الكتاب: المطلق والمقيد المؤلف: حمد بن حمدي الصاعدي الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1423هـ/2003م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- المطلق والمقيد حمد بن حمدي الصاعدي الكتاب: المطلق والمقيد المؤلف: حمد بن حمدي الصاعدي الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1423هـ/2003م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... شكر وتقدير الحمد لله رب العالمين، الذي بيده كل عون وتوفيق، أحمده وأشكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصى. أما بعد: فكثيرون هم الذين أسهموا في إبراز هذه الرسالة حتى وصلت إلى المرحلة التي يشاهدها القارئ بين يديه. وأنا - قبل القارئ - مدين لهم بالشكر والتقدير، لما أبدوه من اقتراحات مفيدة. وما بذلوه من مساعدات علمية مشكورة. وأخص منهم بالذكر أستاذي وشيخي فضيلة الدكتور (محمد عبد الرحمن مندور) المشرف على الرسالة، الذي لم يتوان في تقديم التوجيه السديد، والملاحظة الدقيقة النافعة، مما كان له الفضل - بعد الله تعالى - في إخراج هذه الرسالة إلى حيز الوجود؛ حيث كان يرعاها ويتعهدها بتوجيهاته المفيدة، منذ كانت فكرة حتى نضجت وكملت، كما لا أنسى أن أنوه بالروح العلمية العالية التي لمستها من القائمين على شؤون الدراسات العليا، التي فتحت أمامي مجالات وآفاقاً واسعة سطرت آثارها على هذا البحث شكلاً ومضموناً. فهذه الرسالة بحق ثمرة التجاوب والتعاون العلمي المفيد الذي وجدته من جميع أسرة الجامعة. وهنا لا بد أن أنوه - أيضاً - بالعون العلمي والمادي الذي تبذله حكومتنا الرشيدة لطلاب العلم، ممثلة في الجامعة الإسلامية التي وفرت وما زالت توفر جميع ما من شأنه نجاح البحث العلمي النافع؛ فمكتباتها بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 تحويه من نفائس الكتب ونوادر المخطوطات غير محجوبة، وأبوابها دائماً مفتوحة للطلاب المستفيدين، فالله أسأل أن يجزي الجميع عني خير الجزاء، وأن يهدينا وإياهم إلى ما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 المقدمة وتشتمل على: 1 - كلمة في نشأة علم أصول الفقه وأهميته. 2 - أهمية الموضوع وسبب اختياره. 3 - طريقة كتابة البحث وتخطيطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تستمد منه أحكام الفقه الإسلامي، وقد تضمنا من المبادئ والقواعد والتوجيهات العامة ما يهدي إلى سواء السبيل. وبمجهودات الصحابة - رضوان الله عليهم - وما نقلوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم من شرح وتوضيح وتوجيه، ثم بمجهودات أئمة الأجيال التي أعقبت الصحابة - رضي الله عنهم - جاء البيان التام لمصادر الشريعة الإسلامية، واتضحت المناهج التي يمكن بها استمداد الأحكام التي تحدد مسار الخلق، وترسم لهم الطريق الذي يقودهم إلى بلوغ مصالحهم في الدنيا والآخرة. فبهذه المجهودات المتواصلة تَكَوَّن عِلْمٌ ذو شأن عظيم، وأهمية بالغة هو: علم أصول الفقه الإسلامي. وما دمنا بصدد الحديث عن أهمية أصول الفقه، فلعل مما يفيد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 هذا المقام ما أورده الأسنوي1 في كتاب التمهيد حيث يقول: "وبعد: فإن علم أصول الفقه، علم عَظُمَ نفعه وقدره، وعلا شرفه وفخره؛ إذ هو مثار الأحكام الشرعية، ومنار الفتاوى الفرعية التي بها صلاح المكلفين معاشاً ومعاداً، ثم إنه العمدة في الاجتهاد، وأهم ما يتوقف عليه من المواد2"3. وقد ظل علم أصول الفقه محط اهتمام المسلمين على مر العصور، وظل في مقدمة العلوم التي يندفع الدارسون لتلقيها وتدريسها.   1 الأسنوي: هو جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي القرشي الأموي الأسنوي الشافعي، ولد سنة (704هـ) وبرع في علوم اللغة والفقه والأصول، من أشهر مؤلفاته (نهاية السؤل شرح منهاج الوصول للبيضاوي) والتمهيد في تنزيل الفروع على الأصول، توفي رحمه الله سنة (772هـ) . طبقات الأصوليين للمراغي 2/186-187. 2 التمهيد ص: 39، تحقيق محمد حسن هيتو، ط أولى سنة 1400هـ، مؤسسة الرسالة بيروت، وقارن بمجلة الجامعة الإسلامية العدد (46) السنة 12 ص264. 3 وقد طبق الصحابة -رضي الله عنهم- ومن تبعهم بإحسان عند استنباطهم الأحكام من أدلتها هذا المنهج، ومن ذلك: قول ابن عباس -رضي الله عنه-: "من شاء باهلته أن آية النساء القصرى نزلت بعد آية النساء الطولى، إشارة إلى قاعدة نسخ المتأخر للمتقدم، وقول أبي بكر لفاطمة -رضي الله عنها- عند طلبها الإرث من فدك، لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" أخذاً بصيغة العموم في الحديث وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 والسبب في ذلك يعود إلى أن علم أصول الفقه يتمتع بخاصية تميزه عن سائر العلوم. فهو غزير في مادته، يشبع نهم المقبلين عليه، ويخاطب عقولهم، ويحث فيهم جذوة التفكير - بجانب أهميته ومكانته الرفيعة، فإذا أدرك الباحث أبعاد هذا العلم يجده متصلاً بجميع العلوم الشرعية، والعربية بمواده المتنوعة، فلا يتمكن منه دارس إلاَّ وقد حصلت له ملكة استنباط الأحكام الشرعية. فعلم الأصول على هذا ليس كما يتصوره بعضهم، علماً محصوراً في تعريفات ومناقشات لفظية، جافاً غير آخاذ، بل هو على العكس من ذلك تماماً، يدرك ذلك علماء الأصول الذين عايشوه دراسة وتدريساً، ومما يدل على ذلك أيضاً أن العالم بالفقه والأصول يقدم على غيره في الوظائف المهمة؛ لخطورة وأهمية ما يحمله، فهو الذي يولّى أخطر منصب في الدولة الإسلامية، ألا وهو منصب القضاء؛ فالفقهاء الملمون بالأصول مقدمون على غيرهم في تولي هذا المنصب، ويفضل - من هؤلاء - العارفون بحياة الناس الاجتماعية وعاداتهم المرعية. ومع هذه المكانة العالية لأصول الفقه، والجهود التي بذلت فيه على مر العصور إلا أن التأليف فيه قد جاء متسماً بصفة العموم والإجمال في بعض النواحي والإحالات على المواضيع التي يشبه بعضها بعضاً. أضف إلى ذلك أن أسلوب التأليف في القديم يختلفُ عنه في الوقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أضاء الكون بنور الإسلام، وأنزل القرآن على خير الأنام، الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل الحكيم العلاَّم، الرسالة الخالدة، والخالية من الأخطاء والأوهام، المتصف بالتآلف والوئام. والصلاة والسلام على خير البرية، ومعلم البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أفضل بني آدم خلقاً وسجية، بعث بالحنيفية والأخلاق المرضية، وفسر القرآن بسنته القولية والفعلية، وبيّن الأحكام الشرعية بالكلمات القدسية، وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوا هديه المبين، وتمسكوا بدينه واعتصموا بحبله المتين، ودافعوا عن شريعته بكل غال وثمين، وشددوا النكير على النزاع والخلاف بين المؤمنين، ورفعوا راية الإسلام في المشارق والمغارب قاصدين بذلك رضا رب العالمين. وعلى من اتبع هديه إلى يوم الدين من أمته المجتهدين المخلصين الذين صرفوا أعمارهم في خدمة الشريعة وأحكامها، فوفقوا بين نصوصها، ودفعوا التخالف عنها، وأعملوا راجحها وأولوا مرجوحها؛ فجعلوا لكل مسألة حكمها، ولكل مشكلة حلها، ولكل قضية مسارها، ولكل معارضة جمعها وتوفيقها، فبذلك كونوا ثروة فقهية عظيمة، كانت وما زالت مصدر كل باحث، ومعين كل تشريع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 1 - أهمية أصول الفقه: قد يكون من نافلة القول الحديث عن مكانة وأهمية أصول الفقه - باعتباره قواعد وضوابط كلية - تبين وتفسر نصوص الأحكام من الكتاب والسنة؛ اللذين إليهما مرد الشريعة الإسلامية في مصادرها الأصلية والتبعية؛ فالكتاب وهو كلى الشريعة وأصل أصولها تناول الأحكام بطريقة يزينها طابع الإجمال والعموم في الغالب. وتليه السنة التي كانت ترجمانه وتفصيله، وطريقة الوصول إلى هدايته وتفسيره، قال الله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1، فكان بيان ما أجمل من القرآن بطريق السنة، والكل وحي من الله - تعالى - إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله - تعالى -: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ... "3 الحديث؛ فالقرآن الكريم والسنة المطهرة هما الأساس الذي   1 سورة النحل، آية: 44. 2 سورة النجم، آية: 4. 3 الحديث رواه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء 3/170 رقم الحديث: 3050، باب الإمارة بلفظ: "ألا وإني والله وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء، إنها لمثل القرآن أو أكثر"، وفي كتاب السنة: 200 بمثل لفظ أحمد الآتي. ورواه الترمذي في كتاب العلم باب ما نهى عنه أن يقال: عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به، أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه أحمد في مسنده 4/131 بلفظ: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، وذكر أشياء أخرى"، والحديث من رواية المقداد بن معد يكرب، أبي كريمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الحاضر، وقلما تجدُ قارئاً لا يجدُ صعوبةً في دراسةِ الأصول، وفهم الأساليب التي كتبت بها. لهذا كله كان من الواجب على الباحثين في الدراسات الأصولية - وخاصة أصحاب رسائل الماجستير والدكتوراه - أن يهتموا بتلك النواحي التي لم تشبع بحثاً وتنقيباً، فيختاروها مواضيع لرسائلهم، وبهذا العمل يحققون أكثر من هدف لأنهم: أولاً: قد أكملوا تلك المواضيع التي لم يتناولها القدماء بالتفصيل. ثانياً: فإن كتابة رسائلهم ستكون متمشية مع أسلوب العصر، وفي ذلك تسهيل وتبسيط لفهم جانب كبير من تراثنا الإسلامي العريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 2 - أهمية الموضوع وأسباب اختياره: إن أهمية الموضوع تنبع من أهمية أصول الفقه نفسه، ومع هذا فإن مواضيع الأصول تتفاوت لمزايا خاصة بها، ولعل موضوعَ معرفة دلالة الألفاظ العربية من ناحية العموم والخصوص - ومنْ ناحية الإطلاق والتقييد من المواضيع الجديرة بالدراسة والبحث؛ لأن معظم أدلة الشرع غالبها العمومات والإطلاقات، فعلى من أراد فَهْم الأحكامِ الشَّرعية المستمَدَّة من نصوص الكتاب والسنة أن يكونَ مدركاً لأحكام الخطاب العام وعلاقته بالخاص، ولأحكام الخطاب المطلق وعلاقته بالمقيَّد، ومقاصد ذلك في اللسان العربي والعرف الشرعي. وقد اهتم الأصوليون - قديماً وحديثاً - بمباحث العام وتخصيصه، وأحكام كل منهما وعنوا بهما عناية فائقة تظهر بإلقاء نظرة على مؤلفاتهم في هذا الفن، كما أفرده بعضهم بمؤلفات ورسائل خاصة1. لكن المطلق حيث كان قريب الشبه بالعام اكتفى بعض الأصوليين من الجمهور بذكره عقب العام وأحكام التخصيص، ثم أحالوا من أراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 معرفة أحكام المطلق وتقييده على ما ذكروه في باب التخصيص، مكتفين بقولهم: "إن كلَّ ما يخصص العام يقيد به المطلق، وكل ما لا يجوز أن يخصص به العام لا يجوز أن يقيد به المطلق". وبالتالي لم تحظ أحكام المطلق بالتفصيل الذي حظيت به أحكام العموم. وهذا النقص والإجمال جدير أن يكون موضوعاً لرسالة علمية؛ لأن للمطلق ماهيته التي كانت مثار نقاش طويل لدى العلماء من حيث تحديدها، والفرق بينها وبين ماهية النكرة، ثم بينها وبين ماهية العام، وهل المطلق من قبيل العام أو الخاص؟ وإذا كان من أنواع الخاص فما تفسير قول العلماء: العام المطلق والفعل المطلق؟ ثم إن للمطلق دلالتَه التي لم يتفق الأصوليون على تصنيفها، أهي قطعيةٌ أم ظنيةٌ؟ ثم ما صلة المطلق بالمقيد؟ وهل يحمل المطلق على المقيد أولاً؟ وإذا كان المطلق يحمل على المقيد فما معنى ذلك، وما سببه؟ وما شروطه؟ وفي أي الحالات يكون حمل المطلق على المقيد وفي أيها يمتنع الحمل؟ ثم ما حكم حمل المطلق على المقيد إذا ما تعدد القيد؟ وما سبب الخلاف في الحالات التي لم يتفق الأصوليون على حمل المطلق على المقيد فيها، وما علاقة اختلافهم هذا بالقول بمفهوم المخالفة، وبالزيادة على النص، وما أثر هذا الخلاف على الفروع الفقهية؟ وأخيراً ما معني التقييد؟ وما الفرق بينه وبين التخصيص وبينه وبين النسخ؟ ثم بأي شيء يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تقييد المطلق؟ كل هذه التساؤلات وغيرها كانت سبباً مباشراً؛ لأن يكون موضوع بحثي الذي أتقدم به لنيل درجة الماجستير في قسم أصول الفقه في الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، هو: (المطلق والمقيد وأثرهما في اختلاف الفقهاء) . يضاف إلى ذلك سببٌ آخر شدَّني إلى الكتابة في هذا الموضوع وحملني على امتطاء عبابه، ألاَ وهو: بيان أن أدلةَ الشرعِ متآلفة لا متنافرة، متوافقة لا متعارضة، ليس بينها خلاف في نفس الأمر في المدلولات، ولا تباين في المفهومات، متى كان الدليلان متفقاً على صحتهما، وأخذ الأحكام عن طريقهما، لقوله - تعالى -: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً} 1، مفهوم الآية: نفي الاختلاف عن القرآن في نفس الأمر، غير أنه في بادئ النظر قد يجد المرء أن هناك تنافياً بين دليلين منطوقاً أو مفهوماً، وذلك راجع لنقص في علمه، أو خلل في فهمه وإدراكه للأصول والقواعد التي تنظم العلاقة بين أدلة الشريعة الإسلامية. فمثل هذا يجب أن يبصر ويعلم؛ ولا يكون إلا بمراجعة الكتب والرسائل التي تعالج هذه المواضيع بأسلوب علمي سهل.   1 سورة النساء، آية: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 - وأيضاً - فإن الكتابة في تلك المواضيع ستقوم بلا شك بوظيفة تقريب شقة الخلاف بين المذاهب الإسلامية، وإزالة الشكوك التي تساور النفوس الضعيفة، فتقول: إذا كان القرآن واحداً ونبي الإسلام واحداً، فَلِمَ هذا الاختلاف؟ ولماذا لم تتفق كلمة الفقهاء في الفروع، وما هي أسباب تلك الخلافات؟ إلى غير ذلك من التشكيك والأسئلة التي أساسها إما الجهل، أو عدم التَّحري في النقل عن المذاهب، أو عدم الدِّقِّة في الفهم والنظر، لهذا كله استخرت الله تعالى في الكتابة في هذا الموضوع، راجياً منه التوفيق والسداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 3 - طريقة البحث وتخطيطه: البحث، أو الرسالة الجامعية العالية عبارة عن قسمين: أحدهما: رئيس ويسمى (صلب الموضوع) ، وتبدأ كتابته بأعلى الصفحات ويحتل في الغالب ثلث الصفحة. والقسم الآخر: تابع للأول ومكمل له، ويسمى (بالهوامش أو التعليقات) ومكانه أسفل صفحات الرسالة، ويفصل بين القسمين خط أفقي. وطريقة بحثي في القسم الأول: (صلب الرسالة) تتلخص في الآتي: أولاً: عند التعريف بالمفهوم الاصطلاحي، أو القاعدة الأصولية. إذا كان المفهوم أو القاعدة منضبطاً وقابلاً للتحديد اللغوي والاصطلاحي، فإني أبدأ أولاً بتعريفه في اللغة، ثم في الاصطلاح، وأشرح التعريف وأبيِّن محترزاته أحياناً. أما إذا كان الأمر بخلاف ذلك فإنَّ تعريفه يكون بتصويره وتقريبه بالأمثلة التي تبين المراد منه. ثانياً: عند عرض آراء الفقهاء في القواعد والمسائل الأصولية: 1 - أبدأ بذكر أقوال العلماء في المسألة أو القاعدة، فإذا كانت الآراء حول القاعدة وأدلتها أو المسألة قليلة، فإني أذكر عقب كل رأي دليله ومناقشته، وإذا كان هناك ملاحظات أو إضافات أضفتها ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أؤخر ذلك كما يفعل بعضُ الباحثين؛ لأن تأخيرَه يشتِّت الفكرَ، ويحول دون تسلسله. 2 - أما إذا كانت الآراء حول المسألة أو أدلتها كثيرة، فإني أذكر الأقوال مجملة أولاً، ثم أتبع ذلك بأدلة كل مذهب على حدة، وغالباً ما يكون المذهب الراجح هو الأخير إلا ما صرَّحْتُ فيه بوجهة نظري. 3 - إذا كان الدليلُ عليه اعترض، فإني أذكر الاعتراض والرد عليه عقب الدليل مباشرة ولا أؤخر ذلك خشية تشتيت الذهن وعدم ترابط الأفكار. ثالثاً: أقارن بين الأدلة واستعرض مناقشات كل فريق لأدلة الفريق الآخر، فإذا كانت عندي ملحوظة أو إضافة فإني أذكرها، ثم أرجح ما يطمئن إليه قلبي وأعضد ذلك بوجهات نظري التي استنتجتها من الأدلة والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية. رابعاً: أذكر مثالاً أو أكثر لكل مسألة أو قاعدة تعرضت لبحثها، إذا وجدت من مَثَّلَ لها، وإن لم أجد اجتهد وأمثل من عندي إلا إذا لم أتمكن فأكون معذوراً في عدم التمثيل. وقد أشرتُ عقب كل قاعدة إلى أثر الخلاف في الفروع، ثم خصصت فصلاً كاملاً لأثر الخلاف بيَّنت فيه أثر الاختلاف في القواعد الأصولية العامة في باب المطلق والمقيد على الفروع الفقهية إيماناً مني أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 المهم في دراسة الأصول هو ربط القاعدة العامة بالفروع التي تفرعت عن الاختلاف في تلك القاعدة العامة. خامساً: عند عرض المسألة الفرعية التطبيقية: أرجع إلى كتب الفقه المشهورة واعتمد في كل مذهب على كتبه الخاصة بغية التأكد من صحة ما نسب إلى كل إمام، ولا أنقل مسألة إلا من كتب أصحابها المعتمدة ما وجدت إلى ذلك سبيلاً، وتارة اعتمد على كتب الأحكام المقارنة المشهود لها بالدقة والأمانة، كنيل الأوطار وسبل السلام، وما شاكلها، ثم أبين أن الخلاف فيها ناشئ عن الخلاف في القاعدة الأصولية التي تفرعت عنها، ولا اكتفي بسرد وجهات النظر حول المسألة الفرعية، بل أقوم أحياناً بالترجيح حسب الأدلة التي ذكرتها، وبذلك يمكن أن يستفاد من البحث من الناحية الفقهية بالإضافة إلى الناحية الأصولية. وأما طريقتي في هوامش الرسالة فهي تتلخص في الآتي: أولاً: النصوص الشرعية التي يودرها الأصوليون - سواء أكانت قرآناً أم سنة - لا اكتفي بنقلها عنهم، بل أرجع إلى مصادرها الأصلية، فأضبط الآية القرآنية من كتاب الله العزيز، وأتأكد من سلامتها من ناحية النقل، ثم أذكر رقم الآية واسم السورة. أما إذا كان النص حديثاً فإني أرجع إلى أمات كتب الحديث لأتأكد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 من سلامة لفظه، فإن كان مخرجاً في صحيحي البخاري1 ومسلم2 أو أحدهما اكتفيت بذلك ذاكراً الكتاب والباب الذي وجد فيه اعتقاداً مني أن ذلك أسلم؛ لأن ذكر الجزء والصفحة يختلف تبعاً لاختلاف الطبعات، وأما إذا كان الحديث مخرجاً في غير الصحيحين، فإني أذكر من خرجه ودرجته من الصحة، أو الحسن أو الضعف، إذا وجدت من حكم عليه بذلك من الحفَّاظ وأهل الاختصاص، وإلا اكتفيت بتخريجه من كتب الحديث المعتمدة ما وجدت إلى ذلك سبيلاً. ثانياً: ذكرت في الهامش المراجع التي استقيت منها البحث، مشيراً إلى اسم الكتاب ومؤلفه، والجزء والصفحة، وعدد الطبعات، واسم   1 البخاري: هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة إمام المحدثين وشيخ الحفاظ، ولد سنة 194هـ ببخارى ثم أخذ يحفظ الحديث وهو دون العاشرة من عمره، وألف فيه أصح كتاب بعد كتاب الله وهو (الجامع الصحيح للبخاري) ، توفي البخاري -رحمه الله- سنة (256هـ) . انظر: التقريب لابن حجر: 290، وتذكرة الحفاظ 2/122، والأعلام 1/258. 2 مسلم: هو مسلم بن الحجاج القشيري أبو الحسن النيسابوري الحافظ، أحد الأئمة الأعلام، ولد بنيسابوري سنة 204هـ، وطلب العلم منذر الصغر، ثم رحل إلى عدة أقطار، من أشهر مؤلفاته كتاب الصحيح المشهور بـ (صحيح مسلم) ، وهو من أجل الكتب وأصحها بعد صحيح البخاري، توفي -رحمه الله- سنة (261هـ) . انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ للذهبي 2/150، والوفيات 2/91، وقارن بعلوم الحديث ومصطلحه للكتور صبحي الصالح ص: 399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الطابع، وتاريخ الطبع، ومكانه، وهذا يجعلني أذكر كل كتاب وطبعته عند النقل منه، فإذا تكرر ذلك فعذري أنه لا توجد لدي جميع المراجع. ثالثاً: الأعلام التي ذكرت في صلب الرسالة، ترجمت لها في الهامش ترجمة موجزة، سواء كان المذكور صحابياً أو غيره، ليكون القارئ على بينة منه، ثم أحيل طالب الزيادة على المراجع التي ذكرت الترجمة بالتفصيل. رابعاً: شرحت المصطلحات والألفاظ الغريبة والأفكار التي وردت في أثناء البحث، وفيها إجمال، أما ما كان له تعلق بالموضوع فقد بينته في صلب الرسالة. فهذه جهودي المتواضعة في هذا البحث، وأرجو أن تكون قد كُلّلَت بالنجاح والتوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 4 - تخطيط البحث وطريقة تنظيمه: خطة البحثِ أو طريقةُ تنظيمِه تعني في عرف الباحثين رسم صورة متكاملة عن الموضوع المراد بحثه، يحدد فيها الباحثُ المعالمَ التي توضحُ الهيكلَ العام للرسالة، ويكون كلُّ عنصر فيها مكمِّلاً لجانب من جوانب البحث، وحلقة اتصال تربط ما بعدها بما قبلها، ومتى كانت الطريقةُ التي صيغت بها الخطة محكمةً ودقيقةً، فإنها تضفي صورة من الجمال والوضوح التام على الموضوع، وقد جرت العادةُ أن تكون النِّسَبُ التي تربط بين عناصر الخطة متدرجة من الأعلى إلى الأدنى. ولهذا حاولت أن تكون خطةُ بحثي مشتملةً على مقدمة، وتمهيد، وثلاثة أبواب تقفوها خاتمة البحث، وهي في النتائج التي توصلت إليها خلال معايشتي الطويلة لموضوع المطلق والمقيد: فالمقدمة: اشتملت على أهمية البحث وأسباب اختياره، ثم طريقة الكتابة فيه وتخطيطه. وأما التمهيد: فهو في تقسيم اللفظ المفيد إلى عام وخاص. وفيه أربعة مباحث: الأول: في تعريف العام، وألفاظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الثاني: في تعريف الخاص وصيغه. الثالث: في الفرق بين دلالة العام والخاص. الرابع: في أنواع الخاص. وفيه مطلبان: الأول: في تعريف الأمر، وصيغه المشهورة وحكم الصيغة المجردة. والثاني: في تعريف النَّهْي وصيغه المشهورة وحكم الصيغة المجردة. الباب الأول في التعريف بالمطلق والمقيد وفيه فصلان: الأول: في تعريفهما. الثاني: في دلالتهما. الفصل الأول: في التعريف بحقيقة المطلق والمقيد. وفيه: تمهيد في تقسيم اللفظ باعتبار الحال الملابسة له، ومبحثان: الأول: في تعريف المطلق لغة واصطلاحاً. الثاني: في تعريف المقيد لغة واصطلاحاً. الفصل الثاني: في دلالة المطلق والمقيد: وفيه خمسة مباحث: الأول: في الفرق بين المطلق والنكرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الثاني: في الفرق بين المطلق والعام. الثالث: في المعهود الذهني بين الإطلاق والتقييد. الرابع: في عروض الإطلاق والتقييد للأفعال والأسماء الشخصية. الخامس: في حكم المطلق والمقيد، إذا لم يردا في موضوع آخر مطلقين أو مقيدين. الباب الثاني في حمل المطلق على المقيد وفيه ثلاثة فصول: الأول: في حكم حمل المطلَق على المقيَّد. الثاني: في تحرير محل النزاع وأسباب الخلاف. الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد. الفصل الأول: في حمل المطلق على المقيد: وفيه ثلاثة مباحث: الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وسببه. الثاني: في شروط الحمل. الثالث: في أحوال المطلق والمقيد وحكم الحمل في كل حالة. وفيه ثلاثة مطالب: الأول: في محل الاتفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الثاني: في محل الاختلاف. الثالث: في حكم حمل المطلق على المقيد إذا تعدد القيد. الفصل الثاني: في تحرير النزاع وأسبابه: وتحته مبحثان: الأول: حكم التقييد بالمتأخر. الثاني: في أسباب الاختلاف. وفيه مطلبان: الأول: في الاختلاف في حجية مفهوم المخالفة. الثاني: في الاختلاف في الزيادة على النص. الفصل الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد: وفي ثلاثة مباحث: الأول: في مسائل الطهارة والصلاة. الثاني: في مسائل الحدود والكفارات. الثالث: في مسائل متفرقة. الباب الثالث في مقيدات المطلق وفيه تمهيد وفصلان: التمهيد: يحتوي على النقاط التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 1 - العلاقة بين مخصصات العام ومقيدات المطلق. 2 - معنى التقييد لغة واصطلاحاً. 3 - المقيد باسم الفاعل ما هو؟ 4 - الفرق بين التقييد والتخصيص. 5 - الفرق بين التقييد والنسخ. الفصل الأول: في تقسيم المقيدات، وحكم المتصل منها: الفصل الثاني: في المقيدات المنفصلة: وتحته مبحثان: الأول: في المتفق عليه. الثاني: في المختلف فيه. ثم خاتمة البحث، وفيها النتائج التي توصلت إليه من خلال البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 التمهيد وهو في (تقسيم اللفظ المفيد إلى عام وخاص) ويشتمل على تقديم وأربعة مباحث: الأول: في تعريف العام وألفاظه. الثاني: في تعريف الخاص وصيغه. الثالث: في الفرق بين دلالة العام والخاص. الرابع: في أنواع الخاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 تمهيد : في تقسيم اللفظ المفيد إلى عام وخاص ألفاظ اللغة العربية ذات دلالات متنوعة1.   1 يقصد بالدلالة هنا: دلالة اللفظ الوضعية: وهي كون اللفظ إذا أطلق فهم منه المعنى، وقيل هي: فهم المعنى من اللفظ متى أطلق بالنسبة للعالم بالوضع، وهذا التعريف الأخير أخص من الأول؛ لأن العلماء بالوضع (اللغة) يدركون من دلالات الألفاظ على معانيها التي وضعت لها قدراً لا يحيط به غيرهم فيكون ذلك القدر خفياً بالنسبة لغير العلماء بالوضع. يرجع إلى التنقيح مع التلويح لصدر الشريعة الحنفي 1/131 ط محمد علي صبيح بمصر. ورسالة التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية للدكتور عبد اللطيف عبد الله عزيز البرزنجي 1/33 ط الأولى، مطبعة العاني سنة 1397هـ 1977م بغداد. وقد اتفق اللغويون والأصوليون على أن دلالة اللفظ الوضعية تنقسم إلى ثلاثة أنواع: مطابقة، وتضمن، والتزام. فدلالة المطابقة هي: دلالة اللفظ على تمام المعنى الذي وضع له، كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، وتسمى عبارة النص أيضاً. ودلالة التضمن: هي دلالة اللفظ على جزء من المعنى الذي وضع له اللفظ، كدلالة الإنسان على الحيوان، أو الناطق في ضمن دلالته عليهما معاً. ودلالة الالتزام: هي دلالة اللفظ على معنى خارج عن المعنى الموضوع له اللفظ، لكنه لازم للمعنى الموضوع كـ (دلالة الضرب الموضوع للحدث - وهو الدق - على الضارب والمضروب) : المرجع الأخير 1/33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فمنها: ما يدل على فرد واحد، أو أفراد كثيرة محصورة بعدد معين فيسمى خاصاً. ومنها: ما يدل على أفراد كثيرة لا حصر لها من ذات اللفظ، بل كلها تنضوي تحت هذا اللفظ الواحد إذا أطلق فيسمى عاماً. والقرآن الكريم الذي هو مصدر الأحكام الشرعية نزل باللغة العربية واستعمل ألفاظها بمختلف أنواعها، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 1، وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} 2، وكذلك كل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول فهو: عربي مبين؛ لأنه أفصح من نطق بالضاد3. لهذا كله كان بدهياً أن يعني علماء الأصول - وهم المختصون بوضع المناهج والخطط لفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واستنباط الأحكام منها -. أقول: لقد كان بدهياً أن يعنوا بدراسة الألفاظ العربية من هذه الناحية، أي: (ناحية الخصوص والعموم) ويضعوا القواعد والضوابط التي   1 سورة يوسف، الآية الثانية. 2 سورة الشعراء الآيات من: 193-195. 3 اقتباس من حديث أنا أفصح من نطق بالضاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 تحدد المسار الذي يسلكه كل من أراد معرفة الأحكام الشرعية، من الكتاب والسنة، وقد فعلوا ذلك بكل أمانة، وإخلاص، وبمعايير بلغت الغاية في الدقة، وكان من البداهة أن يقع بينهم بعض الاختلاف، في تلك القواعد والضوابط الكلية، ولا سيما ما يتعلق منها بمباحث العموم المتشعبة التي دارت حولها أقوال علماء الأصول، واختلفت نظرتهم فيها من حيث ماهية العموم1، وقوة دلالة العام، ومدى قابليته للتخصيص2 الذي يحد من استغراقه للأفراد الداخلة تحت عمومه من حيث الظاهر حيث أخذت هذه المباحث قسطاً كبيراً من اهتمامات الأصوليين، والسبب في تشعب   1 الماهية: نسبة إلى السؤال في قولنا ما هو الشيء في حقيقته أو ذاته؟ أي: أنها المكونات الذاتية لحقيقة ما، ومعنى المكونات الذاتية لحقيقة من الحقائق ما لا توجد الحقيقة بدونه: كقولنا في حقيقة الرجل أو ماهيته (الإنسان الذكر) فالإنسانية والذكورية: هما الذاتيات المكونة لماهية الرجل فلو تخلف واحد منهما لم توجد ماهية الرجل ... . (ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال ص: 35 عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ط الأولى 95 دار العلم) . 2 التخصيص عند الجمهور قصر العام على بعض أفراده بدليل، أو هو بيان أن بعض الأفراد التي تناولها العام بظاهره غير مرادة منه: تنقيح الفصول للقرافي ص:51 ط أولى سنة 1393هـ تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، توزيع دار الفكر. وأصول الفقه للخضري بك 216 ط سادسة 1389هـ توزيع المكتبة التجارية الكبرى بمصر، بيان النصوص التشريعية وطرقه وأنواعه للدكتور بدران أبو العين بدران ص: 148 ط م، ك الاسكندرية محمد محمود محمد مسعد، الناشر منشأة المعارف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 مباحث العموم يعود إلى عدة أسباب نجملها فيها يلي: السبب الأول: اختلاف نظرة العلماء في ماهية العموم. 1 - فمن العلماء من لا يشترط لتحقق هذه الماهية إلا انتظام اللفظ العام جمعاً من المسميات سواء كان الانتظام لهذه المسميات من طريق اللفظ أو المعنى1. 2 - ومنهم من يشترط لتحقق تلك الماهية استغراق اللفظ الموضوع وضعاً واحداً جميع ما يصلح له دفعة واحدة2، بحيث لا يخرج شيء مما يصدق عليه معنى اللفظ، ولهذا السبب اختلفت تعاريف العام عند الأصوليين. السبب الثاني: منهج القرآن الكريم في تشريعه للأحكام، حيث أتى على نحو كلِّي وعام في الغالب، مما يستدعي البيان والتفصيل. السبب الثالث: مدى قابلية اللَّفظ العام للتخصيص الذي يحد من تناوله للأفراد ويقصره على بعضها، وإذا كان اللفظ العام يحتمل التخصيص فهل كل دليل أو قرينة صالح؛ لأن يصرف العام عن ظاهره؟   1 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري 1/33-34 ط جديدة بالأوفست، سنة 1394-1974م على نفقة دار الكتاب- بيروت. 2 المنهاج للبيضاوي مع شرحيه للأسنوي والبدخشي 2/56-57، ط علي صبيح وأولاده بمصر- بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بقطع النظر عن قوة الدليل أو القرينة، أو لا بد من أن يكون الدليل المخصص للعام في قوة العام ثبوتاً ودلالة؟ ولا عبرة للاحتمال الذي لم ينشأ عن دليل مساو للعام في ثبوته ودلالته1. السبب الرابع: هل قبول العام للتخصيص كقبول الخاص للتأويل2 أو هو أكثر منه؟ ولا ريب أن كثرة قابلية اللفظ للحد من تناوله للأفراد والقاصر له على بعضها تورث شبهة في معناه؛ فلا يقوى على معارضة3، ما هو أقل قابلية لها منه. تلك هي أهم الأسباب التي حملت الأصوليين على الإفاضة في مباحث العموم، ولا يخفى ما لذلك كله من أثر بالغ في تبين مراد الشارع من العموميات والتنسيق بينها وبين ما يعارضها من أدلة خاصة، وما قد   1 المراد بثبوت العام الطريق الذي وصلنا بواسطته من حيث التواتر أو الأحاد، ودلالته سيأتي الكلام عليها. 2 المؤول: لغة المصروف عن ظاهره مأخوذ من الأوْل وهو الرجوع، واصطلاحاً صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله بدليل أقوى من الظاهر، وقيل: بيان المراد من اللفظ بالدليل الظني. المستصفي ص/128، والمناهج الأصولية ص:188. 3 المعارضة: لغة المقابلة والممانعة، وتعارض الدليلين تقابلهما على وجه يمتنع معه العمل بكل منهما على ظاهره. شرح الأسنوي مع شرح البدخشي 2/207 ومع الابهاج 2/177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ينعكس على الفروع الفقهية "المستنبطة" من تلك القواعد التي كان منشأ الاختلاف فيها هو الاختلاف في تلك القواعد والضوابط الكلية العامة. وهذا لا يعني أن علماء الأصول لم يعنوا بدلالات الألفاظ من ناحية الخصوص، ووضع القواعد والأسس التي تنير الطريق لكل من أراد معرفة الأحكام واستنباطها من الألفاظ الخاصة، فإن الخاص له ميدان واسع في تفسير النصوص الشرعية وأهمية واضحة يرى أثرها في عناية علماء الأصول وجهودهم في مباحث الخاص، ذلك أن الخاص في ماهيته ودلالته وأنواعه له علاقة بمسالك الأئمة في الاستنباط وما نشأ عن ذلك من الاختلاف في الفروع والأحكام، فهو يقابل العام كما أنه قطعي في دلالته، ولكنه مع ذلك يحتمل التأويل إذا وجد الدليل، ولكن هل احتماله للتأويل كاحتمال العام للتخصيص أو أقل. ذلك ما اختلفت فيه أنظار العلماء، ولأهمية تلك النقاط السابقة سنتناولها في المباحث التالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المبحث الأول: في العام لقد بات من المعروف بداهة لدى كل باحث في الشريعة الإسلامية التي نزلت أحكامها باللغة العربية - سواء أكان يريد تحديد مفهوم حقيقة ما من الحقائق التي لها صلة بأحكام الشرع، أم كان يريد تبيين مفهوم نص من نصوصه - المشتملة على تلك الأحكام، أقول: لقد بات من الأمور المسلمة لدى كل باحث في الدراسات الإسلامية أن عليه معرفة مفردات اللغة العربية وتراكيبها، وما ذاك إلا لأن معرفته هي الأصل والأساس الذي يبنى عليه معرفة أحكام الشريعة، ولا يمكن معرفة مفردات اللغة وتراكيبها في الوقت الحاضر إلا بمراجعة المعاجم اللغوية التي حفظت لنا الاستعمالات العربية. ومن خلال البحث والتنقيب في خلايا تلك المعاجم يوقف على الأوضاع اللغوية، والاستعمالات المختلفة للفظ، وعلى ضوء ذلك يحدد المفهوم اللغوي للحقيقة المراد تعريفها، وغالباً ما يكون المفهوم اللغوي أعم من المفهوم الاصطلاحي1.   1 يراجع في هذا المعنى الموافقات للشاطبي 2/231، ط دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، تعليق عبد الله دراز، والفتاوى لابن تيمية 3/237، ط دار الكتب الحديثة، توفيق عفيف، والمناهج الأصولية للدكتور فتحي الدريني ص/27، تحت عنوان المناهج الأصولية مشتقة من خصائص اللغة ومقاصد الشرع، ط أولى 1396هـ دار الرشيد- دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولهذا يزاد بعض القيود والأوصاف التي تحد من المفهوم اللغوي إذا أريد تعريف حقيقة ما من الحقائق التي للشرع فيها عُرْفٌ أخص من العرف اللغوي العام، وعلى هذا يكون لكل حقيقة من الحقائق التي يبحثها علماء الشريعة تعريفان: الأول: تحديد المفهوم اللغوي العام. والثاني: تحديد المفهوم في اصطلاح أهل الفن المراد بحث الحقيقة فيه: أ - فالعام في اللغة اسم فاعل من (عم) بمعنى: شمل، مأخوذ من العموم وهو الشمول، يقال: مَطَرٌ عام أي: شامل للأمكنة كلها، وخصْب عام، إذا وسع البلاد وشملها، وعَمَّ القوم بالعطية، إذا شملهم بها، والقرابة إذا زادت بحيث جاوزت الأبوة انتهت إلى صفة العمومة. من خلال هذه الاستعمالات للفظ العام يمكن أن نعرف العموم في اللغة بعبارة وجيزة، ومن تعريف يتضح معنى العام، فنقول: (العموم في اللغة تناول أمر لمتعدد سواء كان لفظاً أو معنى) 1.   1 القاموس المحيط لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي 4/156 ط دار الجيل، المؤسسة العربية للطباعة والنشر- بيروت، الصحاح لإسماعيل بن حماد الجوهري 5/1992-1993، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، طبع على نفقة (حسين شربتلي) بمطابع دار الكتاب العربي بمصر سنة 1376هـ، المعجم الوسيط - مجمع اللغة 2/629 ط الثانية مطابع دار المعارث بمصر، 1393، أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد للعلامة السعيد سعيد الخوري الشرتوني اللبناني 2/832 بدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ب - العام في الاصطلاح: أشرنا فيما سبق إلى اختلاف العلماء فيما تتحقق به ماهية العام، ورأيناهم يتَّجهون في القدر الذي يتحقق به مفهوم العموم إلى اتجاهين: الأول: من يرى اشتراط الاستغراق في العام، ومعنى ذلك أن يتناول اللفظ كل ما يصدق عليه معناه دفعة واحدة، بدون حصر بالنسبة للفظ العام من حيث هو. ولأصحاب هذا الاتجاه عدة أقوال في تعريف العام، لم تسلم من الاعتراض ولكنها ليست بمتساوية؛ لأن بعض الاعتراضات الواردة عليها يمكن دفعها بسهولة، وبعضها من الصعب أن يوجد له دافع، ولذا سنختار التعريف الآتي: وهو أن العام: (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر) 1.   1 جمع الجوامع للسبكي 1/455-456، مع حاشية العطار ط أولى العلمية بمصر سنة 1316?، وحاشية البناني والشربيني على جمع الجوامع 1/233-234 ط أولى المطبعة العلمية سنة 1316?، ومنهاج العقول للبيضاوي مع شرحيه الأسنوي والبدخشي 2/56، التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة الحنفي 1/32، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي على روضة الناظر ص: 203 طبع مطابع الأصفهاني بجدة بنفقة الجامعة، بدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الاتجاه الثاني: من يكتفي في تحقق ماهية العموم بانتظام اللفظ جمعاً من المسميات سواء كان انتظامه لها بطريق اللفظ أو المعنى، ويقصد بانتظام اللفظ للمسميات أن يكون دالاً عليها من جهة (الصيغة) مثل: رجال وزيدون، ويراد بانتظام المعنى لها: أن يكون عمومه باعتبار معناه، لا صيغته كـ (القوم والرهط والجن) ؛ فإن هذه الألفاظ عامة من جهة المعنى حيث تناولت جمعاً من المسميات وليست صيغتها صيغة الجمع. وأصحاب هذه الاتجاه لا يشترطون في العام الاستغراق، ويعرفونه بأنه: (لفظ ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى) 1. أ - شرح التعرف الأول: وهو أن العام: (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر) : 1 - كلمة: جنس أو كالجنس في التعريف يشمل العام وغيره، والجنس في الأصل: مفهوم كلي مقول على كثيرين مختلفين في الحقائق في جواب ما هو؟ كقولنا في السؤال عن حقيقة الحيوان في ذاته؟ الذي ينطبق على زيد والفرس باعتباره جسماً نامياً حساساً2، ثم اصطلح على إطلاقه على أول ما يذكر في التعاريف، ويرجع قولنا: جنس أو كالجنس بالترديد   1 أصول البزذوي مع كشف الأسرار للبخاري 1/33-34. 2 ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال للأستاذ حبنكه الميداني ص 32-40، ومباحث التخصيص د، عمر عبد العزيز ص: 18-23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 إلى اختلاف العلماء في العلوم الاصطلاحية هل لها حقائق خارجية أو لا؟ فمن ذهب إلى الأول عبر بالجنس، ومن ذهب إلى الثاني عبر بكـ (الجنس) 1. والتعبير بالكلمة في تعريف العام أولى من التعبير بـ (لفظ) ؛ لأن اللفظ يطلق على المهمل والمستعمل والكلمة خاصة بالمستعمل. 2 - تستغرق: أي شأنها ذلك، ومعنى استغراق الكلمة أن تتناول كل ما يصدق عليه معناها دفعة دون حصر من ذات اللفظ والمراد بالاستغراق - هنا - معناه اللغوي؛ فلا يكون مرادفاً للعام2، وبهذا القيد أي: الاستغراق تخرج النكرة في الإثبات إذا لم يقترن بها ما يفيد العموم؛ لأنها تتناول فرداً مبهماً كقولك: (أكرم رجلاً) الصادق بإكرام أي رجل كان. 3 - الصالح لها: معنى كون الشيء صالحاً للكلمة أن يكون مقصوداً منها في اللغة3 مثل: (مَنْ) الصالح لمن يعقل و (ما) الصالحة لغير العاقل، وهذا القيد وهو (الصالح لها) لبيان الواقع؛ لأن الكلمة لا تستغرق ما لا   1 رسالة التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية د. مصطفى البزرنجي 1/31، وأصول الأحكام للدكتور حمد عبيد الكبيسي ص: 8 ط أولى دار الحرية للطباعة- بغداد سنة 1395هـ. 2 حاشية العطار على جمع الجوامع 1/456. 3 الأسنوي على منهاج العقول للبيضاوي 2/69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 يصلح لها، وفيه فائدة التنبيه على أن العموم شمول اللفظ لما يصدق عليه من معنى. 4 - بلا حصر: أي: من ذات اللفظ ودلالة العبارة، لا في الواقع؛ لأن أفراد العام مهما كثرت فهي محصورة في الخارج، ولكن اللفظ العام لا يدل على ذلك الانحصار، ويدخل في هذا التعريف للعام اللفظ المشترك1 إذا استعمل في أفراد معنى واحد من معانيه، كقولك: (العين يصح منها الوضوء) ؛ لأن المشترك مع القرينة الدالة على استعماله في أفراد المعنى الواحد من معانيه لا يصلح لغيرها. ب - شرح التعريف الثاني، وبيان محترزاته: وهو أن العام: (لفظ ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى) . 1 - لفظ: جنس، أو كالجنس في التعريف والتعبير بالكلمة أولى منه كما سبق، وفيه إشارة إلى أن العموم من عوارض الألفاظ دون المعاني2.   1 المشترك في اللغة اسم مفعول، مأخوذ من الشركة وهي اشتراك المتعدد في أمر واحد، وعند الأصوليين: المشترك لفظ وضع لمعنيين فأكثر بأوضاع متعددة. أصول السرخسي 1/126، وشرح الأسنوي 1/281، وأصول الفقه للزحيلي1/283. 2 سبق أن العموم في اللغة شمول أمر لمتعدد سواء كان لفظاً أو معنى، ولكن وقع الخلاف فيما يطلق عليه لفظ العام حقيقة أهو اللفظ، أم المعنى؟ وللعلماء في ذلك مذاهب أولها: أن العموم يطلق على اللفظ حقيقة وفي المعنى مجاز، والثاني يطلق على المعنى حقيقة وفي اللفظ مجاز، والثالث يطلق عليهما معاً حقيقة ورجحه ابن الحاجب: ولكن الجمهور على المذهب الأول. فتح الغفار 1/84، فواتح الرحموت 1/258، الموافقات 3/166، مختصر ابن الحاجب 2/101، والأحكام للآمدي 1/198، جمع الجوامع 2/403، شرح الكوكب المنير 3/106-107، نزهة الخاطر 2/118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 2 - ينتظم: أي: يشتمل ومفهوم الاشتمال يتحقق بتناول أمر واحد لمتعدد فيكون أعم من الاستغراق في اصطلاح الأصوليين؛ لأن الاستغراق في اصطلاحهم، تناول اللفظ ما يصلح له دفعة واحدة بدون حصر، وبهذا القيد يحترز عن المشترك؛ لأنه لا يشمل معنيين فأكثر، بل يحتمل المعاني الموضوعة لها على السواء، وكذلك تخرج النكرة في سياق الإثبات إذا لم يقترن بها ما يفيد العموم؛ لأنها لا تنتظم جمعاً من المسميات، بل فرداً مبهماً غير معيَّن في الخارج. 3 - جمعاً من المسميات: الجمع في اللغة ضم الشيء إلى غيره ولكن العُرْفَ قصره على الثلاثة فما فوق، فيكون من شرط اللفظ العام عند أصحاب هذا التعريف أن ينتظم من المسميات ما يصح تسميتها بالجمع، وهذا القيد ينتظم الاستغراق وغيره1. وإنما احترز به عن المعاني؛ لأن اللفظ الواحد لا ينتظم جمعاً من المعاني.   1 كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي لعلاء الدين البخاري 1/33-36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 4 - لفظاً: أي عمومه مستفاد من جهة صيغته كـ (رجال وزيدون) . 5 - أو معنى: أي عمومه باعتبار معناه دون صيغته مثل: القوم والرَّهط والجن، فإنها ألفاظٌ عامة من جهة المعنى حيث تناولت جمعاً من المسميات وليس صيغتها صيغة الجمع1.   1 المرجع السابق نفس الجزء والصفحة. وقد عرف القاضي أبو زيد الدبوسي من الحنفية العام بالتعريف السابق، ولكنه خالف أكثر أصولي الحنفية في معى انتظام اللفظ جمعاً من الأسماء، حيث فسرها بالتسميات وفسر الانتظام لها لفظاً أن يشمل اللفظ أسماء مختلفة -كالشيء فإنه لفظ يشمل الأرض والسماء والجن والإنس وغيرها، وفسر الانتظام معنى: أن يحل المعنى محالاً كثيرة؛ فتدخل المحال المختلفة تحت العموم بواسطة المعنى، كمعنى المطر، لما حل محالاً كثيرة دخلت المحال تحت لفظ المطر دخول الموجودات تحت لفظ الشيء، لكن بوساطة معناه وهو حلوله بها لا بلفظه؛ لأنه لا دلالة له على المحال بخلاف الشيء؛ فإن لفظه يدل على ما انتظمه. ولما رأى الشيخ البزدوي -رحمه الله- أن انتظام اللفظ لمدلولات الأسماء، لا للأسماء وأن دخول المحال تحت لفظ المطر بطريق الالتزام، ولا مدخل له في التعريفات فسر الأسماء بالمسميات؛ والانتظام اللفظي والمعنوي بما ذكرنا في التعريف السابق احترازاً عما اختاره القاضي أبو زيد الدبوسي، ووافق شيخ الإئمة السرخسي الإمام البزدوي، وقال عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار: إن ما اختاره البزدوي في تفسير الانتظام اللفظي والمعنوي هو الأصوب.. كشف الأسرار 1/35، والفرق بين تعريف الإمام الدبوسي والبزدوي أن الشيء والإنس والجن، ونحوها عام لفظي على اختيار الدبوسي: وعام معنوي على اختيار البزدوي والسرخسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقد أورد على هذا التعريف اعتراض وهو أنه غير جامع، لأن النكرة المنفية عامة، ولم يتناولها، حيث إنها لا تنتظم جمعاً من المسميات. ودفع هذا الاعتراض: بأوجه منها: أولاً: أن التعريف المذكور لبيان العام الحقيقي، والنكرة المنفية عمومها من جهة القرينة فتكون مجازاً في العموم. ثانياً: سلمنا أن عمومَ النكرة المنفية حقيقيَّ ولكن التعريف المذكور لبيان العام (الصيغي) وليس المراد منه حصر العام الحقيقي وعليه فإيراد الاعتراض غير وارد. ثالثاً: الوضع ليس شرطاً في العام؛ فيجري لفظ العام على إطلاقه وحينئذ يشمل التعريف المذكور عموم النكرة المنفية؛ لأنها تنتظم جمعاً من المسميات معنى1. وقبل أن نودع هذا المبحث نتساءل هل هناك فرق بين تعريف الجمهور والحنفية، وما هي ثمرة الخلاف إذا وجدت؟ وللجواب على هذا التساؤل نقول: نعم، هناك فرق بين التعريفين ولهذا الفرق ثمرة تظهر فيما يلي:   1 أصول البزدوي مع كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري 1/33-34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 أولاً: أن الجمعَ المعهود والمنكر من قبيل العام عند من عرَّفه بالتعريف الثاني وهم الحنفية لانتظام كل منهما جمعاً من المسميات، وليس الأمر كذلك عند من عرفه بالتعريف الأول الذي أخذ به معظم الأصوليين؛ لأن شرط الاستغراق منتف فيهما. ثانياً: العام الذي خص منه بعض أفراده هل يبقى حقيقة1 في الباقي، أو هو مجاز2 بعد التخصيص؟   1 الحقيقة: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً كـ (قولك: هذا أسد إذا رأيت الحيوان المفترس؛ فإن لفظ أسد أول ما وضع للحيوان المفترس، فاستعماله فيه يسمى حقيقة وفي غيره مجاز. بيان المختصر 1/183، ومفتاح العلوم ص:3358، وشرح الكوكب الساطع (ص289) . 2 والمجاز: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولاً، لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، كـ (قولك) : رأيت اليوم أسداً في يده بندقية، فالأسد حقيقة يطلق على الحيوان المفترس، ولكنه في هذا المثال أريد به الرجل الشجاع لعلاقة المشابهة بين الرجل والأسد الحقيقي في الشجاعة والقوة والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي قولك: (في يده بندقية) ؛ لأن الحيوان المفترس لا يحمل بندقية في يده عادة، وإنما الذي يحمل البندقية هو الرجل الشجاع. وقد قيل: إن المثال لا يعترض عليه؛ لأن المقصود منه التوضيح. بيان المختصر وحاشية البناني 1/301، ومفتاح العلوم 359، وشرح الكوكب الساطع ص294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 يقول علاء الدين البخاري1 شارح أصول البزودي مشيراً إلى ذلك: وفائدة الخلاف بين التعريفين تظهر في العام الذي خص منه، فعلى رأي الجمهور لا يجوز التمسك بعمومه حقيقة؛ لأنه لم يبق عاماً، وعندنا - يعني الحنفية - يجوز التمسك بعمومه حقيقة لبقاء العموم باعتبار الجمعية2. وفي قوله: لا يجوز التَّمسك بعمومه حقيقة إشارة إلى (محط الخلاف) وأنه راجع إلى أن استعمال العام في بعض الأفراد، يجوز عند الحنفية على سبيل الحقيقة، وعلى رأي الجمهور لا يصح استعمال اللفظ العام في بعض أفراده حقيقة، ويصح مجازاً ذلك أن اللفظ موضوع للاستغراق على رأي الجمهور، وبعد تخصيصه ببعض الأفراد خرج الوضع الذي يصح التمسك به من أيدينا فلم يبق إلا المجاز. ويرى بعض الأصوليين أن العام إذا خص بما لا يستقل - كالاستثناء والشرط - أو خص بالعقل يبقى حقيقة في الباقي؛ لأن ما لا يستقل بتمام   1 انظر ترجمته ص 177. 2 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/33، وفصول البدائع في أصول الشرائع للفناري ص 82 ط الشبخ محي أفندي سنة 1289هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الفائدة هو ولفظ العام بمنزلة الكلام الواحد، وإذا خص بمنفصل يصير مجازاً في الباقي، وهناك آراء أخرى في هذه المسألة تراجع في المطولات. ولعل الراجحَ منها هو مذهب الجمهور الذي ذكرناه فيما سبق، وخاصة إذا علمنا أن الجمهور مع غيرهم يجوزون الاحتجاج به على تناول الأفراد الباقية بعد التخصيص باعتباره دليلاً محتملاً أي: أن دلالته على الباقي ظنية. ثالثاً: الاختلاف في صيغ العموم فهي عند الجمهور لابد أن تكون مستغرقة بوضعها اللغوي، وعند بعض الحنفية يكفي أن تكون منتظمة جمعاً من المسميات1.   1 يراجع في ذلك العدة لأبي يعلى الحنبلي 2/539-540 تحقيق الأستاذ سير المباركي ط أولى مؤسسة الرسالة سنة 1400هـ، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/5، والأحكام للآمدي 2/209 تعليق عبد الرزاق عفيفي، والمنخول للغزالي ص 153 ط أولى تحقيق محمد حسن هيتو -دار الفكر والنشر، ومسلم مثبوت 1/308- مطبوع مع المستصفى للغزالي دار إحياء التراث العربي، والمسودة لآل تيمية ص 116 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، والمعتمد في الأصول لأبي الحسين البصري 1/282-294 ط أولى المعهد الفرنسي للدراسات العربية دمشق 11384هـ تحقيق محمد حميد الله وتعاون معه محمد بكر وحسن حنفي، نهاية السول شرح منهاج الوصول للأسنوي 2/394-395 ط التوفيق الأدبية لصاحبها محمد توفيق الكتبي الحلوجي بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 2 - ألفاظ العام: العموم من المعاني التي تدعو إليها حاجة التخاطب وفهم مرادات الخطاب، ولهذا كان من المستبعد أن يغفل الواضع عن وضع الألفاظ الدالة على العموم مع توفر ما يدعو إلى ذلك1. من أجل ذلك كان من المتفق عليه لدى الأصوليين أن للعموم صيغاً في اللغة، لكن تعيين تلك الصيغ وحصرها محل خلاف بين الأصوليين، نظراً لاختلافهم في ماهية العموم كما سبق. فمن يشترط في ماهية العموم الاستغراق ينبغي أن تكون الألفاظ الدالة على العموم عنده مستغرقة بوضعها اللغوي. ومن يكتفي بالاجتماع لا يرى ذلك شرطاً، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الوضع ليس شرطاً عند بعض الأصوليين، وأن مطلق العموم كاف، ولو كان بقرينة خارجة عن دلالة اللفظ لغة، اتضح لنا السبب في تفاوت أنظار الأصوليين في صيغ العموم، ولكن مع ذلك كله فليس هناك ما يمنع من أن تتقارب وجهات النظر بين الأصوليين ويتفقوا على طائفة من الصيغ الدالة على العموم فتشترك في ذكرها جميع الكتب الأصولية؛ لأنها   1 المستصفى ص: 328 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة بمصر سنة 1391هـ تحقيق محمد مصطفى أبو العلا، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 115، دار الفكر العربي بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 بمثابة المتفق عليه، لشهرتها وهذا ما سنقتصر على ذكره في هذا المبحث، ومن تلك الصيغ: 1 - الجمع المحلى بأل المفيدة للاستغراق: كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} 1، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} 2،فلفظ (المؤمنون) في الآية الأولى، والذنوب في الآية الثانية، كل منهما معرف (بأل) الاستغراقية، فيكون شاملاً لكل مؤمن ولكل ذنب، ومثل ذلك في إفادة الاستغراق: الجمع المضاف إلى معرفة كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 3، فلفظ (أولادكم) في هذه الآية الكريمة جمع مضاف إلى ما ذكر فيكون شاملاً لجميع الأولاد، إلا ما خص الدليل. وتقييدنا (أل) بكونها استغراقية احترازاً من (أل) العهدية4، فإن   1 سورة المؤمنون الآية الأولى والثانية. 2 سورة الزمر: آية: 53 وتمامها: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} . 3 سورة النساء آية: 11. 4 مثال: أل العهدية: قولك لزميلك في المدرسة (جاء المدرسون) فإن أل الداخلة على المدرسين ليست استغراقية، لاستحالة مجيء جميع المدرسين، وإنما هي عهدية لمدرسي مدرستكم أو كليتكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الجمع المحلى (بأل) العهدية لا يكون عاماً، وكذلك يشترط في إضافة الجمع أن تكون لغير معهود1وإلا كان الجمع حينئذ غير عام. 2- المفرد المعرف بأل الاستغراقية أو الإضافة: ويمثل للأول بقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2، ويمثل للثاني بقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} 3. فلفظ الإنسان في الآية الأولى مفرد معرف (بأل) المفيدة للاستغراق، فيدل على استغراقه لكل فرد من أفراد الإنسان، إلا ما استثني، وكذلك لفظ (نعمة الله) في الآية الثانية: مفرد معرف بالإضافة، فيفيد عموم نعم الله سبحانه وتعالى، وإذا قام دليل على أن (أل) الداخلة على المفرد ليست للاستغراق كقولهم: الرجل خير من المرأة؛ فلا يكون المفرد المعرف بالألف واللام حينئذ عاماً؛ لأن التفضيل وقع في المثال السابق بحسب   1 ومثال الجمع المضاف إلى معهود قولك: في المثال السابق، مدرسوكم حضروا. 2 سورة العصر آية: 1، 2. 3 سورة النحل، آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الجنس لا باعتبار الأفراد، وكذلك إذا كانت الإضافة عهدية؛ فإن المفرد المعرف بها لا يعم كقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً} 1. فإن الرسول الثاني المحلى بـ (أل) هو الرسول المعهود في أول الآية: فلا يعم. 3 - الأسماء الموصولة: كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 2، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 3. فإن لفظ {الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} : في الآية الأولى اسم موصول يشمل كل آكل لمال اليتيم بدون حق، وكذلك لفظ {الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ}   1 سورة المزمل آية: 15-16. 2 سورة النساء آية: 10. 3 سورة البقرة آية: 234 وتمامها: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 في الآية الثانية اسم موصول يشمل كل متوفى سواء كان قبل الدخول أو بعده، فإن العدة تلزم زوجته في الحالين، لهذا العموم، إلا أن يرد عليه مخصص، ولكن يشترط في عموم الاسم الموصول أن لا تكون صلته عهدية، فإن كانت صلة الموصول عهدية فلا يعم. 4 - أسماء الشرط: مثل قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1، فإن لفظ (مَنْ) في الآية الكريمة شرطية تفيد أن مَنْ شَهِدَ شَهْر رَمَضَانَ من المسلمين وَجَب عليه الصيام، وكذلك قَول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً فله سَلَبه"2 يفيد أن كُلَّ من قتل قتيلاً استحق سلبه3.   1 سورة البقرة آية: 185. 2 رواه البخاري ومسلم. أما البخاري فقد رواه في باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلاً فله سلبه من غير أن يخمس وحكم الأمام في ذلك، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6/246 ط المكتبة السلفية. ومسلم أخرجه في باب استحقاق القاتل سلب القتيل 3/137 ط دار إحياء التراث العربي بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، وبنظر النووي على مسلم 12/59 المطبعة المصرية ومكتبتها. 3 السلب: بالفتح ما علي القتيل من السلاح والأمتعة. المصباح المنير للفيومي ص: 284 مادة (سلب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 5 - أسماء الاستفهام وأدواته: كقوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} 1، وقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2، فإن لفظ (مَنْ) في الآية الأولى اسم استفهام يفيد أن كل منن يقرض الله قرضاً حسناً يضاعفه له، ويفيد الاستفهام في الآية الثانية، عدم وجود خالق بحق غير الله سبحانه وتعالى. 6 - النكرة في سياق النفي أو النهي: مثال النفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا وصيةَ لوارث"3؛ فإن (الوصية)   1 سورة الحديد، آية: 10، وتمامها: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} . 2 سورة فاطر آية: 3، وتمامها: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} . و ((هل)) من أدوات الاستفهام وليست اسماً. 3 رواه أبو داود 3/114 رقم الحديث (2870) ط دار إحياء السنة النبوية وتعليق محمد محي الدين عبد الحميد، ورواه أحمد 3/114 ط ثانية المكتب الإسلامي 1398هـ. وفي إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، وهذا التخريج للألباني ط أولى المكتب الإسلامي بيروت 1399هـ ذكر هذا الحديث في الجزء 6/87 رقم الحديث (1655) وقال بعد أن جمع طرقه: وخلاصة القول أن الحديث صحيح لا شَك فيه، بل هو متواتر كما جزم بذلك السيوطي من المتأخرين. أما الصحة فمن الطريق الثاني للحديث، وقد تفرد بذكرها هذا الكتاب -يعني إرواء الغليل- مع التنبيه على صحته دون سائر كتب التخريجات التي وقفت عليها. وأما التواتر: فانضمام الطرق إليها وهي وإن كان في بعضها ضعف فبعضه ضعف محتمل يقبل التحسين لغيره، وبعضه حسن لذاته، ولا سيما أنه لا يشترط في الحديث المتواتر سلامة طرقه من الضعف؛ لأن ثبوته بمجموعها لا بالفرد منها كما هو مشروح في كتب المصطلح. انتهى كلام الألباني في إرواء الغليل 6/95. وهنا ننبه إلى أن للعلماء آراء في صحة الاحتجاج بالحديث على ثبوت الأوضاع اللغوية، ولكن الراجح منها صحة الاحتجاج بالحديث النبوي على ثبوت اللغة إذا سلمت طرقه من الضعف، وكان صحيح الإسناد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 في هذا الحديث نكرة واقعة في سياق النفي، فتدل على العموم، وأن كُلَّ وصيةٍ لوارث منهيٌ عنها بهذا الحديث إلا ما خصه الدليل. ومثال النَّهي: قوله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} 1، فإن قوله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ} واقع في موقع نكرة في سياق النهي فيشمل جميع أنواع السخرية.   1 سورة الحجرات، آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 7 - لفظ كل وجميع: فإنهما يدلان على العموم فيما يضافان إليه مثل قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} 1، وقوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 2. ومثال: جميع قولك: (جميعُ طلبة الجامعة مسلمون) ، غير أن الفرق بينهما أن العموم في كل يوجب شمول الأفراد على الإحاطة، وفي جميع يوجبه على جهة الاجتماع3.   1 سورة الطور آية: 21. 2 سورة الأعراف آية: 31. 3 أصول البزدوي 2/9، والتوضيح على التنقيح لصدر الشريعة 1/60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 المبحث الثاني: في الخاص 1 - تعريفه: أ - الخاص في اللغة: المنفرد، مأخوذ من قولهم: اختص فلان بكذا؛ إذا انفرد به دون غيره، وخصني بكذا أفرده لي، وكل اسم لمسمى معلوم على الانفراد يقال له: خاص، والحاصل أن الخصوص في اللغة الانفراد وانقطاع المشاركة1. ب - وأما الخاص في الاصطلاح: فلا يبدو أن هناك ابتعاداً في تعريفه اصطلاحاً عن معناه اللغوي؛ إذ المناسبة بين المعنيين موجودة؛ ولهذا اتفق الأصوليون على أن المراد من الخاص اصطلاحاً: ما يوجب الانفراد ويقطع الاشتراك، وإن اختلفوا في التعبير الموصل إلى تلك الحقيقة، فقد عرفه فخر الإسلام البزدوي2 بأنه:   1 لسان العرب للعلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي 7/24، ط دار صادر للطباعة والنشر - بيروت 1375هـ، مختار الصحاح لأبي بكر الرازي ص: 177 ترتيب محمود خاطر بك ط خاصة دار الفكر 1392هـ، وترتيب القاموس للأستاذ الطاهر أحمد الزاوي 2/64 - 65 ط 3 دار الفكر بدون، مفردات الراغب أبي القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني ص149 تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني م مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1381هـ. 2 البزدوي هو: علي بن محمد بن الحسين فخر الإسلام البزدوي نسبة إلى بزدة وهي: قلعة حصينة قريبة من المدينة المعروفة نسف، ولد البزدوي سنة 400هـ وتلقى العلم بسمرقند حتى اشتهر بتبحره في الفقه والأصول، فعد من حفاظ المذهب الحنفي، وله في الأصول كتاب (كنز الوصول إلى معرفة الأصول) والمطلع على هذا الكتاب يدرك مقدار إحاطته بفن الأصول، ولأهمية هذا الكتاب اعتنى بشرحه عدة علماء وأهم شروحه شرح عبد العزيز البخاري المسمى (كشف الأسرار) توفي البزدوي سنة 482 راجع: طبقات الأصوليين للشيخ عبد الله مصطفى المراغي 1/263 ط ثانية 1394هـ - الناشر محمد أمين، والإعلام لخير الدين الزركلي 5/148 ط 3 دمج وشركاه - بيروت 1389هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 (كل لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد وانقطاع المشاركة، وكل اسم لمسمى معلوم على الانفراد) 1، وبنحو هذا التعريف عرفه شمس الأئمة السرخسي2 حيث يقول: (الخاص كل لفظ موضوع لمعنى معلوم مع   1 أصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/30 - 31. 2 السرخسي هو: محمد بن أحمد بن أبي سهل المعروف بشمس الأئمة السرخسي الفقيه الحنفي الأصولي، وكنيته أبو بكر، والسرخسي نسبة إلى سرخس - بفتح السين والراء المهملتين وسكون الخاء، بلدة قديمة من بلاد خراسان، سميت باسم رجل سكنها وعمرها، وكان السرخسي من أئمة الأحناف المشهورين بلا نزاع، ومن مؤلفاته الجليلة في الفقه الحنفي المبسوط في ثلاثين جزءاً، وله في الأصول كتابه المشهور أصول السرخسي، توفي السرخسي سنة 483 على الأشهر، ولم أقف على سنة ولادته، طبقات الأصوليين للمراغي 1/264 - 265، ومعجم المؤلفين للأستاذ رضا كحالة 8/267 ط دار إحياء الكتاب العربي - بيروت 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الانفراد، وكل اسم لمسمى معلوم على الانفراد) 1، وبالجملة: الخاص ما ليس بعام كما حققه بعض الأصوليين2. ويبدو أن العلماء يعنون بالمعنى الواحد ما يتناول الحقيقي والاعتباري؛ لأن الخاص قد يكون واحداً بالشخص كزيد وعمر، وسائر أسماء الأعلام. وقد يكون واحداً بالنوع3، مثل: رجل، امرأة، منزل، سيارة. أو واحداً بالجنس4 مثل: إنسان، حيوان، وكما يوضع الخاص   1 أصول السرخسي 1/125. 2 تيسير التحرير لابن أمير الحاج 1/190 ط محمد علي صبيح بمصر بدون، المعتمد لأبي الحسين البصري 1/251، وإرشاد الفحول للشوكاني ص: 132. 3 النوع: مفهوم كلي مقول على كثيرين متفقين في الحقائق في جواب ما هو؟ كقولنا: ما هو الرجل في ذاته، الذي ينطبق على زيد وعمرو، وغيرهما باعتبار الحقيقة وهي الذكورية والإنسانية. 4 والجنس: مفهوم كلي مقول على كثيرين مختلفين في الحقائق في جواب ما هو؟ كقولنا: في السؤال عن حقيقة الحيوان: ما هو الحيوان في ذاته، الذي ينطبق على زيد والفرس باعتباره جسماً نامياً حساساً. فالمفهوم يقصد به المعنى الذهني الذي يثيره اللفظ في الذهن، ويكون للفظ دلالة كلامية عليه. والكلي: ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. والاستفهام: بما هو يستفهم به عن الماهيات الذاتية، ومعنى الماهيات الذاتية: ما يكون داخلاً في حقيقة الشيء، كالحيوانية والناطقية بالنسبة إلى الإنسان، ضوابط المعروفة وأصول الاستدلال للأستاذ عبد الرحمن حبنكة الميداني ص32 - 40 ومباحث التخصيص د. عمر ص 18 - 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 للأعيان كما في الأمثلة السابقة؛ فإنه يكون موضوعاً للمعاني، كالذكاء والعِلْم والعقد، والحوالة، وسائر المشتقات المجردة من (أل) الاستغراقية كاسم الفاعل، واسم المفعول، وصيغتي الأمر والنهي1، وحروف المعاني2 مثل: واو العطف، وهمزة الاستفهام. وإنما كان اللفظ الموضوع للنوع أو الجنس من قبيل الخاص - مع أن للنوع أفراداً كثيرة في الخارج وللجنس أنواعاً عدة - نظراً إلى الحقيقة التي وضع لها اللفظ؛ إذ هي واحدة لا تعدد فيها، فرجل موضوع لإنسان ذكر، وحيوان موضوع لجسم نام حساس. وما دام أن المعتبر في الخاص الوحدة عند الواضع - سواء كانت حقيقية كما في خاص العين، أو اعتبارية كما في خاص النوع والجنس فمن الممكن إدخال أسماء العدد والمثنيات في الخاص3 أيضاًَ؛ لأنهما أي: اسم العدد والمثنيات، وإن دل كل منهما على متعدد، فهما موضوعات في   1 أصول التشريع الإسلامي للأستاذ علي حسب الله ص: 160 ط أولى 1371هـ م المعارف بمصر. 2 المرآة وشرحها للأزميري ص:23 ط الحاج محرم أفندي سنة 1302هـ الاستانة. 3 التوضيح مع التلويح 1/33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 اللغة لوحدة اعتبارية -؛ إذ لم يلاحظ عند الوضع كل فرد من أفراد المثنى واسم العدد على حده. وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نعرف الخاص أخذاً من كلام الأكثرين بأنه: (لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد أو لكثير محصور) 1، وبقولنا: أو لكثير محصور نكون قد كشفنا عن المعنى الواحد الاعتباري فيشمله التَّعريف إلى جانب المعنى الحقيقي. شرح التعريف: (لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد، أو لكثير محصور) 1 - اللفظ: كالجنس يشمل الخاص وغيره، والتعبير به هنا متعين تفادياً لتكرار الوضع، لأنه يريد أن يصف المعنى بالواحد، فلو قال: (كلمة وضعت لمعنى واحد ... الخ) لتكرر الوضع في التعريف لأن الكلمة في الاصطلاح لفظ وضع لمعنى بخلاف اللفظ، وتفادياً لذلك لجأ إلى التعريف بالجنس البعيد للحاجة؛ فلا يرد عليه بأن التعريف بالجنس القريب أولى. 2 - وضع: الوضع جعل الألفاظ دليلاً على المعاني2، وهذا القيد   1 المرجع السابق، كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/79، وشرح المنار لابن ملك 1/20، مع الحواشي ص:62 ط المطبعة العثمانية سنة 1319هـ، أصول السرخسي 1/128، وأصول الأحكام د. حمد عبيد الكبيسي ص: 283. 2 المنار مع حواشيه ص: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 كالفصل يخرج ما لم تكن دلالته وضعية، كدلالة اللفظ المهمل على حياة لا فظة. 3 - لمعنى: المراد به هنا مدلول اللفظ الوضعي1: وهو بمعنى المفهوم فيشمل الذات كزيد، والمعنى كالعلم، والذكاء. 4 - واحد: الواحد صفة للمعنى وبه خرج المشترك؛ لأنه موضوع لمعنيين فأكثر على سبيل البدل، ويخرج به المطلق على رأي من لم يجعله خاصاً ولا عاماً؛ لأن الوحدة والكثرة من الصفات، والمطلق ملحوظ فيه الذات دون الصفات2. 5 - على الانفراد: يراد بهذا القيد كون اللفظ متناولاً لمعنى واحد من حيث إنه واحد مع قطع النظر عن أن يكون له في الخارج أفرادٌ أو لم تكن3، وبه يخرج العام؛ لأنه وإن كان موضوعاً لمعنى واحد تشترك فيه أفراد العام منظور فيه عند الوضع شمولُه لما تناوله من أفراد. 6 - أو لكثير محصور: يراد من هذا القيد إدخال الخاص الاعتباري، وهو ما كان انحصاره مستفاداً من نفس اللفظ كالمثنى وأسماء العدد؛ لأنهما   1 المرجع السابق ص: 62. 2 المرجع السابق ص:63. 3 المرجع السابق ص: 63 حاشية الرهاوي ص: 64، وتيسير التحرير 1/185، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 1/30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وإن دل كل منهما على متعدد موضوعان في اللغة لوحدة اعتبارية وهي: المجموع في أسماء العدد والتثنية في المثنيات - ولم يلاحظ عند الوضع كل فرد على حدة في المثنيات، ولا كل جزء من أجزاء العدد على حدة. كما لم يلاحظ ذلك عند وضع لفظ زيد اسماً لشخص آخر مثلاً. وقد أورد على تعريف البزدوي والسرخسي للخاص اعتراض. وهو أن كلمة (كل) في قوله: (الخاص كل لفظ وضع لمعنى واحد ... الخ) لم تقع موقعها؛ لأنها لإحاطة الأفراد والتعريف للحقائق1. ودفع هذا الاعتراض بأوجه منها: أولاً: أن كلمة (كل) الغرض منها بيان التسمية وتطبيقها على الأفراد؛ فلا استبعاد؛ لأن التسمية للأفراد دون الحقائق. ثانياً: أن كلمة (كل) شائعة في الحدود على طريقة الأدباء؛ لأنها أقرب إلى إفهام المتعلمين، فكأنه قال: (الخاص كل لفظ أريد به كذا الخ) وحينئذ يحصل المقصود من الحد مع تقريب الفهم وضبط المحدود. ثالثاً: أن كلمة (كل) ليست من الحد، وإنما دخلت عليه بعد تركيبه2 إشارة إلى ضبط المراد من الخاص.   1 المنار للنسفي مع حواشيه ص: 65. 2 مشكاة الأنوار المسماة بفتح الغفار لابن نجيم، وهي شرح للمنا للنسفي 1/17، مع الحاشية ط مصطفى البابي الحلبي سنة 1355هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 2 - صيغ الخاص: يراد بصيغ الخاص: الألفاظ التي دل الاستقراء على أنها وضعت لتدل على معنى واحد على الانفراد، أو لكثير محصور، وسبق القول بأن العلماء يعنون بالواحد ما يتناول المعنى الحقيقي والاعتباري، وأمثلة كل من النوعين كثيرة، ذكرنا فيما سبق ما يمكن أن يكون داخلاً تحت القسمين ونكتفي هنا بذكر بعضها1، فمن تلك الصيغ: 1 - أسماء الأشخاص: كزيد وعمرو ونحو ذلك. 2 - ما يطلق على النوع أو الجنس، وكان خاصاً به: مثل رجل، إنسان، حيوان. 3 - ما وضع لمعنى واحد: مثل: العلم، الذكاء، العقد الحوالة، الكفالة ... الخ. 4 - ما وضع لواحد اعتباري: كالمثنى وأسماء العدد، مثل: عشرة، ومائة وألف ونحوها. 5 - صيغ الأمر والنهي: وسيأتي الكلام عليها في مبحث مستقل. 6 - النكرة في سياق الإثبات: إذا لم يقترن بها ما يفيد العموم، وهي نفس المطلق عند بعض الأصوليين، كرجل ورجال، فإنها نكرة في   1 الأحكام للآمدي 2/162، والمختصر لابن الحاجب 2/155 بمراجعة وتصحيح شعبان محمد إسماعيل - نشر مكتبة الكليات الأزهرية سنة 1393هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 سياق الإثبات فتدل على الوحدة الحقيقية، إذا كانت مفردة، وتدل على ما فوقها في الوحدة الاعتبارية، كالمثنى وأسماء العدد، والجمع المنكر، فلو قلت مثلاً: أكرمت رجلين، وتصدقت بدراهم، تكون صادقاً بإكرامك رجلين، وبتصدقك بثلاثة دراهم أيّ ثلاثة. 7 - حروف المعاني: وهي تتناول الآتي: أ - حروف العطف1: مثل: واو العطف، وثم، وبل، ولكن ... الخ. ب - حروف الجر2: مثل: على، حتى، في، عن، من ... الخ. جـ - أسماء الظروف3: مثل: قبل، وبعد، وعند ... الخ. د - كلمات الشرط4: مثل: إن، ولو، وإذ ما، ومتى ... الخ. وقد أطلق عليها كلها لفظ الحرف تغليباً لكثرة الحروف فيها، وسميت بحروف المعاني لوضعها لمعان خاصة، وتمييزاًَ لها عن حروف المباني وهي الحروف التي تتركب منها بنية الكلمة؛ فالهمزة المفتوحة مثلاً إذا قصد بها الاستفهام أو النداء كانت من حروف المعاني، وفي أحمد وأكرم من حروف البناء5 التي تتركب منها بنية الكلمة، وقد أفاض الأصوليون   1 المنار 431 - 478، والمرآة لملاخسرو 130 - 142، والتوضيح 338 - 381. 2 المنار 478 - 495، والمرآة لملاخسرو 142 - 151، والتوضيح 381 - 396. 3 المنار 495 - 499، والمرآة لملاخسرو 151 - 152، والتوضيح 396 - 398. 4 المنار 499 - 511، والمرآة لملاخسرو 152 - 155، والتوضيح 398 - 404. 5 التلويح مع التوضيح 1/348، والمرآة لملاخسرو ص: 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 في بيان هذه الحروف وما يترتب على ذلك من أحكام وفروع فقهية كثيرة، فمن يريد الزيادة فعليه مراجعة الكتب المطولة1.   1 المنار مع حواشيه ص478 - 495، والتلويح مع التوضيح 1/381 - 396، والمرآة مع شرحها ص: 130 - 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 تكملة في تقسيمات اللفظ الموضوع أشرنا في تمهيدنا للبحث إلى أن ألفاظ اللغة العربية ذات دلالات متنوعة، وذكرنا هناك ما نظنه راجحاً، وهو انقسام اللفظ المفيد إلى عام وخاص، وسبق الكلام على ماهيتهما، وما لهما من الصيغ مفصلاً، وإكمالاً للفائدة نزيد هنا آراء الأصوليين فيما وضع له اللفظ. فنقول: لم يتفق الأصوليون على تقسيم خاص بما وضع له اللفظ، فقد قسمه البزدوي إلى عام، وخاص ومشترك، ومؤول، وجعل الجمع المنكر من العام بناء على أن الاستغراق ليس شرطاً في العموم عنده1. وتابعه في ذلك صدر الشريعة2 وغيره من   1 أصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/32. 2 التوضيح على التنقيح ومعهما التلويح للتفتازاني 1/32 - 33. وصدر الشريعة هو: عبيد الله بن مسعود بن محمود بن عبيد الله بن محمود المحبوبي الإمام الحنفي الفقيه الأصولي، عالم محقق وحبر مدقق، كان حافظاً لقوانين الشريعة محيطاً بمشكلات الفروع والأصول، متبحراً في المعقول والمنقول، عرف بصدر الشريعة الأصغر منذ نشأته فاشتهر بذلك بين أقرانه وشيوخه، وكان يعقد الدروس فيجتمع إليه الناس ويستفيدون من علمه الزاخر، وصنف كتباً كثيرة ومفيدة منها: (التنقيح في أصول الفقه وشرحه المسمى بالتوضيح) توفي رحمه الله سنة 747هـ ولم أعثر على سنة ولادته. الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/155، وتاج التراجم ص: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الأصوليين1 إلا أن صدر الشريعة استدرك على البزدوي إيراده المؤول في الموضوع له اللفظ، فقال بعد أن ذكر الأقسام الثلاثة الأولى: (وإنما لم أورد المؤول؛ لأنه ليس باعتبار الوضع، بل باعتبار رأي المجتهد2، وزاد عليها جعل الجمع المنكر قسماً مستقلاً وعرفه بأنه: (لفظ وضع وضعاً واحداً لكثير غير محصور وغير مستغرق) . ولكن ابن الهمام3 من الحنفية كان له رأي فيما وضع اللفظ له، خالف فيه أكثر الأصوليين، إذ قسم اللفظ الموضوع تقسيماً أولياً باعتبار اتحاد الوضع وتعدده. إلى: مفرد: وهو اللفظ الموضوع لمعنى واحد لا غير.4   1 المنار للنسفي بشرح ابن ملك والحواشي ص: 53، ط العثمانية 1315هـ. 2 التوضيح 1/3433. 3 ابن الهمام: هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود بن حميد الدين بن سعد الدين، فقيه حنفي أصولي متكلم نحوي، السيواسي أصلاً الاسكندري مسكناً، كمال الدين المعروف بابن الهمام ولد سنة 790? وتنقل بين الاسكندرية والقاهرة حتى برع في المنقول والمعقول، وكان حجة في الفقة والأصول، له مؤلفات كثيرة منها: (التحرير في الأصول، وفتح القدير في الفقه) توفي رحمه الله سنة 861هـ طبقات الأصوليين 3/36 - 39، والإعلام للزركلي 7/134 - 135 ط الثالثة. 4 التحرير مع التيسير 1/186 - 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وإلى: مشترك: وهو لفظ وضع لمعنيين فأكثر بأوضاع متعددة على أن يستعمل في كل معنى على سبيل البدل لا الاجتماع، مثل: لفظ العين الموضوع ليدل على العين الباصرة، وعلى العين الجارية والجاسوس والذهب، بمعنى: أنه وضع لكل معنى من هذه المعاني على حدة على أن يستعمل في أحدها بعينه، فهو بالنسبة لهذه المعاني مشترك وقد يكون بالنسبة إلى أحدها عاماًَ - إذا ورد بصيغة العموم - كقولك: (عوقب العيون أشد العقاب) ؛ فإنه يستغرق كل عين بمعنى الجاسوس، وكذا لو قيل: امتلأت العيون بالماء؛ فإنه يكون عاماً لاستغراقه لكل عين جارية، وبناء على ذلك يكون للمشترك نظران. الأول: النظر إليه من حيث المعاني التي وضع لها، وهو بالنسبة لهذه المعاني مشترك. الثاني: النظر إليه من جهة الأفراد الداخلة تحت كل معنى من تلك المعاني، وفي هذه الحال قد يكون خاصاً وقد يكون عاماً حسب الصيغة التي يرد بها، فقولك: شربت من عين خاص، وإذا قيل: العيون عذبة الماء كان عاماً، وبعد التقسيم السابق حصر ابن الهمام ما وضع له اللفظ في العام والخاص؛ لأن المشترك كما عرفنا مبني على حسب الصيغة التي يرد بها، فإذا ورد بصيغة خاصة كان من قبيل الخاص، وإذا ورد بصيغة عامة كان من قبيل العام، فلا وجه لإخراجه عن العام، أو الخاص. أما الجمع المنكر، فإن ابن الهمام يراه من الخاص لعدم استغراقه؛ إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قال: (لا وجه لإخراج الجمع المنكر عن العام أو الخاص، سواء اشترط الاستغراق أو لم يشترط؛ ذلك أن الجمع المنكر يكون داخلاً في العام عند من لا يشترط الاستغراق، وعند من يقول باشتراط الاستغراق في العموم يكون الجمع المنكر داخلاً في الخاص لعدم استغراقه. ولأن رجالاً في الجمع المنكر مطلق، كرجل في المفرد، والمطلق مندرج تحت الخاص - كما سبق - والاختلاف فيما صدق عليه رجل وهو كل فرد على سبيل البدل، وما صدق عليه لفظ رجال وهو كل جماعة جماعة لا أثر له في الإطلاق والتقييد1. لكن على الرأي الراجح من أن الاستغراق شرط في العموم لا يكون الجمع المنكر عاماً لعدم قبوله أحكام العام الاستغراقي -كالاستثناء والتخصيص والتوكيد باللفظ العام؛ إذ لا يستقيم في اللغة (أكرم رجالاً إلا زيداً) على أن زيداً مستثنى من رجال؛ لكون الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله في اللفظ المستثنى منه، وزيد لم يتعين دخوله في مفهوم لفظ رجال حتى يكون إخراجه منهم إخراجاً صحيحاً؛ ذلك أن المأمور بالإكرام في المثال السابق، يكون ممتثلاً وخارجاً عن عهدة الأمر بإكرامه لثلاثة رجال أي ثلاثة كانوا سواء أكان منهم زيد أم لم يكن، وكذا لا يستقيم لغة في المثال السابق (أكرم رجالاً ولا تكرم زيداً) على أن زيداً   1 تيسير التحرير لابن أمير الحاج 1/190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 مخصص من لفظ رجال، لعدم عمومه الاستغراقي، بل إنما يصح ذلك على الاستئناف وهو أن يجعل قوله: (ولا تكرم زيداً) 1 كلاماً مستقلاً لا صلة له بما قبله. ثم إن الجمع المنكر لا يقبل التوكيد باللفظ العام، إذ لا يقال: سافر طلاب جميعهم، ويصح سافر الطلاب جميعهم. وبهذا تبين مفارقة الجمع المنكر للعام الاستغراقي، لعدم قبوله أحكام العام كما عرفنا في الأمثلة الآنفة، لكن بقي أن يقال: إذا لم يكن الجمع المنكر من العام فهل يصح جعله قسماً مستقلاً؟ أي: وسطاً بين العام والخاص. والذي يظهر أنه من قبيل الخاص. يقول الشوكاني2: (الراجح أن الجمع المنكر من قبيل الخاص؛ لأن دلالته على أقل الجمع قطعية، كدلالة المفرد على الواحد) 3، ويؤيد ذلك   1 مشكاة الأنوار المسماة بفتح الغفار لابن نجيم شرح على المنار للنسفي 1/86. 2 الشوكاني هو: محمد بن علي بن محمد بن عبد الواحد الفقيه المجتهد السلفي، ولد بهجرة شوكان (من بلاد خولان باليمن) سنة 1173هـ، ونشأ بصنعاء وولى قضاءها سنة 1229هـ توفي رحمه الله سنة 1250هـ له مؤلفات كثيرة منها: (فتح القدير في التفسير) ونيل الأوطار في الحديث، وإرشاد الفحول في الأصول. الاعلام للزركلي 7/190 - 191، والفتح المبين 3/114. 3 إرشاد الفحول ص: 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 أن جمعاً من الأصوليين ذكروا أن المطلق من الخاص، ولا أحد يشك في أن الجمع المنكر مطلق؛ لأن لفظ رجل مطلق باتفاق، ولا فرق بينه وبين لفظ رجال في الدلالة؛ إذ كل واحد منهما يدل على شائع في جنسه، والاختلاف بالعدد وعدمه لا أثر له في الإطلاق والتقييد - كما سبق، وإذا كان المطلق من الخاص كما هو الراجح عند جمهور الأصوليين والجمع المنكر من قبيل المطلق بناء على المناقشة السابقة يكون الجمع المنكر من الخاص ضرورة؛ لأن الحكم على الأعم حكم على كل جزئي من جزئياته، والجمع المنكر من جزئيات المطلق. وبهذا التوضيح لما وضع له اللفظ بعد تقسيمه تقسيماً أولياً باعتبار اتحاد الوضع وتعدده إلى المفرد والمشترك، يظهر أن ما ذهب إليه الكمال من تقسيم اللفظ الموضوع للدلالة على المعنى إلى العام والخاص، هو الأحق بالاتباع لسهولته وتبادره إلى الذهن، وسلامته من الاعتراض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المبحث الثالث: دلالة الخاص والعام بين القطعية والظنية أولاً: دلالة الخاص: يقصد بالخاص - هنا - ما تقدم تعريفه، وهو: لفظ وُضِعَ لمعنى واحد على الانفراد أو لكثير محصور، ولم يقترن به ما يصرفه عن حقيقة وضعه اللغوي. ويراد بالدلالة هنا: دلالة اللفظ الوضعية، وهي: كون اللفظ إذا أُطْلِقَ فهم منه المعنى1 أو هي فَهْم المعنى المراد من وضع اللفظ متى أُطْلِقَ بالنسبة للعام بالوضع2، فمتى كانت دلالة اللفظ على المعنى لا تحتمل غيره سميت قطعية، وإن احتملت مع المعنى الموضوع له اللفظ معنى آخر سميت ظنية، فعلى هذا يكون القطع والظن من صفات دلالة اللفظ على المعنى، لكن القطع يطلق ويراد به أحد معنيين. الأول: أن لا يكون هناك احتمال أصلاً: مثل قطعية المتواتر من الأخبار في ثبوته3 والمحكم4 من الآيات في معانيها وهذا النوع: يفيد علم   1 تنقيح الفصول للقرافي ص: 23، وراجع ما سبق في التمهيد ص: 22. 2 تنقيح الفصول للقرافي ص: 23، وراجع ما سبق في التمهيد ص: 22. 3 المتواتر من الأخبار: ما رواه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة فإن كان في جانب الأحاديث النبوية اشترط فيه أن يستمر ذلك في العصرين التاليين لعصر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المتواتر ثبوتاً القرآن الكريم، فإنه نقل إلينا بالطريق المتواتر. 