الكتاب: الكامل في اللغة والأدب المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الكامل في اللغة والأدب محمد بن يزيد المبرد الكتاب: الكامل في اللغة والأدب المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ـ[الكامل في اللغة والأدب]ـ المؤلف: محمد بن يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ) المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة الطبعة: الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997 م عدد الأجزاء: 4 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول باب وصف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار ... قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار1 في كلام جرى: "إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع". الفزع في كلام العرب على وجهين: أحدهما ما تستعمله العامة تريد به الذعر، والآخر الاستنجاد والاستصراخ، من ذلك قول سلامة بن جندل: كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ ... كان الصراخ له قرع الظنابيب يقول: إذا أتانا مستغيثٌ كانت إغاثته الجد في نصرته، يقال: قرع لذلك الأمر ظنبوبه إذا جد فيه ولم يفتر، ويشتق من هذا المعنى أن يقع" فزع" في معنى" أغاث" كما قال الكلحبة اليربوعي: 2"قال أبو الحسن: الكلحبة لقبه، واسمه هبيرة، وهو من بني عرين بن يربوع، والنسب إليه عريني، وكثير من الناس يقول: عرني ولا يدري، وعرينة من اليمن: قال جرير يهجو عرين بن يربوع: عرين من عرينة ليس منا ... برئت إلى عرينة من عرين2 فقلت لكأسٍ ألجميها فإنما ... حللت الكثيب من زرود لأفزعا3 يقول: لأغيث. وكأس: اسم جارية، وإنما أمرها بإلجام فرسه ليغيث. والظنبوب: مقدم الساق.   1 جماعة منهم، وهم بنو عبد الأشهل، من ولد عمرو بن مالك بن أوس "وانظر الفائق للزمخشري 274: 2" 2 مابين الرقمين لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر. 3 زرود: موضع في طريق الحاج من الكوفة. والكثيب: القطعة من الرمل، مستطيلة محدودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 حديث: "ألا أخبركم بأحبكم إلي ... " وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطأون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، ألا أخبركم بأبغضكم إلي وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة؟ الثرثارون المتفيهقون". قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الموطأون أكنافاً" مثل، وحقيقته أن التوطئة هي التذليل والتمهيد، يقال: دابة وطيء، يا فتى، وهو الذي لا يحرك راكبه في مسيره، وفراش وطيء إذا كان وثيراً لا يؤذي جنب النائم عليه، فأراد القائل بقوله: " موطأ" الأكناف" أن ناحيته يتمكن فيها صاحبها غير مؤذى، ولا ناب به موضعه. قال أبو العباس: حدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: حدثني الأصمعي قال: قيل لأعرابي وهو المنتجع بن نبهان1 ما السميدع؟ فقال: السيد الموطأ الأكناف. وتأويل الأكناف الجوانب، يقال: في المثل: فلان في كنف فلان، كما فلان في ظل فلان، وفي ذرى فلان، وفي ناحية فلان2، وفي حيز فلان. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الثرثارون" يعني الذين يكثرون الكلام تكلفاً وتجاوزاً، وخروجاً عن الحق. وأصل هذه اللفظة من العين الواسعة من عيون الماء، يقال: عينٌ ثرثارةٌ. وكان يقال لنهرٍ بعينه: الثرثار3، وإنما سمي به لكثرة مائه، قال الأخطل: 4 لعمري لقد لاقت سليمٌ وعامرٌ ... على جانب الثرثار راغية البكر قوله: " راغية البكر" أراد أن بكر ثمود رغا فيهم فأهلكوا، فضربته العرب مثلاً، وأكثرت فيه، قال علقمة بن عبدة الفحل: رغا فوقهم سقب السماء فداحضٌ ... بشكته لم يستلب وسليب5   1 من طيىء؛ ذكره الزبيدي في الطبقة الأولى من اللغويين البصريين ص 175. 2 تكملة من ر. 3 الثرثار: موضع عند تكريت. 4 زيادات ر: "واسمه غياث بن غوث، يكنى أبا مالك، ويلقب بدوبل، والدوبل: الخنزير"، وكذلك في س. 5 زيادات ر: "السقب: ولد الناقة، والشكة: مايلبس من السلاح، والسليب: من سلب سلاحه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 [قال أبو الحسن: الداحض: الساقط والداحض أيضاٌ: الزا لق] . وكذلك إذا لم تضعف الثاء فقلت: عينٌ ثرةٌ، فإنما معناها غزيرة واسعة، قال عنترة: جادت عليها كل عين ثرةٍ ... فتركن كل حديقةٍ كالدرهم1 قال أبو العباس: وليست الثرة عند النحويين البصريين من لفظة الثرثارة، ولكنها في معناها2. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المتفيهقون" إنما هو بمنزلة قوله: "الثرثارون" توكيد له، ومُتَفَيْهِق متفيعل، من قولهم: فهق الغدير يفهق إذا امتلأ ماءٌ فلم يكن فيه موضع مزيد، كما قال الأعشى: نفى الذم عن رهط المحلق جفنةٌ ... كجابية الشيخ العراقي تفهق كذا ينشده أهل البصرة، وتأويله عندهم أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ جابيته لأنه حضري فلا يعرف مواقع الماء ولا محاله. قال أبو العباس: وسمعت أعرابية تنشد قال أبو الحسن: هي أم الهيثم الكلابية من ولد المحلق، وهي راوية أهل الكوفة: "كجابية السيح" تريد النهر الذي يجري على جانبية، فماؤها لا ينقطع، لأن النهر يمده. ومثل قول البصريين فيما ذكروا به" العراقي الشيخ "قول الشاعر قال أبو الحسن: " هو ذو الرمة": لها ذنب ضاف وذفرى أسيلة ... وخد كمرآة الغريبة أسجح3 يقول: إن الغريبة لا ناصح لها في وجهها، لبعدها عن أهلها، فمرآتها أبداً مجلوة، لفرط حاجتها إليها.   1 قال في اللسان: "الحديقة من الرياض: كل أرض استدارات وأحدق بها حاجز، او أرض مرتفعة". وفي رواية التبريزى "شرح المعلقات 108": "كل قرارة كالدرهم". 2 س، وحواشى ر: "ويجب أن يكون من الثرة ثرارة". 3 ديوانه 88. والذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن. وفي الديوان: "لها أذن حشر". والأذن الحشر: المحددة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وتصديق ما فسرناه من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يريد الصدق في المنطق والقصد، وترك ما لا يحتاج إليه، قوله لجرير بن عبد الله البجلي: "يا جرير، إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 كلمة أبو بكر في مرضه لعبد الرحمن بن عوف قال أبو العباس: ومما يؤثر من حكيم الأخبار، وبارع الآداب، ما حدثنا به عن عبد الرحمن بن عوف وهو أنه قال: دخلت يوماً على أبي بكر الصديق رحمة الله عليه في علته التي مات فيها، فقلت له: أراك بارئاً يا خليفة رسول الله، فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي. إني وليت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذن نضائد الديباج، وستور الحرير، ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان، والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا. يا هادي الطريق جرت، إنما هو والله الفجر، أو البحر. فقلت: خفض عليك يا خليفة رسول الله، فإن هذا يهيضك إلى ما بك، فوالله ما زلت صالحاً مصلحاً، لا تأس على شيء فاتك من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلاخيراً. قوله: "نضائد الديباج" واحدتها نضيدة، وهي الوسادة وما ينضد من المتاع، قال الراجز: وقربت خدامها الوسائدا ... حتى إذا ما علوا النضائدا سبحت ربي قائما ًو قاعداً وقد تسمي العرب جماعة ذلك النضد، والمعنى واحد، إنما هو ما نضد في البيت من متاع، قال النابغة: ورفعته إلى السجفين فالنضد1   1 ديوانه 24، وصدره: خلت سبيل أتى كان يحبسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ويقال: نضدت المتاع إذا ضممت بعضه إلى بعض، فهذا أصله، قال الله تبارك وتعالى: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} 1، وقال: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} 2 ويقال: نضدت اللبن على الميت. وقوله:" على الصوف الأذربي" فهذا منسوب إلى اذربيجان، وكذلك تقول العرب، قال الشماخ: تذكرتها وهناً وقد حال دونها ... قرى أذربيجان المسالح والجال3 وقوله: "على حسك السعدان"، فالسعدان نبت كثير الحسك تأكله الإبل فتسمن عليه، ويغذوها غذاءً لايوجد في غيره، فمن أمثال العرب: "مرعى ولا كالسعدان "تفضيلاً له، قال النابغة: الواهب المائة الأبكار زينها ... سعدان توضح في أو بارها اللبد4 ويروى في بعض الحديث "أنه يؤمر بالكافر يوم القيامة فيسحب على حسك السعدان"، والله أعلم بذلك. قال أبو الحسن: السعدان: نبت كثير الشوك- كما ذكر أبو العباس- ولا ساق له، إنما هو منفرش على وجه الأرض، حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني عن ابن الأعرابي، قال: قيل لرجل من أهل البادية- وخرج عنها: أترجع إلى البادية ? فقال: أما ما دام السعدان مستلقياً فلا. يريد أنه لا يرجع إلى البادية أبداً، كما أن السعدان لا يزول عن الاستلقاء أبداً.   1 سورة ق 10. 2 سورة الواقعة 29، 30. 3 المسالح: مواضع المخافة، والجال، ضبطت في الأصل بالفتحة والكسرة، وكذلك في إحدى النسخ التي قابل بها "ريط" نسخته. وقال المرصفى: "الجال: اسم لجماعة الخيل والإبل، أضاف أذربيجان إليهما إشعارا بأنها مملوءة بهما". وانظر ديوان الشماخ 117، ومعجم البلدان 159: 1، واللسان "سلح"، وتاج العروس"ذرب"، والمعرب للجواليقى36. 4 توضح: من قرى اليمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وقال أبو علي البصير واسمه الفضل بن جعفر، وإن لم يكن بحجة، ولكنه أجاد فذكرنا شعره هذا لجودته لا للاحتجاج به يمدح عبيد الله بن يحيى بن خاقان وآله فقال: يا وزراء السلطان ... أنتم وآل خاقان كبعض ما روينا ... في سالفات الأزمان ماء ولا كصدى ... مرعى ولا كالسعدان وهذه الأمثال ثلاثة، منها قولهم: "مرعى ولا كالسعدان"،و" فتى ولا كمالك"،و"ماء ولا كصدى"، تضرب هذه الأمثال للشيء الذي فيه فضل وغيره أفضل منه، كقولهم: "ما من طامة إلا فوقها طامة"، أي ما من داهية إلا وفوقها داهية، ويقال: طما الماء وطم إذا إرتفع وزاد. ومالك الذي ذكروا هو مالك بن نويرة، أخو متمم بن نويرة. " وصداء يمد، وبعضهم يقول: صدى، فيضم أوله ويقصر، فأما أبو العباس محمد بن يزيد، فإنه قال: لم أسمع من أصحابنا إلا صدءاء يا فتى، وهو اسم لماء، معرفة، وهما همزتان بينهما ألف، والألف لا تكون إلا ساكنة، كأنك قلت: صدعاع يا هذا1. وقوله: "إنما هو والله الفجر أو البجر" يقول: إن انتظرت حتى يضيء لك الفجر الطريق أبصرت قصدك. وإن خبطت الظلماء، وركبت العشواء هجما بك على المكروه، وضرب ذلك مثلاً لغمرات الدنيا، وتحييرها أهلها. وقوله: "يهيضك" مأخوذ من قولهم: هيض العظم إذا جبر ثم أصابه شيء يعنته فآذاه فكسره ثانية، أو لم يكسره، وأكثر ما يستعمل في كسره ثانية، ويقال: عظم مهيض، وجناح مهيض في هذا المعنى: ثم يشتق لغير ذلك، وأصله ما ذكرت لك، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما كسر يزيد بن المهلب   1 مابين العلامتين لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر، س. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 سجنه وهرب، فكتب إليه: لو علمت أنك تبقى ما فعلت، ولكنك مسموم، ولم أكن لأضع يدي في يد إبن عاتكه1. فقال عمر: اللهم إنه قد هاضني فهضه. فهذا معناه. وقوله: "فكلكم ورم أنفه"، يقول: امتلأ من ذلك غضباً، وذكر أنفه دون السائر كما بقال: فلان شامخ بأنفه، يريد رافع، وهذا يكون من الغضب كما قال الشاعر: ولا يهاج إذا ما أنفه ورما أي لايكلم عند الغضب، ويقال للمائل برأسه كبرا: متشاوس، وثاني عطفه، وثاني جيده، إنما هذا كله من الكبرياء. قال الله عز وجل: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 2: وقال الشامخ3: نبئت أن ربيعاً أن رعى إبلاً ... يهدي إلي خناه ثاني الجيد وقوله: "أراك بارئاً يا خليفة رسول الله"4 يكون من برئت من المرض وبرأت، كلاهما يقال: فمن قال برئت يقول: أبرأ5 يافتى لا غير، ومن قال: برأت قال في المضارع: أبرأ وأبرؤ، يا فتى، مثل فرغ ويفرغ. والآية تقرأ على وجهين: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} 6، الرحمن: 31، و {سَنَفْرُغُ} : والمصدر فيهما" البرء" يا فتى.   1 زيادات ر: "هو يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، ولى الملك بعد عمر بن عبد العزيز، ولا يعلم أحد أعرق في الخلافة منه". 2 سورة الحج9. 3 زيادات ر: "يهجو الربيع بن علياء السلمى". 4 ر، س: "يا خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". 5 ر، س: "قال". 6 الرحمن 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر ومما روي لنا عنه رضي الله عنه حيث عهد عند موته وهو: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عند آخر عهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، في الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فذلك علمي به، ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرىء ما اكتسب، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: من الآية227] . نصب" أي" بقوله: " ينقلبون"، ولا يكون نصبها ب" سيعلم" لأن حروف الاستفهام إذا كانت أسماء امتنعت مما قبلها كما يمتنع ما بعد الألف من أن يعمل فيه ما قبله، وذلك1 قولك: "علمت زيداً منطلقاً" فإن أدخلت الألف قلت: "علمت أزيد منطلق أم لا" فأي بمنزلة زيد الواقع بعد الألف، ألا ترى أن معناها: أذا أم ذا. وقال الله عز وجل: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} 2 لأن معناها: أهذا أم هذا? وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} 3 على ما فسرت لك، وتقول: أعلم أيهم ضرب زيداً، وأعلم أيهم ضرب زيد، تنصب أيا ب" ضرب" لأن" زيداٌ" فاعل، فإنما هذا لما بعده، وكذلك ما أضيف إلى اسم من هذه الأسماء المستفهم بها، نحو: قد علمت غلام أيهم في الدار، وقد عرفت غلام من في الدار، وقد علمت غلام من ضربت، فتنصبه بـ"ضربت" فعلى هذا مجرى الباب.   1 ر، س: "وذلك نحو قولك". 2 الكهف 12. 3 الكهف: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 أول خطبة خطبها عمر بن الخطاب ومما يؤثر من هذه الآداب ويقدم قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في أول خطبة خطبها حدثنا العتبي قال: لم أر أقل منها في اللفظ، ولا أكثر في المعنى حمد الله وأثنى عليه وأهله، وصلى على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه. ثم نزل. وإنما حسن هذا القول مع ما يستحقه من قبل الاختيار، بما عضده به من الفعل المشاكل له: 1"قال أبو الحسن: قد روينا هذه الخطبة التي عزاها إلى عمر بن الخطاب عن أبي بكر رضي الله عنهما، وهو الصحيح"1.   "1-1" لم يرد في الأصل، وأثبتناه عن ر، س. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 رسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري قال أبو العباس: ومن ذلك رسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري وهي التي جمع فيها جمل الأحكام، واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس بعده يتخذونها إماماً، ولا يجد محق عنها معدلاٌ، ولا ظالم عن حدودها محيصاٌ، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك، أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آس بين الناس بوجهك1، وعدلك، ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاٌ أحل حراماٌ، أو حرم حلالاٌ. لا يمنعنك قضاءٌ قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديمٌ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنةٍ، ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمدا ينتهي إليها فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى، المسلمون عدولٌ بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد، ومجرباً عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والإيمان. وإياك والغلق والضجر، والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق ليعظم2 الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته، وأقبل على نفسه كفاه الله بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام.   1 ر، س: "في وجهك". 2 ر س: "يعظم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 قال أبو العباس: قوله: "آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك"، يقول: سو بينهم، وتقديره: اجعل بعضهم أسوة بعضٍ، والتأسي من ذا أن يرى ذو البلاء من به مثل بلائه فيكون قد ساواه فيه، فيسكن ذلك من وجده، قالت الخنساء: فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس تقول: أذكره في أول النهار للغارة، وفي آخره للضيفان. وتمثل مصعب بن الزبير يوم قتل بهذا البيت: وإن الألى بالطف من آل هاشم ... تآسوا فسنوا للكرام التآسيا1 وقوله"حتى لا يطمع شريف في حيفك" يقول: في ميلك معه لشرفه. وقوله: "فيما تلجلج في صدرك" يقول: تردد، وأصل ذلك المضغة والأكلة يرددها الرجل في فيه فلا تزال تتردد إلى أن يسيغها أو يقذفها، والكلمة يرددها الرجل إلى أن يصلها بأخرى، يقال للعيي: لجلاج، وقد يكون من الآفة تعتري اللسان، قال زهير: تلجلج مضغة فيها أنيضٌ ... أصلت، فهي تحت الكشح داء وقوله: "أنيضٌ" أي لم تنضج2. ومن أمثال العرب: الحق أبلج والباطل لجلج، أي يتردد فيه صاحبه فلا يصيب مخرجا. وقوله: "أو ظنيناٌ في ولاءٍ أو نسب، "فهو المتهم، وأصله" مظنون" وهي ظننت التي تتعدى إلى مفعول واحد، تقول: ظننت بزيد، وظننت زيداًٌ، أي اتهمت، ومن ذلك قول الشاعر، أحسبه عبد الرحمن بن حسان: فلا ويمين الله ما عن جناية ... هجرت، ولكن الظنين ظنين 3   1 البيت في الأغاني"17-165" ونسبه إلى سليمان بن قتة، وهو أيضا في اللسان"أسا" من غير نسبة. قال ابن برى: "وتآسوا، من المؤاساة، كما ذكر الجوهرى، لامن التأسي كما ذكر المبرد". 2 كذا ذكره المبرد، وهو يوافق ما في شرح الديوان، وفي اللسان "أنض": "فيها أنيض اى تغير" واستشهد بالبيت، وهو الأوفق. 3 البيت في اللسان "ظن"، ونسبه أيضا إلى عبد الرحمن بن حسان، ثم ذكر أن ابن برى نسبه إلى نهار بن توسعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وفي بعض المصاحف: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} 1 وإنما قال عمر رضي الله عنه ذلك لما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ملعون ملعون من انتمى إلى غير أبيه، أو ادعى إلى غير مواليه"، فلما كانت معه الإقامة على هذا لم يرى للشهادة موضعاً. وقوله: " ودرأ بالبينات والأيمان" إنما هو دفع، من ذلك قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إدرأوا الحدود بالشبهات"، وقال الله عز وجل: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 وقال: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} 3 أي تدافعتم. وأما قوله: "وإياك والغلق والضجر" فإنه ضيق الصدر، وقلة الصبر، يقال في سوء الخلق: رجل غلق، وأصل ذلك من قولهم4: غلق الرهن أي لم يوجد به تخلص وأغلقت الباب من هذا، قال زهير: وفارقتك برهنٍ لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا وقوله: "ومن تخلق للناس"، يقول: أظهر للناس في خلقه خلاف نيته. وقوله: "تخلق" يريد أظهر5 مثل تجمل يريد أظهر جمالاً وتصنع، وكذلك تجبر، إنما تأويله الإظهار، أي أظهر جبرية، وإن شئت جبروتاً، وإن شئت جبروتي "وإن شئت جبروة" 6. ومن كلام العرب على هذا الوزن: رهبوتى خير لك من رحموتى، أي" 7ترهب خير لك من أن ترحم7". قال أبو العباس وأنشدونا عن أبي زيد8:   1 التكوير: 24، وهو مصحف عبد الله بن مسعود، "وانظر الكشاف". 2 سورة آل عمران: 168. 3 سورة البقرة: 72. 4 ر: "وأصل ذلك من قولهم: أغلق عليه أمره إذا لم يتضح ولم ينفتح، من ذلك قولهم: غلق الرهن ... ". 5 ر، س: "أظهر خلقا". 6 تكملة من ر. 7 ر، س "لأن ترهب خير لك من أن ترحم". 8 زيادات س: "الشعتر لسالم بن وابصة الأسدى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ياأيها المتحلي غير شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق1 ولا يؤاتيك في ما ناب من حدث ... إلا أخو ثقة فأنظر بمن تثق قال: وأنشدتني أم الهيثم الكلابية: ومن يتخذ خيماُ سوى خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها2 وقال ذو الإصبع العدواني3: كل إمرىء راجع يوماً لشيمته ... وإن تمتع أخلاقاًإلى حين وأما قوله: "ثواب"، فاشتاقه من ثاب يثوب إذا رجع، وتأويله ما يثوب إليك من مكافأة الله وفضله.   1 الشعر في ر هكذا: يأيها المتحلى غير شميته ... ومن سجيته الإدغال والملق دع التخلق يبعد عنك أوله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق ولا يؤاتيك فيما ناب من حدث ... إلا خو ثقة، فأنظر بمن تثق وانظر رواية الأبيات في ديوان الحماسة 236: 2-بشرح التبريزى. 2 البيت في اللسان "خيم" من غير نسبة. 3 زيادات ر: "ذو الإصبع اسمه حرثان بن الحارث بن محرث، وقيل له ذو الإصبع؛ لأن أفعى نهشت إصبعة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 كتاب عثمان إلى عليبن أبي طالب حين أحيط به وكتب عثمان بن عفان إلى علي رحمه الله1 حين أحيط به: أما بعد، فإنه قد جاوز الماء الزبى وبلغ الحزام الطبيين، وتجاوز الأمر بي قدره، وطمع في من لا يد فع عن نفسه: فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق2 قوله: "قد جاوز الماء الزبى" فالزبية مصيدة الأسد، ولا تتخذ إلا في قلة أو رابية أو هضبة، قال الراجز3: كاللذ تزبى زبية فاصطيدا   1 ر: "علي بن أبي طالب رحمهما الله"، س: "علي بن أبي طالب رضي الله عنهما". 2 البيت للممزق العبدى، واسمه شأس بن نهار، "وانظر المؤتلف والمختلف للآمدى 185". 3 قبله في زيادات ر: فأنت والأمر الذي قد كيدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وقال الطرماح: ياطييىء السهل والأجبال1، موعدكم ... كمبتغى الصيد أعلى زبية الأسد وتقول العرب: "قد علا الماء الزبى"، و"قد بلغ السكين العظم" و"بلغ الحزام الطبيين" و"قد انقطع السلى في البطن". فالسلى من المرأة والشاة ما يلتف فيه الولد في البطن، قال العجاج: فقد علا الماء الزبى فلا غير أي: قد جل الأمر عن أن يغير ويصلح. وقوله" وبلغ الحزام الطبيين، فإن السباع والخيل يقال لموضع الأخلاف منها: أطباء يا فتى، وأحدها طبي كما يقال في الظلف والخف: خلفٌ، هذا مكان هذا فإذا بلغ الحزام الطبيين فقد انتهى في المكروه، ومثل هذا من أمثالهم: "التقت حلقتا البطان"2: ويقولون: "التقت حلقتا البطان والحقب"3 ويقال: حقب البعير إذا صار الحزام في الحقب4، قال الشاعر5: إذا ما حقب جال ... شددناه بتصدير وقال أوس بن حجر: وازدحمت حلقتا البطان بأق ... وام وطارت نفوسهم جزعا وتمثله بالبيت يشاكل قول القائل: فإن أك مقتولاً فكن أنت قاتلي ... فبعض منايا القوم أكرم من بعض   1 أجبال طيىْ: أجا وسلمى والعوجاء. 2 البطان: حزام الرحل. 3 من ر، س. 4 الحقب: حزام يشد به رجل البعير. 5 ر: " قال أبو بكر: هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وأوله: سليمى تلك في العير ... قفى إن شئت أو سيرى فلما أن بدا الصبح ... بأصوات العصافير خرجنا نبتغي الصيد ... بأمثال اليعافير إذا ما حقب جال ... شددناه بتصدير زجرنا العيس فارمدت ... بإهذاب وتشمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 عتاب عثمان علي بن أبي طالب ويروى عن قنبر مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: دخلت مع علي بن أبي طالب على عثمان بن عفان رضي الله عنهما، فأحبا الخلوة، فأومأ إلي علي بالتنحي، فتنحيت غير بعيدٍ فجعل عثمان يعاتب عليا وعلي مطرق، فأقبل عليه عثمان فقال: ما بالك لا تقول: فقال: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلاما تحب. تأويل ذلك: إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي فلذعك عتابي، وعقدي ألا أفعل" وإن كنت عاتباً إلا ما تحب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 خطبة علي بن أبي طالب حينبلغه قتل عامله حسان بن حسان وتحدث ابن عائشة في إسناد ذكره أن علياً رحمه الله انتهى إليه أن خيلاً لمعاوية وردت الأنبار، فقتلوا عاملاً له يقال له: حسان بن حسان، فخرج مغضباً يجر ثوبة حتى انتهى1 إلى النخيلة، واتبعه الناس، فرقي رباوة من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل، وسيما الخسف، وديث بالصغار. وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم، فو الذي نفسي بيده ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتخاذلتم وتواكلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهرياً، حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخوغامد، قد وردت خيله الأنبار، وقتلوا حسان بن حسان، ورجالاً منهمكثيراً ونساءً والذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة، فتنتزع أحجالهما ورعثهما ثم إنصرفوا موفورين لم يكلم منهم أحد كلما. فلو أن امرأ مسلماً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي فيه ملوماً، بل كان عندي به جديراً. ياعجباً كل العجب [عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويكثر الأحزان] 2 من تضافر   1 ر: "حتى أتي النخيلة"، والنخيلة: موضع قرب الكوفة. 2 من ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى أصبحتم غرضاً ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله عز وجل فيكم وترضون. إذا قلت لكم: اغزوهم في الشتاء قلتم: هذا أوان قر وصر، ةإن قلت لكم: إزوهم في الصيف قلتم: هذه حمارة القيظ، إنظرنا ينصرم الحر عنا. فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون، فإنتم من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال ولا طغام الأحلام، ويا عقول ربات الحجال، والله لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظا، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لارأي له في الحرب. لله درهم ومن ذا يكون أعلم بها مني، أو أشد لها مراساً فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت اليوم على الستين. ولكن لا رأي لمن لا يطاع يقولها ثلاثاً فقام إليه رجل ومعه أخوه1، فقال: ياأمير المؤمنين، أنا وأخي هذا كما قال الله عز وجل: {رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} 2 فمرنا بأمرك، فوالله لننتهين إليه، ولو حال بيننا وبينه جمر الغضا، وشوك القتاد. فدعا لهما بخير، ثم قال: وأين تقعان مما أريد ثم نزل. قال أبو العباس: قوله: "سيما الخسف"، قال: هكذا حدثوناه، وأظنه"سيم الخسف" يا هذا، من قول الله عز وجل: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} 3 ومعنى قوله: سيما الخسف تأويله علامة، هذا أصل ذا، قال الله عز وجل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} 4، وقال عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} 5   1 زيادات ر: "الرجل وأخوه يعرفان بابني عفيف من الأنصار" وفي حاشية الأصل: "هو جندب بن عفيف، وأخوه من الأزد". 2 سورة المائدة 25. 3 سورة البقرة 49. 4 سورة الفتح 29. 5 سورة الرحمن 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل: {مُسَوِّمِينَ} 1" قال: معلمين2 واشتقاقه من السيما التي ذكرنا. ومن قال: {مُسَوِّمِينَ} ، فإنما أراد مرسلين: من الإبل السائمة: أي المرسلة في مراعيها، وإنما أخذ هذا من التفسير. قال المفسرون في قوله تعالى: " {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} 3، القولين جميعاً، مع العلامة والإرسال، وأما في قوله عز وجل: {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} 4 فلم يقولوا فيه إلا قولاً واحداً، قالوا: "معلمة"، وكان عليها أمثال الخواتيم، ومن قال: "سيما" قصر. ويقال في هذا المعنى: سيمياء، ممدود، قال الشاعر5: غلام رماه الله بالحسن يافعاً ... له سيمياء لا تشق على البصر6 وقوله رحمه الله: "وقتلو حسان بن حسان"، من أخذ حساناً من الحسن صرفه لأن وزنه فعال فالنون منه في موضع الدال من حماد، ومن أخذه من الحس لم يصرفه لأنه حينئذ فعلان فلا ينصرف في المعرفة، وينصرف في النكرة، لأنه ليست له" فعلى "فهو بمنزلة سعدان وسرحان. وقوله: "ديث بالصغار"، تأويله: ذلل، يقال للبعير إذا ذللته الرياضة: بعير مديث، أي مذلل. وقوله: "في عقر دارهم"، أي في أصل دارهم، والعقر: الأصل، ومن ثم قيل: لفلان عقار، أي أصل مال، ويروى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من باع داراً أو عقاراً فلم يردد ثمنه في مثله فذلك مال قمن ألا يبارك [له] 7 فيه". وقوله: قمن يريد: خليق، ويقال أيضاً: قمين وقمن.   1 سورة آل عمران 125. 2 المعلم، بكسر اللام: الفارس الذي أعلم مكانه في الحرب بعلامة أعلم بها نفسه. 3 سورة آل عمران 14. 4 سورة هود 82، 83. 5 زيادات ر: "وهو ابن عنقاء الفزارى في عملية الفزارى". 6 بعده في زيادات ر: كأن الثريا علقت في جبينه ... وفي أنفه الشعرى وفي جيده القمر 7 من س. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 [قال أبو الحسن: من قال: قمن لم يثن ولم يجمع، ومن قال: قمن وقمين ثنى وجمع] 1. ويقال للرجل إذا إتخذ ضيعة، أو داراً: تأثل فلان، أي إتخذ أصل مال. وقوله: "وتواكلتم": إنما هو مشتق من وكلت الأمر إليك ووكلته إلي أنت2 أي: لم يتوله واحد منا دون صاحبه، ولكن أحال به كل واحد منا على الأخر، ومن ذالك قول الحطيئة: فلأيا قصرت الطرف عنهم بجسرةٍ ... أمون إذا واكلتها لا تواكل3 وقوله: "واتخذتموه ورائكم ظهرياً"، أي رميتم به وراء ظهوركم، أي لم تلتفتوا إليه، يقال4 في المثل: "لا تجعل حاجتي منك بظهرٍ"، أي لا تطرحها غير ناظر إليها. وقوله: "حتى شنت عليكم الغارات"، يقول: صبت، يقال: شننت الماء على رأسه، أي صببته، وشننت الشراب في الإناء أي صببته، ومن كلام العرب: فلما لقي فلان فلانا شنه السيف، أي صبه عليه صبا. وقوله: "هذا أخو غامد، فهو رجل مشهور من أصحاب معاوية، من بني غامد بن نصر بن الأزد بن الغوث، وفي هذه القبيلة يقول القائل5: ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد فليت لنا بارتباط الخيو ... ل ضأنا ًلها حالب قاعد وقوله: "فتنتزع أحجالهما"، يعنى الخلاخيل، واحدها حجل، ومن هذا قيل للدابة: محجل، ويقال للقيد: حجل، لأنه يقع في ذلك الموضع، قال جرير،   1 من ر. 2 من ر. 3 الجسرة: الناقة الماضية في سيرها، والأمون: الوثيقة الخلق. ورواية ديوانه 98: "ذلول". 4 ر: "ويقال". 5 زيادات ر: "هو ربيعة بن مكدم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 يعير الفرزدق حين قيد فرسه، وأقسم ألايحلها حتى يحفظ القرآن، فلما هاجى جرير البعيث هجا الفرزدق1 جريراً معونةً للبعيث، وذبا عن عشيرته، فقال جرير: ولما اتقى القين العراقي باسته ... فرغت إلى العبد المقيد في الحجل2 معنى فرغت عمدت، قال الله عز وجل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} 3 أي سنعمد4. وقوله: "ورعثهما" الواحدة رعثة، وجمعها الجمع رعث وهي الشنوف. وقوله: "ثم انصرفوا موفورين" من الوفر، أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ في بدن ولا مال، يقال موفور، وفلان ذو وفر: أي ذو مال، ويكون موفوراً في بدنه إذا ذكر ما أصيب به غيره في بدنه، قال حاتم الطائي: وقد علم الأقوام لو أن حاتماً ... أراد المال أمسى له وفر ويروى:" كان له وفر". وقوله: "لم يكلم أحد منهم كلماً". ويقول: لم يخدش أحد منهم خدشاً، وكل جرح صغر أو كبر فهو كلم، قال جرير: تواصلت الأقوام من تكرمها قريش ... برد الخيل دامية الكلوم وقوله: "مات من دون هذا أسفاً"، يقول: تحسراً، فهذا موضع ذا و"قد"5 يكون الأسف الغضب، قال الله عز وجل: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} 6 والأسيف يكون الأجير ويكون الأسير فقد قيل في بيت الأعشى: أرى رجلا ًمنهم أسيفاً كأنما ... يضم إلى كشحيه كفاً مخضبا   1 من ر. 2 زيادات ر: "يعني بقوله: "ولما اتقى القين العراقي باسته" البعيث، وسماه القين لأنه من رهط الفرزدق". 3 سورة الرحمن 24. 4 زيادات ر: "تميم تقول: فرغ يفرغ [بفتح الراء فيهما] فراغا، وأهل العالية-وهم قريش ومن والاها- يقولون فرغ يفرغ [بالضم فيهما] فروغا". 5 من ر. 6 سورة الزخرف55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 المشهور أنه من التأسف لقطع يده، وقيل: بل هو أسير قد كبلت يده، ويقال: قد جرحها الغل، والقول الأول هو المجتمع عليه، ويقال في معنى أسيف عسيف أيضاً. وقوله:" من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم"، يقول: من تعاونهم وتظاهرهم. وقوله: "وفشلكم عن حقكم"، يقال: فشل فلان عن كذا و"كذا"1 إذا هابه فنكل عنه وامتنع من المضي فيه. وقوله:" قلتم هذا أوان فر وصر"،فالصر شدة البرد, قال الله عز وجل {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} 2. وقوله: هذه حمارة القيظ"، فالقيظ الصيف، وحمارته: اشتداد حره واحتدامه، وحمارة مما لا يعوز أن يحتج عليه ببيت شعر، لأن"كل"3 ما كان فيه من الحروف التقاء ساكنين لا يقع في وزن إلا في ضرب" منه"4 يقال له المتقارب،"فإنه جوز فيه على بعد التقاء الساكنين"5وهو قوله: فذاك القصاص وكان التقا ... ص فرضا وحتماً على المسلمينا ولو قال: "وكان قصاص فرضاً وحتماً" كان أجود وأحسن، ولكن قد أجازوا هذا في هذه العروض، ولا نظير له في غيرها من الأعاريض. وقوله: "ويا طغام الأحلام" فمجاز الطغام عند العرب من لا عقل له، ولا معرفة عنده، وكانوا يقولون: طغام أهل الشأم كما قال: فما فضل اللبيب على الطغام6   1 من ر، س. 2 سورة آل عمران 117. 3 من ر، س. 4 من ر. 5 من ر. 6 قبله، كما في زيادات ر: إذا ما كان مثلهم رجاما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وقوله: "ويا عقول ربات الحجال" ينسبهم إلى ضعف النساء وهو السائر في كلام العرب. وقال الله تعالى يذكر البنات {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 1.   1 الزخرف 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 باب مدخل ... باب وقال أبو العباس: من كلام العرب الاختصار المفهم، والإطناب المفخم وقد يقع الإيماء إلى الشيء فيغني عند ذوي الألباب عن كشفه، كما قيل: لمحة دالة. وقد يضطر الشاعر المفلق، والخطيب المصقع، والكاتب البليغ، فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق، واللفظ المستكره، فإن انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا على عواره، وسترتا من شينه. وإن شاء قائل أن يقول: بل الكلام القبيح في الكلام الحسن أظهر، ومجاورته له أشهر، كان ذلك له، ولكن يغتفر السيىء1 للحسن، والبعيد للقريب.   1 س: "الشين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 من ألفاظ العرب البينة القريبة المفهمة فمن ألفاظ العرب البينة القربية المفهمة، الحسنة الوصف، الجميلة الرصف قول الحطيئة: وذاك فتى إن تأته في صنيعةٍ ... إلى ماله لا تأته بشفيع وكذلك قول عنترة: يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم وكما قال زهير: على مكثريهم رزق1 من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل   1 ر: "حق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مما وقع من الكلام كالإيماء ومما وقع كالإيماء قول الفرزدق: ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل فتأويل هذا أن بيت جرير في العرب كالبيت الواهن1 الضعيف، فقال: وقضى عليك به الكتاب المنزل: يريد به قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} 2.   1 ر: "الواهى". 2 سورة العنكبوت41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ومن كلامه المستحسن قوله لجرير: فهل ضربة الرومي جاعلة لكم ... أبا عن كليب أو أباً مثل دارم ومن أقبح الضرورة، وأهجن الألفاظ، وأبعد المعاني قوله: وما مثله في الناس إلا مملكاً ... أبو أمه حي أبوه يقاربه مدح بهذا الشعر إبراهيم بن هشام بن اسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله عمر بن عمر بن مخزوم، وهو خال هشام بن عبد الملك، فقال: وما مثله في الناس إلا مملكاً يعني بالمملك هشاماً، أبو أم ذلك المملك أبو هذا الممدوح، ولو كان هذا الكلام على وجهه لكان قبيحاً، وكان يكون إذا وضع الكلام في موضعه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أم هذا المملك أبو هذا الممدوح، فدل على أنه خاله بهذا اللفظ البعيد، وهجنه بما أوقع فيه من التقديم والتأخير: حتى كأن هذا الشعر لم يجتمع في صدر رجل واحد مع قوله حيث يقول: تصرم مني ود بكر بن وائلٍ ... وما كاد مني ودهم يتصرم قوارص تأتيني ويحتقرونها ... وقد يملأ القطر ألإناء فيفعم1 وكأنه لم يقع ذلك الكلام لمن يقول: والشيبينهض في السواد كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار فهذا أوضح معنى، وأعرب لفظٍ، وأقرب مأخذٍ. وليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحدثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطى كل ما يستحق، ألا ترى كيف يفضل قول عمارة2 على قرب عهده: تبحثتم سخطي فغير بحثكم ... نخيلة نفسٍ كان نصحاً ضميرها ولن يلبث التخشين نفساً كريمة ... عريكتها أن يستمر مريرها3 وما النفس إلا نطفة بقرارةٍ ... إذا لم تكدر كان صفواً غديرها   1 زيادات ر: "القارصة: الكلمة المؤذية". 2 هو عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية الخطفى، من شعراء الدولة العباسية، والأبيات في معجم المرزبانى 247 عن المبرد. 3 التخشين: إيعاز الصدر، ويستمر: يقوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فهذا كلام واضح، وقول عذبٌ، وكذلك قوله إيضاً: بني دارم إن يفن عمري فقد مضى ... حياتي لكم مني ثناءٌ مخلد بدأتم فأحسنتم فأثنيت جاهداً ... وإن عدتم أثنيت، والعود أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 مما يفضل من أقوال الشعراء لتخلصه من التكلف ومما يفضل لتخلصه من التكلف، وسلامته من التزيد، وبعده من الاستعانة قول أبي حية النميري: رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية آرام الكناس رميم1 ألا رب يوم لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم2 يقول: رمتني بطرفها، وأصابتني بمحاسنها، ولو كنت شاباً لرميت كما رميت، وفتنت كما فتنت، ولكن قد تطاول عهدي بالشباب، فهذا كلام واضح. قا ل أبو الحسن: أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب البيتين عن عبد الله بن شبيب وروى: عشية أحجار الكناس رميم وزاد فيه بيتا: رميم التي قالت لجارات بيتها ... ضمنت لكم ألا يزال يهيم الكناس والمكنس: الموضع الذي تأوي إليه الظباء، وجمع الكناس كنس وجمع المكنس مكانس. ورميم: اسم جارية، مأخوذ من العظام الرميم، وهي البالية، وكذلك الرمة، والرمة: القطعة البالية من الحبل، وكل ما اشتق من هذا فإليه يرجع".   1 زيادات ر: "قيل في ستر الله الإسلام، وقيل فيه أنه الشيب، وقيل ماحرم الله عليهما". 2 زيادات ر بعد هذا البيت: يرى الناس أنى قد سلوت وإننى ... لمرمى أحناء الضلوع سقيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الاستعانة في الكلام قال أبو العباس: وأما ما ذكرناه من الاستعانة، فهو أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه ليصحح به نظماً "ووزناً"1 إن كان في شعر، او ليتذكر به ما بعده إن كان في كلام منثور، كنحو ما تسمعه في كثير من كلام العامة قولهم: ألست تسمع أفهمت أين أنت وأشبه هذا، وربما تشاغل العيي بفتل إصبعه ومس لحيته، وغير ذلك من بدنه، وربما تنحنح. وقد قال الشاعر يعيب بعض الخطباء في شعر: مليءٌ ببهرٍ والتفاتٍ وسعلةٍ ... ومسحةٍ عثنونٍ وفتل أصابعٍ وقال رجل2 من الخوارج يصف خطيباً منهم بالجبن، وأنه مجيدٌ لولا أن الرعب أذهله: نحنح زيدٌ وسعل ... لما رأى وقع الأسل ويلمه إذا ارتجل ... ثم أطال واحتفل3 ومما يشاكل هذا المعنى ويجانس هذا المذهب ما كان من خالد بن عبد الله القسري، فإنه كان متقدماً في الخطابة ومتناهياً في البلاغة، فخرج عليه المغيرة بن سعيد بالكوفة في عشرين رجلاً، فعطعطوا4 به، فقال خالد: "اطعموني ماءً "وهو على المنبر، فغير بذلك، فكتب به هشام إليه في رسالة يوبخه فيها، سنذكرها5 في موضعها إن شاء الله. وغيره يحيى بن نوفل فقال: لأعلاجٍ ثمانيةٍ وعبدٍ ... لئيم الأصل في عددٍ يسير هتفت بكل صوتك: أطعموني ... شراباً، ثم بلت على السرير   1 من ر. 2 ذكر الجاحظ أنه الأشل الأزرقى من بعض أخوال عمران بن حطان يصف زيد بن جندب الإيادى خطيب الأزارقة، "البان والتبين 42،41: 1". 3 زيادات ر: "وقال رجل يصف رجلا من إياد بالعى، وكان أبوه خطيبا وخاله: جمعت صنوف العي من كل وجهة ... وكنت مليئا بالبلاغة من كثب أبوك معم في الكلام ومخول ... وخالك وثاب الجراثيم في الخطب 4 العطعطة: تتابع الأصوات واختلافها. 5 ر: "وسنذكرها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فهذا عارض. وقال آخر1 يعيره: بل المنابر من خوفٍ ومن وهلٍ ... واستطعم الماء لما جد في الهرب وألحن الناس كل النس قاطبةٌ ... وكان يولع بالتشديق في الخطب   1 هو أيضا يحي بن نوفل، "وانظر البيان والتبيين167: 2". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 لأعرابي من بني كلاب ومما يستحسن لفظه1 ويستغرب معناه، ويحمد اختصاره قول أعرابي من بني كلاب: فمن يك لم يغرض فإني ونلقتي ... بحجرٍ إلى أهل الحمى غرضان2 تحن فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني 3 يريد: لقضى علي، فأخرجه لفصاحة وعلمه بجوهر الكلام أحسن مخرج، قال الله عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 4 والمعنى إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم، ألا ترى" أن"5 أول الآية {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} فهؤلاء أخذوا منهم ثم أعطوهم، وقال الله عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} 6 أي من قومه، وقال الشاعر7: أمرتك الخير فافعل ما امرت به ... فقد تركت ذا مال وذا نشب   1 من ر، س. 2 حجر: هي مدينة اليمامة وأم قراها، ويريد بالحمى حمى ضرية، وكان حمى كليب"وانظر ياقوت". ومن زيادات ر بعد هذا البيت: هوى ناقتي خلفى وقدامى الهوى ... وإني وإياها لمختلفان 3 ر: "أنشد صاعد بعدهما زياد" فيهما: فياكبدينا أجملا قد وجدتما ... بأهل الحمى مالم يجد كبدان إذا كبدانا خافتا وشك نية ... وعاجل بين ظلتا تجبان 4 سورة المطففين 2. 5 من ر. 6 سورة الأعراف 155. 7 زيادات ر: "هو أعشى طرود، واسمه إياس بن عامر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أي أمرتك بالخير، ومن ذلك1 قول الفرزدق: ومنا الذي2 اختير الرجال سماحةً ... وجوداً إذا هب الرياح الزعازع أي من الرجال. فهذا الكلام الفصيح. وتقول العرب: أقمت ثلاثاً ما أذوقهن طعاماً ولا شراباً، أي ما أذوق فيهن، وقال الشاعر: ويوماً شهدناه سليماً وعامراً ... قليلاً سوى الطعن النهال نوافله3 قال أبو الحسن: قوله: "لم يغرض"، أي لم يشتق، يقال: غرضت إلى لقائك، وحننت إلى لقائك، وعطشت إلى لقائك، وجعت إلى لقائك أي إشتقت، أخبرنا بذلك أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي، وأنشدنا عنه: من ذا رسولٌ ناصحٌ فمبلغٌ ... عني علية غير قول الكاذب أني غرضت إلى تناصف وجهها ... غرض المحب إلى الحبيب الغائب التناصف: الحسن. وأما قوله: "لقضاني" فإنما يريد: لقضى علي الموت، كما قال الله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} 4، فالموت في النية، وهو معلوم بمنزلة ما نطقت به، فلهذا ناسب قوله عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} ، وكذلك قوله: {كَالُوهُمْ} فالشىء المكيل معلوم، فهو بمنزلة ما ذكر في اللفظ، ولا يجوز: مررت زيداً وأنت تريد: مررت بزيد، لأنه لا يعتدى إلا بحرف جر، وذلك أن فعل الفاعل في نفسه، وليس فيه د ليل على المفعول نفسه، وليس هذا بمنزلة ما يتعدى إلى   1 ر، س: "ومن ذا". 2 س: "ومنا"، وعلى رواية الأصل في البيت خرم. 3 البيت أورده سيبوية في الكتاب90: 1، قال الأعلم في شرحه: "النوافل هنا الغنائم، يقول: يوم لم نضم فيه إلا النفوس لما أوليناهم من كثرة الطعن، والنهال المرتوية بالدم، وأصل النهل أول الشرب، والطعن هنا: جمع طعنة" 4 سورة سبأ14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 مفعولين، فيتعدى إلى أحدهما بحرف جر، وإلى الآخر بنفسه، لأن قولك: اخترت الرجال زيداً، قد علم بذكرك" زيداً "أن حرف الجر محذوف من الأول. فأما قول الشاعر وهو جرير وإنشاد أهل الكوفة له، وهو قوله: تمرون الديار ولم تعوجوا ... كلامكم علي إذاً حرام ورواية بعضهم له: "أتمضون الديار" فليس بشىء لما ذكرت لك، والسماع الصحيح والقياس المطرد لا تعترض عليه الرواية الشاذة. أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد قال: قرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: مررتم بالديار ولم تعوجوا فهذا يدلك على أن الرواية مغيرةٌ فأما قولهم: أقمت ثلاثاً ما أذوقهن طعاماً ولا شراباً، وقول الراجز: قد صبحت صبحها السلام1 ... بكبد خالطها سنام في ساعة يحبها الطعام يريد في ساعة يحب فيها الطعام، وكذلك الأول، معناه: ما أذوق فيهن، فليس هذا عندي من. باب قوله جل وعلا: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} إلا في الحذف فقط، وذلك أن ضمير الظرف تجعله العرب مفعولاً على السعه، كقولهم: يوم الجمعة سرته، ومكانكم قمته، وشهر رمضان صمته، فهذا يشبه في السعة في السعة بقوله: زيد ضربته وما أشبه، فهذا بينٌ.   1 صبحت: أتت بالتصبيح، تريد به الغذاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 لأعرابي من بني سعد وقد نزل به أضياف قال أبو العباس: ومما يستحسن ويستجاد قول أعرابي1 من بني سعد بن زيد مناة تميم، وكان مملكاً2، فنزل به أضياف، فقام إلى الرحى فطحن لهم،   1 هو الهذلول بن كعب العنبرى، ذكره أبوتمام في الحماسة بشرح المرزوقى 695-701. 2 من الإملاك، وهو عقد النكاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فمرت به زوجته في نسوة، فقالت لهن: أهذا بعلي فأعلم بذلك فقال، قال أبو الحسن: أخبرنا به عن أبي محلم له يعني السعدي: تقول وصكت صدرها بيمينها: ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس فقلت لها لا تعجبي وتبيني ... بلائي إذا التفت علي الفوارس ألست أرد القرن يركب ردعه ... وفيه سنان ذو غرارين يابس إذا هاب أقوام تجشمت هول ما ... يهاب حماياه الألد المداعس لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي، وإني إن ركبت لفارس قوله:" المتقاعس" إنما هو الذي يخرج صدره ويدخل ظهره، ويقال: عزة قعساء، وإنما هذا مثل، أي لا تضع ظهرها إلى الأرض. وقوله: "بالرحى" من صلة الذي، والصلة تمام الوصول، فلو قدمها قبله لكان لحناً خطاً فاحشاً، وكان كمن جعل آخر الاسم قبل أوله، ولكنه جعل "المتقاعس" اسماً على وجهه، وجعل قوله: "بالرحى" تبييناً بمنزلة"لك" التي تقع بعد "سقياً"، وبمنزلة" بك" التي تقع بعد قولك: "مرحباً" فإن قدمتها فذلك جيد بالغ، تقول: بك مرحباً وأهلاً، وتقول: لك حمداً، ولزيد سقياً، فأما قول الله عز وجل: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 1 وكذلك {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} 2 فيكون تفسيره على وجهين: أحدهما أن يكون: إنني ناصح لكما، وأنا شاهد على ذلكم، ثم جعل" من الشاهدين" و" لمن الناصحين" تفسيراً لشاهد وناصح، ويكون على ما فسرناه يراد به التبيين، فلا يدخل في الصلة، أو يكون على مذهب المازني. قال أبو العباس: وهو الذي أختار، على أن الألف واللام للتعريف لا على معنى الذي، ألا ترى أنك تقول: نعم الفائم زيد، ولا يجوز: نعم الذي قام زيد، وإنما هو بمنزلة قولك: نعم الرجل زيد، وهذا الذي شرحناه متصل في هذا الباب كله مطرد على القياس.   1 الأنبياء 56. 2 الأعراف 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وقوله: "ألست أرد القرن يركب ردعه" فإنما اشتقاقه من السهم يقال: ارتدع السهم إذا رجع متأخراً، ويقال: ركب البعير ردعه إذا سقط، فدخل عنقه1 في جوفه، والكلام مشتق بعضه من بعض، ومبين بعضه بعضاً، فيقال من هذا في المثل: ذهب فلان في حاجتي فارتدع عنها، أي رجع، وكذلك: فلان لا يرتدع عن قبيح، والأصل ما ذكرت أولاً. ومثل هذا قولهم: فلان على الدابة، وعلى الجبل، أي فوق كل واحد منهما ثم تقول: عليه دين تمثيلاً، وكذلك ركبه دين، وإنما يريد أن الدين علاه وقهره، وكذلك فلان على الكوفة إذا كان والياً عليها، وكذلك: علا فلان القوم، إذا علاهم بأمره وقهرهم، أو جعل هذا الموضوع. وقوله: "وفيه سنان ذو غرارين يابس" فالغرار هنا الحد، وللغرار مواضع. قال أبو العباس: وحدثني الرياشي في إسناد له قال: قال جبر بن حبيب وذكر الراعي: أخطأ الأعور قال: ولم يعلم الحاكي عنه أن الراعي كان أعور إلامن هذا الخبر في قوله: فصادف سهمه أحجار قف ... كسران العير منه والغرارا 2 وجبر بن حبيب هو المخطىء، لأن الغرار ههنا هو الحد، وذهب جبر إلى أنه المثال، وقد يكون المثال، وليس ذلك بمانعه من أن يحتمل معاني، يقال: بنوا بيوتهم على غرار واحد، أي على مثال واحد، كما قال عمرو بن أحمر" الباهلي"3: وضعن4 وكلهن على غرار ... هجان اللون قد وسقت جنينا   1 ر "فدخلت عنقه"، والعتق تذكر وتؤنث. 2 القف: حجارة بعضها فوق بعض. وعير النصل: ما نتأ في وسطه. 3 من ر، س. 4 كذا ضبطت في الأصل بالبناء للمجهول. وفي زيادات ر: [الرواية عن ابي العباس: "وضعن" بفتح الضاد والواو، والصحيح: "وضعن" بضم الواو وكسر الضاد] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ويقال: لسوقنا درة وغرار، أي نفاق وكساد، فهذا معنى آخر، وإنما تأويل الغرار في هذا المعنى الأخير أنه شيء، ومن هذا: غار الطائر فرخه، لأنه إنما يعطيه شيئاً بعد شيء، وكذلك غارت الناقة في الحلب، ويقال من هذا: ما نمت إلا غرار، قال الشاعر: ما أذوق النوم إلا غراراً ... مثل حسو الطير ماء الثماد فكشف في هذا البيت معنى الغرار وأوضحه. وقوله: "يهاب حمياه الألد المداعس" فأصل الحميا إنما هي صدمة الشيء، يقال: فلان حامي الحميا، ويقال صدمته حمياً الكأس، يراد بذلك سورتها. وقوله: "الألد" فأصله الشديد الخصومة، يقال: خصم ألد، أي لا ينثني عن خصمه. قال الله عز وجل: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} 1 كما قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 2، وقال مهلهل: إن تحت الأحجار حزماً وجوداً ... وخصيماً ألد ذا معلاق ويروي: "مغلاق" فمن روى ذلك فتأويله أنه يغلق الحجة الخصم، ومن قال،" ذا معلاق"، فإنما يريد أنه إذا علق خصماً لم يتخلص منه، وجعل السعدي الألد الذي لا ينثني عن الحرب تشبيهاً بذلك، والمداعس: المطاعن، يقال: دعسه بالرمح إذا طعنه، قال عمير بن الحباب السلمي: أنا عميرٌ وأبو المغلس ... وبالقناة مازني مدعس قال أبو الحسن: تأويل قول السعدي: "أبلعي هذا بالرحى المتقاعس"   1 مريم 97. 2 الزخرف 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 "بالرحى" تبيين ولم يوضحه، فإن تقدير ما كان من هذا الضرب أنه إذا قال: "أبعلي هذا بالرحى المتقاعس"، فإن المتقاعس يدل على أن تقاعساً وقع، فكأنه قال: وقع التقاعس بالرحى، ولم يرد أن يعمل "المتقاعس "في قوله: "بالرحى"، لأنه في صلة، والصلة من الموصول بمنزلة الدال من زيد أو الياء، فكما لا يجوز أن يتقدم حروف الاسم بعضها على بعض، لم يجز أن تتقدم الصلة على الموصول، فأما قول الله عز وجل: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} ، وكذلك: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، فإنه يكون على التبيين الذي قدمنا ذكره وهو قول البصريين أجمعين، إلا أن أبا عمر الجرمي أجاز أن يجعل"لكما"،و "على ذلكم" معلقين بشيئين محذوفين دل عليهما" من الناصحين"، و" من الشاهدين"، لأن" من" مبعضة، فكأنه قال والله أعلم: وقاسمهما إني ناصح لكما من الناصحين، وأنا شاهد على ذلكم من الشاهدين. وأما اختياره وذكره أنه قول المازني، وجعله الألف واللام للعهد مثلهما في الرجل وما أشبهه، فإن هذا القول غير مرضي عندي، لأنك إذا قلت: نعم القائم زيدٌ فجعلت الألف واللام كالألف واللام الداخلتين على ما يؤخذ من الفعل كالإنسان والفرس وما أشبهه، فإنه إذا كان هكذا دخل في باب الأسماء الجامدة وهي التي لم تؤخذ من أمثلة الفعل، وامتنع من أن يعمل مؤخراً إلا على حيلة ووجهٍ بعيدٍ من التبيين الذي ذكرناه. وإذا كان التأخير لا يعمل بنفسه، فكيف يعمل إذا تقدم عليه الظرف وهذا مستحيل لا وجه له. وأما إنشاده: لا أذوق النوم إلا غراراً فإن هذه أبيات أربعة أنشدناها عن الزيادي، وذكر أنه كان يستحسنها وهي لأعرابي قال: ما لعيني كحلت بالسهاد ... ولجنبي نابياً عن وسادي ما أذوق النوم إلا غراراً ... مثل حسو الطير ماء الثماد1 أبتغي إصلاح سعدى بجهدي ... وهي تسعى جهدها في فسادي فتتاركنا على غير شيءٍ ... ربما أفسد طول التمادي   1 ر، س: "لا أذوق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وأما إنشاده: وضعن وكلهن على غرارٍ فإن البيت لعمرو بن أحمر بن العمرد الباهلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 لطيخم بن أبي الطمخاء الأسدي يمدح قوماً من أهل الحيرة قال أبو العباس: ومن سهل الشعر وحسنه قول طخيم بن أبي الطخماء الأسدي يمدح قوماً من أهل الحيرة من بني امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم، ثم من رهط عدي بن زيد العبادي، قال: كأن لم يكن يومٌ بزورة صالحٌ ... وبالقصر ظل دائمٌ وصديق1 ولم أراد البطحاء يمزج ماءها ... شراب من البروقتين عتيق2 معي كل فضفاض القميص كأنه ... إذا ما سرت فيه المدام فنيق بنو السمط والحداء، كل سميدع ... له في العروق الصالحات عروق وإني وإن كانوا نصارى أحبهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق قال أبو العباس: أنشدني هذا الشعر أبو محلم، ثم أنشدنيه رجل نصراني يكنى أبا يحيى، شاعر من هؤلاء القوم الذين مدحوا به، وذكر أنه يذكر طخيماً، وهو يتردد إليهم ويظل عندهم. فال هذا النصراني وهو رجل من بني الحداء قال: أذكره وأنا صغير جداً، والسلطان يطلبه لقوله: له في العروق الصالحات عروق يقول: أتقول هذا لقومٍ من النصارى وكان هذا النصراني قد قارب مائة سنة فيما ذكر.   1 زورة: موضع قرب الكوفة، ضبطه ياقوت بفتح الزاى، وقال: "وقرأته بخط بعض أعيان أهل الأدب "زورة" بضم الزاى"، وأورد الأبيات. 2 البروقتان: موضع قرب الكوفة، وضبطه ياقوت بواوين، الأولى مضمومة، وأورد البيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وقوله: "معي كل فضفاض القميص" يريد أن قميصه ذو فضولٍ، وإنما يقصد إلى ما فيه من الخيلاء، كما قال زهير: يجرون الذيول وقد تمشت ... حمياً الكأس فيهم والغناء ويقال: إن تأويل قول رسول الله حلى الله عليه وسلم: "فضل الإزار في النار" إنما أراد معنى الخيلاء، وقال الشاعر: ولا ينسيني الحدثان عرضي ... ولا أرخي من المرح الإزارا وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال لأبي تميمة الهجيمي: "إياك والمخيلة" فقال: يا رسول الله، نحن قومً عربٌ، فما المخيلة, فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سبل الإزار" والحديث يعرض لما يجري في الحديث قبله، وإن لم يكن من بابه، ولكن يذكر به. قال أبو العباس: روى لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم1 بن هشام، فأنشد إبراهيم قول الشاعر: إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية ... وإذا أجر إليكم سادراً رسني فقام ذلك الرجل فرمى بشق ردائه، وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس، ثم رجع على تلك الحال فجلس، فقال له إبراهيم بن هشام: ما بك فقال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته، فآليت ألا أسمعه إلا جررت ردائي كما ترى، كما سحب هذا الرجل رسنه. وأما الفنيق فإنه الفحل من الإبل2، وإنما أراد خطراته بذنبه من الخيلاء، فشبه الرجل من هؤلاء إذا انتشى بالفحل، وهو إذا خطر ضرب بذنبه يمنة وشأمة، قال ذو الرمة: وقربن بالزرق الجمائل بعدما ... تقوب عن غربان أوراكها الخطر 3   1 كان والى المدينة، والشاعر هو الأحوص، والخبر في الأغانى (216: 40) طبعة الدار. 2 سقطت كلمة "الأبل" من ر، س. 3 الزرق: أكثبة بموضع يقال له الدهناء. والجمائل: جمع جمل كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والغربان هنا: رءوس الأوراك، وتقوب: تقطع، يريد أن خطر الجمال بأوراكها أحدث فيها قوبا فتقطعت. "وانظر ديوانه 209". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قول مخيس بن أرطاة الأعرجي لرجل من بني حنيفة ومن حسن الشعر ومايقرب مأخذة قول مخيس بن أرطاة الأعرجى والأعرج الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، لرجل من بني حنيفة يقال له يحيى، وكان يصير إلى امرأة في قرية من قرى اليمامة يقال لها: بقعاء: قال أبو الحسن: أنشدته عن الرياشي: " نقعاء"1، وسألت رجلاً من أهل اليمامة فصيحاً من بني حنيفة عن هذا، فقال: مانعرفة2 إلا" نقعاء"3: عرضت نصيحة مني ليحيى ... فقال: غششتني والنصح مر وما بى أن أكون أعيب يحيى ... ويحيى طاهر الأثواب4 بر ولكن قد أتاني أن يحيى ... يقال عليه فى بقعاء شر فقلت له: تجنب كل شىءٍ ... يعاب عليك، أن الحرحر فهذا كلام ليس فية فضل عن معناه. وقوله: "إن الحرحر حر" انما تأويلة أن الحر على الأخلاق التى عهدت فى الأحرار، ومثل ذلك: أنا أبو النجم وشعري شعري5 أي شعري كما بلغك، وكما كنت تعهد، وكذلك قولهم: الناس الناس، أي الناس كما كنت تعهدهم. قال أبو الحسن: ومنه قول الله عز وجل: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} 6 وقوله: فقلت له تجنب كل شىء ... يعاب عليك   1 ر: "نقعاء، بالنون". 2 ر: "ما أعرفه". 3 س: "نقعاء، بالنون". ر: "بقعاء، بالباء". 4 ر: "الأخلاق". 5 بعده: لله درى ما يجن صدرى "وانظر معاهد التنصيص 19: 1" 6 سورة طه 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 كقول عمرو بن العاص لمعاوية حين وصف عبد الملك [بن مران] 1 فقال: آخذ بثلاث، تاركٌ لثلاث، آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، وبحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسرالأمرين عليه إذا خولف، تارك للمراء، تارك لمقاربة اللئيم، تارك لما يعتذر منه، كقوله: ... تجنب كل شىءٍ ... يعاب عليك أن الحر حر   1 من ر، س. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 قول ابن ميادة لرياح بن عثمان المري ومما يستحسن إنشاده من الشعر لصحة معناه، وجزالة لفظه، وكثرة تردد ضربه من المعاني بين الناس، قول ابن ميادة لرياح بن عثمان بن حيان المري1، من مرة غطفان، يقوله في فتنة2 محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، وكان أشار عليه بأن يعتزل القوم فلم يفعل فقتل، فقال ابن ميادة: أمرتك يا رياح بأمر حزمٍ ... فقلت: هشيمةٌ من أهل نجد نهيتك عن رجال من قريش ... على محبوكة الأصلاب جرد ووجداً ما وجدت على رياحٍ ... وما أغنيت شيئا غير وجدي وقوله3: "فقلت هشيمة من أهل نجد4" تأويله ضعفة، وأصل الهشيم النبت إذا ولى وجف وتكسر، فذرته الرياح يميناً وشمالاً قال الله عز وجل: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} 5 والنجد: أعالي الأرض. وقوله: "على محبوكة الأصلاب جرد"   1 كان واليا على المدينة من قبل أبي جعفر المنصور سنة 144 "وانظر زامبور 36: 1". 2 ذكر ابن الأثير هذه الفتنة مفصلة في حوادث سنة 144. والخبر والأبيات في الأغانى 338،337: 2 "طبعة الدار"، واللسان "هشم" عن المبرد. 3 ر: "قوله" س: "قوله". 4 في اللسان: "ضعف". 5 الكهف 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فالمحبوك الذي فيه طرائق، واحدها حباكٌ، والجماعة حبك، وكذلك الطرائق التي عاى جناح الطائر؛ من ذلك قول الله عز وجل1: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} 2. قال أبو الحسن: ابن ميادة اسمه الرماح، وأمه ميادة، وأبوه أبرد، وكان عاقاً بأمه، ولها يقول: اعرنزمي مياد للقوافي3 وأصل الاعرنزام التجمع والتقبض، يقول: استعدي لها وتهيئي. وأنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد له: ونواعم قد قلنا يوم ترحلي ... قول المجد وهن كالمزاح ياليتنا من غير أمر فادح ... طلعت علينا العيس بالرماح في أبيات له، يعني نفسه. قال أبو الحسن: وتمام الأبيات: بينا كذاك رأيتني متعصباً ... بالخز فوق جلالة سرداح4 فيهن صفراء المعاصم طفلة ... بيضاء مثل غريضة التفاح5 ريشن حين أردن أن يرمينني ... نبلاً بلا ريشٍ ولا بقداح ونظرن من خلل الستور بأعين ... مرضى مخالطها السقم صحاح   1 ر: "تبارك وتعالى". 2 الذاريات7. 3 حاشية الأصل: بعده: واستسمعيهن ولا تخافى وفي ر: واستسمعيهن ولا تخافى ... ستجدين ابنك ذا قذاف 4 الجلالة: الناقة الضخمة. والسرداح: الناقة الطويلة. 5 صفراء المعاصم: هي التي طليت بالزعفران: والطفلة: الناعمة. والغريض: الطرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 نبذ من أقوال الحكماء قال أبو العباس: ثم نذكر من كلام الحكماء وأمثالهم وآدابهم صدراً، ونعود1 إلى المقطعات إن شاء الله. [يروى عن ابن عمر أنه كان يقول: إنا معشر قريش، كنا نعد الجود والحلم السودد، ونعد العفاف وإصلاح المال المروءة] 2. قال الأحنف بن قيس: كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزح تذهب المروءة، ومن لزم شيئاً عرف به. وقيل لعبد الملك بن مروان: ما المروءة? فقال: موالاة الأكفاء، ومداجاة الأعداء. وتأويل المداجاة المداراة؛ أي لا تظهر لهم ما عندك من العداوة، وأصله من الدجى، وهو ما ألبسك الليل من ظلمته. وقيل لمعاوية: ما المروءة? فقال: احتمال الجريرة، وإصلاح أمر العشيرة. فقيل له: وما النبل? فقال: الحلم عند الغضب، والعفو عند القدرة. وكان أبو سفيان إذا نزل به جار قال له: يا هذا، إنك قد اخترتني جاراً، واخترت داري داراً، فجناية يدك علي دونك، وإن جنت عليك يدٌ فاحتكم علي حكم الصبي على أهله. وذلك أن الصبي قد يطلب ما لا يوجد إلا بعيداً، ويطلب ما لا يكون البتة، قال الشاعر3: ولا تحكما حكم الصبي فإنه ... كثيرٌ على ظهر الطريق مجاهله وروي4 أن معاوية بن سفيان لما نصب يزيد لولاية العهد أقعده في قبةٍ حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية، ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجلٌ   1 ر: "ثم نعود". 2 مابين العلامتين تكمله من ر. 3 زيادات ر: "هو الأعرج المعنى". 4 ر: "ويروى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فعل ذلك، ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها-والأحنف جالسٌ-فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر! فقال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فقال: جزاك الله عن الطاعة خيراً! وأمر له بألوفٍ، فلما خرج الأحنف لقيه الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر، إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمع باستخراجها إلا بما سمعت، فقال الأحنف: يا هذا أمسك عليك1، فإن ذا الوجهين خليقٌ ألا يكون عند الله وجيهاً.   1 كلمة "عليك" ساقطة من ر، س. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لرجلٍ يهجو بلال بن البعير المحاربي وقال رجلٌ يهجو بلال بن البعير المحاربي1: يقولون أبناء البعير وما له ... سنامٌ ولا في ذروة المجد غارب أرادتوذاكم من سفاهة رأيها ... لأهجوهالما هجتني محارب معاذ إلهي إنني بعشيرتي ... ونفسي عن هذا المقام لراغب   1 زيادات ر: "الشاعر الرماح بن ميادة"، ورواية الأغانى "330: 2-طبعة الدار" للبيتين الأخيرين عن أبى حذافة السهمى: أظنت سفاها من سفاهة رأيها ... أن اهجوها-لما هجتنى محارب فلا وأبيها إنني بعشيرتي ... ونفسي عن ذاك المقام لراغب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لأبي الطمحان القيني يفخر بقومه وقال أبو الطمحان القيني1: وإني من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه نجوم سماءٍ كلما غار كوكب ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه وما زال منهم حيث كانوا مسودٌ ... تسير المنايا حيث سارت كتائب   1 زيادات ر: "اسمه حنظلة بن الشرقى، والطمحان فعلان، من طمح بأنفه وبصره إذا تكبر، والقين: الحداد، وكل صانع قين، والقين أيضا: مواضع القيد من البعير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لإياس بن الوليد يمدح قومه وقال إياس بن الوليد يمدح قومه: إني وجدك من قومٍ إذا طلبوا ... بعد النسيئة ديناً أحسنوا الطلبا لا تحسبوا هجم أبياتي علانيةً ... ولا استلاب سلاحي ذاهباً لعبا تبقى المعاير بعد القوم باقيةً ... ويذهب المال فيما كان قد ذهبا لرجلٍ يهجو وقال آخر: ليسوا لعمرو غير تأشيب نسبةٍ ... ولكن عمراً غيبته المقابر إذا عيروا قالوا مقادير قدرت ... وما العار إلا ما تجر المقادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وقال آخر: ولم تداو غلة القلب الشنف1   1 البيت في اللسان "شنف"، ورواه "عله القلب" بالمهملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 لرجلٍ من بني نهشل بن دارم ينأى بنفسه وقال رجلٌ من بني نهشل بن دارم: إذا مولاك كان عليك عوناً ... أتاك القوم بالعجب العجيب فلا تخنع إليه ولا ترده ... ورام برأسه عرض الجبوب فما لشآفةٍ من غير ذنبٍ ... إلا ولى صديقك من طبيب وقوله: ورام برأسه عرض الجبوب يريد الأرض-وهو اسم من أسمائها-أنشدني التوزي لرجلٍ من بني مرة يرثي ابنه: بني على عيني وقلبي مكانه ... ثوى بين أحجارٍ ورهن جبوب وقوله: فما لشآفةٍ يقول: لبغض، يقال: شئفت الرحل أشأفه شآفةً وشأفاً، وقد يقال في هذا المعنى شنفته، قال الراجز: لما رأتني أم عمروٍ صدفت ... ومنعتني خيرها وشنفت1   1 البيتان في اللسان "شنف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لنبهان بن عكي في النسيب وقال نبهان بن عكي العبشمي: يقر بعيني أن أرى من مكانه ... ذرا عقدات الأبرق المتقاود وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى، وقد مل السرى كل واجد وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطاً بسم الأساود قوله: "ذرا عقدات" فالذروة من كل شيء أعلاه، فذروه السنام أعلاه، وذروة المجد أرفعه وأسناه، ويقال: فلان في ذروة قومه إذا كان في الموضع الرفيع منهم، وأما قول لبيد: مدمنٌ يجلو بأطراف الذرا ... دنس الأسؤق عن عضب أفل فإنما يقول: هذا رجل يعرقب الإبل لينحرها ثم يمسح ذرا أسنمتها بسيفه، ليجلو ما عليه من دم الأسؤق. وقوله: "عضب" أي قاطع، ومن ذلك رجل عضب اللسان، وجعله أفل لكثرة ما يقارع به الحروب، كما قال النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وقوله: "عقدات "فهو ما انعقد وصلب من الرمل، والواحدة عقدة، وأعقاد أيضاً وعقدات، قال ذو الرمة لهلال بن أحوز المازني يمدحه: رفعت مجد تميم يا هلال لها ... رفع الطراف على العلياء بالعمد1 حتى نساء تميم وهي نازحة ... بقلة الحزن فالصمان فالعقد لو يستطعن إذا ضافتك مجحفة ... وقينك الموت بالآباء والولد   1 الطرف: بيت من جلد، والعلياء: المكان المرتفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وقوله: "الأبرق" فالأبرق حجارة يخلطها رمل وطين، يقال لتلك: برقة، وأبرق، وبرقاء، يا فتى كما يقال: الأمعز والمعزاء، وهي الأرض الكثيرة الحصباء، ومثل ذلك الأبطح والبطحاء، وهو ما انبطح من الأرض، فمن قال: أبرق فإنما أراد المكان، ومن قال: برقاء فإنما أراد البقعة. وقوله: "المتقاود" يريد المنقاد المستقيم، ومن ذلك قولهم: قدته أي جررته على استقامة، وكذلك طريق منقاد، وفلان قائد الجيش، قال حاتم بن عبد الله الطائي يضرب هذا مثلاً: إن الكريم من تلفت حوله ... وإن اللئيم دائم الطرف أقود1 وقوله: ولو كان مخلوطاً بسم الأساود يريد جمع أسود سالخ، وجمعه على أساود، لأنه يجري مجرى الأسماء، وما كان من باب "أفعل" اسما فجمعه على أفاعل، نحو أفكل وأفاكل2، والأكبر والأكابر، وكذلك كل ما سميت به رجلاً، تقول: أحمد وأحامد وأسلم وأسالم، فإن كان نعتاً فجمعه" فعل"3 نحو أحمر وحمر وأصفر وصفر، ولكن أسود إذا عنيت به الحية، وأدهم إذا عنيت به4 القيد، وأبطح إذا عنيت5 المكان المنبطح، والأبرق6 إذا عنيت المكان، مضارعة للأسماء، لأنها تدل على ذات الشيء، وإذا كانت في الأصل نعتاً محضاً7، تقول في جمعها: الأباطح والأبارق والأداهم والأساود، فإن أردت نعتاً محضاً يتبع المنعوت، قلت: مررت بثياب سود، وبخيل دهم، وكل ما أشبه هذا فهذا مجراه، قال جرير: هو القين وابن القين لا قين مثله ... لفطح المساحي أو لجدل الأداهم8   1 حاشية الأصل: "الأقود من الرجال: الذي لا يلتفت". 2 الأفكل: اسم لرعدة من برد أو خوف. 3 ر، س: "فجمعه على فعل". 4 ر، س: "إذا عنيت به القيد". 5 ر: "إذا عنيت المكان". 6 ر: "وأبرق إذا عنيت به المكان". 7 ساقطة من ر. 8 المساحى: "جمع مسحاة، وهي المجرفة من حديد يجرف بها الطين عن وجه الأرض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وقال الأشهب بن رميلة: قال أبو الحسن: رميلة اسم أمة1: أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقت2 على حرد دماء الأساود قوله: "على حرد" يقول: على قصد، فأما الله عز وجل: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} 3 فإن فيه قولين: أحدهما ما ذكرنا من القصد، قال الشاعر4: قد جاء سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة5 وقالوا: "على حرد": أي على منع من حاردت السنة إذا منعت قطرها، وحاردت الناقة إذا منعت درها. [قال أبو الحسن: رواية أبي العباس: "يقر بعيني "يريد يقر عيني، ثم أتى بالباء توكيداً، وقال لنا: هكذا سمعته، ويقال: أقر الله عينه يقرها، وقرت عينه تقر، وقررت بالمكان أقر وقال الأصمعي: قرت عينه من القر وهو البرد، أي جمدت فلم تدمع، وهو بحذاء سخنت عينه وأجود مما روى عندي: "يقر بعيني"، وهو الأصل، والباء في موضعها غير مؤكدة. وقال أبو العباس: الذي رويت: "وقد مل السرى كل واحد"، وهو المنفرد في السير المتوحد به، وروىغيره: "كل واجد"، أي عاشق وروي أيضاً: "كل واخد"، وهو من الوخد والوخدان، وهو السير الشديد والوخد المصدر، والوخدان الاسم] .   1 مابين العلامتين من ر، س. 2 ر، س: "تسافوا". 3 سورة القلم 25. 4 س: "قيل: هو قطرب". 5 زيادات ر: "قال أبو حاتم: هذه صنعة من لا أحسن الله ذكره_يعني قطربا"، وفيها "قطربأ" تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 للقتال الكلابي يفخر بنفسه وقومه وقال القتال الكلابي1، واسمه عبيد بن مضرحي: أنا ابن أسماء أعمامي لها وأبي ... إذا ترامى بنو الإموان بالعار لا أرضع الدهر إلا ثدي واضحةٍ ... لواضح الخد يحمي حوزة الجار من آل سفيان أو ورقاء يمنعها ... تحت العجاجة ضرب غير عوار يا ليتني والمنى ليست بنافعةٍ ... لمالك أو لحصن أو لسيار طوال أنضية الأعناق لم يجدوا ... ريح الإماء إذا راحت بأزفار قوله: إذا ترامى بنو الإموان بالعار فالإموان: جمع أمةٍ، وأصل أمةٍ"فعلة" متحركة العين، وليس شيء من الأسماء على حرفين إلا وقد سقط منه حرف يستدل عليه بجمعه، أو بتثنيته، او بفعل إن كان مشتقاً منه، لأن أقل الأصول ثلاثة أحرف، ولا يلحق التصغير ما كان أقل منها، فأمة قد علمنا أن الذاهب منها واو بقولهم: " إموان"، كما علمنا أن الذاهب من أب وأخ الواو بقولهم أبوان وأخوان، وعلمنا أن أمة" فعلةٌ "متحركة بقولهم في الجميع: آم، فوزن هذا أفعل، كما قالوا أكمة وآكم، ولا تكون فعلةٌ على أفعل، ثم قالوا إموان، كما قالوا في المذكر الذي هو منقوص مثله: إخوان، واستوى المذكر والمؤنث، لأن الهاء زائدة كما استويا في" فعل" الساكن العين، تقول: كلب وكلاب، وكعب كعاب، كما تقول في المؤنث: طلحة وطلاح، وجفنةٌ وجفان، وصفحة وصحاف. ونظير ذلك من غير المعتل ورل2 وورلان، وبرق وبرقان وخرب وخربان، وهو ذكر الحبارى، والبرق الحمل، ومن أنشد:   1 ر، س: "وقال أبو العباس، قال القتال ... ". والأبيات في أمالى القالى "226،225: 2"، وذكر فيها: "نازع القتال الكلابى_ وهو عبيد بن المضرحى_ رجلا من قومه، فقال له الرجل: أنت كل على قومك، والله إنك لخامل الذكر والحسب، ذليل النفر، خفيف على كاهل خصمك، كل على ابن عمك"، فقال هذه الأبيات. 2 الورل: دابة على خلقة الضب، إلا أنه أعظم منه، يكون في الصحارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 "أموان "فقد غلط، لأنه يحتج بقولهم، حمل حملان، وفلق وفلقان، وهذا إنما يحمل على ما كان معتلاً مثله، نحو أخٍ وإخوان، وقد روى أبو زيد: أخوان، فإلى هذا ذهبوا، والقياس المطرد لا تعترض عليه الرواية الضعيفة. وقوله: "لا أرضع الدهر "فهذا على لغته، لأن قيساً تقول: رضع يرضع، وأهل الحجاز يقولون: رضع يرضع، وينشدون بيت عبد الله بن همام" السلولي"1 على وجهين، وهو: إذا نصبوا للقول قالوا فإحسنوا ... ولكن حسن القول خالفه الفعل وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... إفاويق حتى ما يدر لها ثعل2 وبعضم يقول" يرضعونها". وقوله: لاأرضع الدهر إلا ثدي واضحة يقول إنما ترضعني أمي، وليست غير كريمة، كما قال الأغشى: يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأساً من بخلا يقول: إنما تشرب بكفك، ولست ببخيل، ومثل هذا قول التميمي لنجدة ابن عامر الحنفي الخارجي3: متى تلق الحريش حريش سعد ... وعبادا ًيقود الدارعينا تبين أن أمك لم تورك ... ولم ترضع أمير المؤمنينا4 وقوله:" واضحة" أي خالصة في نسبها، وليست بأمة، وهذا توكيد لبيته الأول، وقد أنشد بعضهم: "لواضح الجد" والمعنى قريب.   1 من و. وفى س. "بيتى ابن همام". 2 الثعل، مثلثة: خلف زائد صغير في أخلاف الناقة. 3 هو نجدة بن عامر الحنفي، من رءوس الخوارج، كان ممن لقبوه بأمير المؤمنين قتل سنة 72. "وانظر تاريخ الطبرى 194: 7". 4 هو الحريش بن هلال القريعى الشاعر، وعباد بن علقمة المازنى، وسيأتى ذكرهما في أخبار الخوارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وقوله:" يحمي حوزة الجار" أي مايحوزه، يقال: فلان مانع لحوزته، أي لما صار في حيزه، ويروى عن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه1 أنه قال: للأزد أربع ليست لحي، بذل لما ملكت أيديهم، ومنع لحوزتهم، وحي عمارة2 لايحتاجون إلى، غيرهم، وشجعان لايجبنون. وقوله: لمالكٍ، أو لحصنٍ، أو لسيار فهؤلاء بيت فزازة، وبيوتات العرب في الجاهلية ثلاثة، فبيت تميم بنو عبد الله بن دارم، ومركزه، بنو زرارة، وبيت قيس بنو فزارة ومركزه بنو بدرٍ، وبيت بكر بن وائل بنو شيبان ومركزه ذي الجدين. وقوله: "طوال أنضية الأعناق" فالنضي مركب النصل في النسخ، وضربه مثلاً، وإنما أراد طوال الأعناق، كما قال الأعشى: الواطئين على صدور نعالهم ... يمشون في الدفئي والأبراد3 يريد السودد والنعمة ولم يخصص الصدور، وإنما أراد النعال كلها، وقال الشاعر4: يشبهون ملوكاً في تجلتهم ... وطول أنضية الأعناق واللمم إذا بدا المسك يندى في مفارقهم ... راحوا كأنهم مرضى من الكرم [قال أبو الحسن: وغيره يروي: يشبهون قريشاً في تجلتهم] . وقوله: "بأزفار" فالزفر الحمل، ويضرب مثلاً للرجل، فيقال، إنه لزفر. أي حمال للأثقال، ويقال: أتى حمله فأزدفره، قال أبو قحامة أعشى بأهلة: أخو رغائب يعطيها ويسألها ... يأبى الظلامة منه النوافل الزفر   1 ر: "رضى الله عنه". 2 العمارة هنا: الحى العظيم يمكنه الانفراد بنفسه، يفتح العين وكسرها. قال ابن الأثير: "فمن فتح فلالتفاف بعضهم على بعض كالعمارة والعمامة، ومن كسر فلأن بهم عمارة الأرض" "وانظر النهاية 128: 3". 3 الدفئى: ضرب من الثياب، قيل هي المخططة. 4 زيادات ر: "هو الشمردل بن شريك اليربوعى، عن ابن قتيبة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وإنما يريده بعينه، كقولك: لئن لقيت فلاناً ليلقينك منه الأسد. وقوله "النوفل" من قولهم: إنه لذو فضل ونوافل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 لرجل من بني عبس وكان عروة بن الورد قد شتمه وقال رجل من بني عبسٍ يقوله لعروة بن الورد1: لا تشتمني يا ابن وردٍ فإنني ... تعود على مالي الحقوق العوائد ومن يؤثر الحق النؤوب تكن به ... خصاصة جسم، وهو طيان ماجد2 وإني امرؤٌ عافي إنائي شركةٌ ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد3 أقسم جسمي في جسوم كثيرةٍ ... وأحسو قراح الماء والماء بارد قوله: "النؤوب "يريد الذي ينوبه، وكل واو قراح لغير علةٍ فأنت فيهمزها وتركها بالخيار، تقول في جمع دارٍ: أدؤر وإن شئت لم تهمز، وكذلك النؤوب، والقؤول لانضمام الواو، فأما الواو الثانية فإنها ساكنة قبلها ضمة، وهي مدة فلا يعتد بها، ولو التقت واوان في أول كلمةٍ وليست إحداهما مدة لم يكن بد من همز الأولى، تقول في تصغير واصل وواقدٍ: أويصل وأويقد، لا بد من ذلك، فأما وجوه فأما وجوهٌ فإن شئت همزت فقلت: أجوه وإن شئت لم تهمز، قال الله عز وجل: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} 4 المرسلات والأصل وقتت، ولو كان في غير القرآن لجاز إظهار الواو إن شئت. وقوله عز وجل5: {مَا وُورِيَ عَنْهُمَا} 6 الاعراف الواو الثانية مدة فلا يعتد بها، ولو كان في غير القرآن لجاز الهمز لانضمام الواو. وقولي: "إذا انضممت لغير علة"، فالعلة أن تكون ضمتها إعرباٌ، نحو هذا غزوٌ يا فتى، وذلو كما ترى، مما لا يجوز همزه، لأن الضمة للإعراب فليست بلازمة، أو تنضم لالتقاء الساكنين، فذلك أيضاً غير لازم، فلا يجوز   1 ر، س: "قال أبو الحسن: يقوله لعروة بن الورد". 2 الخصاصة: سوء الحال. والطيان: الجائع. 3 العافى: طالب المعروف. 4 سورة المرسلات 11. 5 ر، س: "وقوله تعالى". 6 سورة الأعراف، 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 همزة: نحو اخشوا الرجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} 1 {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} 2 ومن همز من هذا شيئاً فقد أخطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لرجل من بني تميم يهجو تعلة بن مسافر وقال رجل من بني تميم: ألبان إبل تعلة بن مسافرٍ ... ما دام يملكها علي حرام وطعام عمران بن أوفى مثلها ... ما دام يسلك في البطون طعام إن الذين يسوغ في إعناقهم ... زادٌ يمن عليهم للئام لعن الإله تعلة بن مسافر ... لعناً يشن عليه من قدام وهذا كلام فصيح جداً. وقوله: "يسوغ في أعناقهم" يريد حلوقهم لأن العنق يحيط بالحلق، ويشبه هذا الاتساع في الفصاحة لا في المعنى قول القطامي: لم تر قوماً هم شر لإخوتهم ... منا عشية يجري بالدم الوادي نقريهم لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كل زراد لأن الخياطة تضم خرق القميص، والسرد يضم حلق الدرع، فضربه مثلاً فجعله خياطة، قال أبو الحسن: روى أبو العباس: وطعام عمران بن أوفى مثلها رد الهاء والألف على الألبان، وهذا لا نظر فيه، وروى أيضاً مثله لأن الألبان تجري مجرى اللبن، فحمله على المعنى. وقد يجوز أن تجعل الألبان جمعاً فتذكر لتذكير الجمع. وروي أيضاً ما دام يسلك في الحلوق طعام   1 سورة آل عمران 186. 2 سورة التكاثر 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وروى الفراء في هذا الشعر: إن الذين يسوغ في أحلاقهم وإنما كان ينبغي أن يكون:: " في أحلقهم "كقولك: فلس وأفلس، وما أشبهه ولكنه شبه باب" فعلٍ" بباب" فعل"، كما قالو: زند وأزناد، وفرخ وافراخ، قال الحطيئة لعمر بن الخطاب رضي1 الله عنه: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر ففعلوا هذا تشبيها ًبباب" فعل" كما شبهوا فعلاً بفعلٍ في الجمع، فقالوا: جبلٌ وأجبلٌ، وزمن وأزمن، كما قال: إني لأكني بأجبال عن أجبلها ... وباسم أودية حباً لواديها فأتي به على الأصل، وتشبيهاً بغيره على ما أخبرتك، قال ذو الرمة: أمنزلتي مي سلام عليكما ... هل الأزمن الائي مضين رواجع! والباب" أزمان" كما قال رؤبة: أزمان لا أدري وإن سألت ... ما فرق بين جمعةٍ وسبت وروى أبو العباس البيت الأخير مقوى، وجعله نكرة، وهو قوله: "من قدام" كما تقول: جئتك من قبلٍ، ومن بعد، ومنعلٍ، وما أشبه، كما قرأ بعضهم: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} 2 كما تقول: أولاً وآخراً، ورواه الفراء: "من قدام" وجعله معرفة، وأجراه مجرىالغايات، نحو: "قبل وبعد" كما قال طرفة بن العبد3: ثم تفري اللحم من تعدائها ... فهي من تحت مشيحات الحزم وكما قيل عتي بن مالك العقيلي، أنشده الفراء أيضاً: إذا أنا أومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلا من وراء وراء   1 ر، س: "العمر رحمه الله". 2 سورة الروم 4. 3 من ر، وعجز هذا البيت صدر لبيت آخر، ورواية الديوان 59. وخل الصنعة في مشتاتها ... فهي من تحت مشيحات الحزم وتفرى اللحم من تعدائها ... وتعالى فهى قب كالعجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فهذا الضرب مما وقع على غير جهة التعريف، وجهة التعريف أن يكون معرفاً بنفسه، كزيد وعمرو، أو يكون معرفاً بالألف واللام أو بالإضافة، فهذه جهة التعريف، وهذا الضرب إنما هو معرف بالمعنى، فلذلك بني إذ خرج من الباب، ويروى: "لعناً يسن عليه" بالسين، ويسن ويشن واحد، أي يصب إلا أن بعضهم قال السن الصب على وجهه واحدة، وقالوا: يقال: شننت عليه الماء، وسننته، وسننت عليه الدرع لا غير، وقالوا: سننت عليه الغارة لا غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 للقاطمي يفتخر قال أبو العباس: وقال القاطمي: فمن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال باديةٍ ترانا! ومن ربط الجحاش فإن فينا ... قناً سلبا وأفراساً حسانا1 وكن إذا أغرن على قبيل2 ... فأعوزهن كوز حيث كانا3 أغرن من الض باب على حلال ... وضبة إنه من حان حانا وأحياناً على بكرٍ أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا وقوله: " الحضارة" يريد الأمصار، وتقول العرب: فلان بادٍ، وفلان حاضرٌ، وفي الحديث: "ولا يبيعن حاضرٌ لبادٍ" وتأويل ذلك أن البادي يقدم وقد عرف أسعار ما معه وما مقدار ربحه، فإذا جاءه الحاضر عرفه سنة البلد فأغلى على الناس. ومثل ذلك النهي عن تلقي الجلب، ومثله: دعوا عباد الله يصب بعضهم من عضٍ. حي حلال، إذا كانوا متجاورين مقيمين، وأنشد الأصمعي: أقوم يبغون العير تجراً ... أحب إليك أم حي حلال   1 القنا: جمع قناة، وهي الرمح: السلب: الطوال، واحده سلب، بفتحتين. 2 القبيل: الجماعة من الناس. 3 كوز: رجل من أسد. وفي ر: "كون" تحريف وانظر الديوان 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 باب نبذ من أقوال الحكماء قيل لمعاوية رحمة الله عليه: ما النبل? فقال: الحلم عند الغضب، والعفو عند القدرة. ويروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا أخبركم بشراركم?1 من أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده، ألا أخبركم بشر بين ذلكم? من لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يغفر ذنباً ألا أخبركم بشر من ذلكم؟ من يبغض الناس ويبغضونه". ويروى عنه عليه السلام أنه قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدً على من سواهم، والمرء كثير بأخيه" قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تتكافأ دماؤهم"، من قولك: فلان كفء لفلان، أي عديله، وموضوع بحذائه، قال الله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ويقال: فلان كفاء فلان، وكفيء فلان، وكفء فلان. ويروى أن الفرزق بلغه أن رجلا من الحبطات بن عمرو بن تميم خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، فقال الفرزدق: بنو دارم أكفاؤهم آل مسمعٍ ... وتنكح في أكفائها الحبطات فآل مسمع بيت بكر بن وائل في الإسلام، وهم ممن بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، والحبطات هم بنو الحارث بن عمرو بن تميم فقوله: " أكفاؤهم" إنما هو جمع كفء يافتى، فقال رجل من الحبطات يجيبه: أما كان عباد كفيئا لدارم ... بلى ولأبيات بها الحجرات يعني بني هاشم من قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} 2. وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: من لانت كلمته، وجبت محبته وقال: قيمة كل امرىء ما يحسن.   1 ر: "ألا أخبركم بشراكم؟ " قالوا: بلى، قال: "من أكل وحده ... ". 2 سورة الحجرات 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يثبتن لك الود في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه وقال: كفى بالمرء غياً أن تكون فيه خلة من ثلاث: أن يعيب شيئاٌ ثم يأتي مثله، أو يبدو له من أخيه ما يخفى عليه من نفسه، أو يؤدي جليسه فيما لا يعنيه. وقال عبد الله بن العباس لبعض اليمانية: لكم من السماء نجمها، ومن الكعبة ركنها، ومن السيوف صميمها يعني سهيلا من النجوم، والركن اليماني، وصمصامة عمرو بن معدي كرب. ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله قال يوماٌ: من أجود العرب فقيل له: حاتم، قال: فمن شاعرها قيل: امرؤ القيس بن حجر، قال: فمن فارسها قيل: عمرو بن معديكرب، قال: فأي سيوفها أمضى، قيل: الصمصامة. وقال معاوية بن أبي سفيان رحمة الله للأحنف بن قيس وجارية بن قدامة ورجال من بني سعد معهما كلاماً أحفظهم، فردوا عليه جواباً مقذعاً، وبنت قرظة في بيتٍ يقرب منه، فسمعت ذلك، فلما خرجوا قالت: يا أمير المؤمنين، لقد سمعت من هؤلاء الأجلاف كلاماً تلقوك به فلم تنكر، فكدت أخرج إليهم فأسطو بهم. فقال لها معاوية: إن مضركاهل العرب، وتميماً كاهل مضر، وسعداً كاهل تميمٍ، وهؤلاء كاهل سعدٍ. وكان معاوية يقول: إني لا أحمل السيف على من لا سيف معه، وإن لم تكن إلا كلمة يشتفي بها مشتفٍ جعلتها تحت قدمي، ودبر أذني المقذع: الذي فيه إقذاع وهو السيء من القول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 باب لرجل من بني سعد يرثي رجلا ً قال أبو العباس: قال رجل - أحسبه من بني سعد - يرثي رجلاً: ومختضر المنافع أريحي ... نبيلٍ في معاوزةٍ طوال عزيزٍعزةً في غير فحشٍ ... ذليلٍ للذ ليل من الموالي جعلت وساده إحدى يديه ... وتحت جمائه خشبات ضال ورثت سلاحه، وورثت ذوداً ... وحزناً دائماً أخرى الليالي قوله:" أريحي" هو الذي يرتاح للمعروف، أي يخف له، ويقال: أخذت فلاناً أريحية، أي خفة وحركة لفعل المعروف. والمعاوز: الثياب التي يتبذل فيها الرجل، وهي دون الثياب التي يتجمل بها، واحدها معوز، قال الشماخ في نعت القوس: إذا سقط الأنداء صينت وأشعرت ... حبيراً ولم تدرج عليها المغاوز1 وقوله:" في معاوزة": فزاد الهاء.،فإنما يفعل ذلك لتحقيق التأنيث، لأن كل جمع مؤنث، كما تقول في جمع صيقلٍ صياقل، وصياقلة، وكذلك جوارب وجواربة، إلاأن أكثر الأعجمي يختص بالهاء، وهو في الغربي جيد، وفي العجمي أكثر استعمالاً نحو الموازجة2، فإن كان الباب فيه إثبات الهاء وتركها جائز.، نحو المهالبة والأحامرة، وقالوا: السبابحة3 لأنه قد اجتمع فيه النسب والعجمة.   1 الأنداء: جمع الندى، وهو ما يسقط ليلا. وأشعرت: ألبست الشعار، وهو الثوب الذي يلى الجسد. الحبير: البرد الموشى. 2 الموازجة: جمع موزج، وهو الخف، وأصله: "موزة". "وانظر المعرب 311". 3 قال في اللسان: السبابجة: قوم ذوو جلد من السند والهند يكونون مع رئيس السفينة البحرية واحدهم سبيجى، ودخلت في جمعة الهاء للعجمة والنسب، كما قالوا: البرابرة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وقوله: "تحت جمائه" يعني شخصه، والضال: السدر البري وما كان من السدر على الأنهار فليس بضال، ولكن يقال له: عبري. قال ذو الرمة: "عبرياً وضالاً"1. ورثت سلاحه وورثت ذودا يصف قرب نسبه منه، والذود: القطعة من الإبل، وأكثر ما يستعمل ذلك في الأناث، ويجوز في السائر، ومنه قولهم: الذود إلى إبل، ثم قال: وحزناً دائماً أخرى الليالي كما قال وغبط بميراثٍ ورثه من أحد أهله: يقول جزءٌ ولم يقل جللاً- ... إني تزوجت ناعماً جذلاً إن كنت أزنتني بها كذباً ... جزء فلاقت مثلها عجلا أغبط أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذوداً شصائصاً نبلا قوله: " ولم يقل جللا" أي صغيراً، والجلل يكون للصغير، ويكون للكبير، من ذلك قوله: كل شيء ما خلا الله جلل أي صغير، وقال لبيدٌ في الكبير: وأرى أربد قد فارقني ... ومن الأرزاء رزءٌ ذو جلل وقوله: "شصائصاً"، يعني حقيرة دميمة. وزعم التوزي أن النبل من الأضداد، يكون للجليل والحقير، واححتج بهذا البيت الذي ذكرناه، قال: يريد ههنا الحقيرة. وقوله: "أزنتني"، أي قرفتني ونسبتني إليه، فلان يزن بكذا وكذا، أي يسمى به، ةينسب إليه، قال امرؤ القيس بن حجر: كذبت، لقد أصبي على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي   1 ر: "قال ذو الرمة": قطعت إذا تجوفت العواطى ... ضروب السدر عبريا وضالا والعواطي: الظباء تمد أعناقها إلى الشجر. "وانظر ديوانه 440". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وفي معنى قوله: " ورثت سلاحه" قول الشاعر: يفرح الوارث بالمال إذا ... ورث المال ويبكي إن غضب ومثله قول الفزاري: ياحبذا التراث لولا الذلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 لجميل بن معمر في النسيب وقال جميل بن معمرٍ: ما صاءب من نائلٍ قذفت به ... يدٌ، وممر العقدتين وثيق له من خوافي النسر حم نظائرٌ ... ونصل كنصل الزاعبي فتيق على نبعةٍ زوراء، أيما خطامها ... فمتنٌ، وأيما عدها فعتيق بأوشك قتلاً منك يوم رميتني ... نوافذ لم تعلم لهن خروق كأن لم نحارب يا بثين لو أنها ... تكشف غماها وأنت صديق قوله: " ما صائب" يريد قاصداً، يقال: صاب يصوب إذا قصد، ومن ذلك قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} 1 وقد قالوا: النازل، والقصد أحكم كما قال بشر بن أبي خازم الأسدي: تؤمل2 أن أؤوب لها بغنم ... ولم تعلم بأن السهم صابا وقوله: "وممر العقدتين" يعني وتراً، والممر: الشديد الفتل. وقوله: "من خوافي النسر حم نظائر" يريد ريش السهم، والحم: السود، وذلك أخلصه وأجوده، وجعلها في مقادير، لأنه أقصد للسهم، وإذا كانت الريشات بطن الواحدة منها إلى ظهر الأخرى فهو الذي يختار وهو الذي يقال له اللؤام، وإنما أخذ من قولهم: ملتئم. وإن كان ظهر الواحدة إلى ظهر الأخرى، وبطنها إلى بطن الأخرى فذلك مكروه، يقال له اللغاب.   1 سورة البقرة 19. 2 ر: "صدر البيت عن ابي الحسن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وقوله: " كنصل الزاعبي"، شبه نصل السهم بنصل الرمح الزاعبي، وهو منسوب إلى رجل من الخزرج، يقال له زاغبٌ، كان يعمل الأسنة، هذا قول قوم. وأما الأصمعي فكان يقول: الزاغبي: الذي إذا هز فكأن كعوبه يجري بعضها في بعضٍ للينه وتثنيه، يقال مر يزعب بحمله إذا مر مراًسهلاً. وقوله: "فتيق" يعني حاداً رقيقاً، يقال: فتيق الشفرتين، وتأويله أنه يفتق ما عمد به له. و" فعيل" يقع اسماً للفاعل، ويقع للمفعول، فأما الفاعل فمثل رحيم وعليم وحكيم وشهيد، وأما ما كان للمفعول، فنحو جريح وقتيل وصريع. وقوله:" زوراء" يريد معوجة، وكلما كانت القوس أشد انعطافاٌ كان سهمها أمضى. وقوله: " على نبعة"، يعني قوساً وأكرم القسي ما كان من النبغ. وقوله: "أيما" إنما يريد "أما"، واستثقل التضعيف، فأبدل الياء من إحدى الميمين، وينشد بيت ابن أبي ربيعة: رأت رجلا، أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى، وأيما بالعشي فيخصر وهذا يقع، وإنما بابه أن تكون قبل المضاعف كسرة فيما يكون على فعال، فيكرهون التضعيف والكسر، فيبدلون من المضعف الأول الياء للكسرة وذلك قولهم: دينار وقيراطٌ وديوان ما أشبه ذلك، فإن زالت الكسرة وانفصل أحد الحرفين من الآخر رجع التضعيف فقلت: دنانير وقراريط ودواوين، وكذلك إن صغرت قلت قريريط ودنينير. وقوله:" وأيما عودها فعتيق"، يصف كرم هذه القوس وعتقها، ويحمد منها أن تترك ولحاؤها عليها بعد القطع حتى تشرب ماءه، كما قال الشماخ: فمظعها حولين ماء لحائها ... وينظر منها أيها هو غامر مظعها: شربها1.   1 زيادات ر: "قوله: "فمظعها حولين"، أى تركها في الظل حولين حتى تشرب ماء اللحاء، يقال: تمظع الرجل الظل إذا تحول من مكان إلى مكان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقوله: "بأوشك قتلا منك"، يقول: بأسرع، يقال: أمر وشيك أي سريع، ويقال: يوشك فلان أن يفعل كذا، أي يقارب ذلك، ويوشك يفعل، كذا يطرح "أن "كل جيد قال1: يوشك من فر من منيته ... في بعض غراته يوافقها من لم يمت عبطة يمت هرماٌ ... للموت كأس فالمرء ذائقها قال أبو الحسن: هذه أبيات أربعة وهي لرجل من الخوارج قتله الحجاج: ما رغبة النفس في الحياة وإن ... عاشت قليلاٌ فالموت لاحقها وأيقنت أنها تعود كما ... كان براها بالأمس خالقها قوله: "عبطة"، أي شاباٌ، يقال: اعتبط الرجل، إذا مات شاباٌ من غير مرض، وأصل العبيط الطري من كل شيْ وقوله: نوافذ لم تعلم لهن خروق معنى طريف، وقد أخذه أبو حية منه فكشفه في أبيات مختارة، وهي2: وإن دماٌ لو تعلمين جنيته ... على الحي جاني مثله غير سالم أما إنه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القنا بالراعفات اللهاذم3 ولكن لعمر الله ما طل مسلما ... كغر الثنايا واضحات الملاغم إذا هن ساقطن الحد يث كأنه ... سقاط حصى المرجان من سلك ناظم   1 زيادات ر: "هو أمية بن أبي الصلت"، وكذا في حاشية الأصل أيضا. 2 زيادات ر: "اسم أبي حية الهيثم بن الربيع" وفي س: وهو قول أبي حية النميري". 3 اللهاذم: القواطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 رمين فأقصدن القلوب فلم نجد ... دما مائراٌ إلا جوى في الحيازم1 قال أبو الحسن: وأول هذه الأبيات المختارة أنشدناه غيره: وخبرك الواشون أن لن أحبكم ... بلى وستور الله ذات المحارم2 أصد وما الصد الذي تعلمينه ... شفاءٌ لنا إلا اجتراع العلاقم قال أبو العباس: فهذا مأخوذ من ذلك. وقوله: ولكن لعمر الله ما طل مسلماً يقول: ما طل دمه، يقال: دمٌ مطلول، إذا مضى هدراً، كما قال الراجز: بغير عقلٍ ودمٍ مطلول وحدثني التوزي قال: قال يحيى بن يعمر لرجل نازعته امرأته عنده: آن طالبتك بثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها! قوله: "ثمن شكرها" فإنما يعني الرضاع، والشبر: النكاح، والشكر: الفرج. وقوله: "أنشأت تطلها" أي تسعى في بطلان حقها. وقوله:" تضهلها" أي تعطيها الشيء بعد الشيء: يقال: بئر ضهول إذا كان ماؤها يخرج من جرابها شيئاً بعد شيء، وجرابها جوانبها، وإنما يغزر ماؤها إذا خرج من قرارتها فتعظم جمتها3.   1 زيادات ر: "الكاف في قوله: "كغر" فاعلة بقوله: "طل"، ومنه قول الأعشى: أتنتهون ولن ينهى ذوى شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل وقول امرىء القيس: وإنك لم يفخر عليك كفاخ ... ضعيف ولم يغلبك مث مغلب 2 ر: ذكر بعده عن أبى الحسن: حياء وبقيا أن تشيع نميمة ... بناديكم، اف لأهل النمائم! وأورد هذا البيت في حاشية الأصل عن أبى على. 3 الجمة: كثرة الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وقوله: "واضحات الملاغم" يريد العوارض، قال الفرزدق: سقتها خروق في المسامع لم تكن ... علاطاً ولا مخبوطة في الملاغم يقول: علم أرباب الماء لمن هي فسقاها ما سمعوه من ذكر اصحابها لعزهم ومنعتهم، ولم تحتج أن تكون بها سمةٌ. والعلاط: وسمٌ في العنق، والخباط في الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 باب نبذ من أقوال الحكماء قال أبو العباس1 قال بعض الحكماء: من أدب ولده صغيراً سر به كبيراً وكان يقال: من أدب ولده أرغم حاسده. وقال رجل لعبد الملك بن مروان إني أريد آن أسر إليك شيئاً، فقال عبد الملك لأصحابه: إذا شئتم، فنهضوا، فأراد الرجل الكلام، فقال له غبد الملك قف، لا تمدحني، فآنا أعلم بنفسي منك، ولا تكذبني، فإنه لا رأي لمكذوبٍ ? ولا تغتب عندي احداً. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في الانصراف? قال له: إذا شئت. وقال بعض الحكماء: ثلاث لا غربة معهن: مجانبة الريب، وحسن الأدب، وكف الأذى. وقال عمرو بن العاص لدهقان2 نهر تيرى3: بم ينبل الرجل عندكم ? فقال: بترك الكذب، فإنه لا يشرف إلا من يوثق بقوله، وبقيامه بأمر أهله، فإنه لا ينبل من يحتاج أهله إلى غيره، وبمجانبة الريب، فإنه لا يعز من لا يؤمن ألا يصادف على سوأة، وبالقيام بحاجات الناس، فإنه من رجي الفرج لديه كثت غاشيته. وقال بزر جمهر: من كثر أدبه كثر شرفه، وإن كان قبل وضيعاً، وبعد صيته وإن كان حاملاً، وساداً وإن كلن غريباً، وكثرت الحاجة إليه وإن كان مقتراً. وكان يقال: عليكم بالأدب، فإنه صاحبٌ في السفر، ومؤنس في الوحدة، وجمال في المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من أفضل ما أعطيته العرب الأبيات. يقدمها الرجل أمام حاجته، فيستعطف بها الكريم، ويستنزل لها اللئيم.   1 ساقطة من ر. 2 الدهقان: زعيم فلاحى العجم، ويطلق على رئيس الإقيلم. 3 نهر تيرى: موصع بناحية الأهواز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وكان شعبة بن الحجاج، أو سماك بن حرب -[قال أبو الحسن: هو سماك بلا شك]- 1إذا كانت له إلى أمير حاجة استنزله بأبيات يقولها فيه. وقال بعض الملوك لبض وزرائه وأراد محنته: ما خير ما يرزقه العبد قال: عقل يعيش به.