الكتاب: المصارحة في أحكام المصافحة المؤلف: عبد الناصر بن خضر ميلاد الناشر: المكتبة الرقمية في المدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- المصارحة في أحكام المصافحة عبد الناصر بن خضر ميلاد الكتاب: المصارحة في أحكام المصافحة المؤلف: عبد الناصر بن خضر ميلاد الناشر: المكتبة الرقمية في المدينة المنورة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ـ[المصارحة في أحكام المصافحة]ـ المؤلف: عبد الناصر بن خضر ميلاد الناشر: المكتبة الرقمية في المدينة المنورة عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، حمْد المُحبِّين له والطائعين لأوامره ونواهيه، الملتزِمين بآداب ومحاسن الدِّين. نحمده حمْد المُذعِنين الممتثِلين لإرشادات سيِّد النبيِّين، والمُتحلِّين بكامل أدبه المبين وشرْعه إلى يوم الدِّين. والصلاة والسلام على رسوله الأمين، سيّدنا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين. {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} 1. {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 2. وبعد. فإن ممّا يميِّز شريعة الإسلام عن غيرها من الشرائع، أنها جاءت لتُوافق فطرة الناس التي خلقهم الله عليها حسبما كانت الحكمة مِن خلْقهم؛ فكما حَوَتِ الأوامر والنواهي المقرِّرة للضوابط   1 سورة الأعراف: الآية 89. 2 سورة المؤمنون: الآيتان 97, 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 المطلوبة في المعاملات -فضلاً عن جانب العبادات -، شملت أيضاً ما يتعلق بالأخلاق والآداب، وما يُعَدّ من محاسن السلوك ومكارم الأخلاق؛ بل إننا نجِد أنّ الإسلام قد أوْلى دائرة الأخلاق والآداب ومحامد السلوك كاملَ العناية وغايةَ الرعاية، عنايَته بالعبادات ورعايته للمعاملات، باعتبار أنّ الأخلاق هي ملاك الفرد الفاضل المؤدَّب بأدب الإسلام، وهي في ذات الوقت قوام المجتمع الرّاقي. ولهذا، كان جانب الأخلاق والآداب، والقِيَم والشمائل والفضائل المرعيّة بين الناس، محلَّ اهتمام كبير في نظر الإسلام؛ فمكانةُ الأخلاق لديْه عظيمة، ومنزلته سامية، وقَدْره عالٍ مرفوعٌ. وهكذا مدح الله ـ المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1. وقال - عليه الصلاة والسلام -: "إنّما بُعثتُ لأُتمِّم مكارمَ الأخلاق" 2. والجدير بالإشارة إليه: أنّ الأخلاق والآداب هي السِّياج   1 سورة القلم: الآية 4. 2 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث أبي هريرة 10/191، والقضاعي في مسند الشهاب 2/192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 والإطار المعوَّل عليه في سلامة كافة التكاليف الشرعية الأخرى: عبادات، أو معاملات، أو غير ذلك ... فبدون تحقّق الأخلاق والالتزام بالآداب المرعيّة، لا تُؤدَّى هذه التكاليف على الوجه الأكمل، ولا تقع موقعَها اللائق بها. ومما يجب التّفطّن له: أنّ الإسلام الحنيف قد اعتمد في التعامل بين أبناء المسلمين - بعد التزامهم بالعبادات على الوجه الصحيح - على حُسن الخُلُق والتّحلِّي بمحاسن الآداب الشرعية. فقد رُوي في الحديث الصحيح: "أكملُ المؤمنين إيماناً أحْسنُهم خُلُقاً" 1. وفي هذا، يقول ابن قيِّم الجوزية: "الدِّين كلّه الخُلُق؛ فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الدِّين"2. ولهذا، كان من الضروري عدم الاستهانة بالجانب الأخلاقي بحُجّة أنّ مخالفة هذا الجانب غيرُ قادحة في كمال إيمان العبد؛ وذلك لأنّ السلوك المعتبَر إطاراً لحياة الإنسان، إذا كان قد ارتضاه ذلك الإنسان أن يكون من خلال الشريعة الإسلامية الغرّاء، فإنه مطالَب بضرورة الإتيان به على وجْه ما ترتضيه تلك الشريعة   1 أخرجه الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة 3/466، وأحمد في مسنده 2/250. 2 مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 2/307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 المحمودة بين كافّة الشرائع. ومن هذه السلوكيات الإسلامية والآداب المطلوبة: آداب التحية في الإسلام عند اللقاء وعند المفارقة، من خلال آداب المصافحة. وقد وجدْتُ المناوي يقول في كتابه "فيض القدير": " ... أي تأديباً لهم وتعليماً لمعالم الدِّيانة ورسوم الشريعة، وحثًا على لزوم ما خُصَّتْ به هذه الأمّة من هذه التحية العظمى التي هي: تحيّة أهل الجنّة في الجنة"1. فالإسلام قد حثّ على حُسن استقبال المسلم لأخيه، فرغّب في طلاقة الوجه وبشاشة صاحبه عند اللقاء، وجعل ذلك من الصَّدَقة التي يرتفع بها أجْر صاحبها؛ وذلك فيما رواه أبو زر رضي الله عنه فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تحْقِرَنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تَلْقى أخاك بوجْه طلْق" 2. وطلاقة الوجْه هي: تَهَلُّلُه بالانشراح والابتسام عند اللقاء. وقد روى جابر بن عبد الله3 رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ مَعروفٍ   1 فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 5/160. 2 أخرجه مسلم في صحيحه 4/2026. 3 جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، الخزرجي الأنصاري السّلمي: صحابي من المكثرين في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه جماعة من الصحابة. له ولأبيه صحبة. من أهل بيعة الرضوان، وكانت له في أواخر أيامه حلقة في المسجد النبوي، يؤخذ عنه العلْم. توفي سنة 78هـ. راجع: الأعلام للزركلي 2/104، سير أعلام النبلاء للذهبي 3/189-192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 صَدَقة. وإنّ مِن المعروف أن تَلْقَى أخاك ووجْهُك إليه مُنبَسط" 1. ولهذا، كانت المصافحة مع البشاشة وطلاقةِ الوجه خيرَ دليل على الودّ والصّفاء والمحبة. فإلقاء السلام إيذانٌ بالأمان قولاً، والمصافحة مع البشر توكيدٌ لهذا الأمان. وفي هذا يقول فضل الله الجيلاني: " ... واعلمْ: أنّ التّصافح عند الملاقاة للتّأنيس، وتوكيد للتسليم القولي؛ فإنّ التسليم إيذان بالأمن قولاً، والتصافح نحو بيْعةٍ وتلقينٌ على ذلك، وتوكيد لما تلفّظاه بالتسليم، ليكون كلٌّ من المتلاقِيَيْن على أمْن من صاحبه"2. فالمصافحة من تمام التحية؛ فقد روي ابن مسعود رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تمام التحية: الأخْذُ باليد" 3، كما روي   1 أخرجه الترمذي في جامعه 4/347 وقال: "حديث حسن". 2 فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للجيلاني 3/174. 3 أخرجه الترمذي في جامعه 5/75 وقال: "هذا حديث حسن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 عنه قوله: "وتمامُ تحيّتِكُم بينكُم: المصافحة" 1. ولما كان الاختلاف بشأن بعض أحكام المصافحة، وذلك من حيث وصْفها بالحكم الشرعي المناسب، فضلاً عن الخلاف بشأن المصافحة عقِب الصلوات، ومصافحة المرأة الأجنبية وما تعلّق بذلك من خلافهم في مدَى تأثير تلك المصافحة على الوضوء بالنقض من عدمه, فضلاً عن المصافحة عند اللقاء وعند المفارقة، ومصافحة الأمرد والمريض ومَن به عاهة، ومصافحة الجُنُب، ومصافحة غير المسلم، ونحو ذلك من الأحكام المتعلِّقة بالمصافحة. لما كان الشأن هذا، استخرتُ الله سبحانه وعزمت على الكتابة في هذا الموضوع الذي أسميتُه: المصارحة في أحكام المصافحة، معتمداً على الله تعالى، سائلاً العون والمدد بكلّ ما من شأنه أن يوفِّقني الله سبحانه لإتمامه على الوجه المظهر لحكم الشرع فيه، وعلى هدْي مَن سبقني ممن وفّقهم الله في هذا السبيل.   1 أخرجه أحمد في مسنده 5/259، والترمذي 5/75، والروياني في مسنده 2/290، والبيهقي في شعب الإيمان 6/472 من حديث أبي أمامة الباهلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وقد اشتمل البحث على مباحث تسعة على النحو الآتي: المبحث الأول: التعريف بالمصافحة. المبحث الثاني: مصافحة المرأة الأجنبية. المبحث الثالث: مدى تأثير مصافحة المرأة على الوضوء. المبحث الرابع: المصافحة عقب الصلاة. المبحث الخامس: المصافحة عند المفارقة. المبحث السادس: مصافحة الجُنُب. المبحث السابع: مصافحة المريض ومَن به عاهة. المبحث الثامن: مصافحة الأمرد. المبحث التاسع: مصافحة غير المسلم. والله سبحانه أسأل: أن يوفِّقني لإخراجه على الوجه اللائق - فمنه سبحانه العون -, وأن يرفع عنِّي الزلات والعثرات، وأن يكون هذا العمل في سجلّ حسناتي يوم العرض على الله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 المبحث الأول: التعريف بالمصافحة مدخل إنّ من المسلَّمات بديهياً: أنه يتحتّم على من يريد استبيان حُكم المصافحة في الشريعة الإسلامية: بيانُ الحدود المرعية لهذا الفعل بالكشف أوّلاً عن حقيقته بتوضيحه والتعريف به، كي يكون على بيِّنة من أمره وهو يطوف به في جنبات الشريعة الغرّاء. ولهذا كان من الملائم هنا إلقاءُ الضوء على المصافحة كمظهر من مظاهر الآداب الإسلامية، وذلك بتعريفها وتوضيح كيفيّتها وآدابها وحكمها وحِكمة مشروعيّتها، مع بيان أوّل من حدَثت منه المصافحة والمعانقة، وهو خليل الله إبراهيم عليه السلام. وهذا ما أتناوله في المطالب الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 المطلب الأول: تعريف المصافحة وكيفيتها المصافحة: إلصاق صفحة الكفِّ بالكف، مع إقبال الوجه بالوجه؛ ولهذا كانت المصافحة الأخذ باليد، والتصافح مثْله. فهي مفاعلة من الصفحة، والمراد بها: الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد. وهي بضمّ الميم وفتْح الفاء، مصدر "صافح" مِن وضْع يد شخص في يد شخص آخر1. تقول: صافحْتُه مُصافَحةً أي: أفضَيْتُ بيدي إلى يده2. اصطلاحاً: وضْع كفٍّ على كفّ، مع ملازمة لهما قَدْر ما يَفرغ من السلام ومن سؤال عن غرض3. وعلى هذا، يكون الترابط قائماً بين المعنى الاصطلاحي للمصافحة مع الإطلاق اللغوي بشأنها. هذا، وإن للمصافحة كيفيّتها وآدابها الشرعية. فالأصل فيها: أن تكون باليد الواحدة من كلٍّ من المتصافحيْن. فقد وردت الأحاديث والآثار الموضحة لكيفية وآداب المصافحة بما يفيد أنّ المصافحة بحسب الأصل فيها تكون باليد الواحدة؛ فقد جاء في   1 كشاف اصطلاحات الفنون لمحمد علي التهانوي، تحقيق د/ لطفي عبد البديع 4/214. 2 راجع: لسان العرب لابن منظور 7 / 356، المصباح المنير صفحة 342. 3 راجع: الفتوحات الربانية لمحمد بن علان الصديقي 5 /392. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 حديث أنس رضي الله عنه: "فأخَذ أحدُهما بيدِ صاحبِه" 1، وفي حديث بريدة بن الحصيب: "فأخَذ بيدِه" 2 كما أنّ هذه الكيفية هي المتمشِّية مع الإطلاق اللغوي للمصافحة. وعلى هذا، فالسُّنّة: أن تكون المصافحة بيدٍ واحدة، غير أنّ الإمام البخاري يرى أنّ المصافحة تكون باليديْن، وذلك على نحو ما سلكه في صحيحه حيث وجدْناه يُبوِّب فيه باباً بعنوان "باب الأخذ باليد. وصافح حماد بن زيد3 ابن المبارك4 بيدَيْه"5.   1 أخرجه أحمد في مسنده 3/142. 2 أخرجه أحمد في مسنده 5/349. 3 هو حماد بن زيد بن درهم، الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل، مولى آل جرير: شيخ العراق في عصره. يُعرف بالأزرق. كان مولده سنة 98هـ، ووفاته سنة 179هـ في البصرة. كان ضريراً، طرأ عليه العمى، يحفظ أربعة آلاف حديث. راجع: الأعلام للزركلي 2/271. 4 عبد الله بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم، التركي ثم المروزي. قال عنه الذهبي: "الإمام شيخ الإسلام، عالِم زمانه وأمير الأتقياء في وقته". مولده كان في سنة ثماني عشرة ومائة، ووفاته كانت في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة، بهيت. راجع: سير أعلام النبلاء لمحمد بن أحمد الذهبي 8/378. 5 راجع: صحيح البخاري 5/2311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وقد دعّم البخاري ما قنَّنه وأخذ مذهباً له بما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه بشأن التشهد ما نصّه: "علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفِّي بين كفّيْه التشهّدَ كما يعلِّمُني السورة من القرآن: "التحيات لله، والصلوات والطّيِّبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله ... "" 1. فقوله: "وكفِّى بيْن كفّيْه" يفيد: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان آخذاً بيدَي ابن مسعود، وإن كانت رواية هذا الحديث قد اكتفت بذكْر يدِ ابن مسعود الواحدة. فإنّ المستفاد: أنه لم يكن يصافح النبي صلى الله عليه وسلم بيدٍ واحدة، لأنه لا يقبل أن يصافحه النبي بكلتا يديْه وهو يصافحه بواحدة؛ فالمستبعَد مِن مثْله أن يبسط يداً واحدة في حين أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد بسط له اليديْن2. ونوقش هذا: بأن الوارد في حديث ابن مسعود غير مفيد في   1 راجع: صحيح البخاري، كتاب الاستئذان 5/2311. 2 راجع: فيض الباري على صحيح البخاري لمحمد أنور الكشميري 4 / 411، وفضل الله الصمد في توضيح الأدب للجيلاني 3 /174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الاستدلال هنا على المصافحة باليديْن عند التسليم, لأنّ الذي حدث من ابن مسعود بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم, وما كان على هذا الحال كان بغرض التعليم، وما نحن فيه خلافُه1. غير أنه إذا كان العرف السائد والمستقرّ في أحد الأماكن يسير على المصافحة باليديْن، فلا بأس في اتّباعه خاصة وأنّ في هذا كبير مودّة، لاسيما وأن المصافحة ترتبط بأخلاقيات وآداب الإسلام العامة بما تُحدثه من إشاعة روح المودّة والصفاء والتراحم والتآخي بين المسلمين، وذلك على نحو ما أورده الإمام البخاري من أثر حمّاد وابن المبارك2. فالتصافح في الأصل باليد الواحدة، وإن كان باليديْن ففيه زيادة تأكيد المودّة والبهجة والسرور والبشر بلقاء صاحبه المسلم؛ وهذا إن كان على وجْه التبادل كان أثره عظيماً فيما بين الناس. وكيفية المصافحة على هذا النحو هي: أن يَتمّ التصافح أوّلاً باليد الواحدة، ثم يشدّ على يد المصافح بيده الأخرى.   1 راجع: تحفة الأحوذي للمباركفوري 7/477. 2 راجع: المرجع السابق، نفس الموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وهذا كله بمراعاة أنه إذا كان المقصود بالمصافحة باليديْن إلصاق صفح كف اليمنى بصفح كف اليمنى من المصافح، وإلصاق صفح كفّ اليسرى بصفح كفّ اليسرى - يعني: بالعكس في الهيئة بين المتصافحيْن، على صورة المقراض، يعني المقصّ -, فهذا لا يصحّ لأنه على هذه الحالة يكون هناك مصافحتان، ونحن مأمورون بمصافحة واحدة لا بمصافحتيْن، فضلاً عن أنّ هذا لا يتحقّق معه الغرض من المصافحة عند اللقاء. ومن الجدير بالتنبيه عليه هنا أيضاً: أنه يُستحبّ ألا يَنزع المصافِح يدَه من يد صاحبه حتى ينزع هو - يعني: المصافَح -. ودليل ذلك: ما رواه أنس بن مالك1 رضي الله عنه "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لقيَه أحد من الصحابة فقام معه، قام معه - يعني: واقفاً - فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه. وإذا لقيَه أحد من   1 أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام، أبو حمزة الأنصاري. كان مولده بالمدينة في السنة العاشرة قبل الهجرة، وأسلم صغيراً، وخدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قُبض. ثم رحل إلى دمشق، ومنها إلى البصرة. ومات بها سنة 93هـ. وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة. راجع: الأعلام للزركلي 2/24، والإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني 1/126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أصحابه فتناول يدَه ناوله إيّاها، فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي يَنزع يده منه. وإذا لقيَ أحداً من أصحابه فتناول أذنه –يعني: أحبّ أن يُسِرّ إليه– ناوله إياها، ثم لم يَنزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه"1. وفي لفظ ابن ماجه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل فكلمه لم يصرف وجهه عنه حتى يكون هو الذي ينصرف وإذا صافحه لن ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزعها ولم ير متقدما بركبتيه جليسًا قط".   1 أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 1/378، وابن الجعد في مسنده صفحة 994، وابن ماجة في سننه 2/1224، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2/168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المطلب الثاني: حُكم المُصافحة المصافحة من الرجل للرجل وكذا من المرأة للمرأة: سُنّة، ويُندب إليها عند التلاقي؛ وقد أجمع على هذا كافّة الفقهاء في جميع الأعصار والأمصار. وجاء في "الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار ص": "اعلَمْ أنّها سُنّة مُجمَع عليها عند التلاقي"1. وقال المناوي: "فإنّ المصافحة سُنّة مؤكّدة "2. وقد أوضحتْ كثير من الأدلة مشروعيَّتها واستحبابها؛ فقد وردت السُّنّة النبوية المطهّرة والآثار الواردة عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم, فضلاً عن إجماع الأئمة - رحمهم الله -, بما يفيد تلك المشروعية على وجْه السُّنّة والاستحباب. فمن السُّنّة المطهّرة:   1 راجع: محيي الدين النووي صفحة 239. 2 فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 1 - ما رواه البراء بن عازب1 رضي الله عنه قال: "ما مِن مُسلمَيْن يلْتقِيان فيتصافحان، إلاّ غُفر لهما قبل أن يتفرّقا" 2. 2 - ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "قال رجل: يا رسول الله، الرجل منّا يلْقَى أخاه أو صديقه، أيَنْحَني له؟ - يعني: يُميل الرأس والظهر تعظيماً وتواضعاً -, فقال: "لا". قال: فيَلتزمه ويُقبِّله؟ قال: "لا". قال: فيأخذ بِيدِه ويُصافحُه؟ قال: "نعم" 3. 3 - ما رواه سلمان الفارسي4 رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:   1 البراء بن عازب بن الحارث، الخزرجي. يُكنى: أبو عمارة. قائد صحابي من أصحاب الفتوح. أسلم صغيراً وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة، أوّلُها غزوة الخندق. وشهد مع علي رضي الله عنه الجمل وصفِّين. وتوفي في إمارة مصعب بن الزبير سنة 71هـ. راجع: الأعلام للزركلي 2/46. 2 راجع المسند 4/289، وسنن أبي داوود 4/354، وجامع الترمذي 5/74. 3 راجع: الترمذي 5/75، وقال: "حديث حسن". 4 سلمان الفارسي: صحابي من مقدَّميهم، كان يُسمِّي نفسه: سلمان الإسلام. أصله من رامهرمز، وقيل: من أصبهان. قصد بلاد العرب فلقيَه ركب من بني كلب فاستخدموه، ثم استعبدوه وباعوه. فاشتراه رجل من قريظة، فجاء به إلى المدينة. وعلِم سلمان بخبر الإسلام، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم بقباء وسمع كلامه، ولازمه أياماً. أعانه المسلمون على شراء نفسه من صاحبه، فأظهر. إسلامه. وكان قوي الجسم، صحيح الرأي. وهو الذي دل المسلمين على حفر الخندق في غزوة الأحزاب حتى اختلف عليه المهاجرون والأنصار كلاهما يقول: "سلمان منّا"، فقال صلى الله عليه وسلم: "سلمان منّا، أهل البيت". جُعل أميرا على المدائن، فأقام فيها إلى أن توفي سنة 36هـ. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني 3/141، الأعلام للزركلي 3/11-112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 "إنّ المسلمَ إذا لقِيَ أخاه المسلم فأخذ بيده، تَحاتّتْ عنهما ذنوبُهما كما تَتحاتّ 1 الورقة في الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلاّ غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثْلَ زبَد البحر" 2. 4 - ما رواه البراء أيضاً أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيّما مسلميْن يلتقيان، فأخذ أحدُهما بيدِ صاحبِه فتصافحَا، وحمِدا الله تعالى جميعاً، تفرّقا وليس بينهما خطيئة" 3. 5 - كما روى أيضاً قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: "ما مِن مسلمَيْن يلتقيان، فيُسلِّم أحدُهما على صاحبه، ويأخذُ بيَدِه لا يأخذه إلا لله لا يتفرّقان حتى يغفر لهما" 4.   1 تحاتّتْ: تساقطت. راجع: المصباح المنير للفيومي1/120. 2 راجع: الطبراني في الكبير 6/256. 