4 المحكم: لغة المتقن، واصطلاحاً: ما دل بصيغته على معناه وسيق الكلام لأجله، ولم يحتمل تأويلاً ولا نسخاً، كصفات الرب سبحانه وتعالى. كشف الأسرار 1/50، وأصول الأحكام د. حمد الكبيسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 اليقين في ما يثبت له، فيسمى القطع بالمعنى الأخص. النوع الثاني: أن لا يكون هناك احتمال ناشئ عن دليل مثل: قطعية الحديث المشهور1 في ثبوته، وقطعية النص2 والمفسر3 من الألفاظ في المعنى الظاهر منهما، وهذا النوع من القطع يفيد علم الطمأنينة أي: اطمئنان القلب وميله إلى صحة الخبر، وعدم احتمال اللفظ للصرف عن   1 المشهور من الخبر ما لم يتواتر في العصر الأول، وتواتر في العصرين التاليين له، أي: أنه خبر روي في عصر الرسول بطريق الآحاد، ثم رواه في عصر الصحابة والتابعين، جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب. ميزان الأصول ص: 428، ومناهج الأصوليين ص: 546 - 547. 2 النص: لغة الظاهر والمرتفع، واصطلاحاً: له عدة تعاريف أقربها أن يقال: النص: ما دل على معناه دلالة قطعية، أو هو ما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل. المستصفى 1/385، مختصر المنتهى 2/302، روضة الناظر 2/27 - 28. 3 المفسر: لغة المبين والموضح، واصطلاحاً: اللفظ الدال على الحكم دلالة واضحة لا يبقى معها احتمال للتأويل أو التخصيص، ولكنه مما يقبل النسخ في عصر الرسالة. التقرير على التحرير 1/147، ملتزم الطبع المكتبة الكبرى الأميرية ببولاق مصر سنة 1316هـ، وأصول السرخسي 1/165، وأصول الأحكام لحمد عبيد الكبيسي ص/252، وتفسير النصوص 1/165. وليس للجمهور اصطلاح خاص في المفسر: المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الظاهر ويسمى القطع بالمعنى الأعم. بقي أن يقال: من أي النوعين دلالة الخاص؟ الذي يظهر أنها من النوع الثاني أي: أن القطع في دلالة الخاص بالمعنى الأعم وهو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل لا عدم الاحتمال أصلاً، ذلك أن القطع بمعناه الخاص كما يكون للمتواتر يكون لغيره، وغير المتواتر الاحتمال فيه قائم، كما أن الخاص محتمل للمجاز باتفاق العلماء لصحة توكيده مثل: جاء زيد نفسه، أو عينه، أي: لا رسوله: فمجيء التوكيد بعد اللفظ الخاص دليل على احتماله للصرف عن الظاهر المتبادر، إذا وجدت القرينة الصارفة، قال الكمال ابن الهمام: (الاتفاق على إطلاق وصف قطعي الدلالة على الخاص، وعلى احتماله المجاز واقع) 1، قال الشارح2 للتحرير بعد ذكر العبارة السابقة: (وعدل عن اتفقوا على أن الخاص قطعي الدلالة إلى قوله: (الاتفاق ... الخ) مع كون التعبير باتفقوا أخصر وأظهر في المراد؛ لأن الأئمة لم يصرحوا بذلك، وإنما فهمت قطعية دلالة الخاص من إطلاقاتهم3، ويلزم من الاتفاق على احتمال الخاص المجاز أن يراد بالقطع في دلالة الخاص   1 التحرير 1/267، وتيسير التحرير 1/370. 2 المرجع السابق 1/370، والشارح هو ابن أمير الحاج ستأتي ترجمته. 3 تيسير التحرير 1/370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 المعنى الأعم؛ لأن نفي الاحتمال مطلقاً ينفي وجود المجاز في ضمنه. على أنه لا خلاف بين جمهور العلماء في إطلاق وصف القطعية على دلالة الخاص، وإنما الخلاف بينهم في ناحية أخرى وهي: هل الخاص باعتباره قطعي الدلالة بيِّنٌ في نفسه لا يحتمل البيان، أو أنه رغم قطعية دلالته يحتمل أن يصرف إلى غير المعنى الموضوع له اللفظ لغة؟ لعلماء الأصول في ذلك مذهبان: الأول: القول بمنع احتمال الخاص للبيان وبه قال جمهور الأصوليين من الحنفية. واستدلوا على ذلك بأن حقيقة البيان الظهور وإزالة الخفاء لازمة له، ومن شرط اللفظ القابل للبيان أن يكون مجملاً1، أو مشكلاً2،   1 المجمل: لغة المجموع، يقال: أجمل الحساب، إذا جمعه، واصطلاحاً: لفظ احتمل معنيين فأكثر ولا مزية لأحدهما على الآخر، ومن أمثلته المشترك الذي خلا عن القرينة التي تبين أحد معانيه. المستصفى للغزالي 1/345. 2 المشكل: لفظ خفي مدلوله لتعدد المعاني التي استعمل فيها، مع العلم أن اللفظ المشترك بين تلك المعاني مجاز، لكن يمكن معرفة المراد بالتأمل في قرينة المجاز، ومن أمثلته قوله تعالى: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} مع قوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} ، فأَنّى تأتي بمعنى (أين) وبمعنى (كيف) فاشتبه الأمر على السامع ويزول هذا الاشتباه بالتأمل في قرينة المجاز، وهي قوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} ؛ فإنها تدل على أن المراد (بأنى) المعنى الثاني أي: (كيف شئتم إذا كان المأتي في موضع الحرث) وبدلالة الكتاب على تحريم القربان في الأذى، وهو قذر الحيض، أصول الخضري ص: 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وكلاهما غير متحقق في الخاص، لأن الخاص قد وضع لمعنى واحد على الانفراد، فهر بيِّنٌ ظاهر بموجب الوضع اللغوي، فلو احتمل التصرف فيه ببيان آخر لكان في ذلك تحصيل الحاصل، وهو محال1، قال البزدوي بعد أن بيَّن حكم دلالة الخاص من حيث القطعية، وأنه يتناول المخصوص قطعاً ويقيناً بلا شبهة لما أريد به من الحكم، قال: (لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان لكون بيناً لما وضع له) 2. القول الثاني: أن الخاص يحتمل البيان وبه قال الشافعية ومن وافقهم. واستدلوا على ذلك بأن الخاص وإن كان قطعي الدلالة على ما وضع له، إلا أنه يحتمل التصرف فيه عن أصل وضعه إذا وجد الدليل الصارف بدليل أن الاتفاق واقع على احتمال الخاص للمجاز، والمجاز بيان للمراد من اللفظ.   1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/79. 2 أصول البزدوي 1/79، وعبارة البزدوي اللفظ الخاص يتناول المخصوص قطعاً ويقيناً بلا شبهة لما أريد به من الحكم، ولا يخلو الخاص عن هذا في أصل الوضع، وإن اختمل التغيير عن أصل وضعه، لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان؛ لكونه بيناً لما وضع له) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فليكن مناط احتمال الخاص للبيان هو وجود الدليل الصارف عن أصل الوضع، وإلا كان القول باحتمال الخاص المجاز، وعدم احتماله للبيان متناقضاً، لما سبق أن المجاز بيان للمراد من اللفظ والمسألة مفروضة على الإطلاق1 كما ترى. أضف إلى ذلك أن بعض العلماء قد خالف في المجاز المصطلح عليه عند علماء البلاغة مثل: مجاز2 الإسناد والاستعارة وسمى ذلك   1 لا يدخل في هذا الإطلاق النسخ عند من يسميه بياناً؛ لأن البيان إذا أطلق يراد به بيان التفسير، والنسخ عند من يسميه بياناً لا يستعمل إلا مع التقييد بكونه بيان تغيير، لا بياناً مطلقاً. التوضيح مع التلويح 1/35، وأصول الفقه للزحيلي ص:205. 2 مجاز الإسناد: هو المجاز العقلي وهو: إسناد الفعل أو ما يقوم مقام الفعل إلى غير فاعله الأصلي؛ لعلاقة بينهما مثل: أنبت المطر العشب، والمنبت حقيقة هو الله، وسمي المطر منبتاً؛ لأنه سبب في الإنبات والاستعارة تشبيه حذف أحد أركانه مثل: رأيت اليوم بحراً يقذف بالذهب على الفقراء، تريد رجلاً كريماً ينفق ماله في سبيل الله، فإن أصل التركيب رأيت رجلاً يشبه البحر في سعة كرمه، فشبهت الرجل بالبحر ثم تناسيت التشبيه وادعيت أن الرجل قد أصبح لِسَعَةِ كرمه فرداً من أفراد البحور، فقلت: رأيت اليوم بحراً وجئت بالقرينة الدالة على التشبيه وهي القذف بالذهب على الفقراء) ، لتدل على أن مرادك بالبحر ليس معناه الأصلي، وإنما هو رجل كريم. تفسير النصوص 1/166 فما بعدها، والتوضيح 1/35، 129، والمناهج الأصولية ص 660 - 661. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 إيجازاً1، وحيث كان الخاص محتملاً للنوعين (الإيجاز والمجاز) . ولم يعهد أن خالف أحد في احتمال الخاص للإيجاز وبيان الخاص الموجز يظهر أن ما ذهب إليه الشافعية ومن وافقهم هو الأرجح. نقول: هذا على فرض أن الخلاف بين الفريقين قد ورد على محل واحد، مع أن المدقق في ذلك يجد أن النفي والإثبات لم يتواردا على محل واحد، لأن الحنفية عندما نفوا احتمال الخاص للبيان نظروا إلى أصل الوضع وحال الواضع، عندما أراد أن يجعل اللفظ دليلاً على المعنى، ولا شك أن دلالة اللفظ الخاص بالنسبة للواضع قطعية كما يقول الحنفية. وغيرهم نظر إلى أن اللفظ بعد الاستعمال وطريان الإجمال عليه بسبب كثرة المعاني التي استعمل فيها، أو بسبب قلة استعماله في المعنى الموضوع له، مما يجعله غير مألوف لدى أكثر أهل اللغة2.   1 الإيجاز: قلة في الألفاظ وزيادة في المعاني. 2 ومع أن الخلاف بعد التدقيق يظهر كونه لفظياً إلا أن البزدوي، وغيره قد فرعوا على قطعية الخاص، وعدم احتماله للبيان عدة فروع فقهية ذكرها البزدوي في أصوله 1/81 فما بعدها. وذكر تلك الفروع صدر الشريعة في باب البيان، وهو ما سماه بالزيادة على النص القطعي بخبر الواحد، يقول ابن النجيم في فتح الغفار شرح المنار: (إن ما فعله صدر الشريعة أوجه؛ لأن الزيادة على النص كما تكون على الخاص تكون على غيره) ، وهذا التعليل لعله عائد إلى حسن الترتيب وعدم التكرار، وإلا فلكل مؤلف طريقته في عرض الموضوع الذي يبحثه، فتح الغفار لابن النجيم الحنفي 1/26 مع الحاشية، والمرآة شرح المرقاة 1/23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ثانياً: دلالة العام: عَرَّفنا العامّ فيما سلف بأنه: (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر) ، كما عرفنا أيضاً الدلالة بأنها تعني، فهم المعنى من اللفظ متى أطلق. وهنا نقول: لا خلاف بين العلماء في قطعية دلالة العام الذي اقترن به ما يدل على العموم قطعاً، كقوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} 1، والعموم في هذه الآية الكريمة جاء من أن (دابة) نكرة في سياق النفي، والنكرة المنفية من صيغ العموم - كما تقدم - فتعم كل دابة، وأما القرينة الدالة على أن الآية عامة قطعاً فهي أن تجويز التخصيص فيها يؤدي إلى وجود شريك مع الله تعالى يرزق بعض الدواب، وهذا محال؛ بل إن اعتقاد ذلك يؤدي بصاحبه إلى الكفر والعياذ بالله. وكذا لا خلاف بين جمهور العلماء أن العام إذا خص2 منه بعض   1 سورة هود آية: 6. 2 التخصيص: لغة التمييز والقصر: واصطلاحاً له عدة تعاريف نقتصر على اثنين منها، الأول: التخصيص قصر العام على بعض أفراده بدليل مستقل مقارن للعام في نزوله إن كان قرآناً، أو في وردوه إن كان سنة مساوٍ للعام في قوته ثبوتاً ودلالة، وهذا التعريف قال به جمهور الحنفية. المنار ص: 228، والمناهج الأصولية ص: 288. الثاني: التخصيص عند الجمهور: بيان أن ما تناله اللفظ العام بطريق الوضع، غير مراد للشارع، وإنما المراد بعض مدلول العام اللغوي أو هو: قصر العام على بعض أفراده، بدليل المنهاج 2/75، وأصول الفقه للخضري ص: 216، وبيان النصوص لبدران ص: 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أفراده بدليل صحيح أن دلالته على الباقي تبقى ظنية، كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} 1، بعد أن خرج من عمومه المستأمن بقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} 2؛ ذلك أن العام الذي خصص قد يكون مخصصه معللاً بعلة يمكن تحققها في الأفراد الباقية، ومع هذا الاحتمال لا تبقى دلالة العام المخصوص قطعية، وإنما وقع الخلاف في دلالة العام المجرد من القرينة التي تدل على عمومه قطعاً. ولم يثبت أن خص منه بعض الأفراد بدليل مسلَّم به لدى جميع الأصوليين. آراء العلماء في دلالة العام المطلق: اتفق جمهور3 علماء الأصول على أن العام شامل لجميع أفراد   1 سورة البقرة آية: 193. 2 سورة التوبة آية: 6. 3 من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، انظر المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي للدكتورفتحي الدريني ص: 533. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 معناه، وأن الحكم الثابت للعام ثابتٌ لكلِّ فردٍ من أفرادِه، كما اتفقوا أيضاً على وجوبِ إجراءِ العام على عمومه والعمل به، ما لم يظهر دليل يخصص العام، ثم اختلفوا في صفة دلالة العام المطلق على شمول أفراده أقطعية هي أم ظنية؟ أ - فذهب معظم الحنفية إلى أن دلالة العام المطلق على كل فرد من أفراده قطعية1، ووافقهم على ذلك الشاطبي2 من المالكية وبعض من كتبوا في الأصول حديثاً3.   1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/291، أصول السرخسي 1/136، والموافقات للشاطبي 3/290. 2 الشاطبي: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، الشهير بالشاطبي - أصولي حافظ من أهل غرناطة (بلد بالأندلس) وهو من أئمة المالكية، له مؤلفات كثيرة، منها: (الموافقات في أصول الفقه) ، (والاعتصام) توفي الشاطبي رحمه الله سنة 790هـ. انظر: شجرة النور الزكية ص: 231، رقم الترجمة 828 ط جديدة بالأوفست عن الطبعة الأولى سنة 1349هـ المطبعة السلفية ومكتبتها - طبع على نفقة دار الكتاب العربي بيروت، والأعلام للزركلي 1/71 ط 3، 1398هـ. 3 أصول الفقه للخضري بك ص 157 ط م ك الاسكندرية محمد محمود مسعد توزيع مؤسسة شباب الجامعة بالإسكندرية، وأصول الفقه للدكتور بدران أبو العينين بدران ص: 832، وأصول الفقه للأستاذ أبي زهرة ص: 124 ملتزم الطبع والنشر دار الفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ب - وذهب جمهور الأصوليين ومنهم الشافعية إلى أن دلالة العام المطلق ظنية1. واستدل الحنفية ومن وافقهم على قطعية دلالة العام المطلق بأدلة منها: 1 - قالوا: إن العموم مما تدعو الحاجة إلى التعبير عنه بالألفاظ فوضعت له العرب ألفاظاً تدل عليه، واللفظ متى كان موضوعاً للدلالة على المعنى يكون ذلك المعنى ثابتاً به قطعاً، سواء أكان اللفظ الموضوع عاماً أم خاصاً، حتى يرد الدليل بخلاف ذلك2. 2 - وقالوا أيضاً: إن اللفظ العام بمنزلة الخاص في كون دلالة كل منهما ثابتة بطريق الوضع، وحيث إن الاتفاق قائم على أن الخاص يدل على معناه قطعاً، ولا يؤثر في قطعية دلالته احتماله للمجاز، فكذلك تكون دلالة العام المطلق قطعية، ولا يؤثر فيها احتماله للتخصيص؛ لأن الكل احتمال؛ ولأن التفريق بين العام والخاص في كون دلالة الخاص لا تتأثر باحتماله للمجاز حتى تكون ظنية وتتأثر دلالة العام باحتماله للتخصيص حتى تكون بسبب ذلك ظنية تفريق بين متماثلين في الوضع   1 تفسير النصوص 2/108، 109 التلويح 1/40، وروضة الناظر 2/166، والمناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي ص 536. 2 أصول السرخسي 1/132، والمنار مع حواشيه ص/286 - 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بدون دليل يقتضي التفريق. واعترض الجمهور على هذا الدليل، فقالوا: إن قياس دلالة العام على دلالة الخاص في حيز المنع؛ لأنه وإن صح لغة إلا أنه قياس مع الفارق في الدلالة الشرعية. ووجه الفرق: أن دلالة الخاص اللغوية مرادة للشارع في الكثير الغالب، بينما ثبت في العام ما يصح اعتباره عرفاً شرعياً، وهو قصر العام على بعض أفراده، ومن المتفق عليه أن عرف الشرع وهو استعماله اللفظ لمعنى يقصده قاضٍ على معناه اللغوي في ميدان استنباط الأحكام، وبهذا يفترق العام عن الخاص، ومع افتراقهما لا يصح قياس دلالة العام على الخاص في القطعية. وأضاف الشاطبي إلى الدليلين السابقين ما يمكن اعتباره دليلاً ثالثاً، وهو: 3 - أن مذهب القائلين بظنية دلالة العام يؤدي إلى إبطال الكليات القرآنية، وذلك يتنافى مع ما هو معلوم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد بعث بجوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً"1   1 روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة - رضوان الله عليهم - منهم أبو هريرة بلفظ: ((فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)) ، رواه البخاري 1/92 دار إحياء التراث العربي ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي، ومسلم 1/28 دار إحياء التراث العربي ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي. وفي إرواء الغليل رقم الحديث: 152 قال عنه: صحيح متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: لكني لم اجد لفظ (واختصر لي الكلام اختصارا) في الكتب التي وقفت عليها إلا في الموافقات حيث أورده الشاطبي في 3/291 - 292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وقد قرر الشاطبي أن رأس هذه الجوامع هي العموميات، فإذا فُرِضَ أنها ليست موجودةً، أو أن الموجودَ منها مفتقرٌ إلى مخصص، فقد خرجت تلك العمومات من أن تكون جوامع مختصرة، وفي ذلك توهين للأدلة الشرعية، وتضعيف للاستناد إليها إلا بجهة من التساهل وحسن الظن1.   1 المرجع السابق نفس الجزء والصفحة 3/291 - 292. ومن أدلة الحنفية على قطعية العام فهم الصحابة - رضي الله عنهم - وتمسكهم بالعمومات في احتجاجهم، مثل: تمسك علي رضي الله عنه بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، في أن عدة الوفاة تكون بأبعد الأجلين سواء كانت المرأة المتوفى عنها زوجها حاملاً أو حائلاً، جمعاً بين الآيتين الواردتين في العدة. ومثل: تمسك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جاءت إلى أبي بكر رضي الله عنه تطالب بميراثها في فدك احتجاجاً بعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} . وهذه الأدلة مسلَّم بها، ولكنها لا تنهض حجةً على المدعى؛ لأنها من قبيل العام المخصوص. وكلامنا في العام المجرد، ووجه تمسك الصحابة بهذه العمومات مبني على أن الأصل في العام أن يعمل به على عمومه، ولا يلجأ إلى التخصيص إلا بعد وجود المخصص، والصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا على قدر متساو في العلم بالسنة؛ لأنها لم تكن قد دونت بعد، كما قد يغيب عن بعضهم تاريخ النزول بين الآيتين، بدليل أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان من مذهبه أن عدة الحامل تكون بوضع الحمل طالت المدة أو قصرت، لما ثبت عنده من تأخر نزول آية {وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فكانت على رأيه ناسخة لتأخرها عن آية الوفاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ب - واستدل الجمهور على أن دلالة العام المطلق ظنية بعدة أدلة منها: أولاً: قالوا: إن دلالة العام المطلق من قبيل الظاهر1، والظاهر يفهم على ظاهره، ولا يُنفى الاحتمال عن غير ما ظهر منه، وما كانت دلالته كذلك فدلالته ظنية2. ثانياً: وقالوا - أيضاً -: ثبت بالاستقراء والتتبع لموارد العام في الشريعة قصره على بعض أفراده إلا في القليل النادر حتى شاع بين العلماء   1 الظاهر: هو اللفظ الذي يحتمل معنيين أو أكثر هو في أحدها أرجح منه في الآخر، ومن أمثلته العام المطلق، فأنه ظاهر في المعنى الراجح، محتمل لأن يصرف عن ذلك بالدليل. 2 الإمام مالك لأبي زهرة ص: 141 م الاعتماد بمصر سنة 1365هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 قولهم: (ما من عام إلا وقد خص منه البعض) 1 ومثل: ذلك يورث شُبْهةً في دلالة العام سواء ظهر المخصص أو لم يظهر، ومع هذا الاحتمال لا يصح القول بقطعية العام2. وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل وهو كثرة التخصيص للعام وشيوع تلك الكثرة بين العلماء وقالوا: إنها في حيز المنع وفي ذلك يقول صدر الشريعة: (لا نسلم أن التخصيص الذي يورث شبهة شائع في العام، بل هو   1 نسب بعض الأصوليين هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر الشاطبي: أنه إذا ثبت بطريق صحيح فهو مؤول، ولم يذكر وجه ذلك، حيث يقول: وربما نقلوا في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس أنه قال: (ليس في القرآن عام إلا مخصص إلا قوله تعالى: {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، ثم قال بعد ذلك: وجميع ذلك مخالف لكلام العرب ومخالف لما كان عليه السلف من القطع بعمومات الكتاب التي فهموها تحقيقاً بحسب قصد العرب في اللسان وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام) ، الموافقات للشاطبي 3/291 - 292. والذي أعرفه أن هذا القول اشتهر على ألسنة الأصوليين والعلماء باعتباره قاعدة أصولية مبنية على التتبع والاستقراء لموارد العام في الشريعة. انظر تفسير النصوص 2/114. 2 ورضة الناظر لابن قدامة ص: 166، والتوضيح مع التلويح 1/40، والمناهج الأصولية لفتحي الدريني ص: 534. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 في غاية القلة) 1، لأن التخصيص عندنا إنما يكون بكلام مستقل موصول بالعام2 مساوٍ له في القوة، وهذا النوع ليس شائعاًَ؛ بل هو في غاية القلة، أضف إلى ذلك أن القطع الذي أثبتناه للعام مرادنا به المعنى الأعم، وهو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل، وما اعتبره غيرُنا دليلاً صالحاً، وهو: كثرة تخصيص العام وشيوع تلك الكثرة بين العلماء غير مسلّم لما سبق أن تخصيص العام إنما يكون عندنا بكلام مستقل مقارن للعام مساو له في القوة، وهذا النوع نادر، وليس شائعاً كما يدعي الطرف المنازع. ويبدو أن هذا الاعتراض من الحنفية لا يفيد، لأنه مبني على اصطلاح الحنفية في المخصص؛ فلا يرد على الجمهور ما لم يسلموا لهم به. ومع هذا فقد دفع الجمهور هذا الاعتراض، وقالوا: إن قولنا: بظنية العام لم يكن بدون دليل، وإنما كان ذلك بناء على وفرة التخصيص، وإذا وقع الخلاف في مسمى التخصيص بماذا يكون. فلنا أن نقول: إن المؤثر في دلالة العام هو كثرة قصره على بعض أفراده، سواء كان ذلك بالدليل الذي لم يستقل بنفسه - كالاستثناء والشرط - أم كان القصر بالدليل المستقل الذي لم يتأخر التخصيص به عن وقت العمل بالعام. ولا شك في كثرة قصر العام بهذا المعنى سواء سمي تخصيصاً في   1 التوضيح 1/ 40 - 42. 2 المنار مع شروحه ص: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الاصطلاح أم سمي قصراً؛ إذ لا دخل للتسمية في دلالة اللفظ1. وأما تخوف الشاطبي على إبطال الكليات القرآنية فلا مبرر له، إذا علمنا أن العدول إلى التخصيص لا يكون إلا بعد وجود الدليل، وأن الأمر ليس متروكاً بدون ضوابط أو قيود، كما أنه ليس هناك أي تناف بين القول بظنية العام المطلق، وثبوت جوامع الكلم للرسول صلى الله عليه وسلم، ما دمنا نعتبر العام على عمومه، ونعمل بما ظهر لنا منه، ولا نلجأ إلى التخصيص حتى يوجد الدليل المخصص فعلاً، وبهذا فإن الخلاف في هذه المسألة يظل نظرياً لا ثمرة له، حتى يوجد الدليل المخصص، فإذا وجد الدليل فعلاً2 اختلفت أنظار العلماء في تقويمه، ومدى معارضته للعام؛ فالقائل بظنية العام لا يرى مانعاً من جواز تخصيصه بكل دليل معتبر شرعاً بشرط أن يظهر كونه مخصصاً قبل العمل بالعام.   1 التحرير مع شرحه التيسير 1/266، والكمال يميل إلى مذهب الجمهور في هذا الموضع، وتفسير النصوص 2/112. 2 المناهج الأصولية ص: 542. والذي يظهر أن الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأنه لم يرد على موضع واحد، فالشاطبي وغيره ينظر إلى اللفظ عند الواضع وقبل الاستعمال، ويقر بالحقيقة الشرعية، ولكنه يسمي التخصيص بالقرائن المتصلة كبيان المجمل وهي ليست مجازاً، وغيرهم يرى أن التخصيص بهذه القيود يصير اللفظ إلى المجاز، واستعمال الشرع اللفظ لا يخرجه عن وضعه اللغوي بالكلية، لكنه ينطبق عليه تعريف المجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 والذي يرى أن دلالة العام المطلق قطعية يحكم بالتعارض بين العام وبين الدليل الذي يساويه في القوة، ولا يرى التخصيص بالدليل الظني، كأخبار الآحاد ونحوها؛ لأن التخصيص إنما يكون بدليل مساو للعام في قوته، وأخبار الآحاد ليست كذلك مع عام القرآن والسنة المتواترة أو المشهورة، وكذلك القياس لا يخصص العام من القرآن والسنة المتواترة ابتداءً ما لم يخص قبله بقطعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 المبحث الرابع أنواع الخاص يتنوع الخاص باعتبار صيغته والحال الملابسة له -كما سبق- فتارة يتعدد باعتبار الصيغة، وتارة باعتبار الحالة الملابسة له، فهو باعتبار الصيغة يتنوع إلى الأمر والنهي الموضوعين للدلالة على طلب الفعل أو الكف عنه، وباعتبار الحالة التي تلابسه ينقسم إلى المطلق والمقيَّد: وسيأتي الكلام عليهما بالتفصيل، لأنهما موضوع الرسالة. وقد اهتم الأصوليون بمباحث الأمر والنهي؛ لأن مدار التكاليف عليهما وبمعرفتهما تستبين الأحكام، وعليهما تتوقف معرفة الحلال من الحرام. ولذلك بدأ أصحاب الأصول كتبهم بمباحث الأمر والنهي، وبينوا السبب الذي دعاهم إلى ذلك حيث يقول السرخسي: (فأحق ما يبدأ في البيان الأمر والنهي؛ لأن معظم الابتلاء بهما، وبمعرفتهما تتم معرفة الأحكام ويتميز الحلال من الحرام) 1، وفي هذا ما يقوي الصلة بين أنواع الخاص باعتبار صيغته والحالة الملابسة له، فيجدر   1 أصول السرخسي 1/11، والفكر الأصولي دراسة تحليلية نقدية: ص274، ومعالم وضوابط الاجتهاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية: ص156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 بنا أن نسترشد بكلام السرخسي السابق فنجعل الكلام على ماهية الأمر والنهي وصيغهما المشهورة وحكمهما مفتاحاً لموضوع بحثنا، وخاصة إذا علمنا أن الإطلاق والتقييد مما يعرض للخاص أمراً كان أو نهياً أو غيرهما، وفيما يلي كلمة مختصرة توضح تلك النقاط السابقة من مباحث الأمر والنهي الكثيرة اقتصرنا فيها على ما يخص بحثنا، ولنبدأ بالأمر أولاً في نقاطه الثلاث: 1- تعريفه. 2- صيغه المشهورة. 3- حكمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 المطلب الأول: في الأمر: تعريف الأمر: أ- الأمر في الأصل مصدر للفعل الثلاثي (أَمَر) ثم جعله أهل اللسان العربي اسماً لقول القائل لغيره: (افعل كذا) ولكن عرف علماء اللغة خصه بالقول الدال على طلب الفعل طلباً جازماً، مع قطع النظر عن خصوص مادة الأمر، بل المعتبر فيه عند علماء اللغة القول الموضوع لطلب الفعل طلباً جازماً سواء أكان من مادة الأمر أم غيرها، وعلى ذلك يمكن تعريف الأمر في اصطلاح علماء اللغة. بالقول الموضوع لطلب الفعل طلباً جازماً1. وأما عامة علماء الأصول، فحيث كان بحثهم في نوع خاص من الأمر وهو ما كان صادراً عن طريق الشارع، فقد أضافوا إلى التعريف   1 مقاييس اللغة لابن فارس 1/137 ط 2 طبع مصطفى البابي الحلبي بمصر عام 1389هـ، ومختار الصحيح للرازي ص: 24. ويقارن بأصول السرخسي 1/11، وحصول المأمول من علم الأصول للسيد محمد صديق خان بهادر ص: 70 - 71 ط مصطفى محمد سنة 1357هـ بمصر، وإرشاد الفحول ص: 93، وتيسير التحرير 2/45. الإحكام للآمدي 2/8، تعليق عبد الرزاق عفيفي ط. والمستصفى 370 شركة الطباعة الفنية المتحدة بمصر عام 1391هـ، بتعليق محمد مصطفى أبو العلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 اللغوي قيد الاستعلاء1، وهو ألا يكون الطلب على جهة التذلل، بياناً منهم أن المقصودَ بالتعريف الأمر الإلهي وليخرجوا من دائرة الأمر في الاصطلاح الأصولي الالتماس (وهو الطلب من المساوي) والدعاء: وهو الطلب من الأعلى، وعرفوه بناء على ذلك2. ب- بأنه: القول الدال بالذات على طلب الفعل على جهة الاستعلاء3. شرح التعريف: 1- القول: كالجنس في التعريف يشمل الأمر وغيره، والتعبير به أوْلى من التعبير باللفظ أو الكلمة، أو الكلام، أما أولوية القول على اللفظ؛ فلأن اللفظ جنس بعيد لاستعماله في المهمل والمستعمل، والقول خاص بالمستعمل فكان التعبير به أولى؛ لكونه جنساً قريباً، وأما أولوية التعبير بالقول على (الكلمة) والكلام؛ فلأن كلاً منهما أخص من القول؛   1 الاستعلاء: عرف بتعريف آخر، وهو طلب العلو وعد الآمر نفسه عالياً - سواء كان عالياً في نفس الأمر أم لا.. انظر نسمات الأسحار شرح المنار ص: 17، وشرح المنهاج للأسنوي 2/3 - 4. 2 المناهج الأصولية ص: 701. 3 الأحكام للآمدي 2/11، ومختصر ابن الحاجب مع حاشية السعد 2/77، وإرشاد الفحول ص: 92، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 1/101، وحاشية المرآة للأزميري 1/28، وروضة الناظر ص: 98، وجمع الجوامع 1/421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 لأن الكلمة تختص بالمفرد، والكلام يختص بالمركب، بينما القول يجمعهما ويشملهما، فكان تعريف الأمر به أولى. 2- الدال بالذات: يقصد بالدلالة هنا الدلالة الوضعية، ولهذا اكتفى بها عن كون الطلب حازماً؛ لأن دلالة اللفظ الوضعي لازمة له، وبهذا القيد يخرج ما كانت دلالته بغير الوضع - كدلالة اللفظ المهمل على حياة لا فظه. 3- على طلب الفعل: هذا أهم عنصر في تعريف الأمر، وبه يحترز عن النهي؛ لأنه طلب هو الكف عن المنهي عنه كما سيأتي. 4- على جهة الاستعلاء: الاستعلاء كما تقدم هو ألا يكون الطلب على وجه التذلل وبه يخرج عن حد الأمر الدعاء1 والالتماس2، إذ المفروض فيهما عدم التعالي. 2- الصيغ المشهورة لطلب الفعل: هي: الألفاظ التي وضعها العرب للدلالة على طلب الفعل طلباً جازماً، ثم جاء على وفق ذلك نصوص الشرع، أو كانت من الألفاظ التي استعملها الشارع ابتداء من الطلب الجازم، وهي كثيرة تتنوع حسب   1 الدعاء: الطلب الصادر من الأدنى إلى الأعلى، كطلب العبد من ربه أن يغفر له. 2 الالتماس: هو الطلب الصادر من المساوي للمطلوب منه في المنزلة مثل: طلب الزميل من زميله إعطاءه قلماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أسلوب القرآن والسنة في طلب الفعل، منها: 1- فعل الأمر: كقوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 1، فالله سبحانه وتعالى قد طلب في هذه الآية الكريمة ثلاثة أفعال هي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتصام بالله، بصيغة فعل الأمر: (أقيموا) و (آتوا) و (اعتصموا بالله) . 2- صيغة فعل المضارع المقرون بلام الأمر: كقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 2، فالله سبحانه وتعالى قد طلب في هذه الآية الكريمة فعلاً، هو (الصيام) بصيغة الفعل المضارع المقرون بـ (لام الأمر) ، وهو قوله تعالى: (فليصمه) ، فإن (يصم) فعل مضارع مجزوم، واللام الداخلة عليه (لام الأمر) . 3- الجملة الخبرية المقصود بها الطلب: مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} 3، فجملة (والمطلقات يتربصن) جملة خبرية مكونة من مبتدأ، هو (المطلقات) وخبر   1 سورة الحج آية: 78. 2 سورة البقرة آية: 185. 3 سورة البقرة آية: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وهو (يتربصن) ، وليس المقصود منها الإخبار بتربص المطلقات هذه المدة، وإنما المقصود طلب التربص منهن هذه المدة؛ والتقدير (ليتربص المطلقات ثلاثة قروء) وفي العدول عن صيغة الطلب الأصلية تأكيد إيقاع الفعل والحث عليه، حتى أصبح بمنزلة الفعل الواقع المخبر عنه. 4- صيغ المصدر النائب عن فعل الأمر: كقوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} 1، ففي هذه الآية طلب فعل هو ضرب الرقاب، بالمصدر النائب عن فعل الأمر، وهو (ضرب الرقاب) ، والأصل: (فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم) . 5- اسم فعل الأمر 2: ويقصد به اسم بمعنى فعل (الأمر) مثل: قول المؤذن (حيَّ على الصلاة) ؛ فإن المؤذن يقصد طلب فعل: هو (الإقبال على الصلاة بواسطة اسم فعل الأمر: (حيّ) ؛ لأن (حي) معناها أقبل على الصلاة. 3- حكم صيغة الأمر ونحوها مما يدل على الطلب الجازم: ذهب جمهور الأصوليين إلى أن (صيغة الأمر) المجردة من القرائن   1 سورة محمد آية: 4. 2 ينظر في صيغ الأمر: روضة الناظر ص: 167، وأصول الفقه لأبي النور زهير 2/129، وأصول الفقه للزحيلي 1/218 - 219، والمناهج الأصولية ص:70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ونحوها مما يدل على الطلب الجازم، حقيقة في الوجوب1، بمعنى أنها موضوعة للدلالة على وجوب فعل المأمور به، ولا تصرف عن ذلك إلا إذا وجدت قرينة تدل على عدم الوجوب، حتى ذهب بعض الأصوليين إلى أن الوجوب ملازم لهذه الصيغة2، ولا يمكن استفادته بدونها، بدليل أن الأفعال الواجبة لم يكتف فيها بمجرد الفعل، بل قرنت بصيغة الأمر الدال على وجوبها، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن تعليم أفعال الصلاة: "صلوا كما رأيتموني أصلي"3، وفي شأن تعليم أفعال الحج: "خذوا عني   1 مختصر المنتهى مع حاشية السعد 2/79، التوضيح مع التلويح 1/153، والآمدي 2/13، والقواعد الأصولية لابن اللحام ص: 160 بتحقيق وتصحيح محمد حامد الفقي ط السنة المحمدية سنة 1375هـ القاهرة، ومسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 1/273، وإرشاد الفحول ص: 94 - 95، أسباب اختلاف الفقهاء للدكتور مصطفى الزلمي ص: 77 ط أولى الدار العربية للطباعة في بغداد سنة 1396هـ. 2 المنار مع حواشيه ص: 112. 3 أصل الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن مالك بن الحويرث في باب الآذان والإقامة ولكن مسلم لم يذكر وصلوا كما رأيتموني أصلي، واللفظ المتفق عليه "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم"، وورد لفظ "وصلوا كما رأيتموني أصلي" في البخاري 1/162 - 163 ترتيب أحمد شاكر، وفي إرواء الغليل للألباني 1/227، رقم الحديث 263 وص: 291، قال صحيح أخرجه البخاري ومسلم إلا أن مسلماً لم يذكر: "وصلوا كما رأيتموتي أصلي". وفي رسالة الدكتور سليمان محمد الأشقر أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام ص: 32 - 34 ... كلام كثير حول الحديث ودلالته فمن يريد الاستزادة فليراجعه ط أولى سنة 1398هـ مكتب المنار الإسلامية بالكويت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 مناسككم"1، فلم يكتف بالفعل فقط، بل قرن الفعل بالقول.   1 رواه مسلم في باب استحباب رمي جمرة العقبة راكباً 2/943 من المتن ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي ط إحياء التراث العربي رقم الحديث 1297، وانظر النووي مع صحيح مسلم 9/45 المكتبة المصرية. ورواه أبو داود في كتاب المناسك 2/211 رقم الحديث 1970 نشر إحياء السنة النبوية وتعليق محمد محي الدين بن عبد الحميد. والإمام أحمد 2/368 ط ثانية المكتب الإسلامي - بيروت سنة 1398هـ من طريق أبي الزبير انه سمع جابر بن عبد الله يقول: "رأيت رسول الله (يرمي جمرة العقبة وهو على بعيره ويقول: يا أيها الناس خذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أرجع بعد عامي هذا"، ولفظ مسلم "لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أرجع بعد حجتي هذه"، المتن 2/943. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المطلب الثاني: في النهي وبحثنا في هذا المطلب يقتصر على ثلاثة أمور: لها علاقة وصلة بموضوع بحثنا (المطلق والمقيد) ، وهذه الأمور الثلاثة هي: 1- تعريف النهي. 2- صيغه المشهورة. 3- حكم الصيغة المجردة. 1- تعريف النهي: أ- النهي في اللغة: المنع، يقال: نهاه عن كذا إذا منعه عنه، وسمي العقل نهية؛ لأنه يمنع صاحبه عن الوقوع فيما يخالف الصواب1، وتجمع النهية على (نهى) قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} 2، أي عظات وعبر لأصحاب العقول. ب- والنهي في الاصطلاح: القول الدال بالذات على طلب الكف عن الفعل على جهة الاستعلاء3 وبما ذكرناه في شرح تعريف الأمر يستغني به عن شرح   1 ترتيب القاموس المحيط 4/454، ومختار الصحاح للرازي ص: 83، ومقاييس اللغة لابن فارس 5/359، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص: 507. 2 سورة طه آية: 54. 3 الأحكام للآمدي 2/35 وحاشية الأزميري على مرآة الأصول للسيد الفناري 1/28، ومسلم الثبوت مع شرحه 1/395، وجمع الجوامع مع شرح المحلي 1/447 - 448. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 تعريف النهي لأن معظم ألفاظ تعريف النهي قد ذكرت في تعريف الأمر. والفرق بين التعريفين يكمن في أن الأمر طلب الفعل، والنهي طلب الكف عن الفعل بما يدل على الكف عنه. 2- صيغ النهي: يراد بصيغ النهي: الألفاظ الموضوعة لغة لتدل على الكف عن الفعل، ثم جاء على وفق ذلك نصوص الشارع؛ أو كانت من الألفاظ التي استعملها الشرع ابتداء للدلالة على المنع من الفعل على وجه الحتم واللزوم، وهي كثيرة تتنوع حسب أسلوب القرآن والسنة في كيفية طلب الكف عن الفعل، ومنها: 1- صيغة النهي: وهي: الفعل المضارع المقرون بـ (لا) الناهية، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} 1؛ فالله سبحانه وتعالى قد طلب في هذه الآية الكريمة الكف والامتناع عن فعل هو قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، كالقصاص والردة، نعوذ بالله من الارتداد عن الدين   1 سورة الأنعام آية: 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 واستعمل في طلب الكف عن القتل صيغة المضارع المقرون بـ (لا) الناهية فقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ} . 2- مادة النهي في سياق الإثبات وما اشتق منها: مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1، ففي هذه الآية الكريمة طلب كف عن ثلاثة أفعال هي: الفحشاء، والمنكر، والبغي، بصيغة فعل المضارع المشتق من مادة النهي وهو قوله تعالى: {وَيَنْهَى} وكذلك الحكم إذا كان طلب الكف باسم فاعل مُشْتَقاً من النهي أو مصدراً لفعل النهي بشرط كونه في سياق الإثبات. 3- الجملة الخبرية المثبتة: التي استعملت فيها مادة التحريم كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ ... } 2 الآية، ففي هذه الآية الكريمة طلب الكف عن نكاح الأمهات وما ذكر معهن من المحرمات   1 سورة النحل آية: 90. 2 سورة النساء آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 بجملة خبرية مثبتة، مشتقة من مادة التحريم وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية. 4- نفي الحِلِّ: مثل قوله تعالى في شأن المنع من أخذ شيء مما أعطاه الزوج لزوجته بقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1، ففي هذه الآية الكريمة إخبار من الله سبحانه وتعالى بنفي الحِّل عن أخذ شيء مما أعطاه الزوج لزوجته، وفي ذلك تأكيد لطلب الكف عن الفعل. 5- فعل الأمر الدال على الكف عن الفعل: كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 2، فالله سبحانه وتعال قد طلب في هذه الآية الكريمة الكف عن فعل هو البيع بعد نداء الجمعة بصيغة فعل الأمر الدال   1 سورة البقرة آية: 229. 2 سورة الجمعة آية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 على طلب الترك والكف عن الفعل وهو قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، أي اتركوا الاشتغال بتحصيله وقت نداء الجمعة. 3- حكم النهي المجرد: ذهب جمهور الأصوليين إلى أن النهي المجرد من القرائن (المطلق) يدل على تحريم المنهي عنه حقيقة، ولا يصرف عن ذلك إلا بقرينة تدل على عدم التحريم1. واستدلوا على ذلك بجملة أدلة منها: 1- قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} 2 حيث تدل هذه الآية على أن ما نهى عنه يجب الانتهاء عن فعله؛ لأن قوله تعالى: {فَانتَهُوا} فعل أمر وتقدم لنا أنه يفيد وجوب ترك المنهي عنه. ومنها أن الصحابة رضي الله عنهم قد فهموا التحريم من النهي المجرد، واستدلوا به على تحريم فعل المنهي عنه. 3- ومنها تبادر التحريم من الصيغة المجردة، والتبادر بدون قرينة أمارة الحقيقة، وهذان الدليلان الأخيران يصلحان للاستدلال بهما على أن   1 الآحكام للآمدي 2/48، وأصول البزدوي 1/257، وتيسير التحرير 2/90، ومختصر المنتهى 2/95 - 96، وإرشاد الفحول ص: 94. 2 سورة الحشر آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الأمر المطلق يدل على الوجوب حقيقة، وهناك أدلة أخرى، فمن يريد الوقوف عليها فعليه بمراجعة الكتب الأصولية المطولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الباب الأول: في التعريف بالمطلق والمقيد ودلالتهما الفصل الأول: التعريف بحقيقة المطلق والمقيد المبحث الأول: في تعريف المطلق والمقيد في اللغة ... التمهيد: تقسيم اللفظ الخاص باعتبار الحالة الملابسة له إلى المطلق والمقيد في بداية الكلام على أنواع الخاص أشرنا إلى أن من أنواعه باعتبار الحالة الملابسة له المطلق والمقيد1، ووعدنا ببسط الكلام عليهما؛ لأنهما موضوع الرسالة، وقد آن الأوان للوفاء بالوعد فنقول: من خلال استقراء النصوص في الكتاب والسنة تبين للباحثين عن استنباط الأحكام الشرعية، أن اللفظ قد يرد خالياً عن أي قيد لفظي،   1 اختلفت وجهات نظر العلماء إلى المطلق والمقيد، هل هما قسمان للفظ الموضوع؟ أو هما قسمان للخاص أو أن المطلق من العام والمقيد من الخاص؟ أ- فذهب جمهور الأصوليين إلى أنهما من أنواع الخاص، وهؤلاء نظروا إلى المعنى الذي وضع له اللفظ، وإلى المعنى الخاص للإطلاق والتقييد، وهو ما جرينا عليه. ب- وذهب فريق آخر إلى أن المطلق والمقيد قسمان للفظ الموضوع باعتبار الحالة الملابسة له، وهذا الفريق نظر إلى الإطلاق والتقييد بالمعنى العام كما سيأتي. جـ- وذهب فريق ثالث إلى التفصيل: 1- فجعل المطلق من أنواع العام، لما فيه من العموم البدلي. 2- والمقيد من الخاص لقطعية دلالته لما وضع له. انظر: مرآة الأصول ص: 340-347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فيكون مدلوله شائعاً بين أفراده، لأنه وضع للمعنى المشترك بين أفراد الحقيقة الواحدة من حيث هو - بقطع النظر عن اعتبار الوحدة، أو الجمع أو الوصف في مفهومه الوضعي، فيسمى حينئذ مطلقاً. وقد يرد مقيداً بوصف أو شرط أو نحوهما، فيكون مدلوله محدود الشيوع قاصراً على بعض الأفراد التي كان يتناولها بطريق البدل، فيسمى عندئذ مقيداً. كما تبين من خلال المقارنة لموارد النصوص التي يكون فيها لفظ مطلق وآخر مقيد، أنه قد يكون بينهما شيء من اللقاء في سبب الحكم، أو في الحكم نفسه، أو فيهما معاً، مما يقتضي وجود قواعد وضوابط تنظم العلاقة بين المطلق والمقيد وتبين مدى تأثير أحدهما على الآخر. وحينما عمد المجتهدون إلى ارساء هذه القواعد، اختلفوا في بعضها وسوف نورد - بعد التعريف بماهية المطلق والمقيد، ودلالتهما وبيان الأحوال التي تعرض لهما، والشروط التي اشترطها من يقول بحمل المطلق على المقيد - أهم القواعد التي اختلف فيها علماء الأصول في هذا الباب، ثم نتبع ذلك ببعض الأمثلة التي توضح أثر الاختلاف في تلك القواعد على الفروع الفقهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المبحث الأول: في تعريف المطلق والمقيد في اللغة المطلق في اللغة: اسم مفعول، مأخوذ من مادة يدور معناها في وجوه تصاريفها المختلفة على معنى الانفكاك والتخلية1. يقال: أطلق الأسير إذا خلى سبيله، وأطلق الطير إذا فتح قفصه وأطلق القوم مواشيهم إذا سرحوها وأرسلوها إلى المرعى، وأطلق يده بخير فتحها به، وأطلق الرجل امرأته وطلقها بمعنى خلاها من قيد الزواج، وأطلق الرجل البلاد فارقها، وأطلق المتكلم في كلامه أي عمّ ولم يقيد. والمطلق في الألفاظ ضد المقيد، ومن الخيل ما لا تحجيل في إحدى قوائمه، لكن هذا المعنى أعني (الانفكاك والتخلية) يكثر استعماله في الأجسام المحسوسة مما جعل بعض العلماء يقول: إن الإطلاق والتقييد في الألفاظ مستعاران من المحسوسات، يقال: رجل أو حيوان مطلق؛ إذا خلا من قيد، ومقيد إذا كان في رجله قيد ونحوه من موانع الحركة الاختيارية التي ينتشر بها بين أفراد جنسه، فإذا ورد في ألفاظ الشارع لفظ مطلق، مثل (أعتق رقبة) كانت هذه الرقبة شائعة في جنسها شيوع الحيوان المطلق   1 ترتيب القاموس المحيط 3/90-92، ومختار الصحاح للشيخ محمد أبي بكر الرازي ص:396 وأقرب الموارد في فصح العربية والشوارد ص 713، والمصباح المنير للفيومي ص: 376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 بحركته الاختيارية يتحرك إلى أي جهة شاء. وإذا قال الشارع: (أعتق رقبة مؤمنة) كانت هذه الصفة وهي مؤمنة بالنسبة للرقبة كالقيد المانع للحيوان من الحركة الاختيارية1. وبناء على ذلك تكون نسبة الإطلاق والتقييد إلى اللفظ بحسب ما له من دلالة على المعنى، أي: أنهما وصفان للفظ باعتبار المعنى. والظاهر أنه ليس للأصوليين اصطلاح خاص في المطلق والمقيد بعيد عن المعنى اللغوي، بل هما مستعملان بما لهما من معنى في اللغة. لأن المطلق مأخوذ من الإطلاق، وهو الإرسال والشيوع، ويقابله التقييد2، قال ابن فارس3 في كتابه (الصاحبي) تحت عنوان (الخطاب المطلق والمقيد) : (أما الإطلاق: فأن يذكر الشيء باسمه لا يقرن به وصف، ولا شرط، ولا زمان ولا عدد، ولا شيء مما يشبه ذلك. والتقييد: أن يذكر بقرين من بعض ما ذكرناه، فيكون ذلك القرين   1 روضة الناظر مع شرحها لبدران 2/191 ط المطلبعة السلفية بمصر 1342هـ. 2 أصول الفقه للشيخ رضا المظفر ص: 171 ط 3 طبع بمطابع دار النعمان. 3 ابن فارس هو: أبو الحسين أحمد بن فارس القزويني أحد أئمة اللغة في القرن الرابع ولد سنة 329هـ، وله عدة مصنفات منها (مقاييس اللغة في 6 أجزاء والصاحبي في فقه اللغة ألفه لخزانة الصاحب بن عباد، توفي في الري سنة 395هـ. انظر: الأعلام 1/184، ط 3/ 1398، ومقدمة الصاحبي للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 زائداً في المعنى1. وضابط ذلك كما يقول القرافي2: (أن تقتصر على مسمى اللفظة المفردة نحو: (رقبة) - إنسان - حيوان ونحو ذلك من الألفاظ المفردة فهذه كلها مطلقات، ومتى زدت على مدلول اللفظة المفردة مدلولاً آخر، بلفظ أو بغير لفظ، صار اللفظ مقيداً كقولك: (رقبة مؤمنة) ورجل صالح، وحيوان ناطق. وتلك المطلقات السابقة هي في أنفسها مقيدات إذا أخذت مسمياتها بالنسبة إلى ألفاظ أخر، فإن الرقبة هي إنسان مملوك، وهذا مقيد، والإنسان حيوان ناطق، وهذا مقيد، والحيوان جسم حساس، وهذا مقيد أيضاً، فصار التقييد والإطلاق أمرين نسبين، غاية الأمر أن إظلاق كل شيء بحسبه وما يليق به فرب مطلق مقيد ورب مقيد مطلق3.   1 الصاحبي لابن فارس ص: 164م السعيد سنة 1328هـ القاهرة الناشر المكتبة السلفية. 2 القرافي: هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي الصنهاجي، المصري المالكي، كان إماماً عالماً بارعاً في الفقه والأصول، والتفسير. وله عدة مؤلفات منها: (تنقيح الفصول وشرحه في أصول الفقه، والعقد المنظوم في خصوص والعموم مخطوط، والفروق) توفي رحمه الله سنة 684 بمصر. انظر: الأعلام 1/90، وطبقات الأصوليين 2/86-87، وشجرة النور الزكية ص: 188 رقم الترجمة 627. 3 تنقيح الفصول ص: 266. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 المبحث الثاني: تعريف المطلق في الاصطلاح وأما تعريف المطلق في الاصطلاح فإن لعلماء الأصول فيه اتجاهين دارت حولهما التعاريف المتعددة. الاتجاه الأول: النظر إلى المطلق من حيث الدلالة على الأفراد الموجودة في الخارج1. والثاني: النظر إليه من حيث الدلالة على الماهية التي تعد من المفهومات العقلية، وسبب هذا الاختلاف يعود إلى أمرين: الأول: اختلافهم فيما يراد بالمطلق، هل هو الماهية المتحدة مع الأفراد وتسمى (الماهية بشرط) أي بشرط اتحادها مع أفرادها، وهذا أقرب إلى اصطلاح الأصوليين؛ لأن بحثهم في الأحكام الشرعية المتعلقة بالأفراد، أو أن المراد من المطلق الماهية المجردة، (وتسمى الماهية بدون شرط) ، وهذا الاتجاه يشبه اصطلاح المناطقة الذين يبحثون عن المفهومات العقلية. والسبب الثاني: اختلاف العلماء فيما هو المعتبر عند الواضع: أهي الصور المتخيلة في الذهن، أم الأفراد المحسوسة في الخارج؟ أو   1 جمع الجوامع 2/46 مع حاشية البناني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 هما معاً؟ أي الصور مع الأفراد المحسوسة في الخارج1، وحيث إن هذا الاعتبار الأخير يؤدي إلى الاشتراك، والأصل عدمه، فقد انحصرت وجهات النظر في الاعتبارين الأولين، أي: أن المعتبر عند الواضع إما الأفراد أو الصور، فأصحاب الاتجاه الأول: ومنهم الآمدي وابن الحاجب يرون أن المطلق موضوع للدلالة على الأفراد الخارجية لتبادرها من اللفظ عند إطلاقه والتبادر بدون قرينة أمارة الحقيقة. ولهذا عرفوا المطلق بتعاريف متعددة تلتقي عند دلالته على الفرد الشائع في جنسه: إذ عرفه الآمدي بأنه: (النكرة في سياق الأثبات) 2 وبنحو منه تعريف صاحب مسلم الثبوت3، بأنه ما دل على فرد ما منتشر4. ومعنى هذا التعريف أن المطلق اللفظ الذي يتناول فرداً غير معين، بمعنى أن ذلك الفرد المتناول بالمطلق فرد منتشر شائع في جنسه.   1 حصول المأمول من علم الأصول لمحمد صديق خان ص 7-8. 2 الأحكام للآمدي 2/162، ومختصر ابن الحاجب 2/155. 3 ومؤلفه هو: محب الدين بن عبد الشكور البهاري الهندي القاضي توفي سنة 1119هـ من كتبه (مسلم الثبوت في أصول الفقه) . انظر الأعلام 6/169 ط 3 / 1398، والفتح المبين في طبقات الأصوليين 3/122 ط 2/ 1394هـ. 4 مسلم الثبوت 1/360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وشيوع المدلول في جنسه يعني كونه فرداً محتملاً لأفراد كثيرة على سبيل البدل أي: أنه يمكن أن يصدق على كل فرد منها من غير أن يستغرقها أو يعين واحداً منها، فمثلاً: قولنا (رجل) لفظ يتناول شخصاً واحداً ليكن زيداً مثلاً، ولكن تناوله له ليس معناه أن ذلك الفرد متعين أن يكون مدلولاً له لا يحتمل أن يصدق على غيره، بل هو ممكن أن يصدق على عمرو بدل زيد وعلى بكر بدلهما، فتناوله لزيد أو عمرو تناول بدلي تناوبي باعتبار حقيقة شاملة لهما وهي: (الإنسان الذكر) 1. 2 - وذهب أصحاب الاتجاه الثاني وهم أكثر الأصوليين: إلى أن المطلق موضوع للدلالة على الماهية من حيث هي، والفرد الذي يتحقق به مفهوم الماهية إنما يلزم عن طريق الضرورة؛ إذ لا وجود للماهية في الخارج بأقل من فرد من أفرادها، وهؤلاء عرفوا المطلق: بأنه اللفظ الدال على الماهية بلا قيد2.   1 ينظر شرح تعريف صاحب مسلم الثبوت للكنوي المسمى فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/361 فما بعدها. واللكنوي هو: عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري الفقيه الحنفي الأصولي توفي سنة 1180هـ من أشهر كتبه فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، طبقات الأصوليين 3/132. 2 جمع الجوامع للسبكي 2/44. والتوضيح على التنقيح كلاهما لصدر الشريعة ومعهما التلويح للتفتازاني 1/63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ومعنى هذا التعريف أن المطلق هو اللفظ الذي يدل على الحقيقة من حيث هي بدون اعتبار أي قيد، من وحدة، أو شرط، أو وصف، أو زمان، أو مكان، فمثلاً: قولنا (فرس) : لفظ يدل على حقيقة وما هية هي الحيوان الصاهل، ولم يعتبر في هذا اللفظ أي قيد من القيود التي تقلل من شيوعه وانتشاره بين أفراد جنسه، حيث لم يوصف بوصف ما، كما لم يشترط فيه أن يكون في زمان أو مكان ما، أو غير ذلك من القيود التي تحد من انتشاره وتضيق من دائرة انطباقه على أفراد جنسه. وقد أيد كل فريق رأيه بأدلة نذكر منها ما يلي: أ - فمن أدلة1 الفريق الأول ما يلي: 1 - قالوا: إن القول بأن المطلق موضوع للدلالة على الأفراد هو الموافق لأسلوب العرب ومتعارفهم؛ لأن المطلق عندهم عبارة عن النكرة في سياق الإثبات. 2 - إن تعريف المطلق بما يدل على الأفراد هو الأوفق بأسلوب الأصوليين، لأن بحثهم في أحكام المكلفين، والتكليف إنما يتعلق بالأفراد دون المفهومات. 3 - قالوا: إن القول بأن المطلق موضوع للماهية ينافيه اتفاق   1 حاشية البناني على جمع الجوامع 2/46، تيسير التحرير 2/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الفريقين على أن من أمثلته (رقبة) في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1؛ إذ لا شك أنها فرد محسوس في الخارج2. 4 - ومن أدلتهم أيضاً: أن القائل بأن المطلق موضوع للماهية يلزمه القول بأن وجودها وتعلق الأحكام بها إنما يكون باعتبار اتحادها مع أفرادها، وليس كذلك القول بأن المطلق موضوع للدلالة على الفرد الشائع؛ فإنه لا يترتب عليه هذا المحظور؛ إذ يمكن توجيه الخطاب إليه أصالة بدون لوازم. ب - ومن أدلة الفريق الثاني3: 1 - أن الأصل في الوضع أن يكون للصور المتخلية في الذهن، بدليل أننا لو رأينا شبحاً بعيداً ولم نميزه، فلا نزال نطلق عليه الأسماء المختلفة حسبما نتصوره في أذهاننا. 2 - أن اللفظ ظاهر الدلالة على الحقيقة، بدليل تسميته بالمطلق المقابل للمقيد، أما الأفراد فلا يمكن ادعاء الإطلاق فيها، لأنها حينما توجد تقارنها القيود المختلفة، إذ لا بد أن تكون في زمان ما ومكان ما   1 سورة المجادلة آية: 4. 2 تسهيل الوصول إلى علم الأصول للمحلاوي ص: 16. 3 حاشية البناني مع جمع الجوامع 2/46، وتيسير التحرير لأمير الحاج 2/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ومتصفه بصفة ما1. 3 - قالوا: إن تعريف المطلق بما يدل على الماهية فيه التفريق بين المطلق والنكرة وهذا مما ينبغي مراعاته عند تعريفهما. والظاهر أنه ليس هناك فرق جوهري بين التعريفين، لقيامه على أمور اعتبارية، فحيث اعتبرت الحقيقة مجردة عن القيود سميت مطلقاً واسم جنس كما سيأتي. وإذا أخذت متحدة مع الأفراد سميت نكرة، وسيأتي لهذا البحث مزيد من التوضيح في الفرق بين المطلق والنكرة عند من يرى الفرق بينهما، وعلى ضوء ما سبق فمن الممكن تعريف المطلق بما يجمع الأمرين جميعاً. فيقال: المطلق هو اللفظ المتناول لواحد غير معين باعتبار حقيقة شاملة لجنسه2. شرح التعريف: 1 - اللفظ المتناول: يراد بالتناول - هنا - التناول البدلي، وهو أن   1 بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية 4/204، ط إدارة الطباعة المنيرية ط أولى الناشر دار الكتاب العربي- بيروت. 2 روضة الناظر مع شرحها 2/191 ط المطبعة السلفية 1342هـ بمصر، موسوعة الفقه الإسلامية 10/5-8 إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- القاهرة 1398هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 يكون اللفظ صالحاً للدلالة على أفراد كثيرة غير محصورة وغير معينة من ذات اللفظ، ولكن مفهومه يتحقق بواحد منها، أي واحد كان. مثل قولنا: (أكرم رجلاً) : المتناول لجميع رجال الدنيا بدون تعيين، ولكن مفهومه يصدق بإكرامك واحداً منهم أيا كان هو، وبهذا القيد يخرج عن حد المطلق العام؛ لأنه يتناول أفراداً كثيرة دفعة واحدة. 2 - لواحد غير معين: الوحدة - هنا - أعم من الوحدة الحقيقية فيشمل التعريف الجمع والمثنى إذا كانا نكرتين، وبهذا القيد تخرج المعارف لما فيها من التعيين وأسماء العدد لدلالتها على أكثر من واحد، والمقيد لأن فيه بعض التعيين. 3 - باعتبار حقيقة شاملة لجنسه: يعني أن تناول اللفظ المطلق منظور فيه إلى مفهوم مشترك بين الأفراد، وهذا المفهوم يسمى حقيقة، وبهذا القيد يخرج المشترك؛ لأنه وإن تناول أكثر من واحد لا بحسب الحقيقة، بل بحسب الوضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 المبحث الثالث تعريف المقيد اصطلاحا المطلق والمقيد متقابلان، ولما وجد لعلماء الأصول في تعريف المطلق اتجاهان كان من البداهة أن يوجد هذان الاتجهان في تعريف المقيد نظراً للتقابل الحاصل بين المطلق والمقيد. 1 - فمن يرى من الأصوليين أن المطلق اللفظ الدال على شائع في جنسه1 يعرف المقيد: بأنه اللفظ الذي يدل لا على شائع في جنسه 2. فيدخل في تعريف المقيد عند هذا الفريق المعارف وجميع العمومات لدلالتها على غير شائع في جنسها، ولكن إطلاق المقيد على ما يشمل المعارف والعمومات ليس بالاصطلاح الشائع، وإنما هو للتقابل بين المطلق والمقيد. 2 - ومن يرى أن المطلق هو: اللفظ الدال على الماهية بلا قيد3. يعرف المقيد: بأنه اللفظ الدال على الماهية مع قيد من قيودها 4.   1 الأحكام للآمدي 2/162، ومختصر ابن الحاجب مع حاشية السعد 2/155، وإرشاد الفحول ص: 164. 2 الأحكام للآمدي 2/162، ومختصر ابن الحاجب مع حاشية السعد 2/155، وإرشاد الفحول ص: 164. 3 المراجع السابقة، نفس الجزء والصفحة. 4 المراجع السابقة، نفس الجزء والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أو هو اللفظ الدالة على مدلول المطلق مع صفة زائدة1: مثل: قولنا: رجل كريم؛ فإنه يدل على ماهية الرجل وهي: (الإنسان الذكر) مع قيد زائد عليها وهو (الكرم) ؛ لأنها لا تتضمنه في أصل الوضع. والواقع أن المقيد على هذا التعريف ما هو إلا مطلق لحقه قيد فأخرجه عن الإطلاق إلى التقييد، وبناء على ذلك فالمطلق الذي له أوصاف، أو قيود كثيرة إذا وصف، أو قيد بواحد منها كان مقيداً بالنسبة إلى ذلك الوصف أو القيد، أما بالنسبة إلى ما عدا ذلك من الأوصاف فيبقى على إطلاقه، فمثلاً قولنا: (رقبة) مطلق، وقولنا: (رقبة مؤمنة) قُيّد فيه المطلق بقيد الإيمان، فهذا التقييد لا يمنع من بقاء المطلق على إطلاقه بالنسبة لأوصافه الأخرى ككونها عربية أو غير عربية، سليمة أو معيبة. وعلى ضوء ذلك يمكن تعريف المقيد: بأنه: (اللفظ المطلق الذي اقترن به ما يقلل من شيوعه وانتشاره) 2.   1 أصول البزدوي مع كشف الأسرار 2/286. 2 مسلم الثبوت 1/360، وأصول الفقه لبدران أبو العينين بدران ص: 351، وأصول الأحكام للشيخ منصور ص: 250، مطبعة كلية أصول الدين بالجمهورية العربية الليبية، (أو القواعد الأصولية لغير السادة الحنفية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 شرح التعريف: 1 - اللفظ المطلق: سبق شرحه. 2 - الذي اقترن به ما يقلل من شيوعه: يقصد بالاقتران - هنا - ما هو أعم من التقييد اللفظي، فيشمل التقييد باللفظ وغيره كالتقييد بالنية والعادة مثلاً، فمثال التقييد باللفظ. قولنا: (رجل صالح) ، ومثال التقييد بالنية قولك: (لله علي أن أحج) ، وأردت هذا العام مثلاً: ومثال التقييد بالعادة قول السيد لعبده: اشتر لنا لحماً، ومن عادتهم شراء لحم الضأن؛ فإنه يتقيد بما هو متعارف بين السيد وعبده، وفي قولنا: ما يقلل من شيوعه: إشارة إلى أنه يكفي في تقييد المطلق خروجه من الشيوع بأي وجه كان، وليس شرطاً في التقييد أن لا يبقى للمطلق صفة الإطلاق أصلاً، بل قد يكون مطلقاً من وجه ومقيداً من وجه آخر. والمراد بالشيوع: الشيوع البدلي كما سبق إيضاح ذلك، فقول الله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} 1، مطلق يتناول الرقاب الموجودة في الدنيا - سواء أكانت مؤمنة أم كافرة - وللمكلف أن يعتق واحدة منها، وبذلك يخرج من عهدة التكليف.   1 سورة البلد آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 لكن في قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} 1، قد جاء المطلق مقترناً بما يقلل من ذلك الشيوع؛ لأن المأمور به تحرير رقبة مؤمنة لا يجدي تحرير غيرها للخروج من عهدة التكليف، بينما كان المطلق قبل التقييد مجزئاً بإعتاق أي رقبة. وهكذا نرى أن قيد الإيمان قد جاء مقللاً من شيوع المطلق وقاصراً له على بعض الأفراد التي كان يتناولها قبل التقييد، لكنه مع ذلاك بقيت الرقبة مطلقة بالنسبة لما عدا الإيمان من الأوصاف، ككونها عربية أو فارسية سليمة أو معيبة، إذ لم يتعرض التقييد في هذا النص لغير وصف الإيمان وبذلك يتحقق ما سبق أن الإطلاق والتقييد من الأمور النسبية فرب مطلق مقيد ورب مقيد مطلق2، ولا تناف في ذلك بعد ما تبين لنا المراد من المطلق والمقيد.   1 سورة النساء آية: 92. 2 تنقيح الفصول للقرافي ص: 266. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الفصل الثاني: في دلالة المطلق والمقيد المبحث الأول: في الفرق بين المطلق والنكرة ... المبحث الأول: في الفرق بين المطلق والنكرة. سلف أن بعض1 أصحاب الأصول يعرف المطلق بالنكرة في سياق الإثبات، وهذا الاتجاه يتفق وما ذهب إليه عامة النحاة من تقسيم الاسم إلى نكرة ومعرفة. ويصنفون المطلق من قسم النكرة؛ لأنهم لا يرون فرقاً بينهما، بل يذهب فريق من النحاة إلى إعطاء الأفعال والظروف حكم النكرة؛ لوقوعهما صفة لها، والصفة تابعة للموصوف، ولدلالة كل من الفعل والظرف في الغالب على غير معين، والنكرة كذلك، لكنهم لا يقصدون من النكرة المساوية للمطلق كل نكرة، بل النكرة المساوية للمطلق عندهم هي النكرة في سياق الإثبات، وهي المعروفة بالنكرة المحضة المتوغلة في الإبهام؛ حيث لم يقترن بها ما يخرجها عن الإبهام بوجه من الوجوه. يقول القرافي: "كل شيء يقول فيه الأصوليون: إنه مطلق يقول النحاة: إنه نكرة، وكل شيء يقول النحاة: إنه نكرة يقول الأصوليون: إنه مطلق، وأن الأمر به يتأدى بفرد منه؛ فكل نكرة في سياق الإثبات مطلق عند الأصوليين، فما أعلم موضعاً ولا لفظاً من ألفاظ النكرات يختلف فيه النحاة والأصوليون، بل أسماء الأجناس كلها في سياق الثبوت هي نكرات   1 الأحكام للآمدي 2/162، وابن الحاجب 2/155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 عند النحاة ومطلقات عند الأصوليين"1. ثم يقول: "والتعرض للفرق بين الاصطلاحين عسر باعتبار الواقع، أما باعتبار الفرض والتصوير فممكن، غير أن البحث إنما وقع في هذا المكان عن الواقع من الاصطلاحين ما هو؟ وقريب من ذلك ما ذكره صاحب2 النحو الوافي حيث يقول: "ذهب جمهرة كبيرة من النحاة إلى أنه لا يوجد فرق بين النكرة واسم الجنس "المطلق"؛ فإن كان لمعين فهو النكرة المقصودة3، وإن كان لغير معين فهو: النكرة غير المقصودة4، وفي هذا الرأي يعني "اتحاد المطلق   1 العقد المنظوم في الخصوص والعموم للقرافي مخطوط ص: 18، توجد له صورة بالمكتبة العامة بالجامعة الإسلامية. 2 هو: الأستاذ عباس حسن رئيس قسم النحو والصرف والعروض بكلية دار العلوم وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة. 3 النكرة المقصودة: وتسمى اسم الجنس المعين، هي: النكرة التي يزول إبهامها وشيوعها بسبب ندائها، فتصير معرفة بعد أن كانت تدل على واحد غير معين، مثل قولك: (يا رجل ساعدني على احتمال المشقة) ، وهي تشبه المفرد العلم مثل: زيد إلا أن تعريفها طارئ بسبب ندائها فيصح أن توصف بالمعرفة نظراً لهذا التعريف الطارئ ويصح أن توصف بالنكرة مراعاة لحالتها السابقة، فيقال: يا رجل المهذب أو مهذباً ساعدني على احتمال المشقة، إلا أن الأول أولى. النحو الوافي 4/30. 4 النكرة غير المقصودة: وتسمى اسم الجنس غير المعين، هي الباقية على إبهامها وشيوعها كما كانت قبل النداء ولا تدل معه على فرد معين بالمناداة، ولهذا لا تستفيد منه التعريف، مثل قولك: يا غافلاً تذكر الآخرة وأحسن كما أحسن الله إليك. النحو الوافي 4/30 ط ثالثة دار المعارف بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 والنكرة" تخفيف وتيسير فيحسن الأخذ به"1، وما ذهب إليه هذان العالمان من اتحاد النكرة والمطلق أيده كثير من الأصوليين منهم صاحب التحرير إلا أنه قصر مساواة المطلق للنكرة في سياق الإثبات والمعرف لفظاً2، حيث يقول بعد أن ذكر الأدلة على أن المطلق موضوع ليدل على الأفراد الخارجية: "فلا دليل على وضع اللفظ للماهية من حيث هي إلا علم الجنس3، إن قلنا: بالفرق بينه وبين اسم الجنس النكرة، وهو الأوجه أي: الفرق بينهما، هو الأوجه المختار؛ لأن اختلاف أحكام اللفظين يؤذن بفرق في المعنى، وإلا فقد ساوى المطلق النكرة ما لم يدخلها عموم والمعرف لفظاً"4.   1 المرجع السابق 1/289. 2 المعرف لفظاً: هو المعهود الذهني وسيأتي الكلام عليه في مبحث مستقل. 3 علم الجنس: يعرف بأنه اللفظ الموضوع للماهية المتحدة في الذهن المشار إليها من حيث معلوميتها للمخاطب، تيسير التحرير 2/35، نحو: قولك: أسامة أجرأ من ثعالة، أي حقيقة الأسد أجرأ من حقيقة الثعلب، وقيل: هو اللفظ الموضوع للماهية المستحضرة في الذهن. (اتحاف الإنس في العلمين واسم الجنس) ، مخطوط بمكتبة عارف حكمت. 4 يراد باللفظين اسم الجنس النكرة، وهو المسمى (بالمطلق) ، وعلم الجنس الذي سبق تعريفه، والأحكام التي يشير إليها هي أحكام المعارف؛ فإنها تجري على علم الجنس دون اسمه، مثل: منع علم الجنس من الصرف، إذا انضمت إليه علة أخرى - كالتأنيث مثلاً - ومجيء الحال منه نحو: (أسامة مقبلاً أحسن منه مدبراً) ، وجواز الابتداء به بدون مسوغ مثل: أسامة جميل، ومنع دخول (ال) المعرفة عليه حيث كان بذاته يفيد التعيين فهو غني عنها بخلاف اسم الجنس، فإنها إذا دخلت عليه أفادته التعريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وفسر الشارح ذلك فقال: "والمراد بمساواته لهما أن ما صدق عليه أحدهما يصدق عليه الآخر؛ فبين المطلق والنكرة عموم من وجه"، لصدقهما في نحو: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، وانفراد النكرة عنه إذا كانت عامة كما لو وقعت في سياق النفي، وانفراد المطلق عنها في نحو: "اشتر اللحم"، ثم يقول الكمال بن الهمام: "ولو سلم عدم الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس فقد استقل تبادر الأفراد من اللفظ المطلق بنفي وضعه للماهية من حيث هي: فالحق الأول - يعني أن لا وضع للماهية من حيث هي إلا علم الجنس إن قلنا: بالفرق بينه وبين اسم الجنس"1. 2 - وذهب فريق آخر: إلى أن المطلق مغاير للنكرة؛ فالمطلق عند أصحاب هذا الاتجاه ما وضع للمعنى الذهني المجرد، وهو المسمى "بالماهية من حيث هي"، مثل:   1 تيسير التحرير 2/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قولك: "الرجل خير من المرأة" أي: حقيقة الرجل خير من حقيقة المرأة، بقطع النظر عن أفرادهما. والنكرة هي: مدلول اللفظ الخارجي الذي ينطبق عليه فعلاً، قال صاحب النحو الوافي بعد أن ذكر التعريفين السابقين: "وهذا حاصل الفرق بينهما عند من يراه وهو فرق فلسفي متعِبٌ في تصوره، وليس وراءه فائدة عملية"1، إذ لا يوجد له في خارج الذهن، بل المطلق والنكرة في الخارج متحدان في المدلول، وهو الفرد الشائع، وحيث علمنا عدم فائدة الفرق، وأنه يرجع إلى أمور اعتبارية فقط، يكون الخلاف في ذلك خلافاً في الاصطلاح، اللهم إلا أن يقال: الفرق بين المطلق والنكرة يبدو في حال الإخبار عن الماضي، إذ قال بعض الأصوليين2: إن الإطلاق لا يتصور في غير الأمر وخبر الثبوت، فنحو قولك: رأيت رجلاً مثلاً،   1 النحو الوافي 1/289، وهذا ما دعا بعض العلماء إلى أن يقولوا: لا فرق بين علم الجنس واسم الجنس في المعنى، بل الفرق بينهما في مجرد اللفظ، حيث نقل الثقات إجراء أحكام المعارف اللفظية على علم الجنس دون اسمه، وإلى ذلك يشير ابن مالك في ألفيته فيقول: (ووضعوا لبعض الأجناس علم *** كعلم الأشخاص لفظاً وهو عم) وقوله: وهو (عمَّ) بصيغة الماضي - يعني - أن مدلوله (عمَّ) الأفراد، بحيث يصدق على كل فرد بذاته، فهو عام شائع من جهة المدلول، وهذا هو حكم النكرة. 2 الآمدي 2/162، والفروق للقرافي 1/190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 متعين بإسناد الرؤية إليك ومع التعيين يبعد الإطلاق، لكن هذا المثال لا يسلم من الاعتراض؛ لأنه يمكن أن يقال: إن رجلاً في قولك: "رأيت رجلاً" مطلق؛ لأنه لا يعرف هل هو مسلم أو غير مسلم، طويل أو قصير؟ فعلى فرض صحة المثال يكون المطلق مفارقاً للنكرة في حال الإخبار عن الماضي وسيأتي لهذا مزيد من الإيضاح في مبحث دخول الإطلاق على الأفعال. ورغم ما سبق من عدم فائدة الفرق بين المطلق والنكرة إلا أن أكثر الأصوليين والفقهاء ذكروا لذلك فائدة تظهر في قول الرجل لزوجته: "إن كان حملك ذكراً فأنت طالق"، ولم ينو عدداً معيناً ثم ولدت ذكرين، فعلى القول بأن المطلق يفارق النكرة، وأنه يفيد ماهية الشيء تطلق للجنس، وإلى هذا الفرق يشير صاحب1 مراقي السعود، فيقول:   1 هو: سيدي عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي، ولد بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري، بقصر تحكجة، وهي القاعدة العامة لأمارة شنقيط، درس بادئ ذي بدء على والده الذي كان من رجالات العلم، ثم تلقى العلوم على عدد من كبار علماء الصحراء منهم سيدي المختار الكنتي، والحاج أحمد خليفة العلوي، فذاع صيته حتى اعتبروه أعلم رجل في الصحراء المغربية، ومما قيل في حقه: إنه (فريد دهره، وعالم عصره، أو كما نعته بعضهم بكونه مجدد العلم بقطر شنقيط، تتلمذ علي يده جم غفير من العلماء لا من بلاد شنقيط فحسب، ولكن من جميع البلاد المجاورة كالسنغال، والسودان، وبلاد أفريقيا، توفي رحمه الله برباطه العلمي القريب من (تحكجكه) عن عمر يناهز الثمانين، وذلك في حدود سنة 1233هـ، له عدة مؤلفات منها: النظم المسمى مراقي السعود ونشره نشر البنود في الأصول على مذهب المالكية. انظر: مقدمة الكتابين المذكورين لترجمة المؤلف، طبع صندوق إحياء التراث الإسلامي المشترك بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 عليه طالق إذا كان ذكرا ... فولدت لاثنين عند ذي نظر وذكروا في الفروع أيضاً أن من دفع إلى وكيل له ثوباً ليخيطه ولم يعين الموكل أحد الخياطين ثم تلف الثوب، فإن الوكيل يضمن لتفريطه بخلاف ما لو عين الموكل أحد الخياطين، فإن الوكيل لا يضمن حينئذ لعدم تفريطه1.   1 ووجه تخريجه على هذا الخلاف، أنه عند عدم التعيين لا يكون الوكيل مفرطاً، فلا يضمن، وعند التعيين يضمن لتفريطه، وذلك هو مقتضى المطلق والمقيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المبحث الثاني: في الفرق1 بين المطلق والعام المطلق والعام يشتركان في ثبوت الحكم، لكل فرد من الأفراد الداخلة تحت مدلولهما، ولذلك يسمي بعض العلماء المطلق عاماً2 فهل العموم في المطلق والعام بمعنى واحدٍ أو بينهما فرق؟ وإن كان هناك فرق فما السبب في تسمية المطلق عاماً؟ والذي عليه المحققون أن العموم في المطلق يراد به معنى غير المصطلح عليه في لفظ العام الذي سبق تعريفه بأنه: "اللفظ المستغرق لما يصلح له بلا حصر"، يقول العلائي3 في كتابه تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم:   1 ينظر للفرق بينهما كل من (شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 220، والعقد المنظوم في الخصوص والعموم للقرافي، فيلم من المكتبة العامة بالجامعة الصفحات 3، 4، 9، إرشاد الفحول ص: 114، والفروق للقرافي 1/172، وأصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف ص: 182، ط الثانية عشرة 1398 دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع الكويت. 2 شرح المنار للنسفي مع حواشيه ص: 325. 3 هو: خليل بن كيكدي بن عبد الله العلائي الدمشقي الشافعي، صلاح الدين، أبو سعيد، محدث فقيه، أصولي، ولد بدمشق. وله جامع الأصول من أحاديث الرسول، واشتهر بتهذيب الأصول، والأشباه والنظائر في فروع الفقه الشافهي، وتفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال في الأصول. معجم المؤلفين 4/126 لعمر رضا كحالة مكتبة المثنى بيروت ودار إحياء التراث العربي، طبقات الشافعية للسبكي 6/104 - 105، ط الأولى م الحسينية ملتزم الطبع أحمد عبد الكريم القادري، شذرات الذهب لابن العماد 6/190 - 191، ط المكتب التجاري للطباعة والنشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 "العموم يقع على قسمين: عموم الشمول، وعموم الصلاحية، وإن كان العموم في الأول أقوى منه في الثاني، وعموم الصلاحية هو: المطلق، وتسميته عاماً بسبب أن موارده غير منحصرة، لا أنه في نفسه عام، فإن قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مطلق، والمقصود بها القدر المشترك في أي مورد شاء من أنواع الرقاب، غير أن المكلف لما كان له أن يعين هذا المفهوم المشترك في أي مورد شاء من أنواع الرقاب كان "لفظ"1 الرقبة عاماً بهذا الاعتبار، ويقال له: عموم البدل أيضاً، فلا يجب على المكلف أن يعتق كل ما يسمى رقبة، بخلاف عموم الشمول، فإنه يلزمه تتبع الأفراد الداخلة تحت اللفظ العام2، فمثل قوله - تعالى -: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} لا يمكن للمكلف أن يقصر حكمه على فرد واحد من أفراد المشركين، بل يلزمه تتبع الأفراد حيث وجدها، فلو قتل مشركاً ثم وجد آخر وجب   1 في المخطوط كان (لفظة الرقبة) . 2 تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم 1/2، مخطوط له صورة في المكتبة العامة بالجامعة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 عليه قتله امتثالاًُ للأمر الأول، بينما نجد أن المكلف بالمطلق له أن يختار أي فرد شاء مما يصدق عليه اللفظ المطلق وبفعله ذلك يخرج عن عهدة التكليف، فمثلاً: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يجوز للمكلف أن يعتق أي رقبة شاء سواء أكانت طويلة أم قصيرة وسواء أكانت سوداء أم بيضاء، أو كانت على غير ذلك من الصفات والهيئات"، ومن هنا أخذ الأصوليون القول بأن شمول المطلق من حيث الصفات وشمول العام من حيث الأفراد، وحتى يتضح الفرق أكثر نعقد المقارنة التالية بين المطلق والعام وهي من ناحيتين: الأولى: في أوجه الشبه بين العام والمطلق. ويتلخص ذلك في النقاط التالية: 1 - فمن حيث العمل: يجب على المكلف أن يعمل بما يتبادر له من اللفظ العام، أو المطلق حتى يرد الدليل الذي يصرف اللفظ عما يتبادر منه1.   1 يراجع في حكم العمل بالعام والمطلق: الآمدي 3/73 - 74، ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد 3/303، والمستصفى للغزالي 1/378، وتفسير النصوص د. أديب صالح 1/368، ط الثانية، الناشر المكتب الإسلامي بيروت، والتلويح مع التوضيح 1/125، وأصول البزدوي 1/46، وروضة الناظر 2/29 - 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 2 - ومن جهة جواز تأويل اللفظ وصرفه على ظاهره1. يجوز في كل من العام والمطلق أن يصرف اللفظ عن ظاهره إذا قام الدليل على ذلك. 3 - من جهة اتصاف كل منهما بالشمول: يوجد في كل من العام والمطلق عموم، لكنه يختلف تسمية ومضموناً، وهذا هو جوهر الفرق الآتي: الناحية الثانية: أوجه الفرق بين المطلق والعام. يشترك المطلق والعام في الأمور الثلاثة السابقة ويفترقان فيما يلي: 1 - في متعلق العموم في كل منهما: حيث يتعلق العموم الموجود في المطلق بالصفات وفي العام يتعلق بالأفراد. 2 - فيما يخرج به المكلف عن عهدة التكليف: فبينما المكلف بالمطلق يخرج عن عهدة التكليف بفعله أي فرد شاء من الأفراد التي ينطبق عليها مدلول اللفظ المطلق، نجد أنه لا يكون ممتثلاً   1 يراجع في معنى الظاهر والمؤول كل من الكتب التالية: الآمدي 3/73 - 74، ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد 3/303، والمستصفى للغزالي 1/378، وتفسير النصوص د. أديب صالح 1/368، ط الثانية، الناشر المكتب الإسلامي بيروت، والتلويح مع التوضيح 1/125، وأصول البزدوي 1/46، وروضة الناظر 2/29 - 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 في العام إلا إذا فعل جميع الأفراد التي يشملها اللفظ العام. 3 - في تسمية العموم في كل منها: حيث يسمى في المطلق عموم الصلاحية أو عموم البدل، ويسمى في العام عموم الشمول، والفرق بينهما كما يقول الشوكاني: "إن عموم الشمول كلي يحكم على كل فرد فرد، وعموم البدل كلي من حيث لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، لكن لا يحكم فيه على كل فرد فرد بل على فرد شائع في أفراده يتناولها على سبيل البدل، ولا يتناول أكثر من واحد دفعة"1. ومعنى ذلك: أنهما يشتركان في ثبوت الحكم لكل فرد من الأفراد، ويفترقان في أن العموم الشمولي يدل على ذلك في حال اجتماع كل فرد مع الآخر وحال انفراده، والبدلي إنما يدل على ثبوت الحكم لواحد غير معين أما المجموع من حيث هو فلا يتعرض له2.   1 إرشاد الفحول ص: 114، 115. 2 تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم للقرافي، وكتاب الطراز في أسرار البلاغة وعلم الإعجاز ليحيى حمزة العلوي اليمني 2/160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 المبحث الثالث المعهود الذهني بين الإطلاق والتقييد فيما مضى ذكرنا أن الاسم المفرد والجمع المحلى "بأل" الاستغراقية من صيغ العام، وهنا نضيف أن "أل" المعرِّفة لها أربعة معان، هي: الجنس والاستغراق، والعهد الخارجي، والعهد الذهني، لكن تعيين واحد من هذه المعاني موقوف على وجود القرينة، فإذا لم توجد القرينة التي تعيِّن أحد معاني اللام المذكورة، فقد اختلف العلماء في الأولى بالتقديم من تلك المعاني. والذي ترجح لدى الباحثين في هذه المسألة، هو تقديم العهد الخارجي، ثم الاستغراق، ثم الجنس، وهو مساو للمعهود الذهني عند الكمال حيث يقول: "ولا شك أن تعريف الجنس الذي استدل على ثبوته بإطباق العرب على إرادة الجنس من قولهم: فلان "يلبس البرود ويركب الخيل، ويخدمه العبيد"، هو المراد من تعريف المعهود الذهني، إذ هو الإشارة إلى الحقيقة باعتبارها بعض الأفراد غير معينة للعهدية الذهنية لجنسها"1، ومعنى هذا التعريف: أنه يشار باللام إلى الحقيقة من حيث تحققها في ضمن فرد ما، لا من حيث هي هي، ولا من حيث   1 تيسير التحرير 1/301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 تحققها في ضمن فرد معين، أو ضمن كل فرد، بل يشار إليها باللام للعهدية الذهنية، لا الخارجية، حيث لم يعهد بين المتكلم والمخاطب ذكر فرد معين من تلك الحقيقة، إلا أن الطبيعة الكلية من حيث تحققها في ضمن فرد ما، أمر معلوم معهود في الأذهان، فباللام يشار إليها باعتبار أنها معلومةٌ معهودة في ذهن المخاطب1. ومن أمثله المعهود الذهني أيضاً: قولك: أكلت الخبز وشربت الماء ونحو قول السيد لخادمه: ادخل السوق واشتر اللحم. فالخبز والماء، والسوق واللحم، يرى بعض الأصوليين2 أنها من قبيل المطلق؛ لأن "أل" الداخلة عليها ليست للاستغراق، لتعذر الحمل عليه وليست للعهد الخارجي، حيث لم يسبق ذكر بعض أفراد المحلى بها بين المتكلم والمخاطب، فتعين كونها للجنس وهو معنى المعهود الذهني كما مر، فإن قيل: إن الحضور الذهني قَيَّد تلك الألفاظ فهي مقيدة وليست مطلقة، أجيب: أن ذلك القيد لم يذكر في الكلام، وإنما هو قيد اعتباري يتوقف تأثيره على القرائن، ومن هنا اختلف الأصوليون في المعهود الذهني، هل هو مطلق أو مقيد؟ وكان لهم في ذلك مذهبان.   1 تيسير النحرير المرجع السابق. 2 حاشية السعد على مختصر ابن الحاجب 2/155، ومسلم الثبوت 1/361، والمرجع رقم 1، 1/301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 مبنى الخلاف فيهما تفسير النفي في قول الأصوليين: "المطلق الدال على الماهية بلا قيد"1 هل المقدر فيه، بلا قيد لفظي، أو المقدر بلا اعتبار قيد، وعندئذ يصح التقييد بالنية مثلاً. 1 - فمن يرى أن الاعتبار هو الذي يضفي على اللفظ صفة الإطلاق والتقييد سواء كان مع اللفظ المطلق قيد لفظي - كذكر الحجور في قوله - تعالى -: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} - ولكنه لم يعتبر، أو لم يوجد معه قيد فعلاً، كقول الحالف "لا آكل الرؤوس" وأراد بها رؤوس معهودة، يقول: إن المعهود الذهني مقيد 2 لأن قيد الحضور معتبر فيه، وذلك مانع من الإطلاق. 2 - ومن يرى أن المنفي في المطلق هو وجود القيد اللفظي معه، لا اعتباره يقول: إن المعهود الذهني من المطلق 3، لعدم وجود قيد لفظي معه، وأيضاً فإن المعهود الذهني يدل على شائع في جنسه والمطلق كذلك   1 جمع الجوامع 2/44، والتوضيح مع التلويح 1/93. 2 حاشية البناني على جمع الجوامع 2/45، وتنقيح الفصول ص: 266، وفصول البدائع 2/82. 3 حاشية السعد على مختصر ابن الحاجب 2/155، ومسلم الثبوت 1/361، وتيسير التحرير 1/301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فيكون المعهود الذهني من المطلق1؛ لدلالته على شائع في جنسه. كما أن المعهود الذهني في الحقيقة نكرة، وإن كان معرفاً لفظاً2، بدليل أن العلماء جوزوا وصفه بالنكرة باعتبار معناه، ووصفه بالمعرفة باعتبار لفظه واعتبار المعنى أولى، لأنه الأصل. ومن أمثلة ذلك قول الله - تعالى -: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} 3، فقد جوز المعربون للقرآن أن تكون جملة "نسلخ" صفة لليل باعتبار معناه وحالاً منه باعتبار لفظه. ولكن مع هذا كله يظهر أن المعهود الذهني من قبيل المقيد للأمور التالية: 1 - أن المعهود الذهني متعين عند المتكلم والمخاطب، والعبرة بمن يجري بينهم التخاطب لا بمن يسمع، ولا عهد له بما يريد المتخاطبان. 2 - أن العرب استعملت "ال" العهدية للدلالة على الأمر المعهود في الذهن المتعين لدى المخاطب، ومع التعيين يبعد الإطلاق. 3 - أن السيد لو أمر خادمه فقال له اشتر اللحم والمعهود بينهما لحم الضأن، فاشترى لحم بقر أو جمل، لا يعد ممتثلاً لأمر سيده، ولا عذر   1 التحرير 1/329. 2 المرجع السابق، والتلويح مع التوضيح 1/52. 