قال: فإن عدمه قال: فأدب يتحلى به قال: فإن عدمه قال: فمال يستره قال: فإن عدمه قال: فصاعقة تحرقه، فتريح منه العباد والبلاد. وقيل لرجل من ملوك العجم: متى يكون العلم شراٌ من عدمه قال: إذا كثر الأدب، ونقصت القريحه وقال أزدشير: من لم يكن عقله أغلب خلال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خلال الخير عليه. وقال محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وذكر رجلاٌ من أهله: إني لأكره أن يكون لعلمه فضل على عقله، كما أكره أن يكون للسانه على علمه. وقال محمد بن علي بن الحسين: جميع التعايش والتناصف والتعاشر في ملء مكيال، ثلثاه فطنة، وثلث تغافل فلم يجعل لغير الفطنة نصيباٌ من الخير، ولا حظاٌ في الصلاح، لأن الإنسان لا يتغافل إلا عن شىء قد عرفه وفطن به.   1 من ر: وحاشية الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 باب لرجل من بني عبد الله بن غطفان، وكان قد جاور في طيىء قال أبو العباس1: قال رجل2 من بني الله بن غطفان وجاور في طيىء وهو خائف: جزى الله خيراٌ من عشيرة ... ومن صاحب تلقاهم كل مجمع هم خلطوني بالنفوس ودافعوا ... ورائي بركن ذي مناكب مدفع3 وقالوا تعلم أن مالك إيصب ... نفدك، وإن تحبس نزرك ونشفع   1 ساقطة من ر. 2 نسبه أبو تمام إلى ابن دارة، "وانظر الوحشيات 2.3". 3 قال المرصفى في شرح البيت: "بركن، يريد بجيش يعتصم به، تشبيها بركن الجبل، والمناكب في الأصل: جمع المنكب، وهو مارتفع من الأرض، شبهه بها مبالغة في الاعتصام، ومدفع، كمنبر: اسم آلة الدفع، يريد أنه قوى في الدفاع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 لرجل من بني سلامان يمدح طيئا ٌ وقال رجل من بني سلامان بن سعد هذيم1 من قضاعة، وجاور في طيىء: كأن الجار في شمجى بن جرم2 ... له نعماء أو نسب قريب يحاط ذماره ويذب عنه ... ويحمي سرحه أنف غضوب3 ألفت مساكن الجبلين إني ... رأيت الغوث يألفها الغريب4   1 حاشية الأصل: "سعد هذيم أضيف إلى عبد كان لأبيه يحتضنه". 2 شمجى بن جرم: قبيلة من قضاعة. 3 الذمار: مايلزم الإنسان حمايته من عرض ومال. والسرح: مايسام في المرعى من الأنعام. 4 زيادات ر: "الجبلان: سلمى وأجا، وهما لطيئ، والغوث: قبيلة من طيئ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 لعبيد بن العرندس الكلابي يصف قوما قال أبو العباس1: وأنشدني عبد الوهاب بن جنبة الغنوي لعبيد بن العرندس الكلابي يصف قوماٌ نزل بهم:   1 ساقط من ر، س. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 هينون لينون أيسار ذوو يسرٍ ... سواس مكرمة أبناء أيسار1 لاينطقون على العميان إن نطقوا ... ولايمارون إن ماروا بإكثار من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري [قال أبو الحسن: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثت عن أبي الفضل العباس بن الفرج الرياشي قال: قصد رجل2 من الشعراء ثلاثة من غني، إخوة وكانوا مقلين، فامتدحهم، فجعلوا له عليهم في كل سنة ذوداٌ فكان يأتي فيأخذ الذود والشعر الذي امتدحهم به قوله: يا دار بين كليات وأظفار ... والحمتين، سقاك الله من دار على تقادم ما قد مر من عصر ... مع الذي مر من ريح وأمطار عنا3 غنيت بذات الرمث من أجلى4 ... والعهد منك قديم منذ أعصار وقد نرى بك والأيام جامعة ... بيضاً عقائل من عينٍ وأبكار5 فيهن عثمة لا يمللن عشرتها ... ولا علمن لها يوماً بأسرار إذ يحسب الناس إن قد نلت نائلها ... قدماً وأنت عليها عاتب زار بل أيها الراكب المفني شبيبته ... يبكي على ذات خلخالٍ وأساور خبر ثناء بني عمرو فإنهم ... أولو فضولٍ وأنفالٍ وأخطار6 هينون لينون أيسار ذوو كرم ... سواس مكرمةٍ أبناء أيسار   1 هينون لينون قال في اللسان "هين" عن ابن الأعرابي: "العرب تمدح بالهين اللين"مخفف"، وتذم بالهين واللين "مثقل"، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المسلمون هينون لينون" جعله مدحا لهم، وعن غير ابن الأعرابي أنهما بمعتى واحد. 2 ذكر البكرى في معجم مااستعجم 862 أنه عقيل بن العرندس، وأورد أبياتا منها. 3 حاشية الأصل: "يريد أنى". وفي ر: أراد" أنى" فقلب الهمزة عينا" وقال المرصفى: "هذه لغة قيس، وأسد وتميم يقلبون همزة "أن" المفتوحة عينا، شددت النون أو خففت و"أنى"كذلك". 4 غتيت: أقمت، والرمث: الكلأ. وأجلى: موضع. وفي س: "أجل". وفي حاشيتها (من نسخة) : "أجأ". 5 عين: جمع عيناء، وهي الواسعة العين، ومن نسخه بحاشية الأصل: "عون"، وتكون جمع عوان، وهي المرأة النصف في سنها. 6 الأنفال: العطايا. والأخطار: المنازل الرقيقة، جمع خطر بالتحريك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فيهم ومنهم يعد المجد متلداً ... ولا يعد نثا خزي ولا عار1 لا يظعنون على العمياء إن ظعنوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار وإن تلينتم لانوا وإن شهموا ... كشفت أذمار حربٍ غير أغمار2 إن يسألون العرف يعطوه وإن جهدوا ... فالجهد يكشف منهم طيب أخبار من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري   1 المجد المتلد: القديم المؤثل. والنثا إشاعة حديث. 2 شهموا: أفزعزا. والأذمار: جمع ذمر وهو الشجاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 للمكعبر الضبي يمدح بني مازن ويذم بني العنبر قال أبو العباس: وكان قوم نزلوا ببني العنبر بن عمرو بن تميم، والقوم من بني ضبة، فأغير عليهم، فاستغاثوا جيرانهم فلم يغيثوهم، وجعلوا يدافعونهم حتى خافوا فوتها، فاستغاثوا بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، فركبوا فردوها عليهم، فقال المكعبر1 الضبي في ذلك: أبلغ طريفاً حيث شطت بها النوى ... فليس لدهرالطالبين فناء كسالى إذا لا قيتهم غير منطق ... يلهى به المحروب وهو عناء وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء أخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساؤوا فهلا سعيتم سعي أسرة مالك ... وهل كفلائي في الوفاء سواء كأن دنابيراً على قسماتهم ... وإن كان قد شف الوجوه لقاء لهم أذرع بادٍ نواشر لحمها ... وبعض الرجال في الحروب غثاء   1 ضبط في الأصل بفتح الباء وكسرها معا. وفي حاشية الأصل: "قال أبو الحسن: حفظي: المكبر [بكسر الباء] . وفي زيادات ر: "اسمه حريث بن عفوظ". والأبيات في حماسه أبي تمام "30: 4"- بشرح التبريزي منسوبة إلى محرز بن المكعبر الضبي، وأولها بروايته: أبلغ عديا حيث صارت بها النوى ... وليس لدهر الطالبين فناء قال التبريزي: "كان محرز بن المكعبر جارا لبنى عدى بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، فأغار بنو عمرو بن كلاب على إبله فذهبوا بها، فطلب إلبهم أن يسعوا له، فوعدوه أن يفعلوا، فلما طال ذلك عليه ورآهم لا يصنعون شيئا أتى المخارق والساحق ابنى شهاب المزنيين-وهما من بنى خزاعة-فسعيا له بإبله فرداها عليه"، فأنشد الأبيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قوله: "حيث شطت بها النوى"، معنى شطت: تباعدت، ويقال: أشط فلان في الحكم إذا عدل عنه متباعداً، قال عز وجل: {وَلا تُشْطِطْ} 1. وقال الأحوص: ألا يا لقومي قد أشطت عواذلي ... ويزعمن أن أودى بحقي باطلي ويلحينني في اللهو ألا أحبه ... وللهو داعٍ دائبٌ غير غافل والنوى: البعد، ويقال: شطت بهم نيةٌ قذف، أي رحلة بعيدة، قال الشاعر2: وصحصحان قذف كالترس وليس بمأخوذ من "نأيت" في اللفظ، ولكنه مثله قي المعنى وقوله: فليس لدهر الطالبين فناء يقول: الطلب في إثر طلبته أبداً. ويروى أن رجلاً من قريش بعث إلى رجل منهم وكان أخذ له غلاماً: يل هذا، إن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب، فإما رددته، وإما عرضت اسمك على الله في كل يوم وليلة خمس مرات. قال أبو الحسن: الرجل الذي أخذ منه الغلام هو جعفر بن محمد بن علي أبن الحسين، والآخذ سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس. ومن أمثال العرب: "لا ينام إلا من اثَّأَرَ". ويقال لمن أدرك ثأراً نبيلاً: أصاب ثأراً منيماً، وأنشد:   1 سورة ص 22. 2 هو العجاج، والصحصحان: المكان المستوى الأملس، ولملامسته شبهه بالترس. "وانظر مشارف الأفاويز-1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 تقول لي ابنة البكري عمرو ... لعلك لست بالثأر المنيم وقوله: وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء يقول: وهذا رجاءٌغير صادقٍ ولا موقوفٍ عليه، كما أن هذه الحوامل لا يعلم ما في بطونها وليس بميئوس منه، وإنما يتهكم بهم وهو يعلم أن سعيهم غير كائن، ألا تراه يقول: أخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المخبرون أساؤوا وقوله: كأن دنانيراً على قسماتهم زعم أبو عبيدة أن القسمات مجاري الدموع، واحدتهاقسمة، وقال الأصمعي: القسمات أعالي الوجه، ولم يبينه بأكثر من هذا. وقول أبي عبيدة مشروح، ويقال من هذا: رجل قسيمٌ، ورجل مقسمٌ، ووجهٌ قسيمٌ ومقسمٌ، قال الشاعر: ويوماً توافينا بوجهٍ مقسم ... كأن ظبية تعطو إلى وراق السلم قوله" تعطو"، أي تتناول، يقال: عطا يعطو إذا تناول، وأعطيته أنا، أي ناولته، قال امرؤ القيس: وتعطو برخص غير شثنٍ كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل1 والسلم: شجر بعينه كثير الشوك، فإذا أرادوا أن يحتطبوه شدوه، ثم قطعوه، فمن ذلك قول الحجاج: والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل2.   1 برخص، أي ببنان رخص، والرخص: الناعم. والشئن: الغليظ الخشن. ظبى: اسم رملة، والأساريع، دود مفصل الألوان بياضا وحمرة، تشبه به أصابع النساء. والإسحل: شجر يستاك بعيدانه. 2 غرائب الإبل: هب الإبل الغريبة التي تدخل بين الإبل حال ورودها الماء، فتضربها الرعاء ضربا شديدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قال: وحدثني التوزي عن أبي زيد قال: سمعت العرب تنشد هذا البيت فتنصب" الظبية" وترفعها وتخفضها. قال أبو العباس: أما رفعها فعلى الضمير، وعلى هذا قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} 1 وهذا الباب قد شرحناه في الكتاب "المقتضب" في باب "إن وأن" بجميع علله، ومن نصب فعلى غير ضمير، وأعملها مخففة عملها مثقلة، لأنها تعمل لشبهها بالفعل، فإذا خففت عملت عمل الفعل المحذوف، كقولك: ام يك زيدٌ منطلقاً، فالفعل إذا حذف يعمل عمله تاماً، فيصير التقدير: كأن ظبية تعطو إلى وراق السلم هذه المرأة. وحذف الخبر لما تقدم من ذكره. ومن قال: "كأن ظبية "جعل" أن" زاءدة، وأعمل الكاف: أراد: كظبية، وزاد"أن" كما تزيدها في قولك: لما أن جاء زيدٌ كلمته، ووالله أن لو جئتني لأعطيك. وقوله: "لهم أذرع بادٍ نواشر لحمها" فكل شيء كان على" فعال" من المؤنث فجمعه أفعل، وكذلك فعال، تقول: ذراع أذرع، كراع وأكرعٌ، لأنهما مؤنثتان، ومن أنث اللسان قال: ألسن، ومن ذكره قال ألسنة، وشمالٌ وأشملٌ، كما قال الشاعر2: "يأتي لها من أيمن وأشمل" فأما المذكر فعلى أفعلةٍ في أدنى العدد وفعل في الكثير، يقال: حمارٌ وأحمرةٌ وحمر، وفراشٌ وأفرشة وفرش. والنواشر ما يظهر من العروق في ظهر الذراع مما يداني المعصم، وذلك الموضع يقال له أسلة الذراع، قال زهير: ودارٌ لها بالرقمتين كأنها ... مراجع وشمٍ في نواشر معصم3   1 المزمل: 20. 2 زيادات ر: "هو أبو النجم العجلى"، وبعده: وهي حيال الفرقدين تعتلى وانظر الطرائف الأدبية 63. 3 الرقمتان: روضتان بناحية الضمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وقوله: وبعض الرجال في الحروب غثاء فالغثاء: ما يبس من البقل حتى يصير حطاماً، وينتهي في اليبس فيسود، فيقال له: غثاء وهشيم ودندن وثن، على قدر اختلاف أجناسه، ويقال له: الدرين، قال الله عز وجل: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} 1 وقال: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} 2، وقال الشاعر يصف سحاباً: 3 إذا ما هبطن الأرض قد مات عودها ... بكين بها حتى يعيش هشيم وقال الراجز: تكفي الفصيل أكلةٌ من ثن وقد يقال للشيء الذي لا خير فيه: هذا غثاء، أي قد صار كذلك الذي وصفناه، ويضرب هذا مثلاً للكلام الذي لا وجه له.   1 الأعلى: 5. 2 الكهف: 45. 3 زيادات ر: "هو ابن ميادة، وقبله: سحائب لا من صيف ذى صواعق ... ولامحرقات ماؤهن حميم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لرجل تميمي في الرثاء وقال رجل أحسبه تميمياً1ً: لو لم يفارقني عطية لم أهن ... ولم أعط أعدائي الذي كنت أمنع شجاعٌ إذا لاقى، ورامٍ إذا رمى ... وهادٍ إذا ما أظلم الليل مصدع سأبكيك حتى تنفد العين ماءها ... ويشفى مني الدمع ما أتوجع أحسن الإنشادين عندي: "لم أهن"، يأخذه من وهن يهن، لأنه إذا قال: " لم أهن" فهو من الهوان، ومن قال: "لم أهن" فإنما هو من الضعف، وهو أشبه   1 نسب هذه الأبيات أبو على ألقالى إلى حكيم بن معية أحد بنى ربيعة الجوع يرثى أخاه عطية بن معية. وانظر ذيل الأمالى 75: 1. وفي زيادات ر "هو الفرزدق"، قال المرصفى: "يرثى صديقة ونديمه عطية بن جعال، وكان من سادات تميم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 بقوله: ولم أعط أعدائي الذي كنت أمنع والآخرغير بعيد، يقول: لم أهن على أعدائي، وإذا قال "لم أهن" فالأصل: " لم أهن"، ولكن الواو إذا كانت في موضع الفاء من الفعل، وكان ذلك الفعل على "يفعل"، قالوا محذوفة، وإنما تحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، وتصير حروف المضارعة الباقية تابعة للياء، لئلا يختلف الباب، وهي التاء من قولك: "تفعل" إذا عنيت مخاطباً أو مؤنثاً غائباً، نحو: تعد، وهي تعد، والهمزة إذا عنيت نفسك، نحو: أنا أعد، والنون إذا أخبرت عن نفسك ومعك غيرك، نحو: نحن نعد. فإن قال قائل: إنما هذا لن الفعل المتعدي تحذف منه الواو، فإن كان غير متعد ثبتت، فقد قال أقبح قول، لأن التعدي أو غير التعدي لا يحدث في أنفس الأفعال شيئاً، ولو كان كما يقول لأثبت الواو في "وهن يهن"، لأنك لا تقول: وهنت زيداً، وكذلك ورم يرم ووكف1 البيت يكف، وونم2 الذباب ينم، وهذا أكثر من أن يحصى. فإن لم تكن بعد الواو كسرة لم تحذف، نحو وحل يوحل، ووجل يوجل، ووجع الرجل يوجع وقد يجوز ييجع وياجع وييجع لما نذكره إذا جرى إذا جرى ذكر هذه المفتوحة إن شاء الله. فأما الحذف فلا يكون فيها. فإن قال قائل: فما بال يطأ ويسع حذفت منهما الواو، ومثلهما ثبتت فيه الواو، فإنما ذلك لأنه كان فعل يفعل مثل ولي يلي، وورم يرم، ففتحته الهمزة والعين، والأصل الكسر، فإنما حذفت الواو مما يلزم في الأصل، ألاترى أنك تقول: ولغ السبع يلغ، فهذا فعل يفعل والأصل يفعل، ولكن فتحته العين، لأن حروف الحلق تفتح ماكان على يفعل ويفعل، ولولا ذلك لم تقع فعل يفعل وحروف الحلق ستة: الهمزة، والهاء والعين، والغين، والحاء، والخاء، وهن، يفتحن إذا كن في موضع العين واللام، فأماالعين فنحو سأل يسأل وذهب   1 وكف البيت: قطر منه الماء. 2 ونم الذباب: سلح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 يذهب وأما اللام فمثل قرأ يقرأ، وصنع يصنع، وسائر هذا الباب على ماوصفت لك. وقوله: وهادٍ إذا ماأظلم الليل مصدع فتأويل"مصدع" أي ماض في الأمر، قال الله عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} 1 ويقال: أحزم الناس من إذا وضح له الأمر صدع به. وقال أعرابي2 يمدح سوار بن عبد الله القاضي، وسوارٌ أحد بني العنبر بن عمرو بن تميم: وأوقف عند الأمر ما لم يضح له ... وأمضى إذا ما شك من كان ما ضيا فاستجمع في هذا المدح ركانة الحزم، وإمضاء العزم، ومثله قول النابغة الجعدي: أبى لي البلاء وإني امرؤٌ ... إذاما تبينت لم أرتب ومن أمثال العرب السائرة الجيدة: "رو تحزم "فإذا استوضحت فاعزم"ومن أمثالهم: "قد أحزم لو أعزم"، وإنما يكون هذا بعد التوقف والتبين، فقد قال الشعبي: أصاب متأمل أو كاد، وأخطأ مستعجل أوكاد. ومثل قوله: "ويشفى مني الدمع ما أتوجع" قول الفرزدق: ألم تر أني يوم جو سويقة3 ... بكيت فنادتني هنيدة: ما ليا فقلت لها: إن البكاء لراحةٌ ... به يشتفي من ظن ألا تلاقيا   1 الحجر 94. 2 حاشية الأصل "هو سلمة بن عياش". 3 جو سويقة: موضع بالصمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 قال أبو الحسن: ويتلو هذ ين البيتين مما يستحسن: قعيدكما الله الٌذي أنتما له ... ألم تسمعا بالبيضتين المناديا1 حبيب دعا، والرمل بيني وبينه ... فأسمعني، سقياٌ لذلك، داعيا يقال: قعيدك الله، وقعدك الله، ونشدك الله، أي سألتك بالله، كما قال متمم بن نويرة، وهو من بني يربوع: قعيدك ألاٌتسمعني ملامة ... ولاتنكئي قرح الفؤاد فييجعا ويرى:" فقعدك ألآتسمعني"، والبيضتان: موضع معروف. قال أبو العباس: وقال أبو بكر بن عياش: نزلت بي مصيبة أوجعتني، فذكرت قول ذي الرمة: لعل انحذار الدمع يعقب راحةً ... من الوجد، أويشفي نجي البلابل فخلوت فبكيت فسلوت.   1 قعيدك الله، قال الجوهري: "هي يمين العرب، وهي مصادر استعملت منصوبة بفعل مضمر، "وانظر اللسان قعد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 لنضلة السلمي في يوم غول وقال نضلة السلمي1 في يوم غولٍ وكان حقيراًدميماً، وكان ذا نجدةٍ وبأسٍ: ألم تسل الفوارس يوم غولٍ2 ... بنضلة، وهو موتور مشيح   1 الأبيات في مجالس ثعلب 7-8 روى أنه "مر قوم من بني سليم برجل من مزينة يقال له نضلة في إبل له، فاستسقوه لبنا فسقاهم، فلما رأوا أنه ليس في الأبل غيره ازدروه، فأرادوا أن يستاقوها، فجالدهم حتى قتل منهم رجلا، وأجلى الباقين عن الإبل، فقال في ذلك رجل من بني سليم ... "، وأورد الأبيات. ونسبها الجاحظ في البيان "338: 3" إلى أبي محجن الثقفى، ولم ترد في ديوانه. 2 الغول: ماء للضباب فيه نخل وعيون. ورواية ثعلب: ألم تسأل فوارس من سليم ورواية الجاحظ: ألم تسل الفوارس من سليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 رأوه فازدروه وهو حر1 ... وينفع أهله الرجل القبيح فشد عليهم بالسيف صلتاً ... كما عض الشبا الفرس الجموح فأطلق غل صاحبه وأردى ... قتيلاً منهم ونجا جريح ولم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريح قوله: "وهو موتور مشيح" فالمشيح الحامل الجاد، يقال: أشاح يشيح إذا حمل، وأنشدني التوزي قال: أنشدني أبو زيد وهو لأبي العيال الهذلي: مشيح فوق شيحان ... يشد كأنه كلب قال: وشيحان اسم فرسه. قال أبو الحسن ويروى: "شيحان" [بفتح الشين] 2، وحقه3 على رواية أبي زيد ألا ينصرف لأنه فعلان، فالألف والنون زائدتان، وهو معرفة، فضارع عطشان وما جرى مجراه، وإنما اضطر فصرفه. وعن4 أبي زيد أيضاً يرويه:" شيحان"، وهو الجاد، وهو صفة شائعة، وليس كالأول فالأول معرفة مشتق عن النعت4. وقال ابن الإطنابة، واسمه عمرو: وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح ويقال في هذا المعنى: رجل شيح، كما يقال: ناقة نقض، إذا كانت هزيلاً، قال أبو ذؤيب5: وشايحت قبل اليوم إنك شيح   1 ثعلب والجاحظ: "وهو خرق". والخرق: الفتى الكريم الخليقة. 2 من ر. 3 س: "وجب على رواية أبي زيد". 4 ساقط من ر. 5 صدره: بدرت إلى أولاهم فسبقتهم وانظر ديوان الهذليين 116: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقوله: "بالسيف صلتاً" يقول: منتضى، ورجل صلت الجبين إذا كان نقيه. وقوله: "كما عض الشبا" يريد حد اللجام، وشبا كل شيء حده. وقوله: "وأردى" أي أهلك، يقال: ردي يردى إذا هلك، والردى: الهلاك، قال الله عز وجل: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} 1، قيل فيه قولان: أحدهما إذا تردى في النار، والآخرإذا مات، وهو" تفعل" من الردى. وقوله: ولم يخشوا مصالته عليهم فهي" مفعلة" من صال يصول، ويقال: صال البعير إذا عض. وقيل للمغيرة بن شعبة: إن بوابك يإذن لأصحابه قبل أصحابك، فقال: إن المعرفة لتنفع عند الكلب العقور، والجمال الصؤول، فكيف بالرجل الكريم! وقوله: وتحت الرغوة اللبن الصريح يقول: إذا رأيت الرغوة وهو ما يرغو كالجلد في أعلى اللبن لم تدر ما تحتها، فربما صادفت اللبن الصريح إذا كشفتها. أي أنهم رأوني فازدروني لدمامتي، فلما كشفوا عني وجدوا غير ما رأوا. والصريح: المحض الخالص، من ذلك قولهم: عربي صريح أي خالص، ومولى صريح. ومن أمثال العرب: "إنه ليسر حسوا في ارتغاء" ومعنى ذلك أنه يوهمك أنه يأخذ بفيه تلك الجلدة عن اللبن ليصلحه لك، يحسو من تحتها، يضرب هذا المثل لمن يريك أنه يعينك، وإنما يجتر النفع إلى نفسه.   1 سورة الليل: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 لأعرابي من بني سعد خلاف الدمامة وقال أعرابي خبرت أنه من بني سعد وقد تمثل بهذا الشعر الخنوت، وهو توبة بن مضرس، أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم، في خلاف الدمامة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ولما التقى الصفان واختلف القنا ... نهالا وأسباب المنايا نهالها تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طوالها دعوا: يا لسعد وانتمينا اطيىء ... أسود الشرى إقدامها ونزالها1 قوله: "نهالاً" يريد أنها قد وردت الدم مرة ولم تثن، وذلك أن الناهل الذي يشرب أول شربة، فإذا شرب ثانية فهو عال، يقال: سقاه علاً بعد نهل، وعللاً بعد نهل وفي المثل: "سمته سوم عالة" إذا عرضت عليه عرضاً يستحيي من أن يقبل معه، والعالة لا حاجة بها إلى الشرب، وإنما يعرض عليها تعزيزاً. قال: "وأسباب المنايا نهالها"، أي أول ما يقع منها يكون سبباً لما بعده، وأنشدني غير واحد: وأن أشداء الرجال طيالها وليس هذا بالجيد، وإنما قلب الواو ياء لوقوعها بين كسرة وألف كقولهم: ثياب، وحياض، وسياط، والواحد ثوب، وحوض، وسوط: وهذا جيد، لكون الواو في الواحد، فأما في مثل طوال، فإنما يجوز على التشبيه بهذا، وليس بجيد لتحرك الواو في الواحد. وأنشدني مسعود بن بشرالمازني: لهم أوجه بيض حسان وأذرع ... طيال ومن سيما الملوك نجار2 ومجاز هذا في النحو على ما وصفت لك.   1 حاشية الأصل: "ذكر أبو رياش في شرح الحماسة أن هذا الشعتر لأنيف بن حكيم النبهاني" وانظر شرح التبريزي 189:1. 2 النجار: الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 العرب تمدح الطول و العرب تمدح بالطول ، وتضع من القصر، فلا يذكره منهم إلامحتج عن نفسه، ولا يمدح به غيره، قال عنترة: بطل كأنٌ ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم1 يقول: لم يشارك في الرحم، وقال جرير: تعالوا ففاتونا ففي الحكم مقنع ... إلى الغر من أهل البطاح الأكارم2 فإني لأرضى عبد شمس وماقضت ... وأرضى الطوال البيض من آل هاشم   1 السبت: الجلد المبوغ بالقرظ. 2 فاتونا: حاكمونا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقال حسان بن ثابت: وقد كنا نقول إذا رأينا ... لذي جسم يعد وذي بيان كأنك أيها المعطى بيانا ... وجسماً من بني عبد المدان ويقال إن عليٌ بن عبد الله العباس بن عبد المطلب كان إلى منكب عبد الله، وكان عبد الله إلى منكب العباس، وكان العباس إلى منكب عبد المطلب. وحدثني التوزيٌ قال: طاف عليٌ بن عبد الله بالبيت، وهناك عجوز قديمة، وعليٌ قد فرع الناس، كأنه راكب والناس مشاة، فقالت: من هذا الذي فرع الناس فقيل: عليٌ بن عبد الله بن العباس، فقالت: لا إله إلاالله، إن الناس ليرذلون عهدي بالعباس يطوف بهذا البيت كأنه فسطاط1 أبيض. وحدثني عليٌ بن القاسم بن عليٌ بن سليمان بن عليٌ بن عبد الله بن العباس قال: كان يقال: صار شبه عليٌ بن عبد الله في عظم الأجسام في العليين يعني عليٌ ابن أمير المؤمنين المهدي المنسوب إلى أمه ريطة، علي بن سليمان بن عليٌ. ويروى أن رسول الله صلى الله عليهم وسلم وهو الأسوة والقدوة كان فوق الربعة2 ولم يكن بالطويل المشذب3، وكان إذا مشى مع الطوال طالهم ولم يختلف أهل الحكمة والنظر من العرب والعجم أن الكمال في الاعتدال، ولا يقال غير هذا عن حكيم وأبين ما فيه ما اختاره الله تعالى لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد يقال: الكيس في القصر وقد قيل في خبر قصير4 وكيده ومكره ما سار به المثل، واستغنى عن الاعادة.   1 الفسطاط: ضرب من الأبنية. 2 الربعة: الرجل بين الطول والقصر. 3 المشذب: المفرط في الطول. 4 هو قصير بنى سعد اللخمى، وانظر خبره مع جذيمة بن مالك والزباء في مجمع الأمثال: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 لأعرابي يرد على مغنية عابته بالقصر وحدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: حدثني أبو عثمان المازني قال: كان أعرابيٌ يختلف إلى مغنية لآل سليمان، فأشرفت إليه5 ذات مرة فأومأت إليه إيماء عائب له بالقصر، فأنشأ يقول:   1 ر: "عليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ياجعفرٌ يا جعفرٌ يا جعفر ... إن أك ربعةً فأنت أقصر أو أك ذا شيب فأنت أكبر ... غرك سربال عليك أحمر ومقنع من الحرير أصفر1 ... وتحت ذاك سوأةٌ لو تذكر قال أبو الحسن: أنشدني أبو العباس محمد بن الحسن الوراق الشعر الذي فيه قوله: ولما التقى الصفان واختلف القنا بتمامه، وهو شعر مختار لرجل من طيىء، ويدل على ذلك ماتسمعه في الشعر، وهو قوله: جمعنا لهم من حيٌ غوثٍ ومالكٍ ... كتائب يردي المقرفين نكالها لهم عجز بالحزن فالرمل فاللوى ... وقد جاوزت حيي جديس رعالها وتحت نحور الخيل حرشف رجلة ... تتاح لحبات القلوب نبالها أبى لهم أن يعرفوا الضيم أنهم ... بنو ناتق كانت كثيراً عيالها فلما أتينا السفح من بطن حائل ... بحيث تناصى طلحها وسيالها دعوا لنزاروانتمينا لطيىء ... كأسد الشرى إقدامها ونزالها فلما التقينا بين السيف فيهم ... لسائلةٍ عنا حفيٌ سؤالها ولما عصينا بالرماح تضلعت ... صدور القنا منهم وعلت نهالها ولما تدانوا بالسيوف تقطعت ... وسائل كانت قبل سلماً حبالها فولوا وأطراف الرماح عليهم ... قوادم مربوعاتها وطوالها الكتائب: جمع كتيبة، سميت كتيبة لاجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض، يقال: تكتب القوم إذا تضاموا، ومنه أخذ الكتاب لانضمام حروفه، ولذلك قالوا:   1 المقنع: ما تغطى به المرأة رأسها وتستر محاسنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 بعلة مكتوبة إذا شد حياؤها وضم. ويردي: يهلك، يقال: ردي الرجل إذا هلك، والردى: الهلاك، والإرداء: الإهلاك. والمقرفون: الذين دخلوا في الفساد والعيث، وهو في الأصل الهجنة يقال: فرس مقرفٌ إذا كان هجيناً، ثم يشيع في الفساد. والعجز؛ مؤخر العسكر ههنا، وهو مستعار. والحزن: ما خشن من الأرض وغلظ. واللوى: مستدق الرملة حيث ينقطع، يقال ألويتم فانزلوا: أي صرتم إلى آخر الرملة، وهواللوى. وجديس: قبيلة معروفة، فلذلك لم يصرفها. والرعال الجماعات المتفرقة، واحدها رعلةٌ. والحرشف: نبت يكثر في البادية، وإنما شبه النبل به في الكثرة، والرجلة: الرجالة. وتتاح: تقدر، يقال أتاح الله له كذا وكذا، أي قدر له، والنبال جمع نبلٍ. والناتق: الولود، فإذا أسرفت في ذلك وكثر ولدها جداً قيل منتاقٌ. والسفح: أصل الجبل من الوادي. وحائل: موضع. وتناصى: تقابل وتقرب حتى يعلق هذا بهذا، وهذا بهذا عند هبوب الريح، يقال: تناصى الرجلان نصاء وتناصياً إذا اقتتلا فأخذ كل واحدٍ منهما بناصية صاحبه، والطلح والسيال: ضربان من الشجر معروفان. وانتمى ونمى: انتسب. والشرى: موضع كثير السباع، وإنما يريد: كإقدام أسد الشرى وإقدامها، ثم حذف لعلم السامع. وعصينا: جعلنا الرماح كالعصي. والعلل: الشرب الثاني، والنهل: الأول يريد أنا أعدناها إلى الطعن مرة بعد أخرى. وقوادم: ذات إقدام، فجاء به على الأصل، كما قال: يخرجن من أجواز ليلٍ غاض1 أي مغضٍ، فجاء به على الأصل، وهو كثير.   1 البيت لرؤبة: وبعده: نضو قداح النابل النواضى وانظر ديوانه 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 والمربوعات: المعتدلة التي لم تبلغ أن تكون رمحاً، وهو رفعٌ، كأنه قيل له: ما هي? فقال: هي مربوعاتها وطوالها، ولو خفض وجعله بدل البعض من الكل لكان حسناً، وكان يكون مقوى، ولكن هكذا أنشدناه مرفوعاً على التقدير الذي ذكرناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 باب صبرة بن شيمان عند معاوية قال أبو العباس: حدثت أن صبرة بن شيمان الحداني دخل على معاوية، والوفود عنده، فتكلموا فأكثروا، فقام صبرة فقال: يا أمير المؤمنين، إنا حي فعالٍ، ولسنا بحي مقالٍ، ونحن بأدنى فعالنا عند أحسن مقالهم. فقال: صدقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 كلمة يزيد بن أبي سفيان حين أرتج عليه وحدثت أن أبا بكر رضي الله عنه، ولى يزيد بن أبي سفيان ربعاً من أرباع الشام، فرقي المنبر فتكلم فأرتج عليه، فاستأنف فأرتج عليه، فقطع الخطبة، فقال: سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً، وبعد عي بياناً، وأنتم إلى أميرٍ فعالٍ أحوج منكم إلى أميرٍ قوالٍ. فبلغ كلامه عمرو بن العاص، فقال: هن مخرجاتي من الشام استحساناً لكلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 جواب عامر بن قيس لعثمان بن عفان وقال عثمان بن عفان رحمه الله1 لعامر بن عبد قيسٍ العنبري ورآه ظاهر الأعرابية: يا أعرابي، أين ربك ? فقال بالمرصاد!   1 س: رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 جواب علي بن أبي طالب حين سئل: أين ربنا? وقال قائل لعلي بن أبي طالب رحمة الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض? فقال علي: أين، سؤال عن مكانٍ، وكان الله ولا مكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 للحسن البصري في المواعظ وحدثت أن راهبين دخلا البصرة من ناحية الشام، فنظرا إلى الحسن البصري، فقال أحدهما لصاحبه: مل بنا إلى هذا الذي كأن سمته سمت المسيح، فعدلا إليه، فألفياه مفترشاً بذقنه ظاهر كفه، وهو يقول: يا عجباً لقوم قد أمروابالزاد، وأوذنوا بالرحيل، وأقام أولهم على آخرهم! فليت شعري ما الذي ينتظرون? ونظر الحسن إلى الناس في مصلى البصرة يضحكون ويلعبون في يوم عيد، فقال الحسن: إن الله جعل الصوم مضماراً لعباده ليستبقوا إلى طاعته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف آخرون فخابو، ولعمري لو كشف الغطاء لشغل محسنٌ بإحسانه، ومسيءٌ بإساءته عن تجديد ثوب، أو ترطيل شعرٍ. قوله:" ترطيل شعر" إنما تلبين الشعر بالدهن وما أشبهه، ويقال للرجل إذا كان فيه لينٌ وتوضيع: رجل رطلٌ، والذي يوزن به ويكال يقال له: رطلٌ، بكسر الراء. وكان الحسن يقول: اجعل الدنيا كالقنطرة تجوز عيها ولا تعمرها. قوله القنطرة يعني هذه المعقودة المعروفة عند الناس، والعرب تسمي كل أزج1 قنطرة قال طرفة بن العبد: كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفاً حتى تشاد بقرمد قوله"حتى تشاد" يقول: تطلى، وكل شيء طليت به البناء من جص أو جيار، وهو الكلس، فهو المشيد، يقال: دار مشيدةٌ، وقصر مشيدٌ، قال الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 2 وقال الشماخ: لا تحسبني وإن كنت امرأً غمراً ... كحية الماء بين الطين والشيد وقال عدي بن زيد العبادي: شاده مرمراً وجلله كِْلـ ... ـساً فللطير في ذراه وكور والمقرمد: المطلي أيضاً، فمن ثم قال: "حتى تشاد بقرمد" في معنى حتى تطلى، ومن ذلك قول النابغة: رابي المجسة بالعبير مقرمد3   1 الأزج: نوع من الأبينة يطول بناؤه. 2 سورة النساء 78. 3 قبله: وإذا طعنت طعنت في مستهدف وانظر ديوانه 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وقال الحسن: تلقى أحدهم أبيض بضاً، يملخ في الباطل ملخاً، ينفض مذرويه، ويضرب أصدريه، يقول: هأنذا فاعرفوني. قد عرفناك، فمقتك الله، ومقتك الصالحون. قوله: "أبيض بضاً" فالبض الرقيق اللون، الذي يؤثر فيه كل شيء. وفي الحديث أن معاوية قدم على عمر بن الخطاب رحمهما الله1 من الشام وهو أبض الناس، فضرب عمر بيده على عضده، فأقلع عن مثل الشراب، أو مثل الشراك، فقال: هذا والله لتشاغلك بالحمامت، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسراتٍ على بابك! وقال حميد بن ثورٍ الهلالي: منعمةٌ بيضاء لو دب محولٌ ... على جلدها بضت مدارجه دما وقوله: "يملخ في الباطل ملخاً، يقول: يمر مراً سريعاً، يقال: بكرةٌ ملوخٌ إذا كانت سهلة المر. وقوله:" يضرب أصدريه وأزدريه"، فإنما يقال ذلك للفارغ، يقال: جاء فلان يضرب أصدريه وأزدريه، ولا يتكلم منه بواحدٍ، ويقال: فلانٌ ينفض مذرويه، وهما ناحيتاه، وإنما يوصف بالخيلاء، قال عنترة: أحولي تنفض استك مذرويها ... لتقتلني، فهأنذا عمارا ولا واحد لهما، ولو أفردت لقلت في التثنية مذريان، لأن ذوات الواو إذا وقعت فيهن الواو رابعة رجعت إلى الياء، كما تقول في ملهى: ملهيان، وهو من لهوت، وفي مغزى: مغزيان، وهو من غزوت، وإنما فعلت ذلك لأن فعله ترجع فيه الواو إلى الياء إذا كانت رابعة فصاعداً، نحو غزوت، فإذا أدخلت فيه الألف قلت: أغزيت، وكذلك غازيت واستغزيت، وإنما وجب هذا لانقلابها في المضارع، نحو يغزي، ويستغزي، ويغازي، وإنما انقلبت لانكسار ما قبلها.   1 ر، س: "رحمه الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فإن قال قائل: فما بال يترجى ويتغازى، يكونان بالياء، نحو: هما يتغازيان ويترجيلن? فإنما ذلك لأنهما في الأصل: رجى يرجي، وغازى يغازي، ثم لحقت التاء بعد ثبات الياء. والدليل على ذلك أن التاء إنما تلحقه على معناه، فقولك: مذروان لا واحد له لما أعلمتك، وثبات الواو دليلٌ على أن أحدهما لا يفرد من الآخر، فلذلك جاء على أصله1.   1 انظر أمالى المرتضى 156:1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 باب ليزيد بن الصقيل، وكان يسرق الإبل ثم تاب قال أبو العباس: قال يزيد بن الصقيل العقيلي-وكان يسرق الإبل، ثم تاب، وقتل في سبيل الله: فقد تاب مما تعلمون يزيد ... ألا قل لأرباب المخائض: أهملوا وإن امرأً ينجو من النار بعد ما ... تزود من أعمالها لسعيد وفي هذا الشعر1: إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود قوله"ألا قل لأرباب المخائض"، فإن الناقة إذا لقحت قيل لها خلفة، وللجميع مخاض، وهذا جمع على غير واحده، إنما هو بمنزلة امرأةٍ ونساء، ثم جمع الجمع فقال: مخائض، كقولك في رسالةٍ: رسائل، وكما تقول في قوم أقوام، فتجمع الاسم الذي هو للجمع، وكذلك أعراب وأعاريب، وأنعام وأناعيم. وقوله: " أهملوا": أي اسرحوا إبلكم، والهمل ما كان غير محظور، وهو السدى، ويروى في مثل قوله: إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت ... حميمك فاعلم أنها ستعود عن بعض الصالحين2 أنه كان يقول إذا مات له جار أو حميم: أولى لي! كدت والله أكون السواد المخترم3.   1 س: "وفي هذا الشعر يقول". 2 حاشية الأصل: "هو محمد بن الحنفية"، وهو من زيادات ر. 3 يقال: اخترقن المنية، أى أخذتته من بين أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 لابن حبناء التميمي في مكارم الأخلاق وقال ابن حبناء التميمي: أعوذ بالله من حالٍ تزين لي ... لوم العشيرة أو تدني من النار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 لا أقرب البيت أحبو من مؤخره ... ولا أكسر في ابن العم أظفاري إن يحجب الله أبصاراً أراقبها ... فقد يرى الله حال المدلج الساري وقوله: لا أقرب البيت أحبو من مؤخره يقول: لا آتيه لريبةٍ. ومثل ذلك قوول الشاعر1: ولست بصادرٍ من بيت جاري ... كفعل العير غمره الورود يقول: لا أخرج خروج الخائف، لأنه إنما يقال: تغمر الشارب إذا لم يرو، ويقال للقدح الصغير: الغمر من هذا. وقوله: ولا أكسر في ابن العم أظفاري يقول: لا أغتابه، وهذا مثلٌ كما قال الحطيئة: ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنياب وأضراس وقوله: فقد يرى الله حال المدلج الساري فالمدلج: الذي يسير من أول الليل، يقال: أدلجت، أي سرت من أول الليل، وأدلجت: أي سرت في السحر، قال زهير: بكرن بكوراً وادلجن بسحرةٍ 2 والسرى لا يكون إلا سير الليل، قال الله عز وجل: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} 3 من قولك أسريت، وهي اللغة القرشية، وغيرهم من العرب يقول سريت، وقد جاء هذه اللغة في القرآن، قال الله عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} 4 فهذا من سرى،   1زيادات ر: "وهو عقيل بن علفة"، والبيت من كلمه له في حماسه أبى تمام (152،151:1) - طبعة الرافعي. 2 رواية الديوان 10: "واستحرن بسحرة"، وبقيته: فهن ووادى الرس كاليد في الفم 3 سورة الحجر 65. 4 سورة الفجر 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ولو كان من" أسرى" لكان" يسري"، كما قال لبيد: فبات وأسرى القوم آخر ليلهم ... وما كان وقافاً بغير معصر والمعصر الملجأ، والسري إنما هو من قولك سرى، كقولك: قضى فهو قاض، ومن أسرى يقال للفاعل: مسرٍ كما تقول: أعطى فهو معطٍ، كما قال الأخطل: نازعتهم طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعه الساري والدجاج هاهنا: الديوك، يريد وقت السحر، لأنه يقال للديك: هذا دجاجة، فإن أردت الأنثى قلت، هذه، وكذلك هذا بقرة، وهذا بطة، وهذا حمامة إذا أردت الذكر، ولهذا باب يذكر فيه إن شاء الله. قال جرير: لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع باانواقيس وقوله:،" أرقني صوت الدجاج"، والأرق لايكون في آخر الليل وإنما يكون في جميعه. وكذلك النواقيس لا تقرع أيضاً إلا في السحر فإنما أراد: أرقني انتظاري هذا الوقت، لأنه وعد فيه وعداً فهو منتظر له. قال أبو الحسن: أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى الأبيات الرائية المتقدمة بتمامها على ما أذكره لك عن أبي عبد الله بن العرابيٌ، وهي لأحد ابني حبناء أحسبه صخراٌ وهما من بني تميم، وكان من الأزارقة قال: إني هزئت من أم الغمر إذ هزئت ... بشيب رأسي، وما بالشيب من عار ما شقوة المرء بالإقتار يقتره ... ولا سعادته يوماٌ باكثار1 إن الشقي الذي في النار منزله ... والفوز فوز الذي ينجو من النار   1 زيادات ر: "يقتره، الهاء تعود على الإقتار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أعوذ بالله من أمر يزين لي ... لوم العشيرة أو يدني من العار وخير دنيا ينسي شر آخرة ... وسوف ينبئني الجبار أخباري ثم يتفقان بعد الرواية، وكان ربما أنشدنا: " إني هزأت من آم الغمر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 لأعرابي من بني الحارث بن كعب قال أبو العباس: وقال أعرابيٌ من بني الحارث بن كعب: رئمت لسلمى بو ضيم وإنني ... قديما لآ بي الضيم وابن أباة فقد وقفتني بين شك وشبهة ... وما كنت وقافاٌ على الشبهات فيا بعل سلمى كم وكم بأذاتها ... عدمتك من بعل تطيل أذاتي بنفسي حبيب حال بابك دونه ... تقطع نفسي دونه حسرات ووالله لولا أن تساء لرعته ... بما ليس بالمأمون من فتكاتي قوله: "رئمت لسلمى بوضيم" فإنما هذا مثل، وأصله أن الناقة إذا ألقت سقبها فخيف انقطاع لبنها أخذوا جلد حوار1 فحشوه تبناً، ولطخوه بشيء من سلاها، ثم حشوا أنفها بخرقة، فتجد لذلك كربا، ويقال للخرقة التي تجعل في أنفها: الغمامه، ثم تسل تلك الخرقة من أنفها فتجد روحاً، وترى ذلك البو تحتها، وهو جلد الحوار المحشو فترأمه، فإن درت عليه قيل: ناقة درور، وترأمه تشمه، ويقال في هذا المعنى: ناقة ظؤورٌ، فينتفع بلبنها، ويقال: ناقة رائم ورؤوم إذا كانت ترأم ولدها أو بوها، فإن رئمت ولم تدر عليه فتلك العلوق، ولا خير عندها وأنشدونا عن أبي عمرو وكان يقرأ: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} 2 على" فعلى"3:   1 الحوار: ولد الناقة من حين تضعه إلى أن ينفطم. 2 الروم: 10. 3 زيادات ر: "لأفنون التغلبى"، والبيتان في أمالى القالى: 2-51، وشواهد المغنى للسيوطى 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 أنى جزوا عامراً سوءى بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوءى من الحسن أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنفٍ إذا ضن باللبن1 فقوله: "رئمت لسلمى بو ضيم": أي أقمت لها على الضيم، ويقال: فلان رؤوم للضيم، إذا كان ذليلا راضياً بالخسف.   1 في حاشية الأصل: "قال ثعلب: اجتمع الكسائى والأصعمى بحضرة الرشيد، وكانا ملازمين له، يرحلان برحيله ويقيمان بإقامته، فأنشد الكسائى: "أنى جزوا عامرا ... البيتين" فقال الأصعمي: إنما هم "رثمان" بالنصب، فقال له الكسائى: اسكت! ماأنت! وهذا! يجوز فيه الرفع والنصب والخفض، أما الرفع فعلى الرد على "ما" لأنها في موضع رفع ب"ينفع"، والنصب ب"لتعطى"، والخفض على الرد على الهاء في "به". قال ثعلب: فسكت الأصمعى".وانظر المغتى 41:1. وفي أمالى القالى: "العلوق: التي ترأم بأنفها وتمنع درها، يقول: فأنتم تحسنون القول ولا تعطون شيئا فكيف ينفعنى ذلك! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 لأحد الأعراب وقال أعرابي - أحسبه تميمياً -: وداهيةٍ بها القوم مفلق ... شديد بعوران الكلام أزومها أصخت لها حتى إذا ما وعيتها ... رميت بأخرى يستدير أميمها ترى القوم منها مطرقين كأنما ... تساقوا عقاراٌ لايبل سليمها فلم تلقني فهاً، ولم تلق حجتي ... ملجلجةً أبغي لهل من يقيمها قوله: "وداهية" يعني حجة داهي بها القوم مفلقٌ: يريد عجيبة، والفلق وجاء القوم بالفليق، وهذا مشهور كثير في الكلام، ومنه قول خلف الأحمر: موت الإمام فلقةٌ من الفلق وأنشدني منشد: إذا عرضت دويةٌ مدلهمةٌ1 ... وغرد حاديها عملن بنا فلقا2 بفتح الفاء.   1شطر هذ البيت لم يذكر في س، وفي ر بين علامتى الزيادة، ورواه: "داوية". 2 عرض: تعرض. وغرد حاديها: طرب في حدائه. والبيت في إصلاح المنطق لابن السكيت 264،32، وروايته فيه: "فرين بها فلقا". وقال في شرحه: "أى عملن بها داهية من شدة سيرهن. والفلق: القضيب يشق فيعمل منه قوسان، ويقال لكل واحدة قلق". وهو أيضا في اللسان "فلق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وقوله: "شديد بعوران الكلام"، العوراء هي القبيحة، قال حاتم بن عبد الله الطائي: وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ... وذي أودٍ قومته فتقوما وأزومها: إمساكها1، يقال: أزم به إذا عض به فأمسكه بين ثنيتيه. وفي الحديث أن أبا بكر رحمه الله قال في يوم أحدٍ: فنظرت إلى حلقةٍ من درع قد نشبت في جبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.، فانكببت لأنزعها فأقسم علي أبو عبيدة، فأزم بها أبو عبيدة بثنيتيه، فجذبها جذباً رفيقاً، فانتزعها، وسقطت، ثم نظرت إلى أخرى فأردتها فأقسم علي أبو عبيدة، ففعل فيها ما فعل في الأولى، وكان مشفقاً من تحريكها لئلا يؤذي بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أبو عبيدة أهتم. وقوله: "فأزم بها"، يقال: أزم يأزم، وأزم يأزم. وقوله: "أصخت لها": يقول استمعت لها، قال العبدي2: يصيخ للنبأة أسماعه ... إصاخة الناشد للمنشد والإصاخة الا ستماع والناشد: الطالب، والمنشد: المعرف، يقال نشدت الضالة إذا طلبتها، وأنشدتها: إذا عرفتها والنبأة: الصوت، قال ذو الرمة: وقد توجس ركزاً مقفرٌ ندسٌ ... بنبأة الصوت ما في سمعه كذب3 وقوله: حتى إذا ما وعيتها يقول: جمعتها في سمعي، يقال: وعيت العلم، وأوعيت المتاع في الوعاء، قال الله عز وجل: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} 4، وقال الشاعر5: الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد وقوله: رميت بأخرى يستدير أميمها   1 قال المرصفى: "أخطأ أبو العباس في تفسير الوصف بالمصدر والصواب: ممسكها". 2 زيادات ر: "وهو المثقب". 3 توجس: تسمع. والركز: الصوت الخفى. مقفر: أخو قفرة. والندس: السريع الاستماع للصوت الخفى، يصف الصائد. 4 المعارج 18. 5 زيادات ر: "هو عبيد بن الأبرص". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 يريد يستدير، من الدوار، ويقال في هذا المعنى: يستديم، ومنه سميت الدوامة1، وفي الحديث: "كره البول في الماء الدائم": لأنه كالمستدير في موضعه.، قال جرير: عوى الشعراء بعضهم لبعضٍ ... علي فقد أصابهم انتقام إذا أرسلت صاعقةً عليهم ... رأوا أخرى تحرق فاستداموا2 وقوله:" أميمها" يريد بها، ويقال: أميمٌ ومأموم، كقولك: قتيلٌ ومقتولٌ، ومجروح وجريح، ويقال،: للشجة التي قد وصلت إلى أم الدماغ وأم الدماغ جليدةٌ رقيقة تحيط بالدماغ فإذا وصل إلى تلك فالشجة آمة ومأمومة، قال الشاعر: يحج مأمومة في قعرها لجفٌ ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد3 المغاريد: صغار الكمأة. وقوله: "في قعرها لجف" أي تقلع، يقال: تلجفت البئر، إذا انقلع طيها من أسفلها، ولجف القوم مكيالهم، إذا وسعوه من أسفله. وقوله: "تساقوا عقاراً" يريد: كأنهم سكارى لما نالهم من تلك الحجة والعقار: أسم من أسماء الخمر، وإنما سميت عقاراً لمعاقرتها الدن. وقوله: "ما يبل" يقال: بل أبل من مرضه، وكذلك استبل. والسليم الملسوع، وقيل له سليم على جهة التفاؤل، كما يقال للمهلكة مفازةٌ، وللغراب: الأعور على الطيرة منه لصحة بصره. وقوله: "فلم تلقني فهاً" يقول: ضعيفاً، يقال: فه فلان عن حجته إذا ضعف عنها، ويقال: رجل مفهةٌ إذاكان عاجزاً. وقوله: "ملجلجة"، وهو أن يرددها في فيه، وقد مضى تفسيره.   1 الدوامة: فلكه يرميها الصبى بخيط فتدور. 2 استداموا: اخذهم الدوام، وهو الدوار. 3 البيت في اللسان "غرد" ونسبه المرصفى إلى غذار بن دارة السنائى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 لأبي مخزوم النهشلي يفخر بقومه وقال رجل يكنى أبا مخزوم، من بني نهشل بن دارم1: إنا بني نهشل لا ندعي لأبٍ ... عنه، ولا هو بالأبناء يشرينا إن تبتدر غايةٌ يوما لمكرمةٍ ... تلق السوابق منا والمصلينا وليس يهلك منا سيدٌ أبداً ... إلا افتلينا غلاما ًسيداً فينا إني لمن معشرٍ أفنى أوائلهم ... قيل الكماة: ألا أين المحامونا؟ لو كان في الألف منا واحدٌ فدعوا: ... من فارس? خالهم إياه يعنونا ولا تراهم وإن جلت رزيتهم ... مع البكاة على من مات يبكونا إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا ... ولو نسام بها في الأمن إغلينا إذا الكماة تنحوا أن ينالهم ... حد الظباة وصلناها بأيدينا فرضٌ على مكثرينا نيل بذلهم ... والجود والبذل في طبع المقلينا إني ومن كأبي يحيى وعترته ... لا فخر إلا لنا أم من يوازينا قوله: " إنا بني نهشل "يعني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، ومن قال: "إنا بنو نهشل"، فقد خبرك، وجعل" بنو" خبر" إن"، ومن قال: " بتي"، إنما جعل الخبر: إن تبتدر غاية يوما لمكرمةٍ ... تلق السوابق منا والمصلينا ونصب"بني" على فعل مضمر للاختصاص، وهذا أمدح، ومثله: نحن بني ضبة أصحاب الجمل2   1 زيادات ر: "هو بشامة بن حزن النهشلى". والأبيات أوردها أبو تمام مسنوبة إلى بعض بني قيس بن ثعلبة، مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات وعددها، وانظر الحمسة 97:1-بشرح التبريزي. 2 من رجز رواه ابن جرير الطبرى لعمرو بن يثربى الضبى قاله في وقعة الجمل، وبعده: ننزل بالموت إذا الموت نزل ... القتل أحلى عندنا من العسل ننعى ابن عفان بأطراف الأسل ... ردوا علينا شيخنا ثم بجل وانظر تاريخ الطبرى، وحواث 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أراد نحن أصحاب الجمل، ثم أبان من يختص بهذا، فقال: أعني بني ضبة وقرأ عيسى بن عمر: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} 1أراد وامرأته: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} ثم عرفها بحمالة الحطب، وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} بعد قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ} 2 إنما هو على هذا، وهو أبلغ في التعريف، وسنشرحه على حقيقة الشرح في موضعه إنشاء الله: وأكثر العرب ينشد3: إنا بني منقرٍ قوم ذوو حسب ... فينا سراة بني سعدٍ وناديها قرأ بعض القراء: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 4 وقوله: "يشرينا "يريد يبيعنا، يقال: شراه يشريه إذا باعه، فهذه المعروفة، قال الله عز وجل: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} 5 وقال ابن مفرغٍ الحميري: شريت برداً، ولولا ماتكنفني ... من الحوادث ما فارقته أبدا6 ويكون" شريت" في معنى أشتريت، وهو من الأضداد وأنشدني التوزي: اشروا لها خاتناً وابغوا لخنتتها7 ... مواسياً أربعأ فيهن تذكير8 وقوله: تلق السوابق منا والمصلينا فالمصلي الذي في إثر السابق، وإنما سمي مصلياً لأنه مع صلوي السابق، وهما عرقان في الردف، قال الشاعر: تركت الرمح يعمل في صلاه ... كأن سنانه خرطوم نسر   1 سورة المسد 5،4. 2 سورة النساء 162. 3 زيادات ر: هو "لعمرو بن الأهتم المنقرى". وانظر ... 4 سورة المؤمنون 14. 5 سورة يوسف 20. 6 بعده في س وزيادات ر: يابرد مامسنا دهر أضر بنا ... من قبل هذا، ولابعنا له ولدا 7 كذا في الأصل. وفي ر: "لختنتها"، وهي المرة من الختن. وفي الزيادات: "كان ابن جابر يروي: "لختنتها" [بضم الخاء وتاءين] ، ويقول: الخنت: "العفل". والعفل. لحم ينبت في قبل المرأة. 8 تذكير: صلابة وحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وقوله: إلا افتلينا غلام سيداً فينا مأخوذ من قولهم: فلوت الفلو1 يا فتى، إذا أخذته عن أمه، قال الأعشى: ملمع لاعة الفؤاد إلى جحـ ... ـش فلاه عنها، فبئس الفالي2 وأخذ هذا المعنى من قول أبي الطمحان القيني: إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه وقوله: لو كان في الألف منا واحد فدعوا: ... من فارس? خالهم إياه يعنونا مأخوذ من قول طرفة: إذا القوم قالوا: من فتى? خلت أنني ... عينت، فلم أكسل ولم أتبلد ومن قول متمم بن نويرة: إذا القوم قالوا: من فتى لعظيمةٍ ... فما كلهم يدعى، ولكنه الفتى وقوله؛" حد الظباة"، فالظبة الحد بعينه، يقال: أصابته ظبة السيف، وظبة النصل، وجمعه ظبات وأراد بالظبة ههنا موضوع المضرب من السيف وأخذ هذا المعنى من قول كعب بن مالك: نصل السيوف إذا قصرنا بخطونا ... قدماً، ونلحقها إذا لم تلحق وقوله: إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا   1 الفلو: المهر. 2 البيت في وصف الناقة، ملمع: في ضرعها لمع سود. واللاعة: الملتاعة. والفالى: الطارد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أخذه من قول الهمداني وهو الأجدع1 أبو مسروق بن الأجدع الفقيه: لقد علمت نسوان هدمان أنني ... لهن غداة الروع غير خذول وأبذل في الهيجاء وجهي وإنني ... له في سوى الهيجاء غير بذول ومن القتال الكلابي حيث يقول: أنا ابن الأكرمين بني قشير ... وأخوالي الكرام بنو كلاب نعرض للطعان إذا التقينا ... وجوهاً لا تعرض للسباب   1 هو الأجدع بن مالك بن أمية الوداعى، من بنى نوف بن حمدان: فارس شاعر، أدرك الإسلام، وبقي إلى زمن عمر بن الخطاب. "المؤتلف والمختلف للآمدى 49". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 باب من كلام عمر بن عبد العزيز قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ثلاثٌ من كن فيه فقد كمل: من لم يخرجه غضبه1 عن طاعة الله، ولم يستنزله رضاه إلى معصية الله، وإذا قدر عفا وكف.   1 ر: "من". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 من كلام الحسن البصيري قال الحسن: نعم الله أكثر من أن تشكر إلا ما أعان عليه، وذنوب ابن آدم أكثر من أن يسلم منها إلا ما عفا الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 كلام عمر بن ذر حينما دخل على ابنه وهو يجود بنفسه وقال عمر بن ذر1 ودخل على ابنه وهو يجود بنفسه فقال: يا بني، إنه ما علينا من موتك غضاضة، ولا بنا إلى أحد سوى الله حاجةٌ فلما قضى وصلى عليه وواره وقف على قبره، فقال: يا ذر، إنه قد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، لأنا لا ندري ما قلت ولا ما قيل لك، اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه مما افترضت عليه من حقي، فهب له ما قصر فيه من حقك، واجعل ثوابي عليه له، وزدني من فضلك، إني إليك من الراغبين. وسئل: ما بلغ من بره بك؟ فقال: ما مشى معي بنهار قط إلا قدمني، ولا بليل إلا تقدمني، ولا رقي سطحاً وأنا تحته.   1 هو عمر بن ذر بن عبد الله الهمداني، من أقران أبى حنيفة وابن عيينة، وكان رأسا في الإرجاء، توفي سنه 50. "تهذيب التهذيب 445:7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 جواب أبي دلامة حينما سأله المنصورعما أعده ليوم القيامة وماتت بنت عم للمنصور، فحضر جنازتها، وجلس لدفنها، وأقبل أبو دلامة الشاعر، فقال له المنصور: ويحك ما أعددت لهذا اليوم? فقال: يا أمير المؤمنين ابنة عمك هذه التي واريتها قبيل قال: فضحك المنصور حتى استغرب1.   1 استغرب في الضحك: أكثر منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الفرزدق في سجن مالك بن المنذر بن الجارود ودخل لبطة بن الفرزدق على أبيه وهو محبوس في سجن مالك بن المنذر ابن الجارود1، ومالك عاملٌ على البصرة لخالد بن عبد الله القسري، فقال: يا أبت، هذا عمر بن يزيد الأسيدي، ضرب آنفاً ألف سوطٍ فمات فشد على حمار: فقال الفرزدق: كأنك والله يابني بمثل هذا الحديث قد تحدث به عن أبيك-والحسن2 إذ ذاك عند محبوس له-فقال: يا أبا فراس: ما عندك إن كان ذلك? فقال: والله يا أبا سعيد، الله أحب إلي من سمعي وبصري، ومن مالي وولدي، ومن أهلي وعشيرتي، أفتراه يخذلني! فقال الحسن: لا.   1 حاشية الأصل: "كان السبب في سجن الفرزدق أنه كان قد هجا خالد بن عبد الله القسرى، فكتب خالد إلى ماك بن المنذر يأمره بحبسه، فأمر مالك أيوب بن عيسى الضبى فأتاه به، فأمر به إلى السجن، ففي ذلك يقول الفرزدق يهجو أيوب بن عيسى: فلو كنت قيسيا إذا ما ماحبستنى ... ولكن زنجيا غليظا مشافره متت له بالرحم بينى وبينه ... فألفيته منى بعيداً او اصره 2 هو الحسن البصرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الفرزدق حين قتل عمر بن يزيد الأسيدي وكان عمر بن يزيد الأسيدي شريفاً، حدثني التوزي عن أبي عبيدة قال: كان رجل أهل البصرة عمر بن يزيد الأسيدي، ورجل أهل الشام عمر بن هبيرة الفزازي، ورجل أهل الكوفة بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فقيل ذلك لعمر بن عبد العزيز: فقال أجل، لولا خب1 في بلالٍ فقال، بلالٌ لما بلغه ذلك: "رمتني بدائها وانسلت". وقتله مالك2 بن المنذر تعصباً فيما تذكره المضرية. فلما دخل بمالك على هشام أقبل على أصحابه، فقال، أما رأيتم عمر بن يزيد: أما إني ما تمنيت أن تكون أمي ولدت رجلاً من العرب غير. ثم قال لمالك: قتلت والله خيراً منك حسباً، ونسباً، وريشاً3، وعقباً! فقال: وكيف يا أمير المؤمنين! ألست ابن المنذر بن الجارود، وابن مالك بن مسمع! وكان جده أبا أمه وجعل عمر والسياط تأخذه ينادي: يا هشاماه! ففي ذلك يقول الفرزدق: ألم يك مقتل العبدي ظلماً ... أبا حفصٍ من الكبر العظام قتيل جماعةٍ في غير حق ... يقطع وهو يدعو: يا هشام!   1 الخب: الخداع والمكر. 2 أى قتل مالك عمر بن يزيد الأسيدي. 3 الريش: اللباس والزينة. وفي ر، س: "ودينا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 لقاء الحسن البصري والفرزدق في جنازة والتقى الحسن والفرزدق في جنازة، فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد? قال: وما يقولون? قال: يقولون?: اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس! فقال الحسن: كلا، لست بخيرهم، ولست بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم? فقال: شهادة أن لا إله إلا الله مذ1 ستون سنة، وخمس نجائب لا يدركن- يعني الصلوات الخمس- فيزعم بعض التميمية أن الفرزدق رئي في النوم، فقيل له: ما صنع بك ربك? فقال: غفر لي. فقيل له: بأي شيء فقال: بالكلمة التي نازعني فيها الحسن.   1 ر: "منذا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الفرزدق وأولاد بني تميم وحدثني العباس بن الفرج في إسنادٍ له ذكره قال: كان الفرزدق يخرج من منزله فيرى بني تميم والمصاحف في حجورهم، فيسر بذلك ويجذل به، ويقول: إيه فدى لكم أبي وأمي! كذا والله كان آباؤكم. قال أبو الحسن: إنما هو فداؤٌ لكم، لكنه قصر الممدود على هذه الرواية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الفرزدق وأبو هريرة الدوسي ونظر إليه أبو هريرة فقال له1: مهما فعلت فقنطك الناس فلا تقنط من رحمة الله، ثم نظر إلى قدميه فقال: إني أرى لك قدمين لطيفتين، فابتغ لهما موقعاً صالحاً يوم القيامة. يقال: قنط يقنط، وقنط يقنط، وكلاهما فصيح، فاقرأ بأيهما شئت، وكذلك نقم ينقم، ونقم ينقم.   1 من ر، س. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قول الفرزدق حينما تعلق بأستار الكعبة والفرزدق يقول في آخر عمره حين تعلق بأستار الكعبة، وعاهد الله ألا يكذب، ولا يشتم مسلماً: ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاجٍ قائماً ومقام على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من في زور كلام وفي هذا الشعر: أطعتك يا إبليس تسعين حجةٌ ... فلما انقضى عمري وتم تمامي رجعت إلى ربي وأيقنت أنني ... ملاقٍ لأيام المنون حمامي قوله: "لبين رتاج"، فالرتاج غلق الباب، ويقال: باب مرتج، أي مغلقٌ، ويقال: أرتج على فلان، أي أغلق عليه الكلام، وقول العامة: "أرتج عليه"، ليس بشيء، إلا أن التوزي حدثني عن أبي عبيدة. قال يقال: أرتج عليه، ومعناه وقع في رجةٍ، أي في اختلاط، وهذا معنى بعيد جداً. وقوله: "ولا خارجاً" إنما وضع اسم الفاعل في موضع المصدر، أراد: لا أشتم الدهر مسلماً، ولا يخرج خروجاً من في زور كلام، لأنه على ذا أقسم، والمصدر يقع في موضع اسم الفاعل، يقال: ماءٌ غور، أي غائر، كما قال الله عز وجل: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} 1، ويقال: رجل عدلٌ، أي عادل، ويوم غم، أي غام، وهذا كثير جداً، فعلى هذا جاء المصدرعلى فاعل، كما جاء اسم الفاعل على المصدر، يقال: قم قائماً، فيوضع في موضع قولك: قم قياماً، وجاء من المصدر على لفظ "فاعل" حروفٌ، منها: فلج فالجا، وعوفي عافية، وأحرف سوى ذلك يسيرة. وجاءعلى "مفعول"، نحو رجل ليس له معقول، وخذ ميسوره، ودع معسوره، لدخول لمفعول على المصدر، يقال رجل رضاً، أي مرضي، وهذا درهم ضرب الأمير، أي مضروب، وهذه دراهم وزن سبعةٍ، أي موزونة، وكان عيسى بن عمر يقول: إنما قوله: "لا أشتم" حال، فأراد: عاهدت ربي في هذه الحال وأنا غير شاتمٍ ولا خارجٍ من في زوركلام، ولم يذكر الذي عاهد عليه.   1 سورة الملك 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 للفرزدق في أيام نسكه وقال الفرزدق في أيام نسكه: أخاف وراء القبر إن لم يعافني ... أشد من القبر إلتهاباً وأضيقا إذا قادني يوم القيامة قائدٌ ... عنيف، وسواق يسوق الفرزدقا لقد خاب من أولادي آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا1 إذا شربوا فيها الحميم رأيتهم ... يذوبون من حر الحميم تمزقا   1 ر: "موثقا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 للفرزدق حين طلق النوار وحدثني بعض أصحابنا عن الأصمعي عن المعتمر بن سليمان عن أبي مخزوم عن أبي شفقلٍ راوية الفرزدق، قال: قال لي الفرزدق يوماً: امض بنا إلى حلقة الحسن، فإني أريد أن أطلق النوار، فقلت: إني أخاف عليك أن تتبعها نفسك، ويشهد عليك الحسن وأصحابه، فقال: امض بنا فجئنا حتى وقفنا على الحسن، فقال: كيف أصبحت يا أبا سعيد? فقال: بخير، كيف أصبحت يا أبا فراس? قال: تعلمن أن النوار مني طالق ثلاثاً، فقال الحسن وأصحابه: قد سمعنا، قال: فانطلقنا، قال: فقال لي الفرزدق: يا هذا، إن في قلبي من النوار شيئاً، فقلت: قد حذرتك، فقال: ندمت ندامة الكسعي لما1 ... غدت مني مطلقةٌ نوار2 وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان علي للقدر الخيار قال الأصمعي: ما روى المعتمر هذا الشعر إلا من أجل هذا البيت.   1 الكسعى: رجل من كسع، حى من اليمن، اسمه غامد بن الحارث، وكان اتخذ قوساوخمسة أسهم وكمن في طريق قطيع، فرمى حمارا منه، فنفذ فيه السهم وصدم الجبل، فأورى نارا فظن أنه أخطأ، فرمى ثانيا وثالثا إلى آخرها وهو يظن خطأه، فعمد إلى قوسه فكسرها، ثم بات، فلما أصبح نظر فإذا الحمر مطرحه مصرعة، وأسهمه بالدم مضرجة، فندم وقطع إبهامه، وأنشد: ندمت ندامة لو أن نفسى ... تطاوعنى إذا لقطعت خمسى تبين لى سفاه الرأى منى ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي وانظر مجمع الأمثال "274:2". 2 في زيادات ر بعد هذا البيت: وكنت كفاقئ عينيه عمدا ... فأصبح لا يضىء له النهار وما فارقتها شعبا ولكن ... رأيت الزهد يأخذ ما أعار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 باب ماقيل في الخمر قال لقيط بن زراه: شربت الخمر حتى خلت أني ... أبو قابوس أبو عبد المدان أمشي في بني عدس بن زيدٍ ... رخي البال منطلق اللسان وحدثني أبو عثمان المازني قال: أسر رجل يوم الحسين بن علي رضي الله عنه فأتي به يزيد بن معاوية، فقال له: أليس أبوك القائل: أرجل جمتي وأجر ذيلي ... وتحمل شكتي أفقٌ كميت أمشي في سراة بني غطيفٍ ... إذا ما سامني ضيمٌ أبيت قال: بلى فأمر به فقتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 خبر هانئ بن عروة المرادي مع معاوية قال أبو العباس: ونمي إلي أن معاوية ولى كثير بن شهاب المذحجي خراسان فاختان مالاً كثيراً ثم هرب فاستتر عند هانىء بن عروة المرادي، فبلغ ذلك معاوية فنذر دم هانىء فخرج هانىء فكان في جوار معاوية ثم حضر مجلسه ومعاوية لا يعرفه، فلما نهض الناس ثبت مكانه، فسأله معاوية عن أمره فقال: أنا هانىء بن عروة فقال: إن هذا اليوم ليس بيومٍ يقول فيه أبوك أرجل جمتي الشعر له هانىء: أنا اليوم أعز مني ذلك اليوم، قال له: بم ذاك? قال: بالإسلام يا أمير المؤمنين، قال له: أين كثير بن شهاب? قال: عندي في عسكرك ياأمير المؤمنين، فقال له معاوية: انظر إلى ما اختانه فخذ منه بعضاً، وسوغه بعضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 نبذ من أقوال الشعراء في الخمر وشاربيها وقال أعرابي: ولقد شربت الراح حتى خلتني ... لما خرجت أجر فضل المئزر أبا قابوس أو عمر وبن هند ماثلاً ... يجبى له ما دون دارة قيصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقال آخر: شربنا من الداذي حتى كأننا ... ملوك لهم بر العراقين والبحر فلما انجلت شمس النهار رأيتنا ... تولى الغنى عنا وعاودنا الفقر وقال آخر، وهو عبد الرحمن بن الحكم: وكأسٍ ترى بين الإناء وبينها ... قظى العين قد نازعت أم أبان ترى شاربيها حين يعترانها ... يميلان أحياناً ويعتدلان فما ظن ذا الواشي بأروع ماجدٍ ... وبداء خودٍ حين يلتقيان وقال آخر: دعتني أخاها أم عمروٍ ولم أكن ... أخاها، ولم أرضع لها بلبان دعتني أخاها بعدما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان وقال آخر: "أنشده أبو على لأم ضيغم البلوية": فبتنا فويق الحي لا نحن منهم ... ولا نحن بالأعداء مختلطان وبات يقيناً ساقط الطل والندى ... من الليل بردى يمنةٍ عطران نعدي بذكر الله في ذات بيننى ... إذا كان قلبانا بنا يردان قال أبو الحسن: وزادني فيه غير أبي العباس: ونصدر عن رأي العفاف وربما ... نقعنا غليل النفس بالرشفان وقال أبو العباس:" نعدي "أي نصرف الشر بذكر الله: يقال: فعد عما ترى، أي فانصرف عنه إلى غيره، ويقال: لا يعدونك هذا الحديث: أي لا يتجاوزونك إلى غيرك. قال أبو العباس: وقال رجل من قريش: من تقرع الكأس اللئيمة سنه ... فلا بد يوماً لأن يسىء ويجهلا ولم أر مطلوباً أخس غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا وأجدر أن تلقى كريماً يذمها ... ويشربها حتى يخر مجدلا فوالله ما أدري: أخبل أصابهم ... أم العيش فيها لم يلاقوه أشكلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وقال الآخر: إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني أذاتي ولا بخلي ولست بفاحشٍ عليه وإن أسا ... وما شكل من آذى نداماه من شكلي وقال آخر: كل هنيئاٌوما شربت مريئاٌ ... ثم قم صاغراٌفغير كريم لاأحب النيديم يومض بالعين ... إذا ماانتشى لعرس النديم الإيماض: تفتح البرق ولمحه.يقال: أومضت المرأة إذا ابتسمت، وإنما ذلك تشبيه للمع ثناياها بتبسم البرق، فأراد أنه فتح عينه ثم غمضها بغمز. وقال حسان بن ثابت: كأن سبيئةٌ من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء إذا ما الأشربات ذكرن يوماٌ ... فهن لطيب الراح الفداء نوليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء ونشربها فتتركنا ملوكاٌ ... وأسداٌ ما ينهنهها اللقاء المغث: المماغثة باليد. واللحاء: الملاحاة باللسان، يقول: يعتذر المسىءبأن يقول: كنت سكران، فيعذر. وقوله: "كأن سبيئةٌ"، يقال سبأتها: إذا اشتريتها سباءٌ، يعني الخمر، والسابيء: الخمار. وقوله: "من بيت رأس"، يعني موضعاٌ: كما يقال حارث الجولان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 باب نبذ من أقوال الحكماء قال أبو العباس: قال الأحنف بن قيس: ألا أدلكم على المحمدة بلا مرزئة? الخلق السجيح1، والكف عن القبيح.ألاأخبركم بأدوإ الداء? الخلق الدنيء، واللسان البذيء. وقال الأحنف: ثلاث في ما أقولهن إلا ليعتبر معتبر: ما دخلت بين اثنين حتى يدخلاني بينهما، ولا أتيت باب أحد من هؤلاء ما لم أدع، يعني السلطان ولا حللت حبوتي إلى ما يقوم إليه الناس. تكسر الحاء وتضمها إذا أردت الاسم، وتفتحها إذا أردت المصدر، إنشدني عمارة بن عقيل لجرير: قتل الزبير، وأنت عاقد حبوةٍ ... قبحاٌ لحبوتك التي لم تحلل ويقال في جمع حبوة: حبى وحبى، مقصوران. وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ماأحسن الحسنات في آثار السيئات وأقبح السيئات في آثار الحسنات، وأقبح من ذا وأحسن من ذاك السيئات في آثارالسيئات، والحسنات في آثار الحسنات. والعرب تلف الخبرين المختلفين، ثم ترمي بتفسير هما جملة، ثقة بأن السامع يرد إلى كل خبره. وقال الله عز وجل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 2. وقال رجل لسلم بن نوفل: ما أرخص السؤدد فيكم فقال سلم: أما نحن فلا نسود إلا من بذل لنا ماله، وأوطأنا عرضه، وامتهن في حاجتنا نفسه. فقال الرجل: إن السؤدد فيكم لغال. ولسلم يقول القائل: يسود أقوام وليسوا بسادة ... بل السيد المعروف سلم بن نوفل   1 الخلق السجيح: السهل. 2 سورة القصص 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وقال معاوية رحمه الله لعرابة بن أوس بن قيظي الأنصاري: بم سدت قومك? فقال: لست بسيدهم، ولكني رجل منهم، فعزم عليه فقال: أعطيت في نائبهم وحلمت عن سفيههم، وشددت على يدي حليمهم، فمن فعل منهم مثل فعلي فهو مثلي، ومن قصر عنه فأنا أفضل منه، ومن تجاوزه فهو أفضل مني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 مدح الشماخ لعرابة بن أوس قال أبو العباس: وكان سبب ارتفاع عرابة أنه قدم من سفر، فجمعه الطريق والشماخ بن ضرار المري، فتحادثا، فقال عرابة: ماالذي أقدمك المدينة قال: قدمت لأمتار منها، فملأ له عرابة رواحله برا وتمراً، وأتحفه بغير ذلك، فقال الشماخ: رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة، فاشرقي بدم الوتين ومثل سراة قومك لم يجاروا ... إلى ربع الرهان ولا الثمين1 قوله:" تلقاها عرابة باليمين"، قال أصحاب المعاني: معناه بالقوة، وقالوا مثل ذلك في قول الله عز وجل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 2 وقد أحسن كل الاحسان في قوله: إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين يقول: لست أحتاج إلى أن أرحل إلىغيره. وقد عاب بعض الرواة قوله: "فاشرقي بدم الوتين"، وقال كان ينبغي أن ينظر لها مع استغنائه عنها، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصارية3 المأسورة بمكة وقد نجت على ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لبئس ما جزيتها" وقال: "لانذرفي معصية، ولا نذر للانسان في غير ملكه".   1 الرهان: ما يوضع من المال في مسابقة الخيل، والثمين: الثمن. 2 الزمر 67. 3 ذكر ابن هشام أنها امرأة رجل من غفار. "وانظر خبر أسرها مع زوجها في السيرة 323:3-327". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ومما لم يعب في هذا المعنى قول عبد الله بن رواحة الأنصاري لما أمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد زيد وجعفرٍ على جيش مؤتة1: إذا بلغتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي الحساء: جمع حسي، وهو موضع رمل تحته صلابة، فإذا مطرت السماء على ذلك الرمل نزل الماء، فمنعته الصلابة أن يغيض، ومنع الرمل السمائم أن تنشفه، فإذا بحث ذلك الرمل أصيب الماء، يقال: حسي وأحساء وحساء، ممدودة. وقوله: " ولا أرجع إلى أهلي ورائي" مجزوم لأنه دعاء، فقوله:" لا" يعني الجازمة، ومعناه: اللهم لا أرجع، كما تقول: زيد لا تغفر له2، فهذا الدعاء ينجزم بما ينجزم به الأمر والنهي، كما تقول: زيد ليقم، وزيد لا يبرح وقد اتبع ذو الرمة الشماخ في قوله: إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر الوصل: المفصل بما عليه من اللحم، يقال: قطع الله أوصاله، ويقال: وصل، وكسروجدل، في معنى واحد.   1 مؤته: اسم قرية بالشام، موضع الغزوة المشهورة. 2 ر: "لايغفر الله له". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 باب لرجل من رجاز بني تميم في وقعة الجفرة قال أبو العباس: أنشدني الوزي لرجل من رجاز بني تميم في وقعة الجفرة1: نحن ضربنا الأزد بالعراق ... والحي من ربيعة المراق وابن سهيل قائد النفاق ... بلا معوناتٍ ولا أرزاق إلا بقايا كرم الأعراق ... لشدة الخشية والإشفاق ومن المخازي والحديث الباقي الأعراق: جمع عرق، يقال: فلان كريم العرق ولئيم العرق، أي الأصل.   1 الجفرة: موضع بالبصرة كانت به وقعة بين خالد بن عبد الله بن أسيد-وكان من قبل عبد الملك بن مروان- وبين أهل البصرة، من أصحاب مصعب بن الزبير، سنة 70. وانظر الخبر مفصلا في "معجم البلدان 116:3" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أقوال في قلة النوم وقال آخر يصف ابنه: أعرف منه1 قلة النعاس ... وخفةٌ في رأسه من راسي كيف ترين عنده مراسي يخاطب أم ابنه. فقوله: "أعرف منه قلة النعاس"، أي الذكاء والحركة. وكان عبد الملك بن مروان يقول لمؤدب ولده: علمهم العوم، وهذبهم بقلة النوم. وكذا قال أبو كبيرٍ2 الهذلي: فأتت به حوش الجنلن مبطناً ... سهداً إذل ما نام ليل الهوجل3   1 س: "أعرف فيه". 2 س: "أبوبكير"، تصحيف. 3 حوش الجنان: حديد القلب. مبطنا: ضامر البطن خميصه. والهوجل: الأحمق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وقال آخر: فجاءت به حوش الفؤاد مسهداً ... وأفضل أولاد الرجال المسهد وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عيني تنامان ولا ينام قلبي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 لعروة بن الورد وقال عروة بن الورد العبسي، وهو عروة الصعاليك1: لحا2 الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزر3 ينام ثقيلاً ثم يصبح قاعداً ... يحت الحصى عن جنبه المتعفر4 يعين نساء الحي ما يستعنه ... فيضحي طليحاً كالبعير المحسر5 ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ... كضوء سراج القابس المتنور6 مطلاً على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر7 وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المتنظر فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميداً، وإن يستغن يوماً فأجدر8 قال أبو الحسن: كذا أنشده،" فذلك" لأنه لم يرو أول الشعر، والصواب كسر الكاف، لأنه يخاطب امرأة، ألا تراه قال: أقلي علي اللوم يا ابنة مالك ... ونامي، وإن لم تشتهي ذاك فاسهري9   1 لقب عروة الصعاليك؛ لأنه كان يجمع الفقراء الذين لا مال لهم –وهم الصعاليك- فيقوم بأمرهم وينفق عليهم. 2 لحا الله: دعاء عليه. والمشاش: العظام الرقيقة. والمجزر: موضع الجزر. 3 زيادات ر بعد هذا البيت: يعد الغنى من نفصه كل ليلة ... أصاب قراها من صديق ميسر 4 يحت الحصى: يفركه. 5 طليحا: من الطلح، وهو الإعياء. 6 صفيحة وجهه: بشرة جلده. والقابس الآخذ شعلة من النار على طرف عود. والمتنور: الذي يبصر النار من بعيد. 7 مطلا على أعدائه: مشرفا عليهم. يزجرونه: يصيحون به. المنيح: من قداح الميسر، يستعار من صاحبه للتيمن بفوزه المشتهر. 8 زيادات ر بعد هذا البيت: يريح على الليل أضياف ماجد ... كريم ومالى سارحا مال مقتر 9 مابين العلامتين تكمله من ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قوله: يحث الحصى عن جنبه المتعفر يريد المتترب، والعفر والعفر: اسمان للتراب، من ذلك قولهم: عفرالله خده، ويقال للظبية: عفراء إذا كانت يضرب بياضها إلى حمرة، وكذلك الكثيب الأعفر. وقوله: "كالبعير المحسر" هو المعيي،: يقال: جمل حسير، وناقة حسير، قال الله عز وجل: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 1. وقوله: وإن بعدوا لايأمنون اقترابه على التقديم والتأخير، أراد: لايأمنون اقترابه وإن بعدوا، وهذا حسن في الإعراب إذا كان الفعل الأول في المجازاة ماضياٌ، كما قال زهير: وإن2 أتاه خليل يوم مسألة ... يقول: لا غائب مالي ولا حرم فإن كان الفل الأول مجزوماٌ لم يجز رفع الثاني إلا ضرورة، فسيبويه3 يذهب إلى أنه على التقديم والتأخير، وهو عندي على إرادة الفاء، لعلة تلزمه في مذهبه، نذكرها في باب المجازاة إذا جرى في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، فمن ذلك قوله: يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع أراد سيبويه: إنك تصرع إن يصرع أخوك. وهو عندي على قوله: إن يصرع أخوك فأنت تصرع يا فتى، ونستقصي هذا في بابه إن شاء الله تعالى. وقوله: كيف ترين عنده مراسي   1 سورة الملك 4. 2 الكتاب 436:1. 3 نسبه سيبويه إلى جرير بن عبد الله البجلى، زنقل المرصفى عن كتاب قرحة الأديب أن صواب نسبته إلى عمرو بن خثارم البجلى، يحض الأفرع على أن يحكم بالفضل لجرير. "وانظر رغبة الآمل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 يقول للمرأة: عززتنى1 على شبهه. ويقال: أنجب الأولاد ولد الفارك. وذلك لأنها تبغض زوجها. فيسبقها بمائه. فيخرج الشبه إليه. فيخرج الولد مذكراً. وكان بعض الحكماء يقول: إذا أردت أن تطلب ولد المرأة فأغضبها، ثم قع عليها. فإنك تسبقها بالماء، وكذلك ولد الفزعة، كما قال، كما قال أبو كبير الهذلي: من حملن به وهن عواقدٌ ... حبك النطاق فشب غير مهبل2 حملت به في ليلة مزؤودةٍ ... كرهاً، وعقد نطاقها لم يحلل مزؤودة: ذات زؤدٍ، وهو الفزع، فمن نصب "مزؤودة "أراد المرأة. ومن خفض فإنه أراد الليلة، وجعل الليلة ذات فزع، لأنه يفزع فيها، قال الله عز وجل: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 3 والمعنى: بل مكركم في الليل والنهار: وقال جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت، وما ليل المطي بنائم وقال آخر: فنام ليلي وتجلى همي4 وهذا الرجز ضد ما قال الآخر في ولده، فإنه أقر بأن امراته غلبته على شبهه، وذلك قوله: نمت وعرق الخال لا ينام يقول: عزتني أمه على الشبه، فذهبت به إلى أخواله. وقال آخر: لقد بعثت صاحباً من العجم ... بين ذوي الأحلام والبيض اللملم 5 كان أبوه غائباً حتى فطم   1 عزرتنى: غلبتنى. 2 الحبك: جمع حباك، وهو مايشد به النطاق، والنطاق، شقة تلبسها المرأة ترسل أعلاها إلى الركبة بعد شد وسطها بالحباك، وتدع الأسفل ينجر على الأرض. والمهبل: الكثير اللحم، أو المدعو عليه بالهبل وهو الثكل. 3 سورة سبأ 33. 4 هو رؤبة وقبله: حارث قد فرجت عنى غمى 5 ذو الأحلام: واحده حلم، وهو العقل. واللمم: جمع لمة، وهي ما ألم بالممنكب من شعر الرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يقول: لم يسق غيلاً، وقال رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هممت أن أنهى أمتي عن الغيلة حتى علمت أن فارس والروم تفعل ذلك بأولادها، فلا تضير أولادها". والغيلة: أن ترضع المرأة وهي حامل، أو ترضع وهي تغشى. ويزعم أهل الطب من العرب والعجم أن ذلك اللبن داءٌ. وقالت أم تأبط شراً: والله ما حملته تضعاً - ووضعاً أيضأً - ولا وضعته تيناً، ولا سقيته غيلاً، ولا أبته مئقاً. وقال الأصمعي: ولا أبته على مأقةٍ. قولها: "ما حملته تضعاً"، يقال إذا حملت المرأة عند مقتبل الحيض: حملته وضعاً وتضعاً، وإذا خرجت رجلاً المولود من قبل رأسه قيل: وضعته يتناً قال الشاعر: فجاءت به يتناً يجر مشيمة1 ... تسابق رجلاه هناك الأناملا ويقال للرجل إذا قلب الشيء عن جهته: جاء به يتناً قال عيسى بن عمر: سألت ذا الرمة عن مسألة، فقال لي: أتعرف اليتن? قلت: نعم، قال: فمسألتك هذه يتن. قال: وكنت قد قلت الكلام. والغيل ما فسرناه. وأما قولها: ولا أبته مئقاً، تقول: لن أبته مغيظاً: وذلك أن الخرقاء تبيت ولدها جائعاً مغموماً، لحاجته إلى الرضاع، ثم تحركه في مهده حتى يغلبه الدوار فينومه: والكيسة تشبعه وتغنيه في مهده، فيسري ذلك الفرح في بدنه من الشبع كما سرى ذلك الغم والجوع في بدن الآخر. ومن أمثال العرب: "أنا تئق، وصاحبي مئق، فكيف نتفق? التئق: المملوء غيظاً وغضباً، والمئق: القليل الا حتمال، فلا يقع الاتفاق.   1 المشيمة: ما يكون فيه الولد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 باب من كلام ابن عباس قال أبو العباس: قال ابن العباس رضي الله عنهما: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 من كلام عبد الله بن جعفر وأنشد عبد الله بن جعفر قول الشاعر: إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع فقال: هذا رجل يريد أن يبخل الناس، أمطر المعروف مطراً، فإن صادف موضعاً فهو الذي قصدت له، وإلا كنت أحق به. [قال أبو الحسن الأخفش: حدثنا المبرد في غير الكامل قال: قال الحسن والحسين رضوان الله عليهما لعبد الل بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال، قال: بأبي أنتما وأمي إن الله عودني أن يفضل علي، وعودته أن أفضل على عباده، فأخاف ان أقطع العادة فتقطع عني] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ليزيد بن المهلب وقد مر بأعرابية عند خروجه من سجنه . ومر يزيد بن المهلب بأعرابية في خروجه من سجن عمر بن عبد العزيز يريد البصرة، فقرته عنزاً فقلبها، وقال لإبنه معاوية: ما معك من النفقة ? فقال: ثمانمائة دينار، قال: فادفعها إليها، قال أبنه: إنك تريد الرجال، ولا يكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهي بعد لا تعرفك فقال له: إن كانت ترضى باليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي ادفعها إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 حديث للأصمعي عن ضرار بن القعقاع وزعم الأصمعي أن حرباٌ كانت بالبادية، ثم اتصلت بالبصرة فتفاقم الأمر فيها، ثم مشي بين الناس بالصلح، فاجتمعوا في الجامع، قال: فبعثت وأنا غلام إلى ضرار بن القعقاع من بني دارم، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت، فإذا به في شملة يخلط بزراٌ له حلوب، فخبرته بمجتمع القوم، فأمهل حتى أكلت العنز، ثم غسل الصحفة وصاح: ياجارية غدينا، قال: فأتته بزيت وتمر، قال: فدعاني فقذرته1 أن آكل معه، حتى إذا قضى من أكله حاجة، وثب إلى طين ملقى في الدار، فغسل به يده، ثم صاح: يا جارية، اسقيني الماء، فأتته بماء، فشربه، ومسح فضله على وجهه، ثم قال: الحمد لله، ماء الفرات، بتمر البصرة، بزيت الشام، متى نؤدي شكر هذه النعم! ثم قال: يا جارية، علي بردائي، فأتته برداء عدني، فأرتدى به على تلك الشملة. قال الأصمعي: فتجافيت عنه استقباحاً لزيه، فلما دخل المسجد صلى ركعتين، ثم مشى إلى القوم، فلم تبق حبوة2 إلا حلت إعظاماً له، ثم جلس، فتحمل جميع ما كان بين الأحياء في ماله وانصرف.   1 س: "فقذرت". 2 الحبوة: أن يجمع الرجل ظهره وساقية بعمامة ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 بين زياد بن عمرو العتكي والأحنف بن قيس التميمي وحدثني ابو عثمان بكر بن محمد1 المازني عن أبي عبيدة قال: لما أتى زياد ابن عمرو المربد2، في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكي3، جعل في الميمنة بكر بن وائل، وفي الميسرة عبد القيس وهم لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة وكان زياد بن عمرو العتكي في القلب، فبلغ ذلك الأحنف، فقال: هذا غلام حدثٌ، شأنه الشهرة، وليس يبالي أين قذف بنفسه! فندب أصحابه، فجاءه حارثة بن بدرٍ الغداني، وقد اجتمعت بنو تميم، فلما طلع قال: قوموا إلى سيدكم، ثم أجلسه فناظره، فجعلوا سعداً والر باب في القلب، ورئيسهم عبس بن طلقٍ الطعان، المعروف بأخي كهمس، وهو أحد بني صريم بن   1 من س. 2 المربد: سوق بالبصرة كانت تباع فيها الإبل. 3 كان مسعود بن عمرو من بنى عتيك، وهم بطن من الأزد، استخلفه عبيد الله بن زيباد على البصرة، بعد أن هرب إلى الشام مطاردا. فوقف على المنبر يبايع من أتاه، فرماه رجل من أهل فارس فقتله، وعلى إثر ذلك شاعت الفتنة بين الناس. فريق يقول: قتلته الخوارج وفريق يقول قتلته تميم، "وانظر تفصيل الخبر في تاريخ الطبري، حوادث سنة 65". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يربوع، فجعل في القلب بحذاء الأزد، وجعل حارثة بن بدرٍ في حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وجعلت عمرو بن تميم بحذاء عبد القيس، فذاك يقول حارثة بن بدرٍ للأحنف: سيكفيك عبس ابن كهمس ... مقارعة الأزد بالمربد1 وتكفيك عمرو على رسلها2 ... لكيز بن أفصى وما عددوا وتكفيك3 بكراً إذا أقبلت ... بضرب يشيب له الأمرد فلما تواقفوا بعث إليهم الأحنف: يا معشر الأزد وربيعة من أهل البصرة، أنتم والله أحب إلينا من تميم الكوفة، وأنتم جيراننا في الدار، ويدنا على العدو، وأنتم بدأتمونا بالأمس، ووطئتم حريمنا، وحرقتم علينا فدفعنا عن أنفسنا ولا حاجة لنا في الشر ما أصابنا في الخير مسلكاً، فتيمموا بنا طريقة قاصدة4. فوجه إليه زياد بن عمرو: تخير خلة من ثلاثٍ إن شئت فانزل أنت وقومك على حكمنا، وإن شئت فخل لنا عن البصرة وارحل أنت وقومك إلى حيث شئتم وإلا فدوا5 قتلانا، واهدروا دماءكم، وليود مسعودٌ دية المعشرة. قال ابو العباس، وتاويل قوله: دية المشعرة" يريد أمر الملوك في الجاهلية، وكان الرجل إذا قتلوهو من أهل بيت المملكة ودي عشر ديات. فبعث إليه الأحنف: سنختار، فانصرفوا في يومكم. فهز القوم راياتهم وانصرفوا، فلما كان الغد بعث إليهم: إنكم خيرتمونا خلالاً ليس فيها خيارٌ أما النزول على حكمكم فميف يكون والكلم يقطر دماً? وأما ترك ديارنا فهو أخو القتل، قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ} 6، ولكن الثالثة إنما هي حملٌ على المال، فنحن نبطل   1 في البيت إقواء. 2 الرسل هنا: اللين والرفق. 3 ر: "تكفيك". 4 قاصدة: مستقيمة. 5 دوا قتلانا، من الدية. 6 النساء: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 دماءنا، وندي قتلاكم، وإنما1 مسعودٌ رجل من المسلمين، وقد أذهب الله أمر الجاهلية. فاجتمع القوم على أن يقفوا أمر مسعود، ويغمد السيف، ويؤدي سائر القتلى من الأزد وربيعة. فضمن ذلك الأحنف، ودفع إياس بن قتادة المجاشعي رهينة حتى يؤدى هذا المال، فرضي به القوم، ففخر بذلك الفرزدق فقال:2 ومنا الذي أعطى يديه رهينةً ... لغاري معد يوم ضرب الجماجم3 عشية سال المربدان كلاهما ... عجاجة موتٍ بالسيف الصوارم هنالك لو تبغي كليباً وجدتها ... أذل من القردان تحت المناسم4 قال أبو الحسن وكان أبو العباس ربما رواه: لغار5 معد ويقال: إنما تميماً في الوقت مع باديتها وحلفائها من الأساورة6 والزط7، والسبابجة8 وغيرهم كانوا زهاء سبعين ألفاً، ففي ذلك يقول جرير: سائل ذوي يمن ورهط محرقٍ ... والأزد إذ ندبوا لنا مسعودا9 فأتاهم سبعون ألف مدجج ... متسربلين يلامعا10 وحديدا قال الأحنف بن قيس: فكثرت علي الديات، فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت نحو يبرين11، فسألت عن المقصودهناك، فأرشدت إلى قبةٍ، فإذا شيخٌ   1 س: "وأما مسعود". 2 من قصيدة يهجو فيها جريرا ويعرض بالبعيث، مطلعها: ود جرير اللؤم لو كان عانيا ... ولم يدن من زأر الأسود الضراغم 3 الغاران: مثنى غار، وهو الجيش، ومنه قول على يوم الجمل: "مآظنك بامرىء جمع بين هذين الغارين"!. 4 يريد كليب بن يربوع، رهط الفرزدق. والقردان: جمع قراد، وهو دويبة تعض الإبل. 5 ر: "الغازي معد". 6 الأساورة: قوم من العجم بالبصرة نزلوها قديما، كالأحامرة. "اللسان". 7 الزط: جبل أسود من السند، وقيل هم من الهند. "اللسان". 8 السبابجة: قوم ذوو جلد من السند والهند، يكونون مع رئيس السفينة البحرية يبذرقونها، واحدهم سبيجى، ودخلت الهاء في جمعه والنسب، كما قالوا: البرابرة. "اللسان". 9 المحرق: هو عمرو بن هند ملك الحيرة، وكان حرق يوم أوارة تسعة وتسعين رجلا من دارم، قبيلة الفرزدق. 10 اليلامع: جمع يلمع، وهو الدرع هنا. وفي ر: "يلامقا"، جمع يلمق، وهو القباء. 11 يبرين: قرية كثيرة النخل في بلاد البحرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 جالسٌ بفنائها، مؤترز بشملةٍ، محتب بحبل، فسلمت عليه، وانتسبت له فقال: ما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فقلت: توفي صلوات الله عليه! قال: فما فعل عمر بن الخطاب الذي كان يحفظ العرب ويحوطها? قلت له: مات رحمه الله تعالى! قال فأي خيرٍ في حاضرتكم بعدها! قال فذكرت له الديات التي لزمتنا للأزد وريعة. قال: فقال لي: أقم، فإذا راعٍ قد أراح ألف بعير، فقال: خذها، ثم أراح عليه آخر مثلها، فقال: خذها، فقلت: لا أحتاج إليها، قال: فانصرفت بالألف عنه، ووالله من هو إلى الساعة! قوله: "المناسم" واحدها منسم، وهو ظفر البعير في مقدم الخف، وهو من البغيرة كالسنبك من الفرس وقوله: عشية سال المربدان كلاهما يريد المربد وما يليه مما جرى مجراه، ةالعرب تفعل هذا في الشيئين إذا جريا في باب واحد، قال الفرزدق: أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع يريد الشمس والقمر: لأنهما قد اجتمعا في قولك، "النيران"، وغلب الاسم المذكر، وإنما يؤثر في مثل هذا الخفة، وقالوا: "العمران" لأبي بكر وعمر، فإن قال قائل: إنما هو عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، فلم يصب، لأن أهل الجمل نادوا بعلي بن أبي طالب رحمة الله عليه: أعطنا سنة العمرين. فإن قال قائل: فلم لم يقولوا: أبوي بكر، وأبو بكر أفضلهما فلأن عمر اسم مفرد، وإنما طلبوا الخفة. وأنشدني التوزي عن أبي عبيدة لجرير: وما لتغلب إن عدوا مساعيهم ... نجم يضيء ولا شمس ولا قمر ما كان يرضى رسول الله فعلهم ... والعمران أبو بكر ولا عمر هكذا أنشدنيه1: وقال آخر2: قدني من نصر الخبيبين قدي   1 زيادات ر: "إنما قال هكذا أنشدنيه غير التوزى يرويه: والطيبان أبو بكر ولا عمر 2 زيادات ر: "هو حميد بن الأرقط"، والبيت في اللسان "قدد"، وإصلاح المنطق 444،377 وبعده: ليس الإمام بالشحيح الملحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يريد عبد الله ومصعبا ابني الزبير وإنما أبو خبيب عبد الله، وقرأ بعض القراء: {سَلامٌ عَلَى إِلْيَاسِينَ} 1 فجمعهم على لفظ إلياس ومن ذا قول العرب: المسامعة، والمهالبة، والمناذرة، فجمعهم على اسم الأب. والمشعرة: اسم لقتلى الملوك خاصة، كانوا يكبرون أن يقولوا: قتل فلان، فيقولون أشعر فلان، من إشعار البدن2. ويروى أن رجلاً قال: حضرت الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصاح به صائح: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال: يا أمير المؤمنين. فقال رجل من خلفي: دعاه باسم رجل ميت3، مات والله أمير المؤمنين. فالتفت فإذا رجل من بني لهب، وهم وهم من بني نصر بن الأزد، وهم أزجر4 قوم، قال كثير: سألت أخاً لهب ليزجر زجرةً ... وقد صار زجر العالمين إلى لهب قال: فلما وقفنا لرمي الجمار إذا حصاةٌ قد صكت صلعة عمر فأدمته، فقال قائل: أشعر والله أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف أبداً. فالتقت فإذا بذلك اللهبي بعينه، فقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحول.   1 سورة الصافات 130. 2 البدن، بالضم: جمع بدنة، وهي الناقة والبقرة وهذا البعير مما ينحر بمكة للهدى وإشعارها: أن يشق جلدها أو سنامها بمبضع ونحوه حتى يظهر الدم، ليعلم أنه هدى. 3 يريد أبا بكر. 4 الزجر للطير هو التيمن والتشاؤم بها، والتفاؤل بطيرانها وهو ضرب من الكهانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 باب لذي الرمة في الزجر قال أبو العباس: أنشدني رجل من أصحابنا من بني سعدٍ، قال: أنشدني أعرابي في قصيدة ذي الرمة: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر بيتين لم تأت بهما الرواة، وهما: رأيت غراباً ساقطاً فوق قضبةٍ1 ... من القضب لم ينبت لها ورقٌ نضر فقلت: غارباً لاغترلبٍ، وقضبةٌ ... لقضب النوى، هذي العيفة والزجر   1 القضبة: واحدة القضب، هو شجر له ورق كورق الكمثرى، إلا أنه أرق وأنعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 لجحدر العكلي وقال آخر قال أبو الحسن: هو جحدرٌ العكلي، وكان لصاً: وقدماً هاجني فازددت شوقاً ... بكاء حمامتين تجاوبان وقدما عن أبي الحسن تجاوبتا بلحن أعجمي ... على عودين من غربٍ وبان1 فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغترابٌ غير دان   1 الغرب والبان: ضربان من الشجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 مما قيل في المال وأنشدني أبو محلمٍ من ولد طلبة بن قيس بن عاصم: وكنت إذا خاصمت خصماً كببته ... على الوجه حتى خاصمتني الدراهم فلما تنازعنا الخصومة غلبت ... علي، وقالوا: قم فإنك ظالم وقرأت عن أبي الفضل العباس بن الفرج الرياشي، عن أبي زيد الأنصاري: ولقد بغيت المال من مبغاته ... والمال وجهٌ للفتى معروض طلب الغنى عن صاحبي ليحبني ... إن الفقير إلى الغني بغيض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقال آخر أنشدني التوزي عن أبي زيد: وصاحب نبهته لينهضا ... إذا الكرى في عينيه تمضمضا فقام عجلان وما تأرضا ... يمسح بالكفين وجهاً أبيضا قوله:" وما تأرضأ": أي لم يلزم الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 لشبيب بن البرصاء يفخر بكرمة وأنشدني التوزي عن أبي زيد الأنصاري قال أبو الحسن: هو شبيب بن البرصاء: لقد علمت أم الصبيين أنني ... إلى الضيف قوام السنات خروج إذا المرغث العوجاء بات يعزها ... على ضرعها ذو تومتين لهوج وإني لأغلي اللحم نياً وإنني ... لممن يهين اللحم وهو نضيج قوله:" قوام السنات، يريد سريع الانتباه، والسنة: شدة النعاس، وليس بالنوم بعينه، قال الله عز وجل: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} 1: وقال ابن الرقاع العاملي: لولا الحياء وأن رأسي قد عسا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم2 وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينيه سنةٌ، وليس بنائم3 ومعنى" رنقت" تهيأت، يقال: رنق النسر: إذا مد جناحيه ليطير، قال ذو الرمة4: على حد قوسينا كما رنق النسر   1 سورة البقرة 255. 2 جاسم: قرية بالشام، وفي ر: "عاسم"، وهو رمل لبنى سعد. 3 أقصده: أصابة. 4 قبله في زيادات ر: إذا ضربته الربح رنق فوقنا وانظر ديوانه 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وقوله: "المرغث": يعني التي ترضع وترغث1 ولدها، ويقال لها رغوثٌ، قال طرفة: ليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً حول قبتنا تخور وقوله: "يعزها"، أي يغلبها، وقال الله عز وجل: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} 2 يقول: غلبني في المخاطبة، وأصله من قوله: كان أعز مني فيها. ومن أمثال العرب: "من عز بز": وتأويله: من غلب استلب. وقال زهيرٌ: "وعزته يداه وكاهله"3 يقول: كان ذلك أعز ما فيه، ويقال: لهج الفصيل فهو لهوج إذا لزم الضرع، ويقال: رجل ملهجٌ، إذا لهجت فصاله، فيتخذ خلالاً، فيشده على الضرع، أو على أنف الفصيل، فإذا جاء ليرضع أوجعها بالخلال فضرحته4 عنها برجلها، قال الشماخ يصف الحمار: رعى بارض الوسمي حتى كأنما ... يرى بسفا البهمى أخله ملهج البارض: أول ما يبدو من النبت، والبهمى يشبه السنبل، يقول: فهو لما اعتاد هذا المرعى اللدان استخشن البهمى. وسفاها: شوكها. فيقول: كأنه مخلول عن البهمى، أي يراها كالأخلة. وقوله: "ذو تومتين" فالتومة في الأصل الحبة5، ولكنها في هذا الموضع التي تعلق في الأذن. وكالبيت الأخير قوله: وإني لأغلي لحمها وهي حيةٌ ... ويرخص عندي لحمها حين تذبح بذا فاند بيني وامدحيني فإنني ... فتى تعتريه هزةٌ حين يمدح   1 ر: "يعنى التي ترضع ترغث"، س: "التي ترضع الرغث". 2 سورة ص23. 3 البيت بتمامه: تميم فلوناه فأكمل صنعه ... فتم، وعزته يداه وكاهله وانظر ديوانه 130. 4 ضرحته: دفعته. 5 زيادات ر: "وقوله "الحبة" إنما معناه من حبات النظم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 باب لعمر بن عبد العزيز حينما سئل: أي الجهاد أفضل? قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: أي الجهاد أفضل? فقال: جهادك هواك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 لرجل من الحكماء في مجاهدة النفس وقال رجل من الحكماء: أعص النساء وهواك واصنع ما شئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 لمحمد بن علي بن الحسين في الزهد وقال محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب رضي الله عنهم: ما لك من عيشك إلا لذة تزدلف بك إلى حمامك، وتقربك من يومك، فأية أكلة ليس معها غصص أو شربة ليس معها شرق فتأمل أمرك، فكأنك قد صرت الحبيب المفقود، والخيال المخترم. أهل الدنيا أهل سفر لا يحلون عقد رحالهم إلا في غيرها. قوله: "تزدلف بك إلى حمامك"، يقول: تقربك: ولذلك سميت المزدلفة وقوله عز وجل: {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} 1 إنما هي ساعات يقرب بعضها من بعض، قال العجاج: ناج طواه لأين مما وجفا ... طي الليالي: زلفاٌ فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا ناج: سريع، والأين: الإعياء.والوجيف: ضرب من السير. ونصب "طي الليالي" لأنه مصدر من قوله: "طواه الأين"، وليس بهذا الفعل، ولكن تقدير طواه الأين طياٌ مثل طي الليالي، كما تقول: زيد يشرب شرب الإبل، إنما التقديريشرب شرباٌ مثل الإبل، "فمثل" نعت، ولكن إذا حذفت المضاف استغنى بأن الظاهر يبينه، وقام أضيف إليه مقامه في الإعراب، من ذلك قول الله تبارك تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 2 نصب لأنه كان: "واسأل أهل القرية". وتقول:   1 سورة هود 114. 2 سورة يوسف 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 بنو فلان يطؤهم الطريق، تريد أهل الطريق فحذفت"أهل" فرفعت" الطريق" لأنه في موضع، فعلى هذا فقس إن شاء الله. وقوله "سماوة الهلال"إنما هو أعلاه، ونصب" سماوة": " بطي"، يريد طواه الأين كما طوت الليالي سماوة الهلال. والشاهد على إنه يريد أعلاه قول طفيل: سماوته أسمال برد محبرٍ ... وسائره من أتحمي مشرعب1 ويروى: " معصب"، وإنما سماوته من قولك: سماء،. فاعلم فإذا وقع الإعراب على الهاء أظهرت ما تبنيه على التأنيث على أصله، فإن كان من الياء أظهرت الياء، وإن كان من الواو أظهرت فيه الواو، تقول شقاوة لأنها الشقوة وتقول هذه إمرأة سقاية: إذا أردت البناء على غير تذكير، فإن بنيته على التذكير قلبت الياء والواو همزتين: لأن الإعراب عليهما يقع، فقلت: سقاء وغزاء يا فتى، فإن أنثت قلت: سقاءة وغزاءة، والأجود فيما كان له تذكير الهمز، وفيما لم يكن له تذكير الأظهار، وإنما السماء من الواو، لأن الأصل سما يسمو إذا ارتفع، وسماء كل شيء سقفه. وقوله: "حتى احقوقفا" يريد اعوج، وإنما هو افعوعل من الحقف. والحقف: النقا من الرمل يعوج ويدق،.قال الله عز وجل: {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} 2أي بموضع هو هكذا.   1 الأسمال: الأخلاق من الثياب. والمحبر: الموشى. والأتحمى: ضرب من البرود فبه خطوط. والمشرعب، يريد أنه منسوب إلى الشرعبية، وهي ضرب من البرود. 2 سورة الأحقاف 21. والأحقاف: رمال مشرفة على البحر بالشحر من اليمن، وهي مساكن عاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 لعلي بن أبي طالب في وصف الدنيا وقال رجل لعلي بن أبي طالب رحمة الله عليه1 وهو في خطبته2: يا أمير المؤمنين، صف لنا الدنيا، فقال: ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من صح فيها أمن، ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن.   1 س: "رضي الله عنه". 2 ر، س: "وهو في خطيته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 مقدم الربيع بن زياد الحارثي على عمر بن الخطاب قال الربيع بن زياد الحارثي: كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رحمه الله1 يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا جميعاً. قال: فلما قدمنا أتيت يرفأ2 فقلت: يا يرفأ، مسترشد وابن سبيل، أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله فإومأ إلي بالخشونة، فاتخذت خفين مطارقين، ولبست جبة صوف، ولثت عمامتي على رأسي. ودخلنا3 على عمر رحمه الله فصفنا بين يديه فصعد فينا وصوب، فلم تأخذ عينه أحداً غيري، فدعاني فقال: من أنت قلت: الربيع بن زياد الحارثي، فقال: وما تتولى من أعمالنا قلت: البحرين قال: كم ترتزق قلت: ألفا، قال: كثير، فما تصنع به قلت: أتقوت منه شيئا، وأعود به على أقارب لي. فما فضل عنهم فعلى فقراء المسلمين، قال: فلا بأس، ارجع إلى موضعك، فرجعت إلى موضعي من الصف، فصعد فينا وصوب، فلم تقع عينه إلا علي، فدعاني، فقال: كم سناك، قلت: خمس وأربعون سنة، قال: الآن حين استحكمت ثم دعا بالطعام وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش، وقد تجوعت له فأتي بخبز وأكسار بعير، فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد، فجعلت4 أنظر إليه المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى ألين من هذا فزجرني، ثم قالك كيف قلت؟ فقلت: أقول: ياأمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين، فيخبز لك قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك، فتؤتى بالخبز لينا، واللحم غريضاً. فسكن من غربه وقال: أههنا غرت قلت: نعم، فقال: يا ربيع إنا لو نشاء ملأنا هذه الرحاب من صلائق، وسبائك،   1 س: "رضى الله عنه". 2 يرفأ: مولى عمر بن الخطاب، يقال إنه أدرك الجاهلية. وحج مع عمر في خلافة أبى بكر، وكان حاجبا على بابه. "تاج العروس". 3 ر، س: "فدخلنا". 