3 أخرجه أحمد 4/289، وأبو داوود 4/354، وابن ماجة 2/1220، وصححه الألباني. 4 حديث حسن أخرجه الإمام أحمد في المسند 14/218 وصححه الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ومن الآثار: 1 - ما رواه كعب بن مالك1 رضي الله عنه قال: "دخلت المسجد، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم, فقام إليّ طلحة بن عبيد الله2 يهرول حتى صافحني وهنّأني"3. 2 - ما رواه البخاري عن قتادة4 رضي الله عنه قال: قلت لأنس: "كانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم"5.   1 كعب بن مالك بن عمرو، أبو عبد الله الأنصاري السّلمي، من أكابر الشعراء من أهل المدينة. اشتهر في الجاهلية، وكان في الإسلام من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد أكثر الوقائع. ولما قُتل عثمان، قعد عن نصرة علي فلم يشهد حروبه. وعمي في آخر عمره. وقيل: مات بالشام في خلافة معاوية سنة 50هـ. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة 5/610، والأعلام للزكلي 5/228. 2 طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي القرشي المدني، أحد العشرة المبشّرين، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام. شهد أُحُداً، وثبت مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وبايعه على الموت، فأصيب بأربعة وعشرين جرحاً. شهد الخندق وسائر المشاهد. قُتل يوم الجمل وهو بجانب عائشة، ودُفن بالبصرة سنة 36هـ. راجع: الأعلام للزركلي 3/229. 3 أخرجه البخاري 4/1607، ومسلم 4/2126. 4 قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز، أبو الخطاب السدوسي البصري، مفسِّر حافظ، ضرير أكمه. مات بواسط سنة 118هـ. راجع: الأعلام للزركلي 5/189. 5 رواه البخاري 5/2311، والترمذي 5/75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 هذا فضلاً عن الإجماع: فقد أجمع الفقهاء وأئمة المذاهب على مشروعية المصافحة، وأنّها سُنّة؛ وفي هذا يقول الإمام النووي عن المصافحة: "اعلَمْ أنّها سُنّة مُجمَع عليها عند التلاقي"1. وقال ابن بطال: " ... المصافحة حَسنة عند عامّة العلماء، وقد استحبّها مالك"2. وجاء في "فتح الباري" قولُ ابن حجر: "قال ابن عبد البر3: روى ابن وهب4 عن مالك: أنّه كرِه المصافحةَ والمعانقة؛ وذهب   1 راجع: الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار صفحة 239، والمجموع 4/475. 2 راجع: فتح الباري 11/57. 3 هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم، أبو عمر النمري الأندلسي. وُلد بقرطبة عام 368هـ، ورحل رحلات طويلة في غربي الأندلس وشرقيها. ولي قضاء لشبونة وشنترين. له مصنّفات كثيرة منها: "التمهيد" و"الاستذكار". توفي بمدينة شاطبة شرق الأندلس عام 463هـ. راجع: سير أعلام النبلاء 11/359-364، الديباج المذهّب 2/367-370، والأعلام 8/240. 4 عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري بالولاء المصري، أبو محمد. من أصحاب الإمام مالك. كان حافظاً ثقة مجتهداً. عُرض عليه القضاء فخبأ نفسه ولزم منزله. توفي بمصر سنة 197هـ. راجع: الأعلام للزركلي 4/144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 إلى هذا سحنون1 وجماعة. وقد جاء عن مالك2 جوازُ المصافحة؛ وهو الذي يدلّ عليه صنيعُه في "الموطإ". وعلى جوازه جماعة العلماء سلفاً وخلَفاً"3. هذا، وأوّل مَن صافح وعانق: خليلُ الله سيدُنا إبراهيم عليه السلام, وذلك عندما اجتمع بالإسكندر الأكبر بالحرم المكي الشريف؛ فقد صافحه خليل الرحمن وعانقه وقبّله بين عيْنيْه قبل المفارقة، وأعطاه الراية وأهداه للخير، وعمَّمَهُ. وتشرّع الإسكندر بشريعته ودخل معه في ملّته4.   1 محمد بن عبد السلام سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي. فقيه مالكي مُناظر، كثير التصانيف، من أهل القيروان. رحل إلى المشرق سنة 235هـ، وتوفي بالساحل، ونقل إلى القيروان فدفن فيها سنة 256هـ. راجع: الأعلام للزركلي 6/204-205، الديباج المذهب لابن فرحون 2/169. 2 مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري، أبو عبد الله. إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه تُنسب المالكية. كان صلباً في دينه، بعيداً عن الأمراء والملوك. مولده بالمدينة، وتوفي بها سنة 179هـ. راجع: الأعلام للزركلي 5/257. 3 راجع: أحمد بن حجر العسقلاني 11/58. 4 غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب للشيخ محمد السفاريني 1 /328 -329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ومن الجدير بالتنبيه عليه هنا: أنّ أوّل من حيَّا المسلمين بالمصافحة هم أهل اليمن؛ وفي هذا يروي أنس بن مالك رضي الله عنه قوله: لما جاء أهل اليمن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد جاءكم أهلُ اليمن؛ وهُم أوّلُ من جاء بالمصافحة" 1. وفي رواية أخرى: "قد أقبل أهلُ اليمن؛ وهُم أرقُّ قلوباً منكم". قال أنس: "وهُم أوّل من جاء بالمصافحة" 2. والمراد من مجيئهم بالمصافحة: إظهارُهم لها في الإسلام. وقد روى الإمام أحمد عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَقْدَمُ عليكم غداً أقوامٌ هم أرقُّ قلوباً للإسلام منكم"، فقدِم الأشعريّون، فيهم أبو موسى الأشعري3. فلما دنَوْا من المدينة   1 أخرجه أبو داود في باب المصافحة رقم 4/354، والإمام أحمد في المسند 3/212. 2 الحديث: أخرجه البخاري في الأدب المفرد صفحة 336، والإمام أحمد في المسند رقم 3/251. 3 عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب، أبو موسى، من بني الأشعر من قحطان، صحابي من الشجعان الولاة الفاتحين. وُلد في زبيد باليمن عام 21 قبل الهجرة، وقدم مكة عند ظهور الإسلام، فأسلم وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على زبيد وعدن. وولاه عمر بن الخطاب البصرة سنة 17هـ، فافتتح أصبهان والأهواز. ولما ولي عثمان أقرّه عليها ثم عزله، فانتقل إلى الكوفة ومات بها عام 44هـ. راجع: سير أعلام النبلاء 2/380، والأعلام 4/114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 جعلوا يرتجزون يقولون: "غداً نلقى الأحبّة: محمداً وحزبَه". فلما أن قدموا تصافحوا؛ فكانوا أوّل مَن أحدث المصافحة"1 أي: أظهروها في الإسلام.   1 أخرجه أحمد في مسنده 3/155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 المطلب الثالث: حكمة مشروعية المصافحة المقرّر لدى عامّة المسلمين: أنّ الإسلام قد حرص على إشاعة روح الصفاء والإخاء بين الأفراد، بما يُحقِّق لهم كلَّ ما من شأنه إحداث الودّ والسعادة في الدنيا ليعود هذا على دينهم حباً وتنمية لكلِّ ما يقرِّب إلى الله سبحانه، فيسعدوا في الدارين؛ ولهذا فقد شرع الله ـ فضيلة إفشاء السلام بين المؤمنين، وجعل هذا الصنيع علامة على الحب في الله ولله سبحانه، ورتّب على هذا بعد تحقّق الإيمان دخولَ الجنة. فقد ورد من رواية الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن سلام1 رضي الله عنه قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس، أفْشوا السّلام، وأطعِموا الطعام، وصَلُّوا باللّيل والناسُ نيام، تَدخلوا الجنة بسلام" 2.   1 عبد الله بن سلام بن الحارث، قيل: إنه من نسل يوسف بن يعقوب. أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. شهد مع عمر فتح بيت المقدس، وأقام بالمدينة المنورة إلى أن مات بها عام 43هـ. راجع: الأعلام للزركلي 4/ 90. 2 أخرجه الترمذي 4/652، وأحمد 5/451، وابن ماجة 1/423. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 كما روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا. أوَلا أدُلُّكم على شيء إذا فعلْتموه تحاببْتم؟ أَفْشوا السّلام بينكم" 1. هذا فضلاً عن أنّ الإسلام قد حثّ أيضاً على حُسن استقبال المسلم لأخيه، فرغّب في طلاقة الوجه وبشاشة صاحبه عند اللقاء، وجعل ذلك صَدَقة يرتفع بها أجر صاحبها. فقد روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحقرَنّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلْقَى آخاك بوجْهٍ طلْق" 2. وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ معروف صدقة. وإنّ من المعروف: أن تلقى أخاك بوجه طلق وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك" 3. والمعروف أنّ طلاقة الوجه هي: تهلُّله بالانشراح والابتسام عند اللقاء4.   1 أخرجه مسلم 1/74، وأحمد في مسنده 2/391. 2 أخرجه مسلم 4/2026 والإمام أحمد في مسنده 5/173. 3 حديث حسن أخرجه الترمذي في البر والصلة رقم 4/347، وأحمد في مسنده 3/360. 4 دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين لمحمد بن علاء الصديقي 3 /164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وفي هذا يقول الشيخ شمس الدين البديري1: بشاشةُ وجْهِ المرْءِ خيرٌ من القِرى2 ... فكيف بمَن يأتِي به وهو ضاحِكُ3 وعلى هذا، كانت المصافحة مع البشاشة وطلاقة الوجه خيرَ دليل على الودّ والصفاء والمحبة بين المتصافحين؛ وهذا من أوجُه حُسن الإسلام وقوّة الإيمان بالله. فإلقاء السلام إيذانٌ بالأمان قولاً، والمصافحة مع البِشْر توكيد لهذا الأمان. ولذا كانت المصافحة من تمام التحية؛ فمِمّا رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود قولُه: "مِن تمام التحية: الأخْذُ باليد" 4. وفي   1 شمس الدين البديري هو: محمد بن محمد شمس الدين أبو حامد البديري الحسيني الشافعي الدمياطي، من علماء مصر توفي سنة 1140هـ. راجع: عجائب الآثار لعبد الرحمن الجبرتي 1/139. 2 قريت الضيف أقرِيهِ، وقِرى الضيف: قصْعَة أو جفنة أو عُسّ، وهو ما يُقدّم إلى الضيف. راجع لسان العرب لابن منظور 15/174، والمصباح المنير للفيومي 2/501، والمعجم الوسيط لإبراهيم حسن الزيات صفحة 732. 3 راجع: المستطرف في كل فن مستظرف لمحمد بن أحمد الأبشيهي صفحة 856. 4 راجع: جامع الترمذي 5/75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 حديث ابن ماجه: "وتمام تحيّتِكم بينكم: المصافحة" 1. هذا، ويُستحبّ تقديم السلام على المصافحة؛ فيسلِّم المسلم على أخيه أوّلاً عند اللقاء، ثم يُصافحه. فقد روى جندب رضي الله عنه "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لَقِيَ أصحابه لم يصافحْهم حتى يُسلِّم عليهم"2. كما يُستحب عند المصافحة كذلك: حمْدُ الله تعالى, فيقول: "يغفر الله لنا ولكم"؛ وذلك فيما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا التقى المسلمان فتصافحا، وحمِدا الله واستغفراه، غفر لهما" 3، وفي رواية أخرى ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيّما مسلمَيْن التقَيا، فأخذ أحدُهما بِيد صاحبه فتصافحا، وحمِدَا الله تعالى جميعاً، تفرّقا وليس بينهما خطيئة" 4.   1 أخرجه أحمد في مسنده 5/259، والترمذي 5/75، والروياني في مسنده 2/290، والبيهقي في شعب الإيمان 6/472 من حديث أبي أمامة الباهلي. 2 أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 2/176. راجع: مجمع الزوائد 8/36، وفيض القدير 5/160. 3 أخرجه أبو دواود 4/354، وأبو يعلى في مسنده 3/234. 4 أخرجه أحمد 4/289، وأبو داوود 4/354، وابن ماجة 2/1220 من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وصححه الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ويستحب أيضاً: الدعاء عند المصافحة والمفارقة؛ فقد ثبت في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لقِيَه الرّجل من أصحابه مسَحه –يعني: صافحه - ودعا له"1. وهكذا روى أنس قال: "ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَد رجل ففارقه حتى قال: "اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" 2. هذا، فضلاً عن أنه يُستحبّ كذلك: ألاّ يَنزع المصافحُ يدَه من يد المصافح له حتى يَنزع هو؛ وذلك على نحو ما استبان لنا عند الحديث عن كيفيّة المصافحة.   1 أخرجه ابن حبان في صحيحه 4/68. 2 راجع: عون المعبود لشمس الحق العظيم آبادي 14/81، والأذكار المنتخبة للنووي صفحة 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 المبحث الثاني: مصافحة المرأة الأجنبية مدخل إنّ ما يثير النقاش بين المسلمين عامّة: مصافحة المرأة الأجنبيّة، وهي: كلّ امرأة ليست بزوْج ولا مَحرم للشخص. والرجل الأجنبيّ هو: كلّ رجل ليس بزوْج ولا مَحرم للمرأة1. فالأجنبيّ هو: الغريب. يقال: رجل جانِبٌ وأجنبيّ وجُنُب: غريب. والجمع: أجْناب وأجَانب. والجَنيب: الغريب. والجنابة: ضد القرابة.وجنّب الشيء، وتجنّبه فجانب، واجتنبه: بعد عنه2. والرجل يكون أجنبياً عن المرأة إذا حلّ له نكاحُها. فإن حرم عليه نكاحُها فهو مَحرم لها وهي مِن مَحارمه. والمَحْرم من النساء هي: كلّ امرأة حرم نكاحها على التأبيد. وجاء في "المغْني": " ... وذوات مَحارمِه: كلّ مَن حرم عليه نكاحُها على التأبيد، بنَسَبٍ أو رضاعٍ أو تحريم المصاهرة بسبب مباح"3. وجاء في "صحيح"   1 راجع: معجم لغة الفقهاء لمحمد رواس قلعه جي صفحة 44. 2 راجع: لسان العرب لابن منظور 1 /207. 3 ابن قدامة 7/456. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 مسلم بشرح النووي: "واعلَمْ: أنّ حقيقة المحْرم من النساء التي يجوز النظر إليها، والخلوة بها، والمسافرة بها: كلّ مَن حرم نكاحُها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها. فقولنا: "على التأبيد" احترازاً من أخت المرأة وعمّتها وخالتها ونحوهنّ. وقولنا: "بسبب مباح" احترازاً من أمِّ الموطوءة بشُبهة وبنتها؛ فإنهما تحرمان على التأبيد وليستا مَحرميْن لأنّ وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة لأنه ليس بفعل مكلّف. وقولنا: "لحرمتها" احترازاً من الملاعنة؛ فإنها محرّمة على التأبيد بسبب مباح، وليست مَحرماً لأنّ تحريمهما ليس لحرمتهما بل عقوبة وتغليظاً. والله أعلم "1. فالمحرَّمات على التأبيد هنّ: اللّاتي يجوز الخلوة بهنّ، والنظر إليهنّ، والسفر بهنّ، ومصافحتُهنّ إذا أُمنت الشهوة. هذا، وحتى نتمكّن من إلقاء الضوء على حُكم الشرع بشأن مصافحة المرأة الأجنبية، يلزمنا النظر في المحرّمات من النساء، ووجوه ذلك التحريم عدّاً ووضْعاً لِنَصِل إلى تحقيق القول من أصل المسألة وهو: بيان حُكم الشرع بشأن المصافحة. وبطبيعة   1 راجع: محيي الدين يحيى بن شرف النووي 5/118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الحال، فإن استيفاء الموضوع لا يتمّ إلا باستكمال ما من شأنه معتبَراً من لوازمه وثمرته وهو: مدى تأثير مصافحة المرأة على الوضوء. والله نسأله التوفيق؛ فمِنه العون، وهو الميَسِّر للأمور ومهمّاتها لكي نصل إلى الهدف المنشود من خلال النظر في المطالب الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المطلب الأول: بيان المحرّمات من النساء تحريم النساء يتّخذ عِدّة صوَر هي أسباب له، لأنه قد يكون بسبب النسب، وقد يكون بسبب الرضاع، كما أنه قد يكون بسبب المصاهرة. وفي الفروع الآتية، نستوضح هذا بما يناسب ظروف البحث. الفرع الأول: المحَرَّمات بالنسب ما حرم من النساء بسبب النّسب سبْعٌ هنّ: 1 - الأمّهات: وهنّ كلّ مَن انتسب إليهنّ بولادة، سواء وقع عليها اسم "الأمّ" حقيقة -وهي: التي ولدَتْك - أم مجازاً - وهي: التي ولدَت مَن وَلَدَك وإنْ عَلَتْ، كالجَدّات: أمّ الأمّ، وأمّ الأب وإنْ عَلَوْن - بصرف النظر عن كونهنّ وارثات مِن عدَمه، وذلك لقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 1.   1 سورة النساء: الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 2 - البنات: وهنّ كلّ أنثى انتسبَتْ إليك بولادتك، كالبنت الصّلبيّة، وبنات البنين والبنات وإنْ نزَلْن، وارثات أو غير وارثات؛ فكلّهن بنات محرّمات، لقوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} 1. 3 - الأخَوات: وهذا يشمل ما يُطلق عليه اسم: "أُخت"، سواء كانت الأخت من الأبويْن، أمْ كانت من الأب، أمْ من الأمّ؛ أي: من الجهات الثلاث، وذلك لقوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} 2. 4 - العَمّات: وهنّ أخواتُ الأب مُطلقاً، يعني: سواء كانت العمّة من الأبويْن – أي: شقيقة للأب -, أمْ كانت مِن الأب، أمْ مِن الأمّ. ويَأخذ نفسَ الحُكم هنا أخواتُ الجدّات قريباً كان الجَدّ أمْ بعيداً، وسواء كان وارثاً أم لا، لقوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ} 3. 5 - الخالات: وهنّ أخوات الأمِّ من الجهات الثلاث، يعني: سواء كان ذلك من جهة الأب والأمّ، أمْ من جهة الأب فقط، أمْ من جهة الأمِّ. وكذا أخوات الجَدّات وإنْ عَلَوْن؛ فكلّ جَدَّةٍ أمٌّ، وكلّ أُخت لِجَدّة خالة محرّمة، لقوله تعالى: {وَخَالاَتُكُمْ} 4.   1 سورة النساء: الآية 23. 2 راجع: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 5/300. 3 سورة النساء: الآية 23. 4 سورة النساء: الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 6 - بناتُ الأخ: وهنّ كلّ امرأة انتسبَتْ إلى أخيك بولادة مِن أيّ جهة كان ذلك الأخ، يعني: سواء من الأبويْن، أمْ مِن الأبِ، أمْ مِن الأمِّ؛ فهي بنت أخ مُحرّمة، لقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ} 1. 7 - بناتُ الأخْت: مِن أيّ جهة كانت تلك الأخت؛ وذلك لقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأُخْتِ} 2. الفرع الثاني: المحرَّمات بالرّضاع وهنّ بمِثْل المحرَّمات من النسب؛ فكلّ امرأة حرمتْ من النّسب حرم مثْلُها من الرضاع بنفس الدرجة. وهنّ: الأمّهات، والبنات، والأخوات، والعمّات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت، على نحو ما ورد بِبيان المحرّمات من النسب بالمستويات السبعة؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنه: "وإنه يَحْرُمُ من الرّضاعة ما يَحْرُم من النّسب" 3.   1 سورة النساء: الآية 23. 2 سورة النساء: الآية 23. 3 أخرجه البخاري 2/935، ومسلم 2/1071 واللفظ لمسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولم يتناول القرآن الكريم سوى اثنتيْن فقط من هؤلاء السّبْع، وهنّ: الأمّهات والأخوات من الرضاعة؛ فقد قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 1. غير أنه لما كانت الأمُّ أصْلاً والأختُ فرعاً، ففي هذا: التنبيهُ على جميع الأصول والفروع من الرضاعة. فقد ذكر الله سبحانه صورةً واحدة مِن كلِّ قسْم تنْبِيهاً بها على الباقي. فذكَر من قسم قرابة الولادة: الأمّهات، ومن قسم قرابة الإخوة: الأخوات2. الفرع الثالث: المحرَّمات بالمصاهرة المحرّمات بالمصاهرة أربعة مستويات، وذلك على النحو الآتي: 1 - زوجة الأب: فتحرُم على الرجل امرأةُ أبيه من الرضاع، مثْله في هذا مثْل النسب، سواء كان الأب قريباً أم بعيداً، وارثاً كان أمْ غير وارث. ودليل ذلك قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا   1 سورة النساء: الآية 23. 2 راجع: تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد السايس 1 /70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 مَا قَدْ سَلَفَ} 1، وما رُوي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: "بينما أنا أطوف على إبل لي ضلّت، إذ أقبل ركْب أو فوارس معهم لواء. فجعل الأعراب يُطيفون بي لمنزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتَوْا قُبّة، فاستخرجوا منها رجلاً فضربوا عُنقه. فسألْتُ عنه فذكروا أنه أعْرس بامرأة أبيه". وفي رواية قال: "لقِيتُ خالي - وفي رواية: عمِّي– ومعه الراية، فقلت: أين تريد؟ قال: أرسلني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوّج امرأةَ أبيه مِن بَعْده أن أضرب عُنقه أو أقْتله، وآخُذ مالَه"2. ويستوي في الحُكم امرأةُ أبيه، وامرأة جَدِّه لأبيه أو لِأُمِّه، قرُب أمْ بَعُد. وكذلك يَحرم على الرجل مَن وطِئَها أبُوه بملْك اليمين أو شبهة3. 2 - أمّ الزوجة: وهذا التحريم يتمّ بمجرّد العقد، أي: العقْد على البنت يُحرِّم بذاته الأمّ سواء حصل دخولٌ أمْ لا. فمَن تزوّج امرأة، حرم عليه كلّ أمٍّ لها قريبة أو بعيدة، سواء كانت الأمّ مِن نَسَبٍ أم   1 سورة النساء: الآية 22. 2 أخرجه أبو داوود 4/157، والنسائي في السنن الكبرى 3/308، وابن ماجة 2/869، وأحمد 2/27. 