3 سورة يس آية: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 له في أن اللحم يطلق على لحم البقر والجمل وغيرهما؛ لأن العهد قَيَّده، فالراجح أن المعهود الذهني من المقيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 المبحث الرابع: عروض الإطلاق والتقييد للأفعال والأسماء الشخصية . الإطلاق والتقييد وصفان للفظ باعتبار المعنى، ومن هنا يقول بعض الأصوليين إنهما اسمان للفظ دون المعنى1، ولا شك أن الألفاظ المفردة يجري فيها الإطلاق والتقييد، وتوصف بهما فيقال: لفظ مطلق ولفظ مقيد، وقد مثل الأصوليون للمطلق بالنكرة في سياق الإثبات نحو قولك: أكرم رجلاً: وللمقيد بقولهم: "أعتق رقبة مؤمنة"، واكتب بقلم أزرق، وطائر أبيض على الشجرة2 لكن هل الإطلاق والتقييد خاصان بالألفاظ المفردة كما يظهر من كلام الأصوليين، أو أن الأفعال والأسماء الشخصية يصح أن توصف بالإطلاق والتقييد. الظاهر أن الإطلاق والتقييد يصح أن يوصف بهما الأفعال والأسماء الشخصية، كما توصف بهما الألفاظ المفردة، يقول ابن قدامة3 المقدسي:   1 تنقيح الفصول للقرافي ص: 269. أي: أن الذي يوصف بالإطلاق والتقييد حقيقة هو اللفظ، كما مرت الأقوال في وصف العموم ص: 33، 34. 2 أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص: 192. 3 هو: موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، ثم الدمشقي ولد سنة 541هـ وهو فقية من أكابر الحنابلة، له عدة مؤلفات منها كتابة القيم المغني في الفقه، وروضة الناظر وجنة المناظر في الأصول، والبرهان في مسائل القرآن، توفي سنة 620هـ. راجع: البداية والنهاية 13/99، وذيل طبقات الحنابلة ص: 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 "يسمى الفعل مطلقاً نظراً إلى ما هو من ضرورته من الزمان والمكان والمصدر والمفعول له، والآلة فيما يفتقر إلى الآلة والمحل للأفعال المتعدية وقد يقيد بأحد دون بقيتها"1. وقد زاد هذا المبحث إيضاحاً المظفر في أصوله:2 حيث يقول: "الإطلاق لا يختص بالمفردات كما يظهر من كلام الأصوليين، بل يكون في الجمل أيضاً، فإن إطلاق صيغة "افعل" الذي يقتضي استفادة الوجوب إنما هو من قبيل إطلاق الجملة، وكذلك إطلاق الجملة الشرطية في استفادة الانحصار في الشرط، من قبيل إطلاق الجمل ولكن محل بحث الأصوليين في هذا الباب إنما هو خصوص الألفاظ، ولعل عدم شمول البحث عندهم للجمل باعتبار أنه ليس هناك ضابط كلي لمطلقاتها، وإن كان الأصح أن بحث شروط إمكان الإطلاق يشملها"3، كذلك عندما نعرف العلم الشخصي والمعرف بلام العهد لا يسميان مطلقين باعتبار معناهما، لأنه لا شيوع ولا إرسال في شخص معين.   1 روضة الناظر لابن قدامة ص: 136. 2 هو: محمد رضا المظفر من علماء الشيعة، (في القرن الرابع عشر) . 3 أصول الفقه للشيخ المظفر ص: 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 لكن لا ينبغي أن نظن أنه لا يجوز أن يسمى العلم الشخصي مطلقاً، لأنه إذا قال الآمر: "اكرم محمداً" وعلمنا أن لمحمد أحوالاً مختلفة ولم يقيد الحكم بحال منها نستطيع أن نقول: إن لفظ محمد أو هذا الكلام بمجموعه يصح أن يوصف بالإطلاق والتقييد، إذا لوحظت فيه الأحوال المختلفة، وإن لم يكن له شيوع باعتبار معناه الموضوع له، وبناء على ذلك فللأعلام الشخصية والأفعال إطلاق فلا يختص المطلق بما له معنى شائع في جنسه، كما هو اصطلاح أكثر الأصوليين1 2 - ولكن يرى بعض الأصوليين أن الفعل لا يكون مطلقاً ولا مقيداً، لأن المطلق لفظ مُنَكّرٌ2، وليس الفعل كذلك، وهذا الفريق نظر إلى صيغة الفعل: ولا شك أن الفعل من جهة الصيغة لا يوصف بالإطلاق أو التقييد، لأن المطلق نكرة في سياق الإثبات، ولا يوصف الفعل من حيث صيغته بأنه نكرة، لكن يتأتى إمكان وصفه بالإطلاق أو التقييد باعتبار مصدره إذا كان في سياق الإثبات كقولك: "قم" فإنه يقتضي مصدراً أي قم قياماً، فيكون الثابت بمقتضى هذه الصيغة ما هو نكرة في سياق الإثبات، وهو: "قياماً" وعندئذ يصح أن يوصف بالإطلاق بهذا   1 أصول الفقه للمظفر الشيعي ص: 172. 2 حاشية البناني على جمع الجوامع 2/48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الاعتبار1، أما إذا كان الفعل في سياق النفي فإن مصدره يكون عاماً، لأن النكرة المنفية من ألفاظ العموم، وفي شرح الروضة للطوفي2: "يقال: فعل مقيد أو مطلق باعتبار اختصاصه ببعض مفاعيله من ظرف أو مكان أو نحوهما من المفاعيل، فقولك: "اضرب" مثلاً مطلق بالنسبة إلى الزمان والمكان والآلة، لا دلالة له على شيء منها بعينه، وقد يقيد ببعض مفاعيله دون يعض فيكون مقيداً بالإضافة، كقولك "صم يوم الاثنين" الصوم مقيد من جهة ظرف الزمان، ومطلق من جهة ظرف المكان، ولو قيل: "صم في مكة يومين" لكان على العكس من ذلك3. والذي يجمع بين هذه الآراء أن المطلق له معنيان عام وخاص،   1 أصول السرخسي 1/21. 2 الطوفي هو: سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي الصرصري، ثم البغدادي، فقيه أصولي حنبلي، له دراية بفنون العلوم وكنيته أبو الربيع، ولد سنة 673هـ بقرية طوفى من أعمال صرصر ثم دخل بغداد وتلقى العلوم عن علمائها، ثم سافر إلى دمشق سنة 704هـ ثم إلى مصر سنة 705هـ ثم عرج على الحج سنة 714هـ، ثم نزل الشام وتوفي ببلدة الخليل في رجب سنة 716هـ له عدة مؤلفات منها: الروضة وشرحها في الأصول، وشرح الأربعين النووية، والأكسير في قواعد التفسير. انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/366 - 369، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، والأعلام 3/189، والفتح 2/120. 3 شرح مختصر الروضة للطوفي 2/256، مخطوط بمكتبة الحرم المكي الشريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فالمطلق بمعناه الخاص: اللفظ الدال على شائع في جنسه، أو هو اللفظ الدال على الماهية بدون قيد من قيودها، وهذا اصطلاح الأصوليين. والمطلق بالمعنى العام: اللفظ المجرد عن القيود سواء أكان له معنى شائع أم لم يكن له ذلك، وعلى هذا الاصطلاح ليس هناك واسطة بين المطلق والمقيد، بل اللفظ إما أن يكون مطلقاً أو مقيداً1.   1 مختصر ابن الحاجب مع حاشية السعد 2/155، ومسلم الثبوت 1/362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 المبحث الخامس في حكم المطلق والمقيد فيما مر من المباحث ذكرنا أن دلالة اللفظ، أو حكمه يعني قوة دلالته على المعنى الموضوع له - من حيث القطعية، أو الظنية. لكن علماء الأصول يقصدون بحكم المطلق والمقيد ما هو أعم من ذلك1، إذ هو عندهم يتناول حالتين. الأولى: حكم المطلق والمقيد في حال انفراد كل منهما عن الآخر. والثانية: حكم المطلق والمقيد في حال اجتماعهما معاً. والحق أن المراد بالحكم أو الدلالة في الحال الأولى يختلف عن المراد به في الحال الثانية؛ لأنه في الحال الأولى يعني مدى قوة دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له من حيث القطعية أو الظنية وموقف المفسر حال تبيينه وتوضيحه للنص المطلق أو المقيد. وأما في الحال الثانية: فإن المقصود بحكم المطلق والمقيد مدى تأثير المقيد على المطلق أيقوى على تفسيره وبيانه أم لا؟   1 أصول الفقه د. حسين حامد حسان ص: 458، ط العالمية 1390 الناشر دار النهضة العربية. والمقصود: أن إفادة اللفظ لمعناه إما أن تكون على سبيل القطع أو على سبيل الظن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 والكلام على هذه الحال - سيأتي - في الباب الثاني، ولكن قبل أن نذكر حكم المطلق والمقيد في حال انفراد كل منهما عن الآخر، نذكر الشروط التي إذا توفرت في اللفظ المطلق وجب إجراؤه على إطلاقه وهي كثيرة منها: 1 - أن لا يكون هناك إجماع1 على خلاف الحكم الذي يفيده المطلق بإطلاقه، فإن وجد إجماع يخالف المطلق فيما دل عليه وجب تقييد المطلق بما يتفق وحكم الإجماع - سواء عرف دليل الإجماع أم لم يعرف، لأن الإجماع أقوى في دلالته على الحكم من اللفظ المطلق، لعدم احتمال الإجماع للنسخ2.   1 الإجماع لغة العزم والاتفاق، واصطلاحاً: اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على حكم شرعي، أو هو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور. راجع: شرح الإبهاج والأسنوي على المنهاج 2/230، والتوضيح مع التلويح2/41، وتنقيح الفصول ص: 322 - 233، ومختصر ابن الحاجب 2/28 - 29، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص: 211. 2 روضة الناظر وجنة المناظر ص: 208. وهذا الشرط مأخوذ من شرط تحقق النسخ وشروط تعارص الأدلة وسيأتي لها بعض التوضيح فيما بعد، وينظر رسالة التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية د. عبد اللطيف البرزنجي ص: 224، ونظرية النسخ د. شعبان محمد إسماعيل ص: 222، ط مطابع الرجوي - القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 2 - الشرط الثاني: أن لا يوجد دليل مسلم بحجيته يخالف المطلق فيما دل عليه، فإن وجد الدليل المخالف، وجب التوفيق بينه وبين المطلق؛ لأن نصوص الشرع لا تعارض بينها إلا في الظاهر، والتعارض الظاهري ممكن دفعه بوجه من الوجوه التي ذكرها العلماء للتوفيق بين الأدلة المتعارضة. 3 - الشرط الثالث: أن لا يرد اللفظ المطلق نفسه مقيداً في موضع آخر، فإن ورد مقيداً في موضع آخر، فالحكم سيأتي بالتفصيل في الباب الثاني. وبعد أن عرفنا أهم الشروط التي إذا توفرت في اللفظ المطلق وجب إجراؤه على إطلاقه نذكر أقوال العلماء في حكم المطلق والمقيد، وكيفية دلالة كل منهما على المعنى الموضوع له، ونبدأ أولاً: أ - بحكم المطلق أو كيفية دلالته على معناه: يتحدد1 حكم المطلق، وموقف المفسر حياله في الآتي: إذا ورد لفظ مطلق في نص من النصوص الشرعية، وتوفرت فيه شروط الإطلاق السابقة، فقد اتفق علماء الأصول أنه يجب العلم به على إطلاقه، وليس من حق المفسر أن يقيده أو يضيق من دائرة اتساعه بدون   1 أصول الفقه للشيخ منصور ص: 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 دليل1، كما اتفقوا أيضاًَ على أن اللفظ المطلق يحتمل التأويل، والصرف عن ظاهره المتبادر منه إذا قام الدليل على ذلك، يستوي في ذلك من يجعل للمطلق حكم الخاص2، ومن يجعله في قوة العام3؛ لأن صرف اللفظ الخاص بالدليل متفق عليه4. لكن الخلاف بين الأصوليين جار في كيفية دلالة المطلق على معناه   1 فصول البدائع في أصول الشرائع للفناري 2/82، التوضيح مع التلويح 1/63، مختصر ابن الحاجب 2/155، تسهيل الوصول إلى علم الأصول للمحلاوي ص: 61 ط الحلبي بمصر 1341هـ المرآة وشرحها المرقاة ص: 82، أصول الفقه د. محمد سلام مذكور ص: 307، ط أولى دار النهضة العربية بالقاهرة سنة 1396هـ، الوجيز في أصول الفقه د. عبد الكريم زيدان ص: 237 ط 3 مطبعة سلمان الأعظمي بغداد سنة 1387هـ، وأصول الفقه لشاكر الحنبلي ص: 104، ط أولى مطبعة الجامعة السورية سنة 1368هـ. 2 حاشية الأزميري على مرآة الأصول لملاخسرو ص: 340 - 347، فصول البدائع في أصول الشرائع ص: 81، التوضيح مع التلويح 1/63، وفتح الغفار المسمى مشكاة الأنوار لابن نجيم الحنفي 2/56. 3 أصول السرخسي 1/159، وشرح الكوكب المنير لشهاب الدين الفتوحي ص: 218 ط أولى بتحقيق محمد حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة 1372. 4 علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص: 192، وأصول الأحكام د. حمد عبيد الكبيس ص: 184، والمدخل إلى علم أصول الفقه للأستاذ معروف الدواليبي ص: 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أهي قطعية أم ظنية؟ أ - فذهب معظم الحنفية إلى أن دلالة المطلق على المعنى الموضوع له قطعية1. ب - وذهب جمهور الأصوليين - ومنهم الشافعية - إلى أن دلالة المطلق كدلالة العام2. وهذا الخلاف يشبه اختلافهم في دلالة العام المطلق. وحيث ذكرنا هنالك أدلة كل فريق ووجه الدلالة منها نكتفي هنا بالأدلة الخاصة بحكم المطلق: 1 - حيث أضاف الحنفية إلى أدلتهم السابقة دليلاً آخر خاصاً بحكم المطلق، وهو مأخوذ بطريق الإلزام، إذ قالوا: لما كان الاتفاق قائماً على أن دلالة الخاص قطعية3، والمطلق من الخاص - كما هو   1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/79، باب دلالة الخاص، 2/286 - 292، باب المطلق والمقيد، وشرح المنار لابن ملك 1/67، باب دلالة الخاص (558) باب المطلق والمقيد، وأصول السرخسي 1/28، 68 باب دلالة الخاص، والتوضيح 1/63، ومسلم الثبوت 1/363. 2 المراجع السابقة والمستصفى 2/185، وروضة الناظر ص: 136، والتحرير1/267، وتيسير التحرير 1/370. 3 التحرير 1/267 للكمال بن الهمام مطبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1350هـ مع تيسير التحرير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الراجح1 عند أكثر الأصوليين، فتكون دلالته قطعية كذلك؛ لأن الحكم على العام حكم على كل فرد من أفراده، والمطلق من أفراد الخاص فيشمله حكمه2. ولكن الجمهور لم يسلموا لهم هذا الدليل وناقشوهم فيه، حيث قالوا: إن الحكم على اللفظ بأنه خاص، أو عام إنما هو بالنظر إلى أصل المعنى الموضوع له، ولا خلاف بين الأصوليين على أن دلالة اللفظ على أصل المعنى الذي يستقيم به الوضع قطعية - سواء كان اللفظ عاماً أو خاصاً3. وإنما الخلاف بينهم في جواز قصر اللفظ على بعض مدلوله المتعدد4، وحيث إن المطلق يشبه العام لاسترساله على الأفراد على سبيل البدل، فيجوز قصره على بعضها إذا قام الدليل على ذلك، كما جاز قصر العام على بعض أفراده بالدليل المخصص؛ لأن الفرق بينهما كما سبق إنما هو في كيفية تناول اللفظ للأفراد حيث أن المطلق يتناولها بدلاً، والعام يتناولها دفعة واحدة، وهذا الفرق لا أثر له في دلالة اللفظ من حيث   1 المرآة وشرحها المرقاة 1/340. 2 أسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 64 - 65. 3 أسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 64 - 65. 4 التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للأسنوي ص: 362 تحقيق محمد حسن هيتو ط أولى 1400هـ، الناشر مؤسسة الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 القطعية والظنية. على أن الجمع بين الرأيين ممكن؛ لأن العلماء كما مضى مختلفون فيما وضع له اللفظ المطلق. 1 - فمن يرى أنه موضوع للماهية من حيث هي يقول: إن دلالته قطعية1، لأن الماهية تتحقق بأقل ما يطلق عليه اللفظ، وهو المقصود بأصل المعنى فيما سبق. 2 - ومن يقول: إن المطلق موضوع للدلالة على البعض المنتشر على سبيل2 البدل يقول: إن دلالته ظنية لجواز قصره على بعض أفراده. وفي ذلك يقول صاحب مسلم الثبوت: "إذا كان المدعى هذا النحو من الدلالة فالنزاع ليس إلا في اللفظ"3، وقد تفرع على القول بقطعية المطلق على معناه، وعلى القول بأن الظني لا يقاوم القطعي أمران نذكرهما فيما يلي كأثر لهذا الخلاف. فالأمر الأول: الاختلاف في جواز تقييد المطلق من الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بالدليل الظني ابتداء.   1 فتح الغفار شرح المنار لابن نجيم 2/56. 2 تيسير التحرير 1/35. 3 مسلم الثبوت 2/360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 1 - فالذي يرى أن دلالة المطلق قطعية لا يجوز عنده تقييده بالدليل الظني كالقياس وخبر الآحاد؛ لأن تقييد المطلق في نظر هذا الفريق مبني على التعارض بين المطلق والمقيد والظني لا يعارض القطعي1 وهذا   1 في كل من الدعويين نظر. أما قطعية المطلق فقد سبقت المناقشة فيها. وأما الأمر الثاني: وهو أن القطعي لا يعارض الظني فكذلك أيضاً فيه مناقشة للعلماء؛ لأن التعارض يطلق ويراد به أحد معنيين. الأول: التعارض بمعنى التناقض والتضاد، وهذا النوع لا وجود له في الشريعة الإسلامية المنزلة من لدن عليم خبير يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمبنية لنا من قبل المعصوم الذي لا يتكلم إلا بوحي: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} . والمعنى الثاني: التعارض بمعنى وجود مطلق التنافي الظاهر عند المجتهدين بين الحجتين، وهذا لا يمكن لأحد أن ينكر وجوده بين نصوص الكتاب والسنة، لأنه مبني على الجهل بالتاريخ بين المتعارضين وعدم الإطلاع على المصالح التي توخاها الشارع، وعدم معرفة القرائن المصاحبة لنزول النصين، وحيث إن التعارض الموجود في الشريعة من هذا القبيل، فلا وجه فيه للتفريق بين دليل قطعي وآخر ظني، لاستوائهما في سبب وجود التعارض وهو كما سبق الجهل بتاريخ نزول النصين، وعدم معرفة المصالح التي توخاها الشرع. وأيضاً فالتفرقة بين القطعي والظني إنما قامت على أساس التعارض بمعنى التناقض، وهذا النوع من التعارض لا وجود له في الشرع، كما سلف أو أن التساوي شرط في بقاء المعارضة قائمة لا في مجرد تصورها، وكلاهما منعدم في النصوص الشرعية. التمهيد للأسنوي ص: 366 ونشر البنود على مراقي السعود 1/279، مطبعة فضالة المحمدية بالمغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 مذهب الحنفية. 2 - ومن يرى أن دلالة المطلق ظنية يجوز عنده تقييد المطلق بالدليل القطعي وغيره؛ لن تقييد المطلق من قبيل البيان، والبيان لا يتوقف على قوة الدليل، ولو فرض استواء المبين مع ما يبينه في القوة لجاز تبين المطلق بالقياس، وأخبار الآحاد؛ لاستوائهما في الظنية عند هذا الفريق"1. الأمر الثاني: الخلاف في وجود التعارض بين مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة وبين مقيد أخبار الآحاد. 1 - فالذي يرى قطعية دلالة المطلق لا يقول بالتعارض بين مطلق الكتاب والسنة المتواترة وبين مقيد أخبار الآحاد والقياس؛ لأن التعارض مبناه على التساوي في نظر هذا الفريق، وأخبار الآحاد لا تساوي مطلق الكتاب والسنة المتواترة، لأنها من قبيل الظني الثبوت وإن كانت دلالتها قطعية أحياناً، وكذلك القياس؛ فإنه في مرتبة أخبار الآحاد؛ لأنه لا يفيد إلا الظن.   1 المختارات الفتحية في أصول الفقه وتاريخ التشريع للأستاذ أحمد أبو الفتوح ص: 204، ط 4 سنة 1343 مطبعة النهضة بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 2 - والذي يرى أن دلالة المطلق ظنية سواء كان من قبيل مطلق الكتاب أو غيره، يقول لا مانع من وجود التعارض الظاهري بين مطلق الكتاب والسنة المتواترة، ومقيد أخبار الآحاد، وإذا حصل ذلك فيلزم المجتهد التوفيق بينهما بوجه من الوجوه التي ذكرها العلماء لدفع التعارض بين الأدلة الشرعية ومنها حمل المطلق على المقيد، كما سيأتي تفصيل ذلك. بقي أن نذكر مثالاً للمطلق الذي توفرت فيه شروط الإطلاق السابقة، ووجب العمل به على إطلاقه. ومثاله قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 1، فلفظ: "أزواجاً" في هذه الآية الكريمة جمع منكر مفرد زوج، والجمع المنكر من المطلق كما سلف، ولم يذكر في الآية كون الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن مدخولاً بهن أو غير مدخول بهن، كما لم يقم دليل يخالف هذا الإطلاق فيما دل عليه، ولا ورد هو نفسه في موضع آخر مقيداً بوصف الدخول أو عدمه، ولهذا كان الحكم أن تعتد الزوجة المتوفى عنها زوجها هذه المدة المقررة في الآية لعدة الوفاة،   1 سورة البقرة آية: 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 سواء كانت مدخولاً بها أو لم تكن مدخولاً بها1. تطبيقاً لقاعدة المطلق يعمل به على إطلاقه ما لم يقم دليل على تقييده2. ب - حكم المقيد أو كيفية دلالته على معناه: الذي يبدو أن علماء الأصول متفقون على أن حكم المقيد من حيث الدلالة حكم الخاص، ومع أن الاتفاق واقع على أن الخاص قطعي الدلالة لكن سنفصل القول في حكم المقيد فيما يلي فنقول: لما كان الأصل في المطلق أن يجري على إطلاقه حتى يقوم الدليل على أن إطلاقه غير مراد، كان الأصل في المقيد أن يعمل به مع قيده حتى يقوم الدليل على أن ما ذكر معه من قيد لا مفهوم له في بيان تشريع الحكم، وإجراء لهذه القاعدة، فإذا ورد اللفظ مقيداً في موضع ولم يرد نفسه مطلقاً في موضع آخر، ولا قام دليل على إلغاء مفهوم القيد، فإن الحكم فيه أن يعمل به مع قيده، ولا يحق لأحد أن يلغي القيد بدون دليل3، وبناء على ذلك يكون القيد معتبراً في دلالة اللفظ المقيد على   1 حاشية ابن عابدين 2/830 ط 2 مصطفى البابي الحلبي وإخوانه 1386هـ، وفرق الزواج للأستاذ الخفيف ص: 330، وتفسير النصوص د. أديب صالح 2/193. 2 وهذا بالنسبة للمدخول بها وعدمه، وللصغيرة والكبيرة لا الحامل وغير الحامل، فإن الحامل ورد فيها نص، وهو حديث سبيعة الأسلمية بأن عدتها تنتهي بوضع حملها. 3 البرهان للزركشي 2/15، وإرشاد الفحول ص: 154، وأسباب اختلاف الفقهاء للخفيف ص: 234، وتفسير النصوص 2/198، أصول الفقه للدكتور محمد سلام مذكور ص: 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الأحكام واستنباطها منه حتى يقوم الدليل على إلغائه وعدم اعتباره في بيان تطبيق الحكم. وإليك أمثلة تبين المراد: 1 - فمن أمثلة المقيد الذي بقي على تقييده: لعدم قيام الدليل على إلغاء القيد فيه قوله تعالى، في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتمَاسَّا} 1. فقد ورد صيام الشهرين في هذه الآية الكريمة مقيداً بالتتابع، وبكونه قبل التماس، أي: الاختلاط بالزوجة المظاهر منها، ولم يرد الدليل على إلغاء هذين القيدين فيعمل بهما عند تطبيق الحكم، وعليه فلا يجزئ في حق من وجبت عليه كفارة الظهار بالصوم أن يصوم شهرين على التفريق، وكذلك لا يجزيه صيام أشهر بعد الاستمتاع بمن ظاهر منها، وإن كان   1 سورة المجادلة آية: 3، 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الصوم متتابعاً1. 2 - ومن أمثلة المقيد الذي قام الدليل على أن القيد فيه ملغى، وغير معتبر، قوله - تعالى -: في آية المحرمات من النساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} 2، فإن لفظ "ربائبكم" في الآية مطلق3 قد ورد تقييده فيها بقيدين. الأول: كون الربيبة4 في حجر زوج الأم. والثاني: كون أم الربيبة مدخولاً بها. وهذا القيد الأخير باق على معناه، لعدم الدليل الصارف له، فيعمل به عند استنباط الحكم وعلى ذلك فلا تحرم الربيبة إلا إذا كان الزوج قد   1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/221 - 224، والتوضيح مع التلويح 1/64، ونيل الأوطار للشوكاني 4/241 ط الأخيرة البابي الحلبي، والمبسوط 3/75، أعيد طبعه بالأوفست بدار المعرفة للطباعة، بيروت سنة 1398هـ، والهداية مع فتح القدير والعناية 4/257، 259 ط أولى 1389 مصطفى البابي الحلبي، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17/283، دار إحياء التراث العربي، أصول الفقه لبدران ص: 352، وإرشاد الفحول ص: 154. 2 سورة النساء آية: 23. 3 لا تعارض بين المطلق والعام: لأن المعتبر في المطلق الصفات، وفي العام: الأفراد. ويراجع الفرق بين المطلق والنكرة ص: 109. 4 هي: بنت الزوجة من زوج آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 دخل بأمها. وأما القيد الأول: وهو كون الربائب في الحجور، أي: في رعاية زوج الأم وكفالته، فقد دل الدليل على عدم اعتباره، وأنه من القيود التي لم تعتبر في التحريم، وإنما جاء ذكره في الآية جرياً على ما هو الغالب والمعروف عادة من كون الربيبة تكون في حضانة أمها، وعلى ذلك فلا تحرم الربيبة على زوج أمها سواء كانت في حجره ورعايته أو لم تكن حتى يدخل بأمها. والدليل على إلغاء هذا القيد وأنه غير معتبر في التحريم أن الله سبحانه وتعالى اكتفى في مقام التحليل بنفي القيد الثاني فقط، فقال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ، فلو كان القيد الأول معتبراً في التحريم لما اكتفى بنفي الدخول في معرض الإحلال. ولقال: "فإن لم يكن في حجوركم ولم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم"1، والله أعلم. بقي حكم المقيد الذي ورد مطلقاً في موضوع آخر وسيأتي الكلام عليه مفصلاً في الباب الثاني.   1 أصول الفقه د. حسين حامد حسان ص: 460، أصول الفقه د. بدران أبو العينين بدران ص: 352. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الباب الثاني: في حمل المطلق على المقيد الفصل الأول: في حكم حمل المطلق على المقيد المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل ... المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل. اختلف الأصوليون في معنى حمل المطلق على المقيد على مذهبين: أ - المذهب الأول: يرى جمهور الأصوليين ومنهم الشافعية - أن معنى حمل المطلق على المقيد هو تفسير المطلق بكونه مراداً به المقيد ابتداء أي: منذ نزول المطلق، فكأن النصين - المطلق والمقيد - بمنزلة نص واحد1، فهو يشبه نوعاً من أنواع المجاز يسمى عند علماء البلاغة بإطلاق الجزء وإرادة الكل2، أو   1 حاشية سعد الدين التفتازاني على مختصر المنتهى لابن الحاجب 2/156، وتيسير التحرير لابن أمير الحاج 2/35، وحاشية الأزميري على مرآة الأصول 2/119، وفصول البدائع في أصول الشرائع للفناري ص: 82، وشرح الكوكب المنير للفتوحي الحنبلي 2/216، والمسودة لآل تيمية ص: 144، والأحكام للآمدي 2/212. 2 إنما كان حمل المطلق على المقيد يشبه مجاز الكل والبعض ولم يكن مجازاً، لأن العلاقة بين المطلق والمقيد عند بعض الأصوليين هي الكلية والجزئية لا الكل والجزء عند علماء البلاغة ... والفرق بينهما أن الكلية نسبة إلى الكلي وهو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، كـ (لفظ إنسان) فإنه مشترك بين أفراد بني آدم يستوي فيه الذكر والأنثى، وكذلك الجزئية نسبة إلى الجزئي وهو ما لا يقبل الاشتراك ويعرف بأنه مفهوم ذهني يمتنع فرض صدقه على أكثر من فرد واحد، ويدل على الجزئي في الكلام، الاسم العلم نحو: سعيد وصالح، وعدنان الخ.. فإن كلا منها موضوع لفرد بعينه، ومع تخصيص الوضع للفرد المعين لا يتصور الفكر جواز إطلاقه على فرد آخر مهما كان مماثلاً له، لأن العلم لم يوضع له إلا لتمييزه عن كل فرد سواه. والعلاقة بين الكلي والجزئي: أن الكلي مفهوم ينطبق على أفراد، وكل فرد منها هو جزئي لهذا الكلي- وكل جزئي يطلق عليه اسم الكلي، فخالد مثلاً جزئي ويطلق عليه اسم (إنسان) الذي، هو كلي يشمله وغيره من أفراد الإنسان، والقاعدة في ذلك أن يجعل الجزئي (مبتدأً) والكلي (خبراً) فإذا استقام الكلام- فالعلاقة بينهما الجزئية والكلية كقولك: (زيد إنسان) . وأما الكل: فما تركب من أجزاء مجتمعة لا يصح إطلاق اسم (الكل) على كل جزء منها وحده، مثل: (بيت) فإنه كل باعتبار اشتماله على أجزاء له، هي الجدران والسقف والباب مثلاً، ومعلوم أنه لا يصح إطلاق اسم البيت على جزء من هذه الأجزاء وحده، فالجدار لا يسمى وحده (بيتاً) والسقف وحده كذلك لا يسمى بيتاً. وخلاصة القول إن الكلي تحته جزئيات وأن الكل تحته أجزاء، وأن الحكم على الكلي يصدق بأي جزئي من جزئياته، أما الحكم على الكل فلا يصدق بجزء من أجزائه، بل لا بد من اجتماعها فلو قلت: الجدار بيت لم يصح: ويصح الكلي زيد إنسان. وعلى هذا فمفهوم المقيد أعم من المطلق؛ لأن كل من أتى بالمقيد فهو آتٍ بالمطلق دون العكس، وإن كانت دائرة المطلق أوسع. ضوابط المعرفة ص: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 العكس كقوله: "أعتق رقبة" مراداً بها جميع الإنسان، والرقية في الحقيقة اسم لجزء من الإنسان، وإنما جاز إطلاق الرقبة على جميع أجزاء الإنسان؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 لأنها أعظم جزء فيه، وبهلاكها لا وجود له، فهي بمنزلة السبب لوجوده وبقاء حياته، وهكذا الأمر في حمل المطلق على المقيد أو بيانه بواسطته يراد به عند الجمهور أن مدلول اللفظ المطلق بعد أن كان قبل التقييد حكماً في فرد منتشر يصبح مدلوله بعد الحمل حكماً في فرد مقيد، لأن القيد الذي ورد عليه قلل من شيوعه وحصر انطباق حكمه على بعض الأفراد التي كانت صالحة لتناوله على سبيل البدل. فمثلاً: عندما يطلب الشارع (عتق رقبة) ؛ فإن هذا اللفظ بإطلاقه يفيد أنه يجزئ في تحقيق المطلوب عتق أي رقبة، لأن الرقبة اسم مبهم يتحقق مدلوله في الخارج بواحد غير معين من أفراد جنسه، ولكن عندما نحمل هذا اللفظ المطلق على المقيد الذي وصفت فيه الرقبة بقيد الإيمان في نص آخر، لا يجزئ في تحقيق المطلوب إلا إعتاق رقبة توفر فيها ذلك الوصف، وهو الإيمان. فكأن وصف الرقبة بالإيمان عند الجمهور كان منوياً عند نزول المطلق، ولكن لم يصرح به اعتماداً على فهمه من النص المقيد، أو أن العمل بالمطلق على إطلاقه لم يكن مرادا للشارع؛ وإنما مراد الشارع في العمل ما تضمنه القيد؛ فلو تقدم المطلق في النزول على المقيد لم يضر إلا عندما يستلزم ذلك تأخير البيان عن وقت العمل. ثم استدل الجمهور على أن معنى حمل المطلق على المقيد هو تفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 المطلق وبيانه بواسطة المقيد بعدة أدلة منها1: أولاً: قالوا: إن حمل المطلق على المقيد بطريق البيان هو الذي يتفق وغالب الأحكام الشرعية التي وردت (مجملة) في أول الأمر ثم (فصلت) وبينت بالتدريج على حسب ما يستجد من الحوادث والحاجات، كما هو الحال في (المجمل والمفسر) فكان حمل المطلق على المقيد بطريق البيان أولى، لاتفاقه وغالب أحكام الشرع. ومنها: أن المطلق يشبه العام - بل هو قسم منه - على رأي بعض الأصوليين وقد دل الاستقراء التام لنصوص الشرع أن العموم في العام غير مراد للشارع في أغلب الأحيان، وأن عرف الشرع قد صرف العام إلى بعض أفراده في الكثير الغالب حتى أصبح قولهم: "ما من عام إلا وقد خصص"، قاعدة، وهذه قرينة تورث في العام احتمالاً، فيجوز صرفه على ظاهره بالدليل وحيث إن المطلق يشبه العام أو هو قسم منه - فتورث هذه الشبهة فيه احتمالاً، وعندئذ يجوز تقييده وصرفه عن إطلاقه بالدليل المقيد. ووجه الشبه بين تخصيص العام وتقييد المطلق، أن في كل منهما   1 جمع الجوامع 2/46، ومختصر المنتهى مع حاشية السعد 2/156، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 3/113، والأحكام للآمدي 2/163 فما بعدها، وتيسير التحرير 2/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 قصراً لما شمله اللفظ العام ظاهراً، ولما تناوله المطلق بدلاً، فالمخصص فيه قصر العام على بعض أفراده، والمقيد فيه قصر وتضييق لدائرة الحكم الذي أفاده المطلق، وحيث إن تخصيص العام بيان، فكذلك تقييد المطلق يكون بياناً لقوة الشبه بينهما. ومن أدلتهم أيضاً أن في حمل المطلق على المقيد بطريق البيان جمعاً1   1 الجمع لغة: تأليف المتفرق، وكل ما تجمع وانضم بعضه إلى بعض يسمى جمعاً، ومنه إزالة الاختلاف بين الدليلين بتأويلهما، أو تأويل أحدهما عن ظاهره. القاموس المحيط 3/14-15 باب العين فصل الميم، وترتيب القاموس 1/528. والجمع اصطلاحاً: بيان التوافق والائتلاف بين الأدلة الشرعيةَ سواء أكانت عقلية أم نقلية، وإظهار أنه لا يوجد بينها اختلاف حقيقي (يؤدي إلى التناقض أو النقص فيها) ، وسواء كان ذلك البيان بتأويل الطرفين أو أحدهما، وعلى هذا يطلق الجمع عند الأصوليين أو هو المعنى الخاص للجمع. ويطلق الجمع بمعناه العام بالإضافة إلى المعنى الخاص على الأمور التالية: 1- إظهار مزية لأحد الدليلين المتعارضين على الآخر، ويسمى الجمع والتوفيق بهذا النوع ترجيحاً. 2- يطلق الجمع على تقديم بعض الأدلة على بعضها الآخر، لتقديم رتبته في القوة ويسمى الجمع بهذا النوع تقديم بعض الأدلة على بعضها الآخر حسب المرتبة. 3- ويطلق الجمع أيضاً على بيان التاريخ بين المتعارضين وجعل أحدهما وهو المتأخر نزولاً ناسخاً والآخر وهو المتقدم في النزول منسوخاً، وبهذا المعنى العام يستعمل لفظ (الجمع) كثيراً وهو المراد من قول المحققين من أصحاب الأصول والمحدثين: (أنه لا يوجد نصان مختلفان إلا بعد التحقيق فيه له وجه يحتمل أن لا يكون مختلفاً) ، ومن قولهم: "لا أعرف أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديثان بإسنادين صحيحين متضادان"، الرسالة للإمام الشافعي بتحقيق محمد شاكر ص: 216-217، والكفاية للخطيب البغدادي ص: 606 ط أولى م السعادة بدون، والتعارض والترجيح للدكتور مصطفى البرزنجي ص: 339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 بين الأدلة المتعارضة في الظاهر، والجمع أو خطوة يخطوها المجتهد للتوفيق بين الدليلين المتعارضين، ووجه الجمع هنا أن بيان المطلق بواسطة المقيد لا يلغيه بالكلية، وإنما يجعل تطبيق الحكم منحصراً في دائرة المقيد، ومن القواعد المقررة في الأصول أن العمل بالدليلين، ولو من وجه خير من إهمالهما معاً أو إعمال أحدهما وإهمال الآخر1. ب - وأما الحنفية: فقد اختلفت الروايات عندهم في معنى حمل المطلق على المقيد، وكان السبب في ذلك يعود إلى وقت ورود المقيد وتساويه مع المطلق. أ - فالمحققون منهم يرون أن معنى حمل المطلق على المقيد يكون بياناً في حالتين: الأولى: إذا ورد المطلق والمقيد معاً، أي: إذا اقترنا في النزول. الحالة الثانية: إذا جهل التاريخ بينهما؛ فإنه يحمل المطلق على المقيد   1 الأسنوي على منهاج العقول ص: 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بطريق البيان تقديماً له على النسخ الذي لا يثبت بدون معرفة التاريخ1، وهذا الرأي يتفق مع مذهب الجمهور، إلا أنه يختلف معه في تحديد الصور والحالات التي يكون حمل المطلق على المقيد فيها بياناً. ب - ويرى بعض الأحناف أن معنى حمل المطلق على المقيد، نسخ المطلق2 بواسطة المقيد، وهذا ما يعبر عنه بالزيادة على النص، إلا أن من شرط حمل المطلق على المقيد عند هؤلاء تساويهما في الثبوت والدلالة. جـ - وذهب فريق آخر3 من الحنفية إلى أن معنى حمل المطلق على المقيد في الصور التي قالوا فيها بحمل المطلق على المقيد يختلف عن المراد به لدى الجمهور، وفي ذلك يقول شارح مسلم الثبوت: "الأظهر المطابق لأصولنا أن هذا "يعني" حمل المطلق على المقيد من قبيل العمل بالمقيد والتوقف فيما عداه من أفراد المطلق لمعارضة وجوب القيد إجزاءه4 فيحتاط في العمل، فيعمل بما يخرج عن العهدة بيقين، وهو   1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 3/290، وتيسير التحرير 1/331، ومسلم الثبوت 1/1392. 2 حاشية الرهاوي على المنار ص: 561، وبدائع الصنائع للكاساني ط الإمام محمد كريم القلعجي نشر زكريا علي يوسف 6/2928، والمنار مع حواشيه ص: 566. 3 هناك رواية للبزدوي أنه لا يحمل المطلق على المقيد أبداً، وسيأتي الكلام على ذلك، وكيفية تأويل قوله: (أبداً) . 4 معنى كلامه: أن اللفظ المطلق يفيد أن من أتى بالفرد الذي وجد فيه القيد أو بالفرد المطلق فقد أجزأه ذلك، لكن المقيد يوجب الإتيان بما وجد فيه القيد فقط، فتعارض الإجزاء المفهوم من اللفظ المطلق مع الوجوب المفهوم من المقيد، وعندئذ يحتاط في العمل فيعمل بالمقيد الذي يفيد الوجوب؛ لأن الآتي بالواجب آت بما هو جائز قطعاً، وليس كذلك من أتى بالجائز؛ لأنه قد يكون آتياً بما هو واجب أو مستحب، وعلى هذا يكون الوجوب أخص من الجواز فيعمل بالوجوب احتياطاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 المقيد - وهذا مراد مشايخنا بحمل المطلق على المقيد وبالحمل على المقارنة، لا كما يحمل الشافعية، فإنه من قبيل المجاز وليس قرينة عليه"1.   1 مسلم الثبوت 1/362. وإنما كان ذلك مجازاً عند الشافعية فقط في نظره؛ لأنهم أي: الشافعية يقولون إن المراد من المطلق ابتداء هو المراد من المقيد، وهذا ينطبق عليه تعريف مجاز الكل والبعض كما سبق، ومن شروط المجاز وجود القرينة الصارفة عن المعنى الأصلي إلى المعنى المجازي، وصاحب هذا الاتجاه ينكر وجود القرينة الصارفة وقت نزول المطلق. ولكن الشافعية ومن معهم يقولون: إنها موجودة، وهي إما قولهم: (ما من عام إلا وقد خص منه البعض) ، والمطلق عام على سبيل البدل، فيكون داخلاً في هذه القاعدة، أو أن حمل المطلق على المقيد أسلوب عربي حيث يتركون التقييد في موضع اعتماداً منهم على ذكره في موضع آخر، وهذا يختلف عن المراد عند الحنفية؛ لأن المطلق عند الأحناف حكمه باق على إطلاقه، وإنما لم يعمل به لتعارضه مع المقيد فتقديم العمل بالمقيد احتياطاً في الأفراد الداخلة تحته لا يسلب حكم المطلق عن الأفراد الخارجة عن اللفظ المقيد، فيبقى المطلق شاملاً لما وراء المقيد من الأفراد حتى يرد الدليل الصالح لنسخ الإطلاق، فإذا وجد الدليل الصالح لنسخ الإطلاق أخذوا به وعندئذ تكون المسألة من باب نسخ المطلق بالمقيد، وليست من باب حمل المطلق على المقيد كما يقول الجمهور، وهذا هو أساس الخلاف بين الفريقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وهذا الاتجاه تؤيده الشروط التي اشترطها الحنفية لحمل المطلق على المقيد، وتعليلاتهم وردودهم على المخالفين لهم - كما سيأتي - لكن بالتأمل في هذا الرأي يبدو أن معنى حمل المطلق على المقيد عند هذا الفريق يعود إلى نوع من أنواع التوفيق بين الأدلة المتعارضة يسمى الترجيح1. ويعرفونه بأنه إظهار المجتهد مزية معتبرة في أحد الطرفين المتعارضين تقتضي تقديمه على الآخر2، أو هو فضل أحد المتساويين وصفاً3 كما ذكر ذلك السرخسي حيث قال بعد تفصيل في المعنى اللغوي للترجيح. وكذا الترجيح في الشريعة: (عبارة عن زيادة تكون وصفاً لا أصلاً) ، وإنما يكون الترجيح بما لا يصلح علة موجبة للحكم لو انفردت، فهذان التعريفان الأخيران يؤيدان ما ذهب إليه شارح مسلم الثبوت من أن معنى حمل المطلق على المقيد هو العمل بالمقيد والتوقف فيما عداه من أفراد المطلق، أو هو ترجيح العمل بالمقيد على العمل بالمطلق في الأفراد4   1 المنار مع حواشيه ص: 567 والتشريع الجنائي للأستاذ عبد القادر عودة ص: 199. 2 أصول الفقه للدكتور محمد سلام مدكور ص: 325، والتعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية للبرزنجي ص: 136. 3 أصول السرخسي 2/249-250، وكشف الأسرار على أصول البزدوي ص: 71. 4 كشف الأسرار على أصول البزدوي 4/78، ومرآة الأصول لملاخسرو ص: 271، وأدلة التشريع المتعارضة لبدران ص: 63-64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 المشمولة بالوصف، كما يسميه بعضهم، ووجه ذلك أن المطلق والمقيد متساويان في القوة عند الحنفية؛ لأنهما من قبيل الخاص، ودلالة الخاص على معناه قطعية فيتساوى فيها كل فرد أو جزء1 من أجزاء الخاص، ولكن المقيد هنا اقترن به وصف لا يستقل بالحجية لو انفرد وهو مفهوم القيد - كما سيأتي - فاقتران المقيد بالوصف يجعله راجحاً في نظرهم؛ لأن الوصف لو انفرد لم يوجب حكماً بذاته. ومع هذا التوجيه لمذهب الحنفية إلا أن تسميتهم ذلك حملاً للمطلق على المقيد فيه تسامح؛ لأن الترجيح عند الجمهور ليس خاصاً بالمطلق والمقيد، كما يظهر ذلك من التعريف الأول للترجيح، إذ يقتضي الترجيح لكل طرفين متعارضين لأحدهما فضل على الآخر. وقد استدل هذا الفريق على وجهة نظره في معنى حمل المطلق على المقيد بالآتي: 1 - حيث قال: إن الأصل التزام ما جاء عن الشارع في دلالات ألفاظه على الأحكام، فكل نص من نصوص الشرع دليل مستقل بنفسه   1 يراد بالأفراد هنا مدلولات اللفظ الخاص الذي يتناولها على سبيل البدل، فإن دلالته على كل واحد منها متساوية، ويراد بالإجزاء أجزاء الخاص المحصور، مثل عشرة ومائة وألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 في إفادة الحكم، وحجة قائمة بذاتها في إثبات الحكم، سواء كان النص عاماً أم خاصاً، مطلقاً أو مقيداً، حتى يرد الدليل الصارف عن ذلك الأصل، وبناء على ما هو الأصل في المطلق والمقيد، لا يلزم حمل المطلق على المقيد إلا إذا كان الأخذ بكل منهما على حدة مدعاة للتناقض، وذلك عندما يكون تناف بين الإطلاق والتقييد فحينئذ يعمل بالمقيد احتياطاً لما فيه من الخروج عن العهدة بيقين1. ونوقش هذا الدليل من قبل الجمهور، بأن الدليل الصارف موجود، وهو إما قولهم: "ما من عام إلا وقد خصص منه البعض"، أو كون ذلك أسلوباً من أساليب اللغة التي جاء القرآن موافقاً لها في جميع استعمالاتها. 2 - ومن أدلتهم أيضاً: أن المطلق والمقيد من أنواع الخاص على الرأي الراجح2. وقد تقدم أن الخاص لا يحتمل البيان عند الحنفية وعلى ذلك يكون ترجيح المقيد على المطلق والعمل به احتياطاً متعيناً عند الجهل بالتأريخ، لاستوائهما في الدلالة وامتياز المقيد على المطلق بما حواه من القيد الذي لا يستقل بالحجية لو انفرد. وقد تقدم جواب الجمهور عن ذلك في دلالة الخاص، وأنه لا فرق   1 مسلم الثبوت 1/362. 2 المرآة وشرحها المرقاة 1/340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 بين احتمال الخاص للمجاز واحتماله للبيان إذا وجد الدليل، وبعد أن عرفنا المراد من حمل المطلق على المقيد لدى جمهور الأصوليين وبعض الحنفية، والأدلة التي تمسك بها كل فريق على وجهة نظره، ومعاضدة رأيه يحسن بنا أن نذكر السبب في هذا الاختلاف. والحقيقة إن الخلاف في معنى حمل المطلق على المقيد يعود إلى أكثر من سبب، فهو من جهة يرجع إلى اختلاف الجمهور مع الحنفية في سبب الحمل ما هو؟ ومن جهة أخرى يعود إلى اختلاف الفريقين في المقصود من التعارض1   1 التعارض: يطلق على أحد معنيين، عام وخاص. فالتعارض الخاص ما يكون بمعنى التناقض والتضاد، وهذا النوع لا يمكن لمسلم أن يقول بوجوده في الشريعة الإسلامية الصادرة عمن يعلم السر وأخفى، والمبلغة إلينا بواسطة المعصوم عليه الصلاة والسلام. ومن هنا قال فريق من العلماء بنفي التعارض في الشريعة وأنه لا يوجد بين أحكامها أي تناف أو تضاد. انظر رأي هذا الفريق في شرح المحلى على جمع الجوامع 2/359، والإبهاج شرح المنهاج للسبكي 3/142-143، وإرشاد الفحول ص: 275، والتعارض والترجيح بين الأدلة للبرزنجي ص: 59-63. وما ذهب إليه هذا الفريق من عدم وجود التعارص بين نصوص الشرع (حق) إذا حمل على المعنى الخاص للتعارض، كما سبق بيان ذلك. ويطلق التعارض: بمعناه العام على مطلق وجود التنافي بين الدليلين كالذي يقع بين العام والخاص وبين المجمل والمبين، والمطلق والمقيد، وهذا النوع من التعارض لا يمكن لمانعي التعارض في الشريعة إنكاره، ونفيه عن نصوص الكتاب والسنة؛ لأن سببه ناشئ من جهة المجتهد نفسه لجهله بالتاريخ بين الدليلين وعدم اطلاعه على القرائن الحالية والمقالية المصاحبة لنزول الدليلين المتعارضين في الظاهر، وما قد يتضمنه النص من مصالح للعباد في دنياهم وآخرتهم لا يحيط بها إلا علام الغيوب. على أن الجمع هنا ممكن بين من ينفي وجود التعارض بين نصوص الشريعة، وبين من يقول بوجود التعارض بمعناه العام فيها، وذلك بحمل كلام المجوزين على المعنى العام للتعارض، وحمل كلام المانعين على المعنى الخاص للتعارض، وهو جمع وجيه ومعقول، ويدل عليه استقراء أدلة الفرق المختلفة وعندئذ يصح لمثبتي التعارض بمعناه العام الاحتجاج بمفهوم الخطاب في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً} حيث يدل على ثبوت الاختلاف القليل وأنه لا ينافي كونه من عند الله، ولا شك أن الاختلاف الواقع بين العام والخاص، والمطلق والمقيد اختلاف قليل، لأننا نتمكن من الجمع بين الدليلين والعمل بمقتضاهما. ينظر في ذلك: نهاية السول للأسنوي 3/165، حيث يفند كلام المانعين من تعارض الأدلة القطعية وينقل عن الرازي جوازه فيها ثم يقول: (فدل ذلك على أن إطلاق المنع مردود) ، ومشكاة الأنوار المسماة بفتح الغفار لابن نجيم 2/109-110، وشرح المحلى 2/357، وتنقيح الفصول ص: 417-418، والتعارض والترجيح للبرزنجي 1/63-66، ص: 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 بين الأدلة، ومحله منها1   1 محل التعارض من الأدلة: اختلف القائلون بوجود التعارض في الشريعة فيما يقبله من الأدلة، وكان لهم في ذلك مذهبان مبناهما الخلاف في تفسير التعارض. أ- فمن يرى أن المقصود به التناقض والتضاد منع من وقوعه في الأدلة القطعية؛ لأن التفاوت في القطعيات ممنوع في نظر هذا الفريق، ولا يرى مانعاً من وقوع التعارض في الظنيات؛ لأن التفاوت بين الظنون متصور وجائز، وممن ذهب إلى هذا الاتجاه الشيرازي والبيضاوي وغيرهم. انظر ذلك في شرح المحلى 2/309، ونهاية السول 3/256، ومشكاة الأنوار 2/417، والتعارض والترجيح بين الأدلة للبرزنجي ص: 66-77، وبخاصة كلامه ص: 112-113 عند رأي الأستاذ بخيت المطيعي. ب- ومن يرى: أن المقصود بالتعارض في الشرع معناه العام، وهو مطلق التنافي لا يرى مانعاً من وقوع التعارض بمعناه العام بين كل حجتين سواء كانتا من قبيل القطعي أم من قبيل الظني؛ لأن السبب في وجود التعارص بهذا المعنى الجهل بالتاريخ بين الدليلين وعدم الاطلاع على المصالح والأسرار التي توخاها الشارع، وهذا السبب لا فرق فيه بين الأدلة، سواء كانت قطعية أم ظنية وسواء كانت نقلية أم عقلية، وهذا الرأي قال به كثير من المحققين. انظر: الإبهاج 3/‍33-134، وشرح الكوكب المنير ص:426، والتلويح للتفتازاني 2/103، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص: 109-113. تنبيه: الأدلة: تنقسم إلى قطعية وظنية ومن أمثلة القطعية القياس المنطقي البرهاني مثل: (العالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث) ، فالعالم محدث، والإجماع المنقول بطريق التواتر، كالإجماع على الصلوات الخمس. ومثال الظنية: أخبار الآحاد والأقيسة الفقهية كقياس الشافعي جميع المطعومات على الشعير والحنطة في حرمة البيع متفاضلاً. التعارض ص: 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وشروط1 تحققه فيها، وكيفية2 دفعه عنها إذا وجد. 2 - تعليل حمل المطلق على المقيد عند بعض الأحناف. لو رجعنا إلى دليل الحنفية الأول لوجدنا أن هذا الفريق من الحنفية يجعل سبب حمل المطلق على المقيد دخول التنافي بينهما في باب تعارض الأدلة، بدليل اشتراطهم في الترجيح (فضل أحد المتساوين وصفاً3،   1 شروط التعارض: اتفق الأصوليون على شرطين فقط من الشروط الكثيرة المذكورة في مبحث تعارض الأدلة، وهذان الشرطان هما: أولاً: حجية المتعارضين، وذلك بأن يكون كل منهما حجة يصح التمسك بها ويستساغ أخذ الأحكام عن طريقها، ومفهوم هذا الشرط أنه لا يوجد التعارض بين الدليل المتفق على حجيته مثل: الحديث الصحيح، وبين الحديث المختلف على حجيته مثل: الحديث المرسل؛ لأن المخالف في حجية المرسل يمنع التعارض لفقدان شرطه، وهو التساوي في الحجية. الشرط الثاني: وجود مطلق التنافي بين الدليلين، وبهذا الشرط يكون مجال التعارض شاملاً لجميع الأدلة سواء كانت عقلية كالقياس أم نقلية كنصوص الكتاب والسنة، وسواء كانت قطعية كالمتواتر من النصوص الشرعية أم ظنية كالأقيسة الفقهية، والظاهر من الألفاظ في دلالته، وأحاديث الأحاد في ثبوتها، ما دام أن مطلق التنافي موجود بينها. 2 سيأتي كيفية دفع التعارض بين الأدلة ص: 184. 3 تقدم أن هذا الفريق يرى أن معنى حمل المطلق على المقيد هو ترجيح العمل بالمقيد على العمل بالمطلق ص: 145، وأصول السرخسي 2/249-250، وكشف الأسرار 4/78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وهذا يتحقق في باب المطلق والمقيد كما سبق، وعندئذ فإن التنافي الموجود بين المطلق والمقيد يكون خاضعاً لقواعد الجمع والترجيح بين الأدلة المتعارضة) 1، ومعروف أن باب التعارض من الأبواب التي جال العلماء فيها كثيراً وكان بينهم خلاف طويل في مسائله المتشعبة والتي كان من بينها اختلافهم في وجود التعارض وعدمه في أحوال المطلق والمقيد الآتية، وكيفية التوفيق بينهما إذا وجد التعارض. على أن المهم هو اتفاق الجميع على وجوب دفع التعارض بين المطلق والمقيد سواء سمي ذلك جمعاً وبياناً، كما يقول جمهور الأصوليين، أو سمي ترجيحاً وتقديماً كما يراه بعض الأحناف؛ لأن الاختلاف في الاصطلاحات أسهل من بقاء التعارض بين الأدلة الشرعية المنزهة عن التناقض والتضاد2، ذلك أن مرجع الخلاف في الاصطلاحات يكون عائداً إلى المقصود منها عند المصطلحين، بخلاف بقاء التعارض بين الأدلة؛ فإنه لا يكون مقصوداً.   1 أصول الفقه وحسان حامد حسين ص: 460. 2 إرشاد الفحول ص: 275، والكفاية للخطيب البغدادي في علوم الحديث ص: 606-607، والموافقات للشاطبي 4/294، والإبهاج 3/‍46، والأحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2/151، ط العاصمة بالقاهرة الناشر زكريا يوسف، والتعارض والترجيح بين الأدلة للدكتور مصطفى البرزنجي 1/60-63، وصفحة 109 -113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فإن قيل: فما الفرق بين رأي الجمهور وبعض الأحناف؟ إذا كان حمل المطلق على المقيد يؤدي في النهاية إلى العمل بالمقيد على كلا المذهبين. والجواب أن ذلك مسلم، لكن الفرق بينهما يظهر في التعليل والتطبيق والشروط كما سيأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 المبحث الثاني في شروط حمل المطلق على المقيد لما كان حمل المطلق على المقيد عند كل من الجمهور والحنفية يعتمد على نوع من تأويل اللفظ وصرفه عن ظاهره المتبادر منه، فقد احتاط كل فريق لمذهبه، واشترط شروطاً لا بد من توفرها، عند إرادة حمل المطلق على المقيد. حيث أفرد الجمهور لهذه الشروط مبحثاً خاصاً في كتبهم، ومن ذلك الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول1 وغيره من الذين كتبوا على طريقة الجمهور حديثاً2. وأما الحنفية فما اطلعت عليه من كتبهم - لم أعثر فيه على مبحث خاص بحمل المطلق على المقيد، ولا على مبحث مستقل بشروط الحمل3، ولعل ذلك يعود إلى أن حمل المطلق على المقيد عند الحنفية من قبيل تعارض الأدلة كما تقدم - فاكتفوا بذكر شروط التعارض في باب تعارض الأدلة، ولم يخصوا حمل المطلق على المقيد وشروط الحمل بمبحث   1 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 166. 2 أثر القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء د. مصطفى الخن ص: 246-247. 3 المنفي هو تخصيص الحنفية مبحثاً لشروط حمل المطلق على المقيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 خاص خشية التكرار - للمباحث المتشابهة، لكن هذا لا يمنع من أخذ شروط حمل المطلق على المقيد عند الحنفية من تعريفهم لمعنى الحمل، ومن مناقشتهم للجمهور في المسائل التي خالفوهم فيها ومن تعليلاتهم للمسائل التي قالوا فيها بحمل المطلق على المقيد وما كان من تلك الشروط مخالفاًَ لما اشترطه جمهور الأصوليين، فإن السبب فيه يعود إلى أمرين: أولهما: الخلاف في شروط التعارض 1. حيث يشترط الحنفية لتحقق التعارض شروطاً كثيرة، - والجمهور يخالفونهم في بعض تلك الشروط، كالمساواة2 بين المتعارضين وسيأتي   1 الخلاف في شروط التعارض راجع إلى الخلاف في معناه، وقد مضى ما يطلق عليه التعارض بالمعنى العام والخاص. 2 بقي من الشروط التي هي محل خلاف بين العلماء ما يلي: أ- كون الدليلين المتعارضين لا يمكن الجمع بينهما. ب- كون الدليلين المتعارضين لا يمكن الترجيح بينهما. جـ- كون الدليلين المتعارضين غير قطعيين، لأن القطعيات لا تتعارض في نظر بعض الأصوليين. د- أن تتوفر في الديلين المتعارضين شروط التناقض عند المناطقة، والتي يسمونها بالوحدات الثمانية، وهي وحدة الموضوع أي: المحمول أو المحكوم عليه، ووحدة المحكوم به، ووحدة الزمان والمكان، والشرط- والإضافة، والجزء، والكل، والقوة، والفعل، فإذا تخلفت وحدة من هذه الوحدات بين القضيتين المتعارضتين لم يوجد التناقض بينهما، فلو قلت: (زيد في الدار) ، وزيد ليس في الدار، وأردت بالأول أمس، وبالثاني الآن، لم يتناقض كلامك، لاختلاف وحدة الزمان بين القضيتين. هـ- واشترط بعض الحنفية -بالإضافة إلى ما سبق أن يمكن النسخ بين المتعارضين إذا علم التاريخ، وذلك ليخرج التعارض بين القياس وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنه لا يمكن النسخ بين القياسين، ولا بين أقوال الصحابة. أصول السرخسي، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 3/197، والتعارض والترجيح ص: 255، وص: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 لهذه المسألة توضيح أكثر في الشروط المختلف فيها: وثانيهما: الخلاف في مفهوم النسخ 1 وشروط تحققه، ذلك أن   1 النسخ: لغة: إزالة الشيء ورفعه، ومنه نسخت الريح الأثر، إذا رفعته وأزالته، أو هو رفع الشيء وإثبات غيره مكانه (مقايس اللغة لابن فارس 5/424. وقيل: النسخ النقل والتحويل، ومنه نسخت ما في الكتاب إذا نقلته وحولت صورة ما فيه إلى مكان آخر، وهل هو حقيقة في تلك المعاني الثلاثة أو هو حقيقة في بعضها ومجاز في غيره؟ ذلك محل خلاف بين العلماء يراجع لمعرفته الاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي ط حيدر آباد سنة 1319. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 2/53، ومناهل العرفان (عيسى الحلبي) وروضة الناظر ص: 36-37، وفتح المنان في نسخ القرآن للشيخ حسن العريض ص: 12، ط الخانجي، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص: 448، ورسالة التعارض لزميلنا أبي بكر عبد الله دكوري ص: 392، الموجودة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية عام 1399. وأما النسخ اصطلاحاً: فأقرب تعريف له أن يقال: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي: وإنما كان هذا التعريف أقرب من غيره لكونه واضحاً بسيطاً لا غموض فيه ولا تعقيد، كما أنه مأخوذ مباشرة من المعنى اللغوي، علاوة على سلامته من كثير من الاعتراضات، رسالة التعارض والترجيح لأبي بكر ص: 392. وقيل: هو بيان انتهاء الحكم الشرعي بدليل شرعي، وهو للحنفية ولهذا الاختلاف في معنى النسخ صلة بالخلاف الآتي في مبحث الزيادة على النص، أما شروط تحققه فيراجع فيها نظرية النسخ د. شعبان إسماعيل ص:122-123، والناسخ والمنسوخ لابن حزم على هامش الجلالين ص: 98-99 ط الاستقامة ومناهل العرفان 2/76، وإرشاد الفحول ص: 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 مسائل المطلق والمقيد دائرة في نظر الحنفية بين بابي التعارض والنسخ، فما قالوا فيه بالحمل يرجع إلى تعارض المطلق مع المقيد، ثم يرجح جانب المقيد لامتيازه على المطلق بالوصف الذي لا يستقل بالحجية لو انفرد، وما لم يقولوا فيه بالحمل؛ فإنه يعود إلى باب النسخ، أو تخلف شرط المعارضة فيبقى المطلق على إطلاقه كما هو الأصل. والآن نذكر الشروط التي هي محل اتفاق لدى أكثر الأصوليين، وأغلبها مأخوذ من إرشاد الفحول للشوكاني، ثم نتبع ذلك بالشروط المختلف فيها لنرى الفرق بينهما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 أ - الشروط المتفق عليها عند أكثر الأصوليين: اشترط جمهور الأصوليين لحمل المطلق على المقيد عدة شروط منها: أولاً: أن يكون المقيد من باب الصفات مع ثبوت الذوات في الموضعين ومقتضى هذا الشرط أنه إذا كان المراد بحمل المطلق على المقيد إثبات أصل الحكم من زيادة أو عدد فإن حمل المطلق على المقيد والحالة هذه لا يصح مثل: إيجاب غسل الأعضاء الأربعة1 في الوضوء لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} 2 مع الاقتصار على عضوين في التيمم لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم} 3 لأن الإجماع منعقد كما يقول الشوكاني: "على أنه لا يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء، حتى يلزم التيمم في الأعضاء الأربعة، وذلك لما يقتضيه حمل المطلق على المقيد والحالة هذه من إثبات حكم لم يذكر في أحد الموضعين، وهو (وجوب مسح الرؤوس والأرجل) في   1 ينظر هذا التعبير في إرشاد الفحول ص: 166، والبحر المحيط 3/425، وفي قواطع الأدلة 1/489 فإنه أوضح. 2 سورة المائدة آية: 6. 3 سورة المائدة آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 التيمم، وحمل المطلق على المقيد يختص بالصفات، لكن نقل الماوردي1 كما يقول الشوكاني عن ابن خيران2 من الشافعية: إن المطلق يحمل على المقيد في الذات، أي: في إثبات أصل الحكم، ثم قال الشوكاني: وهذا باطل3 - يعني حمل المطلق على المقيد في الذات: وذكر ابن اللحام4 الحنبلي أن ظاهر كلام أصحاب الإمام أحمد حمل المطلق على المقيد في الأصل، كما يحمل عليه في الوصف، بدليل أنهم حكوا في كفارة القتل في   1 الماوردي هو: علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردي، ولد سنة 364هـ وهو من العلماء الباحثين ويعتبر من أقضى قضاة عصره، توفي سنة 450هـ، ومن مؤلفاته الأحكام السلطانية، والحاوي، والإقناع فيي الفقه، ودلائل النبوة في الحديث. انظر: الفتح المبين 1/240، وطبقات الشافعية للسبكي 3/303، والأعلام للزركلي 5/166. 2 ابن خيران: هو أبو علي الحسين بن صالح بن خيران البغدادي الشافعي، أحد أركان المذهب الشافعي، كان إماماً زاهداً ورعاً تقياً توفي سنة 320هـ. طبقات الشافعية الكبرى 3/271. 3 إرشاد الفحول ص: 166. 4 ابن اللحام هو: علاء الدين علي بن عباس الحنبلي الفقيه الأصولي المعروف بابن اللحام، ولد سنة 752هـ واشتغل بالتدريس والإفتاء والقضاء بدمشق. انظر المدخل إلى مذهب أحمد لابن بدران ص: 236 ط المنيرية بمصر، وترجمته في مقدمة القواعد الأصولية تحقيق محمد حامد الفقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وجوب الإطعام روايتين - الوجوب إلحاقاً لكفارة القتل بكفارة الظهار، كما حكوا روايتين في اشتراط وصف الإيمان في كفارة الظهار. والاشتراط إلحاقاً لكفارة الظهار بكفارة القتل، فدل هذا من كلامهم.. على أنه لا فرق في حمل المطلق على المقيد بين الأصل والوصف1، لكن الظاهر أن إلحاق الإطعام في كفارة القتل بالإطعام في كفارة الظهار ليس هو من باب حمل المطلق على المقيد؛ لأن كفارة القتل خطأ لا توصف بالإطلاق، من حيث أنه لم يرد فيها نص بالتكفير بالإطعام، وليس كل حكم يسكت عنه الشارع يكون مطلقاً، بل لا بد في الإطلاق من ثبوت ذات أولاً، ثم تقيد بأحد الأوصاف الواردة عليها، أو تبقى على إطلاقها، وكفارة القتل ليست من هذا القبيل، وبناء على ذلك يكون الراجح أن حمل المطلق على المقيد إنما يجري في الوصف دون الأصل، لما يلزم من جريانه في الأصل من إثبات حكم لم يشرع، كما ظهر ذلك من انعقاد الإجماع على عدم إلحاق التيمم بالوضوء في بقية الأعضاء2. ثانياً: أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد، كاشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والوصية، وإطلاق الشهادة في البيوع وغيرها   1 القواعد لابن اللحام ص: 284. 2 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 من العقود. والعدالة شرط في الجميع، وكذا تقييد ميراث الزوجين بقوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 1 وإطلاق بقية المواريث عن ذلك القيد فإن ما أطلق من المواريث يكون مقيداً بكونه بعد تنفيذ الوصية وقضاء الدين، وأما إذا كان المطلق دائراً بين قيدين متضادين نظر في سبب الحكم، فإن كان السبب الذي شرع لأجله الحكم مختلفاً لم يحمل المطلق على أحدهما إلا بدليل2، وسيأتي مزيد من الإيضاح في مطلب تعدد القيد. الشرط الثالث: أن يكون المطلق والمقيد في سياق الإثبات، أما إذا كان في سياق النفي أو النهي، فإن المطلق لا يحمل على المقيد والحالة هذه مثال ذلك في النهي، أن يقال: (إذا جنيتهم فلا تكفروا بالعتق) ويقال في موضع آخر: (إذا جنيتم فلا تكفروا بعتق كافر) ، ومثاله في النفي أن يقال في موضع: (لا يجزئ عتق مكاتب) ويقال في موضع آخر: (لا يجزئ عتق   1 الآية من سورة النساء ونصها: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم} . النساء آية: 12. 2 إرشاد الفحول ص: 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 مكاتب كافر) ؛ فإن المطلق والمقيد في هذين المثالين قد وردا في سياق النهي في المثال الأول، ووردا في المثال الثاني في سياق النفي، ومن ثم فلا يحمل المطلق على المقيد فيهما؛ بل يجب إجراء المطلق على إطلاقه في المنع من العتق فلا يعتق في المثالين لا كافر ولا مؤمن لما يترتب على العتق من الإخلال باللفظ المطلق وهو غير سائغ، ضرورة عموم النكرة المنفية1، وقد ذكر هذا الشرط الآمدي2 وابن الحاجب3، وقالا: لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما لعدم التعذر، ومرادهما أنه يلزم من نفي   1 المرجع السابق ص: 166، والأحكام للآمدي 2/163، والمعتمد لأبي الحسن 1/313، ومختصر ابن الحاجب 2/156، والفروق للقرافي 1/192. 2 الآمدي هو: علي بن محمد بن سالم التغلبي ولد سنة 551هـ، وهو أصولي باحث، من مؤلفاته: الأحكام في أصول الأحكام، وهو من أجل ما كتب في علم الأصول، وله مختصر منتهى السول، اختصره من الأحكام، توفي رحمه الله سنة 630هـ. انظر: الأعلام للزركلي 5/153، والفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي 2/57، ووفيات الأعيان 3/293 ط دار صادر سنة 1397هـ بيروت. 3 ابن الحاجب هو: جمال الدين عثمان بن عمر بن أبي بكر من كبار العلماء، ولد سنة 570هـ، ثم برع في العلوم وأتقنها، وخاصة علوم العربية والقراءات والأصول، من أشهر مؤلفاته: منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل، وجامع الأمهات في الفقه، والأمالي في النحو، توفي رحمه الله سنة 646هـ. طبقات الأصوليين 2/65-66، والأعلام 4/374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 المطلق نفي المقيد، فيمكن الجمع بينهما بأن لا يعتق في المثال المذكور لا مؤمنة ولا كافرة1. وهذا القول منهما عند التحقيق توقف عن الحكم الذي أفاده المطلق والمقيد، وطلب الدليل من خارج محل النزاع وتسميتهما له جمعاً فيه تسامح إلا إن كانا يقصدان بالجمع هنا المعنى العام، فلا بأس، لكن كان ينبغي عليهما أن ينبها إلى ذلك. ولهذا نازع في دعوى العمل بهما هنا شارح مسلم الثبوت وقال: (إن العمل بهما في هذه الحال غير ممكن، فلا بد من القول بحمل المطلق على المقيد أو النسخ على رأيه) 2.   1 القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام الحنبلي ص: 284. 2 انظر تعليل ذلك في مسلم الثبوت 1/362 حيث يقول: (لأن النهي عن المطلق من جهة الانتشار يستدعي الكف عن واحد من أفراده ويتحقق الامتثال بإتيان المقيد والكف عن واحد مما عداه. والنهي عن المقيد يستدعي أن لا يأتي بواحد من أفراده إن كانت وأن لا يأتي به إن لم تكن له أفراد كثيرة، ففي الإتيان به أو جميع أفراده مأثم، وحينئذ لا يمكن العمل بهما، فلا بد من الحمل أو النسخ كما في المثبتين، فلا بدّ من إدارة العموم؛ فليس من هذا الباب فالأولى أن يراد بالمطلق ما لا يكون فيه قيد، وإن كان عاماً، وبالمقيد ما فيه قيد فلا يضر كونه عاماً. قلت: وهكذا ترى أن الخلاف في التسمية أما حمل أحد اللفظين على الآخر أو نسخه به فمحل اتفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 لكن فخر الدين الرازي1 صرح بأنه لا فرق في حمل المطلق على المقيد بين الأمر والنهي، فإن قال لا تعتق مكاتباً، ثم قال: لا تعتق مكاتباً كافراً، فإنا نحمل الأول على الثاني، ويكون المنهي عنه هو إعتاق المكاتب الكافر دون غيره2. قال الزركشي3: قد يقال: إنه لا يتصور توارد المطلق والمقيد في جانب النفي والنهي، وما ذكروه من المثال: إنما هو من قبيل إفراد بعض مدلول العام، وفيه خلاف، فلا وجه لذكره هنا. قلت: ذكر ابن اللحام أن ذلك مسلم فيما إذا كان فرد العام لا   1 الرازي هو: فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن التميمي البكري ولد عام 544هـ، وكان إماماً مفسراً وأوحد زمانه في المعقول والمنقول له عدة مؤلفات منها مفاتح الغيب في التفسير، والمحصول في الأصول، توفي سنة 606هـ. الأعلام 7/203، وطبقات الأصوليين 2/47 ط 2 1394. 2 التمهيد للأسنوي ص: 278، والفروق للقرافي ص: 192، وشرح المحلى على جمع الجوامع 2/43 مع حاشية البناني، وتنقيح الفصول ص: 268، ومسلم الثبوت 1/362. 3 الزركشي هو: محمد بن بهادر بن عبد الله التركي المصري، الزركشي صنعة له، لقب ببدر الدين ولد عام 745هـ بمصر، وهو فقيه شافعي أصولي محدث، من مؤلفاته: البحر المحيط في الأصول، مخطوط، وتشنيف المسامع بجمع الجوامع في الأصول أيضاً، توفي رحمه الله سنة 794هـ طبقات الأصوليين 2/209، الأعلام 3/933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 مفهوم له كاللقب1 أما إذا كان له مفهوم معتبر، فالقائل بأن المفهوم حجة يخصصه به، وعندئذ يكون الخلاف في التسمية فقط، لا في العمل؛ لأن القائلَ بالمفهوم يخصص به العام، ولكن لا يسميه تقييداً ضرورة عموم النكرة في سياق النفي أو النهي. قال الشوكاني: الحق عدم حمل المطلق على المقيد في النفي والنهي2، والذي يبدو لي أن المسألة ليست على إطلاقها، بل لا بد من التفصيل، فإذا كان النفي نصاً3 في الحكم، فإن الراجح عدم حمل المطلق على المقيَّد، كما هو مذهب أكثر الأصوليين: بمعنى أن الحكم الذي وردت عليه أداة نفي موضوعة للتنصيص على نفي الحكم لا يحمل فيه المطلق على المقيد بطريق التقييد المصطلح عليه لدى الأصوليين، وإن كان   1 يراد باللقب هنا الاسم الجامد: سواء كان علماً مثل زيد، أو كنية مثل أبو بكر أو لقباً كزين العابدين: وبالجملة خلاف المشتق، لأن المشتق إذا رتب الحكم عليه يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق بخلاف اللقب، فإنه لا دلالة له على علة الحكم بوجه من الوجوه. 2 إرشاد الفحول ص: 165. 3 يكون النفي نصاً: إذا ورد بطريق (لا) النافية للجنس: وما المزيدة بعدها (من) كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3] أي: لا أحد خالق بحق إلا ربنا تعالى، ونحو هذه الأدوات التي هي موضوعة في اللغة للتنصيص على النفي، ويكون النفي ظاهراً: إذا ورد بطريق (لا) العاملة عمل ليس ونحوهما كالمثال الذي ذكر سيبويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 لا مانع من تخصيص الحكم المنفي باعتباره عاماً1، وأما إذا كان النفي ظاهراً فالأمر محتمل؛ لأن النفي كما سيأتي لنفي الجنس نصاً يأتي لنفي الوحدة، بدليل ما نقل عن سيبويه2 من قول العرب: لا رجل في الدار، بل رجلان، فأتى النفي لغير الجنس، والنفي إذا كان ظاهراً يجوز صرفه بالدليل كما في المثال السابق ونحوه3. الشرط الرابع لحمل المطلق على المقيد: أن لا يكون الحكم في جانب الإباحة، قال أبو البركات4: (وإذا كانا إباحتين فهما في معنى   1 الفروق 1/191-192، وبدائع الفوائد لابن القيم 3/249. 2 سيبويه: لقب اشتهر به عمرو بن قنبر الحارثي بالولاء، إمام أهل البصرة في النحو، المولود عام 148هـ والمتوفي سنة 180هـ، وأعظم مؤلفاته كتابه في النحو المعروف (بالكتاب) عند النحويين. انظر: الأعلام 5/252، وطبقات النحويين واللغويين ص: 66-74 لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي ط أولى سنة 1373هـ بمصر م محمد سامي أمين الجانجي، وسير أعلام النبلاء للذهبي 8/311 ط أولى 1401هـ مؤسسة الرسالة. 3 مسلم الثبوت 1/361، وشرح تنقيح الفصول ص: 182. 4 أبو البركات بن تيمية هو: مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني، الفقيه الحنبلي الإمام المقرئ المحدث المفسر الأصولي النحوي، ولد سنة 590هـ له عدة مؤلفات منها: المحرر في الفقه والمنتقى من أحاديث الأحكام ومسودة في أصول الفقه، توفي رحمه الله سنة 652. انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/249، ط دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت، وطبقات الأصوليين 2/68 ط 2 1394 محمد أمين صبيح وشركاه بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 النهيين، وكذلك إذا كانا كراهتين، أي: أنهما في معنى النهيين لفظاً ومعنى، فلا يحمل المطلق على المقيد في جانب الإباحة؛ لأنه لا تعارض بينهما والحمل إنما يكون عند التعارض. ونقل الشوكاني عن ابن دقيق العيد1 أن المطلق لا يحمل على المقيد في جانب الإباحة وعلل ذلك بعدم وجود تعارض بينهما أيضاً2، وقد تقدم الخلاف في حكم النهي ومن قال: بأنه يمكن الجمع بينهما في النفي والنهي، وذلك بالكف عنهما، وما ورد عليه من الاعتراض3.   1 ابن دقيق العيد هو: تقي الدين محمد بن علي بن وهب القشيري المشهور بـ (دقيق العيد) فقيه شافعي محقق، ولد سنة 625، وتلقى المذهب المالكي على أبيه، ثم تلقى المذهب الشافعي على العز بن عبد لاسلام، وبرع فيه وأتقنه، له مصنفات وشروح في فقه الأصول، وله في الحديث كتاب (الإمام) وقد اختصره في كتاب سماه الإلمام، توفي رحمه الله سنة 702هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى 9/207، رقم الترجمة (1326) ط أولى البابي الحلبي وشركاه، تحقيق محمود محمد الكناحي وعبد الفتاح محمد الحلو، وطبقات الأصوليين 2/102. 2 إرشاد الفحول ص: 166، والمسودة لآل تيمية ص: 147. 3 مسلم الثبوت 1/361، والنسخ بين النفي والإثبات د. محمد محمود فرغلي ص: 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الشرط الخامس: أن لا يمكن الجمع بينهما إلا بالحمل، فإن أمكن بغيره فإنه أولى من تعطيل بعض ما دل عليه أحدهما1. الشرط السادس: أن لا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجل ذلك القدر الزائد، فلا يحمل المطلق على المقيد ههنا قطعاً2، لأنه يلزم من حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة أن يكون القدر الزائد مع المقيد لغواً، وهو لا يليق بكلام العقلاء فضلاً عن كلام أحكم الحاكمين. الشرط السابع: أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد، فإن قام دليل على منع حمل المطلق على المقيد فلا حمل3، والحالة هذه. ويمكن أن نمثل لذلك بالإطلاق في كفارة الظهار الوارد في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فقد تقرر عند الجمهور حمل المطلق على المقيد في هذا المسألة، فالواجب تحرير رقبة مؤمنة في كفارة الظهار، قياساً لها على كفارة القتل الخطأ، كما يأتي بيان ذلك، ولكن لو فرض أنه ورد نص آخر في كفارة الظهار يفيد إجزاء   1 إرشاد الفحول ص: 167، وذلك بأن يوجد الدليل الذي يعين ما دل عليه أحدهما أو ثبت نسخ أحدهما بالآخر. 2 إرشاد الفحول ص: 167، والمراد بالقدر الزائد هنا ما يعبر عنه في باب المفهوم بخلو القيد عن الفائدة إلا من مجيئه لتخصيص ما ذكر معه بالحكم. 3 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الكافرة نحو: فتحرير رقبة مؤمنة أو كافرة، لكان ذلك دليلاً مانعاً من حمل إطلاق كفارة الظهار على تقييد كفارة القتل الخطأ، وعندئذ لا يجوز الحمل لوجود الدليل المانع. الشرط الثامن: أن لا يستلزم حمل المطلق على المقيد تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استلزم ذلك بقي المطلق على إطلاقه، ومثال ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة في بيان ما يلبس المحرم: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين" 1. وقوله في عرفات: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين" 2، فقد قيد لبس الخف بالقطع أسفل من الكعبين، وهو بالمدينة ثم أطلق لبسهما في عرفة، وكان الإطلاق متأخراً عن التقييد فقد كان الإطلاق في عرفة حيث   1 الحديث رواه البخاري ومسلم، وهو في متن البخاري 2/169، وفي فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر 4/57. وقد أخرجه مسلم في كتاب الحج فيما يباح للمحرم، ورقم الحديث عند مسلم: 1177 من الجزء 2،234، وفي النووي على مسلم 7/75 ط المطبعة المصرية ومكتبتها. 2 المراجع السابقة، وتراجع المسألة في الكتب التالية: بداية المجتهد لابن رشد 1/326-327 ط 3 1339 البابي الحلبي، وبدائع الصنائع للكاساتي 3/1225 والمغني لابن قدامة 3/311، والقواعد الأصولين لابن اللحام الحنبلي ص286، والمسودة لآل تيمية ص: 137، وشرح الكوكب المنير للفتوحي الحنبلي ص: 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 حضر معه خلق كثير لم يسمعوا خطبته في المدينة - وهم في أمسِّ الحاجة إلى البيان - فلو قلنا في هذه المسألة: بأن المطلق محمول على المقيد، وأنه لا يجوز لبس الخف إلا مع القطع، لكان في ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو لا يجوز، ومن هنا قال الإمام أحمد1 ومن تابعه أن القطع المأمور به في المدينة منسوخ بإطلاق اللبس بدون قطع في عرفات2، وهذا الشرط وإن لم يذكره الشوكاني إلا أنه متفق عليه، لأن حمل المطلق على المقيد بيان عند الجمهور والبيان لا يحوز تأخيره عن وقت العمل، وأما على مذهب الحنفية، فلأنه عند العلم بتأخر أحدهما يكون المتأخر ناسخاً للمتقدم إذا تساوى معه في قوة الدلالة والثبوت.   1 الإمام أحمد هو: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الوائلي، ولد سنة 164 وهو إمام المذهب الحنبلي وأحد الإئمة الأربعة، وتعرض للتعذيب أيام العباسيين لامتناعه عن القول بخلق القرآن، من مؤلفاته مسنده العظيم، توفي رحمه الله سنة 241هـ. الأعلام 1/192، والبداية والنهاية لابن كثير 10/325 ط الثالثة مكتبة المعارق بيروت، وطبقات الحنابلة للقاضي أبي يعلى 1/4، الناشر دار المعرفة بيروت. 2 بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية 3/250، والقواعد الأصولية لابن اللحام ص: 284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ب - الشروط التي هي محل خلاف: اختلف الحنفية مع الجمهور في بعض الشروط التي يجب توفرها لحمل المطلق على المقيد، بناء على أن ذلك شرط لتعارض الأدلة، أم ليس هو بشرط فيها حيث يفهم من تعليلات الحنفية أن كل ما هو شرط في تعارض الأدلة فهو شرط لحمل المطلق على المقيد، ضرورة أن التنافي الواقع بين المطلق والمقيد نوع من التعارض الواقع بين الأدلة الشرعية، وكان أهم الشروط التي اختلف الحنفية مع الجمهور فيها ما يلي: 1 - المساواة بين الدليلين المتعارضين: قد ذهب إلى اشتراط المساواة بين الدليلين المتعارضين جماعة من الأصوليين ومنهم جمهور الحنفية - كالبخاري1 والفناري2   1 البخاري هو: عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري الفقيه الحنفي الأصولي الملقب بعلاء الدين، تبحر في الفقه والأصول، وعرف بتفوقه فيهما. له شرح على أصول البزدوي سماه كشف الأسرار، وهو من أهم وأعظم شروح أصول البزدوي وأكثرها فائدة وبياناً، توفي رحمه الله سنة 730هـ. انظر: تاج التراجم في طبقات الحنفية للشيخ أبي العذل زين الدين بن قاسم بن قطلوبغا المتوفي سنة 879 ص: 35 رقم الترجمة: 103، مطبعة العاني بغداد سنة 1962م، وطبقات الأصوليين 2/! 36. 2 الفناري هو: محمد بن حمزة بن محمد شمس الدين الفناري صنعة، ولد سنة 751هـ واشتهر بعلم المنطق والأصول، وله مؤلفات كثيرة منها إيساغوجي في علم المنطق، وفصول البدائع في أصول الشرائع، وشرح الفرائض السراجيه، توفي سنة 834. راجع: الأعلام 6/342، وطبقات الأصوليين 3/30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 والسرخسي1 وفي حكم المتساويين عند الحنفية كل دليلين وجد بينهما تعارض وكان لأحدهما مزية على الآخر بوصف تابع، مثل: تعارض خبر الواحد2 الذي يرويه عدل فقيه مع آخر يرويه عدل لم يشتهر بالفقه، ومثل: تعارض الحديث المشهور مع المتواتر3 وقد أشار إلى مذهب الحنفية هذا سعد الدين التفتازاني4 في كتابه التلويح على التوضيح لصدر الشريعة حيث قال: "إذا دل دليل على ثبوت شيء والآخر على انتفائه، فإما أن يتساويا في القوة أم لا وعلى الثاني إما أن تكون زيادة أحدهما عن الآخر   1 أصول السرخسي 2/12-13، وإرشاد الفحول ص: 274، وكشف الأسرار 3/76-77، والتعارض والترجيح بين الأدلة د. مصطفى البرزنجي 1/248. 2 خبر الواحد أو الآحاد هو: ما رواه شخص واحد أو عدد لم يبلغ مرتبة التواتر في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم واستمر على ذلك في العصرين التاليين، لعصر الرسول صلى الله عليه وسلم. 3 أدلة الشرع المتعارضة للدكتور بدران أبو العينين ص: 35 الناشر مؤسسة شباب الجامعة بالإسكندرية. 4 التفتازاني هو: سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله، من أئمة العربية والبيان والمنطق، ولد سنة 712هـ ومن مؤلفاته كتاب التلويح على التوضيح وله حاشية على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، توفي رحمه الله سنة 793هـ. انظر: الأعلام 8/113-114 ط 3 1398هـ، ومعجم المؤلفين للأستاذ رضا كحالة 2/206 ط 2، 1394هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 بما هو بمنزلة التابع أولاً، ففي الصورة الأولى: وهي (تساوي الدليلين في القوة) تعارض ولا ترجيح، وفي الصورة الثانية ويعنى بها: (إذا كان لأحدهما فضل على الآخر بما هو بمنزلة التابع) معارضة مع ترجيح1، وفي الصورة الثالثة: (وهي التي لم يتساو فيها الدليلان في القوة، ولم يكن لأحدهما فضل على الآخر بما هو بمنزلة التابع) لا معارضة ولا ترجيح، لابتنائه على التعارض المنبئ عن التماثل2، وهنا نقول: إن التساوي يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع: الأول: التساوي في الثبوت وذلك بأن يكون الدليلان المتعارضان قطعيين سنداً كالمتواترين أو ظنيين سنداً كالمشهورين والأحاديين. فعلى أن التساوي في الثبوت شرط في التعارض، لا يتصور وجود تعارض بين الآيات القرآنية والسنة المشهورة، أو الآحادية، لعدم التساوي في الثبوت، لأن القرآن ثبت بالطريق المتواتر، والسنة المشهورة أو الأحادية ثبتت بطريق الظن. الثاني: التساوي في الدلالة، مثل: أن يكون الدليلان المتعارضان قطعيين   1 التلويح لسعد الدين التفاتازاني 2/103، مع التوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة. 2 المرجع السابق الأخير 2/103، والتعارض والترجيح للبرزنجي 1/250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 دلالة، كالنصين أو ظنيين دلالة كالظاهرين، فعلى أن ذلك شرط لا تعارض بين النص والظاهر، ولا بين العام والخاص بناء على القول بظنية دلالة العام، لعدم تساوي الظاهر مع النص في الدلالة. الثالث: التساوي في العدد، وذلك بأن يكون كل من المتعارضين واحداً مع واحد، أو اثنين مع اثنين الخ، وبناء على اشتراط التساوي في العدد لا تعارض بين آيتين توافق إحداهما آية أخرى أو حديثاً أو إجماعاً ولا بين حديثين يوافق أحدهما آية، أو قياساً. وقد ذهب جمهور الأصوليين إلى اشتراط التساوي في الثبوت والدلالة لإمكان التعارض، ومنهم أكثر أصولي الحنفية، أما التساوي في العدد فقد اشترطه الشافعية لبقاء التعارض، فيرجح عندهم الخبران على خبر واحد، وخالف في ذلك الحنفية وبعض المحدثين فذهبوا إلى عدم الترجيح بكثرة الأدلة1. لكن يرى عامة العلماء أن التساوي في أصله ليس شرطاً في تعارض الأدلة الشرعية، وأن وجود مطلق التنافي بينها كاف للقول بالتعارض، وذلك ما يفهم من صنيع جمهور المحدثين، والمفسرين والأصوليين، وهو   1 التقرير والتحبير على التحرير 3/302، والتعارض والترجيح بين الأدلة للبرزنجي ص: 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 اختيار الكمال ابن الهمام وابن أمير الحاج1 من الحنفية2. أضف إلى ذلك أن عمل العلماء سلفاً وخلفاً يعاضد هذا الرأي ويسانده، فقد عارضوا بين القوي والضعيف، وأطلقوا اسم التعارض على وجود مطلق التنافي الظاهري بين الآية والسنة، مشهورة كانت أو أحادية. والأصل في الإطلاق الحقيقة3، ومن تتبع كتب الخلاف وجد من ذلك الشيء الكثير، حتى أن المشترطين المساواة بين المتعارضين عقدوا في كتبهم الأصولية أبواباً ومباحث للتوفيق بين أنواع من الأدلة، لا يتحقق فيها شرط المساواة، فدل ذلك منهم على أن المساواة ليست شرطاً في وجود التعارض، وإنما هي شرط لبقاء المعارضة وعدم اندفاعها، يوضح ذلك أيضاً أن المذهب المختار دخول الدليل الراجح والمرجوح في باب   1 ابن أمير الحاج هو: محمد بن محمد بن الحسن المعروف بابن أمير الحاج الحلبي الملقب بشمس الدين الفقيه الحنفي الأصولي، اشتهر أمره بحلب، وكان صدراً من صدور علماء الحنفية، صنف التصانيف الكثيرة، وأخذ عنه الأكابر وافتخروا بالانتساب إليه، ومن مؤلفاته: شرح التحرير في الأصول، وحلية المحلى في الفقه، توفي رحمه الله بحلب سنة 879. الأعلام 3/979، والفتح 3/47. 2 التقرير والتحبير 3/302، والتعارض والترجيح بين الأدلة للبرزنجي ص:250. 3 التوضيح على التنقيح كلاهما لصدر الشريعة مع حاشية التلويح 2/103، وأصول الحامي ص: 77، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص: 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 التعارض، والقول باشتراط المساواة ينافي ذلك إلا على نوع من التسامح، كما أن القول باشتراط المساواة يحصر1 الترجيح على صورة واحدة كما هو مذهب الحنفية.   