4 س: "ثم جعلت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وصناب، ولكني رأيت الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} 1، ثم أمر أبا موسى بإقراري، وأن يسدبدل بأصحابي. قوله: "فلثتها على رأسي" يقول: أدرت بعضها على بغض على غير استواء يقال: رجل ألوث إذا كان شديداً، وذلك من اللوث، ورجل ألوث إذا كان أهوج، وهو مأخوذ من اللوثة. وحدثني عبد الصمد بن المعذل قال: سئل الأصمعي عن المجنون، المسمى قيس بن معاذ، فثبته وقال: لم يكن مجنوناً، ولكن كانت به2 لوثة كلوثة أبي حية الشاعر. وقيل للأشعث بن قيس بن معديكرب الكندي: بم كنتم تعرفون السؤدد في الصبي منكم قال: إذا كان ملوث الإزرة3، طويل الغرلة4، سائل الغرة5: كأن به لوثة، فلسنا نشك في سؤدده. وقله: "تؤتى باللحم غريضا" يقول: طريا، يقال: لحم غريض، وشواء غريض، يراد به الطراء، قال الغساني6: إذا ما فاتني لحم غريض ... ضربت ذراع بكري فاشتويت وقوله: "صلائق" فمعناه ما عمل بالنار طبخاً وشيا، يقال: صلقت الجنب إذا شويته، وصلقت اللحم إذا طبخته على وجهه. وقوله: "سبئك "يريد ما يسنك من الدقيق فيؤخذ خالصه يريد الحوارى7، وكانت العرب تسمي الرقاق السبائك، وأصله ما ذكرنا. والصناب: صباغ بتخذ من الخردل والزبيب، ومن ذلك قيل للفرس صنلبي إذا كان في ذلك اللون وكان جرير اشترى جارية من رجل يقال له زيد من أهل   1 سورة الأحقاف 20. 2 ر، س: "فيه". 3 كذا ضبطت في الأصل بالضم، والإزرة: هيئة الائتزار. 4 الغرلة: القلفة. 5 الغرة في الأصل: البياض في جبهة الفرس. وسيلانها: استطالتها، وهو هنا استعارة لإشراق الوجه. 6 زيادات ر: "هو السموءل". 7 الحوارى: لباب البر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 اليمامة، ففركت1 جريراً، وجعلت تحن إلى زيد، فقال جرير: تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالمرقق والصناب وقالت: لا تضم كضم زيد ... وما ضمي وليس معي شبابي فقال الفرزدق يجيبه: فإن تفركك علجة آل زيد ... ويعوزك المرقق والصناب2 فقدماً كان عيش أبيك مراً ... يعيش بما تعيش به الكلاب وأما قوله: "أكسر بعير" فإن الكسر3 والجدل والوصل: العظم ينفصل بما عليه من اللحم. وأما قوله: "نعى على قوم" فمعناه أنه عابهم بها ووبخهم: قال أبو عبيدة: اجتمع العكاظيون4 على أن فرسان العرب ثلاثة، ففارس تميم عتيبة بن الحارث بن شهاب أحد بني ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، صياد الفوارس وسم الفرسان. وفارس قيس عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب. وفارس ربيعة بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد، أحد بني شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، قال: ثم اختلفوا فيهم حتى نعوا عليهم سقطاتهم. وأما قوله: "أههنا غرت"، يقول: ذهبت، يقال غار الرجل إذا أتى الغور وناحيته مما انخفض من الأ رض، وأنجد إذا أتى نجداً وناحيه مما ارتفع في الأرض، ولا يقال "أغار "إنما يقال: غار وأنجد، وبيت الأعشى ينشد على هذا: نبي يرى ما لا ترون وذكره ... لعمري غار في البلاد وأنجدا   1 فركته: أبغضته. 2 العلجة: مؤنث العلج، وهو الغليظ من كفار العجم. 3 الكسر والجدل، ضبطتا في الأصل بفتح أوله وكسره. 4 العكاظى: منسوب إلى عكاظ، وهم الذين عادتهم الذهاب كل عام إلى عكاظ، وهو سوق كانت تقيمة العرب بين نخلة والطائف في شوال من كل عام، يجتمع فيه شعراء العرب يناشدون الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقوله: " فسكن من غربه"، يقول: من حده، وكذلك يقال في كل شيء في السيف والسهم والرجل وغير ذلك. وقوله: "خفين مطارقين" تأويله: مطبقين يقال: طارقت نعلي إذا أطبقتها. ومن قال: " طرقت" أو" أطرقت" فقد أخطأ، ويقال لكل ما ضوعف: فقد طورق، قال ذو الرمة1: طرق الخوافي واقع فوق ريعة ... ندى ليله في ريشة يترقرق2 قوله: " ريعة" موضع ارتفاع: قال الله عز وجل: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} 3، وهو جمع ريعة، وقال الشماخ: تعن له بمذنب كل واد ... إذا ما الغيث أخضل كل ريع4   1 زيادات ر: "يصف صقرا". 2 الخوافى: ريشات إذا ضم الطائر جناحية خفيت، صد القوادم، وطراقها: ركوب بعضها على بعض. 3 الشعراء 128. 4 تعن: تظهر. والمذنب: مسيل الماء في الحضيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 خطبة لعمر بن عبد العزيز قال أبو العباس: وحدثني العباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي قال: قال عدي بن الفضيل: خرجت إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إستحفره بئراً بالعذبة، فقال لي: وأين العذبة؟ قلت: على ليلتين من البصرة، فتأسف ألا يكون بمثل هذا الموضع ماء فأحفرني، واشترط علي أن أول شارب ابن السبيل، قال فحضرته في جمعة، وهو يخطب، فسمعه وهو يقول: يا أيها الناس، إنكم ميتون، ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون، فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصرتم، ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم. أيها الناس إنه من يقدر له رزق برأس جبل أو بحضيض أرض يأته، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب. قال: فأقمت عنده شهراً ما بي إلا استماع كلامه. قوله: "حضيض1" يعني المستقر من الأرض إذا انحدر عن الجبل، ولا يقال حضيض إلا بحضرة جبل، يقال: حضيض الجبل، ويطرح الجبل فيستغنى عنه لأن هذا لا يكون إلا له، ومن ذلك قول امرىء القيس: نظرت إليه قائماً بالحضيض2   1 ر: "قوله بحضيض". 2 الضمير يعود على الفرس في البيت قبله وصدره: فلما أجن الشمس عنى غيارها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 نبذ من أقوال الحكماء وقال علي بن أبي طالب رحمه الله: يا ابن آدم، لا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه، فإنه إن يعلم أنه من أجلك يأت فيه رزقك، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلا كنت خازناً لغيرك فيه. ويروى للنابغة1: ولست بخابىْ ابداً طعاماً ... حذارغد، لكل غدٍ طعام ويروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من كان آمناً في سربه 2، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، كان كمن حيزت له الدنيا بحذافيرها". قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "في سربه" يقول: في مسلكه، يقال: فلان واسع السرب وخلي السرب، يريد المسالك والمذاهب، وإنما هو مثل مضروب للصدر والقلب، يقال: خل سربه، أي: طريقه حتى يذهب حيث شاء، ويقال ذلك للإبل لانها تنسرب في الطرقات، ويقال: سرب علي الإبل، أي أرسلها شيئاً بعد شيىء فإذا قلت: سرب، بكسر السين، فإنما هو قطيع من ظباء، أبو بقر، أو شاء أو نساء، أو قطا. قال امرؤ القيس: فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار قي الملاء المذيل دوار: نسك ينسكون عنده في الجاهلية ودوار ما استدار من الرمل، ودوار سجن اليمامة. قال بعض اللصوص3: كانت منازلنا التي كنا بها ... شتى، فألف بيننا دوار وقال عمر بن أبي ربيعة: فلم ترعيني مثل سرب رأيته ... خرجنا علينا من زقاق ابن واقف4   1 زيادات ر"هذا من شعر أوس بن حجر مثبت فيه في كلمة لم يعرفها الأصمعى". 2 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية بفتح السين عن أبى العباس والصواب كسرها، وإنما السرب، بفتح السن: المال الراعى". 3 زيادات ر: "واسمه جحدر". 4 نسبه أبو الفرج في الأغانى 175:21 إلى هدبة بن خشرم، من أبيات أربعة، وبعده: تضمخن بالجادى حتى كأنما الـ ... ـأنوف إذا استعرضن رواعف وفيها إقواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وكان الحسن يقول: ليس العجب ممن عطب كيف عطب، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. وكان الحجاج بن يوسف يقول على المنبر: أيها الناس، اقدعوا هذه الأنفس. فإنما أسأل شيء إذا أعطيت، وأمنع شيء إذا سئلت، فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاماً وزماماً فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وعطفها بزمامها عن معصية الله. فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه. قوله: "اقدعوا" يقال قدعته عن كذا: أي منعته عنه، ومنه قول الشماخ: إذا ما استافهن ضربن منه ... مكان الرمح من أنف القدوع قوله:" استافهن" يعني حماراً يستاف أتنا، يقول: يرمحنه إذا اشتمهن، والسوف: الشم. وقوله: مكان الرمح من أنف القدوع يريد بالقدوع المقدوع، وهذا من الأضداد، يقال طريق ركوب إذا كان يركب، ورجل ركوب للدواب إذا كان يركبها، ويقال: ناقة رغوث إذا كانت ترضع، وحوار رغوث إذا كانت ترضع، ومثل هذا كثير، يقال: شاة حلوب إذا كانت تحلب، ورجل حلوب إذا كان يحلب الشاة، والقدوع ههنا: البعير الذي يقدع، وهو أن يريد الناقة الكريمة ولايكون كريماً، فيضرب أنفه بالرمح حتى يرجع، يقال: قدعته، وقدعت أنفه، ويروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خطب خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ذكر لورقة بن نوفل فقال: محمد بن عبد الله يخطب خديجة بنت خويلد الفحل لا يقدع أنفه. وكان الحجاج يقول: إن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيه ربه، أو يستغفر من ذنبه، أو يفكر في معاده، لجدير أن تطول حسرته يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 باب لعمارة بن عقيل يحض بني كعب وبني كلاب على بني نمير قال أبو الحسن: أنشدني عمارة بن عقيل لنفسه يحض بني كعب وبني كلاب، ابني ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن على بني نمير بن عامر بن صعصعة، وبينهم مطالبات وترات1. وكانت بنو نمير أعداء عمارة. فكان يحض عليهم السلطان، ويغري بهم إخوتهم، ويحاربهم في عشيرته، فقال: رأينا كما يا ابني ربيعة خرتما ... لعض الحروب. والعديد كثير وصدقتما قول الفرزدق فيكما ... وكذبتما ما كان قال جرير أصابت نمير منكم فوق قدرها ... فكل نميري بذاك أمير فإن تفخروا بما مضى من قديمكم ... فقد هدمت مدائن وقصور رمتها مجانيق العدو فقوضت ... مدائن منها كالجبال وسور وشيدها الأملاك: كسرى وهرمز ... وآل هرقل حقبة، ونضير فإن تعمروا المجد القديم فلم يزل ... لكم في مضرات الحروب ضرير خبطتم ليوث الشأم حتى تناذرت ... حماكم وحتى لا يهر عقور فكيف بأكناف الشريف تصيبكم ... ثعالب يبحثن الحصى وأبور قال أبو العباس: قوله: فقد هدمت مدائن وقصور مثل، يريد ان مجدكم الذي بناه آباؤكم متى لم تعمروه بأفعالكم خرب وذهب. وهذا كما قال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: لسنا وإن كرمت أوائلنا ... يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ن ونفعل مثل ما فعلوا   1 التراث: جمع ترة، وهي الجناية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وكما قال الآخر: ألهى بني جشم عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مسئوم إن القديم إذا ما ضاع آخره ... كساعد فله الأيام محطوم وكما قال عامر بن الطفيل: إني وإن كنت ابن فارس عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب فما سودتني عامر عن وراثة ... إبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولكنني أحمي حماها، وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقنب قال أبو الحسن: أنشدني هذه الأبيات محمد بن الحسن المعروف بابن الحرون ويكنى أبا عبد الله لعامر بن الطفيل العامري. قال أبو الحسن: قال الأصمعي: وكان عامر بن الطفيل يلقب محبراً لحسن شعره، وأولها: تقول ابنة العمري ما لك بعدما ... أراك صحيحاً كالسليم المعذب فقلت لها: همي الذي تعلمينه ... من الثأر في حيي زبيد وأرحب إن اغز زبيداً أغز قوماً أعزة ... مركبهم في الحي خير مركب وإن أغز حيي خثعم فدماؤهم ... شفاء، وخير الثأر للمتأوب فما أدراك الأوتار مثل محقق ... بأجرد طاو كالعسيب المشذب وأسمر خطي وأبيض باتر ... وزغف دلاص كالغدير المثوب سلاح امرىء قد يعلم الناس أنه ... طلوب لثارات الجال مطلب ثم أتى بإنشاد أبي العباس على وجهه، إلا أنه روى: "من رماها بمنكب" السليم: الملدوغ، وقيل له: "سليم" تفاؤلاً له بالسلامة، وزبيد وأرحب: حيان من اليمن. والثأر: ما يكون لك عند من أصاب حميمك، من الترة، ومن قال "ثار" فقد أخطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 والمتأوب: الذي يأتيك لطلب ثأره عندك، يقال: آب يؤوب إذا رجع. والتأويب في غير هذا: السير في النهار بلا توقف. والأوتار والأحقاد واحدهما وتر وحقد. والأجرد: الفرس المتحسر الشعر، والأجرد الضامر أيضاً. والعسيب: السعفة. والمشذب. الطويل الذي أخذ ما عليه من العقد والسلاء1 والخوص، ومنه قيل للطويل المعرق: مشذب. وخطي: رمح منسوب إلى الخط، وهي جزيرة بالبحرين، يقال إنها تنبت عصا الرماح وقال الأصمعي: ليست بها رماح، ولكن سفينة كانت وقعت إليها، فيها رماح، وأرفئت بها في بعض السنين المتقدمة، فقيل لتلك الرماح: الخطية: ثم عم كل رمح هذا النسب إلى اليوم. والزغف: الدرع الرقيقة النسج، والمثوب: الذي تصفقه الرياح فيذهب ويجيء، وهو من ثاب يثوب إذا رجع. وإنما سمي الغدير غديراً لأن السيل غادره، أي تركه. قال أبو العباس: وقوله: لكم في مضرات الحروب ضرير يقال: رجل ضرير إذا كان ذا مشقة على العدو، وقال مهلهل بن ربيعة التغلبي: قتيلٌ ما قتيل المرء عمرو ... وهمام بن مرة ذو ضرير2 وقوله: "خبطتم ليوث الشام "يريد ما كان من نصر بن شبث العقيلي، وهو عقيل بن كعب بن ربيعة. وقوله: "أبور" جمع وبر3، وإذا إنضمت الواو من غير علة فهمزها جائز، وقد ذكرنا ذلك قبل.   1 السلاء: شوك النخيل. 2 زيادات ر: ما: زائدة، وفيها معنى التعظيم. 3 الوبر: دويبة على قدر السنوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 لعمارة أيضاً في الحث على الأخذ بالثأر وقال عمارة أيضاً لهم، أنشدنيه: ألا لله در الحي كعب ... ذوي العدد المضاعف والخيول أما فيهم كريمٌ مثل نصر ... يورع عنهم سنن الفحول تنوخهم نمير كل يوم ... كفعل أخي العزازة بالذليل وليسوا مثل عشرهم ولكن ... يضيع القوم من قبل العقول فأين فوارس السلمات منهم ... وجعدة والحريش ذوو الفضول! وأين عبادة الخشناء عنهم1 ... إذا ما ضاق مطلع السبيل! قوله: ألا لله در الحي كعب يريد كعب بن ربيعة بن عامر صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. وقوله: أما فيهم كريم مثل نصرٍ يعني نصر بن شبث، أحد بني عقيل بن كعب بن ربيعة. وقوله: يورع عنهم سنن الفحول هو مثل ضربه، فجعلهم لإمساكهم عن الحرب بمنزلة النوق التي يقرعها الفحل. ويورع: يكف ويمنع ويدفع. والورع في الدين إنما هو الكف عن أخذ الحرام، وجاء في الحديث: "لا تنظروا إلى صومه، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا إلى ورعه إذا أشفى"، ومعناه إذا أشرف على الدينار والدرهم. والسنن: القصد، ثم أبان ذلك بقوله: تنوخهم نميرٌ كل يوم يقال: سان الفحل الناقة فتنوخها، وذلك إذا ركبها من غير أن توطأ له، ولكن يعترضها اعتراضاً. وتقول العرب: إن ذلك أكرم النتاج، وذلك لأن   1 ر: "منهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الولد يخرج صليباً مذكراً، ويقال لذلك الحمل الذي يقع من التنوخ والاعتراض: يعارة وعراضٌ، يقال: حملته عراضاً، وحملته يعارة يا فتى، قال الراعي: قلائص لا يلقحن إلا يعارةً ... عراضاً، ولا يشربن إلا غواليا وقال الطرماح: سوف تدنيك من لميس سبندا1 ... ةٌ أمارات بالبول ماء الكراض نضجته عشرين يوماً ونيلت ... حين نيلت يعارة في عراض قوله:" سبنداة" فهي الجريئة الصدر، يقال للجريء الصدر: سبندى وسبنتى وأصل ذلك في النمر. وزعم الأصمعي أن الكراض حلق الرحم، قال: ولم أسمعه إلا في هذا الشعر. وقوله: "نضجته عشرين يوماٌ"، إنما هو أن تزيد بعد الحول من حيث حملت أياماٌ، نحو الذي عد، فلا يخرج الولد إلامحكماٌ، قال الحطيئة: لأدماء منها كالسفينة نضجت ... به الحول حتى زاد شهراٌ2 عديدها والعزازة: العز، والمصادر تقع على" فعالة" للمبالغة، يقال عز عزا وعزازة، كما يقال: الشراسة والصرامة، قال الله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} 3 وفي موضع آخر: {لَيْسَ بِي ضَلالةٌ} 4. وقوله: "فأين فوارس السلمات"، يريد بني سلمة الخير، وبني سلمة الشر ابني قشير بن كعب، وجمع لأنه يريد الحي أجمع، كما تقول: المهالبة والمسامعة، فتجمعهم على اسم الأب، على المهلب ومسمع، وكذلك المناذرة، وقد مرت الحجة في هذا. وجعدة بن كعب والحريش بن كعب وبنو عبادة، من عقيل بن كعب. وقال: "الخشناء" يريد القبيلة، وذكرها بالخشونة على الأعداء.   1 ر. س: "سبنتاة وسبنداة"، وكلاهما جائز. 2 ر: "عشرا". 3 الأعراف 67. 4 الأعراف 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 سؤال معاوية بن أبي سفيان لدغفل بن حنظلة عن قبائل العرب ويروى أن معاوية بن أبي سفيان رحمة الله قال لدغفل بن حنظلة النسابة: ما تقول في بني عامر بن صعصعة? قال: أعناق ظباء، وأعجاز نساء. قال: فما تقول في تميم? قال: حجر أخشن، إن صادمته آذاك، وإن تركته تركك. قال: فما تقول في اليمن?قال: سيد وأنوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 لعمارة بن عقيل حينما أمره أبو سعد التميمي أن يضع يده في يد أبي نصر الطائي قال أبو العباس: وأنشدني عمارة لنفسه وسبب هذا الشعر الذي نذكره أن رجلا من بني تميم، يكنى أبا سعد، كان منقطعاٌ إلى أبي نصر بن حميد الطائي، ثم أحد بني نبهان، وكان أبو نصر والياً على العرب، وكتب أبو سعد إلى عمارة يأمره أن يضع يده في يد أبي نصر، فقال عمارة: دعاني أبو سعدٍ وأهدى نصيحةٌ ... إلي، ومما أن تغر النصائح1 لأجزر لحمي كلب نبهان كالذي ... دعا القاسطي حتفه وهو نازح أو البرمجي حين أهداه حينه ... لنار عليها موقدان وذابح ورأي أبي سعدٍ وإن كان حازماً ... بصيراً وإن ضاقت عليه المسارح أعار به ملعون نبهان سيفه ... على قومه، والقول عافٍ وجارح ونصر الفتى في الحرب أعداء قومه ... على قومه للمرء ذي الطعم فاضح قوله: "لأجزر لحمي كلب نبهان" أي لأكون جزرة له، والجزرة: البدنة تنحر، يقال أجزرت فلاناً، وتركت فلاناً جزراً، قال عنترة العبسي: إن تشتما عرضي فإن أباكما ... جزر السباع وكل نسرٍ قشعم وقوله: ........... ... كالذي دعا القاسطي حتفه وهو نازح   1 زيادات ر: "مما بمعنى ربما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 فهذا الرجل من النمر بن قاسطٍ، خرج يبتغي قرطاً من بعدٍ، فنهشته حية فمات، وهو أحد القارظين. والقارظ الأول من عنزة، كان خرج مع ابن عم له في طلب القرظ، فقتله ابن عمه، لأنه كان يريد ابنته فمنعه منها، قال أبو خراش1 الهذلي: وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليب لوائل وقوله "كالذي دعا القاسطي حتفه" الهاء في حتفه ترجع على الذي وتقديره كالسبب الذي دعا القاسطي حتفه. وقوله: "أبو البرمجي" فهذا الرجل من البراجم، وهم بنو مالك بن حنظلة كان عمرو بن هند لما قتل بني دارم بأوراة، وكان سبب ذلك أن أخاه أسعد بن المنذر وكان مسترضعاً في بني دارمٍ، في حجر حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم- انصرف ذات يوم من صيده وبه نبيذٌ، كما يعبث الملوك، فرماه رجل من بني دارم بسهم فقتله2. ففي ذلك يقول القائل، وهو عمرو بن ملقطٍ الطائي لعمرو بن هند: فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زرارة فغزاهم عمرو بن هند، فقتلهم يوم القصيبة3 ويوم أوارة، ففي ذلك يقول الأعشى: وتكون في الشرف المو ... زي منقراً وبني زرارة أبناء قومٍ قتلوا ... يوم القصيبة والأوراة ثم أقسم عمرو بن هند ليحرقن منهم مائة، فبذلك سمي محرقاً، فأخذ تسعة وتسعين رجلاً فقذهم في النار، ثم أراد أن يبر قسمه بعجوز منهم لتكمل بها   1 زيادات ر: "الصحيح أن الشعر لأبى ذؤيب، وهو بهذه النسبة في ديوان الهذليين 145:1، من قصيدة مطلعها: أساءلت رسم الدار أم لم تسائل ... عن السكن أم عن عهده بالأوائل! 2 زيادات ر: "رمى ناقة بسهم فقتلها" والرجل الذي قتله سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم". 3 يوم القصيبة لعمرو بن هند على بنى تميم، وهو أوارة. "وانظر معجم البلدان 364:1،114:7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 العدة، فلما أمر بها قالت العجوز: ألا فتى يفدي هذه العجوز بنفسه1! ثم قالت: "هيهات صارت الفتيان حمماً"! ومر وافد البراجموهو الذي ذكرنا - فاشتم رائحة اللحم، فظن أن الملك يتخذ طعاماً، فعرج إليه فأتي به إليه، فقال له: من أنت? فقال: ابيت اللعن? أنا وافد البراجم، فقال: "إن الشقي وافد البراجم". ثم أمر به فقذف في النار، ففي ذلك يقول جرير يعير الفرزدق: أين الذين بنار عمرو حرقوا ... أم أين أسعد فيكم المسترضع! وقال أيضاً: وأخزاكم عمرو كما قال قد خزيتم ... وأدرك عماراً شقي البراجم وقال الطرماح: ودارم قد قذفنا منهم مائةً ... في جاحم النار إذ ينزون بالخدد2 ينزون بالمشتوى منها ويوقدها ... عمرو، ولولا شحوم القوم لم تقد3 ولذلك عيرت بنو تميم بحب الطعام، يعني لطمع البرجمي في الأكل. قال يزيد بن عمرو بن الصعق أحد بني عمرو بن كلاب: ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما وقال الأخر4: إذا ما مات ميتٌ من تميم ... فسرك أن يعيشك فجىء بزاد بخبر أو بتمر أو بلحم ... أو الشيء الملفف في البجاد5 تراه ينقب البطحاء حولاً ... ليأكل رأس لقمان بن عاد   1 زيادات ر: "على ماذكر أصحاب الأخبار اسمها الحمراء بنت نضلة". 2 الخدد، أصله: "الخد" ففك إدغاق للقافية، وهو كالأخدود، حفرة في الأرض مستطيلة. 3 المشتوى: مكان الاشتواء. 4 زيادات ر: "ذكر ابن حبيب أن هذا الشعر لأبى المهوش الفقعسى، وذكر دعبل أنه لأبى المهموش الأسدى، وذكر ابن السيد البطليوسى أنه ليزيد بن عمرو بن الصعق الكلابى". 5 أراد وطب اللبن، يلف بكساء مخطط، اسمه البجاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وقوله: "للمرء ذي الطعم" يعني الراجع إلى عقل، يقال: ليس فلان بذي طعم، وفلان ليس بذي نزل، أي ليس بذي عقل ولا معرفة، وإنما يقال: هذا طعام ليس له نزل إذا لم يكن ذا ريع، ومن قال: "نزل "في هذا المعنى فقد أخطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 لأعرابي يهجو قوماً من طيىء وقال أعرابي يهجو قوماً من طيىء: ولما أن رأيت بني جوين ... جلوساً ليس بينهم جليس يئست من التي أقبلت أبغي ... لديهم إنني رجل يؤوس إذا ما قلت: أيهم لأي ... تشابهت المناكب والرؤوس قوله: "جلوساً ليس بينهم جليس"، يقول: هؤلاء قوم لا ينتجع الناس معروفهم فليس فيهم غيرهم وهذا من أقبح الهجاء. ومن أمثال العرب: "سمنهم في أديمهم"، ومعناه في مأدومهم، وقيل: أديهم ومأدوم مثل قتيل ومقتول، وتقول الحكماء: من كثر خيره كثر زائره. وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه: يا بني، إذا غدا عليكم الرجل وراح مسلما، فكفى بذلك تقاضياً. وقال آخر: أروح لتسليم عليك وأغتدي ... وحسبك بالتسليم مني تقاضياً كفى بطلاب المرء ما لا يناله ... عناء، وباليأس المصرح ناهياً 1 [قال أبوالحسن: وربما قال أبو العباس: "مصرح" بكسر الراء] 1 ومن أحسن المدح قول زهير: قد جعل الطالبون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقاً   1 ر: "وربما قال أبو العباس: "مصرح" بكسر الراء، قال أبو الحسن والكسر أجود". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وقال رؤبة1: إن الندى حيث ترى الضغاطا 2 وقال آخر: يزدحم الناس إلى بابه ... والمشرب العذب كثير الزحام وقال أشجع في محمد بن منصور: على باب ابن منصور ... علامات من البذل جماعات وحسب البا ... ب نبلاً كثرة الأهل وقوله: تشابهت المناكب والرؤوس إنما ضربه مثلاً للأخلاق والأفعال: أي ليس فيهم مفضل. ويقال إن الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، آذته عشيرته من بني سعد، فخرج عنهم، فجعل لا يجاور قوماً إلا آذوه فقال: "أينما أذهب ألق سعداً" أي أفر من الأذى إلى مثله.   1 زيادات ر: "ليس لرؤبة، وهو لابن أبى نخيلة"، وقال المرصفى: الصواب لأبى نخيلة-وهو اسمه لا كنيته-ابن عدنان بن زائدة، إحدى بني سعد بن زيد مناة بنى تميم. شاعر راجز، من مخضرمى الدولتين. 2 الضغاط: التزاحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 باب أقوال في المجالس والجلساء قال أبو العباس: قال أبو إدريس الخولاني1: المساجد مجالس الكرام. وقيل للأحنف بن قيس أحد بني مرة بن عبيد بن الحارث بن كعب بن سعدٍ: أي المجالس أطيب? فقال: ما سافر فيه البصر، واتدع فيه البدن. اتدع: افتعل من التوديع، والأصل "اوتدع" فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وهذا القول مذهب أهل الحجاز يقولون: ايتزن ياتزن، وهو رجل موتزنٌ2، والأجود أن تقلب ماكان أصله الواو والياء في باب "افتعل" تاءً وتدغمها في التاء من "افتعل" فتقول: اتدع يتدع، وهو متدعٌ، ومتزن3 ومتعد من الوعد، ومتئس من اليأس، تكون الياء كاواو، لأنها إن أظهرت انقلبت على حركة ما قبلها فصارت كاواو، وتكونان واوين عند الضمة، نحو موعدٍ وموتعدٍ، ومؤنسٍ ومؤتئسٍ، وياءين للكسرة، والواو قد تقلب إلى تاء ولا تاء بعدها، نحو تراث من ورث، وتجاه من الوجه وتكأةٍ. وإنما ذلك كراهية الضمة في الواو، وأقرب حروف الزوائد والبدل منها التاء فقلبت إليها، وقد تقلب للبدل في غير ضم، نحو: هذا أتقى من هذا، وضربته حتى أتكأته4، فلما كانت بعدها تاء افتعل كان الوجه القلب ليقع الإدغام. وقد فسرنا هذا على غاية الاستقصاء في الكتاب "المقتضب". وقيل للمهلب بن أبي صفرة: ما خير المجالس؟ فقال: ما بعد فيه مدى الطرف، وكثرت فيه فائدة الجليس. ويروى عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني، إذا أتيت مجلس قوم فارمهم بسهم الإسلام ثم اجلس فإن أفاضوا في ذكر الله: فأجل سهمك مع سهامهم، وإن أفاضوا في غير فخلهم وانهض.   1 هو عائد الله بن عبد بن عمرو أبو إدريس الخولانى، قاص أهل الشام وعالمهم، وقاضيهم روى عن أبى هريرة وأبى ذر وغيرهم. مات سنة 80هـ. "تهذيب التهذيب 85:5". 2 ر، س: "ايتزر، ياتزر، وهو رجل موتزر". 3 ر، س: "متزر". 4 اتكأته: وجدته على هيئة المتكىْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وقوله: "فارمهم بسهم الإسلام" يعني السلام. وقوله: "فأجل سهمك مع سهامهم"، يعني أدخل معهم في أمرهم، فضربه مثلاً، من دخول الرجل في قداح الميسر. وقال وهب بن عبد مناف بن زهرة جد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمه: وإذا أتيت جماعةٌ في مجلسٍ ... فاختر مجالسهم ولما تقعد ودع الغواة الجاهلين وجهلهم ... وإلى الذين يذكرونك فاعمد وقال ابن عباس رحمه الله: لجليسي علي ثلاثٌ: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأوسع له إذا جلس وأصغي إليه إذا حدث. وكان القعقاع بن شورٍ1، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل إذا جالسه جليسٌ فعرفه بالقصد إليه جعل له نصيباً في ماله وأعانه على عدوه، وشفع له في حاجته، وغدا إليه بعد المجالسة شاكراً له، حتى شهر بذلك. وفيه يقول القائل: وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس ضحوك السن إن أمروا بخير ... وعند السوء مطراقٌ عبوس وحدثني التوزي أن رجلاً جالس قوماً من بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، فأساؤوا عشرته، وسعوا به إلى معاوية، فقال: شقيت بكم وكنت لكم جليساً ... فلست جليس قعقاع بن شور ومن جهل أبو جهلٍ أخوكم ... غزا بدراً بمجمرةٍ وتور2 نسبه إلى التوضيع3، كقول عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف لحكيم بن حزام لما بلغه قول أبي جهل بن هشام: انتفخ والله سحره4 ونحره، سيعلم مصطر استه من انتفخ سحره اليوم!   1 ذكره ابن حجر في لسان الميزان 454:4 قال: من كبار المراء في دولة بني امية وفي القاموس إنه من التابعين. 2 المجمرة: إحدى المجامر التي يوضع فيها الطيب ليتبخر به. والتور: إناء يبل فيه نحو العود والمسك. 3 التوضيع: التحنيث. 4 يراد بالسحر هنا الرئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 يزيد بن معاوية والأنصار وقال رجل من بني مخزوم للأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري ليؤذيه: أتعرف الذي يقول: ذهبت قريشٌ بالمكارم كلها ... واللؤم تحت عمائم الأنصار1 فقال الأحوص: لا أدري2، ولكني أعرف الذي يقول: الناس كنوه أبا حكم ... والله كناه أبا جهل أبقت رياسته لأسرته ... لؤم الفروع ودقة الأصل وهذا الشعر لحسان بن ثابت، والبيت الذي أنشده المخزومي للأخطل. وكان يزيد بن معاوية عتب على قوم من الأنصار، فأمر كعب بن جعيل التغلبي بهجائهم، فقال له كعبٌ: أأهجو الأنصار! أرادي أنت إلى الكفر بعد الإسلام! ولكني أدلك على غلام من الحي نصراني: كأن لسانه لسان ثورٍ يعني الأخطل. قال: فلما قال هذا البيت دخل النعمان بن بشير بن سعدٍ الأنصاري3 على معاوية، فحسر4 عمامته عن رأسه، ثم قال: يا معاوية، أترى لؤماً! فقال: ما أرى إلا كرماً. فقال النعمان: معاوي إلا تعطنا الحق تعترف ... لحي الأزد مسدولاً عليها العمائم   1 قاله: لعن الإله من اليهود عصابة ... بالجزع بين صليصل وصرار قوم إذا هدر العصير رأيتهم ... حمرا عيونهم من المسطار خلوا المكارم لستم من أهلها ... وخذوا مساحيكم بنى النجار - صليل وصرار: موضعان. والمسطار: الخمرة المتخذة من أبكار العنب المساحى: جمع مسحاة، وهي مجرفة من حديد. 2 تكملة من ر، س. 3 من كبار الخزرج. 4 روى أن النعمان قال: يا أمير المؤمنين، أترى لؤما؟ قال: لا، بل أرى كرما وخيرا، فماذا؟ قال: زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائم الأنصار، قال: أو فعل ذلك؟ قال: نعم، قال: لك لسانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أيشتمنا عبد الأ راقم ضلةً ... فماذا الذي تجدي عليك الأراقم! 1 فما لي ثأر دون قطع لسانه ... فدونك من ترضيه عنه الدراهم   1 الأرقم: هم بنو بكر وجشم ومالك والحارث ومعاوية أبناء تغلب، وهم قوم الأخطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 نبذ من أقوال الحكماء وكان الأحنف بن قيس يقول: لا تزال العرب عرباً ما لبست العمائم، وتقلدت السيوف، ولم تعدد الحلم ذلاً، ولا التواهب فيما بينها ضعةٌ. وقالوا في تأويل قوله: "ما لبست العمائم"، يقول: ما حافظت على زيها. وقوله: "وتقلدت السيوف" يريد الامتناع من الضيم. وقوله: "ولم تعدد الحلم ذلاً"، يقول: ما عرفت موضع الحلم، وتأويل ذلك: أن الرجل إذا أغضى للسلطان أو أغضى عن الجواب وهو مأسور لم يقل: حلم، وإنما يقال حلم إذا ترك أن يقول الشيء لصاحبه منتصراً، ولا يخاف عاقبة يكرهها، فهذا الحلم المحض، فإذا لم يفعل ذلك، ورأى أن تركه الحلم ذل فهو خطأ وسفهٌ. وقوله: "ولم تر التواهب بينها ضعةٌ" نحو من هذا، وهو أن يهب الرجل من حقه ما لا يستكره عليه. وكان يقال: أحيوا المعروف بإماتته، وتأويل ذلك أن الرجل إذا اعتد بمعروفه كدره، وقيل: المنة تهدم الصنيعة. وكان يقال: كتمان المعروف من المنعم عليه كفرٌ، وذكره من المنعم تكديرله. وقال قيس بن عاصم: يا بني تميم، اصحبوا من يذكر إحسانكم إليه، وينسى أياديه إليكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 باب لبعض الشعراء يمدح أسيلم بن الأحنف ... باب لبعض الشعراء يمدح أسليم بن الأحنف قال أبو العباس: قال عبد الملك [بن مروان1] لأسلم بن الأحنف الأسدي: ما أحسن ما مدحت به? فستعفاه، فأبى أن يعفيه وهو معه على سريره، فلما أبى إلا أن يخبره، قال قول القائل: ألا أيها الركب المخبون هل لكم ... بسيد أهل الشام تحبوا وترجعوا2 من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا3 إذا النفر السود اليمانون نمنموا ... له حوك برديه أجادوا وأوسع جلا المسك والحمام والبيض كالدمى ... وفرق المدارى رأسه فهو أنزع4 فقال له عبد الملك: ما قال أخو الأوس أحسن مما قيل لك [قال أبو الحسن: هو أبو قيس بن الأسلت] قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع5   1 من س. 2 المخبون: الذين تخب بهم دوابهم، من الخبب وهو سرعة العدو. 3 من القعقعة، وهي الصوت، والمراد أنهم لا يتهيبون لقاء الناس. 4 المدارى: حمع المدرى، وهو المشط. وأنزع، من النزوع، وهو انحسار الشعر من أعلى الجبين. 5 حصت: أذهبت شعره. والبيضة، هنا: لباس الرأس في الحرب. والتهجاع: النوم الخفيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 لكثير في المدح وحدثت أن كثيراً كان يقول: لوددت أني كنت سبقت الأسود أو العبد الأسود إلى هذين البيتين يعني نصيباً في قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرت لنجواهم لؤي بن غالب يحيون بسامين طوراً، وتارةً ... يحيون عباسين شوس الحواجب1 والمختار من الشعر الأول قوله: من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا يخبر بجلالتهم ومعرفتهم بأقدارهم، وثقتهم بأن مثلهم لا يرد، وقد قال: جرير للتيم خلاف هذا، وهو قوله: قوم إذا اختضر الملوك وفودهم ... نتفت شواربهم على الأبواب   1 من الشوس، وهو النظر بمؤخر العين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 نقد لشعر نصيب وحدثت أن جريراً كان يقول: وددت أن هذا البيت من شعر هذا العبد كان لي بكذا وكذا بيتاً من شعري يعني قول نصيب: بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب وأما قول نصيب: أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ... أوكل بدعدٍ من يهيم بها بعدي فلم تجد الرواة ولا من يفهم جواهر الكلام له مذهباً، وقد ذكر عبد الملك لجلسائه ذلك فكل عابه، فقال عبد الملك: فلو كان إليكم كيف كنتم قائلين? فقال رجل منهم: كنت أقول: أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ... فوا حزنا من ذا يهيم بها بعدي! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فقال عبد الملك: ما قلت والله أسوأ مما قاله، فقيل له: فكيف كنت قائلاً في ذلك يا أمير المؤمنين? فقال كنت أقول: أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعدٌ لذي خلةٍ بعدي فقالوا: أنت والله أشعر الثلاثة يا أمير المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الفرزدق ونصيب وما قالاه من الشعر عند سليمان بن عبد الملك وقد فضل نصيبٌ على الفرزدق في موقفه عند سليمان بن عبد الملك، وذلك أنهما حضرا، فقال سليمان للفرزدق: أنشدني -وإنما أراد أن ينشده مدحاً له- فأنشده: وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترةٌ من جذبها بالعصائب1 سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب2 إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها ... -وقد خصرت أيديهم- نار غالب3 فأعرض عنه سليمان كالمغضب، فقال نصيب: يا أمير المؤمنين، ألا أنشدك في رويها ما لعله لا يتضع عنها! فقال: هات، فأنشده: أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب4 قفوا خبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالب5 فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب وهذا في باب المدح حسن ومتجاوزٌ ومبتدع لم يسبق إليه. على أن الشاعر وهو أخو همدان قد قال في عصره في غير المدح: يمرون بالدهنا خفافاً عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلاً زريق المال ندل الثعالب   1 الترة: الثأر. 2 الأكوادر: الرحال، مفردها كور. 3 خصرت: بردت. 4 قفاذات أوشال: خلف بقعة ذات مياه. مياه مولاك: يريد نفسه، قارب: طالب للماء. 5 ودان: قرية قريبة من الجحفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وليس شعر نصيب هذا الذي ذكرناه في المدح بأجود من قول الفرزدق في الفخر، وإنما يفاضل بين الشيئين إذا تناسبا. وقد قال سليمان للفرزدق وهو يقول: وخير الشعر أشرفه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد ثم نرجع إلى تفسير الشعر. وقوله: يمرون بالدهنا خفافاً عيابهم يعني قوماً تجاراً، وقد قالو إنما ذكر لصوصاً، والأول أثبت، وذلك أن دارين سوقٌ من أسواق العرب. وقوله: "بجر الحقائب" يقول: عظام، ويقال للرجل إذا اندلقت سرته فنتأت متقدمة: رجل أبجر، ويقال لها: البجرة والبجرةَ. وفعلةٌ وفعَلةٌ تقعان في الشييء، يقال: قلفةٌ وقَلفةٌ، وصلعة وصَلعةٌ، ومثل هذا كثير. وقوله: "على حين ألهى الناس" إن شئت خفضت"حين" وإن شئت نصبت، أما الخفض فلأنه مخفوض فلأنه مخفوض، وهو اسم منصرف، وأما الفتح فلإضافتك إياه إلى شيء معرب، فبنيته على الفتح، لأن المضاف والمضاف إليه اسم واحد فبنيته من أجل ذلك، ولو كان الذي أضفته إليه معرباً لم يكن إلا محفوضاً، وما كان سوى ذلك فهو لحن، تقول" جئتك على حين زيد" و" جئتك في حين إمرة عبد الملك"، وكذا قول النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت: ألما أصح والشيب وازع! إن شئت فتحت، وإن شئت خفضت، لأنه مضاف إلى فعل غير متمكن. وكذلك قولهم: "يومئذ"، تقول: عجبت من يوم عبد الله، لا يكون غيره، فإذا أضفته إلى" إذ"، فإن شئت فتحت على ما ذكرت لك في "حين"، وإن شئت خفضت، لما كان يستحقه اليوم من التمكن قبل الإضافة. تقرأ إن شئت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} 1، وإن شئت: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} على ما وصفت لك، ومن خفض بالإضافة قال: سير بزيدٍ يومئذ، فأعربته في موضع الرفع، كما فعلت به في الخفض، ومن قال: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} فبناه قال: سير بزيدٍ يومئذٍ، يكون على حالة واحدة لأنه مبني، كما تقول: دفع إلى زيد خمسة عشر درهماً، وكما قال عز وجل: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} 2 وأما قوله: فندلاً زريق المال ندل الثعالب فزريق قبيلة. وقوله" ندلاً" مصدر، يقول، اندلي ندلاً يا زريق المال، والندل: أن تجذبه جذباً، يقال: ندل الرجلا الدلو ندلاً إذا كان يجذبها مملوءة من البئر، فنصب" ندلاً "بفعل مضمر وهو" أندلي "وهذا في الأمر، تقول: ضرباً زيداً، وشتما عبد الله، لأن الأمر لا يكون إلا بفعل، فكان الفعل فيه أقوى، فلذلك أضمرته، ودل المصدر على الفعل المضمر، ولو كان خبراً لم يجز فيه الإضمار، لأن الخبر يكون بالفعل وغيره، والأمر لا يكون إلا بالفعل، قال الله عز وجل: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} 3. فكان في موضع "اضربوا"، حتى: كان القائل قال: فاضربوا، ألا ترى أنه ذكر بعده محضاً في قوله: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} ولو نون منون في غير القرآن لنصب "الرقاب" وكذلك كل موضع هو بالفعل أولى. وقوله: "ندل الثعالب" يريد سرعة الثعالب، يقال في المثل: "أكسب من ثعلب". وأما قول نصيب: ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب   1 المعارج 11. 2 المدثر 30. 3 محمد 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فإنما يريد أنهم يرجعون مملوءة حقائبهم من رفده، فقد أثنت عليه الحقائب من قبل أن يقولوا. وأما قول الأعشى: وإن عتاق العيس سوف تزوركم ... ثناء على أعجازهن معلق1 فإنما أراد المدح الذي يحيدين به، والحادي من ورائها، كما الهادي أمامها. وأما قول أبي وجزة السعدي: راحت بستين وسقًا في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السددا فإنما أراد ما يوجب ستين وسقا، لا أن الناقة حملت ستين وسقاً   1 عتاق العيس: نجائب الإبل البيض في شقرة يسيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 حديث أبي وجزة وأبي زيد الأسلمي وكان من حديث ذلك أن أبا وجزة السلمي، المعروف بالسعدي لنززله فيهم، ومحالفته إياهم، كان شخص إلى المدينه يريد آل الزبير، وشخص أبو زيد الأسلمي يريد إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو والي المدينة فاصطحبا، فقال أبو وجزة: هلم فلنشترك فيما نصيبه، فقال أبو زيد الأسلمي: كلا، أمدح الملوك، وأنت تمدح السوق1 فلما دخلا المدينة صار أبو زيد إلى إبراهيم بن هشام فأنشده: ياابن هشام يا أخا الكرام فقال إبراهيم: وإنما أنا أخوهم، وكأني لست منهم ثم أمر به فضرب بالسياط وامتدح أبو وجزة آل الزبير، فكتبوا إليه بستين وسقاٌ من تمر، وقالوا: هي لك عندنا في كل سنةٍ، فانصرفا، فقال أبو زيد: مدحت عروقاٌ للندى مصب الثرى ... حديثاٌ فلم تهمم بأن تتزعزها نقائذ بؤس ذاقت الفقر والغنى ... وحلبت الأيام والدهر أضرعا   1 السوق: حمع السوقة، وهي من الناس من لم يكن ذا سلطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 سقاها ذوو الأرحام سجلاًعلى الظما ... وقد كربت أعناقها أن تقطعا بفضل سجال لو سقوا من مشى بها ... على الأرض أرواهم جميعاٌ وأشبعا فضمت بأيديها على فضل مائها ... من الري لما أوشكت أن تضلعا وزهدها أن تفعل الخير في الغنى ... مقاساتها من قبله الفقر جوعا وقال أبو وجزة: راحت رواحاٌ قلوصي وهي حامدة ... آل الزبير ولم تعدل بهم أحدا راحت بستين وسقاٌ في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السددا ما إن رأريت قلوصاٌ قبلها حملت ... ستين وسقاٌ ولا جابت به بلدا ذاك القرى، لاقرى قوم رأيتهم ... يقرون ضيفهم الملوية الجددا أما قول أبي زيد لإبراهيم: "مدحت عروقاٌ للندى مصت الثرى .... حديثاٌ.. " فإنما عنى أن إبراهيم وأخاه محمداً إنما تطمعا بالعيش، ودخلا في النعمة، وخرجا من حد السوق إلى حد الملوك حديثاً، وذلك بهشام بن عبد الملك لأنهما كانا خاليه، وإنما ولاهما عن خمول. وقوله: "فلم تهمهم بأن تتزعزعا"، فإنما هذا مثل: يقال: فلان يهتزللندى، ويرتاح لفعل الخير كما قال متمم بن نويرة: تراه كنصل السيف يهتز للندى ... إذا لم تجد عند امرىء السوء مطمعا وتأويل ذلك أنه يتحرك سرور لفعل الخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 لأبي رباط في ابنه قال أبو العباس: وأنشدني التوزي لأبي رباط، يقول لابنه: رأيت رباطاً حين تم شبابه ... وولى شبابي ليس في بره عتب1   1 أي بر خالص لا عتب فيه ولا لوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 إذا كان أولاد الرجال مرارةً ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب لنا جانبٌ منه أنيقٌ وجانبٌ ... شديد على الأعداء مركبه صعب وتأخذه عند المكارم هزةٌ ... كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب1   1 البارح: الريح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أعرابي عند عمر بن هبيرة قال: وحدثني علي بن عبد الله قال: حدثني العتبي قال: أشرف عمر بن هبيرة الفزاري من قصره يوماٌ فإذا هو بأعرابي يرقص جمله الآل1، فقال لحاجبه: إن أرادني هذا فأوصله إلي، فلما دنا الأعرابي سأله فقال: قصدت الأمير. فأدخله إليه، فلما مثل بين يديه قال له عمر: ما خطبك فقال الأعرابي: أصلحك الله، قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا ألح دهر أنحى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا رجوك للدهر أن تكون لهم ... غيث سحاب إن خانهم مطر قال: فأخذت عمر الأريحية، فجعل يهتز في مجلسه، ثم قال: أرسلوك إلي وانتظروا إذاً والله لا تجلس حتى ترجع إليهم غانماً، فأمر له بألف دينار ورده على بعيره. قال أبو العباس: وحدثني أبو إسحاق القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الخبر لمعن بن زائدة، وصح ذلك عندي. وقوله: "نقائذ بؤس2" واحدتها نقيذة. وتأويله أنهم أنقذوا من بؤسٍ، يقال للرجل والمرأة ذلك على لفظ واحد، تقول: هذا نقيذة بؤسٍ، تقع الهاء للمبالغة، لأن أصله كالمصادر، كقولك: زيد مكرمةٌ لأهله، وزيد كريمة قومه، أي يحل محل العقدة الكريمة، والخصلة الكريمة.   1 الآل: ماتراه في الضحى بين السماء والأرض. 2 من كلمة أبى زيد الأسلمى ص 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم جرير بن عبد الله البجلي لما ورد عليه، فبسط له رداءه، وعممه بيده، وقال له: "إذا أتاكم كريمة قوم فأكرموه". هكذا روى فصحاء أصحاب الحديث. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وروده عليه: "يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن، عليه مسحة ملك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 لصخر بن عمرو بن الشريد وقال صخر بن عمرو بن الشريد، يعني معاوية أخاه، وكان قتله هاشم ودريد ابنا حرملة المريان من غطفان، فقيل لصخر: اهجهم، فقال: ما بيني وبينهم أقذع من الهجاء، ولو لم أمسك عن هجاءهم إلا صوناً لنفسي عن الخنا لفعلت ثم قال: وعاذلة هبت بليل تلومني ... ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا تقول: ألا تهجو فوارس هاشم ... وما لي إذا أهجوهم ثم ما ليا أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا1 وتقول العرب للرجل: رواية ونسابة، فتزيد الهاء للمبالغة، وكذلك علامة وقد تلزم الهاء في الاسم فتقع للمذكر والمؤنث على لفظ واحد، نحو ربعةٍ ويفعةٍ وصرورةٍ2. وهذا كثير لا تنزع الهاء منه، فأما رواية وعلامة ونسابة فحذف الهاء جائز فيه، ولا يبلغ في المبالغة ما تبلغه الهاء.   1 زيادات ر بعد هذا البيت: إذا ذكر الإخوان رقرقت عبرة ... وحييت رسما عند لثة ثاويا إذا ما امرؤ أهدى لميت تحية ... فحياك رب العرش عني معاويا! وهون وجدي أنني لم أقل له ... كذبت، ولم أبخل عليه بماليا قال الأخفش: وأنشدني الأحول: ومالى أن أهجوهم ثم ماليا 2 رجل ربعة: بين الطول والقصر. ويفعة: شارف الاحتلام، والصرورة: الرجل الذي لم يحج لوم يتزوج، وأصله من الحبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وقوله1: "وحلبت الأيام والدهر أضرعا" فإنه مثلٌ، يقال للرجل المجرب للأمور: فلان قد حلب الدهر أشطره أي قد قاسى الشدة والرخاء، وتصرف في الفقر والغنى، كما قال القائل: قد عشت في الناس أطواراً على طرقٍ ... شتى، وقاسيت فيها اللين والفظعا كلا بلوت، فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشعت من لأوائها جزعاً لا يملا الهول صدري قبل موقعه ... ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا ومعنى قوله:" أشطره" فإنما يريد خلوفه.، يقال: حلبتها شطراً بعد شطرٍ.،وأصل هذا من التنصف، لأن كل خلفٍ عديلٌ لصاحبه. وللشطر وجهان في كلام العرب.، فأحدهما النصف كما ذكرنا، من ذلك قولهم: شاطرتك مالي، والوجه الآخر القصد، يقال: خذ شطر زيدٍ، أي قصده، قال الله عز وجل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي قصده، {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 2. قال أبو العباس: وأنشدني التوزي عن أبي عبيدة قول الشاعر: إن العسير بها داءٌ مخامرها ... فشطرها نظر العينين محسور يريد ناحيتها وقصدها، والعسير: التي تعسر بذنبها إذا حملت، أي تشيله وترفعه، ومنه سمي الذنب عوسراً، أي تضرب بذنبها. ومعنى ذلك أنه ظهر من جهدها وسوء حالها ما أطيل معه النظر إليها حتى تحسر العينان. والحسير: المعيي، وفي القرآن: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 3. وقوله: "سقاها ذوو الأرحام سجلاً على الظما"   1 انظر ص 188. 2 سورة البقرة 144. 3 سورة الملك 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فالسجل في الأصل الدلو، وإنما ضربه مثلاً لما فاض عليها من ندى أقاربها، يقال للدلو- وهي مؤنثة: سجل وذنوب، وهما مذكران، والغرب مذكر وهو الدلو العظيمة، ويقال: فلان يساجل فلاناً، أي يخرج من الشرف مثل ما يخرج الآخر، وأصل المساجلة أن يستقي ساقيان، فيخرج كل واحدٍ منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب مثلا للمفاخرة والمساماة. وبين ذلك الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب في قوله: من يساجلني يساجل ماجداً ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب ويقال: إن الفرزدق مر بالفضل وهو يستقي، وينشد هذا الشعر، فسرا الفرزدق ثيابه عنده، ثم قال: أنا أساجلك- ثقةً منه بنسبه- فقيل له: هذا الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب. فرد الفرزدق ثيابه عليه ثم قال: ما يساجلك إلا من عض بأير أبيه. يقال: سرا ثوبه ونضا ثوبه في معنى واحد، إذا نزعه، ويقال: سرى عليه الهم إذا أتى ليلاً، وأنشد: "سرى همي وهم المرء يسري1" وسرى همه إذا ذهب عنه. والمواضخة مثل المساجلة، قال العجاج: "تواضخ التقريب قلواً مخلجاً" أي تخرج من العدو ما يخرج.، قال الله عز وجل على مخرج كلام العرب وأمثالهم {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} 2 وأصل الذنوب الدلو كما ذكرت لك. وقال علقمة بن عبدة للحارث بن أبي شمر الغساني: "قال أبو الحسن: غير أبي العباس يقول شمرٌ، وبعضهم يقول شمرٌ "وكان أخوه أسيراً عنده، وهو   1 بقية البيت كما في زيادات ر: وغار النجم إلا قيد؟ وفيها: "البيت لعروة بن أذينة الليثى شيخ مالك بن أنس". 2 سورة الذاريات 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 شأس بن عبدة أسره في وقعة عين أباغ. [قال أبو الحسن: غيره يقول إباغ، بالكسر] في الواقعة التي كانت بينه وبين المنذر بن ماء السماء، في كلمةٍ له مدحه فيها: وفي كل حي قد خبطت بنعمةٍ ... فحق لشأسٍ من نداك ذنوب فقال الملك: نعم وأذنبةٌ.وقوله: "وقد كربت أعناقها أن تقطعا" يقول: سقيت هذا السجل وقد دنت أعناقها من أن تقطع عطشاً، وكرب في معنى المقاربة، يقال: كاد يفعل ذلك، وجعل يفعل ذلك، وكرب يفعل ذلك، أي دنا من ذلك. ويقال: جاء زيد والخيل كاربته، أي قد دنت منه وقربت. فأما أخذ يفعل، وجعل يفعل، فمعناهما أنه قد صار يفعل، ولا تقع بعد واحدة منهما: "أن" إلا أن يضطر شاعرٌ، قال الله عز وجل: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} 1 أي لم يقرب من رؤيتها، وإيضاحه: لم يرها ولم يكد، وكذلك: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 2، وكذلك: {كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} 3 بغير "أن". ومن أمثال العرب: كاد النعام يطير، وكاد العروس يكون أميراً، وكاد المنتعل يكون راكباً وقد اضطر الشاعر فأدخل "أن" بعد "كاد"، كما أدخلها هذا بعد "كرب" فقال: "وقد كربت أعناقها أن تقطعها" وقال رؤبة: "قد كاد من طول البلى أن يمصحا4"   1 سورة النور 40. 2 سورة النور 43. 3 سورة التوبة 117. 4 يمصح: يدرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فكاد بمنزلة كرب في الإعمال والمعنى، قال الشاعر: أغثني غياثاً يا سليمان إنني ... سبقت إليك الموت، والموت كاربي خشية جورٍ من أميرٍ مسلطٍ ... ورهطي، وما عاداك مثل الأقارب! وقوله: "لما أوشكت أن تضلعا": يقول: لما قاربت ذلك، والوشيك القريب من الشيء والسريع إليه، يقال: يوشك فلان أن يفعل كذا وكذا، والماضي منه أوشك، ووقعت بأن وهو أجود، وبغير "أن" كما كان ذلك في" لعل"، تقول: لعل زيداً يقوم، فهذه الجيدة، قال الله عز وجل: {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} 1، و {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 2 و {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} 3 وقال تميم بن نويرة: لعلك يوماً أن تلم ملمةٌ ... عليك من الآئي يدعنك أجدعا وعسى، الأجود فيها أن تستعمل بأن، كقولك: عسى زيد أن يقوم، كما قال الله عز وجل: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} 4 وقال جل ثناؤه {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} 5 ويجوز طرح "أن "وليس بالوجه الجيد، قال هدبة: عسى الكر بالذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرجٌ قريب وقال آخر6: عسى الله يغني عن بلاد ابن قادرٍ ... بمنهمرٍ جون الرباب سكوب وحروف المقاربة لها باب قد ذكرناها فيه على مقاييسها في الكتاب المقتضب بغاية الاستقصاء.   1 سورة الأحزاب 63. 2 سورة طه 44. 3 سورة الطلاق 01 4 سورة المائدة 52. 5 سورة التوبة 102. 6 هو سماعة بن أشول النعامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقوله: "أن تضلعا"،معناه أن تمتلئ، وأصله أن الطعام والشراب يبلغان الأضلاع فيكظانها1،كذلك قال الأصمعي في قولهم: أكل حتى تضلع. وأما قول أبي وجزة: "راحت بستين وسقاً" فالوسق خمسة أقفزةٍ بملجم2 البصرة، وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" فما كان أقل من خمسة وعشرين قفيزاً بالقفيز الذي وصفنا، وهو نصف القفيز البغدادي في أرض الصدقة فلا صدقة فيه، وإنما أراد: أنه أخذ الكتاب بهذه الأوسق، فلذلك قال: ما إن رأيت قلوصاً قبلها حملت ... ستين وسقا ولا جابت به بلدا وأما قوله: يقرون ضيفهم الملوية الجددا فإنما أراد السياط، وجمع جديدٍ جددٌ، وكذلك باب "فعيل" الذي هو اسم، أو مضارع للاسم، نحو قضيب وقضيب، ورغيفٍ ورغفٍ، وكذلك سرير وسررٌ وجديدٌ وجددٌ، لأنه يجري مجرى الأسماء، وجريرٌ وجررٌ، فما كان من المضاعف جاز فيه خاصةً أن تبدل من ضمته فتحة لأن التضعيف مستثقلٌ، والفتحة أخف من الضمة، فيجوز أن يمال إليها استخفافاً، فيقال: جددٌ وسررٌ، ولا يجوز هذا في مثل قضيب لأنه ليس بمضاعفٍ، وقد قرأ بعض القراء: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} 3، ويقال للسوط: الأصبحي، ينسب إلى ذي أصبح الحميري، وكان أول من اتخذ هذه السياط التي يعاقب بها السلطان، ويقال له: العرفاص والقطيع. وقال الشماخ: تكاد تطير من رأي القطيع وقال الصلتان العبدي: أرى أمة شهرت سيفها ... وقد زيد في سوطها الأصبحي   1 من الكظة. 2 مكيال لأهل البصرة. 3 سورة الواقعة 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقال الراعي: أخذوا العريف فقطعوا حيزومه ... بالأصبحية قائما ًمغلولا وقال الراجز: حتى تردى طرف العرفاص وقوله: "ولا جابت به بلدا"، يقول: ولا قطعت به، يقال: جبت البلاد، وقال الله عز وجل: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 1. ويقال: رجل جواب جوالٌ. وأنشدني علي بن عبد الله، قال: أنشدني القحذمي: ما من أتت من دون مولده ... خمسون بالمغدور بالجهل فإذا مضت خمسون عن رجلٍ ... ترك الصبا ومشى على رسل وأمر مصعب بن الزبير رجلاً من بني أسد بن خزيمة بقتل مرة بن محكان السعدي، فقال مرة في ذلك: بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ... تميماً إذا الحرب العوان اشمعلت ولست وإن كانت إلي حبيبة ... بباكٍ على الدنيا إذا ما تولت قوله: "إذا الحرب العوان" فهي التي تكون بعد حربٍ قد كانت قبلها، وكذلك أصل العوان في المرأة إنما هي التي قد تزوجت، ثم عاودت فخرجت عن حد البكر، وقول الله عز وجل في كتابه العزيز: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} 2 هو تمام الكلام، ثم استأنف فقال: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} والفارض ههنا: المسنة، والبكر الصغيرة، ويقال: لهاةٌ فارضٌ أي واسعة، وفرض القوس موضع معقد الوتر، وكل حز فرضٌ، والفرضة متطرقٌ إلى النهر، قال الراجز: لها زجاجٌ ولهاة فارض وقوله" اشمعلت، إنما هو ثارت فأسرعت، قال الشماخ:   1 سورة القجر 9. 2 سورة البقرة 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 رب ابن عم لسيلمى مشمعل ... أروع في السفر وفي الحي غزل طباخ ساعات الكرى زاد الكسل وقوله: ولست وإن كانت إلي حبيبةٍ ... بباكٍ على الدنيا ........ إنما هو تفديم وتأخير، أراد: ولست بباكٍ على الدنيا وإن كانت إلي حبيبة. ولولا هذا التقدير لم يجز أن يضمر قبل الذكر، ومثله: إن تلق يوماً على علاته هرماً ... تلق السماحة منه والندى خلقا وكذلك قول حسان بن ثابت: قد ثكلت أمه من كنت واحدة ... أو كان منتسباً في برثن الأسد ويقول: من كنت واحده قد ثكلت أمه، وكذلك: شر يوميها وأخزاه لها ... ركبت هندٌ بحدجٍ جملا يقول: ركبت هند بحدج جملا في شر يوميها. وقال رجل من مزينة: خليلي بالبوباة عوجا فلا أرى ... بها منزلاً إلا جديب المقيد نذق برد نجدٍ بعد ما لعبت بنا ... تهامة في حمامها المتوقد قوله: "بالبوباة"، فهي المتسع من الأرض، وبعضهم يقول: هي الموماة بعينها، قلبت الميم باء لأنهما من ااشفة، ومثل ذلك كثير، يقولون: ما اسمك وبا اسمك? ويقولون: ضربة لازم ولازب، ويقولون: هذا ظأمي وظأبي، يعنون السلف، قال أبو الحسن: الجيد سلف، وما قال ليس بممتنع، ويقولون: زكبة سوءٍ وزكمة سوءٍ، أي ولد سوء ويقولون: عجم الذنب وعجب الذنب، ويقولون: رجل أخرم وأخرب، وهذا كثير. وقال عمر بن أبي ربيعة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 عوجا نحيي الطلل المحولا ... والربع من أسماء والمنزلا بجانب البوباة لم نعده ... تقادم العهد بأن يؤهلا وقوله: "إلا جديب المقيد"، يقال: بلد جدبٌ وجديبٌ، وخصب وخصيب، والأصل في النعت خصيبٌ ومخصبٌ، وجديبٌ ومجدب، والخصب والجدب إنما هما ما حل فيه، وقيل: خصيبٌ وأنت تريد مخصب، وجديبٌ وأنت تريد مجدبٌ، كقولك: عذاب أليم وأنت تريده مؤلم، قال ذو الرمة: ونرفع من صدور شمردلاتٍ ... يصك وجوهها وهج أليم ويقال: رجل سميع، أي مسمعٌ، قال عمرو بن معد يكرب: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع وأما قوله: "المقيد" فهو موضع التقييد: وكل مصدر زيدت الميم في أوله إذا جاوزت الفعل من ذوات الثلاثة فهو على وزن المفعول، وكذلك إذا أردت اسم الزمان واسم المكان، تقول: أدخلت زيداً مدخلاً كريماً. وسرحته مسرحاً حسناً، واستخرجت الشيء مستخرجاً، قال جرير: ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عياً بهن ولا اجتلابا أي تسريحي، وقال عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً} 1 ويقال: قمت مقاماً، واقمت مقاماً وقال عز وجل: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} 2 أي موضع، وقال الشاعر3: وما هي إلا في إزارة وعلقةٍ ... مغار ابن همام على حي خثعما يريد زمن إغارة ابن همام.   1 سورة المؤمنون 29. 2 سورة الفرقان 66. 3 في زيادات ر قبل هذا البيت: تطول القصار والطوال يطلنها ... فمن يرها لا ينسها ماتكلما وفيها نسبة البيتين إلى حميد ين ثور، وقد حقق العلامة المرصفى نسبتهما إلى الطماح بن عامر "وانظر رغبة الآمل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وأما قوله: "نذق برد نجدٍ"، فذاك لأن نجداً مرتفعة وتهامة غورٌ منخفض، فنجدٌ باردة. ويروى عن الأصمعي أنه قال: هجم علي شهر رمضان وأنا بمكة، فخرجت إلى الطائف لأصوم بها هرباً من حر مكة فلقيني أعرابي فقلت له: أين تريد? فقال: أريد هذا البلد المبارك لأصوم هذا الشهر المبارك فيه. فقلت له: أما تخاف الحر? فقال من الحر أفر. وهذا الكلام نظير كلام الربيع بن خثيم، فإن رجلاً قال له - وقد صلى ليلةً حتى اصبح - أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب: إن أفره العبيد أكيسهم. ونظير هذا الكلام قول روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب - ونظر إليه رجل واقفاً بباب المنصور في الشمس - فقال: قد طال وقوفك في الشمس! فقال روحٌ: ليطول وقوفي في الظل. ومثله من الشعر قوله: قال أبو الحسن: هو عروة بن الورد: تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف لعل الذي خوفتنا من ورائنا ... سيدركه من بعدنا المتخلف ويروى: "لسرنا". وقال آخر: سأطلب بعد الدار منكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا وهذا معنى كثير حسن جميل. وقال حبيب بن أوس الطائي: أآلفة النجب كم افتراقٍ ... أجد فكان داعية اجتماع وليست فرحة الأوبات إلا ... لموقوفٍ على ترح الوداع وقال رجل - واعتل في غربةٍ فتذكر أهله: لو أن سلمى أبصرت تخددي ... ودقةً في عظم ساقي ويدي وبعد أهلي وجفاء عودي ... عضت من الوجد بأطراف اليد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 قوله: "أبصرت تخددي"، يريد ما حدث في جسمه من النحول، وأصل الخد ما شققته في الأرض، قال الشماخ: فقلت لهم خدوا له برماحكم ... بطامسة الأعلام خفاقة الآل ويقال للشيخ: قد تخدد، يراد قد تشنج جلده، وقال الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} 1، وقيل في التفسير: هؤلاء قوم خدوا أخاديد في الأرض، وأشعلوا فيها نيراناً فحرقوا بها المؤمنين. وقوله: عضت من الوجد بأطراف اليد فإن الحزين، والمغيظ، والنادم والمتأسف يعض أطراف أصابعه جزعاً، قال الله عز وجل: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} 2. وفي مثل ما ذكرنا من تخدد لحم الشيخ، يقول القائل3: يا من لشيخ قد تخدد لحمه ... أفنى ثلاث عمائم ألوانا4 سوداء حالكةً وسحق مفوفٍ ... وأجد لوناً بعد ذاك هجانا صحب الزمان على اختلاف فنونه ... فأراه منه كراهةً وهوانا قصر الليالي خطوة فتدانى ... وحنون قائم صلبه فتحانى والموت يأتي بعد ذلك كله ... وكأنما يعنى بذاك سوانا قوله: أفنى ثلاث عمائم ألوانا   1 سورة البروج 4. 2 سورة آل عمران 119. 3 قوله في زيادات ر: ذهب الشباب فلا شباب جمانا ... وكأن ماقد كان لم يك كانا وطويت كفى ياجمان على العصا ... وكفى جمان بطيها حدثانا 4 زيادات ر: "الوانا: صفة لثلاث على المعنى، كأن قال: مختلفات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 يعني أن شعره كان أسود، ثم حدث فيه شيب مع السواد، فذلك قوله: مفوف، والتفويف: التنقيش، وإنما أخذ من الفوف، وهي النكتة البيضاء التي تحدث في أظفار الأحداث، وسميت بذلك لشبهها بشجرة يقال لها الفوفة وجمعها فوفٌ، والسحق: الخلق، يقال: عنده سحق ثوبٍ، وجرد ثوبٍ، وسمل ثوبٍ. وقوله: أجد أي أستجد لوناً، والهجان الأبيض، وهي العمامة الثالثة يعني حيث شمله الشيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 باب من أمثال العرب قال أبو العباس: من أمثال العرب: لم يذهب من مالك ما وعظك. يقول: إذا ذهب من مالك شيء، فحذرك أن يحل بك مثله، فتأديبه إياك عوضٌ من ذهابه. ومن أمثالهم: رب عجلةٍ تهب ريثا. وتأويله أن الرجل يعمل العمل فلا يحكمه للاستعجال به، فيحتاج إلى أن يعود فينقضه ثم يستأنف، والريث الإبطاء، وراث عليه أمره إذا تأخر. ومن أمثال العرب: عش ولا تغتر. وأصل ذلك أن يمر صاحب الإبل بالأرض المكلئة فيقول: أدع أن أعشي إبلي منها حتى أرد على أخرى، ولا يدري ما الذي يرد عليه. وقريب منه قولهم: "أن ترد الماء بماء أكيس". وتأويله أن يمر الرجل بالماء فلا يحمل منه أتكالاً على ماءٍ آخر يصير إليه، فيقال له: أن تحمل معك ماء أحزم لك، فإن أصبت ماء آخر لم يضرك فإن لم تحمل فخفقت من الماء عطيت. ومن أمثالهم: "قد أحزم لو أعزم"، يقول: أعرف وجه الحزم فإن عزمت فأمضيت الرأي فأنا حازمٌ، وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفعني حزمي، ومثله قول النابغة الجعدي: أبى لي البلاء وإني امرؤٌ ... إذا ما تبينت لم أرتب وقال أعرابي يمدح سوار بن عبد الله: وأوقف عند الأمر ما لم يضح له ... وأمضى إذا ما شك من كلام ماضيا فالذي يحمد إمضاء ما تبين رشده، فأما الإقدام على الغرر وركوب الأمر على الخطر فليس بمحمود عندي ذوي الألباب، وقد يتحسن بمثله الفتاك، كما قال1: عليكم بداري فاهدموها فإنها ... تراث كريم لا يخاف العواقبا   1 زيادات ر: "هو سعد بن ناشب المازنى، عن الرياشى وغيره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... وأعرض عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا فهذا شأن الفتاك، وقال الآخر: غلام إذا ما هم بالفتك لم يبل1 ... ألامت قليلاً أم كثيراً عواذله وقال آخر: وما العجز إلا أن تشاور عاجزاً ... وما الحزم إلا أن تهم فتفعلا فأما قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من أكثر الفكرة في العواقب لم يشجع، فتأويله أنه من فكر في ظفر قرنه به، وعلوه عليه لم يقدم، وإنما كان الحزم عند علي رضي الله عنه أن يحظر أمر الدين ثم لا يفكر في الموت. وقد قيل له: أتقتل أهل الشام بالغداة، وتظهر بالعشي في إزار ورداءٍ? فقال: أبالموت أخوف? والله ما أبالي أسقطت على الموت، أم سقط الموت علي. وقال للحسن ابنه: لا تبدأ بدعاءٍ إلى مبارزةٍ، فإن دعيت إليها فأجب، فإن طالبها باغٍ، والباغي مصروع. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلتف في كسائه، وينام ناحية المسجد، فلما ورد المرزبان2 عليه جعلوا يسألون عنه. فيقال: مر ههنا آنفاً، فيصغر في القلب المرزبان إذ رآه كبعض السوق، حتى انتهى إليه، وهو نائم في ناحية المسجد، فقال المرزبان: هذا والله الملك الهنيء. يقول: لا يحتاج إلى أحراس ولا عددٍ، فلما جلس عمر امتلأ قلب العلج منه هيبة لما رأى عنده من الجد والاجتهاد، وألبس من هيبة التقوى.   1 أصله "يبالي"، حذفت الياء للجازم. 2 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية "المرزبان". والصواب الهرمزان، وكان صاحب تستر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 للكلبي وقد سأله خالد القسري عن السؤدد وقال الكلبي: قال لي خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرزٍ القسري: ما تعدون السؤدد? فقلت: أما في الجاهلية فالرياسة، وأما في الإسلام فالولاية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وخيرٌ من ذا وذاك التقوى، فقال لي: صدقت كان أبي يقول: لم يدرك الأول الشرف إلا بالفعل، ولا يدركه الآخر إلا بما أدرك به الأول، قال: فقلت: صدق أبوك، ساد الأحنف بحلمه، وساد مالك بن مسمع بمحبة العشيرة له، وساد قتيبة بدهائه، وساد المهلب بجميع هذه الخلال، فقال لي: صدقت، كان أبي يقول: خير الناس للناس خيرهم لنفسه، وذلك أنه إذا كان كذلك اتقى على نفسه من السرق لئلا يقطع، ومن القتل لئلا يقاد، ومن الزنى لئلا يحد، فسلم الناس منه باتقائه على نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 نبذ من أقوال الحكماء قال أبو العباس: وكان عبد الله بن يزيد أبو خالد من عقلاء الرجال، قال له عبد الملك يوماً: ما مالك? فقال: شيئان لا عيلة علي معهما، الرضا من الله، والغنى عن الناس. فلما نهض من بين يديه قيل له: هلا خبرته بمقدار مالك? فقال: لم يعد أن يكون قليلاً فيحرقني، أو كثيراً فيحسدني وقال رسول الله صلى الله عليه سلم: "من سره أن يكون أعز الناس فليتق الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله". وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من سره الغنى بلا مال، والعز بلا سلطان، والكثرة بلا عشيرة، فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته، فإنه واجد ذلك كله". وخطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم فحمد الله بما هو أهله ثم أقبل على الناس، فقال: "أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، فإن العبد بين مخافتين: أجلٌ قد مضى لا يدري ما الله فاعل فيه، وأجلٌ باق لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة إلى الممات، فو الذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمرني ربي بتسع، الإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أعفو عمن ظلمني، وأصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبرة". حدثت أنه التقى حكيمان، فقال أحدهما للآخر: إني لأحبك في الله، فقال له الآخر: لو علمت مني ماأعلمه من نفسي لأبغضتني في الله. فقال له صاحبه: لو علمت من ما تعلمه من نفسك لكان لي فيما أعلمه من نفسي شغل. وكان مالك بن دينار يقول: جاهدوا أهوءاكم كما تجاهدون أعداءكم.وكان يقول: ما أشد فطام الكبير. وقيل لعمر بن عبد العزيز: أي الجهاد أفضل فقال: جهادك هواك. وكان الحسن يقول: حادثوا هذه القلوب، فإنها سريعة الدثور. واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. قوله: "حادثوا" مثل، ومعناه: اجلوا واشحذوا، تقول العرب: حادث فلان سيفه إذا جلاه وشحذه، وقال زيد الخيل: وقد علمت سلامة أن سيفي ... كريه كلما دعيت نزال أحادثه بصقل كل يوم ... وأعجمه بهامات الرجال قوله: "أعجمه بهامات الرجال": أي أعضه، يقال عجمه إذا عضه والدثور الدروس يقال: دثر الربع إذا مح1 ومعناه: تعهدوها بالفكر والذكر. وقوله: "فإنها طلعة"، يقول: كثيرة التشوف والتنزي إلى ما ليس لها. وأنشد الأصمعي: زلا تمليت2 من مال ولا عمر ... إلا بما سر3 نفس الحاسد الطلعه   1 محت الدار: عفت ودرست، وفي س: "امحى". 2 كذت في الأصل، بكسر التاء. وفي ر: بفتح التاء، وفي الزيادات: "الرواية الصحيحة بكسر التاء لاغير؛ لأنه يخاطب امرأة تقدم ذكرها في الشعر يدهو عليها". 3 ر، س: "ساء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قال: ويقال للجارية إذا كانت تبرز وجهها لتري حسنها ثم تخفيه لتوهم الحياء: خبأة طلعة. وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: أيها الناس إنما خلقتم للأبد: ولكنكم تنقلون من دار إلى دار. ويروي عن المسيح صلوات الله عليه وسلامه أنه كان يقول: إن احتجتم إلى الناس فكلوا قصداً وامشوا جانباً. ولما احتضر قيس بن عاصم قال لبنيه: يا بني، احفظوا عني ثلاثاً، فلا أحد أنصح لكم مني: إذا أنا مت فسودوا كباركم، ولا تسودوا صغاركم، فيحقر الناس كباركم، وتهنوا عليهم. وعليكم بحفظ المال فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم والمسألة فإنها أخر1 كسب الرجل.   1 ر: "أخر" بفتح الهمزة وكسر الخاء. وفي الزيادات: بقصر الهمزة لا غير، ومن رواه بالمد فقد أخطأ، ومعنى أخر أدنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 باب لرجل من الأعراب يرثي رجلاً منهم قال أبو العباس: أنشدت لرجل من الأعراب يرثي رجلاً منهم: فلو كان شيخاً قد لبسنا شبابه ... ولكنه لم يعد أن طر شاربه1 وقاك الردى من ود أن ابن عمه ... يرى مقتراً أو أنه ذل جانبه   1طر شاربه: طلع ونبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 لحسان يوصي امرأته وقال آخر لامرأته1: فاما هلكت فلا تنكحي ... ظلوم العشيرة حسادها يرى مجده ثلب أعراضها ... لديه، ويبغض من سادها   1 زيادات ر: "حسان بن ثابت"، والبيتان في ديوانه 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 لصخر بن حبناء يعاتب أخاه وقال آخر: قال أبو الحسن: هو ليزيد بن حبناء أو لصخر بن حبناء، يقول لأخيه: لحى الله أكبانا زناداً وشرنا ... وأيسرنا عن عرض والده ذبا رأيته لما نلت مالاً ومسنا ... زمان ترى في حد أنيابه شغبا جعلت لنا ذنباً لتمنع نائلاً ... فأمسك، ولا تجعل غناك لنا ذنباً قوله: "أكبانا زناداً"، الزناد التي تقدح بها النار، ويقال: أورى القادح إذا خرجت له النار، وأكبى إذا أخفق منها: هذا أصله يضرب للرجل الذي ينبعث الخير عن1 يديه، ويضرب الإكباء للذي يمتنع الخير على يديه، قال الأعشى: وزندك خير زناد الملو ... ك صادف منهن مرخ عفارا ولو بت تقدح في ظلمةٍ ... صفاة بنبع لأوريت نارا2   1 ر، س: "على يدية". 2 الصفاة: الصخرة الملساء. والنبع: لا نار له، يريد أنه موفق في كل أمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 والمرخ والعفار: شجر تسرع فيه النار، ومن أمثالهم: "في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار": واستمجد: استكثر، يقال: أمجدته سبا وأمجدته ذما، إذا أكثرت من ذلك، ومن أمثالهم: "أرخ يديك واسترخ، إن الزناد من مرخ". ويقال: رجل ذو شغب إذا كان يشغب على خصمه، ضربه مثلاً للزمان الذي يهر على أربابه، أي يمسهم بالفقر والجدب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 لعبد الله بن معاوية يعاتب صديقه وقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففاً ... فكشفه التمحيص حتى بدا ليا أأنت أخي ما لم تكن حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... بلوتك في الحاجات إلا تماديا فلست براء عيب ذي الود كله ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضيا فعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا قوله: "كان شيئاً ملففاً" يقول: كان أمراً مغطى. والتمحيص: الاختبار، يقال أدخلت الذهب في النار فمحصته أي خرج عنه ما لم يكن منه، وخلص الذهب، قال الله عز وجل: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} 1 ويقال: محص فلان من ذنوبه. وقوله: "أأنت أخي ما لم تكن لي حاجة" تقرير وليس باستفهام، ولكن معناه: أني قد بلوتك تظهر الإخاء فإذا بدت الحاجة لم أر من إخائك شيئاً وقال الله عز وجل: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2 إنما هو توبيخ وليس باستفهام. وهو رجل وعز العالم بأن عيسى لم يقله. وقد ذكرنا التقرير الواقع، بلفظ الاستفهام في موضعه من الكتاب "المقتضب "مستقصى، ونذكر منه جملة في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.   1 سورة آل عمران 141. 2 سورة المائدة 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 لعلي بن أبي طالب في الشجاع وقال علي بن أبي طالب رحمة الله: ثلاثة لايعرفون إلا في ثلاث، لا يعرف الشجاع إلا في الحرب، ولا الحليم إلا عند الغضب، ولا الصديق إلا عند الحاجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 لعبد الله بن معاوية يمدح وقال عبد الله بن معاوية1 أيضاٌ: أنى يكون أخاٌ أو ذا محافظة ... من كنت في غيبه مستشعراٌ وجلا إذا تغيب لم تبرح تظن به ... سوءاٌ وتسأل عما قال أو فعلا   1 زيادات ر: "ذكر دعبل في أخبار الشعراء أن هذا الشعر لعبد الله بن الزبير الأسدى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 لعبد الله بن الزبير الأسدي يمدح عمرو بن عثمان بن عفان وقال آخر1: سأشكر عمراٌ ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت   1 نسب هذه الأبيات أبو الفرج الأصفهانى إلى عبد الله بن الزبير الأسدى يقولها في عمرو بن عثمان بن عفان حينما أتاه فرأى تحت ثيابه ثوبا رثا، فدعا وكيله، قال: اقترض لنا مالا، فقال: هيهات مايعطينا التجار شيئا، قال: فأربحهم ماشاءوا فاقترض له أولا ثمانية آلاف درهم وثانيا عشرة آلاف، ووجه بها إليه مع تخت ثيابه، فقال فيه الأبيات. "الأغانى 23:13". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ما تمثل به علي بن أبي طالب من الشعر حينما رأى طلحة في القتلى وتمثل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في طلحة بن عبيد الله رحمه الله: فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر1 فتى لا يعد المال ربا ولاترى ... به جفوة إن نال مالاً ولا كبر فتى كان يعطي السيف في الروع حقه ... إذا ثوب الداعي، وتشفى به الجزر وهون وجدي أنني سوف أغتدي ... على إثره يوماً وإن نفس العمر قال أبو الحسن: بعضهم يقول هو للأبيرد الرياحي، وبعد البيت الثالث: فلا يبعدنك الله، إما تركتنا ... حميداً وأودى بعدك المجد والفخر   1 من أبيات لسلمة بن يزيد الجعفى، أحد الصحابة، يقولها في رثاء أخية قيس بن زيد؛ وقبله: ألم تعلمى أن لست ماعشت لاقيا ... أخى إذ أتى من دون أوصاله القبر وهون وجدي أنني سوف أغتدى ... على إثراه يوما وإن نفس الأمر "وانظر الإصابة 120:3". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 كلمة علي بن أبي طالب في طلحة حينما رآه مقتولا ً قال أبو العباس: وحدثني التوزي قال: حدثني محمد بن عباد بن حبيب بن المهلب -أحسبه عن ابيه- قال: لما انقضى يوم الجمل خرج علي بن أبي طالب رحه الله ذلك اليوم ومعه قنبرٌ بيده1 مشعلة من النار يتصفح القتلى حتى وقف على رجل - قال التوزي فقلت: أهو طلحة2? قال نعم - فلما وقف عليه قال: أعزز علي أبا محمد أن اراك معفراً تحت نجوم السماء وفي بطون الأودية! شفيت نفسي وقتلت معشري إلى الله أشكو عجري وبجري! قوله معفراً أي ملصق الوجه بالتراب، ويقال للتراب: العفر والعفر يقال: ما مشى على عفر التراب مثل فلان. وقوله: "إلى الله أشكو عجري وبجري"، يقول: ما أسر من أمري. قال الأصمعي: هو3 قول سائرٌ. في أمثال العرب: "لقي فلانٌ فلاناً فأبثه عجره وبجره".   1 ر: "وفى يده". 2 أبو محمد كنية طلحة بن عبيد الله التميمي، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى رمى يوم الجمل بسهم في ركبته، فمازال الدم يسيح حتى مات وذلك في جمادى الأولى سنة 36، "الإصابة 290:3". 3 ر، س: "وهو". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 مما قيل في الشباب والهرم وقال النمر بن تولب1: تدارك ما قبل الشباب وبعده ... حوادث أيام تمر وأغفل يسر الفتى طول السلامة والبقا ... فكيف يرى طول السلامة يفعل يرد الفتى اعتدال وصحةٍ ... بنوء إذا رام القيام ويحمل قصر "البقاء" ضرورة، وللشاعر إذا اضطر أن يقصر المدود، وليس له أن يمد المقصور، وذلك أن الممدود قبل آخره ألف زائدة، فإذا احتاج حذفها لأنها ألف زائدة، فإذا حذفها رد الشيء إلى أصله، ولو مد المقصور لكان زائداً في الشيء ما ليس منه، قال الشاعر وهو يزيد بن عمرو بن الصعق: فرغتم لتمرين السياط وأنتم ... يشن عليكم بالفنا كل مربع2 فقصر" الفناء" وهو ممدود. وقال الطرماح: وأخرج أمه لسواس سلمى ... لمعفور الضرا ضرم الجنين قوله: "وأخرج"، يعني رماداً، والأخرج الذي في لونه سواد وبياض، يقال: نعامة خرجاء. وقوله: "لسواس سلمى"، فإن أجأ وسلمى جبلاً طيئ، وسواس سلمى: الموضع الذي بحضرة سلمى، يقال: هذا من سواس فلان ومن توس فلان: أي من طبعه. وأمه: يعني الشجرة التي هي أصله. وقوله" لمعفور الضرا": فالضراء: ما واراك من شجرة خاصةً، والخمر ما واراك من شيء. والمعفور: يعني ما سقط من النار من الزند.   1 زيادات ر: "كل نمر في العرب كالنمر بن قاسط وغيره مكسور النون مجزوم الميم إلا النمر بن تولب. عن ابن دريد، قال أبو حاتم: يقال: النمر، بفتح النون وتسكين الميم، ولايقال: النمر، بفتح النون وكسر الميم". 2 قال المرصفى: "يهجونى بنى أسد، وتمرين السياط: دلكها وتليينها بالدهان، يرميهم بأنهم أذلاء لا يصقلون السيوف ولا يشحذون الأسنة ولا يبرون النبال. وكل مربع: يريد في كل موضع أقمتم فيه زمن الربيع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وقوله: "ضرم الجنين" يقول مشتعلٌ، والجنين: ما لم يظهر بعد، يقال للقبر جنن، والجنين: الذي في بطن أمه، والمجن: الترس لأنه يستر، والمجنون: المغطى العقل، وسمي الجن جناً لاختفائهم، وتسمى الدروع الجنن لأنها تستر من كان فيها. وقصر "الضراء" وهو ممدود، ومثل هذا كثير في الشعر جداً. وقوله: "ينوء إذا رام القيام"، يقول: ينهض في تثاقلٍ، قال الله عز وجل: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} 1 والمعنى أن العصبة تنوء بالمفاتح، ولشرح هذا موضع آخر. وقال آخر2: أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي ويروى عن رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كفى بالسلامة داء". وقال حميد بن ثور الهلالي: أرى بصري قد رابني بعد صحةٍ ... وحسبك داء أن تصح وتسلما ولا يلبث العصران يومٌ وليلةٌ ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما وقال أبو حية النميري: ألا حي من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا إذا ما تقاضى المرء يومٌ وليلةٌ ... تقاضاه شيءٌ لا يمل التقاضيا وقال بعض شعراء الجاهلية3: كانت قناتي لا تلين لغامر ... فألانها الإصباح والإمساء ودعوت ربي في السلامة جاهداً ... ليصحني، فإذا السلامة داء   1 سورة القصص 76. 2 زيادات ر: "العمر بن قميئة". وقبله: على الراحتين مرة وعلى العصا 3 البيتان في زهر الآداب 223، ونسبهما إلى عمرو بن قميئة، وهما في العقد الفريد 58:3، وعيون الأخبار 322:2 من غير عزو. ونسبهما المرصفى إلى عبد الرحمن بن سويد المرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وقال عنترة بن شداد: فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني ومن أمثال العرب إذا طال عمر الرجل أن يقولوا: "لقد أكل الدهر عليه وشرب"، إنما يريدون أنه أكل هو وشرب دهراً طويلاً، قال الجعدي: أكل الدهر عليهم وشرب1 والعرب تقول: نهارك صائم، وليلك قائم، أي أنت قائم في هذا وصائم في ذاك، كما قال الله عز وجل: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 2 والمعنى والله أعلم، بل مكركم في الليل والنهار، وقال جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت، وما ليل المطي بنائم   1 صدره كما في زيادات ر: كم رأينا من أناس هلكوا 2 سورة سبأ 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 للفرزدق يرثي ابني مسمع وقال الفرزدق: تبكي على المنتوف بكر بن وائلٍ ... وتنهى عن ابني مسمع من بكاهما! 1 غلامان شبا في الحروب وأدركا ... كرام المساعي قبل وصل لحاهما وابنا مسمع كان قتلهما معاوية بن يزيد بن الملهب مع عدي بن أرطاة2 لما أتاه خبر قتل أبيه، وكان ابنا مسمع ممن خالف على يزيد بن الملهب. والمنتوف كان   1 تبكى: تحمل الناس على البكاء. 2 عدى بن أرطأة الفزارى، والى البصرة ليزيد بن عبد الملك، وكان يزيد امره أن يتحرز من يزيد بن المهلب ويحبس أهله. وبلغ ابن المهلب ذلك، فلحق بالبصرة، وتغلب عليها، ودعا إلى نفسه، ويلغ يزيد بن عبد الملك، وقد اخرج أهله من السجن، وأسر اثنين وثلاثين رجلا، منهم عدى بن أرطاة وابنه محمد وابنا مسمع وربيع بن زياد الأزدى، ومال بهم إلى واسط، فوجه إليه يزيد أخاه مسلمة بجيش كثيف، فخرج له ابن المهلب، واستخلف ابنه معاوية على الخزائن والأسرى، فلما قتل أبيه ضرب أعناق الأسرى جميعا غير ربيع بن زياد، وكان ذلك سنة 132، "وانظر رغبة الآمل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 مولى لبني قيس بن ثعلبة بن عكابة. وابنا مسمع من بني قيس بن ثعلبة، وكان المنتوف كالخليفة ليزيد بن الملهب، وفي ذلك يقول جرير: والأزد قد جعلوا المنتوف قائدهم ... فقتلتهم جنود الله وانتتفوا وتمام شعر الفرزدق: ولو قتلا من جذم بكر بن وائل ... لكان على الناعي شديداً بكاهما1 ولو كان حياً مالكٌ وابن مالكٍ ... إذا أوقدا نارين يعلو سناهما2 السنا: ضوء النار، وهو مقصور، قال الله عز وجل: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 3 والسناء من الشرف، ممدود، قال حسان بن ثابت: وإنك خير عثمان بن عمرٍو ... وأسناها إذا ذكر السناء والبكاء يمد ويقصر، فمن مد فإنما جعله كسائر الأصوات، ولايكون المصدر في معنى الصوت مضموم الأول إلا ممدوداً، لأنه يكون على "فعالٍ" وقلما يكون المصدر على "فعلٍ"، وقد جاء في حروف: نحو: الهدى والسرى وما أشبهه، وهو يسير، فأما الممدود فنحو: العواء، والدعاء. والرغاء، والثغاء، فكذلك البكاء، ونظيره من الصحيح الصراخ والنباح، ومن قصر فإنما جعل البكاء كالحزن، وقد قال حسان، فقصر ومد: بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغنى البكاء ولا العويل!   1 الجذم: الأصل، قال المرصفى: "هذه رواية منكرة؛ لأنها تنفى نسبهما عن بكر بن وائل، ورواية ديوانه: ولو أصبحا من غير بكر بن وائل ... لكان على الجانى ثقيل دماهما 2 مالك أبو مسمع وابن مالك هو مسمع بن مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب البكرى. 3 سورة النور 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 لجرير يرثي ابنه سوادة وقال جرير: قالوا نصيبك من أجرٍ فقلت لهم ... كيف العزاء وقد فارقت أشبالي1   1 زيادات ر: "نصيبك" بالنصب لا غير؛ لأنه مفعول بإضمار فعل تقديره احفظ نصيبك، أو احرز نصيبك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 هذا سوادة يجلو مقلتي لحمٍ ... بازٍ يصرصر فوق المرقب العالي فارقته حين غض الدهر من بصري ... وحين صرت كعظم الرمة البالي قوله: "يجلو مقلتي لحم"، شبه مقلتيه بمقلتي البازي، ويقال: "طائر لحم" من هذا. وقوله: "يصرصر" يعني يصوت، يقال: صرصر البازي والصقر، وما كان من سباع الطير، ويقال: صرصر العصفور: وأحسبه مستعاراً. لأن الأصل فيه أن يستعمل في الجوارح من الطير، قال جرير: بازٍ يصرصر بالسهبى قطاً جونا 1 وقال آخر: كما صرصر العصفور في الرطب الثعد2 وأنشدني عمارة: "باز يصعصع" وهو أصح قال أبو الحسن: "يصعصع" وهو الصواب، ولكن هكذا وقع في كتابه. ويصرصر لايتعدى. قال أبو العباس: وقوله: "كعظم الرمة "فهي البالية الذاهبة، والرميم: مشتق من الرمة، وإنما هو فعيلٌ وفعلةٌ، وليس بجمع له واحد. ومما كفرت به الفقهاء الحجاج بن يوسف قوله: والناس يطوفون بقبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنبره وإن شئت قلت: "يطيفون"، قال أبو زيد: تقول العرب: طفت وأطفت به، ودرت وأدرت به، ويقال: حدق وأحدق: قال الأخطل: المنعمون بنو حربٍ وقد حدقت ... بي المنية واستبطأت أنصاري إنما يطوفون بأعوادٍ ورمةٍ. ومن أمثال العرب: "لولا أن تضيع الفتيان الذمة، لخبرتها بما تجد الإبل في الرمة".، يقول: لولا أن تدع الأحداث التمسك بالوفاء، والرعاية للحرمة لأعلمتها أن الإبل تتناول العظم البالي، وهو أقل الأشياء فتجد له لذة.   1 يصف الإبل وهي تسير في الفلوات والسهبى: موضع في بنى تميم. وقبله: كأن حاديها لما أضر بها 2 الثعد: وواحدته ثعدة، وهو ما لان من البسر وأرطب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ومثل بيت جرير الأخير قول أبي الشغب يرثي ابنه شغباً: قد كان شغبٌ لو ان الله عمره ... عزاً تزداد به في عزها مضر ليت الجبال تداعت قبل مصرعه ... دكاً فلم يبق من أحجارها حجر فارقت شغباً وقد قوست من كبرٍ ... بئس الحليفان: طول الحزن والكبر قوله: "قوست "يقول: انحنيت كالقوس، قال امرؤ القيس: أراهن لايحببن من قل ماله ... ولا من رأيت الشيب فيه، وقوسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 لسليمان بن قتة يرثي الحسين بن علي وقال سليمان بن قتة يرثي الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام: مررت على أبيات آل محمدٍ ... فلم أرها كعهدها يوم حلت فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت من أهلها قد تخلت وكانوا رجاءً ثم صاروا رزيةً ... فقد عظمت تلك الرزايا وجلت1 وإن قتيل الطف من آل هاشمٍ ... أذل رقاب المسلمين فذلت2 وعند غني قطرةٌ من دمائنا ... سنجزيهم يوماً بها حيث حلت3 إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها ... وتقتلنا قيسٌ إذا النعل زلت وسليمان بن قتة4 رجل من بني تميم بن مرة بن كعب بن لؤي، وكان منقطعاً إلى بني هاشمٍ   1 جاء هذا البيت في ر، س بعد البيت الذي يليه. 2 الطف: موضع قريب من الكوفة، قتل فيه الحسين عليه السلام. 3 غنى: قبيله في قيس. 4 هو سليمان بن قتة المحاربى التابعي، وقتة أمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 للفرزدق يرثي ابنيه وقال الفرزدق يرثي ابنيه: بفي الشامتين الترب أن كان مسني ... رزية شبلي مخدرٍ في الضراغم1 وما أحدٌ كان المنايا وراءه ... ولو عاش أياماً طوالا بسالم   1 المخدر في الأصل: الأسد الذي يلزم خدره، وهوهنا كناية عن نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أرى كل حي ما تزال طليعةً ... عليه المنايا من ثنايا المخارم يذكرني ابني السماكان موهناً ... إذا ارتفعا فوق النجوم العواتم1 وقد رزىء الأقوام قبلي بنيهم ... وإخوانهم، فاقني حياء الكرائم ومات أبي والمنذران كلاهما ... وعمرو بن كلثوم شهاب الأراقم وقد كان مات الأقرعان وحاجب ... وعمرو أبو عمرو، وقيس بن عاصم وقد مات بسطام بن قيس بن خالدٍ ... ومات أبو غسان شيخ اللهازم وقد مات خيراهم فلم يهلكاهم ... عشية بانا رهط كعب وحاتم فما ابناك إلا من بني الناس فاصبري ... فلن يرجع الموتى حنين المآتم قال: وأنشدني التوزي عن أبي زيد: "خنين المآتم "بالخاء معجمة2. قوله: "ما تزال طليعة "يريد طالعةً، والثنايا جمع ثنيةٍ، وهي الطريق في الجبل، من ذلك3: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني والمخارم: جمع مخرمٍ، وهو منقطع أنف الجبل. وقوله: "فوق النجوم العواتم"، يعني المتأخرة، يقال: فلان يأتينا ولا يعتم: أي لايتأخر، وعتمة اسم للوقت، فلذلك سميت الصلاة بذلك الوقت، وكل صلاة مضافة إلى وقتها، تقول: صلاة الغداة، وصلاة الظهر، وصلاة العصر. وما قولك: الصلاة الأولى، فالأولى نعت لها إذا كانت أول ما صلي، وقيل أول ما أظهر. وقوله: "فاقني حياء الكرائم" يقول: فالزمي، وأصل القنية المال اللازم، يقال: اقتنى فلان مالاً إذا اتخذ أصل مالٍ، وقيل في قول الله عز وجل: {وَأَنَّهُ   1 السماكان: كوكبان، احدهما الرامح، والثاني الأعزل. والموهن: نصف الليل. 2 زيادات ر: "الحنين"، بالخاء صوت من الخيشوم. 3 زيادات ر: هذا الشعر لسحيم بن وثيل الرياحي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} 1. أي جعل لهم أصل مال، وأنشد أبو عبيدة2: لو كان للدهر عز يطمئن به ... لكن للدهر صخر مال قنيان3 والكرائم: جمع كريمة، والاسم من "فعيلة" والنعت يجمعان على "فعائل"، فالاسم نحو: صحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن، والنعت نحو: عقيلة وعقائل، وكريمة وكرائم. وقوله: "ومات أبي "يريد التأسي بالأشراف. وأبوه غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع، وكان أبوه شريفاً، وأجداده إلى حيث إنتهوا، ولكل واحد منهم قصة يطول الكتاب بذكرها. والمنذران: المنذر بن المنذر بن ماء السماء اللخمي، يريد الابن والأب، وعمرو بن كلثوم التغلبي، قاتل عمرو بن هند، وكان أحد أشراف العرب وفتاكهم وشعرائهم. والأراقم: قبيلة من بني تغلب ابنة وائل، من بني جشم بن بكر. وزعم أهل العلم أنهم إنما سموا الأراقم لأن عيونهم شبهت بعيون الحيات، والأراقم: واحدها أرقم، فكانوا معروفين بهذا. قال الفرزدق يرد على جرير في هجائه له وللأخطل: إن الأراقم لن ينال قديمها ... كلب عوى متهتم الأسنان وجعله شهاباً لهم لنوره وبهائه وضيائه، تقول العرب: إنما فلان نجم أهله وكذلك قالت الخنساء: كأنه علم في رأسه نار والأقرعان: الأقرع بن حابس، وابنه الأقرع من بني مجاشع بن دارم، وكان الأقرع في صدر الإسلام سيد خندف4، وكان محله فيها محل عيينة بن حصن في قيس. وحاجب بن زرارة بن عدس سيد بني تميم في الجاهلية غير مدافع.   1 سورة النجم 48. 2 زيادات ر: "الشعر لأبى المثلم الهذلي يرثى صخرا". 3 رواية ديوان الهذليين 238:2: لو كان للدهر مال عند متلده 4 خندف: قبيلة سميت باسم ليلى بنت حلوان، وكانت زوجا لإلياس بن مضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وعمرو أبو عمرو، يريد عمرو بن عدس، وكان شريفاً، وكان ابنه عمرو شريفاً، قتل يوم جبلة1، قتلته بنو عامر بن صعصعة، وقتلوا لقيط بن زرارة وكان الذي ولي قتله عمارة الوهاب العبسي، وينسب إلى بني عامر، لأن بني عبس كانوا فيهم مع قيس بن زهير، وعمارة هذا كان يقال له: "دالق"2، وقتله شرحاف الضبي، ولذلك يقول الفرزدق: وهن بشرحاف تداركن دالقاً ... عمارة عبس بعدما جنح العصر وزعم أبو عبيدة أن فاطمة بنت الخرشب الأنمارية أريت في منامها قائلاً يقول: أعشرة هدرة أحب إليك أم ثلاثة كعشرة هدرة بالدال غير معجمة، قال أبو الحسن: هم السقاط من الناس فلم تقل شيئاً، فعادلها في الليلة الثانية فلم تقل شيئاً، ثم قصت ذلك على زوجها فقال: إن عاد لك الثالثة فقولي: ثلاثة كعشرة وزوجها زياد بن عبد الله بن ناشب العبسي، فلما عاد لها قالت: ثلاثة كعشرة، فولدتهم كلهم غاية، ولدت ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارس، وهي إحدى المنجبات من العرب. وأسرو حاجباً. فذلك حيث يقول جرير يعير الفرزدق ويعلمه فخر قيس عليه: تحضض يا ابن القين قيساً ليجعلوا ... لقومك يوما مثل يوم الأراقم كأنك لم تشهد لقيطاً وحاجبا ... وعمرو بن عمرو إذ دعوا: يال دارم ولم تشهد الجونين والشعب ذا الصفا ... وشدات قيس يوم دير الجماجم الجونان: معاوية وحسان ابنا الجون الكنديان، أسرا في ذلك اليوم، فقتل حسان، وفودي معاوية بسبب يطول ذكره. والشعب: شعب جبلة. وقوله: وشدات قيس يوم دير الجماجم   1 جبلة: موضع في نجد، ويوم جبلة من أعظم أيام العرب وأشدها لعامر وحلفائهم من بنى عبس على تميم وحلفائهم من ذبيان واسد. 2 سمى بذلك لكثرة غاراته، من دلق الغارة على عدوه إذا شنها عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 هذا في الإسلام، يعني وقعة الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي بدير الجماجم. وقوله1: وقد مات بسطام بن قيس بن خالد يعني الشيباني، وهو فارس بكر بن وائل وابن سيدها، وقتل بالحسن2 وهو جبل قتله عاصم بن خليفة الضبي، وكان عاصم بن خليفة أسلم في أيام عثمان رحمه الله، فكان يقف ببابه فيستأذن عليه، فيقول عاصم بن خليفة الضبي: قاتل بسطام بن قيس بالباب قال أبو الحسن: الوجه عندي في "بسطام" ألا ينصرف لأنه أعجمي وكان سبب قتله إياه أن بسطاماً أغار على بني ضبة، وكان معه حاز يحزو له قال أبو الحسن: " حاز" بالزاي أي زاجر فقال له بسطام: إني سمعت قائلاً يقول: الدلو تأتي الغرب المزله3 فقال الحازي: فهلا قلت: ثم تعود بادناً مبتله4 قال: ما قلت فاكتسح إبلهم، فتنادوا واتبعوه، ونظرت أم عاصم إليه، وهو يقع حديدة له أي يحدها، والميقعة: المطرقة فقالت له: ما تصنع بهذه وكان عاصم مضعوفاً5 فقال لها: أقتل بها بسطام بن قيس، فنهرته، وقالت: است أمك أضيق من ذلك فنظر إلى فرس لعمه موثقةٍ إلى شجرة   1 رجع إلى تفسير قول الفرزدق ص204. 2 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية، بالحسن، وهو جبل بالجيم، والصواب: حبل بالحاء. قال ابن سراج رحمة الله تعالى: الحسن والحسين: حبلا رمل". 3 الغرب هنا: الماء الذي يسيل من الدلو. والمزلة: موضع الزلل. 4 البادن في الأصل: الضخم البدن، يريد هنا أن الدلو تعود ممتلئة بالماء. 5 ر: "منقوصا". 6 تكمله من ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فاعروراها أي ركبها عرياً ثم أقبل بها كالريح، فنظر بسطام إلى الخيل قد لحقته، فجعل يطعن الإبل في أعجازها، فصاحت به بنو ضبة: يا بسطام، ما هذا السفه دعها، إما لنا وإما لك، وانحط عليه عاصم، فطعنه فرمى به على الألاءة وهي شجرة ليست بعظيمة، وكان بسطام نصرانياً، وكان مقتله بعد مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأراد أخوه الرجوع إلى القوم، فصاح به بسطام: أنا حنيف إن رجعت، ففي ذلك يقول ابن غنمة الضبي وكان في بني شيبان: فخر على الألاءه لم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل ولما قتل بسطام لم يبق في بكر بن وائل بيت إلا هجم أي هدم. وقوله: ومات أبو غسان شيخ اللهازم يعني مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب، أحد بني قيس بن ثعلبة، وإليه تنسب المسامعة. وكان سيد بكر بن وائل في الإسلام، وهو الذي قال لعبيد الله بن زياد بن ظبيان، أحد بني تيم اللآت بن ثعلبة وكان حين حدث أمر مسعود بن عمرو المعني من الأزد فلم يعلمه به، فقال له عبيد الله وهو أحد فتاك العرب، وهو قابل مصعب بن الزبير: أيكون مثل هذا الحدث ولا تعلمني به لهممت أن أضرم دارك عليك ناراً فقال له مالك: اسكت أبا مطر، فوالله إن في كنانتي سهم أنا أوثق به مني بك، فقال له عبيد الله: أو أنا في كنانتك فوالله لو قمت فيها لطلتها، ولو قعدت فيها لخرقتها، فقال له مالك وأعجبه ما سمع منه: أكثر الله في العشيرة مثلك قال: لقد سألت ربك شططاً! وفي مالك بن مسمع يقال: إذا ما خشينا من أمير ظلامة ... دعونا أبا غسان يوماً فعسكراً قوله: "وقد مات خيراهم"، تثنية كقولك: مات أحمراهم، ولم يخرج مخرج النعت، ألا ترى أنك تقول: هذا أحمر القوم إذا أردت: هذا الأحمر الذي للقوم، فإذا أردت الذي يفضلهم في باب الحمرة قلت: هذا أشدهم حمرة، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 تقل: هذا أحمرهم، وكذلك خيراهم، وإنما أردت هذا خيرهم ثم ثنيت، أي هذا الخير الذي هو فيهم. وقوله: "عشية بانا"، مردود على قوله: "خيراهم". وقوله: "رهط كعب وحاتم"، إنما خفضت "رهطاً" لأنه بدل من "هم" التي أضفت إليها "الخيرين" والتقدير: وقد مات خيراً رهط كعب وحاتم، فلم يهلكاهم عشية بانا. فأما كعب، فهو كعب بن مامة الإيادي، وكان وكان أحد أجواد العرب الذي آثر على نفسه، وكان مسافراً ورفيقه رجل من النمر بن قاسط فقل عليهما الماء فتصافناه والتصافن: أن يطرح في الإناء حجرٌ1 ثم يصب فيه من الماء ما يغمره لئلا يتغابنوا: وكذلك كل شيء وقف على كيله أو وزنه، والأصل ما ذكرنا فجعل النمري يشرب نصيبه، فإذا أخذ كعب نصيبه قال: اسق أخاك النمري، فيؤثره حتى جهد كعبٌ، ورفعت له أعلام الماء، فقيل له: رد كعب ولا ورود به، فمات عطشاً، ففي ذلك يقول أبو دؤاد الإيادي: أوفى على الماء كعبٌ ثم قيل له ... رد كعب إنك ورادٌ فما وردا فضرب به المثل، فقال جرير في كلمته التي مدح فيها عمر بن عبد العزيز: يعود الفضل منك على قريشٍ ... وتفرج عنهم الكرب الشدادا وقد أمنت وحشهم برفقٍ ... ويعيي الناس وحشك أن تصادا وتبني المجد يا عمر ابن ليلى ... وتكفي الممحل السنة الجمادا وتدعوا الله مجتهداً ليرضى ... وتذكر في رعيتك المعادا وما كعب ابن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا تعود صالح الأخلاق إني ... رأيت المرء يلزم ما استعادا هذا كعب ابن مامة الذي ذكرناه.   