3 راجع: المغني لابن قدامة 9 /518. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 رضاع؛ وذلك لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} 1. وبالعقْد على البنت، تدخل في نسائه؛ فتدخل أمّها في عموم الآية2. وقد روى عمرو بن شعيب3 عن أبيه عن جَدِّه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن تزوّج امرأة فطلّقها قبل أن يَدخل بها، فلا بأس أن يتزوّج ربيبَته، ولا يحلّ له أن يتزوّج أمَّها" 4. 3 - الرّبيبة: وهي بنت الزوجة المدخول بها. فهي: كلّ بنتٍ للزوْجة مِن نسبٍ أو من رضاعٍ، قريبة أو بعيدة، وارثه أو غير وارثة؛ وذلك بمراعاة أنّ البنات لا تَحرم إلا بالدخول بالأمّهات، وذلك لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 5.   1 سورة النساء: الآية 23. 2 راجع: المغني لابن قدامة 9 /515. 3 عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل، أبو إبراهيم، من رجال الحديث. كان يسكن مكة، وتوفي بالطائف سنة 118هـ. راجع: سير أعلام النبلاء للذهبي 5/165، والأعلام للزركلي 5/79. 4 أخرجه البيهقي 7 /160، 161. 5 سورة النساء: الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ويستوي في هذا أيضاً: أن تكون تلك الرّبيبة في حِجْرِه أم لا؛ وهذا ما عليه عامّة الفقهاء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأمِّ حبيبة1 رضي الله عنهما: "لا تَعْرِضْنَ عليّ بناتِكُنّ ولا أخواتِكُنّ" 2. والقيْد الوارد في الآية السابقة قد خرج مخرج الغالب، وليس بقيْد في التحريم؛ وذلك لأنّ الغالب أنّ بنتَ الزّوجة يُربِّيها ويتولّى أمرَها زوجُ أمِّها. والمعروف أنّ ما خرج مخرج الغالب لا يصحّ التمسك بمفهومه؛ ولهذا كان قوله تعالى: {اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ليس بشرْط للحُكم وإنما هو تأكيد للوصف فقط 3.   1 رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصيّ: صحابية من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أخت معاوية. كانت من فصيحات قريش. تزوّجها أوّلاً عبد الله بن جحش، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية. ثم ارتدّ عن الإسلام، فأعرضت عنه إلى أن مات. فأرسل إليها رسول الله يخطبها، وعهِد للنجاشي ملِك الحبشة بعقد نكاحِه عليها. ووكّلت هي خالدَ بن سعيد بن العاص، فأصدقها النجاشي مِن عنده أربعمائة دينار، وذلك سنة سبْع للهجرة. وتوفيت بالمدينة عام 44هـ. راجع: سير أعلام النبلاء 2/218، الأعلام للزركلي 3/33. 2 أخرجه البخاري 5/1961، ومسلم 2/1072. 3 راجع: أحكام القرآن لابن العربي 1 /486 وتفسير آيات الأحكام للسايس 2/72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 4 - زوجة الابْن: فالمقرّر أنه يَحرُم على الرّجل زوجاتُ أبنائه وأبناءِ بناته، مِن نسبٍ أو رضاع، قريباً كان الابن أو بعيداً، وارثاً أو غير وارث، لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} 1. وهذا التحريم يتمّ بمجرّد العقد. والحلائل: جمْعُ حليلة، يعني: محلَّلة. وسُمِّيَت امرأة الرجل: "حليلته" لأنها محلّ إزار زوجها، وهي محلَّلة له. وجاءت الآية بتقييد الأبناء بأبناء الصّلب لإخراج الابن بالتّبنِّي؛ فلا تحرم حليلتُه على مَن تبنّاه؛ وهذا ما جاء به الإسلام الحنيف. وبهذا ارتفع حُكم تحريمها الذي كان مقرّراً عند العرب في الجاهلية. وهذا لا يُفهم منه حِلّ حليلة الابن من الرضاع على أبيه، لأنها خرجت بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما سبق: "يَحْرُم من الرّضاع ما يَحْرُم من النَّسَب" 2.   1 سورة النساء: الآية 23. 2 سبق تخريجه صفحة " ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الفرع الرابع: المحرمات بالجمع يُراد بالجمع المحرّم هنا: الجمع بين الأُختيْن، والجمْع بين المرأة وعمّتِها، وخالتِها. وقد ورد تحريمُ الجمع بين الأختيْن في القرآن الكريم، بينما وردَت السُّنّة بتحريم الجمع بين المرأة وعمّتها، وبينها وبين خالتها. فالجمْع بين الأختيْن مُحرّم، سواء كانتا من نسبٍ أمْ من رضاع، حُرّتيْن كانتا أمْ أَمَتيْن، أمْ حُرّة وأَمَة، من أبويْن، أمْ من أبٍ، أمْ من أمٍّ، قبل الدخول أمْ بعد؛ وذلك لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} 1. وعلى هذا، فلو تزوجّهما في عقد، فسد ذلك العقد لأنّه لا مزيّة لواحدة على الأخرى. وأمّا إن تزوجّهما واحدةً بعد الأخرى، فنكاحُ الأولى صحيح ونكاح الثانية باطل لأنه هو الذي حصل به الجمْع المحرّم2.   1 سورة النساء: الآية 23. 2 راجع: المغني لابن قدامة 9/519. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 هذا، وتحريم الجمْع بين المرأة وعمّتها، وبين المرأة وخالتها، ثبت بالنص عليه في السُّنّة المطهّرة. فقد ورد في حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تُنكَح المرأةُ على عمّتِها، ولا العمّةُ على بنتِ أخيها، ولا المرأةُ على خالتِها، ولا الخالةُ على بنتِ أختِها. ولا تُنكح الكُبرى على الصُّغرى، ولا الصُّغرى على الكبرى" 1. وفي رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجمع بين المرأة وعمّتها، ولا بين المرأةِ وخالتها" 2. وقد حرم الجمع بين الأختيْن لأنّ الضرائر يكون بينهن من الكراهة والبغضاء ما هو معلوم؛ فلم يشأ الله أن يُعرِّض أرحامَ الأختيْن للقطيعة بتجويز كونهما ضرّتيْن تتباغضان وتتصارعان. وكذلك القول بالنسبة للمرأة وخالتها، والمرأة وعمّتها؛ فالعلّة في تحريم هؤلاء هي: الخوف من إيقاع العداوة بين الأقارب وقطيعة الرّحم المحرّم3.   1 راجع: سنن أبي داود 2/224، وسنن الترمذي 3/433. 2 راجع: البخاري 5/1965، ومسلم 2/1028. 3 راجع: المغني 9 /523، وتفسير آيات الأحكام للسايس 2/75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 المطلب الثاني: مصافحة المرأة الأجنبية من خلال متابعة الأحكام الشرعية بشأن النظر والمصافحة وما في حُكمهما، يتّضح لنا: أنّ المحرّمات على التأبيد كالمحرّمات بالنسب أو الرّضاع أو المصاهرة، يجوز النظرُ إليهنّ ومصافحتُهنّ، والخلوة بهنّ؛ وهذا بخلاف المحرّمات بسبب الجمع مثْل: أخت الزوجة، أو عمّتها، أو خالتها؛ فإنّ هؤلاء يأخُذن حُكم الأجنبيّات بالنسبة للنظر والمصافحة والخلوة. وهذا من مهمّات الدِّين الإسلاميِّ الحنيف. ومصافحة المرأة الأجنبيّة مُحرّمَة شرعاً، والإجماع على هذا حاصل بين الفقهاء - عند الخوف من الفتنة ولو بغلبة الظن -, لما في هذا من تأكُّد وجود الشهوة المؤدِّية إلى الحرام قطعاً. ولا فرق في هذا بين الصغيرة والكبيرة؛ فالحُكم واحد وهو: حُرمة المصافحة من الرّجل لها والعكس، لكونها أجنبيّة، ولكون الفتنة غيرَ مُؤتمَنة. غير أنّ الخلاف حاصل بين الفقهاء بشأن مصافحة الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 للمرأة الأجنبية إذا أُمِنَت الفتنةُ وعُدمت الشهوة، كأن تكون المرأةُ المصافحة عجوزاً لا تَشتهِي، أو كان المصافِح نفسُه عجوزاً، أو هما معاً على هذا الحال. فقد اختلف العلماء بشأن مدى جواز المصافحة مِن عدمه على مذهبيْن: المذهب الأوّل: يرى جوازَ المصافحة طالما انعدمت الشهوة وأُمِنَت الفتنة؛ فلا بأس من المصافحة بين الرجل والمرأة الأجنبية، والحال أنّ الفتنةَ مأمونة لعدم وجود دوافعِها عند المتصافحيْن: الرّجل والمرأة الأجنبيّة. وإلى هذا ذهب بعضُ الحنفية وبعض الحنابلة. فقد جاء في "الدر المختار شرح تنوير الأبصار": "أمّا العجوز التي لا تُشتهَى، فلا بأس بمصافحتها ومَسِّ يدِها إذا أمِن. ومتى جاز المسُّ جاز السفرُ بها. ويخلو إذا أمِن عليه وعليها"1. وجاء في "رد المختار على الدر المختار" ما يُوضح ذلك: "قال   1 راجع: محمد بن علي الحصني المعروف بالعلاء الحصكفي 9/528 – 529. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 في "الذخيرة": وإن كانت عجوزاً لا تُشتهَى، فلا بأس بمصافحتها أو مسِّ يديْها. وكذلك إذا كان شيخاً يأمَن على نفسه وعليها، فلا بأس أن يصافحها. وإن كان لا يَأمَن على نفسه أو عليها، فلْيجْتنِب. ثم إنّ محمداً أباح المسّ للرجل إذا كانت المرأة عجوزاً، ولم يشترط كوْنَ الرّجل بحالٍ لا يجامع مثلُه. وفيما إذا كان الماسّ هي المرأة، فإن كانا كبيريْن لا يجامع مثله ولا يجامع مثلها، فلا بأس بالمصافحة"1. وجاء في "الآداب الشرعية والمنَح المرعيّة": "فتصافِحُ المرأةُ المرأةَ، والرّجلُ الرّجلَ، والعجوزَ والبَرْزة2، غير الشابة فإنه يَحرُم مصافحتُها للرجل. ذكَرَهُ في "الفصول"3 و"الرعاية"4".5   1 راجع: ابن عابدين 9/529. 2 هي: المرأة الكهلة العاقلة العفيفة التي لا تحتجب احتجاب الشَّوابِّ، بل تبرز للناس تجالسهم وتحدِّثهم. راجع: لسان العرب لابن منظور 5/309. 3 لعليّ بن عقيل بن محمد البغدادي، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته، كان قويّ الحجة. توفي سنة 513هـ.. 4 الرعاية: رعايتان صغرى وكبرى، وكلاهما لابن حمدان الحنبلي المتوفى سنة 695هـ. 5 راجع: محمد بن مفلح المقدسي 2/257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 واستدل هؤلاء على ما ذهبوا إليه من القول بجواز مصافحة الأجنبيّة عند انعدام الشهوة وأمْن الفتنة بما يأتي: أوّلاً: من السُّنّة: 1 - استدلّوا ببعض روايات أحاديث مبايعة النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم, والتي تفيد أنّ المبايعة كانت تَتمّ بالمصافحة، وأنّ المرأة في هذا شأنُها شأنُ الرِّجال المبايِعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن هذا: * ما رواه ابن حبان عن أمِّ عطيّة1 في قصة المبايعة، قالت: "فمَدّ يدَه من خارج البيت ومدَدْنا أيديَنا من داخل البيت، ثم قال: اللهُمّ اشْهَدْ! "2 ففي الحديث: الإشارة إلى أنّ المبايعة كانت تقع بالأيدي لِما ورد فيه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يمُدّ يدَه من خارج البيت ويَمدُدْن أيديَهنّ من داخله؛ وهو ما يفيد وقوعَ البيعة بالمصافحة. ونوقش هذا: بأنّ مدَّ الأيدي من وراء الحجاب: إشارة إلى   1 نسيبة بنت الحارث، وقيل: نسيبة بنت كعب، من فقهاء الصحابة. لها عدّة أحاديث. وهي التي غسلت بنتَ النبي صلى الله عليه وسلم زينب. راجع: سير أعلام النبلاء 2/318. 2 راجع: فتح الباري لابن حجر 8/636. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وقوع المبايعة، وإن لم تقَع مصافحةٌ؛ فلا دلالة فيه على دعْواكم. كما يحتمل أنّهنّ كُنّ يُشِرْن بأيدِيهنّ بِلا مُماسّة؛ هذا فضلاً عن أنّ حديث أمِّ عطية هذا من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن، وليس بالقوي لأنّ إسماعيل هذا ليس بالمشهور، وإنما يُستشهَد به1. * ما رُوي عن أمِّ عطيّة أيضاً، فيما أخرجه الشيخان أنها قالت: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقرأ علينا: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} 2 ونهانا عن النِّياحة، فقبضتِ امرأة يدَها فقالت: أسعَدتْني فلانة - يعني: قامت بالنياحة معي تراسلني - فأريد أن أجزيَها. فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً. فانطلقت ورجعت، فبايعها"3. فقد دلّ هذا الحديث على: أن المبايعة كانت تَتمّ بالأيدي؛ وهو ما يستفاد من قول السيدة أمِّ عطيّة: "قبضتِ امرأةٌ يدَها"؛ فإنّ هذا يُشعِر بأنّهنّ كُنّ يُبايعْنه بأيدِيهنّ4.   1 راجع: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2/65. وفتح الباري لابن حجر 8/636. 2 سورة الممتحنة. الآية: 12. 3 أخرجه البخاري 4/1856. 4 راجع: فتح الباري لابن حجر 8/636. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ونوقش هذا: بأنّ المراد بقبْض اليد: التّأخُّر عن القبول، والمصافحة ليست بلازمة لمدِّ اليد بحيث لا تتخلّف عنه. ويحتمل أنهنّ كُنّ يُشِرْن بأيدِيهنّ عند المبايعة بلا مُماسّة؛ فلا دلالة في الحديث على دعواكم 1. كما أنّ هذا الحديث كالذي قبْله لم يُصرّح فيهما بالمصافحة بالبيعة؛ ولهذا فلا يَصحّ أن يُعارِضَا الأحاديثَ الصريحة الدالةَ على عدم مصافحة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في البَيْعة صراحة، لأنه من غير المعقول أن يُترك العملُ بالحديث الدّال على الحُكم صراحةً إلى ما لا يدلّ على الحُكم إلاّ احتمالاً. والمقرّر: أنّ الدليل إذا تطرّق إليه الاحتمالُ، بَطلَ به الاستدلال. وعلى كلِّ حال، فأحاديث المبايعة تفيد: أنّ البَيْعة كانت تَتمّ بالكلام وليست بالمصافحة؛ وهذا ما تُؤكِّدُه الأدلّة الصريحة التي استدلّ بها المذهب الثاني على منعْ هذه المصافحة. وقد جاء في "روائع البيان": "الروايات كلُّها تُشير إلى أنّ البَيْعة كانت بالكلام، ولم يَثبُت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صافَح النساء في بَيْعة   1 راجع: أدلّة تحريم مصافحة الأجنبية صفحة 32، 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 أو غيرِها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يَمتنِع عن مصافحة النساء - مع أنّه المعصوم -, فإنما هو تعليمٌ للأُمّة وإرشادٌ لها لسلوك طريق الاستقامة. وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الطاهرُ الفاضلُ الشريفُ الذي لا يَشُكّ إنسانٌ في نزاهتِه وطهارتِه وسلامةِ قلْبِه - لا يصافح النساء، ويكتفي بالكلام في مُبايَعتِهنّ - مع أنّ أمْرَ البَيْعة عظيمُ الشّأن -, فكيف يُباح لغيره من الرِّجال مصافحة النساء، مع أنّ الشّهوةَ فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري فيهم مجرى الدم؟ وكيف يَزعُم بعضُ الناس أنّ مصافحة النساء غيرُ مُحرَّمة في الشريعة الإسلامية؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! "1. وجاء في "السلسلة الصحيحة": "وجملةُ القول: أنه لم يَصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صافح امرأةً قطّ، حتى ولا في المبايَعة، فضلاً عن المصافحة عند الملاقاة. فاحتجاجُ البعض لجوازها بحديث أمِّ عطيّة الذي ذكرته - مع أنّ المصافحة لم تُذكَر فيه–، وإعراضُه عن الأحاديث الصريحة في تنزُّهِه صلى الله عليه وسلم عن المصافحة، لَأمْرٌ لا يَصدُر من مُؤمنٍ مُخلِصٍ، لاسيما وهناك الوعيد الشديد في مَن يَمسّ امرأةً لا تحلّ له"2.   1 راجع: محمد علي الصابوني 2 / 527. 2 راجع: ناصر الدين الألباني 2/65 – 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 2 - واستدلوا أيضاً بما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانت الأَمَةُ مِن إمَاء أهْلِ المدينةِ لَتأخُذ بيَدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتنطلق به إلى حيث شاءت"1. وفي رواية الإمام أحمد: "إن كانت الأَمَةُ من أهْل المدينة لَتَأخُذ بيَدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم, فتنطلق به في حاجتها"2. وفي رواية أخرى له: "إن كانت الوليدةُ مِن ولائدِ أهل المدينة لَتجِيء، فتأخذُ بيَدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يَنزعُ يدَه مِن يدِها حتى تذهبَ به حيث شاءت"3. فهذا الحديث - على رواياته المتعدِّدة - يدلّ على جواز لمس أيدي النساء - من ذلك: المصافحة - حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بِيَد الأَمَة لِيَقضيَ حاجتَها، وما يَنزع يدَه مِن يدِها حتى تذهب4. ونوقش هذا: بأنّ ظاهرَ الحديث غيرُ مرادٍ هنا، وإنّما المراد به: مزيد من التواضع من النبي صلى الله عليه وسلم, وكيف كان حالُه مع الضعفاء مِن الرِّفق والرحمة والانقياد. وجاء في "فتح الباري": "والمقصود   1 أخرجه البخاري 5/2255. 2 المسند 98. 3 المسند 3/174. 4 فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2/326 – 327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 مِن الأخْذ باليد: لازِمُهُ وهو: الرِّفق والانقياد. وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع، لِذِكْره المرأة دون الرجل، والأمَة دون الحُرّة، وحيث عمّم بلفظ الإماء - أيّ أَمَة كانت -, وبقوله: "حيث شاءت" - أي: من الأمكنة -. والتعبير بالأخْذ باليد إشارة إلى غاية التّصرّف، حتى لو كانت حاجتُها خارج المدينة والتمست منه مساعدتَها في تلك الحاجة، لَساعَدَها على ذلك. وهذا دالٌّ على مزيد تواضُعِه وبراءَتِه من جميع أنواع الكبْر صلى الله عليه وسلم1. ودُفِع هذا: بأنّ الأَوْلى: حمْلُ اللّفظ على ظاهره، ولا يُصرَف عن هذا الظاهر إلاّ بدليل؛ ولا دليل2. 3 - واستدلّوا أيضاً بما رواه الشيخان عن أنس بن مالك "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَدخل على أمِّ حرام بنت ملحان3 فتُطعِمه، وكانت   1 راجع: أحمد بن حجر العسقلاني 10/490. 2 فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2/326. 3 أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جنوب الأنصارية، خالة أنس بن مالك، زوجة عبادة بن الصامت. ركبت مع زوجها في زمن معاوية، فصُرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فماتت. وكانت تلك في غزوة قبرس، فدُفنت فيها سنة 27هـ. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 1/189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أمُّ حرام تحث عُبادة بن الصّامت1، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فأطعَمَتْه، ثم جلست تَفْلي رأسه، فنام ثم استيقظ وهو يضحك ... " الحديث2. ففي هذا الحديث: الدليل على جواز مخالطة الأجنبيّات، حيث كانت أمُّ حرام أجنبيّةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومع هذا كان يَقِيلُ عندها، ويضع رأسَه في حِجْرها لِتفْليَ رأسه؛ وهو مظنّة الملامسة. وفعْل الرسول صلى الله عليه وسلم أكبرُ دليل على الجواز3. ونوقش هذا بما يأتي: * أنّ أمَّ حرام بنت ملحان كانت مَحرماً لرسول الله ص. قال ابن حجر: "قال ابن عبد البَرّ: أظنّ أنّ أُمَّ حرام أرضعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم,   1 عبادة بن الصامت بن قيس بن أحرم الأنصاري الخزرجي، أبو الوليد. شهد بدراً. وقال ابن سعد: كان أحَد النقباء بالعقبة، وشهد المشاهد كلّها بعد بدر. وهو أوّل من ولي القضاء بفلسطين. ومات بالرملة أو ببيت المقدس سنة 34هـ. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 3/624، والأعلام للزركلي 3/258. 2 أخرجه البخاري 3/1027، ومسلم 3/1518. 3 راجع: فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2/327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أو أختُها أمّ سليم1، فصارت كلٌّ منهما أُمَّه أو خالتَه مِن الرضاعة؛ فلذلك كان ينام عندها، وتنال منه ما يجوز للمَحرَم أن ينالَه من محَارِمه". ثم ساق بسنده إلى يحي بن إبراهيم بن مزين. قال: إنما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تَفْلي أُمُّ حرام رأسَه لأنها كانت منه ذاتَ مَحرَم مِن قِبَل خالاته، لأنّ أمّ عبد المطلب جدِّه كانت من بني النجار. ومن طريق يونس بن عبد الأعلى قال: قال لنا ابن وهب: أُمُّ حرام: إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة؛ فلذلك كان يَقيل عندها، وينام في حِجْرها، وتفلي رأسه".   1 أمّ سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب الأنصارية، وهي: أمّ أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتهرت بكُنيتها، واختُلف في اسمها. فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: مليكة، وقيل: الغميصاء أو الرميصاء. تزوجت مالك بن النضر في الجاهلية، فولد أنساً في الجاهلية. وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام فمات، بها فتزوّجت بعده أبا طلحة الأنصاري وكان على الشرك يعبد وثناً من خشب. فجعلت مَهْرها إسلامه. وكانت معه في غزوة حنين. وشوهدت في أُحُد تَسقي العطشى وتُداوي الجرحى. ماتت سنة 30 هـ. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 8/227، والأعلام للزركلي 3/33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 قال ابن عبد البر: "وأيهما كان، فهي مَحرَم له. وجزم أبو القاسم بن الجوهري، والداودي، والمهلب، فيما حكاه ابن بطال عنه بما قال ابن وهب قال: وقال غيره: إنما كانت خالةً لأبيه أو جدِّه عبد المطلب. وقال الجوزي سمعت بعض الحفاظ يقول: كانت أمّ سليم أختَ آمنة بنت وهب أُمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة. وحكى ابن العربي ما قال ابن وهب"1. ودُفِع هذا: بأنّ أُمَّ حرام ليست من محارم النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن أمّهاته مِن النسب ومن الرضاعة معلوماتٌ، وليست منهنّ أمُّ حرام ولا أحد من الأنصار. وجاء في "فتح الباري": "وبالغ الدمياطي في الرّدِّ على مَن ادّعى المحْرَميّة، فقال: ذَهل كلُّ مَن زعم أنّ أمّ حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أو من النسب، وكلّ مَن أثبت لها خؤولةً تقتضي مَحرميّة، لأنّ أمّهاتِه من النسب واللاتي أرضعْنَه معلومات ليس فيهنّ أحد من الأنصار البتّه سوى أمِّ عبد المطلب وهي: سلمى بنت عمرو بن زايد بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عديّ بن النجار. وأُمّ حرام هي: بنت ملحان   1 راجع: فتح الباري 11/80، 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر المذكور؛ فلا تجتمع أمّ حرام وسلمى إلاّ في عامر بن غنم جدِّها الأعلى؛ وهذه خُؤولة لا تَثبت بها مَحرميّة لأنها خؤولة مجازيّة. وهي كقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقا صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي" 1، لكونه من بني زهرة، وهم أقارب أمِّه آمنة، وليس سعداً أخاً لآمنة لا من النّسب ولا من الرضاعة2. * أنّ ذلك يُعدُّ من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالنبي كان معصوماً يَملِك إِرْبَه عن زوجته، فكيف عن غيرها مما هو المنَزَّه عنه؟ وهو المبرّأُ عن كلِّ إثمٍ وعن كل فعْل قبيح وقولِ رفَث. ودُفع هذا: بأنّ الخصائص لا تَثبت بالاحتمال. وثبوت العصمة مُسلَّم؛ لكن الأصل: عدمُ الخصوصيّة، وجوازُ الاقتداءِ به في أفعاله حتى يقوم على الخصوصيّة دليل. وهذا الدفع أوردَهُ القاضي عياض. * أنّ الحديث ليس فيه ما يدلّ على الخلوة بأمِّ حرام، لاحتمال أنّ ذلك مع وجود ولَد أو خادِم أو زوجٍ أو تابع أو نحوِ ذلك.   1 راجع: جامع الترمذي 3/649، والمستدرك 3/649. 2 راجع: أحمد بن حجر العسقلاني 11/81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ودُفِع هذا: بأنّ ذلك مجرّد احتمال، ولو ثبت فإنه لا يَرفع الإشكال من أصله، لبقاء الملامسه في تَفلِيَة الرأس، وكذا النوم في حِجْرها، أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل الحجاب. ودُفع: بأنه كان بعد الحجاب جزْماً؛ حيث أفاد الحافظ: أنّ ذلك كان بعد حجّة الوداع. وقد قال ابن حجر بعد أن أورد هذه الأوجُهَ والرّدَّ عليها في "فتح الباري": "وأحسنُ الأجوبة –يعني: الأوجُه–: دعوى الخصوصيّة، ولا يردّها كونُها لا تثبت إلاّ بدليل، لأنّ الدليل على ذلك واضح"1. ثانياً: استدلّوا بالمعقول: فقالوا: إنه إذا أُمِنت الفتنة، وتوافرت دواعي المصافحة، كالاختلاط بين الرجل وقرابته من النساء غير المحارم - كما يحدث مع القرابة في غير المدُن -, وكذا إذا زار القريب قريبةً له من غير مَحارمه، أو زارَتْه هي - كابنة الخال أو الخالة، أو ابنة العمِّ أو العمّة، أو امرأة العمِّ أو الخال -, أو مصافحة القادم من سفر، فالمصافحة - والحالة هذه - لا بأس بها، لِشيوع العُرف بذلك2. كما أنه ثبت   1 راجع: فتح الباري لابن حجر العسقلاني 11/81. 2 فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2/302-307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 في الصحيح: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه وأمِّ سليم، فقيل له، فقال: "إنِّي أرحمها قُتل أخوها معي" 1. والمعروف: أنّ أمّ سليم هذه أخْت أمِّ حرام، ولعلّهما كانتا في بيت واحد كبير لكلٍّ منهما فيه منزل؛ من أجْل ذلك نسب هذا إلى هذه تارة ونسب إلى الأخرى تارة ثانية، مع العلم أنهما خالتا أنسٍ راوي الحديث، وهو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جَرت العادةُ مخالطة المخدومِ خادمَه وأهل خادمه، ورفْع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم2. ونوقش هذا: بأن الخلطة لا تُبيح المحظور. وبالنسبة لحديث أنس غير مسلّم في موضع الاستدلال هنا، كما التعلّق بأمْن الفتنة غير مسلّم هو الآخَر؛ إذ كيف تُؤمَن الفتنة والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؟ 3 ولو كان أمْنُ الفتنة مُعتبَراً هنا لكان أوْلى به النبي صلى الله عليه وسلم, وقد ثبت عنه أنه لم يصافح امرأة قط 4. وأمّا القول بشيوع العُرف بذلك، فإنّ العُرف ليس له سلطان في تغيير الأحكام الثابتة   1 أخرجه البخاري 3/1046، ومسلم 4/1908.. 2 راجع: فتح الباري 11/81. 3 راجع: البخاري 2/717، ومسلم 4/1712. 4 راجع: البخاري 2/967، ومسلم 3/1489. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 بالكتاب والسُّنّة، إلا حُكمٍ كان قيامُه من أصله بناءً على عُرف شائع، فإنَّ تبدُّلَ ذلك العُرفِ من شأنه أن يُؤثِّر في تغيير ذلك الحُكم؛ إذ هو في أصله حكمٌ شَرطيٌّ مرهون بحالة مُعيّنة، وليس الموضوع الذي نحن فيه الآن من هذا في شيء1. المذهب الثاني: يرى حُرمة مصافحةِ الأجنبيّة مُطلقاً، وأنّه لا فرْق بين حالة وحالة. فلا يجوز للرجل مصافحة الأجنبيّة. وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكية والشافعية، وهو رواية عند الحنابلة. فقد جاء في "بدائع الصنائع": " ... وأمّا حُكم مسِّ هذيْن العضويْن: الوجْه والكفّيْن، فلا يحلّ مَسّهما"2. وفي "تبيين الحقائق": "ولا يجوز له أن يمَسّ وجهَها ولا كفّيْها وإنْ أمِن الشّهوة، لوجود المحرم وانعدام الضرورة والبلوى"3.   1 راجع: فقه السيرة للدكتور محمد سعيد البوطي صفحة 283. 2 راجع: الكاساني 5/184. 3 راجع: فخر الدين الزيلعي 6/18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وجاء في "عارضة الأحوذي": " ... كان النبي صلى الله عليه وسلم يصافح الرجال في البَيْعة باليد، تأكيداً لشدّة العقد بالقول والفعل؛ فسأل النساء ذلك، فقال لهن: "قوْلي لامرأةٍ كقولي لمائة امرأة"، ولم يصافِحْهنّ، لما أوعز إلينا في الشريعة من تحريم المباشرة إلاّ مَن يحلّ له ذلك منهن ... "1. وفي "كفاية الأخيار": "واعلَمْ أنه حيث حرُم النّظر حرم المسّ بطريق الأوْلى، لأنه أبلغ لذّة ... "2. وجاء في "الأذكار المنتخبة من كلام سيِّد الأبرار": " ... وقد قال أصحابنا: كلّ مَن حرُم النظرُ إليه حرُم مسُّه، بل المسُّ أشدّ؛ فإنه يحلّ النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوّجها ... ولا يجوز مسّها في شيء من ذلك"3. وفي "غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب": " ... إلاّ الشّابّة الأجنبية فتَحرُم مصافحتُها كما في "الفصول" و"الرعاية"، وجزم في "الإقناع" كغيره لأنّ المصافحة شرّ من النظر"4.   1 راجع: الحافظ ابن العربي 7/95. 2 راجع: تقي الدين الحصني 1/353. 3 راجع: محيي الدين النووي صفحة 240. 4 راجع: محمد السفاريني 1/280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 واستدلّ هؤلاء على ما ذهبوا إليه بالسُّنّة والمعقول على النحو الآتي: أ - فمِن السُّنّة: استدلّوا بأحاديث متعدِّدة، منها: 1 - ما رواه معقل بن يسار1 رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يُطعَن في رأسَ أحدِكم بمِخْيَطٍ 2 مِن حديد، خيرٌ له من أن يَمَسَّ امرأةً لا تحِلّ له" 3. فهذا الحديث يدلّ دلالة صريحة على حُرمة مسّ المرأة الأجنبيّة، ومن هذا: المصافحة؛ حيث رتّب الشارع على مسِّ المرأة التي لا تحلّ له وعيداً شديداً وهو: الطّعْن بِمِخْيَطٍ من حديد. وترتيب الوعيد الشديد على فعْل الشيء يدلّ على حرمته؛ وفي هذا   1 معقل بن يسار بن عبد الله بن معبر بن حراق المزني، أسلم قبل الحديبية، وشهد بيعة الرضوان. وسكن البصرة، ونهر معقل فيها منسوب إليه، حفره بأمْر عمر. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة 7/184، والأعلام 4/271. 2 المِخْيَط: مِن: الخيْط وهو: السِّلك. يقال: خاط الثوب يخيطه خياطة فهو مَخِيط. وهو آلة الخياطة كالإبرة ونحوها ... راجع: مختار الصحاح 1/82، والمعجم الوسيط صفحة 265. 3 المعجم الكبير 20/211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 يقول الشيخ ناصر الدين الألباني: "وفي الحديث وعيد شديد لمن مسّ امرأةً لا تحلّ له؛ ففيه دليل على تحريم مصافحة النساء لأنّ ذلك مما يشمله المسّ دون شك"1. ونوقش هذا بما يأتي: * أنّ الحديث ضعيف لا تقوم به حُجّة. فالحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الدواوين المشهورة، ولم يُصرِّح أئمة الحديث بصحّته؛ ولهذا كان مثْل هذا الحديث لا يُعتمَد عليه في استنباط الحكم الشرعي2. ودُفِع هذا: بأنّ الحديث سنده قويّ، ولا يقدح في صحّته عدمُ إخراج أصحابِ الكتب المشهورة له؛ فكَم من أحاديث صحيحة لم تُخرج في هذه الكتب. وقد صرّح الهيثمي والمنذري بأنّ رواته ثقات من رجال الحديث الصحيح3. وقال الألباني عن سنده بأنه جيِّد.   1 راجع: سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/448. 2 راجع: فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2/322. 3 راجع: مجمع الزوائد 4 / 326، والترغيب والترهيب 3 /87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 هذا فضلاً عن أنّ الحديث ليس هو الدليل الوحيد في المسألة التي معنا الآن؛ فالاستدلال به إنما هو من قبيل التأكيد والاستئناس. * أنه على فرْض التسليم بصحّة الحديث، وإمكان الأخذ به في التحريم، فإنه غير واضح الدلالة في تحريم المصافحة؛ وذلك لأنّ كلمة "المسّ" الواردة في الحديث لا تَعنى مُجرّد لمس البشرة دون شهوة، كما هو الحال في المصافحة العادية وإنما تعني - حسب استعمالها في النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسُّنّة المطهّرة - أحَدَ أمريْن: أحدهما: أنها كناية عن الجماع؛ وهو ما فسّر به ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 1، فقال: "الملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرّفث، والجماع، نكاح؛ ولكن الله سبحانه يكني". وفي هذا المعنى قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} 2، وقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} 3.   1 سورة النساء: الآية 43. 2 سورة آل عمران: الآية 47. 3 سورة البقرة: الآية 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وثانيهما: أنها تعني ما دون الجماع من القُبلة والمعانقة والمباشرة. ولا شك أنّ هذه الأمور لا تخلو من الشهوة غالباً؛ ومن ثَمّ فإنّ المسّ المجرّد من الشهوة لا يتناوله هذا الحديث، وإنما يتناول المس بمعنيَيْه السابقيْن1. ودُفع هذا: بأنّ كلمة "المسّ" تُطلق حقيقة على مجرّد لمس البشرة للبشرة، وتُطلق مجازاً على الجماع أو ما دونه. ومعلوم أنّ اللفظ إذا أُطلِق وجَب حمْلُه على حقيقته، ولا ينتقل إلى المجاز إلا إذا تعذّر الحملُ على الحقيقة، أو وُجدت القرينة الصّارفة له من الحقيقة إلى المجاز. وحمْل اللّفظ على حقيقته هنا غير متعذِّر. وما المانع من شمول اللفظ هنا لمعنيَيْه الحقيقي والمجازي؟ فقصْره على المعنى المجازي فقط فيه تحكّم. ويُمكن أن يُحمل عليه في مسألة نقْض الوضوء بمصافحة المرأة الأجنبية لوجود القرائن القوية الدالة على عدم نقْض الوضوء باللمس المجرّد من الشهوة. ولا يلزم من حرمة المصافحة نقضُ الوضوء، لانفكاك الجهة. ولنا عَوْد - إن شاء الله   1 راجع: فتاوى معاصرة للدكتور يوسف القرضاوي 2 /323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 تعالى - بمزيد من التفصيل لهذه المسألة عند الحديث عن مدى نقض الوضوء بمصافحة المرأة الأجنبية. 2 - ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كُتِب على ابن آدم نصيبُه من الزِّنى، مُدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زِناهما النّظر، والأُذنان زِناهما الاستماع، واللِّسان زِناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجل زِناها الخُطَى والقلب يهوى ويتمنى ويُصَدِّقُ ذلك الفرج ويُكذبه" 1. فهذا الحديث يدلّ على حظِّ ابن آدم من الزِّنى؛ وهو: إمّا زنىً حقيقيٌّ بإيلاج الفرْج في الفرْج الحرام، وإما زِنًى مجازيٌّ، وهو يتحقق بالنظر الحرام، أو بالاستماع الحرام، أو بالكلام المحرّم مع أجنبيّة، أو بمسِّ المرأة الأجنبية باليد، أو بالمشي بالرِّجل إلى الزِّنَى؛ وكل ذلك محرّم. فقيّد الحديث حُرمة مصافحة الأجنبية. وجاء في "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني مع كتاب الفتح الرباني" في باب: كراهة مصافحة النساء: "وأحاديث الباب تدلّ على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية ولمْس بَشَرتِها بغير حائل.   1 أخرجه البخاري 5/2304، ومسلم 4/2047. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة "، وذكر الحديث. ثم قال: "واليدُ زِنَاها البطش، والبطش معناه: اللّمْس"1. ويقول الإمام النووي رحمه الله "معنى الحديث: أن ابن آدم قُدِّر عليه نصيبُ من الزِّنى؛ فمنهم من يكون زِنَاه حقيقياً بإدخال الفرْج في الفرْج الحرام. ومنهم من يكون زِناه مجازاً بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزِّنَى وما يتعلق بتحصيله، أو بالمسِّ باليد بأن يمسّ امرأة أجنبية بيده أو يُقبِّلها، أو بالمشي بالرِّجل إلى الزِّنَى، أو النظر، أو اللّمس، أو الحديث الحرام مع أجنبية، ونحو ذلك"2. 3- أحاديث مُبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم منها: * ما أخرجه الشيخان عن عروة بن الزبير3 رضي الله عنه أنّ عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم   1 راجع: أحمد عبد الرحمن الساعاتي 17/351. 2 راجع: شرح النووي على صحيح مسلم 8 /457. 3 عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي، أبو عبد الله: أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. كان عالمًا بالدِّين، صالحاً كريماً. انتقل إلى البصرة، ثم إلى مصر، فتزوج وأقام بها سبع سنين، وعاد إلى المدينة فتوفي فيها عام 93 هـ. راجع: سير أعلام النبلاء 4/421-434، والأعلام 4/226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 يَمتحِنُهنّ، عمَلاً بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} 1 - قالت عائشة: - فمَن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات، فقد أقرّ بالمحبّة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقرَرْن بذلك من قولهنّ قال لهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انْطلِقْنَ. فقد بايعْتُكُنّ". لا والله! ما مسّتْ يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قطّ؛ غير أنه بايَعَهُنّ بالكلام. والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلّا بما أمَر الله. يقول لهن إذا أخذ عليهن: "قد بايَعْتُكُنّ كلاماً" 2. وفي رواية أخرى: "النبي صلى الله عليه وسلم يُبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} ، وما مسّتْ يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأةٍ إلا امرأة يَملكها"3. * ما روتْه السيدة أميمة بنت رقية4 رضي الله عنها قالت: "أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نُبايعُه. فقلنا: "يا رسول الله، نبايِعُك على أن لا   1 سورة الممتحنة: الآية 10. 2 أخرجه البخاري 5/2025، ومسلم 3/1489. 3 أخرجه البخاري 6/2637، ومسلم 4/1908، والترمذي 5/411. 4 أميمة بنت رُقَيْقَة -بقافيْن مصغّرة- بنت عبد الله بن نجاد، وأمّها: رُقَيْقَة بنت خويلد بن أسد، أخت خديجة -رضي الله عتها-. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقال هي بنت بجاد بن عبد الله بن عمير بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة القرشية التيميّة. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة 7/510. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 نُشرك بالله شيئاً، ولا نَسرق، ولا نَزني، ولا نقتل أولادَنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرْجلنا، ولا نَعصيك في معروف" قال: "فيما استطعتن وأطَقْتُنّ". قالت: فقُلنا: الله ورسولُه أرْحَم بنا منّا بأنفسنا. هَلُمّ نبايِعْك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أصافح النساء. إنما قولي لمائة امرأة كقولي لواحدة، أو مثل قولي لامرأة واحدة" 1. * ما رواه عمرو بن شعيب2 عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو3: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يُصافح النساء في البيعة"4. ونوقش هذا بما يأتي:   1 أخرجه مالك في الموطإ 2/982، وأحمد في المسند 6/357، والنسائي في سننه7/149. 2 عمرو بن شعيب بن محمد السهمي القرشي، أبو إبراهيم، من بني عمرو بن العاص، من رجال الحديث كان يسكن مكة، وتوفي بالطائف سنة 118هـ. راجع: الأعلام للزركلي 5/79. 3 عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم من قريش، صحابي من النساك من أهل مكة. كان يكتب في الجاهلية، ويحسن السريانية، وأسلم قبل أبيه، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكتب ما يسمع منه، فأذن له. وكان كثير العبادة. حمل راية أبيه يوم اليرموك، وشهد صفِّين مع معاوية، وولاّه الكوفة مدة قصيرة. توفي عام 65هـ. راجع: سير أعلام النبلاء 3/79-94، والأعلام 4/111. 4 أخرجه أحمد 2/213، والطبراني في المعجم الكبير 24/180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 * أنه وردت بعضُ روايات أحاديث البيعة بما يفيد: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُبايع النساء مصافحةً من فوق حائل.1 فقد روى الإمام أحمد عن شهر بن حوشب2 قال: حدثتني أسماء بنت يزيد:3 "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء المسلمين للبيعة، فقالت له أسماء: "ألا تَحسر لنا عن يدك يا رسول الله؟ ". فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لست أصافح النساء؛ ولكن آخُذ عليهن" 4. فهذا الحديث يفيد: أنه صلى الله عليه وسلم كان يُبايعُهنّ مصافحةً من فوق   1 راجع: أحكام القرآن لابن العربي 4/234. 2 شهر بن حوشب، أبو سعيد الأشعري، شامي الأصل، سكن العراق. وكان يتزيا بزيِّ الجند، مولى الصحابية أسماء بنت يزيد الأنصارية. كان من كبار علماء التابعين. ولد في خلافة عثمان رضي الله عنه، وتوفي عام 100هـ. راجع: الأعلام للزركلي 3/178. 3 أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأوسية ثم الأشهلية، من أخطب نساء العرب، ومن ذوات الشجاعة والإقدام. كان يقال لها: خطيبة النساء. وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى للهجرة، فبايعتْه، وسمعت حديثه. وحضرت وقعة اليرموك، فكانت تسقي الظمأى وتضمد جراح الجرحى. توفيت عام 30هـ. راجع: الأعلام للزركلي 1/306. 4 أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/454، وابن راهويه في مسنده 4/183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 حائل، ولم يُذْعِن لطلب أسماء بالمبايعة دون حائل، موضحاً صحّة ما فعَله. كما نقل الحافظ ابن حجر: أنّ أبا داود روى في "المراسيل"1 عن الشعبي: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببُرد قطري فوضعه على يده وقال: لا أصافح النساء"، ونحو ذلك عن عبد الرازق من طريق إبراهيم النخعي مرسلاً، وكذا عن سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي حازم. وأخرج يحيى بن سلام في "تفسيره" عن الشعبي: "أنهنّ كنّ يأخذْن بيده عند المبايعة من فوق ثوب"2. ودُفِع هذا: بأنّ حديث أسماء بنت يزيد عند الإمام أحمد من طريق شهر بن حوشب، وقد قال فيه الحافظ: "صدوق، كثير الإرسال والأوهام"3؛ فلعلّ هذا الحديث مما أوهم عليه فيه، فضلاً عن أنّ الحديث ليس فيه ما يدل على أنّ المصافحة وقعت   1 راجع: المراسيل صفحة 274. 2 راجع: فتح الباري 8 /636. 