1 نشير بذلك إلى نقل التفتازاني وغيره لمذهب الحنفية السابق في التعارض وخلاصته أن التعارض له صورتان فقط عند الأحناف. الأولى: تعارض بدون ترجيح، ويتحقق بين كل دليلين ثبت تساويهما في السند والدلالة، والتخلص من هذا النوع من نوعي التعارض إما بنسخ المتقدم منها إذا علم التاريخ أو بسقوطهما، وطلب الدليل من غيرهما، ولا يمكن أن يدفع هذا النوع من التعارض، بطريق الترجيح لفقدان شرطه، وهو زيادة أحد الدليلين عن الآخر بما هو بمنزلة التابع. تنبيه وملاحظة: القول بسقوط الدليلين وطلب الحجة من غيرهما، مفروض فرضاً في المسألة؛ لأنه لم يوجد في الواقع دليلان لا يمكن الجمع بينهما بالطرق الثلاث التي هي الجمع والترجيح والنسخ. الصورة الثانية للتعارض عند الحنفية، تعارض مع ترجيح: وتحقق هذه الصورة في كل دليلين ثبت تساويهما في الذات (الحجية) . وكان لأحدهما فضل على الآخر بما هو بمنزلة التابع، كصفة الشهرة في الحديث المشهور الذي يرجح بها على حديث الآحاد، ومثل الفقه في الراوي العدل الذي يرجح به حديثه على حديث راوٍ آخر عدل غير فقيه. وبقي صورة ثالثة للأدلة عند الحنفية ليس فيها تعارض ولا ترجيح وذلك عندما تنعدم المساواة بين الدليلين، وتتخلف صفة الترجيح، والعمل في هذه الحالة يكون بتقديم الدليل الأقوى وترك الدليل الضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 والأحسن من ذلك أن يحمل القول بالاشتراط على المساواة في الحجية فقط، فيؤول الأمر إلى الاتفاق، أو يحمل التعارض على معناه الخاص عند المشترطين للمساواة ويكون مقصودهم بالتعارض التناقض والتضاد، ويحمل القول بعدم الاشتراط على المعنى العام للتعارض، أو نقول: إن المساواة شرط لبقاء المعارضة لا في وجودها كما قال الشافعية قبل قليل. الشرط الثاني: أن لا يعلم تأخر أحد الدليلين المتعارضين عن الآخر، وهذا الشرط في الحقيقة مرتبط بالشرط السابق، كثمرة له، وهدف من أهدافه؛ ذلك أن الحنفية عندما اشترطوا المساواة بين المتعارضين أرادوا أن يُضَمِّنُوا ذلك أمرين: أولهما: تضييق دائرة التعارض بين الأدلة في أقل صورة ممكنة كما سبق حصر ذلك في صورتين فقط. ثانيهما: القول بنسخ المتقدم من الدليلين المتعارضين بالمتأخر منهما إذا تساويا في قوة الثبوت والدلالة، ومن هنا كان بدهياً أن يشترط الحنفية هذا الشرط في حمل المطلق على المقيد، وقد وجد ذلك منهم فعلاً حيث قالوا: (إذا علم تأخر المطلق أو المقيد كان المتأخر منهما ناسخاً، بشرط أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 تتوفر في الدليلين بقية شروط النسخ) 1، ولذا خالف الحنفية طردَ هذه القاعدة، بحجة أن الدليل - وإن كان متأخراً - لا يصلح ناسخاً، كخبر الآحاد والقياس2. 2 - ويرى جمهور الأصوليين أن مجرد العلم بتأخر أحد الدليلين ليس كافياً للقول بالنسخ وإن تساوى الدليلان في قوة السند والدلالة؛ لأن حمل المطلق على المقيد من قبيل البيان، والبيان يجوز تأخيره إلى وقت الحاجة - كما هو الحال في غالب أحكام الشرع، ثم ناقش الجمهور الحنفية فيما استدلوا به على الاشتراط، وكان من الأدلة التي استدل بها الحنفية ما يلي:   1 مسلم الثبوت 2/189. 2 القياس: لغة التقدير والتسوية، يقال: قاس الثوب بالمتر، إذا قدره به، وفلان لا يقاس بفلان أي لا يساويه في المرتبة. واصطلاحاً: إلحاق واقعة شرعية لم ينص على حكمها بواقعة شرعية نص على حكمها، لوجود علة تجمع بين الواقعتين، مثل إلحاق الأرز بالقمح في تحريم البيع مع التفاضل، لعلة الربا، وهي كونهما من المدخرات أو المطعومات، أو المقوتات، وجه المخالفة تظهر عند من أطلق القاعدة بدون شرط المساواة بين الدليلين، وقد مر بنا أن اشتراط المساواة قال به بعض الحنفية، أما المحققون منهم فهم مع الجمهور في عدم الاشتراط، وحينئذ فإطلاق القول بأن الدليلين المتعارضين إذا علم التأريخ بينهما يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، ليس على إطلاقه عند من يشترط التساوي بين الدليلين لتعارض الأدلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أ - قالوا: إن القول بنسخ المتقدم من الدليلين المتعارضين إذا علم التاريخ بينهما يتفق، وقاعدة دفع التعارض بين الأدلة والتي هي عند الحنفية تقديم النسخ أولاً: ثم الترجيح ثانياً، ثم الجمع؛ فإذا لم يمكن الجمع سقط الاستدلال بالدليلين، وطلب الحكم من غيرهما. وقد نوقش هذا الاستدلال من قبل الجمهور، حيث قالوا: إن القول بتقديم النسخ في دفع التعارض بين الأدلة إذا علم تأخر أحد الدليلين وإن قال به أكثر أصولي الحنفية، إلا أنه خلاف الأولى، لأن القاعدة التي يكاد أن يجمع عليها العلماء في دفع التعارض بين الأدلة المتعارضة هي: تقديم الجمع ثم الترجيح ثم النسخ إذا علم التاريخ، والسبب في تقديم الجمع على غيره، أن التوفيق بين الأدلة المتعارضة بواسطته يجعل التعارض كأن لم يكن، إذ يحمل كل من الدليلين على حال تخالف الأخرى، ومن القواعد المقررة في الأصول، أن الأصل في الأدلة الأعمال، فإذا أمكن فلا يجوز العدول عنه إلى غيره، لأن أعمال الدليلين ولو من وجه خير من أهمالهما معاً، كما هو الحال في القول بسقوط الاستدلال بهما، وخير من أعمال أحدهما وسقوط الآخر بالكلية كما هو الحال في القول بترجيح أحدهما على الآخر أو نسخه به، وفي القول بحمل المطلق على المقيد عن طريق بيانه بواسطته، جمع بين الدليلين فكان أولى من القول بالنسخ أو الترجيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ب - واستدل الحنفية أيضاً: بأن المطلق والمقيد من الألفاظ المعلومة المعنى، فيجب على المكلف اعتقاد معناهما والعمل بهما حين سماعهما من الشارع، فإذا كان الشارع يريد من المكلف غير المعنى المعلوم من اللفظ عند إطلاقه، ولم يُنَصِّبْ على مراده دليلاً حين نزول المطلق فقد أوقع المطلق في محظور وهو اعتقاد غير المراد من اللفظ، وذلك لا يجوز إلاَّ على القول بالتكليف بالمحال1، فكان تأخر المطلق أو المقيد قرينة صارفة عن هذا المحظور، ودليلاً على أن الشارع أراد من المكلف اعتقاد المعنى الظاهر من اللفظ عند نزوله ثم نسخ ذلك بالدليل المتأخر2، وقد نوقش هذا الدليل من قبل الجمهور من عدة أوجه:   1 المعتمد لأبي الحسين البصري 1/343، وأصول الفقه للخضري بك ص: 216-220، وبيان النصوص الشرعية للدكتور بدران ص: 148. 2 وواضح من هذا الدليل أن الحنفية يريدون بالنسخ هنا نسخ اعتقاد الظاهر دون العمل، فإذا سلم لهم الجمهور بذلك كان دليلهم وجيهاً، ولكن الجمهور لا يكتفون بهذا القدر للقول بالنسخ، وبهذا يعلم جوهر الخلاف في المسألة، فمن يسمي رفع اعتقاد الظاهر نسخاً يحكم بنسخ الدليل المتقدم متى علم تأخر الدليل المعارض له، ومن لا يكتفي في النسخ بمجرد العلم بتأخر الدليل المعارض، ولا يرى رفع الظاهر الذي لم يتأخر عن وقت العمل نسخاً لا يحكم بالنسخ بين النصين بمجرد العلم بتأخر أحدهما حتى يكون ذلك مستلزماً لتأخير البيان عن وقت الحاجة، فإذا استلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة كان ذلك نسخاً عند الجمهور أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الوجه الأول: إن القول بأن المطلق معلوم المعنى فيجب على المكلف اعتقاد معناه والعمل به حين سماعه من الشارع في حيز المنع. وذلك لأن المطلق ظاهر في الإطلاق، كظهور العام في العموم، فيجوز صرفه عن الظاهر بالدليل، وفي هذا الصدد يقول الغزالي1: إن في قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ليس هو نصاً في إجزاء الكافرة، بل هو عام يعتقد عمومه مع تجويز قيام الدليل على خصوصه، أما أن يعتقد عمومه (قطعاً) فهذا خطأ في اللغة"2.   1 الغزالي: هو محمد بن محمد بن أحمد، الملقب بحجة الإسلام زين الدين الطوسي وكنيته أبو حامد، فقيه شافعي ولد سنة (450) ، وجمع شتات العلم في المنقول والمعقول، واشتهر بالتصوف للسائلين إلى الطريق المستقيم، من مؤلفاته المشهورة: إحياء علوم الدين، والمستصفى في علم الأصول، توفي رحمه الله سنة 505هـ. راجع: الإعلام 7/247، والفتح المبين في طبقات الأصوليين2/8،ط 2،1394هـ. 2 كتبت كلمة (قطعاً) هنا لورودها في موضع آخر ص: 188، وخوفاً من أن يتوهم متوهم أن في الكلام اضطراباً حيث يقول: (بل هو عام يعتقد عمومه، ثم يقول: أما أن يعتقد عمومه فهذا خطأ في اللغة. المنخول للغزالي ص: 180، والمستصفى مع مسلم الثبوت 2/186. ووجه الاضطراب يدون كلمة (قطعاً) بين قوله: (بل هو عام يعتقد عمومه، ثم يقول: أما أن يعتقد عمومه فهذا خطأ في اللغة فبكلمة (قطعاً) يزول التناقض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وقد فسر الغزالي مراده بالاعتقاد هنا فقال: هو أن يأتي بالبحث الممكن عن المخصص أي: (المقيد) إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع، ويحس من نفسه بالعجز يقيناً فيكون العجز عن العثور عن الدليل المقيد في حقه يقيناً، وانتفاء الدليل في نفسه مظنوناً، وقال في موضع آخر جواباً عن هذه الشبهة، "قلنا: الجهل من جهة المكلف إن اعتقد عموم المطلق جزماً، بل ينبغي أن يعتقد أن ظاهره العموم، وهو محتمل للخصوص، وعلى المكلف أن يطلب دليل الخصوص إلى أن يبلغه أو يظهر له انتفاؤه؛ لأن المكلف إن اعتقد أنه عام قطعاً، أو خاص قطعاً أو لا عام ولا خص، أو هو عام وخاص معاً فكل ذلك جهل، فإذا بطل الكل لم يبق إلا اعتقاد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص1 اهـ الوجه الثاني: أن قولكم: ولم ينصب عليه دليلاً حين نزول المطلق في حيز المنع   1 المستصفى ص: 316، ثم يقول الغزالي بعد هذا الكلام: وبهذا يظهر بطلان مذهب أبي حنيفة رحمه الله حيث قال: قوله –تعالى-: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يعتقد عمومه قطعاً، حتى يكون إخراج الكافرة من اللفظ نسخاً وقوله -تعالى-: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يجب اعتقاد إجزائه قطعاً حتى يكون اشتراط الطهارة بدليل آخر نسخاً وهو خطأ، بل يعتقده ظاهراً محتملاً، أو يتوقف عن القطع والجزم نفياً وإثباتاً؛ فإنه ليس بقاطع. المستصفى ص: 361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 أيضاً لأن القرينة موجودة، وهي إما كون المطلق ظاهراً في الإطلاق في عرف أهل اللغة، أو هي ما سبق من قول الجمهور: "ما من علم إلا وقد خص منه البعض، والمطلق عام على سبيل البدل"، فيكون صرفه عن ظاهره من قبيل العرف الشرعي كما سبق في العام. الوجه الثالث: أن العلم بتأخر الدليل لا يكفي للقول بالنسخ؛ لأن النسخ لا يثبت مع الاحتمال، بل لا بد فيه مع العلم بتأخير أحد الدليلين من دليل آخر يعين الناسخ والمنسوخ، كأن ينقل أحد الصحابة - رضي الله عنهم - ذلك نقلاً صحيحاً وصريحاً لا مجال للاحتمال فيه، أو يكون اللفظ المتأخر فيه ما يدل على نسخ المتقدم - كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" 1، وكل ذلك خلاف المفروض في المسألة. الوجه الرابع: إن ما ادعوه من محظور موجود في النسخ، حيث يعتقد المكلف أن الحكم الذي أفاده الدليل المنسوخ على الدوام؛ لأن الأصل في الأحكام البقاء، فإذا ورد الناسخ تبين أن ما اعتقده من دوام الحكم واستمراره غير   1 الحديث رواه: مسلم في صحيحه 3/65، والإمام أحمد 2/441 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني 3/223، رقم الحديث 772. لتقف على من خرجه، وطرق رواياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 مراد للشارع، ومع ذلك فتأخير الناسخ مجمع عليه فما هو جوابكم عن هذا المحظور، فهو جواب لنا عن تأخير بيان المراد من اللفظ المطلق أو المقيد. الوجه الخامس: إن القول بتكليف المحال1 قال به بعض العلماء، وما ادعوه من عدم فائدة التكليف بالمحال غير مسلم؛ لأن فائدته حينئذ تكون (ابتلاء المكلف واختباره) هل يعزم على فعل ما أمر به فيكون من جملة المطيعين لربهم المنقادين لأحكامه، أو يمتنع عن العزم على الإتيان بما هو في مقدوره بحجة عدم القدرة على تنفيذ الفعل؛ فيكون قد أوقع نفسه في عداد المكابرين لنصوص الشرع الطالبين لأحكامه عللاً وأغراضاً، وفي ذلك معارضة   1 الأولى في الجواب أن يقال: التكليف على قدر الاستطاعة كما قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} . والذي في وسع المكلف هو اعتقاد اللفظ على عمومه، حتى يرد ما يخصصه أو يقيده، وهذا القدر لا بأس في تسمية تغيره نسخاً على القول بجواز النسخ قبل العمل، وإن كان ذلك لا يسمى نسخاً اصطلاحاً، لعدم تحقق ثبوته بدليل شرعي، والنسخ إنما هو رفع الحكم الثابت بدليل شرعي، مع أن قول الحنفية هذا ينافي قولهم في جواز النسخ قبل العمل حيث يرى أكثرهم منعه. أصول الفقه للخضري ص: 257، ومع القرآن د. شعبان محمد إسماعيل ص 472-477، وإرشاد الفحول للشوكاني ص: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 صريحة لقوله - تعالى -: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 1. الشرط الثالث: من الشروط المختلف فيها: أن لا يكون الإطلاق والتقييد داخلين على سبب الحكم. 1 - وقد ذهب جمهور الحنفية إلى أن ذلك شرط في حمل المطلق على المقيد. وحجتهم في ذلك: أن حمل المطلق على المقيد لا يلزم بدون وجود التنافي بين الإطلاق والتقييد، ومع جريان الإطلاق والتقييد في سبب الحكم، لا يوجد التنافي؛ لأن الشيء الواحد يجوز أن يكون له أسباب متعددة يثبت بكل واحد منها على سبيل البدل، مثل: ثبوت الملك للمال، فإنه شيء واحد له أسباب كثيرة يثبت بها على سبيل البدل، كالبيع والميراث والهبة والوصية. 2 - ويرى جمهور الأصوليين أن ذلك ليس شرطاً في حمل المطلق على المقيد، بل يكفي للقول بحمل المطلق على المقيد اتحادهما في الحكم. وحجة الجمهور: أن الحكم متى كان متحداً بين المطلق والمقيد والحادثة موضوع الحكم واحدة؛ فإن الإطلاق والتقييد عندئذ يكونان قد دخلا على شيء واحد، والشيء الواحد لا يجوز أن يكون مطلقاً ومقيداً في آن واحد للتنافي بينهما، ودفعاً لذلك التنافي يحمل المطلق على المقيد،   1 سورة الأنبياء آية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وإن كان السبب مختلفاً، وسيأتي لهذه المسألة مزيد من الإيضاح في الحال الخامسة من أحوال المطلق والمقيد الآتية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 المبحث الثالث: في أحوال المطلق والمقيد وحكم الحمل في كل منها المطلب الأول: في محل الإتفاق ... أحوال المطلق والمقيد: بعد أن اشترط الأصوليون لحمل المطلق على المقيد الشروط الآنفة الذكر، استقرؤوا النصوص الشرعية التي فيها لفظ مطلق وآخر مقيد دون ما يدل على لزوم العمل بأحدهما، فظهر أن أحوالهما من حيث الاتحاد في الحكم والسبب الذي من أجله شرع الحكم، ومن حيث الاختلاف في ذلك أربعة أحوال. كما تبين من الاستقراء أن الإطلاق والتقييد تارة يكونان داخلين على الحكم نفسه، وتارة أخرى يكونان داخلين على سبب الحكم ومن هنا يتصور للمطلق والمقيد ثمانية أحوال. لأن المطلق والمقيد إما أن يتحدا في الحكم والسبب، أو يختلفا في الحكم والسبب معاً، أو يتحدا في الحكم ويختلفا في السبب أو بالعكس، أي: يتحدا في السبب ويختلفا في الحكم، فهذه أربع صور، وفي كل حال إما أن يدخل الإطلاق والتقييد على الحكم، أو على السبب، فلو بسط الكلام على كل حال على حدة مع اعتبار جريان الإطلاق والتقييد تارة في الحكم وأخرى في السبب لكان الجميع ثماني صور، ولكن لما كان الحكم واحداً في كل حال يكون الإطلاق والتقييد فيها داخلين على الحكم نفسه، وكذلك يكون الحكم واحداً في كل حال يدخل الإطلاق والتقييد فيها على سبب الحكم، اكتفى الأصوليون بذكر الأحوال والصور التالية خشية التكرار والتطويل المملّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أ - فالصورة الأولى إذا كان الإطلاق والتقييد في الحكم: ويشتمل على الأحوال التالية: الحال الأولى: أن يتحد المطلق والمقيد في الحكم والسبب. الحال الثانية: أن يختلفا في الحكم والسبب معاً. الحال الثالثة: أن يختلفا في الحكم، ويتحدا في السبب. الحال الرابعة: أن يتحدا في الحكم ويختلفا في السبب. ب - الصورة الثانية: إذا كان الإطلاق والتقييد داخلين على السبب وتحته حالة واحدة. وهي أن يتحد المطلق والمقيد في الحكم والسبب، ويجري الإطلاق والتقييد في السبب، والعلماء بادئ ذي بدء متفقون على جواز حمل المطلق على المقيد، لكن اختلفت أنظارهم في الحالات التي يصح فيها الحمل، والحالات التي لا يصح فيها بناء على اختلافهم السابق في مفهوم الحمل، والسبب الداعي للحمل، فأدى ذلك إلى الاختلاف في الأحكام الفرعية؛ لأن التفاوت في الأصول ينبني عليه الاختلاف فيما يتفرع عنها من أحكام، من هنا سيكون كلامنا على الأحوال السابقة للمطلق والمقيد في ثلاثة مطالب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 المطلب الأول: في محل الاتفاق. ونعني بمحل الاتفاق - هنا - أحوال المطلق والمقيد التي اتفق الأصوليون على حكمها، أو كان الخلاف نادراً فدخل تحت هذا المطلق من أحوال المطلق السابقة ما اتفق العلماء فيه على الحمل، وما اتفقوا فيه على عدم الحمل، وما كان الخلاف فيه قليلاً أو نادراً. وبناء على ذلك فإن هذا المطلب يتضمن الصور والحالات التالية: أ - إذا كان الإطلاق والتقييد في الحكم: ويدخل تحتها الأحوال التالية: الحال الأولى: إذا اتحد المطلق والمقيد في الحكم والسبب. ومثال هذه الحال: مما يجري به الاستدلال: صيام شهرين عن كفارة الفطر في رمضان لمن عجز عن إعتاق رقبة، فقد روي عن أبي هريرة1 - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رجل وقع على أهله   1 أبو هريرة هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي الأزدي، أسلم رضي الله عنه في السنة السابعة للهجرة، وتوفي بالعقيق سنة 57 على الراجح، وهو من الرواة المكثرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث بلغ ما أخرج له في مسند بقي بن مخلد 5374 حديثاً، وليست هذه الرتبة لأحد من الصحابة سواه، روى عن عدد كثير من الصحابة، وأصح الأسانيد عنه، ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب عنه، وأضعفها السري بن سليمان عن داود عن يزيد الأزدي عن والده عن أبي هريرة. انظر ترجمته في: الإصابة القسم السابع رقم الترجمة (10674) باب الكنى تحقيق محمد علي البجاوي ط دار نهضة مصر الفجالة القاهرة، وحلية الأولياء 2/376، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي 2/270. وقارن بعلوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي الصالح ص 362، ط إدارة الطباعة المنيرية بالقاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 في رمضان: "اعتق رقبة، قال: ما أجدها، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، قال: فأطعم ستين مسكيناً"1. وروي عنه أيضاً: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: مالك؟ قال: واقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل   1 أخرج البخاري هذا الحديث مع زيادة القيد الآتي في صحيحه في كتاب الصوم، باب إذا جامع في نهار رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه، رقم الحديث: 1936، مع الشرح 4/163 طبع المكتبة السلفية. وأخرجه مسلم في كتاب الصيام باب تغليظ تحريم الجماع في رمضان على الصائم 2/281، ط دار إحياء التراث العربي ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي. وانظر: السنن الكبرى للبيهقي كتاب الصيام 4/225ط أولى الهند سنة 1352هـ. ويلاحظ أن الحديثين وردا بعدة ألفاظ ولكن الواقعة واحدة، نصب الراية 2/451، ط 2 المكتب الإسلامي وطبع المجلس العلمي سنة 1393هـ، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص:242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا ... الحديث1. ففي هاتين الروايتين لصيام الشهرين - في حق من أفطر في رمضان - نجد أن الصيام ورد مطلقاً عن التتابع في الحديث الأول، وورد مقيداً بالتتابع في الحديث الثاني. والحكم في المطلق والمقيد واحد: وهو الأمر بصيام الشهرين لمن عجز عن إعتاق رقبة، وكان مستطيعاً للصيام، وكذلك السبب فيهما واحد وهو الإفطار2 أو الوقاع في نهار رمضان متعمداً، وقد جرى   1 أخرج البخاري هذا الحديث مع زيادة القيد الآتي في صحيحه في كتاب الصوم، باب إذا جامع في نهار رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه، رقم الحديث: 1936، مع الشرح 4/163 طبع المكتبة السلفية. وأخرجه مسلم في كتاب الصيام باب تغليظ تحريم الجماع في رمضان على الصائم 2/281، ط دار إحياء التراث العربي ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي. وانظر السنن الكبرى للبيهقي كتاب الصيام 4/225ط أولى الهند سنة 1352هـ. ويلاحظ أن الحديثين وردا بعدة ألفاظ ولكن الواقعة واحدة، نصب الراية 2/451، ط 2 المكتب الإسلامي وطبع المجلس العلمي سنة 1393هـ، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص:242. 2 حديث "من أفطر في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر" قال عنه الزيلعي: غريب بهذا اللفظ، والحديث لم أجده بهذا اللفظ فيما اطلعت عليه من الكتب، وقال في المسودة بعد ذكره: (إن صح الخبر) وقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعاً: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكيناً"، وهذا الحديث رواه غير واحد من المحدثين ومنهم البيهقي في السنن الكبرة في كتاب الصيام باب رواية من روى الحديث مطلقاً 4/225. وهو حديث كما ترى مطلقاً للكفارة على كل من أفطر في رمضان، سواء كان بجماع أو غيره، ولكن جمهور العلماء حملوا الروايات المطلقة على المقيدة، كما قال البيهقي في سننه 4/225 ورواية الجماعة عن أبي هريرة مقيدة بالوطء، ناقلة للفظ صاحب الشرع، أولى بالقبول لزيادة حفظهم وآدائهم الحديث على وجهه، كيف وقد روى حماد بن مسعدة هذا الحديث عن مالك عن الزهري نحو رواية الجماعة، والمعروف أن هذه السلسلة من السلاسل الذهبية في رواية الأحاديث. قال الألباني بعد أن جمع طرق هذا الحديث، راداً على من يقول: إن خصال الكفارة على التخيير، وأن الإفطار كان بغير الجماع: "فهؤلاء ثلاثون شخصاً اتفقوا على أن الرواية على الترتيب وأن الإفطار كان بالجماع، فروايتهم أرجح؛ لأنهم أكثر عدداً، ولأن معهم زيادة علم، ومن علم حجة على من لم يعلم"، وثمة مرجحات أخرى تنظر في إرواء الغليل 4/88، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 4/163، والعدة للقاضي أبي يعلى 1/629. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الإطلاق والتقييد في الحكم نفسه، حيث يدل الحديث الأول بإطلاقه على إجزاء صيام الشهرين سواء أكان متتابعاً أم متفرقاً، ويدل الحديث الثاني على عدم إجزاء الصيام غير المتتابع نظراً لمفهوم قيد التتابع. وليس هناك ما يعين الحكم الذي أفاده الحديث المطلق، أو المقيد. فوقع التعارض بينهما في الصيام الذي لم يتابع فيه، حيث يفيد الحديث المطلق إجزاءه، ويدل الحديث المقيد على عدم إجزائه، ودفعاً لهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 التعارص الظاهري، فقد اتفق العلماء على أنه يحمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحالة1، إذا توفرت فيه بقية الشروط التي اشترطت لحمل المطلق على المقيد عند الفريقين2، يقول الغزالي بصدد هذه الحال: "وإن اتحدت الواقعتان فهو مقول به بإجماع"3، ويقول الآمدي: "لا أعرف خلافاً في حمل المطلق على المقيد ههنا"4. وذكر علاء الدين البخاري صاحب كشف الأسرار على أصول البزدوي: "أن الاتفاق قائم بين أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي على حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة"5.   1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/221-224، 290، والتلويح مع التوضيح 1/64، ونيل الأوطار 4/241، وحاشية الأزميري على مرآة الأصول لملاخسرو 1/345. 2 سبق أن المراد بالحكم الوجوب، وأن لا يستلزم ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة ... وبقي من الشروط عند الحنفية أن لا يعلم تأخر أحدهما عن الآخر، وأن يكونا مستويين في قوة الثبوت والدلالة، وبقي من الشروط المهمة أن لا يكون المطلق والمقيد في سياق النهي. 3 المنحول في علم الأصول للغزالي ص: 177. 4 الأحكام للآمدي 3/4، ومفتاح الأصول إلى علم الأصول للشريف التلمساني ص: 107، والمسودة لآل تيمية ص: 146. 5 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/289-290، وحاشية الأزميري على مرآة الأصول 1/345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وقال في إرشاد الفحول للشوكاني: "اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم، فذهب بعضهم إلى أنه لا يحمل المطلق على المقيد، والصحيح من مذهبهم أنه يحمل، ثم قال: ونقل أبو منصور الماتريدي1 عن أبي حنيفة2 القول بالحمل في هذه الصورة، وحكى الطرطوسي3 الخلاف   1 أبو منصور الماتريدي هو: محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي (نسبة) إلى محلة بسمرقند البغدادي، كان إمام المتكلمين وله رأي وسط بين المعتزلة والأشاعرة في القول بحسن الأفعال وقبحها، من مؤلفاته: مآخذ الشرائع في الأصول، وكتاب التوحيد، وكتاب المقالات في علم الكلام، وكتاب أوهام المعتزلة، وله في التفسير كتاب تأويلات القرآن، قال عنه المراغي: إنه كتاب لا يوازيه، بل لا يدانيه شيء من تصانيف من سبقه في ذلك الفن، توفي رحمه الله بسمرقند سنة 333هـ. انظر ترجمته في طبقات الأصوليين 1/182-183، مفاتح دار السعادة 2/21. 2 الإمام أبو حنيفة هو: النعمان بن ثابت بن زوطى وهو تيمي بالولاء، ولد سنة 80هـ بمدينة الكوفة، قيل: إنه أدرك أنس بن مالك وعبد الله بن أوفى فهو إذاً تابعي، أخذ الفقه عن حماد بن سلمة بن أبي سليمان، وقد نبغ في العلوم الشرعية والعربية، وكان تقياً ورعاً يعتمد على كسب يده، من أشهر مؤلفاته المنسوبة إليه: (المخارج في الفقه، ومسند في الحديث، جمعهما تلاميذه من بعده، توفي رحمه الله في بغداد سنة 150هـ. 3 الطرطوسي هو: محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان القرشي الفهري الأندلسي الطرطوسي مولداً، وهي آخر بلاد المسلمين من الأندلس، ولد سنة 450هـ فقيه مالكي اشتهر بأبي زندقة ويكنى بأبي بكر، من مؤلفاته: تعليقه على مسائل الخلاف وتعليقه في الأصول، وكتاب في بر الوالدين. انظر ترجمته في: طبقات الأصوليين 2/18، وشجرة النور الزكية 1/124، رقم الترجمة: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 عن المالكية1 وبعض الحنابلة. قال الشوكاني: "وفي هذا النقل عن المالكية نظر؛ لأن من جملة من نقل الاتفاق القاضي عبد الوهاب2، وهو من المالكية، لكن البزدوي عندما قال في أصوله: "وعندنا لا يحمل مطلق على مقيد أبداً" توهم بعض العلماء3 أن هذه العبارة تفيد أن الأحناف لا يحملون المطلق على المقيد   1 إرشاد الفحول ص: 154. 2 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/289، ورد المختار على الدر المختار لابن عابدين 4/553، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص: 134. وعبد الوهاب هو: أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد الثعلبي البغدادي فقيه، مالكي أصولي، ولد سنة 362هـ في بغداد ونشأ بها وتولى القضاء في العراق ومصر وبها توفي سنة 422هـ، له مصنفات كثيرة منها: الإشراف على مسائل الخلاف، والإفادة، والتلخيص في أصول الفقه. انظر ترجمته في: طبقات الأصوليين 1/230، وشجرة النور الزكية ص: 103. 3 والبعض الذي يشير إليهم البخاري هنا مثل: صاحب العناية مع الهداية على فتح القدير 3/199، وشارح المرآة الأزميري 1/36، والزنجاني في تخريج الفروع على الأصول ص: 134، وحديثاً صاحب أسباب اختلاف الفقهاء مصطفى الزلمي في رسالته ص: 124. انظر: الفروق للقرافي ص: 195، وإذا عُدّت هذه الرواية عن الحنفية قولاً ومذهباً يكون لهم في حمل المطلق على المقيد أربع روايات، ثلاث منها في معنى الحمل: وتقدم الكلام عليها، ورواية رابعة بعدم الحمل مطلقاً، وهي: المذكورة هنا بناء على عبارة البزدوي السابقة، ويمكن ترتيب هذه الروايات على النحو التالي: الأولى: حمل المطلق على المقيد بطريق البيان، كما هو مذهب الجمهور، وهذا قول المحققين من الحنفية مثل علاء الدين البخاري والكمال بن الهمام، إلا أنهم اختلفوا مع الجمهور في عدد الصور التي يحمل فيها المطلق على المقيد. الثاني: ترجيح العمل بالمقيد على العمل بالمطلق، فيما تعارضا فيه، كما يقول بذلك شارح مسلم الثبوت 1/362. الثالثة: نسخ المطلق بالمقيد كما هو اختيار الفحول، نقل هذا الرأي الرهاوي في حاشيته على المنار ص: 561. الرابعة: عدم حمل المطلق على المقيد أبداً، ونسب ذلك إلى البزدوي وغيره بناء على ظاهر عبارته السابقة. المرآة لملاخسرو 1/346، وتخريج الفروع لزنجاني ص: 134، وكشف الأسرار 2/290، والفروق للقرافي 1/195، وإرشاد الفحول للشوكاني ص:154، وأسباب اختلاف الفقهاء للدكتور مصطفى الزلمي ص: 124، وتفسير النصوص للدكتور أديب صالح 2/224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 في جميع الأحوال، مما اضطر الباحثين إلى تأويل عبارته السابقة وصرفها عن ظاهرها لتتفق مع مذهب جمهور الحنفية، وفي بيان ذلك يقول علاء الدين البخاري شارح أصول البزدوي عند شرحه للعبارة الآنفة وهي قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 البزدوي: "وعندنا لا يحمل مطلق على مقيد أبداً": يعني لا في حادثتين ولا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين، ولا تلتفت إلى ما توهمه البعض أن المراد في نفي الحمل بالكلية، وإن كان القيد والإطلاق في حكم واحد وحادثة واحدة، فإن ذلك مخالف للروايات أجمع، ثم قال: وذكر في الأسرار فإن قيل: إنك لا تحمل المطلق على المقيد. قلنا: نعم، إذا كانا غيرين حكمين أو شرطين أو علتين، فأما الواحد إذا ثبت بوصف فدونه لا يكون ثابتاً لا محالة ضرورة1. وبهذا يتبين أن الحنفية يقولون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحال كبقية العلماء، فلا خلاف إذاً في حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم والسبب وجريان الإطلاق والتقييد في الحكم. وإن وقع خلاف عند تطبيق الفروع على القاعدة، فذلك راجع إلى وجود سبب خارج عن أصل القاعدة، كتخلف شرط من شروط الحمل عند أحد الفريقين، أو وجود مانع يمنع من حمل المطلق على المقيد، وذلك غير قادح في أصل القاعدة، ومع أن حمل المطلق على المقيد في هذه الحال متفق عليه بين العلماء، إلا أنهم ذكروا لذلك أدلة تؤيد أن المطلق هو الذي يحمل على المقيد دون العكس2.   1 كشف الأسرار 2/289. 2 نشير هنا إلى أن من العلماء من يحمل المقيد على المطلق، وذلك بأن يلغي القيد، وقد نسب هذا الرأي الأستاذ محمد سلام مدكور إلى صاحب طلعة الشمس. انظر: أصول الفقه لمحمد سلام مدكور ص: 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ومن أدلتهم على ذلك ما يلي: أولاً: قالوا: إن المطلق ساكت عن القيد، إذ هو لا يثبته ولا ينفيه1، والمقيد ناطق به ومبين له، وإذا تقابل السكوت والنطق كان الناطق حرياً بأن يجعل أصلاً، ويبنى عليه الساكت، إذ هو كالمفسر له، فكان المقيد أولى بأن يبنى عليه المطلق ويكون مفسراً للمراد منه2. فإن قيل: بطريق الشبهة أن المقيد لم يفد حكم المطلق حتى يلزم التنافي بين مدلوليهما ثم يحمل أحدهما على الآخر، بل أفاد المقيد استحباب الإتيان بالمقيد، أو أنه عزيمة والمطلق رخصة، بدليل أنه نص عليه بعد دخوله تحت الاسم المطلق، فدل ذلك على أهميته وشرفه، لا أنه لا يجزئ غيره3.   1 كشف الأسرار على أصول البزدوي لعلاء الدين البخاري 2/287، والمنار مع حواشيه ص: 558، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص: 134. 2 الأحكام للآمدي 3/4، بتعليق عبد الرزاق عفيفي، والتوضيح مع التلويح 1/64، وأبرز القواعد الأصولية المؤثرة في اختلاف الفقهاء مذكرة أصول الفقه لطلبة قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية تأليف د. عمر عبد العزيز ملا ص: 86. 3 المعتمد لأبي الحسين البصري 1/312، والمنار 563، وفصول البدائع في أصول الشرائع لللفناري 2/63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 والجواب عن هذه الشبهة من وجهين: أولاً: أن القول بأن المقيد يفيد الاستحباب خارج محل النزاع، لأن محل الحمل كما سبق إنما يكون إذا كان الحكم الوجوب، ولو سلم دخول الحكم المستحب في باب محل حمل المطلق على المقيد لكان إثبات الوجوب بالمقيد أولى؛ لأنه أقوى في دلالته على الوجوب من المطلق، والحكم الواجب آكد من الحكم المستحب، فإثباته بالدليل الأقوى أولى للتناسب بين الحكم ودليله1. وثانياً: إن وجوب المقيد كما ينافي الجواز المستفاد من المطلق عند صاحب هذا الرأي ينافي التخيير الذي يرى حمل المطلق عليه؛ لأن معنى التخيير أن المكلف لو أتى بالمطلق أجزأه ذلك، ومعنى وجوب المقيد أن المكلف لو فعل غير المقيد لا يكون فعله مجزئاً لانتفاء شرط التقييد فيه، أضف إلى ذلك أن المخالف ينكر مشروعية المطلق، ويقول: إن المراد به المقيد ابتداء. فليس الإطلاق مراداً أصلاً عند الجمهور حتى يصح التمسك به. الدليل الثاني: قالوا: لو حمل المقيد على المطلق هنا لترتب على ذلك إلغاء القيد المنصوص عليه وإسقاطه بالكلية، وفي حمل المطلق على المقيد يبقى المطلق   1 الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/4، والعدة في الأصول لأبي يعلى 2/647. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 معمولاً به في بعض صوره؛ لأن المطلق جزء من المقيد والعامل بالكل عامل بجزئه، بخلاف العكس، وقد مر بنا أكثر من مرة أن إعمال الأدلة هو الأصل وأن العمل بالدليل ولو من وجه خير من إهماله بالكلية1. واستدلوا ثالثاً: فقالوا: إن الحكيم إنما يزيد في الكلام لزيادة في البيان والقيد في المقيد زيادة على المطلق، فلا يحسن إلغاء تلك الزيادة، بل يجعل كأنه قالهما معاً2، ويكون المقيد مبيِّناً للمراد من المطلق، صوناً لكلام الشارع عن العبث واللغو. ومن أدلتهم وهو الرابع: قالوا: إن في العمل بالمقيد خروج المكلف عن عهدة التكليف بيقين، سواء كان المطلوب الإتيان بالمطلق أو المقيد؛ لأنه إذا كان المطلوب الإتيان بالمطلق كان العمل بالمقيد مجزئاً؛ لكونه فرداً من الأفراد التي يتحقق فيها مفهوم المطلق عن طريق البدل، وإن كان المطلوب المقيد يكون الإتيان به مجزئاً أيضاً، لأنه المطلوب نفسه، بخلاف العمل بالمطلق، فإنه يحتمل عدم الخروج عن العهدة بيقين؛ لأن المطلق كما ذكرنا يتحقق مدلوله بأي فرد كان سواء أكان الفرد المقيد أم غيره، فلربما يأتي المكلف بذلك الغير،   1 الأحكام للآمدي 3/4، وأصول الفقه د. محمد سلام مدكور ص: 211. 2 تخريج الفروع للزنجاني ص: 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ويكون المطلوب الفرد المقيد، وحينئذ فخروجه عن العهدة ليس متيقناً1. الدليل الخامس: قالوا: لو لم يحمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم والسبب، لكان السبب الواحد موجباً للمتنافيين في آن واحد، وهما الإطلاق والتقييد. بيان ذلك أن المطلق في المثال السابق يوجب إجزاء الصيام غير المتتابع لموافقته المأمور به، والمقيَّد يوجب عدم إجزائه لمخالفته المأمور به، والحكم الواحد يستحيل اتصافه بالوصفين معاً بطريق الوجوب لما يلزم عنه من اجتماع المتنافيين في وقت واحد2، ودفعاً لهذا التنافي في الظاهر   1 المنار مع حواشيه ص: 563، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 2/287. وينظر الاعتراض الوارد على قولهم: (المطلق يوجب إجزاء غير المقيد لموافقته المأمور به، والمقيد يوجب عدم إجزائه لمخالفته المأمور به، وهو اعتراض وارد على الحنفية القائلين بالحمل في هذه الحال مع عدم قولهم بالاستدلال بالمفهوم المخالف، والرد عليه من قبل شارح المرآة للأزميري، وشراح المنار 1/346، والمنار ص:563. وخلاصة الرد أن المقيد يدل على عدم إجزاء المطلق من حيث هو مطلق، لكن لا بدلالة اللفظ حتى يلزم القول بالمفهوم المخالف، بل بواسطة إيجاب المقيد عقلاً. 2 المنار مع حواشيه ص: 563، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 2/287. وينظر الاعتراض الوارد على قولهم: "المطلق يوجب إجزاء غير المفيد لموافقته المأمور به، والمقيد يوجب عدم إجزائه لمخالفته المأمور به، وهو اعتراض وارد على الحنفية القائلين بالحمل في هذه الحال مع عدم قولهم بالاستدلال بالمفهوم المخالف"، والرد عليه من قبل شارح المرآة للأزميري، وشراح المنار 1/346، والمنار ص:563. وخلاصة الرد أن المقيد يدل على عدم إجزاء المطلق من حيث هو مطلق لكن لا بدلالة اللفظ حتى يلزم القول بالمفهوم المخالف، بل بواسطة إيجاب المقيد عقلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 يحمل المطلق من الصوم عن التتابع على الصيام المقيد بالتتابع لما بيَّنَّا من المرجحات، وحينئذ تجتمع الأدلة وتتفق ولا تختلف. الحال الثانية: الاختلاف في الحكم والسبب: هذه هي الصورة الثانية التي جرى الاتفاق على حكمها بين الأصوليين، ولكن لا على حمل المطلق على المقيد فيها، بل على عدم حمله عليه. ومثالها: قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1، مع قوله تعالى في شأن الوضوء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 2. فقد ورد لفظ الأيدي مطلقاً في الآية الأولى، وورد مقيداً بكونها إلى المرافق في الآية الثانية، والحكم فيهما مختلف؛ إذ هو في الآية   1 سورة المائدة آية: 38. 2 سورة المائدة آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الأولى الأمر بقطع اليد، وفي الآية الثانية الأمر بغسلها، كما أن السبب فيهما مختلف أيضاً؛ لأنه في الآية الأولى السرقة، وفي الثانية إرادة أداء الصلاة أو القيام لها. ففي هذه الحال وأمثالها - اتفق العلماء على أنه لا يحمل المطلق على المقيد، بل يبقى المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده1، وفي ذلك يقول الغزالي: "إن تباعدت الحادثتان من كل وجه فهو ممنوع بالإجماع"2. ويقول الآمدي: "لا خلاف في امتناع حمل أحدهما على الآخر) 3. وقد استدل على عدم حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحال بأدلة منها: أولاً: عدم المنافاة بين المطلق والمقيد، والحمل إنما يكون لدفع المنافاة بينهما، فإذا كانت المنافاة معدومةً كما هنا يبقى المطلق على إطلاقه والمقيَّد على تقييده؛ لأن الأصل في الأدلة أن تكون مستقلةً بذاتها وغير   1 أسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 127، وأبرز القواعد المؤثرة في اختلاف الفقهاء د. عمر عبد العزيز ملا ص: 88، القسم المقرر على طلاب السنة التمهيدية بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية عام 1399هـ. 2 المنخول للغزالي ص: 177. 3 الأحكام للآمدي 3/4، وإرشاد الفحول ص: 164، والتوضيح 1/64، وشرح المنار لابن ملك 2/536-537، وتفسير النصوص أديب صالح 2/214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 محتاجة إلى غيرها في بيان المراد منها1. واستدلوا ثانياً: فقالوا: إن فائدة حمل المطلق على المقيَّد هو اتحاد الحكم والتخلص من تعدده وتعارضه اللذين هما على خلاف الأصل؛ فإذا كان حكمهما مختلفاً بالنص كما في هذه الحال انتفت الفائدة المذكورة وامتنع الإلحاق2. لكن يلاحظ على هذه الحال أمران: الأول: أن الأيدي في آية السرقة ورد تقييدها بالسنة العملية والقولية بأن القطع يكون من الرسغ3، ولهذا فهي تقيد بالدليل المذكور،   1 روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة ص: 117، والمنهاج مع شرحيه 2/140، وشرح مختصر ابن الحاجب للعضد 2/156، وأبرز القواعد الأصولية د. عمر عبد العزيز ص: 88. 2 شرح مختصر الروضة للطوفي 2/262، مخطوطة بمكتبة الحرم المكي الشريف. 3 أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم "قطع سارقاً من المفصل"، والمراد بالمفصل كما يقول البيهقي هنا: مفصل الكف. انظر: السنن الكبرى 8/270-271 ط أولى الهند سنة 1354هـ، ونصب الراية للزيلعي 3/280 ط 2 المجلس العلمي توزيع المكتب الإسلامي بيروت، وتفسير الطبري 6/34-35 ط 3 دار المعرفة للطباعة والنشر أعيدت طبعته بالأوفست سنة 1398هـ بيروت، والأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى ص: 250 ط مصطفى البابي الحلبي أولى سنة 1356هـ. وقد جمع طرق هذا الحديث وشواهده الألباني في إرواء الغليل 8/81-82، فمن يريد الزيادة فليراجعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وإذا وجد الدليل كان ذلك خارجاً عن محل حمل المطلق على المقيد، لما سبق أن حمل المطلق على المقيد مفروض عند عدم وجود الدليل الذي يعين المراد. الأمر الثاني: إذا اقتضت الضرورة حمل المطلق على المقيد، كما لو قال المظاهر لآخر "أعتق عني رقبة"، ثم قال: "لا تملكني إلا مؤمنة"؛ فإنه يحمل المطلق على المقيد في هذه الصورة، لأن النهي عن تمليك غير المؤمنة يستلزم نفي إعتاقها عنه، وذلك يوجب تقييد الرقبة بالإيمان ضرورة1، إذا لا إعتاق بدون ملك، وقد نهاه عن تمليكه غير المؤمنة. الحال الثالثة: أن يختلف المطلق والمقيد حكماً ويتحدا سبباً. ومن أمثلتهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 2، مع قوله تعالى في شأن التيمم: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ   1 الأحكام للآمدي 3/4، وشرح البدخشي على منهاج العقول 2/142، وتيسير التحرير 1/330، ومسلم الثبوت مع شرحه 1/361، والتوضيح لصدر الشريعة 1/63. 2 سورة المائدة آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 عَفُوًّا غَفُورًا} 1. فقد ورد لفظ الأيدي مقيداً في الآية الأولى بكونها إلى المرافق، وورد في الآية الثانية مطلقاً عن ذلك القيد والحكم فيهما مختلف، إذ هو في الآية الأولى الأمر بغسل الأيدي2، وفي الآية الثانية الأمر بمسحها.   1 سورة النساء آية: 43. 2 اللفظ الواحد قد يُوصف بالإطلاق والعموم من جهتين فيثبت له كل من أحكام الإطلاق والعموم من جهته، كلفظ الأيدي في الآيتين، فإنه مطلق من جهة مقدار اليد عام في أفرادها، وإنما كان مطلقاً؛ لأن الشارع أطلق اليد في مواضع مع إرادة جميعها إلى المنكب تارة وبعضها تارة أخرى. نشر البنود على مراقي السعود سيدي عبد الله العلوي 1/268. وذكر بعض أصحاب الأصول أن تمثيل الأصوليين للإطلاق بهذه الآية غير واضح، لاحتمال أن تكون الآية عامة مجملة؛ لأن المراد من اليد قد يكون إلى الكوعين أو المرفقين أو الكتف، فلا يمكن العمل بها إلا بعد ورود البيان. وهذا هو الفرق بين المطلق والمجمل، أن المطلق يمكن العمل به، ويمتثل بأي فرد من أفراده أما المجمل فلا يمكن العمل به إلا بعد البيان. منهاج العقول للبيضاوي مع شرحه للأسنوي والبدخشي 2/146-147. قلت: إن أريد بالإطلاق معناه العام أو حملت الأيدي على حقيقتها فلا إشكال في التمثيل بالآيتين المذكورتين. وإن أريد بالمطلق المعنى المصطلح عليه وهو الفرد الشائع، فالقول بالإجمال أظهر، إلا أن يكون هناك عرف خاص للشارع في لفظ اليد، فإن كان للشارع عرف في اليد فالمعول عليه؛ لأنه أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وأما السبب: فهو متحد فيهما، لأنه في الآيتين القيام إلى الصلاة أو إرادتها، وفي مثل هذه الحال وأمثالها اتفق العلماء دون خلاف يعتد به على أن المطلق لا يحمل على المقيد، بل يبقى المطلق على إطلاقه إلا إذا قيده دليل آخر، ويبقى المقيد على تقييده ما لم يرد دليل غير المطلق يدل على عدم اعتبار القيد الذي وجد معه وإلغائه1، وممن نقل هذا الاتفاق من المحققين الآمدي2، وابن الحاجب3، وعلاء الدين المرداوي4،   1 الأحكام للآمدي 3/4، وشرح البدخشي على منهاج العقول للبيضاوي 2/142، وتيسير التحرير لابن أمير الحاج 1/320، ومسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 1/361، والتوضيخ على التلويح 1/93، وأصول السرخسي 1/270، وكشف الأسرار 2/287، والتمهيد لأبي الخطاب الحنبلي لوحة: 69 مخطوط، وشرح الطوفي على مختصر الروضة 2/161 مخطوط بمكتبة الحرم المكي. 2 الأحكام 3/ 4. 3 مختصر المنتهى بشرح العضد 2/155. 4 التحرير للمرداوي مخطوط ص: 94. والمرداوي هو: علاء الدين علي بن سليمان بن أحمد المرداوي فقيه حنبلي أصولي، ولد سنة 817 ببلده مردا، وإليها ينسب ثم غادرها إلى الخليل فدمشق، وبها تلقى العلوم وبرع في كثير من الفنون، وإليه انتهت رئاسة المذهب الحنبلي، من أشهر مؤلفاته: الإنصاف في الفقه الحنبلي، والتنقيح المشبع في الفقه أيضاً، وتحرير المنقول في الأصول، توفي رحمه الله بدمشق سنة 885هـ. انظر: الأعلام 5/104، والفتح المبين في طبقات الأصوليين 3/153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 والشوكاني1. ولم يفرق الأصوليون بين حال الاتحاد في السبب وحال اختلافه، بل جعلوا مناط منع الحمل هو الاختلاف في الحكم، فمتى كان الحكم مختلفاً، امتنع الحمل سواء اتحد السبب كما في هذه الحالة أو اختلف كما في الحال السابقة. ولعل أدلة الأصوليين على عدم حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة هي الأدلة التي استدلوا بها على منع الحمل في حال اختلاف الحكم والسبب، من عدم وجود التنافي بين المطلق والمقيد، لاختلاف الحكم فيهما، والحمل إنما يكون عند وجود التنافي2، ولأن فائدة الحمل هي التخلص من تعدد الحكم وتعارضه، وإذا كان الحكم مختلفاً بالنص كما في هذه الحالة انتفت تلك الفائدة، وامتنع الحمل3، أضف إلى ذلك أن منع السبب الواحد للمتنافيين مشروط بكونه في وقت واحد وحالة واحدة، أما عند اختلاف الحالات كما هنا فلا مانع من ذلك، لأن السبب وإن   1 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 166. 2 روضة الناظر لابن قدامة ص: 137، ومنهاج العقول مع شرحيه 2/140-142. 3 شرح مختصر الروضة للطوفي 2/262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 اتحد في ذاته إلا أنه يختلف باعتبار حالته. لكن هذا الحال كما سبقت الإشارة إليها في شروط الحمل خالف في عدم حمل المطلق على المقيد فيها بعض الأصوليين، حيث نقل القرافي عن كثير من الشافعية القول بحمل المطلق على المقيد لاتحاد السبب بينهما وإن اختلف الحكم1. وجعل ابن السبكي2 وشارحه المحلي3 هذه الحال من الأحوال المختلف في حكمها، وذكر فيها الخلاف الجاري في حال اتحاد الحكم   1 تنقيح الفصول للقرافي ص: 266، شرح منهاج العقول للأسنوي 2/140. 2 ابن السبكي هو: قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي الباحث المؤرخ، فقيه أصولي، ولد سنة 727هـ، بالقاهرة ثم انتقل إلى دمشق وسكنها وتوفي بها سنة 771هـ بمرض الطاعون، له مؤلفات كثيرة منها: جمع الجوامع في الأصول، والأشباه والنظائر، وطبقات الشافعية الكبرى. ينظر في ترجمته: طبقات الأصوليين 1/284، والأعلام 4/325 ط 3 سنة 1398، وشذرات الذهب 6/221، طبع المكتب التجاري للطباعة والنشر بيروت. 3 المحلى هو: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم، المحلى الشافعي الأصولي المفسر، ولد بالقاهرة سنة 791 وبها توفي سنة 864، من كتبه: تفسير الجلالين، ثم أتمه الجلال السيوطي، وشرح المنهاج في فقه الشافعية، وشرح جمع الجوامع، وشرح الورقات في الأصول. انظر: الأعلام 6/230، وطبقات الأصوليين 3/40، وشذرات الذهب في أعيان من ذهب 7/303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 واختلاف السبب1 الآتية، والذي يبدو لي أن مذهب الجمهور الذي يقتضي عدم حمل المطلق على المقيد حال اتحاد السبب واختلاف الحكم هو المختار، إذ لا تعارض بين النصين إذا اختلف الحكم فيهما بالنص، لإمكان العمل بكل منهما في الموضع الذي ورد فيه، وليس في ذلك أيّ منافاة. الملاحظة الأخرى: أن هذه القاعدة - أعني عدم حمل المطلق على المقيد عند اختلاف الحكم - وإن كانت تقتضي بقاء الأيدي في التيمم على إطلاقها، فإن ذلك الإطلاق إنما هو بالنسبة إلى آية الوضوء، نظراً لاختلاف الحكم فيهما، أما تقييد الأيدي بأدلة أخرى غير آية الوضوء، فإن القاعدة لا تمعنه؛ لأن حمل المطلق على المقيد قائم على فرض انتفاء وجود الدليل من خارج النص المطلق أو المقيد، ولهذا فإن المذاهب المتفقة على منع تقييد الأيدي بالمرافق في آية التيمم حملاً لها على المقيد في آية الوضوء، قد قيد بعضهم2 الأيدي   1 جمع الجوامع مع شرح المحلى وحاشية البناني 2/51، وأصول الفقه للدكتور محمد مدكور ص: 210. 2 المالكية والحنابلة انظر: المغني 1/179، ومختصر خليل بشرح الخرشي 1/191 ط دار الفكر، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/240، ط إحياء التراث العربي بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 في التيمم بالكفين، وذلك لما صح عنده من السنة، وهو ما رواه عمار بن ياسر1 رضي الله عنه قال: "أجنبت فتمعكت في الصعيد وصليت، ثم ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما كان يكفيك هكذا، وضرب النبي بكفيه الأرض، ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه"2، وقيدها البعض الآخر بالمرفقين3، وذلك لما صح عنده من السنة، وهو ما رواه ابن عمر عن جابر - رضي الله عنهما - من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين"4، فكل من الفريقين   1 هو: عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العنسي أبو اليقظان مولى بني مخزوم، صحابي جليل مشهورمن السابقين الأولين إلى الإسلام، بدري قتل بصفين مع علي رضي الله عنه سنة 37هـ. تقريب التهذيب لابن حجر ص: 250. 2 متفق عليه، رواه البخاري في باب التيمم للوجه والكفين 1/93، دار إحياء التراث العربي، ومسلم في باب التيمم 1/280، رقم الحديث 110 دار إحياء التراث العربي، والنووي على مسلم 4/56-61، وينظر فتح الباري 1/443 باب التيمم للوجه واليدين وهل ينفسخ فيهما. 3 الحنفية والشافعية وينظر في ذلك الهداية مع فتح القدير 1/86 ط أولى الباب الحلبي 1389هـ، والأحكام لابن دقيق العيد 1/438 ط دار الكتب العلمية بيروت، والنووي على مسلم 4/56. 4 روى هذا الحديث الحاكم في المستدرك 1/178، مع التلخيص للذهبي ط دار الفكر، وقال: لا أعلم أحداً أسنده عن عبيد الله غير علي بن ظبيان وهو صدوق، وقال الحاكم: صحيح برواية جابر، وأخرجه البيهقي 1/122، ثم قال: ولكن ذكر في الخانية بعد ذكر طرق الحديثين السابقين في كيفية التيمم - يعني- (حديث عمار وحديث ابن عمر) إن الاحتياط يقتضي مسح الوجه ومسح اليدين إلى المرفقين خروجاً من الخلاف، والله أعلم. وفي سبل السلام 1/96 قال بعد ذكر الحديث: رواه الدارقطني وصحح الأئمة وقفه على ابن عمر، وفي بلوغ المرام من أدلة الأحكام لابن حجر مع تعليق محمد حامد ص: 260، رقم الحديث 139-140-141، قال بعد ذكر حديث عمار: أصح ما روي في التيمم حديث عمار الذي كان يفتي به بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فليس الذراعان من أعضاء التيمم، وقياسه على الوضوء في هذا باطل. وقال الحافظ: الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهم وحديث عمار، وحديث أبي الجهم ورد بذكر اليدين مجملاً، وأما حديث عمار فورد بلفظ الكفين في الصحيحين ا. هـ. وبهذا جزم البخاري في الصحيح فقال: باب التيمم للوجه والكفين فأتى بصيغة الجزم مع أن الخلاف فيه مشهور لقوة دليله، ثم قال: محمد حامد الفقي بعد ذكر حديث ابن عمر: وللاجتهاد فيه مسرح، فلا يصلح معارضاً لحديث عمار الصريح في عدم دخول اليدين إلى المرفقين في التيمم. يراجع للزيادة: نصب الراية 1/150-151، وإرواء الغليل للألباني شرح منار السبيل 1/186، والنووي على مسلم 4/56-61، المطبعة المصرية ومكتبتها، والأحكام لابن دقيق العيد 1/438. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 قيد إطلاق آية التيمم بما صح عنده من السنة، لا بآية الوضوء، ذلك أن وضع آية التيمم مع السنة الشريفة يختلف عن وضعها مع آية الوضوء، إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 إنها مع آية الوضوء تدخل في حال اختلاف الحكم واتحاد السبب المتفق لدى جمهور العلماء على عدم حمل المطلق على المقيد فيها، وأما مع السنة المذكورة فهي تدخل ضمن حال اتحاد الحكم والسبب المتفق على حمل المطلق على المقيد فيها، ذلك أن آية التيمم الكريمة وحديث عمار أو حديث ابن عمر قد اتحد فيها السبب وهو القيام إلى الصلاة أو إرادتها، واتحد فيهما الحكم أيضاً وهو وجوب المسح1.   1 تفسير الطبري 8/414، والمغني لابن قدامة 1/244-245، والمبسوط للسرخسي 1/107، والذخيرة للقرافي 1/353، والدسوقي على حاشية الدردير 1/155، وبداية المجتهد لابن رشد 1/68-69، وأسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 المطلب الثاني: في محل الاختلاف ونعني بمحل الاختلاف هنا أحوال المطلق والمقيد التي اختلف الأصوليون في حكم حمل المطلق على المقيد فيها، فيتضمن هذا المطلب الصور والحالات الآتية: الحال الأولى: الاتحاد حكماً والاختلاف سبباً: ومن أمثلة هذه الحال قوله -تعالى- في كفارة القتل الخطأ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 1، مع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2. فقد ورد لفظ الرقبة في الآية الأولى مقيداً بالإيمان، وورد في الآية الثانية مطلقاً عن ذلك القيد، والحكم فيهما واحد، وهو الأمر بتحرير رقبة، والسبب فيهما مختلف؛ إذ هو في الآية الأولى القتل الخطأ، وفي الآية   1 سورة النساء آية: 92. 2 سورة المجادلة آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الثانية الظهار1 مع إرادة العود2 لما قال. وقد اختلف علماء الأصول في حكم حمل المطلق على المقيد في هذه الحال وأمثالها: 1- فمن يرى أن بين المطلق والمقيَّد تعارضاً لاتحاد الحكم فيهما يقول: يدفع هذا التعارض بطريق حمل المطلق على المقيد، وهذا هو مذهب جمهور الأصوليين الذين يرون أن اتحاد الحكم يكون كافياً لوجود التعارض بينهما، ومن ثم القول بحمل المطلق على المقيد فيهما. 2- ومن لا يرى أن بينهما تعارضاً، لاختلاف السبب فيهما يقول: بمنع حمل المطلق على المقيد هنا؛ لأن من شرط حمل المطلق على المقيد وجود التنافي بين المطلق والمقيد، ومع الاختلاف في السبب لا يتحقق التنافي فيعمل بكل من المطلق والمقيد في الموضع الذي ورد فيه، فالمطلق يعمل به على إطلاقه، والمقيد يعمل به مع قيده، حتى يرد الدليل الصارف عن ذلك من خارج اللفظ المطلق أو المقيد، وهذا هو مذهب الحنفية، لكن   1 الظهار شرعاً: تشبيه الرجل زوجته بعضو يحرم النظر إليه من أعضاء أحد محارمه. المصباح المنير ص: 388 مادة (ظهر) . 2 العود اختلف الفقهاء فيما يراد به هنا، فقيل العزم على الوطء، وقيل: العزم على الإمساك، أو هو الإمساك نفسه، وقالت الظاهرية هو تكرار لفظ الظهار، القوانين الفقهية لابن جزئ الغرناطي المالكي ص: 268، طبعة جديدة منقحة عام 1979م دار العلم للملايين بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الجمهور الذين قالوا بحمل المطلق على المقيد في هذه الحال، اختلفوا في موجب الحمل ما هو؟ أهو اتحاد المطلق والمقيد في اللفظ فيكون حملاً من طريق اللغة، أم أن موجب الحمل وجود علة جامعة بين المطلق والمقيد؟ فيكون الحمل في هذه الحال وأمثالها عن طريق القياس. وبناء على هذا التفصيل للجمهور يكون لعلماء الأصول في حكم هذه الحال ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: القول بمنع حمل المطلق على المقيد مطلقاً، أي: سواء أكان بطريق اللغة أم القياس، وبه قال جمهور الحنفية1 وحكي عن بعض علماء المالكية2   1 أصول السرخسي 1/268، والتوضيح مع التلويح 1/63، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 2/287. 2 مفتاح الوصول إلى علم الأصول للشريف التلمساني ص: 79 حيث يقول: "أما إن اختلف السبب واتحد الحكم؛ فإنه يحمل المطلق على المقيد عندنا بجامع، وقيل: بغير جامع، ولا يحمل إن لم يكن جامعاً"، وروى ابن نصر المالكي كما يقول الشوكاني: "عدم حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحال". تنقيح الفصول للقرافي ص: 267، كما روى عنه أيضاً أنه قد روى عن مالك ما يحتمل الحمل بطريق اللغة أو القياس المسودة لآل تيمية ص: 145 والذي اختاره ابن الحاجب هو الحمل في هذه الحال بطريق القياس - مختصر ابن الحاجب 2/156، وفي مراقي السعود مع شرحها نشر البنود يقول مشيراً إلى هذه المسألة: وحيثما اتحد واحد فلا يحمله جل العقلاوهذا يخالف ما اختاره ابن الحاجب، فليحقق ذلك ويحرر مذهب المالكية في هذه المسألة، وينظر في ذلك التمهيد للأسنوي ص: 415، والعدة لأبي يعلى 2/638. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 والحنابلة1. المذهب الثاني: القول بحمل المطلق على المقيد مطلقاً، ومرادهم أنه لا يشترط فيه تحقق علة جامعة بين المطلق والمقيد، وإنما الشرط وجود مطلق ومقيد لغويين في الكتاب والسنة، وبه قال كثير من الشافعية2،   1 المسودة ص: 145، وهي رواية لأبي الحارث عن الإمام أحمد إلا أن نصها جاء في التيمم والوضوء حيث روى عنه أبو الحارث أنه قال: "التيمم ضربة للوجة والكفين"، فقيل له: أليس التيمم بدل الوضوء والوضوء إلى المرفقين، فقال: إنما قال الله تعالى: {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} ولم يقل إلى المرفقين، وقال في الوضوء إلى المرفقين، فظاهر هذا أنه لم يبن المطلق في التيمم على المقيد في الوضوء، وحمله على إطلاقه. العدة 2/638. 2 الأحكام للآمدي 3/5، وتنقيح الفصول للقرافي ص: 266، والبرهات للجويني مخطوط، نشر البرهان حديثاً بتحيق د. عبد العظيم الديب كلية جامعة قطر وطبع على نفقة أميرها 1399هـ، والمحصول للرازي مخطوط ونشر المحصول أيضاً حديثاًَ بتحقيق د. طه جابر فياض العلواني ط أولى 1399 (لجنة البحوث والتأليف والترجمة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رقم الكتاب (213) وشرح منهاج العقول للأسنوي 2/129، والتمهيد للأسنوي 415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وبعض المالكية1 والحنابلة2.   1 مفتاح الوصول إلى علم الأصول للشريف التلمساني ص: 79، والمسودة ص: 145 ويقارن برواية ابن نصر عن مالك حيث يقول: "قد روي عن مالك ما يحتمل أن يكون أراد أن المطلق يتقيد بنفس تقيد المقيد، ويحتمل أن يرد إليه قياساً المسودة ص: 145. 2 المسودة لآل تيمية ص: 145، والمغني لابن قدامة 9/214، والإنصاف للمرداوي 8/22، وهذه الرواية اختارها القاضي أبو يعلى حيث يقول: "وإن كان الجنس واحداً والسبب مختلفاً كالرقبة في كفارة القتل الخطأ والظهار، فإن الرقبة جنس واحد، قيدت بالإيمان في كفارة القتل وأطلقت في كفارة الظهار، وهما سببان مختلفان فهذا على روايتين، إحداهما يبنى المطلق على المقيد من طريق اللغة، وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب، فقال: أحب إلى أن يعتق في الظهار مسلمة، واحتج من قال بذلك بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} وقال في موضع آخر: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} ، ولم يذكر عدلاً. ولا يجوز إلا عدل ثم قال: وظاهر هذا أنه بنى المطلق على المقيد من طريق اللغة كما بنى الإطلاق في العدالة على المقيد فيها. انظر: الواضح لابن عقيل مخطوط والعدة 2/638، والذي يبدو أن هذا الكلام من أبي يعلى اجتهاد منه يدل على ذلك كلام المرداوي حيث يقول: بعد نسبة القول بالحمل قياساً إلى الإمام أحمد (ولا يحمل عليه لغة عند أحمد ثم قال: وعن أحمد رواية يحتمل اختارها القاضي. التحرير للمرداوي مخطوط لوحة: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 المذهب الثالث: القول بحمل المطلق على المقيد بطريق القياس المستجمع لشروطه وأركانه، وهو قول المحققين من الشافعية1   1 الأحكام للآمدي 3/ 4، ومنتهى السول له أيضاً ص: 55، والمحصول للرازي مخطوط. وقد صحح هذا القول الآمدي وفخر الإسلام الرازي وأتباعهما كما نقل ذلك الأسنوي في التمهيد ص: 415 حيث روى عن الآمدي أنه قال: "هو الأظهر من مذهبه أي: إن الأظهر من مذهب الشافعي الحمل بطريق القياس"، وقال الرازي: "هو القول المعتدل، وهو مذهب المحققين منا ثم قال: ولا ندعي وجوب هذا القياس، بل ندعي أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا". المحصول للرازي مخطوط. وقد قال الإمام الشافعي نفسه: "إذا وجبت كفارة الظهار على الرجل وهو واجد لرقبة أو ثمنها لم يجزه فيها إلا تحرير رقبة، ولا يجزئه على غير دين الإسلام، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} في القتل الخطأ، فكان شرط الله تعالى في رقبة القتل إذا كانت كفارة كالدليل، والله أعلم على أن لا يجزئ رقبة في الكفارة إلا مؤمنة، كما شرط الله سبحانه وتعالى العدل في الشهادة في موضعين، وأطلق الشهود في ثلاثة مواضع، فلما كانت شهادة كلها اكتفينا بشرط الله عز وجل فيما شرط فيه، واستدللنا على أن ما أطلق من الشهادات - إن شاء الله - على مثل معنى ما شرط، وإنما رد الله عز وجل أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين. فمن أعتق في ظهار غير مؤمنة، فلا يجزئه، وعليه أن يعود فيعتق مؤمنة. الأم للشافعي 5/280، فحمل المطلق على المقيد قياساً هو مذهب المحققين من الشافعية، وهو الأظهر من كلام الشافعي، لأن قوله: وكان شرط الله عز وجل في رقبة القتل إذا كانت كفارة كالدليل على أنه لا يجزئه رقبة في الكفارة إلا مؤمنة، وقوله: واستدللنا على أن ما أطلق من الشهادات على مثل معنى ما شرط، ظاهر في أن الإمام الشافعي أراد الحمل من طريق القياس يؤيد هذا الفهم ما نقله الغزالي عن الشافعي حيث يقول: قال الشافعي: "إن قام دليل حمل عليه ولم يكن فيه إلا تخصيص العموم، وهذا هو الطريق الصحيح"، المستصفى مطبوع مع مسلم الثبوت 2/186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 والمالكية1 والحنابلة2.   1 مفتاح الوصول إلى علم الأصول للشريف التلمساني ص: 79، ومختصر ابن الحاجب 2/156، وإرشاد الفحول ص: 165، وسبق التنبيه على التحقيق في مذهب المالكية حيث يقول الشوكاني نقلاً عن القاضي عبد الوهاب وأكثر المالكية ذهبوا إلى عدم الحمل. 2 المسودة لآل تيمية ص: 145، والتحرير للمرداوي ص: 95، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص: 216. قال المرداوي: "وإن اختلف سببهماكالرقبة في الظهار والقتل حمل المطلق عليه قياساً بجامع بينهما عند أحمد وأصحابه" التحرير لوحة: 95. وقال ابن قدامة: "المطلق يحمل على المقيد من جهة القياس إذا وجد المعنى فيه" المغنى 8/22. وقال أبو البركات: "فأما حمله عليه قياساً لعلة جامعة فجائز عندنا" المسودة ص: 145. وقال الفتوحي: "يحمل المطلق على المقيد قياساً بجامع بينهما عند أحمد والشافعي رحمهما الله، وأكثر أصحابنا كتخصيص العموم بالقياس". شرح الكوكب المنير ص: 216. ومن هذه الأقوال عن أئمة المذهب الحنبلي يظهر أن حمل المطلق على المقيد بجامع في مثل هذه الحال هو مذهب أكثر أصحاب أحمد والمحققين منهم، وأما رواية الحمل بطريق اللغة فليست أمراً قاطعاً، بل الظاهر أنه اجتهاد من أبي يعلى حيث يقول بعدها - والظاهر أنه بني من طريق اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أدلة المذاهب: أولاً: أدلة القائلين بالمنع مطلقاً. استدل القائلون بمنع حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم واختلاف السبب بعدة أدلة منها1: 1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} 2. ووجه الدلالة من الآية أن المطلق ساكت عن القيد وفي الرجوع إلى المقيد ليعرف منه حكم المطلق إقدام على هذا المنهي3.   1 أصول السرخسي 1/268، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 2/291، ومسلم الثبوت 1/365، والتوضيح مع التنقيح 1/64، والمنار مع حواشيه ص: 568، وتيسير التحرير 2/40. 2 سورة المائدة آية: 101. 3 أصول السرخسي 1/268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وقالوا أيضاً: إن معنى هذه الآية هو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" 1. وأجاب الجمهور عن ذلك بأن قالوا: لا دلالة في الآية والحديث على منع حمل المطلق على المقيد؛ لأن الآية الكريمة والحديث الشريف وردا حثاً للمسلمين على التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت السؤال، ونهياً لهم عن أن يسألوا عما ترك الرسول تفصيل حكمه، لئلا يودي سؤالهم إلى نزول تكاليف تشق عليهم وتعنتهم2، ولم يكن هناك مقيد شرعه الشارع رجعوا إليه ليعرفوا منه حكم المطلق، وإنما سألوا عن تقييد الحكم ابتداء كما في قصة الرجل الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن فريضة الحج، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أيها الناس   1 رواه مسلم في صحيحه في كتاب الحج انظر مسلم مع النووي 9/100 - 101، والإمام أحمد 2/247 المكتب الإسلامي. والبيهقي في السنن الكبرى 4/326 دار المعرفة ط أولى سنة 1352هـ. وقال الألباني في إرواء الغليل شرح منار السبيل 1/183، رقم الحديث: 155، بعد أن أخرج الجملة الأولى منه: صحيح، وتمامه "فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". 2 تفسير ابن كثير 2/105 ط دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". وقد ذكر ابن كثير1 هذه الحادثة سبباً لنزول الآية السابقة2 فمثل: هذه الأسئلة هي التي ورد النهي عنها، أما الرجوع إلى المقيد ليعلم منه حكم المطلق، لما بينهما من علاقة بعد أن تم الدين وانقطع الوحي فلا يتجه إليه النهي، بل هو التفقه في الدين حسب قواعد استنباط الأحكام، وقد أمرنا الله بسؤال العلماء عما خفي علينا حُكْمُه قال -تعالى-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} 3، فهذه الآية صريحة في وجوب السؤال عما   1 ابن كثير هو: إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، الفقيه الحافظ المؤرخ أبو الفداء عماد الدين، ولد في قرية من أعمال بصرى في الشام سنة 701هـ وانتقل إلى دمشق سنة 706، ومن كتبه: البداية والنهاية في التاريخ، وتفسير القرآن الكريم، والباعث الحثيث إلى معرفة علوم الحديث، توفي رحمه الله سنة 774هـ. الإعلام 2/317، طبقات الأصوليين 2/179 - 184. 2 تفسير ابن كثير 2/155. 3 سورة النحل آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 خفي حكمه، فلا يكون منهياً عنه، كما ادعى هذا الفريق. واستدلوا ثانياً: وقالوا: لو حمل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم واختلاف السبب للزم من ذلك أمران محظوران. أولهما: مخالفة ما هو الأصل في المطلق والمقيد من غير حاجة، وبيان ذلك أن حمل المطلق على المقيد لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن العمل بكل منهما مستقلاً، وذلك عندما يكون بينهما تناف، ويكون العمل بكل واحد منهما على حدة مدعاة إلى التناقض، وهذه الحال بمأمن من ذلك، لأن السبب فيهما مختلف1، ومع اختلاف السبب لا يوجد التنافي والتضاد، بل قد يكون الداعي إلى الإطلاق والتقييد هو اختلاف السب فيهما2، وبناء على ذلك يكون حمل المطلق على المقيد في هذه الحال حملاً من غير حاجة، فلا يجوز لمخالفته لما هو الأصل فيهما، وهو بقاء المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده.   1 أصول السرخسي مع كشف الأسرار 1/288، والتوضيح 1/64، وتنقيح الفصول للقرافي ص: 268. 2 أصول البزدوي 2/288، والتوضيح 1/64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الأمر الثاني: أن حمل المطلق على المقيد في هذه الحال وأمثالها يؤدي إلى التضييق والحرج وكلاهما مناف للشريعة السمحة، بيان ذلك أن المطلق فيه توسعة على المكلف حيث يقتضي خروجه عن العهدة بالإتيان بالفرد الذي توفر فيه القيد أو غيره، وفي إلزامه بالفرد المقيد الذي يتضمنه حمل المطلق على المقيد تضييق وحرج، وهذا ينافي مبدأ التسامح والتيسير في الشرع، فلا يصار إليه، لقوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1. وقد أجيب عن الأمر الأول: بأن ما يقتضي حمل المطلق على المقيد متحقق وموجود في هذه الحال، وهو مطلق التنافي، ذلك أن المطلق والمقيد قد وردا في حكم واحد، والحكم الواحد لا يكون مطلقاً ومقيداً في آن واحد للتنافي بينهما، وهذا يستدعي جعل المقيد أصلاً يبنى عليه المطلق، ويبين بواسطته، لسكوت المطلق عن القيد، ونطق المقيد به، وهذا ما يجعل القيد ذا فائدة متوخاة. علماً أن الجامع المقتضى للقياس الصحيح موجود في هذه المسألة، وهو في كفارة الظهار والقتل الخطأ التكفير بتحرير رقبة واجبة.   1 سورة الحج آية: 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وأما الاعتراض الثاني: وهو لزوم الحمل التضييق والحرج. فإنما يتجه على مذهب القائلين بالحمل مطلقاً أي: لمجرد وجود مطلق ومقيد لغويين في الكتاب والسنة، وهذا الاتجاه على مذهبهم لا يضر الجمهور؛ لأن مذهب القائلين بالحمل عن طريق اللغة مردود كما سيأتي. وأما على رأي المحققين من الجمهور الذين يقولون إن حمل المطلق على المقيد في هذه الحال موقوف على وجود الدليل؛ فلا يرد عليهم القول بأن في حمل المطلق على المقيد في هذه الصورة تضييقاً بدون أمر الشارع، وذلك لما نقل الإمام الرازي عنهم: "أنهم لا يدعون وجوب الحمل في مثل هذه الحال مطلقاً، بل يقولون: إذا توفر القياس الصحيح وكانت علته ثابتة، بطريق مقطوع به -كالنص والإجماع، جاز أن يحمل المطلق على المقيد وإلاَّ فلا. وعليه فليس هناك أي تناف بين الدليل الذي يقتضي حمل المطلق على المقيد، وقاعدة نفي الحرج عن الشرع، لأن الجمع بينهما ممكن وميسور، ذلك أن القواعد الكلية في الشريعة، غالباً ما يرد عليها التخصيص والاستثناء، فيكون دليل جواز الحمل في هذه الصورة مخصصاً لتلك القاعدة العامة". يقول الشوكاني -مؤيداً لرأي الجمهور وراداً على القول بالحمل عن طريق اللغة: "ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما بجهة الحمل، ولا نحتاج في مثل ذلك إلى هذا الاستدلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 البعيد، فالحق ما ذهب إليه القائلون بالحمل"1 أي قياساً. ثم رد الحنفية أدلة القائلين بالحمل من طريق القياس كما سيأتي. فقالوا: إن من شروط القياس التي لا يوجد بدونها عدم معارضة نص له، وفي هذه المسألة قد عارض القياسَ النَّصُ المُطلقُ؛ فإنه يدل على إجزاء المقيد وغيره؛ فلا يجوز أن يثبت بالقياس عدم إجزاء غير المقيد لانتفاء صحة القياس2. ودفع هذا الاعتراض: بأن معارضة القياس للنص في حيز المنع، ذلك أن المعدى هو وجوب القيد المنطوق به في كفارة القتل الخطأ، وهو الإيمان والمقيس عليه، وهو المطلق ليس نصاً في إجزاء الكافرة، بل هو ساكت عن القيد، يتناول الكفارة بوصف الإطلاق مع احتمال إرادة التقييد، فالنص في كفارة الظهار يدل على وجوب المطلق أعم من كونه في ضمن المقيد أو غيره، وليس ذلك كالتنصيص على إجزاء الكافرة، فنكون قد قسنا ما سكت عن الإيمان فيه على ما نطق فيه بالإيمان، وليس في هذا القياس معارضة للنص المطلق كما يدعى؛ لأن المطلق ساكت عن القيد، إذ هو لا يثبته ولا ينفيه3.   1 إرشاد الفحول ص: 165، والأحكام للآمدي 2/112، والتوضيح مع التلويح 1/64. 2 أصول البزدوي مع كشف الأسرار 2/291، وأصول السرخسي 1/268. 3 تيسير التحرير لابن أمير الحاج 1/3337، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 2/87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وقالوا أيضاً: إن الحكم في هذه المسألة مما لا يعرف بالقياس بالإجماع، لأنه يرجع إلى إثبات قدر الكفارة، ذلك أن زيادة التقييد بالإيمان في حكم القدر؛ فلا يجوز إثباته بالقياس كما لا يجوز إثبات القدر به1. والجواب عن ذلك يتم من وجهين: الأول: إن دعوى الإجماع غير صحيحة؛ لأن مذهب الإمام أحمد بن حنبل والشافعي2 جواز جريان القياس في الكفارات والمقدرات إذا علم علة   1 المرجع السابق الأخير 2/287، قال في العدة: عن هذا الاعتراض ... والجواب أن هذا ليس بقياس المنصوص على المنصوص، وإنما هو حمل المسكوت عنه على المنصوص عليه 2/646. 2 الشافعي هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف بن قصي، وكنيته أبو عبد الله، ونسبته إلى جده شافع، قيل ولد بغزة سنة 150هـ ثم ذهبت به أمه إلى مكة موطن آبائه وأجداده، حفظ القرآن في سن السابعة ثم ذهب إلى البادية وتعلم الشعر في قبيلة هذيل لشهرتها بالفصاحة والبيان. سافر الشافعي عدة سفرات في بلدان متفرقة، وكون المذهب الشافعي أولاً في العراق، ثم لما رحل إلى مصر تغيرت عليه البيئة فرجع عن بعض المسائل التي كان يفتي فيها بالعراق، بما يخالف عادات مصر فقيل: في مذهبه في العراق المذهب القديم، وما كوّنه في مصر المذهب الجديد، له عدة مؤلفات منها: الأم في الفقه، ورسالة في الأصول وهي أول ما دون في أصول الفقه، توفي الشافعي رحمه الله سنة 204هـ. طبقات الأصوليين 1/127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ذلك ولم يمنع منه مانع1، قال أبو الحسين2 البصري: "ويبعد أن تظهر في التقديرات والأعداد علة، وأما الكفارات فلا يبعد أن تظهر علتها، فيقاس عليها غيرها بتلك العلة"3. ثم إن قوله إن الوصف زيادة معنى كالقدر غير مسلم، لأن كون الوصف زيادة معنى لا يجعله كالقدر، لأن الوصف في الغالب منضبط ومعقول العلة بخلاف القدر؛ فإنه لا ينضبط في الغالب وقلما تدرك علته.   1 روضة الناظر لابن قدامة ص: 181. 2 أبو الحسين هو: محمد بن علي الطيب البصري، أحد أئمة المعتزلة ولد بالبصرة، ونشأ بها ثم رحل إلى بغداد وسكنها، وكان يشار إليه بالبنان في علمي الأصول والكلام، من تصانيفه كتاب المعتمد في الأصول وهو كتاب جليل اعتمد عليه المؤلفون بعده، توفي رحمه الله في بغداد سنة 436. طبقات الأصوليين 1/237. 3 المعتمد 2/796، وأصول السرخسي 1/245، والتمهيد لأبي الخطاب الحنبلي ص: 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الوجه الثاني: أن يقال: للحنفية: إنكم أوجبتم الكفارة على من أكل في نهار رمضان، قياساً على الواطئ فيه، وهذا يخالف قاعدتكم أنه لا يجوز أن تثبت الكفارات بالقياس، فإن قالوا: إنا لم نثبت ذلك بالقياس، وإنما أثبتناه بطريق الدلالة1 وهي ترجع إلى النص؛ لأن العلة في إيجاب الكفارة على الصائم الذي أفسد صومه في رمضان ليس الوطء، وإنما هي: "الجناية على الصوم بإفساد ركنه، وهو الإمساك عن شهوة البطن والفرج". وهذه العلة يفهمها كل من كان عارفاً باللغة، ولا تحتاج في   1 دلالة النص: عند الحنفية هي: الجمع بين المنصوص وغير المنصوص بالمعنى اللغوي. كشف الأسرار 1/73. وعرفها حمد الكبيسي بأنها: دلالة النص على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه لاشتراكهما في علة يفهمها كل عارف باللغة فهماً متبادراً لا يحتاج إلى تأمل وبحث، أنها مناط الحكم وعلته، ويقول عبد العزيز البخاري في الكشف: دلالة النص هي: فهم غير المنطوق من المنطوق بسياق الكلام ومقصوده، ويقول البزدوي: "وأما الثابت بدلالة النص فما ثبت بمعنى النص لغة لا اجتهاداً، ولا استنباطاً". كشف الأسرار 1/73، وأصول الأحكام حمد الكبيسي ص: 268، وتسمى عند الجمهور بمفهوم الموافقه، أو قياس الأولى، ونسب إلى الشافعي تسميتها بالقياس الجلي، وسيأتي الكلام علي مفهوم الموافقة في مبحث المفهوم المخالف. حواشي المنار ص: 252، وتفسير النصوص لأديب صالح ص: 516 - 517، والتوضيح على التنقيح 1/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 استخراجها إلى بحث واستنباط، فلا تكون من القياس الذي مبناه على استنباط العلة، ثم إن هذا المعنى الذي وجبت الكفارة على الصائم من أجله موجود في الأكل بلا نقصان فأوجبنا الكفارة على الآكل لتحقق المعنى الذي وجبت الكفارة لأجله فيه. والجواب عن ذلك أن يُقال: أولاً: لا فرق بين إثبات علة الكفارة على من أكل وشرب في نهار رمضان بطريق دلالة النص، وقول المحققين من جمهور الأصوليين الذين يقولون بجواز حمل المطلق على المقيد بالقياس الصحيح الذي ثبتت علته بطريق مقطوع به، كالنص والإجماع1، إلا في التسمية والاصطلاح، وذلك لا يضر؛ لأن دلالة النص عند الحنفية والقياس المقطوع بعلته شيء واحد عند التحقيق2. ثانياً: سلمنا أن دلالة النص غير القياس، ولكن ذلك مشروط بنوع خاص من الدلالة، وهو ما كانت العلة فيه مقطوعاً بها، قال عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار: "ثم إن كان المعنى المقصود معلوماً قطعاً كما   1 الأحكام للآمدي 3/ 4. 2 المنار للنسفي مع حواشيه ص: 531، والمعتمد لأبي الحسين 2/796، حيث يقول: ولا يعصمهم من ذلك أن يمنعوا من تسمية ذلك قياساً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 في تحريم التأفيف فالدلالة قطعية، وإن احتمل أن يكون غيره هو المقصود كما في إيجاب الكفارة على المفطر بالأكل والشرب فهي ظنية"1. وحيث كان أهم عنصر اعتمد عليه القائلون بالفرق بين الدلالة والقياس أن العلة في دلالة النص قطعية، يفهمها كل من كان عارفاً باللغة، ولا تحتاج إلى اجتهاد واستنباط2، وفي القياس ظنية وخفية تحتاج إلى بحث واستنباط وشروط لا تتوفر إلا فيمن كان من أهل الاجتهاد. أقول: وحيث إن العلة في مسألتنا كما يقول صاحب كشف الأسرار "ظنية" لاختلاف العلماء في فهمها، فلا تكون من قبيل الدلالة التي ترجع إلى النص لغة، وإنما هي من قبيل القياس لظنيتها واختلاف العلماء في فهمها، وبناء على ذلك يبطل قول الحنفية بأن الكفارة لا تثبت بطريق القياس، حتى ولو سلم أن دلالة النص القطعية ليست من قبيل القياس، ذلك أن مسألة إيجاب الكفارة على من أكل أو شرب في رمضان ليست من قبيل الدلالة القطعية، بل من قبيل دلالة النص الظنية، وهذه الدلالة والقياس سيان3.   1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/73، وتفسير النصوص لأديب صالح 1/226. 2 المعتمد لأبي الحسين البصري 2/797. 3 تفسير النصوص 1/531، 532، 540، وروضة الناظر ص: 181، ومناهج الأصوليين لفتحي الدريني 1/334 - 335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وقالوا ثالثاً: إن إثبات القيد في اللفظ المطلق بالقياس زيادة على النص يلزم منها رفع ما اقتضاه المطلق، وهو في مسألتنا إجزاء المؤمنة والكافرة، فيكون نسخاً، ونسخ ما هو ثابت بطريق قطعي لا يجوز بالقياس1 وسيأتي الجواب عن ذلك في مسألة الزيادة على النص. ومن اعتراضاتهم أيضاً: أن قياس كفارة الظهار وكفارة اليمين على كفارة القتل الخطأ قياس مع الفارق، ووجه الفرق أن حكم القتل الخطأ وجوب التحرير والصوم على الترتيب مقتصراً عليهما، وحكم الظهار وجوب التحرير والصوم والإطعام، وهذا فيه مفارقة لحكم القتل الخطأ؛ لأنه لا مدخل للإطعام في كفارة القتل، وكذلك حكم اليمين وجوب البر، ثم الكفارة بأحد الأشياء الثلاثة، ثم صوم ثلاثة أيام وهو مفارق لحكم القتل أيضاً، ففي كل من كفارة الظهار واليمين ضرب من التيسير وليس هذا النوع من التيسير موجوداً في القتل، فلا يقاس ما فيه تخفيف على ما فيه تغليظ2.   1 المعتمد 1/113، وكشف الأسرار 2/293، والتوضيح مع التلويح 1/65. 2 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/292 - 293. قال في العدة: "إن هذا ليس بزيادة، وإنما هو تخصيص، ونقصان لأن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} شائع في الجنس، مؤمنة وكافرة، سليمة ومعيبة، وقوله لا يجزئ إلا مؤمنة نقصان، فهو كما لو قال: أعط درهماً من شئت من هؤلاء العشرة، فإذا قال إلا زيداً فلا تعطه، فهذا نقصان وتخصيص كذلك هاهنا على أنها لو كانت زيادة في النص لم تكن نسخاً، وإنما هي زيادة حكم، لأن النسخ هو الإسقاط، فإن قيل: إن الخصوص إنما يرد على الأعيان المنطوق بها دون المعاني التي لم ينطبق بها، وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} هو المنطوق به، فأما صفاتها مؤمنة أو كافرة، سليمة أو معيبة، فما تناولها اللفظ. والجواب أن التخصيص ما دخل إلا على الأعيان، لأن قوله {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} شائعة في الجنس أي رقبة كانت، فإذا قلنا: إلا مؤمنة كان تخصيص الأعيان، فكأنه أخرج من هذا الشائع في جنسه عيناً موصوفة، فالتخصيص دخل على الأعيان، فهذا مثل من قال: أعط درهماً من شئت من هؤلاء العشرة إلا الفقيه منهم، فإنه قد أخرج منهم واحداً موصوفاً فكذلك ههنا، إذا قال: أعتق رقبة إلا كافرة أخرج رقبة موصوفة. العدة 2/646. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ثانياً: أدلة القائلين بالحمل المطلق: استدل القائلون بحمل المطلق على المقيد بطريق اللغة بأدلة منها: 1- قالوا: إن القرآن كالكلمة الواحدة، فلا يختلف بالإطلاق والتقييد، بل يفسر بعضه بعضاً، لأنه في حكم الخطاب الواحد، وحيث كان الخطاب الواحد يترتب فيه المطلق على المقيد، بمعنى أنه إذا نص على تقييد شيء منه بقيد ما، كان ذلك تنصيصاً على تقييده به في سائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الصور، كذلك المطلق والمقيد في كتاب الله، لأنه في حكم الخطاب الواحد. يبين صحة ذلك أن الصحابة - رضوان الله عليهم - جعلوا القرآن بمنزلة الآية الواحدة، يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - 1 أنه قال للخوارج2 لما احتجوا عليه بآية من القرآن قال لهم:   1 ابن عباس هو: عبد الله بن عباس بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الرواة المكثرين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد روى عنه 1660 حديثاً كان مولده قبل الهجرة بثلاث سنوات، دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين، وكان يلقب بترجمان القرآن، توفي بالطائف سنة 68هـ. 2 الخوارج: كما يقول الشهرستاني في كتاب الملل والنحل 1/114: كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفق عليه الجماعة يسمى خارجياً سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كل مكان. وكان أول ظهور هذه الفرقة الضالة في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في حرب صفين وكان من رأيهم قبول التحكيم، وقد حملوا علي بن أبي طالب على قبوله في أول الأمر قائلين: "القوم يدعوننا إلى كتاب الله، وأنت تدعونا إلى السيف"، ثم صارت بعد ذلك فرقاً شتى يجمعها القول بالتبرئ من عثمان وعلي -رضي الله عنهما- ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك، ويكفرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقاً واجباً. راجع في هذا الفصل في الملل والنحل والأهواء لابن حزم 1/154ط دار المعرفة سنة 1395هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 من فاتحته إلى خاتمته ومعناه يجب أن يلتزم جميع ما فيه1. وقد أجيب عن هذا الدليل: أن ذلك مسلم، ولكنه مشروط بوجود الدليل أما أن يكون الحمل   1 العدة للقاضي أبي يعلى 2/644 هكذا أورد الدليل القاضي وهو غير واضح، ومراد المستدل أن ابن عباس أنكر على الخوارج تمسكهم بظاهر قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} حيث ترى الخوارج أن كل من رضي بالتحكيم أو صوبه فهو كافر لإنكاره ظاهر هذه الآية، التي تدل على أن جميع أنواع الحكم لله وحده وهؤلاء الذين رضوا بالتحكيم يجعلون أمر المسلمين إلى رأي الرجال، فكأن ابن عباس يقول لهم: إن كنتم صادقين في تمسكهم بالقرآن وحده، فاقرأوا القرآن من أوله إلى آخره، وتمسكوا به جميعاً، وستجدون فيه آيات توضح وتفسر هذه الآية، وتدل على جواز الاصلاح بين المسلمين. وأصحاب هذا الدليل يقولون: إن ابن عباس حمل المطلق على المقيد وقال من أوله إلى آخره، فأخذوا من ذلك أن ابن عباس يرى حمل المطلق على المقيد بمجرد الورود. ولا يسلم لهم ذلك بدليل أنه ذكر لهم بعض الأدلة المقيدة لهذه الآية، كترك الرسول صلى الله عليه وسلم كتابة بسم الله الرحمن الرحيم، في صلح الحديبية، لما قال له المشركون: لا نعرف إلا رحمان اليمامة فقال: اكتب باسم محمد بن عبد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 لمجرد الورود فقط من غير حاجة إلى دليل، فغير صحيح، ثم إن هذا الدليل خارج عن محل النزاع لأن كون القرآن كالكلمة الواحدة لا يستلزم حمل المطلق على المقيد مطلقاً، لأن معنى كونه كلاماً واحداً يفسر بعضه بعضاً أنه لا يتناقض، وإلا لو أريدت الوحدة المطلقة، لورد عليه المطلق والمقيد اللذان اختلف حكمهما وسببهما وقد بينا فيما سبق اتفاق العلماء ومنهم المستدلون بهذا الدليل على عدم حمل المطلق على المقيد في تلك الحال وهي حالة لو أخذ الدليل على عمومه لاندرجت فيه ومقتضى ذلك حمل المطلق على المقيد فيها. أضف إلى ذلك أن الإطلاق والتقييد لا ينافي وحدة الكلام؛ لأنه مبني على اختلاف تعلقات الكلام، واختلاف التعلقات لا بد منه، نظراً لاختلاف المتعلقات وعلى هذا فإن الإطلاق والتقييد لا يؤدي إلى التناقض الذي يقدح في وحدة الكلام1، ثم إن هذا الدليل لو تم، لأدى إلى نفي النسخ مطلقاً؛ لأن نفي الاختلاف عموماً يؤدي إلى نفي النسخ في ضمنه فيكون باطلاً؛ لأن وجود النسخ من المسَلَّمَات في الشريعة، والناسخ يختلف عن المنسوخ؛ فيكون هذا الدليل على عمومه غير مسلم، وخاصة   1 التمهيد للأسنوي ص: 415، والبرهان للجويني مخطوط، وإرشاد الفحول ص: 165، وأبرز القواعد المؤثرة في اختلاف الفقهاء د. عمر عبد العزيز ص: 92، القسم المقرر على السنة الأولى التمهيدية بالدراسات العليا بالجامعة عام 1389هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 إذا علمنا أن الكلام ما هو إلا الألفاظ الدالة على المعاني، ولا خفاء في تكثرها وتعددها. وكذلك القرآن والسنة فيهما الأحكام المختلفة ففيهما المنفي والمثبت والأمر والنهي وغير ذلك ومع العلم بهذا كله فقد لا يقبل حمل خطاباته المختلفة على حكم واحد1. واستدلوا أيضاً: فقالوا: إن حمل المطلق على المقيد يتمشى مع سنن العرب في كلامها، حيث تطلق الحُكْمَ في موضعٍ وتقيِّدُه في موضع آخر، ومرادها بالمطلق المقيد، ويكون ذلك من جنس المحذوف الذي دل الكلام على تقديره. قال الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عند ... ك راض والرأي مختلف2   1 العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى ص: 640. 2 هذا البيت نسبه سيبويه في كتابه 1/37-38 إلى قيس بن الحطيم، واستشهد به المبرد في كتابه المقتضب 3/112، ولم ينسبه لأحد، أما البغدادي في كتابه خزانة الأدب 4/283، مع تحقيق عبد السلام هارون، فقد نسبه إلى الشاعر عمرو بن امرئ القيس، ثم بين غلط من نسب البيت إلى قيس بن حطيم لقوله، وعرف من إيرادنا لهذه القصائد ما وقع من التخليط بين هذه القصائد كما فعل ابن السيد واللخمي في شرح أبيات الجمل، وتبعهما العيني والعباسي في شرح أبيات لتلخيص، فإنهم جعلوا ما نقلناه من شعر قيس بن الحطيم مطلع القصيدة ثم أورد فيها البيت الشاهد، والحال أن هذا البيت من قصيدة عمرو بن امرئ القيس. راجع بالإضافة إلى ما سبق تعليق الأستاذ محمد عبد الخالق عظيمه على هامش مقتضب 3/113-122، والعدة في أصول الفقه 2/641 تحقيق د. أحمد بن علي سير المباركي ط ألوى سنة 1400هـ مؤسسة الرسالة بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ففي هذا البيت كلاماً محذوفاً في قوله: (نحن بما عندنا) وتقديره راضون1، وقد دل على هذا التقدير قوله: (وأنت بما عندك راض) . وقول الآخر: وما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني2 فإن في البيت الأول كلاماً محذوفاً بعد قوله: (أريد الخير) تقدير. (وأتوقى الشر) وقد أهمل الشاعر ذكره اكتفاء بدلالة التقابل عليه في قوله: (أريد الخير) في الشطر الثاني من البيت الأول، وكذلك قوله في البيت الثاني:   1 الواضح لابن عقيل مخطوط والتمهيد لأبي الخطاط لوحة: 70. 2 البيتان للشاعر الجاهلي المثقف العبدي، عائذ بن محصن. ينظر في نسبة البيت إلى الشاعر المذكور الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/396، بتحقيق أحمد شاكر، ط ثانية دار المعارف بمصر سنة 1976م ومعاني القرآن للفراء1/231، وشرح اختيارات المفضل للخطيب التبريزي 3/1267، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص: 228، والخزانة للبغدادي 4/29 طبعة بولاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الثاني: (أم الشر) دليل آخر على تقدير المحذوف وتعينه. ثم قالوا: إن القرآن نزل باللغة العربية موافقاً لقوانين العرب في كلامها. وقد علمنا من كلامهم أنهم يطلقون اللفظ في موضع ويقيدونه في موضع آخر، ويكون المراد من المطلق المقيد وقد وجد هذا الأسلوب في القرآن فعلاً1، قال تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 2، والتقدير والحافظات فروجهن والذاكرات الله كثيراً. وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 3، والتقدير: وعن اليمين قعيد. والجواب أن ذلك كله مُسَلَّم، ولكن بعد إقامة الدليل على إرادة التقييد ونصب القرينة التي تعين المحذوف، وما ذكر من الآيات القرآنية ومن الأمثلة الشرعية، قد قام الدليل على إرادة المحذوف وتعينه فيها، فهو في البيت الأول العطف حيث عطف (وأنت بما عندك راضي) على قوله، نحن بما عندنا، فدل ذلك على أن التقدير: (نحن بما عندنا راضوان) .   1 المرجع الأسبق لوحة 131، والعدة لأبي يعلى في أصول الفقه 2/640. 2 سورة الأحزاب آية: 35. 3 سورة ق آية: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وكذلك الشأن في البيت الثاني: دل (الضمير المثنى) في قوله: (أريد الخير أيهما يليني) على أنه عائد إلى شيئين، ولم يتقدمه في اللفظ إلا شيء واحد، وهو قوله: (أريد الخير) ، فدل على أن الشيء الآخر محذوف فسره في البيت الثاني بقوله: (أم الشر) ، وهذا دليل على أن المحذوف يقدر (وأتوقى الشر) كما بينا ذلك فيما سبق. وأما الآيات: فدلالة العطف فيها صريحة وظاهرة في اعتبار وتعيين المحذوف. وعليه فلا دلالة لهم فيها على حمل المطلق على المقيد لمجرد الورود فقط. ثم لو سلمنا أن الأمثلة التي ذكروها ينطبق عليها تعريف المطلق والمقيد اصطلاحاً؛ فإنها تختلف عن المسألة التي نحن بصدد الحديث عنها، لأن ما ادعى فيه الإطلاق والتقييد من تلك الأمثلة الشعرية والآيات قد ورد فيه المطلق والمقيد في كلام واحد لا يستقل أحدهما عن الآخر فيه، بتمام الفائدة، بخلاف كفارة القتل الخطأ والظهار، فقد ورد كل من المطلق والمقيد في نصين يستقل أحدهما عن الآخر بتمام الفائدة، فلا يقاس ما هو مستقل بنفسه على ما ليس بمستقل في ذاته. بقي أن نقول: إن الدليل على التقييد إما أن يكون مذكوراً في اللفظ كما في الأمثلة التي سبقت حيث دل العطف والإضمار على تقدير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 المحذوف وتعينه، وهذا غير حاصل في كفارة الظهار والقتل، وإما أن يكون من جهة الحكم بأن يتفق الحكمان في علة التقييد، وهذا حمل عن طريق القياس، وليس كلامنا فيه الآن يؤيد ذلك ما نقل الغزالي عن الشافعي من أن الحمل في هذه الحال موقوف على الدليل، حيث ذكر الغزالي في المستصفى قول الشافعي: "إن قام دليل حمل المطلق على المقيد، ولم يكن فيه إلا تخصيص العموم"1، ومفهوم ذلك أنه إذا لم يكن بينهما علاقة لا يحمل المطلق على المقيد كما لو كانا جنسين2. قال أبو الخطاب3 الحنبلي: "وارتكاب هذا المنع"، يعني عدم حمل المطلق على المقيد لمجرد الورود (الفقه باللغة) 4، ويقول الغزالي في الرد على القول بحمل المطلق على المقيد لمجرد الورود من غير حاجة إلى دليل:   1 المستصفى 1/186. 2 المعتمد لأبي الحسين البصري 1/314. 3 أبو الخطاب: محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني، نسبة إلى كلوذي قرية ببغداد ولد سنة 432، وهو شيخ الحنابلة وأحد المجتهدين في مذهبهم، كان إماماً صالحاً ورعاً مع غزارة في العلم وحسن المحاضرة، تخرج به أئمة كثيرون. وله عدة مصنفات منها: التمهيد في أصول الفقه مخطوط، والهداية في الفقه، توفي رحمه الله سنة 510هـ. انظر: طبقات الأصوليين 2/258، ومناقب الإمام أحمد ص: 527. 4 التمهيد لأبي الخطاب ص: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 "وهذا تحكم محض يخالف وضع اللغة"1، إذ ليس بأن يقيد به أولى من أن لا يقيد به، وكما يجوز أن تكون المصلحة فيهما التقيد يجوز أن تكون المصلحة فيهما أيضاً أن يبقى أحدهما مطلقاً والآخر مقيداً. ومن أدلتهم أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى: لما قيد الشهادة باشتراط العدالة في الشهود في الوصية والرجعة، وأطلق في مواضع أخرى، كانت العدالة شرطاً في الجميع، وإنما حملت الشهادة المطلقة على المقيدة لاشتراكهما في اسم الشهادة، فكذا يكون الحكم في كفارة الظهار مع كفارة القتل الخطأ، لأن الكل كفارة بتحرير رقبة واجبة. وقد أجيب عن هذا الدليل: بأن تقييد الشهادة بالعدالة في بقية المواضع، لم يكن لمجرد الاشتراك في الاسم، بل كان لدليل قام على ذلك وفيه يقول الرازي: (وإنما قيدناه بالإجماع) 2، علماً أنه قد ورد النص برد شهادة الفاسق قال الله تعالى: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3، فلا يقبل في الشهادة إلا عدل لهذا   1 المستصفى للغزالي ص: 185. 2 المحصول للرازي مخطوط. 3 سورة الحجرات آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 النص1، ثم إن المعنى في الشهادة ضبط الحقوق وحفظها من الضياع، وذلك لا يكون إلا بشهادة عدل في جميع الشهادات. ومن أدلتهم أيضاً: الأدلة الأربعة التي ذكرناها في حال اتحاد الحكم والسبب، وهي أدلة مسلمة ولكن الحمل فيها لم يكن لمجرد الورود، بل لدليل آخر، وإذا وجد الدليل خرجت المسألة عن محل النزاع2. ثالثاً: أدلة القائلين بالحمل قياساً: استدل القائلون بحمل المطلق على المقيد بطريق القياس بعدة أدلة منها: 1 - ما روى عن معاوية بن الحكم السلمي3 قال: "كانت لي جارية ترعى غنماً قبل أُحُد، والجوانية4، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون،   1 التمهيد لأبي الخطاب ص: 69. 2 الأحكام للآمدي 2/112، والتوضيح 1/64، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص: 134. 3 معاوية بن الحكم السلمي صحابي نزل المدينة، روى عنه البخاري في جزء القراءة، ومسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، والنسائي في سننه. تقريب التهذيب ص:341، سير أعلام النبلاء للذهبي. 4 موضعان بالمدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 لكني صككتها صكة، فعظم عليّ ذلك فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها فقال لها: أين الله، قالت: في السماء، قال: من أنا، قالت: أنت رسول الله، قال: " أعتقها فإنها مؤمنة" 1. ووجه الدلالة من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم علل جواز إعتاقها في التكفير عن لطمته إياها بأنها مؤمنة، فدل ذلك على أنه لا يجزئه في التكفير عن لطمته إلا أن تكون مؤمنة2، وإذا كان الأمر كذلك في تكفير لطمة، فمن باب أولى أن لا يجزئه في الكفارات الواجبة، كالظهار واليمين إلا رقبة مؤمنة.   1 رواه مسلم في كتاب المساجد باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته 1/381، وشرح النووي على مسلم 5/23-24 المطبعة المصرية ومكتبتها، وأبو داود 9/106-109 ط 2 سنة 1388هـ مع شرحه عون المعبود وشرح ابن قيم الجوزية الناشر محمد عبد المحسن المكتبة السلفية بالمدينة رقم الحديث 3260-3262، ونيل الأوطار 6/292 ط أخيرة البابي الحلبي، والترمذي 2/335 رقم الحديث 1215ط توزيع المكتبة السلفية مطبعة المدني. 2 وممن استدل بهذا الحديث على وجوب الحمل: ابن قدامة في المغني 8/358-360، والشنقيطي في أضواء البيان 6/547. وينظر في ذلك: أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام د. سليمان الأشقر ص: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وقد اعترض الحنفية على هذا الاستدلال: وقالوا: هذا الحديث لا يعرف تاريخ وروده، ولا يجوز أن يكون مقارناً لنزول المطلق، لأنه لو كان مقارناً له لنقله إلينا من نقل النص المطلق؛ لأن الظاهر أنه بيان للمراد من المطلق، وبيان المطلق لا يجوز تأخيره عندنا، وعندئذ فيحتمل أن يكون ورد قبل المطلق فيكون منسوخاً به، ويحتمل أن يكون متأخراً، فيكون زيادة على النص المطلق، والزيادة على النص نسخ عندنا، وهي لا تجوز بأخبار الآحاد. وحاصل الاعتراض أنه تعارض النص المطلق مع المقيد، وجهل التأريخ بينهما فيقدم العمل بالمطلق، لأنه متواتر. ودفع هذا الاعتراض بما يلي: أولاً: إن منعكم جواز تأخير بيان المطلق غير مسلم، لما تقدم من جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة. ثانياً: إن قولكم: الزيادة على النص نسخ، وهي لا تجوز بأخبار الآحاد أيضاً في حيز المنع، وسيأتي لذلك مزيد من الإيضاح في مبحث الزيادة. 2 - واستدلوا أيضاً: بأن تقييد المطلق كتخصيص العام؛ لأن المطلق عام على سبيل البدل، وتخصيص العام بالقياس جائز، فكذلك تقييد المطلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 يجوز به، لعدم الفرق1. وقد اعترض هذا الدليل صدر الشريعة الحنفي، وقال: إن جواز تخصيص العام بالقياس لا يجوز عندنا إلا إذا خص العام أولاً، بدليل قطعي، والمطلق هنا لم يقيد بدليل قطعي أولاً حتى يجوز تقييده بالقياس ثانياً. والخلاف في جواز تقييد المطلق بالقياس ابتداء، فلا يكون تقييد المطلق كتخصيص العام2 على الإطلاق. ودفع هذا الاعتراض من قبل الجمهور، بأنه إذا جاز أن يخص بالقياس العام الذي دخله التخصيص جاز أن يخص به ما لم يدخله التخصيص؛ لأن العموم والإطلاق وإن خصا فمعناهما معقول، كما أن جواز تخصيص العام بالقياس ثانياً، إنما جاز لمنافاة ما بقي بعد التخصيص الأول، للدليل المخصص ثانياً، وهذا المعنى، وهو: المنافاة بين الدليل المخصص والعام، موجود في المطلق والعام قبل تخصيصهما، فيجب أن يكون ما دخله التخصيص وما لم يدخله في الحكم سواء3، لاشتراكهما   1 روضة الناظر لابن قدامة ص: 137، والبدخشي على المنهاج ص: 139، وشرح مختصر ابن الحاجب 2/157، والتمهيد لأبي الخطاب، والمحصول للرازي. 2 التوضيح لصدر الشريعة 1/380. 3 العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى ص: 558، تحقيق أحمد سير المباركي، والتمهيد لأبي الخطاب -مخطوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 في علة التخصيص. 3 - واستدلوا ثالثاً: فقالوا: إنه متى توفر قياس صحيح بين المطلق والمقيد وجبت التسوية بينهما في الحكم الذي يقتضيه القياس1؛ لأن القياس دليل شرعي يجب العمل بمقتضاه وبخصوص مسألتنا، فقد توفر جامع صحيح بين كفارة الظهار والقتل، وهو أن كلاً منهما يقتضي تكفيراً بعتق رقبة واجبة2، فيجب حمل الإطلاق في كفارة الظهار على التقييد في كفارة القتل الخطأ، وعندئذ فلا يجزئ إلا عتق رقبة مؤمنة في كفارة الظهار قياساً لها على كفارة القتل الخطأ3، وذلك لما يلي: أولاً: أن في حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحال جمعاً بين الأدلة وعملاً بها جميعاً، وفي عدم الحمل إعمال لدليل واحد وترك لدليلين، وبيان ذلك: أن القياس إذا اقتضى حمل المطلق على المقيد ثم عمل بمقتضى هذا القياس، فقد عمل بالقياس والدليل المطلق والمقيد، وفي عدم الحمل ترك لمقتضى القياس وترك لمفهوم القيد، وقد علم أن إعمال الأدلة جميعاً أولى من إعمال بعضها وترك بعضها الآخر4.   1 المحصول للرازي مخطوط. 2 مفاتح الوصول إلى علم الأصول للشريف التلمساني ص: 108. 3 المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 8/585. 4 شرح الأسنوي على منهاج العقول ص: 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ثانياً: وبخصوص مسألتنا قد وجد ما يرجح العمل بالقياس، وهو أن الجميع كفارة، والعتق صدقة على العبد المعتق نفسه، ومن شروط القابض للقربات الواجبة الإيمان، كالزكاة فإنها لا تجزئ إلا بدفها لمؤمن، وهذه علة اعتبار الإيمان في كفارة القتل الخطأ، وذلك موجود بعينه في كفارة الظهار، فوجب اعتبار الإيمان فيها1. وحيث سبقت اعتراضات الحنفية على الحمل بطريق القياس ورد الجمهور عليهم فلا داعي لذكرها مرة أخرى. ومما يستأنس به لمذهب الجمهور قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} 2، ولا خبث أشد من الكفر، وقوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 3. وإعتاق الكافر ينافي الغلظة المطلوبة في هذه الآية. الترجيح: بعد أن عرضنا لأقوال العلماء في حكم حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم واختلاف السبب، هناك آراء لبعض أصحاب   1 مفتاح الوصول ص: 108، وإرشاد الفحول ص: 165، حيث يقول: ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما بجهة الحمل. 2 سورة البقرة آية: 267، والمبسوط 2/7. 3 سورة التوبة آية: 73، والبحر الزخار 4/232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الأصول في بيان الراجح، فهم وإن اتفقوا في الجملة على منع الحمل بطريق اللغة، إلا أنه لم يظهر لبعضهم وجه الترجيح، فتوقف وسلك بعضهم التفصيل، وإتماماً للفائدة سأذكر آراءهم فيما يلي ثم أتبعه بما أراه أقرب للصواب. المذهب الأول: 1 - من توقف في حكم الحمل لتقابل الأدلة، ومن هؤلاء الجويني1 من الشافعية، والطوفي من الحنابلة حيث يقول: "والبحث متقابل من الطرفين"2. المذهب الثاني: ما اختاره الآمدي وابن الحاجب وهو أنه يجب تقييد المطلق، إذا كان الوصف الجامع بينهما مؤثراً أي: ثابتاً بنص أو إجماع، وإن كان مستنبطاً من الحكم فلا يجوز التقييد3.   1 الجويني هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي ركن الدين الملقب بإمام الحرمين لمجاورته لهما، ولد سنة 419 وهو أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي، ومن مؤلفاته البرهان في أصول الفقه، توفي سنة 478. راجع وفيات الأعيان 1/287، والأعلام 4/306. 2 شرح الطوفي لمختصر الروضة 2/261، مخطوط بمكتبة الحرم المكي. 3 الأحكام للآمدي 3/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 المذهب الثالث: ما رآه الغزالي: وهو أن رأيه في هذه المسألة كرأيه في تخصيص العموم بالقياس1، والمختار عنده في تخصيص العام بالقياس أن العموم يفيد ظناً، والقياس يفيد ظناً أيضاً، وقد يكون أحدهما أقوى من الآخر في نفس المجتهد فيلزمه اتباع الأقوى، والعموم تارة يضعف فلا يقوى على معارضة القياس، وتارة يقوى فيقدم على القياس، فلا يبعد أن يكون قياس أقوى وأغلب على الظن من عموم ضعيف أو عموم قوي أغلب على الظن من قياس ضعيف، فيقدم الأقوى2، والذي يبدو من كلام الغزالي اختيار القول بتقييد المطلق بالقياس في هذه المسألة، لأن إطلاق الرقبة ضعيف في دلالته على إجزاء الكافرة فيقدم القياس عليه. والذي يترجح عندي هو القول بحمل المطلق على المقيد بطريق القياس الصحيح، بناء على العرض السابق لأقوال العلماء ومناقشة أدلتهم وذلك لما يلي: 1 - إن أدلة القائلين بالحمل بطريق القياس أقوى من غيرها، ولم يأت الفريق الآخر بما يصلح أن يكون معارضاً لها.   1 المستصفى 2/186. 2 المرجع السابق 2/132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 2 - إن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما، كما أن وحدة الكلام مهما قيل في شأنها فهي بمعنى تجانس الأحكام وتقاربها وعدم المنافاة بينها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ب - دخول الإطلاق والتقييد على السبب: وهذه الصورة تحتها حالة واحدة، وهي: إذا اتحد المطلق والمقيد حكماً وسبباً وكان الإطلاق داخلاً على السبب ومن أمثلتها: ما روي عن ابن عمر1 - رضي الله عنهما - قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين. وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"2.   1 ابن عمر هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن ولد بعد البعثة بيسير، واستصغر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، وكان من أشد الناس اتباعاً للأثر، مات سنة 73 آخرها أو أول التي تليها. تقريب التهذيب ص: 182، والإصابة رقم: 4825 وقارن بعلوم الحديث ومصطلحه د. صبحي الصالح ص: 363. 2 متفق عليهما، فقد أخرجهما البخاري في باب زكاة الفظر عن الحر والمملوك 2/168، ومسلم في كتاب الزكاة 2/677 باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير رقم الحديث: 984 ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي، ونشر إحياء التراث العربي بيروت، وأحمد 2/63، كلهم عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وفيه: (من المسلمين وفي سبيل السلام 2/173 متفق عليه. ثم ذكر الكلام الطويل حول زيادة من المسلمين، وقال: وعلى كل حال فهي زيادة من عدل فتقبل. وفي إرواء الغليل 3/314 جمع لطرق الحديثين فصحح الأول وحَسَّنَ الثاني، لكن الثاني في إرواء الغليل ذكر بلفظ: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر على الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون" ثم قال: رواه الدارقطني والبيهقي 3/161، وجمع طرقه وقال: إنه يرتقي إلى درجة الحسن 3/319 -321، وينظر في الأم للشافعي مختصر المزني ص: 54، دار المعرفة للطباعة والنشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وورد في رواية أخرى عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر أو قال رمضان، على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير وقال: فعدل الناس بها إلى نصف صاع من بر على الصغير والكبير". فالنص الأول والثاني وردا متحدين في الواقعة، وهي صدقة الفطر واتحد فيهما الحكم وهو وجوب صدقة الفطر، لكن سبب الحكم وهو من يمونه المزكي ورد في النص الأول مقيداً بكونه من المسلمين أي: أنه جعل سبب الوجوب رأساً يمونه المسلم، وله عليه ولاية بشرط كونه من المسلمين، بينما النص الثاني جعل السبب في وجوب الزكاة رأساً يمونه المزكي مطلقاً. ولا خلاف بين العلماء في أن صدقة الفطر تجب على المسلم عن نفسه وعن من يلي أمره من المسلمين. لكن الخلاف جار فيما لو وجد كافر تلزم المسلم مؤنته كرقيقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 مثلاً: هل تجب على المسلم صدقة الفطر عن عبده الكافر، نظراً للإطلاق الوارد في الرواية الثانية؟ أو أنها لا تجب عليه لكونه كافراً عملاً بمفهوم القيد الوارد في النص الأول، وهو قوله: (من المسلمين) . اختلف العلماء في هذه المسألة: 1 - فذهب الجمهور: إلى أنه لا تجب صدقة الفطر على المسلم عمن تلزمه مؤونته من غير المسلمين، نظراً للقيد الوارد في النص الأول، وهو قوله: (من المسلمين) ويحملون المطلق على المقيد في هذه الحال وأمثالها لاتحاد الحكم والواقعة فيها1. 2 - وذهب الحنفية: إلى وجوب صدقة الفطر على الشخص المسلم عن كل من تلزم مؤونته - ولو كافراً - نظراً للإطلاق الوارد في الحديث الثاني، وقالوا: بعدم حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحالة، بل يبقى المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده لانتفاء التعارض بينهما2.   1 المغني لابن قدامة 3/56، وبداية المجتهد لابن رشد 1/214، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص: 135، والمهذب للشيرازي 1/163، وحاشية الدسوقي على الدردير 1/505، ونيل الأوطار 2/754. 2 المبسوط 3/104، وبدائع الصنائع 2/962، والهداية مع فتح القدير 2/35، وقد قال بمذهب الحنفية ابن حزم الظاهري: لأنه صح عنده إلى جانب رواية ابن عمر: (من المسلمين) رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- "ليس على المسلم في فرسه وعبده صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق"، فعمل بهذه الرواية، لأن ما فيها زائد على ما جاء في رواية ابن عمر ولا تعارض بين الروايتين فوجبت تأدية زكاة الفطر على السيد عن رقيقه لا على الرقيق. المحلى 6/133، وتفسير النصوص 2/205، وأجاب الجمهور عن هذه الرواية بأن قوله: (عبده) عام لأنه مضاف إلى الهاء، وقوله (من المسلمين) خاص، والخاص يقدم على العام عند التعارض، فيكون المراد عن عبده المسلم؛ لأن الرواية الخاصة فسرت الرواية العامة، والجمع بينهما ممكن، فيكون أولى من ضرب الأدلة بعضها ببعض ثم إسقاطها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 واستدل الجمهور: على حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة، بالأدلة الأربعة التي سبق أن استدلوا بها في حال اتحاد الحكم والسبب. 1 - من كون المطلق ساكتاً عن القيد، والمقيد ناطقاً به، وإذا تعارض النطق والسكوت كان الناطق أولى بالقبول. 2 - وكون الحكيم إنما يزيد في الكلام لزيادة في البيان، فكانت زيادة القيد بياناً للمراد من المطلق على التفصيل الذي سبق1. ثم أضافوا إلى ذلك التعليل التالي: حيث قالوا: إن الحكم متى كان واحداً والحادثة موضوعه واحدة،   1 أصول الأحكام للشيخ منصور ص: 250، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص: 135، وأبرز القواعد الأصولية المؤثرة في اختلاف الفقهاء د. محمد عبد العزيز القسم المقرر على الدراسات العليا في شعبة الأصول لعام 1389هـ ص:97-98، والأحكام للآمدي 2/112، والتوضيح لصدر الشريعة 1/64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 فإن الإطلاق والتقييد عندئذ يكونان قد وردا على شيء واحد، والشيء الواحد لا يجوز أن يكون مطلقاً ومقيداً في آن واحد، للتنافي بينهما. ودفعاً لهذا التنافي الظاهري يحمل المطلق على المقيد. ب - وأما الحنفية: فقد استدلوا على عدم حمل المطلق على المقيد هنا بأدلة منها: 1 - إن التقييد والإطلاق وردا في سبب الحكم فأحد النصين جعل مؤونة الرأس مطلقاً، سواء كان مؤمناً أو كافراً سبباً لوجوب صدقة الفطر، والنص الآخر جعل السبب مؤونة الرأس المسلم فيكون الإطلاق والتقييد قد دخلا على السبب، ولا مزاحمة في الأسباب؛ لجواز أن يكون للحكم الواحد عدة أسباب على سبيل البدل عند المانعين من تعدد العلة أو على سبيل الاجتماع عند القائلين بتجزئتها. مثال ذلك: ملك المال، فإنه شيء واحد وله عدة أسباب يثبت بكل منها على سبيل البدل كالإرث والهبة، والبيع والشراء، وإذا انتفت المزاحمة بين المطلق والمقيد وجب العمل بكل منهما على مقتضاه1، وقد اعترض هذا الدليل بأن المنافاة بين سببية المطلق والمقيد متصورة؛ لأن معنى كون كل منهما سبباً أن يكون سبباً تاماً في وجوب صدقة الفطر، وتمامية   1 أصول السرخسي 1/269، وكشف الأسرار 2/295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 السبب تقتضي عدم الحاجة إلى سبب آخر، وبناء على ذلك فلو كان المطلق سبباً تاماً في الوجوب لمنع الاحتياج إلى سببية المقيد، ولكنه لم يمنع ذلك، ومن هنا ظهرت المنافاة بين تمامية السبب المطلق مع تمامية السبب المقيد، ودفعاً لتلك المنافاة ينبغي حمل المطلق على المقيد1. 2 - واستدلوا ثانياً: بأن في إبقاء المطلق على إطلاقه في هذه الحال احتياطاً، ومراعاة الاحتياط في الأحكام الشرعية أحوط، ووجه الاحتياط أنه عند إبقاء المطلق على إطلاقه تجب صدقة الفطر مع السبب المطلق ومع السبب المقيد، وأما عند الحمل فلا تجب إلا مع السبب المقيد فقط ووجوب الصدقة في الحالين أقرب إلى الاحتياط من وجوبها في حال واحدة. ويمكن أن يدفع هذه الدليل بأن ذلك مسلم لو لم يكن هناك دليل على التقييد من قبل الشارع، وأما عند وجود الدليل، وهو هنا اتحاد الحكم والحادثة ومساندة الأدلة السابقة لذلك، فلا مجال لاعتبار الاحتياط مع وجود الدليل. 3 - ويمكن أن يستدل للحنفية بما يعتبره بعض الأصوليين مذهباً ثالثاً في المسألة، وهو أن المقيد هو الذي يحمل على المطلق في هذه الحال، غير   1 مسلم الثبوت 1/367، وأبرز القواعد المؤثرة في اختلاف الفقهاء ص: 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 أنهم لا يعنون به أن المقيد يراد به المطلق، إذ لو عنوا به ذلك لأدى قولهم إلى إلغاء القيد، وهو ممتنع1، بل يريدون أن سببية المقيد منتزعة من سببية المطلق، لأن المطلق سبب حقيقة، والمقيد مشتمل على السبب الحقيقي، لكون المطلق جزءاً من المقيد كما سبق فسببية المقيد جاءت من اشتماله على السب الحقيقي وهو المطلق، وإطلاق السبب على ما هو مشتمل علي السبب الحقيقي شائع، وفي ذلك يقول صاحب مسلم الثبوت: "فالحق أن يحمل ههنا المقيد على المطلق، لا بمعنى أن المراد منه ذلك، بل بمعنى أن المقيد سبب؛ لأن المطلق سبب وبينهما بون". ثم قال شارح المسلم معللاً لذلك: إن الأول "يعني حمل المقيد على المطلق بمعنى أنه يراد منه المطلق من قبيل المجاز، وهو ذكر المقيد وإرادة المطلق، بخلاف الحمل بالمعنى الثاني، فإنه حقيقة إلا أن الحكم على المقيد لاشتماله على المطلق، ثم قال الشارح: إن ذلك كلام وجيه، ويمكن حمل كلام الحنفية عليه، فإن إطلاق السبب على ما هو مشتمل على السبب شائع، كما يقال: هذه الدعامة سبب لبقاء السقف وبناء على هذا التوجيه، فلا يكون في المسألة إلا مذهبان لأن ما ادعاه بعض أصحاب الأصول مذهباً ثالثاً هو في الحقيقة يلتقي مع مذهب الحنفية في إبقاء المطلق   1 مسلم الثبوت 1/367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 على إطلاقه وإن كان يختلف عنه في التعبير والتعليل". الترجيح: والذي نميل إليه هو حمل المطلق على المقيد دون ما حاجة إلى دليل كما في الحالة الأولى، لوجود التنافي بين النصين - المطلق والمقيد - ووجه ما اخترناه أن الزكاة بمقتضى النص المقيد لا تجب عمن يمونه المسلم إلا إذا كان مسلماً على حين يوجبها النص المطلق عن جميع من يمونهم الشخص المسلم، ولو كفاراً، وحسبنا هذا دليلاً على التنافي بين النصين أن المسلم مطالب على أحدهما بإخراج زكاة الفطر عن الكافر إذا كان يمونه، وليس مطالباً على النص الآخر بإخراج هذه الزكاة عنه1، وخاصة إذا علمنا أن أكثر ما عول عليه الحنفية في عدم حمل المطلق على المقيد هنا هو أن الإطلاق والتقييد داخلان على السبب ولا مزاحمة في الأسباب. وهذه القاعدة لم يلتزموا بها عند التطبيق في بعض النصوص، فهم وإن كانوا قد التزموها في صدقة الفطر وأجروا المطلق على إطلاقه حتى أوجبوا صدقة الفطر على المسلم عن كل من يمونه سواء كان مسلماً أو غير مسلم، إلا أنهم خالفوها في كثير من التطبيقات ومن ذلك وجوب الزكاة في الغنم. حيث روي في إيجاب الزكاة فيها عدد من النصوص، كان فيها   1 النسخ في القرآن الكريم د. مصطفى زيد ص: 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 اختلاف في الإطلاق والتقييد، فقد جاءت النعم في بعض النصوص مطلقة عن أي قيد وجاءت في بعضها الآخر مقيدة بصفة السوم. فمثال النص المطلق قوله صلى الله عليه وسلم: "في خمس من الإبل شاة" 1، وروى "في خمس من الإبل السائمة شاة" 2. وكلتا الروايتين في الصحيح، وواضح أن الإطلاق والتقييد قد جاءا في سبب الحكم والموضوع واحد وهو الزكاة، فحمل الشافعية المطلق على المقيد، وأوجبوا الزكاة في السائمة فقط، ووافقهم على ذلك الحنفية حيث أوجبوا الزكاة في السائمة دون المعلوفة والعاملة. وكان مقتضى قاعدتهم السابقة أن يوجبوا الزكاة في السائمة   1 هذه الرواية من حديث الصدقة في كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عماله الذي رواه سالم عن أبيه. قال الألباني الحديث بطوله أخرجه أصحاب السنن: أبو دواد 2/96، باب زكاة السائمة رقم الحديث 1567، والترمذي 2/70، رقم الحديث 624، وقال عنه: حديث حسن صحيح، وأحمد 2/14، 15، كلهم من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عنه، وقال الحاكم: وتصحيحه على شرط الشيخين، وروي عن البخاري أنه قال: الحديث أرجو أن يكون محفوظاً، وسفيان بن حسين صدوق. 2 وهذه الرواية من حديث الفرائض والسنن والديات في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن الذي رواه أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده. انظر: السنن الكبرى للبيهقي: 4/98-102، والمحلى لابن حزم 6/46، بتحقيق أحمد شاكر توزيع دار المعرفة بيروت، ونصب الراية لزيلعي 2/338-343، ط 2/1393، وفتح الباري 3/316-317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 والمعلوفة على حد سواء، ويعتبروا كلا منهما سبباً للحكم كما قالوا في زكاة الفطر1. وما أجيب به عن الحنفية من أن مأخذهم إيجاب الزكاة في السائمة دون المعلوفة، لم يكن من طريق حمل المطلق على المقيد، وإنما كان بطريق النسخ، حيث يدعون أن النص المقيد جاء متأخراً عن النص المطلق، فكان ناسخاً له في غير السائمة، إنما يتم هذا جواباً لو كان الحنفية يأخذون بمفهوم الوصف الذي ورد في المقيد حتى يكون حينئذ بين النصين تعارض، ويكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، إذا لم يمكن الجمع وعرف التاريخ، وفي مسألتنا الجمع ممكن، والحنفية لا يقولون بمفهوم القيد؛ فلا يكون هناك تعارض بين النصين، وإذا لم يوجد التعارض امتنع النسخ2. ثم إن جواب الحنفية السابق لا يجدي ولو سلم؛ لأن المنطوق أقوى دلالة من المفهوم فيعمل به، ويكون السبب مطلق ملك النعم3، وهكذا نرى أن الحنفية قد اتفقوا مع الشافعية في هذا الحكم، وكان المفروض لو أن الحنفية التزموا قاعدة عدم حمل المطلق على المقيد عندما يكون الإطلاق والتقييد داخلين على السبب أن يكون مذهبهم موافقاً لمذهب المالكية، وهو   1 تفسير النصوص د. أديب صالح 2/208. 2 تفسير النصوص د. أديب صالح 2/208. 3 أسباب اختلاف الفقهاء للأستاذ الحفيف ص: 136، معهد الدراسات العربية بالقاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وجوب الزكاة في السوائم وغيرها1، وإن كان لهم أن يجيبوا بأن الأصل عدم الزكاة. ثم جعل الرسول الزكاة في السوائم فالتزمنا بهديه صلى الله عليه وسلم2. ومن الفروع التي خالف فيها الحنفية هذه القاعدة تحريم الدم، فقد وردت فيه آيتان الأولى تفيد أن الدم المطلق حرام لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 3، والثانية تفيد أن الدم المحرم هو الدم المسفوح فقط، قال تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} 4، والإطلاق والتقييد دخلاً على السبب وهو الدم، فكان مقتضى قاعدة الحنفية أن يحرم الدم المطلق بالنص المطلق والمسفوح بالنص المقيد، ولكنهم مع الجمهور يقولون: إن المحرم من الدم هو المسفوح فقط، ولعل عذرهم في ذلك أن الدم الذي لا يمكن الاحتراز منه مثل: ما يبقى في العروق والرغوة التي تعلو اللحم عند طبخه معفو عنه بمقتضى قاعدة وضع الحرج والتيسير في الشريعة5.   1 حاشية الدسوقي على الدردير 1/432. 2 تفسير النصوص د. أديب محمد صالح 2/208. 3 سورة المائدة آية: 3. 4 سورة الأنعام آية: 145. 5 النسخ في القرآن للدكتور مصطفى زيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 المطلب الثالث: في حكم الحمل إذا تعدد القيد كان الكلام فيما سق إذا أطلق اللفظ في موضع وقيد في موضع آخر بقيد واحد وموضوع هذا المبحث عن حكم حمل المطلق على المقيد إذا قيد اللفظ المطلق في أكثر من موضع بقيدين متنافيين، وفي قولنا: بقيدين متنافيين إشارة إلى أن القيود الواردة على المطلق يمكن تقسيمها إلى نوعين. الأول: ما يمكن اجتماعها معاً، كوصف الرقبة بالكتابة بعد وصفها بالإيمان. وحكم الحمل في هذا النوع من القيود حكم الحكم إذا كان القيد واحداً على التفصيل الذي سبق الكلام عليه فيما إذا كان القيد واحداً ومن أمثلة هذا النوع ما لو ورد نص بتقييد الرقبة المطلقة في كفارة الظهار بكونها رقبة كاتبة، فإن هذا القيد لا يتعارض مع كونها مؤمنة، إذ يمكن أن تكون مؤمنة وكاتبة في آن واحد فَتُقَيَّد الرقبة بقيد الكتابة فضلاً عن تقييدها بقيد الإيمان. النوع الثاني: قيود لا يمكن اجتماعها معاً: وذلك عندما يكون بين القيدين أو القيود تعارض وتضاد، وهذا النوع من القيود هو المقصود في هذا المبحث، حيث جرى الخلاف بين الجمهور أنفسهم لا علاقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 للحنفية به1. وذلك لأنها مسألة تفرعت على كيفية الحمل في المسألتين السابقتين، فالذي يرى من الجمهور أن حمل المطلق على المقيد فيهما عن طريق اللغة لا يحمل المطلق على المقيد هنا؛ لأن حمله على أحد القيدين دون الآخر يكون حملاً بدون دليل2، وفي ذلك يقول أبو البركات: "لا خلاف أنه لا يلحق بواحد منهما لغة"3. ومن يرى أن الحمل في المسألتين السابقتين ثابت بطريق القياس، يقول في هذه المسألة يحمل اللفظ المطلق على المقيد الذي له به شبه فإن لم يكن بين المطلق وأحد المقيدين شبه يبقى المطلق على إطلاقه، لانتفاء العلة التي تجمع بينهما، وهناك أمثلة كثيرة لورود قيدين متنافيين على مطلق واحد، منها ما حمل فيه المطلق على أحد المقيدين قياساً، لوجود الشبه بينهما، ومنها ما لم يحمل فيه المطلق على أحد القيدين لعدم قيام جامع بينهما يصح به القياس.. وفي ما يلي أمثلة توضح ذلك. فمثال: ما حمل فيه المطلق على أحد القيدين لكونه شبيهاً به: صوم   1 التحرير لابن الهمام 1/334. 2 المعتمد لأبي الحسين البصري 1/313. 3 المسودة ص: 145، والمعتمد 1/313، والتمهيد لأبي الخطاب مخطوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 كفارة اليمين الذي قال الله تعالى فيه: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 1. فقد ورد هذا النص مطلقاً وورد مقيداً بالتتابع في صوم كفارة الظهار، قال تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 2، وورد مقيداً بالتفريق في صوم التمتع في الحج قال الله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 3 فيحمل المطلق في كفارة اليمين على المقيد في كفارة الظهار لكونه أشبه4، لأن كلا منهما تكفير بصيام فيجب التتابع في صوم كفارة اليمين بناء على هذا القياس بخلاف صيام التمتع في الحج، فإنه لا يحمل عليه المطلق في كفارة اليمين حتى يصح الصيام متفرقاً؛ لعدم وجود جامع بين كفارة اليمين وصوم التمتع في الحج، حيث إن الصوم في اليمين كفارة وفي الحج نسك، ومن هنا افترقا.   1 سورة المائدة آية: 89. وتمام الآية: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} . 2 سورة المجادلة آية: 4. 3 سورة البقرة آية: 196. 4 روضة الناظر ص: 137، وغاية الوصول ص: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ولكن أورد الطوفي على كون صيام كفارة اليمين مطلقاً إشكالاً بناء على العمل بقراءة ابن مسعود: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتابِعَات} ، وهذه القراءة إما أن تكون قرآناً، أو خبراً1 عن ابن مسعود فيتقيد المطلق في قراءة الجمهور بموجبها ولا حاجة لقياسه على كفارة الظهار. ويجاب عن ذلك بأن إيرادها في التمثيل بناء على قول من لا يرى التتابع فيها بطريق القراءة غير المتواترة، وإنما هو بطريق القياس، وضرب الأمثلة في الأصول لا يختص بمذهب، والله أعلم. ومثال المطلق الذي بقي على إطلاقه لعدم وجود شبه بينه وبين أحد المقيدين: صوم قضاء رمضان، الذي قال الله في شأنه: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 2، فقد ورد النص فيه مطلقاً كما ترى. وورد الصيام في كفارة الظهار مقيداً بالتتابع كما سبق، {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وورد الصيام مقيداً بالتفريق في التمتع بالحج إلى العمرة.   1 شرح الطوفي لمختصر الروضة 2/262، مخطوط بمكتبة الحرم المكي. 2 سورة البقرة آية: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 والحكم هنا بقاء المطلق على إطلاقه وعدم حمله على أحد القيدين لعدم وجود شبه بينه وبين أحد القيدين، لأن الصوم في النص المطلق صيام قضاء، وفي الظهار صيام كفارة، وفي التمتع صيام نسك، فلعدم الجامع بين المطلق وأحد القيدين يبقى المطلق على إطلاقه، فلا يجب في صوم قضاء رمضان تتابع ولا تفريق1، والله أعلم.   1 شرح المحلى على جمع الجوامع وحاشية البناني 2/52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الفصل الثاني: في تحرير محل النزاع في حمل المطلق على المقيد وأسبابه المبحث الأول: في تحرير الصور المختلف فيها ... المبحث الأول: في تحرير الصور المختلف فيها. ذكرنا فيما سلف صورتين من أحوال المطلق والمقيد وقد اختلف الأصوليون في حكم حمل المطلق على المقيد فيهما، وكانت الصورة الأولى إذا اتحد المطلق والمقيد في الحكم واختلفا في السبب، كما هو الحال في كفارة الظهار مع كفارة القتل الخطأ. والصورة الثانية: إذا اتحد المطلق والمقيد في الحكم والحادثة، وجرى الإطلاق والتقييد في السبب كما هو الحال في زكاة الفطر، وقد سبق الكلام على هاتين الصورتين بالتفصيل. إلا أن السبب الذي من أجله منع الحنفية الحمل فيهما كان يعود في نظرهم إلى انتفاء التعارض بين المطلق والمقيد، لاختلاف السبب في الحالة الأولى، ودخول الإطلاق والتقييد على السبب أيضاً في الحالة الثانية. والأسباب لا تزاحم بينها، لإمكان تعددها. بينما يرى جمهور الأصوليين أن مطلق التنافي موجود في هاتين الصورتين، وإن كان السبب مختلفاً في الحالة الأولى، ودخل الإطلاق والتقييد على السبب في الحالة الثانية، ذلك أن سببية المقيد تدل على وجود الحكم عند وجود القيد وعلى انتفائه عند انتفاء القيد، والمطلق يُجَوّز وجود الحكم بدون القيد، ومن هنا ظهر التنافي بين سببية المطلق وسببية المقيد، ودفعا لهذا التعارض قال الجمهور: يحمل المطلق على المقيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 في الحالتين السابقتين. والحق أن الخلاف في وجود التعارض وعدمه في الحالتين السابقتين مبني على خلاف آخر، وله صلة قوية باختلاف الجمهور مع الحنفية في حجية مفهوم1 المخالفة الذي سيأتي في مبحث الأسباب، وسنرى هناك - إن شاء الله - توضيحاً أكثر لسبب الاختلاف. لكن بقي صورة ثالثة، جرى فيها الخلاف بين الجمهور والحنفية: وهي إذا تأخر المطلق أو المقيد، ولم يستلزم ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولما كان الخلاف في هذه الصورة لا يختص بحال دون حال من أحوال المطلق والمقيد السابقة، أفردتها بمبحث خاص، كما أن سبب الخلاف فيها أيضاً يختلف عن سبب الخلاف في الحالتين السابقتين، إذ هو يعود إلى وقت نزول أو ورود المطلق أو المقيد، وجعلتها تحت عنوان: حكم التقييد بالمتأخر: وقبل أن نتكلم عن حكم التقييد بالمتأخر أو (كيفية دفع التعارض بين المطلق والمقيد) ينبغي أن نعلم أن منشأ الخلاف في هذه الصورة له علاقة وصلة وثيقة بالاختلاف في معنى الحمل. فالجمهور الذين يرون أن معنى حمل المطلق على المقيد هو بيان المطلق بواسطة المقيد، وتفسيره به لا مانع عندهم من جواز التقييد بالمتأخر   1 المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي ص: 686 للدكتور فتحي الدريني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 الذي لم يستلزم تأخيرُهُ تأخيرَ البيان عن وقت العمل. وأما الحنفية، فلأن معنى الحمل عندهم يختلف تبعاً لنزول أو ورود المطلق والمقيَّد؛ فإن الحكم يختلف حسب اختلاف الظروف والأحوال التي تعرض للمطلق والمقيَّد، إلا أن الحكم في هذه الصورة لا يخلو عن واحد من أربعة أحوال. لأن المطلق والمقيد إما أن يعلم أنهما وردا معاً أي مقترنين في النزول، أو يجهل التاريخ بينهما، أو يعلم تأخر المطلق عن المقيد أو يعلم تأخر المقيد عن المطلق فهذه أربعة أحوال، يختلف حكم حمل المطلق على المقيَّد فيها من حال إلى أخرى عند الحنفية، وذلك يعود إلى اختلاف الحنفية أنفسهم فيما يراد بحمل المطلق على المقيد، أهو بيان المطلق بواسطة المقيد، كما يقول الجمهور1؟ والمحقون من الحنفية2، (في الصور التي قالوا فيها بحمل المطلق على المقيد) أم أن المراد بحمل المطلق على المقيد نسخ المطلق بالمقيد؟ كما يراه فريق من الأحناف3 أم أن حمل المطلق على المقيد يعني ترجيح العمل بالمقيد على العمل بالمطلق؟ كما يراه صاحب   1 تيسير التحرير 1/331، ومسلم الثبوت 1/362، ومنتهى ابن الحاجب 2/156، وكشف الأسرار 2/290. 2 تيسير التحرير 1/331، ومسلم الثبوت 1/362، ومنتهى ابن الحاجب 2/156، وكشف الأسرار 2/290. 3 المنار مع حاشية الرهاوي ص: 561. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 مسلم الثبوت1. والجواب عن هذه التساؤلات يتطلب منا القول بالتفصيل عن كل صورة من الصور الأربع السابقة على حدة ليعلم الفرق بين مذهب الجمهور والحنفية فيها. فالصورة الأولى: أن يردا معاً: إذا علم أن كلا من المطلق والمقيد قد وردا معاً أي مقترنين في النزول، فإن المطلق يحمل على المقيد عند الجمهور والحنفية، إذا توفرت فيه شروط الحمل السابقة، ويكون المقيد بياناً للمطلق عند الجمهور، وكذلك عند المحققين من الحنفية2؛ لأن نزولهما معاً قرينة البيان، ويرى بعض3 الحنفية أن ذلك من باب ترجيح العمل بالمقيد على العمل بالمطلق فيما تعارضا فيه، وقد بينا وجهة نظر هذا الفريق فيما سلف. ومَثَّل الحنفية لهذه الصورة بصوم كفارة اليمين، حيث ورد النص بها مطلقاً في قراءة الجمهور {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} 4 ومقيداً بالتتابع في قراءة ابن   1 فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/366. 2 تيسير التحرير 1/331، ومسلم الثبوت 1/362، وكشف الأسرار 2/290. 3 فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/366. 4 سورة البقرة آية: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 مسعود {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتابِعَات} 1. فحمل الحنفية المطلق في قراءة الجمهور على المقيد في قراءة ابن مسعود وأوجبوا التتابع في صوم كفارة اليمين وعللوا ذلك: أولاً: بأن السبب الواحد لا يوجب المتنافيين في وقت واحد. وثانياً: بأن قراءة ابن مسعود مشهورة يصح بها تقييد مطلق الكتاب، ولكن الشافعية لم يحملوا المطلق على المقيد هنا؛ لأنهم وإن كانوا مع الحنفية في عدم إيجاب السبب الواحد للمتنافيين في وقت واحد، إلا أن قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - لم تصح مقيدة عندهم؛ لأن القرآن لا يقبل فيه إلا المتواتر. الصورة الثانية: أن يجهل التاريخ بين المطلق والمقيد، بحيث لا يعلم هل وردا معاً أو تأخر أحدهما عن الآخر؟ وعندئذ يرى بعض الحنفية وجوب التوقف حتى يتبين المتأخر منهما؛ فإن لم يمكن معرفة ذلك، ولم   1 تيسير التحرير 1/331، وأصول الفقه لمحمد أبو النور زهير 2/338. وابن مسعود هو: عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن من السابقين الأولين، ومن كبار علماء الصحابة، له مناقب جمه وأمّره عمر -رضي الله عنهما- على الكوفة، ومات بالمدينة سنة 32هـ أو التي بعدها. تقريب التهذيب ص: 189، والإصابة رقم (5945) وقارن بعلوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي الصالح ص: 372-373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 يوجد ما يرجح أحدهما على الآخر، تساقطا، وطلب الدليل من غيرهما، وهذا القول جار على طريقة الحنفية في الجمع بين المتعارضين إذا جهل التاريخ بينهما1. لكن رأى المحققين من الحنفية في هذه الصورة هو حمل المطلق على المقيد عن طريق البيان لا النسخ، حملاً لهما على المعية وتقديماً للبيان على النسخ عند التردد؛ لكون البيان أغلب وقوعاً من النسخ، ولأن النسخ لا يثبت بالاحتمال2، ومما يقوي ذلك قول الحنفية في باب تعارض الأدلة: (أن الدليلين إذا تعارضا ولم يعلم التاريخ يجمع بينهما) 3، فهذا يدل على أن حمل المطلق على المقيد عند الحنفية إذا جهل التاريخ يكون بياناً، قال ابن الهمام: "وهو الأوجه عندي"4، وتبعه في ذلك صاحب مسلم الثبوت5 وفي كشف الأسرار: "إن الحادثة إذا كانت واحدة، وورد فيها نصان مقيد ومطلق في الحكم، وهو من باب الواجب أن المطلق يقيد إذا   1 الشربيني على شرح المحلى على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/50، وأصول الفقه د. حسين حامد حسان ص: 444، باب تعارض الخاص والعام. 2 تيسير التحرير 1/331، وأصول الفقه لمحمد أبو النور زهير 2/328. 3 التحرير مع التيسير 1/331. 4 المرجع السابق. 5 مسلم الثبوت 1/362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 لم يعرف التاريخ؛ لأن الشرع متى أوجب الحكم بوصف لا بد من اعتبار الوصف فيكون بياناً للمطلق أن المراد منه المقيد1. ويرى الجمهور ومنهم الشافعية حمل المطلق على المقيد إذا جهل التاريخ بطريق البيان بلا خلاف بينهم2. الصورة الثالثة: أن يتأخر المطلق. وفي هذه الحال يرى الحنفية أن المطلق ناسخ للمقيد، كالعام المتأخر عن الخاص، فإنه ينسخ الخاص عندهم3، ولم يفرقوا بين التأخر عن وقت العمل والتأخير الذي لا يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، بل قالوا: إذا علم تأخر المطلق كان ناسخاً للمقيد، ونسب إلى بعضهم القول بأن المقيد المتقدم بيان للمراد من المطلق المتأخر، ووجهة هذا الفريق أن تقدم المقيد قرينة البيان4، ولكن هذا الرأي (يخالف الأصول المتبعة) عند الحنفية كما يقول شارح مسلم الثبوت: (فلا يقبل) 5، وبناء على ذلك يكون القول الراجح عند الحنفية أن المطلق المتأخر ينسخ المقيد السابق متى   1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/290. 2 شرح المحلى على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/50، وإرشاد الفحول للشوكاني ص: 165. 3 تيسير التحرير 1/333. 4 الشربيني على شرح المحلى وجمع الجوامع 2/50. 5 مسلم الثبوت 1/363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 توفرت فيه شروط النسخ. ويرى الجمهور في هذه الصورة وأمثالها أن المطلق المتأخر يراد به المقيد السابق بطريق البيان، وتقدم القيد قرينة على البيان ما لم يتأخر المطلق عن وقت العمل بالمقيد، فإذا تأخر عن وقت العمل بالمقيد السابق فإنه يكون ناسخاً؛ لاعتبار القيد في النص المقيد، وذلك لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. ونسب المرداوي إلى الجمهور القول بأن المطلق المتأخر يراد به المقيد المتقدم عليه، وإن تأخر عن وقت العمل1، لكن الراجح هو المذهب الأول، وتقدم ما يصلح مثالاً لذلك في الشرط الثامن من شروط حمل المطلق على المقيد. الصورة الرابعة: أن يعلم تأخر المقيد: وفيه هذه الحال يرى الحنفية أن المقيد المتأخر ناسخ للمطلق فيما تعارض فيه كالخاص المتأخر عن العام؛ فإنه ينسخ من العام بقدره عندهم2، ولم يفرقوا بين مجيء المقيد قبل العمل بالمطلق أو بعد وقت العمل به، بل قالوا: إن تأخر المقيد عن الخطاب المطلق نسخ الإطلاق؛   1 التحرير للمرداوي الحنبلي مخطوط ص: 64، وإرشاد الفحول ص: 165. 2 تيسير التحرير 1/331، ومسلم الثبوت 1/362، وأصول الفقه لابن النور زهير 2/328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 لأن بيان المراد من المطلق لا يجوز تأخيره عن الخطاب بالمطلق عندهم، وذلك لأن الإطلاق مما يريده الشارع قطعاً، وحيث ثبت غيرَ مقرون بما ينفيه وجب اعتباره. والتقييد بعد ذلك يرفع الإطلاق، فيكون ناسخاً له. وتقدم جواب الجمهور عند ذلك في الشرط الثاني من الشروط المختلف فيها. وأما رأي الجمهور في هذه الحال، فالظاهر أنهم يفرقون بين تأخر المقيد عن الخطاب بالمطلق، وبين تأخره عن وقت العمل به، فهم في الحال الأولى يحملون المطلق على المقيد على أنه بيان له، لا نسخ بدون خلاف بينهم. وأما إذا تأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق، فالذي يبدو من إطلاقهم القول بأن المقيد بيان للمطلق سواء تقدم عليه المطلق أو تأخر عنه، أن المقيد بيان للمطلق في جميع الأحوال، وإن تأخر عن وقت العمل1 كما سبقت الإشارة إلى ذلك في تأخر المطلق، لكن صرح ابن السبكي2 وغيره من المحققين3 أن المقيد إذا تأخر عن وقت العمل يكون   1 التحرير للمرداوي مخطوط ص:94، وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب 2/156، وإرشاد الفحول ص: 165، والقواعد الأصولية لابن اللحام الحنبلي ص: 282. 2 جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/50. 3 لب الأصول على غاية الوصول للأنصاري ص: 83، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص: 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ناسخاً للمطلق؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الاحتياج إليه. بقي أن نشير هنا إلى أن ابن السبكي حكى في جمع الجوامع قولاً آخر في مسألة تأخر المقيد، وهو: أن المقيد هو الذي يحمل على المطلق وذلك بأن يلغى القيد؛ لأن ذكر المقيد ذكر لجزئين من المطلق؛ فلا يقيده كما أن ذكر فرد من العام لا يخصصه1، وهذا القول ضعيف كما يرى الأنصاري2 وغيره، إذ يجيب عنه الأنصاري بقوله: "قلنا: الفرق بينهما أن مفهوم القيد حجة - عند الجمهور - بخلاف مفهوم اللقب الذي ذكر فرد من أفراد العام منه". الترجيح: بعد أن عرضنا أقوال العلماء في هذه المسألة يتضح ما يلي: أولاً: يرى المحققون من الحنفية أن حمل المطلق على المقيد لا يتحقق إلا في صورتين:   1 جمع الجوامع 2/50. 2 الأنصاري هو: أبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري الشافعي الفقيه الأصولي الحافظ قاضي القضاة، ولد سنة 826هـ ثم تحول إلى القاهرة وأقام بالجامع الأزهر له عدة مصنفات منها: لب الأصول وشرحه غاية الوصول. انظر: الأعلام 3/80، والفتح المبين 3/68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الأولى: إذا وردا معاً أي مقترنين في النزول أو الورود. الثانية: إذا جهل التاريخ بينهما. كما يرى المحققون منهم أن معنى حمل المطلق على المقيد في هاتين الصورتين بيان لا نسخ، وفيما عدا ذلك يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، إذا توفرت فيه شروط النسخ1. ثانياً: يرى جمهور الأصوليين أن المطلق يحمل على المقيد في الصور الأربع إذا توفرت فيه شروط الحمل، ويكون ذلك بطريق البيان، إلا إذا استلزم الحمل تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة فعندئذ يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم؛ لأن البيان من شرطه عدم التأخر عن وقت العمل. وهذا هو الذي أراه راجحاً في هذه المسألة. فإن قيل: فما الفرق بين القول بالنسخ والبيان؟ قلت: حقيقة الفرق بينهما تظهر في الزيادة على النص المطلق إذا تأخرت عن زمن الخطاب دون وقت العمل. فالجمهور الذين يقولون إن حمل المطلق على المقيد في هذه الحال بيان يجوز عندهم أن يقيد المطلق من الكتاب والسنة المتواترة أو المشهورة بأخبار الآحاد والقياس؛ لأن البيان لا يشترط فيه مساواة المبين للمبين على   1 غاية الوصول شرح لب الأصول للأنصاري ص: 83، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/50، والقواعد الأصولية ص: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 القول الراجح. والحنفية الذين يرون أن الزيادة في هذه الحال نسخ للمطلق يشترطون فيها ما يشترط في النسخ، ومن ذلك أن يكون الناسخ في قوة المنسوخ، ومن أجل ذلك لم يجوز الحنفية الزيادة على النص المطلق بأخبار الآحاد والقياس، فكان هذا الخلاف من أهم الأسباب المؤثرة في الاختلاف في الفروع الفقهية، وسيأتي لذلك مزيد من التوضيح في السبب الثاني من أسباب الاختلاف في حمل المطلق على المقيد الآتي، وعند الكلام على أثر الخلاف في فروع المذاهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 المبحث الثاني: أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد المطلب الأول: اختلاف العلماء في دلالة مفهوم المخالفة ... أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد من يستقصي أقوال العلماء ومناقشاتهم في باب حمل المطلق على المقيد يتبين له أن الأسباب التي أدت إلى اختلاف العلماء في حكم حمل المطلق على المقيَّد في بعض الصور كثيرة. فهي من ناحية تعود إلى اختلاف الجمهور مع الحنفية في معنى حمل المطلق على المقيد، ومن ناحية أخرى ترجع إلى الاختلاف في دلالة المطلق، ومدى تعارضها مع دلالة المقيد، بالإضافة إلى الخلاف في كيفية دفع التعارض بين الأدلة، وشروط تحقق ذلك التعارض. وحيث سبقت الإشارة إلى هذه الأسباب إجمالاً، نكتفي بالكلام هنا على سببين أفردهما الأصوليون بالبحث باعتبار أنهما من أهم الأسباب التي أدت إلى الخلاف في هذا الباب، وسيكون كلامنا عنهما في مطلبين: الأول: في اختلاف العلماء في حجية المفهوم المخالف. الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 المطلب الأول: اختلاف العلماء في دلالة مفهوم المخالفة حتى يكون مفهوم المخالفة واضحاً أمامنا، لا بد من الإشارة إلى كيفية دلالة اللفظ على المعنى، ذلك أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها، وهي في دلالتها على تلك المعاني تختلف؛ فتارة تدل على المعنى من جهة النطق تصريحاً، وتارة أخرى تدل عليه من جهة النطق تلويحاً1. فاصطلح على تسمية دلالة اللفظ على المعنى من جهة النطق تصريحاً بالمنطوق، وعلى تسمية دلالته على المعنى من جهة النطق تلويحاً بالمفهوم: وهذه الطريقة أعني (تقسيم الدلالة إلى منطوق ومفهوم) ، قال بها ابن الحاجب وغيره من محققي الشافعية، وعرفوا المنطوق: بأنه ما دل عليه اللفظ في محل النطق، أي: أنه المعنى المستفاد من اللفظ من حيث النطق به2.   1 مسلم الثبوت 1/413، وشرح الكوكب المنير ص: 238، وتسهيل الوصول للمحلاوي ص: 117 ط الحلبي، وسلم الوصول بشرح نهاية السول للشيخ بخيت المطيعي 2/168، وأصول مذهب الإمام أحمد للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ص: 125-126، والمناهج الأصولية لفتحي الدريني ص: 464-465، وإرشاد الفحول ص: 178. 2 حاشية البناني على جمع الجوامع 1/240، ومختصر ابن الحاجب 2/171-172، وتيسير التحرير لأمير الحاج 1/192، وإرشاد الفحول ص: 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ومثاله: وجوب الزكاة في الغنم السائمة، الذي دل عليه حديث "في سائمة الغنم الزكاة"1، فإن دلالة هذا الحديث على وجوب الزكاة في الغنم السائمة قد استفيدت من منطوق الحديث أي: لفظه. وأما المفهوم: فهو اسم مفعول مأخوذ من الفهم، وهو في الأصل اسم لكل ما فهم سواء أكان من النطق أم غيره. وفي الاصطلاح: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق2، ومعنى ذلك أن المفهوم دلالة اللفظ على حكم شيء لم يذكره المتكلم في كلامه ولم ينطق به3، والتعبير بـ (لا في محل النطق) يشار به إلى أن الدلالة في المفهوم انتقالية؛ لأن الذهن ينتقل من تحريم التأفيف مثلاً: إلى تحريم الضرب بطريق التنبيه بالأول على الثاني، وسمي مفهوماً نظراً لكونه مجرداً عن اللفظ، وإلا فما دل عليه المنطوق يسمى مفهوماً أيضاًَ؛ لأن المعنى لا   1 قال الألباني: بعد سوقه له من الدليل بعنوان (حديث الصديق مرفوعاً) ، "وفي الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة". صحيح، أخرجه: أبو داود 2/99، رقم الحديث 1570، والبيهقي 4/86، وأحمد 1/11-12، عن حماد بن سلمة بلفظ: "وفي صدقة الغنم عن سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة". المكتب الإسلامي. ونيل الأوطار 4/141 ط الأخيرة مصطفى البابي الحلبي. 2 حاشية البناني 1/240، وإرشاد الفحول ص: 178. 3 روضة الناظر لابن قدامة ص: 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ينطبق به، وإنما ينطبق بالدال عليه، ولكن لما كان المعنى في المنطوق مستنداً إلى لفظ مذكور في الكلام سمي منطوقاً، وغيره مفهوماً، وإن كانت استفادته قد جاءت بواسطة اللفظ، ثم إن الحكم الذي يستفاد من طريق المفهوم قد يكون موافقاً للحكم المنطوق به وقد يكون مخالفاً له. فالأول مفهوم موافقة. والثاني مفهوم مخالفة. فمفهوم الموافقة: حيث يكون الحكم المسكوت عنه موافقاً للمنطوق، ويسمى فحوى الخطاب ولحنه، سواء كان الحكم المسكوت عنه أولى من حكم المنطوق به أو مساوياً له. فالأول: وهو ما كان حكم المسكوت عنه أولى من المنطوق به مثل: دلالة تحريم التأفيف في قوله - تعالى -: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} 1 على تحريم الضرب؛ إذ إنه أشد من التأفيف فكان النهي عنه أولى. والثاني وهو ما كان مساوياً للحكم المنطوق به مثاله: دلالة تحريم أكل مال اليتيم المستفاد من قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 2 على تحريم إحراق مال   1 سورة الإسراء آية: 23. 2 سورة النساء آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 اليتيم بطريق المفهوم؛ لأن الإحراق مساوٍ للأكل في إتلاف المال، ومن الأصوليين من يفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب، فيجعل الفحوى لما كان المسكوت عنه أولى من المنطوق، ولحن الخطاب لما كان المسكوت فيه مساوياً للمنطوق؛ ولكن عامة الأصوليين على عدم التفرقة. ولا خلاف بين العلماء في أن كلاً من المنطوق ومفهوم الموافقة حجة صالحة لإثبات الأحكام الشرعية؛ وإنما يظهر التفاوت بين المنطوق ومفهوم الموافقة عند التعارض، حيث يقدم ما يدل بالمنطوق الصريح1، على ما يدل بالمنطوق غير الصريح2، ويقدم مفهوم الموافقة على مفهوم   1 المنطوق الصريح: ما كانت دلالة اللفظ فيه على المعنى الموضوع له، بالمطابقة أو التضمن، ويسمى عند الحنفية (عبارة النص) . 2 المنطوق غير الصريح: هو دلالة اللفظ على معنى لم يوضع له اللفظ؛ ولكن لازم للمعنى الموضوع، فيدل عليه اللفظ بواسطة الالتزام، وقد قسمت دلالة الالتزام إلى ثلاثة أنواع: اقتضاء، وإشارة، وإيماء وتنبيه. 1- فدلالة الاقتضاء: هي دلالة اللفظ على معنى مقصود للمتكلم تتوقف عليه استقامة اللفظ، أو صحته العقلية أو الشرعية. انظر مختصر ابن الحاجب 2/172، وجمع الجوامع 2/20، وتسهيل الوصول للمحلاوي ص: 103، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص: 176 شرح على روضة الناظر. فمثال ما تتوقف عليه استقامة اللفظ حديث " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان"، فذات الخطأ والنسيان لم يرتفعا، بدليل وقوعهما من الأمة؛ فلا بد من تقدير محذوف تتوقف عليه استقامة اللفظ، وهو المؤاخذة أو الإثم، تقديران عند العلماء مبناهما عموم المقتضى وعدم عمومه، والذي ترجحه الأدلة الأول، أي: عموم المقتضى, والحديث رواه ابن ماجه بلفظ: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وقال عنه الألباني في إرواء الغليل صحيح 1/123. ومثال ما تتوقف عليه الصحة العقلية قوله -تعالى-: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} والمراد أهلها، لأن السؤال يوجه إلى من يتصور منه البيان وهم العقلاء، وأما الأبنية فسؤالها لا يتصور عقلاً. ومثال ما تتوقف عليه الصحة الشرعية: قولك "اعتق عبدك عني بألف"؛ فإن صحة هذا الكلام شرعاً تتوقف على تقدير "بع عبدك لي بألف وأعتقه عني؛ لأن الإنسان ممنوع من التصرف في مال غيره، إلا بعد أن يتملكه، فاقتضت صحة الكلام شرعاً هذا التقدير. 2- ودلالة الإشارة هي دلالة اللفظ على معنى غير مقصود للمتكلم، ولكنه لازم للمقصود، مثل: دلالة قوله -تعالى-: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} على صحة صوم من أصبح جنباً؛ فإن من ضرورة إباحة الجماع في جميع أجزاء الليلة حتى الجزء المتصل بالفجر الإصباح جنباً، ذلك أ، الاغتسال من الجنابة يحتاج إلى وقت ولم يحدد له زمناً من الليل في هذه الآية الكريمة، فلم يبق إلا جوازه في غيره وهو النهار، والنهار محل للصيام، فذل ذلك على اجتماع الجنابة والصوم في وقت واحد، وجواز اجتماعهما في وقت واحد دليل على عدم التنافي بينهما. تسهيل الوصول ص: 107. 3- دلالة الإيماء والتنبيه: هي أن يرد وصف مقترناً بحكم في نص من نصوص الشرع على وجه لو لم يكن ذلك الوصف مفيداً للتعليل لكان الكلام معيباً أو بعيداً. ومثالها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم "واقعت أهلي وأنا صائم"، فقال الرسول: "أعتق رقبة"، فإنه يدل على أن الوقاع علة للإعتاق؛ لأن السؤال معاد في الجواب فكأنه قال له: ((إذا واقعت أهلك وأنت صائم، فكفر بإعتاق رقبة)) . تيسير التحرير 4/44، والأحكام للآمدي 3/41، والتوضيح 2/61، وأصول مذهب الإمام أحمد ص: 126، والمناهج الأصولية ص: 467، وروضة الناظر مع شرحها للشنقيطي ص: 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 المخالفة عند القائلين بحجية مفهوم المخالفة، كما سيأتي بيان ذلك، ولكن وقع الخلاف بين الجمهور والحنفية في المفهوم المخالف هل هو حجة لإثبات الحكم أو لا؟ ولعلاقة هذه المسألة بالخلاف في حمل المطلق على المقيد سوف أتناولها بالبحث في النقاط التالية، وسيتبين لنا من اختلافهم في حجية مفهوم المخالفة، اختلافهم بالتالي في حمل المطلق على المقيد أو عدم حمله عليه في الصور المتنازع فيها؛ فالذي يرى أن مفهوم القيد حجة جعله سبباً للحمل، ومن لا يرى حجية المفهوم نفي السببية التي أوجبت الحمل عند غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 نقاط البحث في مفهوم المخالفة: 1 - تعريفه. 2 - مذاهب العلماء في حكم الاحتجاج به. 3 - شرط حجيته عند القائل بها. 4 - الفرق بين القيد والعلة. 5 - أثر الخلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 أولاً: تعريف مفهوم المخالفة من تعريف مفهوم الموافقة السابق تتضح حقيقة مفهوم المخالفة، وأنه ما كان الحكم المسكوت عنه مخالفاً للحكم المنطوق به، ويسمى أيضاً دليل الخطاب؛ لأن الدلالة على الحكم المخالف تحصل باعتبارات موجودة في الخطاب نفسه، كالوصف والشرط والغاية وغيرها من القيود التي لها مفهوم مخالف، وبناء على ذلك يمكن تعريفه في اصطلاح القائلين بحجيته. بأنه: دلالة اللفظ على ثبوت نقيض الحكم المنطوق به لانتفاء قيد معتبر في تشريعه1. ومثال ذلك: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة زكاة"2؛ فهذا الحديث عند من يقول بالمفهوم المخالف يدل على حكمين: الأول: وجوب الزكاة في الغنم السائمة، وهذا الحكم منطوق به في الحديث صراحة. الثاني: عدم إيجاب الزكاة في الغنم غير السائمة، وهذا الحكم على نقيض من الحكم الأول، كما ترى بدل عليه التقييد بوصف السوم، فمن   1 أصول الفقه للأستاذ أبي زهرة ص: 117، وتفسير النصوص أديب صالح 1/665، والمناهج الأصولية لفتحي الدريني ص: 403. 2 تقدم تخريج هذا الحديث ص:230 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 حيث إن استفادة هذا الحكم لم تستند إلى لفظ منطوق به في الكلام سمي مفهوماً؛ ومن حيث إنه كان مخالفاً للحكم المنطوق به سمي مخالفاً فقيل: مفهوم المخالفة أو المفهوم المخالف. ولكن من لا يرى حجية مفهوم المخالفة يقول: إن عدم إيجاب الزكاة في الغنم المعلوفة لم يتعين منشؤه؛ فلا يدرى أهو دلالة التقييد بوصف السوم أم للعدم الأصلي؟ الذي هو براءة الذمة من التكاليف حتى يدل دليل على انشغالها؟ ذلك أننا قد وجدنا بالاستقراء لجزئيات كثيرة وردت بها نصوص شرعية مقيد حكم كل منها بقيد، وثبت انتفاء حكم الواقعة المنصوص عليه عند انتفاء القيد، وكان ذلك الانتفاء موافقاً للعدم الأصلي1، ومن   1 فكل من مفهوم المخالفة والعدم الأصلي متفق من حيث النتيجة العملية، وهي عدم إيجاب الزكاة في الغنم غير السائمة. قال صاحب التيسير مع شرح التحرير: " لا يمنع من نفي الحنفية للمفهوم موافقة أصحابنا للشافعية في غالب الأحكام التي أخذها الشافعية من مفهوم المخالفة؛ لأن أصحابنا استندوا في هذه الأحكام لغير مفهوم المخالفة، وهو إما استصحاب العدم الأصلي (البراء الأصلية) . وإما استصحاب أصل أتى به الشارع، فمن الأول عدم إيجاب الزكاة في الغنم المعلوفة، ومن الثاني عدم جواز ضرب القاذف أكثر من ثمانين جلدة؛ لأنه مأخوذ من عموم الدليل على المنع من الأذى". تيسير التحرير 1/150، والتوضيح 1/144، والوسيط في أصول الحنفية للشيخ أحمد فهمي أبو سنة ص: 129، والمناهج الأصولية ص: 440. وفي نسمات الأسحار سرح المنار يقول في ص: 50: "والحنفية ينفون مفهوم المخالفة بأقسامه في كلام الشارع فقط، ويضيفون حكم الصفة، والشرط إلى الأصل وهو العدم الأصلي الذي هو براءة الذمة من التكاليف قبل ورود الشرع، وحكم الغاية والعدد إلى الأصل الذي قرّره السمع"، وفي المنار مع حواشيه ص: 546، نحو هذا الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 هنا وقع الشك في انتفاء الحكم عن الحادثة التي انتفى القيد عنها، ومع الاحتمال والتردد لا تنهض الحجية؛ إذ يجب الاحتياط في تقرير المناهج الأصولية لاستنباط الأحكام الشرعية، حتى لا ينسب إلى الشرع ما ليس منه1. ويرد على ذلك بأن الجمهور القائلين بحجية المفهوم المخالف لا ينفون الاحتمال في منشأ الحكم، ولهذا يقولون: إن دلالة مفهوم المخالفة ليست قطعية، لكنهم يرجحون احتمال كون منشأ انتفاء الحكم وثبوت نقيضه مستنداً إلى دلالة القيد لا للعدم الأصلي، وذلك للأدلة المرجحة لهذا القول، والظن الراجح كاف في وجوب العمل به في الأحكام العملية وأدلتها.   1 المناهج الأصولية ص: 439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ثانياً: مذاهب العلماء في حجية مفهوم المخالفة وأدلتهم: يقصد بحجية مفهوم المخالفة أن يكون طريقاً صالحاً لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، مثل: استفادة عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة من حديث: "في سائمة الغنم زكاة"، لعدم تحقق صفة السوم فيها. ويقصد بعدم حجيته أنه لا يكون منهجاً أصولياً تستنبط الأحكام الشرعية عن طريقه، ذلك أن المحل المخالف للمنطوق، وقع الشك في نفي الحكم عنه، أهو لانتفاء القيد الموجود في المنطوق، فيكون من قبيل دلالة النص؟ أم أن ذلك يرجع إلى عدم الحكم الشرعي أم هو يعود إلى أدلة أخرى، فلا يكون مأخوذاً من النص المقترن بالقيد؟ إذا علم ذلك فنقول: اتفق الأصوليون على أن مفهوم المخالفة حجة يجب العمل بمقتضاها في المؤلفات العلمية، وعقود الناس وتصرفاتهم القولية وسائر معاملاتهم، لأن عرف الناس واصطلاحهم في التعبير عن مقاصدهم يدل على ذلك، وإلا كان الإتيان بالقيد في عرفهم عبثاً1. ولهذا شاع بين الحنفية مع نفيهم لحجية المفهوم في كلام الشارع:   1 علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص: 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 قولهم: (مفاهيم الكتب حجة) 1، وبناء على ذلك فقول الواقف جعلت ربع مالي لأقاربي الفقراء، يفيد بمنطوقه استحقاق أقربائه الفقراء لربع ماله، ويفيد بمفهومه المخالف عدم استحقاق أقاربه غير الفقراء لربع ماله، ونصه حجة على الحكمين إلا إذا دلت قرينة على أن القيد ليس للتخصيص2، فعندئذ يؤخذ بما توجبه القرينة3. ثم وقع الخلاف بين الجمهور والحنفية في الاحتجاج بمفهوم المخالفة في نصوص الشرع: أ - فذهب الحنفية ومن وافقهم إلى أن مفهوم المخالفة ليس بحجة في نصوص الشرع4. ب - وذهب جمهور الأصوليين من المالكية والشافعية والحنابلة فيما   1 التحرير مع التقرير والتحبير 1/177، والمناهج الأصولية ص: 436. 2 علم أصول الالفقه للخلاف ص: 116، وتيسير التحرير 1/149، والعضد على منتهى ابن الحاجب 2/174. 3 تفسير النصوص د. أديب صالح ص: 688، نقلاً عن رد المحتار على الدر المختار 3/416، ورسالة رسم المفتي لابن عابدين ص: 45. 4 مع الحنفية الظاهرية والغزالي والآمدي من الشافعية. الأحكام للآمدي 2/153، والآحكام لابن حزم 7/886، والمستصفى للغزالي 2/42، وإرشاد الفحول للشوكاني ص: 178، وتيسير التحرير 1/149 - 150، ومسلم الثبوت 1/414. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 عدا مفهوم اللقب1 إلى أن المفهوم المخالف حجة شرعية صالحة لأخذ الأحكام بواسطتها.   1 يراد باللقب هنا: الاسم الجامد سواء كان علماً كزيد، أو لقباً كزين العابدين، أو كنية كأبي بكر، فكل ذلك لا مفهوم له عند الجمهور، ونسب إلى الدقاق من الشافعية وبعض الحنابلة القول بمفهوم اللقب والتحقيق في ذلك أن ما نسب إلى الدقاق ومن معه من القول بحجية مفهوم اللقب مؤول بما كان مقترناً بما يدل على الحجية، وعندئذ يكون خارجاً عن محل النزاع لأن الحجية قد جاءت من الدليل لا من مفهوم اللقب. انظر: أصول مذهب أحدم ص: 145، والعدة لأبي يعلى ص: 63 مخطوط، والأحكام للآمدي 3/96، وشرح مختصر ابن الحاجب 2/182، وإرشاد الفحول ص: 382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ثالثا: شرط حجيته عند القائل بها. وقبل أن نذكر أدلة المذاهب نشير هنا إلى أن الجمهور قد احتاطوا للأخذ بمفهوم المخالفة فاشترطوا للقول به شروطاً لا بد من توفرها حتى يكون حجة شرعية، وتلك الشروط إذا روعيت فيها تقريب لوجهات النظر المختلفة بعضها من بعض، كما أنها تخفف من حدة الاختلاف بين مسالك العلماء، وفيها أيضاً جواب عن كثير من الاعتراضات التي يمكن أن تورد على القائلين بالحجية، وهي شروط كثيرة، ولكن بالاستقراء يمكن تلخيصها في شرطين: الأول: أن لا يعارض المفهوم المخالف ما هو أقوى منه1، ومفاد هذا الشرط أن يقدم العمل بالمنطوق ومفهوم الموافقة عند تعارضهما مع المفهوم المخالف. أما تقديم المنطوق فهو ظاهر لقوته واتفاق العلماء على الاحتجاج به، وأما تقديم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة عند التعارض؛ فلأمرين: أولهما: ما سبق في تعريف المفهوم الموافق أن من شرط الحكم   1 المراجع التي سبقت وشرح الكوكب المنير ص: 246، والواضح لابن عقيل ورقة ص: 52 من الجزء الثاني مخطوط، والمسودة لآل تيمية ص: 351 - 352، وأصول مذهب الإمام أحمد ص: 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الثابت به أن يكون أولى من المنطوق أو مساوياً له، وهذا يقتضي تقديم العمل بمفهوم الموافقة عند تعارضه مع مفهوم المخالفة لمساواة مفهوم الموافقة للمنطوق على أقل تقدير. ثانياً: أن الحكم الثابت بالمفهوم الموافق، ثابت بطريق النص نفسه لوضوح علته، والوقوف عليها وتعلقها بمجرد سماع المنطوق بخلاف مفهوم المخالفة فهو وإن كان ثابتاً بطريق اللفظ عند القائل به، لكنه يحتاج إلى تأمل وروية، فعلى هذا يقدم عند التعارض مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة لقوته ووضوحه. وخاصة إذا علمنا أن بعض الباحثين يرى أن تقسم الدلالات إلى قسمين: 1 - منطوق ويتضمن أغلب أنواع الدلالات1 بما فيها مفهوم الموافقة، لأن العلة فيه تفهم بمجرد ذكر النص. 2 - ومفهوم: ويراد به هنا: ما يقابل المنطوق وهو منحصر في مفهوم المخالفة عند صاحب هذا الاتجاه: وعليه فاعتبار مفهوم الموافقة   1 عدد الدلالات التي تندرج تحت المنطوق عند هذا الفريق أربع دلالات وهي: عبارة النص، وإشارته، واقتضاؤه، وسبق تعريف هذه الدلالات عند الجمهور كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى ويلحق بها مفهوم الموافقة. أصول الفقه لأبي زهرة ص: 147، والمناهج الأصولية ص: 413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 خارجاً عن المنطوق فيه نظر. الشرط الثاني: أن لا يكون للقيد الذي خص بالذكر1 فائدة أخرى غير تخصيص الحكم بالذكر. وهذا شرط جامع كما ترى، إلا أنه لما كان يعسر الوقوف على نفي الفوائد الأخرى نظراً لاشتمال الأحكام الشرعية على أسرار وحِكَم لا يحيط بها إلا مُشَرِّعُهَا العليم الحكيم2. أقول: من أجل ذلك اعترض المخالفون في حجية المفهوم على هذا الدليل، وقالوا: إن هذا الشرط يدفع القول بحجية المفهوم، لعدم إمكان الاطلاع على نفي الفائدة. وكان رد الجمهور على ذلك ما سبقت الإشارة إليه من أن الظن الراجح كاف للقول بوجوب العمل بالمفهوم المخالف، ومعنى ذلك أن المجتهد إذا بحث في النصوص المشتملة على قيد من القيود ثم غلب على ظنه أن ما ورد فيها من قيد هو لبيان نفي الحكم عند انتفاء القيد عن الواقعة، لزمه العمل بمقتضى ما ترجح له، وهذا هو مراد القائلين بالحجية، أي: أنه دليل راجح يجب العمل به على هذا الأساس.   1 جمع الجوامع 1/133، والمناهج الأصولية ص/417. 2 نسمات الأسحار شرح المنار ص: 105، ورسالة رسم المعنى لابن عابدين ص:45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 أدلة الفريقين: أ - أدلة الحنفية ومن وافقهم 1: استدل الحنفية ومن وافقهم على منع الاحتجاج بمفهوم المخالفة في نصوص الشرع، بعدة أدلة، أظهرها ما يلي: 1 - قالوا: إن دلالة التقييد على نفي الحكم عن غير المتصف بالقيد ينبغي أن تثبت بما تثبت به الأوضاع اللغوية لمساس علاقة هذه الدلالة باللغة، وطريق إثبات الأوضاع اللغوية إما أن يكون بدليل عقلي، أو بدليل نقلي، ولا سبيل إلى إثباتها بطريق العقل؛ لأنه لا مجال له في اللغات، ولا دخل له في وضع الألفاظ. والنقلي إما متواتر أو آحاد، ولا سبيل للقول بالأول، وهو المتواتر، لأن المتواتر لو كان موجوداً، لما وقع الاختلاف بين العلماء في حجية مفهوم المخالفة، نظراً إلى أن المتواتر لا يدع مجالاً للاختلاف، وحيث إن الاختلاف واقع في هذه المسألة؛ فإنه يدل على عدم توفر الدليل النقلي المتواتر فيها. بقي الدليل النقلي الأحادي وهو لا يفيد في هذه المسألة؛ لأنه يفيد   1 الأحكام للآمدي 2/153، والأحكام لابن حزم 7/886، والمستصفى للغزالي 2،42، ومسلم الثبوت 1/431، وتيسير التحرير 1/149 - 150، والعضد على مختصر ابن الحاجب 2/174، وإرشاد الفحول ص: 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الظن، ولا اعتبار بالظن في إثبات الأصول اللغوية، وحيث إن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم يجري عليهما ما يجري على اللغة؛ فلا اعتبار فيهما لمفهوم المخالفة، لأنه لم يثبت بالنقل المتواتر1. وقد أجيب عن هذا الدليل بما يلي: أولاً: إن عدم إفادة أخبار الآحاد لمثل هذه المسألة غير مسلم، لأن عدم قبول الآحاد فيها، واشتراط ثبوتها بالطريق المتواتر يؤدي إلى امتناع العمل بأكثر أدلة الشرع، لعدم توفر التواتر في مفرداتها. وثانياً: إن معظم قواعد اللغة وأساليبها ما وصل إلينا إلا بطريق النقل الأحادي كالنقل عن الخليل، وسيبويه، والأصمعي2، فلو اشترطنا   1 الأحكام للآمدي 3/76، والعضد على مختصر ابن الحاجب 2/179، وعلم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص: 185، وتيسير التحرير 1/103. 