1 زيادات ر: "هذا الحجر الذي يقسم به الماء، يقال له المفلة، بفتح الميم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وأما ابن سعدى، فهو أوس بن حارثة بن لأم الطائي، وكان سيداً مقدماً، فوفد هو وحاتم بن عبد الله الطائي على عمرو ابن هند، وأبوه المنذر بن المنذر بن ماء السماء، فدعا أوساً فقال له: أأنت أفضل أم حاتم? فقال أبيت اللعن لو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداةٍ واحدةٍ. ثم دعا حاتماً فقال له: أنت أفضل أم أوسٌ? فقال أبيت اللعن إنما ذكرت بأوسٍ، ولأحد ولده أفضل مني. وكان النعمان بن المنذر دعا بحلة وعنده وفود العرب من كل حي فقال: احضروا في غد، فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم، فحضر القوم جميعاً إلا أوساً، فقيل له: لم تتخلف فقال إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء ألا أكون حاضراً، وإن كنت أنا المراد فسأطلب ويعرف مكاني. فلما جلس النعمان لم ير أوساً، فقال اذهبوا إلى أوس فقولوا له: احضر آمناً مما خفت، فحضر فألبس الحلة، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة، فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلاً في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا من عنده ثم قال: كيف الهجاء وما تنفك صالحةٌ ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني فقال لهم بشر بن أبي خازم، أحد بني أسد بن خزيمة: أنا أهجو لكم، فأخذ الإبل وفعل، فأغار أوس على الإبل فاكتسحتها، فجعل لا يستجير حياً إلا قال: قد أجرتك إلا من أوس. وكان في هجائه إياه قد ذكر أمه، فأتى به، فدخل أوس على أمه فقال: قد أتينا ببشرٍ الهاجي لك ولي، فما ترين فيه? فقالت له: أو تطيعني فيه? قال نعم، قالت: أرى أن ترد عليه ماله، وتعفو عنه وتحبوه، وافعل مثل ذلك، فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه. فخرج إليه فقال: إن أمي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا فقال: لا جرم والله لا مدحت أحداً حتى أموت غيرك. ففيه يقول: إلى أوس بن حارثة بن لأمٍ ... ليقضي حاجتي فيمن قضاها وما وطئ الثرى مثل ابن سعدى ... ولا لبس النعال ولا احتذاها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وأما حاتمٌ الذي ذكره الفرزدق، فهو حاتم بن عبد الله الطائي، جواد العرب، وقد كان الفرزدق صافن رجلاً من بني العنبر بن عمرو بن تميم إدواة1 في وقتٍ، فرامه العنبري وسلمه أن يؤثره وكان الفرزدق جوادا فلم تطب نفسه عن نفسه، فقال الفرزدق: فلما تصافنا الإداوة أجهشت ... إلي غضون العنبري الجراضم فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم على ساعةٍ لو أن في القوم حاتماً ... على جوده ضنت به نفس حاتم أما قوله: "أجهشت" فهو التسرع، وما تراه في فحواه من مقاربة الشيء، يقال: أجهش بالبكاء. والغضون: التكسر قي الجلد، والجراضم: الأحمر الممتلئ. وقوله: ليشرب ماء القوم بين الصرائم فهي جمع صريمةٍ، وهي الرملة التي تنقطع من معظم الرمل، وقوله: "صريمة "يريد مصرومة، والصرم: القطع، وأتشد الأصمعي: فبات يقول أصبح ليل حتى ... تجلى على صريمته الظلام يعني ثوراً، وصريمته: رملته التي هو فيها. وقال المفسرون في قول الله عز وجل: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} 2 قولين، قال قوم: كالليل المظلم، وقال قوم: كالنهار المضيء، أي بيضاء لا شيء فيها، فهو من الأضداد. ويقال: لك سواد الأرض وبياضها، أي عامرها وغامرها، فهذا ما يحتج به لأصحاب القول الأخير، ويحتج لأصحاب القول الأول في السواد بقول الله تبارك وتعالى: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} 3، وإنما سمي السواد سواداً لعمارته، وكل خضرةٍ عند العرب سواد، ويروى: على ساعةٍ لوأن في القوم حاتماً ... على جوده ما جاد بالماء حاتم جعل" حاتما" تبيناً للهاء في جوده، وهو الذي يسميه البصريون البدل، أراد: على جود حاتمٍ.   1 الإداوة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء، وجمعه أداوى. 2 سورة القلم 20. 3 سورة الأعلى 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 باب نبذ من أقوال الحكماء قال أبو العباس: كان يقال: إذا رغبت في المكارم فاجتنب المحارم. وكان يقال: أنعم الناس عيشاً من عاش غيره في عيشه. وقيل في المثل السائر: من كان في وطن فليوطن غيره وطنه، ليرتع في وطن غيره في غربته. قال: وأنتبه معاوية من رقدةٍ له، فأنبه عمرو بن العاص، فقال له عمرو: ما بقي من لذتك1? قال: عينٌ خرارة في أرض خوارة2، وعينٌ ساهرة لعينٌ نائمة، فما بقي من لذتك يا أبا عبد الله? قال: أن أبيت معرساً بعقيلة من عقائل العرب. ثم نبها وردان3، فقال له معاوية: ما بقي من لذتك? فقال: الإفضال على الإخوان، فقال له معاوية: اسكت، أنا4 أحق بها منك، قال5: قد أمكنك فافعل. ويروى أن عمراً لما سئل قال: أن أستتم بناء مدينتي بمصر، وأن وردان لما سئل قال: أن ألقى كريماً قادراً في عقب إحسانٍ كان مني إليه، وأن معاوية سئل عن الباقي من لذته فقال: محادثة الرجال. ويروى عن عبد الملك أنه قال: وقد سئل عن الباقي من لذته فقال: محادثة الإخوان في الليالي القمر6 على الكثبان العفر7. وقال سليمان بن عبد الملك: قد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وركبنا الفاره8، وأمتطينا العذراء، فلم يبق من لذتي إلا صديق أطرح بيني وبينه مؤونة التحفظ.   1 كذا في الأصل، س. وفي ر: "مابقى من لذتك يا أمير المؤمنين". 2 عين خرارة: جارية. خوارة: سهلة لينة. 3 وردان: مولى عمرو بن العاص. 4 ر: "فأنا". 5 ر: "فقال له". 6 قمر: جمع قمراء، وهي الليلة التي يغمرها ضوء القمر. 7 العفر: جمع أعفر، وهو اللون الأحمر. 8 الفاره: النشيط من الدواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وقال رجل لرجل من قريش: إني والله ما أمل الحديث، قال: أيمل العتيق1. وقال المهلب بن أبي صفرة: العيش كله في الجليس الممتع. وقال معاوية: الدنيا بحذافيرها الخفض والدعة. وقال يزيد بن المهلب: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا كله، قيل له: ولم أيها الأمير? قال: أكره عادة العجز. ويروى عن بعض الصالحين أنه قال: لو أنزل الله كتاباً أنه معذب رجلاً واحداً لخفت أن أكونه، أو أنه راحمٌ رجلاً واحداً لرجوت أن أكونه، أو أنه معذبي2 لا محالة ما ازددت إلا اجتهاداً لئلا أرجع على نفسي بلائمة.   1 ر، س:"إنما يمل العتيق"، والعتيق: القديم. 2 ر:"ولو علمت أنه معذبى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أدب عمر بن عبد العزيز ويروى أن عمر بن عبد العزيز كان يدخل إليه سالم مولى بني مخزوم وقالوا: بل زياد وكان عمر أراد شراءه وعتقه، فأعتقه مواليه، وكان عمر يسميه: أخي في الله، فكان إذا دخل وعمر في صدر مجلسه تنحى عن الصدر، فيقال له في ذلك فيقول: إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلاً فلا تأخذ عليه شرف المجلس. وهم السراج ليلة بأن يخمد، فوثب إليه رجاء بن حيوة ليصلحه، فأقسم عليه عمر فجلس، ثم قام عمر فأصلحه. فقال له رجاء: أتقوم يا أمير المؤمنين قال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا ترفعوني فوق قدري فتقول في ما قالت النصارى في المسيح، فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً". ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في مرضته التي مات فيها، فقال: ألا توصي يا أمير المؤمنين? قال: فيم أوصي? فوالله إن لي من مال، فقال: هذه مائة ألف فمر فيها بما أحببت، فقال: أو تقبل? قال: نعم، قال. ترد على من أخذت منه ظلماً. فبكى مسلمة ثم قال: يرحمك الله لقد ألنت منا قلوباً قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 بر علي بن الحسين بأمه وقيل لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمهم الله: إنك من أبر الناس بأمك ولسنا نراك تأكل مع أمك في صحفةٍ، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 لعمر بن ذر في ابنه وقيل لعمر بن ذر حيث نظر إلى تعزيه عن إبنه كيف كان بره بك? فقال: ما مشيت بنهارٍ قط إلا مشى خلفي، ولا بليلٍ إلا مشى أمامي، ولا رقي سطحاً وأنا تحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 لأبي المخش في ولده وقال أبو المخش: كانت لي إبنة تجلس معي على المائدة، فتبرز كفاً كأنها طلعة1، في ذراعٍ كأنها جمارة2، فلا تقع عينها على أكلة نفيسة إلا خصتني بها، فزوجتها، وصار يجلس معي على المائدة ابنٌ لي فيبرز كفاً كأنها كرنافة، في ذراعٍ كأنها كربة، فوالله إن تسبق عيني إلى لقمة طيبة إلاسبقت يده إليها. وقال الأصمعي: قيل لأبي المخش: أما كان لك ابنٌ? فقال: المخش، وما كان المخش? كان والله أشدق خرطمانياً إذا تكلم سال لعابه، كأنما ينظر من قلتين3، وكأن ترقوته بوان أو خالفة، وكأن مشاش منكبيه كركرة جمل، فقأ الله عيني هاتين إن كنت رأيت بهما أحسن منه قبله ولا بعده. قوله: "بوان أو خالفة" فهما عمودان من عمد البيت، البوان في مقدمه والخالفة في مؤخره. والكرنافة: طرف الكربة العريض الذي يتصل بالنخلة كأنه كتف.   1 الطلعة: واحدة الطلع، وهو نور النخلة. 2 الجمارة: شحمة النخلة. 3 مثنى قلت، وهو نقرة مستديرة في أرض صلبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 حدثني بهذا الحديث العباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي، وحدثني عمن حدثه قال: مر بنا أعرابي ينشد إبناً له، فقلنا: صفه، فقال: دنينير، قلنا لم نره، فلم نلبث أن جاء بجعل على عنقه، فقلنا: لو سألت عن هذا لأرشدناك، ما زال منذ اليوم بين أيدينا. وأنشد منشد، وأنشدني الرياشي أحد البيتين: نعم ضجيع الفتى إذا برد الليـ ... ـل سحيراً وقرقف الصرد1 زينها الله في الفؤاد كما ... زين في عين والدٍ ولد   1 قرقت، من القرقفة، وهي الرعدة. والصرد: الذي آلمه الصرد، وهو البرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 لأم ثواب الهزانية تصف عقوق ابنها وقالت أم ثواب الهزانية، من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، تعني ابنها: ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه ... أم الطعام ترى في ريشه زغبا1 حتى إذا آض كالفحال شذبه ... أباره ونفى عن متنه الكربا أنشا يخرق أثوابي ويضربني ... أبعد ستين عندي يبتغي الأدبا إني لأبصر في ترجيل لمته ... وخط لحيته في وجهه عجبا2 قالت له عرسه يوماً لتسمعني: ... رفقاً فإن لنا في أمنا أربا ولو رأتني في نارٍ مسعرة ... من الجحيم لزادت فوقها حطبا قوله: "أباره"، فهو الذي يصلحه، يقال: أبرت النخل وأبرته خفيفة، إذا لقحته.   1 الزغب: مايبدو من ريش الفرخ. 2 الترجيل: التسريح. واللمة: شعر الرأس الذي يلم بالممنكب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 خبر مالك بن العجلان مع أبي جبيلة ويرى أن مالك بن العجلان أو غيره من الأنصار كان يتحف أبا جبيلة الملك حيث نزل بهم بتمرٍ من نخلةٍ لهم شريفةٍ، فغاب يوماً، فقال أبو جبيلة: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 مالكاً كان يقوت علينا جنى هذه النخلة فجدوها، فجاء مالك وقد جدت فقال: من سعى على عذق1 الملك فجده، فأعلموه أن الملك أمر بذلك، فجاء حتى وقف عليه فقال: جددت جنى نخلتي ظالماً ... وكان الثمار لمن قد أبر فلما دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أطرفوه بهذا الحديث، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الثمر لمن أبر، إلا أن يشترطه المشتري". والفحال فحال النخل: ولا يقال لشيء من الفحول فحال غيره. وأنشدني المازني: يطفن بفحالٍ كأن ضبابه ... بطون الموالي يوم عيدٍ تغدت2 وضبابه: طلعه. وآض: عاد ورجع. وقولها: "شذبه" تقول: قطع عنه الكرب والعثاكيل3 وكل مشذب مقطوع ويقال للرجل الطويل النحيف: مشذب يشبه بالجذع المحذوف عنه الكرب وأصل التشذيب القطع وقال الفرزدق: عضت سيوف تميمٍ حين أغضبها ... رأس ابن عجلى فأضحى رأسه شذباً أراد: عضت سيوف تميم رأس ابن عجلى حين أغضبها. وابن عجلى: عبد الله بن خازم السلمي وأمه عجلى وكانت سوداء وهو أحد غرباء العرب في الإسلام.   1 العذق بالفتح: اسم النخل عند أهل الحجاز. 2 البيت في اللسان "ضبب-فحل" ونسبه للبطين التيمى. 3 العثاكيل: الشماريخ، واحده عثكول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 للمهلب وقد سئل من أشجع الناس? وسئل المهلب من أشجع الناس فقال: عباد بن حصين، وعمر بن عبيد الله بن معمر، والمغيرة بن المهلب فقيل. فأين ابن الزبير وابن خازم وعمير بن الح باب فقال: إنما سئلت عن الإنس ولم أسأل عن الجن!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 باب من كلام عائشة روى شعبة عن واقد بن محمد، عن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد قال: قالت عائشة رضي الله عنها: من أرضى الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن أرضى الناس بإسخاط الله وكله الله إلى الناس ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 بين الحسن بن زيد والي المدينة وابن هرمة ويروى أن الحسن بن زيد1 لما ولي المدينة قال لابن هرمة2: إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك أو خوف ذمك قد أفادني الله بولادة نبيه الممادح، وجنبني المقابح وإن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حقه وأنا أقسم بالله، لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدين: حدا للخمر، وحدا للسكر وأزيدن، لموضع حرمتك بي. فليكن تركها لله تعن عليه ولا تدعها للناس فتوكل إليهم. فنهض ابن هرمة وهو يقول: نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدبني بآداب الكرام وقال لي اصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام وكيف تصبري عنها وحبي ... لها حب تمكن من عظامي أرى طيب الحلال علي خبثاً ... وطيب النفس في خبث الحرام   1 هو الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن ابي طالب، ولى المدينة لأبى جعفر المنصور سنة 150. 2 هو إبراهيم بن هرمة من متقدمى الشعراء ممن أدرك الدولتين: الهاشمية والأموية "وانظر ترجمته ومراجعها في الشعر والشعراء 729-731" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 من كلام مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي وقال الحسن لمطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي: يا مطرف، عظ أصحابك فقال مطرف: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل. فقال الحسن: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول لود الشيطان أنه ظفر بهذه منكم فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه عن منكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وقال مطرف بن عبد الله لابنه: يا عبد الله، العلم أفضل من العمل، والحسنة بين السيئتين وشر السير الحقحقة. قوله: "الحسنة بين السيئتين"، يقول: الحق بين فعل المقصر والغالي. ومن كلامهم: خير الأمور أوسطها. قوله: "وشر السير الحقحقة" وهو أن يستفرغ المسافر جهد ظهره فيقطعه، فيهلك ظهره، ولا يبلغ حاجته. يقال: حقحق السير إذا فعل ذلك. وقال الراجز: وأنبت فعل1 السائر المحقحق وحدثت أن الحسن نفى سابق الحاج وقد أسرع، فجعل يومىء إليه بإصبعه فعل الغازلة وهو يقول: "خرقاء وجدت صوفاً". وهذا مثل من أمثال العرب يضربونه للرجل الأحمق الذي يجد مالاً كثيراً فيعيث فيه وشبيه بهذا المثل قوله: "عبد وخلى2 في يديه". ويروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهراً أبقى". قوله: "متين"، المتين الشديد، قال الله عز وجل: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} 3. وقوله: "فأوغل فيه برفق"، يقول: ادخل فيه، هذا أصل الوغول، ويقال مشتقاً من هذا الرجل الذي يأتي شراب القوم من غير أن يدعى إليه: واغل، ومعناه أنه وغل في القوم وليس منهم، قال امرؤ القيس: حلت لي الخمر وكنت امرأ ... عن شربها في شغل شاغل فاليوم أسقى غير مستحقب4 ... إثماً من الله ولا واغل   1 زيادات ر: "فعل" بالنصب الرواية الصحيحة، لأنه مصدر معنى". 2 الخلى: الرطب من الحشيش. 3 سورة الأعراف 183. 4 المستحقب: الذي يحمل الشيء في الحقيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 والمنبت: مثل المحقحق، واشتقاقه من الانقطاع، يقال: انبت فلان من فلان أي انقطع منه، وبت الله ما بينهم، أي قطع، قال محمد بن نمير: تواعد للبين الخليط لينبتوا ... وقالوا لراعي الذود: موعدك السبت وفي النفس حاجات إليهم كثيرة ... وموعدها في السبت لو قد دنا الوقت1 ويروى: ألا قرب الحي الجمال لينبتوا وحدثت أن ابن السماك كان يقول: إذا فعلت الحسنة فافرح بها واستقللها فإنك إذا استقللتها زدت عليها، وإذا فرحت بها عدت إليها. ويروى عن أويسٍ القرني أنه قال: إن حقوق الله لم تترك عند مسلم درهماًٍ.   1 روي الأخفش البيت الأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 يزيد بن هبيرة ينصح المنصور ودخل يزيد بن عمر بن هبيرة على أمير المؤمنين المنصور فقال: يا أمير المؤمنين، توسع توسعاً قرشياً، ولا تضق ضيقاً حجازياً. ويروى أنه دخل عليه يوماً فقال له المنصور: حدثنا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن سلطانكم حديث، وإمارتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوة عدلها، وجنبوهم مرارة جورها. فوالله ياأمير المؤمنين لقد محضت لك النصيحة. ثم نهض معه سبعمائة من قيس، فأتأره المنصور بصره، ثم قال: لا يعز ملك يكون فيه مثل هذا. قوله: "محضت لك النصيحة" يقول: أخلصت لك، وأصل هذا من اللبن، والمحض منه: الخالص الذي لا يشوبه شيء، وأنشد الأصمعي: امتحضا وسقياني ضيحا ... وقد كفيت صاحبي الميحا1   1 رواية اللسان عن شمر: "محضر" "إني كفيت" وفي زيادات ر: "الميح: طلب الشىء هاهنا وهاهنا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ويقال: حسب محض. وقوله: "أتاره بصره" يقول: أتبعه بصره، وحدد إليه النظر، وأنشد الأصمعي: مازلت أرمقهم والآل يرفعهم ... حتى اسمدر بطرف العين إتآري1   1 زيادات ر: "وهو للكميت بن زيد". والبيت في اللسان "تأر" غير منسوب. واسمدر: لم يكد يبصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 لأسماء بن خارجة في كرم الخلق ويروى عن أسماء بن خارجة أنه قال: لا أشاتم رجلاً، ولا أرد سائلاً، فإنما هو كريم أسد خلته، أو لئيم أشتري عرضي منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 للأحنف بن قيس ويروى عن الأحنف بن قيس أنه قال: وما شاتمت رجلاً، ولا زحمت ركبتاي ركبتيه، وإذا لم أصل مجتدي حتى ينتح جبينه عرقاً كما ينتح الحميت، فو الله ما وصلته. قوله: "مجتدي" يريد الذي يأتيه يطلب فضله، يقال: اجتده يجتديه، واعتفاه يعتفيه، واعتراه يعتريه، واعتره يعتره، وعراه يعروه: إذا قصده يتعرض لنائله. وأصل ذلك مأخوذ من الجدا مقصور، وهو المطر العام النافع، يقال: أصابتنا مطرة كانت جداً على الأرض، فهذا الاسم، فإذا أردت المصدر، قلت: فلان كثير الجداء، ممدودة، كما تقول: كثير الغناء عنك، ممدودة، هذا المصدر، فإذا أردت الاسم الذي هو خلاف الفقر قلت: الغنى بكسر أوله وقصرت. قال خفاف بن ندبة يمدح أ با ب كر الصديق رضي الله عنه: ليس لشيء غير تقوى جداء ... وكل شيء عمره للفناء إن أبا بكر هو الغيث إذ ... لم تشمل الأرض سحاب بماء تالله لا يدرك أيامه ... ذو طرةٍ حاف ولا ذو حذاء من يسع كي يدرك أيامه ... يجتهد الشد بأرضٍ فضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وهذا من طريف الشعر لأنه ممدود فهو بالمد الذي فيه من عروض السريع الأولى، وبيته في العروض: أزمان سلمى لا يرى مثلها الرا ... ؤون في شام ولا في عراق ثم نرجع إلى تأويل قول الأحنف. قوله: "حتى ينتح جبينه عرقاً"، فهو مثل الرشح. وحدثني أبو عثمان المازني في إسناد له ذكره قال: قال رؤبة بن العجاج: خرجت مع أبي نريد سليمان بن عبد الملك، فلما صرنا في الطريق أهدي لنا جنب من لحم عليه كرافىء الشحم، وخريطة من كمأة، ووطب من لبن، فطبخنا هذا بهذا، فما زالت ذفرياي1 تنتحان منه إلى أن رجعت. وقوله: "الحميت"، فالحميت والزق، اسمان له، وإذا زفت أو كان مربوباً الوطب، وإذا لم يكن مربوباً ولا مزفتاً فهو سقاء ونحي، والوطب يكون للبن والسمن، والسقاء يكون للبن والماء. قالت هند بنت عتبة لأبي سفيان بن حرب لما رجع مسلماً من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة في ليلة الفتح، فصاح: يامعشر قريش، ألا إني قد أسلمت فأسلموا، فإن محمداً قد أتاكم بما لا قبل لكم به فأخذت هند برأسه، وقالت: بئس طليعة القوم أنت والله ما خدشت خدشاً، يا أهل مكة، عليكم الحميت الدسم فاقتلوه. وأما قول رؤبة: "كرافىء الشحم"، يريد طبقات الشحم. وأصل ذلك في السحاب إذا ركب بعضه بعضاً، يقال له: كرفئ، والجميع كرافىء. قال أبو الحسن الأخفش: واحد الكرافىء كرفئة، وهاء التأنيث إذا جمعت جمع التكسير حذفت لأنها زائدة بمنزلة اسم ضم إلى اسم وأحسب أن أبا العباس لم يسمع الواحد من هذا فقاسه، والعرب تجترىء على حذف هاء التأنيث إذا احتاجت إلى ذلك، وليس هذا موضع حاجة إذا كانت قد استعملت الواحدة بالهاء، ونظير هذا قولهم: ما في السماء كرفئة، وما في السماء قذعملة وقذعميلة، وما في السماء طحربة وطحربة، وما في السماء قر طعبة، وما في السماء كنهورة، وهي القطعة من السحاب العظيمة كالجبل وما أشبه.   1 الذفرى: العظم الشاخص خلف الأذن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 باب لحسان بن ثابت يهجو مسافع بن عياض التيمي قال أبو العباس: قال حسان بن ثابت يهجو مسافع1 بن عياض التيمي، من تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، رهط أبي بكر الصديق رحمه الله: لو كنت من هاشم أو من بني أسدٍ ... أو عبد شمس أو اصحاب اللوا الصيد أو من بني نوفل أو رهط مطلبٍ ... لله درك لم تهمم بتهديدي أو في الذؤابة من قوم ذوي حسبٍ ... لم تصبح اليوم نكساً ثاني الجيد أومن بني زهرة الأخيار قد علموا ... أومن بني جمح البيض المناجيد أو في السرارة من تيم رضيت بهم ... أو من بني خلف الخضر الجلاعيد يا آل تيم ألاينهى سفيهكم ... قبل القذاف بقول كالجلاميد لولا الرسول فإني لست عاصية ... حتى يغيبني في الرمس ملحودي وصاحب الغار إني سوف أحفظك ... وطلحة بن عبد الله ذو الجود لقد رميت بها شنعاء فاضحة ... يظل منها صحيح القوم كالمودي قوله: "لو كنت من هاشم" يريد هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، والنضر أبو قريش، ومن كان من بني كنانة لم يلده النضر فليس بقرشي. وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي. وعبد شمس هو عبد شمس2، بن عبد مناف بن قصي. وأصحاب اللواء بنو عبد الدار بن قصي. واللواء ممدود إذا أردت به لواء الأمير، ولكنه احتاج إليه فقصره، وقد بينا جواز ذلك، فأما اللوى من الرمل فمقصور، قال امرؤ القيس: بسقط اللوى بين الدخول وحومل كذا يرويه الأصمعي، وهذه أصح الروايات3.   1 ذكره ابن حجر في الإصابة "86:6"، وقال: "لا أعرف له صحبة ولا أعرف له رواية". 2 مابين العلامتين ساقط من ر. 3 أي رواية "وحوامل" بالواو. ورواية المفضل: "فحومل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وقوله: "أو من بني نوفل" فهو نوفل بن عبد مناف بن قصي. والمطلب الذي ذكره هو ابن عبد مناف بن قصي. وقوله: "لم تصبح اليوم نكساً"، فالنكس الدنيء المقصر. ويقول بعضهم: إن أصل ذلك في السهام، وذلك أن السهم إذا ارتدع1 أو نالته أفة نكس في الكنانة ليعرف من غيره قال الحطيئة: قد ناضلوك فأبدوا من كنانتهم مجداً تليداً ونبلا غير أنكاس قوله: "مجداً تليداً"، قالوا: نواصي الفرسان"2 الذين كان يمن عليهم. وقوله: "ثاني الجيد" قد مر تفسيره في قول الله عز وجل: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3 وقوله: "أو من بني زهرة"، فهو زهرة بن كلاب بن مرة. ويروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "خلقت من خير حيين: من هاشم وزهرة" وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. وقوله: "الناجيد" مفاعيل، من النجدة، والواحدة منجاد، وإنما يقال ذلك في تكثير الفعل، كما تقول: رجل مطعان بالرمح، ومطعام للطعام. وقوله: أو في السرارة من تيم رضيت بهم يقول: في الصميم منهم والموضع المرضي، وأصل ذلك في التربة، تقول العرب: إذا غرست فاغرس في سرارة الوادي، ويقال: فلان في سر قومه، والسرة مثل ذلك، قال القرشي: هلا سألت عن الذين تبطحوا ... كرم البطاح وخير سرة واد4   1 السهم المرتدع: هو ما أصاب الهدف وانكسر عوده. 2 نواصي الفرسان: يريد شعور النواصى، وقد كانت العرب إذا أسروا أسير خيروه بين جزء الناصية والأسر، فإن اختار الجز جزوها، وخلوا سبيله. 3 سورة الحج 9. 4 تبطحو: سكنو بطاح مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وعن الذين أبو فلم يستكرهوا ... أن ينزلوا الولجات من أجياد1 يخبرك أهل العلم أن بيوتنا ... منها بخير مضارب الأوتاد وقوله: "أو من بني خلف الخضر"، فإنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وليس بالوجه، وإنما يحذف من الحرف لالتقاء الساكنين حروف المد واللين، وهي الألف، والياء المكسور ما قبلها، والواو المضموم ما قبلها، نحو قولك: هذا قفا الرجل، وقاضي الرجل، ويغزو القوم، فلأما التنوين فجاز فيه هذا. لأنه نون في اللفظ، والنون تدغم في الياء والواو، وتزاد كما تزاد حروف المد واللين، ويبدل بعضها من بعض، فتقول: رأيت زيداٌ فتبدل الألف من التنوين، وتقول في النسب إلى صنعاء وبهراء2 صنعاني وبهراني، فتبدل النون من ألف التأنيت، وهذه جملة وتفسيرها كثير، فلذلك حذف، ومثل هذا من الشعر: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف وقال آخر3: حميد الذي أمجٌ داره ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع4 وقرأ بعض القراء: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} وسمعت عمارة بن عقيل يقرأ: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 5، فقلت: ما تريد ? فقال: "سابقٌ النهار". وقوله: "أواصحاب اللوا"، فإنما6 خفف الهمزة،   1 والوجات: جمع ولجة، وهي الكهف، وأجياد: موضع بمكة مما يلي الصفا. 2 صنعاء: عاصمة اليمن، وبهراء: قبيلة بها. 3 نسبه الشريف المرتضى "269:2" إلى ابن الزبعري: ورواينه: عمرو العلا هشم الثريد لقومه وبعده: وهو الذي سن الرحيل لقومه ... رحل الشتاء ورحلة الأصياف 4 هوحميد الأمجى، منسوب إلى أمج: بلد من أعراض المدينة، من أبيات ذكرها ياقوت في معجم البلدان "أمج"، وهي: شربت المدام فلم أقلع ... وعوتبت فيها فلم أسمع حميد الذي أمج دراه ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع علاه المشيب على حبها ... وكان كريما فلم ينزع 5 سورة يس 40. 6 كلمة: "فإنما" ساقطة من ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وتخفف إذا كان قبلها ساكنٌ، فتطرح حركتها على الساكن وتحذف، كقولك: من أبوك? وقوله عز وجل: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1. وخلف الذي ذكره من بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. وقوله: "الخضر الجلاعيد" يقال: فيه قولان: أحدهما أنه يريد سواد جلودهم2، كما قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهبٍ: وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب فهذا هو القول الأول. وقال آخرون: شبههم في جودهم بالبحور. وقوله: "الجلاعيد"، يريد الشداد الصلاب، واحدهم جلعدٌ، وزاد الياء للحاجة، وهذا جمعٌ يجيء كثيراً، وذلك أنه موضع تلزمه الكسرة، فتشبع فتصير ياءً، يقال في خاتم: خواتيم، وفي دانقٍ دوانيق، وفي طابق طوابيق قال الفرزدق في مثل هذا الجمع: تنفي يداها الحصى في كل هاجرةٍ ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف3 وقوله: "قبل القذاف" يريد المقاذفة، وهذه تكون من اثنين فما فوقهما، نحو المقاتلة والمشاتمة، فباب "فاعلت" إنما هو للاثنين فصاعداً، نحو قاتلت وضاربت، وقد تكون الألف زائدة في فاعلت فتبنى للواحد، كما زيدت الهمزة أولاٌ في "أفعلت "فتكون للواحد، نحو عاقبت اللص، وعافاه الله، وطارقت نعلي. وقوله: "وصاحب الغار"، يعني أبا بكر رحمه الله، لمصاحبته النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار، وهذا مشهور لايحتاج إلى تفسيره. وطلحة بن عبيد الله نسبه إلى الجود لأنه كان من أجود قريش. وحدثني التوزي قال: كان يقال لطلحة بن عبيد الله: طلحة الطلحات، وطلحة الخير، وطلحة الجود. وذكر التوزي عن الأصمعي أنه باع ضيعةٌ له بخمسة عشر ألف   1 سورة النمل 25. 2 قال المرصفى: "وذلك أن العرب تسمى الأسود أخضر، والأخضر أسود، لما أن الخضرة إذا اشتدت تقارب السواد، والمراد من سود الجلمود لون السمرة لا السواد الحالك". 3 تنقاد الصياريف، أي تمييز الصياريف للدراهيم، لتخرج الزائف منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 درهم، فقسمها في الأطباق1. وفي بعض الحديث أنه منعه أن يخرج إلى المسجد أن له بين ثوبين2. وحدثني العتبي في إسناد ذكره قال: دعا طلحة بن عبيد الله أبا بكر وعمر وعثمان رحمة الله عليهم، فأبطأ عنه الغلام بشيء أراده، فقال طلحة: يا غلام، فقال الغلام: لبيك فقال طلحة: لا لبيك فقال أبو بكر: ما يسرني أني قلتها وأن لي الدنيا وما فيها. وقال عمر: ما يسرني أني قلتها ولي نصف الدنيا. قال عثمان: ما يسرني أني قلتها وأن لي حمر النعم قال: وصمت عليها أبو محمد، فلما خرجوا من عنده باع ضيعةً بخمسة عش ألف درهم، فتصدق بثمنها. وقوله: يظل منها صحيح القوم كالمودي فالمودي في هذا الموضع الهالك، وللمودي موضع آخر يكون فيه القوي الجاد، حدثني بذلك التوزي في كتاب الأضداد، وأنشدني3: مودون السبيل السابلا4   1 الأطباق: جمع طبق: وهو الجماعة من الناس. 2 التلفيق: ضم أحد الثوبين إلى الاخر، قال المرصفى: "وكأنه كره الحضور بهما إلى المسجد خةف الشهرة". 3 البيت لرؤبة، وروايته في ديوانه 122: مودين يحمون السبيل السابلا وبعده: تعدو العرضنى خيلهم عراجلا 4 زيادات ر: "المؤدى" بالهمز: التام الأداة والسلاح، وبغير الهمزة: الهالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 لرجل من العرب يرثي وقال رجل من العرب: خليلي عوجا بارك الله فيكما ... على قبر أهبان سقته الرواعد فذاك الفتى كل الفتى كان بينه ... وبين المزجى نفنف متباعد إذا نازع القوم الأحاديث لم يكن ... عيياٌ ولا عبئاٌ على من يقاعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 قوله: "على قبر أهبان" فهذا اسم علم كزيد وعمرو، واشتقاقه من وهب يهب، وهمز الواو لانضمامها، كقوله عز وجل: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} 1 فهو" فعلت"، من الوقت. وقد مضى همز الواو إذا انضمت. وهو لاينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة، وكل شيء ينصرف فصرفه في الشعر جائز، لأن أصله كان الصرف، فلما احتيج إليه رد إلى أصله، فهذا قول البصريين. وزعم قوم أن كل شيء لاينصرف فصرفه في الشعر جائز، إلا" أفعل" الذي معه" منك"، نحو: أفضل منك، وأكرم منك. وزعم الخليل وعليه أصحابه أن هذا إذا كانت معه" منك" بمنزلة" أحمر" لأنه إنما كمل أن يكون نعتاٌ" منك"، وأحمر لا يحتاج إليها، مع" منك" بمنزلة" أحمر" وحده، قال: والدليل على أن" منك" ليست بمانعته من الصرف أنه زال عن بناء" أفعل" انصرف، نحو قولك: مررت بخير منك، وشر منك، فلو كانت" منك" هي المانعة لمنعت هنا، فهذا قول بين جداٌ. وقوله: " المزجى"، فهو الضعيف: يقال: زجى فلان حاجتي: أي خف عليه تعجيلها، والمزجاة من البضائع: اليسيرة الخفيفة المحمل. والنفنف وجمعها النفانف: كل ما كان بين شيئين عالٍ ومنخفض، قال ذو الرمة: "في نفنف يتطوح. "2 وقوله: "ولا عبئاٌ على من يقاعد"، فالعبء: الثقل، يقال حمل عبئاٌ ثقيلاٌ، ووكده بقوله:" ثقيلاٌ"، ولو لم يقله لم يحتج إليه.   1 سورة المرسلات 11. 2 البيت بتمامة: ترى قرطها في واضح الليت مشرفا ... على هالك في نفنف يتطوح وانظر ديوانه 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 لرجل يذكر ابنه وقال آخر يذكر ابنه: ألايا سمية شبي الوقودا ... لعل الليالي تؤدي يزيدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فنفسي فداؤك من غائب ... إذا ما المسارح كانت جليدا كفاني الذي كنت أسعى له ... فصار أباٌ لي وصرت الوليدا قوله: " شبي"، يقال: شببت النار والحرب إذا أوقدتهما، يقال: شب يشب شباٌ، قال الأعشى: تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق وقوله: ذا ما المسارح كانت جليدا فالمسارح الطرق التي يسرحون فيها، واحدها مسرح، والجليد يقع من السماء، وهو ندى فيه جمود، فتبيض له الأرض، وهو دون الثلج، يقال له: الجليد، والضريب، والسقيط، والصقيع. وقالو في قوله: رجلا عقاب يوم دجن تضرب أي يصيبها الضريب. وقوله: " وصرت1 الوليد"،الوليد2: الصغير، وجمعه ولدان، وهو في القرآن3. ونظير وليد وولدان ظليم وظلمان، وقضيب وقضبان، وباب" فعال فعلان"، نحو عقبان وذبان وغربان. وقولهم: "أمر لاينادى وليده"، يقال فيه قولان يتقاربان4، فأحدهما أنه لا يدعى له الصغار، والوجه الآخر لأصحاب المعاني، يقولون: ليس فيه وليد فيدعى، ونظير ذلك قول النابغة الجعدي: سبقت صياح فراريجها ... وضرب5 نواقيس لم تضرب   1 ر، س: "وكنت". 2 س: "فالوليد". 3 زيادات ر: "قوله عزوجل: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} "الواقعة 17". 4 ر: "متقاربان". 5 ر: "وصوت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 أي ليست ثم، ولكن هذا من أوقاتها.وقالت أخت طرفة بن العبد: عددنا له ستاٌ وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيداٌ ضخما فجعنا به لما رجونا إيابه ... على خير حال لا وليداٌ ولا قمحا الوليد: ما ذكرنا، والقحم: الرجل المتناهي سناٌ ويقال ذلك في البعير قحم وقحر ومقلحم، ويقال للبعير خاصةٌ: قحارية، في وزن1 قراسية، وأنشد الأصمعي: رأين قحماٌ شاب واقلحما ... طال عليه الدهر فاسلهما المسلهم: الضامر.   1 ر: "بوزن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 لرجل آخر يرثي ابنه وقال آخر لابنه يرثيه: ومن عجب أن بت مستشعر الثرى ... وبت بما زودتني متمتعا ولو أنني أنصفتك الود لم أبت ... خلافك حتى ننطوي في الثرى معا ابراهيم بن عبد الله يرثي أخاه وقال إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن يرثي أخاه محمداٌ: أبا المنازل يا عبر الفوارس من ... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا الله يعلم أني لو خشيتهم ... أو آنس القلب من خوف لهم فزعا لم يقتلوك ولم أسلم أخي لهم ... حتى نعيش جميعاٌ أو نموت معا قوله: "يا عبر الفوارس، يصفه بالقوة منهم وعليهم، كما يقال: ناقة عبر الهواجر وعبر السرى"1. وقوله: أوآنس القلب من خوف لهم فزعا   1 عبر الفوارس، من قولهم: ناقة عبر أسفار: إذا كانت قوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 يقول: أحس، وأصل الإيناس في العين، يقال آنست شخصاٌ، أي أبصرته من بعد وفي كتاب الله عز وجل: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} 1.   1 سورة القصص 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 لمتمم بن نويرة يرثي أخاه وقال متمم بن نويرة1: وقالوا: أتبكي كل قبر رأيته ... لميتٍ ثوى بين اللوى والدكادك فقلت لهم: إن الأسى يبعث البكا2 ... ذروني فهذا كله قبر مالك3 الأسى: الحزن وقد مر تفسيره.   1 زيادات ر: "يرثى أخاه"، وفي س قبل هذا البيت: ومستضحك إذ لم يصب كمصيبتى ... وليس أخو الشجو الحزين بضاحك 2 ر: "الأسى". 3 في س بعد هذا البيت: ألم تره فينا يقسم ماله ... ويأوى إليه مرملات الضرائك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 لعلي بن عبد الله بن العباس يفخر قال علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رحمة الله ورضوانه عليه: أبي العباس قرم بني قصي ... وأخوالي الملوك بنو وليعه هم منعوا دماري يوم جاءت ... كتائب مسرف وبنو اللكيعة أراد بي التي لا عز فيها ... فحالت دونه أيدٍ منيعه قوله: "بنو وليعة"، فهم أخواله من كندة، وأمه زرعة بن مشرحٍ الكندية ثم إحدى بني وليعةٍ. وقوله: "كتائب مسرفٍ" يعني مسلم بن عقبة المري صاحب الحرة، وأهل الحجاز يسمونه مسرفاً وكان أراد أهل المدينة جميعاً على أن يبايعوا يزيد بن معاوية على أن كل واحدٍ منهم عبد قن له إلا علي بن الحسين، فقال حصين بن نمير السكوني من كندة: "ولا يبايع ابن أختنا علي بن عبد الله إلا على ما يبايع عليه علي بن الحسين، على أنه ابن عم أمير المؤمنين، وإلا فالحرب بيننا، فأعفي علي بن عبد الله، وقبل منه ما أراد، فقال هذا الشعر لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقوله: "بنو اللكيعة"، فهي اللئيمة، ويقال في النداء للئيم: يا لكع، وللأنثى: يا لكاع، لأنه موضع معرفة، كما يقال: يا فسق ويا خبث، فإن لم ترد أن تعدله عن جهته قلت للرجل: يا ألكع، وللأنثى يا لكعاء، وهذا موضع لا تقع فيه النكرة، وقد جاء في الحديث والأصل ما ذكرت لك: "لا تقوم الساعة حتى يلي أمر 1 الناس لكع ابن لكع"، فهذا كناية عن اللئيم ابن اللئيم، وهذا بمنزلة عمر ينصرف في النكرة، ولا ينصرف في المعرفة. ولكاع يبنى على الكسر، وسنشرح باب"فعال" للمؤنث على وجوهه الأربعة عند أول ما يجري من ذكره إن شاء الله. وقد اضطر الحطيئة فذكر" لكاع"في غير النداء، فقال يهجو امراته: أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيتٍ قعيدته لكاع قعيدة البيت: ربة البيت، وإنما قيل قعيدة لقعودها وملازمتها، ويقال للفرس قعدة من هذا، وهو الذي يرتبطه صاحبه فلا يفارقه، قال الجعفي: لكن قعيدة بيتنا مجفوةٌ ... بادٍ جناجن صدرها، ولها غنى الجناجن: ما يظهر عن الهزال من أطراف الصدر، واحداها جنجنٌ.   1 ر، س: "أمور الناس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 لهشام أخي ذي الرمة وقال هشام أخو ذي الرمة: تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاءً وجفن العين بالماء مترع ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع غيلان: هو ذو الرمة، وكان هشام من عقلاء الرجال. حدثني العباس بن الفرج في إسناده له1 يعزوه إلى رجل أراد سفراً، فقال: قال لي هشام بن عقبة. إن لكل رفقةٍ كلباً يشركهم في فضله الزاد، ويهر دونهم، فإن قدرت ألا تكون كلب الرفقة فافعل، وإياك وتأخير الصلاة عن وقتها، فإنك مصليها لا محالة، فصلها وهي تقبل منك.   1 ر، س: "في إسناد ذكره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 لحسان بن ثابت الأنصاري في لهوه وقال حسان بن ثابت الأنصاري: تقول شعثاء1 لو صحوت عن الـ ... ـكأس لأصبحت مثري العدد أهوى حديث الندمان في قلق الصـ ... ـبح وصوت المسامر الغرد لا أخدش الخدش بالجليس ولا ... يخشى نديمي إذا انتشيت يدي يأبى لي السيف واللسان وقو ... م لم يضاموا كلبدة الأسد لبيدة الأسد: ما يتطارق من شعره بين كتفيه، ويقال: أسدٌ ذو لبدةٍ وذو لبيدٍ.   1 زيادات ر: "هي امرأته، وهو اسمها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 لجرير في مرضه حين عادته قيس وحدثني عمارة قال: مرض جريرٌ مرضةً شديدةً، فعادته قيس، فقال: نفسي الفداء لقوم زينوا حسبي ... وإن مرضت فهم أهلي وعوداي لو خفت ليثاً أبا شبلين ذا لبدٍ ... ما أسلموني لليث الغابة العادي إن تجر طيرٌ بأمرٍ فيه عافيةٌ ... أو بالرحيل فقد أحسنتم زادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 لعبد الرحمن بن ثابت يهاجي عبد الرحمن بن الحكم وقال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرامٍ، وهو يهاجي عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس: فأما قولك: الخلفاء منا ... فهم منعوا وريدك من وداجي ولولا هم لكنت كحوت بحر ... هوى في مظلم الغمرات داج وكنت أذل من وتد بقاع ... بشجج راسه بالفهر واجي1 فكتب معاوية إلى مروان أن يؤدنهما وكانا تقاذفا، فضرب عبد الرحمن بن حسان ثمانين، وضرب أخاه عشرين، فقيل لعبد الرحمن بن حسان: قد أمكنك في مروان ما تريد، فأشد بذكره، وارفعه إلى معاوية، فقال: إذاً والله   1 الفهر: الحجر الذي يملأ الكف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 لا أفعل، وقد حدني كما تحد الرحل الأحرار، وجعل أخاه كنصف عبد. فأوجعه بهذا القول. ويروى أن عبد الرحمن بن حسان لسعه زنبور فجاء أباه يبكي، فقال له: ما لك فقال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة. قال: قلت والله الشعر: ويروى أن معلمه عاقب صبياناً1 على ذنب وأراده بالعقوبة، فقال: الله يعلم أني كنت منتبذاً ... في دار حسان أصطاد اليعاسيبا وأعرق قوم كانوا في الشعر آل حسان فإنهم كانوا يعتدون ستة في نسق كلهم شاعر، وهم سعيد بن عبد الحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، وبعد هؤلاء في الوقت آل أبي حفصة، فإنهم أهل بيت كلهم شاعر، يتوارثونه كابراً عن كابر. ويروى أن ابنة لابن الرقاع وقف بباب أبيها قوم يسألون عنه، فقالت: ما تريدون فقالوا: جئنا لنهاجيه فقالت وهي صبية. تجمعتم من كل أوب ووجهة ... على واحد لا زلتم قرن واحد فهذه بلغت بطبعها على صغرها مبلغ الأعشى في قلب هذا المعنى، حيث يقول لهوذة بن علي يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة ... ويعدو على حمع الثلاثين واحدا   1 ر: "الصبيان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 باب نبذ من كلام الحكماء قال أبو العباس: قال عمر بن الخطاب رحمه الله1: علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخلل وثباً، ورووهم ما يجمل من الشعر. وفي حديث آخر: وخير الخلق للمرأة المغزل. ويروى عن الشعبي أنه قال: قال عبد الله بن العباس: قال لي أبي: يا بني، إني أرى أمير المؤمنين قد اختصك دون من ترى من المهاجرين والأنصار، فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجربن عليك كذباً، ولا تغتب عنده مسلماً، ولا تفشين له سراً، قال: فقلت له: يا أبه، كل واحدةٍ منها خير من ألف، فقال كل واحدة منها خير من عشرة آلاف. وحدثني العباس بن الفرج في إسناد ذكره قال: نظرإلى عمرو بن العاص على بغلةٍ قد شمط2 وجهها هرماً، فقيل له: أتركب هذه وأنت على أكرم ناخرةٍ بمصر فقال: لا ملل عندي لدابتي ما حملت رجلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري، إن الملل من كواذب الأخلاق. قوله: "على أكرم ناخرة" يريد الخيل، يقال للواحد ناخر، وقيل: ناخرة يراد جماعة، كما تقول: رجل بغال وحمار، والجماعة البغالة والحمارة، وكذلك تقول: أتتني عصبة نبيلة، وقبيلة شريفة، والواحد نبيل وشريف.   1 ر، س: "رضي الله عنه". 2 شمط وجهها: ابيض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 في مشاورة معاوية عمرو بن العاص في أمر عبد الله بن هاشم بن عتبة وشاور معاوية عمراً في أمر عبد الله بن هاشم بن عتبة بن مالك بن أبي وقاص وكان هاشم بن عتبة أحد فرسان1 علي رحمه الله فإتي بابنه معاوية، فشاور عمراً فيه، فقال، أرى أن تقتله، فقال له معاوية: إني لم أر في العفو إلا خيراً، فمضى عمرو مغضباً، وكتب إليه:   1 زيادات ر: "وهو المرقال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم أليس أبوه يا معاوية الذي ... أعان علياً1 يوم حز الغلاصم2 فقتلنا حتى جرى من دمائنا ... بصفين أمثال البحور الخضارم وهذا ابنه، والمرء يشبه عيصه3 ... ويوشك أن تلفى4 به جد نادم فبعث معاوية بأبياته إلى عبد الله بن هاشم، فكتب إليه عبد الله بن هاشم: معاوية إن المرء عمراً أبت له ... ضغينه خب غشها غير نائم يرى لك قتلي يا ابن هند وإنما ... يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم على أنهم لا يقتلون أسيرهم ... إذا كان منه بيعة للمسالم فإن تعف عني تعف عن ذي قرابةٍ ... وإن تر قتلي تستحل محارمي فصفح عنه.   1 كذا في الأصل، س. وفي ر: "علينا". 2 الغلاصم: الحلاقيم. 3 العيص: الأصل. 4 ر: "تلقى" بالقاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 من كلام عمرو بن العاص لعائشة وقال عمرو لعائشة رحمة الله عليهما1: لوددت أنك كنت قتلت يوم الجمل فقالت: ولم لا أبا لك فقال: كنت تموتين بأجلك، وتدخلين الجنة، ونجعلك أكبر التشنيع على علي.   1 ر: "رحمها الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ما قاله عمرو بن العاص حين احتضر وحدثني العباس بن الفرج الرياشي في إسنادٍ ذكره، آخره "ابن عباس" قال: دخلت على عمرو بن العاص وقد احتضر، فدخل عليه عبد الله بن عمرو فقال له: يا عبد الله، خذ ذلك الصندوق، فقال: لا حاجة لي فيه1، قال إنه مملوء مالاً، قال: لا حاجة لي به، فقال عمرو: ليته مملوء بعراً قال: فقلت:   1 س: "به". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 يا أبا عبد الله، إنك كنت تقول: أشتهي أن أرى عاقلاً يموت حتى أسأله كيف يجد فكيف تجدك قال: أجد السماء كأنها مطبقة على الأرض وأنا بينهما، وأراني كأنما أتنفس من خرت إبرةٍ، ثم قال: اللهم خذ مني حتى ترضى. ثم رفع يديه فقالت: اللهم أمرت فعصينا، ونهيت فركبنا فلا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكن لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم فاظ. وقد روينا هذا الخبر من غير ناحية الرياشي بأتم1 من هذا، ولكن2 اقتصرنا على هذا لثقة إسناده. قوله: "من خرت إبرة"، يعني من ثقب إبرةٍ، يقال للدليل: خريت. وزعم الأصمعي أنه أريد به أنه يهتدي لمثل خرت الإبرة. وقوله: "فاظ" أي مات، يقال: فاظ، وفاد، وفطس، وفاز، وفوز، كل ذلك في معنى الموت، ولا يقال: بالضاد إلا للإناء، قال رؤبة3: لا يدفنون منهم من فاظا وقال ابن جريج: "أما رأيت الميت حين فوظه". ومن قال ذلك للنفس قال: فاضت نفسه، يشببها بالأناء. وحدثني أبو عثمان المازني أحسبه عن أبي زيد قال: كل العرب يقولون: فاضت نفسه إلا بني ضبة فإنهم يقولون: فاظت نفسه، وإنما الكلام الصحيح فاظ بالظاء إذا مات. وفي الحديث أن امرأة سلام بن أبي الحقيق قالت: فاظ، وإله يهود.   1 س: "أتم". 2 س: "ولكنا". 3 قبله: والأزد أمسى شلوهم لفاظا وانظر اللسان "فيظ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 نبذ من أقوال الحكماء وحدثني مسعود بن بشر قال: قال زياد: الإمرة تذهب الحفيظة، وقد كانت من قوم إلي هنات جعلتها تحت قدمي، ودبر أذني، فلو بلغني أن أحدكم قد أخذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 السل من بغضي ما هتكت له ستراً ولا كشفت له قناعاً حتى يبدي لي عن صفحته، فإذا فعل لم أناظره. وسمع زياد رجلاً يسب الزمان فقال: لو كان يدري ما الزمان لضربت عنقه، إن الزمان هو السلطان. وفي عهد أزدشير: وقد1 قال الأولون منا: عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان. وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه: إذا وليتم فلينوا للمحسن، واشتدوا على المريب، فإن الناس للسلطان أهيب منهم للقرآن. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. قوله: "يزع" أي يكف، يقال: وزع يزع إذا كف، وكان أصله "يزع" مثل يعد فذهبت الواو لوقوعها بين ياء وكره واتبعت حروف المضارع الياء لئلا يختلف الباب، وهي الهمزة، والنون، والتاء، والياء نحو أعد ونعد، وتعد، ويعد، ولكن انفتحت في "يزع" من أجل العين لأن حروف الحلق إذا كن في موضع عين الفعل أو لامه فتحن في الفعل الذي ماضيه "فعل"، وإن وقعت الواو مما هي فيه فاء في "يفعل" المفتوحة العين في الأصل صح الفعل، نحو: وحل يوحل، ووجل يوجل، ويجوز في هذه المفتوحة ياحل وياجل وييحل وييجل، وكل هذا كراهية للواو بعد الياء، تقول: وزعته: كففته، وأوزعته: حملته على ركوب الشيء وهيأته له، وهو من الله عز وجل توفيق، ويقال: أوزعك الله شكره، أي وفقك له. وقال الحسن مرة: ما حاجة هؤلاء السلاطين إلى الشرط فلما ولي القضاء كثر عليه الناس، فقال: لا بد للسلاطين2 من وزعة.   1 س: "قد" بحذف الواو. 2 ر، س: "للناس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 خطبة الحجاج في أهل العراق وخطب الحجاج بن يوسف ذات يوم، يوم جمعة، فلما توسط كلامه سمع تكبيراً عالياً من ناحية السوق، فقطع خطبة التي كان فيها، ثم قال: يا أهل العراق، ويا أهل الشقاق، ويا أهل النفاق، وسيئي الأخلاق، يا بني اللكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، إني لأسمع تكبيراً ما يراد الله به، إنما يراد به الشيطان، وإن مثلي ومثلكم قول ابن براقة الهمداني: وكنت إذا قوم رموني رميتهم ... فهل أتا في ذا يال همدان ظالم متى تجمع القلب الذكي وصارماً ... وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم [ثم نزل فصلى بهم] 1. قوله: "يا أهل الشقاق"، فالمشقة المعاداة، وأصله أن يركب ما يشق عليه، ويركب منه مثل ذلك. والنفاق أن يسر خلاف ما يبدي، هذا أصله، وإنما أخذ من النافقاء، وهو أحد أبواب: جحر اليربوع، وذلك أنه أخفاها فإنما يظهر من غيره، ولجحره أربعة أبواب: النافقاء والراهطاء والداماء والسابياء، وكلها ممدودة، ويقال للسابياء: القاصعاء، وإنما قيل له السابياء لأنه لا ينفذه فيبقي بينه وبين إنفاذه هنة من الأرض رقيقة، وأخذ من سابياء الولد، وهي الجلدة الرقيقة التي يخرج فيها الولد من بطن أمه. قال الأخطل يضرب ذلك مثلاً ليربوع بن حنظلة لأنه سمي باليربوع: تسد القاصعاء عليك حتى ... تنفق أو تموت بها هزالاً2 والعرب تزعم أنه ليس من ضب إلا وفي جحره عقرب، فهو لا يأكل ولد العقرب، وهي لا تضربهفهي مسألمة له، وهو مسالم لها، وأنشد3:   1 تكملة من ر. 2 تنفق: تخرج من نافقائه. 3 زيادات ر: "كلها بالمد، ويقال بالقصر، ويقال أيضا فيها على وزن فعله [بضم الفاء وفتح العين] نفقة ورهطة ودممة وقصعة. وحكي ابن القوطية في المقصور والممدود له الرهطاء كالراهطاء، والنفقاء كالنافقاء، والقصعاء كالقصعاء. وحكى أيضا زيادة فقال: العاتقاء، جحر الأرنب واليربوع، والغابياء أيضا جحرة اليربوع. وأما قول أبى العباس في السابياء، فهو مما قد ورد عليه فيه، وقد تبعة ابن ولاد، وكلاهما غير مصيب، وإنما السابياء وعاء فيه ماء صاف يخرج مع الولد وهو الفقْ، وليس يخرج الولد فيه وقال الكميت: وفقا فيها الغيث من سابيائه ... دواح وافقن النجوم البواجسا فشبه ماء الغيث بماء السابياء وإنما الجلدة التي يكون فيها الولد الغرس، وقد تبع ابن القوطية أبا العباس في السابياء في أنه من أسماء جحر اليربوع، وذلك غلط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وأخدع من ضب إذا خاف حارشاً1 ... أعد له عند الذنابة عقربا وقوله: "بنو اللكيعة" يريد اللئيمة، وقد مر تفسير هذا في موضعه، قال ابن قيس الرقيات يذكر قتل بن الزبير2: إن الرزية يوم مسـ ... ـكين والمصيبة والفجيعة بأبن الحواري الذي ... لم يعده أهل الوقيعه3 غدرت به مضر العرا ... ق، وأمكنت منه ربيعه فأصبحت وترك يا ربيـ ... ـع وكنت سامعة مطيعة يا لهف لو كانت له ... بالطف يوم الطف شيعه أولم يخونوا عهده ... أهل العراق بنو اللكيعه لو جدتموه حين يغـ ... ـضب لا يعرج بالمضيعه4 وقوله: "عبيد العصا "يريد أنهم لا ينقادون إلا بالإذلال5، كما قال ابن مفرغ الحميري: العبد يقرع بالعصا ... والحر تكيفه الملامه وقال جرير يهجو التيم: ألا إنما تيم لعمرو ومالك ... عبيد العصا لم يرج عتقاً قطينها   1 الحارش: صائد الضباب. 2 قتل مصعب بن الزبير سنة 72، قتله عبد الملك بن مروان بموضع يقال له مسكن على نهر جيل. والأبيات في معجم البلدان. (54:8) . 3 الحوارى في الأصل: الناصر، ويريد به الزبير بن العوام. 4 روايته في معم البلدان: لوجدتموه حين يعـ ... ـدو لايعرس بالصنيعة 5 ر: "يريد أنهم لا ينقادون إل بالإذلال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 من كلام بن الأشعث حين ظهور الحجاج عليه وخطب الناس عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالمربد عند ظهور أمر الحجاج عليه فقال: أيها الناس، إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذنب الوزغة تضرب به يميناً وشمالاً فلا تلبث أن تموت. فسمعه رجل من بني قشير بن كعب بن عامر بن صعصعة فقال: قبح الله هذا: يأمر أصحابه بقلة الاحتراس من عدوهم ويعدهم الغرور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 كلام عرار بن شأس لعبد الملك حينما حمل إليه رأس ابن الأشعث وروت الرواة أن الحجاج لما أخذ رأس ابن الأشعث وجه به إلى عبد الملك بن مروان مع عرار بن عمرو بن شأس الأسدي وكان أسود دميماً فلما ورد به عليه جعل عبد الملك لا يسأل عن شيئ من أمر الوقعة1 إلا أنبأه به عرار، في أصح لفظ، وأشبع قول، وأجزاء اختصار، فشفاه من الخبر، وملأ أذنه صواباً وعبد الملك لا يعرفه، وقد اقتحمته عينه حيث رآه فقال متمثلاً: أرادت عراراً بالهوان ومن يرد ... لعمري عراراً بالهوان فقد ظلم2 وإن عراراً إن يكن غير واضح ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم فقال له عرار: أتعرفني با أمير المؤمنين قال: لا، قال: فأنا والله عرار فزاده في سروره، وأضعف له الجائزة.   1 ر: "الوقيعة". 2 البيتان لعمرو بن شأس، وانظر ديوان الحماسة لأبى تمام-بشرح التبريزى 272:1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 كتاب صاحب اليمن إلى عبد الملك في وقت محاربته ابن الأشعث وكتب صاحب اليمن إلى عبد الملك وقت محاربته ابن الأشعث: إني قد وجهت إلى أمير المؤمنين بجارية اشتريها بمال عظيم لم ير مثلها قط، فلما دخل بها عليه رأى وجهاً جميلاً وخلقاً نبيلاً فألقى إليها قضيباً كان في يده فنكست لتأخذه فرأى منها جسماً بهره، فلما هم بها أعلمه الآذن أن رسول الحجاج بالباب، فأذن له، ونحى الجارية، فأعطاه كتاباً من عبد الرحمن، فيه سطور أربعة: سائل مجاور جرم: هل جنيت لها ... حرباً تزيل بين الجيرة الخلط1   1 نسب أبو الفرج هذه الأبيات إلى وعلة الجرمى، وانظر الأغانى 140:19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وهل سموت بجرار له لجب ... جم الصواهل بين الجم والفرط وهل تركت نساء الحي ضاحيه ... في ساحة الدار يستوقدن بالغبط وتحتها1: قتل الملوك وسار تحت لائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام قال: فكتب إليه عبد الملك كتاباً، وجعل في طيه جواباً لابن الأشعث: ما بال من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظاً وينوي من سفاهته كسري2 أظن خطوب الدهر بيني وبينهم ... ستحملهم مني على مركب وعر وإني إياهم كمن نبه القطا ... ولو لم باتت الطير لا تسري أناة وحملماً وانتظر بهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر وينشد: "بالفاني". ثم بات يقلب كف الجارية ويقول: ما أفدت فائدة أحب إلي منك، فتقول: فما بالك ياأمير المؤمنين وما يمنعك فقال: [يمنعني] 3 ما قال الأخطل لأني إن خرجت منه كنت ألأم العرب: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأظهار فما إليك سبيل أو يحكم الله بيني وبين عدو الرحمن، ابن الأشعث، فلم يقربها حتى قتل عبد الرحمن. قوله:" فرأى منها جسماً بهره"، يقال: بهر الليل إذا سد الأفق بظلمته، وبهر القمر إذا ملأ الأرض ببهائه، ومن ثم قيل: القمر4 الباهر، أنشدني المازني لرجل من بني الحارث بن كعب: والقمر الباهر السماء لقد ... زرنا هلالاً بجحفل لجب   1 زيادات ر: "بيت آخر على غير الروى من الأبيات الأول، وهو". والبيت لمهلهل بن ربيعة، وانظر اللآلىء341. 2 الأبيات. للحارث بن وعلة الجرمى، وانظر اللآلىء750. 3 تكملة من ر. 4 ر: "للقمر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 تسمع زجر الكماة بينهم: ... قدم، وأخر، وأرحبي، وهبي1 من كل هداءةٍ كعالية الر ... مح أمونٍ وشيظم سلب2 وقال طفيل الغنوي يصف كيف تزجر الخيل، فجمعه في بيت واحد: وقيل اقدمي واقدم وأخ وأخري ... وها، وهلاً واضرح3 وقادعها هبي قال أبو الحسن: وأج. ومن زجر الخيل أيضاً: "هقب وهقط"، وأنشدني المازني: لما سمعت زجرهم هقط ... علمت أن فارساً منحط4 وقوله: "بين الجم والفرط" هما موضعان بأعيانهما. وقوله: "في ساحة الدار يستوقدن بالغبط" يقال فيه قولان متقاربان: أحدهما أنهن قد يئسن من الرحيل فجعلن مراكبهن حطباً، هذا قول الأصمعي. وقال غيره: بل قد منعهن الخوف من الاحتطاب، والغبيط من مراكب النساء: وكذلك الحدج قال امرؤ القيس: تقول وقد مال الغبيط بنا معاً: ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل فأعلمك أن الغبيط لها، والمحامل إنما أول من اتخذها الحجاج، ففي ذلك يقول الراجز: أول عبدٍ عمل المحاملا ... أخزاه ربي عاجلاً وآجلاً وقوله: "شجر العرا" فالعرا: نبت إن ضم العين، والعراء ممدوداً وجه الأرض، قال الله عز وجل: {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} 5. وقال الهذلي6:   1 أرحبى، من أرحب الشىء إذا وسعه، وهي من قولهم: هب بكسر الباء، وكلاهما زجر للخيل. 2 الهداءة: الفرس الضامر. والأمون: الوثيقة الخلق، والشيظم: الشديدة. والسلب: الطويل. 3 ر: "واضبر". 4 زيادات ر: قال الفراء: هقط، بالكسر والفتح، ويروى: "مختط بدل منحط". 5 سورة القلم 49. 6 هو أبو حراش، والبيت في ديوان الهذليين 168:2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 رفعت رجلاً لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي وهذا التفسير والإنشاد عن أبي عبيدة. وقوله: "دون النساء ولو باتت بأطهار" معناه أنه يجتنبها، في طهرها، وهو الوقت الذي يستقيم له غشيانها فيه، وأهل الحجاز يرون" الأقراء" الطهر، وأهل العراق يرونه الحيض، وأهل المدينة يجعلون عدد النساء الأطهار، ويحتجون بقول الأعشى: وفي كل أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا مؤرثه مالاً، وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا وقوله: "ولو باتت بأطهار"، ف" لو" أصلها في الكلام أن تدل على وقوع الشيء لوقوع غيره، تقول: لو جئتني لأعطيك، ولو كان زيد هناك لضربته، ثم يتسع فتصير في معنى" إن" الواقعة للجزاء تقول: أنت لا تكرمني ولو أكرمتك، تريد"وإن" قال الله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} 1، فأما قوله عز وجل: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} 2 فإن تأويله عند أهل اللغة: لا يقبل أن يتبرأ به وهو مقيم على الكفر، ولا يقبل إن افتدى به، فـ"لو" في معنى "إن" وإنما منع "لو" أن تكون من حروف المجازاة فتجزم كما تجزم "إن" أن حروف المجازاة إنما تقع لما لم يقع، ويصير الماضي معها في معنى المستقبل تقول: إن جئتني أعطيتك، وإن قعدت عني زرتك، فهذا لم يقع.،وإن كان لفظ الماضي لما أحدثته فيه "إن "وكذلك متى أتيتني أتيتك، و"لو" تقع في معنى الماضي، تقول: لو جئتني أمس لصادفتني، ولو ركبت إلي أمس لألفيتني، فلذلك خرجت من حروف الجزاء، فإذا أدخلت معها "لا" صار معناها أن الفعل يمتنع لوجود غيره، فهذا خلاف ذلك المعنى، ولا تقع إلا على الأسماء، ويقع الخبر محذوفاً لأنه لا يقع فيها الأسم إلا وخبره مدلول عليه، فاستغني عن   1 سورة يوصف107. 2 سورة آل عمران 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ذكره، لذلك تقول: لولا عبد الله لضربتك، والمعنى في هذا المكان: من قرابتك، أوصداقتك، أو نحو ذلك، فهذا معناها في هذا الوضع، ولها موضع آخر تكون فيه على غير هذا المعنى، وهي "لولا"التي تقع في معنى"هلا" للتحضيض، ومن ذلك قوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} 1، أي هلا، وقال الله عز وجل: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ} 2. فهذه لا يليها إلا الفعل.، لأنها للأمر والتحضيض، مظهراً أو مضمراً.،كما قال3: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطري لولا الكمي المقنعا أي هلا تعدون الكمي المقنعا،"ولولا "الأولى لا يليها إلا الاسم على ما ذكرت لك.،ولا بد في جوابها من اللام أو معنى اللام، تقول: لولا زيدٌ فعلت، والمعنى لفعلت، وزعم سيبويه أن"زيداً "من حديث "لولا" واللام والفعل حديثٌ معلقٌ بحديث "لولا"، وتأويله أنه للشرط الذي وجب من أجلها وامتنع لحال الاسم بعدها، و"لو "لا يليها إلا الفعل مضمراً أو مظهراً.، لأنها تشارك حروف الجزاء في ابتداء الفعل وجوابه، تقول: لو جئتني لأعطيتك.، فهذا ظهور الفعل، وإضماره، قوله عز وجل4: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} 5. والمعنى والله أعلم: لو تملكون أنتم.، فهذا الذي رفع "أنتم" ولما أضمر ظهر بعده ما يفسره، ومثل ذلك: "لو ذات سوارٍ لطمتني" أراد لو لطمتني ذات سوارٍ، ومثله6: ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسماً   1 سورة النور 12. 2 سورة المائدة 63. 3 زيادات ر: "نسب لجرير، وقيل للأشهب بن رميلة". والصحيح أن البيت لجرير من قصيدة يهجو فيها الفرزدق، "وانظر ديوانه 233-240". 4 تكمله من ر. 5 سورة الإسراء 100. 6 زيادات ر: "قول المتلمس" والبيت في الأصمعيات 287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وكذلك قول جرير: لو غيركم علق الزبير بحبله ... أدى الجوار إلى بني العوام فنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده، لأنها للفعل، وهو في التمثيل: لو علق الزبير غيركم، وكذلك كل شيء للفعل نحو: الاستفهام، والأمر، والنهي، وحروف الفعل نحو: "إذ وسوف"1 وهذا مشروح في الكتاب "المقتضب" على حقيقة الشرح. وأما قوله: "وعراعر الأقوام "فمعناها رؤوس الأقوام، الواحد عرعرة، وعرعرة كل شيءٍ أعلاه، من ذلك كتاب يزيد بن المهلب إلى الحجاج بن يوسف: "وإن العدو نزلوا2 بعرعرة الجبل، ونزلنا بالحضيض"، فقال الحجاج: ليس هذا من كلام يزيد، فمن هناك? قيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد أن يشخصه إليه.   1 زيادات ر: "كذا وقع هنا "إذا" و"سوف" ولم يذكر سيبويه مع "سوف" إلا "قد" وهو الصحيح. 2 ر: "نزل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الحجاج ويحيى بن يعمر وزعم التوزي قال: قال الحجاج ليحيى بن يعمر: أتسمعني ألحن? قال: الأمير أفصح من ذلك! قال: فأعاد عليه القول وأقسم. فقال نعم، تجعل "أن" مكان "إن"، فقال له: ارحل عني ولا تجاورني. قال أبو العباس: هذا على أن يزيد لم تؤخذ عليه زلةٌ في لفظ إلا واحدةٌ، فإنه قال على المنبر - وذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب - فقال: "هذه الضبعة العرجاء"، فاعتدت عليه لحناً، لأن الأنثى إنما يقال لها الضبع، ويقال للذكر الضبعان، فإذا جمع قيل ضبعان، وونما جمع على التأنيث دون التذكير، وال باب على خلاف ذلك، لأن التأنيث لا زيادة فيه، وفي التذكير زيادة الألف والنون، فثني على الأصل، وأصل التأنيث أن يكون زائداً على بناء التذكير، أنه منه يخرج، مثل قائم وقائمة وكريم وكريمة، فمن حيث قلت للأنثى والذكر في التثنية كريمان على حذف الزيادة قلت: ضبعان، وتقول: له ابنان إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 أردت: له ابن وابنة، ولا تقول: في الدار رجلان إذا أردت رجلاً وامرأة، إلا على قول من قال للأنثى رجلةٌ.، فقد جاء ذلك، قال الشاعر: كل جارٍ ظل مغتبطاً ... غير جيراني بني جبله خرقوا جيب فتاتهم ... لم يبالو حرمة الرجله ولا يقال للناقة والجمل جملان، ولا الثوران للثور والبقرة1، لاختلاف الاسمين، إنما يكون ذلك فيما ذكرنا إلا في قول من قال للأنثى: ثورةٌ، قال الشاعر2: جزى الله الأعورين ملامةً3 ... وعبدة4 ثفر الثورة المتضاجم 5 قال أبو الحسن: المتضاجم: المتسع.6   1 ر: "ولا يقال للبقرة والثور ثوران". 2 هو الأخطل، والبيت في ديوانه 277. 3 الديوان: "مذمة". 4 في الديوان "وفردة". 5 ثفر الثورة: فرجها. 6 من ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 باب للراعي في النسيب قال أبو العباس: قال الراعي: ومرسلٍ ورسولٍ غير متهمٍ ... وحاجةٍ غير مزجاةٍ من الحاج طاوعته بعد ما طال النجي بنا ... وظن أني عليه غير منعاج ما زال يفتح أبواباً ويغلقها ... دوني، وأفتح باباً بعد إرتاج حتى أضاء سراجٌ دونه بقرٌ ... حمر الأنامل عينٌ طرفها ساج يا نعمها ليلةً حتى تخونها ... داعٍ دعا في فروع الصبح شحاج! لما دعا الدعوة الأولى فأسمعني ... أخذت بردي واستمررت أدراجي قوله: وحاجة غير مزجاة من الحاج المزجاة: اليسيرة الخفيفة المحمل، قال الله عز وجل: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} 1، والحاج: جمع حاجةٍ، وتقديره فعلةٌ وفعل، كما تقول: هامةٌ وهام، وساعة وساع، قال القطامي: وكنا كالحريق أصاب غاباً ... فيخبو ساعةً ويشب ساعا فإذا أراد أدنى العدد قلت: ساعات، فأما قولهم: في جمع حاجةٍ حوائج فليس من كلام العرب على كثرته على ألسنة المولدين، ولا قياس له، ويقال: في قلبي منك حوجاء، أي حاجة، ولو جمع، على هذا لكان الجمع حواجٍ يا فتى، وأصله حواجي يا فتى، ولكن مثل هذا يخفف، كما تقول في صحراء: صحار يا فتى، وأصله صحاري. وقوله: طاوعته بعدما طال النجي بنا   1 سورة يوسف 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 يريد المناجاة، فأخرجه على لفظ: "فعيل"، ونظيره من المصادر الصهيل، والنهيق، الشحيج، ويقال: شب الفرس شبيباً، ولذلك كان "النجي" يقع على الواحد والجماعة نعتاً، كما تقول: امرأة عدلٌ ورجل عدلٌ وقوم عدلٌ: لأنه مصدر قال الله عز وجل: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} 1، أي مناجياً، وقال للجماعة: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} 2 أي متناجين. وقوله: "منعاج": أي منعطف، يقال3: عجت عليه أي عرجت عليه، وعجت إليه أعيج، أي عولت عليه. وقوله: "بعد إرتاج" أي بعد إغلاق، يقال: أرتجت الباب إرتاجاً، أي أغلقته إغلاقاً، ويقال: لغلق الباب الرتاج، ويقال للرجل إذا امتنع عليه الكلام أرتج عليه. وقوله: حتى أضاء سراج دونه بقرٌ يعني نساء، والعرب تكني عن المرأة بالبقرة والنعجة، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 4 وقال الأعشى: فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها وقوله: "عينٌ"، إنما هو جمع عيناء، وهي الواسعة العين، وتقديره: "فعل"، ولكن كسرت العين لتصح الياء، ونحو ذلك بيضاء وبيض، وتقديره حمراء وحمر، ولو كان من ذوات الواو لكان مضموماً على أصل الباب، لأنه لا إخلال فيه، تقول: سوداء وسود، وعور. وقوله: "طرفها ساج" ولم يقل: "أطرافها" لأن تقديرها تقدير المصدر، من طرفت طرفاً، قال الله عز وجل: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} 5   1 سورة مريم 52. 2 سورة يوسف 80. 3 ر: "تقول". 4 سورة ص 23. 5 سورة البقرة 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 لأن السمع في الأصل مصدر. قال جرير: إن العيون التي في طرفها مرضٌ ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا وقوله: "ساج "أي ساكن، قال الله عز وجل: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} 1 وقال جرير: ولقد رمينك يوم رحن بأعينٍ ... يقتلن من خلل الستور سواج وقال الراجز: يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرقٌ مثل ملاء النساج وقوله: "حتى تخونها": يريد تنقصها، يقال: تخونني السفر، أي تنقصني، والداعي: المؤذن. وقوله: "شحاج"، إنما هو استعارة في شدة الصوت، وأصله للبغل، والعرب تستعير من بعضٍ لبعض، قال العجاج ينعت حماراً: كأن في فيه إذا ما شحجا ... عوداً دوين اللهوات مولجا وقال جرير: إن الغراب بما كرهت لمولعٌ ... بنوى الأحبة دائم التشحاج وقوله: "واتمررت أدراجي" أي فرجعت من حيث جئت، تقول العرب: رجع فلان أدراجه، ورجع في حافرته، ورجع عوده على بدئه، وإن شئت رفعت فقلت: رجع عوده على بدئه، أما الرفع فعلى قولك: رجع وعوده على بدئه، أي وهذه الحاله، والنصب على وجهين: أحدهما أن يكون مفعولاً كقولك: رد عوده على بدئه، والوجه الآخر أن يكون حالاً في قول سيبويه، لأن معناه رجع ناقضاً مجيئه، ووضع هذا في موضعه، كما تقول: كلمته فاه إلي في، أي مشافهةً، وبايعته يداً بيدٍ، أي نقداً، ويجوز أن تقول: فوه إلى في: أي وهذه حاله، ومن نصب فمعناه في هذه الحال.   1 سورة الضحى 2،1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 قال أبو العباس: فأما "بايعته يداً بيدٍ "فلا يكون فيه إلا النصب، لأنك لست تريد بايعته ويدٌ بيدٍ كما كنت تريد في الأول، وإنما تريد النقد، ولا تبالي: أقريباً كان أم بعيداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 لأعرابي يشكو حبيبته ؤقال أعرابي: شكوت فقالت كل هذا تبرما ... بحبي! أراح الله قلبك من حبي فلما كتمت الحب قال: لشدما ... صبرت، وما هذا بفعل شجي القلب وأدنو فتقصيني فأبعد طالباً ... رضاها، فتعتد التباعد من ذنبي فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي فيا قوم من حيلة تعرفونها؟ ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي قوله: "كل هذا تبرماً"، مردود على كلامه، كأنها تقول له: أشكوتني كل هذا تبرما ولو رفع رافع" كلا" لكان جيداً، يكون "كل هذا "ابتداء1 وتبرم خبره. وشجي مخفف، من شددها فقد أخطأ، والمثل: "ويل للشجي من الخلي"، الياء في الشجي مخففة، وفي "الخلي" مثقلة، وقياسه أنك إذا قلت: فعل يفعل فعلاً، فالاسم منه على فعل، فرق يفرق فرقاً فهو فرق، وحذر يحذر حذراً فهو حذرٌ، وبطر يبطر بطراً فهو بطرٌ فعلى هذا شجي يشجى شجى فهو شجٍ يا فتى، كما تقول: هوي يهوى فهو هوٍ يا فتى. وقوله: فيا قوم هل من حيلة تعرفونها موضع "تعرفونها" خفضٌ، لأنه نعت للحيلة وليس بجواب، ولو كان ههنا شرط يوجب جواباً لا نجزم، تقول: ائتني بدابة أركبها، أي بدابةٍ مركوبة، فإذا   1 ر، س: "مبتدأ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أردت معنى: فإنك إن أتيتني بدابة ركبتها قلت: "أركبها"، لأنه جواب الأمر، كما أن الأول جواب الاستفهام، وفي القرآن: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1، أي مطهرة لهم، وكذلك: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً} 2 أي كائنة لنا عيداً، وفي الجواب: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} 3، أي إن تركوا خاضوا ولعبوا، وأما قوله عز وجل: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} 4 فإنما هو فذرهم في هذه الحال لأنهم كانوا يلعبون، وكذلك: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} 5، إنما هو [لا تمنن6] مستنكثراً فمعنى هذا: هل معروفة عندكم?   1 سورة التوبة 103. 2 سورة المائدة 114. 3 سورة الزخرف 83. 4 سورة الأنعام 91. 5 سورة المدثر 6. 6 من ر، س. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 لأعرابي في الملح وقال أعرابي أنشدنيه أبو العالية: ألاتسأل ذا العلم ماالذي ... يحل من التقبيل في رمضان؟ فقال لي المكي: أما لزوجةٍ ... فسبع، وأما خلةٍ فثماني قوله: "خلةٍ" يريد ذات خلة، ويكون سماها المصدر، كما قالت الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار1 يجوز أن تكون نعتتها بالصدر لكثرته منها، ويجوز أن تكون أرادت ذات إقبال وإدبار، فحذفت المضاف وأقامت المضاف إليه مقامه، كما قال عز وجل: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} 2 فجائز أن يكون المعنى بر من آمن بالله، وجائز أن يكون ذا البر من آمن بالله، والمعنى يؤول إلى شيء واحد.   1 صدره ترتع مارتعت حتى إذا اد كرت 2 سورة البقرة 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وفي هذا الشعر عيب، وهو الذي يسميه النحويون العطف على عاملين، وذلك أنه عطف "خلةٌ" على اللام الخافضة لزوجة، وعطف "ثمانيا" على "سبع"، ويلزم من قال هذا أن يقول: مر عبد الله بزيد وعمرو وخالد، ففيه هذا القبح، وقد قرأ بعض القراء وليس بجائز عندنا: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ آَيَاتٍ} 1 فجعل "آيات" في موضع نصب وخفضها لتاء الجميع فحملها على "إن" وعطفها بالواو، وعطف "اختلافا" على "في" ولا أرى ذا في القرآن جائزاٌ لإنه ليس بموضع ضرورة، وأنشد سيبويه لعدي بن زيد العبادي2: أكل امرىء تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا فعطف على "امرئ" وعلى المنصوب الأول. "قال أبو الحسن: وفيه عيب آخر أن "أما" ليست من العطف في شيء، وقد أجرى"خلة" بعدها مجراها بعد حروف العطف حملاً على المعنى، فكأنه قال: لزوجةٍ كذا ولخلة كذا. "وقوله: "أما لزوجة" فهذه مفتوحة، وهي التي تحتاج إلى خبر، ومعناها: إذا قلت: أما زيدٌ فمنطلقٌ مهما يكن من شيء فزيدٌ منطلقٌ. وكذلك: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} 3 إنما هي: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم، وتكسر إذا كانت في معنى "أو" ويلزمها التكرير، تقول: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فمعناه ضربت زيداً أو عمراً، وكذلك: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} 4، وكذلك: {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} 5، و {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} 6، وإنما كررتها لأنك إذا   1 سورة الجاثية 5. 2 زيادات ر: "الصحيح أنه لأبى داؤد الإيادى". 3 سورة الضحى 9. 4 سورة الدهر 3. 5 سورة مريم 75. 6 سورة الكهف 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 قلت: ضربت زيداً أو عمراً، أو قلت: اضرب زيداً أو عمراً فقد ابتدأت بذكر الأول، وليس عند السامع أنك تريد غير الأول، ثم جئت بالشك، أو التخيير، وإذا قلت: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فقد وضعت كلامك بالابتداء على التخيير أو على الشك، وإذا قلت: ضربت إما زيداً وإما عمراً، فالأولى وقعت لبنية الكلام عليها، والثانية للعطف، لأنك تعدل بين الثاني والأول، فإنما تكسر في هذا الموضع. وزعم سيبويه أنها إن ضمت إليها "ما" فإن اضطر شاعر فحذف "ما" جاز له ذلك لأنه الأصل، وأنشد في مصداق ذلك1: لقد كذبتك نفسك فاكذبنها ... فإن جزعاً وإن إجمال صبر ويجوز في غير هذا الموضع أن تقع "إما" مكسورة، ولكن "ما" لاتكون لازمة، ولكن تكون زائدة في "إن" التي هي للجزاء. كما تزداد في سائرالكلام نحو: أين تكن أكن، وأينما تكن أكن، وكذلك متى تأتني آتك، ومتى ما تأتني آتك، فتقول: إن تأتني آتك، وإما تأتني آتك، تدغم النون في الميم لاجتماعهما في الغنة، وسنذكر الإدغام في موضع نفرده به إن شاء الله، كما قال امرؤالقيس2: فإما تريني لاأغمض ساعةٌ ... من الليل إلا أن أكب فأنعسا فيارب رب مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا وفي القرآن: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} 3 وقال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} 4 فأنت في زيادة "ما" بالخيار في جميع حروف الجزاء، إلا في حرفين، فإن "ما" لابد منها لعلة نذكرها إذا أفردنا باباٌ للجزاء إن شاء الله، والحرفان: حيثما تكن أكن، كما قال الشاعر:   1 زيادات ر: "هو دريد بن الصمة الجشمى". 2 كذا في ر، وفي س: "كما قال الشاعر". 3 سورة مريم 26. 4 سورة الإسراء 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 حيثما تستقم يقدرلك الله ... نجاحاٌ في غابر الأزمان والحرف الثاني" إذاما" كما قال العباس بن نرداس: إذ ما أتيت على الرسول فقل له ... حقاٌ عليك إذا اطمأن المجلس لايكون الجزاء في" حيث" و"إذ" إلا بما. قال أبو العباس: وأنشدني أبو العالية: سل المفتي المكي هل في تزاور ... ونظرة مشتاق الفؤاد جناح فقال: معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح وأنشد لبعض المحدثين: تلاصقنا وليس بنا فسوق ... ولم يرد الحرام بنا اللصوق ولكن التباعد طال حتى ... توقد في الضلوع بنا حريق فلما أن أتيح لنا التلاقي ... تعانقنا كما اعتنق الصديق وهل حرجاٌ تراه أو حراماٌ ... مشوق ضمه كلف مشوق1 وأنشدني غيره: وماهجرتك النفس يامي أنها ... قلتك ولا أن قل منك نصيبها ولكنهم يا أملح الناس أولعوا ... بقول إذا ما جئت: هذا حبيبها أنها في موضع نصب، وكان التقدير "لأنها"، فلما حذفت اللام وصلا الفعل، فعمل، تقول: جئتك أنك تحب الخير، فمعناه لأنك، وكذلك أتيتك أن تأمر لي بشيء، أي لأن وتقديره في النصب أن: "أن" الخفيفة والفعل مصدر: نحو:   1 الأبيات الواقعة بين العلامتين لم ترد في نسخة الأصل ووردت في س بين علامتى الزيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 أريد أن تقوم يافتى، أى قيامك و"أن" الثقيلة واسمها وخبرها مصدر، تقول بلغني أنك منطلق، أي انطلاقك، فإذا قلت: جئتك أنك تريد الخير، فمعناها إرادتك الخير: أي مجيئي لأنك تريد الخير إرادة يافتى، كما قال الشاعر1: وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما قوله: وأغفرعوراء الكريم ادخاره أي أدخره ادخاراٌ، وأضافه إليه، كما ثقول: ادخاراٌ له، وكذلك قوله:" تكرماٌ" إنما أراد للتكرم فأخرجه مخرج أتكرم تكرماٌ. قال أبو العباس: وأنشدني أبو العالية2: مازلت أبغي الحي أتبع ظلهم ... حتى دفعت إلى ربيبة هودج قالت: وعيش أبي وأكبر إخوتي ... لأنبهن الحي إن لم تخرج فخرجت خفية قولها، فتبسمت ... فعلمت أن يمينها لم تخرج فلثمت فاها آخذاٌ بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج وزاد فيها الجاحظ عمرو بن بحر: وتناولت رأسي لتعرف مسه ... بمخضب الأطراف غير مشنج3 تقول العرب: هودج، وبنو سعد زيد مناة ومن وليهم يقولون فودج. وقوله: فعلمت أن يمينها لم تحرج يقول: لم تضق عليها، يقال: حرج يحرج إذا دخل في مضيق والحرجة: الشجر الملتف المتضايق ما بينه، قال الله عز وجل: {فَلا يَكُنْ فِي   1 زيادات ر: هو حاتم الطائى، والبيت في ديوانه. 2 زيادات ر: "قيل إن الشعر لعروة بن أذنية" وفي حواشى الأصل إنه لجميل بن عبد الله بن معمر. 3 من التشنج وهو التقبض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} 1 وقال تعالى: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 2 وقرىء "حرجاٌ"، فمن قال: "حرجاٌ "أراد التوكيد للضيق، كأنه قال: ضيق شديد الضيق. ومن قال: "حرجاٌ" جعله مصدراٌ، مثل قولك: ضيق ضيقاٌ. وقوله: "ببرد ماء الحشرج" فهو الماء الجاري على الحجارة.   1 سورة الأعراف 2. 2 سورة الأتعام 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 لقيس بن معاذ في النسيب وقال قيس بن معاذٍ أحد بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وهو المجنون وحدثني عبد الصمد بن المعذل قال: سمعت الأصمعي يثبته ويقول: لم يكن مجنوناٌ، إنما كانت به لوثة كلوثة أبي حية3: ولم أر ليلى بعد موقف ساعةٍ ... ببطن منى ترمي جمار المحصب ويبدي الحصا منها إذا قذفت به ... من البرد أطراف البنان المخضب فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرب ألا إنما غادرت يا أم مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب هذا البيت من أعجب ما قيل في النحافة. ومما يستطرف في هذا الباب قول عمر بن أبي ربيعة: رأت رجلاٌ أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر أخا سفر جواب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعثٌ أغبر قليلاٌ على ظهر المطية ظله ... سوى ما نفى عنه الرداء المحبر ومن هذا الباب قول القائل4: فأصبحت في أقصى البيوت يعدنني ... بقية ما أبقين نصلاٌ يمانيا   1 سورة الأعراف 2. 2 سورة الأتعام 125. 3 زيادات س، ر بعد هذه الكلمة: "النميري، وهو من أشعر الناس، ومن شعره". 4 زيادات ر: "هو قيس بن معاذ مجنون بنى عامر الذي تقدم ذكره لابن الأبرش". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 بقية بدل من الياء في يعدنني بدل الاشتمال تجمعن من شتى، ثلاثٌ وأربعٌ ... وواحدةٌ حتى كملن ثمانيا1 يعدن مريضاٌ هن هيجن ما به ... ألا إنما بعض العوائد دائيا وفي هذا الباب أشياء كثيرة تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى، ومن الإفراط فيه قوله: فلو أن ما أبقيت مني معلقٌ ... بعود ثمام ما تأود عودها الثمام: نبت ضعيف، واحدته ثمامة، وهذا متجاوز كقول القائل: ويمنعها من أن تطير زمامها وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه، وأحسن منه ما أصاب به الحقيقة، ونبه فيه بفطنته على ما يخفى عن غيره، وساقه برصفٍ قوي واختصار قريب. وقال قيس بن معاذ: وأخرج من بين الجلوس لعلني ... أحدث عنك النفس في السر خاليا وإني لأستغشي وما بي نعسة ... لعل خيالاٌ منك يلقى خياليا وفي هذا الشعر: أشوقاٌ ولما تمض لي غير ليلةٍ ... رويد الهوى حتى تغب لياليا هذا من أحسن الكلام واوضحه معنى. ويستحسن لذي الرمة قوله في مثل هذا المعنى: أحب المكان القفر من أجل أنني ... به أتغنى باسمها غير معجم   1 مابين العلامتين لم ترد في الأصل، وهى في س وزيادات ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 لبعض القرشيين وأنشد1 ابن عائشة لبعض القرشيين2: وقفوا ثلاث منى بمنزل غبطةٍ ... وهم على غرض هنالك ما هم متجاورين بغير دار إقامةٍ ... لو قد أجد تفرقٌ لم يندموا3 ولهن بالبيت العتيق لبانةٌ ... والركن يعرفهن لو يتكلم لو كان حياٌ قبلهن ظعائناٌ ... حيا الحطيم وجوههن وزمزم وكأنهن وقد صدرن لواغباٌ ... بيض بأفنية المقام مركم اللاغب المعيي، قال الله عز وجل: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 4 والمركم: الذي بعضه على بعض، والمرأة تشبه ببيضة النعامة كما تشبه بالدرة، قال الله عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} 5 والمكنون: المصون، والمكن: المستور، يقال: أكننت السر، قال الله عز وجل: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 6 وقال أبو دهبل، وأكثر الناس يرويه لعبد الرحمن بن حسان7: وهي زهراء مثل لؤلؤة الغو ... اص ميزت من جوهر مكنون وقال ابن الرقيات: واضحٌ لونها كبيضة أدحي ... لها في النساء خلقٌ عميم العميم: التام، والأدحي: موضع بيض النعامة خاصة، وشعر عبد الرحمن هذا شعر مأثور مشهور عنه.   1 ر: "وأنشدنى". 2 حاشية الأصل: الشعر لابن أذنية، وانظر الأغانى 110:21. 3 زيادات ر: "يعنى طواف الوداع، وقوله: "ثلاث منى" أراد أيام النفر، وأخرجه على الليالى، وقوله: "لم يندموا" لأنهم يرجعون إلى أوطانهم". 4 سورة ق 38. 5 سورة الصافات 49. 6 سورة البقرة 235. 7 زيادات ر: "ابن ثابت الأنصارى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 لعبد الرحمن بن الأشعث في بنت معاوية وروى بعض الرواة أن أبا دهبل الجمحي كان تقياٌ وكان جميلاٌ، فقفل من الغزو ذات مرة، فمر بدمشق، فدعته امرأةٌ إلى أن يقرأ لها كتاباٌ، وقالت: إن صاحبته في هذا القصر، وهي تحب أن تسمع ما فيه، فلما دخلت به برزت له امرأةٌ جميلة، وقالت له: إنما احتلت لك بالكتاب حتى أدخلتك. فقال لها: أما الحرام فلا سبيل إليه، فقالت: فلست تراد حراماٌ، فتزوجته، وأقام عندها دهراٌ حتى نعي بالمدينة، ففي ذلك يقول وقد استأذنها ليلم بأهله ثم يعود، فجاء وقد اقتسم ميراثه، فلما هم بالعود إليها نعيت له، فهذا ما روي من هذا الوجه والذي كأنه إجماع أنه لعبد الرحمن بن حسان، وهو في بيت معاوية1: صاح حيا الإله أهلاٌ وداراٌ ... عند أصل القناة من جيرون هن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإن كنت خارجاٌ فيميني فبتلك ارتهنت بالشأم حتى ... ظن أهلي مرجمات الظنون وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون إذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناءٍ من المكارم دون ثم خاصرتها إلى القبة الخضر ... راء تمشي في مرمرٍ مسنون تجعل المسك واليلنجوج والنـ ... ـد صلاءً لها على الكانون قبةٌ من مراجلٍ ضربتها ... عند برد الشتاء في قيطون المسنون: المصبوب على استواء. والمراجل: ثياب من ثياب اليمن، قال العجاج: بشيةٍ كشية الممرجل والقيطون: البيت في جوف بيت. وقال آخر: وأبصرت سعدى بين ثوبي مراجلٍ ... وأثواب عصبٍ من مهلهلة اليمن   1 زيادات ر: "ابن أبى سفيان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ويروى أن يزيد بن معاوية قال لمعاوية: أما سمعت قول عبد الرحمن بن حسان في ابنتك? قال: وما الذي قال? قال: قال: وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون قال معاوية: صدق، فقال يزيد: وقال: وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناءٍ من المكارم دون قال: "1صدق، فقال1" إنه قال: ثم حاصرتها إلى القبة الخضر ... راء تمشي في مرمر مسنون قال معاوية: كذب.   1 ر، س: "قال معاوية. صدق فقال يزيد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 باب عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب عند رسول الله قال أبو العباس: حدثني مسعود بن بشر، قال: حدثني محمد بن حربٍ، قال: أتى عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكساه حلةً وأقعده إلى جانبه، ثم قال: "إنه ابن أمي، وكان أبوه يرحمني" 1.   1 زيادات ر: الزبير أخو عبد الله بن عبد المطلب شقيقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 لرجل من بني ضبة يخاطب بني تميم قال: وأنشدني مسعود قال: أنشدني طاهر بن علي بن سليمان قال: أنشدني منصور بن المهدي لرجل من بني ضبة بن أد، يقوله لبني تميم بن مُر بن أُدّ: أبني تميم إنني أنا عمكم ... لا تحرمن نصيحة الأعمام إني أرى سبب الفناء وإنما ... سبب الفناء قطيعة الأرحام فتداركوا بأبي وأمي أنتم ... أحسابكم1 برواجح الأحلام   1 ر، س: "أرحامكم" وفي زيادات ر: "كذا أنشد: أرحامكم، ويروى: أحسابكم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 خطبة عبد الله بن الزبير حين ورد عليه خبر قتل أخيه مصعب ويروى أنه أتى عبد الله بن الزبير [خبر] 1 قتل مصعب بن الزبير خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه أتانا خبر قتل المصعب فسررنا به، واكتأبنا [له] 1، فأما السرور فلما قدر له من الشهادة. وحيز له من الثواب، وأما الكآبة فلوعةٌ يجدها الحميم عند فراق حميمه، وإنا لله ما نموت حبجاً كميتة آل أبي العاص، إنما نموت قتلاً بالرماح، وقعصاً تحت ظلال السيوف، فإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير منه خلفاً. قوله: "حبجاً"، يقال: حبج بطنه، إذا انفتخ، وكذلك حبط بطنه. المقعص: المقتول. واللوعة: الحرقة، يقال: لاع يلاع لوعة يا فتى فهو لائع، ويقال: لاع يافتى، على القلب، وأنشد أبوزيد: ولا فرحٍ بخيرٍ إن أتاه ... ولا جزعٍ من الحدثان لاع   1 زيادة من ر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 من كلام زياد قال: وحدثني مسعود في إسنادٍ ذكره قال: قال زياد لحاجبه: يا عجلان، إني وليتك هذا الباب، وعزلتك عن أربعة. عزلتك عن هذا المنادي إذا دعا للصلاة فلا سبيل لك عليه، وعن طارق الليل فشرٌ ما جاء به، ولو جاء بخير ما كنت من حاجته، وعن رسول صاحب الثغر فإن إبطاء ساعةٍ يفسد تدبير سنة، وعن هذا الطباخ إذا فرغ من طعامه. قال: وحدثني مسعود قال: قال زياد: يعجبني من الرجل إذا سيم خطة الضيم أن يقول: "لا" بملء فيه، وإذا أتى نادي قومٍ علم أين ينبغي لمثله أن يجلس فجلس، وإذا ركب دابة حملها ما تحب ولم يبعثها إلى ما تكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 بلاغة جعفر بن يحيى وكتب إلى جعفر بن يحيى: إن صاحب الطريق قد اشتط فيما يطلب من الأموال، فوقع جعفر: هذا رجل منقطع عن السلطان، وبين ذؤبان العرب بحيث العدد والعدة، والقلوب القاسية، والأنوف الحمية، فليمدد من المال بما يستصلح به من معه ليدفع به عدوه، فإن نفقات الحروب يستظهر لها. ولا يستظهر عليها. ورفع قوم إليه1 شكية عاملهم. فوقع في قصتهم2: يا هذا، قد كثر شاكوك، [وقل حامدوك] 3، فإما عدلت، وإما اعتزلت. وزعم الجاحظ قال: قال ثمامة4 بن أشرس النميري: ما رأيت رجلاً أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون. وقال مويس بن عمران: ما رأيت رجلاً أبلغ من يحيى بن خالد، وأيوب بن جعفر. وقال جعفر بن يحيى لكتابه: إن قدرتم أن تكون كتبكم كلها توقيعاتٍ فافعلوا.   1 ر، س: "وأكثر الناس شكية عامل". 2 كلمة "قصتهم" لم ترد في س. 3 تكملة من ر. 4 س: "ثمامة الأشرس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 نبذ من الأقوال الحكيمة وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو تكاشفتم ما تدافنتم". يقول: لو علم بعضكم سريرة بعض لاستثقل تشييعه ودفنه. وقال عليه السلام: "اجتنبوا القعود على الطرقات، إلاأن تضمنوا أربعاٌ: رد السلام وغض الأبصار، وإرشاد الضال وعون الضعيف". وقالت هند بنت عتنة: إنما النساء أغلال، فليختر الرجل غلاٌ ليده. وذكرت هند بنت المهلب بن أبي صفرة النساء فقالت: ما زين بشيء كأدب بارع، تحته لب ظاهر. وقالت هند بنت المهلب بن أبي صفرة [أيضا] 1: إذا رأيتم النعم مستدرة فبادروا بالشكر قبل حلول الزوال. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "افصلوا بين حديثكم بالاستغفار". وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: قيدوا النعم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتاب. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه2: العجب لمن يهلك والنجاة معه، فقيل: كيف يا أمير المؤمنين? قال: الاستغفار. وقال الخليل بن أحمد: يعني الخليل: كن على مدارسة ما في قلبك أحرص منك على حفظ ما في كتبك. وقال ابن أحمد يعني الخليل: اجعل ما في كتبك رأس مال، وما في صدرك للنفقة. وقيل لنصر بن سيار: إن فلاناٌ لا يكتب، فقال: تلك الزمانة الخفية. وقال نصر بن سيار لولا أن عمر بن هبيرة كان بدوياٌ ما ضبط عمال العراق وهو لا يكتب.   1 تكملة من ر. 2 ر: "رضوان الله عليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وفادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رأى فداءه من أسرى بدرٍ، فمن لم يكن له فداءٌ أمره أن يعلم عشرة من المسلمين الكتابة، ففشت الكتابة بالمدينة. ومن أمثال العرب: خير العلم ما حوضر به، يعني1: ما حفظ وكان2 للمذاكرة. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لاتزال أمتي صالحاٌ أمرها ما لم تر الفيء مغنماً، والصدقة مغرماً". وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: "يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل3، ولا يظرف فيه إلا الفاجر، ولا يضعف فيه إلا المنصف، يتخذون الفيء مغنماً، والصدقة مغرماً، وصلة الرحم مناً، والعبادة استطالةً على الناس، فعند ذلك يكون سلطان النساء، ومشاورة الإماء، وإمارة الصبيان".   1 ر: "يمنى". 2 ر: "مكان". 3 زياداتر: "الماحل: الواشي، يقال: محل فلان بفلان إذا وشى به ومكر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 نبذ من أخبار الحجاج ويروى عن محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني، قال: دفع إلي الحجاج أزاد مرد بن الهربذ، وأمرني أن أستخرج منه وأغلظ عليه، فلما انطلقت به قال لي: يا محمد، إن لك شرفاً وديناً، وإني لاأعطي على القسر شيئاً، فاستأدني1 وارفق بي، قال: ففعلت، فأدى إلي في أسبوع خمسمائة ألف، قال: فبلغ ذلك الحجاج فأغضبه، وانتزعه من يدي، ودفعه إلى رجل كان يتولى له العذاب، فدق يديه ورجليه، ولم يعطهم شيئاً. قال محمد بن المنتشر: فإني لأمر يوماً في السوق إذا صائحٌ بي: يا محمد، فالتفت فإذا به معرضاً على حمارٍ، مدقوق اليدين والرجلين، فخفت الحجاج إن أتيته، وتذممت منه، فملت إليه، فقال لي: إنك وليت مني ماولي هؤلاء فأحسنت، وإنهم صنعوا بي ما ترى ولم أعطهم شيئاً، وههنا خمسمائة ألف عند فلان، فخذها فهي لك، قال: فقلت: ما كنت لآخذ منك على معروفي أجراً، ولا لأرزأك على هذه الحال شيئاً، قال: فأما إذا أبيت فاسمع أحدثك: حدثني بعض   1 استأذنى: أى طلب منى الأداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أهل دينك عن نبيك "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" كثيراً، قال: إذا رضي الله عن قوم أمطرهم المطر في وقته، وجعل المال في سمحائهم، واستعمل عليهم خيارهم، وإذا سخط عليهم استعمل عليهم شرارهم، وجعل المال عند بخلائهم، وأمطرهم المطر في غير حينه. قال: فانصرفت فما وضعت ثوبي حتى أتاني رسول الحجاج، فأمرني بالمسير إليه، فالفيته جالساً على فرشه والسيف منتضىً في يده، فقال لي: ادن، فدنوت شيئاً، ثم قال: ادن، فدنوت شيئاً، ثم صاح الثالثة: ادن لا أبا لك! فقلت: ما بي إلى الدنو من حاجة، وفي يد الأمير ما أرى. فأضحك الله سنه، وأغمد سيفه عني، فقال لي: اجلس، ما كان من حديث الخبيث? فقلت له: أيها الأمير، والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذ بتك منذ استخبرتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني. ثم حدثته الحديث، فلما صرت إلى ذكر الرجل الذي المال عنده أعرض عني بوجهه، وأومأ إلي بيده، وقال: لا تسمه، ثم قال: إن للخبيث نفساً، وقد سمع الأحاديث. ويقال: كان الحجاج إذا استغرب1 ضحكاً2 والى بين الإستغفار، وكان إذا صعد المنبر تلفع بمطرفه3 ثم تكلم رويداً فلا يكاد يسمع، ثم يتزيد في الكلام، حتى يخرج يده من مطرفه ويزجر الزجرة فيفزع بها أقصى من في المسجد وكان يطعم في كل يوم ألف مائدة، على كل مائدة ثريدٌ وجنبٌ من شواءٍ وسمكة طريةٌ، ويطاف به في محفةٍ على تلك الموائد ليتفقد أمور الناس، وعلى كل مائدة عشرة، ثم يقول: يا أهل الشأم، اكسروا الخبز لئلا يعاد عليكم. وكان له ساقيان، أحدهما يسقي الماء والعسل، والآخر يسقي اللبن. ويروى أن ليلى الأخيلية قدمت عليه فأنشدته: إذا ورد الحجاج أرضاً مريضةً ... تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العقام الذي بها ... غلامٌ إذا هز القناة ثناها4   1 استغرب ضحكا: بالغ في الضحك. 2 ومن هنا وقع خرم في نسخة الأصل، والنص، الذي أثبتناه هو نص "ر" إلى آخر الخرم. 3 المطرف: رداء من خز. 4 زيادات ر: "العقام، بالفتح والضم، والضم أفصح". وفي س: العضال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 فقال لها: لا تقولي: غلام، قولي: همامٌ، ثم قال لها: أي نسائي أحب إليك أن أنزلك عندها الليلة? قالت: ومن نساؤك أيها الأمير? قال أم الجلاس بنت سعيد بن العاصي الأموية، وهند بنت أسماء بن خارجة الفزارية، وهند بنت الملهب بن أبي صفرة العتكية، فقالت: القيسية أحب إلي. فلما كان الغد دخلت عليه فقال: يا غلام أعطها خمسمائة، فقالت: أيها الأمير، اجعلها أدماً فقال قائل: إنما لك بشاء، قالت: الأمير أكرم من ذلك، فجعلها إبلاً إناثاً استحياء، وإنما كان أمر لها بشاءٍ أولاً. والأدم1: البيض من الإبل وهي أكرمها. ويروى عن بعض الفقهاء2 قال: دعاني الحجاج فسألني عن الفريضة المخمسة وهي أمٌ وجدٌ وأخت، فقال لي: ما قال فيها الصديق رحمه الله? قلت، أعطى الأم الثلث والجد ما بقي لأنه كان يراه أباً، قال: فما قال فيها أمير المؤمنين? يعني عثمان رحمه الله قلت: جعل المال بينهم أثلاثاً، قال: فما قال فيها ابن مسعود? قال: قلت: أعطى الأخت النصف، والأم ثلث ما بقي والجد الثلثين?لأنه كان لا يفضل أما على جد. قال: فما قال فيهازيد بن ثابت?قال: قلت أعطى الأم الثلث، وجعل ما بقي بين الأخت والجد.، للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنه كان يجعل الجد كأحد الإخوة إلى الثلاثة، قال: فزم بأنفه ثم قال: فما قال فيها أبو ترابٍ? قال: قلت أعطى الأم الثلث والأخت النصف والجد السدس، قال: فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: فإنه المرء يرغب عن قوله3. وجلس4 الحجاج يأكل ومعه جماعة على المائدة منهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة، وحجار بن أبجر بن بجير العجلي، فأقبل في وسطٍ من الطعام على محمد بن عمير بن عطاردٍ فقال: يا محمد، أيدعوك قتيبة بن مسلم إلى نصرتي يوم رستقباذ5 فتقول: هذا أمر لاناقة لي فيه ولا جمل لا جعل الله لك فيه ناقة ولا جملاٌ ياحرسي، خذ بيده وجرد سيفك   1 س: "الأدم" بدون الواو. 2 زيادات ر: "هو الشعبى". 3 قال المرصفى: "إنما حمله على ذلك بغضه لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه". 4 س: "وجعل". 5 ارستقباذ: موضع بفارس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فاضرب عنقه، فنظر إلي حجاربن أبجر وهو يبتسم، فدخلته العصبية، وكان مكان حجارٍ من ربيعة كمكان محمد بن عمير من مضر، وأتى الخباز بفرنيةٍ1 فقال: اجعلها مما يلي محمداً فإن اللبن يعجبه، يا حرسي، شم سيفك وانصرف. وكان محمدٌ شريفاً، وله يقول الشاعر: علم القبائل من معد وغيرها ... إن الجواد محمدٌ بن عطارد وذكرت بنو دارم يوماً بحضرة عبد الملك، فقالوا: قوم لهم الحظ، فقال عبد الملك: أتقولون ذلك وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولا عقب له، ومضى القعقاع بن معبد بن زرارة ولا عقب له، ومضى محمد بن عمير بن عطارد ولا عقب له، والله لاتنسى العرب هؤلاء الثلاثة أبداً. قوله: "شم سيفك"، يقول: اغمده، ويقال: شمت السيف: إذا سللته، وهو من الأضداد، ويقال: شمت البرق إذا نظرت من أي ناحية يأتي. قال الأعشى: فقلت للشرب في درنى2 وقد ثملوا: ... شيموا، وكيف يشيم الشارب الشارب الثمل! وقال الفرزدق: بأيدي رجالٍ لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت وهذا البيت طريف عند أصحاب المعاني، وتأويل لم يشيموا: لم يغمدوا ولم تكثر القتلى، أي لم يغمدوا سيوفهم إلا وقد كثرت القتلى [بها] 3حين سلت.   1 الفرنية: الخبزة المستديرة، منسوبة إلى الفرن. 2 درنى: بلد باليمامة. 3 تكملة من س. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 علي بن جبلة والحسن بن سهل وحدثني الحسن بن رجاء قال: قدم علينا علي بن جبلة إلى عسكر الحسن بن سهل والمأمون هناك بانياً على خديجة بنت الحسن بن سهل المعروفة ببوران، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فقال الحسن: ونحن إذا ذاك نجري1 على نيف وسبعين ألف ملاحٍ، وكان الحسن بن سهل يسهر مع المأمون، يتصبح فيجلس الحسن للناس إلى وقت انتباهه، فلما ورد علي قلت: قد ترى شغل الأمير، قال: إذن لا أضيع معك. قلت: أجل. فدخلت على الحسن بن سهل في وقت ظهوره فأعلمته مكانه، فقال: ألاترى ما نحن فيه? قلت: لست بمشغول عن الأمر له، فقال: يعطى عشرة آلاف درهمٍ إلى أن نتفرغ له، فأعلمت ذلك علي بن جبلة، فقال في كلمة له: أعطيتني يا ولي الحق مبتدئاً ... عطيةً كافأت مدحي ولم ترني ما شمت برقك حتى نلت ريقه ... كأنما كنت بالجدوى تبادرني   1 نجرى: نعطى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 باب للمفضل بن الملهب بن أبي صفرة في الشجاعة والنجدة قال أبو العباس: قال المفضل بن المهلب بن أبي صفرة1: هل الجود إلا أن تجود بأنفسٍ ... على كل ماضي الشفرتين قضيب وما خير عيشٍ بعد قتل محمدٍ ... ويعد يزيد والحرون حبيب ومن هو أطراف القنا خشية الردى ... فليس لمجدٍ صالح بكسوب وما هي إلا رقدة تورث العلا ... لرهطك ما حنت روائم نيب وقوله: ومن هر أطراف القنا خشية الردى يقول: من كره، قال عنترة بن شداد: خلفت لهم والخيل تردى بنا معاً ... نفارقهم حتى يهروا العواليا عوالي زرقاً من رماح ردينةٍ ... هرير الكلاب يتقين الأفاعيا والردى: الهلاك، وأكثر ما يستعمل في الموت. يقال: ردي يردى ردًى، قال الله عز وجل: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} 2، وهو "تفعل" من الردى في أحد التفسيرين، وقيل: إذا تردى في النار، أي إذا سقط فيها. وقوله: " الحرون" فإن حبيب بن المهلب كان ربما انهزم عنه أصحابه فلا يريم مكانه، فكان يلقب الحرون3. وقوله: وما هي إلا رقدة تورث العلا فهذا مأخوذ من قول أخيه يزيد بن المهلب، وذلك أنه قال في يوم العقر وهو اليوم الذي قتل فيه: قاتل الله ابن الأشعث ما كان عليه لو غمض عينيه ساعة للموت، ولم يكن قتل نفسه وذلك أن ابن الأشعث قام في الليل وهو في   1 زيادات ر: "يصف الشجاعة والنجدة". 