3 راجع: تقريب التهذيب لابن حجر 1 /341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 بحائل أو بغير حائل؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يصافح النساء. وهذا النفي منه ينصرف إلى مطلق المصافحة، سواء أكانت بحائل أم بدون حائل؛ حيث إنّ اللفظ يشملهما جميعاً. وبالنسبة لما نقله الحافظ عن أبي داود وغيره، فهذه كلّها مراسيل لا تقوم بها حجّة ولا تقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تَقضى بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة، وأنه ما بايعَهنّ إلا كلاماً؛ وهذا ما يفيده حديث السيدة عائشة السابق ذكْره، وكذا السيدة أميمة بنت رُقَيْقَة. وفي هذا يقول الحافظ العراقي1: "هذا هو المعروف. وزعْم أنه كان يصافحهنّ بحائل لم يصحّ. وإذا كان هو لم يفعل ذلك - مع عِصْمته وانتفاء الريبة -, فغيْرُه أوْلى بذلك"2. * وقال في مناقشتهم للدليل الذي نحن بصدده الآن: "إنّ   1 الحافظ ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن العراقي، قاضي الديار المصرية. رحل إلى دمشق فقرأ وعاد إلى مصر، فارتفعت مكانته إلى أن وَلِيَ القضاء عام 824هـ، وتوفي بالقاهرة عام 826هـ. راجع: الأعلام للزركلي 1/148. 2 راجع: فيض القدير 5 /186، وبلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني 17/350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء في البيْعة يُعَدّ واقعةَ عيْن لا تتناول غيرَها؛ ولهذا فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أُصافح النساء" لا يُعَدّ على إطلاقة, لأنه قاله في خصوص البيعة"1. ودُفِع هذا: بأنّ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما تقرّر لدى علماء الأصول. وفي هذا يقول الشيخ محمد الحامد في كتابه: "حكم مصافحة المرأة"، جواباً عن هذا الوجه في المناقشة: "هذا زعْم ساقط لما تقرّر لدى العلماء أنه لا عبرة بخصوص السبب إذا كان اللفظ عاماً، وهو هنا كذلك؛ فتَحرم مصافحتُهنّ مطلقاً؛ بل إن دلالة الحديث على تحريمها دلالة أوّليّة إذ قد امتنع عنها صلى الله عليه وسلم حال المبايعة، مع أنّ الأصل فيها أن تكون معاقدة بالأيدي ومصافحة بها، فلَأَنْ تكون ممنوعةً في غير هذا الموطن أوْلى وأجْدر. والأحاديث التي رويناها في تحريم المسّ تُصحِّح الفهم وتورثة السلامة، وتنأى بالمرء عن هذا المنزلق الخطِر؛ فإن المرأة مشتهاة خِلْقة، واللّمْس مثيرُ شهوة الوِقاع، وهي أعصى الشهوات للدين والعقل؛ فكل سبب يدعو إليها في غير حلّ ممنوع في الإسلام   1 راجع: أدلة تحريم مصافحة الأجنبية صفحة 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ومحظور؛ إذ الوسائل لها أحكام المقاصد".1 * قالوا: "إنه قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يصافحُ نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم, حيث كان النبي يجلس على الصفا ومعه عمر أسفل منه، فجعل صلى الله عليه وسلم يشترط عليهنّ البيعة وعمر يصافحُهن"، كما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كلّف امرأة وقفت على الصفا فبايعَتْهنّ". وقيل: "إنه صلى الله عليه وسلم دعا بقدح فيه ماء، فغمس يده فيه، ثم أمر النساء فغمَسْن فيه أيديَهن"2. ودُفع هذا: بأنّ هذه الروايات لم تثبت بسند صحيح يُحتجّ به، فلا تقوم بها حُجّة. وقد عارضتْ ما ورد في الصحيح في شأن المبايعة للنبي صلى الله عليه وسلم من أنه كان يُبايِعُهن كلاماً دون مصافحة. وفي هذا يقول ابن العربي: "وذلك ضعيف؛ وإنما ينبغي التعويل على ما روي في الصحيح"3.   1 حكم مصافحة المرأة للشيخ محمد حامد صفحة 10، وأدلة تحريم مصافحة الأجنبية للشيخ محمد إسماعيل صفحة 36. 2 راجع: أحكام القرآن لابن العربي 4 /234، وفتح الباري 8 /636. 3 راجع: أحكام القرآن لابن العربي 4/234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وقال الحافظ وليّ الدين أبو زرعة العراقي: "ولا يصحّ شيء من ذلك". ثم قال عمّا روي عن عمر: "وكيف يَفعل عمر رضي الله عنه أمراً لا يَفعلُه صاحبُ العصمة الواجبة"1. * إن الاستدلال على تحريم المصافحة بترْك النبي صلى الله عليه وسلم لها حال بيْعة النساء غيرُ مفيد في الاستدلال، وذلك لأنّ الاقتداء به صلى الله عليه وسلم لا يكون إلاّ في الأفعال، وليس في التروك2. ودُفِع هذا: بأن الاستدلال بأحاديث البيعة وترْك المصافحة حالَ البيعة ليس هو الدليل الوحيد لدينا؛ بل هناك أدلّة أخرى مُتعدِّدة وردت وسَترد. ومع هذا، فإن مسألة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في التروك كلام خلاصته فيما يأتي: بأنّ ترْك النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون مقصوداً، وقد يكون غيرَ مقصود. أ - فالترك غير المقصود: سلْب محضٌ، وهو لا يدل على جواز ولا كراهة ولا تحريم، وهو ليس محلاً للقدوة؛ وذلك كترْك النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر دخول الحمّامات. فلا يُحتجّ بهذا على كراهة أو   1 راجع: طرح الترثيب شرح التقريب 7/44، 45. 2 راجع: أدلة تحريم مصافحة الأجنبية صفحة 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 تحريم، لأنهم ما قصدوا التّرك ولا أمكنهم دخولها فلم يدخلوها، لأنه لم يكن في بلادهم وقتئذ حمّام. وكذا ترْكه صلى الله عليه وسلم أنواعاً من القوت واللباس والمركب والمساكن ممّا لم يكن موجوداً بالحجاز في عصره صلى الله عليه وسلم, فلا يدلّ ذلك على أنّ ترْك الانتفاع بذلك الطعام أو اللباس والمراكب والمساكن سُنّة1. ب - والترْك المقصود، وهو الذي يُعبّر عنه بالكفِّ أو الإمساك أو الامتناع، وهو على أقسام: القسم الأول: الترْك لِدَاعي الجِبِلّة البشرية، كتَرْكه صلى الله عليه وسلم أكلَ لحم الضّبِّ مُعلِّلاً ذلك بقوله: "لم يكن بأرض قومي، فأجِدُني أَعَافُه" 2. كما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك ما لا يشتهيه من الطعام ولا يَعيبُه. فقد ثبت في حديث أبي هريرة: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاماً قط. إنِ اشتهاه أكَلَه، وإن كَرِهَه تَرَكه"3.   1 راجع: مجموع الفتاوى لابن تيمية 21/313،314، وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام للدكتور محمد الأشقر 2/45، 46. 2 أخرجه البخاري 5/2060، ومسلم 3/1543 من حديث ابن عباس رضي الله عنه. 3 أخرجه البخاري 2/730، ومسلم 3/1633. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وهذا القسم لا يدلّ في حقِّنا لا على تحريم ولا على كراهية. القسم الثاني: الترْك الذي قام الدليل على اختصاصه به، وهو ترْكه صلى الله عليه وسلم لما حُرِّم عليه خاصّة، كترْكه أكْلَ الصّدَقة، وقد قال في هذا فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "إنّا لا تَحِلّ لنا الصّدَقة" 1. وهذا القسم لا يدل أيضاً في حقِّنا لا على تحريم ولا على كراهة، وإن كان البعض يرى أنه يُقتدَى به صلى الله عليه وسلم في الأفعال التي اختصّ بها على سبيل الاستحباب. القسم الثالث: الترْك بياناً أو امتثالاً لمجمَل معلوم الحُكم عامٍّ لنا وله؛ فيُستفاد حُكْم التّرك من الدليل المبيّن والممثّل. ومثال ذلك: تركه للإحلال من العمرة مع صحابته، وقال فيما روته عنه أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها: "إني لبّدْتُ رأسي، وقلَّدتُ هدْيِي، فلا أحلّ حتّى أنْحَر". 2 فقد امتثل صلى الله عليه وسلم للنّهْي الوارد في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 3. وهو ترْك التّمتّع لأنه كان قد ساق الهدْي؛ وبهذا تبيّن حُكم مَن ساق الهدْي، وهو تحريم الحلق لظاهر النهي الوارد في الآية.   1 أخرجه البخاري 2/542، ومسلم 2/751. 2 أخرجه البخاري 2/568، ومسلم 2/902. 3 سورة البقرة: الآية 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ومثال الترك الامتثالي: ترْكه صلى الله عليه وسلم الصلاة على المنافقين لما نزل قوله سبحانه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} 1. وهذا القسم تشترك فيه الأمّة في الحُكم وهو: التحريم مع رسول الله ص. القسم الرابع: الترْك المجرّد، وهو: ما ليس من الأقسام السابقة، وهو نوعان: الأوّل: ما عُلم حُكمه في حقِّه بدليل من قول أو استنباط. وهذا النوع ينبغي أن يكون حُكمنا فيه كحُكمِه صلى الله عليه وسلم, عملاً بقاعدة المساواة في الأحكام. الثاني: ما لم يُعلَم حُكمه في حقِّه صلى الله عليه وسلم؛ فما ظهر منه أنّه ترَكه تعبُّداً وتقرّباً، نحمله على الكراهة في حقِّه، ثم يكون الحكم في حقِّنا كذلك، أخذاً من قاعدة المساواة في الأحكام. وما لم يظهر فيه ذلك، نحْمِله على أنه من الترك المباح. وهنا نقرِّر بأن مصافحة النساء أمْر ترَكه النبي صلى الله عليه وسلم في مقام البيان والتشريع، مع وجود المقتضي –وهو: البيعة–، وعدم المانع من المصافحة؛ فينبغي أن يكون حكمُه التحريم. وهو نفس حُكم القسم الثالث من التروك، لأنه لا فرق بين الفعل والترك في التّأسِّي فيهما.   1 سورة التوبة: الآية 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 جاء في كتاب "إرشاد الفحول": "ترْكه صلى الله عليه وسلم للشيء كفِعْله له في التّأسِّي به فيه" 1. وعلى أية حال، فإنّ أقل ما ننتهي إليه: أنّ كراهة المصافحة هي الحُكم في حقه، وبالتالي في حقِّنا. فإذا أُضيفَ إلى ترْكه هذه الأدلّةُ الأخرى، فإنّ التحريم هو المرجَّح في هذا الخلاف 2. ب - ومن المعقول: بعد أن استدل القائلون بحُرمة مصافحة المرأة الأجنبية بالسُّنّة، شرعوا في عرض ما يَعضد ذلك من المعقول. فقالوا: لقد حرّم الشارع الكريم الزِّنَى، وحذّر من فتنة النساء في غير ما موضع، فمِن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الدنيا حلوة خضرة، وإنّ الله مستَخْلِفُكم فيها فناظرٌ كيف تعملون؛ فاتّقوا الدنيا! واتّقوا النساء! فإنّ أوّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" 3.   1 راجع: محمد علي الشوكاني 1/225. 2 راجع: أدلة تحريم مصافحة الأجنبية صفحة 41. 3 أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري في الذكر والدعاء، الحديث رقم 2742، والترمذي في الفتن، وقال: "حديث حسن صحيح"، الحديث رقم 2191، وابن ماجة في الفتن، الحديث 4000. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أسامة بن زيد رضي الله عنه: "ما تركْتُ بعدي فتنةً هي أضرّ على الرِّجال من النساء" 1. والعقل يقتضي أنّه إذا حَرّم الشارع أمراً فإن هذا التحريم يَسري أيضاً بالنسبة للأسباب المؤدِّيَة إليه؛ ومِن ثَمّ وضَع الشارع الحكيم الاحتياطات اللازمة لسَدِّ باب هذه الفتنة، فحرّم النظرَ الحرام، والتبرجَ، والخلوة بالأجنبية، وذلك من باب سدِّ الذرائع. وبدون شك، فإنّ مسّ المرأة الأجنبية يُحرك كوامنَ النفس، ويفتح أبواب الفساد، ويُسهِّل مداخل الشيطان. من أجْل ذلك، كان القول بحرمة المصافحة؛ وهو أوْلى من تحريم النظر. وهذا يُحقِّق المقصود من قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 2. فالنهي في هذا الخطاب يشمل مجرّد الدّنُوِّ منه باقتراف المقدّمات التي تُؤدِّي إليه. وفي هذا يقول صاحب "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن": "وإنّما أمر بغضِّ البصر خوفَ الوقوع في الفتنة. ولا شك أنّ مسّ البدن للبدن أقوى في إثارة الغريزة، وأقوى داعياً إلى الفتنة، من النظر بالعين؛ وكلّ مُنصف يعلَم صحّة ذلك"3.   1 أخرجه البخاري 5/1959، ومسلم 4/2098. 2 سورة الإسراء: الآية 32. 3 راجع: محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي 6 /257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وهكذا قال صاحب "أدلّة تحريم مصافحة الأجنبية": "ولا يجوز أن يُعترَض على إعمال قاعدة "سدّ الذرائع" هنا بسلامة نيّة مَن يُصافح الأجنبية وطهارة قلبه، لأنّ الشريعة السّمحة تحظر الفعل المؤدِّي إلى الفساد بغضِّ النظر عن نيّة صاحبة، لأن المنظور إليه في هذا الباب هو مآلات الأفعال، أي: ما تُؤدِّي إليه؛ فما دام المآل فاسداً كان الفعل المؤدَّي إليه ممنوعاً، سدّاً لذريعة الفساد، وإن لم يَقصد فاعلُه الفسادَ بفعله. فإذا خفِي القصد والنيّة، فالراجح عدم اعتبار القصْد لأنه غيرُ منضبط. ولا بدّ أن نعتبر المنضبط لأنّ التشريع لِمجموع الناس وليس لطائفة مخصوصة"1. الترجيح: من خلال النظر فيما سبق مما قاله العلماء بشأن حُكم الشرع في مصافحة المرأة الأجنبية، على ما تقرّر من وصْف للأجنبية، وتحليل ما استدلّ به كلُّ فريق، ومناقشة ما أورده من أدلّة تشعّبتْ مسالكُها وتعدّدت طرقُ مناقشتها، فالذي يترجّح هنا الآن هو: القولُ بحرمة مصافحة المرأة الأجنبية مطلقاً، وأنّ هذا هو الأوْلى بالقبول، وهو الأقرب إلى مقاصد الشريعة الإسلامية، والمحقِّق لمبدأ السلامة بالاعتماد على جانب الحيطة، والحرص على البعد عن كلِّ ما يَجُرُّنا إلى الفتنة المحرّمة شرعاً.   1 راجع: الشيخ محمد إسماعيل صفحة 18، 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ويُقوِّي هذا ما يأتي: 1 - ثبوتُ عدم مصافحة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء مطلقاً حال البيعة مع وجود المقتضي وعدم المانع، هذا فضلاً عن أنه لم يفعل هذا، مع عِصْمته صلى الله عليه وسلم وانتفاء الرِّيبة عنه، فغيْره أوْلى بذلك. كما أنّ كلّ الشّبهات التي أوردها المجوِّزون أمكن الردُّ عليها. وفي هذا يقول الشيخ الشنقيطي: " ... فيلزمنا ألاّ نصافح النساء اقتداءً به صلى الله عليه وسلم ... وكونه صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء وقت البيْعة: دليلٌ واضح على أنّ الرجلَ لا يُصافح المرأة، ولا يَمسُّ شيءٌ من بَدنِه شيئاً مِن بَدَنها، لأنّ أخفّ أنواع اللّمس المصافحة؛ فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يَقتضيها - وهو وقت المبايعة - دلّ ذلك على أنها لا تجوز. وليس لأحد مخالفتُه صلى الله عليه وسلم لأنه هو المشرِّع لأُمَّته بأقواله وأفعاله وتقريره"1. 2 - أنّ كلّ مُنصِف يعلَم صحّة أنه مما لا شك فيه: أنّ مَسَّ البدن للبدنِ أقوى في إثارة الغريزة وأقوى داعياً إلى الفتنة من النّظر بالعين؛ وقد نهى الله سبحانه عن مقدِّمات الفاحشة سَدّاً لِباب   1 راجع: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 6 /256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الافتتان والتّلذّذ بالمرأة الأجنبية، لاسيما في هذا الزمان الذي قلّ فيه الوازعُ الدِّينيّ، وقد قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 1. وفي هذا إفادةُ النّهي عن كلِّ ما يُؤدِّي إليه؛ ولِذا حرَّم الله سبحانه الخلوةَ بالأجنبية، وإدامةَ النظر إليها. وقد أمَر بغضِّ النظر خوف الوقوع في الفتنة, وفي هذا يقول الشيخ الشنقيطي: "إنّ ذلك ذريعةٌ إلى التّلذُّذ بالأجنبية لِقلّة تقوى الله في هذا الزمان، وضياعِ الأمانة، وعدمِ التّورّع عن الرِّيبة ... فالحقُّ الذي لا شك فيه: التباعدُ عن جميع الفِتَن والرِّيَب وأسبابها، ومِن أكْبرِها لمسُ الرَّجل شيئاً من بدن الأجنبية؛ والذريعة إلى الحرام يجب سَدُّها ... "2. 3 - ـ جاء في فتاوى اللجنة الدائمة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء ما يلي: أولاً: أنه لا يجوز أن يضع رجلٌ يدَه في السلام في يدِ امرأة ليس لها بمحرم، ولو توقَّتْ بثوبها3. ثانيًا: لا يجوز للمسلم أن تمس بشرته بشرة امرأة من غير محارمه   1 سورة الإسراء: الآية 32. 2 راجع: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 6/257. 3 راجع فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 17/29 الفتوى رقم 1742. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 لا بمصافحة ولا غيرها، سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة1. ثالثًا: لا يجوز للمرأة المسنة – العجوز ولا غيرها من النساء مصافحة الرجل الأجنبي ... وهذا يعم الكبيرة والصغيرة لخوف الفتنة2. هذا، ومن الجدير بالتنبيه عليه هنا: أنّ الذي ترجَّح الآن من القول بتحريم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية مُراعىً فيه الدِّقّة في تحرير محلِّ النزاع على نحو ما سبق، بخصوص بيان المحرّمات على التأبيد وهنّ اللائي يجوز الخلوة بهن والنظر إليهن والسفر بهن ومصافحتهن إذا أُمِنَت الشهوة، لِيبقى التحريم الذي ترجّح هنا قاصِراً على المرأة الأجنبية عن الرجل. وهذه بطبيعة الحال هي التي تستدعي الحيطة والحذر في التعامل معها، فضلاً عن طبيعة بُعْدها في درجة القرابة عن الرجل؛ فلا أقلّ من التحوّط بتحريم مصافحتها، سَدّاً لباب الفتنة، وإعمالاً لقاعدة الأصول المقتضيةِ تحريم مقدّمة الحرام بنفس درجة ذلك التحريم، والله تعالى أعلم.   1 راجع: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 17/32 الفتوى رقم 2759. 2 راجع: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 17/47 الفتوى رقم 16420. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المبحث الثالث: مدى تأثير مصافحة المرأة على الوضوء اختلف الفقهاء بشأن مدى تأثير مصافحة المرأة على الوضوء، سواء كانت المصافحة للزوجة، أم للمحارم، أم للأجنبيّة، فضلاً عن اللمس المعتبَر أعمّ من المصافحة. ومنشأ الخلاف في هذه المسألة مرجعُه إلى خلاف آخَر في أمريْن: أحدهما: الاشتراك الواقع في لفظ "اللّمس" الوارد في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 1. في كلام العرب؛ فإنّ العرب تُطلِقه على اللّمس باليد مَرّة، وأُخرى تُكنِي به عن الجماع. فهل هو هنا محمول على الحقيقة أم على المجاز؟ فمَن حمَلَهُ على الحقيقة - وهي مُجرّد اللّمس باليد -, قال بنقْض الوضوء بمجرّد اللّمس. ومِن هؤلاء مَن رآه من باب العامِّ الذي أُريد به الخاصّ، فاشترط قصْدَ الشّهوة أو وجودَها كالمالكية. وأمّا مَن حمَل اللفظ على المجاز -وهو الجماع - قال بعَدم نقْض الوضوء بمجرّد اللمس.   1 سورة النساء: الآية 43، وسورة المائدة: الآية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وثانيهما: معارضة حديث عائشة في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه، ثم يُصلِّي دون وضوء1، لعموم اللّمس في الآية 2. وتحقيق القول في مدى تأثير المصافحة على الوضوء يتّضح من خلال النّظر في المذاهب الآتية: المذهب الأوّل: يرى أنّ الوضوء ينتقض إذا وقعت المصافحة بشهوة حتى ولو لم يجد لذّة، أو وجَد لذّة حتى ولو لم يقْصِدْها. ولا ينتقض إذا كانت بغير شهوة، أو كانت من فوق حائل كثيف. وإلى هذا ذهب المالكية، وهو أشهر الراويات عند الإمام أحمد، وهو مروي عن الحكم وحماد والليث، ورواية عن إسحاق والشعبي والنخعي وربيعة والثوري3. واستدل هؤلاء بما يأتي: أ - قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ   1 كما سيأتي تخريجه في الصفحة التالية. 2 راجع: بداية المجتهد لابن رشد 1/193، 194. 3 راجع: بداية المجتهد لابن رشد 1/193، 194، والمنتقى شرح موطإ مالك للباجي 1/389، وأحكام القرآن لابن العربي 1/563، والمغني لابن قدامة 1/245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 1. فهذه الآية تدلّ بظاهرها على أنّ مُطلق اللّمس ناقض للوضوء، سواء أكان بشهوة أم بغير شهوة، غير أنّ السُّنّة قيّدَتْه بما كان بشهوة. ونوقش هذا: بأنه ينبغي إبقاء الآية على ظاهرها؛ حيث تدلّ دلالة واضحة على نقض الوضوء باللمس المطلق، سواء بشهوة أم لا؛ فيجب إبقاء الأمر على ظاهره. ودُفِع هذا: بأنّ هذا الظاهر يجب تقييدُه بالسُّنّة حيث دلّتْ على أنّ الذي يُنقض الوضوء هو ما كان بشهوة دون غيره. ب - تقبيل الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة: فيما روي عن حبيب بن أبي ثابت2 عن عروة3 عن عائشة رضي الله عنها: "أن ّالنبي صلى الله عليه وسلم قبّل امرأة من نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ".   1سورة النساء: الآية 43، وسورة المائدة: الآية 6. 2 حبيب بن أبي ثابت: فقيه الكوفة، أبو يحيى القرشي الأسدي مولاهم. حدّث عن ابن عمر، وابن عباس، وأمّ سلمة. توفي عام 119هـ. راجع: سير أعلام النبلاء 5/288-291. 