2 المراجع السابقة، وروضة الناظر مع شرحها لبدران 2/207، وشرح الكوكب المنير ص: 146، والمستصفى للغزالي 2/43، والمناهج الأصولية ص: 448، وتفسير النصوص د. أديب محمد الصالح، وحاشية السعد التفتازاني مع شرح العضد ص: 179. والأصمعي هو: عبد الملك بن قريب بن علي بن أصبح الباهلي، أبو سعيد الأصمعي راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، نسبته إلى جده أصمع، ومولده ووفاته بالبصرة أخباره كثيرة جداً، وله تصانيف منها: الإبل، والأضداد، والمترادف، توفي سنة 216هـ، وكانت ولادته سنة 122هـ وقيل: 123، وله أيضاً كتاب الأجناس في أصول اللغة، والمذكر والمؤنث، وكتاب الخراج. انظر: معجم المؤلفين 6/187، والأصمعي حياته وآثاره د. عبد الجبار الجومرد ط مطابع الكشاف، وطبقات اللغويين والنحويين 183 - 1392 طبع عام 1375هـ. - الخليل بن أحمد الفراهيدي: أبو عبد الرحمن الأزدي من أئمة اللغة والأدب والشعر، وشيخ سيبويه واضع علم العروض، وقد أبدع بدائع لم يسبق إليها، وكانت ولادته سنة 100هـ، وهو رأس الطبقة الخامسة من مصنفاته: كتاب العين في اللغة، توفي سنة 170هـ. المختصر من تاريخ اللغويين والنحويين 13 - 14، وطيقات النحويين واللغويين للزبيدي 43 - 47، معجم المؤلفين 4/112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 لقبول ذلك التواتر لضاع كثير من قواعد اللغة. وثالثاً: وجدنا العلماء في شتى البلاد ومختلف العصور مكتفين بالنقل الآحادي في فهم معنى الألفاظ وأساليب اللغة، وهذا دليل منهم على أن التواتر ليس شرطاً لمعرفة القواعد اللغوية. 2 - واستدلوا أيضاً: فقالوا: إن التعليق بالوصف لو كان دالاً على نفي الحكم عند عدمه للزم أن لا يثبت عند انتفاء القيد؛ لأن ثبوته عندئذ يكون مخالفاً للدليل. ولكن الحكم المعلق على الوصف قد يثبت عند عدمه، ويدل على ذلك قوله - تعالى -: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم خَشْيَةَ إمْلاَقٍ} 1؛ فإن النهي عن قتل الأولاد قيد بحال خشية الإملاق، مع أن الحكم وهو تحريم القتل ثابت   1 سورة الإسراء آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 في حال عدم خشية الإملاق، وهو الفقر، أو كان القتل مع خشية الإملاق. وأجيب عن هذا الدليل بما تقدم في شروط حجية مفهوم المخالفة، وهو أن لا يكون الحكم المسكوت عنه أولى من المنطوق به، وفي هذه الحال حكم تحريم قتل الأولاد في حال عدم خشية الإملاق أولى بالتحريم من حال خشية الإملاق، فلا يدل التقييد على نفي الحكم في هذه الصورة، لتخلف شرط حجيته، وهو أن لا يعارضه ما هو أقوى منه، وفي هذه الحال قد عارضه مفهوم الموافقة، فيقدم العمل به لقوته ووضوحه، على العمل بالمفهوم المخالف. 3 - ومن أدلتهم أيضاً: قياس ما عدا اللقب من المفاهيم على اللقب بجامع أن كلاً منهما يميز ما تعلق به، ويحد من دائرة شموله، وحيث كان مفهوم اللقب ليس بحجة باتفاق أكثر العلماء، فكذلك غيره من المفاهيم لا يكون حجة لاشتراكهما في العلة، وهي التمييز في كل. وأجيب عن ذلك بأن قياس غير اللقب من المفاهيم على اللقب قياس مع الفارق، ووجه الفرق أن غير اللقب من المفاهيم فيه الإشعار بالعلية، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، بخلاف اللقب، فإنه لا دلالة له على علة الحكم، فعدمت المساواة بينهما، ثم إن ذلك منقوض بالغاية، فإن المقصود منها التمييز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 مع أنها تدل على أن ما بعدها مخالف لم قبلها في الحكم، فلو كان كل ما هو موضوع للتمييز لا يدل على نفي الحكم عند انتفائه لما دلت الغاية على ذلك1، وكل هذا مع التسليم بصحة القياس في اللغة، مع أن الراجح عدم جريان القياس فيها. 4 - ويمكن لنفاة الاحتجاج بمفهوم المخالفة أن يؤيدوا وجهة نظرهم بمبدأ تعليل الأحكام؛ لأن أغلبها معلل في نظر الجمهور من العلماء2، وحيث كان الأمر كذلك، فإنها تتعدى إلى غير موضع النص لاتحاد المناط، وعلى ذلك لا يكون المحل المسكوت عنه خالياً من الحكم حتى نعطيه نقيض الحكم المنطوق به في النص المقيد، وهذا المبدأ لا يدع مجالاً للأخذ بمفهوم المخالفة؛ لأن احتمال وجود العلة في غير المنصوص قائم، فيكون من غير المعقول أن نثبت فيه نقيض الحكم بمفهوم المخالفة3. ويجاب عن هذا الدليل بأنه خارج عن محل النزاع، لما سبق في شروط الاحتجاج بالمفهوم التي منها عدم وجود دليل على الحكم المسكوت عنه، وحيث إن القياس دليل من الأدلة التي تثبت بها الأحكام،   1 الأحكام للآمدي 3/79. 2 إعلام الموقعين لابن القيم 1/179، وتاريخ التشريع الإسلامي للشيخ حسب الله ص: 34 - 35، والمدخل للفقه الإسلامي للأستاذ محمد مذكور ص: 145، وتفسير النصوص 1/685، وأصول مذهب أحمد ص: 142. 3 أصول الفقه للأستاذ أبي زهرة ص: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 لا يكون المحل خالياً عن الدليل، فلا يصح الاحتجاج عليه بالمفهوم المخالف علماً أن تعارض القياس والمفهوم فيه خلاف بين العلماء، فبعضهم يقدم مفهوم المخالفة لاستناده إلى النص، ولا قياس مع النص. وبعضهم يقدم القياس، لاتفاق أكثر العلماء على حجية القياس، بخلاف المفهوم المخالف فقد خالف في الاحتجاج به كثير من العلماء، والذي يترجح عندي أن يفرق بين القياس المنصوص العلة، وما كانت علته مستنبطة فالأول يعارض مفهوم المخالفة ويقدم عليها؛ لأنه في الحقيقة مفهوم الموافقة الذي سبق الكلام عليه. وأما ما كانت العلة فيه مستنبطة فهو محتمل، وللمجتهد دوره في الترجيح عند التعارض بين هذا النوع من القياس وبين مفهوم المخالفة. ب - أدلة الجمهور على أن مفهوم المخالفة حجة: استدل جمهور الأصوليين على أن مفهوم المخالفة حجة شرعية يصلح لاستنباط الأحكام الشرعية بواسطته بأدلة منها: أولاً: عرف أهل اللغة: فقد روي عن الإمام الشافعي وأبي عبيد القاسم بن سلام1 أنهما   1 هو: أبو عبيد القاسم بن سلام كان أبوه عبداً رومياً لرجل من أهل هراة، وكان تقياً ورعاً أثنى عليه كثير من العلماء، وعدوه من أتقن أهل زمانه، توفي في مكة سنة 222هـ وقيل 223. انظر: نزهة الألباء ص: 69، ومعجم الأدباء ص: 245 - 261 جزء 16، وطبقات الشافعية 2/159، وطبقات النحويين واللغويين ص: 217، تحقيق محمد أبو الفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 حينما سمعا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته" 1، قالا: هذا يدل على أن مطل غير الغني ليس بظلم2. فدل ذلك على أن انتفاء الحكم عن الواقعة التي ورد بها النص عند انتفاء القيد، وثبوت نقيضه هو المتبادر من فهم أئمة اللغة. والتبادر بدون قرينة أمارة الحقيقة، وعرف أهل اللغة حجة وإلا لم يكونوا أئمة فيها. ثم إن الظاهر أن عرفهم يستند إلى أصل لغوي، إذ لا مجال للاجتهاد بالرأي في إثبات الأوضاع اللغوية3، وقد نقل هذا الفهم عنهم نقلاً   1 متفق عليه، رواه البخاري باب الحوالة 3/127، ط دار إحياء التراث، قدم لهذه الطبعة أحمد محمد شاكر، ومسلم في باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة واستحباب قبولها إذا أحيل على ملئ، النووي مع مسلم 10/227 المطبعة المصرية ومكتبتها، وهناك رواية أخرى بلفظ "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته" رواها أهل السنن راجع المختصر لابن الحاجب 2/175، والأحكام للآمدي 3/69، وروضة الناظر ص: 140. 2 المراجع السابقة، وشرح الكوكب المنير ص: 246 - 247، وتيسير التحرير1/103، والمستصفى للغزالي 2/73، وروضة الناظر مع شرحها 2/207. 3 يشبه هذا إجماع المجتهدين في عصر من العصوم على حكم شرعي؛ إذ لا بد أن يكون إجماعهم مستنداً إلى أصل شرعي، وإن لم يصرحوا به. تيسير التحرير 1/154 - 155، والمناهج الأصولية ص: 443. وهنا نشير إلى مدى صلة العقل الإنساني باللغة، فلا مراء أن العقل ليس له دخل في وضع مادة اللغة، لكن هذا لا ينفي أن يكون للعقل مدخل في تقرير مقتضى الحكمة والمنطق الذي ينبغي أن يكون عليه وضع اللغة. ذلك أن واضع اللغة لم يكن إبّان وضعه لها بمعزل عن المنطق والحكمة. المناهج ص: 444، وتيسير التحرير 1/155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 مستفيضاً عبر القرون، فدل ذلك على أن ما يفيده أسلوب مفهوم المخالفة مدلول لغوي للنص نفسه1، فكان حجة؛ إذ كل ما كان من مدلول النص يجب الأخذ به ولا يجوز تركه. وعورض هذا الفهم بفهم الأخفش وغيره2 من أئمة اللغة الذين لا   1 شرح المختصر لابن الحاجب 1/175. 2 كابن جني وابن فارس. والأخفش هو: سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء أبو الحسن المعروف بالأخفش الأوسط من أهل بلخ وسكن البصرة، نحوي عالم باللغة والأدب، وهو الذي زاد في العروض البحر الخفيف، له كتاب الأوسط في النحو، ومعاني القرآن، والمقاييس في النحو، ومعاني الشعر، توفي سنة 215هـ. انظر: طبقات اللغويين والنحويين ص: 74 - 76، ومعجم المؤلفين 4/231، والبداية والنهاية 10/293 ط 3 سنة 1398 مكتبة المعارف بيروت. وابن جني هو: عثمان بن جني الموصلي أبو الفتح من أئمة الأدب والنحو، كان يقول عنه المتنبئ ابن جني أعرف بشعري مني، توفي سنة 392هـ، له عدة مصنفات منها: الخصائص في اللغة، والتنبيه في شرح ديوان الحماسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 يقرون مفهوم المخالفة. وقد دفعت هذه المعارضة بأن منزلة الأخفش في اللغة دون الإمام الشافعي وأبي عبيد، كيف وقد قال بذلك الإمام الشافعي وهو من أئمة اللغة الذين يحتج بقولهم فيها؛ فالأصمعي قد احتج بقوله وصحح عليه دواوين الهذليين، ثم هناك قاعدة في المعارضة والترجيح تقضي بأنه إذا تعارض المثبت والنافي كان المثبت أولى بالقبول؛ لأن المثبت معه زيادة علم لم يطلع عليها النافي، ذلك أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود إلا ظناً1، لكن الوجدان يدل على الوجود قطعاً، ولا شك أن القطعي أولى بالقبول من الظني. واستدلوا أيضاً: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نقل عنه هذا الفهم، كما نقل عن الصحابة - رضي الله عنهم - مثل ذلك، بدليل أن يعلى2 بن أمية لما سمع قول الله - تعالى -:   1 تيسير التحرير 1/155. 2 هو: يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام التميمي حليف قريش، صحابي مشهور روى له الجماعة، مات سنة بضع وأربعين ومائة. تقريب التهذيب ص: 387. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} 1، قال لعمر - رضي الله عنه -: ما بالنا نقصر وقد أَمِنّا2، فقد فهم من تعليق جواز قصر الصلاة على الخوف عدم جوازه حالة الأمن، فأقره عمر على هذا الفهم، بدليل قول عمر جواباً ليعلى: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" 3. فعمر - رضي الله عنه - قد فهم من هذه الآية كما فهم يعلى، وسأل رسول الله عن ذلك، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على فهمه، ولكنه بين له أن القصر في حال الأمن تشريع مبتدأ تخفيفاً من الله على عباده، ولو كان ما فهمه عمر من هذا الأسلوب لا تدل علية الآية الكريمة، لما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على فهمه، ولبين له أن ما فهمه من الآية كان خطأ؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.   1 سورة النساء آية: 100. 2 أَمِنّا: دخلنا في حالة الأمن. 3 رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها، انظر النووي على صحيح مسلم 5/196، المكتبة المصرية ومطبعتها، ونيل الأوطار للشوكاني 3/227 في أبواب صلاة المسافر، الطبعة الأخيرة، الناشر مصطفى البابي الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 3 - واستدل الجمهور أيضاً: فقالوا: إن القيود التي ترد في النصوص الشرعية لا بد أن تكون لحكمة، لأن الشارع لا يقيد بوصف أو شرط أو غاية عبثاً، وأظهر ما يتبادر إلى الفهم أن تكون هذه الحكمة تخصيص الحكم بما يوجد فيه القيد1، والتخصيص يقتضي نفي الحكم عما لم يوجد فيه القيد، فإذا عري القيد بعد البحث والتمحيص عن أغلب الاحتمالات والفوائد التي تتوخى منه عادة إلا عن تخصيص الحكم بالمذكور وجب حمله على ذلك؛ لئلا يكون القيد خالياً عن الفائدة، وهو ما ينبغي أن يصان عنه كلام العقلاء، فضلاً عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد سبق اعتراض الحنفية على هذا الاستدلال، وجواب الجمهور عن ذلك. 4 - ومن أدلة الجمهور أيضاً: أن ربط الحكم بالوصف يومئ إلى علية ذلك الوصف، ومعلوم أنه إذا انتفت العلة انتفى المعلول؛ فكان انتفاء الوصف دليلاً على انتفاء الحكم، وهذا الدليل يرجع إلى اعتبار لغوي في النص وهو القيد، كما أنه يعود إلى اعتبار عقلي أيضاً، وهو ارتباط المسبب بالسبب عقلاً؛ فإن العقل يحكم بأنه حيثما توجد العلة يوجد الحكم، وبهذا يكون الاعتبار اللغوي   1 الأحكام للآمدي 3/75، وتيسير التحرير 1/168، والمناهج الأصولية ص: 446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 والشرعي قد تأيدا بالاعتبار العقلي في حجية المفهوم، وقد اعترض على هذا الدليل بعدة اعتراضات منها: أولاً: أن انتفاء الحكم عند انتفاء العلة غير مسلّم به، لجواز علة أخرى يثبت بها الحكم، ذلك أن الحكم الواحد قد يكون له عدة أسباب يثبت بكل واحد منها على سبيل البدل1. ويدفع هذا الاعتراض بأن الدليل مفروض فيما لم يوجد فيه إلا علة واحدة، واعترض عليه ثانياً بأن قياس الوصف (القيد) على علة الحكم قياس مع الفارق ووجه الفرق ما سوف نذكره في الفقرة التالية. اللهم إلا أن يراد أن الوصف (القيد) يشبه العلة من حيث دوران الحكم معها وجوداً وعدماً، فهذا مسلم به، ولكن ذلك لا يقتضي أن يكون الوصف علة للحكم؛ لأن دوران الحكم مع القيد حينئذ قد يكون بسبب أن ذلك القيد شرط مقارن لعلة الحكم2.   1 المرجعين السابقين. 2 المرجع الأخير ص: 447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 رابعاً: الفرق بين القيد والعلة: ذكرنا قبل قليل أن القيد يشبه العلة عند القائلين بحجية مفهوم المخالفة من حيث دوران الحكم معه وجوداً وعدماً، فهل هما شيء واحد أم بينهما فرق؟ وللجواب على هذا التساؤل: نذكر تعريف كل منهما وبه يتضح الفرق عند من يرى ذلك. فالعلة قد عرفت بتعاريف متعددة أقل هذه التعاريف اعتراضاً القول بأنها: الوصف المعرف للحكم1، ومعنى تعريف الوصف للحكم أنه علامة على وجوده، كالإسكار فإنه علامة على حرمة المسكر بقطع النظر عن ذات المسكر، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام"، وفي لفظ آخر: " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" 2.   1 الأحكام للآمدي 3/75، وإرشاد الفحول ص: 207، ودراسات في أصول الفقه د. عبد الفتاح حسن الشيخ ص: 204. 2 أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم بألفاظ مختلفة، فقد رواه البخاري بلفظ "كل شراب أسكر فهو حرام" 4/28. ومسلم في صحيحه في باب بيان أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام 3/1587 - 1588. وابن ماجه باب كل مسكر حرام 2/1123 ط عيسى البابي الحلبي الأحاديث 3386 - 3391، وخاصة رقم 1390. وفي إرواء الغليل 4/40 صحيح وله عدة طرق عن ابن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وأما القيد: فليس هو الوصف المعرف للحكم، ولكنه حالة من أحواله أو ظرف من ظروفه، أو شرط مقارن لعلته، يحدد مجال تطبيق الحكم فيجعله قاصراً على بعض الأحوال دون سواها، وهذا يتضح بالمثال. فزكاة الأموال العلة فيها هي المال النامي حقيقة أو تقديراً وقد حددت زكاة الزروع بمقدار: (عشر المحصول) 1 إذا سقيت بماء السماء، أو الأنهار والعيون، ونحوها مما لا كلفة فيه. وأما في حال السقي بالآلات أو بما فيه تكاليف (فنصف العشر) 2،   1 لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر، وما سقي بمؤونة ففيه نصف العشر". روى هذا الحديث الإمام الشافعي في الأم 7/180، وروى أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا مسلماً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر"، راجع منتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار 4/149، وصحيح البخاري 2/155 باب العشر فيما يسقى من ماء السماء، ترتيب أحمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، وأبو داود 2/108، رقم الحديث 1596 ونصب الراية 2/385، وفي إرواء الغليل صحيح أخرجه أحمد عن جابر 3/353. 2 لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر، وما سقي بمؤونة ففيه نصف العشر". روى هذا الحديث الإمام الشافعي في الأم 7/180، وروى أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا مسلماً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر"، راجع منتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار 4/149، وصحيح البخاري 2/155 باب العشر فيما يسقى من ماء السماء، ترتيب أحمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، وأبو داود 2/108، رقم الحديث 1596 ونصب الراية 2/385. وفي إرواء الغليل: صحيح أخرجه أحمد عن جابر 3/353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 فكل من الحالين إذن ليس هو العلة، بل العلة هي المال النامي نفسه وهاتان الحالتان هما قيدان، أو شرطان مقارنان لعلة الحكم لتحديد المقدار الواجب لاعتبارات تتعلق بالعدل في توزيع التكاليف، وهكذا حق مطالبة الدائن مدينه سببه ومناطه هو الدين؛ إذ هو الذي خَوّل الدائن حق المطالبة1، ولكن هذا الحق حددت ممارسته بحال اليسر حتى إذا انتفت ثبت عكسه، وهو عدم جواز المطالبة في حال الإعسار، مع أن العلة قائمة في الحالتين، وهي (الدين) ولكن (الإعسار) حال دون اقتضاء العلة لحكمها لاعتبارات تتعلق بالمصلحة والعدل، وتوثيق عرى التعاون بين أفراد المجتمع، وبهذا يظهر أن القيد إذا كان له مفهوم يكون ذا أثر في أمرين: الأول: تحديد مدى تطبيق الحكم.   1 هذا الحديث الذي نشير إليه سبق تخريجه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الثاني: تحديد مقدار الحكم إذا كان من المقدرات. فإذا لم يكن للقيد مفهوم مخالف، وذلك بأن كان مجيئه لغرض آخر، فلا يكون للقيد حينئذ أثر في الحكم لا ثبوتاً ولا نفياً، فيطبق الحكم على إطلاقه؛ لأن القيد لا مفهوم له في بيان الحكم. وقد التفت إلى أصل التفرقة بين القيد والعلة بعض1 أصحاب الأصول إلا أنه يرى أن القيد جزء متمم للعلة، ومعنى ذلك أنه إذا انتفى الوصف أي: القيد انتفت العلة؛ فلا تعمل عملها لانتفاء الجزء المتمم لها، وإليك نص كلامه: (والفرق بين العلة والوصف) أن الوصف قد يكون علة كالإسكار، وقد لا يكون علة بل متمماً لها (كالسوم) ، فإن وجوب الزكاة في الغنم السائمة العلة فيه هي الغنم والسوم متمم لها. وهذا التوجيه اعترض عليه بأن أصل التفرقة مسلم به، ولكن كون الوصف متمماً للعلة في حيز المنع، بل الوصف هنا بمثابة الشرط المقارن للعلة، فالعلة تامة، ولكنها لم تعمل عملها لفقدان شرطها المقارن لها2.   1 تسهيل الوصول للمحلاوي ص: 113، والمناهج الأصولية ص: 427. 2 المناهج الأصولية ص: 427. قوله: فالعلة تامة فيه نظر؛ لأن المخالف يرى أن العلة لا تسمى علة إلا إذا استوفت شروط عملها وتجردت من موانعها، وحينئذ يكون الخلاف في هذه المسألة لفظياً، لكون الفريقين لم يتفقا على ماهية العلة، هل هي الوصف المعرف للحكم فقط، أو هي الوصف مع الشروط وانتفاء الموانع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وبعد هذا نصل إلى الفقرة الأخيرة من هذا المبحث، وهي ثمرة الخلاف في حجية مفهوم المخالفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 خامساً: أثر الخلاف في حجية مفهوم المخالفة: لما كان مفهوم المخالفة حجة شرعية لدى جمهور الأصوليين، دل عليها النص لغة وشرعاً، فيعتبر ما يستنبط عن طريقه حكماً شرعياً ثابتاً بالنص نفسه كالحكم الثابت بالمنطوق، وبالتالي تجري عليه الأحكام التي تجري على الحكم المستفاد من المنطوق، فيجري التعارض بينه وبين الحكم المنطوق على اعتبار أنهما ثابتان بالنص كما يجوز نسخه والقياس عليه. وأما على رأي الأحناف ومن وافقهم، الذين يرون أن انتفاء الحكم عند انتفاء القيد الثابت بالعدم الأصلي في بعض الحالات، فلا يكون الحكم الثابت للمحل المسكوت عنه في كل الحالات حكماً شرعياً، بل مجرد حكم عقلي، وحينئذ فلا يستفاد من النص الذي ورد معه القيد إلا حكم واحد هو المنطوق به، والشارع ساكت عن غيره لم يتعرض له بنفي أو إثبات فيبقى على العدم الأصلي عارياً عن الحكم الشرعي حتى يرد دليل من الشارع ينتهض بحكمه، ولا مجال للقول بمفهوم المخالفة في إثبات الحكم فيه، لأن مفهوم المخالفة ليس بحجة شرعية عند الأحناف، وهذا يتضح بالأمثلة الآتية: 1 - فمثال تعارض المفهوم مع المنطوق، قوله تعالى في شأن ميراث بنات المتوفى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} 1، مع قول الرسول   1 سورة النساء آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 صلى الله عليه وسلم لأخي سعد بن الربيع1 "أعط ابنتي سعد الثلثين وزوجته الثمن، وما بقي فهو لك"2، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة في قوله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} ، حيث يدل على أن الواحدة أو الاثنتين لا يرثان الثلثين، وبين منطوق الحديث الذي يفيد أن الاثنتين يرثان الثلثين بقوله: "أعط ابنتي سعد الثلثين"، وقد نسب إلى ابن عباس - رضي الله عنه - أنه فهم ما تقتضيه هذه القاعدة فلم يورث البنتين   1 هو: سعد بن الربيع بن عمرو الخزرجي الأنصاري، صحابي جليل شهد العقبتين وشهد بدراً واستشهد يوم أحد بعد أن أبلى بلاء حسناً - رضي الله عنه - وأرضاه. الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/589، والإصابة في تمييز الصحابة القسم الثالث ص 58، ط دار النهضة مصر. 2 هذا الحديث له قصة فقد روى جابر - رضي الله عنه - أن امرأة سعد ابن الربيع جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد، وإن عمهما أخذ مالهما، ولم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الله في ذلك، فنزلت آية المواريث فبعث الرسول إلى أخي سعد فقال له: "أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك". أخرج هذا الحديث أبو داود في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب 3/120 - 121، رقم الحديث 2892، كما أخرجه الترمذي في كتاب الفرائض باب ما جاء في ميراث البنات 3/280، رقم الحديث 2172، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفرائض باب فرائض الصلب 3/908. وانظر تلخيص الحبير 4/83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الثلثين، ولكن الجمهور قالوا: إن البنتين يرثان الثلثين، بمنطوق الحديث، وبأدلة أخرى1، ومفهوم المخالفة لا يقوى على معارضة منطوق الحديث لما سبق أن من شرط حجيته أن لا يعارضه منطوق، وهنا قد عارضه المنطوق فلا يصح التمسك به في مقابلته. وأما على رأي الأحناف فلا توجد معارضة أصلاً، لأن الحديث بين حكم واقعة مسكوت عنها في آية المواريث. 2 - ومثال نسخ المفهوم عند القائلين به: ما نقل من اتفاق الصحابة - رضي الله عنهم - أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" 2، ناسخ لقوله صلى الله عليه وسلم "الماء من الماء" 3، ولولا أن قوله:   1 لمراجعة الأدلة التي ترجح القول بمنطوق الحديث، ينظر العدة في شرح أصول الفقه لأبي يعلى 2/573، وإيضاح القرآن للشنقيطي 1/308 - 310. 2 أخرج هذا الحديث الشافعي في الأم 1/36، والنسائي وصححه ابن حبان، وابن القطان، لكن في تصحيح هذا الحديث بهذا اللفظ كلام للمحدثين، والرواية الصحيحة الثابتة: "إذا قعد بين شعبها الأربع ثم مس الختانُ الختانَ، فقد وجب الغسل"، ولمسلم وأحمد: "وإن لم ينزل"، روى هذا الحديث البخاري بلفظ: "إذا جلس ... الخ" 1/80 دار إحياء التراث العربي، ومسلم 1/271 باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين. 3 أخرج هذا الحديث مسلم بلفظ: "إنما الماء من الماء" في باب إنما الماء من الماء 1/269 رقم الحديث 343، وقد عول المخالفون على هذه الزيادة في ادعاء الحصر والعموم، وقالوا: إن كلا منهما مستفاد من النص لغة، وليس من مفهوم المخالفة، وأحمد باللفظ المذكور "الماء من الماء" 3/36 المكتب الإسلامي، وأبو داود في باب الإكسال 1/56، رقم الحديث 217، وسبل السلام 1/85 ط4 1379هـ بتعليق محمد عبد العزيز الخولي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 "الماء من الماء" يدل على نفي الغسل من غير إنزال لما كان ناسخاً له، وقد نوقش هذا المثال من قبل المخالفين، حيث قالوا: إن اتفاق الصحابة على النسخ ليس مرده إلى المفهوم، بل لمدلول العموم والحصر، لأن (أل) في الماء، للجنس وفيها معنى حصر المبتدأ في الخبر، وهذا خارج عن محل النزاع. 3 - ومثال القياس على الحكم المأخوذ بطريق المفهوم: ما تقدم في كفارة القتل من أن الآية الكريمة قد اشترطت بمنطوقها الإيمان في كفارة القتل، ودلت بمفهومها المخالف على أن غير المؤمنة لا تجزئ، فقاس الجمهور على كفارة القتل الخطأ كفارة الظهار فاشترطوا فيها أن تكون مؤمنة بناء على صحة هذا القياس، وكان رد الحنفية عليهم بأن أصل القياس ليس حكماً شرعياً، بل عدماً أصلياً؛ فلا يصح هذا القياس، لأن العدم ليس بحكم شرعي، ودفع هذا الاعتراض من قبل الجمهور بأن المعدي وجوب القيد، وهو حكم شرعي ثابت بمنطوق النص، وبهذا المثال تبين أن الخلاف في حمل المطلق على المقيد له صلة قوية بالخلاف في حجية مفهوم المخالفة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك1.   1 فمن يرى أن مفهوم القيد حجة جعله سبباً لحمل المطلق على المقيد، ومن لا يرى ذلك نفي السببية وقال بعدم الحمل، لعدم وجود التعارض الظاهري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الترجيح: يبدو أن الرأي الراجح هو القول بحجية مفهوم المخالفة، وذلك لموافقته للمنقول والمعقول. أما المنقول: فلأن هناك نصوصاً من الكتاب والسنة يؤخذ منها بوضوح أن تقييد النص يدل على أن الثابت عند انتفاء القيد هو نقيض الحكم الثابت عند وجوده، ومن هذه النصوص قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} 1، فقد اتفق جميع العلماء باستثناء الظاهرية على عدم حرمة الربيبة إذا انتفى قيد الدخول بأمها، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة الزكاة" حيث اتفق العلماء باستثناء مالك2   1 سورة النساء آية: 23. 2 مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني الفقيه إمام دار الهجرة رأس المتقين وكبير المثبتين حتى قال البخاري أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر، من السابعة، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي بلغ تسعين سنة. التقريب 326. ولمالك مؤلفات جليلة مروية عنه بأسانيد صحيحة وأشهر هذه المؤلفات الموطأ وهو أول كتاب جمع بين دفتيه الحديث والفقه معاً، ومنها رسالة في القدر، ورسالة في الأقضية، ورسالة إلى الليث بن سعد في إجماع أهل المدينة. طبقات الأصوليين 1/112 - 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 والليث1 بن سعد على الأخذ بمفهوم المخالفة. فقالوا بعدم وجوب الزكاة في المعلوفة2. وأما المعقول: فلأن الذي يتفق مع المنطق البياني السليم هو أن القيد من شرط أو وصف أو غاية أو غير ذلك، لا يمكن أن يكون عبثاً، بل هو لفائدة وسبب، فإذا لم تكن هناك مقاصد بيانية أخرى من وراء ذكر القيد من ترغيب أو ترهيب أو نحوها، ولم يقم دليل خاص على حكم المسكوت غير أخذه من القيد يجب عندئذ الأخذ بهذا الطريق من الدلالة، فإذا كان الحل مقيداً بقيد ما فالتحريم يكون عند تخلف هذا القيد والعكس بالعكس.   1 الليث بن سعد قال في التقريب: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري، فقيه ثبت فقيه مشهور من السابعة، مات سنة خمس وسعين ومائة. تقريب التهذيب لابن حجر ص: 287. 2 أسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 188، والتعارض والترجيح للبرزنجي 1/528، والمناهج الأصولية د. فتحي الدريني ص: 449 - 452، وأصول مذهب أحمد ص: 144، وعلم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص:157، وتقسير النصوص د. أديب صالح 1/672. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 المطلب الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص . خلال حديثنا المستفيض عن أحوال المطلق والمقيد ذكرنا أن من الأسباب التي أدت إلى اختلاف الأصوليين في حكم حمل المطلق على المقيد في بعض الصور1، هو اختلافهم في الزيادة على النص، أهي بيان أو نسخ؟ وحتى يكون الكلام على حقيقة الخلاف مبنياً على أساس متين، ووافياً بالغرض المقصود، نخص هذه النقطة الأخيرة وهي الزيادة على النص بين النسخ والبيان، بمزيد من البحث والتفصيل وليكن الكلام عنها في النقاط التالية: 1 - المراد بالبيان. 2 - المراد بالنسخ. 3 - تعريف النص والمقصود به في هذا المبحث. 4 - تحرير محل النزاع في الزيادة على النص. 5 - أقوال العلماء في حكم الزيادة على النص وأدلتهم. 6 - ثمرة الخلاف في الزيادة على النص.   1 انظر الحال الثالثة من الأحوال المختلف في حكم حمل المطلق على المقيد فيها ص: 238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 1 - المقصود بالبيان: يراد بالبيان أن الحكم الذي يتناوله النص بظاهره لم يرد منا الشرع أن نعمل به على إطلاقه وشموله، وإنما المقصود منه هو العمل بمقتضى ما جاءت به الزيادة. 2 - ويراد بالنسخ: أن الحكم الذي يتناوله النص بظاهره كان مراداً للشارع على الإطلاق ثم جاءت الزيادة ناسخة لذلك الإطلاق، ومقيدة للحكم ببعض محاله التي كان يتحقق فيها قبل مجيء الزيادة. وبناء على ذلك يتفق البيان والنسخ على أن الحكم الذي يجب العمل به بعد مجيء الزيادة هو ما تضمنته الزيادة نفسها، ويختلفان في أن ذلك الحكم هل هو المشروع ابتداء لم يطرأ عليه أي تغيير؟ وعندئذ تكون الزيادة قد أظهرت وبينت ما هو مشروع ابتداء فقط، وهذا المعنى هو المراد بالبيان، أو أن المشروع ابتداء هو ما يفيده النص على إطلاقه، والزيادة جاءت قاصرة له على بعض ما كان يتناوله، وحينئذ تكون الزيادة قد غيرت وأزالت بعض ما كان مراداً للشارع في ابتداء التشريع، وقصرت الحكم فيما يستقبل من الزمان على بعض ما كان قد تناوله النص، فتكون نسخاً بهذا الاعتبار بذلك قال الحنفية، كما سيأتي. 3 - تعريف النص والمراد به هنا: أ - النص في اللغة: يأتي بمعنى الظهور والارتفاع، تقول العرب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 نصت الظبية رأسها، إذا أظهرته ورفعته، ونص فلان الحديث إلى فلان، إذا رفعه إليه، ونص كل شيء منتهاه1، ومن النص بمعنى الظهور والارتفاع سمي الكرسي الذي تجلس عليه العروس منصة؛ لأنها تكون مرفوعة وظاهره على غيرها، ومنه أيضا قول الفقهاء: (نص الكتاب ونص السنة) أي: ما دل عليه ظاهرها من الأحكام2. ب - والنص في الاصطلاح: يختلف تعريفه باعتبار ما يراد منه3،   1 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/356 ط 2 البابي الحلبي سنة 1392 بمصر. 2 النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/64 - 65 ط الحلبي. 3 فيعرف باعتبار مقابلته للدال بالمفهوم: بأنه اللفظ الذي يفهم منه عند النطق به معنى؛ فيكون والحالة هذه هو والظاهر سواء. ويعرف باعتباره قسيماً للظاهر، بأنه: ما لا يتطرق إليه احتمال لا على بعد ولا على قرب، مثل لفظ: (الخمسة) ؛ فإنه نص في معناه لا يحتمل الستة أو الأربعة، ومثل لفظ (الفرس) ، فإنه لا يحتمل غير المسمى به، إذ لا يطلق على الحمار أو البعير اسم الفرس مثلاً، ولكن لما كان نفي مجرد الاحتمال غير ممكن في دلالة اللفظ. نظراً لما يتطرف إلى الدلالة اللفظية من الاحتمالات والمقدمات، اختار بعض الأصوليين تعريفاً وسطاً للنص المقابل للظاهر، حيث يرى هذا الفريق أن النص: ما لا يتطرق إليه احتمال مقبول، ويريد بالاحتمال المقبول ما كان ناشئاً عن دليل، أما الاحتمال الذي لم يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصاً. دراسات في التعارض والترجيح د. السيد صالح عوض ص: 241، والمستصفى للغزالي ص: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 والذي يهمنا من ذلك هو تعريف النص باعتباره شاملاً لنصوص الكتاب والسنة، حيث يعرَّف والحالة هذه بأنه: اللفظ الذي يفهم منه معنى عند النطق به1، وسواء أكان ذلك المعنى مقطوعاً به أم غير مقطوع به، وهذا التعريف أقرب معاني النص لما يراد منه في هذا المبحث؛ لأن علماء الأصول يعنون بالزيادة على النص أن يوجد نص شرعي يفيد حكماً، وقبل وقت العمل به يأتي نص آخر أو ما في حكمه2 مفيداً نفس الحكم السابق للواقعة مع زيادة لم يتضمنها النص الأول، أو يضيف إلى حكم الواقعة الذي تناوله النص الأول بظاهره زيادة فقط. كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 3 مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحاح: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" 4.   1 المرجعين السابقين. 2 يراد بما في حكم النص مفهوم المخالفة والقياس، والمراد بالاتيان - هنا - هو الظهور للمجتهد. 3 سورة النور آية: 2. 4 روى هذا الحديث مسلم في باب حد الزنى 3/1316 رقم الحديث 1690، وأبو داود 4/144، الحديث رقم 4415 دار إحياء السنة النبوية تعليف محمد محي الدين عبد الحميد. والبيهقي 8/210 - 222 من طرق عن الحسن بن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت. وذكر الألباني في إرواء الغليل 8/10 الجملة الأخيرة وقال: صحيح، وذكر من خرجه من المحدثين رقم 2341 الجزء السابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فالنص الأول: وهو الآية الكريمة أفاد حكماً شرعياً هو وجوب جلد الزاني مائة جلدة، وجاء الحديث الشريف فزاد على جلد المائة تغريب عام، فجلد المائة هو المزيد عليه، وتغريب عام هو المزيد، أو الزيادة على النص. ولكن الحنفية عندما اشترطوا في النص الذي تكون الزيادة عليه نسخاً كونه مقطوعاً به ثبوتاً ودلالة، قد قصروا النص على نوع خاص من ألفاظ الكتاب والسنة، وهو ما ثبت وصوله إلينا بالطريق المتواتر، أو المشهور، وكانت دلالته على الحكم لا يتطرق إليها احتمال مقبول. فبالشرط الأول: يكون النص شاملاً لجميع ألفاظ القرآن الكريم، وكذلك السنة المتواترة أو المشهورة، أما شموله للقرآن الكريم؛ فلأنه قد وصل إلينا كله بالطريق المتواتر، وكذا السنة المتواترة، وأما المشهورة فألحقت بالمتواترة حكماً عند الحنفية. وبالشرط الثاني: يخرج اللفظ الذي في دلالته أو ثبوته احتمال، كالعام الذي دخله التخصيص والسنة الأحادية؛ لأنها لم تصل إلينا بالطريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 المتواتر أو المشهور. والحاصل أن ما ثبت له الحكم بطريق قطعي لا يزول عنه بطريق ظني عند الحنفية؛ لأن الزوال بعد الثبوت في الأحكام الشرعية يكون نسخاً في الغالب، ونسخ القطعي بالظني غير جائز1. ويرى الجمهور أن تغيير الظاهر قبل وقت العمل لا يسمى نسخاً؛ لأنه وقع في زمن البيان، والبيان أكثر وقوعاً في الشريعة من النسخ، فيحمل التغيير في هذه المدة على البيان؛ لأنه الغالب على أحكام الشرع إلا إذا قام دليل قاطع على النسخ، كالتصريح في الزيادة على نسخ ما أفاده الظاهر، فإنه يكون حينئذ نسخاً لهذه القرينة، وليس لتعارض الزيادة مع النص. 4 - تحرير محل النزاع في الزيادة على النص: لكي يكون النزاع2 في محل الزيادة على النص واضحاً أمامنا لا بد من الإشارة إلى أن الزيادة عند الأصوليين تنقسم إلى قسمين. زيادة مستقلة بنفسها، بمعنى أن المزيد ليس جزءاً أو شرطاً لشيء آخر، وهذا النوع من الزيادة يتنوع بدوره إلى نوعين:   1 وكلتا الدعويين غير مسلمة لدى الجمهور كما سيأتي. 2 مرآة الأصول لملاخسرو 2/190، 168، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 3/191، والمنار ص: 723. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الأول: أن يكون المزيد مخالفاً لجنس المزيد عليه مثل: زيادة الزكاة على الصلاة، فإن كلاً منهما جنس يختلف عن الآخر، والمزيد وهو الزكاة مستقل عن المزيد عليه؛ إذ الزكاة لا تتعلق بالصلاة تعلق الجزء بالكل أو الشرط بالمشروط. والنوع الثاني: من الزيادة المستقلة أن يكون المزيد من جنس المزيد عليه، كزيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس مثلاً، فإن كلا من الزيادة والمزيد عليه جنس واحد كما هو الظاهر، والمزيد وهو الصلاة السادسة مستقل بنفسه عن المزيد عليه، لعدم تعلق الصلاة السادسة بما قبلها من الصلوات. وهذا القسم من الزيادة بنوعيه الاتفاق قائم بين العلماء دون خلاف يعتد به على أن الزيادة ليست نسخاً لحكم المزيد عليه؛ لأنها زيادة حكم في الشرع دون تغيير الحكم الأول، فمثلاً: وجوب الصلاة لم يتغير بعد زيادة وجوب الزكاة في الشرع، بل ظلت الصلاة واجبة بعد مشروعية الزكاة، كما كانت واجبة قبل مشروعيتها، وكذلك الحال بالنسبة لزيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس. القسم الثاني: زيادة غير مستقلة، بمعنى أن المزيد لا يستقل عن المزيد عليه في إفادة تمام الحكم، لأن الحكم مكون من مجموع الأمرين الزيادة والمزيد عليه، ومن أمثلة هذا القسم زيادة تغريب عام على الجلد في حد الزاني غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 المحصن، إذ إن الحكم بعد زيادة التغريب أصبح مكوناً من جزئين جلد مائة، وتغريب عام، ومثل زيادة وصف الرقبة بالإيمان في كفارة الظهار قياساً لها على كفارة القتل، فقد أصبح الحكم بعد زيادة اشتراط الإيمان إعتاق رقبة مؤمنة لا يجزئ غيرها. وهذا النوع من الزيادة له حالتان: الأولى: أن تكون الزيادة مقارنة للمزيد عليه في نزوله إن كان قرآناً، أو في وروده إن كان سنة، بحيث لا تتأخر عنه مدة يمكن القول بنسخ الحكم فيها، ومن أمثلة هذه الحال رد شهادة القاذف؛ فإنها وردت متصلة بالجلد في قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1. وقد اتفق العلماء على أن هذا النوع من الزيادة غير المستقلة لا يكون نسخاً لفقدان شرط النسخ فيه، وهو التأخر عن المنسوخ بمقدار عقد القلب والعزم على تنفيذ الحكم عند الحنفية، وعند غيرهم شرط النسخ التأخر عن وقت العمل، وكلا الشرطين لم يتحققا في هذا النوع من الزيادة.   1 سورة النور آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الحال الثانية: أن تكون الزيادة غير المستقلة قد تأخرت عن المزيد عليه مدة1 يمكن نسخ الحكم فيها، وفي هذه الحال من الزيادة اختلفت أنظار العلماء، وكانت لهم في حكمها مذاهب أهمها ما يلي: المذهب الأول: الزيادة على النص نسخ مطلقاً2 وهذا مذهب جمهور الحنفية، قال الإمام السرخسي: (الزيادة على النص بيان صورة ونسخ معنى   1 أشرنا إلى أن المدة التي يمكن فيها نسخ الحكم عند الحنفية مقدار عقد القلب والعزم على تنفيذ الفعل، وأما عند الجمهور فهي غير محددة الزمن، ولكنها محددة بألا تتأخر عن وقت العمل. وبالتأمل في هذه المسألة نجد أن الخلاف فيها يمكن إرجاعه إلى الخلاف في جواز النسخ قبل العمل؛ وعليه فالخلاف في هذه المسألة قليل الفائدة بالنسبة للفروع، لأن أمثلة النسخ قبل العمل قليلة إن لن تكن نادرة الوقوع، وحينئذ فلا بد للفروع المنسوبة لهذه القاعدة من أصل آخر غير الزيادة على النص، وسيأتي لهذا المزيد من البحث إن شاء الله. 2 فصول البدائع في أصول الشرائع 2/148، ومسلم الثبوت 2/92، والمرآة في أصول الفقه لملاخسرو مع حاشية الأزميري 2/190، والأحكام للآمدي 2/285، والمستصفى للغزالي ص: 139، وإرشاد الفحول ص: 194 - 196، وكشف الأسرار 3/191، والمنار مع حواشيه ص: 723، وتنقيح الفصول للقرافي ص: 319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 عندنا) 1، وأشار بقوله: معنى إلى أن الزيادة إنما كانت نسخاً عند الحنفية لتحقق معنى النسخ فيها، وإن كان ذلك لا يمنع من تسميتها بياناً في الصورة كما هو مصرح به في كتب الحنفية. المذهب الثاني: الزيادة ليست نسخاً مطلقاً2، وإليه ذهب جمهور الأصوليين، ومنهم الشافعية. وإذا لم تكن الزيادة نسخاً فهي بيان؛ لأن الأقوال منحصرة في الأمرين. المذهب الثالث: القول بالتفصيل على النحو التالي: أ - الزيادة على النص تكون نسخاً إذا أفادت خلاف ما أفاده مفهوم المخالفة - كإيجاب الزكاة في الغنم المعلوفة، فإنه خلاف ما أفاده قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة الزكاة"، الذي يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة بمفهومه المخالف - وإن لم تفد خلاف ما أفاده المفهوم المخالف فليست بنسخ.   1 أصول السرخسي 2/82، وأسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 66. 2 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 ب - وقال جماعة من الأصوليين: إن غيرت الزيادة المزيد عليه في المستقبل، بحيث لو فعل بانفراده لا يعتد به ويجب استئنافه؛ كزيادة ركعة ثالثة في الفجر فهي نسخ، وإلا فليست بنسخ، مثل زيادة التغريب على الجلد؛ فإن السلطان لو جلد ثم استفتى فأفتى بالتغريب لا يجب عليه استئناف الجلد مرة أخرى، ونسب هذا القول إلى الكرخي1 من الحنفية وأبي عبد الله البصري2. جـ - وقال آخرون: إن اتحدت الزيادة مع المزيد عليه اتحاداً يرفع التعدد والانفصال فهي نسخ، وفيما عدا ذلك لا تكون الزيادة نسخاً، ونسب هذا القول إلى الغزالي من الشافعية3، مثل: زيادة ركعتين في   1 الكرخي هو: أبو عبيد الله بن الحسين أبو الحسن، ولد سنة 260 هـ فقيه أصولي، انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق، وله رسالة في الأصول عليها مدار فروع الحنفية توفي سنة 320هـ. راجع: الأعلام 4/347. 2 أبو عبد الله البصري هو: الحسين بن علي ولد عام 288هـ بالبصرة وهو من شيوخ المعتزلة، كان يشار إليه بالبنان، فقيها متكلماً، أخذ علم الكلام عن أبي هاشم فبلغ بجدّه واجتهاده ما لم يبلغه أحد من تلاميذه، له عدة مؤلفات منها: الإيمان، والإقرار، والمعرفة، وكتاب التفضيل، توفي ببغداد سنة 367 وقيل 363هـ. راجع: الفرق وطبقات المعتزلة من تحقيق كتاب المنية والأصل لابن المرتضى1/111، والأعلام 2/266. 3 فصول البدائع في أصول الشرائع للفناري 2/148، والمستصفى ص: 139، ومسلم الثبوت 2/92، ومرآة الأصول لملاخسرو 2/190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 صلاة الصبح فرضاً، إذ لم يثبت ذلك. د - واختار بعض المحققين 1: أن الزيادة إن رفعت حكماً شرعياً بدليل شرعي متأخر فهي نسخ لوجود حقيقة النسخ فيها عندئذ، وما عدا ذلك فليست الزيادة فيه نسخاً، كأن يكون الحكم المرفوع مثلاً: ليس حكماً شرعياً، بل عدماً أصلياً، أو كانت الزيادة غير متأخرة عن المزيد عليه مدة يمكن النسخ فيها. أو كان ثبوت الزيادة بدليل غير شرعي في نظر بعض الأصوليين، مثل: الزيادة بمفهوم المخالفة عند الحنفية، فالزيادة في هذه الصور الثلاث لا تكون نسخاً؛ لأن حقيقة النسخ لم توجد فيها، لتخلف شرط من شروط النسخ الثلاثة السابقة فينتفي النسخ بانتفاء كل واحد منها. قال الفناري من الحنفية: "وهذا الرأي أقرب؛ لأنه مبني على حقيقة النسخ، وهو مآل مذهبنا وإن اختلف في بعض الأمثلة لأصل آخر"2.   1 نسب الفناري هذا التحقيق إلى أبي الحسين البصري، وابن الحاجب ص: 148، وانظر نشر البنود وشرح مراقي السعود 1/302. 2 المرجع السابق ص: 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 5 - أدلة المذاهب: أولاً: أدلة الحنفية: استدل الحنفية على أن الزيادة نسخ بعدة أدلة منها: 1 - قالوا: إن المزيد عليه كان قبل الزيادة مجزئاً بدون تلك الزيادة وبعدها لم يكن كذلك، والإجزاء حكم شرعي، وقد ارتفع بعد مجيء الزيادة فتحقق بذلك معنى النسخ الذي هو رفع الحكم الشرعي1. وأجيب عن هذا الاستدلال من قبل الجمهور بأن إجزاء المزيد عليه بدون الزيادة يدل على أمرين: الأول: الامتثال بفعل المزيد عليه. والثاني: عدم توقفه على شيء آخر. والأمر الأول حكم شرعي، ولكنه لم يرتفع بالزيادة، بل بقي الامتثال بفعله بعدها، كما لو جلد الزاني البكر مائة جلدة؛ فإن السلطان لا يعيد الجلد مرة أخرى، ويبقى عليه التغريب الذي أفادته الزيادة. والأمر الثاني: قد ارتفع؛ لأن المزيد عليه أصبح بعد الزيادة متوقفاً على شيء آخر، هو ضم الزيادة إلى المزيد عليه في الحكم، ولكن ارتفاعه لا يمثل النسخ؛ لأنه مستند إلى البراءة الأصلية، ورفع البراءة الأصلية لا يعتبر نسخاً، بدليل أن العبادة إذا وجبت ابتداء؛ فإن وجوبها رافع للحكم   1 مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 العقلي، وهو براءة الذمة من التكاليف، وليس ذلك نسخاً بإجماع1. 2 - واستدل الحنفية على خصوص مسألة زيادة المقيد على المطلق. فقالوا: إن الإطلاق حكم يريده الشارع، وكذلك التقييد حكم يريده الشارع2 أيضاً، وهما ضدان، فمن ضرورة ثبوت صفة التقييد في محل انعدام صفة الإطلاق فيه، وحيث كانت صفة الإطلاق منتهية بحلول صفة التقييد محلها أصبح معنى النسخ متحققاً في زيادة المقيد على المطلق؛ لأن حقيقة النسخ كما سبق بيان انتهاء الحكم الشرعي بدليل شرعي، فكانت زيادة المقيد على المطلق نسخاً من هذا الوجه أيضاً3. وهذا الدليل يمكن أن يجاب عنه بوجهين: الأول: منع كون صفة الإطلاق منافية لصفة التقييد بالكلية، لما تقدم في تعريف المطلق والمقيد أنها من الأمور النسبية، فقد يكون اللفظ مطلقاً ومقيداً في آن واحد كالرقبة الموصوفة بالإيمان؛ فإنها مقيدة بتلك الصفة ومطلقة عن غيرها من الصفات الوجه الثاني: أن حلول صفة التقييد على صفة الإطلاق لا يعدمها   1 شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب 2/203. 2 بدليل ورود أحكام مطلقة وأخرى مقيدة في الشرع، فكان ذلك دليلاً على أن الإطلاق والتقييد مما يريده الشارع. 3 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 3/192، وأصول السرخسي 2/82، وأسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 بالكلية كما هو المدعى، بل يخصصها ببعض المحال التي كانت تتحقق في ضمنها، ويضيق من دائرة انتشارها قبل التقييد، وذلك لا يسمى نسخاً، بل هو قصر لصفة الإطلاق على بعض المحال التي كانت صالحة لها قبل ورود التقييد عليها، وحيث أن حكم المطلق لم ينته بالكلية بعد زيادة المقيد عليه، بل ظل معمولاً به في بعض أحواله لم يتحقق معنى النسخ المصطلح عليه، اللهم إلا إن كان صاحب هذا الدليل يريد بالنسخ هنا النسخ الجزئي؛ فإن كان مراده ذلك فصياغة الدليل لا تساعده، لقوله: (وهما ضدان) ثم إن حمل النسخ في هذا المبحث على النسخ الجزئي يجعل الخلاف لفظياً، لأن الجمهور يقرون بهذا النوع من التغيير، ولكن لا يسمونه نسخاً إلا إذا تأخر عن وقت العمل بالمطلق1. ويمكن أن يجاب عنه بجواب ثالث: فيقال: سلمنا أن الإطلاق والتقييد لا يجتمعان، ولكن ذلك في الإطلاق والتقييد بالمعنى العام، وكلامنا هنا في الإطلاق والتقييد عند الأصوليين وحينئذ يكون الدليل خارجاً عن محل النزاع. 3 - ومن أدلتهم أيضاً: أن شرط النسخ قد وجد في زيادة المقيد على المطلق وهو ثبوت التعارض بين الدليلين، إذا جهل التاريخ، وهذا الشرط متحقق في زيادة   1 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 المقيد على المطلق، فإنه لو جهل تاريخ كل من النص المطلق والمقيد لثبت التعارض بينهما، فدل ذلك على أنه عند معرفة التاريخ يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم1. والجواب عن هذا الدليل أن يقال: التعارض له معنيان: عام، وخاص، فأي المعنيين تريدون؟ فإن كان مرادكم بالتعارض معناه العام الذي هو مطلق وجود التنافي بين الدليلين فهذا مسلّم به، ولكنه لا يوجب القول بالنسخ؛ لأن الجمع بين المطلق والمقيد ممكن، ومع إمكان الجمع بين المتعارضين لا يعدل عنه إلى القول بالنسخ؛ لأن العمل بالأدلة ولو من وجه أولى من العمل ببعضها وإهمال بعضها الآخر. وإن كنتم تعنون بالتعارض معناه الخاص، وهو وجود التناقض والتضاد بين الأدلة، بحيث لا يمكن الجمع بينها فهذا غير موجود في الشريعة، وعلى فرض وجوده فمن شرطه تساوي الدليلين في الدلالة والثبوت، وقد مر بنا أن دلالة المطلق على الأفراد الشائعة مثل دلالة العام، فهي محل خلاف بين الأصوليين، فلا تعارض دلالة المقيد التي هي محل وفاق بينهم. ومن هنا لم يتحقق في المطلق والمقيد شرط المعارضة الخاصة التي   1 أصول السرخسي ص: 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 تقتضي النسخ عند القائلين بوجودها في الشرع، وحينئذ فلا يكون مطلق التعارض بين المطلق والمقيد عند الجهل بالتاريخ مقتضياً للقول بالنسخ كما هو المدعى. ثانياً: أدلة الجمهور: لما كانت دعوى الحنفية ذات شقين: الأول: أن الزيادة على النص نسخ مطلقاً. والثاني: إن نسخ القطعي بالظني لا يجوز، فقد سار الجمهور عند عرضهم لأدلة مذهبهم في اتجاهين أيضاً. الاتجاه الأول: إثبات أن الزيادة ليست نسخاً مطلقاً. والثاني: على فرض أن الزيادة على النص نسخ فلم لا تجوز بالدليل الظني؟ وخاصة إذا علم تأخر الظني عن القطعي، فإنه يكون للنقاش مجال واسع عندئذ. أ - أدلة الجمهور على أن الزيادة ليست بنسخ: استدل جمهور الأصوليين على أن الزيادة على النص ليست بنسخ مطلقاً بعدة أدلة منها: إن حقيقة النسخ لم توجد في هذه الزيادة؛ لأن حقيقته رفع وتبديل الحكم الشرعي بدليل شرعي، وهذه الزيادة تقرير للحكم الشرعي الذي أفاده المزيد عليه قبل مجيء الزيادة وتثبيت له، ذلك أن ضم شيء إلى آخر يثبت المضموم إليه ويقرره نظراً إلى أن الانضمام صفة لا بد لها من محل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 تقوم به، ولهذا نرى حكم المزيد عليه لم يرتفع بعد إلحاق الزيادة به فشأن هذه الزيادة في حقوق الله شأن الأمر بالصوم بعد الأمر بالصلاة. والعلماء متفقون على أن زيادة الأمر بالصوم بعد الأمر بالصلاة لم تكن نسخاً للصلاة فكذلك هذه الزيادة1. ونظيرها في حقوق العباد، من ادعى على آخر بألف وخمسمائة ريال، ثم شهد له شاهدان بألف، وآخران بألف وخمسمائة، فإن شهادتهم تقبل عند الجمهور، ويكون الألف مقضياً له به بشهادة الجميع، لأن إلحاق الخمسمائة ريال بالألف بشهادة الآخرين قد قررت الألف لاتفاق الجميع عليه، ولو كانت الزيادة نسخاً مطلقاً لما صحت شهادة الأولين على الألف، لأن الزيادة وهي إلحاق الخمسمائة بشهادة الآخرين تكون ناسخة لشهادة الأوليين. وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل بعدة اعتراضات منها: 1 - قالوا: لا نسلم أن هذه الزيادة تقرير للأصل الذي أفاده المزيد عليه، وضم حكم آخر إليه، بل هي نسخ للمزيد عليه، إذ كيف تكون تقريراً وهي ترفع أحكاماً شرعية كثيرة، واحداً منها يكفي للقول بالنسخ   1 شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 309، والأحكام للآمدي 2/285، والمسودة لآل تيمية ص: 207 - 208، وأسباب اختلاف الفقهاء ص: 68، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 3/92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فضلاً عن جميعها فمن تلك الأحكام الشرعية التي ارتفعت بعد مجيء الزيادة ما يلي: الإجزاء بدون تلك الزيادة الذي يستفاد من الأصل بمقتضى إطلاقه حيث كان مطلق الرقبة مثلاً، مجزئاً في كفارة الظهار، ولما زيد عليها وصف الإيمان انتسخ هذا الإجزاء، لأن وصف الإيمان أصبح بعد الزيادة شرطاً في إجزاء الرقبة، وحيث ارتفع حكم شرعي دل عليه النص المطلق بدليل شرعي هو تلك الزيادة فقد تحقق معنى النسخ الذي هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي في هذا النوع من الزيادة، فتكون نسخاً لا تقريراً. وقد تقدم الجواب عن ذلك في الدليل الأول للحنفية. وثاني الأحكام التي ترفعها الزيادة حرمة التعدي والزيادة على الحكم الذي أفاده المزيد عليه فمثلاً: زيادة التغريب على حد الزاني غير المحصن، كانت محرمة بمقتضى النص المطلق، وبعمومات أخرى مثل: قوله - تعالى -: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 2، وقد ارتفعت هذه الحرمة بعد ورود الزيادة بالتغريب؛ لأن   1 سورة البقرة آية: 229. 2 الحديث رواه مالك في الموطأ مع شرح الزرقاني 4/32، باب القضاء في المرافق رقم الحديث 1500، ورواه أحمد 5/326، 326، والبيهقي 6/69، ونصب الراية للزيلعي 4/384 - 385. قال الألباني في إرواء الغليل بشرح منار السبيل 7/228، بعد ذكر الحديث: صحيح، وذكر طرقه ومن خرجه فيراجع ذلك من يريد الاستفادة أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الزيادة أصبحت الآن غير محرمة والتحريم من الأحكام الشرعية، فرفعه يكون نسخاً. وثالث الأحكام التي ترفعها الزيادة إباحة الاقتصار على المزيد عليه، مثل: إباحة الطواف بدون طهارة بمقتضى قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1، والطواف يتحقق بمجرد الدوران حول البيت، ولا يشترط في مفهومه اللغوي الطهارة، ومثل: إباحة تحرير الرقبة بدون اشتراط وصف الإيمان فيها الذي يدل عليه النص المطلق، وبعد اشتراط الطهارة في الطواف، والإيمان في الرقبة قد ارتفعت هذه الإباحة، فرفعها بعد ثبوتها هو حقيقة النسخ، لأنها من الأحكام الشرعية2. كما اعترض الحنفية دليل الجمهور السابق بالنسبة لما ذكروه من التنظير للزيادة بحقوق العباد، وقالوا: إنه خارج عن محل النزاع؛ لأن نظير هذه الزيادة الاختلاف في مقدار الثمن والإجارة3، وفيهما لا تقبل   1 سورة الحج آية: 29. 2 التحرير مع التيسير 3/219. 3 أصول السرخسي 2/84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الشهادة الزائدة على الأصل، إذا كانت مساوية أو أقل، والفرق بين ما ذكره الجمهور من التنظير وما ذكره الحنفية أن مثال الجمهور من قبيل الدين وهو يقبل الوصف بالتجزئي بخلاف مقدار الثمن والإجارة، فإن كلا منهما علة وسبباً لانعقاد البيع والإجارة والعلة لا تتجزأ في نظر الحنفية، إذ لا يمكن أن يكون البيع قد انعقد بألف وبألف وخمسمائة في آن واحد، وكذلك الإجارة لا يمكن أن تكون قد وقعت بالسبعمائة وبالثمانمائة في وقت واحد، مثلاً: فعند الاختلاف في مقدار الثمن والإجارة، لا تقبل الشهادة المثبتة للزيادة إذا كانت مساوية أو أقل من الشهادة الأولى، فلو شهد شاهدان على أن مقدار الثمن ألف ريال، وآخران على أن مقداره ألف وخمسمائة ريال، لا تقبل شهادة الآخرين على الألف، لأنها زيادة مساوية للأصل، فتسقط، وكذلك لو كان الشاهد على إلحاق الخمسمائة شخص واحد لا تقبل شهادته؛ لأنها أقل من شهادة الاثنين فلا ترفع شهادتهما. فالزيادة هنا في نظر الحنفية بمنزلة بعض العلة، وبعض العلة لا يوجب شيئاً من الحكم الثابت بالعلة، فكانت الزيادة نسخاً من هذا الوجه أيضاً، وبذلك فارقت هذه الزيادة حقوق العباد التي تحتمل الوصف بالتجزئي؛ فإنه يمكن إلحاق الزيادة بها تقريراً للمزيد عليه كما في الدين بخلاف ما لا يحتمل الوصف بالتجزيئ من حقوق العباد، فإن الحكم فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 جار على وفق الحكم في هذه الزيادة، التي نبحثها كما سبق في الاختلاف في مقدار الثمن والإجارة، وهكذا الشأن عند الحنفية في كل ما يجب حقاً لله تعالى من عبادة، أو عقوبة أو كفارة؛ فإن هذه الأمور لا تحتمل الوصف بالتجزيئ وليس للبعض منها حكم الكل بوجه من الوجوه، ولذا قالوا: إذا صام المظاهر شهراً، ثم عجز فأطعم ثلاثين مسكيناً لم يكن مكفراً لا بالصوم ولا بالإطعام، وكذلك القاذف إذا جلد تسعة وسبعين سوطاً لا تسقط شهادته عند الحنفية؛ لأن رد الشهادة متعلق عندهم بالحد لا ببعضه، وبعض الحد لا يكون حداً عندهم. ودفعت هذه الاعتراضات من قبل الجمهور بجوابين أحدهما مجمل والآخر مفصل. أما الجواب المجمل: فقالوا: بينوا لنا ما تعنون بالنسخ الذي تضمنته الزيادة عندكم، أتعنون به أن حكم المزيد عليه من الإيجاب والتحريم والإباحة قد ارتفع بالكلية؟ أم تقصدون به تغيير وصف المزيد عليه بزيادة شيء آخر؟ من شرط أو قيد، أم تريدون بالنسخ ما هو أعم من الأمرين جميعاً، لأن النسخ يطلق على هذه المعاني جميعاً في اللغة. فإذا أردتم بالنسخ معناه العام الذي هو رفع الظاهر بتخصيص، أو تقييد، أو شرط، وبالجملة تغيير وصف الحكم بزيادة شيء آخر عليه، فهذا مسلم به ولكن لا يلزم من الزيادة، حينئذ بطلان حكم المزيد عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ولا رفعه ولا معارضته1، بل غاية هذه الزيادة مع المزيد عليه أن تكون عندئذ كزيادة الشروط والموانع والمخصصات، وشيء من ذلك لا يكون نسخاً اصطلاحاً، وإن كان كثير من السلف يسمي ذلك نسخاً لغة حتى سمى الاستثناء نسخاً بهذا الاعتبار، فإن كنتم تقصدون هذا المعنى العام للنسخ فلا مشاحة في الاسم، ولكن ذلك لا يُسَوِّغُ رد السنن الزائدة على مطلق القرآن، لأن أحداً لا ينكر نسخ القرآن بالسنة بهذا المعنى العام. وإنما النزاع في جواز نسخ القرآن بالسنة الأحادية، النسخ المصطلح عليه عند الأصوليين، وهو رفع أصل الحكم وجملته بحيث يبقى بعد نزول الناسخ بمنزلة ما لم يشرع، وهذا المعنى الخاص للنسخ لا ريب أن الزيادة لا تتضمنه فلا تكون نسخاً اصطلاحاً؛ لأن المزيد عليه لم يرتفع حكمه بالكلية. وإن أردتم بالنسخ الذي تضمنته الزيادة ما هو أعم من القسمين فقد جمعتم في كلامكم بين مقبول ومردود، فسموا الزيادة ما شئتم، ولكن إبطال السنن الصحيحة بهذا الاسم مما لا سبيل إليه2.   1 إعلام الموقعين لابن القيم 2/316، والمعتمد لأبي الحسين 1/442 - 443، وأسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 68. 2 المراجع السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وأما الجواب المفصل: فقالوا: إن نسخ الزيادة للمزيد عليه إما أن تكون لوجوبه، أو لإجزائه، أو لعدم وجوب غيره، أو لأمر رابع، وهذا يتضح بالمثال، فزيادة التغريب على المائة جلدة في حد الزاني غير المحصن، لا يجوز أن تكون ناسخة لوجوب المائة جلدة؛ لأن وجوبها باق بعد زيادة التغريب لم يرتفع، ولا يمكن أن تكون الزيادة ناسخة لإجزاء المائة أيضاً؛ لأن المائة مجزئة عن نفسها حتى بعد ورود الزيادة، ولا يمكن أن تكون رافعة لعدم وجوب الزائد؛ لأنه حكم عقلي وهو براءة الذمة من التكاليف حتى يقوم ما يشغلها، فلو كان رفع البراءة الأصلية نسخاً لكان كلما أوجب الله شيئاً بعد الشهادتين نسخ به ما قبله، وذلك ممنوع بإجماع العلماء. والأمر الرابع: غير متصور فلا يمكن الحكم عليه. فإن قيل: بل هناك أمر رابع معقول، وهو جواز الاقتصار على المزيد عليه، وقد ارتفع هذا الحكم بعد الزيادة، وهو غير الأقسام الثلاثة السابقة، فرفعه يكون نسخاً، والجواب عن ذلك أن يقال: لا معنى للاقتصار على المزيد عليه إلا عدم وجوب غيره، وكونه جميع الواجب، وهذا هو القسم الثالث بعينه، غيرتم التعبير وكسوتموه عبارة أخرى1. ثم أجاب الجمهور عن كل اعتراض على حدة، فقالوا: إن إجزاء   1 إعلام الموقعين 2/316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 المزيد عليه بدون الزيادة قد تقدم جوابه في أدلة الحنفية. وأما حرمة الزيادة: فلا يخلو الحال فيها من أحد أمرين: الأول: أن تكون ثابتة بغير الأصل الذي هو المزيد عليه، وحينئذ تكون خارجة عن محل النزاع. والثاني: أن تكون ثابتة بالأصل المزيد عليه، وهذا في حيز المنع عند الجمهور؛ لأن الأصل لم يتعرض للزيادة بأي وجه، اللهم إلا إذا كان له مفهوم مخالف والحنفية لا يقولون به، فكيف يستدلون به هنا على حرمة الزيادة، وعلى فرض التسليم بالمفهوم، فإنما يكون رفعه نسخاً إذا استقر الحكم مدة يتمكن المكلف فيها من العمل، أو يكون قد حصل العمل به، وهذا خارج عن محل الخلاف أيضاً، لأن تاريخ الزيادة لا يعرف في كثير من المواضع، ثم إن رفع المفهوم كتخصيص العموم؛ لأنه رفع لبعض مقتضى اللفظ فيجوز بخبر الواحد، كما جاز التخصيص به، فزال المحظور الذي من أجله ادعى أن الزيادة على النص نسخ ونسخ القطعي بالظني لا يجوز. أما الجواب عن الاعتراض الثالث، فقد تقدم قبل قليل، وهو: أنه تابع لكونه لم يجب عليه شيء، وكونه لو يجب عليه شيء إشارة إلى نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمة من التكاليف، وذلك حكم عقلي، والتابع للعقلي عقلي مثله، فلا يكون رفعه نسخاً1.   1 تنقيح الفصول للقرافي ص: 395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ثم أجاب الجمهور على الاعتراض الذي أورده الحنفية على نظير هذه الزيادة بحقوق العباد، وقولهم: إن ذلك بمنزلة العلة، والعلة لا تتجزأ، وليس للبعض منها حكم الكل، فقالوا: إن ذلك غير مسلم؛ لجواز التجزئي في العلة عند الجمهور، مثل: علة القصاص؛ فإنها مكونة من عدة أوصاف هي القتل العمد العدوان. 2 - واستدل الجمهور أيضاً على أن الزيادة ليست بنسخ مطلقاً. فقالوا: إن اللفظ المطلق عن الزيادة يشبه العام، والعام لا يوجب العلم يقيناً، بل يجوز أن يراد به بعض ما يتناوله لغة، وإن كان ذلك مشروطاً بوجود الدليل الصارف لظاهر العام، إلا أن مساواة الدليل الصارف للعام في القوة غير معتبرة، لكون صرف العام عن ظاهره من قبيل التخصيص، وهو نوع من البيان، ولا يشترط في البيان مساواة المبيِّن للمبيَّن. وحيث كان اللفظ المطلق عن الزيادة يشبه العام، فيكون صرفه إلى ما وجد فيه القيد بياناً، وقصراً له على بعض محاله التي كان يتحقق فيها قبل مجيء الزيادة، وليس نسخاً. ووجه الشبه بين العام والمطلق أن الرقبة وهي من قبيل المطلق اسم عام على سبيل البدل، يتناول المؤمنة والكافرة، والزمنة وغيرها، فإخراج الكافرة من لفظ (رقبة) بعد اشتراط قيد الإيمان يكون قصراً لا نسخاً كإخراج أهل الذمة من لفظ (المشركين) ، وكإخراج الزمنة والعمياء عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الصلاحية للتكفير. وهذا الدليل اعترضه الحنفية فقالوا: التخصيص لا يكون إلا للدال على الأعيان، والمطلق لا يدل على غير الماهية من حيث هي، وما دام أن لا دلالة للمطلق على الأفراد، فلا يثبت له حكم التخصيص، لكونه فرع الدلالة على الأفراد. ودفع الجمهور هذا الاعتراض من وجهين: الأول: إن المراد بالتخصيص هنا مطلق القصر، ومطلق القصر متحقق بالنسبة للمطلق في هذا المقام؛ ذلك أن ما يدل عليه المطلق من الماهية أو القدر المشترك، كان قبل الزيادة صالحاً لأن يتحقق ضمن الأفراد المجردة عن الزيادة، والأفراد التي ثبت لها الزيادة، وبعد مجيء الزيادة انحصر تحققه ضمن النوع الثاني1. الوجه الثاني: قالوا: كون المطلق لا دلالة له على الأفراد في حيز المنع، لأننا لو سلمنا أن لا دلالة له عليها بالمطابقة، ولكن لا نسلم فقدان دلالته عليها بطريق التضمن أو الالتزام، وقد سبق في تعريف المطلق أن فريقاً من الأصوليين ذهبوا إلى أنه موضوع للدلالة على الأفراد لتبادرها منه عند الإطلاق، بدون قرينة وذلك أمارة الحقيقة، ثم أجاب الحنفية   1 روضة الناظر ص: 41، ومسلم الثبوت 2/32، وأبرز القواعد الأصولية د. عمر ص: 107، والتعارض والترجيح للبرزنجي 1/528. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 عن التعليل الثاني فقالوا: إن عدم جواز إعتاق العمياء والزمنة ونظائرهما، ليس تخصيصاً للرقبة، بل لكون هذه الرقاب مستهلكة من وجه، وفائت المنفعة لا يسمى رقبة؛ لأن المطلق يتناول الكامل، وهذه الرقاب ليست كاملة المنافع. وقال الأحناف أيضاً، ولو قيل: إن بين صفة الكفر والإيمان تضاد1، فإذا جوزنا إعتاق المؤمنة في كفارة الظهار امتنع جواز الكافرة، أجبنا بأن جواز المؤمنة عندنا، لأنها رقبة لا لصفة الإيمان، لأن الوصف فيها غير معتبر لعدم الدليل الناهض على اشتراطه وما ادعيتموه من دليل على الاشتراط لا يثبت بالزيادة عندنا؛ لأنه من قبيل أخبار الآحاد أو القياس، ومثل ذلك لا تجوز به الزيادة على النص؛ لأنها نسخ، والناسخ لا بد وأن يكون في قوة المنسوخ. ويدفع هذا الاعتراض بما يذكره الجمهور في الاتجاه الثاني من أدلتهم. 3 - واستدل الجمهور على أن الزيادة ليست نسخاً مطلقاً أيضاً. فقالوا: إن النسخ أمر ثبت للضرورة، لأن الأصل في أحكام الشرع البقاء والقول بالتخصيص أو التقييد، وإن كان يوجب تغيير العام من الحقيقة إلى المجاز ومن الظاهر إلى خلافه، إلا أنه متعارف في اللغة فكان   1 قال في المبسوط 7/4: (ألا ترى أنا نجوز الكبيرة والصغيرة وبين الصفتين تضاد، ويجوز الذكر والأنثى وبينهما تضاد) ، يراجع بدائع الصنائع 6/2928. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الحمل عليه أولى من الحمل على النسخ1. وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل باعتراضين: أولهما: قالوا: إن المجاز لو سلم، فإنه مشروط بوجود القرينة عند العدول عن الحقيقة إلى المجاز، والفرض عدمها عند نزول المطلق. وتقدم جواب الجمهور عن ذلك في شروط حمل المطلق على المقيد2. ثانيهما: قالوا: لا نسلم أن المطلق من العام، بل هو من الخاص المتفق على أنه قطعي الدلالة، وذلك ينفي احتمال التصرف فيه بغير النسخ، وقد تقدم جواب الجمهور عن ذلك في دلالة المطلق3. والدليل الرابع للجمهور: قالوا: لو كانت الزيادة على النص نسخاً مطلقاً لكان القياس باطلاً، لأن القياس إلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص وزيادة حكم لم يوجبه النص بصيغته، وحيث كان القياس جائزاً شرعاً ودليلاً من أدلة الأحكام يعلم أن الزيادة ليست نسخاً مطلقاً.   1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 3/193. 2 ص: 203. 3 ص: 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وقد أجاب الحنفية عن هذا الدليل: بأن قالوا: لا نسلم أن كل زيادة على النص تكون نسخاً، بل الزيادة التي ترفع الحكم الشرعي بعد ثبوته بدليل شرعي تكون نسخاً والقياس لم يكن كذلك، لأنه لا يفيد رفع حكم المقيس عليه1. ب - الزيادة على النص بأخبار الآحاد وما في حكمها: عرفنا فيما سلف أن المقصود بالنص في مبحث الزيادة أخص من الظاهر، كما عرفنا أن تعيين ما يندرج تحت مفهوم النص من الأدلة والألفاظ لم يتفق العلماء على تحديد أنواعه. ولكن لما كانت الزيادة على النص نسخاً في نظر الحنفية منعوا أن تثبت الزيادة بأخبار الآحاد، وما في حكمها من الأدلة الظنية كالقياس، والعام الذي دخله التخصيص، وعللوا ذلك المنع بأن ثبوت الزيادة على النص بهذه الطرق يقتضي نسخ القطعي بالظني وهو غير جائز. 2 - ويرى جمهور العلماء عدا الحنفية أن ثبوت الزيادة على النص بأخبار الأحاد وما في حكمها من الأدلة الظنية جائز، ثم اختلفوا في التوجيه والتعليل لهذا الجواز: أ - فذهب أكثر الأصوليين إلى أن ذلك يعود إلى كون الزيادة على النص بياناً، والبيان لا يشترط فيه مساواة المبيِّن للمبيَّن، وهؤلاء متفقون   1 حاشية الأزميري على مرآة الأصول لملاخسرو 2/190 - 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 مع الحنفية على منع نسخ القطعي بالظني، كما ترى، ولكنهم يجوزون الزيادة على النص بالدليل الظني بناء على أن الزيادة من قبيل البيان، والبيان لا يشترط فيه المساواة بين الدليلين. ب - وذهب الظاهرية وأكثر المحدثين إلى أن جواز الزيادة على النص بالدليل الظني لا يعود أولاً إلى كون الزيادة بياناً كما يقول بذلك الجمهور. وثانياً: لو فرض أن الزيادة نسخ، فنسخ القطعي بالظني جائز وواقع شرعاً فما ادعاه الحنفية من المحظور في حيز المنع. واستدل من منع نسخ القطعي بالظني بعدة أدلة منها1: 1 - قالوا: إننا استقرينا الأدلة الشرعية، وتتبعناها فما وجدنا دليلاً قطعياً قد نسخ بدليل ظني نسخاً ضمنياً قائماً2 على التعارض بين مدلول   1 إرشاد الفحول لشوكاني ص: 190، وشرح المحلى على جمع الجوامع 2/78، ومناهل العرفان 2/143 - 145، وشرح الورقات للعبادي ص: 145 - 147، ومسلم الثبوت 2/76. 2 النسخ الضمني: هو أن لا ينص الشارع صراحة في تشريعه اللاحق على إبطال التشريع السابق، ولكنه يشرع حكماً معارضاً للحكم السابق، بحيث لا يمكن التوفيق بين الحكمين إلا بإلغاء أحدهما، فيعتبر الحكم اللاحق ناسخاً للحكم السابق ضمناً. أصول الفقه للأستاذ خلاف ص: 223، وهذا النوع من النسخ هو المراد عند الجمهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 القطعي والظني، وهذا يدل على عدم الوقوع. ومنها ثانياً: أن الدليل القطعي من قبيل المتواتر والظني من قبيل الآحاد، والآحاد أضعف من المتواتر، وحيث انعدمت المساواة، فلا نسخ1، وهذا الدليل نوقش من عدة أوجه نذكر بعضها في تقييد المطلق بأخبار الآحاد. واستدل الظاهرية ومن معهم على جواز نسخ القطعي بالظني ووقوعه شرعاً بعدة أدلة منها2. 1 - قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} 3. ووجه الدلالة أن هذه الآية الكريمة قد حصرت المحرم من المطعومات في الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله؛ فيكون ما عدا ذلك من المطعومات باقياً على الحل والإباحة الأصلية، ولكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير"4.   1 داراسات في أصول الفقة للدكتور عبد الفتاح حسيني الشيخ ص: 147. 2 شرح العبادي على شرح المحلى ومتن الورقات ص: 140، وإرشاد الفحول ص: 190 - 191، ومناهل العرفان 2/144 - 145، وروضة الناظر ص: 45. 3 سورة الأنعام آية: 145. 4 رواه البخاري في كتاب الذبائح، باب أكل كل ذي ناب 7/124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 والنهي يقتضي التحريم، فاقتضى ذلك أن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير حرام، وهذا رافع للإباحة التي أشارت إليها الآية الكريمة، ولا معنى للنسخ إلا هذا، والحديث ليس متواتراً وإنما هو أحاد فيكون القطعي قد نسخ بالظني فثبت المطلوب. وأجيب عن ذلك بوجهين: الوجه الأول: قال المخالفون في نسخ القطعي بالظني: لا نسلم أن الآية فيها حصر للمحرمات بالنسبة للماضي والحاضر والمستقبل، بل أقصى ما تدل عليه الآية أن المحرمات إلى وقت نزولها هذه الأشياء المذكورة، وذلك لا يمنع من تحريم أشياء أخرى في المستقبل، والدليل على عدم الحصر بالنسبة إلى المستقبل أن الفعل في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ} حقيقة في الحال، فيحمل الكلام عليه؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة، وحيث انعدم النسخ هنا لعدم وجود حقيقته يكون الكلام من قبيل التخصيص، وتخصيص المتواتر بالآحاد جائز. الوجه الثاني: قالوا: سلمنا أن الآية فيها حصر للمحرمات في المذكورات بالنسبة للماضي والحاضر والمستقبل، ولكن نمنع أن يكون ما رفعه الحديث من قبيل النسخ1؛ لأن الحديث إنما رفع الإباحة الأصلية، ورفع الإباحة الأصلية   1 إنما يتوجه هذا على رأي من يمنع القول بحجية المفهوم المخالف، وفي الجمهور هنا من يقول بحجيته فكيف يستقيم لهم ذلك. ويمكن أن يجاب عنهم بأن حجية المفهوم مشروطة بعدم وجود دليل معارض، وهنا دل الدليل على تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وذب مخلب من الطير، فالموضوع خارج عن محل الاستدلال بالمفهوم كما ترى. ولو سلم أن الإباحة فهمت من الآية بطريق مفهوم الحصر فيكون رفعها نسخاً، لكان الجواب لمن يرى حجية المفهوم أن يقول دلالة المفهوم من قبيل الظني، فما رفع الظني إلا ظني مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 ليس نسخاً، لأنها ليست حكماً شرعياً، والنسخ خاص برفع الأحكام الشرعية. ومن أدلتهم أيضاً: أن التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة كان ثابتاً بالسنة المتواترة، وبينما كان أهل قباء يصلون ذات يوم متوجهين إلى بيت المقدس أتاهم آت يخبرهم أن القبلة قد تحولت إلى الكعبة فاستجابوا له وقبلوا خبره1، وظاهر هذه القصة يدل على أن من أخبرهم لم يبلغ حد التواتر فدل ذلك على نسخ القطعي بالظني. وهذا الدليل أجيب عنه، بأن محل النزاع، إنما هو في وقوع نسخ القطعي بخبر الواحد المجرد عن القرائن، والخبر المذكور قد انضم إليه ما يفيد العلم، كـ (قربهم) من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وترقبهم تحول القبلة في   1 الرسالة للشافعي ص: 106، مع القرآن للدكتور شعبان محمد إسماعيل ص: 462. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أي وقت1. وللظاهرية أدلة أخرى لم تسلم من الاعتراض. ويبدو أن عصر الرسول خارج عن محل النزاع لسببين: الأول: أن اصطلاح المتواتر والآحاد أمر حادث بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم اقتضته الحيطة والاهتمام بالعلوم الشرعية حتى لا ينسب إلى الدين ما ليس منه، أما في عصر الرسول فلا يعلم أن أحداً اعترض على شيء من أخباره صلى الله عليه وسلم بأن هذا خبر أحاد لا يفيد العلم، وذاك خبر متواتر يفيد العلم ويجوز النسخ به، بل الكل عندهم سواء في وجوب العلم والعمل. السبب الثاني: أن عصر الرسول كان زمن الوحي وذلك وازع للرواة على تحري الصدق خوفاً من أن يكشف الوحي خفاياهم وأسرارهم، وبعد انقضاء الوحي بموت الرسول صلى الله عليه وسلم قد زال هذا الوازع. وبناء على ذلك، تكون مسألة نسخ القطعي بالظني مفروضة في حق مجتهد بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم تعارض لديه دليلان أحدهما مقطوع به ثبوتاً ودلالة، والآخر محتمل فهل يعمل بالدليل المقطوع به وإن كان متقدماً   1 الرسالة للإمام الشافعي ص: 106، والمستصفى ص: 124، والإحكام للآمدي 3/129، وأصول الفقه لأبي النور زهير 3/72 مع القرآن للدكتور شعبان محمد إسماعيل ص: 462. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 على معارضه نظراً لقوته، ويترك العمل بالدليل الظني، وإن كان متأخراً عن معارضه نظراً لضعفه، أم لا بد من الجمع بينهما؟ ومن طرق الجمع كما هو معروف نسخ المتقدم بالمتأخر1، هذا هو محط الخلاف في النسخ القطعي بالظني كما تصوره كتب الأصول القديمة، وإذا علمنا أن زمن النسخ هو زمن نزول الوحي، وفيه يجوز نسخ القرآن بالسنة لاستوائها معه في أن كلاً منهما وحي من الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2. وعلمنا أيضاً أن جمهور الأصوليين متفقون مع الحنفية على عدم وقوع نسخ القطعي بالظني، لم يبق أمام الفريقين إلا أن يصطلحوا ويسلموا أن النسخ الذي تضمنته الزيادة على النص في نظر الحنفية، والبيان الذي يقول به الجمهور شيء واحد تعددت أسماؤه واتحد مدلوله. وهذا الاختيار لم يكن عارياً عن الأدلة التي تعضده، بل هناك اعتبارات بعضها سبق وبعضها سيأتي تساند هذا الرأي، كما أنه يتفق وما انتهى إليه البحث في هذه المسألة عند كثير من الباحثين3. فمن الاعتبارات التي سبقت: 1 - أن حمل المطلق على المقيد بيان على رأي الجمهور، وقد   1 مع القرآن للدكتور شعبان محمد إسماعيل ص: 458. 2 سورة النجم آية: 4. 3 أصول الأحكام للدكتور حمد عبيد الكبيسي ص: 364. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وجدنا الحنفية يسمونه تارة بالزيادة على النص، (وهي نسخ عندهم) وتارة بالترجيح أو بتقديم العمل بالمقيد احتياطاً، كما هو مختار شارح مسلم الثبوت. وهذا يدل على أن مدلول الترجيح والنسخ الذي تضمنته الزيادة شيء واحد عند الحنفية، وإلا لم يجز إطلاقها على مسمى واحد بدون قرينة. 2 - وفي مبحث تحرير محل النزاع في الزيادة على النص تبين أن للزيادة ثلاث حالات. الأولى: أن تكون مقارنة للنص في نزوله، وهذه بيان اتفاقاً. والحال الثانية: أن تتأخر عن وقت العمل، وهذه نسخ اتفاقاً. بقي الحال الثالثة: وهي إذا تأخرت الزيادة عن النص مدة يمكن القول بالنسخ فيها، ولكنها لم تتأخر عن وقت العمل وفي هذه الحالة وقع النزاع. 1 - فالحنفية بناء على إيجابهم وصل مبين النص الذي له ظاهر يمكن العمل به (كالعام والمطلق) وتسميتهم رفع مقتضى الظاهر بالدليل الذي لم يقارن الظاهر حين نزوله نسخاً حكموا على هذا النوع من الزيادة بالنسخ لتحقق شرط النسخ فيها، وهو مضى فترة يتمكن المكلف فيها من عقد القلب والعزم على الفعل. وكان رأي الجمهور في ذلك أن هذا التقدير ليس شرطاً لازماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 للحكم بالنسخ، لجواز تأخير البيان إلى وقت العمل، وما حصل من نسخ الحكم قبل العمل مسلم به، لكنه يرجع إلى قرينة في الدليل الناسخ تدل على أن الشارع أراد من المكلفين العمل بالحكم المنسوخ على إطلاقه ثم اقتضت حكمته عز وجل رفع ذلك الحكم أو بعضه قبل العمل به لمصالح وحِكَم تعجز عن الإحاطة بها عقول البشر. وبهذا التحرير لمحل الخلاف يتبين أن دائرة النزاع في الزيادة على النص محصورة في جواز نسخ الحكم قبل العمل، والجمهور يسلمون بذلك، ولكنهم يمنعون التفريع عليه؛ لأن أمثلة النسخ قبل العمل قليلة ونادرة، وما كان من الأحكام قليل الوقوع يمتنع التفريع عليه، وحينئذ لا بد للفروع الفقهية المنسوبة إلى الخلاف في قاعدة الزيادة على النص من أصل آخر تقوم عليه. وقد توصل إلى ذلك الأصل كثير من الباحثين وقرروا أن السبب في الفروع المنسوبة إلى الخلاف في قاعدة الزيادة على النص هل هي نسخ أو بيان يعود إلى اختلاف الجمهور من الحنفية في شروط العمل بخبر الواحد. وفي هذا الصدد يقول أحدهم1: "وعندي أن الفروع التي ذكروها يعني بها الفروع المنسوبة إلى الخلاف في الزيادة على النص، تدل على أن فقهاء العراق ما كانوا يأخذون بحديث الواحد ما أمكن عمل النص   1 الأستاذ أبو زهرة في كتابه (أبو حنيفة وأراؤه الفقهية) ص: 248 - 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 القرآني وما ثبتت دلالته، ذلك هو المنهاج الذي ذكره العلماء عنهم؛ فهم يأخذون بدلالات القرآن، ومفهوم عباراته وإشاراته، ويتركون حديث الآحاد عند ذلك احتياطاً في قبول الرواية. وترجيحاً لنص قرآني لا شك في صدقه على رواية حديث يحتمل الصدق في وقت راج فيه الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم". وهذا على فرض أن أبا حنيفة عندما قرر هذه الفروع كان يعلم بالأحاديث الواردة في بابها. وإني أشك في أنه كان يعلم بهذه الأحاديث عندما قرر هذه الأحكام؛ إذ أكثرها يتعلق بالعبادات، وأبو حنيفة كان يحتاط في العبادات، كما أن الأحاديث المروية وإن كانت أحاديث تحتمل الآيات الاجتماع معها وإعمال نصها مع ما تدل عليه، كما أعمل أبو يوسف1 حديث الاطمئنان في الركوع والسجود مع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2.   1 أيو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، ولد بالكوفة سنة 113هـ، ونشأ بها فقيراً وكان فقيهاً من الطراز الأول، وهو أحد صاحبي أبي حنيفة غير أنه خالفة في كثير من المسائل وأقام الحجة على ما ذهب إليه من الآراء. توفي رحمه سنة 182هـ. طبقات الأصوليين 1/108 - 109. 