله في هذا المبحث هو أن الأعمال المحرمة في الشرع على قسمين اثنين (1) : القسم الأول: ذنوب مكفرة لذاتها، مخرجة لمرتكبها عن ملة الإسلام، بقطع النظر عما يقوم بقلبه، فهو بفعلها كافر ولو ادعى أنه لم يستحلها بقلبه. قال ابن حزم في الفصل: " فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفرا مبطلا لإيمان صاحبه جملة، ومنها ما لا يكون كفرا، لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد" (2) . وأدلة وجود هذا القسم من الذنوب، كثيرة جدا في الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، فمنها: 1- قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} ، فحكم الله تعالى بكفرهم بمجرد القول الذي تلفظوا به.   (1) - كنت قد تكلمت في مبحث: ترك آحاد الأعمال وأفراده على شيء قريب مما سأذكره هنا، فليراجع. (2) - الفصل في الملل والأهواء والنحل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 2- قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . قال ابن حزم رحمه الله:" فنص تعالى على أن الإستهزاء بالله تعالى وآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك أني علمت أن في قلوبهم كفرا، بل جعلهم كفارا بنفس الإستهزاء، ومن ادعى غير ذلك فقد قول الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى" (1) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:" فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب" (2) . 3- قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} فأكفرهم الله عز وجل بمجرد القول. 4- قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} فأكفره الله تعالى بمجرد تركه السجود لآدم عليه السلام.   (1) - الفصل: 2/224. (2) - مجموع الفتاوى:7/220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 5- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} . قال ابن حزم رحمه الله: " فجعلهم مرتدين كفارا بعد علمهم بالحق، وبعد أن تبين لهم الهدى، بقولهم للكفار ما قالوا فقط، وأخبرنا تعالى أنه يعلم إسرارهم، ولم يقل تعالى إنهم جحدوا، بل قد صح أن في سرهم التصديق، لأن الهدى قد تبين لهم، ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلا" (1) . 6- الإجماع على التكفير بمجرد سب الله أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال إسحاق بن راهويه رحمة الله عليه: "قد أجمع العلماء على أن من سب الله عز وجل، أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو دفع شيئا أنزله الله، أو قتل نبيا من أنبياء الله، أنه كافر بذلك، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله" (2) . وقال أيضا: " ومما أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى، وبما جاء من عنده، ثم قتل نبيا، أو أعان على قتله، ويقول قتل الأنبياء محرم، فهو كافر" (3) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلا، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل" (4) .   (1) - الفصل: 2/240. (2) - الصارم المسلول: 512. (3) - تعظيم قدر الصلاة للمروزي: 2/930. (4) - الصارم المسلول: 512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 7- النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة ولو كان مقرا بوجوبها (1) ، وهي كثيرة من الكتاب والسنة، بل نقل الإجماع على هذه المسألة. وسيأتي في آخر الكتاب مزيد بيان لهذه القضية. وبالجملة، فالأدلة كثيرة جدا في هذا الباب. ومن هنا يعلم خطأ إطلاق بعضهم:" لا نكفر أحدا بذنب"، قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: " ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحدا بذنب، بل يقال لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج" (2) . وسئل الإمام أحمد رحمه الله: يا أبا عبد الله، إجماع المسلمين على الإيمان بالقدر خيره وشره؟ قال أبو عبد الله: نعم، قال: ولا نكفر أحدا بذنب؟ فقال أبو عبد الله: "اسكت، من ترك الصلاة فقد كفر، ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر" (3) . وقد أشكلت هذه الأدلة على المرجئة القائلين بأن الإيمان هو التصديق، إذ الكفر عندهم لا يكون بمجرد العمل دون اعتقاد قلبي، فانقسموا بحسب جوابهم عن هذا الإشكال إلى ثلاث طوائف (4) : الطائفة الأولى: مرجئة الفقهاء والأشاعرة. قالوا إن هذه الأفعال التي حكم الشارع بكفر أصحابها، ليست كفرا لذاتها ولكن هي دليل وعلامة على انتفاء التصديق من القلب. وإنما جرهم لهذا حصرهم الإيمان في التصديق القلبي كما سبق بيانه، مع رغبتهم في عدم مصادمة الإجماع ونصوص الكتاب والسنة المتظافرة، فكان التجاؤهم إلى هذا التلفيق المبتدع.   (1) - وذلك لأن النصوص مطلقة وليس شيء منها مقيدا بالجحد أو الاستحلال، فتأمل. (2) - شرح الطحاوية: 317. (3) - المسند: 10/79 كما نقله صاحب الجامع: عبد القادر بن عبد العزيز: 2/515. (4) - نبه على هذاالتقسيم صاحب الجامع: 2/450-453 و 2/519-520، استنباطا من كلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (المجلد السابع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 يقول ابن حزم رحمه الله: " وأما الأشعرية فقالوا: إن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولا حكاية، والإقرار بأنه يدين بذلك، ليس شيء من ذلك كفرا. ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا: لكنه دليل على أن في قلبه كفرا، فقلنا لهم: وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل، فقالوا: لا" (1) . ويقول أيضا في موضع آخر: "وأما سب الله تعالى فما على وجه الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد، إلا أن الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتد بهما (2) ، يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفرا، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى" (3) . وينقل الشهر ستاني عن المرجئة أنهم يقولون:" من قتل نبيا أو لطمه كفر لا من أجل القتل واللطم ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض، وإلى هذا المذهب ميل ابن الراوندي وبشر المريسي، قالا: الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان جميعا، والكفر هو الجحود والإنكار، والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في نفسه ولكنه علامة على الكفر" (4) . ويقول شيخ الإسلام رحمه الله:" وقالوا: حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول فلكونه دليلا على انتفاء ما في القلب" (5) .   (1) - الفصل: 3/143. (2) - كان هذا قبل أن تصبح الأشعرية هي المذهب الرسمي لكافة بلاد الإسلام لمدة قرون طويلة، وأصبح أهل السنة غرباء، يحتاجون عند بحث أمور العقيدة إلى اعتبار خلاف الأشاعرة، وتسويد الصفحات الطوال بالرد عليهم، وقد ينجرون إلى استعمال اصطلاحاتهم الكلامية، والله المستعان. (3) - المحلى: 12/435. (4) - الملل والنحل: 1/141. (5) - مجموع الفتاوى:7/644. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فتبين من النقول السابقة أن الأحناف والأشاعرة غير مخالفين لأهل السنة في الأحكام، إذ الفريقان متفقان على أن من أتى بقول أو فعل مكفر، فإنه كافر ظاهرا وباطنا، وإنما الخلاف في هذا الكفر هل هو لذات القول أو العمل، أم هو بسبب انتفاء تصديق القلب؟ وهذا ما جمع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول:" فإن كثيرا من النزاع فيها نزاع في الإسم واللفظ دون الحكم" (1) . وتبعه على ذلك جمع من أهل العلم. وهذا صحيح في الجملة ولكن ينبغي التنبيه على الأمور التالية. هذا المذهب – أعني مذهب الأحناف والأشاعرة- مذهب مبتدع مخالف لإجماع أهل السنة الذي سبق توضيحه. وكل بدعة ضلالة، ولو لم يكن لها تأثير في العمل، بل إن غالب البدع العقدية التي أنكرها السلف، واشتد دفعهم لها، إنما هي من قبيل البدع الإعتقادية التي قد لا يترتب عليها عمل، فتأمل! هذا القول المبتدع مخالف أشد المخالفة للنصوص الكثيرة الدالة على التكفير بمجرد العمل بغض النظر عن تصديق القلب أو تكذيبه، وقد سبق ذكر بعضها. قال ابن تيمية رحمه الله: "ونصوص القرآن في غير موضع تدل على أن الكفار كانوا في الدنيا مصدقين بالرب، حتى فرعون الذي أظهر التكذيب كان في باطنه مصدقا، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، وكما قال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاء إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} ومع هذا لم يكن مؤمنا" (2) . هذا القول لا يعدو أن يكون تلفيقا جرهم إليه تحري التوفيق بين مذهبهم في حقيقة الإيمان، وبين نصوص الكتاب والسنة الدالة على تكفير من أتى ببعض الأعمال المجردة. وعلاوة على كون هذا القول متناقضا، فإنه ليس لهم فيه أي مستند من الكتاب أو السنة، وإنما هو محض الرأي والهوى.   (1) - مجموع الفتاوى: 13/38. (2) - مجموع الفتاوى: 7/151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الفيصل الحقيقي بين مذهب مرجئة الفقهاء والأشاعرة وبين مذهب أهل السنة هو مسألة ترك جنس العمل التي سبق تفصيلها، فلتراجع. والله تعالى أعلم. الطائفة الثانية: الجهمية، قالوا إن من نص الشارع على كفره فهو كافر في الظاهر، ويجوز أن يكون مؤمنا في الباطن. قال شيخ الإسلام رحمه الله:" وقالوا (أي الجهم ومن وافقه) : لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرا في الباطن، لكن يكون دليلا على الكفر في أحكام الدنيا، فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرا في الآخرة، قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء، فإنها عندهم شيء واحد، فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع" (1) . وتأمل كيف نقل شيخ الإسلام عن الجهمية قولا مخالفا لقول الطائفة الأولى، ثم بين أنهم يرجعون إلى نفس قول الطائفة الأولى بعد أن يورد عليهم أهل السنة مخالفتهم للنصوص (2) . ومن هنا تعلم مستند من اكتفى بتقسيم المرجئة إلى قسمين اثنين لا إلى ثلاثة. والله أعلم.   (1) - مجموع الفتاوى: 7/401-402. (2) - وقد جعل صاحب الجامع ذلك قولا آخر للجهمية يوافق قول مرجئة الفقهاء والأشاعرة. انظر الجامع: 2/452. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الطائفة الثالثة: غلاة المرجئة، وقد التزموا عدم تكفير من نص الشارع على كفره بقول أو فعل مكفر، إلا أن يصرح بالجحد أو الاستحلال القلبي. وهذا مذهب في غاية الفساد والبطلان، بل نقل إجماع علماء السلف على تكفير من يقول بذلك من المرجئة: قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وقال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناسا يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقرا بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله" (1) . ومما لا يقضى منه العجب، أن شرذمة من المنتسبين إلى السنة والسلف في هذه الأعصار، أصبحوا يقولون – جهلا أو تجاهلا أو هما معا - بنفس هذه المقالة الخطيرة. فافهم ذلك وتدبر، ولا تغتر بكثرة الدعاوى العريضة. فكل يدعى وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا!! وقد قال صاحب الهمزية: والدعاوى ما لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء. هذا ما تيسر جمعه عن القسم الأول وهو في الذنوب المكفرة لذاتها، وننتقل إلى القسم الثاني. القسم الثاني: ذنوب مفسقة غير مكفرة، وهي الذنوب التي تنقص من الإيمان ولكنها ليست تذهب بأصله، وهي الكبائر التي لم يأت النص بكفر فاعلها، أو ورد النص بذلك ولكن وجب حمله على الكفر الأصغر لوجود قرينة دالة على ذلك.   (1) - مجموع الفتاوى: 7/209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فهذه الذنوب صاحبها فاسق (1) ، وهو إن مات بلا توبة كان في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. ولكنه إن أضاف إلى هذه الذنوب الجحود أو الاستحلال كان بذلك كافرا كفرا أكبر مخرجا له من الملة. يقول حافظ حكمي رحمه الله:" (إلا مع استحلاله لما جنى) هذه هي المسألة الخامسة وهي أن عامل الكبيرة يكفر باستحلاله إياها، بل يكفر بمجرد اعتقاده بتحليل ما حرم الله ورسوله ولو لم يعمل به، لأنه حينئد يكون مكذبا بالكتاب ومكذبا بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك كفر بالكتاب والسنة والإجماع" (2) . وعلى مثل هذه الذنوب يتنزل إطلاق بعض أهل العلم عدم التكفير بالذنب، كما في قول الطحاوي رحمه الله: " ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله" (3) . قال شيخ الإسلام رحمه الله:" ونحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنى والشرب" (4) . وإذا كان المرجئة قد جانبوا الصواب في فهمهم للقسم الأول من الذنوب، فإن الخوارج قد أخطأوا في القسم الثاني، فكفروا بالكبائر ولو بغير استحلال، وقد نقل عنهم أهل المقالات في هذا الباب أقوالا في غاية الشناعة. قال الملطي:" والشراة كلهم يكفرون أصحاب المعاصي ومن خالفهم في مذهبهم مع اختلاف أقاويلهم ومذاهبهم" (5) . وينقل عن أبي بيهس الذي تنسب إليه طائفة البيهسية- فرقة من الخوارج-:"إن حكم الإمام بالكوفة حكما يستحق به الكفر، ففي تلك الساعة يكفر من كان في حكم ذلك الإمام بخراسان والأندلس" (6) . ومن أقوال البيهسية أيضا:" لو أن رجلا قطر قطرة خمر في جب فلا يشرب من ذلك أحدا إلا كفر وإن لم يشعر لأن الله عز وجل يوفق المؤمنين" (7) .   (1) - أي فسقا أصغر، وسيأتي بيانه فيما يلي. (2) - معارج القبول: 3/1040. (3) - شرح الطحاوية: 316. (4) - مجموع الفتاوى: 7/302. (5) - التنبيه والرد: 47. (6) - التنبيه والرد: 180. (7) - نفسه: 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فتأمل هذه الجهالات والضلالات، التي تغني حكايتها عن تكلف ردها. والله المستعان. قلت في النظم: والكفر منه أكبر وأصغر والظلم والفسق كذاك يحصر الشرح: هذا تقسيم آخر للكفر باعتبار كونه مخرجا من الملة أو لا. قلت: (والكفر) قسمان اثنان فـ (منه) كفر (أكبر) مصروف لضرورة النظم، وكفر (أصغر) ، وسيأتي تعريفهما. (والظلم والفسق كذاك يحصر) في هذين القسمين، أي: أن الظلم منه ظلم أكبر وظلم أصغر، والفسق كذلك فسق أكبر وفسق أصغر. الكفر: ينقسم الكفر إلى قسمين اثنين: الكفر الأكبر وهو الكفر على الحقيقة المخرج من ملة الإسلام، والذي تهدر معه حصانة الإسلام وحرمته، سواء كان كفرا أصليا أو طارئا وهو الردة، وسواء كان اعتقاديا قلبيا أو كان عمليا ظاهرا، وسواء كان شركا في الربوبية أو في الألوهية أو في الأسماء والصفات أو في النبوات والغيبيات، وسواء كان الباعث عليه جحودا أو تكذيبا أو استكبارا أو شكا وريبا أو جهلا أو غير ذلك. فمن وقع في هذا الكفر (1) - كيفما كان نوعه- وجب إجراء أحكام الكفر الدنيوية عليه، وهو في الآخرة مخلد في نار جهنم، لا تنفعه شفاعة الشافعين. ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} ، وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وغير ذلك من الآيات.   (1) - مع اعتبار قاعدة تكفير المعين التي سيأتي شرحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الكفر الأصغر: وهو المعروف في عبارة السلف بكفر النعمة أو كفر دون كفر، وقد يطلق عليه بعض العلماء الكفر العملي، والأولى تجنب هذا الإطلاق لأنه يوهم أن الكفر الأكبر المخرج من الملة لا يكون إلا اعتقاديا، ولا يكون بالعمل، مع أن العلماء الذين يستعملون هذا الاصطلاح لا يقصدون هذا المعنى البتة، بل الكفر الأكبر- كما سبق بيانه مرارا- يكون بالاعتقاد، وبالقول أو الفعل المكفر، وهذه مسألة إجماع عند أهل السنة. وأما الكفر الأصغر فليس إلا معصية بولغ في وصفها، فهو كفر مجازا لا حقيقة، فلا تنتفي به أحكام الإسلام عن صاحبه، وهو في الآخرة في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وإن عذب لم يخلد في العذاب كما يخلد صاحب الكفر الأكبر، بل هو ممن يدخل الجنة إما ابتداء وإما مآلا. ومن أمثلته حديث ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن" قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط" (1) . والحديث بوب عليه البخاري رحمه الله: " باب: كفران العشير، وكفر دون كفر". ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (2) . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" (3) . وغيرها من الأحاديث. فتبين إذن بأن الكفر نوعان: أكبر مخرج من الملة، وآخر أصغر دونه. والله أعلم. الظلم:   (1) - رواه البخاري في الإيمان برقم: 29 (ص29) ، ومسلم مطولا في كتاب الكسوف برقم: 907 (ص353) . (2) - رواه مسلم في الإيمان برقم: 64 (57) . (3) - رواه مسلم في الإيمان برقم: 67 (58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الظلم في اللغة مجاوزة الحد وهو في الاصطلاح وضع الشيء في غير موضعه (1) . وهو مثل الكفر نوعان: أكبر وأصغر: الظلم الأكبر: وهو مرادف للكفر الأكبر، وذلك لأن أظلم الظلم وأكلحه وأخطره هو الشرك بالله عز وجل، الذي هو وضع للعبادة في غير موضعها الصحيح. ولما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، شق ذلك على الصحابة وقالوا: أينا لم يظلم؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . قال الحافظ ابن حجر:" ووجه الدلالة منه أن الصحابة فهموا من قوله:" بظلم " عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإنما بين لهم أن المراد أعظم أنواع الظلم وهو الشرك، ( … ) فدل أن للظلم مراتب متفاوتة" (2) . وقد وردت آيات قرآنية كثيرة أطلق فيها الظلم، وأريد الكفر الأكبر، وأمثلتها لا تخفى على المتتبع. 2- الظلم الأصغر: وهو الذي لا ينفي الإيمان عن صاحبه، وهو محصور في ظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وفي ظلمهم بعضهم بعضا. كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدبر لبعضهم من بعض" (3) .   (1) - وعرفه الأشاعرةبأنه التصرف في ملك الغير، والتزموا لذلك أنه لو عذب المطيعين ونعم العاصين لم يكن ظالما!! انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة: 3/1323. (2) - فتح الباري: 1/118. (3) -رواه – بهذا اللفظ – البزار من حديث أنس، وله شواهد عند أحمد والطبراني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ، ومنه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} وقوله: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} . فهذا الظلم المذكور في هذه الآيات هو من الظلم الأصغر الذي لا يخرج من ملة الإسلام. الفسق: أصل الفسق والفسوق في اللغة الخروج عن القشر، فيقال فسقت الرطبة عن قشرتها، والفأرة عن جحرها، ولذلك سميت الفأرة فويسقة. وفلان فسق أي عصى وجاوز حدود الشرع. ويقال: فسق عن أمر ربه، أي خرج عن طاعته (1) . وهو بدوره نوعان: أكبر وأصغر. 1- الفسق الأكبر: وهو مرادف للكفر الأكبر المخرج من الملة، كما في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} ، وفي قوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} ، وغير ذلك من الآيات. الفسق الأصغر: وهو مطلق المعاصي التي لا تنقض الإيمان، وصاحبها يطلق عليه اسم " الفاسق الملي" إشارة إلى كونه غير خارج عن ملة الإسلام، وتمييزا له عن صاحب الفسق الأكبر. ومن أمثلته قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ، وقوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} ، وقوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، وغير ذلك من الآيات.   (1) - لسان العرب: 10/308. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 قال شيخ الإسلام رحمه الله:" قال ابن عباس وأصحابه: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وكذلك قال أهل السنة كأحمد وغيره" (1) . وقال أيضا:" قال محمد بن نصر: قالوا: صدق عطاء: قد يسمى الكافر ظالما، ويسمى العاصي من المسلمين ظالما، فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لا ينقل. (..) قال: وكذلك الفسق فسقان، فسق ينقل عن الملة وفسق لا ينقل عن الملة، فيسمى الكافر فاسقا، والفاسق من المسلمين فاسقا، ذكر الله إبليس فقال {ففسقَ عَن أَمرِ رَبِّه} وكان ذلك الفسق منه كفرا وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ} . يريد الكفار دل على ذلك قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} . وسمى الفاسق من المسلمين فاسقا ولم يخرجه من الإسلام. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} وقال تعالى: {فمن فَرَضَ فيهِنَّ الحَجَّ فلا رَفَثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحَجِّ} فقالت العلماء في تفسير الفسوق هنا: هي المعاصي" (2) . قلت في النظم: والأول الأصل لدى الإطلاق كما تقرر لدى الحذاق الشرح: (والأول) أي الكفر الأكبر هو (الأصل) في الكتاب والسنة، بل وحتى في كلام السلف والأئمة (لدى الإطلاق) أي إذا لم يقيد بما يوضح كونه منقولا إلى معناه المجازي وهو الكفر الأصغر، أو لم توجد قرينة شرعية تمنع إرادة المعنى الحقيقي، وهذا (كما تقرر) بالأدلة اللغوية والشرعية البينة (لدى الحذاق) وأهل التحقيق والبراعة من العلماء.   (1) - مجموع الفتاوى: 7/67. (2) - مجموع الفتاوى: 7/327-328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فأما الدليل اللغوي على هذه المسألة فهو أن الاستقراء دلنا على أن لفظ الكفر حقيقة شرعية في الكفر الأكبر المخرج من الملة. وعلامة الحقيقة هي التبادر كما تقرر عند أهل البلاغة والأصول. فإذا أطلق هذا اللفظ، تبادر إلى الذهن معنى الكفر الأكبر، الذي هو المعنى الراجح لكونه المعنى الحقيقي للفظ. ولا ينبغي أن يصرف اللفظ إلى المعنى المرجوح، وهو هنا المعنى المجازي، أي معنى الكفر الأصغر، إلا بقرينة واضحة تحيل إرادة المعنى الأصلي. وأما الدليل الشرعي فما جاء في الحديث الصحيح، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن" قيل: أيكفرن بالله؟ قال:" يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط" (1) . ووجه الشاهد منه أن الصحابة فهموا من إطلاق لفظ الكفر معنى الكفر الأكبر المخرج من الملة، وهو الكفر بالله، فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد هو كفر النعمة، وكفر الإحسان، ولم ينكر عليهم فهمهم، فكان إقرارا منه عليه الصلاة والسلام. وفي تقرير هذه القاعدة يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:" عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به إلا ذلك" (2) .   (1) - سبق تخريجه. (2) - فتح الباري: 1/90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمان آل الشيخ رحمه الله:" ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين والثاني لا يحمل عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} " (1) . ويقول ابن القيم رحمه الله:" اللفظ الذي اطرد استعماله في معنى هو ظاهر فيه، ولم يعهد استعماله في المعنى المؤول أو عهد استعماله فيه نادرا، فحمله على خلاف المعهود من استعماله باطل، فإنه يكون تلبيسا يناقض البيان والهداية" (2) . أقول: هذا الكلام ينطبق تماما على لفظ الكفر الذي نحن بصدده، إذ هذا اللفظ ظاهر في المعنى الحقيقي الراجح وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة، مع احتماله للمعنى المجازي المرجوح وهو الكفر الأصغر (3) ، ثم إن الغالب في استعمال الشارع هو المعنى الأول، فلا يصح إذن حمل اللفظ على المعنى المرجوح إلا بقرينة. ثم هنا قاعدة أخرى أذكرها لعموم الحاجة إليها، وهي أن الكفر إذا ورد – في نصوص الكتاب والسنة- معرفا بدخول "ال" عليه، فإنه لا يراد به إلا الكفر الأكبر المخلد في النار، وأما إن ورد منكرا فإنه محتمل لمعنيي الكفر الأكبر والأصغر، مع كون الأول الأصل عند الإطلاق كما سبق بيانه.   (1) - الرسائل المفيدة للشيخ عبد اللطيف: 21-22، كما نقله صاحب الجامع: 2/831. (2) - مختصر الصواعق المرسلة: 1/47. (3) - الظاهر هو اللفظ الذي يفيد معنى راجحا مع احتماله لآخر مرجوح، كالأسد. انظر المحلي على جمع الجوامع: 1/237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ودليل هذه القاعدة أن التعريف عند البلاغيين يؤتى به لإفادة اللفظ تمام المعنى، قال الخطيب القزويني في كتابه الإيضاح:" وأما تعريفه - يعني المسند إليه- فلتكون الفائدة أتم" (1) . وقال شارح الجوهر المكنون- الشيخ أحمد الدمنهوري-:" والإتيان بالمسند إليه معرفة لإفادة المخاطب أتم فائدة"، قال محشيه:" فإن كلا من فائدة ولازمها كلما ازداد متعلقه معرفة زاد غرابة وأتمية، فإذا قلنا: ثوب لبيس اشترى في السوق لم يكن كقولنا: ثوب من حرير فيه طراز ذراع طوله ألف شبر اشتراه فلان من فلان بألف دينار في مكان كذا وكذا، والأصل في التعيين الموجب لا زدياد الفائدة المعارف لأنها تفيد التعيين بالوضع" (2) . إذا تقرر هذا، فلفظ الكفر المعرف بـ:"ال"، يفيد حصول كمال الكفر وغايته وتمامه، وهذا هو الكفر الأكبر المخرج من الملة، فتأمل. قال شيخ الإسلام رحمه الله:" وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -:" ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة" وبين كفر منكر في الإثبات" (3) . فاشدد على هذه القواعد، بالأيدي والنواجذ، والله الموفق. الفصل الثاني: ... قاعدة تكفير المعين وموانع التكفير قلت في النظم: وينبغي الإمعان في التحذير من عدم التفريق في التكفير ما بين تكفير بلا تقييد وحكم من عين بالتحديد لابد فيه من ثبوت قاطع للشرط، وانتفاء كل مانع الشرح:   (1) - الإيضاح (ضمن شروح التلخيص) : 1/287. (2) - حلية اللب المصون (مع حاشية المنياوي) : 55. (3) - اقتضاء الصراط المستقيم: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 (وينبغي الإمعان) أي المبالغة والتشديد (في التحذير) الموجه إلى من يتكلم في مواضيع التكفير، (من عدم التفريق) جهلا أو تجاهلا (في) باب (التكفير ما بين تكفير) مطلق (بلا تقيد) ولا تعيين (و) بين (حكم من عين بالتحديد) والمعنى أنه يجب التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين، إذ (لابد فيه) أي: تكفير المعين (من ثبوت) شرعي (قاطع) لكل احتمال أو شبهة (للشرط) متعلق بـ"ثبوت"، (و) كذلك لابد من (انتفاء كل مانع) من موانع التكفير التي ستأتي بيان أهمها فيما يلي. - اعلم يا أخا السنة أن المسائل التي سأذكرها في هذا الباب قد بلغت في الخطورة مبلغا عظيما، وفي الدقة شأوا بعيدا، مع كونها كثيرة النفع لمن ضبط شرائدها، وقيد بأدلة الكتاب والسنة أوابدها، وصان عن التشرذم فوائدها. وأما من غفل عنها أو تغافل، فسكوته في مسائل الإيمان والتكفير أولى من كلامه، وإحجامه عن الخوض فيها أجدر به من إقدامه، بل كلامه فيها ضرب من الغواية والإغواء، ونوع من الضلال واتباع الأهواء، وقانا الله وإياك مزلات الأقدام ومضلات الأفهام. وحاصل ما ذكرت في النظم أنه ينبغي التفريق بين أمرين اثنين: أحدهما التكفير المطلق (وقد يسمى كفر النوع) وهو الحكم بالكفر على نفس الفعل أو القول، بقطع النظر عن تنزيل حكم الكفر على الشخص المعين الذي ارتكب ذلك الفعل أو نطق بذلك القول. فيقال مثلا: من (1) قال كذا أو فعل كذا فقد كفر أو فهو كافر. فهذا تكفير على العموم أو تكفير مطلق. - وثانيهما: التكفير بالتعيين (وقد يسمى كفر العين) وهو الحكم بالكفر على الشخص المعين الذي فعل سبب الكفر من قول أو فعل مكفر. وهذا الحكم لا يكون إلا بعد التأكد من توفر الشروط ومن انتفاء الموانع.   (1) - لاحظ أن "من" اسم موصول، فهو من ألفاظ العموم كما تقرر في علم الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وبعبارة أخرى، فإن التكفير المطلق لا يستلزم دائما تكفير المعين، أو قل إن من وقع في الكفر لم يستلزم ذلك أن يكون الكفر قد وقع به. وقد أدى الجهل بهذه القاعدة بكثير من الناس إلى الوقوع في أنواع من التخبيط والتخليط. فتجد أكثرهم إذا سمع من يقول عن فعل من الأفعال يرتكبه بعض الأشخاص: إنه كفر، فهم من ذلك تكفير القائل لهؤلاء الأشخاص بأعيانهم! وترتب على ذلك ما لا تحمد عقباه. والله المستعان. وأما أدلة هذه القاعدة فكثيرة، وسيأتي ذكر عدد منها مفرقة عند الكلام على موانع التكفير. وإنما أكتفي هنا بنقل كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب. يقول رحمه الله:" … والأصل الثاني أن التكفير العام – كالوعيد العام – يجب القول بإطلاقه وعمومه. وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار فهذا يقف على الدليل المعين، فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه" (1) . ويقول أيضا:" وكنت أبين لهم أنما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضا حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، من فعل كذا فله كذا، وهي منزلة قول من قال من السلف من قال كذا فهو كذا، ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة" (2) .   (1) - مجموع الفتاوى: 12/498. (2) - مجموع الفتاوى: 3/230، وتنبه إلى أن الموانع المذكورة في كلام شيخ الإسلام – غير التوبة – خاصة بالذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر، أما موانع التكفير المعتبرة فسيأتي ذكر أهمها في محلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 إذا علم هذا، فلا يتأتى الحكم بالكفر على المعين إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع. فالشرط هو ما يلزم من عدمه عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، وأما المانع فهو ما يلزم من وجوده عدم الحكم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم. وهذا التعريف الميسر أوضح وأوفى بالمقصود مما يتكلفه بعض الأصوليين من الحدود المنطقية (1) . وشروط الحكم بالتكفير على المعين هي أن يكون هذا الشخص مكلفا (أي بالغا عاقلا خاليا من موانع التكليف كالصغر والجنون وغيرها) ، وأن يكون القول أو الفعل الذي وقع به التكفير صريحا غير محتمل، وأن يثبت صدوره من الشخص بطريق شرعي صحيح. فأما الشرط الأول فمحل بحثه كتب أصول الفقه، في أبواب موانع التكليف وعوارض الأهلية. وأما الشرط الثاني فسيأتي الكلام عليه عند ذكر بعض قواعد التكفير، وأما الثالث فمحله كتب القضاء والبينات من أسفار الفقه. وليعلم أن ما ذكرته من تعريف للشرط والمانع يقتضي أن ما كان وجوده شرطا فعدمه مانع والعكس بالعكس، وهذا أمر يوافق عليه جماهير الفقهاء كما يعلم من الوقوف على كتاباتهم، وإن خالف فيه بعض الأصوليين فاشترطوا في المانع أن يكون وصفا وجوديا لا عدميا (2) . والظاهر أن الخلاف لفظي، فليحرر. وعلى المذهب الأول، فإنه يكفي ذكر الشروط وحدها أو ذكر الموانع وحدها، وهذا الذي يسير عليه كثير من أهل العلم فلا يذكرون في هذا الباب سوى موانع تكفير المعين. والخطب في هذا كله يسير، بإذن الله تعالى.   (1) - يقول التاج السبكي مثلا في تعريف المانع: " هو الوصف الوجودي الظاهر المنضبط المعرف نقيض الحكم كالأبوة في القصاص". انظر جمع الجوامع (بشرح المحلي) : 1/99. (2) - انظر تقريرات الشربيني على حاشية البناني: 1/99 ومثله في حاشية العطار:1/137، لكن العلامة ابن القيم رحمه الله ينقل في بدائع الفوائد: 4/11-12 اتفاق الناس على المذهب الأول. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 هذا عن الشروط، أما الموانع فقد ذكرت في النظم أربعة منها -وهي أهمها- وهذا أوان الشروع في الكلام عليها. قلت في النظم: مثل ثبوت خطأ اللسان أو التأول مع البرهان وهو الذي قواعد الكلام تسيغه وشرعه الإسلام كما أتى الأثر عن قدامه في ظنه الشرب بلا ملامه ليس كتأويلات أهل الزندقة كقول إبليس ومن قد وافقه الشرح: (مثل) أي: أن من أمثلة الموانع المعتبرة في باب التكفير ما سيأتي ذكره. فالمانع الأول هو تأكد (ثبوت خطأ اللسان) أي الخطأ المؤدي إلى سبق اللسان، بالنطق بالكفر من غير تعمد. والمانع الثاني ما ذكرته بقولي (أو التأول) وسيأتي تعريفه (مع البرهان) وهو الدليل الشرعي الواضح. (وهو) أي التأول المقبول مانعا من موانع التكفير، (الذي قواعد الكلام) العربي (تسيغه) أي تجيزه (و) كذلك تسيغه (شرعة) أي شريعة (الإسلام) أي أدلة الكتاب والسنة، بفهم سلف هذه الأمة. (كَ) أي مثال التأول المانع من التكفير (ما أتى) به (الأثر) الصحيح (عن قدامه) بن مظعون (في ظنه الشربً) أي جواز شرب الخمر (بلا ملامه) أي بلا مؤاخذة ولا حساب متأولا في ذلك، كما سيأتي. (ليس كتأويلات أهل الزندقة) من الملاحدة والباطنية وغلاة الشيعة والصوفية، (كقول إبليس) ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة على الصحيح، والمقصود قوله "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" (و) مثله في الحكم (من قد وافقه) في مثل هذا التأويل الباطل. - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المانع الأول: الخطأ وعدم القصد إلى الفعل (1) ، كأن يسبق لسانه إلى كلمة كفر لم يقصد النطق بها، ولا كان متعمدا لذلك. وهذا مانع معتبر شرعا لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ، ولما جاء في الحديث: " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" (2) ، ولحديث الرجل الذي أضل راحلته وعليها طعامه وشرابه، فلما وجدها بعد أن أيس من الحياة، قال: " اللهم أنت عبدي وأنا ربك"، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أخطأ من شدة الفرح" (3) . وأمثلة الخطأ في القول والفعل التي يمكن ذكرها في هذا المقام كثيرة جدا. والله أعلم. المانع الثاني: التأول. التأول هو الخطأ في فهم دلالة النص الشرعي، بإنزال بعض النصوص في غير محلها، أو إخراجها عن مدلولاتها الصحيحة التي تشهد لها النصوص الأخرى وقواعد اللغة والشرع. فمن استحل حراما أو حرم حلالا، أو وقع في كفر وهو يحكم عليه بأنه ليس كفرا، وكان في هذا كله متأولا تأولا مستساغا في الجملة، امتنع تكفيره حتى تقام عليه الحجة الشرعية، فإن أصر على ما هو فيه من الباطل. وقع عليه حكم التكفير. وما يقتضيه من الأحكام الشرعية الدنيوية.   (1) - سيأتي التفريق بين القصد إلى الفعل المكفر والقصد إلى الكفر في محله من هذا الكتاب. (2) - أخرجه ابن ماجة وابن حبان والحاكم، وله طرق وروايات، وحسنه النووي، وصححه السيوطي في الأشباه والنظائر: 239 بشواهده. (3) - رواه البخاري في الدعوات-باب التوبة، برقم: 6308 (ص1213) ، ومسلم في التوبة برقم: 2744 (ص1098) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 والدليل على هذا الأصل العظيم حادثة قدامة بن مظعون المشار إليها في النظم، وحاصلها أن قدامة وطائفة معه شربوا الخمر وتأولوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، فلما بلغ الخبر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار الصحابة في ذلك، ثم وقع إجماعهم على رأي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا. وأرسل عمر لقدامة يقول له:" اخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر" (1) . ووجه الدلالة من هذه القصة أن الصحابة أجمعوا- والإجماع حجة شرعية كما هو معلوم - على عدم إقامة حد الردة- وهو القتل- على قدامة ومن معه، رغم كونهم وقعوا في الكفر، الذي هو استحلال شرب الخمر. والمانع من إلحاق حكم الكفر بهم هو تأولهم الآية القرآنية المذكورة على غير وجهها، وهو تأول سائغ في الجملة، وإن كان باطلا كما لا يخفى من تأمل سبب نزول الآية وما ذكره فيها أئمة التفسير. ثم إن الصحابة أجمعوا أيضا على أن هؤلاء المستحلين، لو أصروا على الاستحلال بعد إقامة الحجة عليهم، لوجب إقامة الحد عليهم. وهذا الإجماع المذكور ليس خاصا بالصحابة، فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله:" وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك" (2) . ولعل مستند هذا الإجماع النصوص الدالة على رفع المؤاخذة عند الخطأ، مثل قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وغيرها، والله أعلم.   (2) - مجموع الفتاوى: 11/405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وفي تقرير هذه القاعدة ودليلها يقول ابن تيمية رحمه الله: " ... أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئد، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل" (1) . ويقول في موضع آخر، يجمع فيه جل موانع التكفير:" والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بلإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا" (2) . ولكن هذا التأويل لا يكون مانعا من التكفير إلا إن كان سائغا ومقبولا في الجملة، وذلك بأن تجيزه قواعد اللسان العربي، وبأن يكون له وجه معتبر في قواعد الشرع. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: " قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب، وكان له وجه في العلم" (3) . فإن عدم أحد هذين الشرطين، لم يمنع التأويل تنزيل حكم الكفر. لذلك أجمع أهل العلم على تكفير الباطنية ومن نحا نحوهم من الروافض وغلاة الصوفية والقرامطة، وأهل الإلحاد والزندقة وأصحاب المقالات الإبليسية، مع أنه لا تخلو طائفة من هذه الطوائف من تأويلات للنصوص الشرعية، ولكنها تأويلات باطلة غير مقبولة.   (1) - مجموع الفتاوى: 7/610. (2) - مجموع الفتاوى: 3/231. (3) - فتح الباري: 12/376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ومن أمثلة هذه التأويلات ما ينقله أبو حامد الغزالي في " فيصل التفرقة"، إذ يقول: " ولابد من التنبيه على قاعدة وهو أن المخالف قد يخالف نصا متواترا، ويزعم أنه مؤول، مثاله: ما في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها، وعالم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره ويخلقه، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، وأما أن يكون واحدا في نفسه، وموجودا وعالما على معنى اتصافه فلا، وهذا كفر صراح، لأن حمل الوحدة على اعطاء الوحدة ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلا ... فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبر عنها بالتأويلات" (1) . وبالجملة، فإن تأويلات الباطنية وأضرابهم، مما يطول تتبعه، وفيما ذكرت آنفا غنية وكفاية. والله أعلم. ??? قلت في النظم: أو عن بلاد شرعنا قد بعدا وإن أتى الدواهي العظاما إذ كل قادر ملوم، فافهم ومن يكن حديث عهد بالهدى يعذرْ بجهله فلا ملاما وشرطه عجز عن التعلم الشرح: (ومن) اسم شرط جازم، يجزم فعلين (يكن) فعل الشرط مجزوم (حديث عهد بالهدى) أي بالإسلام أي لم يسلم إلا من مدة قريبة (أو) يكن (عن بلاد شرعنا) معاشر المسلمين (قد بعدا) أي: كان يعيش في منطقة بعيدة عن البلاد التي تستفيض فيها المعرفة بشعائر الإسلام (يعذر) جواب الشرط مجزوم (بجهله فلا ملاما) ولا حساب ولا مؤاخذة، وألف "ملاما" لإطلاق القافية. (وإن أتى) أي: قال أو فعل (الدواهي) جمع داهية، وهي الطامة والمصيبة (العظاما) نعت للدواهي. (وشرطه) أي: شرط العذر بالجهل هو (عجز عن التعلم) أي: عدم القدرة على دفع الجهل عن نفسه، ثم ذكرت العلة بقولي: (إذ كل قادر ملوم) ومحاسب، لأن القدرة مناط التكليف، (فافهم) تكملة للبيت. المانع الثالث: الجهل.   (1) - فيصل التفرقة: 147 كما في " نواقض الإيمان القولية والعملية": 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 اعلم أن العذر بالجهل من المسائل الخطيرة، التي كثر حولها القيل والقال، وتنازع فيها الناس في الآونة الأخيرة ما بين مفْرِط ومفَرِّط، وبين غال ومقصر. وهذا الخلاف ليس نظريا فحسب، بل هو مما يترتب عليه آثار وخيمة، وتفرق عملي في تشخيص أمراض المجتمعات والدول وفي اقتراح الحلول الناجعة، وأمثل الطرق للتغيير والعلاج. والحق، أن قسطا وافرا من الخلاف راجع إلى غياب أو قصور في عملية التأصيل الشرعي (1) ، وهذا عيب عند كثير من المنتسبين إلى العمل الإسلامي، كما لا يخفى على المتأمل. وسوف أكتفي في هذه الورقات بالكلام على هذا الموضوع، من أهم جوانبه وأخطرها، دون التطرق إلى التفاصيل، ولا الإكثار من النقول والاستدلالات، لئلا أخرج عن المقصود. دليل اعتبار العذر بالجهل: دلت على كون الجهل مانعا من موانع التكفير- بل من لحوق الوعيد بالمعين عموما- أدلة كثيرة من النصوص وقواعد الشرع، وسوف أجتزئ هنا بذكر أشهرها وأظهرها: حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن رجلا لم يعمل خيرا قط فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، فلما مات الرجل، فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هوقائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله له" (2) .   (1) - يستثنى من ذلك بعض الكتابات العلمية الرصينة التي ظهرت في السنوات الأخيرة، وأحسنها – فيما أعلم – ما جاء في الجزء الأول من كتاب " الجامع في طلب العلم الشريف " للشيخ عبد القادر بن عبد العزيز، فليراجع. (2) - رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم: 3481 (ص670) ، ومسلم في التوبة برقم: 2756 (ص1102) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ... وكنت دائما أذكر هذا الحديث. فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك" (1) . حديث ذات أنواط، وهو عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسى {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، لتركبن سنن من كان قبلكم" (2) . والحديث واضح في المراد، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكفر هؤلاء الصحابة الذي نطقوا بهذا القول الكفري، وذلك لحداثة عهدهم بالكفر وجهلهم بأصول دين الإسلام.   (1) - مجموع الفتاوى: 3/231. (2) - الترمذي في الفتن-باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم برقم: 2180 (ص501) ، وقال حسن صحيح، وأحمد في مسند الأنصار برقم: 20892. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ج- حديث حذيفة بن اليمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويسري على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لاإله إلا الله، فنحن نقولها" فقال صلة بن زفر لحذيفة: فما تغني عنهم لاإله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، فرددها عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال:" يا صلة! تنجيهم من النار، تنجيهم من النار" (1) . قال ابن تيمية رحمه الله: " وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف" ثم ذكر حديث حذيفة السابق (2) . وهنالك أدلة أخرى كثيرة، لا داعي لبسطها هنا. بعض الحالات التي يعذر فيها بالجهل: ذكر أهل العلم حالات خاصة محدودة يعذر فيها بالجهل، والضابط فيها جميعها هو عدم التمكن من التعلم، ويمكن إضافة حالات أخرى متى توفر الضابط المذكور.   (1) - ابن ماجه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (2) - مجموع الفتاوى: 35/165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 - فمن هذه الحالات حداثة العهد بالكفر، كما جاء في حديث ذات أنواط الذي سبق ذكره. يقول شيخ الإسلام رحمه الله:" لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة، كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، ولهذا لو أسلم رجل، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر حرام، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا، وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية" (1) . ويقول ابن حزم رحمه الله: " ولا خلاف في أن امرءا لو أسلم- ولم يعلم شرائع الإسلام- فاعتقد أن الخمر حلال، وأن ليس على الإنسان صلاة، وهو لم يبلغه حكم الله تعالى لم يكن كافرا بلا خلاف يعتد به، حتى إذا قامت عليه الحجة فتمادى حينئذ بإجماع الأمة فهو كافر" (2) . -ومنها أن ينشأ في منطقة نائية، أو بادية بعيدة، لا تشتهر فيها شرائع الإسلام ولا تظهر فيها أصوله، ثم هو مع ذلك لا يستطيع- لمانع شرعي معتبر- أن يرحل إلى البلاد التى يمكنه فيها أن يتعلم دين الإسلام. - ومنها أن يكون مصابا بعاهة بدنية تعوقه عن تعلم أصول الدين وشرائعه. ويستأنس في هذا الباب بحديث الأربعة الذين يحتجون يوم القيامة وهم كما في الحديث:" رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة " الحديث (3) . - ومنها اندراس العلم وذهابه، فيعذر العبد بما لم يبلغه من الدين، كما في حديث حذيفة الذي سبق ذكره، وفيه مجادلة صلة بن زفر له. فهذه بعض الحالات التي تكلم عليها العلماء، "وليقس ما لم يقل". 3- شرط اعتبار الجهل مانعا من التكفير:   (1) - مجموع الفتاوى: 11/406. (2) - نقله في نواقض الإيمان:61 عن المحلى لابن حزم. (3) - رواه أحمد والبزار والطبراني وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 اعلم أن التكليف عموما منوط بالقدرة كما هو مقرر في علم أصول الفقه. وعليه فإن العاجز عن دفع الجهل عن نفسه عن طريق التعلم، معذور بجهله، بخلاف المتمكن من التعلم، فإن جهله لا يمنع من تكفيره، إذ هو علامة على صده عن دين الله تعالى، وإعراضه عن الحق والهدى. يقول العلامة القرافي المالكي رحمه الله: " القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه، لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله، وأوجب عليهم كافة أن يعلموها، ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن ترك التعلم والعمل، وبقي جاهلا فقد عصى معصيتين لتركه واجبين" (1) . ويقول ابن حزم رحمه الله مبينا وجوب السعي في طلب الواجب العيني من العلم الشرعي: " وأما من بلغه ذكر النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، ثم لم يجد في بلاده من يخبره عنه ففرض عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبرىء فيها الحقائق ولولا إخباره عليه السلام أنه لا نبي بعده، للزمنا ذلك في كل من نسمع عنه أنه ادعى النبوة" (2) . ويقول شيخ الإسلام رحمه الله مقيدا العذر بالجهل بالشرط الذي ذكرت آنفا:" ... إن هذا العذر لا يكون عذرا إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق فقصر فيها لم يكن معذورا" (3) . ويقول العلامة الأصولي المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:" ... وأما القادر على التعلم المفرِّطُ فيه، والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي، فهذا الذي ليس بمعذور" (4) . وبالجملة، فإن هذا القيد مما لا ينبغي أن يقع حوله أدنى خلاف، لكثرة القواعد والأدلة التي تشهد له. قلت في النظم: وحجة الله على العباد رسالة التوحيد والرشاد أتى بها الرسْل دعاة الحق أهل الكمال والتقى والصدق فلا تقوم حجة الخلَّاق بفطرة أو عقلِ اَو ميثاق والجهل في مسائل التوحيد معتبر في المذهب الرشيد   (1) - الفروق: 4/264. (2) - الإحكام: 5/110. (3) - مجموع الفتاوى: 20/280. (4) - أضواء البيان: 7/357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الشرح: لما تكلمت على العذر بالجهل فيما سبق، وكان هذا الجهل لا يرفع إلا بعد بلوغ الحجة الرسالية، تكلمت هنا على هذه الحجة، وما يلحق بذلك من مسائل هامة، فقلت: (وحجة الله) تعالى (على العباد) أجمعين هي (رسالة التوحيد والرشاد) التي (أتى بها) من عند الله عز وجل (الرسْل) الكرام (دعاة الحق) وحملة لوائه و (أهل الكمال) في الجنس البشري، (والتُّقى) مصدر اتقى يتقي (والصدق) وغير ذلك من أنواع الكمالات الإنسانية، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. (فلا تقوم حجة الخلاق) سبحانه وتعالى على عباده (بفطرة أو عقل اَو) بتخفيف الهمزة للوزن (ميثاق) وسيأتي تعريفها، وبيان عدم صلاحيتها لأن تكون حججا مستقلة. (والجهل في مسائل التوحيد) بقيود مسطرة في مواضعها، (معتبر في المذهب الرشيد) الصحيح، خلافا لمن أطلق القول بعدم العذر بالجهل في أصل التوحيد. والكلام على هذا المبحث يكون من خلال المسائل التالية: المسالة الأولى: الحجة الرسالية: الحجة في اللغة البرهان، والمقصود به هنا الدليل الذي متى قام على المكلف الواقع في الكفر ارتفع عنه الجهل المانع من تكفيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وقد اختلف الناس في هذه الحجة بم تقوم؟ واتفق أهل السنة على أنها لا تقوم إلا ببلوغ الخطاب الشرعي السمعي عن طريق المرسلين. وأدلة ذلك من الكتاب والسنة كثيرة جدا. فمنها قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وقوله: {لئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} وقوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} وقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} وقوله جل ذكره: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وإنما أكثرت من نقل الآيات القرآنية الدالة على هذا الأصل السُّنِّي، خلافا للمعهود في هذا الكتاب، دفعا لما يمكن أن يتوهم من أن هذا الأصل لا تشهد له سوى آية سورة الإسراء، فتردَّ دلالتها بنوع من التأول. والحق - كما رأيت - أن الآيات في هذا الباب كثيرة جدا، وواضحة الدلالة على المقصود. ومن الأدلة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار " (1) . قال العراقي في "طرح التثريب": " ومفهومه أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور على ما تقرر في الأصول أن لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح" (2) . وعلى العموم فهذا أصل مقرر عند أهل السنة والجماعة، كما ينقله اللالكائي. وغيره من أئمة أهل السنة. ويقول شيخ الإسلام رحمه الله:" وهذا أصل لابد من إثباته، وهو أنه قد دلت النصوص على أن الله لايعذب إلا من أرسل إليه رسولا تقوم به الحجة عليه.- ثم ذكر رحمه الله مجموعة من الآيات القرآنية التي ذكرتها آنفا، ثم قال: وإذا كان كذلك فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه كقوله: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ، فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت الحجة بما بلغه دون ما لم يبلغه" (3) . ويقول ابن القيم رحمه الله:" وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل" (4) . المسألة الثانية: صفة إقامة الحجة الرسالية:   (1) - رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم: 153 (ص85) . (2) - طرح التثريب: 7/160. (3) - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: 1/309-310. (4) - طريق الهجرتين: 611. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 لما كانت الفائدة من إقامة الحجة هي رفع الجهل عن المعين، وإبلاغه الخطاب الشرعي الذي يكفر مخالفه، وجب أن يتوفر فيها من الشروط ما تكون به قاطعة لكل شبهة، ودافعة لكل احتمال وهذا أمر يختلف بحسب الأحوال والأشخاص والأمكنة والأزمنة وغير ذلك، لذلك يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:" إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لايفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له" (1) . والضابط في هذا الباب هو بلوغ الحجة للمكلف على وجه يمكنه به فهمها (2) . وذلك بأن تكون بلغته، اقتضى ذلك ترجمة معاني القرآن والحديث، كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله:" ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبليغ القرآن لفظه ومعناه، وكما أمر بذلك الرسول ولا يكون تبليغ رسالة إلا كذلك، وأن تبليغه إلى العجم قد يحتاج إلى ترجمة لهم، فيترجم لهم بحسب الإمكان. والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعاني، فيكون ذلك من تمام الترجمة" (3) .   (1) - طريق الهجرتين: 611-612. (2) - انظر "الجامع في طلب العلم الشريف": 1/386. (3) - مجموع الفتاوى: 4/116-117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وكذلك ينبغي أن تكون الحجة بينة واضحة قاطعة للشبهة، وهذه صفة ما جاء به المرسلون، كما في قوله تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، وقوله جل ذكره: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، وغير ذلك من الآيات. يقول ابن تيمية عليه رحمة الله: " وقوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} ، قد علم أن المراد أنه يسمعه سمعا يتمكن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي لوجب أن يترجم له ما تقوم به عليه الحجة، ولو كان عربيا وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست من لغته، وجب أن نبين له معناها، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له ونبين له معناه، فعلينا ذلك. وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالا يوردونه على القرآن، فإنه كان يجيبهم عنه" (1) . فظهر من هذا الكلام النفيس، أن فهم الحجة شرط في صحة قيامها على المكلف. والمقصود بفهمها معرفة المعنى المراد منها، وتمام الإدراك لها ولما يراد منها، أما الفهم بمعنى القبول والانقياد والإذعان، فلا يشترط في إقامة الحجة. وعلى هذا المعنى الثاني لفهم الحجة ينبغي أن يتنزل تفريق كثير من علماء الدعوة النجدية بين بلوغ الحجة وفهمها، وقولهم أن من بلغته الحجة قامت عليه وإن لم يفهمها. أما المعنى الأول للفهم، فلا ينبغي أن ينازع أحد من أهل العلم في كونه شرطا في قيام الحجة. المسألة الثالثة: هل تقوم الحجة بمجرد العقل؟   (1) - الجواب الصحيح: 1/68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 هذه المسألة هي المشهورة في كتب الأصول والعقائد بمسألة التحسين والتقبيح العقليين، وهي من المباحث العظيمة التي اشتد حولها الخلاف أولا بين المعتزلة والأشاعرة، ثم ظهرت إضافات علمية لفرق أخرى. ومجمل الخلاف فيها يدور حول نقطتين اثنتين: الأولى: هل العقل يصلح أن يكون سبيلا لإدراك الحكم؟ الثانية: هل إدراك العقل للحكم-على فرض إمكانه- مناط للتكليف؟ أما النقطة الأولى فحاصل الخلاف فيها بين مختلف الطوائف يرجع إلى أقوال ثلاثة: المعتزلة ومن نحا نحوهم قالوا إن الفعل إن كانت مصلحته غالبة أو كان مصلحة محضة كان حسنا، وإن غلبت مفسدته أو كان مفسدة محضة كان قبيحا. ويترتب على إدراك الحسن والقبح في الفعل عن طريق العقل، إدراك حكم الله تعالى فيه (1) . الأشاعرة ومن معهم- وهم الذين يسميهم شيخ الإسلام نظار المجبرة- قالوا: ليس في الفعل قبح ذاتي ولا حسن ذاتي، وإنما يأخذ صفة الحسن والقبح بعد حكم الشارع الذي هو السبيل الوحيد لإدراك الحكم. فلو أن الشارع أمر بالزنا أو شرب الخمر لكان ذلك حسنا. الماتريدية قالوا: يوجد في الفعل حسن أوقبح ذاتيان، وقد يدرك العقل هذا الحسن والقبح استقلالا عن الشارع. وهذا المذهب الثالث- الذي هو قول أهل السنة كما نقله عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم في مواضع متفرقة من كتبهما- غير مشهور في كتب أصول الفقه، ويهمله كثير من المؤلفين فيه، وقد عاتبهم على هذا الإهمال الشيخ بخيت مطيعي في "سلم الوصول". أما النقطة الثانية ففيها قولان اثنان: الأول هو قول المعتزلة وعندهم أن الإدراك العقلي مناط التكليف، أي: أن الناس محاسبون بمقتضى عقولهم. والثاني قول أهل السنة ومن معهم وهو أن الحساب والعقاب لايكون إلا بعد بلوغ الحجة الرسالية، للأدلة التي سقتها فيما سبق.   (1) - انظر طريقتهم في إدراك الأحكام الخمسة عن طريق العقل في ما كتب على جمع الجوامع، عند قوله: " وحكمت المعتزلة العقل ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فالحاصل أن المذهب الحق الذي "يخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين" (1) ، هو أن العقل يمكنه أن يستقل بإدراك الحسن والقبح الذاتيين في الأفعال، ولكن لاعقاب ولاحساب قبل ورود الشرع. ويترتب على الخلاف السابق، الخلاف في أهل الفترات ومن في حكمهم، أو في حال غياب المجتهدين (2) ، فعند المعتزلة يكلف الناس في هذه الحالات بمقتضى العقل، ويتفرع على ذلك آثار كثيرة جدا. المسألة الرابعة: هل تقوم الحجة بالفطرة أوالميثاق؟ المقصود بالفطرة ما يولد عليه الإنسان، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: " ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة- راوي الحديث- اقرؤوا: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} " (3) .   (1) - هكذا وصفه الشيخ بخيت مطيعي في سلم الوصول: (2) - على القول بجواز خلو الزمان عن مجتهد، والمسألة محل خلاف عند الأصوليين. (3) - رواه البخاري في الجنائز-باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، برقم: 1358 (263) ، ومسلم في كتاب القدر برقم: 2658 (ص1066) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 والذي عليه عامة السلف - كما ينقله ابن القيم رحمه الله – أن الفطرة التي يولد عليها الإنسان هي دين الإسلام. والدليل على ذلك ما جاء في بعض روايات الحديث السابق:" ما من مولود إلا وهو على الملة" (1) ، قال ابن القيم:" فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام، كما فسره ابن شهاب راوى الحديث، واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك " (2) . ويدل أيضا على أن الفطرة هي الإسلام حديث عياض بن حمار المجاشعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى:" إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" (3) . فهذا صريح في أن العباد كلهم مخلوقون على الحنيفية، وهذا يدل على أن الفطرة هي دين الإسلام.   (1) - رواه مسلم برقم 2658 (ص1067) (2) - أحكام أهل الذمة: 2/535. (3) - رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم: 2865 (ص1148) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وأما الميثاق فهو ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} ، وجاء في الصحيحين من حديث أنس مرفوعا: " يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لوكان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به، قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لاتشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي" (1) . وقد جاء في السنة تفسير الاية السابقة، وبيان كيفية أخذ الميثاق على بنى آدم، وذلك في الحديث الصحيح: " أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنَعمان يعني عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا، قال: ألست بربكم.. (2) ونظم ذلك الشيخ حافظ حكمي رحمه الله بقوله: أخرج فيما قد مضى من ظهر ... ... ... آدم ذريته كالذر وأخذ العهد عليهم أنه ... ... ... لارب معبود بحق غيره. وقد سوى كثير من أهل العلم بين الميثاق والفطرة وعدوهما أمرا واحدا، وقال البعض بالفرق بينهما، وهذا هو الأظهر من سياق الأحاديث المفسرة للميثاق، والله أعلم. إذا علم هذا، فإن الفطرة والميثاق لا يصلح أي منهما لأن يكون حجة مستقلة على العباد، والدليل على ذلك (3) :   (1) - رواه البخاري في أحاديث الأنبياء برقم: 3334 (ص636) ، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار برقم: 2805 (ص1128) . (2) - رواه أحمد والحاكم وصححه. وانظر السلسلة الصحيحة: 1623. (3) - اختصرت الأدلة من كتاب " الجامع في طلب العلم الشريف": 1/371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 1- قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} قال الإمام محمد بن نصر المروزي منكرا على من زعم أن الميثاق حجة:" زعم أن الفطرة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن كل مولود يولد عليها هي خلقه في كل مولود معرفة بربه وزعم أنه على معنى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} الآية، قال محمد بن نصر: " قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} فزعم هذا أنهم يعرفون أعظم الأشياء وهو الله تعالى، فمن أعظم جرما وأشد مخالفة للكتاب ممن سمع الله عز وجل يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} فزعم أنهم يعلمون أعظم الأشياء؟ وهذا هو المعاند لرب العالمين والجاهل بالكتاب" (1) . 2- قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ، ووجه الدلالة منها ظاهر. 3- الآيات التي سبق نقلها في المسألة الأولى، للاستدلال على الحجة الرسالية. قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:" والآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} فإنه قال فيها: حتى نبعث رسولا، ولم يقل حتى نخلق عقولا، وننصب أدلة، ونركز فطرة" (2) .   (1) - نقله ابن القيم في أحكام أهل الذمة: 2/525-526. (2) - أضواء البيان: وكلامه – رحمه الله – كما هو ظاهر، ليس خاصا بالرد على أهل الحسن والقبح العقليين، كما ادعاه بعض المعاصرين، فليتأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 فتبين إذن أن الفطرة والميثاق ليست حجة مستقلة، وأنه لابد من الحجة الرسالية التي جاء بها الرسل مذكرين بتلك الفطرة وذلك الميثاق، كما في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} . قال حافظ حكمي رحمه الله: وبعد هذا رسله قد أرسلا ... ... ... لهم وبالحق الكتاب أنزلا لكي بذا العهد يذكروهم ... ... ... وينذروهم ويبشروهم قال ابن تيمية رحمه الله:" ولهذا كانت الرسل إنما تأتي بتذكير الفطرة ما هو معلوم لها، وتقويته وإمداده ونفي المغيِّر للفطرة، فالرسل بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لابتغيير الفطرة وتحويلها" (1) . فتقرير الفطرة هو التذكير بها، وتكميلها هو تفصيل الشرائع وحقوق الله على عباده. المسألة الخامسة: هل يعتبر العذر بالجهل في أصل التوحيد؟ قدمت في الفقرات السابقة أدلة عديدة على اعتبار الجهل مانعا من موانع التكفير. وهي أدلة واضحة في العذر بالجهل ولو في أصل التوحيد، وذلك مثل حديث ذات أنواط، فقد طلب فيه هؤلاء الصحابة حدثاء العهد بالكفر، أمرا هو ناقض لأصل التوحيد وداخل في باب الشرك الأكبر، ولم يكفرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل جهلهم. ومثله حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الرياح، شكا في قدرة الله جل ذكره على بعثه وإحيائه، وهذا كفر بين وناقض لأصل التوحيد وفيه إنكار للبعث بعد الموت ولعموم قدرة الله عز وجل التي هي إحدى أبرز وأجلى صفات الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فإن الله تعالى عذره بجهله ودل حديث حذيفة على أن الذين يتركون الصلاة والصيام والصدق في زمان اندراس العلم وذهاب أهله، يعذرون بجهلهم، وينجون من النار بمجرد كلمة لاإله إلا الله، مع أن ترك الصلاة والصيام والصدقة كفر مخرج من الملة كما سبق في مسألة ترك جنس العمل في الفصل الأول من هذا الكتاب.   (1) - مجموع الفتاوى: 16/348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 كما ذكرت في المسائل الأربعة الأولى من هذا المبحث، أن حجة الله البالغة على عباده لا تقوم إلا بالرسالات وأن العقل لا يصلح حجة سواء في أصل التوحيد أو في فروعه، وأن الميثاق والفطرة حجتان ناقصتان محتاجتان إلى التذكير بهما عن طريق الحجة الرسالية. فنخلص من هذا كله إلى أن إطلاق القول بعدم العذر بالجهل في أصل التوحيد، وإن كان يقول به بعض أهل العلم المتأخرين (1) ويتبعهم على ذلك بعض المعاصرين، مذهب غير صحيح وليس عليه من البراهين والحجج ما يقوى على مناطحة الأدلة والنصوص المتظافرة التي قدمت بعضها فيما سبق. نعم، يمكن حمل كلام هؤلاء العلماء على أنهم لايعذرون بالجهل في مسائل التوحيد المعلومة من الدين بالضرورة أو التي استفاضت تفاصيلها واشتهرت، وبالنسبة للذين من شأنهم أن يكونوا عالمين بهذه المسائل، بأن يتوفر فيهم ضابط التمكن من العلم الذي ذكرته آنفا. فمثلا، من كان يعيش في بلاد الإسلام، ولم يكن حديث عهد بالكفر، وكان كامل الحواس متمكنا من سماع العلم وفهمه، فإنه لايعذر بالجهل إذا وقع في عبادة الكواكب والأصنام، أو سب الله غز وجل، أو استهزأ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو غير ذلك مما لايتصور فيه حدوث الجهل به. وهذا في حقيقة الأمر، يؤول إلى الضوابط التي ذكرتها آنفا لصحة العذر بالجهل، وعلى الخصوص ضابط التمكن من العلم.   (1) - هذا مشهور في كتابات أئمة الدعوة النجدية، من لدن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. وقد كُتب الكثير في محاولة فهم وتحليل موقف هؤلاء الأئمة من قضية العذر بالجهل، وليس فيما كتب ما يروي الغليل ولا ما يشفي العليل، بل القضية ما تزال محتاجة إلى جهد تحليلي أكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فإن حُمل كلام هؤلاء الأئمة على هذا المعنى كان صحيحا ولاغبار عليه، وأما إن بقي على إطلاقه فهو زلة خطيرة تفتح الباب على مصراعيه أمام فكر الخوارج ومناهج غلاة التكفيريين، وحسبك بهذه النتيجة خطورة وتهديدا لكيان الأمة. وبالمقابل، فإن فتح باب العذر بالجهل، بقطع النظر عن الضوابط المسطرة فيما سبق، يؤدي إلى تمييع شنيع لباب التكفير. والحق دائما وسط بين أهل الغلو وأهل التقصير. والله أعلم. قلت في النظم: هذا ومن موانع التكفير أن يُكره العبد على المحذور الشرح: المانع الرابع: الإكراه. الإكراه هو إلزام الغير بما يريده (1) . وقد نقل الأصوليون الخلاف في تكليف المكره على مذهبين كبيرين: -مذهب المعتزلة وهو عدم التكليف مطلقا، -ومذهب الأشاعرة وهو تكليفه. والحق أن الأصل في المكره التكليف، ولكن مع تفصيلات: فإذا خالف داعيةُ الإكراه داعيةَ الشرع مثل الإكراه على القتل، فلا خلاف في جواز التكليف به. قال أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله:" انعقد الإجماع على أن المكرَه على القتل مأمور باجتناب القتل والدفع عن نفسه وأنه يأثم إن قتل من أكره على قتله" (2) . وأما إن وافق داعيةُ الإكراه داعيةَ الشرع كمن أكره بالسيف على قتل حية همَّت بقتل مسلم، أو الإكراه على قتل الكافرالحربي، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف. فالمعتزلة قالوا بامتناع التكليف لأنه لايصح منه إلا فعلُ ما أكره عليه، فلا يبقى له خيرة. وقال الآخرون بجوازه لقدرته على الإمتثال بأن يأتي بالمكرَه عليه لأجل داعي الشرع، كمن أكره على أداء الزكاة فنواها عند أخذها منه. قال الغزالي:" وهذا ظاهر، ولكن فيه غور " (3) . التفصيل بين أن يكون الفعل المكرَه عليه متعلقا: ا- بحقوق العباد، فالأصل أنه مكلف لأن حقوق العباد مبنية على المشاحة. وهذا مثل الإكراه على القتل.   (1) - فتح الباري: 12/385. (2) - فتح الباري: 12/386. (3) - المستصفى: 1/170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ب-بحقوق الله عز وجل، فالأصل أنه غير مكلف لأن حقوق الله مبنية على المسامحة. وهذا مثل الإكراه على النطق بكلمة الكفر. والدليل قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . وكذلك قوله عز وجل: {لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} . قال ابن عباس: التقاة: التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان (1) . وجاء في الحديث: " إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" (2) . وقصة عمار بن ياسر، عندما أكره تحت طائلة العذاب على النطق بكلمة الكفر، مشهورة في السيرة. وعليه فمن أظهر الكفر مكرها بلسانه أو جوارحه، وقلبُه مطمئن بالإيمان، فليس عليه من حرج، وهو معذور بسبب الإكراه. هذا وقد ذكر العلماء شروطا للعذر بالإكراه. قال الحافظ في الفتح: " وشروط الإكراه أربعة: - أن يكون فاعله قادرا على إيقاع ما يهدد به والمأمور عاجزا عن الدفع ولو بالفرار. - أن يغلب على ظنه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك. - أن يكون ما هدده به فوريا، فلو قال إن لم تفعل كذا ضربتك غدا لايعد مكرها، ويستثنى ما إذا ذكر زمنا قريبا جدا أو جرت العادة بأنه لا يخلف. - أن لايظهر من المأمور ما يدل على اختياره كمن أكره على الزنا فأولج وأمكنه أن ينزع ويقول أنزلت، فيتمادى حتى ينزل " (3) . كما أن حد الإكراه يختلف الحكم فيه باختلاف النظر في ثلاثة أمور هي (4) : 1- حال المكرَه (بفتح الراء) .   (1) - تفسير الطبري: 3/228. (2) - سبق تخريجه. (3) - فتح الباري: 12/385. (4) - انظر " ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة ": 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 2- حال المكرِه (من وقع منه الإكراه) . 3- الأمر الذي وقع عليه الإكراه. فأما حال المكرَه فلأن الناس يختلفون في قدرات تحملهم، وفي مكانتهم في المجتمع، وما يترتب على إجابتهم من نتائج على الأمة. لذلك لما سئل الإمام أحمد عن العالم وهل له أن يأخذ بالتقية في فتواه أجاب:" إذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟ ". فتأمل مقدار فهم هذا الإمام العظيم للأمانة الجسيمة الملقاة على عاتق العلماء، وقارن هذا الموقف الرباني بما يقع فيه كثير من العلماء المعاصرين من تهافت على موائد السلطان، وتكالب على فتات الدنيا، وتطويع للنصوص والقواعد الشرعية الراسخة للأهواء والأمزجة. وصدق عبد الله بن المبارك رحمه الله حين قال: وهل أفسد الدين إلا الملوك ... ... وأحبار سوء ورهبانها وأما حال من وقع منه الإكراه فلأن هنالك فرقا بين من يستطيع تنفيذ الوعيد بأن كان ذا سلطان أو من في حكمه وبين من يُعلم عن طريق العادة أنه يكتفي بالتهديد دون تنفيذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وأما الأمر الذي وقع عليه الإكراه فلأن الردة تختلف عن المحرَّم المجمع على تحريمه مما هو دون الشرك، وهذا بدوره يختلف عن المحرم المختلف في حرمته, وهكذا. فوجب أن يختلف حد الإكراه في هذه الأمور كذلك. قال شيخ الإسلام رحمه الله:" تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكرَه عليه. فليس المعتبر في كلمات الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها. فإن أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب أو قيد. ولايكون الكلام إكراها، وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها أو مسكنها فلها أن ترجع على أنها لاتهب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يسيء عشرتها. فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراها. ( … ) ومثل هذا لايكون إكراها على الكفر، فإن الأسير إذا خشي الكفار أن لا يزوجوه أو أن يحولوا بينه وبين امرأته لم يبح له التكلم بكلمة الكفر" (1) . هذا ومما ينبغي الإشارة إليه، أن الأخذ بالعزيمة والصبر على التعذيب أو القتل أولى من الترخص وإجابة داعية الإكراه، ويدل على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" (2) . ويدل عليه أيضا صبر كثير من الصحابة والدعاة والعلماء على مر تاريخ هذا الأمة، وعدم قبولهم بالرخصة، ومازال الناس يثنون عليهم وعلى صبرهم وجهادهم. ولولا فضل الله عز وجل على هذه الأمة بأن قيض لها أمثال هؤلاء المجاهدين الصابرين المحتسبين، لما استطاع الحق أن يستمر لمدة قرون طويلة غضا طريا، يشق طريقه في عباب الباطل، وبين أمواج الضلال. فهل آن للمسلمين أن يسترجعوا هذا الفهم السلفي الراقي لدين الإسلام، وأن يسستخلصوا ما تبقى لديهم من عز ونخوة من مستنقع التخاذل وحمأة الترخص؟ قلت في النظم:   (1) - الفتاوى الكبرى: 5/490. (2) - رواه الحاكم من حديث جابر وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 من يقصدُ الكفر يُكفرُ به حتى وإن لم يقصدِ الكفر به الشرح: (من) اسم موصول بمعنى الذي، في محل رفع على الابتداء (يقصد الكفر) أي يتعمد الوقوع فيه، والجملة الفعلية لامحل لها من الإعراب، صلة الموصول (يكفر به) الجملة في محل رفع خبر المبتدأ، (حتى وإن لم يقصد الكفر به) بأن قصد الفعل وعمد إليه وهو لايقصد الكفر. ذكرت عند الكلام على بعض موانع التكفير، مسألة القصد إلى الفعل وتعمده. وآن الأوان لكي نفرق بين نوعين من القصد أحدهما شرط في الحكم بالتكفير والآخر ليس شرطا. فأما الأول فهو أن يقصد الإنسان إلى الفعل ويتعمده ولايكون مخطئا فيه، فهذا القصد لاشك في اشتراطه لتكفير صاحبه. ومثال انتفاء هذا القصد ما جاء في حديث الرجل الذي أضل راحلته كما سبق بيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وأما الثاني فهو أن يقصد الإنسان الكفرَ بفعله الذي تعمده، فهذا القصد ليس شرطا لتكفير صاحبه، ولايمنع انتفاؤه أو ادعاء انتفائه من المؤاخذة بالفعل المكفر. إذ لو اشترطنا وجود هذا القصد في إلحاق حكم الكفر، لم يعجز أحد من الواقعين في الأقوال والأفعال الشركية أن يعتذر بعدم قصده الكفر بفعله، ولكان ذلك سببا في إغلاق باب التكفير مطلقا. والحق أن كثير من الكفار يعتقدون أنهم على حق فيما يقولونه ويفعلونه، وأنهم لايقصدون الوقوع في الكفر أو الشرك، كما في قوله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} . قال ابن جرير الطبري رحمه الله:" وهذا من أدل الدلائل على خطإ قول من زعم أنه لايكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله تعالى ذكرُه أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم، ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لايكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه مثابين مأجورين عليه، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة وأن أعمالهم حابطة" (1) .   (1) - تفسير الطبري: 8/295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ومن أدلة هذا التفريق قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . قال شيخ الإسلام رحمه الله:" ... فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرَّم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفرا، وكان كفرا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه" (1) . وقال أيضا في بيان التفريق بين هذين النوعين من القصد:" ... وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفر كَفرَ بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافرا، إذ لايقصد الكفرَ أحد إلا ما شاء الله" (2) . ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث المارقة (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) :" وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار دينا على دين الإسلام" (3) . الفصل الثالث: قواعد إجمالية في التكفير: قلت في النظم: تنزيل حكم الكفر في الأعيان أمر عظيم الشأن في الميزان فاحذر وبالغ في احتياط وحذر فمن يكفر مسلما فقد كفر الشرح: (تنزيل حكم الكفر في) أي على (الأعيان أمر عظيم الشأن) والمنزلة (في الميزان) عند الله عز وجل، إلى جانب ما يترتب عليه من آثار ونتائج في الدنيا. (فاحذر) يا أخا السنة (وبالغ في احتياط وحذر) عند حكمك بالكفر على المعينين المنتسبين إلى القبلة (فـ) إنه (من يكفرْ مسلما) ثبت إسلامه بيقين ولم ينقضه بكفر صريح (فقد كفر) إلا أن يكون صاحب تأول أو اجتهاد سائغين في الجملة.   (1) - مجموع الفتاوى: 7/273. (2) - الصارم المسلول: 177-178. (3) - فتح الباري: 12/373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 اعلم أن الإنسان محاسب أشد ما يكون الحساب على ما ينطقه بلسانه، كما دلت على ذلك آيات وأحاديث كثيرة (1) . فمن ذلك حديث معاذ، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم - أو قال مناخيرهم - في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم" (2) . ومنها ما جاء في الحديث الصحيح:" إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يرى بها بأسا فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفا" (3) . وأخطر ما ينطقه اللسان، ويُخشى على صاحبه من غضب الله عز وجل ومقته، التكلم في الأعراض، والطعن في المؤمنين، ووصفهم بما ليس فيهم. وقد قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" من قال في مؤمن ما ليس فيه، حبس في ردغة الخبال، حتى يأتي بالمخرج مما قال" (4) . وقال أيضا:" إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" (5) .   (1) - للشيخ بكر أبو زيد مبحث طيب في هذه المسألة في مقدمة كتابه النافع " معجم المناهي اللفظية"، فليراجع للفائدة. (2) - رواه الترمذي في الإيمان-باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم: 2616 (ص594) ، وابن ماجة في الفتن برقم: 3963، وأحمد في مسند الأنصار: 21008. (3) - رواه بألفاظ مختلفة البخاري في الرقاق برقم: 6478 (ص1243) ، ومسلم في الزهد والرقائق برقم: 2988 (ص1197) . (4) - رواه أبو داود في الأقضية-باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها برقم: 3597 (2/164) ، وأحمد في مسند المكثرين برقم: 5129.. (5) - رواه أبو داود في الأدب-باب في الغيبة برقم: 4876 (2/451) ، وأحمد في مسند العشرة برقم: 1564. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وإن أشنع ما يمكن أن يوصم به الإنسان المسلم، هو اتهامه بالكفر والزندقة، وإخراجه من ملة الإسلام، وقطع أواصر الموالاة بينه وبين بقية المسلمين، وما يترتب على ذلك من أحكام شرعية خطيرة في التوارث والتناكح والدفن والشهادات وعصمة الدم والمال وغير ذلك. ولاشك أن مثل هذا الاتهام إن لم يكن ناشئا عن اجتهاد معتبر أو تأويل سائغ - زلة قدم عظيمة، لايستهين بها إلا من انعدم من قلبه خشية الله عز وجل، وافتقد أسباب التقوى والورع. وقد جاء في الحديث الصحيح:" أيُّما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما" (1) . قال الغزالي في "فيصل التفرقة": " ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف ككافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد" (2) . وهذا الذي قاله صحيح في الجملة، إلا في حالات خاصة يكون فيها عدم تكفير الكافر سببا في حدوث فتنة عظيمة تعم البلاد والعباد، كما هو مشاهد ومشهور في هذا العصر، فعند ذلك قد ينقلب التفضيل المذكور في كلام الغزالي، مع أن سفك دم المسلم هو- في جميع الحالات- أمر شديد الخطورة والشناعة.   (1) - رواه البخاري في الأدب-باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، برقم: 6104 (ص1178) ، ومسلم في الإيمان برقم: 60 (ص56) . (2) - نقله في الفتح: 12/372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وقد دلت أدلة كثيرة على هذا الأصل العظيم الذي ذكرته. فمنها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} . ومثل هذه الآية قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . والآيتان ظاهرتان في وجوب التبين والتثبت، وعدم التسرع في إصدار الحكم على الناس. وبالجملة، فالأدلة على هذا المعنى كثيرة جدا. أما القاعدة التي ذكرتها في النظم وهي أن" من كفر مسلما فقد كفر"، فهي قاعدة صحيحة إجمالا إذا روعي في تنزيلها على الأعيان مجموعة من القيود والتخصيصات. وأصل هذه القاعدة، قوله - صلى الله عليه وسلم -:" إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما" (1) ، وقوله كذلك:" أيما امرىء قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت" (2) ، وقوله: " من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه" (3) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" أيما رجل مسلم أكفر رجل مسلما فإن كان كافرا، وإلا كان هو الكافر" (4) .   (1) - رواه مسلم في الإيمان برقم: 60 (ص56) . (2) - رواه البخاري في الأدب-باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، برقم: 6104 (ص1178) ، ولفظ: "إن كان كما قال وإلا رجعت" عند أحمد في مسند المكثرين برقم: 4792. (3) -رواه مسلم في الإيمان برقم: 61 (57) . (4) - رواه أبو داود في السنة-باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، برقم: 4687 (2/409) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وإلى جانب هذه الأحاديث الصريحة الصحيحة، فإن تكفير المسلم فيه تكذيب بخبر الله تعالى وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ورد على الله تعالى أمره، وكفى بذلك كفرا مستبينا، وضلالا وبيلا. على أن هذا الوعيد لايلحق من اجتهد عن علم وروية، فأخطأ في تكفير أحد المسلمين، ولم يكن مكذبا بحكم الله ورسوله، ولا هازلا خائضا لاعبا. إذ مثل هذا المجتهد المخطىء داخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -:" إذا حكم الحاكم فأخطأ فله أجر" (1) ، فالتكفير لايعدو أن يكون حكما من الأحكام الشرعية. وقد حدث في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقائع كثيرة تفيد أن المجتهد المخطىء في التكفير لايحور عليه الكفر بل ولا يحاسب على خطئه. ومن الأمثلة قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنك منافق تجادل عن المنافقين"، وذلك لما ورد في كلام سعد ما يفيد مجادلته عن عبد الله بن أبي بن سلول (2) . ومنها نبز عمر بن الخطاب حاطبَ بن بلتعة بالنفاق واستئذانه رسول الله صلى الله عيه وسلم في ضرب عنقه في القصة المشهورة قبيل فتح مكة (3) ، وغير ذلك من الوقائع. والله أعلم. قلت في النظم: ويحرم التكفير بالمآل كذا الذي بلازم الأقوال كذاك تكفير بفعل محتمل غيرِ صريح في المراد لا يحل الشرح:   (1) - رواه البخاري في الاعتصام-باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ-برقم: 7352 (ص1400) ، ومسلم في كتاب الأقضية-باب النهي عن كثرة المسائل، برقم: 1716 (713) . ومعناه متواتر. (2) - في حديث الإفك الطويل الذي أخرجه البخاري في الشهادات-باب تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم: 2661 (ص504) ، ومسلم في التوبة-باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف برقم: 2770 (ص1112) . (3) - رواه البخاري في الجهاد والسير-باب: الجاسوس برقم: 3007 (ص575) ، ومسلم في فضائل الصحابة-باب من فضائل أهل بدر برقم: 2494 (ص1011) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 (ويحرم) على المسلمين (التكفير بالمآل) وسيأتي تعريفه، و (كذا) يحرم التكفير (الذي) هو (بلازم الأقوال) وسيأتي بيانه أيضا، و (كذاك ذكرت في هذين البيتين ثلاث مسائل متعلقة بموضوع التكفير وهي: التكفير بالمآل، والتكفير بلازم القول، والتكفير بالفعل المحتمل. المسألة الأولى: التكفير بالمآل. المقصود بالتكفير بالمآل هو التكفير بما يؤول إليه اللفظ، وما يرجع إليه القول، ومعنى ذلك أن يقول قولا يؤدي - عن طريق مجموعة من الوسائط الاستدلالية - إلى ما هو كفر صريح. فهذا القائل لايجوز تكفيره، إذا كان لايقول بما يؤديه إليه قوله، وهذا حال كثير من أهل البدع والأهواء، كما لايخفى على المتتبع. يقول ابن حزم رحمه الله:" وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ، لأنه كذب على الخصم، وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غيرالتناقض فقط، والتناقض ليس كفرا بل قد أحسن إذ قد فر من الكفر" (1) . ويقول الشاطبي في الاعتصام:" والذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول:" أن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال"، كيف والكافر؟ ينكر ذلك المآل أشد الإنكار، ويرمي مخالفه به" (2) . وعلى العموم، فعدم جواز التكفير بالمآل مما لاينبغي أن يقع حوله أدنى خلاف، وكل ظواهر الشرع صريحة في أن المؤاخذة لاتكون إلا بما يقع به التصريح قولا أو فعلا. ويجدر التنبيه إلى أن هذه المسألة هي غير المسألة الأخرى التي يذكرها العلماء بقولهم:" من نوى الكفر في المآل كفر في الحال"، فإن هذه الأخيرة قاعدة صحيحة، أكْثرَ أهل العلم من استعمالها والإشارة إليها فيما دونوه حول الردة وأحكام المرتد، من كتب الفقه. المسألة الثانية: التكفير بلازم القول.   (1) - الفصل: 2/269. (2) - الاعتصام: 2/197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 معنى اللازم هو ما يمتنع انفكاكه عن الشيء، واللازم البين هو الذي يكفي تصوره مع تصور ملزومه في جزم العقل باللزوم بينهما، وأما غير البين فهو الذي يفتقر جزم الذهن باللزوم بينهما إلى وسط. والحق أن الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها دقيق جدا، ويعسر إيجاد الأمثلة المبينة لهذا الفرق. لذلك لم يفرق بينهما كثير من أهل العلم، فعبروا باللازم عن المآل وبالعكس. ولكن التأمل في التعريفين اللذين ذكرت آنفا، يجعلنا نجزم بالفرق مع إقرارنا بدقته وغموضه. ولاشك أن التكفير بلازم القول نوع من الافتراء والبهتان الذي ينبغي التنزه عنه لمصادمته لبدهيات العقول، ولرواسخ القواعد الشرعية، وإن كان بعض الأصوليين يرجح أن لازم المذهب مذهب، على عادتهم في التأصيل النظري المستند على الأدلة العقلية المجردة بعيدا عن تطبيقها الفقهي الواقعي. والحق خلاف هذا القول، كما يقول الشاطبي رحمه الله:" ولازم المذهب: هل هو مذهب أم لا؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضا أن لازم المذهب ليس بمذهب، فلذلك إذا قرر عليه، أنكره غاية الإنكار" (1) . ويقول الشيخ عبد الرحمان بن ناصر السعدي رحمه الله:" والتحقيق الذي يدل عليه الدليل أن لازم المذهب الذي لم يصرح به صاحبه ولم يشر إليه، ولم يلتزمه ليس مذهبا، لأن القائل غير معصوم، وعلم المخلوق مهما بلغ فإنه قاصر، فبأي برهان نلزم القائل بما لم يلتزمه، ونقوله ما لم يقله، ولكننا نستدل بفساد اللازم على فساد الملزوم، فإن لوازم الأقوال من جملة الأدلة على صحتها وضعفها وعلى فسادها، فإن الحق لازمه حق، والباطل يكون له لوازم تناسبه " (2) .   (1) - الاعتصام: 2/549. (2) - توضيح الكافية الشافية: 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تفصيل طيب في هذه المسألة، وحاصله أنه ينبغي التفصيل بين الحالات التالية (1) : الحالة الأولى: أن يكون اللازم حقا، فهذا يجب عليه التزامه، ولا مانع من إضافته إليه إذا علم من حاله أنه لايمتنع من التزامه. الحالة الثانية: أن يكون اللازم باطلا ويلتزمه فهو يعد قولا له. الحالة الثالثة: أن يكون باطلا، فإذا ذكر له منع التلازم بينه وبين قوله، فهذا لاتجوز إضافته إليه لأن ذلك يكون كذبا عليه. الحالة الرابعة: أن يكون اللازم الباطل مسكوتا عنه، فحكمه أن لاينسب إلى القائل، لتطرق الاحتمال إلى إمكانية التزامه هذا القول. والله أعلم. المسألة الثالثة: التكفير بالفعل المحتمل الأفعال المحتملة هي الأفعال التي ليست صريحة في دلالتها على الكفر، ودخول الاحتمال فيها يسقطط الاستدلال بها على كفر صاحبها. ومن هذه الأفعال ما ذكره البخاري في صحيحه، وترجم له بقوله:" باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به الله" (2) . فمن صلى إلى القبلة وأمامه شيء مما يعبد ويشرك به كالنار والصنم والقبر، لايكفر يمجرد ذلك، حتى ينظر في قصده، هل يقصد الصلاة لله جل ذكره، أم لذلك المخلوق؟ ولما كانت هذه الأفعال المحتملة غير ظاهرة في الكفر أو عدمه، احتيج إلى ترجيح أحد الطرفين بمرجح معتبر في الشرع، كأن يُسأل الفاعل عن قصده ونيته، وهذا أظهر المرجحات وأحوطها في هذه المسائل الخطيرة التي يترتب عليها آثار وخيمة في الواقع.   (1) - انظر "نواقض الإيمان القولية والعملية": 84، مع تصرف يسير، وكلام شيخ الإسلام موجود في مجموع الفتاوى: 20/217-219 وفي 5/206-207. (2) - فتح الباري: 1/694. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 لهذا لما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن سب شريفا من أهل البيت، فقال:" لعنه الله، ولعن من شرفه"،أجاب رحمه الله:" وليس هذا الكلام بمجرده من باب السب الذي يقتل صاحبه، بل يستفسر عن قوله: من شرفه، فإن ثبت بتفسيره أو بقرائن حالية أو لفظية أنه أراد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب قتله، وإن لم يثبت ذلك ... لم يكن ذلك موجبا للقتل باتفاق العلماء" (1) . وقد تبين من هذا النقل عن شيخ الإسلام رحمه الله، أن من المرجحات التي تعين المراد من العمل المحتمل - إلى جانب تبين القصد - النظر في القرائن الحالية أو اللفظية. فإن دلت القرائن مثلا على أن مرتكب الفعل مغموص عليه في النفاق، أو متهم بالابتداع والإلحاد، أو مشار إليه بالزندقة، كان هذا مرجحا قويا لكونه أراد بفعله الكفر، وبالمقابل من كان من أهل الصلاح والتقوى، وكان مشهورا عنه مجالسة الأخيار، والمحافظة على الشرائع، وتعظيم الرب والدين، ترجح عدم إرادته الكفر بفعله المحتمل. وهذا باب طويل الذيل، عظيم النفع، مَن ضبط فروعه وتطبيقاته لم يخش على نفسه من الخطل والزلل. والله الموفق. ??? قلت في النظم: ورغم ما قلت من التحذير لاينبغي الوقوف في التكفير إذا بدا الكفر جليا وظهر من لم يكفر كافرا فقد كفر الشرح: (ورغم ما) أي الذي (قلت) آنفا (من التحذير) الشديد من التسرع في تكفير المعين، قبل التأكد من توفر الشروط وانتفاء الموانع، فإنه (لا ينبغي) أي لايجوز (الوقوف في التكفير) في حالة ما (إذا بدا الكفر جليا وظهر) معطوف على 'بدا'، وتعليل ذلك أنه (من لم يكفر كافرا فقد كفر) وهي إحدى قواعد التكفير المشهورة التي لا ينبغي استخدامها على إطلاقها، بل مع اعتبار مجموعة من القيود والتخصيصات. وقبل ذكر هذه القيود، أشير أولا إلى أن هذه القاعدة قد وردت كثيرا في كلام أهل العلم، واستعملوها في ظروف مختلفة، بل نقلوا الإجماع على صحتها.   (1) - مجموع الفتاوى: 35/197-198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:" ووسم تعالى أهل الشرك بالكفر فيما لا يحصى من الآيات فلابد من تكفيرهم أيضا، هذا هو مقتضى "لاإله إلا الله"، كلمة الإخلاص، فلا يتم معناها إلا بتكفير من جعل لله شريكا في عبادته، كما في الحديث الصحيح:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله" (1) . فقوله وكفر بما يعبد من دون الله تأكيد للنفي، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلوشك أو تردد لم يعصم دمه وماله ... " (2) . ويقول حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله صاحب كتاب "تيسير العزيز الحميد" رحمه الله: " إن كان شاكا في كفرهم أو جاهلا بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كفرهم، فإن شك بعد ذلك وتردد فإنه كافر بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر ... " (3) . وقد وردت هذه القاعدة في كلام أهل العلم القدماء، بألفاظ متقاربة، عند بيانهم خطورة بعض الأقوال والأعمال المكفرة، فتجدهم يقولون مثلا: من قال كذا أو فعل كذا فهو كافر، ومن شك في كفره أو لم يكفره فهو كافر. فمن ذلك مثلا قول محمد بن سحنون المالكي رحمه الله:" أجمع العلماء أن شاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - المنتقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر" (4) . ومنه أيضا قول ابن تيمية رحمه الله:" أما من اقترن بسبه- أي للصحابة- دعوى أن عليا إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبريل عليه السلام في الرسالة، فهذا لاشك في كفره، بل لاشك في كفر من توقف في تكفيره" (5) .   (1) - رواه مسلم في الإيمان برقم:23 (ص43) . (2) - نقله في " قواعد في التكفير": 207 عن مجموعة التوحيد. (3) - مجموعة التوحيد: 96. (4) - ذكره القاضي عياض في الشفا: 2/476. (5) - الصارم المسلول: 586. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ومستند هذه القاعدة، أن من لم يكفر كافرا وهو يعلم أن الله تعالى كفره أو أن رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - كفره بما لايحتمل تأويلا ولا إجمالا، فإنه يكون رادا لخبر الله ورسوله، وجاحدا لحكم الله وحكم رسوله، وهذا كفر بواح لاخلاف فيه بين أهل العلم كما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} . ولكن هذه القاعدة لا تنطبق في حالات معينة، من بينها: أن يكون الشخص جاهلا بحال الكافر، بأن لايعرف شيئا من حاله مطلقا، أو بأن يعرفه ولكن لا يعرف عنه وقوعه في أحد نواقض الإيمان. وهذا الفرض يتصور في الكافر المنعزل عن الناس، وغير المعلن بكفره، أما الكافر الذي يتعدى ضرر كفره إلى غيره، وتعم فتنته البلاد والعباد، فلا يتصور خفاء حاله على أحد. أن يتوقف المجتهد عن تكفير شخص معين لاعتقاده انتفاء شرط في حقه أو قيام مانع من الموانع المعتبرة. فهذا يكون توقفه داخلا في حكم الخطأ في الإجتهاد، ويكون صاحبَ أجر واحد لأجل اجتهاده. ولايخفى أن هذا لايكون إلا لمن يستفرغ جهده في طلب الحق، ولايكون متبعا لهوى أو متعصبا لمذهب. ويدخل في هذا الباب العامي الذي ليست له أهلية الإجتهاد، إذا كان مقلدا لغيره من المجتهدين المخطئين. أن يكون الفعل أو القول مختلفا فيه بين علماء الأمة. ومثاله الخلاف في حكم تارك الصلاة. فمن كان يرى كفره - وهو الصحيح كما سيأتي إن شاء الله- لايجوز له أن يكفر المخالف (1) بزعم أنه لم يكفر الكافر أو توقف في تكفيره. وبالعكس، فمن كان يرى عدم كفر تارك الصلاة- لأدلة شرعية معتبرة- لم يجز له تكفير المخالف بزعم أنه قد كفر مسلما. فهاتان القاعدتان لم يصح تطبيقهما هنا، لعدم تحقق مناطهما وهو تكذيب الله ورسوله، وجحد حكمهما.   (1) - الذي يقر بوجوب الصلاة ويلتزم بأدائها، وإلا لم يمتنع تكفيره، فتنبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وكذلك فإن هذه القاعدة- أقصد قاعدة:" من لم يكفر الكافر أو شك في كفره فهو كافر"- يمكن أن تؤدي عند -أصحاب البضاعة الضحلة في العلم- إلى الوقوع في تسلسل تكفيري خطير، بأن يكفروا من لم يكفر من كفروه، ثم يكفروا من لم يكفر من لم يكفر من كفروه، وهكذا إلى ما لا نهاية!! وهذا التسلسل شبيه بما نقله أبو الحسين الملطي عن المعتزلة، قال:" فأما الذي يكفر فيه معتزلةُ بغداد معتزلةَ البصرة فالقول في الشاك، والشاك في الشاك، ومعنى ذلك أن معتزلة بغداد والبصرة وجميع أهل القبلة لااختلاف بينهم أن من شك في كافر فهو كافر (1) ، لأن الشاك في الكفر لا إيمان له، لأنه لايعرف كفرا من إيمان، فليس بين الأمة كلها - المعتزلة ومن دونهم - خلاف أن الشاك في الكافر كافر، ثم زاد معتزلة بغداد على معتزلة البصرة أن الشاك في الشاك، والشاك في الشاك إلى الأبد إلى مالا نهاية له كلهم كفار وسبيلهم سبيل الشاك الأول " (2) . وهذا آخر ما أذكره في قواعد التكفير وضوابطه، ثم أنتقل إلى الكلام على بعض أشهر نواقض الإيمان، ومن الله التوفيق. الباب الرابع: نواقض الإيمان قلت في النظم نواقض الإيمان ليست تحصر فلتحفظن منها الذي سأذكر إذ علمنا بهذه النواقض على الجميع أعظم الفرائض الشرح: (نواقض الإيمان) وهي الأمور المكفرة المخرجة لصاحبها من ملة الاسلام (ليست تحصر) بِعَد ولا إحصاء، ولا بجمع ولا استقصاء، ولما كان الأمر كذلك (فلتحفظن منها) يا أخا السنة (الذي سأذكر) هـ، لشدة أهميته وعموم الابتلاء به، (إذ علمنا) نحن معاشر المسلمين (بهذه النواقض) على سبيل الإجمال لجميعها، والتفصيل لبعضها، هو (على الجميع أعظم) خبر المبتدأ (الفرائض) والواجبات العينية، وذلك لأن العلم بهذه النواقض يعصم المسلم من الوقوع في خطرين شرعيين عظيمين:   (1) - تأمل نقله الإجماع على صحة القاعدة التي نحن بصددها. (2) - التنبيه والرد: 40-41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أولهما: ارتكاب هذه النواقض أو شيء منها، ومعنى ذلك انتقاض عقد الإيمان، والوقوع في الردة الصريحة، نسأل الله السلامة والعافية. ولا شك أن معرفة التوحيد وضبط ما ينافيه ويناقضه، هو أعظم الواجبات العينية، وينبغي الاعتناء به قبل غيره من تفاصيل الشرائع ودقائق الفقه، خلافا لحال أكثر الناس في هذا العصر، إذ تجدهم يدققون في معرفة تفاصيل الطهارة والصلاة والصيام وما أشبه ذلك – هذا إن كانوا ملتزمين إجمالا بشرع الإسلام غير معرضين عنه ولا صادين – وهم لا يعرفون من مسائل التوحيد شيئا يذكر. وهذا انتكاس خطير في فقه الأولويات، وفهم مبتدع لدين الإسلام. وثانيهما: عدم التفريق بين مرتكب بعض هذه النواقض وبين غيره ممن يحافظون على توحيدهم ولا يأتون شيئا من هذه الأمور المكفرة، وبعبارة أخرى الخلط بين المسلم والكافر، واللبس في أحكام التعامل مع كل منهما. وهذا أمر قد عم بين صفوف المنتسبين إلى "الحركة الاسلامية" نفسها، فضلا عن غيرهم!! وغير خاف على من له أدنى إلمام بدين الاسلام، أن الشرع الحنيف قد فصل فصلا حقيقيا واضحا بين المسلم والكافر سواء في أحكام الدنيا أو أحكام الآخرة، وما زال الفقهاء يلهجون في مصنفاتهم بذكر هذه الأحكام الدنيوية المتباينة في النصرة والموالاة والمحبة والتناصح والتناكح والتوارث والدفن والصلاة والوَلاية وغير ذلك. وكل هذه الأحكام وغيرها، لا تجد سبيلها إلى التطبيق، عند غياب العلم بنواقض الإيمان، وبقواعد التكفير وضوابطه التي سبق تفصيلها في الفصل الثالث. وسوف أقوم في هذا الفصل بالكلام على أخطر نواقض الإيمان التي عمت بها البلوى في هذه الأعصار، وأرتبها حسب الترتيب التالي (1) :   (1) - استفدت هذا الترتيب من كتاب " نواقض الإيمان القولية والعملية " لعبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، وهو كتاب جامع في هذه المسائل، وقد نهلت منه – غيرَ الترتيب – أمورا أخرى كثيرة سأشير إليها في مواضعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 نواقض الإيمان في الربوبية نواقض الإيمان في الاسماء والصفات نواقض الإيمان في الالوهية نواقض الإيمان في النبوات والمغيبات والأمور أخرى. وينبغي أن يتنبه القارئ إلى أن ما سأذكره في هذا الفصل هو كله من باب التكفير على العموم، أما تكفير الشخص المعين الواقع في أحد هذه النواقض فيخضع للقاعدة المذكورة في الفصل السابق. وهذا أوان الشروع في المقصود. الفصل الأول: نواقض الإيمان في الربوبية: قلت في النظم: فجعل بعض أوجه التدبير لمن سوى المهيمن الخبير شرك، كإنكار وجود الصانع أو ادعاء خالق مضارع الشرح: (فجعل بعض أوجه التدبير) والتصرف في الكون (لمن) هو (سوى المهيمن) على المخلوقات كلها (الخبير) بما يصلح الخلق، وهو الله جل جلاله، (شرك) خبر المبتدأ (كإنكار) التشبيه لإفادة الحكم (وجود الصانع) سبحانه وتعالى، (أو ادعاء) وجود (خالق) غير الله عز وجل (مضارع) أي مساو من كل وجه واعتبار للباري جل ثناؤه، وليس احترازا كما قد يتبادر، إذ كل من أثبت شيئا من الخلق على سبيل الإيجاد من العلم - ولو قليلا - لغير الله عز وجل، كان مشركا. وأقسم الكلام على هذين البيتين إلى المباحث التالية: المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 تنوعت عبارات العلماء في تعريف لفظ " الرب " وتعريف توحيد الربوبية. أما أهل اللغة فجعلوا لفظة "الرب" تدور على معان ثلاثة (1) : المالك ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " فذرها حتى يلقاها ربها" (2) ، والسيد المطاع ومنه ما جاء في الحديث: " أن تلد الأمة ربها " (3) أي سيدها، والمصلح للشيء المدبر له، قال الراغب الاصبهاني: "الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام" (4) . وانطلاقا من هذه المعاني اللغوية، قال ابن جرير الطبري: " فربنا جل ثناؤه: السيد الذي لا شبه له، ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر" (5) . وهذا أجمع ما وقفت عليه في تعريف الرب، مع مراعاته الأصول اللغوية للكلمة. وقد يأتي بعض أهل العلم بتعريفات أخرى تركز على أحد المعاني الثلاثة المتقدمة دون غيرها، كما في قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " الرب هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها" (6) ، وفيه إشارة إلى الترابط بين الربوبية والألوهية كما سيأتي.   (1) - أنظر لسان العرب وتاج العروس. (2) - رواه البخاري في العلم-باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره برقم: 91 (ص43) ومسلم في اللقطة برقم: 1722 (ص716) . (3) - رواه البخاري في الإيمان برقم: 50 (ص33) ، ومسلم في الإيمان برقم: 1 (ص36) . (4) - المفردات: 190. (5) - جامع البيان: 1/92. (6) - مجموع الفتاوي:1/22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 أما توحيد الربوبية فيعرفه الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "هو الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه، وأنه المحيي المميت، النافع الضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء (1) ليس له في ذلك شريك، ويدخل في ذلك الإيمان بالقدر" (2) . وهذا التعريف على طوله، ليس جامعا لكل مسائل توحيد الربوبية. وأفضل منه أن يقال: " هو إفراد الله تعالى بالخلق والحكم الكوني والشرعي "، فيكون هذا التوحيد مشتملا على أركان ثلاثة: إفراد الله بالخلق كما في قوله تعالى: {قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وغير ذلك من الآيات. وهذا الركن الأول يتضمن مراتب ثلاثة: إثبات وجود الصانع، وهذا أمر لا يخالف فيه إلا عتاة الملاحدة المتعمقون في الكفر. إثبات كون الله تعالى متصفا بالخلق الأول أي خلق السماوات والأرض ومن فيها، والخلق الثاني وهو البعث كما في قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهذا المعنى كونه جل ذكره هو المبدئ المعيد والمحيي المميت. نفي وجود خالق غير الله سبحانه وتعالى. إفراد الله بالحكم الكوني ويشمل جميع أنواع القضاء والتدبير والملك والتصرف، فالله عز وجل يحكم في خلقه بما يشاء، ويدبرهم بمقتضى حكمته، ويتصرف فيهم وفق مشيئته، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. وهذا باب واسع جدا، ومن ضمن ما يشتمل عليه الإيمان بقضاء الله وقدره، وخلقه لأفعال عباده.   (1) - لو قال رحمه الله: " القادر على كل شيء" لكان أصوب، وإن أمكن توجيه قوله بنوع تكلف. (2) - تيسير العزيز الحميد: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 إفراد الله بالحكم الشرعي ومعناه أنه لا يملك حق التشريع أي التحليل والتحريم إلا الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ، وكما دل عليه قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ، فجعل المشرعين من المخلوقين في منزلة الشركاء الذين ينازعون الله في ربوبيته. وإذا تبين معنى توحيد الربوبية والأركان الداخلة في ماهيته، فإن انتفاء أي ركن من هذه الأركان يعد ناقضا من نواقض الإيمان في الربوبية. وهذا ما سوف أقوم بشرحه في المباحث التالية، على أنني سأؤجل الكلام على إنكار البعث إلى باب الغيبيات، والكلام على شرك التشريع إلى باب شرك التحاكم لوجود المناسبة بين هذه المسائل. المبحث الثاني: شرك التعطيل: وهذا هو المشار إليه في النظم بقولي: كإنكار وجود الصانع". واعلم أن هذا الشرك، قل من قد وقع فيه قديما وحديثا، لأن الإقرار بوجود رب صانع لهذا الكون، أمر مركوز في الفطر، لا يقدر أحد – كائنا من كان – أن يدفعه عن نفسه. لذلك لم ينسب أهل العقائد، والمصنفون في الملل والنحل، هذا الشرك إلى طائفة معينة من الناس. وأما وقوع فرعون في هذا الشرك، كما في قوله – فيما حكاه الله عنه في كتابه -: {أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى} وقوله {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، فقد كان منه مكابرة، وغلوا في اللجاج والخصام كما دل على ذلك قوله تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، وما حكاه الله جل ذكره عن موسى إذ يقول لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاء إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وبالجملة، فإثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى، أمر أرشدت إليه الفطرة السليمة، ودلت عليه آيات الكون وأسرار الخلق؛ فلا يحتاج في البرهنة عليه إلى الأدلة العقلية المحضة، والأقيسة المنطقية التي لا يهتدي إلى غوامض دقائقها إلا دهاقنة علم الكلام، وجهابذة فنون العقليات. هذا مع كون هذه الأدلة منقوضة على أصحابها بأدلة عقلية مثلها أو أقوى منها!! فهل من خسران أعظم، وخذلان أشد من أن يفني العالم عمره كله في إيراد الأدلة العقلية المثبتة لوجود الصانع عز وجل، ثم لا يخرج من ذلك كله بغير الشك والحيرة والضلال؟! نسأل الله الثبات على دين الإسلام. المبحث الثالث: الشرك في الربوبية على سبيل التشريك ومعناه إثبات وجود خالقين غير الله عز وجل، وهو المشار إليه بقولي في النظم: "أو ادعاء خالق مضارع". وهذا النوع الثاني أكثر من الأول، وأشهر أصحابه المجوس الثنوية، الذين يثبتون إلهين اثنين: إله النور وإله الظلمة، ويجعلون إله النور هو خالق الخير، وإله الظلمة هو خالق الشر. ومع إثباتهم لخالقين اثنين، فإنهما عندهم غير متساويين مطلقا، بل النور أفضل من الظلمة من اعتبارات متعددة. وأما مجوس هذه الأمة – كما ورد بذلك الحديث (1) - فهم القدرية نفاة القدر، فإنهم يزعمون أن الله جل ثناؤه لم يخلق كفر الكافر ولا معصية العاصي، وإنما الكافر نفسه خلق كفره، والعاصي خلق معصيته. فأشبهوا المجوس في تشريكهم غير الله تعالى معه في الخلق، وزادوا عليهم في الضلال، إذ لم يكتفوا مثلهم بإثبات شريك واحد في الخلق، بل جعلوا كل المخلوقين خالقين!!.   (1) رواه أبو داود في السنة-باب في القدر برقم: 4692 (2/410) ، وأحمد في باقي مسند الأنصار برقم: 22359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أما أهل السنة فيجعلون أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، كما دل عليه قوله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله خالق كل صانع وصنعته " (1) . وعلى هذا مضى إجماعهم، واستقر عقدهم. وليس هذا محل تفصيل هذه المسألة. المبحث الرابع: الشرك في التدبير والتصرف وهذا أساس الشرك في الربوبية، وأكثر أنواعه وقوعا في المنتسبين إلى هذه الأمة، خصوصا في الأعصار المتأخرة التي فشا فيها الجهل والابتداع. وإذا كان توحيد الربوبية يتضمن إفراد الله عز وجل بالتدبير والملك والتصرف كما سبق بيانه، فإن اعتقاد امتلاك أحد المخلوقين لنوع من أنواع التدبير يعد ناقضا من نواقض الايمان الجلية. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقال أيضا: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} والآيات في هذا المعنى أكثر من أن تحصر. وقد استشرى هذا النوع من الشرك في طائفتين من هذه الأمة: الصوفية والروافض.   (1) رواه من حديث حذيفة البخاري في خلق أفعال العباد-برقم: 92 (ص33) وابن أبي عاصم في السنة برقم: 357 (ص158) ، والحاكم وصححه على شرط مسلم، والبزار كما في المجمع (7/200) ، وصححه الألباني في الصحيحة برقم: 1637 (4/181) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أما الصوفية فقد جعلوا للأولياء مراتب، وابتدعوا لكل منها لقبا خاصا، فمنهم الأقطاب والأئمة والأوتاد والأبدال والنقباء والنجباء وغيرهم، ثم أسندوا لهؤلاء الأولياء أنواعا من التصرف في الكون مما لا ينبغي لغير الله عز وجل. يقول أحدهم: " ومنهم الشيخ عبد الله أحد أصحاب سيدي عمر النبيتي كتب لي أنه رآني بحضرة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وهو يقول للإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ألبس عبد الوهاب الشعراني طاقيتي هذه وقل له يتصرف في الكون فمادونه مانع" (1) . ويقول أيضا: " عبيد أحد أصحاب الشيخ حسين كان له خوارق مدهشة ومنها أنه كان يأمر السحاب أن يمطر فيمطر لوقته وكل من تعرض له بسوء قتله في الحال، دخل مرة الجعفرية فتبعه نحو خمسين طفلا يضحكون عليه، فقال: يا عزرائيل إن لم تقبض أرواحهم لأعزلنك من ديوان الملائكة، فأصبحوا موتى أجمعين، وقال له بعض القضاة: اسكت فقال له: اسكت أنت فخرس وعمي وصم ... " (2) . والأحاجي والروايات من هذا النوع كثيرة جدا (3) . وأما الروافض فيسندون التصرف والتدبير لأئمتهم المعصومين، ويرفعونهم فوق مرتبة البشرية، وأكتفي للاستشهاد على هذا المعتقد الخبيث عندهم، بأن أنقل كلاما لواحد من أئمتهم – قد اغتر به كثير من الناس -: " إن للإمام مقاما محمودا ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون ". ويقول أيضا: " وإن من ضرورات مذهبنا أن لائمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل " (4) .   (1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني كما في "مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية" لمحمد ادريس: 2/631. (2) نفس المرجع: 2/634. (3) أنظر بعضها في كتاب " مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية " ادريس محمد ادريس (2/629 وبعدها) . (4) نقله عبد الله القرني في ضوابط التكفير: 104 عن الحكومة الإسلامية للخميني: 47-48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وإلى جانب هذه الأنواع من شرك الربوبية التي ذكرت هنا، هنالك أمثلة أخرى سوف أتطرق لها في الصفحات التالية. قلت في النظم: أو اعتقاد وحدة الوجود وذي مقالة أولي الجحود كذاك قول معشر الإلحاد من شيعة الحلول واتحاد الشرح: (أو اعتقاد) عطف على " إنكار" المذكور في البيت السابق (وحدة الوجود) وسيأتي معناها، (وذي مقالة أولي) أي ذوي (الجحود) إذ لا فرق - عند التحقيق - بين منكر وجود الخالق عز وجل، وبين من يزعم أن الخالق هو عين المخلوق! (كذاك) يعد ناقضا للإيمان (قول معشر) أي جماعة (الإلحاد من شيعة الحلول) والـ (اتحاد) وسيأتي تعريفها. إعلم أن مذهب الحلول والاتحاد من أفسد المذاهب التي حدثت في هذه الأمة، والتبس أمر بعض القائلين به على بعض علماء المسلمين، قبل أن يتبينوا حقيقة هذا المذهب وشدة إغراقه في الكفر والزندقة. وأساس هذا المذهب - على كثرة تفريعاته - جعل الرب هو العبد حقيقة. ثم هم إما يقولون بحلوله فيه، أو اتحاده به، وعلى التقديرين فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق، أو عاما في كل الخلق، فالأقسام إذن أربعة: (1) القسم الأول: الحلول الخاص، ومعناه حلول الرب - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - في مخلوق معين خاص، وهذا قول النسطورية من النصارى القائلين بحلول اللاهوت في الناسوت كحلول الماء في الإناء، وقد وافقهم في هذه الأمة غلاة الروافض الذين يقولون إنه حل في علي بن أبي طالب وأئمة آل البيت، وغلاة المتصوفة الذي يقولون بالحلول في الأولياء أو بعضهم كالحلاج وغيره. القسم الثاني: الاتحاد الخاص وهو قول يعقوبية النصارى القائلين بأن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافقهم من الغلاة في هذه الأمة.   (1) انظر هذا التقسيم في مجموع الفتاوي (2/171 ومابعدها) ، وفي مواضع أخرى، ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى مع الحلوليين والاتحاديين، صولات وجولات مشهورة في عامة كتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 القسم الثالث: الحلول العام وهو قول الجهمية المتقدمين – ومن وافقهم من المتأخرين – الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان!! وهذا المذهب باطل من وجوه متعددة لا سبيل إلى بيانها في هذا الموضع، لئلا أخرج عن المقصود. ويمكن الرجوع في هذه المسألة بالذات – أعني مسألة إثبات علو الله عز وجل والرد على الجهمية في بدعتهم الحلولية – إلى كتاب العلو للعلي الغفار للحافظ الذهبي (1) ، وكتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" للعلامة ابن القيم، وغيرها. القسم الرابع: الاتحاد العام، وهو قول أهل وحدة الوجود، وهو مذهب خبيث يزعم أصحابه أن الخالق عين المخلوق، وهم - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – أكفر من اليهود والنصارى من وجهين (2) : إن الرب عند النصارى يتحد بعبده المخصوص المقرب والمصطفى بعد أن لم يكونا متحدين وأما أهل وحدة الوجود فيقولون إن الرب مازال متحدا بالعبد!! ثم النصارى خصوا ذلك بالمسيح، وأما هؤلاء فجعلوه في الكون كله، حتى الأنتان والكلاب والخنازير والقاذورات وغير ذلك. ويقول العلامة علي القاري رحمه الله: " ثم اعلم أن القول بالحلول والاتحاد الموجب لحصول الفساد والإلحاد شر من المجوس والثنوية والمانوية القائلين بالأصلين النور والظلمة" (3) ، وبعد أن بين وجه ذلك قال: "وكذا شر من النصارى القائلين بالتثليت فإنهم متفقون على أن صانع العالم واحد ويقولون باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد فقولهم في التثليت مناقض في نفسه وقولهم في الحلول أفسد منه بحسب أصله" (4) . وحقيقة مذهبهم زعمهم بأنه ليس هناك موجود إلا الله فليس غيره في الكون، وما هذه الأشياء التي نراها في الكون إلا مظاهر لحقيقة واحد هي الحقيقة الإلهية.   (1) اختصره الشيخ الألباني رحمه الله اختصارا نافعا. (2) انظر مجموع الفتاوي (2/172) (3) من رسالة له في الرد على القائلين بوحدة الوجود (ص: 38) ، وهي على الجملة رسالة نافعة في بابها. (4) - نفس المرجع: 38-39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 يقول ابن سبعين - أحد رؤوس هذا المذهب -: " الله لا اسم له إلا الاسم المطلق أو المفروض فإن قلت نسميه بما سمى به نفسه أو نبيه يقال لك: من سمى نفسه "الله" قال لك: إن كل شيء وجميع من تنادي أنا" (1) . وابن سبعين هذا، هو عبد الحق بن ابراهيم الاشبيلي المرسي الذي يقول عنه ابن دقيق العيد: " جلست مع ابن سبعين من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يسرد كلاما ما تعقل مفرداته ولا تعقل مركباته" (2) . وأشهر أرباب وحدة الوجود محيي الدين ابن عربي الحاتمي (3) صاحب فصوص الحكم والفتوحات المكية، وكلامه في الإلحاد والزندقة أشهر من أن ينكر، وأظهر من أن يؤول. فمن ذلك قوله في فتوحاته: "سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها"، قال القاري معلقا: " وهذا كما ترى مخالف لجميع أرباب النحل والملل الإسلامية وموافق لما عليه الطبيعية والدهرية " (4) . ويقول ابن عربي أيضا في فصوصه: " ... فقل في الكون ما شئت، إن شئت قلت: هو الخلق وإن شئت قلت: هو الحق، وإن شئت قلت: هو الحق الخلق، وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه وإن شئت قلت بالحيرة" (5) . فتأمل هذا الكفر والاضطراب الذي ينطق به من يسمى عند عامة المتصوفة بالإمام الأكبر والكبريت الأحمر!! ويقول هذا الرجل في شعر له مسوغا عقيدة وحدة الأديان: لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالدين ديني وإيماني (6)   (1) رسائل ابن سبعين: 184 بواسطة" مظاهر الانحرافات العقدية": 1/248. (2) - لسان الميزان: 4/223. (3) انظر في ترجمته وكلام العلماء فيه جزءا خاصا للشيخ محمد بن أحمد تقي الدين الفاسي، بتحقيق علي عبد الحميد. (4) الرد على القائلين بوحدة الوجود: 21. (5) - فصوص الحكم:113 بواسطة الانحرافات العقدية: 1/241. (6) - فصوص الحكم: 345 بواسطة الانحرافات العقدية: 1/278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وبالجملة، فأقوال ابن عربي التي تصب في مسيل الإلحاد والزندقة كثيرة جدا. لذلك تواطات كلمة العلماء الذين خبروا مذهبه واطلعوا على حقيقة مقالاته، على التحذير من كتبه، والتنبيه على ضلالاته. فمن ذلك ما نقله الشيخ تقي الدين الفاسي عن الحافظ بن حجر رحمه الله أنه قال: إنه ذكر لشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني شيئا من كلام ابن عربي المشكل، وسأله عن ابن عربي، فقال له البلقيني: هو كافر. (1) ولما سئل عنه الشيخ محمد بن عرفة الورغمي المالكي رحمه الله قال ما معناه: من نسب إليه هذا الكلام، لا يشك مسلم منصف في فسقه وضلاله وزندقته (2) . وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: سألت ابن عبد السلام عن ابن عربي، فقال: "شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا" (3) . وقال تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي رحمه الله: " ... ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين، كابن العربي وأتباعه، فهم ضلال جهال، خارجون عن طريقة الإسلام، فضلا عن العلماء" (4) . أما كلام شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله عن ابن عربي وأمثاله، فكثير جدا، وشديد العمق والوضوح. وإنما أطلت بعض الشيء في الكلام على ابن عربي - مع أن له في مذهبه أضرابا كثيرين من أمثال بن الفارض والجيلي وغيرهم - لأننا صرنا نسمع في الآونة الأخيرة بعض الدعوات الإلحادية يقودها علمانيون متسترون بدثار الصوفية، غايتها إعادة إحياء عقيدة ابن عربي وكتبه بعد أن كادت تندثر. وصرنا نرى المنتديات واللقاءات تعقد في ذكرى "شهداء الفكر الإسلامي الحر" و"حملة لواء التنوير في التاريخ الإسلامي" ويقصدون بذلك ابن عربي والحلاج وأضرابهما!!   (1) جزء في عقيدة ابن عربي وحياته: 39. (2) تفس المرجع: 40. (3) نقله تقي الدين الفاسي في جزئه المذكور آنفا: 45. (4) نفس المرجع: 55 وفيه أقوال أخرى لعلماء آخرين في هذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وأما أهل العلم ففي غفلة لاهون، قد انشغلوا ببعضهم البعض عن أعداء الملة وخصوم الدين، حتى استأسد الضبع واستنسر البغاث، ونطق الرويبضة. خلا لك الجو فبيضي واصفري ... ... ... ونقري ما شئت أن تنقري والله المستعان. قلت في النظم: كذا ادعاء قدم الأكوان أو سب رب العالم الديان الشرح (كذا) أي أن من نواقض الإيمان المتعلقة بالربوبية (ادعاء قدم الأكوان) جمع كون وهو العالَم، (أو سب) معطوف على "ادعاء" (رب العالم الديان) نعت لرب، وهو من أسماء الله الحسنى ومعناه القول بقدم العالم: هذه البدعة المنكرة التي أحدثها الفلاسفة المتأرجحون بين شريعة الرحمان وزندقة اليونان، تناقِض توحيد الربوبية بشكل واضح، إذ حقيقتها إنكار وجود الصانع، الخالق للكون، المتقدم عليه، كما جاء في الحديث: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء" (1) . ومعناه عندهم أن العالم ما زال موجودا مع الله تعالى، ومعلولا له، ومساوقا له مساوقة المعلول للعلة، غير متأخر عنه في الزمان. ويتضمن هذا القول أن الله تعالى علة تامة مستلزمة للعالم، والعالم متولد عنه تولدا لازما بحيث لا يمكن أن ينفك عنه. (2) وهذا القول باطل عقلا وشرعا، لذلك أجمعت طوائف الملل كلها على بطلانه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "القول بقدم العالم قول اتفق جماهيرالعقلاء على بطلانه، فليس أهل الملة وحدهم تبطله، بل أهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين: - مشركي العرب، ومشركي الهند وغيرهم من الأمم، وجماهير أساطين الفلاسفة كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، بل وعامتهم معترفون بأن الله خالق كل شيء" (3) .   (1) رواه البخاري في بدء الخلق برقم: 3191 (ص613) . (2) نواقض الإيمان القولية والعملية: 98. (3) مجموع الفتاوى: 5/565. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والقول بقدم العالم نوع من أنواع التعطيل للرب الخالق سبحانه وتعالى. قال شيخ الإسلام رحمه اله: " وأما جعل المفعول المعيَّن مقارنا للخالق أزلا وأبدا فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارنا لمفعوله أزلا وأبدا مخالف لصريح المعقول" (1) . لذلك كان الجمع بين هذا القول وبين الانتساب إلى دين الإسلام أمرا في غاية التناقض. يقول ابن تيمية رحمه الله: " ... فلهذا لا يوجد في عامة كتب الكلام المتقدمة القول بقدم العالم إلا عمن ينكر الصانع، فلما أظهر من أظهر من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله أن العالم قديم عن علة موجبة بالذات قديمة، صار هذا قولا آخر للقائلين بقدم العالم، أزالوا به ما كان يظهر من شناعة قولهم من إنكار صانع العالم، وصاروا يطلقون الفاظ المسلمين من أنه مصنوع ومحدث ونحو ذلك، ولكن مرادهم بذلك أنه معلول قديم أزلي، لا يريدون بذلك أن الله أحدث شيئا بعد أن لم يكن، وإذا قالوا إن الله خالق كل شيء فهذا معناه عندهم" (2) . وكذلك، فإن القول بصدور هذا العالم عن الخالق سبحانه وتعالى صدورَ المعلول عن العلة، والمعلول عندهم متولد عن علته، هو من التنقص القبيح لله جل ذكره، بل هو أشنع من قول مشركي العرب: إن الملائكة بنات الله.   (1) مجموع الفتاوى: 18/228. (2) مجموع الفتاوى: 5/539. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وليعلم بأن هذا القول قد كثر أصحابه في هذا الزمان الذي انحسرت فيه المفاهيم الدينية أمام معاول الحضارة الغربية المادية. فكثر لغط الدهريين والطبيعيين الذين يزعمون أن الكون مازال موجودا وأنه لا خالق له ولا صانع!! والله المستعان (1) . سب الله عز وجل أو الاستهزاء به سبحانه وتعالى: هذه المسألة في مجتمعاتنا هي الطامة العظمى والداهية الشؤمى، التي عمت وانتشرت في بلادنا التي تدعي الانتساب إلى الإسلام مع أن أساس هذا الدين هو تعظيم الله عز وجل وتوقيره وإجلاله، وهذا لا يمكن أن يجتمع بحال مع سبه أو الاستهزاء به. يقول ابن تيمية رحمه الله عن السب: "فهو إهانة واستخفاف، والانقياد للأمر إكرام وإعزاز، ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم، أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة، امتنع أن يكون فيه انقياد واستسلام" (2) . وتأمل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} . قال ابن تيمية رحمه الله: " وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته وبرسوله كفر، فالسب المقصود بطريق الأولى" (3) .   (1) وقد تلقى هؤلاء ضربة قاصمة بعد ثبوت بعض الحقائق العلمية الأخيرة المؤكدة لنظرية "الانفجار الكبير" المبنية على أن الكون قد وجد بعد عدم وأنه مازال في ازدياد وتوسع. والحق أن في آيات القرآن وأحاديث السنة، غنية وكفاية لكل منصف، ولكن البعض لا يقنع بغير براهين العلم الحديث، وهذا في حد ذاته من أعظم الهزائم النفسية التي تعاني منها الأمة. (2) - الصارم المسلول: 519. (3) - الصارم المسلول: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وقد أخبر الله عز وجل في الآية بأنهم كفروا بعد إيمانهم، مع زعمهم أنهم إنما كانوا يخوضون ويلعبون، فبيَّن ذلك أنهم كفروا بسبب قولهم واستهزائهم وخوضهم، لذلك فإن نفس سب الله تعالى كفر لذاته، بغض النظر عن الاعتقاد والاستحلال. ولخص شيخ الإسلام رحمه الله هذا المعنى بقوله: " إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلا، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل (1) . أقول: فمن خالف في هذا الأصل واشترط الاستحلال أو الاعتقاد القلبي للتكفير بسب الله أو سب رسوله أو الاستهزاء بالدين، فقد خرج من مذهب أهل السنة إلى مذهب المرجئة، وليس ينفعه انتسابه إلى السلف الصالح رضوان الله عليهم، إذ لا يعدو هذا الانتساب أن يكون دعوى ليس له عليها بينة: والدعاوى ما لم تقيموا عليها ... ... ... بينات أبناؤها أدعياء. ويقول الإمام اسحاق بن راهويه رحمه الله: " قد اجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام ... أنه كافر بذلك، وإن كان مقرا بما أنزل الله" (2) . بل إن سب الله عز وجل أعظم من مجرد الشرك به. يقول ابن تيمية معلقا على قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} : "ألا ترى أن قريشا كانت تقاره عليه الصلاة والسلام على ما كان يقوله من التوحيد وعبادة الله وحده، ولا يقارونه على عيب آلهتهم، والطعن في دينهم، وذم آبائهم، وقد نهى الله المسلمين أن يسبوا الأوثان، لئلا يسب المشركون الله، مع كونهم لم يزالوا على الشرك، فعلم أن محذور سب الله أغلظ من محذور الكفر به " (3)   (1) الصارم المسلول: 451. (2) الصارم المسلول: 4. (3) الصارم المسلول: 557. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وقد أجمع أهل العلم على أن سب الله عز وجل أو الاستهزاء به كفر جلي، وأن صاحبه مرتد شقي، خارج عن ملة الإسلام. وقد سبق أن نقلت قول ابن راهويه وابن تيمية في نقل هذا الإجماع، وأضيف هنا ما يلي من أقوال العلماء. قال القاضي عياض رحمه الله: " لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم" (1) . وقال ابن حزم رحمه الله: " وأما سب الله تعالى، فما على ظهر الأرض مسلم يخالف انه كفر مجرد " (2) . وسئل ابن أبي زيد القيرواني الملقب بمالك الصغير عن رجل لعن رجلا ولعن الله، فقال: إنما أردت أن ألعن الشيطان فزل لساني. فأجاب: يقتل بظاهر كفره ولا يقبل عذره، وأما فيما بينه وبين الله فمعذور" (3) . وهذا الجواب - كما ترى - شديد، ولعل وجهَه الرغبةُ في سد هذه الذريعة التي يمكن أن يتذرع بها كل من وقع في هذا الكفر البواح. وفي هذا الجواب أيضا ما لا يخفى من تعظيم الله والتشديد في حقوقه على عباده، وتغليظ عقوبة من هونت عليه نفسه التجرأ على مقام الله الأعظم. وأقول: كم في مجتمعاتنا من الذين حق عليهم القتل بمقتضى هذه الفتوى المالكية؟! وبالجملة فأقوال أهل العلم وإجماعاتهم في هذا الباب كثيرة، وواضحة في المقصود (4) . الفصل الثاني: نواقض الإيمان في الأسماء والصفات قلت في النظم: هذا ومن أعاظم الأهواء شركُ ذوي الإلحاد في الأسماء ومثله الإنكار للصفات مما أتى في واضح الآيات تشبيهُ رب العرش بالخلائق والعدل بالوصف عن الحقائق الشرح:   (1) - الشفا: 2/582. (2) - المحلى: 12/435. (3) - الشفا: 2/583. (4) انظر طرف صالحا منها في "نواقض الايمان القولية والعملية " (112 وما بعدها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 (هذا ومن أعاظم) جمع أعظم (الأهواء) جمع هوى وهو ما تهواه النفس وتميل إليه، وهو أحد الطواغيت التي تعبد من دون الله، كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (شركُ ذوي الإلحاد في الأسماء) وسيأتي معناه (ومثله الإنكار للصفات) أي صفات الله عز وجل (مما أتى في واضح الآيات) القرآنية أو في الأحاديث النبوية. ومن أنواع الكفر في هذا الباب أيضا (تشبيه رب العرش) سبحانه وتعالى (بالخلائق و) كذلك (العدلُ) وهو الميل والجنوح (بالوصف) أي صفة الله عز وجل (عن الحقائق) إلى أنواع المجازات، وهذا العدل هو المسمى اصطلاحا بالتأويل، وليس كل تأويل كفرا، بل ينبغي التفصيل كما سيأتي. يعتبر باب الأسماء والصفات من أعظم ما وقع فيه التنازع بين طوائف المنتسبين إلى القبلة طول تاريخ هذه الأمة من الوقت الذي نشأت فيه بذرة الخلاف في هذا الموضوع زمن اتباع التابعين إلى عصرنا الحاضر. وإذا كانت المذاهب البدعية الأولى – مثل الجهمية والمعتزلة – قد كادت تنقرض ويندثر تأثيرها على الأمة، فإن مذهب الأشاعرة – ومثلهم الماتريدية – قد استطاع أن ينشر طيلسانه على الأمة الإسلامية كلها – حكاما ومحكومين، عامة وعلماء – منذ القرن الرابع الهجري إلى بدايات القرن الرابع عشر، قبل أن تبدأ الدعوات السنية في النشأة والنمو، نسأل الله لها التوفيق والسداد. وقد أدى انتشار المذهب الأشعري – كما ذكرت – إلى جانب كونه ينتسب إلى السلف الصالح ولو بالجملة، وكونه يضم في صفوفه كثيرا من أهل العلم والفضل، إلى التباس كثير من المفاهيم العقدية إجمالا، وفي باب الأسماء والصفات على الخصوص، في عقول كثير من الناس، فأصبحوا يخلطون بين مذهب الأشاعرة ومذهب أهل السنة والجماعة، مع أن بينهما فرقا قد يدق في بعض المسائل حتى يتوحد المذهبان، وقد يتسع ويعظم في مسائل أخرى كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 لذلك كان أول ما ينبغي أن يعتني به المؤلفون في أبواب العقائد وعلى الخصوص منها الأسماء والصفات، إبراز حقيقة الخلاف بين أهل السنة والأشاعرة، قبل غيرهم من الفرق الأخرى التي لم تعد أباطيلها تنطلي إلا على مرضى القلوب وأهل العداء الدفين للإسلام. أما أنا في هذا المبحث، فسوف أكتفي – نظرا لضيق المقام – بالإشارة على وجه الإجمال إلى أهم نواقض الإيمان في باب الأسماء والصفات، دون الخوض في التفاصيل التي محلها كتب العقائد الجامعة، وعلى الخصوص منها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى (1) . وقبل ذلك، فإني أشير إلى أن مذهب أهل السنة الجماعة في هذا الباب، انهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وما اثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بلا تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. فأهل السنة إذن وسط بين المعطلة والمشبهة، وكلامهم في الصفات مفرع عن كلامهم في الذات، لذلك فكما أن إثباتهم للذات هو إثبات وجود لا إثبات تكييف، فإن كلامهم عن الصفات إنما هو في الإثبات لا التكييف. فهم لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله. وعليه فإن من نواقض الإيمان ما يلي: الإلحاد في أسماء الله الحسنى:   (1) وأخص من هذه الكتب "العقيدة الواسطية" و" الرسالة التدمرية " و" الفتوى الحموية الكبرى" وهي لابن تيمية رحمه الله، و"الصواعق المرسلة" (أو مختصرها) والقصيدة النونية لابن القيم رحمه الله. ولجل هذه الكتب شروح نافعة لعدد من أهل العلم والسنة، عليهم رحمة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قاعدة أهل السنة إثبات أسماء الله (1) على الوجه الأحسن، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وأسماء الله الحسنى أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وهي بهذا الاعتبار مترادفة، وهي أوصاف باعتبار دلالتها على المعاني المتضمنة لها، فتكون بهذا الاعتبار متباينة لدلالة كل اسم على معنى خاص. وقد حرم الله تعالى الإلحاد في أسماء الله الحسنى فقال جل ذكره: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وأصل الإلحاد هو الميل والعدول، وأما في الأسماء الحسنى فقد ذكر منه بن القيم رحمه الله أنواعا منها: الأول: إنكار الأسماء الحسنى أو بعضها أو ما دلت عليه من الصفات والمعاني. وهذا نوع من أنواع التعطيل الذي لا يثبت معه إيمان. وهنا مرتبتان: الأولى تعطيل الأسماء مطلقا وهو قول غلاة الجهمية، والثانية إثبات الأسماء على أنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معانيَ، فيقولون سميع وبصير وحي ولكن بلا سمع ولا بصر ولا حياة، وهذا قول جماعة من أهل الاعتزال. قال ابن القيم عن هذه المرتبة: " وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلا وشرعا ولغة وفطرة" (2) . الثاني: تشبيه الصفات التي تتضمنها أسماء الله بصفات الخلق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذا الإلحاد – كما يقول ابن القيم – في مقابلة إلحاد المعطلة، والحق وسط بين البدعتين. الثالث: تسمية الله بما لا يليق به من الأسماء، كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة بالطبع، وغير ذلك من الأسماء الباطلة.   (1) لابن القيم في بدائع الفوائد مبحث نفيس في أسماء الله الحسنى: (1/159) . (2) بدائع الفوائد (1/169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الرابعة: تسمية الأصنام والآلهة الباطلة بشيء من أسماء الله الحسنى، أو بعض ما اشتق منها، مثل اشتقاقهم العزى من العزيز، واللات من الله وغير ذلك. قال ابن القيم: " وهذا إلحاد حقيقة، فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتم الباطلة" (1) . أقول:من تأمل النوعين الأخيرين، وجدهما ينطبقان على عبارات كثير من العصريين المتأثرين بحضارة الغرب شكلا ومضمونا. (2) والله المستعان. تشبيه صفات الله تعالى بصفات خلقه: قبل الكلام على التشبيه المكفر، لا بد من تقرير أمر في غاية الأهمية، يفترق به أهل السنة والجماعة عن الطوائف المخالفة في باب الأسماء والصفات، وهو أنه ليس في شيء من الصفات الثابتة في الكتاب أو السنة تشبيه، وما دخل الداخل على المعطلة والمؤولة إلا عندما توهموا أن ظواهر النصوص تستلزم التشبيه، ففزعوا إلى تحريفها وتأويلها. يقول اسحاق بن راهويه: "إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر، ولا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيها، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} " (3) . وفي نفس المعنى يقول نعيم بن حماد الخزاعي: "من شبه الله بشيء من خلقه كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيه" (4) .   (1) المرجع السابق (1/169) . (2) من ذلك تسميتهم الله عز وجل بـ" القوة المدبرة الخفية" وإطلاقهم بعض ما يختص بالله تعالى من الأسماء والصفات على بعض البشر، خصوصا في مقام المدح والتملق. (3) - رواه الترمذي في كتاب الزكاة-باب ما جاء في فضل الصدقة، تعليقا على الحديث رقم: 662 (ص170) . (4) سير أعلام النبلاء: 10/610. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فتبين إذن بأن من تمسك بالثابت من الصفات في الكتاب والسنة، ولم يعدها إلى غيرها، ولا مَثَّلها بصفات المخلوقين، لا يمكن أن يكون مشبها، خلافا لما يزعمه الأشعرية ومن نحا نحوهم من المتكلمين حين ينبزون أهل السنة بأنهم حشوية ومجسمة ومشبهة، لا لشيء سوى لإثباتهم صفات العلو والاستواء والرضا والغضب والضحك والنزول وغير ذلك مما هو ثابت في الكتاب والسنة. وهذه القاعدة مما ينبغي أن يعض عليه بالنواجذ، ويُتأمل فيه بالبصائر النوافذ. إذا علم هذا فالتشبيه نوعان: أولهما: تشبيه الخالق بالمخلوق في الذات أو الصفات أو هما معا. وهذا ينقله أرباب المقالات عن بعض المتقدمين مثل هشام بن الحكم الرافضي وداود الجواليقي وغيرهما. وهم ينقلون عن هؤلاء أقوالا شنيعة تقشعر منها الأبدان، وتكاد تزول لهولها الجبال!. وثانيهما: رفع المخلوق إلى مقام الخالق، وهذا أكثر وأشنع، لذلك يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: "التشبيه نوعان: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهذا الذي يتعب أهل الكلام في رده وإبطاله، وأهله في الناس أقل من النوع الثاني، الذين هم أهل تشبيه المخلوق بالخالق. كعُباد المشايخ، وعزير، والشمس، والقمر، والأصنام، والملائكة، والنار والماء والعجل والقبور والجن وغير ذلك" (1) . أقول: ومنهم الذين يتبعون المشرعين من دون الله عز وجل، ويرضون باطلهم ويستسيغون إفكهم، وهذا كثير في هذه الأزمنة. إنكار الصفات بالتعطيل أو التأويل: من قواعد أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، تنزيه الباري جل جلاله عن كل صفات النقص والعيب، اتباعا للكتاب والسنة. فالتنزيه عند أهل السنة أصل أصيل، ومعناه عندهم: نفي ما لا يليق بالله تعالى من صفات النقص وإثبات كمال ضدها. أما النفي المحض الذي لا يتضمن إثبات كمال، فهو منهج المتكلمين وديدن المعطلة.   (1) المنحة الإلهية في تهذيب شرح الطحاوية: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وقد ثبت بالاستقراء ان طريقة القرآن الإثبات المفصل والنفي المجمل، وأن طريقة المتكلمين بالعكس. أما المعطلة فقد فروا من التشبيه – بزعمهم – فوقعوا فيما هو أدهى وأمر، وهو تعطيل الصفات الثابتة، ثم هؤلاء المعطلة على دركات مختلفة: (1) فأشدهم غلوا وهم الجهمية المحضة مثل القرامطة وأشباههم، يسلبون عن الله عز وجل النقيضين معا فرارا من تشبيهه – بزعمهم – بالموجودات في الاثبات، أو المعدومات في النفي. فقالوا: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل. وهذا - إلى جانب كونه من أعظم الكفر والضلال – مناقض لبدائه العقول. بل إنهم فروا من تشبيهه بالموجودات والمعدومات، فوقعوا فيما هو شر وهو تشبيهه بالممتنعات، لأن سلب النقيضين ممتنع. ويتلوهم الفلاسفة وباطنية الشيعة - مثل ابن سينا – وباطنية الصوفية – كابن عربي، فيصفون الله بأنواع السلوب كقولهم: "ليس بجوهر ولا عرض ولا متحيز، الخ"، والإضافات كقولهم: "هو علة الموجودات"، ويقولون إنه الوجود المطلق بشرط الإطلاق، مع أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا في الخارج. وبعدهم المعتزلة ومن معهم، الذين يثبتون الأسماء مع نفي الصفات التي تتضمنها، كما سبق بيانه. ثم الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم، وهم يثبتون بعض الصفات، ويسلطون سيف التأويل الباطل على الباقي. فهم معطلة مثبتة، على تناقض شديد في مناهجهم وأدلتهم، وخلاف كبير بين أئمتهم. وهذه الطوائف كلها – حاشا الأخيرة منها – هي طوائف كفر وإلحاد. أما الطائفة الرابعة، فأكثر أهلها يتبعون تأويلات مستساغة في الجملة ومقبولة في لسان العرب، هذا مع عظيم غَنائهم في الإسلام وما لأكثرهم من مشاركة طيبة في الدفاع عن الشرع وعلومه. ومع هذا، فمذهبهم محدث مبتدع، وهو ذريعة قوية إلى المذاهب التعطيلية الأخرى. والله أعلم.   (1) انظر هذه المراتب في التدمرية وشرحها للشيخ فالح بن مهدي:48 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الفصل الثالث: نواقض الايمان في الألوهية قلت في النظم: وأعظم الإشراك والكفران لا سيما في هذه الأزمان صرف العبادة لغير الخالق باري البريات القدير الرزاق كالشرك في السؤال والدعاء لغير قادر على العطاء والذبح والنذر كذا الطواف ومثله السجود واعتكاف والحب والخشية والرجاء توكل تذلل حياء وكل ما يدخل في التعبد صارفه للخلق غير مهتدي الشرح: (وأعظم الإشراك والكفران لا سيما في هذه الأزمان) الأخيرة التي عمت فيها حنادس ظلمات الجهل، ودرست فيها آثار العلم (صرفُ العبادة لغير الخالق) سبحانه وتعالى (باري) أي خالق (البريات) كلها (القدير الرازق) وفي تخصيص هذه الأسماء المتضمِّنة لصفات الخلق والرزق والقدرة بالذكر، إشارة إلى أن الألوهية الحقة لا تنبغي إلا لمن له الكمال المطلق في ربوبيته وصفاته. ثم ذكرتُ أمثلة على الشرك في الألوهية في شقها النُّسكي، فقلت: (كالشرك في السؤال والدعاء) الموجه (لِـ) واحد من المخلوقين (غيرِ قادر على العطاء) الحقيقي، إذ المخلوق لا يعدو أن يكون سببا في المنح والعطاء، والله عز وجل هو المعطي حقا. (و) كذلك من امثلة العبادات التي لا يحل صرفها لغير الله على وجه الإطلاق (الذبح والنذر - إلى قولي - حياء) . (و) بالجملة فَـ (كل ما يدخل في) صريح (التعبد، صارفه للخلق) من دون الله (غيرُ مهتدي) بل هو مشرك ضال. تعريف توحيد الألوهية: الألوهية مصدر ألِه يألَه، أي عبَد يعبُد، وقد سبق بيان ذلك في الفصل الأول. فالألوهية صفة لله تعالى معناها استحقاقه عز وجل للعبادة بمالَه من كمال الربوبية والأسماء والصفات. وهذا التوحيد يسمى كذلك - باعتبار عمل العبد وكسبه - توحيدَ العبادة. وعليه فنحتاج هنا إلى تعريف العبادة لنستطيع أن نتصور حقيقة هذا التوحيد والأقسامَ الداخلة فيه. فالعبادة يمكن تعريفها باعتبارين اثنين (1) :   (1) شرح كتاب التوحيد لابن عتيمين (1/10) ، والتعريف الأول له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 - باعتبارها مصدرا يعني التعبد هي: "التذلل لله محبة وتعظيما بفعل أوامره واجتناب نواهيه وفق شريعته". - وباعتبارها اسما يعني المتعبد به، هي كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة" (1) . فتبين من هذا التعريف أن العبادة لا تقوم إلا على أركان التذلل والمحبة والتعظيم، وأنها تجمع أقوالا وأعمالا كثيرة يمكن تقسيمها على المراتب الأربع التي سبق تفصيلها في حقيقة الإيمان، وأقصد بها قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح. فهذه الأقوال والأعمال كلها لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، لأنها حق خالص له سبحانه وتعالى: يقول ابن القيم رحمه الله: " فالسجود والعبادة والتوكل والإنابة والتقوى والخشية والتحسب والتوبة والنذر والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار، وحلق الرأس خضوعا وتعبدا، والطواف بالبيت، والدعاء، كل ذلك محض حق الله، لا يصلح ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب، ولا نبي مرسل" (2) . ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "توحيد الألوهية هو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو توحيد الله بأفعال العباد كالدعاء والرجاء والخوف والخشية والاستعانة والاستعاذة والمحبة والإنابة والنذر والذبح والرغبة والرهبة والخشوع والتذلل والتعظيم" (3) . واعلم أن توحيد الألوهية هو أصل هذا الدين، وركنه الركين، وهو أساس دعوة المرسلين، ولب الكتب المنزلة على النبيئين.   (1) قاعدة جليلة في العبادة (ضمن مجموعة التوحيد) : 267. (2) الجواب الكافي: 1/93. (3) الدرر السنية: 2/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " أما التوحيد الذي ذكره الله في كتابه، وأنزل به كتبه، وبعث به رسله، واتفق عليه المسلمون من كل ملة، فهو كما قال الائمة شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما بين ذلك بقوله {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ} فأخبر أن الإله إله واحد، ولا يجوز أن يتخذ إله غيره، فلا يعبد إلا إياه" (1) . ويقول الشيخ عبد الرحمان السعدي رحمه الله: "أعظم الأصول التي يقررها القرآن ويبرهن عليها توحيد الألوهية والعبادة، وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها وأفضلها، وأوجبها وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وخلق المخلوقات وشرع الشرائع لقيامه، وبوجوده يكون الصلاح وبفقده يكون الشر والفساد" (2) . وأفضل ما أختم به هذا المبحث هذه الكلمات النورانية لابن القيم رحمه الله في بيان أهمية توحيد الألوهية وعظيم الحاجة إليه: "اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به، فإن حقيقة العبد روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحا فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها" (3) . الشرك في الألوهية وخطورته:   (1) - الفتاوى الكبرى: 6/564. (2) - القواعد الحسان: 192. (3) طريق الهجرتين: 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 إن أقبح المنهيات وأخطرها على الإطلاق هو الشرك بالله، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك (1) . والشرك غاية الضلال كما قال تعالى عن المشركين إذ يخاصمون طواغيتهم يوم القيامة: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وهو كذلك أعظم الظلم وأشنعه، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وذلك لما فيه من تسوية المخلوق الفقير الناقص، بالرب الخالق الغني الكامل. ونظرا لكون الشرك قبيحا وظلما عظيما، ومناقضا لأصول الإيمان من كل وجه، فقد جعله الله جل ذكره محبطا للأعمال، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} ، وقضى الله عز وجل بأن من مات على الشرك فإنه لا يغفر له، وهو مخلد في نار جهنم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وكما قال أيضا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} . وحقيقة الشرك – كما يؤخذ من تعريف توحيد الألوهية السابق – صرف شيء من العبادة لغير الله عز وجل، قولا أو عملا، وسوف أذكر في المباحث المقبلة بعض الأمثلة الواضحة. وأصل هذا الشرك أمران (2) :   (1) البخاري في التفسير-باب في قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) برقم: 4477 (ص846) ، ومسلم في الإيمان-باب كون الشرك أقبح الذنوب برقم: 86 (ص62) . (2) منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الاشاعرة في توحيد الله تعالى (1/98) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أولهما: الغلو في المخلوق، وذلك بتنزيله فوق منزلته البشرية، وصرف شيء من حقوق الله الخالصة له. وهذا هو الذي وقع فيه قوم نوح، كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} : "أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت" (1) . وثانيهما: سوء الظن بالله، وذلك باعتقاد الحاجة إلى الوسائط والشفعاء بين العبد وخالقه. وهذا كما أن البدعة هي سوء ظن برسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما كان الشرك بهذه الخطورة، فقد تكفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد جميع الذرائع المفضية إليه، وحماية جناب التوحيد. فنهى عن الغلو في مدحه وإطرائه، وعن البناء على القبور وعن اتخاذها مساجد وأعيادا، ونهى عن الألفاظ المجملة التي توهم تسوية بين الخالق والمخلوق، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تجدها في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من كتب العقائد. من أمثلة الشرك في الألوهية: الشرك في الدعاء:   (1) - البخاري في التفسير برقم: 4920 (ص971) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 لما كان الدعاء هو أساس العبادة ولبها كما جاء في الحديث الصحيح (1) ، فإن صرفه لغير الله عز وجل يعد شركا أكبر. قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، وقال تعالى: {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . لذلك فإن الاستغاثة بغير الله عز وجل في أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى، شرك واضح. وقد جاء في الحديث الصحيح: "من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار" (2) . قال ابن القيم رحمه الله: " ومن أنواعه – أي الشرك الأكبر – طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده" (3) .   (1) - وهو ما أخرجه الترمذي في التفسير برقم: 3247 (ص738) وقال: حسن صحيح، وأبو داود في الصلاة-باب الدعاء برقم: 1479 (1/332) . (2) البخاري في التفسير برقم: 4497 (ص851) ، ومسلم بلفظ آخر في الإيمان برقم: 92 (ص64) . (3) مدارج السالكين: 1/346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ويكفي أن نستحضر في هذا الباب أن مشركي العرب الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستباح دماءهم وأموالهم، لم يكونوا يعتقدون في معبوداتهم التي كانوا يدعونها من دون الله خلقا ولا رزقا ولا تدبيرا وإنما كانوا يدعونها لتقربهم إلى الله زلفى، كما حكاه عنهم رب العزة جل جلاله. فكيف بمن يزيد على الاستغاثة المجردة - من أهل الجهل والفجور في مجتمعاتنا المعاصرة - شركا صريحا في الربوبية؟! وقد قال ابن تيمية رحمه الله في بيان هذا المعنى: " كان من أتباع هؤلاء أي: المشركين - من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها كما يدعو الله تعالى ويصوم لها، وينسك لها ـ ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك" (1) . ومما يدخل في هذا الباب العياذ واللياذ بغير الله عز وجل، والاستعاذة في اللغة هي الالتجاء والاعتصام. فالعائذ بالله هو الذي يهرب مما يؤذيه، إلى ربه سبحانه، فيعتصم به ويستجير به. وذكر بعض أهل اللغة أن العياذ لدفع الشر واللياذ لطلب الخير، وأنشدوا قول المتنبي: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره (2)   (1) درء تعارض العقل والنقل: 1/227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 والاستعاذة بالله من العبادات المأمور بها، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقال عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} . لذلك كان صرفها لغير الله شركا في العبادة، كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} ، عن ابن عباس أنه قال: "كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادهم ذلك إثما". وهنالك أمثلة أخرى متعددة على الشرك في العبادة، نبه عليها العلماء الأعلام، وشددوا النكير على مرتكبيها من الجهال، ومسوِّغيها من المنتسبين إلى العلم. ولشيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وأقطاب دعوته، صولات وجولات في هذا الميدان، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين، فمن شاء التفصيل فليرجع إلى مؤلفاتهم الجامعة الماتعة، فإنه من اطلع عليها وكان بعيدا عن الجدال والمِرا، لم يسعه إلا أن يقول: كل الصيد في جوف الفرا. والحمد لله على نعمه. قلت في النظم: والحكم في الأموال والفروج وفي الدما بشرعة العلوج تحليل ما حرمه المهيمن والعكس، طغيان وكفر بين فاعله مبدل مشرع فالوقف فيه عندنا مستشنع كذا اتباع شرعة الكفار أو الرضا بها بلا إنكار الشرح: (و) كذلك يعد من الكفر الأكبر الناقض لتوحيد الألوهية (الحكم في الأموال) من بيوع وشركات وغير ذلك (والفروج) من أنكحة وما يتعلق بها (وفي الدما) ء، من حدود وقصاص وغيرها، - والدماءُ مقصور للوزن - (بشرعة العلوج) أي بقوانينهم ومواضعاتهم، والعلوجُ جمع عِلج وهو الرجل من كفار العجم، كما في القاموس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وكذلك (تحليل ما حرمه المهيمن) سبحانه وتعالى، (والعكس) وهو تحريم ما أحله الله عز وجل، هو (طغيان) أي مجاوزة للحد (وكفر بين) واضح، إذ (فاعله) أي: مرتكب التحليل والتحريم من دون الله عز وجل (مبدل) لدين الله (مشرع) من دونه سبحانه، لذلك فـ (الوقف فيه) أي: في حكم هذا المبدل (عندنا) معاشرَ أهل السنة أمر (مستشنع) جدا، لأنه إما جهل فظيع، أو تجاهل مقيت، أو ورع كاذب. (كذا) من الكفر الأكبر المخرج من الملة (اتباع شرعة الكفار) والمقصود بذلك التحاكم – من غير ضرورة شرعية – إلى القوانين الشرعية الطاغوتية ولو لم يفصح عن رضاه بتلك القوانين (أو الرضا بها) أي: قبوله لتلك القوانين (بلا إنكار) منه، ولو لم يتحاكم إليها، فتأمل. والحق أن هذه المسألة التي قد يصطلح البعض على تسميتها بتوحيد الحاكمية، هي من المسائل العظيمة التي عمت بها البلوى في هذا الزمان، فتصدى لبيانها وتحقيق الحق فيها، جهابذة العلماء العاملين، فأقاموا الحجة الناصعة على الناس أجمعين، وبلغوا أمانة العلم كما أخذ الله عليهم بذلك العهد والميثاق. والمسألة طويلة الذيول متشعبة المباحث، والتفصيل فيها يحتاج إلى بسط كثير لا يحتمله هذا الموضع، لذلك سوف أكتفي هنا ببعض الإشارات التي تغني عن التطويل، فأقول: الكلام على هذه المسألة في مقامات ثلاثة: أولها: التشريع من دون الله ثانيها: الحكم بغير ما أنزل الله ثالثها: التحاكم إلى غير شرع الله - أولا: التشريع من دون الله: سبق أن ذكرت في الباب الأول من هذا الفصل أن حق التشريع هو من أخص خصائص الربوبية وأنه نوع من أنواع التدبير الذي يدبر به الله عز وجل هذا الكون، كما قال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . لذلك فإن من نازع الله في شيء منه كان مشركا لأدلة كثيرة منها: - قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قال ابن كثير رحمه الله: " ... أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والأموال الفاسدة " (1) . - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} . فبين الله عز وجل أن شركاء العرب في الجاهلية من شياطين الانس والجن قد شرعوا لهم شرائع كثيرة لم يأذن بها الله تعالى، ومنها قتل الأولاد خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار وغير ذلك. والشاهد من الآية تسمية الله تعالى من شرع للناس ما لم يأذن به الله شريكا لله، وهذا إكفار صريح له. - قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} .. ومعنى الآية على ما ذكره المفسرون – أن أهل الجاهلية كانوا إذا أرادوا القتال في شهر من الأشهر الحرم – وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم – جعلوه حلالا وحرموا مكانه شهرا آخر من أشهر الحل ليوافقوا عدد الأشهر التي حرم الله تعالى. فجعل الله تعالى هذا التشريع الذي لم يأذن به الله تعالى زيادة في الكفر. قال ابن كثير رحمه الله: "هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله ... " (2) .   (1) تفسير ابن كثير: 4/100. (2) - تفسير ابن كثير: 2/308. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أقول: فكيف بمن غير شرع الله جملة وتفصيلا، واستبدل به قوانين الفرنجة وشرائع الوثنيين؟! - قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . جاء في تفسير هذه الآية أن عدي بن حاتم رضي الله عنه دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنق عدي صليب من فضة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية. قال فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم" (1) . فتأمل كيف أن الذي يحل الحرام ويحرم الحلال ويشرع ما لم يأذن به الله تعالى، يكون قد نصب نفسه ربا من دون الله، وأن الذي يتبعه ويرضى بما شرع له يكون عابدا له من دون الله. وتدبر معي أخا السنة هذه الكلمات النورانية الجلية لبعض أئمة الإسلام في هذا الباب (2) : يقول ابن حزم رحمه الله: " فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحرم شيئا كان حلالا إلى حين موته عليه السلام، أو يحل شيئا كان حراما إلى حين موته عليه السلام، أو يوجب حدا لم يكن واجبا إلى حين موته عليه السلام، أو يشرع شريعة لم تكن في حياته عليه السلام، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق" (3) .   (1) - أخرجه الترمذي في التفسير-باب: ومن سورة التوبة برقم: 3095 (ص697) وقال: حسن غريب. (2) انظرها تفصيلا في كتاب الجامع: 2/882 وما بعدها. (3) الإحكام: 1/71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ويقول ابن تيمية رحمه الله: " … الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله، فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه، ولا يخرج عنه إلا كافر" (1) . ويقول أيضا: " ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى" (2) . ويقول: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرا باتفاق الفقهاء" (3) . ويقول ابن كثير رحمه الله: " فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا (4) وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين" (5) . ويقول محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: " … وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم" (6) . نسأل الله عز وجل أن ينور بصائرنا بأنوار الوحي، وأن يفتح قلوبنا لضياء الهدى، آمين. - ثانيا الحكم بغير ما أنزل الله: كثير من الأدلة المذكورة في المقام الأول، صالحة أيضا للبرهنة على كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، ولكنني أضيف إليها الدليلين التاليين:   (1) مجموع الفتاوي: 11/262. (2) نفسه: 8/106. (3) نفسه: 3/267. (4) الياسا: كتاب وضعه جنكيز خان ملك التتار وصار في بنيه شرعا متبعا، وهو مقتبس من شرائع شتى. (5) البداية والنهاية: 7/139 وانظر تفسيره عند قوله تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون) . (6) أضواء البيان: 3/259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} . الآيات. فانظر كيف نفى الله عز وجل الإيمان عن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، مع أنهم عالمون أنهم مكلفون بالكفر به، إذ التوحيد لا يصح إلا بركنين اثنين: ركن الإيمان بالله وركن الكفر بالطاغوت. والطاغوت – كما قرره ابن القيم رحمه الله – هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع من دون الله عز وجل، ومن رؤوس الطواغيت الذين ذكرهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، الحاكم بغير ما أنزل الله. وإذا كان التحاكم إلى الطاغوت – عن رضا واختيار – كفرا، فما حال نفس الحاكم بغير ما أنزل الله؟! قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} .، وهي آية صريحة في كفر الذي لا يحكم بما أنزل الله. ولولا بعض الشبهات الإرجائية المثارة حولها، لما احتيج إلى إطالة الكلام في تفسيرها، فإنها نص لا يحتمل التأويل. وقد أشبع الكلام عليها بما لا يحتاج إلى مزيد، الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز في المجلد الثاني من "الجامع في طلب العلم الشريف" (1) على أن له في ثنايا كلامه اختيارات لا يتابع عليها، وليس هذا محل بسط ذلك. (2) - ثالثا: التحاكم إلى غير شرع الله: مناط التكفير بالتحاكم إلى غير شرع الله أحد أمرين اثنين: قبول الشرع الطاغوتي والرضا به، فهذا يكفر صاحبه إجماعا، لأن الرضا بالكفر كفر كما قد تقرر.   (1) ابتداء من الصفحة 849. (2) انظر كلام الشيخ المقدسي في: " النكت اللوامع " وما جمعه صاحب كتاب " نواقض الإيمان القولية والعملية " حول هذا الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 التحاكم إلى الطاغوت مجردا عن التصريح بالرضا، فهذا لا يكفر صاحبه إلا إذا ثبت أنه كان له مندوحة عن هذا التحاكم، وأنه لم يكن مضطرا ولا محتاجا إليه. والحق أن من يتحاكم إلى الطاغوت في غير ضرورة شرعية، لا يمكن إلا أن يكون راضيا عن هذا الشرع الطاغوتي. فرجع الأمر الثاني – عند التحقيق -إلى الأول، وتبين أن المناط الحقيقي هو الرضا والقبول. ودليل كفر المتحاكم إلى الطاغوت قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} الآيات، وهي صريحة في أن إرادة التحاكم إلى الطاغوت إيمان بهذا الطاغوت، وكفر بالله عز وجل. وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فبينت الآية أن متابعة الذين يشرعون من دون الله عز وجل شرك مناقض لمعنى كلمة: لا إله إلا الله. وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} ، فإذا كان هذا حال من يقعد – من غير إنكار – في مجلس يكفر فيه بآيات الله فكيف بمن يتحاكم – طائعا مختارا- إلى القوانين التي هي من أعظم المحادة لله ورسوله؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قال رشيد رضا في تفسير هذه الآية: " ... ويؤخذ من الآية أن إقرار الكفر بالاختيار كفر ... " (1) . قلت: وهذا أمر مجمع على صحته. وتطبيقه على ما نحن فيه شديد الوضوح. والله أعلم. قلت في النظم: والصد عن شريعة الإسلام وما احتوت عليه من أحكام ليس بشِرعة الحكيم عاملا وليس عالما بها بل جاهلا الشرح: (و) من نواقض الإيمان (الصد) وهو الإعراض (عن شريعة الإسلام) الغراء (و) من ذلك الإعراض عن تعلم والعمل بـ (ما احتوت عليه) هذه الشريعة (من أحكام) علمية وعملية. فحال ذلك المعرض أنه (ليس بشرعة الحكيم) سبحانه وتعالى (عاملا وليس عالما بها بل جاهلا) أي ليس يتعلم دين الله ولا يعمل به. يعتبر الإعراض عن دين الله من ضمن نواقض الإسلام العشرة التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقال: " الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (2) . وهو ناقض للإيمان باعتبار أن لب الدين إنما هو تمام الطاعة والانقياد والاستجابة، والإعراض التام عن دين الله تعالى هو امتناع عن الاتباع وتول عن الطاعة واستنكاف عن الاستجابة، ومثل هذا لا يمكن أن يثبت معه عقد الإيمان. وقد سبق في الفصل الأول أن بينت أن جنس العمل من أصل الإيمان وأن تركه كفر أكبر مخرج من الملة، بما يغني عن الإعادة هنا. والحق أن القرآن الكريم مملوء بذكر الآيات الدالة على كفر المعرض عن دين الله، الصادِّ عن اتباع شريعته.   (1) نقله صاحب "نواقض الإيمان " ص 334. (2) مجموعة التوحيد: 272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} . وقال جل ذكره: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} . قال ابن القيم رحمه الله: " فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه، والتسليم لما حكم به رضى واختيارا ومحبة، فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق" (1) . وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} . يقول ابن كثير رحمه الله: " قوله (ومن أعرض عن ذكري) أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرضَ عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه، ... " (2) . وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} . قال ابن كثير رحمه الله: " فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين" (3) .   (1) مختصر الصواعق المرسلة: 2/705. (2) تفسير ابن كثير: 3/147. (3) تفسير ابن كثير: 1/309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ويقول ابن تيمية رحمه الله في كلامه على آية سورة النساء السابقة الذكر: " فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول، وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت، ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة، فكيف بالنقص والسب ونحوه؟ " (1) . وهذا الكلام في غاية النفاسة، فليعض عليه بالنواجذ! ويقول ابن القيم رحمه الله عند ذكره لبعض أنواع الكفر: "وكفر إعراض محض لا ينظر فيما جاء به الرسول، ولا يحبه ولا يبغضه، ولا يواليه ولا يعاديه، بل هو معرض عن متابعته ومعاداته" (2) . قلت في النظم: كذا موالاة أولي الكفران بنصرة على ذوي الإيمان أو حبهم في الدين والأخلاق تشبه بهم على الإطلاق أو طاعة لهم بلا نكران أو دعوة لوحدة الأديان الشرح: (كذا) من نواقض الإيمان (موالاة أولي الكفران) وذلك بأحد أمور، إما (بنصرة) لهم (على ذوي الإيمان أو) بـ (حبهم) مقيدا بكونه في ما هو من خصوصيات دينهم مثل حبهم (في الدين والأخلاق) أو بـ (تشبه بهم على الإطلاق) أي: التشبه بهم فيما يوجب الكفر الأكبر المخرج من الملة، أو بـ (طاعة لهم بلا نكران) أي: طاعتهم في أمور التشريع والحكم وما شاكلها دونما إنكار عليهم، وقد سبق الكلام على هذه المسألة، فلتنظر هناك، أو بـ (دعوة لوحدة الأديان) وإزالة الفوارق بين الملل والديانات.   (1) الصارم المسلول: 38. (2) مفتاح دار السعادة: ....... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 يعتبر الولاء والبراء أساس عقيدة التوحيد وجوهرها، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله " (1) . قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: " فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعادة في الله والموالاة في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء، لم يكن فرقان بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان" (2) . ويقول الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: " فأما معادة الكفار والمشركين فاعلم أنه الله سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك، وأكد إيجابه، وحرم موالاتهم وشدد فيها، حتى أنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد، وتحريم ضده" (3) وبالجملة فإن هذا الأصل الأصيل قد دل على اعتباره في أصل الإيمان الكتابُ والسنة وإجماع سلف الأمة (4) .   (1) - رواه أبو داود في السنة-باب: مجانبة أهل الأهواء وبغضهم برقم: 4599 (2/391) . (2) أوثق عرى الايمان (ضمن مجموعة التوحيد) : 90. (3) النجاة والفكاك (ضمن مجموعة التوحيد) : 183. (4) انظر تفصيل ذلك في كتاب "الولاء والبراء في الاسلام" لمحمد القحطاني و"الموالاة والمعاداة" لمحماس الجلعود " وسبيل النجاة والفكاك" لحمد بن عتيق، و"أوثف عرى الايمان " لسليمان بن عبد الله، وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وأصل الولاء الحبُّ وهو عمل قلبي، ينشأ عنه عدد من أعمال القلوب والجوارح كالنصرة والنصح والإعانة وما إلى ذلك، وكذلك الشأن في نقيض الولاء وهو البراء. فمن أصل الإيمان موالاة المؤمنين والبراءة من الكفار، بل إن الولاء والبراء هو الذي يدل على حياة القلوب، وشدة تعلقها بالإسلام كما نقل ابن مفلح عن ابن عقيل أنه قال: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتِهم أعداءَ الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري عليهما لعائن الله ينظمون وينثرون، هذا يقول حديث خرافة، والمعري يقول: تلوا باطلا، وجلوا صارما ... ... وقالوا صدقنا، فقلنا نعم يعني بالباطل: كتاب الله عز وجل، وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب." (1) وسوف أذكر – تبعا لما في النظم – بعض أنواع موالاة الكفار التي تعد من نواقض الايمان: نصرة الكفار ضد المسلمين: وهذا من أشنع ما يقع فيه بعض المنتسبين إلى الإسلام في أعصارنا هذه، وهو أمر ينم عن جهل فظيع بمعنى كلمة " لا إله إلا الله "، والله المستعان. قال تعالى: {لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} . يقول الطبري في تفسيرها: " ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهورا وأنصارا. توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر" (2) .   (1) الآداب الشرعية: 1/255. (2) تفسير الطبري: 3/227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . قال ابن حزم رحمه الله: " صح أن قوله تعالى:"ومن يتولهم منكم فإنه منهم" إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين" (1) . وقال الطبري رحمه الله: " … من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمُه حكمَه " (2) . وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ، والآية صريحة في انتفاء الإيمان عن الذي يواد من يحاد الله ورسوله، ولو كان من أقاربه وعشيرته، فكيف بمن يواد كفرة الأوروبيين والأمريكان، وليس بينه وبينهم قرابة ولا نسب؟ ‍. وقال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} . قال ابن تيمية رحمه الله: " فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف "لو" التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: "ولو كانوا يؤمنون … أولياء"، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياءفي القلب، ... " (3) .   (1) المحلى: 12/33. (2) تفسير الطبري: 4/617. (3) مجموع الفتاوى: 7/17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه المسألة ضمن نواقض الإسلام العشرة فقال: " الناقض الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} " (1) . محبة الكفار وموادتهم: وذلك لأن أساس الولاء والبراء هو الحب والبغض، وذلك أوثق عرى الإيمان كما سبق في الحديث، فلا يجتمع إيمان بالله ورسوله مع موادة أعداء الله وحبهم والتقرب إليهم، خاصة إن كان ذلك فيما هو من خصوصيات دينهم، كما يقع فيه كثير من أهل القبلة في هذا الزمان، لمَّا تجدهم يحبون عادات الفرنجة وتقاليدَهم وأعرافهم، بل وبعض شعائر دينهم من أعياد وغيرها‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!! ويكفي في هذا الباب قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} . التشبه المطلق بالكفار: لا يخفى على من تعلم دين الله عز وجل من مظانه الأصلية – بعيدا عن فتاوى وتلبيسات أهل التفرنج المعاصرين – أن التشبه بالكفار من أعظم المحرمات وأخطرها (2) ، إذ المشاكلة الظاهرة لا بد أن تثمر موادة باطنة؛ كيف لا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من تشبه بقوم فهو منهم "؟! (3)   (1) مجموعة التوحيد: 24. (2) راجع كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم " لابن تيمية، وكتاب "الاستنفار لغزو والتشبه بالكفار "للحافظ أحمد بن الصديق الغماري، فهما كافيان شافيان. (3) - رواه أبو داود في اللباس-باب في لباس الشهرة برقم: 4031 (2/255) ، وأحمد في مسند المكثرين برقم: 4868. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 قال ابن تيمية رحمه الله:"وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، ( … ) كما في قوله: " ومن يتولهم منكم " فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم، في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرا، أو معصية أو شعارا لهم، كان حكمه كذلك" (1) . فتبين إذن أن من التشبه بالكفار ما لا يكون كفرا، ومثاله أن يلبس مثل لباسهم (2) ، وهو أمر عمت به البلوى في هذا العصر، ومنه ما هو كفر واضح مخرج من الملة كالسعي إلى الكنائس والبِيَع مع أهلها بزيهم، من شد الزنانير، وفحص الرؤوس، وكوضع قلنسوة المجوسي على رأسه لغير ضرورة دفع الحر أو البرد، وكتعليق الصليب في العنق، وغير ذلك. ومن ذلك أيضا مشاركة الكفار في أعيادهم، بإظهار الفرح والسرور، ورفع شعائر الكفر، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو أنه قال: " من بنى ببلاد الأعاجم، فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة" (3) قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا يقتضي أنه جعله كافرا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهر لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية ... " (4) الدعوة إلى وحدة الأديان: وهذه من شناعات العصر ومحدثاته، وهي إحدى نتائج الهزيمة النفسية التي يعاني منها المفكرون المنتسبون إلى الإسلام. وقد وجدت هذه الدعوة قديما عند بعض أهل الزندقة من غلاة الصوفية وغيرهم، كابن عربي الذي يقول: ******************************* (5)   (1) اقتضاء الصراط المستقيم: 83. (2) مما ليس شعارا للكفر كالزنار والصليب وما إلى ذلك. (3) البيهقي: (4) اقتضاء الصراط المستقيم: 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ولكن كانت هذه الأفكار منبوذة لا ينطق بها إلا هؤلاء الذين يعيشون على هامش المجتمع وليس لهم فيه أدنى تأثير. أما الجديد في هذا العصر فهو أن أصحاب هذه الدعوة الكفرية يعقدون المؤتمرات، ويقيمون الندوات، وتفتح لهم وسائل الإعلام، وتنشر أفكارهم في كل مكان. وهذه الدعوة - كما لا يخفى على كل مسلم - كفر بواح، إذ الإسلام جاء ناسخا للأديان السابقة كلها، وجاء القرآن مهيمنا على الكتب السماوية كلها، وأرسل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، كما قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) ، فلا يسع أحدا بعد بعثته - عليه الصلاة والسلام - إلا أن يتبعه ويطيعه. قال ابن تيمية رحمه الله: " ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين أن من سَوَّغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب" (1) . الفصل الأول: نواقض الإيمان في النبوات والمغيبات وأمور أخرى: قلت في النظم: سب النبي المصطفى محمد ذي الفضل والتقى، الرسول الأمجد أو غيره من السراة الأتقيا أولي الهدى من رسل وأنبيا كذا ادعا نبوة بالكذب أو استهانة ببعض الكتب واختلفوا في سب صحب المصطفى والعلما والصالحين الشرفا الشرح: ومن نواقض الإيمان (سب النبي المصطفى محمد) - صلى الله عليه وسلم - (ذي الفضل والتقى الرسول الأمجد أو) سب غيره (من السراة) بفتح السين، جمع سري، أو هو اسم جمع كما في القاموس، وهم أهل المروءة والشرف (الأتقيا) مقصور للوزن (أولي الهدى من) بيانية (رسل وأنبيا) مقصور للوزن كذلك. (كذا ادعا نبوة بالكذب أو استهانة ببعض الكتب) المنزلة من قرآن وإنجيل وتوراة وغيرها، ويدخل في ذلك إنكار كون هذه الكتب منزلة من عند الله، وادعاء كونها من صنع البشر!   (1) مجموع الفتاوى: 28/524. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 (واختلفوا في) حكم (سب صحب المصطفى) رضوان الله عليهم، هل هو كفر أم لا؟ (و) كذلك في حكم سب (العلماء) (والصالحين الشرفا) ء. فهذه إذن مباحث شريفة ومسائل منيفة متعلقة بأبواب النبوات، والكتب المنزلة، وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حكم سب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -: لا يختلف اثنان من أهل القبلة في أن الواجب نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو تمام التوقير والتعظيم والمحبة والاتباع والتسليم، والتحكيم في الصغير والكبير. وقد جاء في الحديث الصحيح: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" (1) ومن الثلاث التي من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما (2) . وقد بلغ تعظيم الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغا عظيما، حتى قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ما كان أحد أحب إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه" (3) . وقد قال رب العزة جل جلاله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . فتمام الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته، والإذعان لها، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق.   (1) - سبق تخريجه. (2) - سبق تخريجه. (3) مسلم في الإيمان-باب كون الإسلام يهدم ما قبله برقم: 121 (73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وقد نقل القاضي عياض في كتابه العجاب الموسوم بالشفا عن أبي إبراهيم التجيبي أنه قال: "واجب على كل مؤمن متى ذكره، أوذُكر عنده، أن يخضع ويخشع ويتوقر، ويسكن في حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به "وعلق القاضي عياض بقوله: " وهذه كانت سيرة سلفنا الصالح وأئمتنا الماضين رضي الله عنهم " (1) إذا علم هذا، فكيف يجتمع الإيمان مع سب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو التنقص منه أو الاستهزاء به أو بسنته؟. قال ابن تيمية رحمه الله: " إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل" (2) . ولا أحتاج إلى أن أنبه مرة أخرى على أن سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كفر أكبر مخرج من الملة، سواء أستحل ذلك أم لم يستحله، فقد سبق أن أشرت إلى ذلك آنفا. (3) قال ابن راهويه: "قد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو دفع شيئا أنزله الله، أو قتل نبيا من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر" (4) .وقال محمد بن سحنون رحمه الله: " أجمع العلماء أن شاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - المنتقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر" (5) .   (1) الشفا: 2/91. (2) الصارم المسلول: 512. (3) أنظر في هذا الموضوع كتاب الشفا للقاضي عياض والصارم المسلول لابن تيمية، وللشادين في العلم الشرعي رسالة أبي بصير في الموضوع، فإنها نافعة. (4) - الصارم المسلول: 512. (5) الشفا: 2/476. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أقول: قد فشا هذا المنكر العظيم – أعني الاستهزاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو بسيرته وسنته – في وسائل إعلامنا، ومنتديات ثقافتنا، بل وفي مدارسنا وشوارعنا. فأين القلوب الحية والأيدي المتوضئة من هذا الضلال والباطل؟! حكم سب سائر الأنبياء عليهم السلام: وهذا الناقض مثل الذي قبله، إذا الواجب تجاه الأنبياء عليهم السلام جميعا هو تمام التعظيم والمحبة، وهذا لا يجتمع مع تنقصهم والاستهزاء بهم. يقول القاضي عياض رحمه الله: " وحكم من سب سائر أنبياء الله تعالى ... واستخف بهم أو كذبهم فيما أتوا به، أوأنكرهم وجحدهم حكمُ نبينا - صلى الله عليه وسلم -" (1) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من خصائص الأنبياء أن من سب نبيا من الأنبياء قتل باتفاق الائمة، وكان مرتدا، كما أن من كفر به وبما جاء به كان مرتدا، فإن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله" (2) . وهذا أمر من الوضوح بمكان. ادعاء النبوة: لما كانت النبوة اصطفاء من الله واجتباء، لا دخل فيه لكسب العبد أو رياضته ومجاهدته، فإنه لا يدعيها بغير حق إلا من كان من أسوء أهل الكذب والبهتان، كما قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى: "إن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين! " (3) .   (1) الشفا: 2/641. (2) نقله صاحب " نواقض الإيمان القولية والعملية " 180. (3) المنحة الإلاهية: 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ولا شك أن ادعاء النبوة بغير حق شرك عظيم، لأنه من أعظم الافتراء على الله عز وجل، ومن أشد الظلم والبهتان كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} ؛ ولأنه أيضا تكذيب للقرآن الكريم الذي نص على أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} . وادعاء النبوة تكذيب بالسنة الصحيحة – بل المتواترة – التي دلت على ختم النبوة بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله عليه الصلاة والسلام:"إلا أنه لا نبي بعدي" (1) وغير ذلك من الأحاديث. وادعاء النبوة مخالفة للإجماع القطعي اليقيني الذي نقله غير واحد، وكفى بذلك كفرا مبينا. إنكار الكتب المنزلة أو الاستهانة بها:   (1) رواه البخاري في المغازي-باب غزوة تبوك برقم: 4416 (ص834) ، ومسلم في فضائل الصحابة برقم: 2404 (ص979) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 يعد الإيمان بالكتب أحد الأركان الستة التي يقوم عليها الإيمان الشرعي، ومعناه التصديق بأنها جميعها منزلة من عند الله عز وجل، وأنها كلام الله، إجمالا فيما أجمل وتفصيلا فيما فُصِّل. لذلك فإن إنكارها أو التكذيب بها أو الطعن فيها أو الاستهزاء بها وانتقاصها كل ذلك كفر أكبر مخرج من الملة، لأن ذلك تكذيب للقرآن الكريم الذي أمر بالإيمان بالكتب المنزلة ونص على أنها من عند الله حقا، وما على وجه الأرض مسلم يشك في أن التكذيب بالقرآن كفر. كما أن إنكار الكتب السماوية إنكار لصفة الكلام لله عز وجل، وهو كفر كما سبق بيانه. قال القاضي عياض رحمه الله: "اعلم أن من استخف بالقرآن، أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما أو جحده، أو حرفا منه أو آية، أو كذب به، أو بشيء منه، أو بشيء مما صرح به فيه من حكم، أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته، على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك، فهو كافر عند أهل العلم بإجماع" (1) وقال: " وكذلك إن جحد التوراة والإنجيل وكتب الله المنزلة، أو كفر بها، أو لعنها أو سبها، أو استخف بها فهو كافر ... " (2) . سب الصحابة رضوان الله عليهم: هذا من المسائل التي لا بد فيها من التفصيل، فإن مِن سب الصحابة ما هو ناقض للإيمان على جهة القطع واليقين، وما ليس كذلك. فمن أمثلة الأول – أي ما هو كفر-: - أن يكون مستحلا لسب الصحابة، وذلك لأن سبهم محرم بالإجماع، إذ هم عدول عند كافة أهل السنة والجماعة، وقد نبهت آنفا على أن استحلال المُحرَّم المجمع على تحريمه كفر.   (1) -الشفا: 2/646. (2) الشفا: 2/647. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 - أن يسب جميع الصحابة أو جمهورهم بما يقدح في دينهم وعدالتهم، كأن ينسبهم إلى الكفر أو الفسق. قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب في كفره، لأنه مكذب لما نصّه القرآن في غير موضع من الرضى والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين" (1) . - أن يسب الصحابة لأجل صحبتهم. قال ابن حزم رحمه الله: "ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر" (2) . وقال السبكي: "إن سب الجميع بلا شك أنه كفر، وهكذا إذا سب واحدا من الصحابة حيث هو صحابي، لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة، ففيه تعرض إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -" (3) . - أن يقذف عائشة رضي الله عنها، أو إحدى أمهات المؤمنين رضوان الله عليهم، وهذا لشناعته لا يحتاج إلى دليل، ولا يفتقر إلى تفصيل. نسأل الله السلامة في الدين. وهنالك أمثلة أخرى في بعضها خلاف (4) ، والله أعلم. سب العلماء والصالحين أو الاستهزاء بهم: لما كان العلماء هم ورثة الأنبياء، وجب توقيرهم واحترامهم ومعرفة مكانتهم التي أحلهم الله فيها، لذلك فالاستهزاء بهم نوعان: - الاستهزاء بأشخاصهم وصفاتهم الخلقية والخلقية، وهذا حرام. - الاستهزاء بهم لكونهم علماء، ولما هم عليه من العلم الشرعي، فهذا كفر. ومن هذا الباب أيضا الاستهزاء بأهل الصلاح والعبادة، أو بأهل البيت النبوي، والله أعلم. قلت في النظم: ومن أعاظم المكفرات إنكار ثابت المغيبات كالجن والملائك الكرام والبعث بالأرواح والأجسام جحد نصوص الوعد والوعيد أو صرف معناها عن المقصود إنكار معلوم بالاضطرار من دين بارئ الدنى الجبار الشرح:   (1) الصارم المسلول: 586. (2) الفصل: 3/276. (3) فتاوى السبكي: 2/575. (4) انظر" نواقض الإيمان القولية والعملية " " 415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 (ومن أعاظم المكفرات) المخرجة عن ملة الإسلام (إنكار ثابت المغيبات) من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي: إنكار المغيبات الثابتة بالأدلة الشرعية القطعية (كَـ) إنكار (الجن والملائك الكرام و) إنكار (البعث بالأرواح والأجسام) معا. ومن نواقض الإيمان (جحد) أي إنكار (نصوص الوعد والوعيد) الثابتة (أو صرف معناها عن) المعنى (المقصود) بها في الكتاب والسنة، إلى معان أخرى باطلة؛ وكذلك (إنكار معلوم بالاضطرار) أي: دون حاجة إلى نظر واجتهاد (من دين بارئ الدنى) جمع دنيا (الجبار) سبحانه وتعالى. فهاهنا مجموعة من نواقض الإيمان، أتكلم عليها على وجه الإيجاز، فأقول: إنكار المغيبات: عرف الراغب الأصبهاني الغيب بأنه: "ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بدائه العقول، وإنما يعرف بخبر الأنبياء عليهم السلام، وبدفعه يقع على الإنسان اسم الإلحاد" (1) . ولا شك أن الإيمان بالغيب أصل من أصول الإيمان، بل هو الفيصل الحقيقي بين المؤمن الحق الثابت الراسخ، وبين الآخر الذي تزعزعه أعاصير الشبهات، وتعصف به رياح الشهوات. ويشمل الإيمان بالغيب أمورا متعددة ثبتت بالقرآن والسنة مثل الإيمان بالملائكة والجن واليوم الآخر بما فيه من بعث ونشور، وصراط وميزان، وجنة ونار، وغير ذلك. - الإيمان بالملائكة: هذا أحد أركان الإيمان الستة المذكورة في حديث جبريل وغيره، ومعناه الإقرار الجازم بوجودهم إجمالا، والإيمان بمن ذكر منهم في الكتاب والسنة تفصيلا وهم جبريل وميكائيل واسرافيل وملك الموت وخزنة الجنة والنار وغيرهم. فمن أنكر وجود الملائكة كفر بلا تردد، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} ، ولأن إنكارها تكذيب بخبر الله تعالى وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومخالفة للإجماع القطعي اليقيني الذي يكفر مخالفه.   (1) المفردات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 قال ابن حزم في "مراتب الإجماع": " واتفقوا أن الملائكة حق، وأن جبريل وميكائيل ملكان رسولان لله عز وجل مقربان عظيمان عند الله تعالى، وأن الملائكة كلهم مؤمنون فضلا" (1) . ثم لا بد من إجلال الملائكة وإكرامهم، وتنزيههم عما لا يليق بهم من الصفات، لذلك فإن من يسبهم أو يستهزأ بهم فهو كافر. قال ابن حزم رحمه الله: "وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو نبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى - بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر" (2) . وينقل القاضي عياض رحمه الله في الشفا أقوال بعض أئمة المالكية في هذا الشأن فيقول: "وقال القاضي بقرطبة سعيد بن سليمان في بعض أجوبته: من سب الله وملائكته قتل. وقال سحنون:من شتم ملكا من الملائكة فعليه القتل" (3) . وقال أبو الحسن القابسي في الذي قال لآخر: " كأنه وجه مالك الغضبان: " لو عرف أنه قصد ذم الملَك قتل"! (4) . وكلام أهل العلم في هذا الباب طويل ومشهور. فليتَّقِ الله أولئك الذين لا يتورعون عن تمثيل بعض الملائكة أو الأنبياء أو الصحابة في مسرحياتهم المتعفنة وأشرطتهم المنتنة، عاملهم الله تعالى بعدله!! - الإيمان بالجن: جاء إثبات وجود الجن ومعرفة كثير من أحوالهم وصفاتهم في الكتاب والسنة. قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} .   (1) مراتب الإجماع: (2) الفصل: 2/275. (3) - الشفا: 2/642. (4) الشفا: 2/643. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 قال القرطبي رحمه الله: " وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم" (1) . وقال ابن حزم رحمه الله: "فمن أنكر الجن أو تأول فيهم تأويلا يخرجهم به عن هذا الظاهر، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال" (2) . وإنكار الجن من نواقض الإيمان العصرية التي ابتلي بها أهل "الحداثة والتغريب" والله حافظ دينه ولو كره المشركون. – الإيمان بالبعث: يدخل في ركن الإيمان باليوم الآخر – الذي هو أحد أركان الإيمان الستة – أشياء كثيرة مثل عذاب القبر ونعيمه، والبعث والنشور والعرض والحساب والصراط والميزان والجنة والنار وغير ذلك. فنفي شيء من ذلك هو إنكار للقرآن ومتواتر السنة وإجماع الأمة، فهو إذن كفر بواح. وقد ذكرتُ في النظم مثالا واحدا يكفي للإشارة إلى ما سواه، وهو إنكار البعث بالأرواح والأجسام معا، وذلك متضمن لمكفرين اثنين هما: إنكار البعث مطلقا، وإنكار معاد الأجساد مع الإقرار بمعاد الأرواح. يقول ابن تيمية رحمه الله: "وأما طوائف من الكفار وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم فيقرون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط. وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون: لا بمعاد الأرواح، ولا الأجساد. … وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية … ومثل المتفلسفة الصابئة … وطائفة ممن ضاهوهم من كاتب أو متطبب أو متكلم أو متصوف كأصحاب رسائل إخوان الصفا وغيرهم، أو منافق، هؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان ... " (3) جحد نصوص الوعد والوعيد:   (1) تفسير القرطبي: 19/6. (2) الفصل: 3/179. (3) مجموع الفتاوى: 4/314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 يشتمل القرآن الكريم على عدد كبير من نصوص الوعد والوعيد، فالوعد بالجنة والمغفرة والثواب، والوعيد بالنار والغضب والعقاب. ومن معتقد أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل لا يخلف وعده تكرما منه عز وجل وتفضلا، فأهل التوحيد مآلهم إلى الجنة قطعا. قال تعالى: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . أما الوعيد ففيه تفصيل، فالمشرك الذي يختم له بالشرك في النار، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، وأما المؤمن العاصي ففي مشيئة الله، فقد يقع الوعيد في حقه وقد يتخلف. (1) وقد مضى سلف الأمة وعلماؤها وصالحوها على الإيمان بنصوص الوعد والوعيد وأنها حق، بما في ذلك الإيمان بالجنة والنار، إلى أن ظهر الفلاسفة فزعموا بأن الوعد والوعيد تخييل للحقائق موجه إلى عوام الناس، وظهر غلاة الصوفية فزعموا أن الجنة عبارة عن تنعم الأرواح، والنار عبارة عن تألمها. ووجد في هذا العصر من ينكر الوعد والوعيد مطلقا، أو يسخر بذلك ويظهر الاستهزاء به، أو من يسلك مسلك الباطنية في تأويل تلك النصوص وصرفها عن معانيها الظاهرة. وكل هذا كفر مناقض للإيمان بما جاء به الرسل، ونزلت به الكتب. يقول القاضي عياض رحمه الله: " ... وكذلك من أنكر الجنة أو النار، أو البعث، أو الحساب، أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواترا، وكذلك من اعترف بذلك، ولكنه قال: إن المراد بالجنة والنار والحشر والنشر والثواب والعقاب معنى غير ظاهره وإنها لذات روحانية، ومعان باطنة" (2) . إنكار معلوم من الدين بالضرورة:   (1) في مسألة إخلاف الوعيد، انظر اضواء البيان: 7/425. (2) الشفا: 2/615. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 المقصود بالمعلوم من الدين بالضرورة ما كان متواترا شائعا مستفيضا بين المسلمين، يعلمه الخاص والعام، ويجمع عليه علماء الأمة إجماعا قطعيا، بحيث لا يتصور وقوع الجهل به في دار الإسلام. وهذا شامل لأمور كثيرة سبق ذكرها في هذا الكتاب، مثل بعض أصول التوحيد، ولأمور أخرى لم تذكر آنفا مثل حرمة الخمر والزنا وغير ذلك. يقول ابن تيمية رحمه الله: "إن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق" (1) يقول القاضي عياض رحمه الله: " وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل، أو شرب الخمر، أو الزنا مما حرم الله، بعد علمه بتحريمه، كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة الصوفية. وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقينا بالنقل المتواتر من فعل الرسول، ووقع الإجماع المتصل عليه، ... " (2) . يقول صاحب الجوهرة: مِن ديننا يُقتل كفرا ليس حَد ومن لمعلوم ضرورة جحَد أوِ استباح كالزنا فلتسمع ومثلُ هذا من نفى لمُجمَع قال الشارح: " ومن جحد أمرا معلوما من أدلة ديننا يشبه الضرورة بحيث يعرفه خواص المسلمين وعوامهم، وهو ما ثبت بالقرآن الكريم، وكان قطعي الدلالة، أو بالسنة المشهورة المتواترة كذلك، وليس فيه شبهة، أو بإجماع جميع الصحابة المتواتر إجماعا قطعيا، قوليا غير سكوتي كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا، وشرب الخمر، يقتل لأجل كفره لأن جحده مستلزم لتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس قتله حدا وكفارة لذنبه ... " (3) ??? قلت في النظم: بذا أتى النص بلا نكران وفي المباني غيرها خلف جرى وعن كفوره الكتاب يفصح ترك الصلاة ناقض الإيمان فهي عماد الدين من غير امترا كذلك الساحر ليس يفلح الشرح:   (1) مجموع الفتاوى: 12/496. (2) الشفا2/611. (3) شرح جوهرة التوحيد للبيجوري: 454. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ذكرت في هذه الأبيات بعض الأمور التي اختلف أهل العلم في التكفير بها، فقلت: (ترك الصلاة ناقض الإيمان) على الصحيح، (بذا) أي: بهذا التكفير (أتى النص) في الكتاب والسنة (بلا نكران) ولا جحود. (فهْي) بتسكين الهاء (عماد الدين من غير امترا) أي دون شك أو ريب، والدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" (1) ، (وفي المباني غيرِها) أي مباني الإسلام الأخرى غير الشهادتين والصلاة، وهي الزكاة والحج والصيام، (خُلف جرى) أي وقع خلاف عند السلف في التكفير بتركها. (كذلك الساحر ليس يفلح) لقوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ، (وعن كفوره الكتاب) أي القرآن (يفصح) في مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} . فهذه مباحث ثلاثة، اختم بها هذا الفصل: ترك الصلاة: (2) لا شك أن الصلاة هي أعظم فرائض الإسلام العملية فقد مدحها الله عز وجل، وأثنى على مقيميها في غير ما آية، فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، فبدأ بها قبل غيرها من صفات المؤمنين المفلحين، ثم ختم بها فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} والأدلة على فضل الصلاة من الكتاب والسنة كثيرة جدا.   (1) - الترمذي في الإيمان-باب ما جاء في حرمة الصلاة برقم: 2612 (ص595) وقال: حسن صحيح، وأحمد في مسند الأنصار برقم: 21054. (2) انظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي ورسالة الصلاة لابن القيم، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقد جاءت النصوص المتظافرة الدالة على كفر تارك الصلاة، فمن ذلك: قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} . قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (1) . قوله - صلى الله عليه وسلم -: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (2) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف" (3) . قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي الدرداء: " لا تشرك بالله شيئا، وإن قطعت أو حرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا، فمن تركها عمدا فقد برئت منه الذمة" (4) .   (1) - مسلم في الإيمان-باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم: 82 (ص61) . (2) - الترمذي في الإيمان-باب: ما جاء في ترك الصلاة برقم: 2621 (ص595) ، وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي في الصلاة-باب: الحكم في تارك الصلاة برقم: 465 (ص75) ، وابن ماجة في إقامة الصلاة والسنة فيها برقم: 1069، وأحمد في باقي مسند الأنصار: 21859. (3) رواه أحمد في مسند المكثرين من الصحابة برقم: 6288. (4) رواه ابن ماجة في الفتن برقم: 4024، وأحمد في مسند الأنصار برقم: 21060. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وهنالك أدلة أخرى كثيرة، تركتُها اختصارا، لذلك فالصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه، أن من ترك الصلاة مطلقا، كسلا وتهاونا (1) ، فهو كافر أكبر مخرجا من الملة. وهذا قول أحمد وإسحاق وجماعة عظيمة من السلف وأهل الحديث. بل نقل إجماع الصحابة على ذلك، فقال التابعي الجليل عبد الله بن شقيق العقيلي: " كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" (2) . قال الشوكاني معلقا على هذا الأثر: " والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة " (3) . ترك الزكاة أو الصوم أو الحج: قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: " وذهب طائفة منهم (أي: من أهل الحديث) إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمسة عمدا أنه كافر بذلك، وروي ذلك عن سعيد بن جبير ونافع والحكم، وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو قول ابن حبيب من المالكية " (4) . أقول: ذكروا لهذا المذهب – أعني تكفير تارك الزكاة أو الحج أو الصيام – أدلة من نصوص الكتاب والسنة، لكنها تدور بين الصحيح غير الصريح، والصريح غير الصحيح، وقولِ من ليس قوله حجة. لذلك فالصحيح – وهو مذهب الجمهور – أن ترك واحد من هذه المباني الثلاثة – من غير جحود ولا استحلال – ليس كفرا، وإن كان ذلك من أعظم الكبائر، والله أعلم. السحر: اختلف أهل العلم في تعريف السحر، نظرا لخفائه ودقه معناه، قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "اعلم أن السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع مانع لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعا لها مانعا لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافا متباينا" (5) .   (1) أما من تركها جدودا أو استكبارا فهوكافر إجماعا. (2) - رواه الترمذي في الإيمان-باب ما جاء في ترك الصلاة برقم: 2622 (ص596) . (3) نيل الأوطار: 1/363. (4) - جامع العلوم والحكم: 147. (5) أضواء البيان: 4/41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 أقول: ونظرا لهذا الاختلاف في التعريف، فقد وقع الاختلاف في كونه كفرا أولا، مع اتفاقهم على تحريمه، فذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى كفر من يتعلم السحر ويستعمله، فيما فصَّل الشافعي فقال: "إذا تعلم السحر قلنا له صِفْ سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر بمثل ما اعتقد أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته فهو كافر" (1) . قال الشنقيطي رحمه الله: "التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل ـ فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله، كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر فهو كفر بلا نزاع، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة فإنه كفر بلا نزاع، كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} ، ( … ) وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها، فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر" (2) . أقول: بهذا التفصيل تلتئم الأدلة، وتجتمع الأقوال، والله أعلم. الخاتمة: إلى هنا قد انتهى المقصود والله ربنا هو المحمود نشكره على جليل نعمه ونستزيد من عظيم كرمه ثم الصلاة والسلام سرمدا على النبي والآل أنجم الهدى وهذه المنظومة اللطيفة قد شملت مباحثا منيفة سميتها قلائد العقيان لنظمها مسائل الإيمان أعددتها ذخرا ليوم الازدحام أرختها فافهم بنور في الختام. وفي اختتام النظم بهذا الشطر ثلاث فوائد مقصودة بالذات: أولها تأريخ النظم بحساب الجُمل - على واحدة من الطريقتين المعروفتين - إذ مجموع حروف " بنور في الختام" بهذا الحساب هو 1420 وهي سنة نظم هذا المتن.   (1) نقله ابن هبيرة في الافصاح: 2/226. (2) أضواء البيان: 4/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وثانيها ما نص عليه أهل البديع من أن خير الختم ما كان بلفظ يؤذن بالختام، وأبلغُه لفظ الختم والتمام والكمال. ونظمه السيوطي بقوله: وإن يجئ في الانتهاء مؤذن ... ... ... بختمه فهو البليغ الأحسن. وثالثتها التفاؤل بهذه الكلمات في أن تكون خاتمتنا تضيئها أنوار شهادة التوحيد، بعيدة عن ديجور أهل الشرك والباطل. نسأل الله عز وجل أن يحسن خاتمتنا، آمين. وبعدُ، فهذا الذي دبجه يراعي في هذه الأوراق هو مبلغ علمي، وغاية جهدي، وهو ما سمح به الوقت، وأسعفت به الهمة، في هذا الموضوع الشائك والخطير، جمَعتُ مادته من كتب متعددة، ومشافهات مع جماعة من أهل العلم من مشايخي وأهل الفضل علي. وقد راعيت فيه الاختصار الشديد، مع الإحاطة بكل جوانب الموضوع، ولم شمله. أما الاختصار، فلأنني لو بسطت الكلام في هذه المباحث المعروضة لجاء الكتاب في عدة مجلدات، مع أن المقصود إنما هو تقديم متن مختصر مشروح ومُعَد للحفظ والتدريس. وأما الإحاطة فلأن هذه المنظومة تشتمل على كل المباحث النافعة في موضوع الإيمان، ولا تغفل شيئا مما يحتاج إليه المسلم في هذا الباب، بل إن فيها إشارات مفيدة في كافة أبواب العقيدة، بحيث يمكن أن تُدَرس العقيدة كلها من خلال هذه المنظومة، إذا راعى المدرِّس التفصيل اللازم في مواضع التفصيل، والإجمال في مواضع الإجمال. على أنني كلما قلبت النظر في هذه الأوراق، رأيت فيها مواضع كثيرة تحتاج إلى تفصيل أكبر، وتمحيص أدق. فأقول مثلما قال القاضي الفاضل: ".. إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر، فأرجو مسامحة ناظريه فهم أهلوها، وأؤمل جميلهم فهم أحسن الناس وجوها … " (1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فاللهم يا ذا الغنى المطلق، والعدل المحقق، تدارك أمة نبيك محمد بألطافك السنية، وأفضالك العلية، وآلائك البهية. وأجعلنا من المخلصين المخبتين، المعترفين بالعجز والتقصير، المنيبين إلى رب العالمين. فلا تخزه بالرد، إن الجفا مر تؤملها النفس التي نالها الفقر ثقلت بأوزاري، وحاق بي العسر عسى أن يكون الترب من تحته التبر (1) فيا رب، راجي العفو بالباب سائل وأكرمه إن الجود منك عطية وتب يا عظيم الجود والفضل إنني ويا بارئي، لا تجزني بالذي مضى والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. أبو محمد المراكشي الرباط في شهر صفر الخير من سنة 1421 للهجرة. لائحة المراجع: إتحاف السادة المتقين للزبيدي - دار الفكر. أحكام أهل الذمة لابن القيم - ت: صبحي الصالح - دار العلم للملايين - ط:3 - 1413هـ. إرشاد الفحول للشوكاني - ت: أبي مصعب البدري - مؤسسة الكتب الثقافية - ط:6 - 1415هـ. أضواء البيان للشنقيطي - دار الفكر - 1415هـ. اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم - دار الحديث - القاهرة. اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية - ت: محمد حامد الفقي - دار الكتب العلمية - بيروت. الإحكام لابن حزم - دار الحديث القاهرة - ط:1 - 1404هـ. الآداب الشرعية لابن مفلح المقدسي - ت: شعيب الأرناؤوط وعمر القيام - مؤسسة الرسالة - 1417هـ. الأشباه والنظائر للسيوطي - ت: خالد عبد الفتاح شبل أبو سليمان - مؤسسة الكتب الثقافية - ط:1 - 1415هـ. الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة - المؤسسة السعيدية - ارياض. الإيمان لابن تيمية - ت: الألباني - المكتب الإسلامي - ط: 4 - 1413هـ. الاعتصام للشاطبي - بعناية: رشيد رضا - المكتبة التجارية - مصر. البداية والنهاية لابن كثير - توثيق: عبد الرحمن اللاذقي ومحمد بيضون - دار المعرفة بيروت - ط:4 - 1419هـ. التبيان في أقسام القرآن لابن القيم - دار الفكر.   (1) - هذه الأبيات من قصيدة لي بعنوان: "توبة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية لفالح بن مهدي آل مهدي – ت: عبد الرحمن بن صالح المحمود – دار الوطن – ط:1 – 1414هـ. التمهيد للحافظ ابن عبد البر – نشر وزارة الأوقاف المغربية – 1404هـ. التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع لأبي الحسين محمد بن أحمد الملطي الشافعي – ت: زاهد الكوثري – مكتبة المثنى ببغداد ومكتبة المعارف ببيروت – 1388هـ. الجامع في طلب العلم الشريف لعبد القادر بن عبد العزيز – ط:2 – ذو الحجة 1415هـ. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية – مطبعة المدني – القاهرة. الدرر السنية في الأجوبة النجدية – مطبوعات دار الإفتاء بالمملكة السعودية – ط:2 – 1385هـ. الروض الأنف للإمام أبي القاسم السهيلي – ت: مجدي بن منصور بن سيد الشورى – دار الكتب العلمية – ط1 – 1418هـ. السنة لأبي بكر الخلال- ت: عطية الزهراني- دار الراية للنشر والتوزيع – ط:2 – 1415هـ. الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية – ت: محيي الدين عبد الحميد – عالم الكتب – 1403 هـ. الصحاح لأبي نصر إسماعيل الجوهري – ت: أحمد عبد الغفور. الصلاة وحكم تاركها لابن القيم – ت: بسام الجابي – دار ابن حزم – ط:1 – 1416هـ. الفتاوى الكبرى لابن تيمية – ت: عبد القادر عطا (محمد ومصطفى) – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1408هـ. الفروق للقرافي – عالم الكتب – بيروت. الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1416 هـ. القاموس المحيط للفيروزآبادي – ت: يوسف البقاعي – دار الفكر – 1415هـ. القواعد الحسان للسعدي – مكتبة المعارف الرياض – 1400هـ. القول المفيد شرح كتاب التوحيد لمحمد بن صالح العثيمين – دار العاصمة – ط:1 – 1415هـ. الكشاف لأبي القاسم جار الله الزمخشري – تصحيح: محمد عبد السلام شاهين – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1415هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 المحلى بالآثار لابن حزم – ت: عبد الغفار البنداري – دار الفكر. المستصفى لأبي حامد الغزالي – ت: الأشقر. المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني – ت: محمد خليل عيتاني – دار المعرفة بيروت – ط:1 – 1418هـ. الملل والنحل للشهرستاني – ت: أحمد فهمي محمد – دار الكتب العلمية – ط:2 – 1413هـ. المنتخب من أدب العرب لجماعة من المؤلفين – المطبعة الأميرية بالقاهرة – 1950م. المواقف في علم الكلام للعضد الإيجي – مكتبة المتنبي – القاهرة. بدائع الفوائد لابن القيم – دار الفكر. تاج العروس تعظيم قدر الصلاة للمروزي – ت: عبد الرحمن الفريوائي – مكتبة الدار المدينة المنورة - ط:1 – 1406هـ. تفسير ابن كثير – تصحيح: خليل الميس – دار القلم – ط:2. تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن) – دار الكتب العلمية – ط: 2 – 1418هـ. تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) – دار الكتب العلمية – 1413هـ. تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر – ت: عبد القادر عطا – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1415هـ. تهذيب السنن لابن القيم (مع عون المعبود للعظيم أبادي) – إشراف: صدقي جميل العطار – دار الفكر – 1415هـ توضيح الكافية الشافية للسعدي – المطبعة السلفية – القاهرة – 1368 هـ. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – المكتب الإسلامي – ط:8 – 1409هـ. جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي – ت: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس – مؤسسة الرسالة – ط:2 – 1412هـ. جزء فيه عقيدة ابن عربي وحياته للشيخ تقي الدين الفاسي – ت: علي حسن عبد الحميد – دار ابن الجوزي – ط:2 – 1413هـ. جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد لمحمد بن سليمان الروداني – ت: سليمان بن دريع – مكتبة ابن كثير/دار ابن حزم – 1418هـ. جواهر البلاغة للسيد أحمد الهاشمي – دار الفكر – 1414هـ. حاشية البناني على شرح المحلي لجمع الجوامع – دار الفكر – 1415هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 حاشية الطالب بن حمدون بن الحاج على شرح ميارة على متن المرشد المعين – دار الرشاد الحديثة – 1412هـ. حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1420هـ. حقيقة الخلاف بين السلفية الشرعية وأدعيائها في مسائل الإيمان لمحمد أبو رحيم – دار الجوهري – ط:2 – 1419هـ. حلية اللب المصون للدمنهوري على متن الجوهر المكنون للأخضري (مع حاشية مخلوف المنياوي) – دار الفكر. درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية – ت: محمد رشاد سالم – دار الكنوز العربية الرياض – 1391هـ. ديوان المتنبي (بشرح البرقوقي) – دار الكتاب العربي بيروت – 1407هـ. رسالة في الرد على القائلين بوحدة الوجود لعلي بن سلطان القاري – ت: علي رضا – دار المأمون للتراث – ط:1 – 1415هـ. روح المعاني للألوسي – دار الفكر – 1408هـ. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر – مكتبة دار القلم والكتاب – ط1 – 1416هـ. سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ ناصر الدين الألباني – مكتبة المعارف الرياض – 1415هـ. سنن أبي داود – ت: سعيد محمد اللحام – دار الفكر – ط:1 – 1410هـ. سنن الترمذي – بإشراف: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ – دار الفيحاء/دار السلام – ط:1 – 1420هـ. سنن النسائي (المجتبى) – دار ابن حزم – ط:1 – 1420هـ. سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي – ت: جماعة بإشراف شعيب الأرناؤوط – مؤسسة الرسالة – ط11- 1419هـ. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي – ت: الغامدي شرح السنة للبغوي شرح العقيدة الأصبهانية لابن تيمية – ت: حسنين محمد مخلوف – دار الكتب الحديثة – القاهرة. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي – ت: الألباني – المكتب الإسلامي – ط: 9 – 1408هـ. شرح العلامة حسن درويش القويسني على متن السلم في المنطق لعبد الرحمن الأخضري – دار النشر غير مذكورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 شرح القصيدة النونية لابن القيم – شرح: محمد خليل هراس – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1406هـ. شرح المعلقات السبع للقاضي الزوزني – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1405 هـ. شرح جوهرة التوحيد للبيجوري – ت: أديب الكيلاني وعبد الكريم تتان – تقديم: عبد الكريم الرفاعي. شرح صحيح مسلم للإمام النووي – دار الفكر – 1419هـ. شرح عقود الجمان في البديع والمعاني والبيان للإمام السيوطي – دار الفكر. شرح كشف الشبهات (ومعه شرح الأصول الستة) للعثيمين – إعداد: فهد بن ناصر السليمان – دار الثريا للنشر – ط:3 – 1418هـ. شروح التلخيص في البلاغة – دار السرور – لبنان. شعب الإيمان للبيهقي – ت: محمد بن بسيوني زغلول – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1410 هـ. صحيح البخاري – بيت الأفكار الدولية – 1419هـ. صحيح الكلم الطيب لابن تيمية – للألباني – المكتب الإسلامي – ط:2 – 1394هـ. صحيح مسلم – اعتنى به: أبو صهيب الكرمي - بيت الأفكار الدولية – 1419هـ. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة – لعبد الله بن محمد القرني – مؤسسة الرسالة – ط:1 – 1413هـ. ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني – دار القلم دمشق – ط4 – 1414هـ. طرح التثريب شرح التقريب للعراقي – دار إحياء التراث العربي بيروت. طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم – ت: عمر محمود أبو عمر – دار ابن القيم – ط:2 – 1414هـ. ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي للشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي – من مطبوعات جامعة أم القرى. فتاوى السبكي – دار المعرفة بيروت. فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1410هـ. قواعد في التكفير لعبد المنعم مصطفى حليمة – دار البشير – ط:1 – 1415هـ. لسان العرب لابن منظور – دار صادر بيروت – ط: 6 – 1417هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 لسان الميزان لابن حجر – ت: محمد عبد الرحمن المرعشلي – دار إحياء التراث العربي مؤسسة التاريخ العربي – ط:1 – 1416هـ. مجموع الفتاوى لابن تيمية – جمع: هبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي. مجموعة التوحيد – دار الكتاب الإسلامي – المدينة المنورة. مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم – ت: رضوان جامع رضوان – دار الفكر – 1417هـ. مدارج السالكين – ت: محمد حامد الفقي – دار الكتاب العربي – ط: 2 – 1393هـ. مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لادريس محمد إدريس – مكتبة الرشد (شركة الرياض) – ط:1 – 1419هـ. معارج القبول شرح سلم الوصول لحافظ حكمي – ت: عمر محمود أبو عمر – دار ابن القيم – ط:3 – 1415هـ. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري – ت: محيي الدين عبد الحميد – المكتبة العصرية بيروت – 1411هـ. مفاتيح الغيب (تفسير الفخر الرازي) – دار الكتب العلمية – ط:1 – 1411هـ. منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى. موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن بن صالح المحمود – مكتبة الرشد الرياض – ط:2 – 1416هـ. ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي – ت: علي محمد البجاوي – دار المعرفة – ط:1 – 1382 هـ. نشر البنود على مراقي السعود لعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي – ط: اللجنة المشتركة بين المملكة المغربية ودولة الإمارات المتحدة. نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد العبد اللطيف – دار الوطن – ط:2 – 1415هـ. نيل الأوطار للإمام الشوكاني – ت: عصام الدين الصبابطي – دار الحديث القاهرة – ط:1 – 1413هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217