3 عروة المزني: شيخ لحبيب بن أبي ثابت، مجهول من الرابعة. راجع: تقريب التهذيب للعسقلاني 1/390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 قال عروة فقلت لها: مَن هي إلا أنتِ. فضحكتْ"1. وما روي عن أبي روق2 عن إبراهيم التيمي3 عن عائشة: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قبّلها ولم يتوضأ"4. و"حديث لمس عائشة لقدَمِه وهو يصلِّي، ولم يقطع صلاته حينما لمستْه السيدة عائشة"5. وهذا يدلّ على أنّ اللّمس كان بلا شهوة. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فقدْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسْتُه، فوقعتْ يدي على بطن قَدَمَيْه وهو في المسجد وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك. وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك؛ أنت كما أثنيْتَ على   1 راجع: المسند 6/207، والترمذي 1/138، وأبو داود 1/46، وابن ماجة 1/168. 2 أحمد بن محمد بن بكر الهزاني البصري، توفي في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة. راجع: سير أعلام النبلاء 15/185-187. 3 إبراهيم بن يزيد التيمي تيم الرباب: كان شاباً صالحًا قانتًا لله، عالماً فقيهاً، كبير القدر، واعظًا. قتَله الحجاج. توفي عام 94هـ. راجع: سير أعلام النبلاء 5/60، 61. 4 أخرجه الترمذي 1/138، وأبو داود 1/46. 5 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/186، 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 نفسك" 1. فهذا الحديث يدلّ على عدم نقض الوضوء بلمس المرأة. ومنه المصافحة 2. ومما يؤكِّد هذا: حديثُ حَمْلِه صلى الله عليه وسلم لأمامة بنت أبي العاص3، فيما روى أبو قتادة4 رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمّ الناس، وأمامة بنت العاص على عاتقه. فإذا ركع وضَعَها، وإذا رفع من السجود أعادها"5. حيث دل هذا الحديث على أنّ لمس الإناث لا ينقض الوضوء6.   1 أخرجه مسلم 1/352، وابن ماجة 2/1262. 2 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/186. 3 أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي. كان صلى الله عليه وسلم يحملها في صلاته. هي بنت بنته زينب رضي الله عنهما تزوج بها علي بن أبي طالب في خلافة عمر، وعاشت بعده حتى تزوج بها المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، فتوفيت عنده بعد أن ولدت له يحيى بن المغيرة. ماتت في دولة معاوية بن أبي سفيان. راجع: سير أعلام النبلاء 1/330-335. 4 أبو قتادة الأنصاري السلمي، هو الحارث بن ربعي، وقيل: اسمه النعمان، وقيل: عمرو. فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد أحُداً والحديبية. وله عدّة أحاديث. توفي عام 54هـ. راجع: سير أعلام النبلاء 2/449. 5 أخرجه البخاري 5/2235، ومسلم 1/385. 6 راجع: المغني لابن قدامة 1/194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ولا شك أنّ حمْله لها كان مجرداً من الشهوة، ومِن ثَمّ لم ينتقض وضوؤه. وهذا الوجه متحتِّم من أجل الجمع بين هذه الأدلّة وأدلّة نقض الوضوء مِن لمس المرأة. أي: أن الأحاديث الواردة بنقض الوضوء من لمس المرأة خاصّة بوجود الشهوة؛ فيبقى ما لا شهوة فيه على الأصل وهو عدم النقض. فالجمع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض ممكن؛ فيجب المصير إليه لأن العمل بكِلا الدليليْن خير من إعمال أحدهما وإهمال الآخر، بأن تُحمل أدلّة عدم النقض على ما كان بغير شهوة، وتُحمل أدلّة النقض على المسّ المقترن بالشهوة. جـ - قياس اللّمس غير المقترن بالشهوة على لمس ذوات المحارم، بجامع انعدام الشهوة في كلٍّ. ّ فكما لا ينتقض الوضوء بلمْس المحارم المجرّد من الشهوة، فكذا لا ينتقض وضوء من لمس مجرّداً من الشهوة1. هذا فضلاً عن قياس لمس الرجل لزوجته من غير شهوة على لمس المعتكف لزوجته بغير شهوة، وهذا جائز باتفاق العلماء؛ حيث ثبت: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُدني رأسه إلى السيدة عائشة رضي الله عنها فتُرَجِّلُه وهو معتكف"2 رغم أنّ ذلك مَظنّة مسِّها لَهُ ومَسِّه لها.   1 راجع: المغني لابن قدامة 1/194، 195. 2 حديث ترجيل عائشة لرأس النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف أخرجه البخاري 2/719. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 كما أنّ الإحرام أشدّ من الاعتكاف. ولو مسّت المرأة المحُرِم بغير شهوة لم يأثمْ بذلك، ولم يجب عليه دم باتفاق الفقهاء1. د - واستُدلّ بالعقل على عدم نقض الوضوء باللمس بدون شهوة، وقالوا إن الذي ينقض الوضوء هو اللّمس بشهوة فقط، لأنّ اللمس ليس بحَدث في نفسه، ولكنه نقض لأنه يُفضي إلى الحدث بخروج المذْي أو المني؛ فاعتبر فيه الحالة التي تُفضي إلى ذلك وهي حالة الشهوة2. المذهب الثاني: يرى أنّ الوضوء ينتقض بمصافحة المرأة بدون حائل مطلقاً، سواء كانت المصافحة بشهوة أم بغير شهوة. أمّا إذا وقعت المصافحة بحائل –ولو كان رقيقاً– فلا تنقض الوضوء. وإلى هذا ذهب الشافعية، والإمام أحمد في رواية له، وابن حزم. وهو المروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عمر وزيد بن أسلم من الصحابة، ومكحول والشعبي والزهري من التابعين، ومن الفقهاء   1 مجموع الفتاوى لابن تيمية 21/238، والمجموع للنووي 2/38. 2 راجع: المغني 1/194، وبداية المجتهد 1/51، وتفسير الطبري 4/113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 كلّ من النخعي والأوزاعي في إحدى الروايتيْن عنه وإسحاق1. واستَدلّ هؤلاء بما يأتي: أ - قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 2. فهذه الآية صريحة الدلالة على نقض الوضوء بالمصافحة؛ حيث إن قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} صريح في أنّ اللمس - ومنه المصافحة - من جملة الأحداث الموجِبة للوضوء. واللمس المذكور في الآية يُراد به مجرّد اللّمس باليد، بدليل أنّ الحق سبحانه عطَف اللّمس على المجيء من الغائط، ورتّب عليه الأمر بالتّيمّم عند فقد الماء؛ فدلّ ذلك على أنه من جملة الأحداث. واللّمس يُطلق حقيقة على اللمس باليد ومنه قوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} 3. كما يُطلق اللمس مجازاً على الجماع، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ   1 راجع: الأم للشافعي 1/62، والحاوي الكبير1/221، والمجموع 2/34، والمغني لابن قدامة 1/192، 193، والمحلى بالآثار لابن حزم 1/227، ونيل الأوطار للشوكاني 1/240، وسبل السلام للصنعاني 1/93،94. 2 سورة النساء: الآية 43، وسورة المائدة: الآية 6. 3 سورة الأنعام: الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 تَمَسُّوهُنَّ} 1. واللفظ إذا تردّد بين الحقيقة والمجاز، فالأوْلى حمْلُه على الحقيقة حتى يقوم دليل على إرادة المجاز، ولا دليل هنا. ويؤيِّد بقاءَ اللفظ على الحقيقة في هذه الآية: قراءةُ حمزة والكسائي: {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} 2. فهي ظاهرة في إرادة المسّ دون الجماع.3 وأمّا مِن حيث عموم النّقض باللّمس - ومنه المصافحة -, فلأنّ الملامسة مُفاعلة، وهي لا تكون إلاّ مِن فاعليْن، فيُخاطَب بها الرجال والنساء على العموم، ويكون حُكمها ملْزماً للجميع دون تخصيص لواحد منهما، ولا تخصيص لجنس اللّمس من حيث كونه بشهوة أو بدون شهوة، حيث لا دليل عليه4. ونوقش هذا بما يأتي: * أنّ قولَكم بأنّ الآية حُكمها عامّ ومُلزِمٌ للجميع، دون تخصيص لجنس اللّمس هل هو بشهوة أم لا: قولٌ غيرُ مُسلَّم؛ وذلك لأنّ العموم الوارد في الآية مخصوص بالأحاديث التي تُثبِت   1 سورة البقرة: الآية 237. 2 راجع: تفسير القرطبي 2/188. 3 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/185، والمجموع للنووي 1/35. 4 راجع: المحلى 1/227، 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 عدمَ انتقاض الوضوء باللّمس؛ وعليه فإنه يتحتّم حمْلُ هذه الأحاديث على اللّمس المجرّد من الشهوة. * أنّ قولَكم: إنّ اللفظ إذا تردّد بين الحقيقة والمجاز، فإنّ حمْلَه على الحقيقة واجب: قولٌ غيرُ مُسلَّم على الإطلاق؛ إلاّ أنه إذا كثُر استعمال اللفظ في المجاز، فإنه يُحمل عليه في هذه الحالة، كما هو الحال في "الغائط" حيث يُراد به عند الإطلاق: "الحدَث" مع أنه مجاز فيه؛ حيث إن حقيقته: المكان الذي اطمأنّ من الأرض. * أنّ قولكم: إنّ الملامسة مفاعلة، وهي لا تكون إلاّ من فاعليْن، فهذا غيرُ مُسلَّم هو الآخر؛ وذلك لأنّ المفاعلة هي الأخرى متصوّرة في صورة المسيس باليد1. هذا فضلاً عن أنّ لفظ "المفاعلة" قد يَرِد في الواحد، فيقال: سافر، وهاجر، وطابق النعل. ثم الجماع فعْل الرجل، ومن المرأة التمكين، ومثلُه جارٍ في اللّمس فإنه فعل يجري بين بَشَرتيْن كالجماع2.   1 راجع: الحاوى الكبير للماوردي 1/185، والمنتقى للباجي المالكي 1/390. 2 راجع: الانتصار لابن الخطاب الكلوذاني 1/316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 * أنّ الملامسة الواردة في الآية يُراد بها الجماع1؛ وهذا مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه حيث قال: "الملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والجماع، نكاح؛ ولكنّ الله تعالى كنى". وهذا مروي أيضاً عن علي بن أبي طالب، وبه قال عطاء والحسن البصري2. واللمس، وإن كان مجازاً في الجماع، إلاّ أنه عُدل به في هذه الآية عن الحقيقة إلى المجاز، لوجود القرينة الدالة على ذلك، وهي: الأحاديث التي أثبتَتْ عدَمَ نقْض الوضوء باللّمس، خصوصاً وأنّ أسلوب الآية وتركيبَها يدلّ على أن المقصود باللّمس فيها هو: الجماع. وبيان ذلك: أنّ معنى الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} يعني: وقد أحدَثْتُم قبل ذلك، {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ؛ فأوجب الوضوءَ بغسل ومسح هذه الأعضاء المذكورة في الآية. ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ، أي: بالاغتسال من الجنابة. فأوجب الوضوءَ من الحدَث الأصغر، والغسلَ من الحدث الأكبر. ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ   1 راجع: الأوسط لابن المنذر 1/114 – 116، ومصنف ابن أبي شيبه 1/153، والمصنف لعبد الرازق 1/134. 2 راجع: الأوسط بن المنذر 1/115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يريد الجماع، {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} تتوضّؤون به من الغائط، أو تغتسلون به من الجنابة كما أمرْتكم به في أوّل الآية، {فَتَيَمَّمُوا} ؛ فأوجب في آخِر الآية التّيمّم على ما كان أوجب عليه الوضوء أو الاغتسال بالماء في أوّلها1. ودُفِع هذا: بأنّ المراد باللّمس في الآية: حقيقتُه. وقول ابن عباس وعليّ معارَض بقول غيرهما من الصحابة، كعمر، وابن عمر، وابن مسعود. وهذا أوْلى من قول ابن عباس وعليّ، لأنه قول يُسنَد إلى الحقيقة وهي مقدّمة على المجاز، ولأنّ الحقيقة في هذه المسألة أحْوطُ للعبادة. والأصل في العبادات الاحتياط؛ ألا ترى: أنه لما تردّدَتْ "إلى" في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} بيْن أن تكون حدّاً وبيْن أن تكون بمعنى: "مع"، حُملَتْ على أنها بمعنى: "مع" المرافق، احتياطاً2؟ وعلى هذا، فإنّ اللّمس –ومنه: المصافحة– يُحمل في الآية على حقيقته. ويُؤيِّد بقاءَه على المعنى الحقيقي: قراءة: {أَوْ لامَسْتُمُ} ؛ فإنّها ظاهرة في مجرّد اللّمس دون الجماع3.   1 راجع: الأوسط لابن المنذر 1/128. 2 راجع: الانتصار لأبي الخطاب الكلوذاني 1/313- 315. 3 راجع: الحاوي الكبير للماردوي 1/185، والمنتقى للباجي المالكي 1/390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ب - واستدلّ أنصار المذهب الثاني أيضاً بالسُّنّة فيما روي عن معاذ بن جبل1 قال: "أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل لقِيَ امرأةً لا يعرفها. فليس يأتي الرّجل من امرأته شيئاً إلاّ قد أتاه منها، غير أنه لم يجامِعْها؟ قال: فأنزل الله هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} 2. قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضّأْ ثُم صَلِّ". وقال معاذ: فقلتُ: يا رسول الله، ألَهُ خاصّة، أمْ للمؤمنين عامّة؟ قال: "بلْ للمؤمنين عامّة". 3 ففي هذا الحديث، يأمر النبي صلى الله عليه وسلم السائلّ بالوضوء من غير تفصيل هل كان اللمس بشهوة أمْ لا؟ فدلّ ذلك على نقض   1 معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي: صحابي جليل، كان أعلَمَ الأمّة بالحلال والحرام. أسلم وهو فتًى، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين جعفر بن أبي طالب. شهد العقبة مع الأنصار السبعين، وشهد بدراً، وأُحُداً، والخندق، والمشاهد كلّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعَثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً ومرشداً لأهل اليمن. توفي عقيماً بناحية الأردن ودفن بالقصير المعيني "بالغور" عام 18هـ. راجع: الأعلام للزركلي 7/258. 2 سورة هود: الآية 114. 3 راجع: الترمذي 5/291، والمسند 5/244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الوضوء بمجرّد لمس المرأة مطلَقاً1. ونوقش هذا: بأنّ الحديث الذي تمسّكْتُم به مُعَلٌّ بالانقطاع، لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمعْ من معاذ؛ حيث إنّ معاذاً توفي في خلافة عمر، وتوفي عمر وعبد الرحمن بن أبي ليلى غلامٌ صغيرٌ ابن ستِّ سنين2؛ كما أنّ أصْل القصّة في "الصحيحيْن" وغيرهما بدون الأمر بالوضوء والصلاة3؛ وكلّ ذلك يوجب ردَّه. وعلى فرض التسليم جدلاً بصحّة هذا الحديث، فإنه لا دلالة فيه على النقض، لأنه لم يثبت أنّ الرجل كان متوضِّئاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء، ولا ثبت أنه كان متوضِّئاً عند اللمس فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه انتقض وضوؤه4. كما يحتمل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمَرَه بالوضوء للتبرك وإزالة الخطيئة لا للحدَث. هذا فضلاً عن أنّ الحال التي ذكَرها الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشكّ أحد في أنها لا تخلو من   1 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/186. 2 راجع: جامع الترمذي 5 /291. 3 راجع: البخاري 1/196، ومسلم 4/2116. 4 راجع: نيل الأوطار للشوكاني 1/195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 شهوة. فهل يُتصوّر أن يلتقي رجل بامرأة ويأتي منها ما يأتي الرجل من امرأته غير المجامعة، وتخلو هذه الصورة من شهوة؟ المذهب الثالث: يرى أنّ مصافحة المرأة لا تنقض الوضوء مطلقاً؛ لا فرق في ذلك بين كونها بشهوة أم لا، وقعت بحائل أم لا؟ وإلى هذا ذهب الحنفية، وفي رواية للإمام أحمد، وهو مروي عن ابن عباس، وعطاء، وطاووس، ومسروق، والحسن، والثوري1. واستدل هؤلاء بما يأتي: أ - قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 2. فقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يُراد به الجماع الذي يوجد الجنابة. وهو مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه حين قال: "الملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والجماع، نكاح؛ ولكنّ الله تعالى كَنى". ومثله مروي عن عليّ بن أبي طالب، وهو قول عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري3.   1 راجع: شرح فتح القدير 1/48، وأحكام القرآن للجصاص 2/519، والمغني لابن قدامة 1/194، 195. 2 سورة النساء: الآية 43، وسورة المائدة: الآية 6. 3 راجع: الأوسط لابن المنذر 1 / 114، 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ويؤيد هذا: قولُه تعالى: {أَوْ لامَسْتُم} على وزن: "فاعَلْتُمْ"، والمفاعلة لا تكون إلاّ بين شخصيْن وذلك هو: الجماع1. ونوقش هذا: بأنه لا يُسلَّم لكم ما ذهبتُم إليه من تفسير الملامسة بالجماع. وما روي عن ابن عباس وعليّ وغيرهما مُعارَض بما ثبت عن عبد الله بن مسعود وابن عمر، وكذلك عمر، وعمار، وابن الزبير - رضي الله عنهم أجمعين -؛ فقد ثبت أنهم قالوا: "القُبلة من الملامسة، وما دون الجماع من الملامسة"2. ومثْل هذا روي عن الزهري، وعطاء بن السائب، ومكحول، والشعبي، والنخعي3. أمّا بالنسبة لقولكم: "إنّ الملامسة مفاعلة، وهي لا تكون إلا بيْن اثنيْن"، فمدفوع بأنّ لفظ "المفاعلة" متصوّر من جانب واحد، يقال: سافر، وهاجر، والفاعل واحد4.   1 راجع: الانتصار للكلوذاني 1/315، واللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي 1/146. 2 راجع: الأوسط لابن المنذر 1/116 – 118، والموطأ 1/ 65، والانتصار للكلوذاني 1/314. 3 راجع: الأوسط لابن المنذر 1/118 – 120. 4 راجع: الانتصار للكلوذاني 1/316، 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ب - استدلّوا أيضاً بالسُّنّة، ومن هذا: 1 - ما رُوي عن أبي روق إبراهيم التيمي، عن عائشة: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قَبَّلها ولم يتوضّأ"1. وفي رواية عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة عن عائشة ل: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قَبّل امرأةً من نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضّأْ". قال عروة: فقلت لها: "من هي إلا أنتِ. فضحكتْ"2. ففي هذيْن الحديثيْن: الدلالة الواضحة على عدم نقْض الوضوء بلمْس المرأة مُطلقاً، لأن القُبلة أعظم اللمس، وقد فَعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم صلّى ولم يتوضّأ؛ وهذا نصّ في الموضوع. ونوقش هذا: بأنّ هذيْن الحديثيْن لا يَصحّان؛ فقد ضعّفهما وطعَن فيهما أهلُ الحديث. فقد قال أبو داود في روايته لحديث إبراهيم التيمي: "هو مرسل، وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة شيئاً"3. وقال عنه الترمذي أيضاً: "لا يصحّ أيضاً، ولا نعرف   1 أخرجه الترمذي 1/138وقال: "هذا لا يصح أيضاً"، وأخرجه أبو داود 1/45 وقال: "مرسل". 2 تقدم تخريجه في صفحة 88. 3 راجع: سنن أبي داوود 1/45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 لإبراهيم التيمي سماعاً من عائشة. وليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء".1 وقال الترمذي عن حديث عروة: "وإنما ترَك أصحابُنا حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا، لأنه لا يصحّ عندهم، لحال الإسناد". ثم روى عن علي بن المديني قال: "ضعَّف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث جدّاً وقال: "هو شبْه لا شيء"2. وفي هذا يقول ابن قدامه: "وأمّا حديث القُبلة، فكُلُّ طُرُقِه معلومة. قال يحيى بن سعيد: "احْكِ عنِّي أنّ هذا الحديث شِبْهُ لا شيء". قال أحمد: "نرى أنه غلّط الحديثيْن جميعاً –يعني: حديث إبراهيم التيمي، وحديث عروة -؛ فإن إبراهيم التيمي لم يصحّ سماعه من عائشة، وعروة المذكور ههنا: عروة المزني ولم يدرك عائشة". كذلك قاله سفيان الثوري، قال: "ما حدّثنا حبيب إلا عن عروة المزني. ليس هو عروة بن الزبير"3. ودُفع هذا: بأنّ هذا الحديث صحّحه ابن عبد البَر وجماعة.   1 راجع: جامع الترمذي 1/138. 2 راجع: جامع الترمذي 1/138، 139. 3 راجع: المغني 1/193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وعلى فرْض التّسليم بضعفه، فإنه يتقوّى بكثرة الرواة، وينجبر بكثرة وتعدّد الروايات، وبحديث عائشة في لمسِها لقَدَم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته1. ورُدَّ هذا الدّفع: بأنه على فرْض التّسليم بصحّته، فإنه يُمكن حمْلُه على أنّ القُبلة كانت من فوق حائل، ولا يمتنع أن يُطلق اسم القُبلة على ذلك. وطُعن في هذا الرّدِّ: بأنّ القول بذلك فيه تكلّف واضح، ومخالفة للظاهر2. ودُفع هذا الطعن: بالتسليم بأنّ اللّمس أو القُبلة كانت بغير حائل، إلاّ أنه يحتمل أنّ التقبيل كان بغير شهوة. وقد قال ابن قدامه: " ... قد يُمكن أن يُقبِّل الرجل امرأتَه لغير شهوة برّاً بها وإكراماً لها ورحمة. ألا ترَى إلى ما جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم - "أنه قَدِم مِن سفر فقَبَّل فاطمةَ"3؛ فالقُبلة قد تكون لشهوة ولغير شهوة ... "4.   1 راجع: تحفة الأحوذي 1/252، وسبل السلام للصنعاني 1/94، ونيل الأوطار للشوكاني 1/246. 2 راجع: الانتصار لأبي الخطاب الكلوذاني 1/226. 