2 سورة الحج آية: 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وبالتأمل قليلاً نجد أن أقصى ما تدل عليه التعليلات والأسباب السابقة أن إحجام الحنفية عن قبول خبر الواحد الزائد على ظاهر القرآن إنما كان لرواج الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتمال خبر الواحد الانقطاع، وذلك يزول بزوال سببه وهو الوقوف على صحة الحديث، ومن هنا يتبين أن تعميم الحكم على أحاديث الآحاد فيه نظر، لأن ميزان القبول أو الرفض عندئذ ينبغي أن يكون صحة الحديث أو عدم صحته، لا توهينه واعتباره لا يقول على بيان المراد من الدليل القطعي لمجرد كونه خبر أحاد. والوقوف على صحة الحديث وإن كان فيه مشقة وصعوبة في زمن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، لعدم تدوين السنة كاملة في وقته، وأيضاً فقواعد الجرح والتعديل لم تنضج بعد، إلا أنه بعد تدوين السنة ونضوج علم الجرح والتعديل من السهل الوقوف على صحة الحديث، وذلك يكون بعرضه على القواعد والضوابط التي وضعها علماؤنا الكرام لتمييز الخبيث من الطيب وبيان الصحيح من غيره، وهي قواعد أمينة ودقيقة انفردت بها أمتنا عن أمم الأرض قاطبة، وما أحسب الباحث إلا سيجد نماذج صالحة للتطبيق كالذي رأيناه من أبي يوسف حيث أعمل حديث المسيء صلاته مع الآية الكريمة، وحكم بفريضة الطمأنينة في الصلاة مع أن الحديث من أخبار الآحاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الفصل الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد المبحث الأول: في مسائل متعلقة بالصلاة والطهارة والطواف ... أثر الخلاف على المذاهب الفقهية: في أثناء كلامنا على نوع دلالة الخاص، ذكرنا أنه لا يحتمل البيان عند الحنفية، كما أشرنا إلى أنه تفرع على ذلك الخلاف في مسائل فرعية كثيرة ذكرها بعض أصولي الحنفية عقب الحديث عن دلالة الخاص، وذكرها صدر الشريعة في باب البيان بالزيادة على النص. وهنا نقول: لقد كان لاختلاف العلماء في أن الخاص يحتمل البيان أو لا يحتمله، ولاختلافهم في كون الزيادة على النص نسخاً أو بياناً، ولاختلافهم في الأحوال التي يحمل فيها المطلق على المقيد أثر كبير في الاختلاف في الفروع حيث ترتب على تلك الأسباب منفردة ومجتمعة اختلاف الفقهاء في مسائل فرعية كثيرة1، نذكر فيما يلي بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر، وذلك في ثلاثة مباحث: المبحث الأول في مسائل متعلقة بالصلاة والطهارة والطواف: 1 - حكم الطمأنينة في الصلاة. 2 - اشتراط الطهارة في الطواف.   1 الأحكام للآمدي 3/155 - 164، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 2/91 - 95، كشف الأسرار على أصول البزدوي 3/191، شرح المحلى على جمع الجوامع 2/91 - 93، أصول السرخسي 2/82 - 85، وروضة الناظر ص: 41 - 47، التعارض والترجيح للرزنجي ص: 528، شرح التوضيح مع التلويح 2/31 - 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 3 - الخلاف في فرضية قراءة الفاتحة في الصلاة. 4 - الخلاف في فرضية الترتيب في أعضاء الوضوء. 5 - الخلاف في فرضية أو شرطية الترتيب في الطواف. المبحث الثاني: في مسائل متعلقة بالحدود والكفارات: 1 - ضم التغريب إلى الجلد في حكم الزاني. 2 - اشتراط الإيمان في كفارة الظهار. 3 - قطع يد السارق من المفصل. المبحث الثالث: في مسائل متفرقة: 1 - آيتا المشيئة. 2 - آيتا الردة. 3 - حكم مدافعة المار بين يدي المصلي، وأنه مقيد بوجود السترة. 4 - حكم طاعة الأمير وأنه مقيد بما لم يكن معصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 المبحث الأول في مسائل متعلقة بالصلاة والطهارة والطواف: 1 - حكم الطمأنينة في الصلاة: أ - ذهب أبو حنيفة ومحمد1 رحمهما الله إلى أن الطمأنينة ليست من فرائض الصلاة، بل هي واجبة على رواية، وسنة على رواية أخرى2، والفرض إنما هو الركوع والسجود3. ب - وذهب الجمهور وأبو يوسف من الحنفية إلى أن الطمأنينة فرض من فروض الصلاة تبطل الصلاة بتركها4. وكان من الأسباب التي أدت إلى هذا الخلاف ذكر الركوع والسجود مطلقاً في قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا   1 هو: محمد بن الحسن الشيباني، فقيه أصولي، ويكنى بأبي عبد الله، ولد سنة 131 هـ بالعراق ونشأ بالكوفة وتبحر في علوم الفقة واللغة والأصول، وهو أحد صاحبي أبي حنيفة من مؤلفاته الجامع الكبير والصغير، توفي رحمه سنة 186هـ. طبقات الأصوليين 1/86 - 87. 2 الأولى على تخريج الكرخي، والثانية على تخريج الجرجاني، إلا أن الأولى هي الراجحة في المذهب. انظر: بدائع الصنائع للكاساني 1/162. 3 أصول البزدوي 1/80. 4 المغني لابن قدامة 1/500. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1 وجاء في حديث شريف اشتهر بحديث الأعرابي المسيء صلاته، ما يفيد أن الرجوع والسجود لا بد فيهما من الاطمئنان، حيث قال له الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: "ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" 2. فالحنفية بناء على قاعدتهم في أن الخاص لا يحتمل البيان، وأن الزيادة على النص نسخ له، ونسخ القطعي بالظني غير جائز، قالوا بعدم فرضية الطمأنينة في الصلاة. واستدلوا على ذلك بأدلة منها: أولاً: ما ذكره البزدوي في أصوله حيث يقول: (ومن الخاص الذي لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان قوله - تعالى -: {وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} 3 والركوع اسم معلوم، وهو الميلان عن الاستواء بما يقطع اسم الاستواء، فلا يكون إلحاق التعديل به على سبيل الفرض حتى تفسد الصلاة بتركه بياناً صحيحاً؛ لأنه بَيّنٌ في نفسه، بل يكون إلحاق التعديل   1 سورة الحج آية: 77. 2 الحديث متفق عليه. وانظر البخاري 1/192، وسبل السلام ص: 160. 3 سورة البقرة آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 على سبيل الفرض رفعاً لحكم الكتاب بخبر الواحد"1. وذلك لا يجوز، ويزيد ذلك توضيحاً كلام شارح البزدوي؛ إذ يقول: (لا يكون إلحاق التعديل على وجه الفرض؛ لأن من شرط التحاق خبر الواحد بياناً للكتاب أن يكون فيما التحق به إجمال؛ لأنه لو لم يكن كذلك يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد، وقد عدم هنا؛ لأنه بين بنفسه فلم يصد لعدم شرطه"2. واستدلوا أيضاً: بحديث المسيء صلاته الذي هو عمدة الجمهور في الفرضية، حيث قالوا قد جاء في بعض روايات الحديث: "فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك، وما انتقصته من هذا فإنما انتقصته من صلاتك"3. ووجه الاستدلال بهذه الرواية من ناحيتين: الأولى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى ما صنعه الأعرابي صلاة حيث قال: "وما انتقصته من هذا شيئاً فإنما انتقصته من صلاتك".   1 أصول البزدوي مع شرحه للبخاري 1/ 80، وقال بعد ذلك: "لكنه يلحق به إلحاق الفرع بالأصل ليصير واجباً ملحقاً كما هو منزلة خبر الواحد مع الكتاب"، وأسباب اختلاف الفقهاء للزلمي ص: 68. 2 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/80. 3 رواه أبو داود في باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود 1/226، رقم الحديث 855 - 856. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 والثانية: ترك الرسول صلى الله عليه وسلم المسيء صلاته بعد أول ركعة حتى أتم، ولو كان عدم الطمأنينة مفسداً للصلاة لفسدت الصلاة بأول ركعة، وبعد الفساد لا يحل المضي في الصلاة، فتقرير الرسول له دليل على عدم بطلان صلاته. ثم أجاب الحنفية عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ارجع فصل فإنك لم تصل على الصلاة الخالية من الإثم أو على الصلاة المسنونة" 1. وأما الجمهور: فلأن الزيادة عندهم ليست بنسخ، والخاص يحتمل البيان كما يحتمل التأويل بالمجاز قالوا: إن الآية التي ذكر فيها الركوع والسجود مطلقة وحديث الأعرابي مبين لهذا الإطلاق، ولا مانع من بيان القطعي بأخبار الآحاد؛ لأن البيان لا يشترط فيه المساواة. وأيضاً فإن المقصود بالركوع والسجود المعنى الشرعي لهما، ولا شك أن الحقائق الشرعية لا تعرف إلا بطريق الشرع، وحيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين المراد بالركوع والسجود بقوله وفعله، يجب الرجوع إلى بيانه صلى الله عليه وسلم2. واستدل الجمهور أيضاً: فقالوا: قد ذكر في حديث الأعرابي الأفعال والأقوال التي يجب   1 فتح القدير 1/211 ونيل الأوطار للشوكاني 2/222. 2 المغني لابن قدامة 1/500، والمجموع للنووي 3/410 - 411، والدسوقي على الشرح الكبير 1/241، وأثر القواعد الأصولية لمصطفى الخن ص: 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الإتيان بها في كل ركعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". وسكت الحديث عن السنن والمستحبات التي تركها لا تبطل به الصلاة، وحيث إن الطمأنينة قد ذكرت بجانب الواجبات فهي واجبة وليست سنة. 3 - ومن أدلتهم على فرضية الطمأنينة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود" 1، وهذا نص في محل النزاع كما ترى. والذي يظهر أن الطمأنينة من فروض الصلاة؛ لأن الركوع والسجود وغيرها من أبعاض الصلاة حقائق شرعية، وهي محمولة على عرف الشارع، لا على عرف غيره؛ لأن الرسول بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، فينبغي الوقوف والاقتصار على ما جاء به الشارع من بيان لهذه الحقائق"2.   1 رواه أبو دواد 1/226 الحديث رقم 855، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. 2 فتح الباري بصحيح البخاري 2/164، ومسلم الثبوت 2/94، وشرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد 2/10 - 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 2 - اشتراط الطهارة في الطواف: أ - ذهب الحنفية وابن حزم1 إلى أن الطَّهَارةَ ليست بشرط في صحة الطواف، بل هي واجبة على أصح الروايات عند الحنفية، وقيل: سنة، فمن طاف طواف القدوم محدثاً فعليه صدقة؛ ولو طاف طواف الإفاضة محدثاً فعليه شاة، ومن كان جنباً فعليه بدنة، ويؤمر بإعادة الطواف ما دام بمكة استحباباً في الحدث، ووجوباً في الجنابة ولا شيء عليه إذا أعاد. ب - وذهب الشافعية والمالكية وأحمد في المشهور إلى أن الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر شرط من شروط الطواف لا يصح إلا بها. واستدل الحنفية: بأن الله سبحانه وتعالى أمر بالطواف في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، والطواف هو الدوران حول الكعبة من غير قيد الطهارة، فيكون اشتراط قيد الطهارة زيادة على النص القرآني   1 المحلى لابن حزم 7/179 رقم المسألة 839 ط مقابلة على النسخة التي حققها الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر، دار الفكر. وابن حزم هو: علي بن أحمد بن حزم الظاهري، أبو محمد، عالم الأندلس في عصره، وأحد أئمة الإسلام، ولد سنة 384، من مؤلفاته الملل والنحل، والمحلى، والأحكام في أصول الأحكام، توفي سنة 456هـ. الأعلام 5/59، وطبقات الأصوليين 1/243، 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 بخبر الواحد وهو لا يصح ناسخاً1. قال في المبسوط: "وحجتنا في ذلك أن المأمور به بالنص هو الطواف: قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وهو اسم للدوران حول البيت، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر، واشتراط الطهارة فيه زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد، ولا بالقياس؛ لأن الركنية لا تثبت إلا بالنص، فأما الوجوب فيثبت بخبر الواحد؛ لأنه يوجب العمل ولا يوجب اليقين2. واستدل الجمهور: على اشتراط الطهارة في الطواف، بأمور منها: 1 - أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني مناسككم" 3، وقد ورد في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أن أول شيء بدأ به الرسول حين قدم مكة، أنه توضأ ثم طاف بالبيت، فكان هذا الفعل بياناً لقوله - تعالى -: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .   1 شرح العناية مع الهداية 4/234. 2 المبسوط 4/48، والبحر الزخار 3/346. 3 رواه مسلم في باب استحباب رمي جمرة العقبة راكباً بلفظ: "لتأخذوا عني مناسككم". وأبو داود في كتاب المناسك 2/259، ونيل الأوطار 5/122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 2 - ومنها: ما رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه" 1. ومن شروط الصلاة الطهارة، فكذلك الطواف يشترط فيه الطهارة؛ لأنه صلاة بنص الحديث. ورد هذا الاستدلال من قبل الحنفية بأن المشبه لا يلزم أن يكون مثل المشبه به من كل وجه، ومعلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة" تشبيه الطواف بالصلاة، وقد نبه على الفرق بينهما بقوله صلى الله عليه وسلم "إلا أن الله أحل فيه الكلام"، فالطواف يجوز فيه ما لا يجوز في الصلاة، فلا يشترط فيه كل ما يشترط في الصلاة، فلا تشترط فيها الطهارة2. ودفع هذا الاعتراض بالآتي: أ - أن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم على الطواف اسم الصلاة فيكون صلاة حقيقة، وهي حقيقة شرعية، ويكون لفظ الصلاة مشتركاً لفظياً بين الصلاة المعهودة وبين الطواف. ب - وأما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم نبه على الفرق بين الطواف والصلاة   1 رواه الترمذي 1/119، والبيهقي في السنن الكبرى 5/87، ونصب الراية 3/57 - 58. 2 مسلم الثبوت 2/93، ودراسات في التعارض والترجيح للسيد صلاح عوض ص: 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 بأن الكلام فيه مباح، فالجواب أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنه صلاة، فثبت له جميع أحكام الصلاة، إلا ما استثنى من هذه الأحكام كإباحة المشي في الطواف، والاستثناء معيار العموم1. 3 - ومن أدلة الجمهور أيضاً: ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها حينما طمثت في الحج: "افعلي كما يفعل الحاج، غير ألاّ تطوفي بالبيت حتى تطهري" 2، فقد رتب منع الطواف على فقدان الطهارة، وهذا حكم وسبب، والظاهر أن الحكم يتعلق بالسبب، فيكون المنع لعدم الطهارة لا لعدم دخول الحائض المسجد3. وأجاب الحنفية بأنه ليس كل عبادة تمنع منها الحائض تشترط فيها الطهارة، فالصيام لا يشترط فيه الطهارة والحائض ممنوعة من فعله؛ فالعلة   1 يراجع طرح الترتيب في شرح التقريب للحافظ العراقي 2/217، 5/120، دراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين، د. السيد صالح عوض ص: 277. 2 متفق عليه حيث أخرجه البخاري في كتاب الحيض، الباب السابع وكتاب الحج والأضاحي ومسلم في الحج برقم (1211) ، وعند مسلم بدل حتى تطهري (حتى تغتسلي) . 3 نهاية المحتاج 3/399، وفتح القدير 2/244، ودراسات في التعارض والترجيح د. سيد صالح عوض ص: 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 غير مطردة1.   1 بداية المجتهد لابن رشد 1/343. ونشير هنا إلى أن الخلاف في هذه المسألة مفروض في غير حال الضرورة، وأما في حال الضرورة فكثير من العلماء يجوز طواف الحائض، لأن اشتراط الطهارة لا يزيد عن أي شرط آخر من شروط الصلاة كستر العورة مثلاً، وعند عدم القدرة عليه فإنه يسقط ويصح طواف العريان. وللمزيد في ذلك تراجع الفتاوى لابن تيمية 21/269 ط أولى 1398 هـ، وإعلام الموقعين 3/8 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 3 - الخلاف في فرضية قراءة الفاتحة في الصلاة للقادر: اختلف العلماء في القراءة الواجبة في الصلاة على قولين: القول الأول: إن ركن القراءة الواجبة في الصلاة هي الفاتحة. وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة.1 القول الثاني: أن الفرض هو القراءة المطلقة، والفاتحة زيادة. وهو قول الحنفية،2 وليست ركناً من أركان الصلاة، بل هي واجب من واجباتها.3 وتراجع أدلة الأقوال ومناقشتها في المراجع المذكورة في الحاشية.   1 المهذب 1/79، 80، وبداية المجتهد 1/128 - 129، والمغني لابن قدامة 1/476 - 491، 562 - 568، ومفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول ص:108، 109، ومنزلة السنة من الكتاب وأثرها في الفروع الفقهية: ص527 وما بعدها. 2 بدائع الصنائع 1/433 - 434، وبداية المجتهد 1/129، وسبل السلام 1/112. 3 الهداية 1/206، وأثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء. ص:275 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 4 - الخلاف في فرضية الترتيب في أعضاء الوضوء: اختلف العلماء في ترتيب أعضاء الوضوء على قولين مشهورين: القول الأول: أن الترتيب فرض من فروض الوضوء؛ أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: " ابدؤوا بما بدأ الله به" 1 الشامل للوضوء، وهو وإن ورد في الحج إلا أنه عام، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومن فعله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يتوضأ إلا مرتباً، ولو لم يجب لتركه في وقت، أو دلّ عليه بياناً للجواز.2 وهذا مذهب الجمهور ومنهم الإمام الشافعي والإمام أحمد.3 القول الثاني: وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وهو أن الترتيب سنة من سنن الوضوء؛ جرياً على أصلهم من أن الزيادة على النص نسخ، فيشترط أن يكون الناسخ متساوياً مع المنسوخ؛ إذ القرآن لم يأمر إلا   1 رواه الدارقطني في سننه 2/254، والنسائي في كتاب مناسك الحج - باب الذكر والدعاء على الصفا: 5/240 - 241. انظر: أثر القواعد الأصولية للخن ص:272. 2 أثر القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء ص272، وفتح الغفار بشرح المنار ص:25 فما بعدها. 3 الأم 1/35، ونهاية المحتاج 1/160، والمغني 1/136 - 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 بتطهير أربعة أعضاء. وتطهيرها حاصل بدون الترتيب.1   1 المبسوط 1/56، وشرح العناية 1/23، والاصطلام 1/72، وأثر القواعد الأصولية ص:272 - 275، ومنزلة السنة من الكتاب وأثرها في الفروع الفقهية ص: 523 فما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 5 - الخلاف في فرضية أو شرطية الترتيب في الطواف: وهذه المسألة مثل مسألة الترتيب في أعضاء الوضوء، والتعليل قريباً من بعض، وهو أن الوارد في القرآن الأمر بالطواف، وهو يتحقق بما يُسمى طوافاً، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، إلا أن الزيادة على المرة الواحدة إلى أكثر الأشواط ثابت بدليل آخر وهو الإجماع، ولا إجماع في الزيادة على أكثر الأشواط، وإنما ثبت ذلك بالسنة الأحادية، وهي لا توجب أكثر من الوجوب، فيثبت بها الوجوب دون الفرض في الزائد على أكثر الأشواط والترتيب؛ لأنه لم يرد فيه نص قطعي.1   1 منزلة السنة من الكتاب وأثرها في الفروع الفقهية ص: 534 - 536. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 المبحث الثاني في مسائل متعلقة بالحدود والكفارات: 1 - التغريب على الزاني البكر: اتفق المسلمون على أن الزاني البكر والزانية البكر يجلدان مائة جلدة لقوله - تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1. واختلف الفقهاء: في ضم التغريب إلى الجلد في حق الزاني البكر أيعتبر جزءاً من الحد أم لا يعتبر جزءاً منه؟ أ - فذهب الحنفية إلى أن الحد هو الجلد مائة فقط، وليس التغريب جزءاً منه، بل هو من باب التعزير الموكول إلى نظر الإمام إن رأى مصلحة غرب تعزيراً لا حداً2. ب - وذهب الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة إلى أن التغريب جزء من الحد3. وكان من الأسباب التي أدت إلى هذا الخلاف ورود الجلد مطلقاً   1 سورة النور آية: 2. 2 المبسوط للسرخسي 9/36، وفتح القدير مع الهداية وشرح العناية 4/134 - 137. 3 المغني لابن قدامة 8/166 - 169، والأم 6/134، والقوانين الفقهية لابن جزئ الغرناطي ص: 384، وبداية المجتهد 2/436. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 عن قيد التغريب في القرآن، وورود التغريب في السنة الأحادية1. فالحنفية بناء على قاعدتهم في أن الزيادة على النص نسخ له قالوا: بعدم التغريب؛ لأن هذه الزيادة لم تثبت بطريق صالحة لنسخ مطلق الكتاب. وأما الجمهور؛ فلأن الزيادة عندهم بيان قالوا: بوجوب التغريب ولو كان طريق ثبوته بأخبار الآحاد؛ لأن البيان لا يشترط فيه مساواة المبين للمبين. وقد مال إلى مذهب الحنفية في هذه المسألة الدكتور مصطفى الزلمي في رسالته أسباب اختلاف الفقهاء، معللاً ذلك بأن قوله - تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} ، نص قطعي الدلالة والثبوت، والمراد منه بين في نفسه، فلا إجمال فيه حتى يبينه الحديث.   1 نشير إلى حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي قال فيه: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". أخرج هذا الحديث مسلم 3/1316، رقم الحديث 1690 باب حد الزني، وأبو داود 4/114 رقم الحديث 4415، والترمذي. وانظر: أحكام الإحكام لابن دقيق العيد 4/110 - 111، والبيهقي في السنن الكبرى 8/210 - 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ثم قال: إن التغريب عقوبة تبعية، وليست من أصل الحد، غير أن تعليل الحنفية ذلك بأنه زيادة على النص وهي نسخ؛ فلا تجوز بخبر الواحد تعليل غير سليم بالإضافة إلى أنه منقوص بكثير من تطبيقاتهم الفقهية المبنية على الزيادة على النص، كنقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة1 وغيرها. وهذا التعليل مدفوع: بأن الجمهور لا يقولون: إن الحديث بَيَّن المراد من الآية، بل هو بيان أن الحد مجموع الأمرين، والآية لم تتعرض له، وإنما ذكرت أن الزاني يجلد مائة جلدة، وهذا مسلم به. قال الشوكاني: "إن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبيِّن لمراد الله تعالى، وقد أقسم في الحديث الذي وردت فيه الزيادة على أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء2 بكتاب الله، ثم خطب بذلك عمر رضي الله عنه على رؤوس   1 أسباب اختلاف الفقهاء للدكتور مصطفى الزلمي ص: 71. 2 يشير بذلك إلى حديث العسيف الذي رواه البخاري ومسلم، وفيه: "أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، وقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل: فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن علي ابني الرجم فافتدين منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأغدوا يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإذا اعترفت فارجمها، قال فغدا عليها فاعترفت فأمر بها الرسول فرجمت". أخرجه البخاري في كتاب الحدود باب الاعتراف بالزنا وفي كتاب الصلح. ومسلم في كتاب الحدود برقم 1697، وأبو داود برقم 4445. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 المنابر وعمل به الخلفاء الراشدون، ولم ينكره أحد فكان إجماعاً"، وبالنسبة1 لقوة الحديث، يقول الشوكاني في هذا الصدد: "إن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة عند الحنفية، فيما ورد من السنن زائداً على القرآن، فليس لهم معذرة عنها بذلك، وقد عملوا بما هو دونها بمراحل مع أنه زيادة على ما في القرآن، وأيضاً فليست هذه الزيادة مما يخرج بها المزيد عليه عن أن يكون مجزئاًَ حتى تتجه دعوى النسخ"2.   1 نيل الأوطار 7/100، وأثر القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء للدكتور مصطفى الخن ص: 825. 2 المرجع السابق 7/89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 2 - اشتراط الإيمان في كفارة الظهار: 1 - ذهب الحنفية ومن وافقهم إلى أن الإيمان في كفارة الظهار ليس شرطاً وأن الرقبة الكافرة تجزئ1. واستدلوا على ذلك فقالوا: إن المنصوص في آية الظهار هو اسم الرقبة وليس فيها ما ينبئ عن صفة الإيمان أو الكفر، فالتقييد بصفة الإيمان مثلاً: يكون زيادة على النص القرآني وهي لا تثبت بخبر الآحاد أو القياس. 2 - وذهب الجمهور إلى اشتراط الإيمان، وقالوا: إن غير المؤمنة لا تجزئ لقوله - تعالى -: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} 2، ولا خبث أشد من الكفر، وبما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم برقبة سوداء، وقال: علي رقبة أفتجزئ عني، فامتحنها الرسول بالإيمان فوجدها مؤمنة فقال له: أعتقها فإنها مؤمنة"؛ فامتحانه إياها بالإيمان دليل على أن الواجب لا يتأدي بغير المؤمنة؛ ولأن ذلك تحرير في تكفير، فلا يجزئ فيه غير المؤمنة كما في كفارة القتل الخطأ3.   1 المبسوط 7/2. 2 سورة البقرة آية: 267. 3 المرجع الأول الجزء والصفحة، وقد سبقت أدلة المسألة في باب حمل المطلق على المقيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 3 - قطع يد السارق من المفصل: يطلق القطع على الإبانة، وعلى الجرح - أي شق العضو من غير إبانة له بالكلية - ولما كان الأصل في الإطلاق الحقيقة فيكون مشتركاً لفظياً بينهما. ولا قرينة ترجح أحدهما على الآخر فيكون مجملاً. والمجمل لا يُعمل به إلا بعد البيان، وقد بيّنت السنة الفعلية بأن القطع من مفصل الكوع، فكان ذلك تفصيلاً للمعنى الإجمالي للآية؛ إذ روي عن عمرو بن شعيب أنه قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقطع يده من مفصل الكف".1 وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "كانت السنة في القطع الكفين".2 فمن يرى أن الأمر بالقطع من الخاص الذي لا يحتمل البيان يشترط في السنة أن تكون متواترة أو مشهورة حتى تقوى على بيان قطعي الكتاب.   1 رواه الدارقطني في سننه - كتاب الحدود: 3/204 - 205 حديث (363) . وفيه راوٍ ضعيف؛ ولكن له شواهد يرتقي بها إلى الحسن. انظر: التعليق المغني على الدارقطني للعظيم آبادي. 2 أخرجه الترمذي 1/272 حديث (145) ، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ومن لا يرى ذلك ويجوز بيان الكتاب بالسنة ولو كانت أحادية، يجوز عنده بيان قطعي الكتاب بظني السنة؛ لأنه لا يشترط في المبيِّن مساواته للمبيَّن.1   1 منزلة السنة من الكتاب ص:395 - 397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 المبحث الثالث: في مسائل متفرقة 1 - آيتا المشيئة، وسميتا بذلك لذكر المشيئة فيهما مرة مطلقة ومرة مقيدة: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} 1، ناسخ لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا} 2، وهذا على التحقيق من باب تقييد المطلق؛ لأن قوله: {نُؤتِهِ مِنْهَا} مطلق ومعناه مقيد بالمشيئة وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ، والسبب الذي دعا ابن عباس إلى تسمية ذلك نسخاً هو: أن السَّلَف كانوا يسمون التخصيص والتقييد والبيان نسخاً، لأن المعنى اللغوي متحقق في ذلك، وهو مطلق التغيير المتبادر من اللفظ الأول بعد مجيء اللفظ الثاني.   1 سورة الإسراء آية: 18، وتمام الآية: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} . 2 سورة الشورى آية: 20، وتمام الآية: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نصِيبٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 2 - اختلاف الإمامين مالك والشافعي - رحمهما الله - فيمن ارتد والعياذ بالله: ذهب مالك - رحمه الله - إلى أن عمل المرتد يبطل بمجرد ردته لقول تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. وقال الشافعي -رحمه الله -لا يبطل عمله إلا بالوفاة على الكفر، لأن المطلق هنا محمول على المقيد في قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2. واعترض مالك دليل الشافعي هذا وقال: إن الآية الثانية ليست مقيدة للآية الأولى؛ لأنه قد ترتب فيها مشروطان، وهما الحبوط والخلود على شرطين، هما الردة والوفاة على الكفر، وإذا رتب مشروطان على شرطين أمكن التوزيع، فيكون الحبوط لمطلق الردة، والخلود لأجل الوفاة على الكفر، وحينئذ يبقى المطلق على إطلاقه لعدم التعارض، فتكون الآيتان خارجتين عن باب حمل المطلق على المقيد. ودفع هذا الاعتراض بأن قوله: إذا رتب مشروطان على شرطين   1 سورة الزمر آية: 65. 2 سورة البقرة آية: 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وأمكن التوزيع عمل به صحيح، ولكنه مشروط بأن يصح استقلال كل من المشروطين عن الآخر، أما إذا لم يصح الاستقلال فلا، والمشروطان في هذه المسألة من النوع الثاني الذي لا يصح فيه الاستقلال؛ لأنهما سبب ومسبب، والسبب لا يستغني عن مسببه، وكذلك المسبب لا يستغني عن سببه، فمال قاله الشافعي أوجه1.   1 الفروق للقرافي 1/191 - 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 3 - حكم مدافعة المار بين يدي المصلي، وأنه مقيد بوجود السترة: ورد في شأن هذه المسألة حديثان صحيحان: الأول: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يدي المصلي". وهذا حديث مطلق؛ حيث لم يذكر فيه أن المصلي له سترة أو لا. والثاني: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبي فليقاتله، فإنما هو شيطان". وهذا الحديث مقيد بما إذا صلى إلى شيء يستره. ولهذا قال في تيسير العلام شرح عمدة الأحكام: "ما ورد من دفع المار ومقاتلته، وعدم الضمان في ذلك، لمن جعل أمامه سترة. فأما من لم يجعل سترة، فليس له حرمة؛ لأنه المفرط في ذلك، كما هو مفهوم الحديث".1   1 تيسير العلام 1/233 - 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 4 - حكم طاعة الأمير، وأنه مقيد بما لم يكن معصية: قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} 1، والمراد بأولي الأمر كل من له ولاية شرعية، سواء كان الأمير العام، أو العالم الشرعي، أو الأمير أو الرئيس الخاص بالإنسان، وهذه الآية الكريمة قد أوجبت طاعة أولي الأمر، وهذا الأمر في الآية قد جاء مطلقاً، لكن هذا الإطلاق قد جاء تقييده في نصوص أخرى، منها حديث: "إنما الطاعة في المعروف"2، وحديث: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"3، وغير ذلك من النصوص التي تدل على اشتراط أن تكون الطاعة في غير معصية الله تعالى.4   1 الآية (59) من سورة النساء. 2 رواه البخاري برقم (4340، 7145، 7257) ، ومسلم 12/226 مع شرح النووي. 3 أخرجه القضاعي في مسنده برقم (873) ، وعبد الرزاق في مصنفه برقم (20700) . 4 وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة 1/358 - 359 رقم (2986، 3552) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الباب الثالث: في مقيدات المطلق الفصل الأول: في تقسيم المقيدات وحكم المتصل منها ... تمهيد في العلاقة بين مخصصات العام ومقيدات المطلق جرت عادة جمهور الأصوليين أن يتكلموا عن العام والخاص قبل الكلام على المطلق والمقيد، وقد أفاض الأصوليون في الكلام على تخصيص العام والمخصصات التي يقع بها التخصيص. وحيث كان هناك شبه بين مخصصات العام ومقيدات المطلق، اكتفى الأصوليون عن تفصيل القول في مقيدات المطلق بما قالوه في باب التخصيص والمخصصات، ثم أحالوا من أراد الاستزادة على ذلك، يقول الآمدي في أحكامه بعد أن عرف المطلق والمقيد: "وإذا عرف معنى المطلق والمقيد فكل ما ذكرناه في مخصصات العموم فهو بعينه جار في مقيدات المطلق، فعليك باعتباره ونقله إلى هنا"1. ويقول الشوكاني في إرشاد الفحول: "اعلم أن ما ذكر في التخصيص للعام فهو جار في تقييد المطلق فارجع في تفاصيل ذلك إلى ما تقدم في باب التخصيص"2. لكن بعض3 شراح الكتب الأصولية خطا خطوة في البيان عن   1 الأحكام للآمدي 3/4، بتعليق عبد الرزاق عفيفي. 2 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 167. 3 غاية الوصول شرح لب الأصول لأبي زكريا الأنصاري ص: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 مقيدات المطلق فلم يكتف بالإحالة كما فعل غيره، فخص بعض المقيدات بالذكر، ومن هؤلاء الأنصاري في غاية الوصول حيث ذكر أن ما يخص به العام يقيد به المطلق، وما لا يخص العام لا يقيد به المطلق، وعلل ذلك بأن المطلق عام من حيث المعنى، ثم فرع على هاتين القاعدتين فقال: "يجوز تقييد الكتاب به وبالسنة والسنة بها وبالكتاب، ويجوز تقييدهما بالقياس، والمفهومين، وفعل الرسول وتقريره بخلاف مذهب الراوي وذكر بعض جزئيات المطلق على الأصح في غير مفهوم الموافقة"1. وذكر البناني في حاشيته على شرح المحلى وجمع الجوامع مثل ما ذكره الأنصاري، وكذلك صاحب الكوكب المنير2. وهذا يعني أن الكلام على مقيدات المطلق وأحكام التقييد والتمثيل لها فيه شيء من الصعوبة، لقلة من كتبوا فيه بالتفصيل، وبناء على إرشادات الأصوليين الآنفة الذكر، فإن منهجي في بحث مقيدات المطلق يعتمد على الرجوع إلى ما كتبه الأصوليون في مخصصات العام، واعتبار ذلك في مقيدات المطلق، وحيث تكون الحاجة ماسة إلى ذكر أقوال   1 المرجع السابق. وقوله: (في غير مفهوم الموافقة) ، يعني أن مفهوم الموافقة جرى الاتفاق على حكم التقييد به، وإن اختلف في تسميته كما سبق حيث يرى الحنفية أنه من قبيل دلالة النص، ويرى الجمهور أن ذلك (قياس جلي) أو مفهوم موافقة. 2 شرح الكوكب المنير للفتوحي ص: 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 العلماء في القاعدة والتمثيل لها، فإني أذكر ما قيل في التخصيص والمخصصات ليكون دليلاً على مرادهم في تقييد المطلق. ولكن إذا كان الحكم لا ينطبق على المطلق لما سبق من الفرق بينه وبين العام، فإني أُبيِّن ذلك، اعتقاداً مني أن الاختلاف في الذات يبنى عليه الاختلاف في الأحكام، وهذا يقتضي أن أعرض ما قيل في مخصصات العام على أحكام المطلق وخصائصه السابقة، فما لا يتعارض معها جاز التقييد به، وما كان منها متعارضاًَ مع تلك الخصائص والأحكام منعنا التقييد به وبينا السبب في ذلك. وقبل أن نبدأ في تفصيل الكلام على مقيدات المطلق ينبغي أن نعرف معنى التقييد والمقيد باسم الفاعل والفرق بين التقييد والتخصيص وبينهما وبين النسخ، فنقول: 1 - التقييد: تفعيل، مأخوذ من الفعل الرباعي: "قَيَّدَ" يقال: قَيّد الحيوان تقييداً؛ إذا جعل في رجله قيداً ونحوه من موانع الحركة. وفي الاصطلاح: إضافة قيد إلى اللفظ المطلق واعتبار ذلك في مدلوله، وحيث عرفنا المُقَيّد باسم المفعول فيما سلف بأنه اللفظ الذي اقترن به ما يحد من شيوعه وانتشاره بين أفراد جنسه. يمكن تعريف التقييد بأنه: "تحديد شيوع اللفظ المطلق بقيد يقلل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 انتشاره بين أفراد جنسه"1. 2 - أما المُقَيِّدُ باسم الفاعل: فقد اختلف العلماء في المراد به، وكان لهم في ذلك رأيان: الأول: أن المقيد إرادة المتكلم، والدليل كاشف عن تلك الإدارة، واختار هذا القول، كما يقول الشوكاني: ابن برهان2 وفخر الدين الرازي. الثاني: أن المقيد هو الدليل الذي وقع به التقييد، والحق أن المقيِّد حقيقة هو المتكلم لكن لما كان المتكلم يقيد بالإرادة أسند التقييد إلى إرادته فجعلت مُقَيَّدة، ثم جعل ما دل على إرادة المتكلم وهو الدليل مقيداً في الاصطلاح والمراد: - هنا - إنّما هو الدليل الذي يحصل به التقييد3.   1 روضة الناظر ص: 136. 2 ابن برهان: هو أحمد بن علي بن محمد الوكيل المعروف بابن برهان، وكنيته أبو الفتح، فقيه شافعي أصولي محدث، ولد سنة 444هـ، وكان حنبلي المذهب، ثم انتقل إلى المذهب الشافعي، وأخذ عن القاضي والغزالي وأبي الحسين الكيا الطبري، له مصنفات كثيرة منها: الوسيط والأوسط، والوجيز في أصول الفقه، توفي سنة 520هـ، طبقات الأصوليين 2/16، وابن كثير في البداية والنهاية 12/196، وكشف الظنون لحاجي خليفة 1/133. 3 إرشاد الفحول ص: 145، والمعتمد 1/256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 3 - الفرق بين التقييد والتخصيص: أ - ذهب جمهور الأصوليين - ومنهم الشافعية والمالكية والحنابلة - إلى عدم التفريق بين التقييد والتخصيص، حيث يطلقون على كل منهما قصراً أو تخصيصاً على سبيل الترادف، وذلك؛ لأن التخصيص عندهم هو: قصر شمول العام على بعض أفراده بدليل1، أو هو إخراج بعض ما كان داخلاً تحت العموم على تقدير عدم المخصص2 والمطلق عندهم نوع من العام فيسمى تقييده قصراً أو تخصيصاً. ب - وذهب الحنفية إلى التفرقة بين التخصيص والتقييد فقالوا: إن التقييد نوع من قصر العام على أفراده، ولكنه لا يسمى تخصيصاً في الاصطلاح، لعدم استقلال الدليل الذي يكون به التقييد عن اللفظ العام في المعنى. وأما التخصيص: فهو "قصر العام بدليل مستقل مقارن للعام في نزوله ومساوٍ له في قوته" 3.   1 بقطع النظر عن نوعية الدليل الذي يحصل به التخصيص من حيث قوة الدلالة، أو تاريخ التشريع، أو الاستقلال في المعنى، فاتسع بذلك مفهوم التخصيص عند الجمهور. 2 إرشاد الفحول ص: 142، وأصول الفقه للخضري ص: 216. 3 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/306، ومالك لأبي زهرة ص: 142، والتقرير والتحبير 1/240، وإرشاد الفحول ص: 142، وأصول الفقه للخضري ص: 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فأساس التفرقة يقوم على أن مفهوم التخصيص عند الحنفية أخص منه لدى الجمهور؛ إذ يشترط الحنفية في المخصص للعام ابتداءً إذا كان كلاماً1 أن تتوفر فيه ثلاثة شروط لا يرى الجمهور اشتراطها في المخصص. الأول: استقلال المخصص في المعنى؛ بحيث يكون نصاً مفيداً تام المعنى في ذاته. الثاني: أن يكون مقارناً للعام في زمن تشريعه. الثالث: مساواته للعام في الدلالة والثبوت، فإذا كان الدليل غير مستقل في معناه فهو عند الحنفية يسمى قصراً لا تخصيصاً، ومرادهم من هذا الدليل غير المستقل المخصصات المتصلة، كالصفة والشرط والغاية ونحوها؛ فإن كلاً من هذه القيود لو فصل عما قبله لم يفدْ شيئاً؛ إذ هي ليست مستقلة في معناها، بل هي تابعة للكلام السابق2، على أن الحنفية يجوزون إطلاق لفظ القصر على التخصيص دون العكس، وبذلك يكون القصر عندهم أعم، فكل تخصيص قصر وليس كل قصر تخصيصاً3.   1 نشير هنا إلى أن التقييد قد يكون بالنقل (النصوص) وقد يكون بالعقل أو العرف، وهذه الشروط الثلاثة خاصة بالنقل، المناهج الأصولية ص: 265، ومسلم الثبوت 2/300. 2 مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/300. 3 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/306، والمناهج الأصولية ص: 566. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وحيث عرفنا معنى التقييد والتخصيص عند الجمهور والحنفية نلخص الفروق بينهما في النقاط التالية على رأي الحنفية مع التنبيه إلى أنه يمكن إرجاع تلك الفروق إلى الاختلاف بين العام والمطلق الذي سبق الكلام عليه في أثناء حديثنا عن دلالة المطلق فنقول: 1 - يؤخذ من تعريف التقييد أنه إخراج ما كان صالحاً لتناول اللفظ المطلق عن طريق البدل لولا ورود المقيد. كما يؤخذ من تعريف التخصيص أنه إخراج لبعض الأفراد التي استغرقها اللفظ العام بوضعه اللغوي على تقدير عدم المخصص. 2 - التقييد تصرف فيما سكت عنه اللفظ المطلق، وأما التخصيص فهو تصرف فيما تناوله اللفظ العام ظاهراً، فلو قلت: "أعط الرجل الفقير درهماً بعد قولك: "أعط الرجل درهماً" لكان التقييد بالصفة - وهي الفقر هنا - تصرفاً فيما سكت عنه لفظ "الرجل" في وضعه اللغوي وبياناً له؛ لأن لفظ الرجل في وضعه اللغوي إنما يدل على خلاف المرأة، وهو كما ترى لا يدل على غني أو فقير، بل هو ساكت عن ذلك، فجاء التقييد إذاً تصرفاً فيما سكت عنه اللفظ في الوضع اللغوي ومبيناً لما لم يتناوله لغة بخلاف التخصيص؛ فإنه تصرف فيما تناوله اللفظ ظاهراً؛ لأنه لو قيل في العام: "عاقب المذنبين" ثم قيل: "لا تعاقب الأطفال منهم"، لكان القسم الأول من الكلام وهو "عاقب المذنبين" متناولاً للقسم الثاني بوضعه اللغوي، وعملاً بدلالة العموم، فجاء الشطر الثاني من الكلام متصرفاً فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 تناوله الشطر الأول لغة ومبيناً عدم شموله للأطفال المذنبين. 3 - التقييد من حيث هو يقتضي إيجاب شيء زائد، فلو قال الشارع: "اعتق رقبة" أجزأ المأمور بالعتق إعتاق أيّ رقبة كانت، سواء كانت مؤمنة أو كافرة، ولكن إذا قيدها بالإيمان فقال: "أعتق رقبة مؤمنة" وجب على المأمور إعتاق رقبة مؤمنة، ولا يجزئه غيرها، فالتقييد إذاً زيادة قيد على اللفظ المطلق واعتبار ذلك في مدلوله وفيه نوع مشقة1. أما التخصيص فهو في حقيقته لا يقتضي الإيجاب، وإنما يقتضي الدفع لبعض ما تناوله الحكم العام، وذلك نقصان في الحكم وتخفيف عن المكلف2. 4 - التقييد مفرد والتخصيص جملة، ومراد الأصوليين بالمفرد هنا ما لا يستقل بنفسه عن إفادة تمام المعنى، وبالجملة ما كان مستقلاً بذاته في إفادة المعنى. 5 - التقييد أعم من التخصيص؛ لأنه يدخل على الخاص، وقد   1 انظر: المسودة لآل تيمية ص: 148، وتنقيح الفصول ص:220، ومسلم الثبوت 1/365. 2 المراجع السابقة وكشف الأسرار 3/198، والمدخل إلى علم أصول الفقه للأستاذ معروف الدواليبي ص: 192، ورسالة التعارض والترجيح للدكتور مصطفى البرزنجي ص: 595. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 يدخل على العام، بخلاف التخصيص؛ فإنه لا يدخل إلا على العام1. 4 - الفرق بين التقييد والنسخ: عرفنا معنى التقييد ولبيان الفرق بينه وبين النسخ لا بد من تحديد مفهوم النسخ عند المتقدمين والمتأخرين. النسخ في لسان السلف يطلق ويراد به رفع الحكم تارة، ورفع ما اقتضاه اللفظ العام والمطلق تارة أخرى، وبيان المراد من اللفظ المجمل والمبهم تارة ثالثة، حتى إنهم كانوا يسمون الإخراج بالاستثناء والصفة نسخاً، لتضمن ذلك كله رفع الظاهر من اللفظ، وبيان أن مراد الشارع في التكليف والعمل هو ما دل عليه الناسخ حقيقة، وما دل عليه المخصص والمقيد ظاهراً2، وهذا المفهوم للنسخ أعم من المفهوم المصطلح عليه لدى علماء الأصول، حيث خصوا اسم النسخ بالنوع الأول، وعرفوه بناء على ذلك بأنه: "رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متراخ عنه" 3، فعلى اصطلاح الأصوليين تظهر الفروق بين التقييد والنسخ في المقارنة التالية، وهي من ناحيتين:   1 المراجع السابقة، ويراجع في ذلك ما سبق في دخول الإطلاق على الأفعال والأسماء الشخصية. 2 الموافقات للشاطبي 3/108. 3 إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 1/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الأولى: في أوجه الاتفاق بين التقييد والنسخ: 1 - حيث يتفق التقييد والنسخ في أن كلا منهما بيان للمطلوب من المكلف ومعنى ذلك: أنه بعد مجيء المخصص والمقيد والمبين قد أصبح حكم اللفظ العام والمطلق والمجمل مشابهاً لحكم اللفظ المنسوخ في الظاهر من حيث العمل فيما يستقبل من الزمان. ووجه الشبه: أن في كل منها تركاً لما أفاده اللفظ الأول ظاهراً، إما حقيقة كما في اللفظ المنسوخ وإما ظاهراً كما في العام المخصوص والمطلق المقيد، والمجمل المبين، إذا كان إجماله من وجه أو على القول، بأنه ما تساوت فيه الدلالة، ولهذا استسهل السلف إطلاق اسم النسخ على المراد من هذه الألفاظ لاشتراكها في معنى واحد1، وهو تغيير اللفظ الأول بعد مجيء الثاني. 2 - أن كلا منهما قائم على التعارض بين النصين، وإن كان التعارض بين المطلق والمقيد لا يعد تعارضا إذا قيس بالتعارض الذي يقوم عليه النسخ؛ لأن التقييد فيه عمل بالدليلين، بخلاف النسخ الكلي؛ فإن فيه عملاً بالدليل الناسخ، وإهداراً للدليل المنسوخ. 3 - ذكر بعض أصحاب الأصول أن في كل من التقييد والنسخ   1 الموافقات للشاطبي 3/109، وتاريخ التشريع الإسلامي للشيخ الخضري بك ص: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 تركاً للمطلق، والدليل المنسوخ وعملاً بالمقيد والدليل الناسخ، وهذا لا يطرد إلا في النسخ الكلي؛ فإنه يعمل فيه بالدليل الناسخ فقط، وأما المطلق فإننا عندما ضيقنا دائرته بالقيد الذي ورد عليه لم نهمله بالكلية، بل عملنا به في بعض أحواله1، وهذا هو مراد الشارع منه، بخلاف النسخ فقد نسخ مراد الشارع من الحكم. الناحية الثانية: في أوجه الفرق بين التقييد والنسخ: يفترق التقييد والنسخ في الأوجه التالية: 1 - أن النص المطلق لم يرتفع حكمه، وإنما ضاقت دائرته بالقيد الذي ورد عليه، أما المنسوخ فقد رفع حكمه بالدليل الناسخ. 2 - المطلق ما زال كما هو دليلاً على الحكم مع مراعاة القيد عند العمل. أما المنسوخ: فلا يمكن أن يعتبر دليلاً بعد نسخه، فالتقييد على هذا وصف للنص المطلق يقلل من مدلوله، والنسخ ليس كذلك؛ لأنه إهدار للدليل المنسوخ، هذا إذا كان النسخ كلياً، أما عند من يرى النسخ الجزئيَّ؛ فلا مانع من أن يكون الحكم المنسوخ بعضه معمولاً به باعتبار البعض الذي لم يدخله النسخ.   1 النسخ بين النفي والإثبات ص: 146-148 د. محمد محمود فرغلي، والنسخ في القرآن د. مصطفى زيد ص: 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 3 - التقيد مفرد، لأنه وصف للمطلق في المعنى كما سبق، والأصل في الوصف أن يكون بلفظ مفرد، ومن ثم فهو غير مستقل بنفسه عن الموصوف. أما النسخ: فهو جملة تامة في معناها، لأن من شرطه التأخر عن المنسوخ والاستقلال في المعنى لازم له. 4 - التقييد يقع بالسابق والمقارن واللاحق الذي لم يتأخر عن وقت العمل عند جمهور الأصوليين. أما النسخ: فلا يكون إلا باللاحق أي بالمتأخر في نزوله عن المنسوخ، ومذهب الحنفية في التقييد بالمتأخر كالتخصيص به، يعتبرون كليهما نسخاً1، فعلى هذا التقييد وإن كان نسخاً فهو أعم من النسخ المتعارف، من حيث ما يثبت به أو من حيث طريقه. 5 - التقييد: قد يدخل على الأوامر والأخبار وغيرهما إذا اشتملت على حكم شرعي2. أما النسخ: فلا يدخل إلا على الأحكام الشرعية، وعليه فالتقييد أعم من حيث المحل.   1 أصول الفقه د. بدران أبو العينين بدران ص: 452، والنسخ لمصطفى زيد 1/160. 2 كشف الأسرار على أصول البزدوي 3/198، المدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص: 192، والنسخ بين النفي والإثبات د. محمد محمود فرغلي ص: 146-148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الفصل الأول في تقسيم المقيدات وحكم المتصل منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 أولاً: تقسيم المقيدات: تقدم لنا معنى التقييد وأنه تحديد شيوع اللفظ المطلق بما يقلل من انتشاره بين أفراد جنسه. وكلامنا في هذا الفصل في بيان بأي شيء يكون التقييد؟ ونظراً إلى التشابه الموجود بين العام والمطلق، فإن مقيدات المطلق تختلف تبعاً لاختلاف المذاهب في مخصصات العموم، وشروط المخصص ولكنها في الجملة: 1 - إما أن تكون كلاماً. 2 - أو غير كلام، ويراد بغير الكلام هنا التخصيص بالعقل والحس 1 ونحوهما. والمقيدات الكلامية تنقسم إلى قسمين أيضاً:   1 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 145، والمعتمد لأبي الحسين البصري 1/256، ومثال: التخصيص بالعقل قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فقد دل العقل على أن ذاته غير مخلوقه، لافتقار المخلوق إلى الخالق، والله سبحانه وتعالى غني عن العالمين، ومثال التخصيص بالحسن قوله تعالى: حكاية عن بلقيس {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} ، وقد دل الحس والعادة على أن بعض الأشياء لم تؤتها بلقيس مثل الأشياء التي كانت بيد سليمان عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 أ - مقيدات متصلة: وهي ما كانت غير مستقلة بنفسها، بل تابعة للمطلق في تمام الفائدة مثل: التقييد بالشرط والصفة ونحوهما. ب - ومقيدات منفصلة: وهي ما كانت مستقلة بنفسها عن اللفظ بتمام الفائدة، وهذا القسم يتنوع إلى نوعين: 1 - مستقل مقارن للمطلق في نزوله إن كان قرآناً أو في وروده إن كان سنة. 2 - ومستقل متأخر عن اللفظ المطلق كما سيأتي. وتقسيم المقيدات إلى متصلة ومنفصلة إنما هو على رأي الجمهور ومنهم الشافعية 1، وخالف في ذلك الحنفية حيث قصروا المقيدات على ما كان منفصلاً مقارناً دون المتصل والمستقل المتأخر؛ فلا يسمى كل منهما مقيداً عند الحنفية. أما المتصل: فقد منعوا 2 التقييد به لأمرين: الأول: ما سبق أن شرط المقيد عندهم أن يكون مستقلاً بتمام   1 إرشاد الفحول ص: 145، والمعتمد ص: 256. 2 الأحكام للآمدي 2/286، ونهاية السول 2/93، وجمع الجوامع 1/226، وإرشاد الفحول ص: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الفائدة عن اللفظ المطلق، والمقيدات المتصلة في نظرهم ليست كذلك؛ لأنها أجزاء من الكلام المتصلة به، لا غنى لها عنه، ولا استقلال لها بدونه 1. والثاني: أن التقييد عندهم لا بد فيه من معنى المعارضة، والتقييد بالصفة والشرط ونحوهما من المقيدات المتصلة لا يتصور إلا مع القول بمفهوم المخالفة وهم لا يقولون به، كما سلف. وأما إذا كان الدليل مستقلاً ومتأخراً عن المطلق مدة يصح القول فيها بالنسخ؛ فإنه يكون ناسخاً 2 لا مقيداً عند الحنفية إن تساوى مع المطلق في قوة الثبوت والدلالة.   1 التلويح مع التوضيح 1/42، وفواتح الرحموت 1/316، والنسخ في القرآن د. مصطفى زيد ص: 113. 2 تيسير التحرير 1/282، وفصول البدائع 2/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 ثانياً: أقوال العلماء في المقيدات المتصلة: سلف أن عرّفنا المقيدات المتصلة بأنها: ما لا يستقل بنفسه عن اللفظ المطلق، بل يكون تابعاً للمطلق في تمام معناه 1. مثل قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ؛ فإن لفظ مؤمنة غير مستقل في الدلالة؛ لأن دلالتها لا تستفاد بدون اتصالها بالمطلق الموصوف بها. وكما اختلف الحنفية مع الجمهور في تسميتها مقيدات، اختلف الجمهور أنفسهم في عددها، وفيما يعتبر منها مقيداً للمطلق، ولمعرفة أقوالهم في هذه المسألة نورد أقوالهم في تخصيص العام بها. وهي ثلاثة أقوال: الأول: القول بأن المخصصات المتصلة أربعة هي: 1 - الاستثناء: كقوله - تعالى -: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2. 2 - الشرط: كقوله - تعالى -: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} 3.   1 غاية الوصول للأنصاري ص: 82. 2 سورة العصر الآيات: 1-3. 3 سورة النساء آية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 3 - الغاية: كقوله - تعالى-: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 1. 4 - الصفة مثل قوله - صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة زكاة" 2. القول الثاني: إن المخصصات المتصلة خمسة: وزاد على الأربعة السابقة بدل البعض كقوله - تعالى -: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 3. وبه قال ابن الحاجب 4 وتابعه السبكي 5. وقد اعترض على هذا الرأي بأن المبدل منه مستعمل في معنى البدل والمقصود بالحكم إنما هو البدل، ولكن نسب إلى المبدل منه بقصد توطئة النسبة إلى البدل ليفيد فضل توكيد، فعلى هذا ليس بدل البعض من المخصصات 6   1 سورة المائدة آية: 6. 2 الحديث تقدم تخريجه ص:230. 3 سورة آل عمران آية: 97. 4 مختصر ابن الحاجب 2/131. 5 جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/34. 6 فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/345، وتيسير التحرير 1/282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 القول الثالث: إن المخصصات المتصلة اثنا عشر مخصصاً الخمسة التي تقدمت وسبعة أخرى: 6 - الحال، 7 - وظرف الزمان، 8 - وظرف المكان، 9 - والجار مع المجرور، 10 - والتمييز، 11 - والمفعول معه، 12 - والمفعول لأجله، وبه قال الشوكاني حكاية عن القرافي 1. هذه خلاصة أقوال العلماء في ما يعتبر من مخصصات العام المتصلة، وحيث إن كل ما ذكر في تخصيص العام جار في تقييد المطلق كما نقلنا ذلك عن أكثر الأصوليين، ومنهم الشوكاني الذي حكى هذه الأقوال وأمر بنقلها إلى باب المطلق والمقيد، فكان معنى كلامه أن تكون هذه الأقوال نفسها جارية على مقيدات المطلق المتصلة، ولكن لما كان للمطلق ميزات وخصائص يختلف بها عن العام، فسوف نعرض لهذه المقيدات مقتصرين على الخمسة الأولى، لأن السبعة الباقية تدخل في الحقيقة تحت الصفة، ومن ثم نرى ما يمكن تقييد المطلق به، وما لا يمكن على ضوء الفروق والميزات التي ذكرناها. في الفرق بين العام والمطلق. ولكن نبادر إلى القول بأن الاستثناء وبدل البعض لا يمكن أن يكونا   1 إرشاد الفحول ص: 145، ولم أعثر على قول القرافي إنها اثنا عشر، وإنما وجدت في كتابه العقد المنظوم في الخصوص والعموم ص: 182: أنها عشرة ولم يذكر المفعول معه والمفعول لأجله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 من مقيدات المطلق. 1 - أما الاستثناء؛ فلأنه معيار العموم الذي يختبر به عموم اللفظ، فكل لفظ صح الاستثناء منه مما لا حصر فيه فهو عام وليس بمطلق، وأيضاً فإن حقيقة الاستثناء على القول الراجح إخراج ما لولاه لوجب دخوله في اللفظ المستثنى منه، والمطلق ليس كذلك، لأنه عبارة عن النكرة في سياق الإثبات على قول، وهي غير مستغرقة، وحيث كان إخراج بعض مفهومات اللفظ، فرع العلم باندراجه تحته من حيث الإرادة ولا علم بذلك فيما لا استغراق فيه 1، كان الأصح عدم جواز الاستثناء من النكرة في سياق الإثبات؛ لأنك لو قلت: "أكرم رجالاً إلا زيدا" لم يصح الاستثناء؛ لأن زيداً لم يتعين دخوله في مفهوم لفظ رجال حتى يكون إخراجه منهم تقييداً. نقول: هذا مع الاعتراف بجواز الاستثناء من النكرة إذا كانت جارية مجرى العموم، مثل: اشتريت عبداً إلا ربعه وداراً إلا سقفها، لكن استثناء ربع العبد وسقف الدار ليس بتقييد للمطلق؛ لأنهما أجزاء من كل والمطلق إنما هو كلي يقيد بجزئيه لا بجزئه 2. 2 - وكذلك لا يكون بدل البعض مقيداً للمطلق لوجهين:   1 تيسير التحرير 1/310. 2 تنقيح الفصول ص: 27، والتمهيد للأسنوي ص: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 الأول: أن بدل البعض لا يكون إلا من كل، والمطلق كلي وليس بكل عند بعض العلماء 1. الثاني: أن يدل البعض في نحو أكلت الرغيف ثلثه هو جزء من كل وتقييد المطلق لا يكون إلا بجزئيه لا بجزئه فلهذا لا يكون بدل البعض من مقيدات المطلق.   1 الفروق للقرافي 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 3 - حكم التقييد بالشرط: الشرط لغة: العلامة. وسمي ما علق به الجزاء شرطاً؛ لأنه علامة على حصوله 1. وفي الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته 2. فالقيد الأول: "ما يلزم من عدمه العدم" احتراز عن المانع، فإنه لا يلزم من عدمه شيء عند الأكثر. والقيد الثاني: "ولا يلزم من وجوده وجود" احتراز عن السبب، فإنه يلوم من وجوده الوجود. والقيد الثالث: احتراز عن مقارنة الشرط وجود السبب، فيلزم الوجود كالحول مع النصاب، ومقارنة الشرط قيام المانع فيلزم العدم، لكن ذلك ليس لذات الشرط، يل لوجود السبب أو المانع 3. وإذا كان علماء الأصول قد اصطلحوا على أن الشرط ما يتوقف عليه الشيء، ولا يكون داخلاً في ماهيته ولا مؤثراً فيه، فإن لعلماء النحو   1 الكليات لأبي البقاء 3/64 فصل الشين. 2 تنقيح الفصول ص: 262، جمع الجوامع 2/55. 3 المرجعين السابقين وحاشية البناني على جمع الجوامع 2/55-56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 اصطلاحاً خاصاً في تعريف الشرط اللغوي المقصود بهذا المبحث، حيث يعنون به ما دخل عليه أحد الحرفين "إن" أو "إذا" أو ما يقوم مقامهما مما يدل على سببية الأول ومسببية الثاني نحو: "أعتق رقبة إن كانت مؤمنة" فإن تقدير هذا الكلام في اللسان العربي إذا كانت الرقبة مؤمنة فأعتقها، ولازمه إذا لم تكن كذلك فلا تعتقها، فلو أعتق المأمور بهذا الأمر رقبة غير مؤمنة لم يكن ممتثلاً للأمر السابق، ولهذا 1 اعتبر الشرط من مقيدات المطلق عند جميع العلماء. وقد يشترط في الحكم الواحد شروط متعددة إما على سبيل البدل أو على الجمع 2. 1 - فمثال ما كان على سبيل البدل: "أعتق رقبة إن كانت مؤمنة أو كاتبة، فأي الشرطين حصل كانت الرقبة مستحقة للإعتاق. 2 - ومثال ما يكون على الجمع: قولك: "أعتق رقبة إذا كانت مؤمنة وكاتبة"، فلا تستحق الرقبة العتق إلا إذا حصل الأمران جميعاً، فكان الشرط الثاني زيادة قيد، إذ لو اقتصر على الأول لاستحقت الإعتاق بكونها مؤمنة فقط، ولكن بعد ذكر القيد الثاني لا تستحق الإعتاق إذا   1 المعتمد لأبي الحسين 1/259. 2 أي: لأنه بمعنى السبب الجعلي والسبب والمسبب متلازمان. وانظر المرجحات ص: 398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 كانت مؤمنة ولم تكن كاتبة؛ لأن حصول الإعتاق متوقف على تحقق الشرطين، وهكذا كلما تعدد الشرط. وإذا ذكرت أشياء متعددة وذكر بعدها شرط فقد اختلف العلماء فيما يعود إليه الشرط. أ - فذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن الشرط يعود إلى الجميع 1. ب - وحكى الرازي عن بعض الأدباء أن الشرط يختص بالجملة التي تليه، فإن كان متأخراً اختص بالأخيرة وإن كان متقدماً اختص بالجملة الأولى 2. ومثال ذلك: قولك: "أكرم علماء وأعط شعراء إن أقاموا عندك"، فعند الجمهور الشرط يعود إلى الجميع، فيجب على المأمور إكرام عدد من العلماء وإعطاء عدد آخر من الشعراء، إن أقاموا عند المخاطب. وعلى الرأي الآخر الذي نقله الرازي عن بعض الأدباء يكون الواجب إكرام عدد من العلماء على الإطلاق بدون شرط الإقامة عند المخاطب، ولا يعطي الشعراء إلا إذا أقاموا عنده.   1 شرح الكوكب المنير للفتوحي ص: 201. 2 المحصول للرازي مخطوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 والراجح رأي الجمهور عند عدم القرينة، للأمور التالية: أولاً: أن المراد بالشرط هنا الشرط اللغوي، وهو بمعنى السبب الجعلي والسبب مظنة الحكمة والمصلحة فناسب فيه التعميم، لأن فيه تكثير المصلحة 1. وثانياً: لأن الشرط وإن كان متأخراً لفظاً فهو متقدم في الرتبة. وثالثاً: للأسباب التي سنذكرها في عود الصفة إلى الجميع كما سيأتي.   1 تنقيح الفصول للقرافي ص: 250-265، وإرشاد الفحول ص: 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 4 - حكم التقييد بالغاية: الغاية في اللغة مدى الشيء، ومنتهاه وأقصاه 1. واصطلاحاً: نهاية الشيء المقتضية مخالفة حكم ما بعدها لما قبلها 2. ولها لفظان: هما: "حتى" و"إلى" 3، وحكمها في التعدد حكم الشرط. وتقييد المطلق بها متصور، وذلك إذا كان الإطلاق في جانب الأفعال نحو: "سرحتي الكوفة"، و"نم حتى طلوع الفجر"، و"صلّ إلى منتصف الليل"؛ فإن كل فعل من هذه الأفعال يقدر بمصدره فيكون نكرة في سياق الإثبات وهي حقيقة المطلق، وقد قيد في الأمثلة المذكورة بالغاية. وهذا على رأي من لا يشترط في الغاية المخصصة تقدم العموم عليها، وأما على مذهب من يشترط ذلك، فلا تكون الغاية عنده من مقيدات المطلق؛ لأن المطلق المتقدم على الغاية لا يدل على الشمول كالعام، وإنما يتناولها بطريق البدل، فإذا كانت الغاية من جزئيات المطلق، صح التقييد بها وإلا بأن كانت جزءاً مثلاً، فلا يصح تقييد الكلي بها، لما سبق أن المطلق يقيد بجزئيه لا بجزئه.   1 مادة (غيا) لسان العرب لابن منظور. 2 إرشاد الفحول ص: 154. 3 المرجع السابق، وجمع الجوامع 2/58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 5 - حكم التقييد بالصفة: يقصد بالصفة هنا الصفة المعنوية، وهي: مطلق القيد غير الشرط والغاية والعدد، ولا يقتصر بها على النعت النحوي الذي: "هو التابع المكمل لمتبوعه ببيان صفة من صفاته أو صفات ما تعلق به" 1، بل يعني بها الأصوليون معنى أعم من ذلك يتناوله وغيره، وهو كما قلنا: مطلق القيد الآنف الذكر سواء كان نعتاً نحوياً أو لم يكن 2. ومثال المطلق الذي قيد بالصفة قولك: "أعتق رقبة"؛ فإن الرقبة مطلقة أي شائعة في جنس الرقاب تتناولها على سبيل البدل، فيجزئ المأمور إعتاق أي رقبة سواء كانت مؤمنة أو كافرة، ولكن إذا قيدت الرقبة بوصف الإيمان فقيل: "أعتق رقبة مؤمنة"؛ فإن وصفها بالإيمان يحد من انتشارها، فيجب اعتباره عند إرادة العتق، بحيث لا يجزئ المأمور إلا إعتاق رقبة مؤمنة، وهكذا كلما زادت صفة زاد التقييد وضاقت دائرة المطلق. ولا خلاف بين العلماء في جواز قصر شيوع المطلق بالصفة، وإنما الخلاف جار بينهم فيما تعود إليه الصفة المذكورة بعد شيئين فصاعداً عطف أحدهما على الآخر بالواو، ولم تكن هناك قرينة تعين ما تعود إليه   1 شرح ابن عقيل 2/191، ط مصطفى محمد. 2 إرشاد الفحول ص: 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 الصفة أيجوز أن تعود إلى جميع ما قبلها أم تختص بما يليها فقط؟ 1 - ذهب الحنفية إلى أنها تعود إلى الأخير 1. 2 - وذهب الجمهور ومنهم الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أنها تعود إلى الجميع 2. 3 - وذهب جماعة من الأصوليين إلى التوقف، إلا أن منهم من توقف للاشتراك كالمرتضى 3 من المعتزلة، ومنهم من توقف لعدم العلم بمدلوله في اللغة كالقاضي من المالكية والغزالي من الشافعية 4. قال العضد 5 بعد أن ذكر القول بالاشتراك والقول بالتوقف لعدم   1 التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة 2/30، ومسلم الثبوت 1/332. 2 تنقيح الفصول للقرافي ص: 249، والأحكام للآمدي 2/300، وشرح الكوكب المنير 1/193. 3 هو: الشريف المرتضى علي بن الحسين أديب متكلم، ولد ومات ببغداد وتولى نقابة الطالبيين، وكان إمامياً معتزلياً متبحراً في الكلام والفقه والحديث، وله عدة مؤلفات من أشهرها أماليه المسماة: درر القلائد وغرر الفوائد. الأعلام 5/89. 4 المستصفى للغزالي 2/177، والأحكام للآمدي 2/301، وتنقيح الفصول ص: 249، ونهاية السول 2/106. 5 العضد هو: عبد الرحمن بن أحمد الإيجي الملقب بعضد الدين الشافعي الأصولي، ولد بإيج بلدة من أعمال شيراز بفارس، وبها نشأ وتعلم، وكان من تلاميذه التفتازاني مات -رحمه الله- محبوساً سنة 756هـ، من أشهر مؤلفاته: شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول والمواقف في أصول الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 معرفة مدلوله في اللغة: "وهذان القولان موافقان لقول الحنفية، وإن خالفاه في المأخذ" 1، ومعنى ذلك: أن من توقف للاشتراك ومن قال بالتوقف لعدم معرفة مدلوله في اللغة موافقان لمذهب الحنفية في أن الصفة إنما تعود إلى الأخيرة خاصة لظهور تناولها للأخيرة عند الحنفية، وعدم العلم بعودها إلى ما قبل الأخيرة عند غيرهم، فيلزم عودها إلى الأخيرة ضرورة عدم استقلالها 2. أدلة المذاهب: أولاً: أدلة من قال بالتوقف. الذي قال بالتوقف إما أنه توقف للاشتراك، أو لعدم العلم بمدلوله لغة، واستدل من قال بالتوقف للاشتراك بما يلي: 1 - قالوا: إنه يحسن الاستفهام عن عود الصفة إلى ما يليها أو إلى الجميع ولو كان عودها إلى ما يليها أو إلى الجميع حقيقة في أحد هذه المحامل دون غيره لما حسن الاستفهام وذلك يدل على الاشتراك 3. والجواب أن حسن الاستفهام لا يدل على الاشتراك؛ لجواز أن يكون الاستفهام لدفع احتمال بعيد أو للحصول على اليقين وهذا يكفي   1 شرح العضد وحاشية السعد 2/139. 2 المرجع السابق 2/139. 3 الأحكام للآمدي 2/307، وشرح تنقيح الفصول ص: 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 في جواز الاستفهام 1. 2 - واستدلوا أيضاً: بصحة إطلاق الصفة وإرادة عودها إلى الأخير أو الجميع أو إلى البعض دون البعض بإجماع أهل اللغة، والأصل في الإطلاق الحقيقة. والمعاني مختلفة وذلك هو الاشتراك 2. والجواب عن ذلك أن يقال: إن الأصل عدم الاشتراك، وما ورد فيه عود الصفة إلى معين إنما كان لدليل، والعطف هنا قرينة تدل على عود الصفة إلى الجميع حيث لم يمنع من ذلك مانع، فيجب القول بعود الصفة إلى الجميع للقرينة المذكورة 3. 3 - واستدلوا ثالثاً: بأن الصفة لا تستقل بنفسها فكان احتمال عودها إلى الجميع أو الأخير متساوياً وهذا هو الاشتراك، فيجب التوقف حتى يقوم دليل يعين ما تعود إليه الصفة. والجواب عن ذلك منع المساواة في عودها إلى الأخير أو الجميع، لأن الواو العاطفة قرينة مرجحة لعودها إلى الجميع.   1 المرجعين السابقين. 2 الأحكام للآمدي 307، وشرح تنقيح الفصول ص: 252. 3 المرجعين السابقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 واحتج من قال بالتوقف لعدم العلم بمدلوله في اللغة بالدليل التالي، حيث قال: إن الصفة وردت عائدة إلى كل ما تقدم عليها وإلى ما يليها خاصة. ولا يعلم أيهما الحقيقة وأيهما المجاز، فنتوقف في الحكم بعودها إلى الجميع أو الأخيرة خاصة حتى يقوم الدليل الذي يعين عود الصفة 1. ويجاب عن هذا الدليل بأن عود الصفة إلى بعض ما تقدم عليها تارة، وإلى الجميع تارة أخرى، لا يلزم منه الاشتراك ولا المجاز، بل هذه حالات مختلفة تبعاً لسياق الكلام وما يشتمل عليه من قرائن 2، والعطف هنا قرينة على العود إلى الجميع حيث لم يمنع من ذلك مانع. ثانياً: أدلة الحنفية: استدل الحنفية على أن الصفة تعود إلى ما يليها خاصة بعدة أدلة منها: 1 - قالوا: إن الصفة لا تستقل بنفسها في إفادة الحكم، ولهذا وجب تعليقها بغيرها ضرورة، وحيث إنه لا خلاف في عودها إلى ما يليها فتعلق به، وبهذا القدر تندفع الضرورة، فيكتفي بذلك، ولا تتعلق بغيره، لأن الضرورة تقدر بقدرها 3.   1 إرشاد الفحول ص: 151، وشرح البدخشي على المنهاج 2/204-206، ومسلم الثبوت 1/339، والعدة لأبي يعلى 2/683، وأثر القواعد الأصولية للدكتور مصطفى الخن ص: 337، وحاشية السعد على العضد 2/139-140. 2 العقد المنظوم في الخصوص والعموم للقرافي ص: 215. 3 التوضيح على التنقيح 2/30، والمعتمد 1/269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 والجواب عن ذلك أننا لا نسلم أن الصفة لا تعود إلا إلى القدر الذي تستقل به في الإفادة، بل الصفة إذا وردت بعد شيء واحد عادت إليه، وإن وردت بعد متعدد عادت إلى الجميع، ولا تقيد بالأخير كما لو دل الدليل على عودها إلى الجميع؛ فإنها تعود إليه إجماعاً، ومع جواز عودها لا يتم ما ذكرتم 1 كما أن هذا الاستدلال منقوض بالشرط والاستثناء بالمشيئة؛ فإن كلا منهما غير مستقل بنفسه، ومع ذلك تعلق بجميع ما تقدمه حتى عند الحنفية فلتكن الصفة كذلك والجامع بينهما عدم الاستقلال في المعنى. 2 - واستدلوا أيضاً: فقالوا: إن الكلام الأول مطلق، والأصل أن يبقى على إطلاقه، حتى يقوم دليل على تقييده، وحيث لا يوجد دليل في مسألتنا على عود الصفة إليه فيبقى على إطلاقه 2. وجواب ذلك أن العطف بالواو ظاهر في عود الصفة إلى الجميع، لأنه يجعل المتعدد في حكم الشيء الواحد فهو قرينة قوية على عود الصفة إلى الجميع.   1 المستصفى للغزالي 1/269. 2 المعتمد 1/269، وفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/304. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 3 - ومن أدلتهم: أن المطلق الأخير حائل بين الصفة والمطلق الأول، فيكون مانعاً من العود إليه 1، وجواب ذلك أنهما مع العطف كالشيء الواحد فلا يتم ما ذكرتم. ثم هو منقوض بالشرط، إذ لا فرق بينهما، والشرط يعود إلى الجميع اتفاقاً 2. ثالثاً: أدلة القائلين بعود الصفة إلى الجميع: استدل جمهور الأصوليين على عود الصفة إلى جميع ما تقدمها عند عدم القرينة المانعة بعدة أدلة منها: 1 - قالوا: إن العطف يجعل المتعدد كالشيء الواحد، وما دام أن الصفة بعد الواحد تعود إليه بالاتفاق، فكذلك يكون الحكم في المتعدد؛ لأنه بعد العطف لا فرق بينهما 3. 2 - قالوا: إن الشرط يعود إلى الجميع، فكذلك الصفة 4، لاشتراكهما في عدم الاستقلال بالمعنى.   1 فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/333، وتيسير التحرير 1/304. 2 الأحكام للآمدي 2/305، ومختصر ابن الحاجب 2/148. 3 المعتمد 1/267، والأحكام للآمدي 2/301. 4 الأحكام للآمدي 2/302، وشرح الكوكب المنير للفتوحي الحنبلي ص: 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 3 - قالوا: إن تكرار الصفة بعد كل واحد من الموصوفات مستهجن لغة، وتجنباً لذلك اكتفى بذكرها بعد الأخير لوجود ما يرجح ذلك. وهو أن المتكلم إذا أراد أن يعيد الصفة إلى الجميع لم يكن أمامه إلا طريقان: الأول: أن يكرر الصفة عقب كل موصوف وهذا مستهجن لغة. الثاني: أن يذكر الصفة بعد الموصوف الأخير، فإذا كان غرضه منها أن تعود إلى الجميع ولم نجوز له ذلك لم يبق أمامه طريق لعود الصفة إلى الجميع، فكان ذكرها بعد الأخير متعيناً، وهذا مرجح آخر بجانب العطف لعود الصفة إلى الجميع. ومن أدلتهم أيضاً: أن الصفة صالحة إلى أن تعود إلى كل واحد من الموصوفات، وليس بعضها أولى من بعض كما هو "الفرض" فوجب عودها إلى الجميع لعدم المرجح 1. الراجح: بعد عرض أقوال العلماء وأدلتهم في هذه المسألة، وبناء على المناقشة السابقة، يظهر أن ما ذهب إليه الجمهور من عود الصفة إلى جميع ما تقدم   1 الأحكام للآمدي 2/302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 عليها حيث لم يمنع من ذلك مانع هو القول المختار. وأما ما بقي من المخصصات المتصلة، وهي السبعة التي ذكرها الشوكاني وغيره، فقد تقدم أنها داخلة تحت الصفة؛ لأن المراد منها الصفة المعنوية فتأخذ حكم الصفة الذي تقدم الكلام عليه بالتفصيل. وتقييد المطلق بها هو القول الراجح، إلا الحال فإن عليه ملاحظة نذكرها بعد التمثيل لهذه المقيدات. وحيث سبق التمثيل لظرفي الزمان والمكان، والجار والمجرور في مبحث دخول الإطلاق والتقييد على الأفعال، فنكتفي هنا بالتمثيل لتقييد المطلق بالمفعول به، والمفعول لأجله، والتمييز. 1 - فمثال: تقييد المطلق بالمفعول له والمفعول معه: قولك: "أعطه إكراماً واكسه وزيداً" فقد قيد الفعل في الجملة الأولى بكون للإكرام، وقيدت الكسوة في الجملة الثانية بمعية زيد وصحبته، فإن الواو هنا للمعية وليست عاطفة، وذلك جائز إذا كان الإطلاق في جانب الأفعال، لأن المفعول له معناه التصريح العلة التي لأجلها وقع الفعل، والمفعول معه، معناه تقييد الفعل بتلك المعية. 2 - ومثال تقييد المطلق بالتمييز: قولك عندي له رطل ذهباً: فالتمييز في هذا المثال هو لفظ "ذهباًَ" وقد جاء مقيداً للمطلق، وهو "رطل"؛ لأنه قبل التمييز كان صالحاً لكل ما يوزن وبعد التمييز أصبح الرطل مقيداً بكونه ذهباً، ومن أمثلة ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 أيضاً بيت ابن مالك في ألفيته حيث يقول: كشبرٍ أرضا وقفيز بُرا ... ومَنَويَن عسلاً وتمرا فقد ذكر في هذا النظم ألفاظاً مطلقة هي: شبر قفيز، منوين، ثم قيدها بالتمييز فقال: "كشبر أرضاً" "وقفيز بُرا، ومنوين عسلا وتمرا" وإذا جاء التمييز عقب متعدد، فإنه يعود إلى الجميع 1 كما يشير إلى ذلك كلام البيضاوي في المنهاج 2. وأما حكم التقييد بالحال: فهو متوقف على صاحب الحال؛ لأن الحال لا تقيد إلا صاحبها، والمطلق عبارة عن النكرة في سياق الإثبات عند بعضهم، والنحويون مختلفون في مجيء الحال من النكرة، إلا أن الراجح جواز ذلك بمسوغ 3. والمسوغات كثيرة منها: أن يكون صاحب الحال موصوفاً، ومنها تقدم الجار والمجرور على صاحب الحال نحو: "في الدار جالساً رجل"، فصاحب الحال في هذا المثال لفظ "رجل" وقد تقدم الخبر، وهو جار ومجرور "في الدار" وجاء منه الحال وهو لفظ "جالسا" وعلى ذلك يجوز تقيد المطلق بالحال إذا كان صاحبها نكرة.   1 التمهيد للأسنوي ص: 113، وإرشاد الفحول ص: 155. 2 المنهاج للبيضاوي 2/105. 3 أوضح المسالك على ألفية ابن مالك 2/87-88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وأما إذا كان صاحب الحال معرفة فلا نقيده حينئذ بالحال، لأنه ليس مطلقاً 1.   1 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الفصل الثاني: في المقيدات المنفصلة المبحث الأول: في تعريف المقيدات المنفصلة وتقسيماتها ... المبحث الأول: في تعريف المقيدات المنفصلة وتقسيماتها: 1 - تعريفها: هي ما يستقل بنفسه عن لفظ المطلق بتمام الفائدة، وتنقسم باعتبار ورودها إلى قسمين: الأول: ما يقارن المطلق حين نزوله وهذا النوع اتفق العلماء على جواز تقييد المطلق به، إذا تساوى معه من حيث القطعية والظنية، كما اتفقوا على أن تقييد المطلق بهذا النوع: "المستقل المقارن" يكون بياناً لا نسخاً لما يلي: 1 - أن المعية قرينة البيان. 2 - أن من شرط الناسخ التأخر عن المنسوخ، وهذا النوع لم يتأخر عن المطلق. وإنما قيدنا الاتفاق بتساوي الدليلين بناء على اشتراط المعارضة عند الحنفية بين المطلق والمقيد، وهي لا تحقق إلا بتساوي الدليلين، وقد سبق أن ذلك ليس شرطاً، لوجود التعارض بين النصوص الشرعية؛ وإنما هو شرط في بقاء المعارضة وعدم رفعها والتوفيق بين المتعارضين. القسم الثاني: ما يتأخر عن المطلق مدة يمكن نسخ الحكم فيها، وفي هذا النوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 جرى الخلاف بين الجمهور والحنفية. 1 - حيث يرى الحنفية أن الدليل "المستقل" الذي يتأخر عن المطلق مدة يمكن النسخ فيها يكون ناسخاً لا مقيداً؛ لأنه لا معنى لتأخره عندهم إلا أن يكون ناسخاً، ولكنهم لا يحكمون بالنسخ حتى يتساوى مع المطلق في القوة. 2 - ويرى جمهور الأصوليين أن تأخر الدليل لا يكفي للقول بالنسخ، ما لم يتأخر عن وقت العمل، كما أنهم لا يشترطون في التقييد المساواة بين المطلق والمقيد؛ لأن تقييد المطلق من قبيل البيان، والبيان لا يشترط فيه مساواة الدليلين على الراجح. وبناء على اشتراط المساواة وعدم اشتراطها وشروط المخصص اختلفت المذاهب في عدد المقيدات المنفصلة، وحكم التقييد بها فذكر القرافي في تنقيح الفصول أن مخصصات العام عند مالك خمسة عشرة1،   1 هذه المقيدات الخمسة عشر، عند المالكية هي: 1 - العقل، 2 - الإجماع، 3 - الكتاب بالكتاب، 4 - وبالقياس الجلي، 5 - والخفى لو كان قرآنا أو سنة متواترة، 6 - والسنة المتواترة بمثلها، 7 - والكتاب بالسنة المتواترة، 8 - والكتاب بخبر الواحد، 9 - العادات، 10 - الشرط، 11 - الاستثناء، 12 - الصفة، 13 - الغاية، 14 - الحس، 15 - مفهوم المخالفة. تنقيح الفصول ص: 202، ومالك لأبي زهرة ص: 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وذكر الغزالي أن المخصصات عشرة1. وعدها محب الدين بن عبد الشكور في مسلم الثبوت خمسة عشرة نوعاً2، إلا أنه ناقشها تبعاً لمذهب الحنفية فقبل بعضاً، ورد بعضاً. وحيث إن كل ما يخصص به العام يقيد به المطلق إلا ما أخرجه الدليل تكون هذه المخصصات هي مقيدات للمطلق، وبالتالي يجري فيها   1 هذه العشرة هي: 1 - الحس، 2 - العقل، 3 - الإجماع، 4 - النص الخاص، 5 - المفهوم بالفحوى، 6 - فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، 7 - وتقريره، 8 - وعادة المخاطبين، 9 - ومذهب الصحابي، 10 - ومجيء العام على سبب خاص عند قوم وهو غير مرضي وقد ناقشه العزالي ورده ص: 106. 2 الخمسة عشر التي ذكرها صاحب مسلم الثبوت هي: العرف العملي عند الأحناف - ولا خلاف في العرف القولي عند الحنفية والشافعية - والكتاب بالكتاب - والسنة بالسنة - والسنة المتواترة بالكتاب - والكتاب بالسنة المتواترة - والكتاب بخير الواحد وكذا السنة المتواترة بخبر الواحد - وقدرد الحنفية هذين ما لم يخصص العام قبلهما بقطعي. والإجماع - ومفهوم الموافقة، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابي - ومفهوم المخالفة عند القائلين به - وإفراد فرد من العام بحكم العام إذا كان له مفهوم مخالف - ورجوع الضمير إلى بعض أفراد العام عند بعض، والقياس عند المالكية والشافعية والحنابلة مطلقاً، أما عند الحنفية فيشترط في التخصيص به أن يكون العام قد خص قبله بقطعي. تنقيح الفصول ص: 202، مالك لأبي زهرة ص: 244، والمدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص: 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الخلاف الحاصل في باب التخصيص، لكنها في الجملة تنقسم إلى قسمين: أ - مقيدات موضع اتفاق في الجملة. ب - ومقيدات موضع خلاف. وسيكون كلامنا عنها حسب الترتيب التالي: ما كان منها موضع خلاف فسوف نبحثه بالتفصيل. فالمبحث الأول: المقيدات التي هي موضع اتفاق في الجملة، وهي أربعة: أولها: تقييد الكتاب بالكتاب، اتفق العلماء على جواز تقييد الكتاب بالكتاب، كل حسب شروطه1 التي اشترطها في المقيد، ومثال ذلك قوله - تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} 2 مع قوله - تعالى -: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} 3. حيث ورد الدم مطلقاً في الآية الأولى، ومقيداً بكونه مسفوحاً في الآية الثانية.   1 الأحكام للآمدي 2/10. 2 سورة المائدة آية: 3. 3 سورة الأنعام آية: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وقد اتفق الفقهاء في جميع المذاهب على حمل المطلق على المقيد ههنا1، فلا يحرم إلا ما كان مسفوحاً، دون ما بقي في العروق واللحم من الدم الذي لا يمكن التحرز عنه. ونسب إلى بعض الطوائف الخلاف في جواز تقييد الكتاب بالكتاب2، مستدلين على ذلك بقوله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 3، حيث فوض سبحانه وتعالى بيان ما أنزل إلى رسوله، فيجب أن لا يحصل البيان إلا بقوله صلى الله عليه وسلم4. ورد هذا الدليل من وجهين: الأول: أن إضافة البيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه ما يمنع من كونه مبيناً للكتاب بالكتاب، إذ الكل وارد على لسانه، فذكر الآية المقيدة بيان منه ويجب حمل وصفه بالبيان على أن البيان وارد على لسانه سواء كان الوارد على لسانه متلوا وهو الكتاب أو غير متلو وهو السنة، فالكل وحي من عند الله تعالى5.   1 أصول التشريع الإسلامي للأستاذ حسب الله ص: 182. 2 بعض الظاهرية الأحكام 2/318، وإرشاد الفحول ص: 157. 3 سورة النحل آية: 44. 4 شرح تنقيح الفصول ص: 202، وشح الكوكب المنير ص: 205، وإرشاد الفحول ص: 157. 5 المعتمد لأبي الحسين 1/274، والأحكام للآمدي 2/319، والأحكام لابن حزم 1/73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 الوجه الثاني: أن هذا القول معارض بما هو أوضح منه دلالة على هذه المسألة، وهو قوله - تعالى -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} 1، والقرآن شيء فيكون مبيناً لنفسه، وهذا هو المطلوب، وعليه فليس هناك تعارض بين هذه الآية، وآية: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2. 2 - تقييد الكتاب بالسنة المتواترة: اتفق العلماء على جواز تقييد الكتاب بالسنة المتواترة3، لأن السنة المتواترة في منزلة الكتاب من حيث القوة وتقدم أن تقييد الكتاب بالكتاب جائز بالاتفاق مع إطراح قول المخالف لضعفه. قال الآمدي في تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة: "لا أعرف فيه خلافاً" 4، وحكى ابن الحاجب الاتفاق على ذلك أيضاً5.   1 سورة النحل آية: 89. 2 مسلم الثبوت 1/345، والأحكام للآمدي 2/102، والمدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص: 224. 3 الأحكام للآمدي 2/102، والمدخل إلى علم أصول الفقه ص: 224. 4 الأحكام للآمدي 2/102. 5 المختصر لابن الحاجب 2/149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وقال الشوكاني: "يجوز تخصيص الكتاب بالسنة، المتواترة إجماعاً"1 والتقييد يجري مجرى التخصيص. وفي حكم السنة المتواترة السنة المشهورة عند الحنفية، فيجوز تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة بها عند الأحناف2، وتقدم ما يصلح مثالاً لذلك في كفارة اليمين حيث وردت مطلقة في قراءة الجمهور {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} ، ومقيدة بالتتابع في قراءة ابن مسعود: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتابِعات} ، هذا الكلام في السنة القولية، وأما الفعلية فسيأتي الكلام عليها. 3 - تقييد السنة بالسنة المتواترة: يجوز تقييد السنة بالسنة المتواترة حكاه الشوكاني إجماعاً3، لأن التقييد ما هو إلا بيان المراد بالمطلق، وما دامت النصوص في منزلة واحدة من الصحة والثبوت، فإن بعضها يصح أن يكون مبيناً للآخر، وحكي عن داود الظاهري4 وطائفة أن السنة لا تقيد   1 إرشاد الفحول ص: 157. 2 تيسير التحرير 3/13. 3 إرشاد الفحول ص: 158. 4 داود الظاهري هو: داود بن علي بن خلف الأصبهاني أبو سليمان ولد بالكوفة سنة 202هـ، ورحل إلى نيسابور في طلب العلم فأخذ عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور وسليمان بن حرب كان أول أمره على مذهب الشافعي ثم أسس المذهب الظاهري القائم على الأخذ بظواهر نصوص الكتاب والسنة، ورفض التأويل والقياس والرأي، له عدم مؤلفات منها: كتاب إبطال القياس، وكتاب خبر الواحد، وكتاب الخصوص والعموم. توفي - رحمه الله - في بغداد سنة 270. طبقات الأصوليين 1/159 - 161، والإعلام 3/8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 السنة1، لأن السنة إنما تكون مبينة لا محتاجة إلى البيان لقوله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2، وترد هذه الحجة بأن كون الرسول مبيناً للكتاب بالسنة لا يمنع من أن يبين سنته، فلا وجه للخلاف3. 4 - تقييد السنة بالكتاب: وذلك بأن يأتي لفظ مطلق في حديث، ويأتي مقيداً في آية من كتاب الله فهل يقيد الإطلاق الوارد في الحديث بالقيد الوارد في الآية الكريمة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: 1 - ذهب أكثر العلماء إلى أن تقييد السنة بالكتاب جائز4 وسواء   1 شرح الكوكب المنير ص: 206، وإرشاد الفحول ص: 158، والمعتمد ص: 275، والأحكام للآمدي ص: 321. 2 سورة النحل آية: 44. 3 المرجعين الآخرين. 4 الأحكام للآمدي 2/321، وإرشاد الفحول ص: 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 في ذلك السنة المتواترة وغيرها. 