2 سورة الليل 11. 3 س: "بالحرون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 سطح، للبول، فزعموا أنه ردى نفسه، وغير أهل هذا القول يقولون: بل سقط منه بسنة النوم. وقوله: "تورث العلا لرهطك" فالمعنى تورث العلا رهطك، وهذه اللام تزاد في المفعول على معنى زيادتها في الإضافة، تقول: هذا ضاربٌ زيداً، وهذا ضاربٌ لزيدٍ، لأنها لا تغير معنى الإضافة إذا قلت: هذا ضارب زيدٍ وضارب له. وفي القرآن: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 1. وكذلك {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} 2 ويقول النحويون في قوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} 3 إنما هو "ردفكم". والنيب: جمع ناب، وهي المسنة من الإبل، وتقديرها "فعل" ساكنة، وأبدلت من الضمة كسرة لتصح الياء، كما قلت في أبيض: بيضٌ، وإنما هو مثل أحمر وحمرٍ، وكذلك أشيب وشيبٌ، فتقدير ناب ونيب إذا جاء على"فعل" و"فعل" تقدير أسد وأسدٍ، ووثنٍ ووثن، وناب تقديرها "فعلٌ" وإنما انقلبت الباء ألفاً فسكنت، وإنما تنقلب إذا كانت في موضع حركة. والروائم قد مضى تفسيرها.   1 سورة الزمر 12. 2 سورة يوسف 43. 3 سورة النحل 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 شيخ من الأعراب وامرأته وأنشدني الزيادي قال: أنشدني أبو زيد، نظر شيخٌ من الأعراب إلى امرأته تتصنع وهي عجوز فقال: عجوز ترجي أن تكون فتيةٌ ... وقد لحب الجنبان واحدودب الضهر تدس إلى العطار سلعة بيتها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر قال أبو الحسن: وزادني غير أبي العباس في شعر هذا الأعرابي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وماغرني إلا خضابٌ بكفها ... وكحل بعينيها وأثوابها الصفر وجاؤوا بها قبل المحاق بليلةٍ ... فكان محاقاً كله ذلك الشهر قال: فقالت له امرأته1: ألم تر أن الناب تحلب علبةٌ ... ويترك ثلب، لا ضرابٌ ولا ظهر! قال: ثم استغاثت بالنساء. وطلب الرجال فإذا هم خلوفٌ2، فاجتمع النساء عليه فضربنه. قوله: "قد لحب الجنبان"،يقول: قل لحمهما، يقال: بعير ملحوبٌ وقد لحب مثل عرق. وقوله: تدس إلى العطار سلعة بيتها يريد السويق والدقيق وما أشبه ذلك، وكل عرضٍ فالعرب تقول له: سلعة، أنشدني عمارة بن عقيل شعراٌ يمدح به خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني ويذم تميم ابن خزيمة بن حازم النهشلي: أأترك إن قلت دراهم خالدٍ ... زيارته? إني إذاٌ للئيم وقد يسلع المرء3 اللئيم اصطناعه ... ويعتل نقد المرء وهو كريم فتى واسطٌ في ابني نزارٍ، مجببٌ ... إلى ابني نزارٍ، في الخطوب عميم4 فليت ببرديه لنا كان خالدٌ ... وكان لبكرٍ في الثراء تميم فيصبح فينا سابقٌ متمهلٌ ... أغر، وفي بكرٍ أغم بهيم قوله: وقد يسلع المرء اللئيم اصطناعه   1 س: "فقالت المرأة". 2 خلوف: غائبون. 3 زيادات ر: "من رفع "المرء" فصب اصطناعه" وأما على تفسير أبى العباس فبنصب "اصطناعه" لاغير". 4 فتى واسط في قومه: شريف فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وقوله: "أغم بهيم"، فالغم كثرة شعر الوجه والقفا، قال هذبة بن خشرمٍ العذري: فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا والعرب تكره الغمم. والبهيم: الذي لا يخلط لونه غيره من أي لون كان. وقولها: ألم تر أن الناب تحلب علبة تقول فيها منفعة على حال، والعلبة: إناء لهم من جلود يحلبون فيه، من ذلك قوله: لم تتلفع بفضل مئزرها ... دعدٌ، ولم تغد بالعلب ومن أمثال العرب: "قد تحلب الضجور العلبة"، يضربون ذلك للرجل البخيل الذي لا يزال ينال منه الشيء القليل، والضجور: الناقة السيئة الخلق، إنما تحلب حين تطلع عليها الشمس فتطيب نفسها، والثلب: الذي قد انتهى في السن من الإبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 من أقوالهم في الفقر والغنى وقال آخر: لم أر مثل الفقر أوضع للفتى ... ولم أرى مثل المال أرفع للرذل ولم أر عزاً لامرئ كعشيرةٍ ... ولم أر ذلاً مثل نأي عن الأصل ولم أر من عدم أضر على امرئٍ ... إذا عاش بين الناس من عدم العقل وقال آخر: لعمري، لقوم المرء خير بقيةٍ ... عليه، وإن عالوا به كل مركب من الجانب الأقصى وإن كان ذا غنى ... جزيل ولم يخبرك مثل مجرب وإن خبرتك النفس أنك قادرٌ ... على ما حوت أيدي الرجال فكذب إذا كنت في قومٍ عداً لست منهم ... فكل ما علفت من خبيثٍ وطيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 العدا: الغرباء في هذا الموضع، ويقال للأعداء عداً، والعداة الأعداء لا غير. وقال أعرابي من باهلو: سأعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال يوماً أو غنى الحدثان فللموت خيرٌ من حياة يرى لها ... على المرء ذي العلياء مس هوان متى يتكلم يلغ حكم مقاله ... وإن لم يقل قالوا عديم بيان كأن الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسانٍ ناطقٌ بلسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 من أخبار حارثة بن بدر الغداني ونظير هذا الشعر ما حدثنا به في أمر حارثة بن بدرٍ الغداني، فإنا حدثنا عن حارثة بن بدر، وكان رجل بني تميم في وقته. وكان قد غلب على زيادٍ، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزيادٍ: إن هذا قد غلب عليك وهو مستهترٌ1 بالشراب، فقال زياد: كيف لي بأطراح رجلٍ هو يسايرني منذ دخلت العراق، لم يصكك ركابي ركباه، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه، ولا أخذ علي الشمس في شتاءٍ قط، ولا الروح في صيف قط، ولا سألته عن علم إلا ظننت أنه لم يحسن غيره. فلما مات زيادٌ جفاه عبيد الله، فقال له حارثة: أيها الأمير، ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة2 فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة كان قد برع بروعاً لا يلحقه معه عيب، وأنا حدثٌ، وإنما أنسب إلى من يغلب علي، وأنت رجل تديم الشراب، فمتى قربتك فظهرت رائحة الشراب منك لم آمن أن يظن بي، فدع النبيذ وكن أول داخل علي وآخر خارج عني، فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضري ونفعي، أفأدعه للحال عندك قال: فاختر من عملي ما شئت، قال: توليني رامهرمز3، فإنها أرض عذاةٌ4، وسرق5 فإن بها شراباً وصف لي. فولاه إياهما، فلما خرج شيعه الناس، فقال أنس بن أبي أنيس:   1 مستهتر بالشراب. مولع به. 2 كنيةزياد. 3 رامهرمز: مدينة في بلاد الفرس. 4 أرض غذاة: طيبة. 5 سرق: إحدى كور الأهواز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أحار بن بدرٍ قد وليت إمارةً ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق ولا تحقرن يا حار شيئاً وجدته ... فحظك من ملك العراقين سرق وباه تميماً بالغنى إن للغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق1 فإن جميع الناس، إما مكذبٌ ... يقمل بما يهوى وإما مصدق يقولون أقوالاً ولا يعلمونها ... ولو قيل: هاتوا حققوا لم يحققوا ورثى حارثة بن بدرٍ زياداً وكان زياد مات بالكوفة، ودفن بالثوية فقال: صلى الله على قبر وطهره ... عند الثوية يسفي فوقه المور زفت إليه قريشٌ نعش سيدها ... فثم كل التقى والبر مقبور أبا المغيرة والدنيا مفجعةٌ ... وإن من غرت الدنيا لمغرور وقد كان عندك بالمعروف معرفةٌ ... وكان عندك للنكراء تنكير وكنت تغشي وتعطي المال من سعةٍ ... إن كان بيتك أضحى وهو مهجور الناس بعدك قد خفت حلومهم ... كأنما نفخت فيها الأعاصير ونطير هذا قول مهلهل يرثي أخاه كليباً، وكان كليبٌ إذا جلس لم يرفع بحضرته صوت، ولم يستب بفنائه اثنان: ذهب الخيار من المعاشر كلهم ... واستب بعدك يا كليب المجلس وتقاولوا في أمر كل عظيمة ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينسبوا قول حارثة: "الثوية"، فهي بناحية الكوفة، ومن قال الثوية: فهو تصغير الثوية، وكل ياء أخرى فوقعت معتلةً طرفاً في التصغير فوليتها ياء التصغير فهي محذوفة، وذلك قولك في عطاءٍ: عطي، وكان الأصل عطييٌ، كما تقول في سحاب: سحيب، ولكنها تحذف لاعتلالها، واجتماعياءين معها، وتقول في تصغير أحوى: أحي، في قول من قال في أسود: أسيد، وهو الوجه الجيد، لأن الياء الساكنة إذا كانت بعدها واو متحركة قلبتها ياء، كقولك: أيام، والأصل "أيوام"، وكذلك سيد، والأصل سيودٌ، ومن قال في تصغير أسود: أسيودٌ فهو جائز، وليس كالأول قال في تصغير أحوى أحيو يا فتى، فتثبت الياء، لأنه ليس فيها ما يمنعها نم اجتماع الياءات، ومن قال أسود، فإنما أظهر الواو، لأنها كانت   1الهيوبة: الجبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 في التكبير متحركة، ولا تقول في عجوز إلا عجيزةٌ لأنها ساكنة، وإنما يجوز هذا على بعدٍ إذا كانت الواو في موضع العين من الفعل، أو ملحقة بالعين، نحو واو جدول، وإنما استجازوا إظهارها في التصغير للتشبيه بالجمع، لأن ما جاوز الثلاثة فتصغيرهعلى مثال جمعه، ألا تراهم يقولون في الجمع: أساود وجداول. فهذا على التشبيه بهذا. فإن كانت الواو في موضع اللام كانت منقلبة على كل حال، تقول في غزوة: غزيةٌ، وفي عروة: عريةٌ، فهذا شرح صالح في الموضوع، وهو مستقصى في الكتاب المقتضب. وقوله: "يسفي فوقه المور"، فمعناه أن الريح تسفيه، وجعل الفعل للمور وهو التراب، وتقول: سقاك الله الغيث، ثم يجوز أن تجعل الفعل للغيث، فتقول: سقاك الغيث يا فتى، وقال علقمة بن عبدة: سقاك يمانٍ ذو حبي وعارضٌ ... تروح به جنح العشي جنوب وقوله: زفت إليه قريش نعش سيدها يقال: زففت السرير، وزففت العروس. وحدثني أبو عثمان المازني قال: حدثني الزيادي قال: سمعت قوماً من العرب يقولون: أزففت العروس، وهي لغةٌ. وقوله: "نعش سيدها" يريد موضعه من النسب، لأنه نسبه إلى أبي سفيان. وكان رئيس قريش من قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وله يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل الصيد في بطن الفرا". وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفرش فراشاً في بيته في وقت خلافته فلا يجلس عليه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب، ويقول: هذا عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا شيخ قريش. وكان حرب بن أمية رئيس قريش يوم الفجار، فكان آل حرب إذا ركبوا في قومهم من بني أمية قدموا في المواكب، وأخليت لهم صدور المجالس، إلا رهط عثمان رضي الله عنه، فإن التقديم لهم في الإسلام بعثمان. وكان أبو سفيان صاحب العير يوم بدرٍ، وصاحب الجيش يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أحد وفي يوم الخندق، وإليه كانت تنظر قريش في يوم فتح مكة، وجعل له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه من دخل في داره فهو آمن قي حديث مشهور. وقوله: كأنما نفخت فيها الأعاصير هذا مثل، وإنما يراد خفة الحلوم. والإعصار فيما ذكر أبو عبيدة: ريح تهب بشدة فيما بين السماء والأرض. ومن أمثال العرب: "إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً"، يضرب للرجل يكون جلداً فيصادف من هو أجلد منه، قال لله عز وجل: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} 1. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل الصيد في بطن الفرا" يعني الحمار الوحشي، وذلك أن أجل شيئ يصيده الصائد الحمار الوحشي، فإذا ظفر به، فكأنه قد ظفر بجملة الصيد، والعرب تختلف فيه، فبعضهم يهمزه فيقول: هذا فرأ، كما ترى، وهو الأكثر، وبعضهم لا يهمزه، ومن أمثالهم "أنكحنا الفرا، فسنرى" أي زوجنا من لا خير فيه فسنعلم كيف العاقبة، وجمعه في القولين جميعاً "فراءٌ" كما ترى، ونظيره: جملٌ وجمالٌ، وجبلٌ وجبالٌ قال الشاعر2: بضرب كآذان الفراء فضوله ... وطعنٍ كإيزاع المخاض تبورها الإيزاع: دفع الناقة ببولها، يقال: أوزعت به إيزاعاً، وأزغلت به إزغالً، وذلك حين تلقح، فعند ذلك يقال لها: خلفةٌ، وللجميع المخاض، وقد مر هذا. والبور: أن تعرض على الفحل ليعلم أهي حامل أم حائل ?   1 سورة البقرة 266. 2 هو مالك بن زغبه الباهلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 لضابئ البرمجي وهو في السجن وقال ضابئ بن الحارث البرمجي1: ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقياراً بها لغريب وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً ولا عن ريثهن يخيب ورب أمور لا تضيرك ضيرةً ... وللقلب من مخاشتهن وجييب ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب   1 زيادات ر: "من السجن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وقوله: فإني وقياراً بها لغريب أراد: فإني لغريب بها وقياراٌ، ولو رفع لكان جيداٌ، تقول: إن زيداٌ منطلقٌ وعمراٌ وعمرو، فمن قال: "عمراٌ" فإنما رده على زيد، ومن قال: "عمرو" فله وجهان من الإعراب: أحدهما جيد، والآخر جائز، فأما الجيد فأن تحمل عمراٌ على الموضع، لأنك إذا قلت: إن زيداٌ منطلق فمعناه زيد منطلق فرددته على الموضع، ومثل هذا لست بقائم ولا قاعداً، والباء زائدةٌ، لأن المعنى لست قائماٌ ولا قاعداٌ، ويقرأ على وجهين: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 1 {وَرَسُولُهُ} والوجه الآخر لأن يكون معطوفاٌ على المضمر في الخبر، فإن قلت إن زيداٌ منطلق هو وعمرو حسن العطف لأن المضمر المرفوع إنما يحسن العطف عليه إذا أكدته، كما قال الله تعالى: {فاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} 2 و {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 3 إنما قبح العطف عليه بغير تأكيد لأنه لا يخلو من أن يكون مستكنا في الفعل بغير علامة، أو في الاسم الذي يجري مجرى الفعل، نحو إن زيداً ذهب وإن زيداٌ ذاهب فلا علامة له، أو تكون له علامة يتغير لها الفعل عما كان نحو ضربت، سكنت الباء التي هي لام الفعل من أجل الضمير لأن الفعل والفاعل لاينفك أحدهما عن صاحبه فهما كالشيء الواحد، ولكن المنصوب يجوز العطف عليه، ويحسن بلا تأكيد، لأنه لا يغير الفعل إذ كان الفعل قد يقع ولا مفعول فيه، نحو ضربتك وزيداً، فأما قول الله عز وجل: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} 4 فإنما يحسن بغير توكيد لأن" لا" صارت عوضاً، والشاعرإذا احتاج أجراه بلا توكيد لا حتمال الشعر ما لا يحسن في الكلام. وقال عمر بن أبي ربيعة: قلت إذا أقبلت وزهرٌ تهادى ... كنعاج الملا تعفسن رملا وقال جرير: ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأبٌ له لينالا فهذا كثير. فأما النعت إذا قلت إن زيدا يقوم العاقل فأنت مخير إن شئت   1 سورة التوبة 3. 2 سورة المائدة 24. 3 سورة البقرة 35. 4 سورة الأنعام 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 قلت العاقل فجعلته نعتاً لزيد، أو نصبته على المدح وهو بإظمار أعني، وإن شئت رفعت على أن تبدله من المضمر في الفعل، وإن شئت كان على قطع وابتدءٍ، كأنك قلت إن زيداً قام، فقيل من هو فقلت: العاقل، كما قال الله عز وجل: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} 1، أي هو النار والآية تقرأ على وجهين على ما فسرنا: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} 2 وعلام "الغيوب". وقوله: وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً ............................ يقول: إذا لم تعجل له طير سانحةٌ فليس ذلك بمبعدٍ خيراً عنه، ولا إذا أبطأت خاب، فعاجلها لا يأتيه بخير، وآجلها لا يدفعه عنه، إنما له ما قدر له، والعرب تزجر على السانح وتتبرك به، وتكره البارح وتتشاءم به، والسانح: ما أراك مياسره فأمكن الصائد، والبارح: ما أراك ميامنه فلم يمكن الصائد، إلا أن ينحرف له، وقد قال الشاعر: لا يعلم المرء ليلاً ما يصبحه ... إلا كواذب مما يخبر الفال والفال والزجر والكهان كلهم ... مضللون، ودون الغيب أقفال وقوله: ورب أمورٍ لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشلتهم وجيب3 فإن العرب تقول: ضارة يضيرة ضيرةً، ولا ضرر عليه، وضره يضره، ولا ضرر عليه [ولا ضر عليه] 4، ويقال أصابه ضر بمعنى، والضر مصدر، والضر اسم، وقد يكون الضر من المرض، والضر عاماً، وهذا معنى حسن، وقد قال أحد المحدثين، وهو إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية: وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ... وينجو بإذن الله من حيث بحذر   1 سورة الحج 72. 2 سورة سبأ 48. 3 المخشاة: الخشية: والوجيب: خفقاق القلب واضطرابه. 4 الزيادة من س. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وقال الله عز وجل: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} 1. وقال رجل لمعاوية: والله لقد بايعتك وأنا كاره، فقال معاوية: قد جعل الله في الكره خيراً كثيراً. وقوله: ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب نظيره قول كثير: أقول لها يا عز كل مصيبةٍ ... إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت وكان عبد الملك بن مروان يقول: لو كان قال هذا البيت في صفة الحرب لكان أشعر الناس. وحكي عن بعض الصالحين أن ابناً له مات فلم ير به جزعٌ، فقيل له في ذلك، فقال: هذا أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره.   1 سورة النساء 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 باب جرير بن عبد الله البجلي عند معاوية قال أبو العباس: وجه علي بن أبي طالب رضي الله عنه جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية رحمه الله يأخذه بالبيعة له، فقال له: إن حولي من ترى من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين والأنصار، ولكني اخترتك لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيك: "خير ذي يمن"، إيت معاوية فخذه بالبيعة، فقال جرير: والله ياأمير المؤمنين ما أدخرك من نصرتي شيئاً، وما أطمع لك في معاوية، فقال علي رضي الله عنه: إنما قصدي حجة أقيمها عليه، فلما إتاه جرير دافعه معاوية، فقال له جريرٌ: إن المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بداً، ولا أحسبك تبايع حتى لا تجد من البيعة بداً فقال له معاوية: إنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن إنه أمر له ما بعده، فأبلعني ريقي. فناظر عمراً، فطالت المناظرة بينهما، وألح عليه جرير، فقال له معاوية: ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله تعالى. ثم كتب لعمرو بمصر طعمة، وكتب عليه: "ولا ينقض شرطٌ طاعة"، فقال عمرو: يا غلام اكتب، ولا تنقض طاعة شرطاً، فلما اجتمع له أمره رفع عقيرته1 ينشد ليسمع جريراً: تطاول ليلي واعترتني وساوسي ... لآتٍ أتى بالترهات البسابس2 أتاني جريرٌ والحوادث جمةٌ ... بتلك التي فيها اجتداع المعاطس أكايده والسيف بيني وبينه ... ولست لأثوب الدني بلابس إن الشأم أعطت طاعةً بمنية ... تواصفها أشياخها في المجالس فإن يفعلو أصدم علياً بجبهةٍ3 ... تفت عليه كل رطبٍ ويابس وإني لأرجو خير ما نال نائلٌ ... وما أنا من ملك العراق بيائس   1 العقيرة: الصوت. 2 البسابس في الأصل: القفر الواسع، يري الأباطيل. 3 زيادات ر: "الجبهة: جماعة الخيل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب: أما بعد: فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف. وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإن فعلت كان شورى بين المسلمين. ولعمري ما حجتك علي كحجتك على طلحة والزبير، لأنهما بايعاك ولم أبايعك. وما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة لأن أهل البصرة، أطاعوك ولم يعطك أهل الشام، وأما شرفك في الإسلام، وقرابتك من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وموضعك من قريش فلست أدفعه. ثم كتب في كتاب إليه في آخر الكتاب بشعر كعب بن جعيل، وهو: أرى الشأم تكره ملك العراق ... وأهل العراق لهم كارهينا وكلا لصاحبه مبغضاً ... يرى كل ما كان من ذاك دينا إذا ما رمونا رميناهم ... ودناهم مثل ما يقرضونا فقالوا: علي إمامٌ لنا ... فقلنا: رضينا ابن هند رضينا وقالوا: نرى أن تدينوا له ... فقلنا: ألا لا نرى أن ندينا ومن دون ذلك خرط القتاد ... وضربٌ وطعنٌ يقر العيونا وأحسن الروايتين: "يفض الشؤونا". وفي آخر هذا الشعر ذم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أمسكنا عن ذكره. قوله: "ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين" فهو من الإغراء وهو التحضيض عليه، يقال أغريته به، وآسدته الكلب على الصيد أوسه إيساداً، ومن قال: أشليت الكلب في معنى أغريت فقد أخطأ، إنما أشليته دعوته إلي وآسدته أغريته. وقول ابن جعيل: وأهل العراق لهم كارهينا محمول على "أرى" ومن قال: وأهل العراق لهم كارهونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فالرفع من وجهين: أحدهما قطعٌ وابتداءٌ، ثم عطف جملة على جملة بالواو، ولم يحمله على أرى، ولكن كقولك كان زيدٌ منطلقاً، وعمرو منطلقٌ الساعة، خبرت بخبر بعد خبر، والوجه الآخر أن تكون الواو وما بعدها حالاً، فيكون معناها "إذ"، كما تقول رأيت زيداً قائماً وعمرو منطلق، تريد إذ: عمٌرو منطلق. وهذه الآية تحمل على هذا المعنى، وهو قول الله عز وجل: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} 1، والمعنى والله أعلم: إذ طائفةٌ في هذه الحال وكذلك قراءة من قرأ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} 2، أي والبحر هذه حاله، وإن قرأ {وَالْبَحْرُ} فعلى"أن"0 وقوله: ودناهم مثل ما يقرضونا يقول جزيناهم. وقال المفسرون في قوله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 3. قالوا: يوم الجزاء والحساب، ومن أمثال العرب: "كما تدين تدان"، وأنشد أبو عبيدة4: واعلم وأيقن أن ملكك زائلٌ ... واعلم بأن كما تدين تدان وللدين مواضع منها كا ذكرنا، ومنها الطاعة ودين الإسلام من ذلك يقال: فلان في دين فلانٍ، أي لم يكونوا في دين ملك، وقال زهيرٌ: لئن حللت بجو في بني أسدٍ ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك فهذا يريد: في طاعة عمرو بن هند، والدين: العادة، يقال: ما زال هذا ديني ودأبي وعادتي وديدني وإجرياي، قال المثقب العبدي:   1 سورة آل عمران 154. 2 سورة لقمان 27. 3 سورة الفاتحة 4. 4 زيادات: "الشعر ليزيد بن الصعق الكلابى وله خبر". وقد أورد هذا الخبر المرصفى في رغبة الأمل:215،214:3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني أكل الدهر حل وارتحالٌ ... أما تبقي علي وما تقيني وقال المكيت بن زيدٍ: على ذاك إجرياي وهي ضريبتي ... وإن أجلبوا طراً علي وأحلبوا1 وقوله: فقلنا: رضينا ابن هند رضينا يعني معاوية بن أبي سفيان، وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. وقوله: "أن تدينوا له"، أي أن تطيعوه وتدخلوا في دينه: أي في طاعته: وقوله: ومن دون ذلك خرط القتاد فهذا مثل من أمثال العرب، القتاد: شجيرة شاكة غليظة أصول الشوك، فلذلك يضرب خرطه مثلاً في الأمر الشديد، لأنه غاية الجهد. ومن قال: "يفض الشؤونا"، فيفض يفرق، تقول: فضضت عليه المال. والشؤون، وأحدها شأن، وهي مواصل قبائل الرأس، وذلك أن للرأس أربع قبائل، أي قطع مشعوبٌ بعضها إلى بعض، فموضع شعبها يقال له: الشؤون، واحدها شأنٌ، وزعم الأصمعي قال: يقال إن مجاري الدموع منها، فلذلك يقال استهلت شؤونه، وأنشد قول أوس من حجرٍ: لا تحزنيني بالفراق فإنني ... لا تستهل من الفراق شؤوني ومن قال "يقر العيونا"، ففيه قولان: أحدهما للأصمعي، وكان يقول: لا يجوز غيره، يقال: قرت عينه وأقرها الله، وقال: إنما هو بردت من القر، وهو خلاف قولهم: سخنت عينه وأسخنها الله، وغيره يقول: قرت هدأت، وأقرها الله أهدأها الله، وهذا قول حسن جميل، والأول أغرب وأطرف.   1 اجرياى: عادتى. وأجلبوا: صاحوا. وأحلبوا: تألبوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 جواب علي بن أبي طالب لمعاوية فكتب إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه جواب هذه الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، من علي بن أبي طالب إلى معاوية بن صخر، أما بعد: فإنه أتاني منك كتاب امرىء ليس له بصرٌ يهديه، ولا قائدٌ يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده فاتبعه، زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان. ولعمري ما كنت إلا رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا، وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلال، ولا ليضربهم بالعمى. وبعد، فما أنت وعثمان إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إلي. وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير وأهل الشام وأهل البصرة، فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواءٌ، لأنها بيعةٌ شاملة، لا يستثنى فيها الخيار، ولا يستأنف فيها النظر. وأما شرفي في الإسلام، وقرابتي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموضعي من قريش، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته". ثم عاد النجاشي أحد بني الحارث بن كعب فقال له: إن ابن جعيلٍ شاعر أهل الشام، وأنت شاعر أهل العراق، فأجب الرجل، فقال: ياأمير المؤمنين، أسمعني قوله، قال: إذاً أسمعك شعر شاعرٍ، فقال النجاشي يجيبه: دعاً يا معاوي مالن يكونا ... فقد حقق الله ما تحذرون أتاكم عليٌ بأهل العراق ... وأهل الحجاز فما تصنعونا وبعد هذا ما نمسك عنه. قوله: "ليسي له بصر يهديه"،فمعناه يقوده، والهادي: هو الذي يتقدم فيدل، والحادي: الذي يتأخر فيسوق، والعنق يسمى الهادي لتقدمه، قال الأعشى: إذا كان هادي الفتى في البلا ... د صدر القناة أطاع الأميرا يصف أنه قد عمي فإنما تهديه عصاً، ألا تراه يقول: وهاب العثار إذا ما مشى ... وخال السهولة وعثاً وعورا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وقال القطامي: إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي وقال أيضاً: قربن يقصون من بزل مخيسة ... ومن عرابٍ بعيداتٍ من الحادي وقوله: "ولا قائد يرشده" قد أبان به الأول. وقوله: "دعاه الهوى" فالهوى من" هويت" مقصور، وتقديره "فعل"، فانقلبت الياء ألفاً، فلذلك كان مقصوراً، وإنما كان كذلك لأنك تقول: هوي يهوى، كما تقول: فرق يفرق وهو هو، كما تقول: هو فرق، كما ترى، وكان المصدر على"فعل"، بمنزلة الفرق والحذر والبطر. لأن الوزن واحد في الفعل واسم الفاعل، فأما الهواء، من الجو فمدود، يدلك على ذلك جمعة إذا قلت: أهويةٌ، لأن أفعله إنما تكون جمع فعالٍ وفعالٍ وفعولٍ وفعيل، كما تقول قذالٌ وأقذلةٌ وحمار وأحمرةٌ، فهواءٌ كذلك، والمقصور جمعه أهواء فاعلم، لأنه على فعل، وجمع فعل أفعالٌ كما تقول: جمل وأجمال وقتب وأقتاب، قال الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} 1. وقوله هذا هواء يا فتى في صفة الرجل إنما هو ذمٌ، يقول: لا قلب له، قال الله عز وجل: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ} 2 أي خالية، وقال زهير: كأن الرحل منها فوق صعلٍ ... من الظلمان جؤجؤه هواء وهذا من هواء الجو، قال الهذلي3: هواءٌ مثل بعلك مستميتٌ ... على ما في وعائك كالخيال وكل واو مكسورة وقعت أولاً فهمزها جائز ينشد: "على ما في إعائك"، ويقال: وسادةٌ وإسادةٌ وشاحٌ وإشاحٌ. وأما قوله: "فما أنت وعثمان" فالرفع فيه الوجه لأنه عطف اسماً ظاهراً على اسم مضمر منفصل وأجراه مجراه، وليس ههنا فعل، فيحمل على المفعول، فكأنه قال: فما أنت وما عثمان، هذا تقديره في العربية، ومعناه لست منه في شيء، قد   1 سورة محمد 14. 2 سورة إبراهيم 43. 3 هو حبيب الأعلم، وانظر ديوان الهذليين 83:2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ذكر سيبويه رحمه الله النصب وجوزه جوازاً حسناً وجعله مفعولاً معه، وأضمر كان من أجل الاستفهام، فتقديره عنده: ما كنت وفلاناً. وهذا الشعر كما أصف لك ينشد: وأنت امرؤ من أهل نجدٍ وأهلنا ... تهامٍ وما النجدي والمتغور وكذلك قوله1: تكلفني سويق الكرم جرمٌ ... وما جرمُ وما ذاك السويق فإن كان الأول مضمراً متصلاً كان النصب، لئلا يحمل ظاهر على مضمر، تقول: ما لك وزيداً وذلك أنه أضمر الفعل، فكأنه قال في التقدير: وملابستك زيداً، وفي النحو تقديره: مع زيد. وإنما صلح الإضمار لأن المعنى عليه إذا قلت: ما لك وزيداً فإنما تنهاه عن ملابسته، إذا لم يجز" وزيدٍ" وأضمرت لأن حروف الاستفهام للأفعال، فلو كان الفعل ظاهراً لكان على غير إضمار، نحو قولك: ما زلت وعبد الله حتى فعل، لأنه ليس يريد: ما زلت ومازال عبد الله، ولكنه أراد: وما زلت بعبد الله. فكان المفعول مخفوضاً بالياء، فلما زال ما خفضه وصل الفعل إليه فنصبه، كما قال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} 2، فالواو في معنى مع، وليست بخافضة، فكان ما بعدها على الموضع، فعلى هذا ينشد هذا الشعر3: فما لك والتلدد حول نجدٍ ... وقد غصت تهامة بالرجال4 ولو قلت: ما شأنك وزيداً لا ختير النصب، لأن زيداً لا يلتبس بالشأن، لأن المعوطف على الشيء أبداً في مثل حاله، ولو قلت: ما شانك وشأن زيد لرفعت، لأن الشأن يعطف على الشأن، وهذه الآية تفسر على وجهين من الإعراب: أحدهما هذا، وهو الأجود فبها وهو قوله عز وجل: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} 5. فالمعنى والله أعلم: مع شركائكم، لأنك تقول: جمعت   1 زيادات ر: "هو الأعجم". 2 سورة الأعراف 155. 3 زيادات ر: "هو مسكين الدارمى". 4 التلدد: التلفت يمينا وشمالا. 5 سورة يونس: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 قومي، وأجمعت أمري، ويجوز أن يكون لما أدخل الشركاء مع الأمر حمله على مثل مثل لفظه. لأن المعنى يرجع إلى شيء واحد، فيكون كقوله1: ياليت زوجك قد غدا ... مقتلداً سيفاً ورمحا وقال آخر: شراب ألبانٍ وتمرٍ أقط وهذا بين.   1 زيادات ر: "هو عبد الله بن الزبعرى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 خالد بن يزيد بن معاوية عند عبد الملك بن مروان ويروى أن عبد الله بن يزيد بن معاوية أتى أخاه خالداً، فقال: يا أخي، لقد هممت اليوم أن أفتك بالوليد بن عبد الملك فقال له خالد: بئس والله ما هممت به في ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين فقال: إن خيلي مرت به فعبث بها وأصغرني، فقال له خالد: أنا أكفيك، فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، الوليد ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، فقال: إن خيلي مرت به فعبث بها وأصغرني، فقال له خالد: أنا أكفيك، فدخل خالد على عبد الملك والوليد عنده، فقال يا أمير المؤمنين، الوليد ابن أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين، مرت به خيل ابن عمه عبد الله بن يزيد فعبث بها، وأصغره، وعبد الملك مطرق، فرفع رأسه، فقال: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 1، فقال خالد: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} 2، فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلمني والله لقد دخل علي فما أقام لسانه لحناً فقال له خالد: أفعلى الوليد تعول فقال عبد الملك: إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان، فقال له خالد: وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد، فقال له الوليد: اسكت يا خالد، فوالله ما تعد في العير ولا في النفير، فقال خالد: اسمع يا أمير المؤمنين، ثم أقبل عليه وقال: ويحك فمن العير والنفيرغيري? جدي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير، ولكن لو قلت: غنيمات، وحبيلات، والطائف ورحم الله عثمان لقلنا: صدقت!   1 سورة النمل: 34. 2 سورة الإسراء 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 أما قوله: "في العير" فهي عير قريش التي أقبل بها أبو سفيان من الشأم فنهد إليها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وندب إليها المسلمين، وقال: "لعل الله ينفلكموها"، فكانت وقعة بدر، وساحل أبو سفيان بالعير، فكانت الغنيمة ببدر، كما قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} 1. أي غير الحرب، فلما ظفر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأهل بدر، قال المسلمون: انهد بنا2 يا رسول الله إلى العير، فقال العباس رحمه الله: إنما وعدكم الله إحدى الطائفتين. وأما النفير فمن نفر من قريش ليدفع عن العير، فجاؤوا فكانت وقعة بدر، وكان شيخ القوم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وهو جد خالد من قبل جدته هند، أم معاوية بنت عتبة، ومن أمثال العرب: لست في العير يوم يحدون ... بالعير ولا في النفير يوم النفير ثم اتسع هذا المثل حتى صار يقال لمن لا يصلح لخير ولا لشر ولا يحفل به: لا في العير، ولا في النفير. وقوله: "غنيمات، وحبيلات" يعني أن رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أطرد الحكم بن أبي العاصي بن أمية. وهو جد عبد الملك بن مروان لجأ إلى الطائف، فكان يرعى غنيمات، ويأوي إلى حبيلة وهي الكرمة. وقوله: "رحم الله عثمان": أي لرده إياه. وقولنا" أطرده": أي جعله طريداً، وطرده: نحاه، كما تقول حمدته: أي شكرته، وأحمدته: أي صادفته محموداً. وكان عثمان رحمه الله استأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رده متى أفضى الأمر إليه، روى ذلك الفقهاء.   1 سورة الأنفال: 7. 2 نهد ونهض كلاهما بمعنى واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 باب لرجل من بني أسد يمدح يحيى بن حيان قال أبو العباس: قال رجل من بني أسدٍ بن خزيمة يمدح يحيى بن حيان أخا النخع بن عمرو بن علة بن جلد مذحج، وهو مالك: ألا جعل الله اليمانين كلهم ... فدى لفتى يحيى بن حيان ولولا عريق في من عصبيةٍ ... لقلت وألفا من معد بن عدنان ولكن نفسي لم تطب بعشيرتي ... وطابت له نفسي بأبناء قحطان وهذا من التعصب المفرط. وحدثني شيخ من الأزد ثقة عن رجل منهم أنه كان يطوف بالبيت، وهو يدعو لأبيه، فقيل له: ألاتدعو لأمك فقال: إنها تميمية. وسمع رجل يطوف بالبيت، وهو يدعو لأمه ولا يذكر أباه، فعوتب، فقال: هذه ضعيفة، وأبي رجل يحتال لنفسه. وحدثني المازني عمن حدثه قال: رأيت رجلاً يطوف بالبيت، وأمه على عنقه، وهو يقول: أحمل أمي وهي الحماله ... ترضعني الدرة والعلاله لا يجازى والد فعاله قوله: "الدرة" فهو اسم ما يدر من ثدييها، ابتداء كان ذلك أو غير ذلك والعلالة لا تكون إلا بعد، يقال: عله يعله ويعله علاً، والاسم العلالة، وكل شيء كان على "فعلت" من المدغم. فمضارعه إذا كان متعدياً إلى مفعول يكون على يفعل، نحو رده يرده، وشجه يشجه، وفر يفره، فإذا قلت: فر يفر، فإنما ذلك لأنه غير متعد إلى مفعول، ولكن تقول: فررت الدابة أفره. وجاء "فعل يفعل" من المتعدي في ثلاثة أحرف يقال: عله يعله ويعله، وهره يهره ويهره: إذا كرهه، ويقال: أحبه يحبه، وجاء حبه يحبه، ولا يكون فيه "يفعل" قال الشاعر: لعمرك إنني وطلاب مصر ... لكالمزداد مما حب بعدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وقال آخر: وأقسم لولا تمره ما حببته ... وكان عياض منه أدنى ومشرق وقرأ أبو رجاء العطاردي: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 1، ففعل في هذا شيئين أحدهما أنه جاء به من "حببت" والآخر أنه أدغم في موضع الجزم وهو مذهب تميم وقيس وأسد وجماعة من العرب يقولون: رد يا فتى، يدغمون، ويحركون الدال الثانية لالتقاء الساكنين فيتبعون الضمة الضمة. ومنهم من يفتح لالتقاء الساكنين فيقول: رد يا فتى، لأن الفتح أخف الحركات، ومنهم من يقول رد يافتى فيكسر: لأن حق التقاء الساكنين الكسر، فإذا كان الفعل مكسوراً ففيه وجهان: تقول: فر يا فتى للإتباع وللأصل في ألتقاء الساكنين، وتفتح. لأن الفتح أخف الحركات، وإذا كان مفتوحاً فالفتح للإتباع، ولأنه أخف الحركات، والكسر على أصل التقاء الساكنين، نحو. عض، يا فتى، وعض يا فتى، فإذا لقيته ألف ولام فالأجود الكسر، من أجل ما بعده، وهي لام المعرفة، نحو: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا ومنهم من يجري مجرى الأول، فتقع لام المعرفة بعد انقضاء الحركة في الأول فيقول2: ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام ومن كان من شأنه أن يتبع أو يكسر فعلى ذلك، ومما جاء في القرآن على لغة من يكسر قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3. وأما أهل الحجاز فيجرونه على القياس الأصلي، فيقول: اردد واغضض، ويقولون: افرر من زيد واعضض. لما سكن الثاني ظهر التضعيف لأنه لا يلتقي ساكنان، وكل ذلك من قولهم وقول التميميين قياس مطرد بين، وقد شرحناه في الكتاب المقتضب على حقيقة الشرح.   1 سورة آل عمران 31. 2 زيادات ر: "هو جرير". 3 سورة الحشر 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 لرجل في الصبر وقال آخر: إذا ضيقت أمراً ضاق جداً ... وإن هونت ما قد عز هانا فلا تهلك لشيء فات يأساً ... فكم أمر تصعب ثم لانا سأصبر عن رفيقي إن جفاني ... على كل الأذى إلا الهوانا فإن المرء يجزع في خلاءٍ ... وإن حضر الجماعة أن يهانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 لعبيد بن أيوب العنبري وقال آخر أحسبه من لصوص بني سعد. قال أبو الحسن: هو عبيد بن أيوب العنبري، وأنشد هذا الشعر ثعلب: فإني وتركي الإنس من بعد حبهم ... وصبري عمن كنت ما إن أزايله لكالصقر جلى بعد ما صاد قنية ... قديراً ومشوياً عبيطاً خرادله أهابوا به فازداد بعداً وصده ... عن القرب منهم ضوء برقٍ ووابله ألم ترني صاحبت صفراء نبعة ... لها ربذي لم تفلل معابله وطال احتضاني السيف حتى كأنما ... يلاط بكشحي جفنه وحمائله أخو فلواتٍ صاحب الجن وانتحى ... عن الإنس حتى قد تقضت وساءله وقوله: وصبري عمن كنت ما إن أزايله إن: زائدة، وهي تزاد مغيرة للإعراب، وتزاد توكيداً، وهذا موضع ذلك، فالموضع الذي تغير فيه الإعراب هو وقوعها بعد"ما" الحجازية، تقول: ما زيدٌ أخاك، وما هذا بشراً، فإذا أدخلت إن هذه بطل النصب بدخولها، فقلت: ما إن زيد منطلق، قال الشاعر1: وما إن طبنا جبنٌ ولكن ... منايانا ودولة آخرينا   1 زيادات ر: "هو فروة بن مسبك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 فزعم سيبويه أنها منعت "ما" العمل كما منعت "ما" إن الثقيلة أن تنصب تقول: إن زيداً منطلق، فإذا أدخلت"ما" صارت من حروف الابتداء، ووقع بعدها المبتدأ وخبره والأفعال، نحو: إنما زيد أخوك، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1 ولولا "ما" لم يقع الفعل بعد"إن" لأن"إن" بمنزلة الفعل، ولا يلي فعل فعلاً لأنه لا يعمل فيه، فأما كان يقوم زيدٌ، "كاد يزيع قلوب فريق منهم" ففي كان وكاد فاعلان مكنيان. و"ما" تزاد على ضربين، فأحدهما أن يكون دخولها في الكلام كإلغائها، نحو {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} 2 أي فبرحمة، وكذلك: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} 3 وكذلك {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} 4 وتدخل لتغيير اللفظ، فتوجب في الشيء ما لولا هي لم يقع، نحو ربما ينطلق زيد، و {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 5، ولولا" ما" لم تقع رب على الأفعال، لأنها من عوامل الأسماء، وكذلك جئت بعد ما قام زيد، كما قال المرار6: أعلقة أم الوليد بعد ما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس 7 فلولا" ما" لم يقع بعدها إلا اسم واحد، وكان مخفوضاً بإضافة" بعد" إليه، تقول: جئتك بعد زيد. وقوله: "كالصقر جلى"، تأويل التجلي أن يكون يحس شيئاً فيتشوف إليه، فهذا معنى" جلى"، قال العجاج: تجلى البازي إذا البازي كسر أي نظر، ويقال: تجلى فلانٌ فلانه تجلياً، وأجتلاها اجتلاءً، أي نظر إليها وتأملها، والأصل واحد. وقوله: " قديراً:، هو ما يطبخ في القدر، يقال: قدير ومقدور، كقولك: قتيل ومقتولٌ.   1 سورة فاطر 28. 2 سورة آل عمران 159. 3 سورة نوح 25. 4 سورة البقرة 26. 5 سورة الحجر 2. 6 زيادات ر: "هو المراد الفقعسى". 7 العلاقة: الحب. والوليد: تصغير الوليد، والأفتان في الصل: الغصون، وأراد بها هاهنا خصل الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وقوله:" عبيطاً خرادله"، فالعبيط الطري، يقال: لحم عبيط إذا كان طرياً، وكذلك دم عبيطٌ، ويقال اعتبط فلان بكرته إذا نحرها شابةً من غير علةٍ وكذلك اعتبط فلان إذا مات شاباً، قال أمية1: من لم يمت عبطة يمت هرما ... للموت كأس فالمرء ذائقها وحدثني الزيادي إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن ابي بكر بن عبد الرحمن ابن زياد. قال تحدث رجل من الأعراب، قال: نزلت برجل من طيئ، فنحر لي ناقة فأكلت منها، فلما كان الغد نحر أخرى، فقلت: إن عندك من اللحم ما يغني ويكفي، فقال: إني والله لا أطعم ضيفي إلا لحماً عبيطاً، قال: وفعل ذلك في اليوم الثالث وفي كل ذلك آكل شيئاً، ويأكل الطائي أكل جماعةٍ ثم نؤتى باللبن فأشرب شيئاً، ويشرب عامة الوطب2، فلما كان في اليوم الثالث ارتقبت غفلته فاضطجع، فلما امتلأ نوماً استقت قطيعاً من إبله فأقبلته الفج3، فانتبه واختصر علي الطريق حتى وقف لي في مضيق منه، فألقم وتره فوق4 سهمه، ثم نادى بي: لتطب نفسك عنها قلت أرني آية، فقال. انظر إلى ذلك الضب، فإني واضع سهمي في مغرز ذنبه، فرماه فأندر ذنبه5، فقلت زدني، فقال: انظر إلى أعلى فقاره، فرماه فأثبت سهمه في الموضع، ثم قال لي: الثالثة والله في كبدك فقلت: شأنك بإبلك فقال: كلا حتى تسوقها إلى حيث كانت. قال: فلما انتهيت بها قال: فكرت فيك فلم أجد لي عندك ترة تطالبني بها، وما أحسب الذي حملك على أخذ إبلي إلا الحاجة. قال: قلت هو والله ذاك. قال: فاعمد إلى عشرين من خيارها فخذها، فقلت: إذاٌ والله لاأفعل حتى تسمع مدحك: والله ما رأيت رجلاٌ أكرم ضيافةٌ، ولا أهدى لسبيلٍ، ولا أرمى كفاٌ، ولا أوسع صدراٌ، ولا أرغب6 جوفاٌ، ولا أكرم عفواٌ منك قال: فاستحيا فصرف وجهه عني، ثم قال: انصرف بالقطيع مباركاٌ لك فيه. وقوله: "خرادله" يعني قطعه، يقال: ضرباٌ خردله، وتأويله قطعه، كما قال:   1 زيادات ر: "ابن أبى الصلت، والصحيح أنه لرجل من الخوارج، عن الأصمعى". 2 الوطب: سقاء اللبن. 3 الفج: الطريق الواضح. 4 الفوق: مشق رأس السهم حيث يقع الوتر. 5 أندرذنبه: قطعها. 6 من الرغب، وهو سعة البطن وكثرة الأكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 والضرب يمضي بيننا خرادلا وقوله: "أهابوا به"، يقول: دعوه، يقال: أية به، وأهاب به: أي ناداه، قال القرشي: أهاب بأحزان الفؤاد مهيب ... وماتت نفوس للهوى وقلوب وقوله: "ضوء برق ووابله"، أراد صده عنهم ضوء برقٍ ووابله، فأضاف الوابل من المطر إلى البرق. وإنما الإضافة إلى الشيء على جهة التضمين، ولا يضاف الشيء إلى الشيء إلا وهو غيره أو بعضه، فالذي هو غيره: غلام زيدٍ ودار عمرو، والذي هو بعضه: ثوب خز، وخاتم حديد، وإنما أضاف الوابل إلى البرق، وليس هو له، كما قلت: دار زيد، على جهة المجاورة، وأنهما راجعان إلى السحابة، وقد يضاف ما كان كذا على السعة، كما قال الشاعر: حتى أنخت قلوصي في دياركم ... بخير من يحتذي نعلاً وحافيها فأضاف الحافي إلى النعل، والتقدير: حافٍ منها. ألم ترني صاحبت صفراء نبعة فالنبع خير الشجر للقسي، ويقال: إن النبع والشوحط والشريان شجرة واحدة، ولكنها تختلف أسماؤها وتكرم وتحسن بمنابتها، فما كان في قلة الجبل منها فهو النبع، وما كان في سفحه فهو الشوحط، وما كان في الحضيض فهو الشريان. وقوله: "لها ربذي"، يريد وتراً شديد الحركة عند دفع السهم، يقال رجل ربذ اليد إذا كان يكثر التحريك ليديه والعبث بهما، ويوصف به الفرس لكثرة حركة قوائمه، وكان الأصل ربذاً لأنه" ربذ"، ولكن ما كان من "فعل" فنسب إليه فتح موضع العين منه استثقالاً لاجتماع ياءي النسب وكسرة اللام، لأن ياءي النسب تكسران ما تليانه، فلم يدعوا مع ذلك العين مكسورة، تقول في النسب إلى النمر بن قاسط: نمري، وإلى الحطبات: حبطي، وإلى شقرة وهو الحارث ابن تميم بن مر: شقري، وفي النسب إلى عم عموي يا فتى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وقوله: "لم تفلل معابله"، يريد لم ينكسر حدها، من الفلول. ويروى أن عروة بن الزبير سأل عبد الملك أن يرد عليه سيف أخيه عبد الله بن الزبير فأخرجه إليه في سيوف منتضاةٍ، فأخذه عروة من بينها، فقال له عبد الملك: بم عرفته فقال: بما قال النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب والمعبلة: واحد المعابل، وهي سهم خفيف، قال عنترة: وآخر منهم أجررت رمحي ... وفي البجلي معبلة وقيع1 بإسكان الجيم لاغير. [قال أبو الحسن: بجيلة: قبيلة من بني الهجيم، من اليمن] .   1 الوقيع، من وقع المدية ونحوها يقعها وقعا: أحدها. والبجلى: منسوب إلى بجلة، لقب مالك بن ثعلبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 باب لبعض الشعراء يحرض على خالد بن يزيد قال أبوالعباس: تزوج خالد بن يزيد بن معاوية نساء هن شرف من هن منه، منهن أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وآمنة بنت سعيد بن العاصي بن أمية، ورملة بنت الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ففي ذلك يقول بعض الشعراء يحرض عليه عبد الملك: عليك أمير المؤمنين بخالدٍ ... ففي خالدٍ عما تحب صدود إذا ما نظرنا في مناكح خالدٍ ... عرفنا الذي ينوي وأين يريد؟ فطلق آمنة بنت سعيد، فتزوجها الوليد بن عبد الملك، ففي ذلك يقول خالد: فتاة أبوها ذو العصابة، وابنه ... وعثمان، ما أكفاؤها بكثير فإن تفتلتها والخلافة، تنقلب ... بأكرم علقي منبر وسرير قوله: " أبوها ذو العصابة"يعني سعيد بن العاصي بن أمية، وذلك أن قومه يذكرون أنه كان إذا اعتم لم يعتم قرشي إعظاماٌ له، وينشدون: أبو أحيحة من يعتم عمته ... يضرب وإن كان ذا مالٍ وذا عدد ويزعم الزبيريون أن هذا البيت باطل موضوع. وقوله: " فإن تفتلتها": يقول: تأخذها فجاءةٌ، ومن ذلك قول الشاعر: من يأمن الأيام بعد ... صبيرة القرشي ماتا1 سبقت منيته المشيب ... وكان ميتته افتلاتا وفي الحديث أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي افتلتت، أي ماتت فجاءة.   1 زيادات ر: "صبيرة، بالصاد مهملة في الرواية المشهورة، وبالضاد معجمة، رواية عاصم، على الشرط وكسر النون لالتقاء الساكنين" رواية ابن سراج برفع "يأمن"، على الاستفهام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 لخالد بن يزيد في رملة بنت الزبير ويروى أن آمنه لبثت عند الوليد، فلما هلك عبد الملك سعى بها ساع إلى الوليد. قال أبو العباس: وبلغني أنها سعت بها إحدى ضراتها إلى الوليد بأنها لم تبك على عبد الملك كما بكى نظائرها فقال لها الوليد في ذلك، فقالت: صدق القائل، أكنت قائلة ماذا أقول ياليته كان بقي حتى يقتل أخاً لي آخر كعمرو بن سعيد! وفي رملة بنت الزبير يقول خالد: تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالاً يجول ولا قلبا1 فلا تكثروا فيها الملام فإنني ... تخيرتها منهم زبيرية قلبا2 أحب بني العوام طراً لحبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا وزيد فيها: فإن تسلمي أسلم وإن تتنصري ... يعلق رجال بين أعينهم صلبا فيروى أن عبد الملك ذكر له هذا البيت، فقال له: يا خالد، أتروي هذا البيت فقال: يا أمير المؤمنين، على قائلة لعنة الله!   1 القلب هنا: السوار. 2 امرأة قلب، بفتح القاف: خالصة النسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 زواج الحجاج بن يوسف بابنة عبد الله بن جعفر ثم طلاقه لها وذكر العتبي أن الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي لما أكره عبد الله بن جعفر على أن زوجه ابنته استأجله في نقلها سنة، ففكر عبد الله بن جعفر في الانفكاك منه، فألقي في روعه خالد بن يزيد، فكتب إليه يعلمه ذلك، وكان الحجاج تزوجها بإذن عبد الملك، فورد على خالد كتابه ليلاً، فاستأذن من ساعته على عبد الملك، فقيل له: أفي هذا الوقت فقال: إنه أمر لا يؤخر، فأعلم عبد الملك بذلك. فأذن له، فلما دخل عليه، قال له عبد الملك: فيم السرى يا أبا هاشم قال: أمر جليل لم آمن أن أؤخر، فتحدث علي حادثة فلا أكون قضيت حق بيعتك، قال: وما? قال: أتعلم أنه ما كان بين حيين من العداوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 والبغضاء ما كان آل الزبير وآل أبي سفيان? قال لا. قال: فإن تزويجي إلى آل الزبير حلل ما كان لهم في قلبي، فما أهل بيت أحب إلي منهم، قال: فإن ذلك ليكون، قال: فكيف أذنت للحجاج أن يتزوج في بني هاشم، وأنت تعلم ما يقولون ويقال فيهم، والحجاج من سلطانك بحيث علمت قال: فجزاه خيراٌ، وكتب إلى الحجاج بعزمةٍ أن يطلقها فطلقها، فغدا الناس عليه يعزونه عنها، فكان فين أتاه عمرو بن عتبة بن أبي سفيان، فأوقع الحجاج بخالد، فقال: كان الأمر لآبائه فعجز عنه حتى انتزع منه. فقال له عمرو بن عتبة: لاتقل ذا أيها الأمير، فإن لخالد قديماٌ سبق إليه، وحديثاٌ لم يغلب عليه، ولو طلب الأمر لطلبه بحد وجد، ولكنه علم علماٌ، فسلم العلم إلى أهله، فقال الحجاج: يا آل أبي سفيان، أنتم تحبون أن تحلموا ولا يكون الحلم إلا عن غضب، فنحن نغضبكم في العاجل ابتغاء مرضاتكم في الآجل، ثم قال الحجاج: والله لأتزوجن من هو أمس به رحماٌ، ثم لا يمكنه فيه شيء، فتزوج أم الجلاس بنت عبد الله بن خالد بن أسيد. أما قوله: "ألقي في روعه"، فإن العرب تقول ألقي في روعي، وفي قلبي وفي جخيفي وفي تاموري كذا كذا، ومعناه كله واحد، إلا أن لهذه الأشياء. مواضع مختصة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وصلم: "إن روح القدس نفث في روعي"، فالروع والجخيف غير مختلفين، والعرب تقول: أذهب الله قلبه، ولا قلب له. ولا تقول: لاروع له، فكأن الروع هو متصل بالقلب، وعنه يكون الفهم خاصة، ويقال: رأيت قلب الطائر. ولا يقال: رأيت روع الطائر، والتامور عند العرب: بقية النفس عند الموت، وبعضهم يفصح عنه فيجعله دم القلب خاصة الذي يبقى للا نسان ما بقي، يقال: ضعه في تامورك وفي قلبك وفي روعك وفي جخيفك. والذماء، ممدود: مثل التامور سواء تقول العرب: ليس في الحيوان أطول ذماء من الضب، وذلك أنه يذبح ثم يطرح في النار بعد أن ظن أنه قد برد فربما سعى من النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 نبذ من أقوال الحكماء وقال رجل لإبراهيم بن أدهم: عظني، فقال: اتخذ الله صاحباً وذر الناس جانباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 قال سعيد بن المسيب: كنت بين القبر والمنبر مفكراً، فسمعت قائلاً ولم أره: اللهم إني أسألك عملاً باراً. ورزقاً داراً. وعيشاً قاراً.1 قال سعيد: فلزمتهن فلم أر إلا خيراً. وقال الأصمعي: كان من دعاء أبي المجيب: اللهم اجعل خير عملي ما قارب أجلي. قال: وكان يقول في دعائه: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فنعجز، ولا إلى الناس فنضيع.   1 قارا: مستقرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 أعرابي في حلقة يونس قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: حدثني أبو زيد قال: وقف علينا أعرابي في حلقة يونس النحوي فقال: الحمد لله كما هو أهله، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه، خرجنا من المدينة، مدينة رسول الله صلى الله عليه سلم، ثلاثين رجلاً ممن أخرجته الحاجة، وحمل على المكروه، لا يمرضون مريضهم، ولا يدفنون ميتهم، ولا ينتقلون من منزلٍ إلى منزل وإن كرهوه. والله يا قوم لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق، ولقد مشيت حتى انتعلت، وحتى خرج من قدمي بخص ولحم كثير. أفلا رجل يرحم ابن سبيل، وفل طريق، ونضو سفر فإنه لا قليل من الأجر، ولا غنى عن ثواب الله عز وجل، ولا عمل بعد الموت، وهو الذي يقول جل ثناؤه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} 2 ملي وفي ماجد واجد جوادٌ، لا يستقرض من عوزٍ، ولكنه يبلو الأخيار. قال: فبلغني أنه لم يبرح حتى أخذ ستين ديناراً. قوله: "بخص"، يريد اللحم الذي يركب القدم، هذا قول الأصمعي، وقال غيره: هو لحم يخلطه بياض من فساد يحل فيه، ويقال: بخصت عينه، بالصاد، ولا يجوز إلا ذلك، ويقال. بخسته حقه، بالسين: إذا ظلمته ونقصته، كما قال الله عز وجل: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} 3، وفي المثل: "تحسبها حمقاء وهي باخسٌ" ويدل على أنه اللحم الذي قد خالطه الفساد قول الراجز:   1 قارا: مستقرا. 2 سورة البقرة 345. 3 سورة الأعراف 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 [قال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش: الراجز هو أبو شراعة] يا قدمي لا أرى لي مخلصاً ... مما أراه أو تعودا بخصا1 وقوله "فل" فالفل في أكثر كلامهم: المنهزم الذاهب. وفي خبر كعب بن معدان الأشعري2"إنا آثرنا الحد على الفل". يعني مجاهدتهم عبد ربه الصغير، لأنه كان مقبلاً على حربهم وتركهم قطرياً لأنه كان منهزماً.   1 قال المرصفى: "يريد ذواتى بخس". 2 زيادات ر: "الأشقرى، بالقاف لاغير". وخبر كعب هو حديثه مع الحجاج بن يوسف، وكان قد وجهه المهلب بن أبى صفوة الأزدى يبشره بمناهدته الخوارج وفراغه لهم. وانظر رغبة الأمل 28:5". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 خبر الحجاج بن علاط السلمي مع قريش وفي حديث الحجاج بن علاط السلمي. وكان قد أسلم ولم تعلم قريش بإسلامه، فاستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر في أن يصيرإلى مكة فيأخذ ما كان له من مال، وكانت له هناك أموال متفرقة، وهو غريب بينهم إنما هو أحد بني سليم بن منصور، ثم أحد بني بهزٍ فأذن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، إني أحتاج أن أقول، قال: "فقل". قال أبو العباس: وهذا كلام حسن ومعنى حسن، يقول: أقول على جهةالاحتيال غير الحق، فأذن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه من باب الحيلة، وليس هو من باب الفساد، وأكثر ما يقال في هذا المعنى تقول، كما قال المولى عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} 2 فصار إلى مكة فقالت قريش: هذا لعمر الله عنده الخبر. قال: فقولوا: بلغنا أن القاطع4 قد يخرج إلى أهل خيبر، فقال الحجاج: نعم، فقتلوا أصحابه قتلاً لم يسمع بمثله، وأخذوه أسيراً، وقالوا: نرى أن نكارم به قريشاً، فندفعه إليهم، فلا تنال لنا هذه اليد في رقابهم. وإنما بادرت لجمع مالي لعلي أصيب به من فل محمدٍ وأصحابه قبل أن تسبقني إليه   1 سورة الطور 44. 2 يصفون محمدا بقطع الأرحام، وحاشاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 التجار ويتصل بهم الحديث. قال: فاجتهدوا في أن جمعوا إلي مالي أسرع جمعٍ، وسروا أكثر سروراً، وقالوا بلا رغم1، وأتاني العباس وهو كالمرأة الواله2 فقال: ويحك يا حجاج ما تقول قال: فقلت: أكاتمٌ أنت علي خبري? فقال: إي والله قال: فقلت: فالبث علي شيئاً حتى يخف موضعي. قال فسرت إليه، فقلت. الخبر والله على خلاف ما قلت لهم، خلفت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد فتح خيبر، وخلفته والله معرساً بابنة ملكهم، وما جئتك إلا مسلماً، فاطو الخبر ثلاثاً حتى أعجز القوم، ثم أشعه، فإنه والله الحق، فقال: العباس: ويحك، أحق ما تقول? قلت إي والله قال: فلما كان بعد ثلاثة تخلق العباس، وأخذ عصاه وخرج يطوف بالبيت قال: فقالت: قريش: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة فقال: كلا، ومن حلفتم به لقد فتحها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعرس بابنة ملكهم فقالوا: من اتاك بهذا الحديث? فقال: الذي أتاكم بخلافه، ولقد جاءنا مسلماً، ثم أتت الأخبار من النواحي بذلك، فقالوا: أفلتنا الخبيث، أولى له3. وأصل الفل مأخوذ من فللت الحديدة4 إذا كسرت حدها. والنضو: البالي المجهود، ويقال ناقة نضوٌ: إذا جهدها السير، وجمعه أنضاءٌ، وفلان نضوً من المرض. وقوله: "لا يستقرض من عوزٍ"، فالعوز: تعذر المطلوب، يقال: أعوز فلان فهو معوز إذا لم يجد، والمعاوز في غير هذا الموضع: الثياب التي تبتذل ليصان بها غيرها. وقوله: "ولكن ليبلوا الأخيار"، يقال: الله يبلوهم ويبتليهم ويختبرهم في معنى، وتأويله: يمتحنهم، وهو العالم عز وجل بما يكون كعلمه بما كان، قال ال جلله ثناؤه {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 5 قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: رأيت أبا فرعون العدوي، ومعه   1 الرغم هنا: الكره. 2 الواله: الحزينة. 3 أولى له: كلمة تهديد وتوعد، غلبت في الدعاء بالعسر. 4 الحديدة: وصف للسكين يقال سكين حديدة، وحادة. 5 سورة هود 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ابنتاه، وهو في سكة العطارين بالبصرة يقول: بنيتي صابرا أباكما ... إنكما بعين من يراكما الله ربي سيدي مولاكما ... ولو يشاء عنهم أغناكما وكان أبو فرعون، وهو من بني عدي بن الرباب بن عبد مناة بن أد، وقال اليزيدي: هو مولاهم وكان فصيحاً، وقدم قوم من الأعراب البصرة من أهله، فقيل له: تعرض لمعروفهم، فقال: ولست بسائل الأعراب شيئاً ... حمدت الله إذ لم يأكلوني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 حديث رجل من الصيارفة افتقر وروى الأسدي أنه افتقر أنه رجل من الصيارفة بإلحاح الناس في أخذ أموالهم التي كانت لهم لديه، وتعذر أمواله التي كانت له عند الناس، فسأل جماعة من الجيران أن يصيروا معه إلى رجل1 من قريش كان موسراٌ من أولاد أجوادهم ليسد من خلته، فصاروا إليه، فجلسوا في الصحن، فخرج إليهم يخطر بقضيب في يده، حتى ثنى وسادةٌ فجلس عليها، فذكروا حاجتهم وخلة صاحبهم، مع قديم نعمته وقريب جواره، فخطر بالقضيب. ثم قال متمثلاٌ2: إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة تقوى أو صديق توامقه3 بخلت وبعض البخل حزم وقوة ... فلم يفتلذك المال إلاحقائقه ثم أقبل على القوم، فقال: إنا والله ما نجمد عن الحق، ولا نتدفق في الباطل، وإن لنا لحقوقاٌ تشغل فضول، وما كل من أفلس من الصيارفة احتلنا لجبره، قوموا رحمكم الله قال: فابتدر القوم الأبواب. قوله: "فلم يفتلذك المال"، يقول: لم يقتطع منك، يقال فلذ له من العطاء: أي قطع له، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدرٍ حين قال الغلامان: في القوم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام بن هشام، وأمية بن خلف وفلان وفلان، فقال رسول الله صلى عليه وسلم: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها". وقال أبو قحافة أعشى باهلة يعني المنتشر بن وهب الباهلي: تكفيه فلذة كبدٍ إن ألم بها ... من الشواء ويكفي شربة الغمر   1 هو ابن عمران الطلحى. 2 زيادات ر: "الشعر لنصيب؛ وقيل لكثير، والأول أثبت". 3 توامقه: توده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 رجل من أزد شنوءة بين يدي عتبة بن أبي سفيان قال عبد الملك بن عمير، استعمل عتبة بن أبي سفيان رجلاٌ من آله على الطائف، فظلم من أزد شنوءة، فأتى الأزدي عتبة، فمثل بين يديه، فقال: أمرت من كان مظلوماٌ ليأتيكم ... فقد أتاكم غريب الدار مظلوم ثم ذكر ظلامته، فقال له عتبة: إني أراك أعرابياً جافياً، والله ما أحسبك تدري كم تصلي في كل يوم وليلة فقال: أرأيت إن أنبأتك ذلك، أتجعل لي عليك مسألة? قال نعم، فقال الأعرابي: إن الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهن أربع ثم صلاة الفجر لا تضيع فقال: فاسأل: فقال: كم فقار ظهرك فقال: لا أدري، فقال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك قال: ردوا عليه غنيمته. قوله: "فقار"، إنما هو جمع فقارة، ويقال فقرة، فمن قال في الواحدة فقرة قال في الجميع: فقر، كسرة وكسر، ومن قال للواحدة: فقارة، قال للجميع: فقارٌ، كقولك دجاجة ودجاج، وحمامة وحمامٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أعرابي عند معاوية وشهد أعرابي عند معاوية بشيء كرهه، فقال له معاوية: كذبت فقال الأعرابي: الكاذب والله متزمل في ثيابك. فقال معاوية وتبسم: هذا جزاء من عجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 حديث السواقط قال أبو العباس: قرأت على عبد الله بن محمد المعروف بالتوزي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي، قال: كانت السواقط ترد اليمامة في الأشهر الحرم لطلب التمر، فإن وافقت ذلك، وإلا أقامت بالبلد إلى أوانه، ثم تخرج منه فيشهر حرام، فكان الرجل منهم إذا قدم يأتي رجلً من بني حنيفة، وهم أهل اليمامة، أعني بني حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط ابن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربعة بن نزار فيكتب له على سهم أو غيره: "فلان جار فلان" والسواقط: من ورد اليمامة من غير أهلها، وقد كان النعمان بن المنذر أراد أن يجليهم منها، فأجارهم مرارة بن سلمي الحنفي. ثم أحد بني ثعلبة بن الدول بن حنيفة، فسوغه الملك ذلك، فقال أوس بن حجرٍ يحض النعمان عليه: زعم ابن سلمي مرارة أنه ... مولى السواقط دون آل المنذر منع اليمامة حزنها وسهولها ... من كل ذي تاجٍ كريم المفخر وذكر أبو عبيدة أن رجلاً من السواقط من بني أبي بكر بن كلاب قدم اليمامة، ومعه أخ له، فكتب له عمير بن سلمى أنه له جار وكان أخو هذا الكلابي جميلاً فقال له قرين، أخو عمير: لا تردن أبياتنا بأخيك هذا، فرآه بعد بين أبياتهم، فقتله. قال أبو عبيدة: وأما المولى1 فذكر أن قريناً أخا عميرٍ كان يتحدث إلى امرأة أخي الكلابي، فعثر عليه زوجها فخافه قرين عليها فقله، وكان عمير غائباً، فأتى الكلابي قبر سلمي أبي عمير وقرين فاستجار به وقال: [قال أبو الحسن الأخفش، قال أبو العباس: قرينٌ، ووجدته بخط دماذ، صاح ب أب ي عبيدة قرين] . وإذا استجرت من اليمامة فاستجر ... زيد بن يربوع وآل مجمع وأتيت سلمياً فعذت بقبره ... وأخو الزمانة عائدٌ بالأمنع2 أقرين إنك لو رأيت فوارسي ... بعمامتين3 إلى جوانب ضلفع4 حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغل الإصبع فلجأ قرينٌ إلى قتادة بن مسلمة بن عبيد بن يربوع بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة، فحمل قتادة إلى الكلابي دياتٍ مضاعفةً، وفعلت وجوه بني حنيفة مثل   1 السواقط هنا: اللثام. 2 هو الذي أجاره عمير. 3 عماية: جبل بنجد، وإنما ثناه بما حوله. 4 الزمانة: العاهة، يريد بها هنا الضعف. والأمنع: الذي به قوة تمنع من يريده بسوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ذلك فأبى الكلابي أن يقبل، فلما قدم عمير قالت له أمه وهي أم قرين: لا تقتل أخاك، وسق إلى الكلابي جميع ماله، فأبى الكلابي أن يقبل، وقد لجأ قرينٌ إلى خاله السمين بن عبد الله فلم يمنع عميراً منه، فأخذه عميرٌ فمضى به حتى قطع الوادي فربطه إلى نخلة، وقال للكلابي: أما إذ أبيت إلا قتله فأمهل حتى أقطع الوادي، وارتحل عن جواري فلا خير لك فيه، فقتله الكلابي، ففي ذلك يقول عمير: قتلنا أخانا للوفاء بجارنا ... وكان أبونا قد تجير مقابره وقالت أم عمير: تعد معاذراً لا عذر فيها ... ومن يقتل أخاه فقد ألاما وقوله: "ولم تكن للغدر خائنة"، ولم يقل خائناً. فإنما وضع هذا في موضع المصدر والتقدير: ولم تكن ذا خيانة. وقوله"للغدر": أي من أجل الغدر، وقال المفسرون والنحويون في قول الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1 أي لشديدٌ: من أجل حب الخير، والخير ههنا: المال، من قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} 2. وقوله" لشديدٌ": أي لبخيل، والتقدير والله أعلم: إنه لبخيل من أجل حبه للمال، تقول العرب: فلان شديد ومتشدد أي بخيل، قال طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد3 وقلما يجيء المصدر على فاعل، فمما جاء على وزن "فاعل": قولهم عوفي عافيةً، وفلج فالجاً، وقم قائماً: أي قم قياماً، وكما قال:   1 سورة العاديات 8. 2 سورة البقرة 18. 3 يعتام: يختار، وعقيلة المال: أكرمه: والفاحش: السيء الخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ولا خارجاً من في زور كلام أي ولايخرج خروجاً، وقد مضى تفسير هذا. والمغل الذي عنده غلول، وهو ما يختان ويحتجن، ويستعمل مستعاراً في غير المال، يقال: غل يغل كقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1. ويقال: أغل فهو مغل إذا صودف يغل، أو نسب إليه، ومن قرأ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} 2. فتأويله أن يأخذ ويستأثر، ومن قرأ: {يَغُلَّ} فتأويله على ضربين يكون أن يقال ذلك فيه، ويكون وهو الذي يختار أن يخون، فإن قال قائل كيف يكون التقدير، وقد قال: ما كان لنبي أن يغل فيغل لغيره، وأنت لا تقول ما كان لزيد أن يقوم عمرو? فالجواب أنه في التقدير على معنى: ما ينبغي لنبي أن يخون، كما قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 3. ولو قلت: ما كان لزيد أن يقوم عمرو إليه لكان جيداً، على تقديرك: ما كان زيدٌ ليقوم عمرو إليه، كما قلنا في الآية. والإصبع، أفصح ما يقال وقد يقال: أصبع وإصبع وأصبع موضعها ههنا موضع اليد. يقال: لفلان عليك يدٌ، ولفلان عليك إصبعٌ، وكل جيدٌ، وإنما يعني ههنا النعمة. وأما قوله: قتلنا أخانا للوفاء بجارنا فيكون على ضربين: أحدهما أن يكون فخم نفسه وعظمها، فذكرها باللفظ الذي يذكر الجميع به، والعرب تفعل هذا ويعد كبراً، ولا ينبغي على حكم الإسلام أن يكو هذا مستعملاً إلا عن الله عز وجل، لأنه ذو الكبرياء، كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 4 و {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 5، وكل صفات الله أعلى الصفات وأجلها، فما استعمل في المخلوقين على تلك الألفاظ   1 سورة آل عمران 161. 2 قال المرصفى: يريد أنه مأخوذ من غل الثلائ المبنى للمفعول، وتأويلة: أن يؤخذ. 3 سورة آل عمران 145. 4 سورة القدر 1. 5 سورة النساء 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وإن خالفت في الحكم فحسن جميل، كقولك: في فلان عالم، وفلان قادرٌ، وفلان رحيم، وفلان ودودٌ، إلا ما وصفنا قبل من ذكر التكبر، فإنك إذا قلت: فلان جبار أو متكبر كان عليه عيباً ونقصاً، وذلك لمخالفة هاتين الصفتين الحق. وبعدهما من الصواب، لأنهما للمبدئ المعيد الخالق البارئ، ولا يليق ذلك بمن تكسره الجوعة، وتطغيه الشبعة، وتنقصه اللحظة، وهو في كل أموره مدبرٌ. وأما القول الآخر في البيت وهو" قتلنا أخانا" فمعناه أنه له ولمن شايعه من عشيرته. وأما قولها: ومن يقتل أخاه فقد ألاما تقول: أتى ما يلازم عليه، يقال: ألام الرجل إذا تعرض لأن يلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 باب مما أنشد أبو محلم السعدي قال أبو العباس: انشدني السعدي أبو محلمٍ: إنا سألنا قومنا فخيارهم ... من كان أفضلهم أبوه الأول أعطى الذي أعطى أبوه قبله ... وتبخلت أبناء من يتبخل وأنشدني أيضاً: لطلحة بن حبيب حين تسأله ... أندى وأكرم من فند بن هطال وبيت طلحة في عز ومكرمةٍ ... وبيت فندٍ إلى ربقٍ وأحمال1 ألا فتى من بني ذبيان يحملني2 ... وليس يحملني إلا ابن حمال فقلت طلحة أولى من عمدت له ... وجئت أمشي إليه مشي مختال مستيقناً أن حبلي سوف يعلقه ... في رأس ذيالةٍ أو رأس ذيال قوله:" إلى ربق وأحمال"، إنما أراد جمع حملٍ على القياس، كما تقول في جميع باب فعل: جملٌ وأجمالٌ، وصنمٌ وأصنامٌ. وقوله: ألا فتى من بني ذبيان يحملني يعني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، وأنشد بعضهم: وليس حاملني إلا ابن حمال وهذا لايجوز في الكلام، لأنه إذا نون الاسم لم يتصل به المضمر، لأن المضمر لا يقوم بنفسه، فإنما يقع معاقباً للتنوين، تقول: هذا ضارب زيداً غداً، وهذا ضاربك غداً، ولا يقع التنوين ههنا، لأنه لو وقع لا نفصل المضمر، وعلى هذا قول الله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} 3. وقد روى سيبويه يتين محمولين   1 ربق: جبل فيه عدة عرا تشد به إليهم، وأحمال: جمع حمل بالفتح، وهو الخروف وفيه أيضا أجمال جمع جمل. 2 يحملنى. من حمله إذا أعطاه ما يحمله من الدواب. 3 سورة العنكبوت 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 على الضرورة، وكلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين المفتشين يجيز مثل هذا في الضرورة، لما ذكرت من انفصال الكناية، والبيتان اللذان رواهما سيبويه: هم القائلون الخير والأمرونه ... إذا مال خشوا يوماً من الأمر معظما وأنشد: ولم يرتفق والناس محتضرونه ... جميعاً وأيدي المعتفين رواهقه1 وإنما جاز أن تبين الحركة إذا وقفت في نون الاثنين والجميع لأنه لا يلتبس بالمضمر، تقول: هما رجلانه، وهم ضاربوه، إذا وقفت، لأنه لا يلتبس بالمضمر إذ كان لا يقع هذا الموقع، ولا يجوز، تقول ضربته، وأنت تريد ضربت، والهاء لبيان الحركة، لأن المفعول يقع في هذا الموضع، فيكون لبساً، فأما قولهم: ارمه واغزه فتلحق الهاء لبيان الحركة، فإنما جاز ذلك لما حذفت من أصل الفعل، ولا يكون في غير المحذوف. وقوله: "في رأس ذيالة"، يعني فرساً أنثى أو حصاناً، والذيال: الطويل الذنب، وإنما يحمد منه طول شعر الذنب، وقصر العسيب2، واما الطويل العسيب فمذموم، ويقال ذلك للثور ايضاً أعني ذيالاً، قال امرؤ القيس: فجال الصوار واتقين بفرهب ... طويل القرا والروق أخنس ذيال3 ويقال أيضاً للرجل: ذيالٌ إذا كان يجر ذيله اختيالاً، ويقال له: فضفاضٌ في ذلك المعنى.   1 يرنفق: يتكىء على يده. المعتفون طلاب المعروف. ورواهقه: دانية منه. 2 العسيب: مستدق عظم الذنب. 3 الصوار: القطيع من بقر الوحش، والقرهب: الثور المسن الضخم. والقرا: الظهر. والروق: القرن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 من كلام عمر بن عبد العزيز لمؤدبه ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لمؤدبه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدبني? فقال أحسن طاعةٍ. قال: فأطعني الآن كما أطيعك إذ ذاك خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك، ومن ثوبك حت تبدو عقباك. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فضل الازار في النار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 لرجل يخاطب آخر اسمه دد وقال آخر1: ما لدد ما لددٍ ما له ... يبكي وقد أنعمت ما باله ما لي أراه مطرقاً سامياً ... ذا سنةٍ يوعد أخواله وذاك منه خلق عادةٌ ... أن يفعل الأمر الذي قاله إن ابن بيضاء وترك الندى ... كالعبد إذ قيد أجماله آليت لا أدفن قتلاكم ... فدخنوا المرء وسرباله والدرع لا أبغي بها نثرةً ... كل امرئٍ مستودعٌ ماله والرمح لا أملأ كفي به ... واللبد لا أتبع تزوال قوله: "ما لدد"، يعني رجلاٌ، ودد في الأصل. هو اللهو، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لست من وددٍ ولاددٌ مني"، وقد يكون في غير هذا الموضع مأخوذاٌ من العادة، وهذه اللام الخافضة تكون مكسورة مع الظهر ومفتوحة مع المضمر، والفتح أصلها، ولكن كسرت مع الظاهر خوف اللبس بلام الخبر، تقول إن هذا لزيد، فيعلم أنه شيء في ملك زيد: فإن قلت: إن هذا لزيدٌ في الوقف، علم قبل الإدراج إنه زيد، ولو فتحت المكسورة لم يعلم الملك من المعنى الآخر في الوقف، وأما المضمر فبين فيه، لأن علامة المخفوض غير علامة المرفوع، تقول: إن هذا لك، وإن هذا أنت. وقوله: ......... وقد أنعمت ما باله فـ"ما" زائدة، والبال ههنا: الحال، وللبال موضع آخر، وحقيقته الفكر، تقول: ما خطر هذا على بالي. وقوله:" مطرقاً سامياً" فالسامي الرافع رأسه، يقال سما يسمو إذا ارتفع، والمطرق: الساكت المفكر المنكس رأسه، فإنما أراد سامياً بنفسه. وقوله: "ذا سنةٍ "يقول: كأنه لطول إطراقه في نعسةٍ. وقوله:   1 نسبه المرصفى إلى سلمة بن ذهل التيمى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 كالعبد إذ قيد أجماله يريد أنه غير مكترث لاكتساب المجد والفضل، وذلك أن العبد الراعي إذا قيد أجماله لف رأسه ونام حجرةٌ، وهذا شبيه بقوله: واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي وقوله: فدخنوا المرء وسرباله يروي أنه طعن فارساً فأحدث، فقال: نظفوه فإني لا أدفن القتيل منكم إلا طاهراً، وقوله: والدرع لا أبغي بها نثرة فالنثرة: الدرع السابغة، يقول: درعي هذه تكفيني، وقوله: كل امرىءٍ مستودعٌ ماله أي مسترهن بأجله، وهو كقول الأعشى: كنت المقدم غير لابس جنةٍ ... بالسيف تضرب معلماً أبطالها وعلمت أن النفس تلقى حتفها ... ما كان خالقها الفضيل قضى لها وقوله: الرمح لا أملأ كفي به يتأول على وجهين: أحدهما أن الرمح لا يملأ كفي وحده، أنا أقاتل بالسيف وبالرمح وبالقوس وغير ذلك. والقول الآخر أني لا أملأ كفي به إنما أختلس به كما قال الشاعر: ومدجج سبقت يداي له ... تحت الغبار بطعنه خلس وقوله: واللبد لا أتبع تزواله يقول: إن انحل الحزام فمال اللبد لم أمل معه، أي أنا فارس ثبتٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 للفرزدق وقد نزل به ذئب فأضافه وقال الفرزدق، ونزل به ذئبٌ فأضافه: وأطلس عسالٍ وما كان صاحباً ... رفعت لناري موهناً فأتاني فلما دنا قلت أدن دونك إنني ... وإياك في زادي لمشتركان فبت أقد الزاد بيني وبينه ... على ضوء نارٍ مرة ودخان وقلت له لمت تكشر ضاحكاً ... وقائم سيفي من يدي بمكان تعش فإن عاهدتني لاتخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان وأنت امرؤٌ يا ذئب والغدر كنتما ... أخيين كانا أرضعا بلبان ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى ... رماك بسهمٍ أو شباة سنان قوله:" وأطلس عسال"، فالأطلس الأغبر. وحدثني مسعود بن بشرٍ قال: أنشدني طاهر بن علي الهاشمي قال: سمعت عبد الله بن طاهر بن الحسين ينشد في صفة الذئب: بهم بني محاربٍ مزداره1 ... أطلس يخفى شخصه غباره في شدقه شفرته وناره قوله: " يخفي شخصه غباره"، يقول: هو في لون الغبار، فليس يتبين فيه. وقوله:" عسال"، فإنما نسبه إلى مشيته، يقال: مر الذئب يعسل، وهو مشيٌ خفيف كالهرولة، قال الشاعر2 يصف رمحاً: لدنٌ بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب وقال لبيدٌ: عسلان الذئب أمسى قارباً ... برد الليل عليه فنسل قال أبو عبيدة: نسل في معنى عسل، وقال الله عز وجل: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} 3. وخفض بهذه الواو لأنها في معنى "رُبَّ"، وإنما   1 البهم: واحدتها بهمة، وهي الصغيرة من أولاد الغنم. 2 هو ساعدة بن جؤية الهذلى، وانظر ديوان الهذليين ج1 ص190. 3 سورة الأنبياء 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 جاز أن يخفض بها لوقوعها في معنى"رب" لأنها حرف خفض، وهي أعني الواو تكون بدلاً من الباء في القسم لأن مخرجها في مخرج الباء من الشفة، فإذا قلت: والله لأفعلن، فمعناه: أقسم بالله لأفعلن، فإن حذفتها قلت: الله لأفعلن، لأن الفعل يقع على الاسم فينصبه، والمعنى معنى"الباء" كما قال عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} 1. وصل الفعل فعمل، والمعنى معنى"من" لأنها للتبعيض، فقد صارت"الواو" تعمل بلفظها عمل "الباء"، وتكون في معناها، وتعمل عمل "رب" لاجتماعها في المعنى للاشتراك في المخرج. وقوله: "رفعت لناري"، من القلوب، إنما أراد رفعت له ناري والكلام إذا لم يدخله لبسٌ جاز القلب للاختصلر، قال الله عز وجل: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} 2. والعصبة تنوء بالمفاتيح، أي تستقل بها في ثقلٍ، ومن كلام العرب: إن فلانة لتنوء بها عجيزاتها، والمعنى لتنوء بعجيزاتها، وأنشد أبو عبيدة للأخطل: أما كليب بن يربوع فليس لها ... عند التفاخر إيرادٌ ولا صدر مخلفون ويقضي الناس أمرهم ... وهم بغيبٍ وفي عمياء ما شعروا مثل القنافذ هداجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سوءاتهم هجر فجعل الفعل للبلدتين على السعة. ويروى أن يونس بن حبيبٍ قال لأبي الحسن الكسائي: كيف تنشد بيت الفرزدق? فأنشده: غداة أحلت لابن أصرم طعنةٌ ... حصين عبيطات السدائف والخمر3 فقال الكسائي لما قال: "غداة أحلت لابن أصرم طعنة ... حصين عبيطات السدائف.." تم الكلام. فحمل الخمر على المعنى، أراد: وحلت له الخمر، فقال له   1 سورة الأعراف 155. 2 سورة القصص 76. 3 هو حصين بن أصرم، من بنى ضبة، وكان نذر ألا يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يقتل ابن الجون الكندى. والسدائف: جمع سديف وهو السنام، والعبيطات: الطرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 يونس: ما أحسن ما قلت ولكن الفرزدق أنشدنيه على القلب، فنصب الطعنة ورفع العبيطات والخمر على ما وصفناه من القلب. والذي ذهب إليه الكسائي أحسن في محض العربية، وإن كان إنشاد الفرزدق جيداً. وقوله: "لما دنا قلت ادن دونك" أمر بعد أمرٍ، وحسن ذلك لأن قوله: "أدن" للتقريب، وفي قوله: "دونك"،أمره بالأكل، كما قال جرير لعياش بن الزبرقان: أعياش قد ذاق القيون مواسمي1 ... وأوقدت ناري فادن دونك فاصطل وقوله: على ضوء نارٍ مرة ودخان يكون على وجهين: أحدهما على ضوء نار، وعلى دخانٍ أي على هاتين الحالتين ارتفعت النار أو خبت. وجائز أن يعطف الدخان على النار، وإن لم يكن للدخان ضياءٌ، ولكن للاشتراك كما قال الشاعر: ياليت زوجك قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحا لأن معناها الحمل، وكما قال: شراب ألبانٍ وتمرٍ وأقط فأدخل التمر في المشروب لاشتراك المأكول والمشروب في الحلوق وهذه الآية تحمل على هذا: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} 2. والشواظ: اللهب لا دخان له والنحاس: الدخان، وهو معطوف على النار، وهي مخفوضة بالشواظ لما ذكرت لك، قال النابغة الجعدي: تضيء كمثل سراج الذبا ... ل لم يجعل الله فيه نحاسا وقوله: نكن مثل من يا د ئب يصطحبان3   1 زيادات ر: "جمع ميسم، وهو حديدة يصنع بها البيطار". 2 سورة الرحمن 35. 3 زيادات ر: "من يجوز أن تكون نكرة موصوفة تقديرة مثل اثنين يصطحبان، وأن تكون بمعنى الذى، ويصطحبان: صلته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 فـ"من" تقع للواحد والاثنين والجميع والمؤنث على لفظ واحد، فإن شئت حملت خبرها على لفظها فقلت: من في الدار يحبك، عنيت جميعاً أو اثنين أو واحداً أو مؤنثاً، وإن شئت حملته على المعنى فقلت: يحبانك، وتحبك إذا عنيت امرأة ويحبونك إذا عنيت جميعاً كل ذلك جائز جيد، وقال الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} 1. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} 2. وقال فحمل على المعنى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 3. وقرأ أبو عمرو: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً} 4 فحمل الأول على اللفظ والثاني على المعنى. وفي القرآن: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} . فهذا كله على اللفظ، ثم قال: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على المعنى. وقوله: "أو شباة سنان" فالشبا والشباة واحد وهو الحد.   1 سورة يونس 40. 2 سورة التوبة 49. 3 سورة يونس 42. 4 سورة الأحزاب 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 في وصف الجود والحث على المبادرة به ومما يستحسن في وصف الجود والحث على المبادرة به، وتعريف حد العاقبة فيه، قول النمر بن تولب العكلي، أحد بني عكل بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس1 بن مضر: أعاذل إن يصبح صداي بقفرةٍ ... بعيداً نآني صاحبي وقريبي تري أن ما أبقيت لم أك ربه ... وأن الذي أنفقت كان نصيبي وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب في رعيها ودؤوب غدت وغدا رب سواه يقودها ... وبدل أحجارا وجال قليب   1 زيادات ر: "قال ابن السراج: من رواه إلياس فقد أخطأ، إنما هو ابن بوصل اليأس بوصل الألف وكسر السين، والألف واللام للتعريف، والاسم "يأس" مشق من يئست. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 قوله: "إن يصبح صداي بقفزة" فالصدى: على ستة أوجه: أحدها ما ذكرنا وهو ما يبقى من الميت في قبره، والصدى: الذكر من البوم، قال ابن مفرغ1: وشريت برداً ليتني ... من بعد بردٍ كنت هامة2 هتافة تدعو صدى ... بين المشقر واليمامة ويقال: فلان هامة اليوم أوغدٍ، أي يموت في يومه أو في غده. ويقال ذلك للشيح إذا أسن، والمريض إذا طالت علته، والمحتقر3 لمدة الآجال. وفي الحد يث أن حسلاً4 أباحذيفة بن حسل بن اليمان قال لشيخ آخر تخلف معه في غزوةأحدٍ: انهض بنا ننصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنما نحن هامة اليوم أو غدٍ وكانا قد أسنا. والصدى: حشوة الرأس. يقال لذلك: الهامة والصدى وتأويل ذلك عند العرب في الجاهلية أن الرجل كان عندهم إذا قتل فلم يدرك به الثأر أنه يخرج من رأسه طائر كالبومة وهي الهامة والذكر: الصدى فيصيح على قبره. اسقوني اسقوني فإن قتل قاتله كف ذلك الطائر. قال ذو الإصبع5 العدواني أحد بني عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر: ياعمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني والصدى: ما يرجع عليك من الصوت إذا كنت بمتسع من الأرض، أو بقرب جبل، كما قال: إني على كل إيساري ومعسرتي ... أدعو حنيفاً كما تدعى ابنة الجبل يعني الصدى، وتأويله أنه يجيبني في سرعة إجابة الصدى. وقال آخر: كأني إذ دعوت بني سليم ... دعوت بدعوتي لهم الجبالا   1 زيادات ر: "اسمه ربيعة، وسمى مفرغا لأنه شرب سقاءين ففرغهما". 2 شريت هنا: بعت. 3 زيادات ر: رواية عاصم بن أيوب رحمه الله برفع "المحتقر" يرفعه بالابتداء ويضمر الخبر، فيكون التقدير: والمحتقر لمدة الآجال، يقال ذلك له، ورواية ابن سراج بالخفض على العطف". 4 زيادات ر: "حسل أبو حذيفة، هو حسل بن جابر، وهو اليمان، والشيخ الذي تخلف معه ثابت بن وقش الأنصاري". 5 زيادات ر: "هو حرثان من محرث، سمى بذى الإصبع؛ لأنه كان له إصبع زائدة، وقيل: لأن حية عضته في إصبعه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 والصدأ، مهموز: صدأ الحديد وما أشبه، قال النابغة الذبياني: سهكين من صدإ الحديد كأنهم ... تحت السنور جنة البقار1 وقال الأعشى: فأما إذا ركبوا فالوجو ... هـ في الروع من صدإ البيض حم2 والصدى: مصدر الصدي، وهو العطشان، يقال: صدي يصدى صدى وهو صدٍ، قال طرفة: ستعلم إن متنا صدى أينا الصدي3 وقال القطامي: فهن ينبذن من قولٍ يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي تأويل قوله: "نآني" يكون على ضربين، يكون أبعدني، وأحسن [من] 4 ذلك أن يقول: "أنآني". وقد رويت هذه اللغة الأخرى، وليست بالحسنة، وإنما جاءت في حروف: يقال غاض الماء وغضته، ونزحت البئر ونزحته، وهبط الشيء وهبطنه، وبنو تميم يقولون: أهبطته، وأحرف سوى هذه يسيرة. والوجه في "فعل أفعلته"، نحو دخل وأدخلته، مات وأماته الله، فهذا الباب المطرد. ويكون "نآني" في موضع" نأى عني"، كما قال عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 5 أي كالوا لهم أو وزنوا لهم. وقوله: "ودؤوب"، يقول: وإلحاح عليه، تقول: دأبت على الشيء، قال الشاعر6: دأبت إلى أن ينبت الظل بعدما ... تقاصر حتى كاد في الآل يمصح وقوله عز وجل: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} 7 يقول: كعادتهم وسنتهم، ومثله الدين والديدن، وقد مر هذا.   1 سهكين، من السهك، وهو ريح صدإ الحديد. والسنور هنا: الدروع، وجنة البقار: موضع رمل عالج. 2 حم: جمع أحم، وهو الأسود من كل شيء. 3 زيادات ر: "ويروى: "صدى أينا" بخفض "أينا" على الإضافة: فصدى على هذه الرواية يرتفع بالابتداء، والصدى: الخبر". 4 تكمله من س. 5 سورة المطففين 3. 6 زيادات ر: "هو الراعى". 7 سورة آل عمران 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وقوله: وبدل أحجاراٌ وجالٌ قليب فالجال الناحية، يقال لكل ناحية من البئر والقبر وما أشبه ذلك: جال وجول، وقال مهلهل: كأن رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين جاليها جرور1 ويقال: رجل ليس له جول، أي ليس له عقل، وهذا الشعر نظير قول حاتم الطائي: أماوي إن يصبح صداي بقفرةٍ ... من الأرض، لا ماء لدي ولا خمر ترى أن ما أبقيت لم أك ربه ... وأن يدي مما بخلت به صفر   1 الأشطان: جمع شطن، وهو الحبل الشديد الفتل. وجرور: نعت للبئر: وهي التي يدق عمقها حتى يجر دلوها على شفيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 للحارث بن حلزة اليشكري في الجود وقال الحارث بن حلزة اليشكري في هذا المعنى: قلت لعمرو حين أرسلته ... وقد خبا من دوننا عالج لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج قوله: لاتكسع الشول بأغبارها فإن العرب كانت تنضح على ضروعها الماء البارد ليكون أسمن لأولادها التي في بطونها. والغبر: بقية اللبن في الضرع، فيقول: لاتبق ذلك اللبن لسمن الأولاد، فإنك لاتدري من ينتجها، فلعلك تموت، فتكون للوارث أو يغار عليها. وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "يقول ابن آدم مالي مالي، وما من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ويرى عن بعضهم أنه قال: إني أحب البقاء، وكالبقاء عندي حسن الثناء. وأنشد أبو عثمان عمرو بن الجاحظ: فإذا بلغتم أرضكم فتحدثوا ... ومن الحديث متالف وخلود وأنشد: فأثنوا علينا لاأبا لأبيكم ... بأفعالنا، إن الثناء هو الخلد وقال معاوية لابن الأشعث بن قيس: ما كان قيس بن معد يكرب أعطى الأعشى? فقال: أعطاه مالاٌ، وظهراٌ، ورقيقاً، وأشياء أنسيتها، فقال معاوية: لكن ما أعطاكم الأعشى لا ينسى. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنة هرم بن سنان المري: ما وهب أبوك لزهير? فقالت: أعطاه مالاٌ وأثاثاٌ أفناه الدهر. فقال عمر: لكن ما أعطاكموه لا يفنيه الدهر. وقال المفسرون في قول الله عز وجل عن ابراهيم صلوات الله عليه: {َاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} 1 أي ثناء حسناٌ، وفي قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 2 أي يقال له هذا في الآخرين. والعرب تحذف هذا الفعل من "قال" ويقول "استغناءٌ عنه، قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 3، أي فيقال لهم. ومثله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 أي يقولون، وكذلك: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} 5   1 سورة الشعراء 84. 2 سورة الصافات 108،109. 3 سورة آل عمران 106. 4 سورة الزمر 3. 5 سورة الرعد 23، 24. زيادات ر بعد ذلك مايأتي: "حدثنا يموت بن المزرع البصرى قال: حدثنا رفيع بن سلمة المنبز بدماذ قال: حدثنا أبو عيادة قال: قال الحجاج يوما لعمائر العرب وهم في مجلسه: ما أحسب هذا المزونى بناصحنا في حربنا-يعني المهلب- والرأى مشترك، فقالوا: الرأى للأمير-أصلحه الله- أن يكتب إلى ابن الفجاءة: بإطعامه بعض الأرضين، فإذا هو نخع بطاعته وأظهر الدعوة له سهلت الحيلة فيه، فقال: وفقكم الله، وكتب إلى ابن الفجاءة، وأنفذه على يد الغضبان بن القبعثرى الشيباني. نسخة الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم: من الحجاج بن يوسف إلى قطرى بن الفجاءة، سلام عليك، الموحد الله، والمصلى عليه محمد عليه السلام. أما بعد، فإنك كنت أعرابيا يدويا تستطعم الكسرة، وتحف إلى التمرة، ثم خرجت تحاول ماليس لك بحق، وأعرضت عن كتاب الله، ومرقت من سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فارجع عما ...... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ................................................................................   =أنت عليه بما زين لك، وادعونى فقد آن لك". فلما أوصل الغضبان الكتاب إلى قطرى قال: ياغلام، ازبر هذه الصحيفة، فتلا عليه مافبها فتنهد قطرى الصعداء, فقال: ياغضبان ألفيتنى محزونا، وانشأ يقول: فيا كبدا من غير جوع ولا ظمأ ... وياكبدا من وجد أم حكيم فلو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير لئيم غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم وكان بعبد القيس أول حدها ... وآب عميد الأزد غير ذميم -يعنى المهلب، وأم حكيم هذه: امرأة من الخوارج قتلت بين يديه، ثم قال: ياغلام، اكتب، "بسم الله الرحمن الرحيم" من قطرى بن الفجاءة إلى الحجاج بن يوسف. سلام على من اتبع الهدى. ذكرت في كتابك أنى كنت يدويا أستطعم الكسرة، وأبدر إلى النمرة، وبالله لقد قلت زورا، بل الله بصرنى من دينه ما أعماك عنه؛ إذ أنت سايح في الضلالة غرق في غمرات الكفر، ذكرت أن الضرورة طالت بى فهلا برزلى من حزبك من نال الشيع، واتكأ فاتدع! أما والله لئن أبرز الله صفحتك، وأظهر لى صلعتك، لتنكرن شيعك، ولتعلمن أن مقارعة الأبطال، ليس كتسطير الأمثال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 باب من خطبة لعلي بن أبي طالب قال أبو العباس: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبة له: أيها الناس، اتقوا الله الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم. وبادروا الموت الذي إن هربتم منه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 خطبة الحجاج حين قدم أميراٌ على العراق قال: وحدثني التوزي في إسناد ذكره آخره عبد الملك بن عمير الليثي، قال: بينما نحن في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حالٍ حسنةٍ، يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه، إذ أتى آتٍ فقال: هذا الحجاج قدم أميراٌ على العراق. فإذا به قد دخل المسجد معتماٌ بعمامة غطى بها أكثر وجهه، متقلداٌ سيفاً، متنكباٌ قوساٌ، يؤم المنبر، فقام الناس نحوه، حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق حتى قال عمير بن ضابيء البرجمي: ألاأحصبه لكم? فقالوا: أمهل حتى ننظر، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض وقال1: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني ثم قال: يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوساٌ قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم قال2: هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم ليس برلعي إبلٍ ولا غنم ... ولا بجزارٍ على ظهر وضم ثم قال: قد لفها الليل بعصلبي ... أروع خراج من الدوي مهاجر ليس بأعرابي وقال: قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا   1 زيادات ر: "هو لسحيم بن وثيل الرياشى". 2 زيادات ر: "الشعر لرويشد بن وميض العنبرى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 والقوس فيها وترٌ عرد ... مثل ذراع البكر أو أشد لابد مما ليس منه بد إني والله يا أهل العراق، ما يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين. ولقد فرزت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرها عوداً. وأصلبها مكسراً، فرماكم بي. لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مراقدالضلال. والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. والخوف بما كانوا يصنعون. وإنى والله ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة. وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين. فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين سلامٌ عليكم" فلم يقل أحد منهم شيئاً، فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس، فقال: أسلم عليكم أمير المؤمنين، فلم تردوا عليه شيئاً هذا أدب ابن نهية أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن. اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فلما بلغ إلى قوله: "سلامٌ عليكم"لم يبق في المسجد أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام1. ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبراً، فقال: أيها الأمير، إني من الضعف على ما ترى، ولي ابنٌ هو أقوى على الأسفار مني فتقلبه بدلاً مني. فقال الحجاج: نفعل أيها الشيخ، فلما ولى قال له قائل2: أتدري من هذا أيها الأمير? قال: لا قال: هذا عمير بن ضابئ البرمجي الذي يقول أبوه: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله   1 زيادات ر: "زعم أبو العباس أن ابن نهية رجل كان على الشرطة بالبصرة قبل الحجاج". 2 قال المرصفى: "هو عنبسة بن سعيد بن العاصى الأموى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ودخل الشيخ على عثمان مقتولاٌ فوطىء بطنه، فكسر ضلعين من أضلاعه، فقال ردوه! فلما رد قال الحجاج: أيها الشيخ، هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بدلاٌ يوم الدار! إن في قتلك أيها الشيخ لصلاحاٌ للمسلمين: يا حرسي، اضربن عنقه. فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل، ويأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي1: تجهز فإما أن تزور ابن ضابىءٍ ... عميراٌ وإما أن تزور المهلبا هما خطتا خسفٍ نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا2 فأضحى ولو كانت خراسان دونه3 ... رآها مكان السوق أو هي أقربا قوله: "أنا ابن جلا"، إنما يريد المنكشف الأمر، ولم يصرف "جلا" لأنه أرادالفعل فحكى، والفعل إذا كان فاعله مضمراٌ أو مظهراٌ لم يكن إلاحكاية، كقولك: تأبط شرأ، وكماقال الشاعر: كذبتم وبيت الله لاتأخذونها ... بني شاب قرناها تصر وتحلب وتقول: قرأت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 4 لأنك حكيت، وكذلك الابتداء، تقول: قرأت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقال الشاعر: والله ما زيد بنام صاحبه5 وقوله: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا لسحيم بن الرياحي، وإنما قاله الحجاج متمثلاً. وقوله: "وطلاع الثنايا" الثنايا: جمع ثنيةو الثنية: الطريق في الجبل.   1 زيادات ر: الأسدى أسد خزيمة، وليس من أسد قريش. 2 حوليا: يريد مهرا أتى عليه حول. من الثلج أشبها: يريد أن لونه أشدشبهة من الثلج. 3 زيادات ر: "دونه عائدة على المهلب. وأقرب: ظرف، وقيل مفعول ثان". 4 سورة القمر 1. 5 بقيته كما في زيادات ر ولا مخالط الليان جانبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 والطريق في الرمل يقال له: الخل، وإنما أراد به أنه جلد يطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها، كما قال دريد بن الصمة يعني أخاه عبد الله: كميش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بعيد من السوءات طلاع أنجد والنجد: ما ارتفع من الأرض، وقد مضى تفسير هذا. وقوله: "إني لأرى رؤوساٌ قد أينعت"، يريد أدركت، يقال: أينعت الثمرة إيناعاٌ وينعت ينعاٌ، ويقرأ: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} 1 و {َيَنْعِهِ} كلاهما جائز. قال أبو عبيدة: هذا الشعر يختلف فيه، فبعضهم ينسبه إلى الأحوص وبعضهم ينسبه إلى يزيد بن معاوية. [قال أبو الحسن: الصحيح أنه ليزيد يصف جارية] وهو: ولها بالماطرين2 إذا ... أكل النمل الذي جمعا خرفة حتى إذا ربعت ... سكنت من جلقٍ بيعا3 في قباب حول دسكرةٍ ... حولها الزيتون قد ينعا قال أبو الحسن: أول هذه الأبيات: طال هذا الهم فاكتنعا ... وأمر النوم فامتنعا وبعد هذا ما أنشد أبو العباس، ويروى" بالماطرون". قال أبو العباس: وقوله: هذا أوان الشد فاشتدي زيم يعني فرساٌ أو ناقة، والشعر للحطم القيسي. وقوله: قد لفها الليل بسواق حطم   1 سورة الأنعام 99. 2 الماطرون: موضع قرب دمشق. ورواه أبو العباس معربا، ورواية ياقوت "دولها بالماطر". 3 الخرفة: مايجتبنى من الفاكهة. وربعات: دخلت في الربيع، وجلق: من قرى دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 فهو الذي لا يبقي من السير شيئاٌ، ويقال: رجل حطمٌ للذي يأتي على الزاد لشدة أكله، ويقال للنار التي لا تبقي: حطمةٌ. وقوله: "على ظهر وضم"، فالوضم: كل ما قطع عليه اللحم. قال الشاعر1: وفتيان صدقٍ حسان الوجو ... هـ لا يجدون لشيء ألم من آل المغيرة لا يشهدو ... ن عند المجازر لحم الوضم وقوله: قد لفها الليل بعضلبي أي شديد. وأروع. أي ذكي. وقوله: "خراج من الدوي"، يقول: خراجٍ من كل غماء شديدة2: ويقال للصحراء دوية، وهي التي لا تكاد تنقضي، وهي منسوبة إلى الدو، والدو: صحراء ملساء لاعلم بها ولا أمارة، قال الحطيئة3: وأنى اهتدت والدو بيني وبينها ... وما خلت ساري الليل بالدو يهتدي والداوية: المتسعة التي تسمع لها دوياٌ بالليل، وإنما ذلك الدوي من أخفاف الإبل تنفسح أصواتها فيها. وتقول جهلة الأعراب: إن ذلك عزيف الجن وقوله: والقوس فيها وترعرد فهو الشديد ويقال عرند في هذا المعنى. وقوله:" إني والله ما يقعقع لي بالشنان"، واحدها شن، وهو الجلد اليابس، فإذا قعقع به نفرت الإبل منه، فضرب ذلك مثلاٌ لنفسه، وقال النابغة الذبياني: كأنك من جمال بني أقيش4 ... يقعقع بين رجليه بشن وقوله: "ولقد فررت عن ذكاء"، يعني تمام السن. والذكاء على ضربين:   1 زيادات ر: "هو عمر بن أبي ربيعة". 2 زيادات ر: "غما، مقصور، رواية عاصم". 3 زيادات ر: "يصف خيالها وأنت على معنى المرأة". 4 زيادات ر: "أفيش: من عكل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أحدهما تمام السن، والآخر الحدة حدة القلب، فمما جاء في تمام السن قول قيس بن زهير: "جري المذكيات غلاب"1. وقال زهير: يفضله إذا اجتهدا عليه ... تمام السن منه والذكاء وقوله: "فعجم عيدانها"، يقول: مضغها لينظر أيها أصلب، يقال: عجمت العود، إذا مضغته، وكذلك في كل شيء، قال النابغة: فظل يعجم أعلى الروق منقبضاٌ ... في حالك اللون صدق غير ذي أود والمصدر العجم، يقال عجمته عجماٌ: ويقال لنوى كل شيء: عجمٌ مفتوح، ومن أسكن فقد أخطاٌ، كما قال الأعشى: وجذعانها كلقيط العجم2 وقوله: "طالما ما أوضعتم في الفتنة"، الإيضاع: ضرب من السير. وقوله: فأضحى ولو كانت خراسان دونه يعني دون السفر رآها مكان السوق للخوف والطاعة.   1 زيادات ر: "ويروى: غلاء". 