3 راجع: التمهيد لابن عبد البر 21/179، ومسند أحمد 6/296. 4 راجع: المغني 1/193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ومن هنا، يبقى الحديث محتملاً، ويسقط الاستدلال به1. 2 - ما رواه أبو قتادة رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤُمّ الناس، وأمامةُ بنت العاص على عاتقه. فإذا ركَع وضَعها، وإذا رفع من السجود أعادها"2. فهذا الحديث يدلّ على: أنّ لمس الإناث لا ينقض الوضوء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل أمامةَ بنتَ زينب ابنتِه وهو في الصلاة، ولو كان اللمس ناقضاً للوضوء لما صلّى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فِعْلِه3. ونوقش هذا: بأنّ حمْلها لا يقتضى مباشرة بدَنها؛ إذْ يحتمل أنها كانت موشّحة برداء أو بقفّازيْن وجوربيْن، أو كان ثوبها سابغاً يغطي يديْها ورجليْها4، فضلاً عن أنها من ذوات الأرحام لأنها ابنة بِنْتِه زينب؛ والوضوء لا يجب من لمس المحارم عند الشافعية في أحد القوليْن. كما أنه لا وضوء عندهم في لمس الصغيرة على أحَد القوليْن5.   1 راجع: المغني 1/193. 2 أخرجه البخاري 5/2235، ومسلم 1/385. 3 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/187، والمغني لابن قدامة 1/194. 4 راجع: المحلى بالآثار 1/229. 5 راجع: الأوسط لابن المنذر 1/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 كما أنه يحتمل أنّ اللمس كان بِلا شهوة –وهو الظاهر–، فلم ينتقض الوضوء لأنّ المدار في نقض الوضوء على قصْد اللّذة أو وجودها –عند المالكية والحنابلة–، لا فرق في ذلك بين الأجنبيّة وذات المحارم، والكبيرة والصغيرة؛ فاللمس الناقض هو الذي تتحقّق فيه الشهوة، ومتى وُجدت فلا فَرْق بين الجميع1. 3 - ما رواه أبو هريرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فقَدْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من الفراش، فالْتمسْتُه، فوقعتْ يَدي على بطْن قدَميْه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك. وأعوذ بك منك؛ لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيْتَ على نفسك" 2. فهذا الحديث يدلّ على عدم نقْض الوضوء بلمس المرأة - ومنه المصافحة - لأنّ الطاهرة عائشة ل لمسَتْ قدَم رسول الله بِيَدها وهو يُصلِّي، ولو كان ناقضاً للوضوء لما مضَى في صلاته3. ونوقش هذا: بأنّ هذا الحديث يحتمل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان داعياً في غير الصلاة.   1 راجع: المغني لابن قدامة 1/194. 2 تقدم تخريجه في صفحة 89. 3 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وهذا جائز للمُحدِث؛ وليس من شرط الدعاء كونُه في صلاة، كما يحتمل أن يكون اللمس من فوق حائل1. ودُفِع هذا: بأنّ الظاهر: أنه كان في صلاة ولا يُعدل عن هذا الظاهر إلاّ بِيَقين. وأمّا دعوى الحائل، ففيها تكلّف ظاهر؛ حيث ثبت عن عائشة أنها قالت: "كنت أنام بيْن يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورِجْلاي في قِبْلتِه؛ فإذا سجَد غمَزَني فقبضْتُ رِجْلي، فإذا قام بسَطْتُهما". قالت: "والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح"2. فقولها: "فإذا سجد غمزني" ظاهر في أنّ اللّمس كان بلا حائل، لأنّ حقيقة الغمز إنما هو باليد، ومنه: غَمْزُك الكبْش: إذا جسَسْتَه لتنظر أهو سمين أم لا؟ والرِّجْل الغالب عليها ظهورُها من النائم، لاسيما مع الامتداد3. جـ - واستدلّوا كذلك بالقياس، حيث قاسوا لمسَ الرّجل للمرأة –ومنه: المصافحة - على لمس الرّجُل للرّجُل وقالوا: لو كان لمسُ المرأة ناقضاً للوضوء، لكان لمسُ الرّجلِ للرَّجُل ناقضاً أيضاً،   1 راجع: المحلى بالآثار 1/229، والحاوي الكبير 1/187. 2 أخرجه البخاري 1/150، ومسلم 1/367. 3 راجع: المجموع للنووي 1/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 كما أن جماع الرّجل الرّجل كجماعه المرأة موجب للغسل، كما قاسوا لمس المرأة عموماً على لمس المرأة المحرم وعلى لمس الشعر1. ونوقش هذا: بأنّ قياس لمس المرأة على لمس الرجل قياسٌ لا يصحّ، لأنّ الرّجل ليس مظنّة لشهوة. كما أنّ قياس المرأة عموماً على لمس المحارم وعلى لمس الشعر قياسٌ مع الفارق، لأن لمس المحارم لا نُسلِّم أنه لا ينقض الوضوء مطلقاً، ولو سلّمناه فلا نُسلِّم لهم القياس أيضاً، لأنّ المحارم ليست محلاً لشهوة شرعاً2، ومازال الناس قديماً وحديثاً يتعارفون على أن يعانق الرّجل أُمّه وجَدّته ويُقبِّل ابنتَه حال الصِّغر قُبلةَ الرّحمة، ولا يرَوْن ذلك ينقض الوضوء ولا يُوجب وضوءاً عندهم3. وأمّا القياس على الشّعَر، فغير المسلّم لهم أيضاً، لأنّ الشعَر لا يُلتذّ بلمْسه وليس محلاً للشهوة. وقد أبطل أمام الحرميْن القياس في هذا الباب4.   1 راجع: الانتصار للكلوذاني 1/324، والمجموع للنووي 1/37. 2 راجع: الأوسط لابن المنذر 1 /131. 3 راجع: الحاوي الكبير للماوردي 1/187. 4 راجع: المجموع للنووي 1/37، والحاوي الكبير للماوردي 1/187، 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 د - واستدلّوا بالمعقول: وقالوا: إنّ اللمس ليس بحدَث في ذاته، كما أنه ليس من أسباب الحدَث غالباً، فأشبَهَ لمس المرأةِ المرأةَ والرَّجلِ الرَّجلَ، ولا ينقض الوضوء بهذا1. ونوقش هذا: بأنّ قولكم: "إن اللّمْس ليس بحدَث في ذاته" مُسلَّم، إلاّ أنه اعتُبِر ناقضاً للوضوء لأنه يُفضى إلى خروج الحدَث، فاعتبرت الحالة التي تُفضي إلى الحدث بحسب الغالب وهي: حالة الشهوة2. وهذا يخالف لمسَ المرأةِ المرأةَ والرَّجلِ الرّجلَ؛ فإنّ هذا اللمس ليس مظنّة الشهوة. الترجيح: من خلال النظر فيما قاله الفقهاء بشأن مدَى تأثير المصافحة للمرأة على الوضوء، بذكْر ما قالوه وأدلّتهم، ومتابعتها بالمناقشات الواردة عليها، يُمكن القول الآن بأنّ الرّاجح: هو ما ذهب إليه أنصار المذهب الأوّل، - وهُم: المالكية، والمشهور عند الحنابلة – القائلون بنقْض الوضوء بمصافحة المرأة إذا   1 راجع: الانتصار لأبي الخطاب الكلوذاني 1 /324، 325. 2 راجع: المجموع 1 /37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وقعتْ بشهوة، وإلاّ فلا، لأن هذا القول هو الأوْلى بالقبول بمراعاة أنّه لا تعارض بين ما ترجّح هنا وبين ما ترجّح بالنسبة لأحكام المصافحة للمرأة – على نحو ما سبق -, والذي ترجّح فيه الحرمة بالنسبة للمرأة الأجنبية، لأن المسألة التي معنا الآن - وهي مدى نقض الوضوء بالمصافحة - شاملة للأجنبيّة وغير الأجنبيّة، ولا يلزم من حرمة مصافحة الأجنبية نقض الوضوء بهذه المصافحة حيث إن الجهة منفكّة. وبهذا التوضيح يحصل التوفيق بين ما رجّحناه هنا، وما ترجّح من حرمة مصافحة المرأة الأجنبية، وما اتّفق عليه العلماء بشأن حرمة مصافحة المرأة الأجنبيّة عند تأكّد الفتنة بوجود الشهوة. هذا، والذي دفعني إلى ترجيح هذا المذهب: أنّ القول به يؤدِّي إلى الجمع بين الأدلّة التي ظاهرُها التعارض؛ وهذا أوْلى من إعمال أحدِها وإهمال الآخَر. فهو مذهب وسط بيْن طرفيْن، يجمع بين الأدلّة، ويَدْفع التعارض عن سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا فضلاً عن أنّ القول به فيه: رفْعٌ للحَرج ودفْعٌ للضرر الذي يترتّب على القول بنقض الوضوء مطلقاً. كما أنّ القول بعدم نقض الوضوء بالمصافحة مُطلقاً حتى ولو تحقّقت الشهوة قولٌ فيه تساهل واضحٌ لا يُمكن أن تطمئنّ النفوس إليه، خاصّة وأنّ القول به يفتح مجالاً لمرضى القلوب والنفوس لِيَزيغوا عن سبيل الهدى والرشاد. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 المبحث الرابع: المصافحة عقب الصلاة استبان لنا فيما سبق: أنّ المصافحة عند اللقاء سُنّة، بمراعاة ما قيل بشأن مصافحة المرأة الأجنبيّة، ومدى تأثير مصافحة المرأة على الوضوء. وسُنِّيّة المصافحة هذه تتحقّق بدون شك عند كلِّ لقاء، حتى ولو كان ذلك بعد الفراغ من الصلاة، طالما كان ذلك بسبب اللقاء. وهذه المصافحة بعد أداء الصلاة، وعلى هذا السبب - وهو: اللقاء - لا تخرج عن حُكمها الأصلي، وهو القول بأنها سُنّة، على معنى أنّ كونها عقِب الصلاة لا يُخرجها عن هذا الحُكم لأنها حدثَتْ بسببٍ غير الصلاة وهو اللقاء؛ وهذا لا نزاع فيه. إنما الخلاف في حُكم ما اعتاده كثير من المسلمين من المصافحة عقِب الصلاة، أي: عقِب التسليم، لدرجة أنهم يَحرصون عليها حتى أنها أصبحت محلّ مواظبة منهم؛ وهذا ما دفَع بعض العلماء للتخوّف من أن يظُنّ البعضُ أنها من شعائر الصلاة، وأنّ الصلاة لا تكتمل إلا بها. فاختلف الرأي في هذا الشأن، مما يستلزم تحقيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 القول الآن في هذا الخلاف، لنستنير بحُكم الشرع على هُدًى وبصيرة، لنقول: إنّ الخلاف في هذا على مذهبيْن: المذهب الأوّل: يرى أنّ المصافحة عقِب الصلاة مُباحة ولا شيء فيها، ولا تأثيم لفاعلها، حتى أنّ بعض هؤلاء قال باستحبابها، تحقيقاً للتعارف والتراحم بعد فراغهم من الصلاة، كأوّل واجهة لهذا عقب الصلاة. واستدلّ هؤلاء بما يأتي: أ - ما أخرجه البخاري عن شعبة عن الحَكم قال: سمعت جحيفة قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضّأ ثم صلّى الظهر ركعتيْن والعصرَ ركعتيْن وبيْن يديْه عَنَزَةٌ". قال شعبة: وزاد فيه عون عن أبيه عن أبي جحيفة1 قال: "كان يمُرّ من ورائها المرأةُ. وقام الناس فجعلوا يأخذون يديْه فيَمسحون بها وجوهَهم. قال: فأخذتُ يَدَه فوضعْتُها على   1 أبو جحيفة السوائي الكوفي: اسمه وهب بن عبد الله، من صغار الصحابة، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُراهق. وسكن الكوفة، وولي بيت المال والشرطة لعليّ. ومات في ولاية بشر بن مروان على العراق. وهو آخر مَن مات بالكوفة من الصحابة عام 67هـ. راجع: سير أعلام النبلاء للذهبي 3/202، والأعلام للزركلي 8/125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وجْهي؛ فإذا هي أبْرَد من الثلج وأطْيَب من رائحة المسك"1. فقد دلّ هذا على وقوع المصافحة بعد الصلاة، حيث ورد فيه: أنّ الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يأخذون بيده صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة، أي: يصافحون ثم يمْسحون بيده وجوهَهم بعد ذلك2. ونوقش هذا: بأنّ أخْذ الصحابة ليَديْ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مقصوداً به التّبرّك بيديْه الكريمتيْن. ويدلّ على هذا: أنهم كانوا يَمسحون بهما وجوهَهم. والمتعارَف عليه بين المسلمين: أنّ المصافِح لغيره لا يمسحُ وجْهَه بيدِ مَن صافَحَه؛ هذا فضلاً عن أنّ المصافحة تتم باليد الواحدة، والوارد في الحديث أنّ الصحابة كانوا يأخذون بكلْتا يديْه الشريفتيْن. وفي هذا: الدلالة على أنّ المقصود مِن فعْلِهم هذا هو: التبرك بيدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيَستلمونها ويمسحون بها وجوههم، كما كانوا يتبرّكون بشَعر النبي صلى الله عليه وسلم3، وعَرَقِه4، وفضْلِ   1 أخرجه البخاري 3/1304. 2 راجع: فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام صفحة 390. 3 على نحو المروي في البخاري 1/75. 4 كما أخرج الإمام مسلم 4/1815. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وضوئه1؛ وهذا لا يتأتّى لغيْر النبي ص. وعلى هذا، فالحديث لا يدلّ على مشروعية المصافحة عقِب الصلاة على نحو ما زعَمْتُم. ب - أنه على فرْض التسليم بأنّ المصافحة عقِب الصلاة بِدْعة، إلاّ أنها بِدْعة حسنة أو مباحَة لا حَرج فيها. وهذه بعض الأقوال الدّالّة على هذا: * ما قاله سلطان العلماء العز بن عبد السلام/ في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" بعد أن قسّم البدعة إلى خمسة أقسام: واجبة، ومحرّمة، ومندوبة، ومكروهة، ومباحة، ثم قال للبدعة المباحة بقوله: "وللبِدَع المباحة أمثلة: ومنها: المصافحة عقيب صلاة الصبح والعصر"2. * وقد قال الإمام النووي /: "واعْلَمْ: أنّ هذه المصافحة مستحبّة عند كلِّ لقاء. وأمّا ما اعتاده الناس في المصافحة بعد صلاتَيْ الصبح والعصر، فلا أصْل له في الشرع على هذا الوجْه، ولكن لا بأس به؛ فإنّ أصل المصافحة سُنّة، وكونهم حافظوا عليها   1 راجع: صحيح البخاري 2/976. 2 راجع: قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 2 /338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وفي بعض الأحوال، وفرّطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها، لا يُخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورَدَ الشّرع بأصْلها"1. * وقد وجدْت الحافظ ابن حجر ينقل هذيْن القوليْن للعز بن عبد السلام وللنووي، ثم يقول: "وللنظر فيه مجال؛ فإنّ أصل صلاة النافلة سُنّة مُرغَّب فيها، ومع ذلك فقد كَرِه المحقِّقون تخصيصَ وقت بها دون وقت. ومنهم مَن أطلق تحريمَ مثْل ذلك، كصلاة الرغائب التي لا أصل لها"2. هذا، وقد نقل الشيخ محمد السفاريني كلام الحافظ ابن حجر، وقال: "ويتوجّه مثْل ذلك عقِب الدروس ونحوها من أنواع مجامع الخيرات"3. كما أنّ المستقَرّ عليه لدى معظم القائمين على الفتوى هو: استحباب المصافحة عقِب الصلاة مطلقاً، حتى وإن سبقت المصافحة بين المتصافحين قبل الصلاة، لأنّ الصلاة غيبة حُكمية –يعنى: يغيب   1 راجع: المجموع 4/476، والأذكار المنتخبة في كلام سيد الأبرار صفحة 240. 2 راجع: فتح الباري 11 / 57. 3 راجع: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب صفحة 1/328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فيها المصلي عمّن حوله بانشغاله بها في رحاب الله - عز وجل –, فتلحق بالغيبة الحسية1. وهذا الحُكم من استحباب المصافحة عقِب الصلاة عموماً، يتوجّه مع فعْل المصافحة بعد الصبح والعصر على نحو ما ورد في الحديث، باعتبار أن تخصيص هذيْن الوقتيْن - الصبح والعصر - لما روى أنّ ذيْنك الوقتيْن لنزول ملائكة وصعود آخَرين، إذ تَنزل ملائكة الليل عند العصر وتصعَد عندها ملائكة النهار، وتنزل ملائكة النهار عند الصبح وتصعد ملائكة الليل؛ فاستُحبّت المصافحة هنا عقب الصلاة للتّبرّك بمصافحتهم، فضلاً عن المصافحة المستحبّة عقب كافة الصلوات2. ونوقش هذا: بأنّ القول بتقسيم البدعة إلى ذات أقسام الحُكم التكليفي الخمسة: قول مردود، حيث ردّه كثير من العلماء؛ ومن هؤلاء: الإمام الشاطبي / الذي بالغ في الرّدِّ على من قال به ممّن يرَوْن أنّ البدعة قد تكون واجبة أو محرّمة أو مندوبة أو مكروهة أو مباحة. فقد ورد في "الاعتصام": "إنّ هذا التقسيم أمْر مخترَع لا يدلّ عليه دليل شرعي؛ بل هو في نفسه متدافع لأنّ حقيقة البدعة   1 راجع: الفتوحات الربانية 5/397. 2 راجع: الفتوحات الربانية 5/397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أن لا يدُلّ عليها دليل شرعي، لا من منصوص الشرع ولا من قواعده؛ إذ لو كان هنالك ما يدلّ من الشرع على وجوبٍ أو ندبٍ أو إباحةٍ لما كان ثَمّ بدعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها أو المخيّر فيها. فالجمع بين عدِّ تلك الأشياء بِدَعاً وبيْن كون الأدلّة تدل على وجوبها أو ندْبها أو إباحتها جمْعٌ بين متنافِيَيْن"1. وممّا يؤكِّد هذا المعنى: ما رواه جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطَب احمرّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدّ غضبُه، حتى كأنه مُنذِرُ جيش يقول: صَبَّحَكُم وَمسَّاكم. ويقول: "بُعثْتُ أنا والساعة كهاتيْن"، ويقرن بين أصبِعَيْه السّبّابة والوسطى. ويقول: "أمّا بعد، فإنّ خيْرَ الحديث كتابُ الله، وخيْرَ الهدْيِ هدْيُ محمّدٍ، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلّ بدْعةٍ ضلالة" 2، وما روي عن العرباض بن سارية3 رضي الله عنه قال: "صلّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، ثم   1 راجع: أبا إسحاق الشاطبي 1/139. 2 أخرجه مسلم 2/592، وابن ماجة 1/17. 3 العرباض بن سارية السلمي، من أعيان أهل الصّفّة، سكن حمص، وروى أحاديث. وكُنيتُه: أبو نجيح. توفّي عام 75هـ. راجع: سير أعلام النبلاء 3/419. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَعَظنا موعظةً بليغة، ذرفَتْ منها العيون، ووَجِلتْ منها القلوب. فقال قائل: يا رسول الله، كأنّها موعظةُ مُودِّع؛ فأوْصِنا. فقال: "أُوصيكُم بتقْوى الله، والسمعِ والطاعةِ وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنّه مَن يَعِشْ منكم بَعْدي فسَيَرى اختلافاً كثيراً؛ فعلَيْكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الرّاشِدِينَ المهديِّين. عَضُّوا عليها بالنَّواجِذ! وإيَّاكُم والمحدثَات! فإنّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعة! "، وفي رواية: "وإيَّاكُم ومُحْدَثَات الأُمور! فإنّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضلالة! " 1. وهكذا، فلفظ: "كُلّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَة" و"كُلّ بِدْعَةٍ ضَلالَة" يدلّ دلالة واضحةً على عدم صحَّة هذا التقسيم. المذهب الثاني: يرى أنّ المصافحة عقِب الصلاة دون سبب إلاّ الصلاة بِدْعة، ولا يصحّ فعْلها، ويُنَبَّهُ فاعلُها على ترْكها. ومن هؤلاء مَن ذهب إلى أكثر من هذا وقال: "بأنها مكروهة"2. هذا، وقد اعتمد أنصار هذا المذهب على أمْر واحد، ودعَّموه بالنقول الدالة عليه، وتعضيد ما قالوه؛ وذلك الأمرُ المعتبر مسنداً لهم هو: أنّ المصافحة عقِب الصلاةِ أمْرٌ مُحدَث لم يَثبُتْ وُرودُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف، فيحكم بِرَدِّه لِئلَّا يُؤدِّي   1 أخرجه أبو داود 4/200، والترمذي 5/44. 2 راجع: فتاوى العز بن عبد السلام صفحة 389، 390، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 23/339، وفتح الباري 11/57، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 7/515. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ذلك إلى اعتقاد العامّة سُنِّيَّةَ هذا العمل، ورمْي التّاركين له بالتقصير والخطإ. أي: أنّ هذا الصنيعَ لمَّا لم يفعَلْه النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يُؤثَرْ عن أحدٍ من الصحابة أو السلف الصالح يفإنّه يكون مردوداً لِما ثَبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن أحْدث في أمْرنا هذا ما ليس منه، فهُو ردٌّ" 1، وفي رواية أخرى: "مَن عَمِل عملاً ليس عليه أمْرُنا، فهو رَدٌّ" 2. من أجْل هذا، كانت المصافحة بعد التسليم من الصلاة مَرْدودةً، ومحكوماً عليها بأنها بِدْعة؛ وذلك لأنها من المحْدَثات التي لم يَفْعلْها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدٌ من السلف، خاصة وأنه قد يُخشَى من أنّ المواظبة عليها قد تُؤدِّي بالعامة إلى اعتقاد سُنِّيَّتِها في هذا الموضِع – أي: عقب الصلاة -, وربما دفَعَهم هذا الاعتقادُ إلى الإنكار على مَن تَرَكَها. وفي هذا يقول ابن عابدين: "إن المواظبة عليها بعد الصلوات خاصّة قد تُؤدِّي بالجَهَلة إلى اعتقادِ سُنِّيَّتِها في خصوص هذه   1 أخرجه البخاري 2/959، ومسلم 3/1343. 2 أخرجه البخاري 2/753، ومسلم 3/1343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 المواضع، وأنّ لها خصوصيةً زائدة على غيرها"1. والواقع على خلاف هذا، ممّا يترتّب عليه من مشاكل بين الناس، خاصّة العوامّ منهم؛ فالأوْلى عَدُّها بِدْعةً ويُتحرَّي البعد عنها. ويقول ابن عابدين أيضاً: "ونقل في تبين المحارم عن "الملتقط": أنه تُكره المصافحةُ بعد أداء الصلاة بكلِّ حال، لأنّ الصحابة رضي الله عنهم ما صافحوا بعد أداء الصلاة، ولأنها من سنن الروافض – يعني: الشيعة -. وقد سُئل العزّ بن عبد السلام عن المصافحة عقيب الصلاة فأجاب: "المصافحة عقِب الصبح والعصر من البِدَع، إلاّ لِقادم يجتمع بمَن يُصافِحه قبْل الصلاة؛ فإنّ المصافحة مشروعة عند القدوم. و"كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بعد الصلاة بالأذكار المشروعة، ويستغفر ثلاثاً، ثم ينصرف". ورُوي عنه أنه قال: "ربِّ قِنِي عذابَك يومَ تَبعَثُ عبادَك" 2. والخير كُلُّه في اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم3.   1 راجع: رد المختار على الدر المختار 9/547، 548. 