2 - وذهبت طائفة إلى عدم جواز تقييد السنة بالكتاب، وهم بعض الشافعية وبعض المتكلمين1 ورواية لأحمد2. وحجة هذه الطائفة ما تقدم في الآية السابقة من قوله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى أضاف البيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت السنة مبينة للقرآن، فلو جعل القرآن مبيناً لها لتنافى ذلك مع كونها مبينة، ولأن المبين تابع للمبين، فلو قيدنا السنة بالكتاب صار تابعاً لها3، ورد الجمهور على ذلك، بما تقدم من أن إضافة البيان إلى الرسول لا يلزم امتناع كونه مبيناً للسنة بما يرد على لسانه من القرآن؛ إذ تلاوته للآية المقيدة بيان منه، والقرآن والسنة كل منهما وحي من عند الله سبحانه كما قال - تعالى -: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 4، غير أن الوحي منه ما يتلى فيسمى قرآناً، ومنه ما ليس كذلك فيسمى سنة.   1 إرشاد الفحول 157، حكاية عن ابن برهان. 2 روضة الناظر ص: 128، والمحصول للرازي - مخطوط، وإرشاد الفحول ص: 157. 3 روضة الناظر ص: 128، والأحكام 2/321، وجمع الجوامع بحاشية العطار 2/62، وإرشاد الفحول ص: 157. 4 سورة النجم آية: 3 - 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وبيان أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع، ثم إن قولهم: هذا معارض بما وصف الله به كتابه في قوله - تعالى -: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} ، والسنة شيء فتكون داخلة في هذا العموم، ويكون الكتاب مبيناً لها1. قال الآمدي: "وما ذكروه من المعنى فغير صحيح؛ فإن القرآن لا بد أن يكون مبيناً لشيء ضرورة قوله - تعالى -: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} ، وأي شيء قدر كون القرآن مبيناً له، فليس القرآن تابعاً له ولا ذلك الشيء متبوعاً، وأيضاً فإن الدليل القطعي قد يبين مراد الدليل الظني، وليس القرآن منحطاً عن رتبة الظن، فيكون القرآن مبيناً للسنة لتساويه معها في قوة الدلالة على أقل التقادير. وعلى ذلك يكون القول بمنع بيان الكتاب للسنة غير واضح. 5 - التقييد بالإجماع: التقييد بالإجماع موضع اتفاق وسواء كان المقيد به كتاباً أو سنة، قال الآمدي في تخصيص الكتاب والسنة بالإجماع: "لا أعرف فيه خلافاً" 2.   1 الأحكام للآمدي 2/321، وجمع الجوامع مع شرحه للمحلى وحاشية العطار 2/ 62، وإرشاد الفحول ص: 157. 2 الأحكام للآمدي 2/327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وحكى الشوكاني الإجماع على جواز التخصيص به1. والتقييد له حكم التخصيص. والحجة في ذلك أن الإجماع دليل قاطع، فإذا وردت آية مطلقة أو حديث، ورأينا أهل الإجماع قاضين بما يخالف النص المطلق في بعض صوره علمنا أنهم ما قضوا بذلك إلا وقد اطلعوا على دليل مقيد2، وإنما الخلاف جار بين العلماء في أن الإجماع هل هو مقيد أو معرف بوجود دليل التقييد؟ والتحقيق أن الإجماع ليس بمقيد بذاته، وإنما هو معرف بوجود دليل التقييد، ويمكن أن نمثل للتقييد بالإجماع بما لو انعقد إجماع على أنه لا يجزئ في الكفارات إلا عتق رقبة مؤمنة، فإن هذا الإجماع يكون مقيداً للإطلاق الوارد في قوله تعالى في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 3.   1 إرشاد الفحول ص: 160. 2 مالك لأبي زهرة ص: 145، والمدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص: 225. 3 مسلم الثبوت 1/352، والمعتمد لأبي الحسين 1/276، الأحكام للآمدي 2/327، شرح الكوكب المنير للفتوحي ص: 207، إرشاد الفحول ص: 160، التمهيد لأبي الخطاب لوحة: 72، وشرح الطوفي لمختصر الروضة 1/238 مخطوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 المبحث الثاني: في المقيدات المنفصلة التي هي موضع خلاف ... 1 - التقييد بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريره: لقد ذكر الأصوليون أن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريراته من مخصصات العام، كما ذكر بعض شراح الكتب المتأخرون أن ذلك من مقيدات المطلق1. ولكن يبدو لي أن فعل الرسول وتقريره لا يصلحان لتقييد المطلق لعدم تصور التقييد بهما، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو أعتق رقبة مؤمنة في ظهار لم يكن ذلك دليلاً على تقييد الرقبة المطلقة في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ، لأنه صلى الله عليه وسلم بفعله هذا يكون ممتثلاً للأمر المطلق؛ إذ إن الرقبة المؤمنة إحدى الرقاب المدلول عليها بقوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ؛ فلا يكون ذلك تقييداً. وكذا لو أعتق أحد رقبة مؤمنة في كفارة الظهار، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك لا يكون التقرير دليلاً على تقييد الرقبة المطلقة في آية الظهار، وهذا بخلاف التخصيص بفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه متصور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن يفعل فعلاً مما نهى عنه بلفظ عام أو يترك فعلاً قد وجب بأمر عام، فيكون ذلك تخصيصاً لما تناوله النهي أو الأمر من أفراد العام.   1 غاية الوصول ص: 82، وشرح المحلى على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/49، وشرح الكوكب المنير للفتوحي الحنبلي ص: 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وليس التقييد كذلك، لما سبق أن بينا من الفرق بين العموم الشمولي والعموم البدلي التناوبي، الذي يتناول كل فرد فرد على سبيل البدل، ويتحقق مدلوله بواحد غير معين. وما ذكره بعض شراح الكتب المتأخرين من أن أفعال الرسول وتقريراته تكون مقيدة للمطلق، إنما كان ذلك منهم إجراء للتقييد مجرى التخصيص، ولا يسلم لهم ذلك بإطلاق؛ لأن الفرق قائم بين ما يجري فيه التخصيص وما يجري فيه التقييد، كما ذكرنا ذلك في الفروق بين المطلق والعام. نعم، قد يقال: إن لنا في رسول الله أسوة حسنة، فيلزمنا أن نقتدي به، فيما فعل، والجواب أن ذلك مسلم، ولكن غاية ما يدل عليه الأمر حينئذ أن يكون فعل ذلك هو الأولى والأفضل، ولكن لا يوجب تقييد المطلق ... والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 2 - تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بخبر الآحاد: سلف أنه لا خلاف في تقييد الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة كل منها بالآخر، كما لا خلاف في تقييد مطلق الكتاب والسنة بالإجماع، وكذلك تقييدهما بخبر الواحد المحفوف بالقرائن المقوية له. ولكن محل النزاع بين الأصوليين في تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بخبر الواحد المجرد عن القرائن. حيث اختلفت وجهات النظر في حكم التقييد به لمطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة إلى عدة أقوال أهمها ما يلي: القول الأول: ذهب الحنفية جرياً على قاعدتهم في أن دلالة المطلق قطعية إلى أن خبر الآحاد لا يقيد المطلق من الكتاب والسنة المتواترة أو المشهورة ما لم يقيد المطلق فيها قبله بدليل مقطوع به، وحكي هذا القول عن أبي حنيفة نفسه1.   1 التعارض والترجيح للبرزنجي ص: 573، وأصول السرخسي 1/142، وكشف الأسرار 1/294، وتيسير التحرير 3/12/13، وفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/349. وهذا هو السبب في منع الحنفية التقييد بخبر الواحد في هذه المسألة، لا لأن الزيادة على النص نسخ، ونسخ نص من الكتاب والسنة والمتواترة لا يجوز بخبر الواحد، وذلك لأن من شرط المقيد عندهم أن يكون مقارناً للنص المطلق، كما اشترطوا ذلك في المخصص والنسخ لا يكون إلا بمتراخ عن النص المنسوخ، والمسألة هنا مفروضة على الإطلاق، فكان هذا التوجيه هو المناسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 واستدلوا على ذلك: بأن المطلق من الكتاب والسنة المتواترة قطعي الدلالة والثبوت؛ لأن المعنى الموضوع له اللفظ يفيده قطعاً عندهم، وخبر الواحد، وإن كان قطعي الدلالة إلا أنه ظني الثبوت، أي: أن خبر الواحد دون مطلق الكتاب والسنة المتواترة في قوة الثبوت؛ فلا يقوى على معارضة ما هو مقطوع به، وذلك أن التقييد عند الأحناف بطريق المعارضة، والظني لا يعارض القطعي؛ لأن من شرط التعارض تساوي الدليلين في الرتبة، وحيث لم يستو خبر الآحاد مع مطلق الكتاب والسنة المتواترة فلا معارضة بينهما، بل يقدم العمل بالأقوى، وهو الدليل المقطوع به1. ويجاب عن هذا الدليل، بأن المقطوع به في المطلق من الكتاب والسنة المتواترة، إنما هو أصل الحكم، كإعتاق الرقبة في نحو: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولسنا نرفع بالتقييد هذا الأصل، وإنما نقيد شيوعه المحتمل، فهو ظني بهذا الاعتبار وإن كان قطعي الثبوت. وخبر الواحد وإن كان ظني الثبوت إلا أنه قد يكون قطعي الدلالة،   1 المراجع المتقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وبهذا تحصل المساواة بينهما؛ لأن كلا منهما فيه جهة قوة وجهة ضعف، فيتعارضان في الظاهر، ولدفع هذا التعارض يحمل المطلق على المقيد؛ لأن فيه جمعاً بين الدليلين، وأيضاً فإن في العمل بالمقيد خروجاً عن العهدة بيقين، وليس كذلك العمل بالمطلق كما سبق بيان ذلك1، أضف إلى ذلك أن دلالة المطلق على جميع محاله ليست محل اتفاق، بل هي ظنية على رأي الجمهور، فالدليل غير مسلم به. 2 - القول الثاني: المنع مطلقاً، أي سواء قيد مطلق الكتاب والسنة المتواترة، قبل خبر الواحد أم لم يقيدا، وإليه ذهب بعض الحنابلة والمتكلمين وبعض الفقهاء2. واستدل هذا الفريق بأدلة منها: 1 - قالوا: أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على عدم التخصيص بخير الواحد لعام القرآن والسنة المتواترة، بدليل أن عمر3 رضي الله عنه   1 راجع العقد المنظوم في الخصوص والعموم لوحة 236، ومباحث التخصيص للدكتور عمر ص: 305-310، 316، وفواتح الرحموت 1/349-350، والمسودة لآل تيمية ص: 119، وإرشاد الفحول ص: 158، والعدة لأبي يعلى 2/568، والواضح لابن عقيل 1/102 مخطوط، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص: 572-573. 2 التعارض والترجيح للبرزنجي ص: 573. 3 هو: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عبد بن كعب القرشي العدوي أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين مشهور، وجم المناقب اشتهر بعدله في رعيته، استشهد في الحجة سنة ثلاث وعشرين ودامت خلافته رضي الله عنه عشر سنوات ونصف. تقريب التهذيب ص: 253، وكانت ولادته سنة 40 قبل الهجرة. انظر: الأعلام 5/203-204، وأسد الغابة 4/52-78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 قد رد خبر فاطمة بنت قيس1 الذي روته عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة" 2، حين طلقها زوجها فبت طلاقها المخصص لعموم قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} 3 وقال في رده لخبرها: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري أحفظت أن نسيت؟ ولم ينكر ذلك عليه أحد فكان إجماعاً4، والتقييد   1 هي: فاطمة بنت قيس بن خالد الفهري أخت الضحاك، صحابية مشهورة وكانت من المهاجرات الأوائل، روى عنها الجماعة رضي الله عنها. تقريب التهذيب ص: 471. 2 رواه الجماعة إلا البخاري بدون قصة عمر -رضي الله عنه-، ومع القصة رواه النسائي وأحمد. راجع التلخيص الحبير 2/333، ومنتقى الأخبار مع نيل الأوطار 6/338. 3 العقد المنظوم ص: 237، ومسلم الثبوت 1/350-351، والتعارض والترجيح ص: 574. 4 مباحث التخصيص ص: 307، 308، 312، وشرح مختصر ابن الحاجب2/150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 يجري مجرى التخصيص. وأجيب عن هذا الدليل بأوجه منها: أولاً: قالوا: إن انعقاد الإجماع غير مسلم لعدم توفر النقل له. ثانياً: على فرض التسليم بسكوت الصحابة عليه، فليس فيه ما يفيد إثبات المدعى؛ لأن الكلام في خبر الآحاد الصحيح المتحققة فيه شروط القبول، ورد عمر - رضي الله عنه - لخبر فاطمة بنت قيس ليس من هذا القبيل؛ لأن عدم فبول عمر لخبرها يدل على اتهامه لها بالغفلة وعدم الضبط، بدليل قوله "أحفظت أم نسيت"، بل ظاهر الحديث يدل على عدم مدعاهم؛ لأن ظاهره عدم الرد لو لم تكن متهمة في حفظها. واستدلوا ثانياً: بأن المتواتر مقطوع به وخبر الآحاد مظنون، والمظنون يترك بالمقطوع لعدم مقاومة المظنون للمقطوع والمتروك لا يخص به فلا يجوز تخصيص المتواتر بخبر الواحد1. ويناقش هذا الاستدلال: أولاً: بعدم التسليم بالتفاوت بين خبر الواحد والمتواتر من الكتاب والسنة وذلك أن كلا منهما مقطوع به من جهة ومظنون به من جهة   1 العقد المنظوم في الخصوص والعموم للقرافي لوحة 237، والمستصفى 2/ 115، ومباحث التخصيص ص: 308، والتعارض والترجيح بين الأدلة للبرزنجي 1/575. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 أخرى.. فمطلق الكتاب والسنة المتواترة مقطوع به متناً ومظنون دلالة وخبر الواحد بالعكس فتساويا، كما أنهما متساويان في وجوب العمل بكل منهما، أما المتواتر فبالاتفاق، وأما خبر الواحد فللأدلة القاطعة على وجوب العمل به، فمتى صدق القلب بصدق الراوي وجب العمل بخبره سواء كان متن الحديث متواتراً أم غير متواتر، فلا فرق بين المتواتر والآحاد في وجوب العمل. وثانياً: أن ترك المظنون بالمقطوع غير مسلم به على الإطلاق، بل قد يترك أحياناً المقطوع بالمظنون أيضاً، فالبراءة الأصلية متيقنة ومع ذلك فيجوز تركها بخبر الواحد بالاتفاق. وثالثاً: أن تقييد خبر الواحد لمطلق الكتاب والسنة ليس فيه ترك لهما بالكلية بل ذلك من قبيل الجمع بين الأدلة المتعارضة وبيان المحتمل بالدليل الظني جائز. ومن أدلة هذا الفريق أيضاً: قياس عدم التقييد بخبر الواحد على عدم النسخ به، حيث قالوا: لو جاز تقييد الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد، لجاز النسخ به لهما، لأن النسخ تخصيص في الأزمان، والتقييد تخصيص في الأعيان، لكن النسخ به باطل فكذلك التقييد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 ويجاب عن ذلك: بالفرق بين النسخ والتقييد، فالنسخ رفع، والتقييد بيان، والرفع أصعب من البيان، فيحتاط في رفع الحكم ما لا يحتاط في بيانه؛ فلا يلزم من عدم جواز النسخ بخبر الواحد عدم جواز التقييد به، ولا من جواز التقييد جواز النسخ1، والله أعلم. القول الثالث: ذهب القاضي أبو بكر من الشافعية إلى التوقف. واستدل على ذلك: بأن كلا من مطلق الكتاب والسنة المتواترة وخبر الآحاد قد ثبت حجيته قطعاً، وهما متساويان أيضاً في الدلالة، لأن المطلق من الكتاب والسنة المتواترة قطعي الثبوت وظني الدلالة أحياناً، وخبر الواحد ظني الثبوت وقطعي الدلالة أحياناً، فيمكن أن يقع التعارض بينهما، وعند تعارض المتساويين يجب التوقف لعدم جواز الترجيح بدون مرجح. ويجاب عن ذلك: بمنع الترجيح بدون مرجح؛ لأن الأصل في الأدلة الإعمال، وما دام الإعمال ممكناً، فلا يصار إلى الإهمال، وهنا الإعمال ممكن؛ لأن حمل   1 المراجع السابقة، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص: 576. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 المطلق على المقيد فيه جمع بين الدليلين، فكان أولى1 للأدلة التي ذكرنا فيها تقديم حمل المطلق على المقيد. القول الرابع: جواز التقييد بخبر الآحاد مطلقاً، أي: سواء قيد المطلق قبل تقييده بخبر الواحد بدليل مقطوع به أو لم يقيد، وإليه ذهب جمهور الأصوليين، من مالكية وشافعية وحنابلة وظاهرية وكذلك المحدثون2. واستدلوا على ذلك بأدلة أهمها ما يلي: 1 - قالوا: إن كلا من مطلق الكتاب والسنة المتواترة أو خبر الآحاد الصحيح دليل واجب الأتباع باتفاق أطراف النزاع في هذا الموضوع، فيجب اتباعه، ويجب أيضاً دفع ما يتصور من التعارض بينهما، لأن مطلق الكتاب والسنة يجوزان الإتيان بأي فرد كان من الأفراد الصالحة لتناول المطلق والمقيد يوجب الإتيان بالفرد الذي وجد فيه القيد، ولا يمكن العمل بكل منهما، لعدم جواز اجتماع النفي والإثبات في حكم واحد، ولا ترك كل منهما؛ لأنه يؤدي إلى خلو المسألة من الحكم، ولا   1 مسلم الثبوت 1/351، ومباحث التخصيص 305-316، والمدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص: 233، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص: 576. 2 شرح المحلى على جمع الجوامع 2/27-28، وغاية الوصول ص: 79، ومباحث التخصيص ص: 305، والأحكام للآمدي 2/301، وشرح الأسنوي على المنهاج 2/120-123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 يمكن العمل بأحدهما بدون مرجح، فلم يبق إلا الجمع بينهما بقدر الإمكان، ثم إن عملت بالمطلق يلزم إلغاء القيد في المقيد وهذا لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون القيد عبثاً وبدون فائدة. وإن حملنا المطلق على المقيد نكون قد عملنا بالدليلين معاً، وهذا هو معنى التقييد فيتعين المصير إليه1. 2 - واستدلوا أيضاً: فقالوا: إن كلا من مطلق الكتاب والسنة المتواترة وخبر الآحاد قطعي من جهة، وظني من جهة ثانية، فالمطلق المتواتر قطعي من جهة السند وظني من جهة الدلالة، ومقيد خبر الآحاد الخاص، ظني من جهة السند وقطعي من جهة الدلالة فيتعادلان ويتعارضان، ثم يجمع بينهما بالتقييد2 لتعيين المصير إليه كما سبق في الدليل الأول. ومن أدلتهم أيضاً على هذه المسألة: 3 - قالوا: إن إجماع الصحابة قائم على جواز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد.   1 شرح الأسنوي 2/120-123، والعقد المنظوم لوحة 236، ومباحث التخصيص 305-306. 2 المرجع الأخير وشرح الأسنوي 2/122، ومسلم الثبوت 1/350، والتعارض والترجيح ص: 577. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 والدليل على ذلك تخصيص الصحابة - رضي الله عنهم - عموم قوله - تعالى -: {اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} بحديث عبد الرحمن بن عوف1 عن النبي صلى الله عليه وسلم "سنوا بهم أي المجوس - سنة أهل الكتاب"2 حيث تقتضي الآية الكريمة قتل جميع المشركين، ويقتضي هذا الحديث جواز الإبقاء على المجوس وأخذ الجزية منهم فيتعارضان، وقد جمع الصحابة - رضي الله عنهم - بتخصيص عموم الآية الكريمة بالخبر، وقالوا: إن الآية يراد بها قتال الكفار من غير المجوس3، ونقل هذا التخصيص عنهم ولم ينكره أحد فكان إجماعاً منهم على جواز تخصيص العموم بخبر الواحد، والتقييد له حكم التخصيص، كما سلف ذلك.   1 هو: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف الزهري القرشي يتصل في كلاب بشجرة نسب النبي صلى الله عليه وسلم، ولد بمكة سنة 44 هـ، وهو أحد المبشرين بالجنة، وأحد الستة من أصحاب الشورى ومن السابقين إلى الإسلام، والمهاجرين إلى الحبشة والمدينة، كان تاجراً كثير المال، سخياً تصدق لأجل راية من رايات الإسلام بأكثر من 100 ألف درهم، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم (عبد الرحمن بن عوف أمين في السماء، أمين في الأرض) ، توفي سنة 32هـ بالمدينة. راجع: الإصابة 2/416-417، والإعلام 4/95، وطبقات الأصوليين 1/66-68. 2 رواه البخاري انظر صحيح البخاري مع القسطلاني 5/233، ومنتقى الأخبار مع نيل الأوطار 8/58، ومفتاح كنوز السنة 111. 3 العقد المنظوم لوحة 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل: فقالوا: إن التخصيص بخبر الواحد في المثال المذكور في حيز المنع؛ لأن المخصص فيه هو الإجماع، وعلى فرض أن المخصص هو الخبر المذكور لا نسلم كونه خبر آحاد، بل هو مشهور بدليل اتفاقهم على العمل به، ومن ثم يكون نسخاً لا تخصيصاً، والنسخ بالخبر المشهور جائز عندنا. ودفع هذا الاعتراض: بأنه لا فرق بين المشهور وخبر الآحاد عند أكثر العلماء، فكل منهما من قبيل الآحاد، وعلى فرض أن المثال من قبيل النسخ، فإذا جاز النسخ بخبر الآحاد، وهو أقوى في الاحتياط من التخصيص والتقييد فمن باب أولى أن يجوز التقييد به ويكون حينئذ بياناً لا تبديلاً1. الترجيح: بعد عرض أقوال العلماء حول التقييد بخبر الواحد، ومناقشة أدلتهم السابقة، يبدو أن ما ذهب إليه الجمهور من جواز تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بمقيد أخبار الآحاد هو الأرجح، وذلك لقوة أدلتهم وعدم وجود ما يصلح معارضاً لها.   1 الأحكام للآمدي 2/310، ومباحث التخصيص للدكتور عمر ص: 310-113، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص: 579. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 3 - تقييد الكتاب والسنة المتواترة بالقياس: إن تقييد الكتاب والسنة المتواترة بالقياس، وبخبر الواحد كما تقدم من المباحث الهامة التي اختلفت فيها المذاهب وتجلي فيها مقدار الرأي في الفقه الإسلامي. وحيث إن القياس وخبر الواحد يستويان في أن كلا منهما دليل ظني فالحكم في تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة بالقياس، كالحكم في تقييدهما بخبر الآحاد المتقدم، والأقوال هي الأقوال والأدلة هي الأدلة، إلا أننا نذكر هنا المذاهب إجمالاً ومن قال بها، ثم نتبع ذلك بما نراه راجحاً حسب المناقشة التي سبقت بخبر الواحد. فالمذهب الأول: جواز التقييد بالقياس لمطلق الكتاب والسنة المتواترة وبه قال الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد1.   1 الأحكام للآمدي 2/109، ومسلم الثبوت 1/357-360، والمستصفى 2/128، وشرح الكوكب المنير ص: 209، والمسودة لآل تيمية ص: 119، وهذه الرواية لأحمد قال بها أكثر أصحابه. وهنا نشير إلى أن جواز التقييد لمطلق الكتاب والسنة المتواترة بالقياس قد حكاه الآمدي والغزالي والقرافي وصاحب مسلم الثبوت مذهباً للأئمة الأربعة بما فيها أبو حنيفة، وكذلك ذكر السرخسي في أصوله 1/133، جواز التخصيص بالقياس عن أكثر الحنفية، العدة لأبي يعلى 2/563، ولكن الشيخ بخيت المطيعي في حاشيته على سلم الوصول 2/463 ذكر أن القول عن أبي حنيفة مقيد بما إذا خصص بما يجعله محتملاً قبل القياس. يراجع في تحيقيق مذهب الحنفية تيسير التحرير 1/321-326، وأصول السرخسي 1/133-134، وفواتح الرحموت 1/357-360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 والمذهب الثاني: منع التقييد بالقياس مطلقاً، وبه قال طائفة من المعتزلة كالجبائي1 وبعض الفقهاء2. لأن القياس فرع النصوص، ولا يقدم الفرع على الأصل عند التعارض3. ويجاب عن هذا بأن النص الذي يقيد بالقياس غير النص الذي هو أصل للقياس فلا منافاة4.   1 الجبائي هو: محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي المعتزلي، ولد سنة 235هـ ويعتبر رئيس علماء الكلام في عصره، توفي سنة 303هـ. الإعلام 7/136. 2 المستصفى 2/122، والآمدي 2/109، والمعتمد 2/153، والتحرير 1/322، والعدة لأبي يعلى 2/568، والمسودة لآل تيمية ص: 119، وهذا الوجه الآخر في مذهب أحمد روضة الناظر: 130. 3 أصول الآحكام للآمدي 2/337، والمدخل إلى علم أصول الفقه المعروف الدواليبي ص: 227. 4 العدة لأبي يعلى 2/568. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 المذهب الثالث: التوقف في تقييد المطلق من الكتاب والسنة المتواترة بالقياس، وبه قال القاضي أبو بكر والجويني من الشافعية1 قياساً على عدم جواز تخصيص العام به عندهما. القول الرابع: التفصيل على النحو الآتي: أ - ذهب الحنفية إلى أن القياس لا يقيد مطلق الكتاب والسنة المتواترة ما لم يسبق تقييدهما بدليل قاطع، فإذا سبق تقييدهما بدليل قاطع فإن القياس حينئذ يصلح أن يكون مقيداً لهما2. وحجتهم في ذلك أن مطلق الكتاب والسنة المتواترة مقطوع به ثبوتاً ودلالة، لأن الحنفية يرون أن كل لفظ وضع لمعنى فهو دليل قاطع عليه قبل صرفه عن ذلك، والقياس ظني فلا يعارض القطعي، فإذا قيد مطلق الكتاب والسنة المتواترة بدليل قاطع أصبحا محتملين، فيجوز تقييدهما عندئذ بالقياس3. ب - وذهب جماعة من الأصوليين منهم الآمدي وابن الحاجب إلى   1 الآمدي 2/337، ومختصر ابن الحاجب 2/153، وتنقيح الفصول ص: 203. 2 العدة لأبي يعلى 2/564، والأحكام للآمدي 2/313، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/30، ومسلم الثبوت 1/357. 3 المرجع السابق الأخير 1/357، والأحكام للآمدي 2/109، أو 2/337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة بالقياس إذا كانت علته منصوصة كما قالوا بذلك في تخصيص العام1. جـ - وذهب جماعة أخرى ومنهم ابن سريج من الشافعية وبعض الحنابلة كالطوفي إلى جواز التقييد بالقياس الجلي دون الخفي2. وهذا المذهب الأخير يلتقي في النتيجة مع المذهب الذي قبله؛ لأن القياس المنصوص على علته والقياس الجلي، ومفهوم الموافقة كما سبق شيء واحد. وإنما الاختلاف في التعبير والاصطلاح، وهذا لا تأثير له على التحقيق.   1 المرجع الأخير 2/337، ومسلم الثبوت 1/357، والمستصفى 2/132، والبلبل للطوفي ص: 109، والمدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف ص: 228. 2 إرشاد الفحول ص: 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 4 - التقييد بالعرف: العرف لغة: المعروف وسمي بذلك لأن النفوس تسكن إليه1. واصطلاحاً: ما استقرت عليه نفوس الناس، وتلقته طباعهم السليمة بالقبول وصار عندهم شائعاً، في جميع البلاد أو بعضها قولاً كان أو فعلاً2. وينقسم إلى: عُرْفٌ عام: وهو ما تعارفه الناس جميعاً، كدخول الحمَّام دون تحديد كمية المياه المستهلكة، ودون تقدير مدة المكث فيه. وإلى عُرْفٍ خاص: وهو ما تعارف عليه جماعةٌ من الناس، كالعرف التِّجاري أو الزراعي، وهذا القسم ليس له قوة النوع الأول، ولكنه مما تختلف فيه الفتوى والأحكام في المجال التطبيقي. وعلى كل حال فالعرف إما صحيح وهو ما لا يتصادم مع   1 مقاييس اللغة لابن فارس 4/281، ولسان العرب لابن منظور 11/141 مادة عرف. 2 التعريفات للجرجاني 130، والعرف والعادة في رأي الفقهاء للأستاذ أحمد أبو سنة ص: 8، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2/114، وأصول مذهب الإمام أحمد للدكتور عبد الله التركي 551، ومصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 الأصول الثابتة في الشريعة الإسلامية، وإما فاسد وهو ما يتعارض مع تلك الأصول. والعرف الذي هو مجال بحثنا إنما هو العرف الصحيح المنقسم إلى قولي وفعلي، وأما العرف الفاسد فهو ساقط لا اعتداد به. فالعُرْف القولي: أن تجري عادة قوم على استعمال لفظٍ أو جملة استعمالاً شائعاً مطرداً أو غالباً في معنى غير المعنى الذي وضع له اللفظ أصلاً، بحيث يتبادر ذلك المعنى المتعارف عليه عند سماعه، دون قرينة1، مثل تعارف الناس إطلاق لفظ (الولد) على الذكر دون الأنثى مع أنه موضوع لكليهما وتعارفهم إطلاق لفظ (الدابة) على ذوات الأربع مع أنه في أصل الوضع اسم لكل ما يدب على الأرض. ومعنى تقييد المطلق بهذا النوع من العرف أنه إذا ورد لفظ الدابة مثلاً: في نص شرعي فهل يحمل على المعنى اللغوي، وهو كل ما يدب على الأرض، أو على ذوات الأربع التي جرت العادة بإطلاقه عليها؟ اتفق الأصوليون على أن العرف القولي يقضى به على النص العام فيخصصه، وعلى النص الشرعي المطلق، فيقيده بشرط أن يكون ذلك   1 التقرير والتحبير 1/282، والفروق للقرافي 1/171، وأصول مذهب الإمام أحمد ص: 525. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 العرف مقارناً لنزول النص أو سابقاً عليه واستمر حتى نزوله1 حتى ادعى المالكية الإجماع على ذلك2. يقول القرافي: "القاعدة أن من له عرف وعادة في لفظ، إنما يحمل لفظه على عرفه، فإذا كان المتكلم هو المشرع حملنا لفظه على عرفه وخصصنا لفظه في ذلك العرف إن اقتضى العرف تخصيصاً وبالجملة دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة؛ لأن العرف ناسخ للغة والناسخ مقدم على المنسوخ"3. وأما العُرْفُ العَمَلي: فهو ما تعارف عليه الناس في أفعالهم دون أقوالهم، مثل: تعارف الناس البيع بالمعاطاة من غير صيغة، وتعارفهم على أن الزوجة لا تزف إلى زوجها إلا بعد أن تقبض جزءاً من مهرها4. وهذا النوع من العرف اختلف العلماء في تقييد المطلق به   1 المناهج الأصولية ص: 591. 2 مسلم الثبوت 1/345، ومالك لأبي زهرة ص: 249. 3 تنقيح الفصول لقرافي ص: 211، والمدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف ص:234. والواقع: أن المخصص أو المقيد في هذه الأمثلة ليس مستنده العرف وحده، بل إقرار الصحابة وقولهم في المسألة أي الإجماع عليها، أو جريان العرف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإقراره له، كل ذلك دليل يعتمد عليه في المسألة لا مطلق العرف. 4 الفروق للقرافي 1/188، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 كاختلافهم في تخصيص العام بذلك. فذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا فرق بين العرف القولي والعملي فكلاهما يخصص العام ويقيد المطلق1، وخالفهم في ذلك الشافعية والحنابلة فقالوا: إن العرف العملي لا يقوى على تقييد المطلق قياساً على عدم التخصيص به للعام2 عندهما. واحتج من قال بجواز التقييد بالعرف العملي، فقال: إذا أطلق لفظ طعام وكان عادة الناس تناول طعام معين كالبر مثلاً، فإن الذي يتبادر إلى الذهن انصراف ذلك اللفظ المطلق إلى ما تعارفه الناس وهو البر، فيتقيد به اللفظ المطلق كما في العرف القولي3. وأجيب عن ذلك: بأن العادة الفعلية إنما هي مطردة في تناول طعام مخصوص لا في تقييد اسم الطعام، وبذلك الطعام المخصوص، فلا يكون التناول الفعلي قاضياً على ما اقتضاه اللفظ في أصل وضعه، بخلاف العادة القولية،4 لكن   1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/70، وتيسير التحرير 1/317، ومسلم الثبوت 1:345، والمناهج الأصولية لفتحي الدريني ص: 591. 2 المناهج الأصولية لفتحي الدريني ص: 591. 3 المعتمد لأبي الحسين 1/301، والأحكام للآمدي 2/334، وإرشاد الفحول ص: 161. 4 تيسير التحرير 1/317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 مع هذا قد تابع الحنفية بعض الشافعية والحنابلة فأجازوا تقييد المطلق بالعرف العملي، وإن لم يخصصوا العام به، فلو قيل اشتر لحماً، والعادة تناول لحم الضأن لم يفهم سواه، لأن لحماً مطلقاً في هذا القول، وقد حمل على المقيد بقرينة ميلهم إلى المعتاد، وليس في ذلك ترك للمطلق1، بل حكي الاتفاق على التقييد بالعرف العملي بعض الباحثين في الأصول حديثاً2، وقصر الخلاف على التخصيص وحده لهذا المعنى وهو عدم الإخلال بالمطلق.   1 الأحكام للآمدي 2/334. 2 المناهج الأصولية ص: 519. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 5 - التقييد بمذهب الصحابي 1: اختلف الأصوليون في سياق هذه المسألة، فبعضهم جعلها خاصة بمذهب الراوي وحده، وبعضهم جعلها شاملة للراوي وغيره من الصحابة، كما ألحق بعضهم تفسيرهما بما يقيد النص المطلق2. وصورة ذلك: أن يرد لفظ مطلق في دليل شرعي كأمره صلى الله عليه وسلم: من وطئ في رمضان أن يعتق رقبة3، ثم يقول أحد الصحابة - رضي الله عنهم - سواء كان الراوي أو غيره: يلزم من وطئ في نهار رمضان أن يعتق رقبة مؤمنة، فهل تقيد الرقبة المطلقة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً بالقيد الوارد في قول الصحابي؟ وقبل أن نذكر أقوال العلماء في هذه المسألة ... نشير إلى أن الخلاف فيهما مبني على الخلاف في حجية قول الصحابي، فمن يرى أنه حجة قيد به، ومن لا يرى حجيته لم يقيد به، ومن يشترط في ذلك انتشار قوله بين الصحابة وأن لا يعرف له مخالف قيد به بهذا الشرط، وأيضاً فإن محل   1 الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، ويضاف هنا إمكان روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم. 2 تيسير التحرير 1/326، ومسلم الثبوت 1/355. 3 إرشاد الفحول ص: 162، وتنقيح الفصول 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 الخلاف في قول الصحابي الذي يحتمل الاجتهاد أما إذا كان قوله مما ليس للرأي فيه مجال فهو في حكم المرفوع فيقيد به، إذا عرفنا ذلك فنقول: اختلف الأصوليون في حكم التقييد بمذهب الصحابي على قولين: الأول: لا يجوز التقييد بمذهب الصحابي ... وهو قول الجمهور1. وحجتهم في ذلك أن الحجة إنما هي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ورد فيه اللفظ مطلقاً، وأما مذهب الصحابي فليس بحجة؛ لأن مذهبه قد يكون مجرد اجتهاد منه، يحتمل الخطأ والصواب، فلا يقضى به على النص المطلق، بل يبقى المطلق على إطلاقه حتى يرد ما يقيده2. أما قول الصحابي فلا يصح مقيداً. القول الثاني: جواز التقييد بمذهب الصحابي نص عليه أحمد3 وهو مذهب الحنفية4.   1 إرشاد الفحول ص: 161. 2 تنقيح الفصول للقرافي ص: 219، والمرجع الأول ص: 161، ومسلم الثبوت 1/ 355، والمدخل إلى علم أصول الفقه ص: 234، والمستصفى 2/112، وغاية الوصول للأنصاري ص: 80، والأحكام للآمدي 2/109. 3 روضة الناظر ص: 129، وشرح الكوكب المنير ص: 208. 4 تيسير التحرير 1/326، ومسلم الثبوت 1/355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 واستدلوا على ذلك فقالوا: إن عمل الصحابي أو فتواه بما يخالف اللفظ المطلق دليل على اطلاعه على ما يقيد ذلك المطلق، لأن الصحابي العدل العالم لا يترك العمل بالمطلق إلا وقد اطلع على دليل يمكن التقييد به1. وإذا كان هو الراوي، وخالف ما رواه دل ذلك على أنه اطلع على قرائن حالية أو مقالية توجب تقييد ذلك المطلق2. وقد اشترط بعض3 الأصوليين لجواز التقييد بمذهب الصحابي أن يكون ما ذهب إليه منتشراً وأن لا يعرف له مخالف4، وإن كان غير الراوي للحديث اشترط فيه أن يكون عالماً بالنص المطلق5، وهذا الشرط الأخير وجيه، أما الأول فخارج عن محل النزاع؛ لأنه يرجع إلى إجماع سكوتي حينئذ.   1 إرشاد الفحول ص: 162، وتنقيح الفصول ص: 219. 2 تنقيح الفصول ص: 219. 3 الشيرازي وانظر اللمع ص: 21. 4 المرجع السابق وإرشاد الفحول ص: 161. 5 المسودة لآل تيمية ص: 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 6 - حكم التقييد بذكر بعض جزئيات المطلق: وصورته: أن يرد اللفظ مطلقاً في نص شرعي نحو: إذا حلفت (فأعتق رقبة) ثم يذكر في نص آخر جزئياً من جزئيات المطلق نحو: "إذا حلفت فأعتق رقبة مؤمنة أو أعتق زيداً". وذكرنا هذين المثالين لأن الجزئيَّ إما أن يكون صفة كما في المثال الأول، أو لقباً كما في المثال الثاني. فهل يقيد النص المطلق في المثال السابق بجزئيه في المثال الثاني أو لا يقيد؟ إذا كان جزئيُّ المطلق لقباً؛ فإنه لا يتقيد به؛ لأن اللقب لا مفهوم له، وإذا كان الجزئي صفة، نحو أعتق رقبة مؤمنة، بعد قوله: "أعتق رقبة" فإن المطلق يتقيد به؛ لأن الجزئي هنا صفة ومفهوم الوصف حجة يقيد بها على الصحيح كما تقدم. وقد وهم من أطلق القول بعدم جواز تقييد المطلق بذكر بعض جزئياته بناء منه على أن ذكر فرد من أفراد العام لا يخصصه1. لأن الصحيح في ذلك التفصيل، فإذا كان جزئيُّ المطلق لقباً لم يتقيد به المطلق؛ لأنه عندئذ يكون بدلاً والبدل لا يقيد المطلق كما تقدم.   1 حاشية البناني على جمع الجوامع 2/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 أما إذا كان جزئيُّ المطلق صفةً، وكان لها مفهوم، فإن المطلق يقيد به بالشروط السابقة في حجية مفهوم المخالفة. وهنا نشير إلى أن إطلاق القول بأن ذكر فرد من أفراد العام لا يخصصه محمول على الغالب، وإلا فإن فرد العام قد يكون صفة فيخصص العام عند القائلين بحجية المفهوم المخالف، كما لو قيل: إذا حلفت فلا تُكَفِّر بالعبد ثم قيل: إذا حلفت فكفر بالعبد المؤمن؛ فإنه يخصص العام السابق عند من يرى حجية المفهوم المخالف1.   1 غاية الوصول ص: 82، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 الخاتمة خاتمة المطاف بعد هذه الرحلة الشاقة في أثناء العمل فيها الممتعة بما تحقق منها: التي طوفت من خلالها على مباحث المطلق والمقيد وحرصت فيها على استكمال جوانب الموضوع واستقصاء مسائله بقدر الطاقة. فإني أحمد الله على أن وفقني لإكمال الموضوع واجتياز مباحثه، فإن كان الصواب حليفي فأشكر الله على ذلك، وإن كان غير ذلك فالكمال لله وحده، وحسبي أن بذلت جهدي ولكل مجتهد نصيب. ولقد رأيت أنه من المناسب وأنا أختتم هذا الموضوع أن أشير إلى أهم القواعد والنتائج التي توصلت إليها من خلال معايشتي الطويلة لهذا البحث، آملاً أن يكون الاطلاع على تلك النتائج سبيلاً سهلاً لمن أراد الوقوف على مضمون هذا البحث المتواضع، ومن أهم تلك النتائج ما يلي: 1 - إن معرفة اللغة العربية وتنوع أساليبها، واختلاف دلالة اللفظ الواحد فيها ضرورية لكل باحث في علوم الشريعة، وخاصة الباحثين عن استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة. 2 - إن كل ميزة تمتاز بها اللغة العربية فالقرآن أولى بها لنزوله بلسان عربي مبين، وكذا كل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول فهو عربي مبين؛ لأنه أفصح من نطق بالضاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 3 - إن اللفظ من حيث دلالته على المعنى الموضوع له ينقسم إلى عام وخاص، ذلك أن اللفظ إذا وضع وضعاً واحداً ليدل على استغراق الأفراد الداخلة تحته دفعة واحدة بلا حصر فهو العام. وإذا كان موضوعاً ليدل على معنى واحد على الانفراد سواء كان بالشخص أو النوع أو الجنس، أو كان موضوعاً لكثير محصور فهو الخاص، وهذا التقسيم هو الأولى بالاتباع لسهولته وتبادره وعدم الاعتراض عليه. 4 - الأصل أن يفسر القرآن والسنة باللغة التي وردا بها، ما لم يكن هناك عرف خاص لصاحب الشرع؛ فإن كان للشرع عرف خاص فتفسير اللفظ على مقتضاه أولى. 5 - إن الخلاف في تحديد ماهية اللفظ أو تصنيفه في دائرة العموم أو الخصوص يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام الثابتة لكل من العام والخاص. ومن هنا كانت عناية علماء الأصول بوضع المناهج والخطط التي بواسطتها يمكن التوصل إلى تصنيف اللفظ إلى عام وخاص، ومن ثم أجراء أحكام العموم والخصوص عليه ضرورة حتمية لما يترتب على ذلك من استخراج الأحكام من أدلتها ورد الفروع إلى أصولها. 6 - إن العموم من المعاني التي تدعو إليها حاجة التخاطب، ولهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 كان من المتفق عليه أن للعموم صيغاً في اللغة وإن كان تحديد تلك الصيغ محل خلاف. 7 - أولى تعريف للعام عند جمهور الأصوليين أنه (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر) ، وعند الحنفية (لفظ ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى. 8 - إن الاختلاف في تحديد ماهية العموم أدى إلا الاختلاف في تحديد صيغ العام، فمن يشترط في تحقيق ماهية العام الاستغراق، لا بد في الألفاظ الدالة عليه أن تكو مستغرقة بوضعها اللغوي أو العرف الشرعي ومن لا يرى ذلك شرطاً يكفي عنده للحكم على عموم اللفظ أن ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى، ومن هنا اختلفت الأحكام المترتبة على عموم اللفظ تبعاً للاختلاف في تحديد ماهيته. 9 - إن الاختلاف في اشتراط الاستغراق وعدمه في مفهوم العام أدى إلى الاختلاف في العام الذي خص منه البعض، هل يصح التمسك به على سبيل الحقيقة أو لا؟ فمن يرى الاستغراق شرطاً لتحقيق ماهية العام يرى أن العام الذي خص منه البعض مجاز، لأن اللفظ موضوع للاستغراق وبعد التخصيص لم يبق اللفظ مستغرقاً ومن يكتفي بانتظام اللفظ جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى يصح عنده التمسك بالعام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 المخصوص ما دام الباقي من الأفراد يصح إطلاق اسم الجمع عليها. 10 - اللفظ المشترك، وهو الموضوع لمعنيين فأكثر بأوضاع متعددة لا يخرج عن تقسيم اللفظ إلى العام والخاص؛ لأن المشترك مبني على حسب الصيغة التي يرد بها، فهو عام إذا ورد بصيغة عامة، وخاص إذا كانت صيغته صيغة الخصوص. وكذا الجمع المنكر لا يخرج عن ذلك التقسيم سواء اشترط في العام الاستغراق أو لم يشترط، لكن الذي يترجح عندي أن الجمع المنكر غير عام لعدم قبوله أحكام العام الاستغراقي. 11 - إن الجمعَ المنكر من المطلق، لأنه لا فرق بين رجل ورجال إلا في كون ما صدق عليه رجل كل فرد فرد، وما صدق عليه رجال كل جماعة جماعة، وذلك لا أثر له في الإطلاق والتقييد، والمطلق مندرج تحت الخاص على القول الراجح، فيكون الجمع المنكر من الخاص، (وليس بعام) . 12 - يتكرر لفظ الوضع في مباحث الأصول، والمراد به جعل اللفظ دليلاً على المعنى، بحيث إذا سمع العالم بالوضع ذلك اللفظ، فهم منه المعنى بدون واسطة، وهذا هو المقصود بالتبادر لغة. 13 - إذا كانت دلالة اللفظ لا تحتمل غير المعنى الموضوع له تسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 قطعية، وإن احتملت غيره فهي ظنية. 14 - إن الوقوف على نوع دلالة اللفظ يساعد على التنسيق بين أحكام الألفاظ عند التعارض. 15 - الاتفاق على وصف دلالة الخاص بالقطعية، وعلى احتماله للمجاز واقع لكن القطع له معنيان، خاص وعام. فالقطع بالمعنى الخاص: أن لا يحتمل اللفظ غير المعنى الذي وضع له أصلاً سواء كان عدم الاحتمال ناشئاً من دليل آخر انضم إلى أصل وضع اللفظ كالتأبيد مثلاً، أم كان اللفظ في أصل وضعه لا يحتمل غير المعنى الموضوع له. والقطع بالمعنى العام: هو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل، وعلى هذا إذا كان الاحتمال ناشئاً عن دليل فهو لا يسلب عن دلالة اللفظ الوصف بالقطعية بمعناها الأعم، بدليل أن الاتفاق واقع على إطلاق قطعي لدلالة على الخاص مع احتماله المجاز، مع أن القطع بالمعنى الخاص ينافي احتمال اللفظ المجاز، فدل هذا على أن القطع في دلالة الخاص بالمعنى الأعم، وهو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل. 16 - إن الخلاف في احتمال الخاص للبيان لفظي؛ لأن النفي والإثبات لم يتواردا على محل واحد، فالذي يرى احتمال الخاص للبيان ينظر إليه بعد الاستعمال وطريان الإجمال عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 بسبب كثرة المعاني التي استعمل فيها أو بسبب قلة الاستعمال في المعنى الموضوع له اللفظ مما يجعله غير مألوف لدى أكثر أهل اللغة، والذي يرى أنه لا يحتمل البيان ينظر إليه باعتبار أصل المعنى، وحال الواضع عندما أراد أن يجعل اللفظ دليلاً على المعنى، ولا شك أن دلالة الخاص بالنسبة للواضع قطعية. 17 - إن دلالة العام المجرد عن القرائن على أصل المعنى قطعية، وعلى كل فرد من أفراد العام محل خلاف. فالجمهور يرون أن دلالة العام المطلق على كل فرد ظنية، لكثرة تخصيص العموم في الشرع حتى أصبح قولهم: (ما من عام لا وقد خص منه البعض) مثلاً. ويرى الحنفية أن دلالة العام المجرد عن القرائن كدلالة الخاص لاشتراكهما في الطريق الذي ثبتا به وهو الوضع. 18 - لما كانت دلالة العام على أفراده ظنية عند الجمهور قالوا: إن العام لا يعمل به قبل البحث عن المخصص. 19 - تخصيص العام عند الجمهور بيان أن المراد من اللفظ العام بعض أفراده، أو هو قصر العام على بعض أفراده بدليل. وعند الحنفية يراد به قصر العام على بعض أفراده بالدليل المستقل بالدلالة عن لفظ العام، والمقارن له في نزوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 والمساوي له في قوة الثبوت والدلالة. 20 - الاتفاق على احتمال العام للتخصيص وعلى أن دلالته على الباقي بعد تخصيصه بالدليل المساوي له في القوة ظنية واقع، وذلك، لأن الدليل المخصص قد يكون معللاً بعلة، فيحتمل وجودها في بعض الأفراد الباقية بعد التخصيص، ومع الاحتمال لا يثبت القطع، أما إذا كان المخصص غير قابل للتعليل كدليل النسخ أو كان إخراج بعض أفراد العام بدليل متصل وغير مستقل بتمام الفائدة عن اللفظ العام، (كالاستثناء والصفة) ، فإن الحنفية يرون أن إخراج بعض أفراد العام في مثل هذه الحال لا يسلب عن دلالة العام صفة القطعية، لعدم قبول دليل النسخ للتعليل، ولأن الاستثناء ونحوه هو والعام كلام واحد لا يستقل أحدهما عن الآخر بتمام الفائدة. 21 - إن الاختلاف في قطعية دلالة العام وفي مفهوم التخصيص عند الفريقين قد أدى إلى الخلاف في مخصصات العام، فمن يرى أن دلالة العام قطعية يشترط في الدليل المخصص للعام ابتداءً أن يكون مساوياً له في قوة الثبوت والدلالة، ومن يرى أن دلالة العام المجرد ظنية لا يشترط في الدليل المخصص مساواته للعام، لأن التخصيص من قبيل البيان والمبين لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 يشترط فيه مساواته للمبين، ومن ثم كان خبر الآحاد والقياس لا يخصصان عام القرآن والسنة المتواترة أو المشهورة عند الحنفية إلا إذا سبق تخصيص العموم فيهما بدليل مقطوع به. 22 - اللفظ الخاص ينقسم باعتبار الصيغة التي يرد بها إلى الأمر والنهي وباعتبار الحالة التي تلابسه إلى المطلق والمقيد. 23 - أولى تعريف للأمر اصطلاحاً: أنه القول الدال بالذات على طلب الفعل على جهة الاستعلاء. 24 - صيغ الأمر: هي الألفاظ الموضوعة للدلالة على طلب الفعل على وجه الحتم واللزوم سواء كانت الدلالة مستفادة من قبل اللغة أو الشرع. 25 - الأمر المجرد عن القرائن: يدل على وجوب الفعل، لتبادر الوجوب لغة، ولأدلة أخرى شرعية. 26 - النهي في الاصطلاح: القول الدال بالذات على طلب الكف عن الفعل على جهة الاستعلاء. 27 - صيغ النهي: هي الألفاظ الموضوعة للدلالة على طلب الكف عن الفعل على وجه الحتم واللزوم، سواء كانت الدلالة على ذلك من جهة اللغة أو الشرع. 28 - النهي المجرد عن القرائن يدل على وجوب ترك المنهي عنه لغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وشرعاً. 29 - إن الاختلاف في وجود الماهيات في خارج الذهن أدى إلى الخلاف في تعريف المطلق اصطلاحاً. فهو عند المناطقة وأكثر الأصوليين ما يدل على الماهية بلا قيد، وعند علماء اللغة ما دل على شائع في جنسه، أو هو النكرة في سياق الإثبات، فالنكرة أعم من المطلق، ويساويها ما لم تقيد أو يدخل عليها ما يفيد عمومها. 30 - يوصف المطلق بالشيوع، لأن موارده غير منحصره فعمومه بدلي -تناوبي ويوصف العام بالاستغراق، فعمومه شمولي. 31 - أن العموم في المطلق من ناحية الصفات، وفي العام من ناحية الأفراد. 32 - المقيد هو اللفظ الدال على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه، أو اللفظ الدال على الماهية مع قيد من قيودها. 33 - توصف الأفعال والأسماء الشخصية بالإطلاق والتقييد باعتبار الأحوال التي تعرض لها، وعلى ذلك فوصف الاطلاق والتقييد غير مختص بالألفاظ المفردة كما يوهم ذلك صنيع الأصوليين. 34 - الإطلاق والتقييد لهما معنيان خاص وعام. فالمطلق بالمعنى الخاص: اللفظ الدال على شائع في جنسه أو هو ما يدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 الماهية بدون قيد. والمطلق بالمعنى العام: اللفظ المجرد عن القيود سواء كان له معنى شائع أو لا، وعلى هذا الاصطلاح ليس هناك واسطة بين المطلق والمقيد، بل اللفظ الموضوع للدلالة على المعنى إما أن يكون مطلقاً أو مقيداً. 35 - المطلق والمقيد من أقسام الخاص على القول الراجح، لكن لما كانت للمطلق موارد غير منحصرة يتحقق مفهومه في واحد منها على سبيل البدل، أشبه العام، ولهذا كانت دلالة المطلق عند جمهور الأصوليين ظنية، ويرى الحنفية أن دلالة المطلق قطعية كالعام عندهم. 36 - يعمل بالمطلق على إطلاقه حتى يوجد الدليل الذي يقيده، ويعمل بالمقيد مع قيده حتى يدل الدليل على أن ما ذكر معه من قيد لا مفهوم له في تشريع الحكم. 37 - كل ما قيل في معنى تخصيص العام ونوع دلالته وشروط مخصصه، فهو جار في تقييد المطلق عند الفريقين. 38 - حمل المطلق على المقيد بيان عند الجمهور، وعند الحنفية يختلف بحسب ورود المقيد ومساواته للمطلق، فهو بيان عند محققي الحنفية كما يقول الجمهور إذا وردا معاً أو جهل التاريخ، ونسخ إذا علم تأخر أحدهما عن الآخر وكانا مستويين في القوة، وترجيح أو تقديم للعمل بالمقيد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 العمل بالمطلق إذا كانت المسألة محل احتياط. 39 - سبب حمل المطلق على المقيد عند الجمهور العرف اللغوي والشرعي بالإضافة إلى وجود مطلق التنافي الذي يزول بحمل المطلق على المقيد. وعند الأحناف دخول التنافي بين المطلق والمقيد في باب تعارض الأدلة. 40 - الاختلاف في مفهوم التعارض وشروط تحققه ومحله من الأدلة وكيفية دفعه عنها من أعم الأسباب في الخلاف في حمل المطلق على المقيد في بعض الصور. 41 - لا يحمل المطلق على المقيد عند الفريقين إلا إذا توفرت فيه شروط خاصة من أهمها الاتحاد في الحكم المثبت وكونه من باب الواجب وأن يكون الإطلاق والتقييد من حيث الصفات مع ثبوت الذوات في الموضعين، وبالجملة فكل ما هو شرط في تعارض الأدلة، فهو شرط في حمل المطلق على المقيد، عند الحنفية. 42 - إذا اتحد المطلق والمقيد في الحكم واختلفا في السبب، حمل المطلق على المقيد قياساً عند الجمهور، ولا يحمل عند الحنفية، وكذلك الحكم إذا اتحدا في الحكم والحادثة وكان الإطلاق والتقييد واردين على السبب، لأن الأسباب لا تزاحم بينها في نظر الأحناف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 43 - إذا ورد مقيدان متنافيان على مطلق واحد حمل على الأقيس منهما، وإلا بقي المطلق على إطلاقه. 44 - إذا تعارض المطلق والمقيد فإما أن يعلم تاريخ النزول بينهما أو يجهل، وفي حال العلم بذلك إما أن يعلما أنهم وردا معا أو يعلم تأخر المطلق وتقدم المقيد أو العكس، فهذه أربعة أحوال يحمل فيها المطلق على المقيد عن الجمهور بطريق البيان ما لم يستلزم ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استلزم حملُ المطلق على المقيد تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة كان المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، وعند محققي الحنفية يحمل المطلق على المقيد بطريق البيان في حالتين فقط، وهما إذا وردا معاً أو جهل التاريخ بينهما وفيما عدا ذلك يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم إذا تساوى معه في الثبوت والدلالة. 45 - الاختلاف في نوع دلالة المطلق وفي معنى حمله على المقيد أدى إلى الاختلاف في الصور التي يحمل فيها المطلق على المقيد، وفي مقيدات المطلق فالذي يرى أن دلالته قطعية يحكم بالتعارض بينه وبين المقيد وينسخ المتقدم منهما بالمتأخر، ومن ثم لم ير الحنفية نسخ مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بخبر الآحاد أو القياس؛ لأنهما من قبيل الظني والظني لا يعارض القطعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 46 - الاختلاف في حجية مفهوم المخالفة من أهم الأسباب التي أدت إلى وجود التعارض وعدمه في بعض أحوال المطلق والمقيد. 47 - الاتفاق على حجية مفهوم المخالفة في المصنفات العلمية وأقوال الناس ومصطلحات الفقهاء واقع، حتى شاع لدى الحنفية قولهم: (مفاهيم الكتب حجة) وفي خطابات الشرع خلاف. 48 - يرى جمهور العلماء فيما عدا مفهوم اللقب - أن مفهوم المخالفة بجميع أنواعه حجة شرعية يعمل به فيما يثبت بطريق الظن، بشروط أهمها ألا يعارضه ما هو أقوى منه، وألا يكون للقيد فائدة أخرى غير تشريع الحكم، ويرى الحنفية أن مفهوم المخالفة بجميع أنواعه ليس حجة شرعية في خطابات الشرع، وحكم المحل المسكوت عنه باق على العدم الأصلي، وهو براءة الذمة من التكاليف حتى يرد ما يشغلها. 49 - اشتهر بين الأصوليين الخلاف في الزيادة على النص هل هو نسخ أو بيان، وقد اتضح لي (بعد تحرير محل النزاع) أن الخلاف في هذه المسألة قليل الأثر على الفروع الفقهية، لأنه يعود إلى جواز النسخ قبل العمل، وهذا النوع من النسخ قليل الوقوع، وما كان من الأحكام قليل الوقوع لا يصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 التفريع عليه، فكان لا بد للفروع المنسوب الاختلاف فيها إلى هذه القاعدة من سبب آخر غير الزيادة، وقد توصل الباحثون في هذه المسألة إلى أن الخلاف في تلك الفروع يعود إلى الاختلاف في شروط العمل بخبر الواحد عند الجمهور والحنفية، حيث يشترط الحنفية للعمل به شروطاً من أهمها ألا يعارضه ما هو أقوى منه. 50 - إن مقيدات المطلق منها متصل وهو ما لا يستقل عن اللفظ المطلق بتمام الفائدة، ومنها منفصل، وهو ما يستقل عن اللفظ المطلق بتمام الفائدة. 51 - لا يجوز تقييد المطلق بالاستثناء؛ لأن الاستثناء معيار العموم. 52 - لا يجوز تقييد المطلق ببدل البعض، ولا الحال إلا إذا كان صاحبها نكرة. 53 - يجوز تقييد المطلق بالشرط والصفة والغاية، والظرف والجار والمجرور والتمييز والمفعول لأجله والمفعول معه وذلك إذا كان الإطلاق والتقييد في جانب الأفعال. 54 - إن الصفة إذا وردت بعد جمل، وإن جاز رجوعها إلى جميع الجمل أو الأخيرة فقط، إلا أن الظاهر رجوعها إلى جميع الجمل وعدم اختصاصها بالأخيرة. 55 - إن الشرط في تعقبه للجمل حكمه حكم الصفة وكذا الغاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 تشترك معهما في هذا الحكم. 56 - يجوز تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة، كل منهما بالآخر، كما يجوز تقييد ذلك بالإجماع والقياس وخير الواحد والعرف ومذهب الصحابي، وذكر بعض جزئيات المطلق الذي له مفهوم مخالف. 57 - لا يتصور تقييد مطلق الكتاب والسنة بفعل الرسول وتقريره لعدم منافاة ذلك لمدلول المطلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 مصادر ومراجع ... فهرس المراجع 1 - علوم القرآن الكريم 1 - الإتقان في علوم القرآن, لجلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ، ط المشهد الحسيني بيروت. 2 - أحكام القرآن، للشافعي محمد بن إدريس، المتوفى سنة 204هـ - الناشر دار الكتب العلمية بيروت. 3 - أحكام القرآن، لابن العربي، أبي بكر بن عبد الله المتوفى سنة 543هـ، تحقيق علي محمد البجاوي، الناشر عيسى البابي الحلبي. 4 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، تأليف الأمين محمد المختار الجكني الشنقيطي، ط عالم الكتب بيروت. 5 - الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، لأبي بكر محمد بن موسى الحازمي المتوفى سنة 584هـ مطبوع بحيدر آباد سنة 1319هـ. 6 - البرهان في علوم القرآن، للزركشي محمد بن بهادر أبي عبد الله الملقب ببدر الدين المتوفى سنة 794هـ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2 عيسى البابي الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 7 - تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة عبد الله بن مسلم المتوفى سنة 276هـ، ط عيسى البابي الحلبي 1373هـ. 8 - تفسير ابن جرير الطبري المسمى: "جامع البيان عن تأويل القرآن"، ط 3 دار المعرفة للطباعة والنشر، وأعيدت بالأوفست سنة 1398هـ. 9 - تفسير ابن كثير المسمى: "تفسير القرآن العظيم"، للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي المتوفى 774هـ، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي. 10 - تفسير القرطبي المسمى: "الجامع لأحكام القرآن"، لمحمد بن أحمد القرطبي ت 671هـ دار الكتب المصرية، ودار الشعب. 11 - روائع البيان في تفسير آيات الأحكام، للشيخ محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم بالكويت، ط أولى 1391. 12 - فتح القدير الجامع الرواية والدراية من علم التفسير، محمد ابن علي الشوكاني مطيعة مصطفى البابي الحلبي. 13 - فتح المنان في تفسير القرآن، للشيخ علي حسن العريض، مطلعة الخانجي. 14 - مع القرآن، د. شعبان محمد إسماعيل، دار الإتحاد العربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 للطباعة 1398هـ. 15 - معاني القرآن لأبي زكريا يحيى بن زياد القراء، المتوفى سنة 207هـ، ط 2 1400هـ عالم الكتب بيروت. 16 - مناهل العرفان في علوم القرآن، للزرقاني، ط عيسى البابي الحلبي. 17 - الناسخ والمنسوخ، لابن حزم، مطبوع في هامش الجلالين ط الاستقامة. 2 - الحديث الشريف (أ) 18 - أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد المتوفى سنة 702هـ، ط دار الكتب العلمية بيروت. 19 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، ط أولى المكتب الإسلامي بيروت سنة 1399هـ. (ت) 20 - تلخيص الحبير في تخريج الرافع الكبير لابن حجر، تحقيق محمد إسماعيل ط مكتبة الكليات الأزهرية، 1379هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 (س) 21 - سبل السلام شرح بلوغ المرام، لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، ط 4 دار إحياء التراث العربي 1379 22 - سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة، يكنى أبا عيسى، توفي رحمه الله سنة 279هـ، م المدني تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. 23 - سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275هـ، ط إحياء السنة المحمدية تعليق محمد محي الدين عبد الحميد. 24 - سنن ابن ماجه، أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه المتوفى 273هـ، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، عيسى البابي الحلبي. 25 - السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، ط أولى الهند سنة 1352هـ. 26 - سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب الخراساني المتوفى سنة 303هـ، مع شرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية السندي - دار إحياء التراث. (ص) 27 - صحيح البخاري، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل المتوفى سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 256هـ، ط دار إحياء التراث العربي، ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي. 28 - صحيح مسلم، أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري المتوفى سنة 261هـ، ط دار إحياء التراث العربي، تحقيق وترتيب محمد فؤاد عبد الباقي. 29 - طرح التثريب في شرح التقريب، لزين الدين العراقي المتوفى سنة 806هـ، وهو شرح على المتن المسمى:"تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد" وقد أكمل هذا الشرح ابنه أبي زرعة المتوفى سنة 826هـ الناشر دار المعارف السورية - حلب. 30 - عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، للحافظ ابن العربي المالكي، المتوفى سنة 543هـ دار العلم للجميع مكتبة المعارف - بيروت. 31 - علوم الحديث ومصطلحه، للدكتور صبحي الصالح، دار العلم للملايين، ط 1401هـ الثانية عشرة. 32 - عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ بن القيم القسطلاني، الناشر محمد عبد المحسن صاحب المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 33 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي ابن حجر المتوفى سنة 852هـ، المطبعة السلفية، قرأ أصله عبد العزيز بن باز ورقم أحاديثه محمد فؤاد عبد الباقي. 34 - الكفاية في علم الرواية، للخطيب أبو بكر أحمد بن علي المتوفى سنة 460هـ ط أولى م السعادة. 35 - المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري، المتوفى سنة 405 هـ مطابع النصر الحديثة بالرياض. 36 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط 2 المكتب الإسلامي 1398هـ. 37 - المنتقى من أخبار المصطفى، لمجد الدين أبي البركات عبد السلام بن تيمية الحراني، بتعليقات محمد حامد القفي، ط الثانية 1398 الناشر دار المعارف. 38 - موطأ الإمام مالك بن أنس، المتوفى سنة 179هـ مع شرح الزرقاني لمحمد ابن عبد الباقي بن يوسف المتوفى سنة 1122هـ دار الفكر. 39 - نصب الراية في تخريج أحاديث الهادية، تأليف العلامة جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي، المتوفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 سنة 762هـ، مطبوعات المجلس العلمي، ط 2 الناشر المكتبة الإسلامية 1393هـ. 40 - النهاية في غريب الحديث والأثر، لمحي الدين أبي السعادات المبارك المعروف بابن الأثير، تحقيق محمود محمد الطناحي، الناشر المكتبة الإسلامية لصاحبها رياض الشيخ. 41 - النووي شرح صحيح مسلم، لأبي زكريا يحى بن شرف الدين النووي المتوفى 676هـ، المطبعة المصرية ومكتبتها. 42 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، تأليف محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ، مصطفى البابي الحلبي وأولاده. 3 - أصول الفقه المطبوع (أ) 43 - الآيات البينات، للعلامة أحمد بن قاسم العبادي م بولاق 1389هـ. 44 - الإبهاج شرح المنهاج، لتاج الدين السبكي، م التوفيق. 45 - أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، د. سعيد مصطفى الخن، مؤسسة الرسالة 1392هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 46 - الأحكام في أصول الأحكام، تأليف سيف الدين الآمدي المتوفى 631هـ م محمد علي صبيح، والنسخة الثانية بتعليق عبد الرزاق عفيفي ط أولى مؤسسة النور بالرياض. 47 - الأحكام في أصول الأحكام، تأليف محمد علي بن حزم الظاهري، ت 456هـ، م العاصمة بالقاهرة، الناشر زكريا علي يوسف. 48 - أدلة التشريع المتعارضة، تأليف الدكتور بدران أبو العينين بدران، مؤسسة شباب الجامعة 1374هـ. 49 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، تأليف محمد بن علي الشوكاني ت 1255هـ، م دار الفكر العربي. 50 - أسباب اختلاف الفقهاء، د. مصطفى الزلمي، رسالة دكتوراه، ط أولى الدار العربية للطباعة والنشر في بغداد سنة 1396هـ. 51 - الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، تأليف ولي الله الدهلوي ط 1382، دار النفائس بيروت. 52 - الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجب الاختلاف بين المسلمين، لابن السيد البطليوسي، تحقيق الدكتور محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 رضوان الداية، ط أولى سنة 1394، دار الفكر. 53 - أصول الأحكام وطرق الاستنباط في التشريع الإسلامي، د. حمد عبيد الكبيسي ط أولى، دار الحرية بغداد 1395هـ. 54 - أصول الأحكام، للشيخ منصور محمد الشيخ، م السعادة. 55 - أصول البزدوي، تأليف فخر الإسلام البزدوي ت 483، ط جديدة بالأوفست على نفقة دار الكتاب بيروت سنة 1394هـ. 56 - أصول التشريع الإسلامي، للأستاذ علي حسب الله، ط أولى، م المعارف بمصر سنة 1371هـ. 57 - أصول السرخسي، تأليف شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي ت 483، تحقيق أبو الوفاء الأفغاني، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت. 58 - أصول الفقه، تأليف محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي. 59 - أصول الفقه، لمحمد أبي النور زهير، دار الاتحاد العربي للطباعة. 60 - أصول الفقه الإسلامي، د. محمد سلام مدكور، ط أولى دار النهضة بالقاهرة 1396هـ. 61 - أصول الفقه، د. بدران أبو العينين بدران، م كليات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 الإسكندرية محمد محمود سعيد، توزيع مؤسسة شباب الجامعة. 62 - أصول الفقه، د. حسين حامد حسان، دار النهضة العربية بالقاهرة، سنة 1391هـ. 63 - أصول الفقه، للخضري بك، ط 6 توزيع المكتبة التجارية الكبرى، بمصر 1389هـ. 64 - أصول مذهب الإمام أحمد، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، "رسالة دكتوراه" ط 2، مكتبة الرياض الحديثة 1397. 65 - أصول الفقه، لشاكر الحنبلي، ط أولى مطبعة الجامعة السورية سنة 1368هـ. 66 - أصول الفقه، للشيخ محمد رضا المظفر، ط 3 طبع مطابع النعمان بالنجف. 67 - أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاف، ط 13، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع بالكويت، 1398. 68 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل للنشر والتوزيع بيروت. 69 - أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام، د. سليمان الأشقر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 مكتبة المنار الإسلامية الكويت، د أولى سنة 1398هـ. (ب) 70 - بيان النصوص التشريعية طرقه وأنواعه، د. بدران أبو العينين بدران، ط م ك الإسكندرية محمد محمود مسعد، الناشر منشأة المعارف. 71 - البلبل في أصول الفقه، تأليف سليمان عبد القوي الطوفي، ت 716، وهو مختصر لروضة الناظر لابن قدامة، ط بمؤسسة النور بالرياض. 72 - بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية، مصور عن طبعة الطباعة المنيرية، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت لبنان. (ت) 73 - التبصرة في أصول الفقه، للشيرازي. 74 - التحرير في أصول الفقه، للكمال بن الهمام المتوفى سنة 861، طبع بمطابع مصطفى البابي الحلبي سنة 1350هـ ومعه شرحه تيسير التحرير. 75 - تخريج الفروع على الأصول، للإمام محمود بن أحمد الزنجاني ت 656هـ، تحقيق الأستاذ محمد أديب صالح، الطبعة الأولى، مطبعة جامعة دمشق عام 1382هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 76 - تسهيل الوصول إلى علم الأصول، للمحلاوي، ط الحلبي بمصر 1341هـ. 77 - التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية، د. عبد اللطيف عبد الله عزيز البرزنجي "رسالة ماجستير" ط أولى 1397هـ مطبعة العاني بغداد. 78 - تفسير النصوص، د. محمد أديب الصالح، ط 2 الناشر المكتب الإسلامي - بيروت. 79 - التقرير والتحبير شرح التحرير لابن أمير الحاج، المكتبة التجارية الكبرى ببولاق سنة 1316هـ. 80 - تقرير الشربيني على شرح المحلى وحاشية البناني على جمع الجوامع، وبحاشية العطار، وقد طبع في هامش كل من الحاشيتين، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 81 - التلويح شرح التوضيح على التنقيح، لسعد الدين التفتازاني ت 791هـ، طبع مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بالقاهرة. 82 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، تأليف جمال الدين الأسنوي ت 772هـ، ط أولى 1400هـ طبع في مؤسسة الرسالة، حققه وعلق عليه محمد حسن هيتو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 83 - تنقيح الفصول مع شرحه، وكلاهما للإمام شهاب الدين القرافي ت 684، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة. 84 - التوضيح على التنقيح، لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود الحنفي، ت 747هـ، طبع محمد علي صبيح وأولاده بالقاهرة. 85 - تيسير التحرير، للعلامة محمد أمين المعروف بأمير بادشاه الحسيني الحنفي، طبع مصطفى البابي الحلبي 1350هـ. (ج) 86 - جمع الجوامع، لتاج الدين عبد الوهاب بن السبكي ت 771هـ مع شرح المحلى وحاشية البناني ط أولى المطبعة العلمية بمصر سنة 1316هـ. (ح) 87 - حاشية الأزميري على المرآة، للعلامة سليمان الآزميري ت 1102هـ المطبعة العامرة العثمانية، سنة 1302هـ الأستانة. 88 - حاشية سعد الدين التفتازاني على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، مراجعة وتصحيح شعبان محمد إسماعيل، الناشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 مكتبة الكليات الأزهرية 1393هـ. 89 - حاشية العطار على شرح المحلى على جمع الجوامع، للشيخ حسن بن العطار، ت 1250هـ، طبع مصطفى محمد. 90 - حصول المأمول من علم الأصول، للسيد محمد صديق خان، م مصطفى محمد سنة 1357هـ. (د) 91 - دراسات في أصول الفقه، د. عبد الفتاح حسيني الشيخ، ط 2، دار الاتحاد العربي للطباعة. 92 - دراسات في التعارض والترجيح، د. السيد صالح عوض، ط أولى دار الطباعة المحمدية بمصر 1400هـ. 93 - روضة الناظر وجنة المناظر مع شرحها، لبدران، موفق الدين ابن قدامة المقدسي المتوفى سنة 620هـ، المطبعة السلفية بمصر سنة 1342هـ. (س) 94 - سلم الوصول إلى علم الأصول، عمر عبد الله، ط 2 مؤسسة المطبوعات الحديثة 1379هـ. (ش) 95 - شرح ابن ملك على المنار، للعلامة عبد اللطيف بن عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 العزيز الشهير بابن ملك ت سنة 885هـ طبع المطابع العثمانية سنة 1315هـ. 96 - شرح البدخشي على المنهاج المسمى منهاج العقول، للإمام محمد بن الحسن البدخشي، طبع بحاشية شرح الأسنوي على المناهج للبيضاوي، بمطبعة محمد علي صبيح وأولاده بالأزهر بمصر. 97 - شرح العضد على مختصر المنتهى، للعلامة عبد الرحمن بن أحمد الإيجي الملقب بعضد الدين ت سنة 756هـ طبع عام 1393هـ. 98 - شرح الكوكب المنير، تأليف أبي البقاء محمد بن شهاب الدين الفتوحي الشهير بابن النجار، ت سنة 972هـ، تحقيق محمد حامد الفقي ط أولى سنة 1372 م المحمدية. 99 - شرح المحلي على جمع الجوامع، تأليف أحمد بن محمد المحلي الشافعي، ت سنة 864هـ، ط مصطفى البابي الحلبي. 100 - شرح الورقات للعبادي، مطبوع مع إرشاد الفحول، ط أولى مصطفى البابي الحلبي 1356هـ. (ع) 101 - العدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى الحنبلي المتوفى سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 458هـ، تحقيق سير المباركي، ط أولى مؤسسة الرسالة سنة 1400هـ. 102 - العرف والعادة في رأي الفقهاء، لأحمد فهمي أبو سنة، مطبعة الأزهر بالقاهرة. (غ) 103 - غاية الوصول شرح لب الأصول، وكلاهما لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري المتوفى سنة 926هـ، شركة مكتبة أحمد بن سعد بن بهار أندونيسيا. (ف) 104 - الفروق، لشهاب الدين القرافي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت. 105 - فصول البدائع في أصول الشرائع، تأليف محمد بن حمزة الأنصاري، ت 834، طبع بمطبعة الأستانة، عام 1289هـ. 106 - فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، تأليف عبد العلي محمد بن نظام الدين اللكنوي الأنصاري، ت 1180هـ، طبع في حاشية المستصفى، أعيد طبعه بالأوفست، مكتبة المثنى ببغداد عن الطبعة الأميرية ببولاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 (ق) 107 - القواعد والفوائد الأصولية، تأليف علاء الدين علي بن عباس الحنبلي المعروف بابن اللحام، ت سنة 803هـ، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية عام 1375هـ. (ك) 108 - كتاب الحدود في الأصول، للحافظ أبي الوليد سليمان بن خلف التميمي الأندلسي ت سنة 474هـ، تحقيق د. نزيه حماد، الناشر مطبعة الزغبي ط أولى 1392هـ. 109 - كشف الأسرار، وهو شرح على أصول البزدوي، تأليف علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري ت 730هـ، دار الكتاب العربي بالأوفست عام 1394هـ. (ل) 110 - اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي ت 476هـ، ط 3 ملتزم الطبع مصطفى البابي الحلبي وأولاده، بمصر 1377هـ. 111 - المختارات الفتحية في أصول الفقه وتاريخ التشريع، للأستاذ أحمد أبو الفتوح، ط 4 مطبعة النهضة بمصر سنة 1343هـ. 112 - مختصر المنتهى، لجمال الدين بن الحاجب المتوفى سنة 646هـ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 نشر مكتبة الكليات الأزهرية، راجعه وصححه شعبان محمد إسماعيل 1393هـ. 113 - المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، تأليف الشيخ عبد القادر بن أحمد المعروف بابن بدران، طبع بالمطابع المنيرية بمصر. 114 - المدخل إلى علم أصول الفقه، للأستاذ معروف الدواليبي، ط 5 بمطابع دار العلم للملايين 1385هـ. 115 - مذكرة أصول الفقه، للشنقيطي، وهو شرح لروضة الناظر، طبع بمطابع الأصفهاني بجدة على نفقة الجامعة الإسلامية. 116 - المرآة في الأصول شرح مرقاة الأصول، وكلاهما للشيخ محمد الحنفي الشهير بملاخسرو، وهذا الكتاب مطبوع مع حاشية الأزميري. 117 - المستصفى، لأبي حامد الغزالي المتوفى سن 505هـ، تحقيق مصطفى أبو العلا، ط شركة الطباعة الفنية المتحدة بمصر سنة 1391هـ. 118 - مسلم الثبوت، تأليف محب الدين بن عبد الشكور الهندي، المتوفى سنة 1119هـ، طبع مع شرح فواتح الرحموت بحاشية المستصفى، أعادت طبع الكتابين مكتبة المثنى ببغداد عن طبعة بولاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 119 - المسودة في أصول الفقه، لثلاثة من آل تيمية، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، م المدني بالقاهرة عام 1384هـ. 120 - مشكاة الأنوار المسماة بـ (فتح الغفار شرح المنار) ، لابن نجيم، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1355هـ. 121 - مصادر التشريع فيما لا نص فيه، للشيخ عبد الوهاب خلاف ط 3، دار القلم بالكويت 1392هـ. 122 - المعتمد في أصول الفقه، تأليف أبي الحسين محمد بن علي البصري المتوفى سنة 436هـ، تحقيق محمد حميد الله، طبعة أولى، المعهد الفرنسي للدراسات العربية دمشق 1384هـ. 123 - مفتاح الوصول إلى علم الأصول، تأليف أبي عبد الله محمد ابن أحمد الشريف التلمساني، المتوفى سنة 771هـ، مكتبة الوحدة العربية الدار البيضاء، المغرب. 124 - المنخول من علم الأصول، تأليف أبي حامد الغزالي، تحقيق محمد حسن هيتو، دار الفكر. 125 - المنار، تأليف عبد الله بن أحمد النسفي المتوفى سنة 710?، طبع المطبعة العثمانية 1325. 126 - المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي، للدكتور فتحي الدريني، ط أولى دار الرشيد بدمشق 1396هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 127 - منهاج الوصول إلى علم الأصول، تأليف القاضي البيضاوي، المتوفى سنة 658هـ، طبع بمطبعة علي صبيح وأولاده بمصر. 128 - موسوعة الفقه الإسلامي، إصدار الشئون الإسلامية بمصر. 129 - الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي ت سنة 790هـ، ط دار المعرفة للطباعة والنشر بتعليق عبد الله دراز. (ن) 130 - النسخ بين النفي والإثبات، د. محمد محمود فرغلي، ط دار الكتاب الجامعي سيد محمود وشركاه 1396هـ. 131 - النسخ في القرآن، د. مصطفى زيد، ط أولى 1383هـ الناشر دار الفكر. 132 - نشر البنود وشرح مراقي السعود، لسيدي عبد الله إبراهيم الشنقيطي، طبع صندوق إحياء التراث الإسلامي المشترك بين المغرب ودولة الإمارات المتحدة. 133 - نظرية النسخ، د. شعبان محمد إسماعيل، مطابع الرجوى. القاهرة. (و) 134 - الوجيز في أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان ط م سليمان الأعظمي بغداد 1387هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 (أصول الفقه المخطوطة) (أ) 135 - إتحاف الأنس في العلمين واسم الجنس، تأليف شمس الدين محمد الأمير المالكي الأزهري، والمشتهر بالأمير الكبير المتوفى سنة 1232هـ، وهو رسالة تبحث في تعريف كل من العلم الشخصي، وعلم الجنس، واسم الجنس وبيان الفرق بين هذه المصطلحات النحوية، وعدد صفحات المخطوط الموجود بمكتبة عارف حكمت بالمدينة تحت رقم 901 والمكتوب سنة 1312هـ 8 صفحات1. 136 - البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، المتوفى سنة 478هـ، رقم فيلم المخطوط بدار الكتب المصرية (225) ورقم مخطوط الأزهر 715، 716 أصول2.   1 وقد نشرت هذه الرسالة في ملحق التراث بجريدة المدينة العدد 4802 في 29 صفر 1400هـ بتحقيق عبد الهادي الفضلي، رئيس قسم اللغة العربية بكلية الملك عبد العزيز. 2 نشر حديثاً بتحقيق عبد العظيم الديب، كلية جامعة قطر، وطبع على نفقة أمير دولة قطر عام 1399هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 137 - البحر المحيط في الأصول، لبدر الدين الزركشي، المتوفى سنة 794هـ، رقم المخطوط بالأزهر 20/722. 138 - التحرير في أصول الفقه، لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي، مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 431/86، وتوجد منه نسخة بالمكتبة السعودية بالرياض. 139 - التعارض والترجيح، لأبي بكر عبد الله دكوري، (رسالة ماجستير) بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية. 140 - تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم، تأليف خليل بن كيكدى بن عبد الله العلائي، الدمشقي الشافعي صلاح الدين أبو سعيد، مخطوط توجد منه صورة بالمكتبة العامة بالجامعة الإسلامية. 141 - التمهيد في أصول الفقه، تأليف أبي الخطاب محفوظ الكلوذاني المتوفى سنة 510هـ، مخطوط المكتبة الظاهرية بدمشق رقم المخطوط 2801. 142 - شرح مختصر الروضة للطوفي، مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق وتوجد منه نسخة مخرومة في مكتبة الحرم المكي رقم مخطوط دمشق 2894 أصول. 143 - العقد المنظوم في الخصوص والعموم، تأليف شهاب الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684هـ مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم (1) أصول. 144 - قواطع الأدلة، تأليف أبي المظفر منصور بن محمد السمعاني الشافعي المتوفى 489هـ، فيلم معهد المخطوطات العربية مصور عن مخطوط بمكتبة فيض الله برقم 627. 145 - مباحث التخصيص، د. عمر عبد العزيز الملا، (رسالة دكتوراه) . 146 - المحصول في أصول الفقه، لفخر الدين الرازي المتوفي سنة 606هـ، فيلم معهد المخطوطات العربية مصور عن مكتبة الأحمدية رقم المخطوط (416) ورقم المخطوط بدار الكتب المصرية (297) 1. 147 - الواضح في الأصول تأليف أبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 513هـ، مخطوط بالمكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم 2873 وهو كتاب ضخم، وفيه بعض الخروم.   1 طبع حديثاً بتحقيق د. طه جابر فياض العلواني، ط أولى سنة 1399هـ، على نفقة لجنة البحث والتأليف والترجمة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الكتاب رقم (13) في سلسلة مطبوعاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 4 - كتب الفقه اٌلإسلامي (أ) 148 - الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، تصحيح محمد زهدي النجار، دار المعرفة للطباعة والنشر. (ب) 149 - البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، تأليف أحمد ابن يحيى بن المرتضى المتوفى سنة 840هـ، مؤسسة الرسالة بيروت سنة 1394هـ. 150 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، تأليف علاء الدين الكاساني الحنفي، المتوفى سنة 587هـ، ط الإمام كريم القلعجي، الناشر زكريا علي يوسف. 151 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، للقاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 595هـ، ط 3 البابي الحلبي. 152 - التشريع الجنائي للأستاذ عبد القادر عودة، ط دار الكتاب العربي ببيروت. (د) 153 - الدسوقي على جانب الدردير، تأليف محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المتوفى سنة 1230هـ، ط دار الفكر العربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 ببيروت. 154 - الذخيرة للقرافي، مطبعة كلية الشريعة بالأزهر 1381هـ. (ر) 155 - رد المختار على الدر المختار، المعروف بحاشية ابن عابدين، ت 1252هـ، ط 2 مصطفى البابي الحلبي وإخوانه 1386هـ. 156 - الفتاوى الكبرى لابن تيمية، ط دار الكتب الحديثة بتعليق توفيق عفيفي للكمال بن الهمام 861هـ. 157 - فتح القدير شرح الهداية مع التكملة (نتائج الأفكار لقاضي زادة وبهامشه شرح العناية على الهداية لأكمل الدين البابرتي المتوفى سنة 786هـ، مع حاشية سعدي حلبي 945هـ على هذا الشرح ط أولى 1389 مصطفى البابي الحلبي. 158 - القوانين الفقهية، تأليف محمد بن أحمد بن جزئ الغرناطي المتوفى سنة 741هـ، ط جديدة مطبعة دار العلم بالملايين سنة 1399هـ. 159 - المبسوط، تأليف شمس الأئمة السرخسي الطبعة الأولى م السعادة بمصر 1324هـ. 160 - المحلى لابن حزم الظاهري، المتوفى سنة 456هـ، طبع بتحقيق أحمد شاكر، توزيع دار المعرفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 161 - المجموع للنووي 676هـ، شرح المهذب، لم يكمل المطبعة المنيرية القاهرة. 162 - مواهب الجليل شرح مختصر خليل، لمحمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب، وبهامشه التاج والإكليل للموافى مطبعة السعادة سنة 1328هـ. 163 - المدونة الكبرى رواية سحنون عن مالك م الاستقامة بالقاهرة سنة 1323هـ. 164 - المغني لابن قدامة المقدسي مع الشرح الكبير، مكتبة الرياض الحديثة 1400هـ. 165 - المهذب للشيرازي تأليف أبو إسحاق الشيرازي المتوفي سنة 476هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبي القاهرة. 5 - الكتب العامة 166 - الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى الحنبلي، مصطفى البابي الحلبي 1356هـ. 167 - الاستيعاب في أسماء الصحاب لابن عبد البر مطبوع بهامش الإصابة في م مصطفى محمد 1358هـ. 168 - الأصمعي عبد الملك بن قريب، حياته وآثاره، د. عبد الجبار الجومرد، ط مطابع الكشاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580