2 شدره كما في زيادات ر: غزتك بالخيل أرض العدو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 خبر ضابىء البرجمي مع عثمان وكان من قصة عمير بن ضابىء أن أباه ضابىء بن الحارث البرجمي وجب عليه حبسٌ عند عثمان رحمه الله وأدب وذلك أنه كان استعار من قوم كلباٌ فأعاروه إياه ثم طلبوه منه وكان فحاشاٌ فرمى أمهم به، فقال في بعض كلامه: وأمكم لا تتركوها وكلبكم ... فإن عقوق الوالدات كبير فاضطغن على عثمان ما فعل به فلما دعي به ليؤدب شد سكيناً في ساقه ليقتل بها عثمان، فعثر عليه، فأحسن أدبه، ففي ذلك يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وقائلةٍ إن مات في السجن ضابىء ... لنعم الفتى نخلو به ونواصله وقائلة لايبعدن ذلك الفتى ... ولا تبعدن أخلاقه وشمائله وقائلة لايبعد الله ضابئاً ... إذالكبش لم يوجد له من ينازله وقائلةٍ لا يبعد الله ضابئاٌ ... إذ الخصم لم يوجد له من يقاوله فلا تتبعيني إن هلكت ملامةً ... فليس بعارٍ قتل من لاأ قاتله هممت ولم أفعل، وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله وما الفتك ما آمرت فيه ولا الذي ... تخبر من لاقيت أنك فاعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 حديث أبي شجرة السلمي مع عمر بن الخطاب قال أبو العباس: وشبيه بقوله ما حدثنا به عن أبي شجرة السلمي وكان من فتاك العرب1 فأتى عمر بن الخطاب رحمه الله يستحمله2، فقال له عمر: ومن أنت? فقال: أنا أبو شجرة السلمي، فقال له عمر: أي عدي نفسه، ألست القاتل حيث ارتددت: ورويت رمحي من كتيبة خالدٍ ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا3 وعارضتها شهباء تخطر بالقنا ... ترى البيض في حافاتها والسنورا4 ثم انحنى عليه عمر بالدرة، فسعى إلى ناقته فحل عقالها وأقبلها حرة بني سليم بأحث السير هرباٌ من الدرة، وهو يقول: قد ضن عنها أبو حفص بنائله ... وكل مختبط يوماٌ له ورق مازال يضربني حتى خذ يت له ... وحال من دون بعض الرغبة الشفق5   1 زيادات ر: "أبو شجرة هو عمرو بن عبد العزى، وأمه الخنساء. وقال الطبرى: اسمه سليم بن عبد العزي". 2 يستحمله: يسأله أن يحمله على ركوبه. 3 زيادات وبروى: "أن أعمرا، بكسر الميم، ومعناه أن أفعل ذلك بكتيبة عمر". 4 شهباء: من الشهبة: وهو بياض في خلاله سواد. وتخطر، من الخطران؛ وهو الاهتزاز. 5 الشفق: من الإشفاق، وهو الخوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ثم التفت إليها وهي حانية ... مثل الرتاج إذا ما لزه الغلق1 أقبلتها الخل من شوران مجتهداٌ ... إني لأزري عليها وهي تنطلق2 ويروى أنه كان يرمي المسلمين يوم الردة فلا يغني شيئاٌ، فجعل يقول: ها إن رميي عنهم لمعبول ... فلا صريح اليوم إلا المصقول وقوله: وكل مختبط يوماٌ له ورق أصل هذا في الشجرة أن يختبطها الراعي.، وهو أن يضربها حتى يسقط ورقها، فضرب ذلك مثلاً لمن يطلب فضله، وقال زهير: وليس مانع قربى وذي نسبٍ ... يوماً ولا معدم من خابط ورقا3 وقوله: "حتى خذيت له". يقول: خضعت له، وأكثر ما تستعمل العامة هذه اللفظة بالزيادة، تقول: استحذيت له. وزعم الأصمعي أنه شك فيها، وأنه أحب أن يستثبت، أهي مهموزة أم غير مهموزة? قال: فقلت لأعرابي: أتقول: استحذيت4 أم استحذأت? قال: لاأقولهما، قلت: ولم فقال: لأن العرب لاتستخذي. وهذا غير مهموز5. واشتقاقه من قولهم: أذن خذواء وينمة خذواء، أي مسترخية. قال أبو الحسن: الينمة: نبت مسترخٍ على وجه الأرض تأكله الإبل فتكثر عنه ألبانها.   1 حانية: لاوية عتفها. والغلق اسم لما يغلق به، والرتاج: الباب الكبير. واللزة الشد والإلصاق. 2 الخل: الطريق النافذ بين الرمال. وشوران: جبل مرتفع قرب المدينة. 3 زيادات ر:"قوله: ولا بعدم بالخفض؛ عطفه على توهم الباء في مانع ومثله ماأنشده: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها على توهم الباء في "مصلحين"و "من" في "خابط" زائدة. 4 استخذى: خضع. 5 هنا آخر الخرم الموجود في نسخة الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 قال الأصمعي: وقلت لأعرابي: أتهمز الفارة! قال: تهمزها الهرة. وقوله: "إني لأزري عليها"، يقول: أستحثها، يقال: زرى عليه: أي عاب عليه، وأزرى به أي قصر به، فيقول: إنها لمجتهدة، وإني لأزري عليها، أي أعيب عليها لطلبي النجاء والسرعة، وقال الأخطل: فظل يفديها وظلت كأنها ... عقاب دعاها جنح ليلٍ إلى وكر وقوله: "ها إن رميي عنهم لمعبول"، يقول: مخبول مردود. والصريح: المحض الخالص، يقال ذلك للبن إذا لم يشبه ماء، ويقال عربي صريح ومولى صريح، أي خالص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 خطبة لعمر بن الخطاب حين سمع أن قوماٌ يفضلونه على أبي بكر قال: وحدثني محمد بن إبراهيم الهاشمي في إسناد ذكره قال: بلغ عمر بن الخطاب رحمه الله أن قوماٌ يفضلونه على أبي بكر الصديق رحمة الله، فوثب مغضباٌ حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنىعليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: أيها الناس، إني سأخبركم عني وعن أبي بكر، إنه لما توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اردتدت العرب، ومنعت شاتها وبعيرها، فأجمع رأينا كلنا أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قلنا له: يا خليفة رسول الله، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك ومسجدك، فإنه لاطاقة لك بقتال العرب. فقال أبو بكر الصديق: أو كلكم رأيه على هذا ? فقلنا: نعم فقال: والله لأن أخر من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن يكون هذا رأيي ثم صعد المنبر، فحمد الله وكبره وصلى على نبيه صلى عليه وسلم، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمداٌ فإن محمداٌ قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت. أيها الناس، أإن كثر أعداؤكم، وقل عددكم، ركب الشيطان منكم هذا المركب? والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون. قوله الحق، ووعده الصدق، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ، و {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . والله أيها الناس، لو أفردت من جميعكم لجاهدتهم في حق جهاده حتى أبلي بنفسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 عذراً أو أقتل قتيلاً، والله أيها الناس لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم الله وهو خير معينٍ. ثم نزل فجاهد في الله حق جهاده حتى أذعنت العرب بالحق. قوله: "كم من فئة" فهي الجماعة، وهي مهموزة، وتخفيف الهمز في هذا الموضع أن تقلب الهمزة ياءً، وإن كانت قبلها ضمة وهي مفتوحة قلبتها واواً نحو جؤنٍ1 تقول جونٌ. وقوله: "لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه" على خلاف ما تتأوله العامة ولقول العامة وجهٌ قد يجوز، فأما الصحيح فإن المصدق2 إذا أخذ من الصدقة ما فيها ولم يأخذ ثمنها قيل: أخذ عقالاً، وإذا أخذ الثمن قيل: أخذ نقداً، قال الشاعر: أتانا أبو الخطاب يضرب طبله3 ... فرد ولم يأخذ عقالاً ولا نقدا والذي تقوله العامة تأويله: لو منعوني ما يساوي عقالاً، فضلاً عن غيره وهذا وجه، والأول هو الصحيح، لأنه ليس عليهم عقال يعقل به البعير فيطلبه فيمنعه، ولكن مجازه في قول العامة ما ذكرنا. ومن كلام العرب: أتانا بجفنةٍ يقعد عليها ثلاثةٌ، أي لو قعد عليها ثلاثة لصلح.   1 زيادات ر: "الجؤنة: الحقة يجعل فيها الحلى". 2 المصدق: جابى الزكاة. 3 زيادات ر: "كانت الأمراء إذا خرجت لأخذ الصدقة تضرب الطبول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 من أبيات للحطيئة حين ارتد بعض العرب وكان ارتداد من ارتد من العرب أن قالوا: نقيم الصلاة ولا نؤتي الزكاة، فمن ذلك قول الحطيئة: ألا كل أرماح قصارٍ أذلةٍ ... فداء لأرماحٍ نصبن على الغمر1 فباست بني عبس وأستاه طيئٍ ... وباست بني دودان حاشا بني نصر أبوا غير ضربٍ يجثم الهام وقعه ... وطعن كأفواه المزفتة الحمر2 أطعنا رسول الله إذ كان بيننا ... فيا لهفتا، ما بال دين أبي بكر!   1 الغمر هنا: اسم ماء. 2 زيادات ر: "لمزفتة: المطلبية بالزفت، وهو القطران". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أيورثها بكراً إذا مات بعده ... فتلك وبيت الله قاصمة الظهر! فقوموا ولا تعطوا اللئام مقادةً ... وقوموا ولو كان القيام على الجمر فدى لبني نصرٍ طريفي وتالدي ... عشية ذادوا بالرماح أبا بكر1 قوله: "يجثم الهام وقعه"، إنما هو مثلٌ، يقال: جثم الطائر، كما يقال: برك الجمل، وربض البعير. وكان قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقرٍ عاملاً على صدقات بني سعدٍ، فقسم ما كان في يده من أموال الصدقات على بني منقرٍ، وقال: فمن مبلغ عني قريشاً رسالةً ... إذا ما أتتها محكمات الودائع حبوت بما صدقت في العام منقراً ... وأيأست منها كل أطلس طامع قوله: "فأجمع رأينا كلنا أصحاب محمد"، فإنما خفض"كلا" على أنه توكيد لأسمائهم المضمرة، والظاهرة لا تكون بدلاً من المضمر الذي يعني به المتكلم نفسه، أو يعني به المخاطب. لايجوز أن تقول مررت بي زيدٍ، لأن هذه الياء لا يشركه فيها شريك فتحتاج إلى التبيين، وكذلك لا يجوز: ضربتك زيداً، لأن المخاطب منفرد بهذه الكاف، فأما الهاء نحو مررت به عبد الله، فيجوز لأنا نحتاج إلى أن يعرفنا مبيناً: من صاحب الهاء? لأنها ليست للذي يخاطبه فلا ينكر نفسه، وإنما يحدث به عن غائب فيحتاج إلى البيان. وقوله: "أصحاب محمد" اختصاص: وينتصب بفعل مضمر، وهو "أعني" ليبين من هؤلاء الجماعة، كما ينشد: نحن بني ضبة أصحاب الجمل أراد: نحن أصحاب الجمل، ثم عين من هم، لأن هذا قد كان يقع على من دون بني ضبة معه، وعلى من فوقها إلى مضر ونزار ومعد ومن بعدهم، وكذلك: نحن العرب أقرى الناس لضيف، ونحن الصعاليك لا طاقة لنا على المروءة.   1 زيادات ر: "قوله: "ذادوا بالرماح أبا بكر" كذب، إنما خرجوا على الإبل فقعقعوا لها بالشنان فتفرت وفرت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ويختار من الشعر1: إنا بني منقر ذوو حسبٍ ... فينا سراة بني سعد وناديها وقليل هذا يدل عل جميع هذا الباب، فافهم.   1 زيادات ر: "هو لعمرو بن الأهتم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 المجلد الثاني باب في المختار من أشعار المولدين لعبد الصمد بن المعذل ... باب في المختار من أشعار المولدين قال أبو العباس: هذه أشعار اخترناها من أشعار المولدين حكيمة مستحسنة. يحتاج إليها للتمثل، لأنها أشكل بالدهر، ويستعار من ألفاظها في المخاطبات والكتب. لعبد الصمد بن المعذل قال ابن المعذل1: تكلفني إذلال نفسي لعزها ... وهان عليها أن أهان لتكرما تقول سل المعروف يحيى بن أكثم ... فقلت سليه رب يحيى بن أكثما2   1 ر: "عبد الصمد بن المعذل". 2 زيادات ر: "بالثاء مثلثة لا غير، وكذلك أكثم بن صيفى، ويقال إن يحيى بن أكثم من ولد أكثم بن صيفى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 لبشار بن برد وقال بشار بن برد يذكر عبيد الله بن قزعة، وهو أبو المغيرة أخو الملوي المتكلم، قال: وقال المازني لم أر اعلم من الملوي بالكلام، وكان من أصحاب إبراهيم النظام: خليلي من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إن الكريم معين ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ... ولم يدر أن المكرمات تكون فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا ... وفي كل معروف عليك يمين إذا جثته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين نظير قوله: وفي كل معروف عليك يمين قول جرير: ولاخير في مال عليه آلية ... ولا في يمين عقدت بالمآثم1   1 ر: "عقدت". وديوانه 553: "ولا في يمين غير ذات مخارم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 لإسماعيل بن القاسم أبي العتاهية وقال إسماعيل بن القاسم: اطلع الله بجهدك ... عامداً أودون جهدك أعط مولاك كما تط ... لب من طاعة عبدك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 لمحمود الوراق وقال محمود: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا محال في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعمته ... إن المحب لمن يحب مطيع وقال أيضاً: إني شكرت لظالمي ظلمي ... وغفرت ذاك له على علمي ورأيت أسدى إلي يداً ... لما أبان بجهله حلمي رجعت إساءته عليه وإح ... ساني مضاعف الجرم وغدوت ذا اجر ومحمدة ... وغدا بكسب الظلم والإثم فكأنما الإحسان كان له ... وأنا المسيء إليه في الحكم مازال يظلمني وأرحمه ... حتى بكيت له من الظلم اخذ هذا المعنى من قول رجل من قريش لرجل قال له: إني مررت بقوم من قريش من آل الزبير أو غيرهم يشتمونك شتماً رحمتك منه، قال: فسمعتني أقول إلا خيراً! قال: إياهم فارحم. وقال الصديق1: رحمه الله لرجل قال له: لأشتمنك شتماً يدخل معك في قبرك، قال: معك والله يدخل، لامعي. وقال ابن مسعود: إن الرجل ليظلمني فأرحمه.   1 ر: "أبو بكر الصديق"، س: "الصديق رضي الله عنه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وقال رجل للشعبي كلاماً اقذع له فيه، فقال الشعبي: إن كنت صادقاٌ فغفر الله لي، وإن كنت كاذباٌ فغفر الله لك. ويروى انه أتى مسجداً فصادف فيه قوماً يغتابونه فأخذ بعضادتي الباب، ثم قال: هنيئاً مريئاً غير داء مخاطر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت وذكر ابن عائشة أن رجلا من أهل الشام قال: دخلت المدينة فرأيت رجلاً ركباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولاثوباً ولا دابة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه، فقيل: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، فامتلأ قلبي له بغضاً، وحسدت علياً أن يكون له أبن مثله، فصرت إليه، فقلت له: أنت ابن أبي طالب? فقال: أنا ابن ابنه فقلت: فبك وبأبيك أسبهما. فما انقضى كلامي قال لي: أحسبك غريباً. فقلت: أجل، قال: فمل بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال آسيناك، أو إلى حاجة عاوناك، قال: فانصرفت عنه، ووالله ما على الأرض أحد احب إلي منه. لمحمود الوراق أيضاً وقال محمود الوراق: ياناظراً يرنو بعيني راقدٍ ... ومشاهداً للأمر غير مشاهد منيت نفسك ضلةً وأبحتها ... طرق الرجاء وهن غير قراصد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان بها وفور العابد ونسيت ان الله أخرج آدماً ... منها إلى الدنيا بذنب واحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 للحسن بن هانئ الحكمى المعروف بأبى نواس وقال الحكم للفضل بن الربيع1: ما من يدٍ في الناس واحدةٍ ... كيدٍ أبو العباس مولاها نام الكرام على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها قد كنت خفتك ثم أمنني ... من أن أخافك خوفك الله فعفوت عني عفو مقتدر ... حلت له نقم فألفاها   1 زيادات ر: هو أبو نواس الحسن بن هانىء، وهو منسوب إلى حكم، قبيله من مذحج". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 لعبد الله بن محمد بن أبي عيينه وقال عبد الله بن أبي عيينه لذي اليمينين1: لما رأيتك قاعداً مستقبلاً ... أيقنت أنك للهموم قرين فارفض بها وتعر من أثوابها ... إن كان عندك للقضاء يقين مالا يكون فلا يكون بحيلةٍ ... أبداً وما هو كائن سيكون يسعى الذكي فلا ينال بسعيه ... حظاً ويحظى عاجز ومهين سيكون ما هو كائن في وقته ... وأخو الجهالة متعب محزون الله يعلم أن فرقة بيننا ... فيما أرى شيء علي يهون   1 هو طاهر بن الحسين، وكان من أكبر أعوان المأمون، وفي زيادات ر: "سمى ذا اليمينين؛ لأنه ضرب إنسانا فجعله قسمين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 لصالح بن عبد القدوس وقال صالح بن عبد القدوس2: إن يكن مابه أصبت جليلاً ... فذهاب العراء فيه أجل كل آتٍ لاشك آتٍ وذو الجه ... ل معنى والغم والحزن فضل   1 زيادات ر: "صلبه عبد الملك بن مروان على الزندقة- أعنى صالحا". وفي معجم الأدباء 7: 12 أن الذي قتله هو المهدي العباسي، ضربه بالسيف فشطره شطرين، وعلق بضعة أيام للناس، ثم دفن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 من الأبيات المنفردة وأنشد منشد من الأبيات المنفردة القائمة بأنفسها: إذا أنت لم تعطي الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال1 ومنها قول ابن وهيب الحميري2: وإني لأرجو الله حتى كأنني ... أرى بجميل الظن ما الله صانع   1 حواشي الأصل: "هذا البيت قاله هشام بن عبد الملك ولم يقل شعرا غيره". 2 في ر، س: "ابن أبى وهيب" وصوابه ما في الأصل. وانظر معجم الشعراء 420. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وقال آخر: ويعرف وجه الحزم حتى كأنما ... تخاطبه من كل أمر عواقبه وقال أشجع السلمي: رأي سرى وعيون الناس راقدة ... ما أخر الحزم رأي قدم الحذرا وقال آخر: فلله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والبطالة جانب وقال آخر: يرى فلتات الرأي مقبل ... كأن في اليوم عيناً على غد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 لعبد الصمد بن المعذل أيضا ً وقال عبد الصمد بن المعذل: أمن على المجتدي ... وما أتبع المن من كان لم يزل ما أتى ... وما قد مضى لم يكن أرى الناس أحدوثة ... فكوني حديثاً حسن وقال أيضاً: زعمت عاذلتي أني لما ... حفظ البخل من المال مضيع كلفتني عذرة الباخل إذا ... طرق الطارق والناس هجوع ليس لي عذر وعندي بلغة ... إنما العذر لمن لا يستطيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 للحسن بن هانئ أيضا وقال الحسن بن هانىء الحكمى: إليك غدت بي حاجة لم أبح بها ... اختف عليها شامتاً فأداري فأرخ عليها ستر معروفك الذي ... سترت به قدما على عواري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وقال أيضاً: قد قلت للعباس معتذراً ... من ضعف شكريه ومعترفاً أنت امرؤ جللتني نعماً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا فإليك بعد اليوم تقدمة ... لاقتك بالتصريح منكشفاً لاتحدثن إلي عارفة ... حسبي أقوم بشكر ما سلفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 لدعبل بن علي الخز اعي وقال دعبل بن علي الخزاعي: أحببت قومي ولم أعدل بحبهم ... قالوا تعصبت جهل قول ذي بهت دعني أصل رحمي إن كنت قاطعها ... لا بد للرحم الدنيا من الصلة فاحفظ عشيرتك الأدنين إن لهم ... حقاً يفرق بين الزوج والمرة1 قومي بنوا مذحج والأزد أخوتهم ... وآل كندة والأحياء من علةٍ2 ثبت الحلوم فإن سلت حفائظهم ... سلوا السيوف فأرادوا كل ذي عنت لاتعرضن بمزح لامرئٍ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة فرب قافية بالمزح جارية ... مشؤومة لم يرد إنماؤها نمت إني إذا قلت بيت مات قائله ... ومن يقال له والبيت لم يمت وقال أيضاً: نعوني ولما ينعني غير شامت ... وغير عدو قد أصيبت مقاتله يقولون إن ذاق الردى مات شعره ... وهيهات عمر الشعر طالت طوائله سأقضي ببيتٍ يحمد الناس أمره ... ويكثر من أهل الرواية حامله يموت ردي الشعر من قبل أهله ... وجيده يبقى وإن مات قائله3   1 المرة: لغة في المرأة "رغبة الآمل". 2 علة: قبيلة. 3 زيادات ر: "البيت الأخير ليس لدعبل، وإنما هو مضمن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 لإسماعيل بن القاسم أيضا وقال إسماعيل بن القاسم: يا من يعيب وعيبه متشعب ... كم فيك من عيب وأنت تعيب! لله درك كيف أنت وغايةٌ ... يدعوك ربك عندها فتجيب وقال أيضاً: يا علي بن ثابت بأمن مني ... صاحب جل فقده يوم بنتا يا علي بن ثابت أي أنت ... أين أنت أنت بين القبور حيث دفنتا قد لعمري حكيت لفي قصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا وقال أيضاً: صاحب كان لي هلك ... والسبيل التي سلك1 يا علي بن ثابت ... غفر الله لي ولك كل حي مملك ... سوف يفنى ومالك وقال أيضاُ: طوتك خطوب دهرك كبعد نشرٍ ... كذاك خطوبه نشراً وطيا فلو نشرت قواك لي المنايا ... شكوت إليك ما صنعت إليا بكيتك يا أُخي بدمع عيني ... فلم يغني البكاء عليك شيا كفى حزناً بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك عن يديا وكانت في حياتك لي عضات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا وكان إسماعيل بن القاسم لا يكاد يخلي شعر من تقدم من الأخبار والآثار فينظم ذلك الكلام المشهود، ويناوله أقرب متناول، ويسرقه أخفى سرقة. فقوله: وأنت اليوم أوعظ منك حيا، إنما أخذه من قول الموبذ لقباد الملك حيث مات، فإنه قال في ذلك الوقت: كان الملك أمسى أن انطق منه اليوم. وهو اليوم أوعظ منه أمس.   1 زيادات ر: "والسبيل التي سلك: ابتداء وخبر، ومن قال غير هذا فقد أخطأ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 واحذ قوله: قد لعمري حكيت لي قصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا من قول نادب الإسكندر فإنه لما مات بكى من بحضرته فقال نادبه حركنا بسكونه. لإسماعيل بن القاسم أيضا وقال إسماعيل بن القاسم1: ياعجباً للناس لو فكرروا، ... حاسبوا أنفسهم أبصروا وعبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر2 الخير مما ليس يخفى هو الـ ... ـمعروف والشر هو المنكر والموعد الموت وما بعده الـ ... ـحشر الموعد الأكبر لافخر إلا فخر أهل التقى ... غداً إذا ضمهم المحشر ليعلمن الناس ان التقى ... البر كانا خير ما يذخر عجبت للإنسان في فخره ... وهو غداً في قبره يقبر ما بال من أوله نطفة ... وجيفة آخره يفخر! أصبح لا يملك تقديم ما ... يرجو ولا تأخير ما يحذر وأصبح الأمر إلى غيره ... في كل ما يقضى وما يقدر أما قوله: ياعجباً للناس لو فكروا ... وحاسبوا أنفسهم أبصروا فمأخوذ من قولهم: الفكرة مرآة تريك حسنك من قبيحك. ومن قول لقمان لابنه: يا بنيّ لعاقل أن يخلي نفسه من أربعة أوقات: فوقت منها يناجي فيه ربّه، وقت يحاسب فيه نفسه، ووقت يكسب فيه لمعاشه، ووقت يخلي فيه بين نفسه وبين ذاتها، ليستعين بذلك على سائر الأوقات.   1 زيادات ر: "وهو أبو العتاهية". 2 زيادات ر: "معبر بفتح الميم وكسرها لابن سراج، وبفتح الميم لا غير، رواية عاصم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وقوله: وعبروا الدنيا إلى غيرها ... فإنما الدنيا لهم معبر مأخوذ من قول الحسن: اجعل الدنيا كالقنطرة تجوز عليها ولا تعمرها. وقوله: الخير مما ليس يخفى هو الـ ... ـمعروف والشر هو المنكر مأخوذ من حديث عبد الله بن عمر بن العاص، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عبد الله كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم وأماناتهم، وصار الناس هكذا". وشبه بين أصابعه، فقلت: مرني يا رسول الله، فقال: "خذ ما عرفت ودع ما أنكرت، وعليك بخويصّة نفسك، وإياك وعوامّها". قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "في حثالة الناس" أما الحثالة فهو ما يبقى في الإناء من ردي الطعام، وضربه مثلاً. وقوله: "مرجت عهودهم". يقول: اختلطت وذهبن بهم كل مذهب، يقال: مرج الماء إذا سال ولم يكن له مانع، قال الله عز وجل: {مرج البحرين يلتقيان} 1. وقوله: ليعلمن الناس إن التقى ... والبر كانا خير ما يذخر مأخوذ من قول أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إذا حشر الناس في صعيد واحد نادى منادٍ من قبل العرش: ليعلمن أهل لا لموقف، من أهل الكرم اليوم? ليقم المتقون! " ثم تلا رسول الله صلى الله وعليه وسلم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2 وقوله: ما بال من أوله نطفة ... وجيفة آخره يفخر مأخوذ منقول علي بن أبي طالب رشي الله عنه: وما ابن آدم والفخر إنما أوله نطفة، آخره جيفة، لا يرزق نفسه، ولا يدفع حتفه.   1 سورة الرحمن 19. 2 سورة الحجرات 13. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 لابن أبي عيينة وقال ابن أبي عيينة: ما راح يوم على حي ولا ابتكرا ... إلا رأى عبرة فيه إن اعتبرا ولا أنت ساعة في الدهر فانصرمت1 ... حتى تؤثر في في قوم لها أثرا إن الليالي والأيام أنفسها ... عن غير أنفسها لم تكتم الخيرا فأخذ هذا المعنى حبيب بن أوس الطائي وجمعه في ألفاظ يسيرة فقال: عمري لقد نصح الزمان إنه ... لمن العجائب ناصح لا يشفق فزاد بقوله: ناصح لا يشفق على قول ابن أبي عيينة شيئاً طريفاً، وهكذا يفعل الحاذق بالكلام. ولو قال قائل: إن أقرب ما تأخذ منه أبو العتاهية: ليعلمن الناس إن التقى ... والبر كانا خير ما يذخر من قول خليل بن أحمد: قال أبو الحسن: زعم النسابون أنهم لا يعرفون أنهم منذ وقت النبي صلى الله وعليه وسلم إلى الوقت الذي ولد فيه احمد أبو الخليل أحداً سمي بأحمد غيره. وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح إلى الأعمال2 لكان قد قال قولاً. وقال العباس بن الفرح: أملي من دونه أجلي ... فمتى أفضي إلى إملي   1 زيادات ر: "فانصرفت" أشبه للمطابقة، والمشهور "انصرفت". 2 كذا نسبته في الأصول والمشهور أن البيت للأخطل، وهو في ديوانه 158. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 للخليل بن أحمد وقال الخليل بن أحمد، وكان مظر في النجوم فابعد ثم لم يرضها فقال: ابلغا عني المنجم أني ... كافر بالذي قضته الكواكب عالم، أن ما يكون وما كا ... ن بحتم من المهيمن واجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 لمحمد بن بشير يعيب المتكلمين قال محمد بن بشير يعيب المتكلمين، أنشدنيه الرياشي: يا سائلي عن مقالة الشيع ... وعن صنوف الأهواء والبدع دع من يقود الكلام ناحيةً ... فما يقود الكلام ذو وزع كل أناس بد يّهم حسن ... ثم يصيرون بعد للشّنع أكثر ما فيه أن يقال له ... لم يك في قوله بمنقطع وأنشد الرياشي لغيره: قد نقّر الناس حتى أحدثوا بدعاً ... في الدين بالرأي لم تبعث بها الرّسل حتى استخف بحق الله أكثرهم ... وفي الذي حملوا من حقه شغل وقال محمد بن بشير: ويل لمن لم يرحم الله ... ومن تكون النار مثواه يا حسرتا في كل يوم مضى ... يذكرني الموت وأنساه من طال في الدنيا به عمره ... وعاش فالموت قصاره كأنه قد قيل في مجلس ... قد كنت آتيه وأغشاه صار البشيري إلى ربه ... يرحمنا الله وإيّاه وقال أيضاُ: أي صفو إلا إلى تكدير ... ونعيم إلا إلى تغيير وسرورٍ ولذّةٍ وحبورٍ ... ليس رهناً لنا بيوم عسير عجباً لي ومن رضاي بدنيا ... أنا فيها على شفا تغرير! عالم لا أشك أني إلى اللـ ... ـه إذا متّ أو عذاب السعير ثم ألهو ولست أدري إلى أيـ ... ـهما بعدة يصير مصيري أي يوم عليّ أفظع من يو ... م به تبرز النّعاة سريري كلما مرّ بي على أهل نادٍ ... كنت حسناً بهمم كثير المرور قيل: من ذا على سرير المنايا ... قيل هذا محمد بن بشير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 للحكمي أبي نواس أيضا ُ وقال الحكمي أبو نواس: أخي ما بال قلبك ليس ينفي ... كأنك لاتظن الموت حقاً ألا يا أبن الذين فنوا وبادوا ... أما والله ما ذهبوا لتبقى وما أحد بزادك منك أحظى ... وما أحد بزادك منك أشقى ولا لك غير تقوى الله زادٌ ... إذا جعلت إلى اللهوات ترقى ومما يستحسن من شعره قوله: لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المر من ثمرة فمثل هذا لو تقدم لكان في صدور الأمثال، كذالك قوله أيضاً: فامض لاتمنن عليّ يداً ... منك المعروف من كدرة وكان يقول: ذكر المعروف من المنعم إفساد له، وكتمانه من النعم عليه كفر له، وفي الشعر أبيات مختارة، فمنها: وإذا مجّ القنا علقا ... وتراءى الموت في صورة راح في ثنيي مفاضته ... أسد يدمى شبا ظفره تتأبّى الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره فاسل عن نوء تؤمله ... حسبك العباس من مطره لا تعطّى عنه مكرمة ... بربا واد ولا خمره ذللت تلك الفجاج له ... فهو مجتاز على بصره وقد عابوا عليه قوله: كيف لا يدنيك من أمل ... من رسول الله من نفره وهو لعمري كلام مستهجن موضوع في غير موضعه، لأن حق رسول الله صلى الله وعليه وسلم أن يضاف إليه، ولا يضاف إلى غيره، ولو اتسع متسع فأجراه في باب الحيلة لخرج على الاحتيال، ولكنه عسر موضوع في غير موضعه، وباب الاحتيال فيه أن، تقول: قد يقول القائل من بني هاشم لغيره من أفناء قريش: منا رسول الله صلى الله وعليه وسلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وحق هذا أنه من القبيل الذي أنا منه. فقد أضاف إلى نفسه، وكذلك يقول القرشي لسائر العرب، كما قال حسان بن ثابت: مازال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لاترام ومفخر بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخيّر فقال: منهم كما قال من نفره، من النفر الذين العباس هذا الممدوح منهم. وأما قول حسّان: منهم جعفر وابن أبن أمه عليّ ومنهم أحمد المتحيز فإن، العرب إذا كان العطف بالواو قدمت وأخرت، قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 1، وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 2، وقال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 3، ولو كان بثم أو بالفاء لم يصلح إلا تقديم المقدم، ثم الذي يليه واحداً: أحدا. وأما قوله في هذا الشعر: وكريم الخال من يمنٍ ... وكريم العم من مضره فأضاف مضر إليه، فهو كلام لا يمنع منه ممتنع، قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يوم الحمل للأشتر وهو مالك بن الحارث أخذ النخع ابن مرو بن علة بن جلد وكان على الميمنة: احمل. في أصحابه فكشف من بإزائه، ثم قال لهاشم بن عتبة بن مالك أحد بني زهرة بن كلاب وكان على المسيرة احمل. فحمل في المضرية فكشف من بإزائه. فقال علي رضي الله عنه لأصحابه: كيف رأيتم مضري ويمني! فأضاف القبيلتين إلى نفسه، قال جرير: إن الذين ابتنوا مجداً ومكرمةً ... تلكم قريشي والأنصار أنصاري   1 سورة التغابن 2. 2 سورة الرحمن 33. 3 سورة آل عمران 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 لإسحاق بن خلف البهراتي يمدح علي بن عيسى القمى ومما يستحسن من أشعار المحدثين قول إسحاق بن خلف البهراتي، ونسبه في بني حنيفة لسباء وقع عليه، يقول لعلي بن عيسى بن مريم بن موسى بن طلحة الأشعري المعروف بالقمي1: وللكرد منك إذا زرتهم ... بكيدك يوم كيوم الحمل ومازال عيسى بن موسى له ... مواهب غير النطاف المكل2 لسل السيوف وشق الصفوف ... لنقض الترات وضرب القلل ولبس العجاجة والخافقات ... تريك المنا برؤوس الأسل وقد كشرت عن شبا نابها ... عروس المنية بين الشعل وجاءت تهادى وأبناؤها ... كأن عليهم شروق الطفل خروسٌ نطوق إذا استنطقت ... جهول تطيش على من جهل إذا خطبت أخذت مهرها ... رؤوساً تحادر قبل النقل ألد إليه من المسمعات ... وحث الكؤوسه في يوم طل وشرب المدام ومن يشتهيه ... معاط له بمزاح القبل بعثنا النّواعج تحت الرحال ... تسافه أشدقها في الجدل إذا ما حدين بمدح الأمير ... سبقن لحاظ المحثّ3 العجل قوله: "تريك المنا" يريد المنايا وهذه كلمة تخف على ألسنتهم فيحذفونها، وزعم الأصمعي أنه سمع العرب تقول: درس المنا، يريدون المنازل، وجاء في التخفيف أعجب من هذا، حدثنا بعض أصحابنا عن الأصمعي وذكره سيبويه في كتابه ولم يذكر قائله، ولكن الأصمعي قال: كان أخوان متجاوران لا يكلم كل واحد منهما صاحبه سائر سنته حتى يأتي وقت الرعي. فيقول أحدهما لصاحبه: ألاتا? فيقول الآخر: بلى فا، يريد: ألا تنهض? فيقول الآخر، فأنهض. وحكى سيبويه في هذا الباب:   1 زيادات ر: "منسوب إلى قمة وهي بلدة أو قرية من خراسان". 2 المكل: جمع مكول، وهي البئر. 3 زيادات ر: "من كسر الميم من حث، ومن ضم الميم جعله من أحث؛ يقال: حث وأحث على فعل وأفعل، لغتان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 بالخير خيراتٍ وإن شراً فا ... ولا أريد الشر إلا أن تا يريد: وإن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تريد1. وهذا خلاف ما تستعمله الحكماء، فإنه يقال: إن اللسان إذا كثرت حركته، رقت عذبته. وحدثني أبو عثمان الجاحظ قال: قال لي محمد الجهم: لما كانت أيام الزّط أدمنت الفكر، وأمسكت عن القول، فأصابتني حبسةً في لساني. وقال رجل من الأعراب يذكر آخر منهم: كأن فيه لففاً إذا نطق ... من طوال تحبيسٍ وهم وأرق وقال رجل لخالد بن صفوان: إنك لتكثر، فقال: أكثر لضربين: أحدهما فيما لاتغني فيه القلّة، والآخر لتمرين اللسان، فإن حبسه يورث العقلة. وكان خالد يقول: لا تكون بليغاً حتى تكلم أمتك السوداء في الليلة الظلماء، في الحاجة المهمة، بما تكلم به في نادي قومك، فإنما اللسان عضوٌ إذا مرنته، مرن، وإذا أهملته خار، كاليد التي تخشنها بالممارسة، والبدن الذي تقويه برفع الحجر وما أشبه، والرّجل إذا عودته المشي مشت. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تزالون أصحاء ما نزعتم ونزوتم. فتزعم في القسي، نزوتم على طهور الخيل. وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للعاقل إن يخلي نفسه من ثلاث في غير إفراط الأكل، والمشي، والجماع. فأما الأكل فإن الأمعاء تضيق لتركه، وكان ابن الزبير رحمه الله يواصل فيما ذكروا بين خمس عشرة من يوم وليلة، ثم يفطر على سمن وصبر ليفتق أمعاءه. قال أبو العباس: قال الأول: والمشي، إن لم تتعهده أوشكت ان تطلبه فلا تجده، والجماع كالبئر إن نزحت جمّت، وإن تركت تحيّر ماؤها، وحق هذا كله القصد. وقوله: كأن عليهم شروق الطفل   1 زيادات ر: قال ش: قول أبي العباس: "إلا أن تريد" إنما هو إلا أن تشاء، ولو كان كما قال أبو العباس: كانت التاء مضمومة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 يريد: تألق الحديد، كأنه شمس طالعة عليهم، وإن لم تكن شمس وأحسن من هذا قوله سلامه بن جندل: كأن النّعام باض فوق رؤوسهم ... وأعينهم تحت الحديد جواحم1 فهذا التشبيه المصيب. وأما قوله: أحب إليه من المسمعات فقد قال مثله القاسم بن عيسى بن إدريس أبو ذلف العجلي: يوماي يوم في أويس كالدمى ... لهوي، ويوم في قتال الديلم هذا حليف غلائل مكسوة ... مسكاً وصافية كنضح العندم ولذاك خالصة الدروع وضمّرٌ ... يكسوننا رهج الغبار الأقتم وليومهن الفضل لولا لذّة ... سبقت بطعن الدّيلميّ المعلم وأول هذه القصيدة طريق مستملح، وهو: طواه الهوى فطوى من عدل ... وحالف ذا الصبوة المختبل وأما قوله: تسافه أشداقها في الجدل فتسافه من السفه، وإنما يصفها بالمرح، وانها تميل ذا كذا مرة، كما قال رؤبة: يمشي العرضنى في الحديد المتقن وكما قال الآخر: إذا رأى السوط مشى الهيدبى ... ويتقى الأرض بمعج رقاق2 وكما قال الحطيئة: وإن آنست حسا من السوط عارضت ... بي الجور حتى تستقيم ضحى الغد   1 زيادات ر: "جواحم، أى متقدة". 2 زيادات ر: "الهيدبى، بالدال مهملة ومعجمة". وقوله: "بمعج رقاق، يريد قليلة اللحم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 والجدل: جمع جديل وهو الزمام المجدول، كما تقول: قتيل ومقتول، وأدنى العدد أجدلة، كقولك: قضيب وقضب وأقضبة، وكذلك كثيب ورغيف وجريت، وفعلان في المثير، يقال قضبان ورغيفان وجربان، ومثل قوله: تسافه أشداقها في الجدل قول حبيب بن أوس الطائي: سفيه الرمح جاهله إذا ما ... بدا فضل السفيه على الحليم لإسحاق أيضاُ يمدح الحسن بن سهل ومما يستحسن من شعر إسحاق هذا قوله في الحسن بن سهل: باب الأمير عراء ما به أحد ... إلا امرؤ واضع كفا على ذقن قالت وقد أملت ما كنت آمله ... هذا الأمير ابن سهل حاتم اليمن كفيتك الناس لا تلقى أخا طلب ... بفيء دارك يستعدي على الزمن إن الرجاء الذي قد كنت آمله ... وضعته ورجاء الناس في كفن في الله منه وجدوى كفه خلفٌ ... ليس السدى والندى في راحة الحسن وإسحاق هذا هو الذي يقول في صفة السيف: ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح وكأنما ذر الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح وإسحاق هذا هو الذي يقول في مدح العربية: النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرة تكرمه إذا يلحن وإذا طلبت من العلوم اجلها ... فاجلها منها مقيم الألسن قال أبو العباس: واحسبه أخذ قوله: والمرء تكرمه إذا لم يلحن من حديث حدثناه أبو عثمان الخز اعي عن الأصمعي قال: كان يقال: ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يدرى من هم: رجل رأيته راكباً، أو سمعته يعرب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 أو شممت منه طيباً. وثلاثة يحكم عليهم بالاستصغار حتى يدرى من هم. وهم: بالفارسية، أو رجل رأيته على ظهر طريق ينازع في القدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 لشاعر في عبد الله بن طاهر قال أبو العباس: أنشدني أحد الأمراء لشاعر من أهل الري يكنى أبا يزيد، شيئاً يقوله لعبد الله بن طاهر أحسن فيه وأصاب الفص، وقصد بالمدح إلى معدنه، واختاره لأهله: اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في شاذ مهر ودع غمدان لليمن فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من هوذة بن علي وابن ذي يزن فأحسن الترتيب جداً، وإن كانت الملوك كلها تلبس التاج في ذلك الدهر. وإنما ذكر ابن ذي يزن لقول أمية بن أبي الصلت الثقفي حيث يقول: اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالاً وقال الأعشى في هوذة بن علي، وإن لم يكن هوذة ملكاً: من ير هوذة يسجد غير متئب ... إذا تعمم فوق التاج أو وضعا له أكاليل بالياقوت فصلها ... صواغها لاترى عيباً ولاطبعاً وقال أبو العباس: وحدثني التّوّزي قال: سمعت أبا عبيدة يقول عن أبي عمرو، قال: لم يتتوج معدي قط، وإنما كانت التيجان لليمن، فسأليه عن هوذة بن علي الحنفي، إنما خرزات تنظم له. قال أبو العباس: وقد كتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هوذة بن علي يدعوه كما كتب إلى الملوك، وكان يجيز لطيمة كسرى في البر بجنبات اليمامة. واللطيمة: الإبل تحمل الطيب والبر. ووفد هوذة بن علي على كسرى بهذا السبب فسأله عن بنيه، فذكر منهم عدداً فقال: أيهم أحب إليك? فقال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يصح. فقال له كسرى: ماغذاؤك في بلدك? فقال: الخبز، فقال كسرى لجلسائه: هذا عقل الخيز، يفضله على عقول أهل البوادي الذين يغتذون اللبن والتمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لقد هممت ألا أقبل هدية" ويروى: "أن لا أتهب هبةً إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي". وروى بعضهم: أو دوسي وذلك أن أعرابياً أهدى إليه هدية فمن بها، فذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الأمصار تفضيلاً على أهل البوادي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 لعبد الله بن محمد بن أبي عيينه وقال عبد الله بن محمد بن أبي عيينه يعاتب رجلاً من الأشراف: أتيتك زائراً لقضاء حق ... فحال الستر دونك والحجاب وعندك معشر فيهم أخ لي ... كأن إخاءه الآل السراب ولست بساقط في قدر قوم ... وإن كرهوا كما يقع الذباب ورائي مذهب عن كل ناء ... بجانبه إذا عز الذهاب وقال أيضاً: كنا ملوكاً إذا كان أولنا ... للجود والبأس والعلا خلقوا كانوا جبالاً عزا يلاذ بها ... ورائحاتٍ بالوبل تنبعق1 كانوا بهم ترسل السماء على الـ ... أرض غياثاً ويشرق الأفق لا يرتق الراتقون إن فتقوا ... فتقاً ولا يفتقون مارتقوا ليسوا كمعزى مطيرةٍ بقيت ... فما بها من سحابةٍ لثق2 والضعف والجبن عند نائبةٍ ... تنوبهم والحذار والفرق لهذا زمانٌ بالناس منقلبٌ ... ظهراً لبطنٍ جديده خلق الأسد فيه على براثنها ... مستأخراتٌ تكاد تمزق وكان سبب قوله هذا الشعر أن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس كان له صديقاً، وكان عبد الله بن محمد بن أبي عيينه من رؤساء من اخذ البصرة للمأمون في أيام المخلوع، وكان معاضداً لطاهر بن الحسين في حروبه، وكان إسماعيل بن جعفر جليل القدر، مطاعاً في مواليه وأهله،   1 الرائحات: السحب، وتنبعق: تتخرق فينزل منها الماء. 2 اللثق: البلل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وكانت الحال بينهما ألطف حال، فوصله ابن أبي عيينه بذي اليمينين فولاه البصرة وولى ابن أبي عيينه اليمامة والبحرين وغوص البحر فلما رجعا إلى البصرة تنكر إسماعيل لابن أبي عيينه، فهاج بينهما من التباعد على مثال ما كان بينهما من المقاربة، ثم عزل ابن أبي عيينه فلم يزل يهجو من أهله من يواصل إسماعيل، وكان أكبر أهله قدراً في ذلك الوقت يزيد بن المنجاب، وكان أعود قائم العين لم يطاع على علته إلا بشعر ابن أبي عيينه، وكان منهم. وكان سيد أهل البصرة محمد بن عباد بن حبيب بن الملهب، ومنهم سعيد بن المهلب بن المغيرة بن حرب بن محمد بن ملهب بن أبي صفرة، وكان قصيراً، وكان ابن عباد احول، فذلك حيث يقول ابن أبي عيينه في هذا الشعر الذي أمليناه: تستقدم النعجتان والبرق1 ... في زمن سرو أهله الملق عور وحول ثالث لهم ... كأنه بين أسطرٍ لحق2 ولهم يقول ولاثنين ظن أنهما معهم، وقد مروا به يريدون إسماعيل بن جعفر: ألا قل لرهطٍ خمسةٍ أو ثلاثة ... يعدون من أبناء آل الملهب على باب إسماعيل روحوا وبكروا ... دجاج القرى مبثوثة حول ثعلب وأثنوا عليه بالجميل فإنه ... يسر لكم حبا هو الحب واقلب يلين لكم عند اللقاء موارباً ... يخالفكم منه بناتٍ ومخلب ولولا الذي تولونه لتكشفت ... سريرته عن بغضةٍ وتعصب أبعد بلائي عنده إذا وجدته ... طريحاً كنصل القدح لما يركب به صدأ قد عابه فجلوته ... بكفي حتى ضوؤه ضوء كوكب وركبته في خوط نبع وريشة ... بقادمتي نسر ومتن معقب3 فما إن أتاني منه إلا مبوأ ... إلي بنصل كالحريق مذرب   1 البرق: الخروف والجمع أبراق. 2 اللحق: اسم لما يلحق بالكتاب بعد الفراغ منه. 3 الخوط: الغض الناعم. راشه: ألزق فيه الريش. والمتن: الوتر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 ففللت منه حده وتركته ... كهدية ثوب الخز لما يهدب1 رضيتم بأخلاق الدّني وعفتم ... خلائق ماضيكم من العم والأب وفي هذا يقول لطاهر بن الحسين: مالي رأيتك تدني منتكثٍ ... إذا تغيب ملتاثٍ إذا حضرا2 إذا تنسم ريح الغدر قابلها ... حتى إذا نفخت في انفه غدراً ومن يجيء على التقرب منك له ... وأنت تعرف فيه الميل والصعرا أحلك الله من قحطان منزلةً ... في الرأس حيث احل السمع والبصرا فلا تضع حق قحطان فتغضبها ... ولاربيعة كلا لا ولا مضرا أعط الرجال على مقدار أنفسهم ... وأول كلا بما أولى وما صبرا ولا تقولن وإني لست من أحد ... لا تمحق النيرين الشمس والقمرا ويقول له في أخرى: هو الصبر والتسليم لله والرضا ... إذا نزلت بي خطة لا أشاؤها إذا نحن أبنا سالمين بأنفس ... كرام رجت أمراً فخاب رجاؤها فأنفسنا خير الغنيمة إنها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها هي الأنفس الكبر التي إن تقدمت ... أو استأخرت فالقتل بالسيف داؤها سيعلم إسماعيل انه عداوتي ... له ريق أفعى لايصاب دواؤها ولما حمل إسماعيل مقيداً ومعه أبناه أحدهما في سلسلة مقروناً معه، وكان الذي تولى ذلك أحمد بن أبي خالد في قصة كانت لإسماعيل أيام الخضرة3 فقال ابن أبي عيينه في ذلك: مرّ إسماعيل وابنا ... هـ معاً في الأسراء جالساً في محملٍ ضن ... كٍ على غير وطاء يتغنى القيد في رجـ ... ـليه ألوان الغناء   1 يهدب: يقطع. 2 المنتكث: الهزيل، والملتاث: البطىء. 3 قال المر صفى: "أيام الخضرة هي الأيام التي أمر المأمون في جنده وقواده وبنى هاشم أن تطرح شعار السواد، وأن تلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم يوم أن جعل على بن موسى بن جعفر ولى عهد المسلمين من بعده وسماه الرضا". رغبة الآمل 141: 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 باكياً لا رقأت عيـ ... ـناه من طول البكاء يا عقاب الدّجن في الأمـ ... ـن وفي الخوف ابن ماء 1 وقد كان تطير عليه بمثل ما نزل به، فمن ذلك قوله: لا تعدم العزل يا أبا الحسن ... ولا هزالاً في دولة السمن ولا انتقالاً من دار عافيةٍ ... إلى ديار البلاء والفتن ولا خروجاً إلى القفار من الـ ... أرض وترك الأحباب والوطن كم روحه فيك لي مهجرةٍ ... ودلجةٍ في بقية الو سن في الحر والقرّ كي تولى على الـ ... بصرة عين الأمصار والمدن إني أحاجيك يا أبا حسنٍ ... ما صورةٌ صورت فلم تكن? وما بهيّ في العين منظره ... لو وزنوه با لزّفّ لم يزن?2 ظاهره رائعٌ وباطنه ... ملآن من سوءٍ ومن درن3 وهذا الشعر اعترض له فيه عمر بن زعبل، مولى بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، وكان منقطعاً إلى إسماعيل وولده، وكان لا يبلغ ابن أبي عيينه في الشعر ولا يدانيه، ومن أمثل شعره وما اعترض له به قوله: إني أحاجيك ما حنيفٌ على الـ ... فطرة باع الرباح بالغبن وما شييخٌ من تحت سدرته ... معلقٌ نعله على غصن? ما سيوفٌ حمرٌ مصقلةٌ ... قد عرّيت من مقابض السفن4? وما سهامٌ صفرٌ مجوّفةٌ ... تخشى خيوط الكتان والقطن? وما ابن ماءٍ إن يخرجوه إلى الأر ... ض تسل نفسه من الأذن? وما عقاب زوراء تلحم من ... خلف فتهوي قصداً على سنن?5 لها جناحان يحفزان بها ... نيطاً إليها بجذوتي وسن يا ذا اليمينين اضرب علاوته6 ... يدفع وماني في النار في قرن7   1 طائر بألف الماء. 2 الزف: ريش النعام. 3 الدرن هنا: الدنس. 4 السفن بالتحريك: جلد خشن غليظ يكون على قوائم السيوف. 5 زيادات ر: "قيل السفينة، وقيل الراية، وهو أصح؛ لأن جده حبس راية طاهر بن الحسين ثلاثة أعوام". 6 العلاوة: الرأس. 7 زيادات ر: قوله: "وماني في النار في قرن" مانى: اسم علم، وكان رأسا من رءوس الزنادقة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 فأجاب إبراهيم السواق مولى آل المهلب وكان مقدماً في الشعر بأبيات لا أحفظ اكثرها، منها: قد قبل ما قيل في أبي حسن ... فانتحروا في تطاول الزمن وهذا السواق هو الذي يقول لبسر بن داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب: سماؤك تمطر الذهبا ... وحربك تلتظي لهبا وأي كتيبةٍ لاقتـ ... ـك لم تستحسن الهربا ومن شعره السائر: هبيني يا معذبتي أسأت ... وبالهجران قبلكم بدأت فأين الفضل منك فدتك نفسي ... عليّ إذا أسأت كما أسأت! ولابن أبي عيينه في هذا المعنى أشعار كثيرة في معاتبات ذي اليمينين وهجاء إسماعيل وغيره، سنذكرها بعد في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. ومن شعره المستحسن قوله في عيسى بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان تزوج امرأة منهم يقال لها فاطمة بنت عمر بن حفص هزارمرد1، وهو من ولد قبيصة بن أبي صفرة، ولم يلده المهلب، وكان يقال لأبي صفرة ظالم ين سرّاق: أفاطم قد زوجت عيسى فأيقني ... بذل لديه عاجلٍ غير آجل فإنك قد زوجت من غير خبرةٍ ... فتى من بني العباس ليس بعاقل فإن قلت من رهط النبي فإنه ... وإن كان حر الأصل عبد الشمائل فقد ظفرت كفاه منك بطائل ... وما ظفرت كفاك منه بطائل وقد قال فيه جعفر ومحمدٌ ... أقاويل حتى قالها كل قائل وما قلت ما قالا لأنك أختنا ... وفي السر منا والذرا والكواهل لعمري لقد أثبته في نصابه ... بأن صررت منه في محلل الحلائل إذا ما بنو العباس يوماً تبادروا ... عرا المجد وابتاعوا كرام الفضائل   1 زيادات ر: وقعت الرواية كما في الأصل، وصوابه: "هزاذ مرد" بالزاى والذال معجمة، ولا خلاف في الزاى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 رأيت أبا العباس يسمو بنفسه ... إلى بيع بياحاته والمباقل1 يرخم بيض العام تحت دجاجه ... ليخرج بيضاً من فراريج قابل وقال أبو العباس: وولد عيسى من فاطمة هذه لهم شجاعةٌ ونجدةٌ وشدة أبدان، وفاطمة التي ذكرها هي التي كان ينسب بها أبو عيينه أخو عبد الله ويكني عنها بدنيا، ومن ذلك قوله لها: دعوتك بالقرابة والجوار ... دعاء مصرحٍ بادي السرار لأني عنك مشتغل بنفسي ... ومحترقٌ عليك بغير نار وأنت توفرين وليس عندي ... على نار الصبابة من وقار فأنت لأن ما بك دون ما بي ... تدارين العيون ولا أدري ولو والله تشتاقين شوقي ... جمحت إلي خالعة العذار وقال عبد الله يعاتب ذا اليمينين: من مبلغ عني الأمير رسالةً ... محصورةً عندي عن الإنشاد كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الحساد وأظن لي منها لديك خبيثةً ... ستكون عند الزاد آخر زاد مالي أرى أمري لديك كأنه ... من ثقله طود من الأطواد! وأراك ترجيه وتمضي غيره ... في ساعة الإصدار والإيراد الله يعلم ما أتيتك زائراً ... من ضيق ذات يد وضيق بلاد لكن أتيتك زائراً لك راجياً ... بك رتبة الآباء والأجداد قد كان لي بالمصر يومٌ جامعٌ ... لك مصلحٌ فيه لكل فساد ودعوت منصوراً فأعلن بيعةً ... في جمع أهل المصر والأجناد في الأرض منفسحٌ ورزق واسع ... لي عنك في غوري وفي إنجادي وقال أيضاً يعاتبه: أيا ذا اليمينين إن العتا ... ب يغري صدوراً ويشفي صدوراً وكنت أرى أن ترك العتا ... ب خير وأجدر ألا يضيرا   1 البياحة: شبكة تحبس البياح، وهو نوع من السمك، والمباقل: مواضع بيع البقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 إلى أن ظننت بأن قد ظننت ... بأني لنفسي أرضى ألا الحقيرا فأضمرت النفس في وهمها ... من الهم هما يكد الضميرا ولابد للماء في مرجل ... على النار موقدة أن يفورا ومن أشرب اليأس كان الغني ... ومن أشرب الحرص كان الفقيرا علام وفيم أرى طاعتي ... لديك ونصري لك الدهر بورا ألم أك بالمصير أدعو البعيد ... إليك وأدعو القريب العشيرا ألم اك أول آتٍ أتاك ... بطاعة من كان خلفي بشيرا وألزم غرزك في ماقط الـ ... ـحروب عليها مقيماُ صبوراً1 ففيم تقدم جفالةً ... إليك أمامي وأدعي أخيرا2 كأنك لم تر أن الفتى الـ ... حمي إذا زار يوماً أميرا فقدم من دونه قبله ... ألست تراه يسخطٍ جديراً! ألست ترى أن سف التراب ... به كان أكرم من أن يزورا ولست ضعيف الهوى والمدى ... أكون الصبا وأكون الدبورا ولكن شهاب فإن ترم بي ... مهما تجد كوكبي مستنيراً فهل لك في الإذن لي راضياً ... فإني أرى الإذن غنماً كبيرا وكان لك الله فيما ابتعثت ... له من جهاد ونصر نصيراً ولاجعل الله في دولةٍ ... سبقت إليها وريح فتورا فإن ورائي لي مذهباً ... بعيداً من الأرض قاعاً وقورا3 به الضب تحسبه بالفلاة ... إذا خفق الآل فيها بعيرا ومالاً ومصراً على أهله ... يد الله من جائر أن يجورا وإني لمن خير سكانه ... وأكثرهم بنفيري نفيراً وقال عبد الله لعلي بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وكان دعاه إلى نصرته حين ظهرت المبيضة4 فم يجبه، فتوعده علي، فقال عبد الله:   1 الغرز: مساك رجل الركب. والمأقط: المضيق في الحرب. 2 الجفالة: كثير الجفول. 3 القاع: الأرض المستوية لانبات فيها. والقور: جمع قارة، وهي قمة الجبل. 4 قال المرصفى: "المبيضة قوم من أعداء الدولة العباسية، جعلوا شعارهم بيض الثياب يخالفون به شعار بنى العباس من لبس السواد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أعلي إنك جاهل مغرور ... لاظلمةٌ لك، لا ولا لك نود أكتبت توعدني إذا استبطأتني ... إني بحربك ما حييت جدير فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطين أجنحة البعوض يضير وإذا ارتحلت فإن نصري للألى ... أبوهم المهدي والمنصور نبتت عليه لحومنا ودماؤنا ... وعليه قدر سعينا المشكور وقال عبد الله قتل داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب من قتل بأرض السند بدم أخيه المغيرة بن يزيد: أفنى تميماً سعدها وربابها ... بالسند قتل مغيرة بن يزيد صعقت عليهم صعقةٌ عتكيةٌ1 ... جعلت لهم يوماً كيوم ثمود ذاقت تميمٌ عركتين عذابنا ... بالسند من عمر ومن داود قدنا الجياد من العراق إليهم ... مثل القطا مستنةً لورود2 يحملن من ولد المهلب عصبةً ... خلقت قلوبهم قلوب أسود وفي المغيرة يقول في قصيدة مطولة: إذا كر فيهم كرةً أفر جواله ... فرار بغاث الطير صادفن أجدلا وما نيل إلا من بعيد بحاصبٍ ... من النيل والنشاب حتى تجدلا وإني لمثن بالذي كان أهله ... أبو حاتم إن ناب دهر فأعضلا فتى كان يستحيي من الذم أن يرى ... له مخرجاً يوماً عليه ومدخلاً وكان يظن الموت عاراً على الفتى ... يد الدهر إلا أ، يصاب فيقتلا منيّة أبناء المهلب أنهم ... يرون بها حتماً كتاباً معجلاً وقد أطلق الله اللسان بقتل من ... قتلنا به منهم ومنّ وأفضلا أناخ بهم داود يصرف نابه ... ويلقي عليهم كللاً ثمّ كللاً يقتلهم جوعاً إذا ما تحصنوا ... وتقربهم هوج المجانيق جندلا وهذا الشعر عجيب من شعره.   1 عتكية: منسوبة إلى جده الأكبر عتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو مزيقياء بن ماء السماء. رغبة الآمل 151: 4. 2 مستنة: مسرعة في طيرانها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وفي هذه القصة يقول: أبت إلا بكاءً وانتحابا ... وذكرا للمغيرة واكتئاباً ألم تعلم بأن القتل ورد ... لنا كالماء حين صفا وطابا وقلت لها: قري وثقي بقولي ... كأنك قد قرأت به كتابا فقد جاء الكتاب به فقولي ... ألا لا تعدم الرّأي الصّوابا جلبنا الخيل من بغداد شعثاً ... عوا بس تحمل الأسد الغضابا بكل فتى أعزّ مهلّبيّ ... تخال بضوء صورته شهاباً ومن قحطان كل أخي حفاظٍ ... إذا يدعى لنائبه أجايا فما بلغت قرى كرمان حتى ... تخدّد لحمها عنها فذابا وكان لهنّ في كرمان يوم ... أمر على الشراة بها الشرابا1 وإنّا تاركون غداً حديثاً ... بأرض السّند سعداً والرّبابا تفاخر بابن أحورها تميمٌ ... لقد حان المفاخر لي وخابا وفي مثل هذا البيت الأخير يقول أبو عيينه: أعاذل صه لست من شيمتي ... وإن كنت لي ناصحاً مشفقا أراك تفرقني دائباً ... وما ينبغي لي أن أفرقا2 أنا ابن الذي شاد لي منصباً ... وكان السّماك إذا حلقا قريع العراق وبطريقهم ... وعزهم المرتجى المتّقى فمن يستطيع إذا ما ذهبـ ... ـت أنطق في المجد أن ينطقا أنا ابن المهلب ما فوق ذا ... لعالٍ إلى شرفٍ مرتقى فدعني أغلب ثياب الصبا ... بجدّتها قبل أن تخلقا قال أبو الحسن: وهذا شعر حسنٌ، أوله: ألم تنه نفسك أن تعشقا ... وما أنت والعشق لولا الشّقا أمن بعد شربك كأس النّهى ... وشمك ريحان أهل النّقا عشقت فأصبحت في العاشقي ... ن أشهر من فرس أبلقّا   1 الشراة: جماعة من الخوارج. 2 تفرقنى: تخوفنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 ثم قال: أعاذل صه لست من شيمتي ثم قال بعد قوله: فدعني أغلي ثياب الصّبا أدنياي من غمر بحر الهوى ... خذي بيدي قبل أن أغرقا أنا لك عبدٌ فكوني كمن ... إذا سره عبده أعتقا وقال أبو الحسن: قوله "أنا لك عبدٌ" فوصل بالألف، فهذا إنما يجوز في الضرورة، والألف تثبت في الوقف لبيان الحركة، فلم يحتج إلى الألف، زمن أثبتها في الوصل قاسه على الوقف للضرورة، ظن كقوله: فإن يك غثّاً أو سميناً فإنّني ... سأجعل عيينة لنفسه مقنعا لأنه إذا وقف على الهاء وحدها، فأجرى الوصل على الوقف، وأنشدوا قول الأعشى: فكيف أنا وانتحال القوا ... ف بعد المشيب كفى ذاك عاراً والرواية الجيدة: فكيف يكون انتحالي القواف بعد المشيب سقى الله دنيا على نأيها ... من القطر منبعقاً ريّقاً ألم أخدع النّاس عن حبّها ... وقد يخدع الكيس الأحمقا بلى وسبقتهم إنّني ... أحب إلى المجد أن اسبقا ويوم الجنازة إذا أرسلت ... على رقبةٍ أن جيء الخندقا إلى السال فاختر لنا مجلساً ... قريباً وإياك أن تخرقا هذا مما يغلط فيه عامة أهل البصرة، يقولون: السال بالخفيف، وإنما هو السال يا هذا، وجمعه سلاّن، وهو الغالّ وجمعه غلاّنٌ، وهو الشّقّ الخفيّ في الوادي: فكنّا كغصنين من بانةٍ ... رطيبين حدثان ما أورقا فقالت لترب لها استنشديـ ... ـه من شعره الحسن المنتقى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 فقلت أمرت بكتمانه ... وحذرت إن شاع أن يسرقا فقالت بعيشك! قولي له ... تمتّع لعلّك إن تنفقا قوله: "لعلك أن تنفقا" اضطرار، وحقه "لعلك تنفق". لأن لعلّ من أخوات إن فأجريت مجراها، ومن أتى بأن فلمضارعتها عسى، كما قال متمم بن نويرة: لعلك يوماً أن تلم ملمةٌ ... عليك من الللاّئي يدعنك أجدعا وهو كثير. قال أبو العباس: وزعم أبو معاذ النميري أنه يعتاد عبد الله بن محمد بن أبي عيينة، ويكثر المقام عنده، وكان راوية للشعره، وأم أبن أبي عيينة بن المهلب يقول لها: خيرة وهي من بني سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة، فأبطأت عليه أياماً فكتب إلي: تمادى في الجفاء أبو معاذ ... وراوغني ولاذ بلا ملاذ ولولا حق أخوالي قشير ... أتته قصائد غير اللّذاذ كما راح الهلال بن حرب ... به سمة على عنق وحاذ1 يعني محمد بن حرب بن قبيصة بن مخارق الهلالي، وكان من أقعد الناس. ولقبيصة بن المخارق صحبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قد سار إليه فأكرمه وبسط له رداءه وقال: "مرحباً بخالي"!، فقال: يا رسول الله، رق جلدي، ودق عظمي، وقلي مالي، وهنت على أهلي! فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لقد أبكيت بما ذكرت ملائكة المساء". ومحمد بن حرب هذا ولي شرطة البصرة سبع مرات، وكان على شرطة جعفر بن سليمان على المدينة، وكان كثير الأدب فأغضب، ابن أبي عيينة   1 الحاذ: الظهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 في حكم جرى عليه بحضرة إسحاق بن عيسى - وكان على شرطته إذا ذاك - ففي ذلك يقول عبد الله بم أبي عيينة: بأخوالي وأعمامي أقامت ... قريشٌ ملكها وبها تهاب متى ما أدع أخوالي لحرب ... وأعمامي لنائبه أجابوا أنا أبن أبي عيينة فرع قومي ... وكعب والدي وأبي كلاب خلا ابن عكابة الظربان سهل ... له فسو تصاد به الضّباب وآخر من هلال قد تداعى ... فصار كأنه الشّيء الخراب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 باب نبذ من أقوال الحكماء للعتبى يذكر ابنه له مات ... باب نبذ من أقوال الحكماء قال أبو العباس: كان ابن شبرمة إذا نزلت به نازلةٌ قال: سحابة ثم تنقشع. وكان يقال: أربع من كنوز الجنة: كتمان المصيبة، وكتمان الصدقة، وكتمان الوجع. قال عمر بن الخطاب رحمه الله: لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت. للعتبي يذكر ابناً له مات وقال العتبّي محمد بن عبد الله، يذكر ابناً له مات: أضحت بخدّي للدّموع رسوم ... أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم والصبر يحمد فيا لمصائب كلها ... إلا عليك فإنه مذموم وقال أبو العباس: وأحسب أنّ حبيباً الطائي سمع هذا فاسترقه في بيتين: أحدهما قوله في إدريس بن بدر الشامي: دموع أجابت داعي الحزن همّع ... توصل منّا عن قلوب تقطّع وقد كان يدعى لابس الصّبر حازماً ... فأصبح يدعى حازماً حين يجذع والآخر قوله: قالوا الرّحيل! فما شككت بأنها ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلاً الصّبر اجمل غير أن تلذّذاً ... في الحب أحرى أن يكون جميلاً وقال سابق البربري: وإن جاء ما لا تستطيعان دفعه ... فلا تجرعا مما قضى الله واصبرا وقال آخر أيضاً: اصبر على القدر المجلوب وارض به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر فما صفا لامرئٍ عيشٌ يسرّ به ... إلاّ سيتبع يوماً صفوة كدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 خالد بن صفوان مع بلال بن أبي بردة وكان خالد بن صفوان يدخل على بلال بن أبي بردة يحدثه فيلحن، فلما كثر ذلك على بلال قال له: أتحدثني أحاديث الخلفاء، وتلحن لحن السقّاءات! وقال التّوّزيّ: فكان خالد بن صفوان بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلم الإعراب، وكفّ بصره فكان إذا مرّ به موكب بلال يقول: ما هذا? فيقال له: الأمير، فيقول خالد: سحابة صيفٍ عن قليل تقشّع فقيل ذلك لبلال، فاجلس معه من يأتيه بخبرة، ثم مرّ به بلال، فقال خالد كما كان يقول، فقيل ذلك لبلال، فأقبل على خالد فقال: لا تقشّع والله حتى تصبيك منها بشؤبوب بردٍ! فضربه مائتي سوط. وقال بعضهم: بل أمر به فديس بطنه. قوله: "بشؤبوب" مهزوم، وهو الدّفعة من المطر بشدة، وجمعه شآبيب. وقال النابغة يخاطب القبيلة: ولا تلاقي كما لاقت بنو أسدٍ ... فقد أصابهم منها بشؤبوب يريد ما نال بني أسد من غارة النعمان عليهم، وضرب الشؤبوب مثلاً للغارة، والغارة تضرب لذلك مثلاً، كما يقال شنّ عليهم الغارة، أي صبها عليهم، قال ابن هرمة: كم بازلٍ قد وجأت لبّتها ... بمستقبلّ الشؤبوب أو جمل يريد ما وجأها به من جديدة، يقول: لمّا وجأتها دفعت بشؤبوب من الدم، فكأنه قال: بسنان مستهل الشؤيوب، أما ما أشبه بذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 خالد بن صفوان وسليمان بن علي وكان خالد بن صفوان أحد من إذا عرض له القول قال، فيقال: إن سليمان بن علي سأله عن ابنيه جعفر ومحمدٍ، فقال: كيف إحمادك جوار همايا أبا صفوان?فقال: أبو مالكٍ جارٌ لها وابن برثنٍ ... فيا لك جاري ذلّة وصغار! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 ش قوله: أبو مالك، صوابه أبو نافع وهو مولى لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فأعرض عنه سليمان، من أحلم الناس وأكرمهم، وهو في الوقت الذي أعرض فيه عنه والي البصرة وعم الخليفة المنصور، والشعر الذي تمثل به خالد ليزيد بن مفرّغ الحميري، قال: سقى الله داراً لي وأرضاً تركتها ... إلى جنب داري معقل بن يسار أبو مالكٍ جارٌ لها وابن برثنٍ ... فيالك جاري ذلّة وصغار! وكان الحسن يقول: لسان العاقل من وراء قلبه: فإن عرض له القول نظر، فإن كان له أن يقول قال، وإن كان عليه القول أمسك، ولسان الأحمق أمام قلبه، فإذا عرض له القول قال، كان عليه، أو له. وخالدٌ لم يكن يقول الشّعر. ويروى أنه وعد الفرزدق شيئاً فأخّره عنه، وكان خالد أحد البخلاء، فمر به الفرزدق فهدّده، فامسك عنه حتى جاز الفرزدق، ثم أقبل على أصحابه فقال: عن هذا قد جعل إحدى يديه سطحاً، وملأ الأخرى ثم أقبل على أصحابه فقال: إن هذا قد جعل إحدى يديه سطحاً، وملأ الأخرى سلحاً، وقال: إن عمرتم سطحي، وإلا نضحتكم بسلحي! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 من أخبار إياس بن معاوية وقال إياس بن معاوية المزنّي أبو واثلة - وكان أحد العقلاء الدّهاة الفضلاء - لخالد: لا ينبغي أن نجتمع في مجلس، فقال له خالد: وكيف يا أبا واثلة? فقال: لأنك لا تحب أن تسكت، وأنا لا أحب أن أسمع! وخاصم إلى إياس رجلٌ رجلاً في دينٍ وهو قاضي البصرة، فطلب منه البينة، فم يأته بمقنع، فقيل للطالب: استجر وكيع بن أبي سودٍ حتى يشهد لك، فإن إياساً لا يجترئ على رد شهادته، ففعل، فقال وكيعٌ: فهم إياسٌ عنه فأقعده إلى جانبه، ثم سأله عن حاجته، فقال: جئت شاهداً، فقال له: يا أبا المطرف، أتشهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 كما تفعل الموالي والعجم? أنت تجل عن هذا? فقال: إذن والله لاأشهد، فقيل لوكيع بعد: إنما خدعك، فقال أولى لابن اللّخناء! وشهد رجل من جلساء الحسن بشهادة عند إياس فرده، فشكا الرجل ذلك إلى الحسن فأتاه الحسن فقال: يا أبا واثلة، لم رددت شهادة فلان? فقال: يا أبا سعيد، إن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 1 وليس فلان ممن أرضى.   1 سورة البقرة 282. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 من أخبار أبي دلامة واختلف نصرانيّ إلى أبي دلامة مولى بني أسد يتطبّب لابنٍ له، فوعده إن برأ على يديه أن يعطيه ألف درهم، فبرأ ابنه، فقال للمتطبّب: إن الدراهم ليست عندي، ولكن والله لوصّلنّها إليك، ادّع على جاري فلان هذه الدراهم فإنه موسر، وأنا وابني نشهد لك، فليس د ون أخذها شيء، فصار النصرانيّ بالجار إلى ابن شبرمة، فسأله البينة، فطلع عليه أبو دلامة وابنه، ففهم القاضي، فلمال جلس بين يديه قال أبو دلامة: إن النّاس غطّوني تغطّيت عنهم ... وإن يحثوني كان فيهم مباحث وإن حفروا بئري حفرت بئارهم ... ليعلم قومٌ كيف تلك النّبائث فقال ابن شبرمة: من ذا الذي يبحثك يا أبا دلامة? ثم قال للمدّعي: قد عرفت شاهديك! فخل عن خصمك، ورح العشيّة إليّ، فراح إليه فغرمها من ماله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 من أخبار عبيد الله بن الحسن العنبري وشهد أبو عبيدة عند عبيد الله بن الحسن العنبري على شهادة، ورجل عدل. فقال عبيد الله للمدّعي: أما أبو عبيدة فقد عرفته، فزدني شاهداً. وكان عبيد الله أحد الأدباء الفقهاء الصّلحاء. وزعم ابن عائشة قال: عتبت عليه مرة في شيء، قال: فلقيني يدخل من باب المسجد يريد مجلس الحكم، وأخرج فقلت معرضاً به: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 طمعت بليلى ان تريع وإنّما ... تقطع أعناق الرجال المطامع1 فأنشدني معرّضاً تاركاً لما قصدت له: وباينت ليلى في خلاءٍ ولم يكن ... شهود على ليلى عدولٌ مقانع وكان ابن عائشة يتحدث عنه حديثاً عجيباً، ثم عرف مخرج ذلك الحديث. وذكر ابن عائشة، وحدثني عنه جماعة لا أحصيهم كثرة: أن عبيد الله بن الحسن شهد عنده رجل من بني نهشل على أمر أحسبه ديناً فقال له: أتروي قول الأسود بن يعفر: نام الخلي فما أحسن رقادي فقال له الرجل: لا! فردّ شهادته وقال: لو كان في هذا خير لروى شرف أهله.   1 زيادات ر "ألمت". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 من أخبار سوار بن عبد الله فحدثني شيخ من الأزد حديثاً ظننت أن عبيد الله إياه قصد، قال: تقدم رجل إلى سوّار بن عبد الله وسوّار ابن عم عبيد الله بن الحسن-يدّعي داراً، وامرأةٌ تدافعه وتقول لسوّار: إنها والله خطّةٌ ما وقع فيها كتاب قط. فأتى المدعي بشاهدين يعرفهما سوّار، فشهدا له بالدار، وجعلت المرأة تنكر إنكاراً يعضده التصديق، ثم قالت: سل عن الشهود، فإن الناس يتغيرون، فردّ المسألة، فحمد الشاهدان. فلم يزل يريّث أمولاهم، ويسأل الجيران، فكلّ يصدّق المرأة، والشاهدان قد ثبتا، فشكا ذلك إلى عبيد الله. فقال له عبيد الله: أنا أحضر مجلس الحكم معك فآتيك بالجليّة إن شاء الله تعالى، فقال للشاهدين: ليس للقاضي أن يسألكما كيف شهدتما، ولكن أنا أسألكما. قال: فقالا: أراد هذا أن يحجّ فأدارنا على حدود الدار من خارج، وقال: هذه داري، فإن حدث بي حادث فلتبع ولتقسم على سبيل كذا، قال: أفعندكما غير هذه الشهادة? قالا: لا، فقال: الله أكبر! وكذا ولو أدرتكما دارعلى سوّار، وقلت لكما مثل هذه المقالة، أكنتما تشهدان بها لي? ففهما أنهما قد اغترّا، فكان سوّار إذا سأل عن عدالة الشاهد يتبع المسألة أن يقول: أفجائز العدالة هو؟ فظننت أن عبيد الله رأى في الشاهد غفلة فاختبره بهذا وما أشبهه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وحدثني أحد أصحابنا أن رجلاً من الأعراب تقدم إلى سوّار في أمر فلم يصادف عنده ما يحبّ، فاجتهد فلم يظفر بحاجته، قال: فقال الأعرابي، وكانت في يده عصاً: رأيت رؤيا ثمّ عبّرتها ... وكنت للأحلام عبّارا بأنّني أخيط في ليلتي ... كلباً فكان الكلب سوّار ثم انحنى على سوّار بالعصا فضربه حتى منع منه، قال: فما عاقبه سوّار بشيء. قال: وحدّثت أن أعرابياً من بني العنبر سار إلى سوّار فقال: عن أبي مات وتركني وأخاً لي- خطين في الأرض- ثم قال: وهجينا- وخط خطّا ناحية- فكيف نقسم المال? فقال: أههنا وراثٌ غيركم? قال: لا، قال: المال بينكم أثلاثاً، فقال: لا أحسبك فهمت عني! إنه تركني وأخي وهجيناً لنا، فقال سوّار: المال بينكم اثلاثاً، قال: فقال الأعرابي: أيأخذ الهجين كما آخذ، وكما يأخذ أخي! قال: أجل! فغضب الأعرابي، قال: صم أقبل على سوّار فقال: تعلم والله إنك قليل الخالات بالدّهناء، فقال سوّار: إذا لا يضيرني ذلك عند الله شيئاً1.   1 زيادات ر: "قيل إنه ليس بالدهناء أمة، وإنما كان فيها الحرائر". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 أنفة عقيل بن علفة وكان عقيل بن علّفة من المغيرة والأنفة على ما ليس عليه أحدٌ علمناه، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته على أحد بنيه، وكانت لعقيل إليه حاجات فقال: أما إذ كنت فاعلاً فجنّبني هجاءك. وخطب إليه ابنته إبراهيم بن هشام بن اسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة-وهو خال هشام بن عبد الملك ووالي المدينة، وكان أبيض شديد البياض- فردّه عقيلّ وقال: رددت صحيفة القرشيّ لما ... أبت أعراقه إلاّ احمرارا وكانت حفصة بنت عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله قد ميت عنها، فخطبها جماعة من قريش، أحدهم عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وأحدهم إبراهيم بن هشام، فكان أخوها محمد بن عمران، إذا دخل إلى إبراهيم بن هشام أوسع له وأنشده: وقالوا يا جميل أتى أخوها ... فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب أحبك أن نزلت جبال حسمى ... وأن ناسبت بثينة من قريب وهذا الشعر لجميل بن عبد الله بن معمر الذري، فأما جميل بن معمرٍ الجمحيّ فلا نسب بينه وبين معمر، أي ليس بينه وبين أبٌ آخر، وكانت له صحبةٌ، وكان خالصاٌ بعمر بن الخطاب رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب ويروى عن عبد الرحمن عوف أنه قال: أتيت باب عمر بن الخطاب رحمه الله، فسمعه ينشد بالرّكبانيّة1: وكيف ثواني بالمدينة بعدما ... قضى وطرأ منها جميل بن معمر فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ماقلت? فقلت: نعم! فقال: إنا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم. قال ش: وهم أبو العباس رحمه الله في هذا، وإنما القصة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي سمععبد الرحمن بن عوف ينشد.   1 الركبانية: غناء للعرب فيه مد وتمطيط. "رغبة الآمل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 لأبي خراش وكان قد قتل أخاه جميل بن معمر وكان جميل بن معمر الجمحيّ قتل أخا لبي خراش الهذلي يوم فتح مكة وأتاه من ورائه وهو موثق، فضربه، ففي ذلك يقول أبو خراش: فأقسم لو لاقيته غير موثقٍ ... لآ بك بالعرج الضّباع النّواهل لكان جميل أسوأ النّاس صرعةً ... ولكنّ أقران الظهور مقاتل فليس كعهد الدّار يا أم مالكٍ ... ولكن أحاطت بالزقاق السّلاسل وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحق شيئاً فاستراح العواذل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 قوله: "أسوء الناس صرعة"، أي الهيئة التي يصرع عليها كما تقول: جلست جلسة وركبت ركبة، وهو حسن الجلسة والرّكبة، أي الهيئة التي يجلس عليها ويركب عليها، وكذلك القعدة والنّيمة. وقوله لآبك، أي لعادك، وأصل هذا من الإياب والرّجوع، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} 1،وقال عبيد بن الأبرص2: وكلّ ذي غيبةٍ يؤوب وقوله: بالعرج، فهو ناحية من مكة، به ولد عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان، فسمّي العرجيّ، ويقال: بل كان له مال بذلك الموضع، فكان يقيم فيه. وقال ش: هذا وهم من أبي العباس رحمه الله، وأما صوابه فعبد الله بن عمر بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان رضي الله عنه. والنّواهل فيه قولان: أحدهما العطاش وليس بشيء والآخر الذي قد شرب شربةً فلم يرو، فاحتاج إلى ان يعلّ، كما قال امرؤ القيس: إذا هنّ أقساطٌ كرجل الدّبى ... أو كقطا كاظمة النّاهل3 وقوله: "احاطت بالرقاب السلاسل"، يقول: جاء الإسلام فمنع من الطلب بالأوتار إلا على وجهها. وكان يقال: إن اول من أظهر الجور من القضاة في الحكم بلال بن أبي بردة وكان أمير البصرة وقاضيها، وفي ذلك يقول رؤبه4: وأنت يا ابن القاضيين قاض وكان بلال يقول: عن الرجلين ليقدّمان إليّ فأجد أحدهما على قلبي أخفّ فاقضي له.   1 سورة الغاشية 25. 2 بقيته كما في زيادات ر: وغائب الموت لا يئوب 3 أقساط: قطع. الدبى: جماعة الجراد. 4 بعده كما في زيادات ر: معتزم على الطريق ماض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 بلال بن أبي بردة وعمر بن عبد العزيز ويروى أن بلالاً وفد على عمر بن عبد العزيز بخناصرة، فسدك" ش: معناه لصق" بساريةٍ من المسجد، فجعل يصلّي إليها ويديم الصلاة، فقال عمر بن عبد العزيز للعلاء بن المغيرة بن البندار: ان يكن سرّ هذا كعلانيته فهو رجل أهل العراق غير مدافع، فقال العلاء: أنا آتيك بخبره، فاتاه وهو يصلي بين المغرب والعشاء، فقال: اشفع صلاتك فإن لي إليك حاجةً، ففعل، فقال العلاء: قد عرفت حالي من أمير المؤمنين، فإن أنا أشرت بك على ولاية العراق فما تجعل لي? قال: لك عمالتي1 سنة، وكان مبلغها عشرين ألف ألف درهم، قال: فاكتب لي بذلك، قال: فارقدّ2 بلال إلى منزله، فأتى بداوة وصحيفة فكتب له بذلك. فأتى العلاء عمر بالكتاب، فلما رآه، كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وكان والي الكوفة أما بعد: فإن بلالاً غرّنا بالله، فكدنا نغترّ، فكسبناه فوجدناه خبثاً كلّه، والسلام. ويروى أنه كتب إلي عبد الحميد: إذا ورد عليك كتابي هذا فلا تستعن على عملك بأحد من آل أبي موسى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 شعر ذي الرمة في بلال قال أبو العباس: وكان بلال داهيةً لقناً أدبياً، ويقال: إن ذا الرّمة لمّا أنشده: سمعت، النّاس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلالاً تناخي عند خير فتى يمانٍ ... إذا النّكباء ناوحت الشّمالاً فلما سمع قوله: فقلت لصيدح انتجعي بلالا قال: يا غلام، مر لها بقتّ ونوىّ، أراد أن ذا الرّمّة لايحسن المدح.   1 زيادات ر: "العمالة؛ بضم العين: أجره العامل". 2 زيادات ر: "معناه: أسرع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 قوله: "سمعت الناس ينتجعون" حكاية، والمعنى إذا حقّق إنما هو سمعت هذه اللفظة، أي قائلاً يقول: "الناس ينتجعون غيثاً"، ومثل هذا قوله: وجدنا في كتاب بني تميمٍ ... أحقّ الخيل بالرّكض المعار فمعناه: وجدناه هذه اللفظة مكتوبة، فقوله: "أحق الخيل" ابتداء، "والمعار" خبره، وكذلك "الناس" ابتداء، و"ينتجعون" خبره. ومثل هذا في الكلام: قرأت "الحمد لله رب العالمين"، إنما حكيت ما قرأت، وكذلك قرأت على خاتمه "الله أكبر" يا فتى، فهذا لا يجوز سواه. وقوله: "إذا النكباء ناحت الشّمالا" فإن الرياح أربع، ونكباواتها أربع، وهي الريح التي تأتي من بين ريحين فتكون بين الّمال والصّبا، أو الشّمال والدّبور، أو الجنوب والدّبور، أو الجنوب والصّبا، فإذا كانت النّكباء تناوح الشمال فهي آية الشتاء. ومعنى "تناوح" تقابل، يقال: تناوح الشجر إذا قابل بعضه بعضاً، وزعم الأصمعي أن النائحة بهذا سمّيت، لأنها تقابل صاحبتها. وقال يحيى بن نوفل الحميريّ - ويقال إنه لم يمدح أحداً قط: فلو كنت ممتدحاً للنّوال ... فتى لامتدحت عليه بلالاً ولكنّني لست ممّن يريد ... بمدح الرّجال الكرام السّؤالا سيكفي الكريم إخاء الكريم ... ويقنع بالود منه نوالا ومن احسن ما امتدح به ذو الرّمة بلالا، قوله: تقول عجوزٌ مدرجي متروّحاً ... على بيتها من عند أهلي وغاديا اذو زوجةٍ بالمصر أم ذو خصومةٍ ... أراك لها بالبصرة العام ثاويا فقلت لها: لا عن أهلي لجيرةٌ ... لأكثبة الدّهنا جميعاً وماليا1 وما كنت مذ أبصرتني في خصومة ... أرجع فيها يا ابنة الخير قاضي ولكنّني أقبلت من جانبي قساٌ ... أزور فتى نجداً كريماً يمانيا من آل أبي موسى عليه مهابةٌ ... تفادي أسود الغاب منه تفاديا مرمّين من ليثٍ عليه مهابة ... تفادي أسود الغاب منه تفاديا   1 زيادات ر: قوله "لا" لحن، وهذا اللحن راجع على المرأة؛ لأن "لا" لا تقع إلا في جواب "أو" وإنما سألته بأم، وهي لم يستقر عندها علم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وما الخرق منه يرهبون ولا الخنى ... عليهم ولكن هيبةٌ هي ماهيا وقوله: "مدرجي" يقول: مروري، فأما قولهم في المثل: خير من دبّ ومن درج، فمعناه: منحيي ومن مات، يريدون: من دب على وجه الأرض ومن درج منها فذهب. وقوله: أراك لها بالبصرة العام ثاويا فإنه في هذا المعنى: ثوى الرجل فهو ثاوٍ، يا فتى، إذا أقام، وهي أكثر، ويقال: أثوى فهو فهو مثوٍ يا فتى، وهي أقل من تلك، قال الأعشى: أثوى وقصر ليلةً ليزوّدا ... فمضى وأخلف من قتيله موعداً وقوله: "قسا" فهو موضع من بلاد بني تميم. وقوله: "لأكثبة الدهنا"، فأكثبةٌ جمع كثب، وهو أقل العدد، والكثير كثبانٌ والدّهنا من بلادي بني تميم، ولم أسمع إلا القصر من أهل العلم والعرب، وسمعت بعد من يروي مدّها ولا أعلافه, قال ذو الرمة: حنّت إلى نعم الدّهنا فقلت لها ... أمي هلالاً على التوفيق والرّشد يعني هلال بن أحوز المازني، وقال جرير: بازٍ يصعصع بالدّهنا قطاً جونا وقوله: كأنهم الكروان أبصرن بازيا. فالكروان جماعة كروانٍ، وهو طائر معروف، وليس هذا الجمع لهذا الاسم بكماله، ولكنه على حذف الزيادة، فالتقدير: كراً وكروانٌ، كما تقول: أخٌ وإخوانٌ وورلٌ وورلانٌ، وبرق وبرقانٌ، والبرق أعجمي ولكنه قد أعرب وجمع كما تجمع العربية، واستعمل الكروان جمعاً على حذف الزيادة، واستعمل في الواحد كذلك، تقول العرب في مثلٍ من أمثالها: أطرق كرا أطرق كرا ... إنّ النّعام في القرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 يريدون الكروان. وقوله: من آل أبي موسى ترى القوم حوله فقال: ترى، ولم يقل ترين، وكانت المخاطبة أولاً لامرأة، ألا تراه يقول: ومما كنت مذ أبصرتني في خصومةٍ ... أراجع فيهالا يا ابنة الخير قاضياً ثم حوّل المخاطبة إلى رجل، والعرب تفعل ذلك، قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 1، فكأن التقدير والله اعلم كان للناس، ثم حولت المخاطبة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال عنترة بن شدّاد: شطّت مزار العاشقين فأصبحت ... عسراً عليّ طلابك ابنة مخرم وقال جرير: ما للمنازل لا تجيب حزننا ... أصممن قدم المدى قبلينا وترى العواذل يبتدرن ملامتي ... وإذا اردن هواك عصينا قال أولاً لرجل، ثم قال: سوى هوالك. وقال آخر: فدى لك والدي وسراة قومي ... ومالي إنه منه أتاني على تحويل المخاطبة. وقوله: "مرمّين"، يريد سكوتاً مطرقين، بقال: أرم إذا أطرق ساكتاً. وقوله: "تفادى أسود الغاب" معناه تفتدي منه بعضها ببعض. الخبر أن سليمان بن عبد الملك أمر بدفع عيال الحجاج ولحمته إلى يزيد بن المهلب فتفادى منهم، تأويله: فدى نفسه من ذلك المقام بغيره. وقوله: وما الخرق منه يرهبون ولا الخنى ... عليهم ولكن هيبة هي ماهيا إذا رفعت "هيبة" فالمعنى: ولكن أمره هيبةٌ، كما قال الله عز وجل: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} 2، أي ذلك بلاغ، ومثله قوله عزّ وجل:   1 سورة يونس 22. 2 سورة الأحقاف 35. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} 1، يكون رفعة على ضربين، أحدهما أمرنا طاعة وقول معروف، والوجه الآخر طاعةٌ وقولٌ معروف أمثل. ومن نصب هيبة أراد المصدر، أي ولكن يهاب هيبةً. وأحسن ما قيل في هذا المعنى: يغضي حياءً ويغضي من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم وقال الفرزدق، يعني يزيد بن المهلب: وإذا الرّجال رأوا بزيد رأيتهم ... خضع الرّقاب نواكس الأبصار وفي هذا البيت شيء من يستطرفه النحويون، وهو أنهم لا يجمعون ما كان من فاعل نعتاً على فواعل، لئلا يلتبس بالمؤنث، لا يقولون: ضارب وضوارب، وقاتل وقواتل، لأنهم يقولون في جمع ضاربة: ضوارب، وقاتلة: قواتل، ولم يأت ذلك إلا في حرفين: إحداهما في جمع فارس: فوارس، لأن هذا مما لا يستعمل في النساء فأمنوا الالتباس، ويقولون في المثل: هو هالك في الهوالك، فاجروه على اصله فقال: "نواكس الأبصار"، ولا يكون مثل هذا أبداً إلا في ضرورة.   1 سورة محمد 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 باب لجرير وقد نزل بقوم من بني العنبر فلم يقروه قال جرير ونزل بقوم من بني العنبر بن تميم فلم يقروه حتى اشترى منهم القرى فانصرف وهو يقول: يا مالك بن طريفٍ إنّ بيعتكم ... رفد القرى مفسدّ للديّن والحسب قالوا نبيعكه بيعاً فقلت لهم ... بيعوا الموالي واستحيوا من العرب لولا كرام طريفٍ ما غفرت لكم ... بيعي قراي ولا أنسأتكم غضبي هل أنتم غير أو شابٍ زعانفهٍ ... ريش الذّنابى وليس الرأس كالذّنب وقوله: "يا مالك بن طريف" فمن نصب، فإنما هو على انه جعل "ابناً" تابعاً لما قبل، كالشيء الواحد، وهو اكثر في الكلام إذا كان اسماً علماً منسوباً إلى اسم علم، ابن مع ما قبله بمنزلة الشيء الواحد، ومثل ذلك: يا حكم بن المنذر بن الجارود،1 ومن وقف على الاسم الأول، ثم جعل الثاني نعتاً لم يكن في الأول2 إلا الرفع، لنه مفرد نعت بمضاف، فصار كقولك: يا زيد ذا الجمة. وقوله: "ولا أنساكم غضبي"، يقول: لم أؤخره عنكم، يقال: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك، والنّسيء من هذا، ومعناه تأخير شهر عن شهر، وكانت النّسأة من بني مدلج بن كنانة، فأنزل الله عز وجلّ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 3 لأنهم كانوا يؤخرون الشهور، فيحرمون غير الحرام، ويحلّون غير الحلال، لما يقدّرونه من حروبهم وتصرّفهم، فاستوت الشهور لمّا جاء الإسلام، وأبان ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "إن الزّمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السّموات والأرض". وقوله: هل انتم غير أو شابٍ زعانفةٍ   1 الرجز لأعشى بن الحرماز، وبعده: سرادق المجد عليك ممدود 2 تكمله من س. 3 سورة التوبة 37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 فالأشابة جماعة تدخل في قوم وليست منهم، وإنما هو مأخوذ من المر الأشب، أي المختلط، ويزعم بعض الرواة ان اصله فارسي أعرب، يقال بالفارسية: وقع القوم في آشوب [أي] 1 في اختلاط، ثم تصرّفت فقيل: تأشّب النبت، فصنع منه فعل2. وأما الزّعانف فأصلها أجنحة السّمك، قال أوس بن حجر: ومازال يفري الشدّ حتّى كأنما ... قوائمه في جانبيه زعانف3 وتزعم الرّواة أن ما أنفت منه جلّة الموالي هذا البيت، يعني قول جرير: بيعوا الموالي واستحيوا من العرب لأنه حطّهم ووضعهم، ورأى أن الإساءة إليهم غير محسوبة عيباً. ومثل ذلك قول المنتجع لرجل من الأشراف: ما علّمت والدك? قال: الفرائض، قال: ذلك قول المنتجع لرجل من الأشراف: ما علّمت والدك? قال: الفرائض، قال: ذلك علم الموالي لا أبالك! علمهم الرجز، فإنه يهرّث أشداقهم4. ومن ذلك قول الشّعبيّ ومر بقوم من الموالي يتذكرون النحو فقال، لئن أصلحتموه إنكم لأوّل أفسده! ومن ذلك قول عنترة: فما وجدنا بالفروق أشابةً ... ولا كشفا ولا دعينا موالياً5 ومن ذلك قول الآخر: يسمّوننا الأعراب العرب اسمنا ... وأسماؤهم فينا رقاب المزاود يريد أسماؤهم عندنا الحمراء، وقول العرب: ما يخفى ذلك على الأسود والحمر. يريد العربيّ والعجميّ. وقال المختار لإبراهيم بن الأشتر يوم خازر6 وهو اليوم الذي قتل فيه عبيد الله بن زياد: إن عامّة جندك هؤلاء الحمراء، وإن الحرب إن ضرّستهم هربوا، فاحمل العرب على متون الخيل، وأرجل الحمراء أمامهم.   1 من ر. 2 زيادات ر: "هذا وهم من أبي العباس، ليس الأشابة ولا الأشب من الأوشاب؛ لأن فاء الفعل من الأشابه همزة، ومن أوشاب واو، ولكنه مثله في المعنى يحتمل أن يكون أصله وشابة، وأبدلت الواو المضمومة همزة". 3 يفرى الشد: يأتى بالعجب في عدوه. 4 يهرث أشداقهم: يوسعها. 5 الفروق: اسم موضع. والكشف: الذين لا يصدقون في القتال. 6 زيادات ر: "وقعت الرواية كما في الأصل، ووجد بخط يد أبى على البغدادي رحمه الله: "جازر، بالجيم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 ومن ذلك قول الأشعث بن قيس لعلي بن أبي طالب رحمة الله، وأتاه يتخطى رقاب الناس، وعليّ على المنبر فقال: يا أمير المؤمنين، غلبتنا هذه الحمراء على قربك، قال: فركض عليّ المنبرٌ برجله، فقال صعصعة بن صوجان العبديّ: مالنا ولهذا? يعني الشعث، ليقولنّ أمير المؤمنين اليوم في العرب قولاً لا يزال يذكر، فقال عليٌّ من يعذرني من هذه الضّياطرة، يتمرّغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار، ويهجّر قومٌ للذّكر، فيأمرني إن أطردهم، ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين، والذي فلق الحبة، وبرأ النّسمة، ليضربنّكم على الدّين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً. قوله: "الضياطرة" واحدهم ضيطرٌ وضيطارٌ، وهو الأحمر العضل الفاحش، قال خداش بن زهير: وتركب خيلٌ لا هوادة بينها ... وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر وإنما قال جريرٌ لبني العنبر: هل أنتم غير أو شابٍ زعانفةٍ لأن النّسّابين يزعمون ان العنبر بن عمرو بن تميم، إنما هو ابن عمرو بن بهراء، وأمّهم أم خارجية البجليّة التي يقال لها في المثل: "أسرع من نكاح أمّ خارجة"، فكانت قد ولدت في العرب في نيّفٍ وعشرين حياً من آباءٍ متفرقين، وكان يقول لها الرجل: خطبٌ? فتقول: نكحٌ! كذلك قال يونس بن حبيب، فنظر بنوها إلى عمرو بن تميم قد ورد بلادهم، فأحسّوا بأنه أراد أمتهم، فبادروا إليه ليمنعوه تزوّجها، وسبقهم لأنه كان راكباً، فقال لها: إنّ فيك لبقيّة? فقالت: إن شئت. . .، فجاؤوا وقد بنى عليها، ثم نقلها بعد إلى بلده، فتزعم الرواة أنها جاءت بالعنبر معها صغيراً، وأولدها عمرو بن تميم أسيّداً والجهيم والقليب، فخرجوا ذات يوم يستقون فقلّ عليهم الماء، فأنزلوا مائحاً من تميم، فجعل المائح يملأ الدلو إذا كانت للهجيم وأسيّد والقليب، فإذا وردت دلو العنبر تركها تضطرب، فقال العنبر: قد رابني من دلوي اضطرابها ... والنّأي عن بهراء واغترابها إلا تجيء ملأى يجيء قرابها1 فهذا قول النّسّابين.   1 أى ما يقارب ملأها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وبروى أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال يوماً لعائشة رحمها الله، وقد كانت نذرت أن تعيق قوماً من ولد إسماعيل، فسبي قوم من بني العنبر، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن سرّك ان تعتقي الصميم من ولد إسماعيل فأعتقي من هؤلاء". فقال النّسّابون: فبهراء من قضاعة، وقد قيل قضاعة من بني معدّ، فقد رجعوا إلى إسماعيل. ومن زعم أن قضاعة من بني مالك بن حمير وهو الحق قال: فالنسب الصحيح في قحطان الرّجوع إلى إسماعيل وهو الحق وقول المبّرزين من العلماء: غنما العرب المتقدمة من أولاد عابر، ورهطه عاد وطسم وجديس وجرهموالعماليق، فاما قحطان عند أهل العلم، فهو ابن الهميسع بن تيمن بن نبت بن قيذار بن إسماعيل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد رجعوا إلى إسماعيل، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوم من خزاعة وقيل من الأنصار: "ارموا يا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 ليحيى بن نوفل يهجو العريان بن الهيثم قال يحيى بن نوفل: "يهجو العريان بن الهيثم بن الأسود النّخعيّ، وكان العريان تزوج زباد" من ولد هانئ بن فبيصة الشيباني، وكانت عند الوليد بن عبد الملك فطلقها، فتزوجها العريان، وكان ابن نوفل له هجّاءً، فقال: أعريان ما يدري امرؤ سيل عنكم ... أمن مذحجٍ تدعون أم من إياد! فإن قلتم من مذحج إنّ مذحجاً ... لبيض الوجوه غير جدّ جعاد وانتم صغار الهام حدلٌ كأنما ... وجوهكم مطليّةٌ بمداد فإن قلتم الحيّ اليمانون أصلنا ... وناصرنا في كل يوم جلاد فأطول بأيرٍ من معدّ ونزوةٍ ... نزت بإيادٍ خلف دار مراد لعمر بني شيبان إذ ينكحونه ... زباد لقد ما قصّروا بزياد أبعد الوليد أنكحوا عبد مذحجٍ ... كمنزيةٍ عيراً خلاف جواد وأنكحها لا في كفاء ولا غنى ... زياد أضلّ الله سعي زياد قوله: أمن مذحج تدعون أم من إياد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 فبنو مذحج بنو مالك بن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ ين يشجب بن يعرب بن قحطان. وإياد بن نزار بن معد بن عدنان، ويقال: إن النّخع وثقيفاً أخوان من إياد. فأما ثقيف فهو قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوا زان بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن النصر، فهذا قول قوم. فأما آخرون فيزعمون ان ثقيفاً من بقايا ثمود، ونسبهم غامض على شرفهم في أخلاقهم، وكثرة مناكحهم قريشاٌ. وقد قال الحجاج على المنبر: تزعمون أنّا من بقايا ثمود، والله عزّ وجل يقول: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} 1. وقال الحجاج يوماً لبي العسوس الطائي: أيّ أقدم? أنزول ثقيف الطائف أم نزول طيّىء الجبلين? فقال أبو العسوس: إن كانت ثقيف من بكر بن هوزان فنزول طيّىء الجبلين قبلها، وغن كانت ثقيف من ثمود فهي اقدم، فقال الحجاج: يا أبا العسوس، اتّقني فإني سريع الخطفة للأحمق المهتوّك2! فقال أبو العسوس3: يؤدّبني الحجاج تأديب أهله ... فلو كنت من أولاد يوسف ما عدا وإني لأخشى ضربةً ثقفيّة ... يقدّ بها ممّن عصاه المقلّدا على أنني ممّا أحاذر آمنٌ ... إذا قيل يوماً قد عتا المرء واعتدى   1 سورة النجم 43. 2 المتهوك: المتهور 3 زيادات ر: "رواية عاصم رحمه الله العسوس [بالواو المشددة] والعسوس [بسكون السين وفتح الواو] ، وفي رواية ش كما في داخل الكتاب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 المغيرة بن شعبة وهند بنت النعمان بن المنذر وقد كان المغيرة بن شعبة، وهو والي الكوفة، سار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر، وهي فيه عمياء مترهّبةٌ، فاستأذن عليها، فقيل لها: أمير هذه المدرة بالباب، فقالت: قولوا له: أمن ولد جبلة بن الأيهم أنت? قال: لا، قالت: أمن ولد المنذر بن ماء السماء?قال: لا، قالت فمن أنت? قال: المغيرة بن شعبة الثقفي، قالت: فما حاجتك? قال: جئتك خاطباً، قالت: لو كنت جئتني لجمال أو مال لأطلبتك، ولكنك أردت أتتشرّف بي في محافل العرب، فتقول: نكحت ابنة النعمان بن المنذر، وإلاّ فأيّ خير في اجتماع أعور وعمياء! فبعثت إليها: كيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 كان أمركم? فقالت: سأختصر لك الجواب. . . أمسينا مساءً، وليس في الأرض عربيّ إلا هو يرغب إلينا ويرهبنا، ثم أصبحنا وليس في الأرض عربيّ إلا ونحن نرغب إليه ونرهبه، قال: فما كان أبوك يقول في ثقيف? قالت: اختصم إليه رجلان منهم، أحدهما ينميها إلى إياد، والآخر إلى بكر بن هوزان فقضى بها للإياديّ، وقال: إنّ ثقيفاً لم تكن هوازناً ... ولتناسب عامراً ومازنا يريد عامر بن صعصعة ومازن بن منصور، فقال المغيرة: أما نحن فمن بكر بن هوزان، فليقل أبوك ما شاء! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 في رثاء الأشتر وقالت أخت الأشتر، وهو مالك بن الحارث النّخعيّ تبكّيه، وهذا الشعر رواه أبو اليقضان، وكان متعصباً: أبعد الأشتر النّخعيّ نرجو ... مكاثرةً ونقطع بطن واد! ونصب مذحجاً بإخاء صدق ... وإن ننسب فنحن ذرا إياد ثقيف عمنا وأبو أبينا ... وإخوتنا نزار أولوا السّداد قوله: "وانتم صغار الهام حدلٌ"، فلأحدل المائل العنق، يقال: قوس حدلاء إذا اعوجّت سيتها، قال الراجز: لها1 متاعٌ ولهاةٌ فارض ... حدلاء كالزقّ نحاه الماخض وأما قوله: "زباد" يا فتى، فله باب نذكره على وجهه باستقصاء بعد فراغنا من تفسير هذا الشعر. وقوله: "لقد ما قصّروا". فما زائدة، مثل قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} 2، ولو قال: لقدماً قصّروا لم يكن جيداً، ودخل الوليد في الذم.   1 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية "لها" والصواب "له" لأنه يعني الفحل من الإبل؛ لأن الشقشقة لا تكون للأنثى، قاله ش". 2 سورة نوح 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وقوله: "كمنزيةٍ عيراً خلاف جواد" يقول: بعد جواد، قال الله عز وجل: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} 1. وقوله: "لافي كفاء" يقال: هو كفؤك وكفؤك وكفيئك وكفاؤك، وإذا كان عديلك في شرف أو ما أشبه، كما قال الفرزدق: وتنكح في أكفانها الحبطات أول هذا البيت: بنو دارم أكفاؤهم آل مسمع وآل مسمع: بيت بكر بن وائل، والحبطات هم بنو الحارث بن عمرو بن تميم، وإنما قال هذا الفرزدق حين بلغة أن رجلا من الحبطات خطب امرأة من بني دارم بن مالك، فأجابه رجل من الحبطات: أما كان عبّادٌ كفيئا لدارم ... بلى ولأبياتٍ بها الحجرات عبّاد، يعني بني هاشم، وقد تقدم هذا البيت للفرزدق في مواضع، وقال الله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لأمنعنّ النساء إلا من الأكفاء، وتحدّث أصحابنا عن الأصمعي عن إسحاق بن عيسى. قال: قلت لأمير المؤمنين الرّشيد أو المهديّ: يا أمير المؤمنين، من أكفاؤنا? قال: أعداؤنا، يعني بنى أميّة، وزيادٌ الذي ذكركان أخاها". هذا التفسير ما كان من المؤنث على "فعال" مكسور الآخر. وهو على أربعة أضرب، والأصل واحد. قال أبو العباس: اعلم أنه لا يبنى شيء من هذا الباب على الكسر إلا وهو مؤنث معرفة معدولٌ عن جهته، وهو في المؤنث بمنزلة فعل، نحو عمر وقثم في المذكر، وفعل معدول في حال المعرفة عن فاعلٍ وكان فاعلٌ ينصرف، فلما عدل عنه فعل لم ينصرف، وفعال معدول عن فاعلة لا ينصرف في المعرفة فعدل إلى البناء، لأنه ليس بعد ما لا ينصرف إلا المبنيّ، وبني وبني على الكسر لأن في فاعلة   1 سورة التوبة 81. 2 سورة الإخلاص 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 علامة التأنيث، وكان أصل هذا أن يكون إذا أردت به الأمر ساكناً كالمجزوم من الفعل الذي هو في معناه، فكسرته لالتقاء الساكنين، مع ما ذكرنا من علامة التأنيث والكسر مما يؤنث به فلم يخل من العلامة، تقول للمرأة: أنت فعلت، فالكسر علامة التأنيث، وكذلك إنك ذاهبة، ضربتك يا امرأة، فمما لا يكون إلا معرفة مكسوراً ما كان اسماً للفعل نحو نزال يا فتى، ومعناه انزل وكذلك تراك زيداً أي اتركه، فهما معدو لان عن المتاركة والمنازلة، وهما مؤنثان معرفتان، يدلك على التأنيث القياس الذي ذكرنا، قال الشاعر تصديقاً لذلك: ولنعم حشو الدّرع أنت إذا ... دعيت نزال ولجّ في الذّعر فقال: دعيت لما ذكرته لك من التأنيث، وقال الآخر، وهو زيد الخيل: وقد علمت سلامة أن سيفي ... كريهٌ كلما دعيت نزال وقال الشاعر: تراكها من إبل تراكها ... أما ترى الموت لدى أوراكها أي اتركها. وقال آخر1: حذار من أرحامنا حذار وقال آخر2: نظار كي أركبه نظار فهذا باب من الأربعة. ومنها إن يكون صفة غالبة تحلّ محل الاسم، نحو قولهم للضّبع: جعار يا فتى، وللمنية حلاق يا فتى، لأنها حالقة، والدليل على التأنيث بعد ما ذكرنا قوله: لحقت حلاق بهم على أكسائهم ... ضرب الرّقاب ولا يهمّ المغنم3 وتقول في النداء يا فساق ويا خباث ويا لكاع، تريد يا فاسقة ويا خبيثة ويا لكعاء، لأنه في النداء في موضع معرفةٍ كما تقول للرجل: يا فسق ويا خبث ويا لكع4، فهذا بابٌ ثانٍ.   1 زيادات ر: "هو رؤبة". 2 زيادات ر: "هو أبو النجم". 3 الأكساء: المتأخرون. 4 زيادات ر: "حكى ابن السراج عن ابي عبيدة: فرس لكع للمذكر، ولكعة للمؤنث". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 ومن ذلك ما عدل عن المصدر نحو قوله1 يذمّ الخمر: جماد لها جماد ولا تقولي ... طوال الدهر ماذكرت حماد وقال النابغة الذبيانيّ: إنّا اقتسمنا خطّتيننا بيننا ... فحملت برّدة واحتملت فجار2 يريد: قولي لها جموداً، ولا تقولي لها حمداً، هذا المعنى، ولكنه عدل مؤنثاً. وهذا باب ثالث. والباب الرابع ان تسمى امرأةً، أو شيئاً مؤنثاً باسم تصوغه على هذا المثال، نحو رقاش وحذام وقطام وما أشبه ذلك، فهذا مؤنث معدول عن راقشة وحاذمة وفاطمة، إذا سمّيت به، وأهل الحجاز يجرونه على قياس ماذكرت، لأنه معدول في الأصل وسمّيي به، فنقل إلى مؤنث كالباب الذي كان قبله، فلم يغيروه، فعلى ذلك قالوا: اسق رقاش إنها سقّايه وقال آخر: إذا قالت حذام فصدّقوها ... فإنّ القول ما قالت حذام وينشدون: وأقفر من سلمى شراء فيذبل كذا وقع، والصحيح "فقد أقفرت سلمى شراء"، لأن قبله: تأبّد من أطلال جمرة مأسل والشعر للنّمر بن تولبٍ. وأما بنو تميم فإذا أزالوه عن النعت فسمّوا به صرفوه في النكرة، ولم يصرفوه في المعرفة، وسيبويه يختار هذا القول، ولا يرادّ القول الاخر، فيقول: هذه رقاش قد جاءت، وهذه غلاب قد جاءت، وهذه غلاب أخرى، ولا اختلاف ببين العرب في صرفه إذا كان نكرة، وفي إعرابه في المعرفة، وصرفه في النكرة إذا كان اسماً لمذكر، نحو رجل تسميه نزال أو رقاش أو حلاق، فهو في النكرة إذا كان اسماً لمذكر، نحو رجل تسميه نزال أو رقاش أو حلاق، فهو بمنزلة رجل سميته بعناق أو أتانٍ، لن التأنيث قد ذهب عنه، فاحتج سيبويه في تصحيح هذا القول بأنك لو سمّيت شيئاً بالفعل الذي هو مأخوذ منه لعربنه، نحو أنزل وأضرب، لو سميت بهما رجلاً لجرى مجرى إصبع وأحمد إثمدٍ، ونحو ذلك فهذا يحيط بجميع هذا الباب.   1 زيادات ر: "هو المتلمس بذم الخمر". 