2 أخرجه مسلم 1/492، ونصّه عن البراء بن عازب قال: "كنّا إذا صلّيْنا خلْف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببْنا أن نكون عن يمينه يُقْبِل علينا بوجْهه. قال: فسمعْته يقول: "ربِّ قِني عذابك يوم تبعث –أو تَجمَع- عبادَك"". 3 راجع: فتاوى العز بن عبد السلام صفحة 389، 390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ونقل ابن عابدين كذلك عن ابن حجر عن الشافعية: أنّها بِدعة مكروهة لا أصل لها في الشرع، وأنّه يُنبَّه فاعِلُها أوّلاً ويُعذر ثانياً، ثم قال: "وقال ابن الحاج من المالكية في "المدخل" إنها من البدع. وموضوع المصافحة في الشرع إنما هو عند اللقاء، أي: لقاء المسلم لأخيه، لا في أدبار الصلوات. فحيث وضَعَها الشرع يَضَعُها؛ فيُنهَى عن ذلك ويُزجَر فاعِلُه لِما أتى به من خلافِ السُّنّة"1. وقال القاري: "فإنّ محلّ المصافحة المشروعة: أوّل الملاقاة. وقد يكون جماعة يتلاقَوْن من غير مصافحة، ويتصاحبون بالكلام ومذاكرة العلم وغيره مدّة مديدة، ثم إذا صَلَّوْا يتصافحون؛ فأين هذا من السُّنّة المشروعة؟ ولهذا صرّح بعضُ علمائنا بأنّها مكروهة حينئذ، وأنّها مِن البِدَع المذمومة. نعم، لو دخل أحدٌ المسجدَ والناسُ في الصلاة، أو على إرادة الشروع فيها، فبعْد الفراغ لو صافحهم –لكن بشرط سبْق السّلام على المصافحة -, فهذا مِن جملة المصافحة المسنونة بلا شُبهة"2.   1 راجع: رد المختار على الدر المختار 9/547، 548. 2 راجع: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/575. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وردّ العلامة بشير الدين القنوجي على مَن أجازها رداً بليغاً، ثم قال: "وكذا المصافحة والمعانقة بعد صلاة العيديْن من البِدَع المذمومة المخالفةِ للشّرع"1. كما أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية قد سئل عن المصافحة عقيب الصلاة: هل هي سُنّةٌ أم لا؟ فأجاب: "الحمد لله. المصافحةُ عقيب الصلاة ليستْ مسنونة، بل هي بِدْعة"2. وقال اللّكنوي الحنفيّ: "وممّن منَعَه: ابن حجر الهيتمي الشافعي، وقطب الدين بن علاء الدين الحنفي, وجعله الفاضل الرومي في "مجالس الأبرار" مِن البدع الشنيعة حيث قال: المصافحة حسَنة في حال الملاقاة، وأمّا في غير حال الملاقاة مثْل كونها عقِب صلاة الجمعة والعيديْن كما هو الحال في زماننا، فالحديث سكَت عنه فيبقى بلا دليل. وقد تقرّر في موضعه أنّ ما لا دليل عليه فهو رَدّ، ولا يجوز التقليدُ فيه بل يُرَدّ، لما رُوي عن عائشة مرفوعاً: "مَن أحدث في أمْرنا ما ليس منه، فهو رَدٌّ" 3، أي: مردود؛   1 راجع: تحفة الأحوذي للمباركفوري 7/515. 2 راجع: مجموع فتاوى ابن تيمية 23/339. 3 تقدم تخريجه صفحة 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فإنّ الاقتداء لا يكون إلاّ بالنبي ص. على أنّ الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية صرّحوا بكراهيّتها وكونِها بِدعة". ثم قال: "والذي أقول: إنهم اتّفقوا على: أنّ هذه المصافحة ليس لها أصل في الشرع. ثم اختلفوا في الكراهة والإباحة. والأمر إذا دار بين الكراهة والإباحة، ينبغي الإفتاء بالمنع فيه، لأنّ دفْع مضرّةٍ أَوْلى مِن جَلْب مَصلَحة، فكيف لا يكون أوْلى مِن فعْل أمر مباح؟ على أنّ المصافِحِين في زماننا يَظنّونه أمراً حسناً، ويُشنِّعون على مانِعه تشنيعاً بليغاً، ويُصِرُّون عليه إصراراً شديداً. والعجب من صاحب "خزانة الراوية" حيث قال فيها في "عقد اللآلئ": قال عليه السلام: "صافحوا بعد صلاة الفجر، يَكتُب الله لكم بها عشْرَ حسنات"، وقال - عليه الصلاة والسلام -: "صافِحوا بعد العصر، تُؤجَروا بالرحمة والغفران"، ولم يتفطّن أنّ هذيْن الحديثيْن وأمثالَهما موضوعان، وضَعَهما المصافحون. فإنّا لله وإنا إليه راجعون"1.   1 راجع: السعاية في الكشف عما في شرح الوقاية لأبي الحسن اللكنوي صفحة 264، 265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ويقول الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري: "والمصافحة في أدبار الصلوات بِدْعة"1. الترجيح: إنّ مَن يتصفّح ما انتهى إليه الخلاف فيما نحن فيه الآن بشأن حُكم المصافحة عقِب الصلاة، يلحظ أنه لا أثر يُذكر لهذا الخلاف، خاصّة وأنّ فعْلَها لم يَضُرَّ، ومَن قال بأنّها بدعة أو مَن قال بكراهتها لم يستند على دليل واضح صريح يَمنعُها، خاصة من الأئمة المعتمَدين وفقهاء المذاهب المختلفة، بل وقف عند مجرّد عَرْضٍ لبعض نُقول ولو أنّها ثابتة إلاّ أنها تُعبِّر عن رأي أصحابها. ورغم أنّ المصافحة عقِب الصلاة لم يَقُم دليل من الشرع على فعْل السّلَف لها في أعقاب الصلاة، ففي ذات الوقت لم يَرِدْ دليلٌ صريحٌ على مَنْعِها أو النّهي عنها أو ذمِّ من قام بها. وعلى هذا، فلا مانع من التصافح عقِب الصلوات، ولا خوف في الواقع مِن ظنِّ العوامِّ بِسُنِّيَّتِها بسبب المداومة عليها فيذُمُّون مَن يَتْرُكها، لأنّ عادة المسلمين أن يتصافحوا عند اللِّقاء وعند الانصراف. ولعلّ في هذا الإشعار بدوام الأُلفة والحبِّ والتّراحم بين الناس، استدامةً لما كان   1 راجع: السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات صفحة 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 بينهم داخل الصلاة، خاصة لو كانت هذه المصافحة بالأيدي مواكِبةً لتصافح القلوب والأفئدة. وفي هذا يقول الإمام النووي: "واعلَمْ: أنّ هذه المصافحة مستحبّة عند كلِّ لقاء. وأمّا ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتَي الصّبح والعصر، فلا أصل له في الشرع على هذا الوجْه، ولكن لا بأس به؛ فإنّ أصْل المصافحةِ سُنّة، وكونهم حافظوا عليها في بعض الأحوال وفرّطوا فيها في كثير من الأحوال أو أكثرها، لا يُخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورَد الشرع بأصلها"1. ويقول الشيخ السفاريني بعد أن نقل كلام الحافظ: "ويتوجّه مثلُ ذلك عقِب الدروس ونحوها من أنواع مجامع الخيرات"2. وقد أفتى الشيخ حمزة النشرتي وغيره باستحباب المصافحة عقب الصلوات مطلقاً، أي: وإن صافَحَه قبلها، لأنّ الصلاة غيْبة حُكمية فتُلحق بالغيْبة الحسية3.   1 راجع: الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار للنووي صفحة 240. 2 راجع: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب 1/328. 3 راجع: الفتوحات الربانية 5/397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ويقول الشيخ محمد الحامد: "والمُجيزون أخذوا بإطلاق طلب المصافحة فيما ورد من أدلّتها الشرعية، وهي - وإن لم يَقُم دليل خاص على فعْل السلف لها في أعقاب الصلاة - فليس هناك دليل يَمْنع مِن فعْلها حينئذ؛ وعلى هذا لا يُنهَى عنها. غير أنّ المانعين لها لحظوا أنّ المداومة عليها في أدبار الصلاة يجعل منها سُنّة في أنظار الجاهلين فإن تَرَكها أقاموا عليه النّكير ورَمَوْه بالخطإ والتقصير"1. غير أنّ هذا مردود عليه: بأنّ عقلاء المسلمين يَفهمون جيِّداً استحبابها، والواقع شاهد على أنهم لم يُعنِّتوا مَن يَترك المصافحة عقب الصلاة، ولم يَرمُوه بالذَّمِّ والتقصير مثلما خاف المانعون، لِفَهْم الناس حُكم الشرع بشأنها، وأنّها من المباحات، وأنه لا بأس بها خاصة وأنها بحسب أصْلها سُنّة عند كلِّ لقاء. ومن حيث إنّ الصلاة قائمة أصلاً على التلاقي والتراحم والتّصافي بالقلوب والجوارح والأفئدة، فلا معنىً لمنْع الناس من ذلك، خاصّة وأنّ التصافح يُؤلِّف بين القلوب ويربط بين الأفئدة، ويزيل ما قد يكون   1 راجع: ردود على أباطيل وتمحيصات لحقائق دينية 1/100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 عالقاً بالنفوس قبل الشروع في الصلاة. فالمصافحة على هذا النحو تُعَدُّ مظهَراً من مظاهر الحبِّ العامة، لاسيما لو كان ذلك التصافح بالقلوب مع الأيدي؛ ولهذا كانت المصافحة عقب الصلاة أوْلى، لتحقيقها للتواصل بين المسلمين، وتقْوية أواصر الأُلفة والإخاء بين الناس، ليخرجوا من الصلاة مُجتمِعين غير متفرِّقين. ومما يؤيِّد ما ارتاحت إليه النفس هنا: أنَّني وجدْتُ الذين يُرجِّحون المنعَ يَلحظون – والحمد لله - مَلْمَح أدب الإسلام ومراعاة الشعور والتسامح بين الناس خاصّة عقِب الصلاة، وبسبب ما يُبادر به المصافح لمن بِجواره في الصلاة، وذلك توفيقاً بين المذهبيْن في هذا الخلاف الذي لا طائل من ورائه، فقال هؤلاء: إنّ التعامل مع المتصافحين يجب أن يكون متمشِّياً مع مقاصد الشريعة لإشاعة الحب والصفاء بين الناس، عملاً بقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 1؛ فمَن مدَّ يدَه لجاره في الصلاة مصافحاً بعد الصلاة، سواء مع القول: "حَرماً"، أو "تقبّلَ الله منّا ومِنكم"، أم بدونهما، فلْيمُدَّ يده إليه برفْق ولِين مبتسماً في وجْهه،   1 سورة النحل: الآية 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 مبادلاً له بالتحية، وفي غاية الهدوء وبدون أيّة غضاضة أو إشعاره بالذنب أو الخطيئة، وإن كان هو لا يفعل هذا وليس من دأْبه المصافحة، فلا يُخطِّئ الآخَرين ولا يجعلها مشكلةً. فلا محلّ للنِّزاع - خاصّة عقِب الصلاة - بما ولّدتْه في الإنسان من صفْو الخاطر وما أحدثتْه من إذابة الفوارق وإراحة النفوس؛ ولهذا فمِن غير اللائق بأن يُعرِض المصلِّي عن مصافحة غيره، أو يَنزِع يدَه من يدِه في عنف، أو أن يَعبس في وجْهه، لأنّ هذا من الجفاء الذي لا يزيد المخالِفين إلاّ شروداً ونفوراً. وفي هذا يقول الشيخ القاري: "ومع هذا، إذا مدّ مسلمٌ يدَه للمصافحة، فلا ينبغي الإعراضُ عنه بجذْب اليدِ، لِما يترتّب عليه من أذًى يزيد على مراعاة الأدب"1. وهكذا، أرى من المحتّم عليَّ الآن: التنبيه إلى عدم جدوى النِّزاع في هذا، وأنّ ما يترتّب على القِيل والقال بشأن المصافحة عقب الصلاة أشدُّ مِن فعْلها؛ بل إنّ حدوث المصافحة بحسب أصلها وما تُحدثه في القلوب، فضلاً عن كونها عقب الصلاة وغالباً   1 راجع: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/575. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ما تكون في بيت من بيوت الله سبحانه، أوْلى وأحسن في صنيعِه في نفوس المصلِّين، بالمقارنة مع النِّزاع بشأنها. وقد يحدث ما لا تُحمد عُقباه بسبب الجدل والنِّزاع؛ فلم تقع الصلاة موقعَها اللائقَ بها من تصفية النفوس وإزالة ما قد يكون علِق بها من مُنغّصات الحياة المادية - والله سبحانه وتعالى - أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 المبحث الخامس: المصافحة عند المفارقة المقرّر: أنّ المصافحة عند اللقاء سُنّة، وذلك على ما اتّضح فيما سبق، وهي عند المفارقة مشروعة، غير أنّ درجتها في المشروعية والطلب أقلُّ من الحاصلة عند اللقاء. أي: أنّ المصافحة عند المفارقة أدْنى رُتبةً من مَثيلتِها عند اللقاء. فقد روى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ودَّع رجُلاً أخذ بيَده، فلا يَدعُها حتى يكونَ الرّجل هو يَدَعُ يدَ النبي صلى الله عليه وسلم, ويقول: "استَوْدعُ الله دينَك وأمانَتَك وآخِر عملِك"، وفي رواية الإمام أحمد: أنّ ابن عمر أخذ بيد قزعة عند وداعه وقال: " أستودِع الله دِيَنك وأمانَتَك وخواتيم أعمالك" 1. فهذا الحديث يدلّ دلالة واضحة على مشروعية المصافحة عند المفارقة. وفي هذا يقول الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة": "فقول بعضهم: "إن المصافحة عند المفارقة بدْعة"،   1 الحديث أخرجه الترمذي 5/499، وأحمد في مسنده 2/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ممّا لا وجْه له. نعم، إنّ الواقف على الأحاديث الواردة في المصافحة عند المفارقة ومَن كان فقيهَ النفس يستنتج من ذلك أنّ المصافحة الثانية ليست مشروعيّتُها كالأولى – يعني: عند اللقاء - في الرتبة؛ فالأُولى سُنّة والأخرى –يعني: التي عند المفارقة - مستحَبّة. وأمّا أنها بدعة فلا"1. وفي هذا، فالمستحبّ: المصافحة عند المفارقة، تحقيقاً لمسلك التّواصل بين المتصافحين من المسلمين عند المفارقة بينهم، وإشعاراً بدوام الأُلفة والحب، ودفعاً لدواعي القطيعة ومسالك الغلِّ والشحناء. وفي الأثر: "تصافحوا، يذهب الغِلّ. وتهادَوْا تحابُّوا، وتذهب الشحناء"2.   1 راجع: 1/53 رقم 16. 2 أخرجه مالك في الموطإ 2/908. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 المبحث السادس: مصافحة الجُنُب الجنابة لا تمنع المصافحة، ولا تُؤثِّر على أفضليّتها باعتبار أنّ المصافحة لا يُشترط فيها كوْن المرء طاهراً من الحدثيْن الأصغر والأكبر. فلا بأس بمصافحة الجُنب، وكذلك الحائض والنفساء. فلكلٍّ منهم أن يصافح أو يصافَح، ولا يؤثِّر هذا في استحباب المصافحة، ولا يقدح في فضْلها المقرَّر شرعاً. ويدلّ على هذا: ما رُوي عن حذيفة1: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَقِيَه، فقال: "يا حذيفة, ناولْني يدَك! " فقبض حذيفةُ يدَه. ثم قال له الثانيةَ، ففعل. ثم قال الثالثةَ، ففعل. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا يمْنعُك؟ "   1 الصحابي الجليل: حذيفة بن حِسل بن جابر العبسي، أبو عبد الله، حليف الأنصار، من السابقين. أعلَمه الرسول صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة. ولاّه عمر رضي الله عنه على المدائن بفارس. توفي رضي الله عنه في أوّل خلافة علي رضي الله عنه عام 36هـ. راجع: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2/223، والأعلام للزركلي 2/171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فقلتُ: إنِّي جُنب. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنّ المؤمن إذا لقي المؤمنَ فسلّم عليه وأخذ بيده فصافَحَهُ، تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورقُ الشجر" 1. وهذا له شاهد أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة فأراد أن يصافحَه، فتنحّى حذيفةُ فقال: إني كنتُ جُنُباً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ المسلم إذا صافح أخاه تحاتَّتْ خطاياهما كما يتحاتُّ ورقُ الشجر" 2. وقد ثبت أيضاً في الصحيح عن حذيفة – رضي لله عنه -: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقِيَه وهو جُنُب فحادَ عنه فاغتسل، ثم جاء، فقال: كنت جُنُباً, فقال: "إنّ المؤمنَ لا ينجس" "3. وقد ورد في النسائي بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي الرجل من أصحابه ماسَحَه ودعا له". قال: - أي: حذيفة -: "فرأيته يوماً بكرة فحِدْتُ عنه، ثم أتيْتُه حين ارتفع النهار. فقال: "إني رأيتُك فحِدْتَ عنِّي! " فقلت: إنِّي كنتُ جنباً، فخشيتُ أن تمسّني. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنّ المسلم لا يَنْجَس" 4. ويُؤيِّد هذا أيضاً: حديث   1 رواه الطبراني في الكبير 6/256. 2 راجع: الترغيب والترهيب 3/290، ومجمع الزوائد للهيثمي 8/37. 3 أخرجه مسلم 1/282، والنسائي 1/145. 4 أخرجه مسلم 1/282، والنسائي 1/145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 أبي هريرة رضي الله عنه في "الصحيحيْن" قال: "لقيَني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جُنُب، فأخذني معه بيده، فمشيْتُ حتى قعد. فانسلَلْتُ فأتيتُ الرَّحْلَ فاغتسلتُ، ثم جئتُ وهو قاعد. فقال: "أين كنتَ يا أبا هريرة؟ " فقلت له. فقال: "سبحان الله! يا أبا هريرة، إنّ المؤمن لا ينجَس" 1. وفي هذا يقول المباركفوري: "في حديث أبي هريرة المذكور: جواز مصافحة الجُنُب ومخالطتِه"2. وجاء في "صحيح" الترمذي في أبواب الحيض: باب ما جاء في مصافحة الجُنب، وقال: "وقد رَخّص غيرُ واحد من أهل العلْم مصافحةَ الجُنُب"3. وهكذا يتّضح لنا الآن: أنّ المصافحة لا يُشترط فيها طهارةُ المصافِح ولا المصافَح؛ فالجنابة لا تَمنع المصافحةَ ولا تُؤثِّر على أفضليّتها.   1 أخرجه البخاري 1/109، ومسلم 1/282. 2 راجع: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 1/207. 3 راجع: جامع الترمذي 1/208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 المبحث السابع: مصافحة المريض ومَن به عاهة من البديهي: أنّ مصافحة المريض مَرَضاً غيرَ مُعْدٍ باقيةٌ على الأصل المقرَّر في حُكم المصافحة, وهو: كونها سُنّة؛ بل إنّها آكَد في السُّنِّيّة لِما تَحملُه من مُواساةٍ ومؤازرة لذلك المريض، وبثِّ روح الطّمْأنة في نفسه، مع تقوية أواصر الأُلفة والإخاء والتواصل بين المسلمين، لأنّ الواضحَ أنّ زيارة المريض - فضلاً عن أنّها مطلوبة شرعاً، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "أطعِموا الجائعَ، وعُودوا المريض، وفُكُّوا العاني" 1. ففي المصافحة، الشّدُّ على يدَيِ المريض من الأمور المهمّة - إن لم يتألّم - التي تَطِيب نفسُ المريض ويهدأُ قلبُه معها، وتَشُدّ مِن أزْره، وتَبعث فيه الأمل في الشفاء - إن شاء الله تعالى - لا سيما إنِ ارتبطتْ بالدعاء له بالشفاء، لِما ثَبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنّه عاد سعدَ بن أبي وقاص2 وهو مريض، فوضَع يدَه على جبْهته، ثم   1 أخرجه البخاري 5/2055، والإمام أحمد في المسند 4/394. 2 سعد بن أبي وقاص: مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري، الصحابي، فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأحَدُ الستة الذين عيّنَهم عُمر للخلافة، وأوّل من رمى بسهم في سبيل الله، وأحَد العشرة المبشَّرين بالجنة. أسلم وهو ابن 17 سنة، وشهِد بدراً، وأفتتح القادسية. مات بالمدينة بقَصْره بالعقيق عام 55 هـ. راجع: الأعلام للزركلي 3/87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 مَسَح صدْرَه وبطْنَه، ثم قال: "اللهم اشْفِ سعداً، وأتمِمْ له هجْرَتَه" 1. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيضاً: "إذا جاء الرجلُ يعود مريضاً، فلْيقُلْ: اللهمّ اشْفِ عبدَك، يَنْكَأُ لك عدوّاً، أو يمشي لك إلى جنازة" 2. وعلى هذا، كانت مصافحة المريض مستحبّة؛ وهي من ملامح أدب زيارته مع الدّعاء له بالشفاء. ويدل على استحباب المصافحة للمريض: ما أخرجه الترمذي عن أبي أمامة3: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مِن تَمام عيادةِ المريض: أنْ يَضَعَ أحدُكم يدَه على جبْهتِه – أو قال: على يدِه -, فيسأله كيف هو؟ وتمامُ تحيّتِكم بينكم المصافحة" 4. فقد دلّ هذا الحديث على: أنّ المصافحة من تمام عيادة   1 أخرجه البخاري 5/2142، وأبو داود 3/187. 2 أخرجه أبو داود في الجنائز 3/187، والحاكم في المستدرك 1/495. 3 صدي بن عجلان بن وهب، من قيس بن عيلان ثم بني الأعصر، صاحب رسول الله رضي الله نزل حمص. روى علْماً كثيراً، وروي أنه بايع تحت الشجرة. توفي عام 86هـ. راجع: سير أعلام النبلاء 5/359. 4 أخرجه الترمذي 5/76، وأخرجه أحمد في مسنده 5/259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المريض. كما يُستحبّ للزائر أنْ يسألَه عن حاله، فيقول له: كيف تجِدُك؟ أو كيف أصبحْتَ؟ وقد ذكَر ابن حجر الهيثمي في "الإفادة": أنّ من آداب عيادة المريض: المصافحة والسؤال. هذا، والذي تقرّر هنا هو: حُكم الشرع بالنسبة لمصافحة المريض عامّة، خاصّةً مَن ليس مرضُه مُعدِياً. أمّا بالنسبة لمصافحة مَن كان مرضُه مُعدياً، أو كان به عاهة مثْل: الجُذام والبرص، وفي معناهما كلّ مرضٍ ضارٍ ينتقل إلى الآخَرين بالملامسة، فإنّ مصافحتَه على هذا النحو مكروهة. وعلى هذا، فإنّ المريض بمرضٍ مُعْدٍ تُكرهُ مصافحتُه لمِا ثَبَت "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى رجلٍ مجذوم كان في وفْد ثقيف، قال له: "إنا قد بايعناك، فارجِعْ! ".1 وما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فِرَّ من المجذوم فِرارَك من الأسد! " 2، وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يورد مُمرضٌ على مُصحّ" 3، يعني: مَن له إبِل مَرْضى لا يُوردها على الإبل الصحيحة عمَلاً بهذا النهي4.   1 أخرجه مسلم 4/1752، وابن ماجة 2/1172. 2 أخرجه البخاري 5/2158. 3 أخرجه البخاري 5/2177، ومسلم 4/1742. 4 راجع: فتح الباري 10/252، 253 للوقوف على معنى الممرض والمصحّ من الإبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136