2 زيادات ر: "برة: اسم علم لجميع البر، وفجار لجميع الفجور، لابن جنى، تخصيصة برة بفعلت، وفجار بافتعلت، مثل قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فكسب للخير واكتسب للشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 لامرأة من بني عامر بن صعصعة زوجت في طيىء قال أبو العباس، وقالت امرأة أحسبها من بني عامر بن صعصعة زوجت في طيىء. لا تحمدنّ الدّهر أخت أخالها لها ... ولا ترثينّ الدّهر بنتٌ لوالد هم جعلوها حيث ليست بحرّةٍ ... وهم طرحوها في الأقاصي الأباعد ويروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنما النكاح رقٌّ لينظر امرؤٌ من يرقٌّ كريمته. وعلى هذا جاءت اللغة، فقالوا كنا في إملاك1 فلانٍ، وفي ملك فلان، وفي ملك فلان، وفي ملكة فلان. وفي ملكان فلان، ويقول الرجل: ملكت المرأة وأملكنيها وليّها، ومن ذلك أنّ يمين الطلاق إذا وقع فيها حنثٌ غنما يكون محلّها محلّ الإقرار بترك ما كان يملكه كالعتاق. وقال رسول الله: "أوصيكم بالنساء فإنهنّ عندكم عوانٍ" أي أسيراتٌ، ويقال، عني فلانٌ في بني فلان إذا أقام فيهم اسيراً، ويقال: فلان يفكّ العناة، وأصل التغنية التذ ليل، وأصل الإسار الوثاق، ويقال للقتب مأسور إذا شدّ بالقدّ، هذا أصل هذا، فأما المثل في قولهم: إنما فلان غلٌّ قملٌ، فإنهم كانوا يتخذون الغلال من القدّ، فكانت تقمل.   1 الإملاك: مصدر أملك، وهو النرويج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 لرجل يذكر امرأة زوجت من غير كفء وقال رجل يذكر امرأةً زوّجت من غير كفء: لقد فرح الواشون أن نال ثعلبٌ ... شبيهة ظبيٍ مقلتاها وجيدها أضرّ بها فقد الوليّ فأصبحت ... بكف لئيم الوالدين يقودها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 الرجل يعير إبراهيم بن النعمان بن بشير ورد إبراهيم عليه ولما زوّج إبراهيم بن النعمان بن بشيرٍ الأنصاريّ يحيى بن أبي حفصة مولى عثمان بن عفّان ابنته على عشرين ألف درهم قال قائل يعيّره: لعمري لقد جلّلت نفسك خزيةً ... وخالفت فعل الأكثر ين الأكارم ولو كان جدّاك الّلذان تتابعا ... ببدرٍ لما راما ضيع الألائم فقال إبراهيم بن النعمان يردّ عليه: ما تركت عشرون ألفاً لقائل ... مقالاً فلا تحفل ملامة لائم وإن أك قد زوّجت مولى فقد مضت ... به سنّةٌ قبلي وحبّ الدّراهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 للقلاخ بن حزن يخاطب يحيى بن أبي حفصة ورد يحيي عليه وتزوّج يحيى بن أبي حفصة وهو مروان الشاعر، ويزعم النسّابون أن أباه كان يهودياً أسلم على يدي عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان يحيى من أجود الناس، وكان ذا يسار، فتزوج خولة بنت مقاتل بن طلبة1 بن قيس بن عاصم سيد الوبر بن سنان بن خالد بن منقر، ومهرها خرقاً، ففي ذلك يقول القلاخ بن حزنٍ: لم أر أثواباً أجرّ لخزيةٍ ... وألأم مكسواً وألأم كاسيا من الخرق الّلاتي صببن عليكم ... بحجرٍ فكنّ المبقيات البواليا فقال يحيى بن أبي حفصة يجيبه: تجاوزت حزناً رغبةً عن بناته ... وأدركت قيساً ثانياً من عنانيا يقال ذلك للسّابق إذا تقدّم تقدّماً بيّناً فبلغ الغاية، فمن شأنه أن يثني عنانه فينظر إلى الخيل، وقال الشاعر: فمن يفخر بمثل أبي وجدّي ... يجيء قبل السّوابق وهو ثاني يريد ثاني عنانه، وقال القلاح في هذه القصة: نبّئت خولة قالت حين أنكحها ... لطالما كنت منك العار أنتظر أنكحت عبدين ترجو فضل مالهما ... في فيك ممّا رجوت الترب والحجر   1 زيادات ر: "الرواية المشهورة بإسكان اللام، وتسامح ابن سراج في فتح اللام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 لله درّ جيادٍ أنت سائسها ... برذنتها وبها التحجيل والغرر1 وقال جرير يعيّرهم: رأيت مقاتل الطلبات حلّى ... فروج بناته كمر الموالي لقد أنكحتم عبداً لعبدٍ2 ... من الصّهب المشوّهة السبال فلا تفخر بقيسٍ إنّ قيساً ... خرئتم فوق أعظميه البوالي وقال آخر في مثل هذه القصة: ألا يا عباد الله قلبي متيّمٌ ... بأحسن من صلّى وأقبحهم بعلا يدبّ على أحشائها كلّ ليلةٍ ... دبيب القرنبى بات يقرو3 نقاً سهلا القرنبى: دويبةٌ على هيئة الخنفس متقّطعة الظّهر، وربما كان في ظهر نقطة حمراء، وفي قوائمها طول الخنفس، وهي ضعيفة المشي.   1 برذنتها: جملتها من البراذين. 2 يريد أنه عريق في العبودية. 3 يقرو: يتبع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 للفرزدق في عطية أبي جرير قال الفرزدق يعني عطيّة أبا جرير: قرنبى يحكّ قفا مقرفٍ ... لئيمٍ مآثره فعدد1 وفي هذا الشعر يقول: ألم تر أنّا بني دارم ... زرارة منّا أبو معبد ومنّا الّذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم توأد ألسنا بأصحاب يوم النّسار2 ... وأصحاب ألوية المربد   1 زيادات ر: "ألف قرنبى ألف إلحاق وليست للتأنيث. والقعدد: اللئيم، وجمعه قعادد". 2 زيادات ر: "النسار: جعل تألفة النسور كثيرا فلذلك سمى بهذا الاسم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 السنا الّذين تميمٌ بهم ... تسامي وتفخر في المشهد1 وناجية الخير والأقرعان ... وقبرٌ بكاظمة المورد2 إذا ما أتى قبره عائدٌ ... أناخ على القبر بالأسعد3 أيطلب مجد بني دارم ... عطيّة كالجعل الأسود4 ومجد بني دارمٍ دونه ... مكان السّماكين والفرقد5 قوله: ألم تر أنّا بني دارم منصوب على الاختصاص، وقد مضى تفسيره. وزرارة الذي ذكر، هو زرارة بن عدس بن زيد بت عبد الله بن دارم، وكان زرارة يكنى أبا معبدٍ، وكان له بنون: معبدٌ، ولقيطٌ، وحاجبٌ وعلقمة، والمأموم. ويزعم قوم أن المأمون هو علقمة، ومنهم شيبان بن زرارة وابنه يزيد بن شيبان النسّابة، وكان حاجبٌ أذكر القوم6. ورووا أن عبد الملك ذكر يوماً يني دارم فقال أحد جلسائه: يا أمير المؤمنين! هؤلاء قوم محظوظون! فقال عبد الملك: أتقولون ذلك وقد مضى منهم لقيط بن زرارة ولم يخلّف عقباً، ومضى القعقاع بن معبد بن زرارة ولم يخلّف عقباً، ومضى محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة ولم يخلّف عقباً! والله لا تنسى العرب هؤلاء الثلاثة أبداً.   1 رغبة الآمل: بعده وقد مد حولى من المالكين ... أواذى ذو حدب مزبد إلى هادرات صعاب الرءوس ... قساور للقسور الأصيد 2 كاظمة: موضع على سيف البحرين. 3 الأسعد: جمع سعد، وبعده: فذاك أبى وأبواه الذي ... لمقعده حرم المسجد 4 الجعل: دويبة سوداء تكون على المواضع الندية. 5 زيادات ر: "الرفع في مكان أقوى، وهو الوجه الجيد في العربية". 6 أذكر القوم: أشهرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وكان لقيط بن زرارة قتل يوم جبلة، وأسر حاجب فنودي، فزعم أبو عبيدة أنه لم يكن عكاظيٌّ أغلى فداء من حاجب، وكان أسره زهدمٌ1 العبسيّ، فلحقه ذو الرقيبة القشريّ، وبنو عبس يومئذ نازلةٌ في بني عامر بن صعصعة، فأخذه ذو الرقيبة بعزّة، وأنه في محل قومه فقال حاجب: لمّا تنازعني الرجلان خفت أن أقتل بينهما، فقلت: حكماني في نفسي، ففعلا فحكمت بسلاحي وركابي لزهدم، وبنفسي لذي الرقيبة، وكان حاجب يكنى أبا عكرشة، وكان أحلم قومه، وفي ذي الرقيبة يقول الشاعر2: ولقد رأيت القائلين وفعلهم ... فلدي الرقيبة مالكٍ فضل كفّاه متلفةٌ ومخلفةٌ ... وعطاؤه متدفّقٌ جزل ففدي حاجبٌ، وقتل في ذلك اليوم لقيطٌ، واسر عمرو بن عمرو بن عدس فلذلك يقول جرير يعير الفرزدق، لن الفرزدق من بني مجاشع بن دارم، وقد مضى ذكر هذا في الكتاب، ولجرير في قيسٍ خؤولة.   1 زيادات ر: "أخو كردم". 2 زيادات ر: "هو المسيب بن علس"، واسمه "زهير، ويكنى أبا الفضة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 للفرزدق يهجو جريراً وجواب جرير عليه فلما هجا الفرزدق قيساً في أمر قتيبة بن مسلم الباهلي، قال: أتاني وأهلي بالمدينة وقعةٌ ... لآل تميم أقعدت كلّ قائم كأن رؤوس النّاس إذا سمعوا بها ... مشدّخةٌ هاماتها بالأمائم1 وما بين من لم يعط سمعاً وطاعةً ... وبين تميم غير حرّ الحلاقم أتغضب عن أذنا قتيبة حزّنا ... جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم وما منهما غلا نقلنا دماغه ... إلى الشّام فوق الشّاحجات الرّواسم تذبذب في المخلاة تحت بطونها ... محذّفة الأذناب جلح المقادم2 وما أنت من قيس فتنبح دونها ... ولا من تميم في الرؤوس الأعاظم تخوّفنا أيام قيسٍ ولم تدع ... لعيلان أنفا مستقيم الخياشم لقد شهدت قيسٌ فما كان نصرها ... قتيبة إلاّ عضّها بالأباهم3   1 الأمائم كما في زيادات ر: "حجارة تشدخ بها الرءوس، الواحدة أميمة". 2 المخلاة في الأصل: ما يوضع فيها الخلى، وهو الحشيش الرطب، أراد بهن الخرج. 3 الأباهم: جمع الإبهام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وقال جرير يجيبه: أباهل ما أحببت قتل ابن مسلم ... ولا أن تروعوا قومكم بالمظالم ثم قال يخوّف الفرزدق: تحضّض يا ابن القين قيسا ليجعلوا ... لقومك يوماُ مثل يوم الأراقم1 كأنك لم تشهد لقيطاً وحاجباً ... وعمرو بن عمروٍ إذ دعوا يا ل دارم ولم تشهد الجونين والشّعث ذا الصّفا ... وشدات قيس يوم دير الجماجم فيوم الصّفا كنتم عبيداً لعامر ... وبالحنو أصبحتم عبيد اللهازم إذا عدّت الأيام أخزين دراماً ... وتخزيك يا أبن القين أيام دارم أما قول الفرزدق: كأن رءوس النّاس إذ سمعوا بها ... مشدّخةٌ هاماتها بالأمائم فإن الشّجاع مختلفة الحكام، فإذا كانت الشّجّة شقيقا يدمى فهي الدامية، وإذا أخذت من اللحم شيئاً فهي الباضعة، وإذا أمضت في اللحم فهي المتلاحمة، فإذا هشمت العظم فهي الهاشمة، وإذا كان بينها وبين العظم جليدةٌ رقيقة فهي السمحاق، من أجل تلك الجليدة يقال ما على ترب الشاة من الشّحم إلا سماحيق، أي طرائق، فإذا خرجت منها عظام صغار فهي المنقّلة وإنذما أخذ ذلك من النّقل وهي الحجارة الصغار فإذا أوضحت عن العظم فهي الموضحة، فإذا خرقت العظم وبلغت أمّ الدّماغ وهي جليدةٌ قد ألبست الدماغ فهي الآمّة، وبعض العرب يسميها أمّ المأمومة، واشتقاق ذلك إفضاؤها إلى أم الدماغ ولا غاية بعدها، قال الشاعر: يحج مأمومة في قعرها لجفٌ ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد2 وقال ابن غلفاء الهجيميّ يردّ بن عمرو بن الصعق في هجائه بني تميم: فإنك من هجاء بني تميم ... كمزداد الغرام إلى الغرام   1 الأراقم: يريد يوماً كان لقيس على تغلب ابنة وائل، والأراقم هم بطون تغلب. 2 مأمومة: مشجوجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 هم تركوك أسلح من حبارى1 ... رأت صقراً وأشرد من نعام وهم ضربوك امّ الرّأس حتى ... بدت أمّ الشّئون من العظام2 إذا يأسونها جشأت إليهم3 ... شرنبثة القوائم أم هام4 وابن خازم هو عبد الله بن خازم السّلميّ، وهو أحد غربان العرب في الإسلام، وكان من أشجع الناس، وقلته بنو تميم بخرسان، وكان الذي ولي قتله منهم وكيع بن الدّورقيّة القريعيّ. وقوله: فوق الشاحجات، يعني البغال. والرّسيم: ضرب من السير، وإنما عنى ههنا بغال البريد، لقوله: محذّفة الأذناب جلح المقادم كما قال امرؤ القيس: على كل مقصوص الذّنابى معاودٍ ... بريد السّرى باللّيل من خيل بربرا5 وكانت برد ملوك العرب في الجاهلية الخيل. أما قول جرير: "الجونين"، فقد مضى ذكرهما، ويوم "دير الجماجم"، يريد الحجّاج في وقعته بدير الجماجم بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكنديّ، وقوله: وبالحنو أصبحتم عبيد اللهازم فاللهازم بنو قيس بن ثغلبة، وبنو ذهل بن ثعلبة، وبنو تيم اللآت بن ثعلبة، وبنو عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وبنو مازن بن صعب بن علي، ثم تلهزمت حنيفة لجيم فصارت معهم، وأما علقمة بن زرارة فإنه قتله بنو ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فقتل به حاجب أخوه أشيم بن شراحيل القيسيّ، فقال ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فقتل به حاجبٌ أخوه أشيم بن شراحيل القيسيّ، فقال حاجبٌ في ذلك: فإن تقتلوا منا كريما فإنّنا ... أبأنا به مأوى الصّعاليك أشيما قتلنا به خير الضبيعات كلها ... ضبيعة قيس لا ضبيعة أضجما   1 الحبارى: اسم طائر. 2 أم الشئون: يريد بها الرأس. 3 جشأت: نهضت. 4 زيادات ر: "يريد غليظ القوائم". 5 الذنابى: الذنب،:وبربر: قبيلة وكان من علامة خيلها حذف أذنابها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وكان يقال لأشيم: مأوى الصعاليك، وضبيعة أضجم الذي ذكر هو ضبيعة ابن ربيعة بن نزار رهط المتلمّس. هذا لقبهم. وأما معبد بن زرارة فإن قيساً أسرته يوم رحرحان، فساروا به إلى الحجاز فأتى لقيطٌ في بعض الأشهر الحرم ليفديه، فطلبوا منه ألف بعير فقال لقيط: إنّ أبانا أمرنا ألا نزيد على المائتين، فتطمع فينا ذؤبان العرب، فقال معبد: يا أخي، افدني بمالي فإني ميتٌ. فأبى لقيطٌ، وأبى معبد أن يأكل أو يشرب، فكانوا يشحون فاه، ويصبّون فيه الطعام والشراب لئلا يهلك فيذهب فداؤه، فلم يزل كذلك حتى مات، فقال جرير يعيّر الفرزدق وقومه بذلك: تركتم بوادي رحرحان نساءكم ... ويم الصّفا لاقيتم الشعب أوعرا سمعتم بني مجدٍ دعوا يا ل عامر ... فكنتم نعاماً عند ذاك منقّرا وأسلمت القلحاء في الغل معبداً ... ولاقى لقيط حتفه فتقطّرا قوله: سمعتم بني مجدٍ دعوا يا ل عامرٍ يعني مجد بنت النضر بن كنانة ولدت ربيعة بن عامر بن صعصعة، وولده بنو كلاب وبنو كعب بن عامر بن ربيعة. والقلحاء لقب، والقلح ان تركب الأسنان صفرةٌ تضرب إلى السواد، ويقال لها الحبرة لشدة تأثيرها، أنشدني المازني: لست بسعديّ على فيه حبرةٌ ... ولست بعبدي حقيبته التّمر وزعم أبو الحسن الأخفش1، أن العرب تقول في هذا المعنى: "في أسنانه حبرة"، وليس ذلك بمعروف، ولم يأت اسم على "فعل" إلا إبل وإطل.2   1 زيادات ر: "سعيد بن مسعدة". 2 زيادات ر: "وامرأة بلز، أى ضخمة، قاله ابن قتيبة، أما إبل فكما ذكر، وأما "إطل" فليس كما ذكر، وإطل [بالكسر] أصله إطل [بالسكون] ، ثم حركت الطاء اتباعاً لحركة لهمزة، كما قالوا في الجلد [بالسكون] : الجلد [بالكسر] ، قال سيبويه: ليس في الأسماء والصفات فعل [بالكسر] إلا إبل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وقوله: ولاقى لقيط حتفه فتقطّرا يقال: قطّره لجنبيه وقتّره، لغتان، لأن التاء من مخرج الطاء، فإن رمى به على قفاه قيل: سلقه وسلقاه وبطحه لوجهه. فإن رمى به على رأسه قيل نكته. رجع التفسير إلى شعر الفرزدق الأول: أما قوله: ومنا الذي منع الوائدات فإنه يعني جدّه صعصعة بن ناجية بن عقالٍ، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات، ولم يكن هذا في جميعها إنما كان في تميم بن مرّة ثم استفاض في جيرانهم، فهذا قول واحد. وقال قوم آخرون: بل كان في تيم وقيس وأسدٍ وهذيل وبكر بن وائل، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف". وقال بعض الرواة: "اشدد وطدتك"، والمعنى قريب يرجع إلى الثّقل، فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم، فكانوا يسمونه العلهز، ولهذا أبان الله عز وجل تحريم الدم، ودلّ على ما من أجله قتلوا البنات فقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} 1، وقال: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} 2، فهذا خبيرٌ بيّن ان ذلك للحاجة، وقد روى بعضهم أنهم غنما فعلوا ذلك أنفةً.   1 سورة الإسراء 31. 2 سورة الممتحنة12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 إغارة النعمان بن المنذر على تميم وذكر أبو عبيده بن المثنّى إن تميماً منعت النعمان الإتاوة، وهي الديان، فوجه إليهم أخاه الريّان بن المنذر، وكانت للنعمان خمس كتائب، إحداها الوضائع وهم قوم من الفرس كان كسرى يضعهم عنده عدّة ومدداً، فيقيمون سنة عند الملك من ملوك لخم، فإذا كان في رأس الحول ردّهم إلى أهليهم وبعث بمثلهم، وكتيبة يقال لها الشّبهاء وهي بيت الملك، وكانوا بيض الوجوه، يسمّون الأشاهب. وكتيبة ثالثة يقال لها الصنائع وهم صنائع الملك أكثرهم من بكر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وائل. وكتيبة رابعةٌ يقال لها الرهائن وهم قوم كان يأخذهم من كل قبيلة فيكونون رهناً عنده ثم يوضع مكانهم مثلهم. والخامسة دوسر وهي كتيبة ثقيلة تجمع فرساناً وشجعاناً من كل قبيلة، فأعزاهم أخاه1، وجلّ من معه بكربن وائل، فاستاق النّعم وسبى الذّراريّ، وفي ذلك يقول أبو المشمرج اليشكريّ: لمّا رأوا راية النعمان مقبلةً ... قالوا ألا ليت أدنى دارنا عدن يا ليت أمّ تميم لم تكن عرفت ... مرّا وكانت كمن أودى به الزمن إن تقتلونا فأعيارٌ مجدّعةٌ ... أو تنعموا فقديماً منكم المنن2 منهم زهير وعتّابٌ ومحتضرٌ ... ابنا لقيط وأودى في الوغى قطن يقول النعمان في جواب هذا: لله بكرٌ غداة الرّوع لو بهم ... أرمى ذرا حضنٍ زالت بهم حضن3 إذ لا أرى أحداً في النّاس أشبههم ... إلاّ فوارس خامت عنهم اليمن4 وهذا خبر طويل، فوفدت إليه بنو تميم فلما رآها أحب البقيا، فقال: ما كان ضرّ تميماً لو تغمّدها ... من فضلنا ما عليه قيس عيلان فأناب القوم وسألوه النساء، فقال النعمان: كل امرأة اختارت أباها ردّت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه. فكلّهن اختارت أباها، إلا ابنة لقيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج، فنذر قيس ألاّ تولد له ابنةٌ إلا قتلها. فهذا شيء يعتلّ به من وأد، ويقول: فعلناه أنفةً، وقد أكذب ذلك بما أنزل الله تعالى في القرآن. وقال ابن عباس رحمه الله في تأويل هذه الآية: وكانوا لا يورثون، ولا يتخذون إلا من طاعن بالرّمح ومنع الحريم يريد الذّكران.   1 أى أعطاهم إياه يغزو بهم. 2 أعيار: جمع عير، وهو الحمار. ومجدعة: مقطعة الأذان. 3 حضن: جبل في أعالى نجد. 4 خامت: جبنت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وفود صعصعة بن ناجية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروت الرواة: إن صعصة بن ناجية لما أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 يا رسول الله، إني كنت أعمل عملاً في الجاهلية أفينفعني ذلك اليوم? قال: "وما عملك?" قال: أضللت ناقتين عشرا وين، فركبت جملاً، ومضيت في بغائهما1. فرفع لي بيتٌ حريدٌ، فإذا شيخ جالس بفناء الدار، فسألته عن الناقتين، فقال: ما نارهما? قلت: ميسم بني دارم، فقال: هما عندي وقد أحيا الله بهما قوماً من أهلك، من مضر. فجلست معه ليخرجا إليّ، فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت، فقال لها: ما وضعت? فإن كان سقباً2 شاركنا في أموالنا وإن كانت حائلاً وأدناها. فقالت العجوز: وضعت أنثى! فقلت أتبيعها? قال: وهل تبيع العرب أولادها?، قلت، إنما اشتري منك حياتها، ولا أشتري رقّها، قال: فبكم? قلت: احتكم، قال: بالناقتين والحمل، قال: قلت: ذاك لك، على أن يبلّغني الجمل وإيّاها. قال: ففعل، فآمنت بك يا رسول الله، وقد صارت لي سنّةٌ في العرب، على أن أشتري كل موءودة فقد أنقذها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا ينفعك ذلك، لأنك لم تبتغ به وجه الله وإن تعمل في إسلامك عملاً صالحاً ثبت عليه". وكان ابن عباس يقرا: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 3. وقال أهل المعرفة في قول الله عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} إنما تسأل تبكيتاً لمن فعل ذلك بها، كما قال الله تعالى: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4. وقوله: "وئدت"، إنما هو أثقلت بالتراب، يقال للرجل: اتّئد أي تثبّت. وتثقّل، كما يقال: توفّر، قال قصيرٌ صاحب جذيمة5: ما للجمال مشيهاً وئيداً ... أجندلآً يحملن أم حديدا أم صرفاناً بارداً شديداَ6   1 البغاء: الطلب. 2 السقب: الذكر من ولد الناقة. 3 سورة التكوير8،9. 4 سورة المائدة 116. 5 زيادات ر: "هذا وهم من أبي العباس، وإنما هو للزباء". 6 الصرفان: ضرب من التمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وقوله: "أضللت ناقتين عشرا وين"، أضللت، ضلّتا مني، وتحقيقه: صادفتهما ضالتين، كما قال1: أو وجد شيخ أضلّ ناقته ... حين تولىّ الحجيج فاندفعوا والعشراء: الناقة التي قد اأتى عليها منذ حملت عشرة أشهر، وإنما حمل الناقة سنةٌ. وقوله: "ما نارهما"? يريد ما وسمهما? كما قال: قد سقيت آبالهم بالنّار ... والنّار قد تشفي من الأوار أي عرف وسمهم فلم يمنعوا الماء. وقوله: "فإذا بيت حريد" يقول: متنحّ عن الناس، وهذا من قولهم: انحرد الجمل، إذا تنحى من الإناث فلم يبرك معها، ويقال في غير هذا الموضع: حرد حردة، أي قصده، قال الراجز: قد جاء سيلٌ جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلّة وقالوا في قوله عزّ وجل: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} 2، أي: على قصدٍ كما ذكرنا. وقالوا: هو أيضاً "على منع"، من قولهم: حاردت الناقة إذا منعت لبنها، وحاردت السّنة إذا منعت مطرها، والبعير الحرد: هو الذي يضرب بيده، وأصله الامتناع من المشي. وأما قوله: .............................. ... وقبرٌ بكاظمة المورد إذا ما أتى قبره خائفٌ ... أناخ على القبر بالأسعد فإنه يعني قبر أبيه غالب بن صعصعة بن ناجية، وكان الفرزدق يجير من استجار بقبر أبيه، وكان أبوه جواداً شريفاً. ودخل الفرزدق البصرة في إمرة زياد، فباع إبلاً كثيرة وجعل يصرّ أثمانها، فقال له رجل: إنك لتصرّ أثمانها، ولو كان   1 زيادات ر: "لرجل من قضاعة، يقال له مالك بن عمرو، وقبله: لا وجد ثكلى كما وجدت ولا ... وجد عجول أضلها ربع 2 سورة القلم 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 غالب بن صعصعة ما صرّها. ففتح الفرزدق تلك الصّرر ونثر المال. وبلغ الخبر زياداً فطلبه، فهرب الفرزدق، وله في هربه حديث طويل، واستجارته بسعيد بن العاص بالمدينة، نذكره بعد هذا إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 جماعة استجاروا بقبر غالب فممّن استجار بقبر غالب فأجاره الفرزدق امرأة من بني جعفر بن كلاب، خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر بن كلاب أن يسمّيها ويسبّها، فعاذت بقبر أبيه، فلم يذكر لها اسماً ولا نسباً، ولكن قال في كلمته التي يهجو فيها بني جعفر بن كلاب: عجوزٌ تصلي الخمس عاذت بغالب ... فلا والّدي عاذت به لا أضيرها ومن ذلك أن الحجاج لما ولّى تميم بن زيد القينيّ السّند، دخل البصرة فجعل يخرج من أهلها من شاء، فجاءت عجوز إلى الفرزدق فقالت: إني استجرت بقبر أبيك، واتت منه بحصياتٍ، فقال لها: وما شأنك! فقالت: إن تميم ابن زيد خرج بابن لي معه ولا قرّة لعيني ولا كاسب لي غيره، فقال لها: وما أسم ابنك? فقالت: خنيسٌ، فكتب إلى تميم بن زيد مع بعض من شخص: تميم بن زيد لا تكوننّ حاجتي ... بظهر فلا يعيا عليّ جوابها وهب لي خنيساًواحتسب فيه منّه ... لعترة أم ما يسوغ شرابها أتتني فعاذت يا تميم بغالب ... وبالحفرة السّافي عليها ترابها وقد علم الأقوام انّك ماجدٌ ... وليثٌ إذا ما الحرب شبّ شهابها فلما ورد الكتاب على تميم، تشكّك في الاسم فقال: أحبيش? أم خنيسٌ? ثم قال: انظروا من له مثل هذا الاسم في عسكرنا? فأصيب ستة ما بين حبيش وخنيس فوجّه بهم إليه. ونهم مكاتب لبنى منقر، ظلع بمكاتبته1، فأتى قبر غالب فاستجار به، وأخذ منه حصيات فشدّهنّ في عمامته، ثم أتى الفرزدق فاخبره، وقال: إني قد قلت شعراً، فقال: هاته، فقال:   1 أى ضعف عن حمل ما كوتب به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 بقبر ابن ليلى غالب عذت بعدما ... خشيت الرّدى أو ان اردّ على قسر بقبر امرئ تقري1 المئين عظامه ... ولم يك غلاّ غالباً ميّتٌ يقري فقال لي استقدم أمامك إنما ... فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر فقال له الفرزدق: ما اسمك? قال: لهذم، قال: يالهذم، حكمك مسمّطاً، قال: ناقة كوماء سوداء الحدقة، قال: يا جارية، اطرحي إلينا حبلاً، ثم قال: يا لهذام اخرج بنا إلى المريد، فألقه في عنق ما شئت. فتخير العبد على عينه، ثم رمى الحبل في عنق ناقةٍ وجاء صاحبها، فقال له الفرزدق: اغد عليّ في ثمنها، فجعل لهذا يقودها والفرزدق يسوقها حتى إذا نفذ بها من بيوت إلى الصحراء، صاح به الفرزدق: يا لهذام، قبح الله أخسرنا! [قوله: "تقري المئين عظامه"، يريد أنهم كانوا ينحرون الإبل عند قبور عظامهم، فيطعمون الناس في الحياة وبعد الممات، وهذا معروف في أشعارهم] . وقوله: ولم يك إلا غالباً ميتٌ يقري فإنه نصب غالباً لأنه استثناء مقدم، وإنما انتصب الاستثناء المقدم لما أذكره لك، إن حق الاستثناء إذا كان الفعل مشغولاً به أن يكون جارياً عليه، لا يكون فيه إلا هذا، تقول: ما جاءني إلا عبد الله، وما مررت إلا بعبد الله. فإن كان الفعل مشغولاً بغيره فكان موجباُ، لم يكن في المستثنى إلا النصب، نحو جاءني إخوتك غلا زيداً، كما قال تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} 2، ونصب هذا على معنى الفعل، وإلا دليلٌ على ذلك. فإذا قلت: جاءني القوم، لم يؤمن أن يقع عند السامع أن زيداً أحدهم، فإذا قال: إلا زيداً، فالمعنى لا أعني فيهم زيداً، وأو أستثني ممن ذكرت زيداً. ولسيبويه فيه تمثيل، والذي ذكرت أبين منه، وهو مترجم عما قال، غير مناقض له. وإن كان الأول منفياً جاز البدل والنصب، والبدل أحسن، لأن الفعل الظاهر أولى بأن يعمل من المختزل الموجود بدليل، وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ، وما مررت   1 من القرى بالكسر: وهو إكرام الضيف. 2 سورة البقرة 249. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 بأحدٍ إلا زيدٍ، والفصل بين المنفي والموجب، أن المبدل من الشيء يفرّغ له الفعل، فأنت في المنفي إذا قلت: ما جاءني إلا زيدٌ، لأنه بدل من أحد، والموجب لا يكون فيه البدل، لأنك إذا قلت: جاءني إخوتك إلا زيداً، لم يجز حذف الأول، لا نقول: جاءني إلا زيد، وإن شئت إن تقول في النفي: ما جاءني أحد إلا زيد جاز، ونصبه بالاستثناء الذي شرحت لك في الواجب. والقراءة الجيدة {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} 1، وقد قرئ {إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} ، على ما شرحت لك في الواجب، والقراءة الأولى. فإذا قدّمت المستثنى بطل البدل، لأنه ليس قبله شيء يبدل منه، فلم يكن فيه إلا وجه الاستثناء، فتقول: ما جاءني إلا أباك أحدٌ، وما مررت إلا أباك بأحدٍ. وكذلك تنشد هذه الأشعار، قال كعب بن مالك الأنصاري لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الناس ألبٌ علينا فيك ليس لنا ... إلا السّيوف وأطراف القنا وزر 2 وقال الكميت بن زيد: فمالي إلا آل أحمد شيعةٌ ... ومالي إلا مشعب الحق مشعب لا يكون إلا هذا، وليونس قول مرغوب عنه، فلذلك لم نذكره. وقوله: "فقال لي استقدم أمامك"، مخبرٌ عن الميّت بالقول، فإن العرب وأهل الحكمة من العجم تجعل كلّ دليل قولاً، فمن ذلك قول زهير: أمن أم أوفى دمنةٌ لم تكلّم وإنما كلامها عنده ان تبين بما يرى من الآثار فيها، من قدم أهلها وحدثان عهدهم. ويروى عن بعض الحكماء أنه قال: هلاّ وقفت على المعاهد والجنان، فقلت: أيها الجنان، من شقّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك? فإنها إن لم تجبك حوراً3 أجابتك اعتباراً!   1 سورة النساء 66. 2 ألب: متجمعون، وزر: ملجأ. 3 الحوار: الجواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وأهل النظر يقولون في قول الله عز وجل: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1، لم يكن كلامٌ، إنما فعل عزّ وجل ما أراد فوجد، قال الراجز: قد خنق الحوض وقال قطني ... سلا رويداً قد ملأت بطني ولم يكن كلامٌ، إنما وجد ذلك فيه. وكذلك قوله: فقال لي استقدم أمامك إنما ... فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر أي: قد جرّب مثل هذا منك في المستجير بقبره.   1 سورة فصلت 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 لهو النعمان بن المنذر وحدثني العباس بن الفرج الرّياشيّ في إسنادٍ قد ذهب عني أكثره، قال: نزل النعمان بن المنذر ومعه عدّي بن زيد في ظلّ شجرةٍ مونقةٍ، ليلهو النّعمان هناك، فقال له عدّي بن زيد: أيها الملك، أبيت اللّعن! أتدري ما تقول هذه الشجرة? قال: وما الذي تقول? قال: تقول2: [من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موفٍ على قرن زوال وصرف الدهر لا يبقى لها ... ولما تأتي به صم الجبال] ربّ ركبٍ قد أناخوا حولنا ... يمزجون الخمر بالماء الزّلال [والأباريق عليها فدمٌ3 ... وجياد الخيل تردي في الجلال عمروا الدهر بعيشٍ حسنٍ ... قطعوا دهرهم غير عجال] ثم أضحوا عصف الدّهر بهم ... وكذاك الدّهر حالاً بعد حال قال: فتنغّص النعمان. وهذا في الأمثال كثيرٌ، وفي الأشعار السائرة. وأما قوله "حكمك مسمّطاً" فإعرابه أنه أراد: لك حكمك مسمّطاً، واستعمل هذا فكثر، حتى حذف استخفافاً، لعلم السامع بما يريد القاتل، كقولك: "الهلال والله"، أي: هذا الهلال، وأغنى عن قوله: "هذا"، القصد والإشارة. وكان يقال لرؤبة: كيف أصبحت؟ فيقول: خير عافاك الله. فلم يضمر حرف الحفض، ولكنه حذف لكثرة الاستعمال. والمسمّط: المرسل غير المردود4. والكوماء: العظيمة السّنام.   1 سورة فصلت 11. 2 كل ما كان بين المربعين من زيادات ر. 3 الفدم: جمع فدام، وهو ما يوضع على فم الإبريق لتصفيته عند الشرب. 4 المردود: النافذ حكمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 باب أبو رافع مولى الرسول عليه السلام قال أبو العباس: قال الليثيّ1: اعتق سعيد بن العاصي أبا رافع إلا سهماً واحداً فيه، من أسهم لم يسمّ عددها لنا، فاشترى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك السهم فاعتقه. وكان لأبي رافع بنون أشراف، منهم عبيد الله بن رافع، وحديثه أثبت الحديث عليّ بن أبي طالب، وكان كالكاتب له، وكان عبيد الله بن أبي رافع شريفاً، وكان عبيد الله ينسب إلى ولاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما ولي عمرو بن سعيد الأشدق المدينة لم يعمل شيئاً قبل إرساله إلى عبيد الله بن أبي رافع، فقال له: مولى من أنت? فقال: مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأبرزه فضربه مائة سوطٍ، ثم قال له: مولى من أنت? فقال: مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضربه مائة أخرى. فلما رأى عبد الله غير راجع، وأن عمراً قد ألحّ عليه في ضربه، قام إلى عمروٍ فقال له: اذكر الملح، فأمسك عنه. والملح ههنا اللّبن، يريد الرّضاع، كما قال أبو الطّمحان القينيّ: وإنّي لأرجو ملحها في بطونكم ... وما بسطت من جلد أشعث أغبرا 2 [كذا وقعت الرواية، والصواب "أغبر" لأن قبله: ولو علمت صرف البيوع لسرّها ... بمكّة أن تبتاع حمضاً بإذخر3 قاله ش] . وكما قال الآخر4: لا يبعد الله ربّ العباد ... والملح ما ولدت خالده   1 زيادات ر: "هو الجاحظ". 2 الخبر في الإصابة 64:7 "كان أبو رافع عبدا لسعيد بن العاصي، فأعتق كل من بنيه نصيبه منه إلا خالد ابن سعيد، فإنه وهب نصيبه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقه، فكان يقول: أنا مولى رسول الله". 3 الإذخر: حشيش طيب الريح، واحدته إذخرة. 4 نقل المرصفى عن ابن الأعرابي أنه الحارث بن عمرو الفزارى، وعن المفضل، هو شتيم بن خويلد الفزارى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 ويروى أن عبيد الله بن أبي رافع أتى الحسن بن علي بن أبي طالب فقال: أنا مولاك، فقال في ذلك مولى لتمّام بن عبد المطّلب، يعذله ويعيّره: جحدت بني العباس حقّ أبيهم ... فما كنت في الدّعوى كريم العواقب متى كان أولاد البنات كوارث ... يحوز ويدعى والداً في المناسب! يريد انّ العباس أولى بولاء مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن العمّ مدعوٌّ والداّ في كتاب الله تعالى، وهو يحوز الميراث. وقال رجلٌ من الثّقفيّين: أنشدت مروان بن أبي حفصة هذين البيتيتن، فوقع عندي أنه من هذا أخذ قوله: أنّى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام ألغى سهامهم الكتاب فما لهم ... ان يشرعوا فيه بغير سهام وقال طاهر بن عليّ بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس للطالبيين: لو كان جدّكم هناك وجدّنا ... فتنازعا فيها لوقت خصام كان التّراث لجدّنا من دونه ... فحواه بالقربى وبالإسلام حقّ البنات فريضةٌ معروفةٌ ... والعمّ أولى من بني الأعمام وذكر الزّبيريون عن ابن الماجشون قال: جاءني رجل من ولد أبي رافع، فقال: إنّي قد قاولت رجلاً من موالي بعض العرب، فقلت: أنا خيرٌ منك، فقال: بل أنا خير منك، فما الذي يجب لي عليه? فقلت: ليس في هذا شيء، فقال: أنا مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويزعم أنه خير مني! قال: قلت: قد يتصرّف هذا على غير الحسب، قال: فلما رآني لا أٌقضي له بشيء قال لي: أنت دافع مغرماً1 لأن ولائي ولاء عنده ليس في موضعٍ مرضيّ? قال وصدق: في بني تيمٍ لتيمٍ من هو أشرف ولاء منّي.   1 مغرما: حقا تتقاضاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 أسامة بن زيد يقاول عمرو بن عثمان وحدثت أن أسامة بن زيد قاول عمرو بن الخطاب في أمر ضيعة يدّعيها كلّ واحدٍ منهما، فلجّت يهما الخصومة، فقال عمرو: يا أسامة، أتأنف أن تكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 مولاي! فقال أسامة: والله ما يسرّني بولائي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسبك! ثم ارتفعا إلى معاوية، فلجّا بين يديه في الخصومة، فتقدم سعيد بن العاصي إلى جانب عمرو، فجعل يلقّنه الحجة، فتقدم الحسن إلى جانب أسامة يلقّنه، فوثب عتبة بن أبي سفيان، فصار مع عمرو، ووثب الحسين فصار مع أسامة، فقام عبد الرحمن ابن أم الحكم، فجلس مع عمرو، فقام عبد الله بن العباس فجلس مع أسامة، فقام الوليد بن عقبة فجلس مع عمرو، فقام عبد الله بن جعفر فجلس مع أسامة، فقال معاوية: الجليّة عندي حضرت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أقطع هذه الضّيعة أسامة. فانصرف الهاشميون، وقد قضي لهم، فقال الأمويون لمعاوية: هلاّ إذ كانت هذه القضية عندك بدأت بها قبل التحزّب، أو أخّرتها عن هذا المجلس! فتكلم بكلام يدفعه بعض الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 الحجاج بن يوسف وسعيد بن جبير وكان الذي اعتدّ بعه الحجاج بن يوسف على سعيد بن جبير لمّا أتي به إليه بعد انقضاء أمر ابن الأشعث، وكان سعيدٌ عبداً لرجل من بني أسد بن خزيمة، فاشتراه سعيد بن العاصي في مائة عبدٍ فاعتقهم جميعاً، فقال له الحجّاج: يا شقي بن كسيرٍ، أما قدمت الكوفة، وليس يؤم بها إلا عربيّ فجعلتك إماماً! قال: بلى، قال: أفما ولّيتك القضاء فضجّ أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح القضاء إلا لعربي، فاستقضيت أبا بردة بن أبي موسى الشعري وأمرته ألا يقطع أمراً دونك! قال: بلى، قال: أو ما جعلتك في سمّارى وكلهم من رؤوس العرب! قال: بلى، قال: أو ما أعطيتك مائة ألف درهم لتفرّقها في أهل الحاجة، ثم لم أسألك عن شيء منها! قال: بلى، قال: فما أخرجك عليّ ? قال: بيعةٌ كانت لابن الأشعث في عنقي، فغضب الحجّاج، ثم قال: أفما كانت بيعة أمير المؤمنين بعد الملك في عنقك قبل? والله لأقتلنّك، يا حرسيّ، اضرب عنقه. ونظر الحجّاج فإذا جلّ من خرج مع عبد الرحمن، من الفقهاء وغيرهم، من الموالي، فأحبّ ان يزيلهم عن موضع الفصاحة والآداب، ويخلطهم بأهل القرى والأنباط. فقال: إنما الموالي علوج، وإنما أتي بهم من القرى، فقراهم أولى بم، فأمر بتسييرهم من الأمصار وإقرار العرب بها، وأمر ان ينقش على يد كل إنسان منهم اسم قريته. وطالت ولايته. فتوالد القوم هناك، فخبثت لغات أولادهم، وفسدت طبائعهم. فلمّا قام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 سليمان بن عبد الملك اخرج من كان في سجن الحجّاج من المظلومين، فيقال إنه أخرج في يوم واحدٍ ثمانين ألفاً، وردّ المنقوشين، فرجعوا في صورة الأنباط، ففي ذلك يقول الراجز: جاريةٌ لم تدر ما سوق الإبل ... أخرجها الحجّاج من كنّ وظل لو كان بدرٌ حاضراً وابن حمل ... ما نقشت كفّاك في جلد جلل وقال شاعرٌ لأهل الكوفة لمّا استقضي عليها نوح بن درّاج1: يا أيّها الناس قد قامت قيامتكم ... إذ صار قاضيكم نوح بن درّاج لو كان حيّا له الحجّاج ما سلمت ... كفّاه ناجيةً من نقش حجّاج ويروى عن حسّان، المعروف بالنبطيّ صاحب منارة حسّان في البطيحة2 قال: أريت الحجّاج فيما يرى النائم، فقلت: أصلح الله الأمير! ما صنع الله بك? فقال: يا نبطيّ، أهذا عليك! قال: فرأيتنا لانفلت من نقشه في الحياة، ومن شتمه بعد الوفاة! ويروى عن حسان أنه قصّ هذه الرؤيا على محمد ين سيرين، فقال له ابن سيرين: لقد رأيت الحجّاج بالصّحة.   1 زيادات ر: "ينسب للفرزدق"، وقال المرصفى: هذا خطأ فإن الفرزدق مات سنة عشرة ومائة، ومات نوح ابن دراج وهو قاض بالجانب الشرقي ببغداد سنة اثنتين وثمانين ومائة". 2 البطيحة: أرض واسعة بين واسط والبصرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 حديث الجحاف والأخطل قال أبو العباس: وحدّثت من ناحية الزّبيريين أن الجحّاف بن حكيم دخل على عبد الملك، والأخطل عنده، فلما بصر به الأخطل قال: ألا أبلغ الجحّاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر! فقال الجحّاف: بلى سوف نبكيهم بكل مهنّد ... ونبكي عميراً بالرماح الخواطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 ثم قال: يا ابن النّصرانيّة، ما ظننتك تجترىء عليّ بمثل هذا ولو كنت مأسوراً لك! فحمّ الأخطل خوفاً، فقال له عبد الملك: أنا جارك منه، فقال: يا أمير المؤمنين، هبك أجرتني منه في اليقظة، فمن يجبرني منه في النّوم! ومن هذا أو نحوه أخذ السّلميّ قوله: [قال أبو الحسن: هو أشجع السّلميّ يقوله للرشيد] : وعلى عدوّك يا ابن عمّ محمدٍ ... رصدان ضوء الصّبح والإٌظلام فإذا تنبّه رعته وإذا هدا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 هرب العديل من الحجاج وكان العديل بن الفرخ العجليّ هارباً من الحجاج، فجعل لا يحلّ ببلدة إلاّ ريع لأثر يراه من آثار الحجّاج فيهرب، حتى أبعد، ففي ذلك يقول العديل: يخشوننى الحجاج حتى كأنما ... يحرك عظم في الفؤاد مهيض1 ودون يد الحجاج من أن تنالنى ... بساط لأيدى اليعملات عريض2 فلم ينشب أن أتى به الحجاج، ففى ذلك يقول العديل: فلو كنت في سلمى أجا وشعابها ... لكان لحجّاجٍ عليّ دليل بنى قبّة الإسلام حتّى كأنّما ... أتى الناس من بعد الضّلال رسول أجأ وسلمى: جبلاً طيّىء، و"أجأ" مهموز، وغنما هو "أجا" مقصورٌ، فاعلم، قال زيد الخيل: جلبنا الخيل من أجإ وسلمى ... تخب نزائعا خبب الذّئاب3 والشاعر إذا احتاج إلى قلب الهمزة قلبها، إن كانت الهمزة مكسورة جعلها ياء، او ساكنةً جعلها على حركة ما قبلها، وإن كانت مفتوحة وقبلها فتحةٌ جعلها ألفاً، وإن كان مفتوحة وقبلها كسرةُ جعلها ياء، وإن كانت مفتوحة وقبلها ضمةُ جعلها واواً، قال الفرزدق: راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعي فزارة لا هناك المرتع وقال حسّان بن ثابت: سالت هذيلٌ رسول الله فاحشةً ... ضلّت هذيلٌ بما سالت ولم تصب! وقال عبد الرحمن بن حسّان: وكنت أذلّ من وتدٍ بقاعٍ ... يشجج رأسه بالفهر واجي   1 يخشونني: يخوفونني. 2 البساط: الأرض العريضة. 3 نزائع: واحدتها نزيعة، وهي التي تشتاق إلى أوطانها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 قول الفرزدق في عزل مسلمة بن عبد الملك هم العراق وأما الفرز دق، فإنه يقول لمّا عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق بعد قتله يزيد بن المهلّب لحاجة الخليفة إلى قربه وولي عمر بن هبيرة. راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعي فزارة لا هناك المرتع ولقد علمت إذا فزارة أمرت ... أن سوف تطمع في الإمارة أشجع فأرى الأمور تنكرت أعلامها ... حتى أمية عن فزارة تنزع1 عزل ابن عمروٍ وابن بشرٍ قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقّع ففي جواب هذا يقول الأسدي2 لمّا ولي خالد بن عبد الله القسريّ: بكت المنابر من فزارة شجوها ... فالآن من قسرٍ تضح وتخشع وملوك خندف أسلمونا للعدا ... لله درّ ملكونا ما تصنع! [كانوا كتاركةٍ بينها جانباً ... سفهاً وغيرهم تصون وترضع] 3 وأما حسان: سالت هذيل رسول الله فاحشة فليس من لغتة "سلت أسال"، مثل: "خفت أخاف"، و"هما يتساولان"، هذا من لغة غيره، وكانت هذيل سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ان يحل لها الزّنا.   1 زيادات ر: "تنزع، رواية عاصم، فمن روى "تنزع" بضم التاء يعنى "تعزل"، ومن روى بفتح التاء وكسر الزاى فهو من النزع في القوس، وهو الرمى، يشير إلى أنها محتاجة إلى رأيها، وأنها ترمى عن قوسها". 2 نسبة المرصفى إلى إسماعيل بن عمار. 3 مابين العلامتين من زيادات ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 مفاخرة بين أسدي وهذلي ويروى أن أسديّاً وهذليّاً تفاخرا، فرضيا برجل، فقال: إني ما أقضي بينكما إلا أن تجعلا لي عقداً وثيقاً ألا تضربا ولا تشتما، فإنّي لست في بلاد قومي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ففعلا. فقال: يأخا بني أسدٍ، كيف تفاخر العرب وأنت تعلم انه ليس حيّ أحبّ إلى الجيش ولا أبغض إلى الضيف، ولا أقل تحت الرايات منكم! وأما أنت يا أخا هذيل، فكيف تكلم الناس وفيكم خلال ثلاثٌ: كان منكم دليل الحبشة على الكعبة، ومنكم خولة ذات النّحيين، وسألتم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحلّ لكم الزّنا! ولكن إذا أردتما بيتي مضر، فعليكما بهذين الحيّين من تميم وقيس، قوماً في غير حفظ الله! وأما بيت عبد الرحمن بن حسّان فإنه يقوله لعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي وكان يهاجيه، فقال له في كلمته: وأما قولك الخلفاء منا ... فهم منعوا رويدك من وداج1 ولولاهم لكنت كحوت بحر ... هوى في مظلم الغمرات داجي وكنت أذل من وتدٍ بقاع ... يشجج رأسه بالفهر واجي2 وكان أحد من هرب من الحجاج سوّار بن المضرّب3 ففي ذلك يقول: أقاتلي الحجّاج إن لم أزر له ... دراب وأترك عند هند فؤاديا4 فإن كان لا يرضيك5حتى تردّني ... إلى قطريّ ما إخالك راضيا إذا جاوزت درب المجيزين ناقتى ... فباست أبى الحجاج لما ثنانيا6 أيرجو بنو مروان سمعى وطاعتى ... وقومى تميم والفلاة ورائيا وورائي هنا بمعنى: أمامي، قال الله عز وجل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} 7. وقال جل ثناؤه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} 8.   1 وداج: مصدر ودجه، أى قطع ودجه، والودج: أحد الودجين، وهما عرقان غليظان عن يمين ثغرة النحر ويسارها. 2 الفهر: الحجر ملء الكف، واجى: أصله واجىء، من الوجء، وهو الضرب والدق. 3 زيادات ر: "بفتح الراء". 4 دراب، قال المرصفى: "يريد دارا بجرد، فاقتصر على أحد الجزأين، وهي كورة بفارس". 5 زيادات ر: فاعل "يرضيك" مضمر أو منوى، تقديره: فإن كان لا يرضيك الإرضاء، ولا يجوز أن يكون مابعد "يرضيك" الفاعل؛ لأن سيبوية رحمه الله قال: الفاعل لا يكون جملة، "وحتى تردنى" جملة قاله ابن الأبرش". 6 درب المجيزين هو باب السكة، والمجيزون: هم المقيمون بأبواب الثغور يمنعون الخارج إلا من كان بيده جواز. 7 سورة مريم 5. 8 سورة الكهف 79. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 محمد بن عبد الله النميري والحجاج وممن هرب من الحجاج محمد بن عبد الله بن نميرٍ الثّقفيّ، وكان يشبّب بزينب بنت يوسف، أخت الحجاج، وهو القائل فيها: تضوّع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوةٍ عطرات يخبّئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن شطرا الليل معتجرات في كلمة له، فلما أتي به الحجاج قال: هاك يدي ضاقت بي الأرض رحبها ... وإن كنت قد طوفت كلّ مكان فلو كنت بالعنقاء أو بأسومها1 ... لخلتك إلا ان تصد تراني [من رفع "رحبها" فعلى البدل، ومن نصب فعلى الظرف، قاله ش. و"أسومها" بفتح الهمزة وبالضم، والفتح أحسن، ش] . ثم قال: والله أيها الأمير، إن قلت إلا خيراً، وإنما قلت: يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات فعفا عنه، ثم قال له: أخبرني عن قولك: ولمّا رأت ركب النّمريّ أعرضت ... وكنّ من أن يلقينه حذرات ما كنتم? قال: كنت على حمار هزيل، ومعي صاحبّ لي على أتانٍ مثله.   1 أسوم: اسم جبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 مالك بن الريب والحجاج وممّن هرب منه مالك بن الرّيب المازنيّ، أحد بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، وفي ذلك يقول: إن تنصفونا يال مروان نقترب ... إليكم وإلاّ فأذنوا ببعاد فإنّ لنا عنكم مزاحاً ومزحلا ... بعيسٍ إلى ريح الفلاة صواد1 ففي الأرض عن دار المذلّة مذهب ... وكلّ بلادٍ أوطنت كبلادي   1 مزاحا، مصدر ميمى من زاح إذا بعد. ومزحلا، مصدر ميمى من زاحل، إذا تنحى وتباعد. العيس: الإبل البيض، والصوادى: العطاش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 كذا وقعت الرواية بضم الهمزة وكسر الطاء، والأصحّ "أوطنت" بفتح الهمزة وفتح الطاء، قاله ش. فماذا ترى الحجّاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد1 فلولا بنو مروان كان ابن يوسفٍ ... كما كان عبداً من عبيد إياد زمان هو العبد المقرّ بذلّةٍ ... يراوح صبيان القرى ويغادي قال ذلك لأن الحجاج كان هو وأخوه معلّمين بالطائف، وكان لقبه "كليباً"، وفي ذلك يقول القائل: أينسى كليبٌ زمان الهزال ... وتعليمه سورة الكوثر رغيفٌ له فلكه ما ترى ... وآخر كالقمر الأزهر2 يقول: خبز المعلّمين يأتي مختلفاُ، لأنه من بيوت صبيان مختلفي الأحوال. وأنشد أبو عثمان عمرو بنى بحر الجاحظ: أما رأيت بني بحر وقد حفلوا ... كأنّهم خبز بقّال وكتّاب هذا طويلٌ وهذا حنبلٌ جحدٌ ... يمشون خلف عمير صاحب الباب3 وفي لقبه يقول آخر من أهل الطائف: كليبٌ تمكّن في أرضكم ... وقد كان فينا صغير الخطر ولما دخل الحجاج مكة اعتذر إلى أهلها لقلة ما وصلهم به، فقال قائل منهم: إذن والله لا نعذرك وأنت أمير العراقيين وابن عظيم القريتين! وذلك أنّ عروة بن مسعود ولده من قبل امّه. وتأويل قول الله عز وجل: {َقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 4. مجازه في العربية: على رجل من رجلين من القريتين عظيم. القريتان: مكة والطائف، والرجلان: عروة بن مسعود، والآخر الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن ع مر بن مخزوم. ويروى إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه مرّ بقبره ومعه خالد، فقال: أصبح جمرة في النار، فأجابه خالد في ذلك بجواب غير مرضيّ.   1 حفير زياد: نهر احتفره زياد على خمس ليال من البصرة. 2 الفلكة: مستدار كل شىء. 3 الحنبل: القصير الضخم. والجحد: ضائق العيش. 4 سورة الزخرف 31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 مقتل عروة بن مسعود وأما عروة بن مسعود فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام، فرقي سطحه، فرماه رجلٌ بسهم فقتله، فلما وجّه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه إلى أهل مكة أبطأ عليه، فقال: "ردوا عليّ أبي، أما لئن فعلت به قريشٌ ما فعلت ثقيفٌ بعروة بن مسعود لأضرمنّها عليهم ناراً". يقال: رقيت السطح وما كان مثله أرقاه، مثل خشيته أخشاه، كما قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} 1، ويقال: رقيت اللّديغ أرقيه، مثل رميته أميه. ويقال: ما رقأت عينه من الدمع، مهموزٌ ترقأ يا فتى، مثل قرأت تقرأ يا فتى.   1 سورة الإسراء 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 في موت ابن الحجاج وأخيه وكان الحجاج رأى في منامه ان عينيه قلعتا، فطلّق الهندين: هنداً بنت المهلّب، وهنداً بنت أسماء بن خارجة، فلم يلبث ان جاءه نعيّ أخيه من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمدٌ، فقال: هذا والله تأويل رؤياي، ثم قال: إنّا لله وإن إليه راجعون! محمّدٌ ومحمّدٌ في يوم واحدٍ! حسبي بقاء الله من كلّ ميّت ... وحسبي رجاء الله من كلّ هالك إذا كان ربّ العرش عنّي راضياً ... فإن شفاء النفس فيما هنالك1 وقال: من يقول شعراً يسليني به? فقال الفرزدق: إنّ الرّزيّة لا رزيّة مثلهما ... فقدان مثل محمدٍ ومحمد ملكان قد خلت المنابر منهما ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد   1 زيادات ر: "ويروى: فإن سرور النفس". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فقال: لو زدتني! فقال الفرزدق: إنّي لباكٍ على ابني يوسف جزعاً ... ومثل فقدهما للدّين يبكيني ما سدّ حيٌّ ولا ميتٌ مسدّهما ... إلا الخلائف من بعد النّبيّين فقال له: ما صنعت شيئاً، إنما زدت في حزني، فقال الفرزدق: لئن جزع الحجّاج ما من مصيبةٍ ... تكون لمحزونٍ أجلّ وأوجعا من المصطفى والمصطفى من خيارهم ... جناحيه لمّا فارقاه فودّعا أخ كان أغنى أيمن الأرض كلّه ... وأغنى ابنه أهل العراقين أجمعا جناحا عقاب فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا فقال: الآن. أما قوله: "إلا الخلائف من بعد النّبيين"، فخفض هذه النون، وهي نون الجمع، وإنما فعل ذلك لنه جعل الإعراب فيها لا فيما قبلها، وجعل هذا الجمع كسائر الجمع، نحو أفلس، ومساجد. وكلاب، فإن إعراب هذا كإعراب الواحد، وإنما جاز ذلك لأن الجمع يكون على أبنية شتّى، وإنما يلحق منه بمنهاج التثنية ما لاختلاف معانيه، ما كان على حد التثنية لا يكسّر الواحد عن بنائه، وإلاّ فلا، فإنّ الجمع كالواحد، لاختلاف معانيه، كما تختلف معاني الواحد، والتثنية ليست كذلك، لأنه ضربٌ واحدٌ، ولا يكون اثنان اكثر مت اثنين عدداً، كما يكون الجمع أكثر من الجمع، فمما جاء على هذا المذهب قولهم: هذه سنينٌ، فاعلم، وهذه عشرينٌ فاعلم، قال العدوانيّ: إنّي أبيٌّ ذو محافظةٍ ... وابن أبي من أبيّين وأنتم معشرٌ زيدٌ على مائةٍ ... فأجمعوا كيدهم طرّاً فكيدوني وقال سحيم بن وثيل: وماذا يدّري الشعراء منّي ... أخو خمسين مجتمعٌ أشدّي وقد جاوزت حدّ الأربعين ... ونجّذني مداورة الشّؤون وفي كتاب الله عز وجل: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} 1.   1 سورة الحاقة 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 فإن قال قائل: فإن "غسلينا" واحدٌ، فإنه كلّ ما كان على بناء الجمع من الواحد فإعرابه كإعراب الجمع، ألا ترى انّ "عشرين" ليس لها واحد من لفظها، وإعرابها كإعراب "مسلمين" واحدهم "مسلمٌ"! وكذلك جميع الإعراب. وتقول: "هذه فلسطون" يافتى، و"رأيت فلسطين" يافتى، هذا القول الأجود وكذلك "يبرين" وفي الرفع "يبرون" يافتى، وكلّ ما أشبه هذا فهو بمنزلته، تقول: "قنّسرون"، و"رأيت قنسرين"، والأجود في هذا البيت1: وشاهدنا الجلّ والياسمو ... ن والمسمعات بقضّابها2 وفي القرآن ما يصدق ذلك قول الله عز وجل: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} 3، فمن قال: "هذه قنّسرون ويبرون". فنسب إلى واحد منهما رجلاً أو شيئاً قال: "هذا رجل قنّسريّ ويبريّ"، بحذف النون والواو، لمجيء حرفي النّسب، ولو أثبتهما لكان في الاسم رفعان ونصبان وجرّان، لأن الياء مرفوعةٌ، والواو علامة الرفع. ومن قال: "قنّسرين" كما ترى قال في النّسب: "قنّسرينّي" لأن الإعراب في حرف النّسب، وانكسرت النون كما ينكسر كلّ ما لحقه النّسب. وأما قوله: "ونجّذني مداورة الشّؤون"، فمعناه: فهّمني وعرّفني، كما يقال: حنّكته التّجارب، والناجذ: آخر الأضراس، ذلك قولهم: ضحك حتى بدت نواجذه. والشؤون: جمع "شأن" مهموز، وهو الأمر. وقال المفسرون من أهل الفقه وأهل اللغة في قول الله تبارك وتعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} هو غسالة أهل النار. وقال النحويّون: هو "فعلينٌ" من الغسالة.   1 زيادات ر: "هو الأعشى". 2 زيادات ر: "الجل: الورد". "والقصاب: الأوتار، وقيل الزمار"، والمسمعات: الجوارى المغنيات. 3 سورة المطففين 19،18. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 كلمة عمر بن عبد العزيز في الولاة الظالمين ويروى أن عمر بن عبد العزيز خرج يوماً فقال: الوليد بالشّام، والحجّاج بالعراق، وقرّة بن شريك بمصر، وعثمان بن حيّان بالحجاز، ومحمد بن يوسف باليمن! امتلأت الأرض والله جوراً! . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 كتاب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك كتب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك بعد وفاة محمد بن يوسف: "أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله انه أصيب لمحمد بم يوسف خمسون ومائة ألف دينار، فإن لكن أصابها من حلّها فرحمه الله، زإن تكن من خيانة فلا رحمة الله"! فكتب إليه الوليد: "أما بعد، فقد قرأ أمير المؤمنين كتابك فيما خلّف محمد بن يوسف، وإنما أصاب ذلك المال من تجارة له أحللناها، فترحّم عليه، رحمه الله"! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 من كلام معاوية لابنه يزيد ويروى أن يزيد بن معاوية قال لمعاوية في يوم بويع له على عهده، فجعل الناس يمدحونه ويقرظونه: "يا أمير المؤمنين، والله ما ندري، أنخدع الناس أم يخدعوننا"! فقال له معاوية: "كل من أردت خديعته فتخادع لك حتّى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته"!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 كتاب الحجاج إلى عبد الملك ويروى أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان: "وبلغني أن أمير المؤمنين عطس عطسة فشمّته قومٌ، فقال: يغفر الله لنا ولكم، فيا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيماً"! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 تفجع الوليد لموت الحجاج وزعم الأصمعيّ قال: خرج الوليد يوماً على الناس وهو مشعانّ الرّأس، فقال: مات الحجاج بن يوسف، وقرّة بن شريك. وجعل يتفجّع عليهما. قوله: "مشعانّ الرأس" يعني منتفخ الشّعر1 متفرّقه. ومثل هذا يكون في شعر، لأن في هذا التقاء ساكنين، ولا يقع مثل هذا في وزن الشعر، إلا فيما تقدم ذكره في المتقارب، وليس ذا على ذلك الوزن.   1 زيادات ر: "والرواية منتفخ" والصحيح "منتفش" قاله ابن سراج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 رسول عمر بن عبد العزيز إلى إليون ملك الروم وحدثت أنّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وجّه عبد الله بن عبد الأعلى ومعه رجلٌ من عنس إلى إليون، فقال العنسيّ: فخلا بي عمر دونه، وقال لي: احفظ كلّ ما يكون منه، فلما صرنا إليه صرنا إلى رجل عربيّ اللسان، وغنما نشأ بمرعش1، فذهب عبد الله ليتكلّم، فقلت: على رسلك، فحمدت الله وصليت على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قلت: إنّي وجّهت بالذي وجّه بع هذا، إنّ أمير المؤمنين يدعوك إلى الإسلام، فإن تقبله تصب رشدك، وإني لأحسب أنّ الكتاب قد سبق عليك بالشّقاء، إلاّ أن يشاء الله غير ذلك، فإن قبلت وإلاّ فاكتب جواب كتابنا. قال: ثم تكلّم عبد الله، فحمد الله وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذهب في القول وكان مفوّهاً فقال له إليون: يا عبد الله! ما تقول في المسيح? فقال: روح الله وكلمته، فقال: أيكون ولدٌ من غير فحلٍ! فقال عبد الله: في هذا نظرٌ! فقال: أي نظرٍ في هذا?إما نعم وإما لا! فقال عبد الله: آدم خلقه الله من تراب، إنّ هذا اخرج من رحم، قال: في هذا نظر! قال إليون بالروميّة: إنّي أعلم انك لست على ديني ولا على دين الذي أرسلك قال: وأنا أفهم بالرّومية ثم قال: أتعطون يوماً غير يوم الجمعة? فقال: نعم، فقال: وما ذلك اليوم، أمن أعيادكم هو? فقال: لا، قال: فلم تعظمونه? قال: عيدٌ لقوم كانوا صالحين قبل أن يصير إليكم، قال: فقال له إليون بالرومية: قد علمت أنّك لست على ديني ولا على دين الذي أرسلك، فقال له عبد الله: أتدري ما يقول أهل السّفه? قال: وما يقولون? قال: إبليس: أمرت ألا أسجد إلا لله، ثم قيل لي: اسجد لآدم، قال: فقال له بالرومية: الأمر فيك أبين من ذلك، قال: ثن كتب جواب كتبنا، قال: فرجعنا إلى عمر بها، قال: فخبّرناه بما أردنا ثم نهضنا، فردّني إليه من باب الدار فخلا بي، فأخبرته، فقال: لعنه الله! لقد كانت نفسي تأباه، ولم أحسبه يجترئ على مثل هذا، قال: فلما خرجت قال لي عبد الله: ما الذي قال لك? قال: قلت، قال لي: أتطمع فيه? قلت: لا.   1 مرعش: مدينة بين الشام وبلاد الروم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 الشعبي عند صاحب الروم ولما وجّه عبد الملك الشّعبيّ إلى صاحب الروم فكلّمه، قال له صاحب الروم بعد انقضاء ما بينهما: أمن أهل بيت المملكة أنت?قال: قلت لا، ولكني رجلٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 من العرب، قال: فكتب معي رقعةً، وقال لي: إذا أديت جواب ما جئت له فأدّ هذه الرقعة إلى صاحبك، قال: فلمّا رجعت إلى عبد الملك فأعطيته جواب كتابه وخبّرته بما دار بيننا نهضت، ثم ذكرت الرقعة، فرجعت فدفعتها إليه، فلمّا ولّيت دعاني، فقال لي: أتدري ما في هذه الرقعة? فلت: لا، قال: فيها: "العجب لقوم فيهم مثل هذا كيف ولّوا أمورهم غيره". قال: فلمّا ولّيت دعاني، فقال لي: أفتدري ما أراد بهذا، قلت: لا، قال: حسدني عليك، فأراد أن أقتلك، قال: فقلت: إنما كثرت عنده يا أمير المؤمنين لأنه لم يترك، قال: فرجع عن كلام إلى ملك الروم، فقال: لله أبوه! ما عدا ما في نفسي! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 معاوية وأحد بطارقة الروم وحثت أن معاوية، كان إذا أتاه عن بطريق من بطارقة الروم كيدٌ للإسلام احتال له، فأهدى إليه وكاتبه، حتى يعزي به ملك الروم، فكانت رسله تأتيه فتخيره بأن هناك بطريقاً يؤذي الرّسل، ويطعن عليهم، ويسيء عشرتهم، فقال معاوية: أيّ ما في عمل الإسلام أحب إليه? فقيل له: الخفاف الحمر، ودهن البان. فألطفه بهما، حتى عرفت رسله باعتياده، ثم كتب كتاباً إليه، كأنه جواب كتابه منه، يعلمه فيه أنه وثق بما وعده به من نصره وخذلان ملك الروم. وأمر الرّسول بأن يتعرّض لأن يظهر على الكتاب، فمّا ذهبت رسله في أوقاتها ثم رجعت إليه، قال: ما حدث هناك? قالوا: فلانٌ البطريق رأيناه مقتولاً مصلوباً، فقال: وأنا أبو عبد الرحمن1!   1 قال المرصفى: "يريد أغريت بما صنعت له ملك الروم حتى قتله وصلبه وأنا المعروف بالكيد والدهاء، وعبد الرحمن ولده من فاختة بنت قرظة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 رسول ملك الروم عند معاوية وحدّثت أن ملك الرّوم في ذلك الأوان وجّه إلى معاوية: "إن الملوك قبلك كانت ترسل الملوك منّا، ويجتهد بعضهم في أن يغرب على بعض، أفتأذن في ذلك"? فأذن له، فوجّه إليه برجلين: أحدهما طويلٌ جسيمٌ، والآخر أيدٌ، فقال معاوية لعمرو1: أما الطويل فقد أصبنا كفأه وهو قيس بن سعد بن عبادة وأما   1 يريد عمرو بن العاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 الآخر الأيد فقد احتجنا إلى رأيك فيه، فقال: هاهنا رجلان، كلاهما إليك بغيضٌ: محمد بن الحنفيّة، عبد الله بن الزّبير، فقال معاوية: من هو أقرب إلينا على حالٍ. فما دخل الرجلان وجّه إلى قيس بن سعد بن عبادة يعلمه، فدخل قيسٌ، فلما مثل بين يدي معاوية نزع سراويله فرمى بها إلى العلج، فلبسها فنالت ثندوته1، فأطرق مغلوباً، فحدثت أن قيساً ليم في ذلك، فقيل له: لم تبذّلت هذا التّبذّل بحضرة معاوية، هلاّ وجّهت إلى غيرها! فقال: أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود وألا يقولوا: غاب قيسٌ وهذه ... سراويل عاديّ نمته ثمود وإني من القوم اليمانين سيد ... وما الناس إلاسيد ومسود بذّ جميع الخلق أصلي ومنصبي ... وحسمٌ به أعلو الرّجال مديد وكان قيسٌ سناطاً2، فكانت الأنصار تقول لوددنا أنا اشترينا لحيةً بأنصاف أموالنا وسنذكر خبرة بعد القضاء إن شاء الله. ثم وجّه إلى محمد بن الحنفيّة، فدخل، فخبّر بما دعي له، فقال فقولوا له إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني، وإن شاء فليكن القائم وأنات القاعد. فاختار الروميّ الجلوس، فأقامه محمدٌ، وعجز الروميّ عن إقامته، فانصرفا مغلوبين.   1 زيادات ر: "الثندوة: ما اسود حول الحلمة". 2 زيادات ر: "السناط والسنوط: أن يكون في الذقن شيء من الشعر، ولا يكون في العارضين شيء، فإن لم يكن فيهما جميعا فهو الثط" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 معاوية يهدي ملك الروم قارورة مملوءةً ماء وحدثني أحد الهاشميّين: أن ملك الرّوم وجّه إلى معاوية بقارورة، فقال: ابعث إليّ فيها من كل شيء، فبعث إلى أبن عباس، قال: لتملأ له ماءً، فما ورد بها على ملك الروم قال: لله أبوه ما أدهاه! فقيل لابن عباس: كيف اخترت ذلك? فقال: لقول الله عزّ وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1   1 سورة الأنبياء 30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 طعم الماء وقيل لرجل من بني هاشم وهو جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين، وكان يقدّم في معرفته: ما طعم الماء? فقال: طعم الحياة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 عبد الله بن الزبير وعلاج لحيته وأما عبد الله بن الزبير فيذكر أهله أنه قال: عالجت لحيتي لتتّصل لي إلى أن بلغت ستّين سنةً، فلما أكملتها يئست منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 من أخبار قيس بن سعد وكان قيس بن سعدٍ شجاعاً جواداً سيّداً، وجاءته عجوز قد كانت تألفه، فقال لها. كيف حالك? فقالت: ما في بيتي جرذٌ، فقال: ما أحسن ما سألت! أما والله لأكثرنّ جرذان بيتك. وكان سعد بن عبادة حيث توجّه إلى حوران قسم ماله بين ولده، وكان له حملٌ لم يشعر به، فما ولد له، قال له عمر بن الخطّاب يعني قيساً لأنقضنّ ما فعل سعدٌ، فجاءه قيسٌ، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيبي لهذا المولود، ولا تنقض ما فعل سعدٌ. قال أبو العباس: حدّثت بهذا الحديث من حيث أثق به: أنّ أ با ب كر وعمر رضي الله عنهما مشيا إلى قيس بن سعد يسألانه في أمر هذا المولود، فقال: نصيبي له، لا أغيّر ما فعل سعد. وكان معاوية كتب إلى قيس بن سعد وهو والي مصر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه "أما بعد، فإنّك يهوديّ ابن يهوديّ، إن غلب أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك، وإن غلب أبغضهما إليك قتلك، ومثّل بك، وقد كان أبوك فوق سهمه، ورمى غرضه، فأكثر الحزّ، واخطأ المفصل، حتى خذله قومه، وأدركه يومه، فمات غريباً بحوران، والسلام". فكتب إليه قيسٌ: "أما بعد، فإنك وثن ابن وثنٍ، لم يقدم إيمانك، ولم يحدث نفاقك، دخلت في الدين كرهاً، وخرجت منه طوعاً، وقد كان أبي فوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 سهمه، ورمى غرضه، فسعيت عليه أنت وأبوك ونظراؤك، فلم تشقّوا غباره، ولم تدركوا شأوه، ونحن أنصار الدّين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي خرجت إليه، والسلام". وكان قيسٌ موصوفاُ مع جماعةٍ قد بذّوا الناس طولاً وجمالاً، منهم: العباس ابن عبد المطلب رحمه الله وولده، وجرير بن عبد الله البجليّ، والأشعث بن قيس الكنديّ، وعديّ بن حاتم الطائيّ، وابن جذل الطعّان الكنانّي، وأبو زبيدٍ الطائيّ، وزيد الخيل بن مهلهل الطائيّ، وكان أحد هؤلاء يقبّل المرأة على الهودج، وكان يقال للرجل منهم مقبّل الظعن، وكان طلحة بن عبيد الله موصوفاً بالتمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 باب لسليك بن السّلكة قال أبو العباس: قال السليك ابن السّكة وهي أمه، وكانت سوداء حبشيّةً وكان من غربان العرب، وهو السّليك بن عميرٍ السّعديّ: ألا عتبت عليّ فصار متني ... وأعجبها ذوو اللّمم الطّوال فإنّي يا ابنة القوام أربي ... على فعل الوضيّ من الرّجال فلا تصلي بصعلوك نؤوم ... إذا أمسى يعدّ من العيال ولكن كلّ صعلوكٍ ضروب ... بنصل السّيف هامات الرّجال1 أشاب الرأس أنّي كلّ يوم ... أرى لي خالةً وسط الرّحال يشقّ عليّ أن يلقين ضيماً ... ويعجز عن تخلّصهن مالي قوله: وأعجبها ذوو اللّمم الطّوال يعني: الجمم، وإن شئت قلت: الجمام، يقال "جمّةٌ وجممٌ"، كقولك "ظلمةٌ وظلمٌ"، ويقال "جمامٌ" كقولك: "جفرةٌ وجفارٌ"2 و"برمةٌ وبرامٌ". قال الشاعر: إما تري لمّتي أودي الزمان بها ... وشيّب الدهر أصداغي وأفوادي وقوله: على فعل الوضيّ من الرجال يريد: الجميل، وهو "فعيلٌ" من "وضؤ يوضؤ" يافتى، تقديره "كرم يكرم، وهو كريم"، ومصدره "الوضاءة" وكذلك "قبح يقبح قباحةً"، و"سمج يسمج سماجةً"، ويقال: "ما كنت وضيئا"، و"لقد وضؤت بعدنا". وقوله: "فلا تصلي بصعلوكٍ"، يقول: لاتتّصلي به، كما قال ابن أحمر: ولا تصلي بمطروقٍ إذا ما ... سرى في القوم أصبح مستكيناً   1 زيادات ر: "كل خبر ابتداء والتقدير: همك". 2 زيادات ر: "الجفرة: هي الحفرة العظيمة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وإذا شرب المرضّة قال أوكي ... على ما في سقائك قد روينا1 فالصعلوك: الذي لا مال له، قال الشاعر2: كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تموّلا وقوله: "نئوم" يصفه بالبلادة والكسل، وكانت العرب تمدح بخفّة الرؤوس عن النوم، وتذمّ النّومة، كما قال عبد الملك لمؤدب ولده: علمهم العوم، وخذهم بقلّة النوم. وإنما توجّع لخالاته لأنهن كنّ إماء.   1 زيادات ر: "إذا صب لبن حليب على حامض، فهى المرضة" وأوكى: شد به بالوكاء، وهو كل شيء يسد به فم السقاء. 2 زيادات ر: "جابر بن ثعلبة الطائي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 النجباء من أولاد السراري ويروى عن رجل من قريش -لم يسمّ لنا- قال: كنت أجالس سعيد بن المسيّب، فقال لي يوماً: من أخوالك? فقلت: أمي فتاةٌ، فكأنّي نقصت في عينه، فأمهلت حتى دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر الخطاب رضي الله عنه، فلما خرج من عنده قلت: ياعمّ! من هذا? فقال: يا سبحان الله! أتجهل مثل هذا من قومك! هذا سالم بن عبد الله بن عمر، قلت: فمن أمه? قال: فتاةٌ، قال: ثم أتاه لقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنده، فجلس عنده ثم نهض، فقلت: ياعمّ من هذا? فقال: أتجهل من أهلك مثله! ما أعجب هذا! هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصّديق، قلت: فمن أمه? قال: فتاةٌ، فأمهلت شيئاً حتى جاءه عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فسلّم عليه ثم نهض، فقلت: ياعمّ، من هذا? قال: هذا الذي لا يسع مسلماً أن يجهله! هذا عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قلت: فمن أمه? قال: فتاةٌ، قال، قلت يا عم! رأيتني نقصت في عينك لمّا علمت أني لأم ولد، أفما لي في هؤلاء إسوةٌ! قال: فجللت في عينه جداً. وكانت أمّ عليّ بن الحسين "سلافة" من ولد يزدجرد، معروفة النّسب، وكانت من خيرات النّساء. ويروى أنه قيل لعليّ بن الحسين رحمه الله: إنك من أبر الناس، ولست تأكل مع أمك في صفحة? فقال: أكره أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها فأكون قد عققتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وكان يقال له: ابن الخيرتين1 لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لله من عباده خيرتان، فخيرته من العرب قريشٌ، ومن العجم فارس". وكانت سلافة عمّة أمّ يزيد النّاقص أو أختها. وقال رجلٌ من ولد الحكم بن أبي العاصي، يقال له عبيد الله بن الحر وكان شاعرا متقدّماً، وكان لأمّ ولدٍ، وهو من ولد مروان بن الحكم: فإن تك أمّي من نساءٍ أفاءها ... جياد القنا والمرهفات الصّفائح فتباً لفضل الحرً إن لم أنل به ... كرائم أولاد النّساء الصّرائح وإنما أخذ هذا من قول عنترة: وأنا امرؤ منم خير منصباُ ... شطري2 وأحمي سائري بالمنصل وأنشد لبلال بن جرير وبلغه ان موسى بن جرير كان إذا ذكره نسبة إلى أمه، لأنه ابن أمّولد، فيقول: ابن أم حكيمٍ فقال بلال: يا ربّ خالٍ لي أغرّ أبلجا ... من آل كسرى يغتدي متوّجاً ليس خالٍ لك يدعى عشنجاً والعشنج: المتقبّض الوجه السيئ المنظر. وكان سبب أم بلال عند جرير أن جريراً في أول دخوله العراق دخل على الحكم بن أيوب بن أبي عقيل الثقفي، وهو عمّ الحجاج، وعامله على البصرة، وفي ذلك يقول جرير: أقبلن من ثهلان أو وادي خيم ... على قلاصٍ مثل خيطان السلم3 إذا قطعن علماً بدا علم ... حتى أنخناها إلى باب الحكم خليفة الحجاج غير المتّهم ... في ضئضىء المجد وبحبوح الكرم فكتب الحكم بعد أن فاطنه4 إلى الحجاج، وذلك في أول سببه: إنه قدم   1 زيادات ر: "بتحريك الياء أفصح". 2 زيادات ر: "شطرى، مبتدأ، والخبر في المجرور قبله". 3 القلاص: جمع قلوص، وهي الناقة الفتية، وخيطان: جمع خوط وهي الغضة الناعم، والسلم: ضرب من الشجر. 4 قاطنة: راجعة في الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 عليّ أعرابيٌّ ياقعةٌ1 لم أر مثله. فكتب إليه الحجاج أن يحمله معه، فما دخل عليه قال له: بلغني انك ذو بديهة، فقل في هذه الجارية -لجارية قائمةٍ على رأسه- فقال جريرٌ: مالي أن أقول فيها حتّى أتأملها، ومالي أن أتامل جارية الأمير! فقال: بلى، فتأمّلها واسألها. فقال لها: ما اسمك يا جارية? فأمسكت، فقال لها الحجاج: خبّرية يا لخناء، فقالت: أمامة، فقال جريرٌ: ودّع أمامة حان منك رحيل ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليل مثل الكثيب تمايلت أعطافه ... فالرّيح تجبر متنه وتهيل هذي القلوب صوادياً تيّمتها ... وأرى الشّفاء وما إليه سبيل فقال له الحجاج: قد جعل الله لك السبيل إليها، خذها هي لك. فضرب بيده إلى يدها، فتمّنعت عليه، فقال: إن كان طلبّكم الدّلال فإنه ... حسنٌ دلالك يا أمام جميل [ش: ينصب "الطّبّ" ورفع "الدّلال"، وبالعكس، برفع "الطب" ونصب الدلال. والطّبّ هنا: المذهب، والّدلال: الدّالّة] . فاستضحك الحجاج، وأمر بتجهيزها معه إلى اليمامة. وخبرت أنها كانت من أهل الرّيّ، وكان إخوتها أحراراً، فاتّبعوه، فأعطوه بها حتى بلغوا عشرين ألفاً، فلم يفعل، ففي ذلك يقول: إذا عرضوا عشرين ألفاً تعرضت ... لامً حكيم حاجةٌ هي ماهيا ردت أهل الرّي عندي مودّة ... وحبّبت أضعافاً إليّ المواليا فأولدها حكيماً وبلالاً وحزرة، بني جرير، هؤلاء من أذكر من ولدها. ويقال: إنّ الحمّانيّ2 قاول بلالاُ ذات يوم فيما كان بينهما من الشرّ، فقال: يا ابن أم حكيم، فقال له بلالٌ: ما تذكر من ابنة دهقان، وأخيذة رماح، وعطيّة ملكٍ? ليست كأمّك التي بالمرّوت3، تغدو على أثر ضأنها، كأنما عقباها حافرا   1 زيادات ر: "يريد داهية، والباقعة: طائر حدر". 2 قال المرصفى: "الحمانى اسمه أبو نخيلة، نسب إلى جده حمان". 3 المروت: اسم واد بعينه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 حمار، فقال له الحمّانيّ: أنا أعلم بأمّك، إنما عتب عليها الحجّاج في أمر، الله أعلم به، فحلف أن يدفعها إلى ألأم العرب، فلما رأى أباك لم يشكك فيه. وقال: أنشدت لرجل من رجّاز بني سعدٍ: أنا ابن سعدٍ وتوسّطت العجم ... فأنا فيما شئت من خالٍ وعم وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس قومٌ أكيس من أولاد السّراريّ، لأنهم يجمعون عزّ العرب ودهاء العجم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 كتاب محمد بن عبد الله بن حسن إلى المنصور وردّه عليه وكتب أمير المؤمنين المنصور إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم لمّا كتب إليه محمدٌ: "وعلم أني لست من أولاد الطّلقاء، ولا أولاد اللّعناء، ولا أعرقت فيّ الإماء، ولا حضنتني أمّهات الأولاد. ولقد علمت أن هاشما ولد عليا مرتين، وان عبد المطلب ولد الحسن مرتين، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولدني مرتين، من قبل جدّي الحسن والحسين". يعني أن أمّ عليّ فاطمة بنت أسد بن هاشم، وأمّ الحسن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم، وأن أمّه فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم. فكتب إليه المنصور: "أما ما ذكرت من ولادة هاشم عليّاً مرتين، وولادة عبد المطّلب الحسن مرتين، فخير الأولين والآخرين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يلده هاشم إلا مرة واحدةً، ولا عبد المطلب إلاّ مرةً واحدةً، وله السبق إلى كلّ خير. ولقد علمت أنه بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمومته أربعةٌ، فآمن به اثنان، أحدهما أبي، وكفر به اثنان أحدهما أبوك، وأمّا ما ذكرت أنه لم تعرق فيك الإماء، فقد فخرت على بني هاشم طرا، أولهم إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عليّ بن الحسين، الذي لم يولد فيكم بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مولودٌ مثله". وهذه رسالة للمنصور طريفةٌ مستحسنةٌ جداً، سنمليها في موضها من هذا الكتاب، إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وأنشدني الرّياشيّ: إنّ أولاد السّراري ... كثروا يا ربّ فينا ربّ أدخلني بلاداً ... لا أرى فيها هجينا والهجين عند العرب: الذي أبوه شريفٌ وأمّه وضيعة?، والأصل في ذلك أن تكون أمّةً، وإنما قيل: "هجين" من أجل البياض، وكأنهم قصدوا قصد الرّوم والصّقالبة ومن أشبههم، والدليل على أن الهجين الأبيض أن العرب تقول: ما يخفى ذلك على الأسود والحمر، أي العربي والعجميّ، ويسمّون الموالي وسائر العجم الحمراء، وقد ذكرنا ذلك، ولذلك قال زيد الخيل: أيقن أننا صهب السّبال1 أي كهؤلاء من العجم. وقال أبن الرّقيات: إن تريني تغيّر اللّون منّي ... وعلا الشّيب مفرقي وقذالي فظلال السيّوف شيّبن رأسي ... وطعاني في الحرب صهب السّبال فقيل: هجين من هاهنا. وإذا كانت الأمّ كريمةً والأب خسيساً قيل له: المذرّع، قال الفرزدق: إذا باهليٌّ تحته حنظليّةٌ ... له ولدٌ منها فذاك المذرّع وقال الآخر: إنّ المذّرع لا تغني خئولته ... كالغل عن شوط المحاضير2 وإنما سمّي مذرّعا، للرّقمتين3 في ذراع البغل، وإنما صارتا فيه من ناحية الحمار، قال هدبة: ورثت رقاش اللّؤم عن آبائها ... كتوارث الحميرات رقم الأذرع وقال عبد الله بن العباس في كلام يجيب به ابن الزبير: والله إنه لمصلوب قريش، ومتى كان عوّام بن عوامٍ يطمع في صفيّة بنت عبد المطلبّ! من أبوك يا بغل? فقال: خالي الفرس!   1 صدره كما في حواشي ر: وأسلم عرسه لما رأنا 2 زيادات ر: "جمع محضير، وهو الفرس السريع". 3 الرقمتان: أثر بباطن الذراعين لا ينبتان الشعر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 باب لأعرابي فيمن أطال لحيته قال أبو العباس: قال أعرابيّ: كلّ امرئ ذي لجيةٍ عثوليّةٍ ... يقوم عليها ظنّ أن له فضلا وما الفضل في طول السّبال وعرضها ... إذا الله لم يجعل لصاحبها عقلا ويروى: "لحاملها". عثوليّة، يقول: كثيرةٌ، والمستعمل رجلٌ "عثوالٌّ" إذا كان كثير الشّعر، وأصل ذلك في الرأس واللّحية، وبناه الأعرابيّ بناء "جدول" كأنه "عثول" ثم نسب إليه. والسّبلة: مقدّم اللّحية، يقال لما أسيل من الشاربين: سبلتان، وتقول العرب: اخذ فلانٌ شفرة فلتم بها سبلة بعيره، أي نحره، واللّتم: الشّقّ، فهذا ما أسبل من جرانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 لبعض المحدثين في ذم ذوي العي وقال بعض المحدثين: وما حسن الرّجال لهم بحسنٍ ... إذا ما أخطأ الحسن البيان كفى بالمرء عيباً أن تراه ... له وجهٌ وليس له لسان وقال آخر: إنّي على ما تزدري من دمامتي ... إذا قيس ذراعي بالرجال طويل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 لرجل يصف لحيته ونظر يزيد بن مزيد الشيباني إلى رجل ذي لحيةٍعظيمة، وقد تلفّفت على صدره، فإذا هو خاضبٌ، فقال: إنك مكن لحيتك في مئونة! فقال: أجل، ولذلك أقول: لها درهمٌ للدّهن في كلّ جمعةٍ ... وآخر للحنّاء يبتدران ولولا نوالٌ من يزيد بن مزيد ... لصوّت في حافاتها الجلمان1   1 الجلمان: مثنى جلم، وهو المقراض، ويطلق المثنى على الواحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 لإسحاق بن خلفٍ يصف رجلاً بالقصر وطول اللّحية وقال إسحاق بن خلف يصف رجلاً بالقصر وطول اللّحية: ماسرّني أنّني في طول داود ... وأنّني علمٌ في البأس والجود ماشيت داود فاستضحكت من عجب ... كأنني والدٌ يمشي بمولود ما طول داود إلاّ طول لحيته ... يظل داود فيها غير موجود تكنّة خصلةٌ منها إذا نفخت ... ريح الشّتاء وجفّ الماء في العود كالأنبجاني مصقولاً عوارضها1 ... سوداء في لين الغادة الرّود2 أجرى وأغنى من الخزّ الصّفيق ومن ... بيض القطائف3 يوم القرّ والسّود4 إن هبّت الرّيح أدّته إلى عدنٍ ... إن كان مالفّ منها غير معقود وفي الحديث: "من سعادة المرء خفّة عارضيه" وليس هذا بناقض لما جاء في إعفاء اللّحي وإحفاء الشّوارب، فقد روى أنهم قالوا: لا بأس بأخذ العارضين والتّبطين5، وأما الإعفاء فهو التّكثير، وهو من الأضداد، قال الله عز وجل: {حَتَّى عَفَوْا} 6، أي حتى كثروا، ويقال: عفا وبر الناقة إذا كثر، قال الشاعر: ولكنّا نعضّ السّيف منها ... بأسؤق عافيات اللّحم كوم والكوم: العظام الأسنمة، واحتها كوماء، ويقال: عفا الرّيع، إذا درس، ومن ذلك: على آثار من ذهب العفاء أي الدّروس. وقال مسلمة بن عبد الملك: إني لأعجب من ثلاثة: من رجل قصّر شعره ثم عاد فأطاله، أو شمّر ثوبه ثم عاد فأسبله، أو تمنع بالسّراريّ ثم عاد إلى المهيرات.   1 الأنبجانى: كساء من الصوف، منسوب إلى منبج على غير قياس. 2 الرود: الحسنة الشابة. 3 القطائف: حمع قطيفة، وهي كساء مربع غليظ له خمل ووبر. 4 زيادات ر: "القر" بالقاف، يريد البرد، ويروى بالغين، يريد السحائب البيض. 5 التبطين: أخذ الشعر من تحت الذقن والحنك. 6 سورة الأعراف 95. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 واحدة المهيرات مهيرة، وهي الحرّة الممهورة، و"مفعول" يخرج إلى "فعيل" كمقتولٍ وقتيل، ومجروح وجريح، قال الأعشى: ومنكوحةٍ غير ممهورةٍ ... وأخرى يقال لها فادها1 فهذا المعروف في كلام العرب، مهرت المرأة فهي ممهورةٌ، ويقال وليس بالكثيرأمهرتها فهي ممهرةٌ، أنشدني المازنيّ: أخذن اغتصاباً خطبةً عجرفيّة ... وأمهرن أرماحاً من الخط ذبّلا2   1 زيادات ر: "فادها، من فديت الأسير، وهو يصف سبيا أخذ فيه إماء وحرائر". 2 زيادات ر: "عجرفية: جافية، خطبة، مصدر مضى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 من ألفاظ الكنايات وأهل الحجاز يرزن النكاح العقد دون الفعل، ولا ينكرونه في الفعل ويحتجّون بقول الله عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 1، فهذا الأشيع في كلام العرب، قال الأعشى: وأمتنعت نفسي من الغانيا ... ت إمّا نكاحاً وإما أزن2 ومن كل بيضاء رعبوبةٍ ... لها بشرٌ ناصعٌ كاللّبن3 ويكون النّكاح الجماع، وهو في الأصل كناية، قال الراجز: إذا زنيت فأجد نكاحاً ... وأعمل الغدوّ والرّواحا والكناية تقع عن هذا الباب كثيراً، والأصل ما ذكرنا لك، وفال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنا من نكاح لا من سفاح". ومن خطب المسلمين: "إن الله عز وجل أحلّ النّكاح وحرم السّفاح". والكناية تقع على جماع، قال الله عزّ وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 4، فهذه كناية عن الجماع، قال أكثر الفقهاء في قوله تبارك   1 سورة الأحزاب 49. 2 زيادات ر: "قوله "أزن" أراد أزنى ثم حذف الياء وخفف النون فقال: أزن". 3 الرعبوبة: الحسنة الخلق. 4 سورة البقرة 187. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وتعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 1، قالوا: كناية عن الجماع، وليس الأمر عندنا كذلك، وما أصف مذهب اهل المدينة، قد فرغ من النكاح تصريحاً، وإنما الملامسة ان يلمسها الرجل بيد أو بإدناء جسدٍ من جسدٍ، فذلك ينقض الوضوء في قول أهل المدينة، لأنه قال تبارك وتعالى بعد ذكر الجنب: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} . وقوله عزّ وجل: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 2، كنايةٌ بإجماع عن قضاء الحاجة، لأن كلّ من يأكل الطعام في الدنيا أنجى، يقال: نجا وأنجى، إذا قام لحاجة الإنسان. وكذلك: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} 3. كناية عن الفروج، ومثله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} 4، فإنما الغائط كالوادي، وقال عمرو بن معدي كرب: وكم من غائط من دون سلمى ... قليل الإنس ليس به كتيع5 ويقال: وهم الرجل يوهم، إذا شكّ، وهو الجود، ويجوز: ييهم، وييهم، وياهم، لعلل، وكذلك ما كان مثله، نحو: وجل يوجل ووحل يوحل، ووجع يوجع، ويجوز في وهم أن تقول: "يهم" فإن المعتلّ من هذا يجيء على مثال حسب يحسب، مثل: ولي الأمير يلي، وورم الجرح يرم، فهذا جميع ما في هذا الباب.   1 سورة النساء 43. 2 سورة المائدة 75. 3 سورة فصلت 21. 4 سورة النساء 42. 5 يقال: ما بالدار كتيع، أى ما بها أحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 لرجل من تميم وقال رجلٌ أحسبه من بني تميم: لاتسألنّ الخيل ي اسعد مالها ... وكن أخريات الخيل علّك تجرح لعلّك تحمي عن صحاب بطعنةٍ ... لها عائد ينفي الحصا حين ينفخ وأكرم كريماً إن أتاك لحاجةٍ ... لعاقبةٍ إنّ العضاه تروّح1 بذا فامدحيني واندبيني فإنّني ... فتى تعتريه هزّةٌ حين يمدح2   1 زيادات ر: "إذا أدبر القيظ وبرد الليل تحرك للشجر ورق رطب، فيقال: أخلف الشجر وتروح". 2 هذا البيت من زيادات ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 قوله: لاتسألنّ الخيل يا سعد مالها يقول: لاتتخلّف عن القتال وتسأل عن أخبار القوم، ولكن كن فيهم. كما قال مهلهل: ليس مثلي يخبّر القوم عن آ ... بائهم قتّلوا وينسى القتالا لم أرم حومة الكتيبة حتّى ... حذي الورد من دماء نعالا يقول: كنت في حومة القتال، صليت الحرب أكثر ممّا صليها غيري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 طلاق ابنة عبد الله بن السائب ثم زواجها من المصعب ويروى عن رجل من بني أسد بن عبد العزّى، يقال له: فلان، [ش: هو عبد الله] بن السائب أنه زوّج ابنته عمرو بن عثمان بن عفان، فلمّا نصّت عليه طلّقها على المنصّة، فجاء أبوها إلى عبد الله بن الزّبير، فقال: إنّ عمرو ابن عثمان طلق ابنتي على المنصّة، وقد ظنّ النّاس أنّ ذلك لعاهةٍ، وأنت عمّها، فقم فأدخل إليها، فقال عبد الله: أو خيراً من ذلك! جيئوني بالصعب، فخطب عبد الله فزوّجها من المصعب، وأقسم عليه ليدخلنّ بها في ليلته، فلا تعرف امرأة نصّت على رجلين في ليلتين ولاء غيرها فأولدها المصعب عيسى وعكّاشة، فلما كان اليوم مسكن1، وهرب أكثر الناس عن المصعب، دخل إلى سكينة ابنة الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وكانت له شديدة المحبّة، وكانت تخفي ذلك، فلبس غلالةً وتوشّح عليها، وانتضى السّيف، فلمّا رأت ذلك علمت أنه عزم ألا يرجع، فصاحت من ورائه: واحرباه! فالتقت إليها، فقال: أو هذا لي في قلبك! فقالت: إي والله وأكثر من هذا! فقال: أما لو علمت لكان لي ولك وشأن. ثم خرج، فقال لابنه عيسى: يا بنيّ، انج إلى نجاتك، فإنّ القوم لا حاجة بهم إلى غيري، وستفلت بحيلةٍ أو بقيا، فقال: يا أبتاه! لا أحدّث والله عنك أبداً، فقال: أما والله لئن قلت ذلك لما زلت أتعرّف الكرم في أسرارك، وأنت تقلب في مهدك.   1 مسكن: موضع على نهر دجيل، به كانت الواقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير، وقتل به مصعب، وقبره هناك. "مراصد الاطلاع 1271". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 [ش: الأسرار: جمع سرّ وهي الطّرائق في الجبهة] . فقتل بين يدي أبيه، ففي ذلك يقول شاعر أهل الشّأم من اليمانية: نحن قتلنا مصعباً وعيسى ... وابن الزّبير البطل الرّئيسا عمداً أذقنا مضر التّبئيسا وقال رجل يعاتب رجلاً: فلو كان شهم النّفس أو ذا حفيظةٍ ... رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 لبلال بن جرير يمدح عبد الله بن الزبير وقال بلال بن جرير يمدح عبد الله بن الزبير1: مدّ الزّبير عليك إذ يبني العلا ... كنفيه حتّى نالتا العيّوقا2 ولو أنّ عبد الله فاخر من ترى ... فات البريّة عزّةً وسموقا قرمٌ إذا ما كان يوم نفورةٍ ... جمع الزّبير عليك والصّدّيقا لو شئت ما فاتوك إذ جاريتهم ... ولكنت بالسّبق المبرّ حقيقا لكن أتيت مصلياً براً بهم ... ولقد ترى ونرى لديك طريقاً عاد الحديث إلى تفسير الأبيات المتقدمة3: قوله: لعلك تحمي عن صحابِ بطعنةٍ يقال: حميت الناحية أحميها حمياً وحمايةً، كما قال الفرزدق: إذا النّفوس جشأن طأمن جأشها ... ثقةً لها بحماية الأدبار4 ومعنى ذلك: منعت ودفعت، ويقال: أحميت الأرض أي جعلتها حمى   1 زيادات ر: "يقال إن بلالا لم يلحق ابن الزبير، إلا أن يكون مدحه ميتا". 2 العيوق: نجم أحمر مضىء في السماء في طرف المجرة الأيمن، وفي زيادات ر: ويروى: "كفيه"، وهو أظهر لقوله: "حتى نالتا". 3 ص132. 4 جشأن: تظلمن وجزعن فزعا، وطأمن: سكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 لا تقرب، وأحميت الحديد أحميه إحماءً، وحميت أنفي محميةً يا فتى، إذا أنت أبيت الضّيم. وصحابٌ: جمع صاحب، وقد يقال: هو جمع صحب، كما تقول: تاجرٌ وتجرٌ، وراكبٌ وركبٌ، ونحو ذلك، ثم تجمع صحباً على أصحاب، كقولك: كلبٌ وفرخٌ وفراخٌ، فهذا مذهب حسنٌ، ومن قال: هو جمع صاحب، فنظيره قائم وقيامٌ، وتاجرٌ وتجارٌ. وقوله: "لها عاندٌ ينفي الحصا"، يعني الدّم، يقال: عند العرق، إذا خرج الدّم منه بحدّة. ينفي الحصا، يعني الدّم بشدة جريه، كما قال: مسحسحةٍ تنفي الحصا عن طريقها ... [يقطع أحشاء الرّعيب انتثارها] 1 يعني: طعنة. وقال آخر في صفة طعنة: ومستنّةٍ كاستنان الخرو ... ف قد قطع الحبل بالمرود والخروف هاهنا إنما هو الفلوّ الصّغير. وقوله: وأكرم كريماً إن أتاك لحاجة ... لعاقبةٍ إنّ العضاه تروّح يقول: الشجر يصيبه النّدى في آخر الصّيف فينشأ له ورق، فيقول: لعلّك تحتاج إلى هذا الكريم وقد قدر. ومثله: ولاتهين الكريم علّك ان ... تركع يوماً والدّهر قد رفعه أراد "ولا تهينن" بالنون الخفيفة، فحذفها لالتقاء الساكنين، وهذا الحكم فيها. ومثله في المعنى قول عبّاد بن عبّاد بن حبيب بن المهلب: إذا خلةٌ نابت صديقك فاغتنم ... مرمّتها فالدهر بالناس قلّب وبادر بمعروفٍ إذا كنت قادراً ... زوال اقتدار أو غنى عنك يعقب [زوال، مفعولٌ ل "بادر". قاله ش] ومثل هذا كثير.   1 مابين العلامتين س، زيادات ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم إنّي لأسارع إلى حاجة عدّوي خوفاً من أن أردّه فيستغني عنّي. وقال رجلٌ من العرب: ما رددت رجلاً عن حاجة فولّى عنّي إلا رأيت الغنى في قفاه. وقال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب: ما رأيت أحداً أسعفته في حاجة إلا أضاء مابينى وبينه، ولا رأيت رجلا رددته عن حاجة إلاّ أظلم ما بيني وبينه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " من يئس من شيْ استغنى عنه. وقال عبد الله بن همّام السّلوليّ: فأحلف وأتلف إنما المال عارةٌ ... فكله مع الدّهر الذي هو آكله فأهون مفقود وأيسر هالك ... على الحيّ من لا يبلغ الحيّ نائله عارةٌ، أي معارٌ، ووزنه "فعلةٌ". وقال أحد المحدثين1، وليس من هذا الباب ولكنّا ذكرناه في الإعارة: أعارك ماله لتقوم فيه ... بطاعته وتعرف فضل حقّه فلم تشكره نعمته ولكن ... قريت على معاصيه برزقه تجاهره بها عوداٌ وبدءاٌ ... وتستخفي بها من شرّ خلقه وقال جريرٌ: وإني لأستحيي أخي أن أرى له ... علي من الحق الذي لا يرى ليا هذا بيتٌ يحمله قومٌ على خلاف معناه، وإنما تأويله: إني لأستحيي أخي ان يكون له عليّ فضل ولا يكون لي عليه فضل زمني إليه مكافأةٌ، فأستحيي أن أرى له عليّ حقاً لما فعل إليّ، ولا أفعل إليه ما يكون لي به عليه حقٌّ. وهذا من مذاهب الكرام، وممّا تأخذ له أنفسها.   1 زيادات ر: "هو محمود الوراق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 أبيات عائد الكلب الزبيري لعبد الله بن حسن ٍ فأمّا قول عائد الكلب الزبيري لعبد الله بن حسن بن حسنٍ1: له حقٌ وليس عليه حقٌ ... ومهما قال فالحسن الجميل وقد كان الرسول يرى حقوقاً ... عليه لغيره وهو الرّسول فإنه ذكره بقلّة الإنصاف، فقال: يرى له حقاً على النّاس، ولا يرى لهم عليه حقاً من أجل نسبة الإنصاف، فقال: يرى له حقاً على النّاس، ولا يرى لهم عليه حقاً من أجل نسبة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبيّن ذلك يقوله: وقد كان رسول يرى حقوقاً ... عليه لغيره وهو الرسول فالذي يفتخر به عبد الله يرى للناس عليه حقاً، فالمفتخر به أجدر. وقد قيل لعليّ بن الحسين وكان بين الفضل رضي الله عنه: ما بالك إذا سافرت كتمت نسبك أهل الرفقة? فقال: أكره أن آخذ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لا أعطي مثله. وإنما يعتري هذا الباب من الظلم وقلّة الإنصاف والبعد من الرّقّة عليهم الجهلة من أهل هذا النسب، والله جلّ ذكره يقول لنبيّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2، وقال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 3، فإذا كان هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاف من المعصية فكيف يأمنها غيره به!   1 زيادات ر: اسمه عبد الله بن مصعب الزبيرى، وسمى عائد الكلب بقوله: مالى مرضت فلم يعدنى عائد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود وأشد من مرضى على صدودكم ... وصدود كلبكم على شديد 2 سورة التوبة 128. 3 سورة الأنعام 15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 لجرير يمدح هشام بن عبد الملك وأما قول جريرٍ لهشام بن عبد الملك فهو المدح الصحيح على خلاف هذا المعنى، قال: وأنت إذا نظرت إلى هشام ... عرفت نجار منتخب كريم وليّ الحقّ حين يؤم حجّا ... صفوفاً بين زمزم والحطيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 يرى للمسلمين عليه حقاً ... كفعل الوالد الرّؤف الرّحيم إذا بعض السّنين تعرّقتنا1 ... كفى الأيتام فقد أبي اليتيم وفي هذا الشعر: أمير المؤمنين على صراطٍ ... إذا أعوجّ الموارد مستقيم أمير المؤمنين جمعت ديناً ... وحلماً فاضلا لذوي الحلوم لك المتخيّران أبا وخالاً ... فأكرم بالخؤولة والعموم فيا ابن المطعمين إذا شتونا ... ويا ابن الذّائدين عن الحريم سما بك خالدٌ وبنو هشامٍ ... إلى العلياء في الحسب الجسيم2 وتنزل من أمية حيث تلقى ... شؤون الرأس مجتمع الصميم تواصلت من تكرّمها قريشٌ ... برد الخيل دامية الكلوم فما الأم التي ولدت قريشاً ... بمقرفة النّجار ولا عقيم وما فحلٌ بأنجب من أبيكم ... ولا خالٌ بأكرم من تميم سما أولاد برّة بنت مرّ ... إلى العلياء في الحسب العظيم لك الغرّ السّوابق من قريش ... فقد عرف الأغرّ من البهيم قوله: "حين يؤم حجّاً" فيكون الحجّ جمع حاجّ، كما يقال: تاجرٌ وتجرٌ، وراكبٌ وركبٌ، قال العجّاج: بواسطٍ أكرم دارٍ دارا ... والله سمّى نصرك الأنصارا فأخرجه على "ناصر ونصر"، قال: ويجوز أن يكون حجّ أصحاب حجّ، كما قال الله عزّ وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 3، يريد أهلها. وقوله: كفعل الوالد الرّوف الرّحيم يقال: "رؤف" على "فعلٍ" مثل يقظ وحذر، رؤوف على وزن "ضروب". وقال الأنصاري4:   1 تعرقتنا: أهزلتنا، وأصله أخذ ما على العظم من اللحم. 2 زيادات ر: "وهم أبو العباس في قوله: وبنو هشام، وإنما وقع في شعره: وأبو هشام، وهو الصحيح، يريد إسماعيل بن هشام وهو جده من قبل أمه". 3 سورة يوسف 82. 4 زيادات ر: "هو كعب بن مالك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 نطيع نبيّنا ونطيع رباً ... هو الرّحمن كان بنا رؤوفا وقد قرىء: {واللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1، و {رَؤُوفٌ} أكثر، وإنما هو من الرّأفة، وهي أشدّ الرّحمة، ويقال: "رآفةٌ" وقرىء: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} 2، على وزن الصّرامة والسّفاهة. وقوله: إذا بعض السّنين تعرّ قتنا يفسر على وجهين: أحداهما: ان يكون ذهب إلى بعض السنين سنون، كما قال الأعشى: وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدّم لأن صدر القناة قناةٌ، ومن كلام العرب: ذهبت بعض أصابعه، لأن بعض الأصابع إصبع، فهذا قول. والأجود أن يكون الخبر في المعنى عن المضاف إليه، فأقتحم المضاف إليه توكيداً، لأنه غير خارج من المعنى، وفي كتاب الله عزّ وجل: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 3 إنما المعنى: فظلّوا لها خاضعين، والخضوع بيّن في الأعناق، فأخبر عنهم، فأقحم العناق توكيداٌ. وكان أبو زيد الأنصاريّ يقول: أعناقهم جماعاتهم، تقول: أتاني عنقٌ من النّاس، والأول قول عامّة النحويين. وقال جرير: لما أتَى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ ... سورُ المدينةِ والجبالُ الخشعُ وقال أيضاَ: رأت مرَّ السنينَ أخذن مِنِّي ... كما أخذ السرارُ من الهلالِ وقال ذو الرمة: مشينَ كما اهتزت رِماح تسفهت ... أعاليها مرُّ الرياح النواسم4   1 سورة البقرة 207. 2 سورة النور 2. 3 سورة الشعراء 4. 4 زيادات ر: "زعم بعضهم أن البيت مصنوع، والصحيح فيه: مرضى الرياح النواهم، المرضى: التي تهب بلين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 ومثل هذا كثير، وعلى مثل هذا القول الثاني تقول: "يا تيم تيم عدي" لأنك أردت: "يا تيم عدي"، وأقحمت الأول توكيدً1، وكذلك: لا أبا لك، لأن الألف لا تثبت في الأب في النصب إلا في الإضافة، أولا بدلاً من التنوين، فإنما أراد لا أباك ثم اقحم اللام توكيداً للإضافة، وأنشد المازني: وقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أباك يخلدُ! وقال آخر: أبا لموت الذي لا بد أني ... ملاقٍ لا أباك تخوفيني! وقوله: "على صراط" فالصراط: المنهاج الواضح، وكذلك قالت العلماء في قول الله عزّ وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . وقوله: "سما بكَ خالدٌ" يريد خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مُرة بن كعب، لأن أم هشام بنتُ هشام بن إسماعيل ابن هشام بن المغيرة، بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وكان هشام بن المغيرة أجل قرشي حالماً وجوداً، وكانت قريش تؤرخ بموته، كما كانت تؤرخ بعام الفيل، وبملكِ فلانٍ، قال الشاعر: زمان تناعى الناس موت هشام ومن أجل يقول القائل: فأصبح بطن مكة مقشعراً ... كأنَّ الأرض ليس بها هشامُ يقول: هو وإن كان مات فهو مدفون في الأرض، فقد كان يحب من أجله ألا ينالها جدب، وقال الآخر: ذريني أصطبح يا سلم إني ... رأيت الموت نقب عن هشام وقوله: "نقب" أي طوف حتى أصاب هشاماً، قال الله عز وجل: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} أي طوفوا، ومثله قول امرئ القيس" وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب   1 زيادات ر: كذا وقع "وأقحمت الأول توكيدا"، وإنما الصحيح: "وأقحمت الثاني توكيدا". 2 سورة ق 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 عمر أول من أرخ في الإسلام فأما التاريخ الذي يؤرخ به اليوم فأول من فعله في الإسلام عمر بن الخطاب رحمه الله. حيث دون الدواوين، فقيل له: لو أرخت يا أمير المؤمنين لكنت تعرف الأمور في أوقاتها? فقال: وما التأريخ? فأعلم ما كانت العجم تفعله، فقال: أرخوا؛ فقالوا: مذ أي سنة? فاجتمعوا على سنة الهجرة، لأنه الوقت الذي حكم فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غير تقيةٍ ثم قالوا: في أي شهرٍ? فقالوا: نستقبل بالناس أمورهم في شهر المحرم إذا انقضى حجهم، وكانت هجرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر بيع الآخر1 فقدم التأريخ على الهجرة هذه الأشهر. وجاء في تصحيح هذا الوقت - أعني المحرم - ما روي لنا عن ابن عباسٍ رحمه الله، فنه قال في قول الله عز وجل: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} 2 فأقسم بفجر السنة، وهو المحرم. وقوله: فما الأم التي ولدت قريشاً يعني برة بنت مرٍّ، كانت أمَّ النضر بن كنانة، وهو أبو قريش، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي، وتميم بن مرٍّ خاله. وكان يقال: من عرف حق أخيه دام له إخاؤه، ومن تكبر على الناس ورجا أن يكون له صديق فقد غر نفسه. وقيل: ليس للجوج تدبير، ولا لسييء الخلق عيش، ولا لمتكبر صديق. وقيل: من بسط بالخير لسانه انبسطت في القلوب محبته، والمنة تفسدُ الصنيعة.   1 زيادات ر: "الذي اتفق عليه أن هجرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت في ربيع الأول، وفيه مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". 2 سورة الفجر2,1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 في مدح أبي البختري ويروى أن شاعراً أتى أبا البختري1 وهب بن وهبٍ، وكان من أجود الناس، وكان إذا سمع مدح المادح ضحك وسرى السرور في جوانحه، وأعطى   1 زيادات ر: "البخترى، بفتح الباء وبالخاء المعجمة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 وزاد، فأتاه هذا الشاعر فأنشده: لكل أخي فضل نصيب من العلا ... ورأس العلا طرا عقيد الندى وهبُ وما ضر وهباً قول من غمط العلا ... كما لا يضر البدر ينبحه الكلب1 فثنى له الوسادة، وهش إليه ورفده، وحمله وأضافه، فلما أن أراد الرجل الرحلة لم يخدمه أحد من غلمان أبي البختري، ولا عقد له ولا حل معه. فأنكر ذلك من جميل ما فعل به، وأنه قد تجاوز به أمله، فعاتب بعضهم، فقال له الغلام: إنا إنما نعين النازل على الإقامة، ولا نعين الراحل على الفراق. فبلغ هذا الكلام جليلاً من القرشيين، فقال: والله لفعل هؤلاء العبيد على هذا القصد أحسن من رفد سيدهم.   1 زيادات ر: "غمط "بالكسر": كفر النعمة، وغمط "بالفتح"، ويقال أيضاً: تنقص". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 باب سؤال عبد الملك لحسان: أي المناديل أفضل? قال عبد الملك بن مروان لجلسائه - وكان يجتنب غير الأدباء -: أي المناديل أفضل? فقال قائل منهم: مناديل مصر كأنها غرقىء البيض1. وقال آخر: مناديل اليمن كأنها أنوار الربيع. فقال عبد الملك: ما صنعتما شيئاً، أفضل المناديل ما قال أخو تميم - يعني عبدة بن الطبيب2. لما نزلنا نصبنا ظل أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل ورد وأشقر ما يؤنيه طابخه ... ما غير الغلي منه فهو مأكول ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل قوله: "غرقىء البيض" يعني القشرة الرقيقة التي تركب البيضة دون قشرها الأعلى، وقشرها الأعلى يقال له: القيض. وقوله: "المراجيل" إنما حده "المراجل"؛ ولكن لما كانت الكسرة لازمة أشبعها للضرورة؛ كما قال: نفي الدرام تنقاد الصياريف3 وقد مر تفسير هذا. وقوله: ورد وأشقر ما يؤنيه طباخه يقول: ما تغير من اللحم قبل نضجه. وقوله: "ما يؤنيه طباخه" يقول: ما يؤخره، لأنه لو آناه لأنضجه، لأن معنى "آناه" بلغ به إناه، أي إدراكه، قال الله عز وجل: {إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} 4، وتقول: أنى يأني إنيّ، إذا أدرك، وآن يئين مثله. وقوله عز وجل: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} 5 أي قد بلغ إناه.   1 زيادات ر: "الغرقىء يهمز، ولا يهمز، وكذلك فعله". 2 زيادات ر: "عبدة، بإسكان الباء". 3 زيادات ر: "الحجة في الصياريف". 4 سورة الأحزاب 53. 5 سورة الرحمن 44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 وقوله: ما غير الغلي منه فهو مأكول يقول: نحن أصحاب صيد، وهذا من فعلهم1. وقوله: "مسومة" تكون على ضربين: أحدهما أن تكون معلمة، والثني أن تكون قد أسميت في المرعى، وهي ههنا معلمة، وقد مضى هذا التفسير. وإنما أخذ ما في هذه الأبيات من بيت أمرىء القيس، فإنه جمع ما في هذه الأبيات في بيت واحدٍ، مع فضل التقدم. نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب وهو الذي لم يدرك، ونمش: نمسح، ويقال للمنديل المشوش. وكانت العرب تألف الطيب، وتطرح ذلك في حالتين: في الحرب والصيد. قال النابغة: سهكين من صدإ الحديد كأنهم ... تحت السنور جنة البقار وقال آخر: وأسيافكم مسك محل أكفكم ... على أنها ريح الدماء تضوع2 معنى "تضوع" تفوح.   1 زيادات ر: "العرب لا تنضج اللحم، إما لا ستعجالها للضيف، وإما لأن ذلك مستحب عندها، ولذلك قال: لا يؤنيه. وقيل لتعجيل القرى". 2 زيادات ر: "تضوع روايته". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وفاء ابنة هانيء بن قبيصة وروي عن ابنة هانيء بن قبيصة [ذكر يعقوب أنها ابنة قيس بن خالد الشيباني. ش] . أنه لما قتل عنها لقيط بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك حنظلة، فتزوجها رجل من أهلها، فكان لا يزال يراها تذكر لقيطاً، فقال لها ذات مرة: ما استحسنت من لقيط? فقالت: كل أموره كانت حسنة، ولكني أحدثك أنه خرج مرة إلى الصيد وقد انتشىء، فرجع وبقميصه نضح ضمه، وشمني شم، فليتني كنت مت ثمه، قال: ففعل زوجها مثل ذلك، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 ضمها إليه، وقال: أين أنا من لقيط? فقالت: ماء ولا كصدآء - مثل حمراء، ووزنها "فعلاء"، وموضع اللام همزة، وهي بئر مقدمة، واسمها ما ذكرنا عن الأصمعي وأبي عبيدة، وكذلك سمعنا العرب تقوله، ومن ثقل فقد أخطأ ومثل ذلك: رجل ولا كمالكٍ1 - يعنون مالك بن نويرة، ومرعى ولا كالسعدان.   1 زيادات ر: "فما يقال: فتى ولا مالك، وقد تقدم لأبي العباس: "فتى"، وهو الصواب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 حديث بنات ذي الإصبع العدواني وحدثني علي بن عبد الله عن ابن عائشة قال: كان ذو الإصبع العدواني رجلاً غيوراً، وكانت له بنات أربع، وكان لا يزوجهن غيرة، فاستمع عليهن يوماً، وقد خلون يتحدثن، فقالت قائلة منهن: لتقل كل واحدةٍ منكن ما في نفسها، ولنصدق جميعاً. قال: فقالت كبراهن: ألا ليت زوجي من أناسٍ ذوي غنىً ... حديث الشباب طيب النشر والذكر لصوق بأكباد النساء كأنه ... خليفة جان لا يقيم على هجر قال: وقالت الثانية: ألا ليته يغطي الجمال بديئة ... له جفنة يشقى بها النيب والجزر له حكمات الدهر من غير كبرةٍ ... تشين فلا فانٍ ولا ضرع غمرُ "أخذ التجارب، وهو مأخوذ من حكمة اللجام ش" فقلن لها: أنتِ تريدين سيداً. فقالت: الثالثة: ألا هل تراها مرة وحليلها ... اشم كنصل السيف عين1 المهند عليماً بأدواء النساءِ ورهطهُ ... إذا ما انتمى من أهل بيتي ومحتدي فقلن لها: أنت تريدين ابن عم لك، فقد عرفته. وقلن للصغرى: ما تقولين? فقالت: لا أقول شيئاً، فقلن: لا ندعك وذاك؛ إنك اطلعت على أسرارنا وتكتمين سرك، فقالت: زوج من عود، خيرً من قعود. قال: فخطبن، فزوجهن جمع، ثم أمهلهن حولاً، ثم زار الكبرى، فقال لها: كيف رأيت زوجك? قالت: خير زوج، يكرم أهله، وينسى فضل، قال لها:   1 زيادات ر: "حليلها، بفتح اللام وبالضم، وأشم مثله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 فما مالكم? قالت: الإبل، قال: وما هي? قالت: نأكل لحمانها مزعاً1، ونشرب ألبانها جرعاً، وتحملنا وضعفتنا معاً. فقال لها: زوج كريم، ومال عميم. ثم زار الثانية فقال لها: كيف رأيت زوجك? قالت: يكرم الحليلة، ويقرب الوسيلة. قال: فما مالكم? قالت: البقر، قال: وما هي? قالت: تألف الفناء، وتملأ الإناء، وتودك السقاء، ونساءُ مع نساءٍ. قال لها: رضيت وحظيت. ثم زار الثالثة، فقال لها: كيف رأيت زوجك? فقالت: لا سمح بذر، ولا بخيل حكرٌ2، قال: مالكم? قالت: المعزى، قال: وما هي? قالت: لو كنا نولدها فطماً، ونسلخا أدماً، لم نبغ بها نعماً، فقال لها: جذو مغنية. ثم زار الرابعة، فقال لها: كي رأيت زوجك? فقالت: شر زوج، يكرمُ نفسه، ويهين عرسه، قال لها: فما مالكم? قالت: شر مال؛ الضأن، قال لها: وما هن? قالت: جوف لا يشبعن، وهيم لا ينقعن، وصم لا يسمعن، وأمر مغويتهن يتبعن، فقال: "أشبه امرؤ بعض بزه"3 فأرسلها مثلاً. قال علي بن عبد الله: قلت لابن عائشة: ما قولها: "وأمر مغويتهن يتبعن"? فقال: أما تراهن يمررن فتسقط الواحدة منهن في ماء أو وحل وما أشبه ذلك فيتبعنها إليه. قول الثانية: له جفنة تشقى بها النيب والجزر فالنيب: جمع ناب، وهي المسنة، وإنما قيل لها: ناب، لطول نابها؛ قال أوس بن حجر: تشبه نابا وهي في السن بكرةٌ وتقدير "نيب" من الفعل "فعلٌ"،ولكن ما كان من ذوات الياء كسر له موضع الفاء من الفعل لتصح الياء، لأن الياء إذا سكنت وانضم ما قبلها كانت   1 مزعا: قطعا. 2 الحكر هنا: المقتر. 3 زيادات ر: "أشبه امرأ بعض بزه، رواية"، يضرب للمتشابهين أخلاقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 واواً، نحو: موقن وموسر، وإن فارقتها الضمة عادت إلى أصلها، نحو قولك: مياسير، ومثل ذلك أبيض وبيض، وإنما "بيض" "فعل" كـ"أحمر وحمر" و"أصفر وصفر"، ولكن كسرت النون لتصح الياء، ولو كانت واواً في الأصل لم تغير. نحو: "أسود وسودٍ". وقوله: "ناب"، تقديرها فَعَلٌ متحركة العين، ولا تنقلب الياء ولا الواو ألفاً إلا وهماً في موضع حركة وما قبلهما مفتوح، نحو: باع وقال ورمى وغزا؛ لأن التقدير فعلَ، ولو كان على فَعْلٍ لصحت الياء والواو، كما تقول: بيع وقول، وفَعَلٌ قد يجمعونه على فُعْلٍ كقولهم: أسدٌ وأسدٌ، ووثنٌ ووثنٌ. وقولها: "تشقى بها النيب والجزر" فإنما عطفت أحدهما على الآخر لأن من الإبل ما يكون جزوراً للنحر لا غير. وأما قولها: "ولا ضرعٌ غمرُ" فالضرع: الضعيف، والغمر: الذي لم يجرب الأمور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 الحجاج والمهلب بن أبي صفرة ويروى أن الحجاج لما ورد عليه ظفر المهلب بن أبي صفرة وقتله عبد ربه الصغير، وهرب قطري عنه تمثل فقال: لله در المهلب! والله لكأنه ماوصف لقيط الإيادي حيث يقول: وقلدوا أمركم لله دركم ... رجب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعاً طورا ومتبعا حتى استمرت على شزر مريرته ... مر العزيمة لا رثاً ولا ضرعا فقام إليه رجل فقال: أيها الأمير، والله لكأني أسمع هذه التمثيل من قطري في المهلب. فسر الحجاج بذلك سروراً تبين في وجهه: وقولها: كنصل السيف عين المهند فالمهند، المنسوب إلى الهند. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وقولها: "من أهل بيتي ومحتدي" فالمحتد: الأصل، قال الشاعر: وفي السر من قحطان أولاد حرةٍ ... عظامُ اللها بيض كرام المحاتد وقوله: "مال عميم" يقول: جامع، أخذه من عمَّ يعمُّ. وقوله: "جذو مغنية" فالجذو: جمع جذوه، وهي القطعة، وأصل ذلك في الخشب ما كان منه فيه نارٌ، وقال الله عز وجل: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} 1 وتجمع أيضاً جذاً، قال ابن مقبل: باتت حواطب سلمى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوارٍ ولا دعر الحوار: الضعيف، والدعر: الكثير الثقب، يقال: عود دعر. وقولها: "جوف لا يشبعن" تقول: عزاك الأجواف. و"هيم لا ينقعن"، الهيم: العطاش، يكون الواحد من هيم أهيم، ويقال في هذا المعنى: هيمان. وقال بعض المفسرين في قول الله عز وجل: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} 2 قال: هي الإبل العطاش، وقال ذو الرمة3: فراحت الحقب لم تقصع صرائها ... وقد نشحن فلا ري ولا هيم4 ويقال: "قصع صارته" إذا روي، والصارة: شدة العطش، والنشوح: أن تشرب دون الري، يقال: نشح ينشح، ومثله: تغمر، إذا لم يرو. ويقال للقدح الصغير الغمر من هذا. وقال بعض المفسرين: الهيمُ: رمال بعينها، واحدتها هيماء، يا فتى. وقولها: "لا ينقعن" أي لا يروين، يقال: ما نقعت ماشية بني فلان بري، إذا لم تبلغ من الماء حقها، ويقال للماء: النقع، ويقال: النقع، في غير هذا الموضع، للغبار، ويقال: أثاروا النقع بينهم. والنقع أيضاً: اسم موضع بعينه. قال الشاعر: لقد حببت نعم إلينا بوجهها ... ماسكن ما بين الوتائر والنقع5   1 سورة القصص 29. 2 سورة الواقعة 55. 3 زيادات ر: "يصف حميرا". 4 زيادات ر: "الحقب البيض الأعجاز من الحمير". 5 زيادات ر: "الوتائر، بالتاء منقوطة باثنتين من فوق"، الوتائر والنقع: موضعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 والنقع: الصراخ، قال لبيد: فمتى ينقع صراخ صادق ... يخلبوه1 ذات جرسٍ وزجلٍ وقولها: "وصم لا يسمعن"، طريف من كلام العرب، وذلك أنه يقال لكل صحيح البصر ولا يعمل بصره: أعمى، وإنما يراد به أنه قد حل محل من لا يبصر البتة، إذا لم يعمل بصره، وكذلك يقال للسميع الذي لا يقبل: أصم، قال الله جلَّ ذكرهِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} 2 كما قال جل ثناؤه: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 3 وكذلك: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} 4 وقوله عز وجل: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاء} 5 وتقول العرب: "أبلدُ ما يُرعى الضأن"، ويقال: أحمق من راعي ضأن ثمانين6. وتحدث عمرو بن بحر، قال: كان يقال: لا ينبغي لعاقل أن يشاور واحداً من خمسة: القطان، والغزال، والمعلم، ورعي ضأن، ولا الرجل الكثير المحادثة للنساء. وقيل في مثل هذا: لا تدع أم صبيك تضربه فإنه أعقل منها وإن كان طفلاً. وقال الأحنف بن قيس: إني لأجالس الأحمق الساعة فأتبين ذلك في عقلي. وقال جل ثناؤه في صفة النساء: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 7.   1 كذا في الأصل، وفي ر: "يجلبوه". 2 سورة البقرة 18. 3 سورة محمد 24. 4 سورة النمل 80. 5 سورة البقرة 171. 6 زيادات ر: "قوله: أحمق من راعي ضأن ثمانين، المثل لكسرى في أعرابي خيره فاختار ذلك، ذكره أبو عبيد، وهذا غير ما أشار إليه أبو العباس". 7 سورة الزخرف 18. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 نقد كثير للشعراء وحدثت أنعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة أتى المدينة فأقام بها، ففي ذلك يقول: يا خليلي قد مللت ثوائي ... بالمصلى وقد شنئت البقيعا فلما أراد الشخوص شخص معه الأحوص بن محمدٍ؛ فلما نزلا ودان صار إليهما نصيب، فمضى الأحوص لبعض حاجته، فرجع إلى صاحبيه، فقال: إني رأيت كثيراً بموضع كذا، فقال عمر: فابعثوا إليه ليصير إلينا، فقال الأحوص: أهو يصير إليكم? هو والله أعظم كبراً من ذلك؛ قال: فذا نصير إليه، فصاروا إليه، وهو جالس على جلد كبش، فوالله ما رفع منهم أحداً ولا القرشي. ثم أقبل على القرشي، فقال: يا أخا قريش، والله لقد قلت فأحسنت في كثيرٍ من شعرك، ولكن خبرني عن قولك: قالت لها أختها تعاتبها ... لا تفسدن الطواف في عمر1 قومي تصدي له ليبصرنا ... ثم اغمزيه يا أخت في خفر قالت لها: قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرت تشتد في أثري والله لو قد قلت هذا في هرة أهلك ما عدا، أردت أن تنسب بها فنسبت بنفسك، أهكذا يقال للمرأة! إنما توصف بالخفر، وأنها مطلوبة ممتنعة، هلا قلت كما قال هذا? وضرب بيده على كتف الأحوص: أدور ولولا أن رى أم جعفرٍ ... بابياتكم ما درت حيث أدور وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بعد أن سيزور لقد منعت معروفها أم جعفر ... وإني إلى معروفها لفقير قال: فامتلأ الأحوص سروراً، ثم أقبل عليه فقال: يا أحوص، خبرني عن قولك: فأن تصلي أصلك وإن تعودي ... لهر بعد وصلك لا أبالي   1 زيادات ر: "كذا وقعت الرواية" "لاتفسدن" على النهى، والصحيح: "لتفسدن" على القسم، كأنها قالت: "والله لتفسدن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 أما والله لو كنت من فحول الشعراء لباليت؛ هلا قلت مثل ما قال هذا? وضرب بيده على جنب نصيب: بزينب ألمم قبل أن يظعن الركبُ ... وقل إن تملينا فما ملك القلبُ قال: فانتفخ نصيب، ثم أقبل عليه فقال له: ولكن أخبرني عن قولك يا أسود: أهيمُ بدعدٍ ما حييتُ وإن أمتْ ... فواحزاني من ذا يهيم بها بعدي كأنك اغتممت ألا يفعل بها بعدك؛ ولا يكني، فقال بعضهم لبض: قوموا فقد استوت القرفة. وهي لعبة على خطوطٍ، فاستواؤها انقضاؤها. قال أبو الحسن: الطبن هي السدر، فإذا زيد في خطوطه سمته العرب: القرفة، وتسميه العامة السدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 كثير والأخطل عند عبد الملك بن مروان قال: وحدثت أن كثيراً دخل على عبد الملك بن مروان وعنده الأخطل، فأنشده التفت عبد الملك إلى الأخطل، فقال: كيف ترى? فقال: حجازي مجوع مقرور1، دعني أضغمه يا أمير المؤمنين، فقال كثير: من هذا يا أمير المؤمنين? فقال له: هذا الأخطل، فقال له كثير: مهلاً، فهلا ضغمت الذي يقول2: لا تطلبن خؤولة في تغلب ... فالزنج أكرمُ منهم أخوالاً3 والتغلبي إذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا فسكت الأخطل فما أجابه بحرفٍ. قال أبو العباس: سمعتُ من ينشدُ هذ الشعر: والتغلبي إذا تنبح للقرى وهو أبلغُ.   1 مقرور: أصابه القر، وهو البرد. 2 حاشية الأصل: "هو جرير"، والبيتان في ديوانه 453،45. 3 زيادات ر: "أخوالا، منصوب على الحال، ومن زعم أنه تمييز فقد أخطأ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 أبيات نصيب في امرأة نزل عندها فأكرمته قال: وخُبرت أن نصيباً نزل بامرأة تكنى أم حبيب، من أهل مللٍ، وكانت تضيف بذلك الموضع وتقري، ولا يزال الشريف قد نزل بها فأفضل عليها الفضل الكثير، ولا يزال الشريف ممن لم يحلل بها يتناولها بالبر، ليعينها على مروءتها، فنزل بها نصيب ومعه رجلان من قريش، فلما أرادوا الحرلة عنها وصلها القرشيان، وكان نصيب لا مال معه في ذلك الوقت، فقال لها: إن شئت فلك أن أوجه إليك بمثل ما أعطاك أحدهما، وإن شئت قلت فيك شعراً، فغزلت أم حبيبٍ1 فقالت: بل الشعر، فقال: ألا حي قبل البين أم حبيب ... وإن لم تكن مِنا غداً بقريب وإن لم يكن أني أحبك صادقاً ... فما أحدٌ عندي إذاً بحبيب تهام أصابت قلبه مللية ... غريب الهوى، واهاً لكل غريب!   1 زيادات ر: "أى مالت إلى أن يتغزل بها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 نصيب عند عبد الملك بن مروان وحدثت أن نصيباً أتى عبد الملك فأنشده، فاستحسن عبد الملك شعره وسر به، فوصله، ثم دعا بالغداء فطعم معه، فقال له بعد الملك: يا نصيب، هل لك فيما يتنادم عليه? فقال: يا مير المؤمنين، تأملني، قال: قد أراك، فقال: يا أمير المؤمنين، جلدي أسود، وخلقي مشوه، ووجهي قبيح، ولست في منصب، وإنما بلغ بي مجالستك ومؤاكلتك عقلي وأنا أكره يا أمير المؤمنين أن أدخل عليه ما ينقص. فأعجبه كلامه فأعفاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 الوليد بن عبد الملك والحجاج وقال الوليد بن عبد الملك للحجاج في وفدةٍ وفدها عليه - وقد أكلا -: هل لك في الشراب? فقال: يا أمير المؤمنين، ليس بحرام ما أحللته، ولكني أمنع أهل عملي منه، وأكر أن أخالف قول العبد الصالح: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} 1، فأعفاه.   1 سورة هود 88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 مسلمة بن عبد الملك ونصيب وقال مسلمة بن عبد الملك يوماً لنصيب: أمتدحت فلاناً! لرجل من أهله، فقال: قد فعلت، قال: أو حرمك? قال: قد فعل، قال: فهلا هجوته? قال: لم أفعل، قال: ولم? قال: لأني كنت أحق بالهجاء منه! إذ رأيته موضعاً لمدحي! فأعجب به مسلمة، فقال: اسألني، فقال: لا افعل، قال: ولِمَ? فقال: لأن كفك بالعطية أجود من لساني بالمسألة، فوهب له ألف دينارٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 في نقد الشعر وحدثت أن الكميت بن زيدٍ أنشد نصيباً فاستمع له، فكان فيما أنشده: وقد رأينا بها حوراً منعمة ... بيضاً تكامل فيها الدلُّ والشنبُ1 فثنى نصيب خنصره، فقال له الكميت: ما تصنع? فقال: أحصي خطأك، تباعدت في قولك: "تكمل فيها الدل والشنب". هلا قلت كما قال ذو الرمة: لمياء في شفتيها حوة لعسٌ ... وفي اللثاث وفي أنيابها شنبُ ثم أنشده في أخرى: كأن الغطامط من جريها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا 2 فقال له: نصيب: ما هجت أسلم غفاراً قط، فاستحيا الكميت فسكت. قال أبو العباس: والذي عابه نصيب من قوله: "تكامل فيها الدل والشنب". قبيح جداً، وذلك أن الكلام لم يجر على نظم، ولا وقع إلى جانب الكلمة ما يشاكلها، وأول ما يحتاج إليه القول أن ينظم على نسق، وأن يوضع على رسم المشكلة. وخبرت أن عمر بن لجإٍ قال لابن عم له: أنا أشعر منك، قال له، وكيف? قال: لأني أقول البيت وأخاه، وانت تقول البيت وابن عمه.   1 الشنب: عذوبة الأسنان ورقتها. 2 الغطامط: اضطراب موج البحر، وفي زيادات ر: "وقعت الرواية" "من جريها"، وصوابه: "من غلبها"؛ لأنه يصف قدراً فيه لحم، فشبه غليان القدر وارتفاع اللحم فيه بالموج الذي يرتفع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وأنشد عمرو بن بحر: وشعر كبعر الكبش فرق بينه ... لسانُ دعيِّ في القريض دخيل وبعر الكبش يقع متفرقاً، فمن ذلك قول ابنة الحطيئة له، لما نزل في بني كليب بن يربوع: تركت الثروة والدد، ونزلت في بني كليب - بعر الكبش. يقال: بعرٌ وبعرٌ، وشعرٌ وشعرٌ، وشمعٌ وشمعٌ، ويقال للصدر: قص وقصص، وكذلك نهرٌ ونهرٌ. وزعم الأصمعي أنه سأل أعرابياً، وهو بالموضع الذي ذكره زهيرٌ: ثم استمروا وقالوا إن مشربكم ... ماء بشرقي سلمى فيدُ أو رككُ قال الأصمعي: فقلت لأعرابي: أتعرف رككاً? فقال: لا، ولكن قد كان ههنا ماء يسمى ركاً. فهذا ليست فيه لغتان، ولكن الشاعر إذا احتاج إلى الحركة اتبع الحرف المتحرك الذي يليه الساكنُ ما يشاكله، فحرك الساكن بتلك الحركة. فالعبد مناف بن ربع الهذلي: إذا تجاوب نوح قامتا معه ... ضرباً أليماً بسبتٍ يلعج الجلدا1 يريد الجلد، فهذا مطردٌ. ومن مذابهم المطرة في الشعر أن يلقوا على الساكن الذي يسكن ما بعده للتقييد حركةَ الإعراب، كما قال الراجز2: أنا ابن ماوية إذ جد النقرْ يريد النقر يا فتى، وهو: النقرُ بالخيل، فلما أسكن الراء ألقى حركتها على الساكن الذي قبلها3.   1 زيادات ر: قال ابن القوطية: لعج الحب قلبه، والصرد جسده: أحرقه". والصرد شدة البرد. 2 زيادات ر: "قال ابن السيد: أحسبه لعبيد بن ماوية". 3 زيادات ر: "النقير": صويت باللسان، يسكن به الفرس إذا اضطرب بفارسه، قال امرؤ القيس: أخفضه بالنقر لما علوته ... ويرفع طرفأ غير جاف غضيض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وشبيه بهذا قوله: عجبت والدهر كثيرٌ عجبه ... من عنزي سبني لم أضربه أراد: "لم أضربه"، يا فتى، فلما أسكن الهاء ألقى حركتها على الباء، وكان ذلك في الباء أحسن، لخفاء الهاء. وقال أبو النجم: أقولُ قرب ذا وهذا أزحلهُ يريد أزحلهُ يا فتى. وقال طرفة: حابسي ربعٌ وقفتُ به ... لو أطيعُ النفسَ لم أرمهُ ولم يلزمه رد الياء لما تحركت الميم، لأن تحركها ليس لها على الحقيقة، وإنما هي حركة الهاء. وأما قول الشاعر: حديث بني بدر إذا ما لقيتهم ... كنزو الدبى في العرفج المتقاربِ فليس كقوله: "وشعر كبعرِ الكبش" ولكنه وصفهم بضؤولة الأصوات وسرعةِ الكلام وإدخال بعضه في بعض. والذي يحمد الجهارة والفخامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 لرجل يمدح الرشيد وأنشدت لرجل قال يمدح الرشيد: جهير الكلام جهير العطاسِ ... جهير الرواء جهيرُ النغمْ ويخطو على الأين خطو الظليمِ ... ويعلو الرجالَ بخلقٍ عممْ1 ويروى أن الرشيد كان يأتزر في الطواف فيذنب إزاره ويباعد بين خطاه، فإذا رجع بيده كاد يفتن من يراهُ، فعند ذلك مدح بهذا الشعر.   1 زيادات ر: "الرجل هو العمانى الشاعر، وقوله: "عمم" أي جسيم؛ والأين: الإعياء، ويكون الأين الحية، وهي الأيم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 لعائشة وقد نظرت إلى رجل متماوت ويروى أن أم الؤمنين عائشة رضي الله عنهانظرت إلى رجل متماوتٍ، فقالت: ما هذا? فقالوا: أد القراء، فقالت: قد كان عمر بن الخطاب قارئاً، فكان إذا قال أسمعَ، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 لعمر وقد نظر إلى رجل يظهر النسك ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله نظر إلى رجل مظهر للنسك متماوت، فخفقه بالدرة، وقال: لا تمتُ علينا ديننا، أماتك الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وفود الروم عند عبد الملك بن صالح العباسي ويروى أن عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس أتته وفود من الروم، وقام السماطان، فأتي برج منهم، وعطس أحد من في السماطين فأخفى عطسته، فقال له عبد الملك لما انقضى أمر الوفد: هلا إذا كنت لئيم العطاس أتبعت عطستك صيحة حتى تخلع بها قلبَ العلج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 جهارة صوت العباس وكان العباس بن عبد المطلب رحمه الله، أجهر الناس صوتاً، ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما انهزم الناس يوم حنين: "يا عباس، اصرخ بالناس". ويروى أن غارة أتتهم يوماً، فصاح العباس: يا صباحاه! فاستسقطت الحوامل لشدة صوته. وقد طعن في قول النابغة الجعدي: وأزجر الكاشح العدو إذا اغـ ... ـتابك عندي زجراً على أضم1 زجر أبي عروة السباع إذا ... أسفق أن يختلطن بالغنم2 وذلك أن الرواة احتملت هذا البيت على أنه كان يزجر الذئاب ونحوها مما يغير على الغنم، فيفتق مرارة السبع في جوفه. فقال من يطعن في هذا: السبع أشد أيداً من الغنم، فإذا فعل ذلك بالسبع هلكت الغنم قبله. فقال من يحتج له: إن الغنم كانت قد أنست بهذا منه، والصوت الرائع أنسٌ لمن أنس به، كالرعد القاصف الذي لولا خشية صاعقته لم يفزع كبير فزع، ولو جاء أقل منه من جوف الأرض لذعر، ولم يبعد أن يقتل إذا أتى من حيث لم يعتد. وجملة هذا البيت أنه وصف شدة صوت المذكور. وتأويله أنه من تكاذيب الأعراب.   1 هذا البيت من زيادات ر. 2 زيادات ر: "يروى "زجر أبي عروة السباع"، بخفض السباع، كما قيل قيس الرقيات"، فصار على هذا الوجه يعرف بأبي عروة السباع، مثل ذلك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 للحسن وقد رأى رجلاً يجود بنفسه وحدثت أن الحسن نظر إلى رجل يجود بنفسه فقال: إن أمراً هذا آخر لجدير بأن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لجدير أن يخاف آخره. وقيل لرجل من اشراف العجم في علته التي مات فيها: ما بك? قال: فكر عجبت، وحسرة طويلة، فقيل: مِمَّ ذاك? فقال: ما ظنكم بمن يقطع سفراً قفراً بلا زادٍ، ويسكن قبراً موحشاً بلا مؤنس، ويقدم على حكمٍ عادلٍ بلا حجةٍ! وقال بعض المحدثين، وهو محمود الوراق: بأي اعتذار أم بأية حجةٍ ... يقول الذي يدري من الأمر: لا أدري! إذا كان وجه العذر ليس ببين ... فإن اطراح العذر خير من العذرِ واعتذر رجل إلى سلم بن قتيبة من أمرٍ بلغه عنه، فعذره، ثم قال له: يا هذا، لايحملنك الخروج من أمرٍ تخلصت منه على الدخول في أمرٍ لعلك لا تخلص منه. وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أحب إليك? فقال: الذي يسد خللي، ويغفر زللي، ويقبل عللي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 من أخبار عبد الله بن جعفر وافتقد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب صديقاً له من مجلسه، ثم جاءه، فقال: أين كانت غيبتك? فقال: خرجت إلى عرض من أعراض المدينة مع صديق لي، فقال له: إن لم تجد من صحبة الرجال بُداً فعليك بصحبة من إن صحبته زانك، ون خففت له صانك، وإن احتجت إليه مانك1، وإن رأى منك خلة سدها، أو حسنة عدها، وإن وعدك لم يجرضك2، وإن كثرت عليه لم يرفضك، وإن سألته أعطاكَ، وإن أمسكت عنه ابتداكَ. وامتدح3 نصيب عبد الله بن جعفر، فأمر له بخيل وإبل وأثاثٍ ودننير ودراهم، فقال له رجل: أمثل هذا الأسود يعطى مثل هذا المال? فقال له عبد الله [بن جعفر4] : ن كان أسود فإن شعره لأبيض، ون ثناءه لعربيٌّ، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ثياباً تبلى، ومالا يفنى، ومطايا تنضى، وأعطانا مدحاً يروى، وثناءً يبقى!. وقيل لعبد الله بن جعفر إنك لتبذل الكثير إذا سُئلت، وتضيق في القليل إذا توجرت؟ فقال: إني أبذل مالي، وأضنُّ بعقلي.   1 مانك: قام بما عليك من مئونة. 2 يريد لم يخلف وعدك. 3 س: "قال أبو العباس". 4 تكمله من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 نبذ من أقوال الحكماء وقيل ليزيد بن معاوية: ما الجود? فقال: إعطاء المال من لا تعرف، فإنه لا يصير إليه حتى يتخطى من تعرف. وخبرت عن رجل من الأنصار قال لابن عبد الرحمن بن عوف: ما ترك لك أبوك? قال: ترك لي مالاً كثيراً، فقال: ألا أعلمك شيئاً هو خير لك مما ترك لك1 أبوك?: نه لا مال لعاجز، ولا ضياع على جازم، والرقيقُ جمال وليس بمالٍ، فعليك من المال بما يعولك ولا تعوله.   1 كلمة: "لك" ساقطة من ر، وهي في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 وقال معاوية: الخفض والدعة سعةُ المنزلِ وكثرةُ الخدمِ. وقيل لخريم المري - وهو المنبز1 بخريم الناعم: ما النعمة? فقال: الأمن، فإنه ليس لخائف عيشٌ؛ والغنى، فإنه ليس لفقير عيشٌ؛ والصحة، فإنه ليس لسقيم عيشٌ. قيل: ثم ماذا? قال: لا مزيد بعد هذا. وقال سلم بن قتيبة: الشباب الصحة، والسلطان الغنى، والمروءة الصبرُ على الرجال. وقال المهلب بن أبي صفرة: العجب لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه. وكان يقول لبنيه: إذا غدا عليكم الرجلُ وراح مسلما، فكفى بذلك تقاضياً. وقال خالدُ بن عبد الله القسري: محض الجودِ ما لم تسبقه مسألة، وما لم تبعه من، ولم يزر به قصرٌ، ووافق موضع الحاجة. وقال بعض المحدثين - وهو حبيب الطائي: أسائل نصر لا تسله فإنه ... أحنُّ إلى الإرفاد منك إلى الرفد وقال آخر - وهو أبو العتاهية: لا تسألن المرء ذات يديه ... فليحفرنك من رغبت إليه المرء ما لم ترزه لك مكرم ... فإذ رزأت المرء هُنت عليهِ وكما يكون لديك من عاشرته ... فكذاك فارض بِأَن تكون لديه   1المنبز: الملقب بلقب مكروه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 النخار العذري ومعاوية ودخل النخارُ العذري على معاوية في عباءةٍ؛ فاحتقره معاويةُ، فرأى ذلك النخار في وجهه، فقال له: يا أمير المؤمنين، ليست العباءة تكلمك، إنما يكلمك من فيها. ثم تكلم فملأ سمعه، ثم نهض ولم يسأله، فقال معاوية: ما رأيت رجلاً أحقرَ أولاً ولا أجل آخراً منه1.   1 كلمة "معاوية" ساقطة من ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 محمد بن كعف القرظي وسليمان بن عبد الملك ودخل محمد بن كعب القرظي على سليمان بن عبد الملك في ثياب رثةٍ، فقال له سليمان: ما يحملك على لبس مثل هذه الثياب? فقال: أكره أن أقول: الزهدُ، فأطري نفسي، أو أقول: الفقر، فأشكو ربي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 سالم بن عبد الله بن عمر وهشام بن عبد الملك وحدثني التوزي قال: دخل سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب على هشام بن عبد الملك في ثياب وعليه عمامة تخالفها، فقال له هشام: كأن العمامة ليست من الثياب! قال: إنها مستعارة، فقال له: كم سنك? قال: ستون سنة، قال: ما رأيت ابن ستين أبقى كدنة منك1، ما طعامك? قال الخبز والزيت، قال: أما تأجمهما2? قال: إذا أجمتهما تركتهما حتى أشتهيهما، ثم خرج من عنده وقد صدع، فقال: أترون الأحول لقعني بعينه، فمات من تلك العلة3. ونظر أعرابي إلى رجل جيد الكدنة فقال: يا هذا، إني لأرى عليك قطيفة محكمة من نسج أضراسك.   1 زيادات ر: "كدنة: قوم الجسم، قال ابن القوطية في الأفعال: كدنت الشفة كدونا اسودت: كدن البعير: كثر شحمه". 2 أجم الطعام: عافه وكرهه. 3 زيادات ر: "قال ابن الأعرابي ثم لقع فلان فلانا بعينه، وزلقه، وزلقه "بتشديد اللام" وأزلقة، وشقذه، وشوهه، ويقول الرجل إذا أجاد في عمله: لا تشوه عنى، أى لا تقل لي: أجدت فتصيبنى بالعين، ورجل معين، إذا أصيب بالعين، وشاه وشائه وشقذ وشقذان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 من أخبار أبي الأسود الدؤلي ودخل أبو الأسود الدؤلي1 علي عبيد الله بن زياد في ثياب رثةِ، فكساه ثياباً حساناً، فخرج وهو يقول: كساك وما استكسيته فشكرته ... أخٌ لك يعطيك الجزيل وناصرُ وإن أحق الناس إن كنت مادحاً ... بمدحك من أعطاك والعرض وافرُ   1 زيادات ر: "اسم أبى الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو بن سفيان، وقيل عمرو بن جندل بن سفيان، وأمه من بنى عبد الدار، بصرى تابعى ثقة، من أصحاب على من كتابة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وحدثني الرياشي قال: دخل أبو الأسود الدؤلي علي عبيد الله بن زياد وقد أسن، فقال له عبيد الله يهزأ به: يا أبا الأسودِ؛ إنك لجميل، فلو تعلقت تميمة ترد عنك العيون، فقال أبو الأسود: أفنى الشباب الذي أفنيت جدتهُ ... كر الجديدين من آتٍ ومنطلقِ لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئاً أخافُ عليه لذعة الحدقِ قوله: "فلو تعلقت تميمةً" هي: المعاذة يعلقها الرجلُ. قال ابن قيس الرقيات: صدروا ليلة انقضى الحج فيهم ... طفلة زانها أغر وسيم يتقي أهلها العيون عليها ... فعلى جيدها الرقى والتميمُ وقال أبو ذؤيب: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ وقوله: "لذعة الحدق" فهو من قولك: لذعته النار، إذا لفحته، ويقال: لذع فلانُ فلاناً بأدبٍ، إذا أدبه أدباً يسيراً، كأنه كالمقدار الذي وصفناه من النار. وقول ابن قيس الرقيات: "زانها أغر وسيم"، فالأغر: الأبيض- يعني الوجه، والوسيم: الجميل، والمصدر الوسامةُ والوسامُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 لبعض المحدثين في الخضاب وقال بعض المحدثين: ذكرناه بقول أبي الأسود: قد كنت أرتاع للبيضاء في حلكٍ ... فصرت أرتاعُ للسوداء في يققٍ1 من لم يشب ليس مملاقاً حليلتهُ ... وصاحب الشيب للنسوان ذو ملقِ قد كن يفرقن منه في شبيبته ... فصار يفرق ممن كان ذا فرقِ إن الخضاب لتدليس يغش به ... كالثوب في السوق مطوياً على حرقِ ويروى: "يطوى لتدليس على حرقِ". وشبيهُ بهذا المعنى قول أبي تمام: طال إنكاري البياض وإن عمر ... تُ شيئاً انكرتُ لونَ السوادِ وحدثني الزيادي قال: قيل لأعرابي: ألا تخضب بالوسمة، فقال: لِمَ ذاك? فقال: لتصبو ليك النساء، فقال: أما نساؤنا فما يردن بنا بديلاً، وأما غيرهن فما نلتمس صبوتهن.   1 اليقق: البياض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 للعتبي وقال العتبي: وقائلة تبيض والغواني ... نوافرُ عن معالجة القتيرِ1 عليك الخطر علك أن تدنى ... إلى بيض ترائبهن حور2 فقلتُ لها المشيب نذير عمري ... ولست مسوداً وجه النذير   1 زيادات ر: "ويروي "معالجة"، بكسر اللام، فمن فتح اللام جعله مصدراً، ومن كسر اللام فهي الجماعة التي تعالج ذلك الشيء". 2 الخطر: نبات يخضب به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 ليزيد بن المهلبي وقال آخر - وهو أبو خالد يزيد بن محمدٍ المهلبي: صبغت الرأس ختلاً للغواني ... كما غطى على الريب المريبُ أعلل مرةً وأساءُ أخرى ... ولا تحصى من الكبر العيوبُ أسوف توبتي خمسين عاماً ... وظني أن مثلي لا يتوبُ يقولم بالثقاف العودُ لدناً ... ولا يتقوم العودُ الصليبُ1 وقال مالك بن دينار: جاهدوا أهواءكم، كما تجاهدون أعداءكم. وكان يقول: ما أشد فطام الكبير. وقال آخر: دعي لومي ومعتبتي أماما ... فني لم أعود أن ألاما وكيف ملامتي إذ شاب رأسي ... على خلقٍ نشأتُ به غلاما وقيل لأعرابي: ألا تغير شيبك بالخضاب? فقال: بلى، ففعل ذاك مرة، ثم لم يعاود، فقيل له: لِمَ لا تعاود الخضاب? فقال: يا هناه، لقد شد لحيايَ فجلت أخالني ميتاً.   1 الثقاف: آلة لتقويم الرماح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 لمحمود الوراق في الشيب وقال بعض المحدثين، وهو محمودٌ الوراق: يا خاضب الشيب الذي ... في كل ثالثةٍ يعودُ إن النصول إذا بدا ... فكأنه شيبُ جديدُ وله بداهة لوعةٍ ... مكروهها أبداً عتيدُ1 فدع المشيب لما ارا ... د فلن يعود كما تريدُ وقال محمودٌ أيضاً: أليس عجيباً بأن الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه فمن بين باكٍ له موجعٍ ... وبين معز مغذ إليه2 ويسلبه الشيب شرخ الشبابِ ... فليست يعزيه خلق عليه وقال أيضاً: يا خلضب الشيبة نح فقدها ... فإنما ندرجها في كفن أما تراها منذ عاينتها ... تزيد في الرأس بنقص البدن وقال أيضاً: اغتنم غفلة المنية واعلم ... أنما الشيب للمنية جسرُ كم كبير يوم القيامة يقصى ... وصغيرٍ له هنالك قدرُ قال أبو الحسن: يقال "جسرُ وجَسرُ"، وهو مأخوذ من الناقة الكبيرة، يقال لها: "الجَسْرُ".   1 يقال: عند الشىء إذا حضر، فهو عنيد. 2 مغذ: مسرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 لأبي النجم العجلي وقال أعرابي1: قالت سليمى أنت شيخٌ أنزع2 ... فقلت ما ذاك وإني أصلعُ ثم حسرتُ عن صفاةٍ تلمعُ ... فاقبلت قائلةً تسترجعُ ما رأس ذا إلا جبين أجمعُ   1 زيادات ر: "هو أبو النجم". 2 أنزع، من النزع وهو انحسار مقدم شعر الرأس من جانبي الجبهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 لرؤبة وقال آخر، وهو رؤبة: قد ترك الدهر صفاتي صفصفا ... فصار رأسي جبهة إلى القفا كأنه قد كان ربعاً فعفا ... يمسي ويضحي للمنايا هدفا لنصر بن حجاج وقد حلق عمر رأسه وكان نصر بن حجاج بن علاطٍ السلمي ثم البهزي جميلاً، فعثر عليه عمر بن الخطاب رحمه الله في أمر - الله أعلم به - فحلق رأسه، وكان أصلع، ولميبق من شعره إلا حفافُ1، كذلك قال الأصمعي فقال نصر بن حجاج: لضن ابن خطاب علي بجمةٍ ... إذا رجلت تهتز مر السلاسلٍ فضلع رأساً لم يصلعه ربهُ ... يرف رفيفاً بعد أسود جاثلٍ2 لقد حسد الفرعان أصلعُ لم يكن ... إذا ما مشى بالفرع بالمتخايلِ3 قوله: "بالفرع بالمتخايل" ليس أنه جعل بالفرع. من صلة المتخايل فيكون ذلك معناه: بالذي يختال بالفرع، فيكون قد قدم الصلة على الموصول، ولكنه   1 حفاف: شعر حول الصلعة. 2 الجائل: الشعر الكثير الملتف. 3 الفرعان: جمع أفرع، وهو الوافى الشعر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 جعل قوله: بالفرع تبييناً، فصار بمنزلة "بِك" التي تقع بعد مرحباً للتبيين، وقد مر تفسير هذا مستقصى في الكتاب المقتضب. وقال آخر: تغطى نمير بالعمائم لؤمها ... وكيف يغطي اللؤم طي العمائم فإن تضربونا بالسياط فإننا ... ضربناكم بالمرهفات الصوارمِ وإن تحلقوا منا الرؤوس فإننا ... حلقنا رؤوساً باللها والغلاصمِ1 وإن تمنعوا منا السلاح فعندنا ... سلاحٌ لنا لا يشترى بالدراهمِ جلاميد أملاء الأكف كأنها ... رؤوس رجالٍ حلقت بالمواسم   1 اللها: جمع لهاة، وهي لحمة في أقصى الفم، والغلاصم: جمع غلصمة، وهي لحمة مابين الرأس والعنق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 من شعر يزيد بن الطثرية وأخباره وكان يزيد بن الطثرية غزلا، وكان أخوه ثورٌ ذا مالٍ، فكان يزيد يأتي العطار فيقول: ادهني دهنة بناقةٍ من إبل ثورٍ، فيفعل ذلك. وكان ذا جمةٍ حسنةٍ، فإذا كثر عليه الدين هرب فتبدى1، فإذا ذكر حوشيتة - وهي امرأة كان يشبب بها2 - قدم فاقتطع من إبل أخيه ما يقضي به دينه، وفي ذلك يقول: قضى غرمائي حب أسماء بعدما ... تخوفني ظلمُ لهم وفجورُ فذلك دابي ما حييت وما مشى ... لثورٍ على ظهر الفلاة بعيرُ فاستعدى عليه ثورٌ السلطان، فأمر بحلق رأسه، فقال: أقول لثورٍ وهو يحلق لمتي ... بعقفاءَ مردودٍ عليها نصابها ترفق بها يا ثور ليس ثوابها ... بهذا ولكن عند ربي ثوابها الا ربما يا ثور فرق بينها ... أنامل رخصات حديث خضابها   1 تبدى: أقام بالبادية. 2 زيادات ر: "حوشية بنت أبى فديك بن قرة، ولها مع يزيد حديث طريف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 فتهلك مدرى العاج في مدلهمةٍ ... إذا لم تفرج مات غما صؤابها1 فجاء بها ثورٌ ترف كأنها ... سلاسلُ برقٍ لينها وانسكابها ورحت برأسٍ كالصخيرةِ أشرفت ... عليها عقاب ثم طارت عقابها خدارية كالشرية الفرد جادها ... من الصيف أنواء مطير سحابها2   1 فتهلك، قال المرصفى. "يريد تضل" والصواب: بيض القملة، والجمع صئبان. 2 خدارية. وصف للمة، وهي شدة السواد، والشرية: النخلة تنبت من النواة، والفردة: المنفردة "المرصفى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 باب لقيس بن عاصم المنقري قال رجل من المتقدمين، وهو قيس بن عاصم المنقري: أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد1 إذا ما أصبتِ الزاد فالتمسي له ... أكيلاً فإني غير آكله وحدي قصيا كريماً أو قريباً فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ... وما من خلالي غيرها شيمة العبدِ غيرها استثناءٌ مقدم. وقد مضى تفسيره. وقوله: "قصيا كريماً" من طريف المعاني، وذلك أنه لم يحتج إلى أن يشترط في نسبته الكرم، لأنه قد ضمن ذلك، واشترط في القصي أن يكون كريماً، لأنه كره أن يكون مواكله غير كريمٍ.   1 البردان: ثوبان لبسهما عامر بن أحيمر في مجلس النعمان بن المنذر. والورد، لون بين الحمرة والصفرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 لجرير يهجو بني هزان وهذا ليس من الباب الذي ذكره جريرٌ، حيث يقول في هجائه بني هزان: ضيفكم جائعٌ إذ لم يبت غزلا ... وجاركم يا بني هزان مسروقُ رأيت هزانَ في أحراجِ نسوتها ... رحبُ وهزانُ في أخلاقها ضيقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 يحيى بن نوفل يهجو وقال آخر من المحدثين، وهو يحيى بن نوفل، أنشده دعبل: كنت ضيفاً ببرمنايا لعبـ ... ـد الله، والضيف حقهُ معلومُ فانبرى يمدح الصيام إلى أن ... صمت يوماً ما كنت فيه أصومُ ثم أنشا يستام برذوني الور ... د ملحاً كما يلحُ الغريمُ [قال الأخفش: يروي برذوني الزرد وهو الأصفر] . ولعمري إن ابن قيلة إذ يستام برذون ضيفه للئيمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 لأبي دلامة بن الجون وقال رجل1، أنشدنيه السجستاني، يقول لان دعلج، وكان ابن دعلج يتولى بني تميم: إذا جئت الأمير فقل سلامُ ... عليك ورحمة الله الرحيم وأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأعراب قبح من غريم! لزوم ما علمتُ بباب داري ... لزوم الكهف أصحابُ الرقيم لهمائة علي ونصف أخرى ... ونصف النصف في صك قديم دراهم ما انفعت بها ولكن ... حبوت بها شيوخ بني تميم روى2 أبو الحسن: أتوني في العشيرة يسألوني ... ولم أكُ في العشيرةِ بالمليمِ قال أبو الحسن: لم يعرف أبو العباس هذا البيت الأخير، وهو صحيح. وجاور قيس بن عاصم بن سنان بن خالدٍ بن منقر بن عبيد تاجراً خماراً، فشرب شرابهُ، وأخذ متاعه، ثم أوثقه، فقال: افدِ نفسكَ. وقال في ذلك: وتاجرٍ فاجرٍ جاء الإله به ... كأن عثنونه أذناب أجمالي قال ذلك؛ لأن ذنب البعير يضرب إلى الصهبةِ، وفيه استواء، وهو يشبه اللحية.   1 قال المرصفى: "هو أبو دلامة بن الجون". 2 ر: "زاد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 للنمر بن تولب وقال النمرُ بن تولبٍ: إذا كنت في سعدٍ وأمكَ منهم ... غريباً فلا يغررك خالك من سعدِ فإن ابن أخت القوم مصفى إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بابٍ جلدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 قيس بن عاصم وبنو منقر واستعمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيس بن عاصم على صدقات بني سعدٍ، فتوفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقسمها قيس بعد في بني منقرٍ، وقال: من مبلغٌ عني قريشاً رسالةً ... إذا ما أتتها محكماتُ الودائعِ حبوت بما صدقت في العام منقراً ... وأيأست منها كل أطلس طامعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 من أخبار أبي خراش الهذلي وشعره وجاور عروة بن مرة أخو أبي خراشٍ الهذلي ثمالة من الأزد، فجلس يوماً بفناء بيته آمناً يخاف شيئاً، فاستدبره رجلٌ منهم من بني بلالٍ بسهم، فقصم صلبه، ففي ذلك يقول أبو خراشٍ: لعن الإله وجوه قومٍ رضعٍ ... غدروا بعروة من بني بلالٍ وأسر خراش بن أبي خراشٍ؛ أسرته ثمالة، فكان فيهم مقيماً، فدعا آسره يوماً رجلاً منهم للمنادمة، فرى ابن أبي خراشٍ موثقاً في القد، فأمهل حتى قام الآسر لحاجة، فقال المدعو لابن أبي خراشٍ: من أنت? قال: أنا أبن أبي خراشٍ، فقال: كيف دليلاكَ? قال: قطاةٌ، قال: فقم فاجلس ورائي، وألقى عليه رداءه، ورجع صاحبهُ، فلما رأى ذلك أصلت بالسيف، وقال أسيري. فنثل1 المجير كنانته، وقال: والله لأرمينك إن رمته، فني قد أجرته. فخلى عنه، فجاء إلى أبيه، فقال له: من أجارك? فقال: والله ما أعرفه، فقال أبو خراشٍ، وقال الرواة: لا نعرفُ أحداً مدح من لا يعرف غير أبي خراش: حمدتُ إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراشٌ وبعض الشر أهون من بعضِ فوالله لا نسى قتيلاً رزيته ... بجانب قوسي ما مشيت على الأرضِ بلى إنها تعفو الكلوم وإنما ... يوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنه قد سل عن ماجد محضِ ولم يك مثلوج الفؤاد مهيجاً ... أضاع الشباب في الربيلة والخفض2   1 نثل كنانته: استخرج ما فيها من النبل. 2 البيتان بين علامتي الزيادات لم يردا في نسخة الأصل، وهما في ر، س. والربيلة: السمن. والخفض: الدعة ولين العيش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ولكنه قد لوحته مخامص ... على أنه ذو مرةٍ صادق النهضِ كأنهم يسعون في إثر طائر ... خفيف المشاش عظم غير ذي نحضِ1 يبادر جنح الليل فهو مهابذ ... يحث الجناح بالتبسط والقبض قوله: قبح الإله وجوه قوم رضع فهو جماعة راضع. وقوم يقولون: هو توكيد للئيم، كما يقولون: جائع نائع، وحسن بسن، وعطشان نطشان، وأجمع أكنع. وقوم يقولون الراضع هو الذي يرتضع من الضرع لئلا يسمع الضيف أو الجار صوت الحلب فيطلب منه. وتديق ذلك ما أنشدناه أبو عثمان عمرو بن بحرٍ لرجلٍ من الأعراب ينسب ابن عم له إلى اللؤم والتوحش: أحب شيءٍ إليه أن يكون له ... حلقوم وادٍ له في جوفهِ غارُ لا تعرف الريح ممساه ومصحبه ... ولا يشب إذا أمسى له نارُ لا يحلب الضرع لؤماً في الإناء ولا ... يرى له في نواحي الصحن آثار وقوله: كيف "دليلاك" فهي كثرة الدلالة، و"الفعيلي" إنما تستعمل في الكثرة، ويقال: القتيتي لكثرة النميمة، ويقال: الهجيري لكثرة الكلمة المترددة على لسان الرجل، يقال: ذكرك هجيراي، أي هو الذي يجري على لساني، وفي الحديث: "كان هجيري أبي بكر الصديق رحمه الله بلا إله إلا الله" ويقال: كان بينهم رميا، لكثرة الرمي، وكذلك كل ما أشبه هذا. وقوله: "بجانب قوسي" فهو بلد تحله ثمالة بالسراة. وقوله: "بلى إنها تعفو الكلوم" فهي الجراح والآثار التي تشبهها، قال جرير: تلقى السليطي والأبطال قد كلموا ... وسط الرجال سليماً غير مكلومِ2   1 المشاش: رءوس العظام. 2 السليطى: نسبة إلى سليط، وهو كعب بن الحارث بن يربوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وينشد: "وسط الرجال". وتعفو تدرسُ. وقوله: "عظمه غير ذي نحض"، النحض: اللحم، يقال: يأكل ويروي الرجال محضاً. وقوله: "فهو مهابذ" يقول: مجتهد. وهذيل فيها سعي شدي، وفي جماعة من القبائل التي تحل بأكناف الحجاز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 من أخبار الحطيئة وذكر المختار من شعره ولقي الزبرقان بن بدر - وهو قاصد بصدقات قومه إلى أبي بكر الصديق رحمه الله - الحطيئة في طريقه، فقال له الزبرقان: من أنت? فقال: أنا أبو مليكة، أنا حسب موضوع، فقال له الزبرقان: إني أريد هذا الوجه، ومالك منزلٌ، فامض إلى منزلي بهذا السهم، فسل عن القمر بن القمر، وكن هناك حتى أود إليك، ففعل فأنزلوه وأكرموه، فأقام فيهم فحسدهم1 عليه بنو عمهم من بني قريع، وذلك أن الزبرقان من بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعدٍ بن زيد مناة بن تميم، وحاسدوه بنو قريع بن عوف بن كعب بن سعدِ، ولم يكن لعوف إلا قريقع وعطارد وبهدلة. وكان الذين حسدوه منهم بنو لأي بن شماس بن أنف الناقة بن قريع فدسوا إلى الحطيئة: أن تحول إلينا نعطط مائة ناقةٍ، ونشد كل طنب2 من أطناب بيتك بجلة3 بحونةٍ، قال: فأنى لي بذلك! قالوا: إنهم يريدون النجعة فإذا احتملوا فتخلف عنهم، ثم دسوا إلى امرأة الزبرقان من خبر بأن4 الزبرقان إنما قدم هذا الشيخ ليتزوج ابنته، فقدح ذلك في قلبها، فلما تحمل القوم5 تخلف الحطيئة، فاحتمله القريعيون، فبنوا له ووقوا له، فلما جاء الزبرقان صار إليهم، فقال: ردوا علي جاري، فقالوا: ليس لك بجارٍ وقد طرحته؛ فذلك حيث يقول6 الحطيئة:   1 س: "فحسده". 2 الطنب: حبل تشد به الخيمة. 3 الجلة: وعاء من خوص يوضع فيه التمر. 4 س: "أن الزبرقان". 5 س: "احتمل القوم". 6 س: "قول الحطيئة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وإن التي نكبتها1 عن معاشرٍ ... علي غضاب أن صددت كما صدوا2 أتت آل شماسٍ بن لأيٍ وإنما ... أتاهم بها الأحلام والحسبُ العد فإن الشقي من تعادي صدروهم ... وذا الجد من لانوا إليه من ودوا3 يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد أقلوا عليهم لا أباً لأبيكمُ ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا ون كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا وإن قال مولاهم على جل حادثٍ ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم، ردوا وتعذلني أفناء سعدٍ عليهم ... وما قلت إلا بالذي4 علمتُ سعدُ قوله: "جلة بحونة": أي خمة، يقال ذلك للناقة والنخلة إذا استفحلت وطالت. وقوله: نكبتها يقول: عدلت بها. وقوله: "والحسب العدُّ" معناه: الجليل الكثير، وأصل ذلك في الماء: يقال بئر عد، إذا كانت ذات مادة من العيون لا تنقطع وكل ماء ثابت فهو عد. وقوله: يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها يقول: ثقال لا يبلغ آخرها، وأصل الأناة من التأني والانتظار، يقول: لا يبلغ آخرها فتسفه. وقوله: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا وإن شئت قلت "البنا" فهما مقصوران، يقال: بنى بنية وبُنية فجمع بنيةٍ بنى   1 س: "الذى" تحريف. 2 نكبتها: عدلت بها. 3 س: الحظ والبخت. 4 س: "بالتى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وجمع بنيةٍ بنى فبنيةٌ وبنى ككسرةٍ وكسرٍ، وبنيةٌ وبنى كظلمة وظلم، فأما المصدر من بنيت فممدود، يقال بنيته بناء حسناً، وما أحسن بناءك. وقوله: "وإن عاهدوا أوفوا" أوفى، أحسن اللغتين، يقال وفى وأوفى. قال الشاعر – فجمع [بين1] اللغتين: أماابن بيض فقد أوفى بذمته ... كماوفى بقلاص النجم حاديها2 وفي القرآن: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} 3، وقال الله تبارك وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 4 وقال عز وجل: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} 5. فهذا كله على أوفى. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما روي من أنه قتل مسلماً بمعاهد، وقال: "أنا أولى من أوفى بذمته". وقال السموأل في اللغة الأخرى: وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا عاهدت أقواماً وفيت6 وقال المكعبر الضبي: [قال أبو الحسن: حفظي "المكعبر"] : وفيت وفاء لهم ير الناس مثله ... بتعشار إذ تحبو إلي الأكابر7 وقوله: وإن كانت النغماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا يقول ما قال جرير مثله: وإني لأستحيي أخي أن أرى له ... علي من الحق الذي لا يرى ليا يقول: أستحيي أن أرى نعمته علي ولا يرى على نفسه لي مثلها.   1 تكمله من س. 2 ابن بيض، بفتح الباء وكسرها: رجل تاجر مكثر، كان لقمان بن عاد يجيزه على خراج يؤدية إليه كل عام، فلما حضرته الوفاة قال لولده: لا تجاورن لقمان، وسر بمالك وأهلك، فإذا صرت إلى عقبة كذا فضع حقه عليها، فجاء لقمان فأجده وانصرف. حكاه المرصفى عن أبي زيد. 3 سورة آل عمران 76. 4 سورة النحل 91. 5 سورة البقرة 177. 6 س: "إذا ماخان أقوات وقيت". 7 تعشار: موضع بالدهناء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 وقوله: "على جل حادث" فهو الجليل من الأمر، ويقال: فلان يدعى للجلى، قال طرفة: وإن أدع للجلى أكن من حماتها1 وفيهم يقول الحطيئة2: لقد مريتكم لو أن درتكم ... يوما يجيء بها مسحي وإبساسي لما بدا لي منكم غيب أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آسي أزمعت يأساً مبيناً من نوالكم ... ولا ترى طارداً للحر كالياس ما كان ذنب بغيض لا أبالكم ... في بائس جاء يحدوا آخر الناسِ جارٍ لقوم أطالوا هون منزلهِ ... وغادروه مقيماً بين أرماسِ ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنيابٍ وأضراسِ دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناسِ قوله: "لقد مريتكم" أصل، المري المسح، يقال مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها لتدر، ويقال: مرى الفرس والناقة إذا قام أحدهما على ثلاثٍ ومسح الأرض بيده الأخرى، قال الشاعر: إذا حط عنها الرحل ألقت برأسها ... إلى شذب العيدان أو صنفت تمري3 وهذا من أحسن أوصافها. وقال بعض المحدثين يصف برذوناً بحسن الأدب4. وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك اللجام إلى انصراف الزائر5   1 تمامة: وإن تأتك الأعداء بالجهد فاجهد 2 كلمة "الحطيئة" ساقطة من س. 3 شذب العيدان: ما تفرق منها، الواحد شذبة. 4 زيادات ر: "الشعر لمحمد بن يزيد" من ولد مسلمة بن عبد الملك، يصف فرسه، وقبله: عودته فيما أزور حبابي ... إهماله وكذاك كل مخاطر 5 القربوس: حنو السرج، العنان: سير اللجام الذي تمسك به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 ويقال: مراه مائة سوطٍ ومائة درهم؛ إذا أوصل ذلك إليه، ولمراهُ موضع آخر، ومعناه مراه حقه؛ إذا دفعه عنه ومنعه منه، وقد قرىء {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} 1، أي تدفعونه، وعلى في موضع عن قال العامري2: إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها وبنو كعب بن ربيعة بن عامر يقولون: رضي الله عليك. وأما الإبساس فأن تدعو الناقة باسمها، أوتلين لها الطريق إلى الحلب، بقول أو مسح أو ما أشبه ذلك، فذا كانت الناقة تدر على الدعاء والملق قيل: ناقة بسوسُ، وذلك من صفاتها في حسن الخلق. وقوله: ولم يكن لجراحي فيكم آسي يقول: مداوٍ، الآسي: الطبيب، قال الفرزدق يصف شجة: إذا نظر الآسون فيها تقلبت ... حماليقهم من هول أنيابها العصل3 والإساء الدواء، ممدودٌ، وقال الحطيئة: هم الآسون أم الرأس لما ... تواكلها الأطبة والإساءُ فأما الأسي فمقصور، وهو: الحزن، ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 4 وقال العجاج: يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا ... قال نعم أعرفهُ، وأبلسا5 وأنحلبت عيناه من فرط الأسى فإذا قلت: "الأسى" قصرت أيضاً، وهو جمع أسوة، يقال فلان أسوتي وقدوتي. قال الله جل وعزَّ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 6.   1 سورة النجم 12. 2 زيادات ر: "هو القحيف العقيلى". 3 العصل: جمع أعصل، وهو المعوج من كل شيء فيه صلابة. 4 سورة المائدة 68. 5 أبلسا، من الإبلاس وهو الهم والحزن. 6 سورة الأحزاب 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 والرَّمس: التراب، يقال: رمسَ فلانٌ في قبره. وأشعار الحطيئة في هذا الكتاب كثيرة، ولولا أنها معروفة مشهورة لأتينا على آخرها، ولكنا نذكر منها شيئاً مختاراً. فمن ذلك قوله: جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... على خير ما يجزي الرجال بغيضا فلو شاء إذا جئناه فلم يلم ... وصادف منا في البلاد عريضا يقول: كثرت محاسنه حتى كذب ذامه، فاستغنى عن أن يكثر مادحه، ثقة بأن هاجيه غير مصدقٍ، فاعتبر هذا الكلام، فإنك تجده رأساً في بابه. ومن ذلك قوله: وإني قد علقتُ بحبل قوم ... أعانهم على الحسب الثراء إذا نزل الشتاء بجار قوم ... تجنب جار بيتهم الشتاءُ همُ الآسون أم الرأس لما ... تواكلها الأطبة والإساءُ ثم قال يخاطب الزبرقان ورهطه: ألم أك نائياً فدعوتموني ... فجاء بي المواعد والدعاءُ فلما كنت جاركم أبيتم ... وشر مواطن الحسب الإباءُ ولما كنت جارهم حبوني ... وفيكم كان لو شئتم حباءُ فلما أن مدحت القوم قلتم ... هجوت، وهل يحل لي الهجاءُ! ولم أشتم لكم حسباً ولكن ... حدوت بحيث يستمع الحداءُ ويروى أن الحطيئة - واسمه جرول بن أوس ويكنى: أبا مليكة - مر بحسان بن ثابتٍ وهو ينشدُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما [ش: أدخله سيبويه رحمه الله على أن "الجفنات" من الجمع الكثير] . فالتفت إليه، فقال: كيف ترى? فقال: ما أرى بأساً، قال حسان: انظروا إلى [هذا1] الأعرابي يقول: ما أرى بأساً، أبو من? قال: أبو مليكة، قال حسان: ما كنت علي أهون منك حيث اكتنيت بامرأة! ما أسمك? قال: الحطيئة، قال: امضِ بسلامٍ. وكان الحطيئة في حبس عمر بن الخطاب رحمه الله، باستدعاء الزبرقان عليه في هذه القصة، ولعمر يقول: ماذا تقول لأفراخ بذي مرح ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر2 ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النُّهى البشر ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن بك استأثروا إذ كانت الأثر ويرى عن أبي زيد الأنصاريّ أنه قال: ويرى الأثر والواحدة أثرة وإثرة؛ ومعناه الاستئثار. فرقّ له عمر فأخرجه، فيروى أنّ عمر رحمه الله دعا بكرسيّ فجلس عليه، ودعا بالحطيئة فأجلسه بين يديه، ودعا بإشفى وشفرة3، يوهمه أنه على قطع لسانه، حتى ضجّ من ذاك، فكان فيما قال له الحطيئة: يا أمير المؤمنين؛ إني والله قد هجوت أبي وأمي، وهجوت امرأتي، وهجوت نفسي. فتبسم عمر رحمه الله، ثم قال: فما الذي قلت? قال: قلت لأبي وأمي - والمخاطبة للأمّ: ولقد رأيتك في النساء فسؤتني ... وأبا بنيك فساءني في المجلس   1 تكملة من س. 2 ذو مرخ: واد بالحجاز. 3 الإشفى: مثقب للأساكفة يثقبون به الجلد، والشفرة: السكين العريضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وقلت لها: تنحّي فاجلسي منّي بعيداً ... أراح الله منك العالمينا أغربالاً إذا استودعت سرّاً ... وكانوناً على المتحدّثينا1 وقلت لامرأتي: أطوّف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع فقال له عمر رحمه الله: فكيف هجوت نفسك? فقال: اطّلعت في بئر فرأيت وجهي فاستقبحته، فقلت: أبت شفتاي اليوم ألاّ تكلّما ... بسوء فما أدري لمن أنا قائله أرى لي وجهاً قبّح الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله   1 زيادات ر: "قوله: كانونا، قيل: الكانون: التنمام، وقيل: الثقيل، وقيل: الذي إذا دخل على قوم كنوا حديثهم منه، وقيل: هو المصطلى، وقيل: هو كانون النار؛ لأنه ... ويحرقهن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 المثنى بن معروف مع أبي جبر الفزاري ونزل أعرابي من طيىء، يقال له المثنّى بن معروف بأبي جبر الفزاري، فسمعه يوماً يقول: والله لوددت أني أبيت الليلة خالياً بابنة عبد الملك بن مروان، فقال له المثنّى: أحلالاً أم حراماً? فقال: ما أبالي، فوثب عليه فضرب رأسه برحالة1، ثم انتقل وهو يقول: أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... على النأي أنّي قد وترت أبا جبر كسرت على اليافوخ منه رحالة ... لنصر أمير المؤمنين وما يدري على غير شيء غير أنّي سمعته ... بنى بنساء المسلمين بلا مهر   1 الرحالة: ثوب يغشى بالجلد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 من أخبار الحجاج ويروى: أن الحجاج [بن يوسف1] جلس لقتل أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقالم رجل منهم فقال: أصلح الله الأمير! إنّ لي عليك حقّا، قال: وما حقّك? قال: سبّك عبد الرحمن يوماً فرددت عليه، قال: من يعلم ذاك?   1 تكمله من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 قال: أنشد الله رجلاً سمع ذاك إلاّ شهد به، فقام رجل من الأسراء1 فقال: قد كان ذاك أيها الأمير، قال: خلّوا عنه، ثم قال للشاهد: فما منعك أن تنكر كما أنكر? قال: لقديم بغضي إيّاك؛ قال: ويخلّى عنه لصدقه. وقال عمر بن الخطاب لرجل -وهو أبو مريم السّلوليّ2-: والله لا أحبّك حتى تحبّ الأرض الدّم،. قال: أفتمنعني حقّا? قال: لا، قال: فلا بأس، إنّما يأسف على الحبّ النساء. وقال الحجاج لرجل من الخوارج: والله إني لأبغظكم، فقال له الخارجي: ادخل الله أشدنا بغضا لصاحبه الجنة. وأتى الحجاج بامرأة من الخوارج، فجعلت لا تنظر إليه؛ وكان يزيد بن أبي مسلم يرى رأي الخوارج ويكتم ذاك3، فأقبل على المرأة فقال: انظري إلى الأمير، فقالت: لا أنظر إلى من لا ينظر الله إليه. فكلّمها الحجاج وهي كالسّاهية، فقال لها يزيد: اسمهي ويلك من الأمير! فقالت: الويل لك أيها الكافر الرّدّيّ!. قال أبو العباس: والرّدّيّ عند الخوارج الذي له عقدهم ويظهر خلافه رغبة في الدنيا. وكان صالح بن عبد الرحمن كاتب الحجاج وصاحب دواوين العراق. والذي قلب الدواوين إلى العربية، ثم كان على خراج العراق أيام ولي يزيد بن   1 س: "الأسرى". 2 زيادات ر: "وهم أبو العباس رحمه الله في قوله: "أبو مريم السلولى، إنما هو أبو مريم الحنفى؛ وكان سب بغضه إياه أنه قتل أخاه زيد بن الخطاب، وكان أبو مريم صاحب مسيلمة الكذاب؛ واسم ابي مريم إياس بن صبيح ثقة كوفى، واسم أبي مريم السلولي مالك بن ربيعة، من الصحابة، روى عنه ابنه يزيد وغيره". 3 س: "ذلك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 المهلّب [العراق1] فأشجى2 يزيد، وقد كان يرى رأي الخوارج فكايده يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج، فأشار على الحجاج أن يأمره بقتل جوّاب الضّبّيّ، وهو رأس من رؤوس الخوارج، وقال يزيد: إن فعل برئت منه الخوارج وقتلته، وإن أمسك قتله الحجاج، فقتله. وخبّرت أنه قال: والله ما قتلته رغبة في الحياة، ولكنّي خفت يسبي الحجاج بناتي، وكان يقول [بعد3] : إنّي حين أقتل جوّاباً لحريص على الدنيا، فلما عذّبه عمر بن هبيرة في خلافة يزيد بن عاتكة رمي به على قمامة، وهو لمآبه4. فسمع يحكّم عليها5، وحكّم مالك بن المنذر بن الجارود، وهو بآخر رمق في سجن هشام بن عبد الملك. ودخل يزيد بن أبي مسلم على سليمان بن عبد الملك، وكان دميماً، فلما رآه [سليمان6] قال: قبح الله رجلاً أجرّك رسنه7، وأشركك في أمانته! فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين، رأيتني والأمر لك وهو عنّي مدبر، ولو رأيتني والأمر عليّ مقبل لاستكبرت منّي ما استصغرت، واستعظمت منّي ما استحقرت، فقال: أترى الحجاج استقرّ في قعر الجحيم بعد! فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل ذلك في الحجاج، فإنّ الحجاج وطّأ لكم المنابر، وأذل لكمالجبابر، وهو يجيء يوم القيامة عن يمين أبيك، وعن يسار أخيك فحيث كانا كان.   1 تكمله من س. 2 أشجاه: أحزنه. 3 تكمله من س. 4 لمآبه: لعاقبته. 5 يحكم، أي يقول بقول الخوارج: لا حكم إلا الله. 6 تكمله من س. 7 الرسن في الأصل: الحبل يقاد به البعير، وأجرك: جعلك تجره، والكلام هنا على الكناية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 باب من تكاذيب الأعراب قال أبو العباس: وهذا باب من تكاذيب الأعراب. حدّثني أبو عمر الجرميّ قال: سألت أبا عبيدة عن قول الرّاجز: أهدّموا بيتك لا أبا لكا ... وأنا أمشي الدّألى حوالكا! فقلت: لمن هذا الشعر? فقال [تقول العرب1] : هذا يقوله الضب للحسل، أيام كانت الأشياء تتكلم. الدألي: مشي كمشي الذئب، يقال: هو يدأل في مشيته، إذا مشى كمشية الذئب، من قول امرىء القيس: أقب حثث الركض والدالان2 ومن قال في بيت ابن عتمة الضبي: [حقيبة رحلها بدن وسرج] 3 ... تعارضه مرببة دؤول فنما أراد هذا، ومن قال "ذؤول" فإنماأراد السرعة، يقال: مر يذأل، إذا مر يسرع. وقوله "حوالكا" يقال: هو يطوف واله وحوله وحواليه. ومن قال: حواليه بالكسر: فقد أخطأ، وفي القرآن {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} 4 وحواليه: تثنية حوال، كما تقول: حنانية، الواحد حنان، قال الشاعر: فقالت حنان ما تيى بك ههنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف? والحنان: الرحمة، قال الله عز وجل: {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا} 5. وقال الشاعر: [وهو الحطيئة6] لعمر بن الخطاب رحمه الله:   1 تكمله من س. 2 صدره: على ربز يزداد عفوا إذا جرى 3 مابين العلامتين تكمله من ر. 4 سورة النمل 8. 5 سورة مريم 13. 6 تكمله من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا وقال طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض قال أبو العباس: وحدثني غير واحدٍ من أصحابنا، قال: قيل لرؤية: ما قولك: لو أنني عمرت سن الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل والصخر مبتل كمثل الوحل ما زمن الفطحلي? قال: أيام كانت السلام رطاباً1. قوله: "سن الحسل" مثل؛ تضربه العرب في طول العمرِ2. وأنشدني رجل من بني العنبر، أعرابي فصيح، لعبيد بن أيوب العنبري: كأني وليلى لم يكن حل أهلنا ... بواد خصيب والسلام رطابُ وحدثني سليمان بن عبد الله عن أبي العميثل مولى العباس بن محمد: تكاذب أعرابيان فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي، فإذا [أنا3] بظلمة شديدة، فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا قطعة من الليل لم تنتبه، فما زلت أحمل بفرسي عليها حتى أنبهتها، فانجابت؛ فقال الآخر: لقد رميت ظبياً مرة بسهم فعدل الظبي يمنة، فعدل السهم خلفه، فتياسر الظبي، فتياسر السهم خلفه، ثم علا الظبي فعلا السهم خلفه، فانحدر فانحدر عليه حتى أخذه. وتزعم الرواة أن عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب قال لبني الجون الكنديين يوم جبلة: إن لي عليكما حقا لرحلتي ووفادتي، فدعوني أنذر قومي من   1 السلام: جمع سلمة، وهي الحجارة الصلبة. 2 زيادات ر: "ذكر ابن جنى أن الحسل يعيش ثلاثمائة سنة"، والحسل: ولد الضب. 3 تكملة من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 موضعي هذا، فقالوا: شأنك، فصرخ بقومه بعد أن قالا له: شأنك، فأسمعهم على مسيرة ليلةٍ. ويروى عن حماد الرواية قال: قالت ليلى بنت عروة بن زيد الخيل لأبيها: أرأيت قول أبيك: بني عامر هل تعرفون إذا غدا ... أبو مكنف قد شد عقد الدوابرِ بجيش تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم منه سجداً للحوافرِ وجمع كمثل الليل مرتجس الوغى ... كثير تواليه سريع البوادر أبت عادة للورد أن يكره الوغى ... وحاجة رمحي في نمير بن عامرِ فقلت لأبي: أحضرت هذه الوقعة? فقال: نعم. فقلت: فكم كانت خيلكم? قال: ثلاث افراس، أحدها فرسه، قال: فذكرت هذا لابن أبي بكر الهذلي، فحدثني عن أبيه قال: حضرت يوم جبلة، قال: وكان قدبلغ مائة سنة؛ وكان قد أدرك أيام الحجاج، قال: فكانت الخيل في الفريقين، مع ما كان مع ابني الجوني-، ثلاثين فرساً، قال: فحدثتُ بهذا الحديث الخثعمي - وكان رواية أهل الكوفة - فحدثني: أن حثعم قتلت رجلاً من بني سليم بن منصور، فقالت أخته ترثيه: لعمري وما عمري علي بهين ... لنعم الفتى غادرتم آل حثعما وكان إذا ما أورد الخيل بيشةً ... إلى جنب أشراج أناخ فألجما فأرسلها رواً رعالاً كأنها ... جراد زهته ريح نجد فأتهما فقيل لها: كم كانت خيل أخيك? فقالت: اللهم إني لا اعرف غلا فرسه. قوله: "قد شد عقد الدواير" يريد عقد دوابر الدرع، فإن الفارس إذا حمى فعل ذلك. وقوله: "تضل البلق في حجراته" يقول: لكثرته لا يرى فيه الأبلق، والأبلغ مشهرو المنظر؛ لاختلاف لونيه، من ذلك قوله: فلئن وقفت لتخطفنك رماحنا ... ولئن هربت ليعرفن الأبلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وحجراته: نواحيه. وقوله: ترى الأكم منه سجدا للحوافر يقول: لكثرة الجيش تطحن الأكم حتى تلصقها بالأرض. وقوله: "كمثل الليل" يقول: كثرة، فيكاد يسد سواده الأفق، ولذلك يقال: كتيبة خضراءُ، أي سوداء، وكانت كتيبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي هو فيها والمهاجرون والأنصار يقال لها: الخضراء. والمرتجس: الذي يسمع صوته ولا يبين كلامه، يقال: ارتجس الرعد، من هذا. والوغى: الأصوات. والتوالي: اللواحق، يقال: تلا يتلوه، إذا اتبعهُ، وتلوتُ القرآن أي أتبعت بعضه بعضاً، والمتلية: التي معها أولادها. وقوله: فارسلها رهواً، يقول: ساكنت، قال الله جل وعزَّ: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} 1؛ ويقال: عيش راهٍ يا فتى، أي ساكن. ورعال: جمع رعيل، وهو ما تقدم من الخيل، يقال: جاء في الرعيل الأول قال عنترةُ: إذ لا أبادر في المضيق فوارسي ... ولا أوكل بالرعيل الأولِ قوله: "زهته ريح نجد فاتهما" يقول: رفعته واستخفته، قال ابن أبي ربيعة: فلما تواقفنا وسلمت أشرقت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا ومعنى أتهم أتى تهامة. وزعم أبو عبيدة [معمر بن المثنى] 2 عمن حدثه أن بكر بن وائل أرادت الغارة على قبائل بني تميم، فقالوا: إن علم بنا السليك أنذرهم، فبعثوا فارسين   1 سورة الدخان 24. 2 تكمله من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 على جوادين يريغان1 السليك، فبصرا به فقصداه، وخرج يمحص2 كأنه ظبي، فطارداه سحابة يومهما، فقالا: هذا النهار، ولو جن عليه الليل لقد فتر، فجدا في طلبه، فذا بأثره قد بال فرغا في الأرض وخدها، فقالا: قاتله الله! ما أشد متنيه! ولعل هذا كان من أول الليل فلما امتد به الليل فتر، فاتبعاه، فإذا به قد عثر باصل شجرةٍ فندر3 منها كمكان تلك، وانكسرت قوسه؛ فارتزت قصدة منها في الأرض فنشبت، فقالا: قاتله الله! واللهِ لا نتبعه بعد هذا، فرجعا عنه، وأتم إلى قومه. ش: يروى أتم بألفٍ، وتم بغير الألف ونم بالنون، ومعنى تم إلى قومه أي نفذ. فأنذرهم، فلم يصدقوه لبعد الغاية، ففي ذلك يقول: يكذبني العمران عمرو بن جندب ... وعمرو بن كعب والمكذب أكذب ثكلتكما إن لم أكن قدر أيتها ... كراديس يهديها إلى الحي موكبُ4 كراديس فيها الحوفزان وحوله ... فوارس همام متى يدع يركبوا فصدقه قوم فنجوا، وكذبه قوم فورد عليهم الجيش فاكتسحهم. وحدثني التوزي قال: سألت أبا عبيدة عن مثل هذه الأخبار من أخبار العرب? فقال لي: إن العجم تكذب فتقول: كان رجلٌ ثلثه من نحاسٍ، وثلثه من رصاصٍ، وثلثه من ثلج، فتعارضها العرب بهذا وما أشبه. من ذلك قول مهلهل بن ربيعة: فلو نشر المقابر عن كليبٍ ... فتخبر بالذنائب أي زيرِ! بيوم الشعثمين لقر عينا ... وكيف لقاء من تحت القبورِ   1 يريغان: يطليان. 2 يمحص: يعدو عدوا شديدا. 3 ندر: سقط. 4 الكراديس: جمع كردوس، وهو القطعة العظيمة من الخيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 كأنا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مديرِ كأن رماحهم أشطان بئرٍ ... بعيدٍ بين جاليها جرورِ1 فلولا الريح أسمع من بحجرٍ ... صليل البيض تقرع بالذكورِ [قال أبو الحسن: يقال فلان: زير نساءٍ، وطلب نساء، وتبع نساءٍ، وخلوا نساءٍ؛ إذا كان صاحب نساء، وذلك أن مهلهلاً كان صاحب نساء، فكان كليب يقول: إن مهلهلاً زير نساءٍ ولا يدرك بثأر، فلما أدرك مهلهلٌ بثأر كليبٍ، قال أي زير! فرفع أياً بالابتداء، والخبر محذوف، فكأنه قال: أي زير أنا في هذا اليوم!] . قال أبو العباس: وحدثني عمرو بن بحر قال: أتيت أبا الربيع الغبوي وكان من أفصح الناس وأبلغهم، ومعي رجل من بني هاشم، فقلت: أبو الرّبيع ههنا? فخرج إليّ وهو يقول: خرج إليك رجل كريم. فلمّا رأى الهاشميّ استحيا من فخره بحضرته، فقال: أكرم الناس رديفاً وأشرفهم حليفاً. فتحدثنا ملياً، فنهض الهاشمي، فقلت لأبي الربيع: يا أبا الربيع من خير الخلق? فقال: الناس والله، فقلت: من خير الناس? قال: العرب والله، فقلت: فمن خير العرب? قال: مضر والله، قلت: فمن خير مضر? قال: قيس والله، قلت: فمن خير قيس? قال: يعصر والله، قلت: فمن خير يعصر? قال: غنيّ والله، قلت: فمن خير غنيّ? قال: المخاطب لك والله، قلت: أفأنت خير الناس? قال: نعم إي والله، قلت: أيسرّك أن تحتك بنت يزيد بن المهلب? قال: لا والله، قلت: ولك ألف دينار? قال: لا والله? قلت: فألفا دينار? قال: لا والله، قلت: ولك الجنّة! فأطرق [مليّاً2] ثم قال: على ألاّ تلد منّي، وأنشد: تأبى لأعصر أعراق مهذبة ... من أن تناسب قوماً غير أكفاء فإن يكن ذاك حتماً لا مردّ له ... فاذكر حذيف فإني غير أبّاء وقوله: "أكرم الناس رديفاً" فإن أبا مرثد الغنوي كان رديف رسو الله صلى الله عيه وسلم.   1 أشطان البئر: حبالها. 2 تكمله من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وقوله: "وأشرفهم حليفاً"، كان أبو مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب. وقوله: "فاذكر حذيف"، أراد حذيفة بن بدر الفزاري، وإنما ذكره من بين الأشراف لأنه أقربهم إليه نسباً، وذاك أن يعصر ابن سعد بن قيس، وهؤلاء بنو ريث بن غطفان بن سعد بن قيس. وقد قال عيينة بن حصن يهجو ولد يعصر، وهم غنيّ وباهلة والطّفاوة: أباهل ما أدري أمن لؤم منصبي ... أحبّكم أم بي جنون وأولق1 أسيّد أخوالي ويعصر إخوتي ... فمن ذا الذي منّي مع اللؤم أحمق! فقال الباهلي يجيبه: وكيف تحبّ الدهر قوماً هم الأولى ... نواصيكم في سالف الدهر حلّقوا ألست فزاريّا عليك غضاضة ... وإن كنت كنديا فإنك ملصق وتحدّث الرواة بأن الحجاج رأى محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي، وكان ينسب بزينب بنت يوسف، فارتاع من نظر الحجاج [إليه2] فدعا به، فلما عرفه قال مبتدئاً: هاك يدي ضاقت بي الأرض رحبها ... وإن كنت قد طوفت كل مكان ولو كنت بالعنقاء أو بيسومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني3 ثم قال: والله إن قلت إلاّ خيراً، إنما قلت: ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات في كم كنت? قال: والله إن كنت إلاّ على حمار هزيل، ومعي رفيقي على أتان مثله.   1 الأولق: الجنون. 2 تكملة من س. 3 يوم: جبل بعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 ومن ذلك ما يحكون في خبر لقمان بن عاد، فإنهم يصفون أن جارية له سئلت عما بقي من بصره، لدخوله في السّنّ? فقالت: والله لقد ضعف بصره، ولقد بقيت منه بقيّة؛ إنه ليفصل بين أثر الأنثى والذكر من الذرّ إذا دبّ على الصّفا؛ في أشياء تشاكل هذا من الكذب. وحدّثت أنّ امرأة عمران بن حطّان السّدوسي قالت له: أما حلفت أنّك لا تكذب في شعر? فقال لها: أو كان ذاك? قالت: نعم، قلت: فكذاك مجزأة بن ثو ... رٍ كان أشجع من أسامة أيكون رجل أشجع من أسد! فقال لها: ما رأيت أسداً فتح مدينة قط، ومجزأة بن ثور قد فتح مدينة1. ومرّ عمران بن حطّان بالفرزدق وهو ينشد، فوقف عليه فقال: أيها المادح العباد ليعطى ... أن لله ما بأيدي العباد فاسأل الله ما طلبت إليهم ... وارج فضل المقسّم العواد لا تقل للجواد ما ليس فيه ... وتسمّ البخيل باسم الجواد وأنشدني الحسن بن رجاء لرجل من المحدثين لم يسمّه2: أبا دلف يا أكذب الناس كلهم ... سواي فإني في مديحك أكذب وأنشدني آخر لرجل من المحدثين: إنّي امتدحتك كاذباً فأثبتني ... لمّا امتدحتك ما يثاب الكاذب قال الأصمعي: قلت لأعرابي كنت أعرفه بالكذب: أصدقت قط? قال: لولا أنّي أخاف أن أصدق في هذا لقلت لك: لا.   1 زيادات ر: "مجزأة بن ثور، جعل له عمر رحمه الله رياسة بكر، فلما أسن مجزأة فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه ذاك مع ابنه شقيق بن مجزأة، وقتل رحمه الله على شتر، هو والبراء بن مالك، وكانا من أبطال المسلمين". 2 زيادات ر: "وهو بكر بن النطاح في أبى دلف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وتحدثوا من غير وجه أن عمرو بن معدي كرب كان معروفا بالكذب. وقيل لخلف الأحمر - وكان شديد التعصب لليمن -: أكان عمرو بن معد كرب يكذب? فقال: كان يكذب في المقال، ويصدق في الفعال. وذكروا من غير وجه أن أهل الكوفة من الأشراف يظهرون بالكناسة فيتحدثون على دوابهم، إلى أن يطردهم حر الشمس، فوقف عمرو بنمعدي كرب وخالد بن الصقعب النهدي، فأقبل عمرو يحدثه، فقال: أغرنا مرة على بني نهدٍ، فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت عليه فطعنته فأذريته1، ثم ملت عليه بالصمصامة، فأخذت رأسه، فقال له خالد: حلا أبا ثورٍ، إن قتيلك هو المحدث. فقال: يا هذا، إذا حدثت فاستمع، فإنما نتحدث بمثل ما تسمع لترهب به هذه المعدية2. قوله: "مسترعفين" يقو: مقدمين له، يقال: جاء فلان يرعف الجيش ويؤمن الجيش، إذا جاء متقدماً لهم، ويقال في الرعاف: رعف يرعف، لا يقال غير رعب، ويجوز يرعف من أجل العين، ليس من الوجه. وسنذكر هذا الباب بعد انقضاء هذه الأخبار؛ إن شاء الله. وقوله: حلا أبا ثور يقول: استثن، يقال: حلف ولم يتحلل، أي لم يستثن. وخبرت أن قاصا كان يكثر الحديث عن هرم بن حيان3، فاتفق هرم [مرة] 4 معه في مسجد وهو يقول: حدثنا هرم بن حيان، مرة بعد مرة، بأشياء لا يعرفها هرم، فقال له: يا هذا، أترعفني? أنا هرم بن حيان، والله ما حدثتك من هذا بشيء قط، فقال له القاص: وهذا أيضاً من عجائبك، إنه ليصلي معنا في مسجدنا خمسة عشر رجلاً، اسم كل رجل منهم هرم بن حيان، كيف توهمت أنه ليس في الدنيا هرم بن حيان غيرك!   1 أذريته: رميته. 2 المعدية: المنسوبون إلى معد. 3 زيادات ر: "الهرم: الضب، يقال إنه في الشتاء يأكل حسوله ولا يخرج، قال الشاعر: كما أكب على ذي بطنه الهرم قيل إن هرم بن حيان حملته أمه أربع سنين: ولذلك سمى هرما". 4 من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 وكان بالرقة قاص يكنى أبا عقيل، يكثر التحدث عن بني إسرائيل فيظن به الكذب، فقال له يوماً الحجاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل? قال: حنتمة، فقال له رجل من ولد أبي موسى الأشعري: في أي الكتب وجدت هذا? قال: في كتاب عمرو بن العاص. وقال القيني: أنا أصدق في صغير ما يضرني، ليجوز كذبي في كبير ما ينفعني. وأنشد المازني للأعشى - وليس مما روت الرواة متصلاً بقصيدة: فصدقتهم وكذبتهم ... والمرء ينفعه كذابه ويورى أن رجلاً وفد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله [عن بعض شيء] 1، فكذبه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أأسألك فتكذبني? لولا سخاء فيك ومقك الله عليه لشردت بك من وافدِ قومٍ". معنى ومقك أحبك، يقال ومقته أمقه، وهو على فعلت أفعلُ ونظيره من هذا المعتل ورم يرم، وولي يلي. وكذلك وسع يسع، كانت السين مكسورةً، وإنما فتحت للعين، ولو كان أصلها الفتح لظهرت الواو، نحو وجل يوجل، ووحل يوحلُ. والمصدر مقةٌ كقولك: وعد يعد عدةً، ووجد يجد جدةً. ويروى: أن رجلاً أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمِ، ثم قال: يا رسول الله، إني إنما أوخذ من الذنوب بما ظهر، وأنا أستسر بخلالٍ أربع: الزنا والسرق2 وشرب الخمر والكذب، فأيهن أحببت تركت لك سرا، فقال رسول الله: "دع الكذب". فلما تولى من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم بالزنا، فقال: يسألني رسول الله، فإن جحدت نقضت ما جعلت له، وإن أقررت حددت. فلم يزن، ثم هم بالسرق2، ثم هم بشرب الخمر، ففكر في مثل ذلك، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، قد تركتهن جمع.   1 تكمله من س. 2 السرق: السرقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وشهد أعرابي عند معاية بشهادة، فقال له معاوية: كذبت، فقال له الأعرابي: الكاذب متزمل في ثيابك، فقال معاوية: هذا جزاء من عجل. وقال معاوية يوماً للأحنف - وحدثه حديثاً: أتكذبُ? فقال: والله ما كذبتُ مذ علمت أن الكذب يشين أهلهُ. ودخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية، فقال: اسمع أبياتاً قلتهن - وكان واجداً عليه - فقال معاوية: هات، فأنشده: إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران ن كان يعقل ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن من شفرة السيف مزحلُ فقال له معاوية: لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر، ثم لم ينشب معاوية أن دخل عليه معن بن أوس المزني، فقال له: أقلت بعدنا شيئاً? قال: نعم، فأنشده: لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنيةُ أولُ حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير، فقال له معاوية: يا أبا بكر، أما ذكرت آنفاً أن هذا الشعر لك? قال: أنا أصلحت معانيه، وهو ألف الشعر، وهو بعد ظئري، فما قال من شيء فهو لي. وكان عبد الله بن الزبير مسترضعاً في مزينة. وحدثت أن عمرَ بن عبد العزيز [بن مروان1] كتب في إشخاص إياس بن معاوية المزني وعدي بن أرطاة الفزاري أمير البصرة وقاضيها يومئذ، فصار إليه عدي، فقرب أن يمزنه عند الخليفة، فقال: يا أبا وائلة، إن لنا حقاً ورحماً، فقال إياسُ: أعلى الكذب تريدني? والله ما يسرني أني كذبت كذبة يغفرها الله ولا يطلع عليها إلا هذا - وأومأ إلى أبيه - ولي ما طلعت عليه الشمس. قال أبو الحسن1: التمزين المدح؛ ولم أسمع هذه اللفظة إلا من   1 تكملة من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 أبي العباس، وهي عندي مشتقة من المازن وهو بيض1 النمل، وبهذا سميت مازن كأنه أراد منه أن يكبره. ويروى: يكثره. قال القتبي: المازن: بيض النمل. قال الشيخ: قوله: أن يمزنه عند الخليفة أي كأنه يجعله سيد مزينة، لأنه كان مزنياً، والصواب: يمزره قال الموصلي. وإني مع ذا الشيب حلو مزيرُ ولم يكن في القضاة؛ وإنما كان أميراً على البصرة. . إن مات عمر. وكتب عمر إلى عدي: اجمع ناساً ممن قبلك وشاورهم في إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة، واستقضِ أحدهما؛ فولى عدي إياساً2. ويروى أن أخا إياس صار إلى ابن هبيرة فقال: طرقني اللصوص فحاربتهم فهزمتهم، وظفرت منهم بهذا المغول3؛ فجعله ابن هبيرة تحت مصلاهُ، ثم بعث إلى الصياقلة فأحضرهم، فقال: أيعرف منكم الرجل عمله? قالوا: نعم، فأخرج المغول فقال: من عملِ أيكم هذا4? فقال قائل منهم: أنا عملت هذا، واشتراه مني هذا أمس.   1 كلمة "بيض" ساقطة من ر، س، وهي في الأصل. 2 مابين العلامتين زيادة في نسخة ر، وذكر المصحح أنها من إحدى النسخ التي رجع إليها، وموضع النقط مقطوع من الأصل المنقول عنه، وهذه الزيادة ليست في الأصل، وليست في س أيضا. 3 زيادات ر: "المغول سيف صغير". 4 س: "أيكم عمل هذه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 باب ما يجوزُ فيه "يَفْعَلُ" فيما ماضيهِ "فَعَلَ" مفتوح العين أعلم أن كان فعل على فعلَ فهو عير متعد إلى مفعولٍ، لأنه فعلُ الفاعل في نفسه، وتأويل الانتقال، وذلك قولك: كرمَ عبد الله، وظرف عبد الله. وتأويل قولي: الانتقالُ، إنماهو انتقال من حالٍ إلى حال، تقولُ: ما كان كريماً ولقد كرم، وما كان شريفا ولقد شرف، فهذا تأويله، فأما قولهم: كدت أكاد، فإنما كدت معترضة على أكادُ. وما كان من "فعل" [من] 1 الصحيح فإنه يفعل نحو: شرب يشرب، وعلم؛ وفرق، ويكون متعدياً وغير متعد، تقول: حذرت زيداً، وعلمت عبد الله، ويكون فيه مثل سمنتُ، وبخلتُ، غير متعد، وكله على يفعلُ نحو يسمن، ويبخلُ، ويعلمُ، ويطربُ. فأما قولهم في الأربعة من الأفعال؛ يحسب وييئس، وينعمُ، وييبسُ؛ فهي معترضة على يفعلُ تقولُ في جميعها: يحسبُ. وينعمُ، وييئسُ، وييبسُ. وما كان على فعل فباب يفعل ويفعِل نحو قتل يقتل. وضرب يضربُ، وقعد يقعد، وجلس يجلس، فقد أنبأتك أنه يكون متعدياً وغير متعد. فأما يأبى، ويقلى؛ فلهما علةٌ تبين عندما أذكره لك ن شاء اللهُ. ولا يكون فعل يفعلُ إلا أن يكون يعرضُ له حرفٌ من حروف الحلقِ الستة في موضع العين أو موضع اللام، فإن كان ذلك الحرفُ عيناً فتح نفسه، وإن كان لاماً فتح العين. وحروف الحلق: الهمزة، والهاءُ، والعينُ، والجاءُ، والغين؛ والخاءُ. وذلك قولهم: قرأ يقرأُ قرأً، يا فتى، قراءةً، وسأل يسألُ، وجبه يجبهُ، وذهبَ يذهبُ، وتقول: صنعَ يصنعُ، وظعنَ يظعنُ، وضبحَ يضبحُ، وكذلك فرغ يفرغُ، وسلخً يسلخُ.   1 من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وقد يجوزُ أن يجيء الحرف على أصله وفيه أحدُ الستةِ، ويجوز: زأر يزئرُ، وفرغ يفرغُ، وصبغَ يصبغُ، إلا أن الفتح لا يكون فيما ماضيه فعل إلا واحدُ هذه الحروف فيه. وأما يأبى فله علةٌ، وأما يقلى فليس يثبتُ. وسيبويه يذهبُ في يأبى إلى أنه إنما انفتح من أجل أن الهمزة في موضع فائه، والقول عندي على ما شرحت لك، من أنه إذا فتح حدث فيه حرفٌ من حروف الحلق، فإنما انفتح لأنه يصير إلى الألف، وهي من حروف الحلق، ولكن لم نذكرها لأنها لا تكون اصلاً، إنما تكون زائدةً أو بدلاً، ولا تكون مترحكةً، فإنما هي حرفٌ ساكنُ، ولا يعتمد اللسان بهِ على موضع، فهذا الذي ذكرت لك من أن يسع، ويطأ، حدهما فعلَ يفعِل في المعتل، كحسب يحسبُ، من الصحيح، ولكن فتحتهما العين والهمزة، كما تقول: ولغَ الكلب، يلغَ، والأصل يلغُ فحرف الحلق فتحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 باب أخبار عبد الله بن العباس وابنه يروة عن علي بن أبي طالب رحمةُ الله عليه أنه افتقد عبد الله بن العباس رحمه الله [في وقت صلاة الظهر1] فقال [لأصحابه1] : ما بال أبي العباس لم يحضر? فقالوا: ولدَ له مولود، فلما صلى علي رحمه الله قال: امضوا بنا إليه، فأتاه فهنأه، فقال: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، ما سميته? قال: أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه! فأمر به فأخرج إليه، فأخذه وحنكه ودعا له، ثم رده إليه، وقال: خذه إليك أبا الأملاك، قد سميته علياً، وكنيته أبا الحسن، فلما قام معاوية قال لابن عباسٍ: ليس لكم اسمه وكنيته، قد كنيته أبا محمدٍ، فجرت عليه. وكان علي سيداً شريفاً بليغاً، وكان له خمسمائة أصل زيتون، يصلي في كل يوم إلى كل أصلٍ ركعتين فكان يدعى ذا الثفنات2. وضرب بالسوط مرتين كلتاهما ضربه الوليد، إحداهما: في تزوجهِ لبابة بنت عبد الله بن جعفر، وكانت عند عبد الملك، فعض تفاحة ثم رمى بها إليها - وكان أبخر - فدعت بسكين، فقال: ما تصنعين به?3 قالت: أميطُ عنها الأذى، فطلقها، فتزوجها علي بن عبد الله، فضربه الوليد، وقال: إنما تتزوج بأمهات الخلفاء لتضع منها، لن مروان بن الحكم تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية ليضع منها، فقال علي بن عبد الله: إنما أرادت الخروج من هذه البلدة، وأنا ابن عمها فتزوجتها لأكون لها مخرجاً. وأما ضربه إياه في المرة الثانية فإنا الثانية فإنا نرويه من غير وجهٍ، ومن أتم ذلك ما حدثني أبو عبد الله محمدُ بن شجاعٍ البلخي4 في إسناد له متصلٍ، لست   1 من س. 2 الثفنات: جمع ثفنة، وهي من كل ذي أربع ما يصيب الأرض منه. 3 أى بالسكين، والسكين تذكر وتؤنث. 4 زيادات ر، "هو محمد بن شجاع الثلجى، كذا صوابه". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 أحفظه، يقولُ في آخر ذلك الإسناد: رايت علياً مضروباً بالسوط يدار ب على بعير ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا علي بن عبد الله الكذاب! قال: فأتيته فقلت: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكذب? قال: بلغهم قولي: إن هذا الأمر سيكون في ولدي. والله ليكونن فيهم حتى يملكهم عبيدهم الصغارُ العيونِ، العراضُ الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة. ومع هذا الحديث آخر شبيه بإسناده، إن علي بن عبد الله دخل على سليما بن عبد الملك، ومعه ابنا ابنه، الخليفتان: أبو العباس، وأبو جعفر - قال أبو العباس: وهذا غلط، لما أذكره لك، إنما ينبغي أن يكون دخل على هشام - فأوسع له على سريره، وسأله عن حاجته، فقال: ثلاثن ألف درهم علي دينً، فأمر بقضائها، قال له: وتستوصي بابني هذين خيراً، ففعل فشكره، وقال وصلتك رحمُ، فلما ولى علي قال الخليفة لأصحابه: إن هذا الشيخ قد اختل وأسن وخلط فصار يقول: إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده، فسمع ذلك علي فالتفت إليه فقال: والله ليكونن ذاك؛ وليملكن هذان. قال أبو العباس: أما قولي: "إن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن سليمان"، فلأن محمد بن علي بن عبد الله كان يمنع من تزوج الحارثية، للحديث المروي، فلما قام عمر بن عبد العزيز جاءه محمدٌ، فقال له: إن أردت أن أتزوج بنت خالي من بني الحارث بن كعبٍ، أفتأذن لي [يا أمير المؤمنين1] . فقال عمر: تزوج - رحمك الله - من أحببت، فتزوجها، فأولدها أبا العباس أمير المؤمنين، وعمر بعد سليمان، فلا ينبغي أن يكون تهيأ له أن يدخل على خليفة حتى يترعرع. ش: كذا وقع في الأم والرواية، والصحيح لهما أن يدخلا على خليفة حتى يترعرعا. فلا يتم مثل هذا إلا في أيام هشام.   1 تكملة من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وكان عبد الملك يكرم علياً ويقدمهُ، فحدثني التوزي؛ قال: قال علي بن عبد الله: سايرت يوماً عبد الملك، فما جاوزنا إلا يسيراً حتى لقيه الحجاج قادماً عليه، فلما رآه ترجل ومشى بين يديه، فخب عبد الملك، فأسرع الحجاج، فزاد عبد الملك، فهرول الحجاج، فقلت لعبد الملك، أبك موجدة على هذا? فقال: لا، ولكنه رفع من نفسه، فأحببت أن أغض منه. وحدثني جعفر بن عيسى بن جعفر الهاشمي، قال: حضر علي عبد الملك وقد أهدي له من خراسان جارية وفص وسيف، فقال: يا أبا محمدٍ، إن حاضر الهدية شريك فيها، فاختر من الثلاثة واحداً، فاختار الجارية، وكانت تسمى سعدى، وهي من سبي الصغدِ1 من رهط عجيف بن عنبسة، فأولدها سليمان وصالحاً ابني عليٍ. وذكر جعفر بن عيسى أنه لما أولدها سليمان اجتنبت فراشه، فمرض سليمان من جدري خرج عليه، فانصرف علي من مصلاهُ، فإذا بها على فراشه؛ فقال: مرحباً بك يا أم سليمان، فوقع بها، فأولدها صالحاً، فاجتنبت بعدُ، فسألها عن ذلك? فقالت: خفت أن يموت سليمان فينقطع النسب بيني وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالآن إذا ولدتُ صالحاً فبالحري إن ذهب أحدهما أن يبقى الآخر، وليس مثلي اليوم من وطئه الرجالُ. وزعم جعفر أنه كانت فيها رتةُ. فالرتةُ: تعذرُ الكلام إذا أراده الرجل، فهي الآن معروفةٌ في ولد سليمان وولد صالحٍ. وكان علي يقول: أكره أو أوصي إلى محمد -وكان سيد ولده - خوفا من أن أشينه بالوصية، فأوصى إلى سليمان، فلما دفن علي جاء محمد إلى سعدى   1 الصغد: كورة قصبتها سمرقند. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 [ليلا1ً] فقال [لها] 1: أخرجي إلي وصية أبي، فقالت: إن أباك أجل من أن تخرج وصيته ليلاً، ولكنها تأتيك غداً، فلما أصبح غدا بها عليه سليمان، فقال: يا أبي ويا أخي، هذه وصية أبيك، فقال محمدٌ: جزاك الله من ابن وأخٍ خيراً، ما كنتُ لأثرب على أبي بعد موته، كما لم أثرب عليه في حياته. قال أبو العباس: التمتمة: التردد في التاء. والفأفأة: التردد في الفاء. والعقلة: التواء اللسان عند إرادة الكلام. والحبسة: تعذر الكلام عند إرادته. واللفف: إدخال حرف في حرفٍ. . والرتةُ: كالرتج تمنع أول الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل. والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا يتبين لك تقطيع الحروف. والطمطمة: أن يكون الكلام مشبهاً لكلامِ العجم. واللكنة: أن تعترض على الكلام اللغة الأعجمية. وسنفسر هذا بحججه حرفاً حرفاً، وما قيل فيه، إن شاء الله. واللثغة: أن يعدل بحرفٍ إلى حرف. والغنة: أن يشرب الحرف2 صوت الخيشوم. والخنة: أشد منها. والترخيم: حذف الكلام، يقال: رجل فافاء يا فتى! تقديره فاعالٌ ونظيره من الكلام: ساباطٌ وخاتام. قال الراجز: يا مي ذات الجورب المنشق ... أخذت خاتامي بغير حق   1 تكملة من س. 2 زيادات ر: كذا ذكره أبو العباس بغير همز الألف الأولى، والصحيح أنه بالهمز على "فعلال" مثل "خضخاض"، و"قمقام"، فالذي حكى أبو العباس غلط؛ لأن سيبوية رحمه الله قال أبو الحسن. يقال: "خاتم" على وزن "دانق" و"خاتم" على وزن ضارب، وخيتام على وزن ديان وخاتام على وزن "ساباط". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 لربيعة الرقي يمدح يزيد بن حاتم وقال ربيعة الرقي في مدحه يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب - وربيعة احتج به الأصمعي - وذمه يزيد بن اسيدٍ السلمي: لشتان ما بين الزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وقال آخر أيضاً: ليس بفأفاءٍ ولا تمتامِ ... ولا محت سقطِ الكلامِ وقال الشاعر: وقد تعتريه عقلة في لسانه ... إذا هز نصل السيف غير قريب وزعم عمرو بن بحر الجاحظ عن محمد بن الجهم قال: أقبلت على الفكر في أيام محاربة الزّطّ، فاعترتني حبسة في لساني. وهذا يكون لأن اللسان يحاتج إلى التمرين على القول، حتى يخفّ له، كما تحتاج اليد إلى التمرين على العمل، والرّجل إلى التمرين على المشي، وكما يعانيه موتر القوس ورافع الحجر ليصلب ويشتدّ، قال الراجز: كأن فيه لففاً إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق وقال ابن المقفع: إذا كثر تقليب اللسان رقّت جوانبه ولانت عذبته. وقال العتّابي: إذا حبس اللسان عن الاستعمال اشتدت عليه مخارج الحروف. وأما الرّتة فإنها تكون غريزة، قال الراجز: يا أيها المخلّط الأرت ويقال: إنها تكثر في الأشراف، ولم توجد تختص واحداً دون واحد. وأما الغمغمة فقد تكون من الكلام وغيره، لأنه صوت لا يفهم تقطيع حروفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 أفصح الناس وحدّثني من لا أحصي من أصحابنا عن الأصمعي عن شعبة عن قتادة، قال: قال معاوية يوماً: من أفصح الناس? فقام رجل من السماط فقال: قوم تباعدوا عن فراتية العراق، وتيامنوا عن كشكشة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. فقال له معاوية: من أولئك? فقال: قومي يا أمير المؤمنين، فقال له معاوية: من أنت? قال: أنا رجل من جرم. قال الأصمعي: وجرم من فصحاء الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 قوله: "تيامنوا عن كشكشة تميم"، فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شيئاً، لقرب الشين من الكاف في المخرج، وأنها مهموسة مثلها، فأرادوا البيان في الموقف، لأن في الشين تفشياً، فيقولون للمرأة: جعل الله لك البركة في دارش، ويحك مالش، والتي يدرجونها يدعونها كافاً، والتي يقفون عليها يبدلونها شيناً. وأما بكر فتخلف في الكسكسة، فقوم منهم يبدلون حركة كاف المؤنث في الوقف بالسين، فيزيدونها بعدها، فيقولون: أعطيتكس. أما الغمغمة فما ذكرت لك. وقال الهارب1 لامرأته يوم الخندقة، وذاك أنها نظرت إليه يحد حربة في يوم فتح مكة، فقالت: ما تصنع بهذه? قال: أعددتها لمحمد وأصحابه؛ فقالت: والله إن أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، فقال لها: إني لأرجو أن أخدمك بعضهم؛ وأنشأ يقول: إن تقبلوا فما بي علة ... هذا سلاح كامل وأله وذو غرارين سريع السلة الألة: الحربة، والغرار ههنا: الحد، يعني "بذي غرارين" السيف. فلما لقيهم خالد يوم الخندقة انهزم الرجل، فلامته امرأته، فقال: إنك لو شهدت يوم الخندقة ... إذ فر صفوان وفر عكرمه ولحقتنا بالسيوف المسلمه ... يفلقن كل ساعد وجمجمه ضرباً ولا تسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت2 حولنا وجمجمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه   1 زيادات ر: "الهارب هو أبو عثمان الهذلي"، ويقال له الرعاش، ويقال إن الرجز المذكور بعد هذا لحماس ابن قيس أخي بنى بكر بن عبد مناة، أنشدة له أبو إسحاق، والخندمة: جبل دخل منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة يوم الفتح، وقيل: الخندمة مشى فيه إسراع، فأضيف إلى اليوم لما كثر فيه. 2 النهيت: صوت الأسد دون زئيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وأما الطمطمانية، ففيها يقول عنترة: تبري له حول النعام كأنها ... حزق يمانية لأعجم طمطم وكان صهيب أبو يحيى صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرتضخ لكنة رومية، ويذكرون أن نسبه في النمر بن قاسط صحيح. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة". وقال عمر لصهيب في قوله: إنه من النمر بن قاسط: قد سمعت ما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن انتمى إلى غير نسبه، فقال صهيب: أنا من القوم، ولكن وقع علي سباء. وكان عبد بني الحسحاس يرتضخ لكنة حبشية، فلما أنشد عمر بن الخطاب: عميرة ودع إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال عمر: لو كنت قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، فقال: ما سعرت، يريد: ما شعرت. وكان عبيد الله بن زياد يرتضخ لكنة فارسية، وإنما أتته من قبل زوج أمه شيرويه الإسواري. ويقال: إن علياً عليه السلام عاد زياداً في منزل شيرويه، فقال عبيد الله يوماً لرجل كلمه فظن به رأي الخوارج1: أهروري منذ اليومِ? يريد: أحروري، وهذه الهاء تشترك في قلبها من الحاء أصنافٌ من العجم. وكان زيادٌ الأعجم - وهو رجلٌ من عبد القيس - يرتضخ لكنةً أعجمية، يذهب فيها إلى مذهب قوم بأعيانهم من العجم. وأنشد المهلب بن أبي صفرة في مدحه إياه: فتى زاده السلتان في المدح رغبةً ... إذا غير السلتان كل خليلِ   1 زيادات ر، "الرجل الذي كلمه عبيد الله بن زياد وظن أنه من الخوراج هانىء بن قبيصة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 يريد السلطان، وذلك أن بين التاء والطاء نسباً، فلذلك قلبها تاءً، لأن التاء من مخرج الطاء فقال: السلتان. أما الغنة، فتستحسن من الجارية الحديثة السن، لأنها ما لم تفرط تميل إلى ضربٍ من النغمة، قال ابن الرقاع العاملي يصف الظبية وولدها: تزجي أغن كأن إبرةَ روقهِ ... قلمٌ أصاب من الدواةِ مدادها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 باب لمحمد بن عبد الله الثقفي قال محمد بن عبد الله بن نميرٍ الثقفي: لم تر عيني مثل سربٍ رأيته ... خرجن من التنعيم معتجرات مررن بفخ ثم رحن عشيةً ... يلبين للرحمن مؤتجراتِ تضوع مسكا بطن نعمانَ أن مشتْ ... به زينب في نسوةٍ عطراتِ وقامت تراءى يوم جمعٍ فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفاتِ ولما رأت ركبَ النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذراتِ دعت نسوةً شمَّ العرانين بدناً ... نواعمَ لاشعثاً ولا غبراتِ1 فأدنين لما قمنَ يحجبن دونها ... حجاباً من القسي والحبراتِ أحل الذي فوق السمواتِ عرشهُ ... أوانس بالبطحاء معتمراتِ يخبئن أطراف البنانِ من التقى ... ويخرجن جنح الليل مختمراتِ قوله: "مثل سربٍ رأيتهُ"، هو القطعة من النساء، أو من الظباءِ، أو من البقرِ، أو من الطير، كما قال: لم تر عيني مثل سربٍ رأيته ... خرجن علينا من زقاق ابن واقف فهذا يعني نساءً2. ويقالُ: مرت بنا سربةٌ من الطير، في هذا المعنى، قال ذو الرمةِ: سوى ما أصاب الذئب منه وسربةٌ ... أطافت به من أمهاتِ الجوازلِ ويقال: فلانٌ واسعٌ السربِ، يعني بذلك الصدرَ، ويقال: خل لفلانٍ سربهُ، أي طريقه الذي يسربُ فيه، ويقال للإبل كذلك بالفتح: لأذعرن سربكَ. ويقال: حذراتُ، حذراتُ، ويقظٌ، ويقُظٌ؛ قال ابن أحمر: هل ينسئن يومي إلى غيره ... أني حوالي وأني حذرُ   1 زيادات ر: "ولا غفرات"، بالفاء أخت القاف، من الغفر وهو الشعر الذي ينبت في اللحيين؛ يقال: غفرت المرأة إذا نبت لها ذاك الشعر". 2 زيادات ر: "القطيع من السباع يقال له سرب، قاله ابن جنى، وكذا من الماشية كلها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وقوله: وكنّ من أن يلقينه حذراتِ الأصل "من أن يلقينه" ولكن الهمزة إذا خففت وقبلها ساكنٌ ليس من حروف اللين الزوائد، فتخفيفها - متصلة كانت أو منفصلة - أن تلقي حركتها على ما قبلها وتحذفها، تقول: من أبوك?، فتفتح النون وتحذف الهمزة، ومن أخوانك?، ومن أم زيدٍ?؛ فتضم النون وتكسرها وتفتحها، على ما ذكرت لك، وتقول: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ} 1 وفلانٌ له هيةٌ، وهذه مرةٌ، إذا خففت الهمزة في الخبء والهيئة والمرأةِ، وعلى هذا قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ} 2 لأنها كانت اسأل فلما حركت السين بحركةِ الهمزة سقطت ألف الوصلِ، لتحرك ما بعدها، وإنما كان التخفيف في هذا الموضع بحذف الهمزةِ، لأن الهمزةَ إذا خففت قربت من الساكن، والدليل على ذلك أنها لا تبتدً إلا محققة، كما لا يبتدأ إلا بمتحركٍ، فلما التقى الساكن وحروف تجري مجرى الساكن حذفت المعتل منها، كما تحذف لالتقاء الساكنين. وقوله: "دعت نسوةٌ شم العرانين"، الشماء السابقة الأنف، والمصدر الشمم. وقال أحد الشعراء يمدح قثم بن العباس: نجوت من حلٍّ ومن رحلةٍ ... يا ناق إن قربتني من قثمْ إنكِ إن قربتنيه غداً ... عاش لنا اليسر وماتَ العدمْ في باعهِ طولٌ وفي وجههِ ... نورٌ وفي العرنين منه شممْ لم يدرِ ما لا وبلى قد درى ... فعافها واعتاض منها نعمْ قال أبو الحسن: أنشدنيه أبي لسليمان بن قتة، وزادني: أصم عن ذكر الخنا سمعهُ ... وما عن الخير به من صممْ والعرنين والمرسن والأنف واحدٌ، لما يحيط بالجميع. والبدن: واحدها بادنٌ كقولك: شاهدٌ وشهدٌ، وضامرٌ وضمرٌ، ن وهو العظيم   1 سورة النمل 25. 2سورة البقرة 211. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 البدنِ، يقالُ: بدن فلانٌ، إذا كثر لحمه، وبدنَ، إذا أسنَّ. وفي الحديثِ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني قد بدنت، فلا تسبقوني بالركوع والسجود1". والأشعث والشعثاء: الخاليان من الدهن، وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل: من كان حين تمس الشمس جبهته ... أو الغبارُ يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته ... فسوف يسكن يوماً راغماً جدثا قال أبو الحسن، وزادني أبي: في بطنِ مظلمةٍ غبراءَ مقفرةٍ ... كيما يطيل بها في بطنها اللبثا تجهزي بجهازٍ تبلغين به ... يا نفس واقتصدي لم تخلقي عبثا   1 زيادات ر: "من رواه: "بدنت"، بضم الدال فقد أخطأ؛ لآن "بدن" بمعنى ضخم، ولم يكن من صفته عليه السلام أنه ضخم الجسم، ولكنه الرجل بين الرجلين، ومعنى "بدن" بالتشديد، أسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 لعمر بن أبي ربيعة في أم عمر بنت مروان وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة1: ونظر إلى أم عمر بنت مروان بن الحكم، وكانت صارت إليه متنكرة، فرته وقضت من محادثته وطراً، ثم انصرفت، فلما رجعت من منى عرفها، فعلمت ذلك، فبعثت إليه: لا ترفع بي صوتاً، وأهدت له ألف دينار، فاشترى بها عطراً وبزاً وأهداه لها، فأبتْ أن تقبله، فقال: إذاً والله أنهبه فيكون أذيعَ له فقبلته، وفي ذلك يقول: وكم من قتيلٍ لايباءُ به دمٌ ... ومن غلقٍ رهناً إذا ضمه منى وكم مالىءٍ عينيه من شيء غيرهِ ... إذا راح نحو الجمرة البيضُ كالدمى يجررن أذيال المروط بأسؤقٍ ... خدالٍ إذا ولين أعجازها روى أوانس يسلبن الحليم فؤاده ... فيا طولَ ما حزنٍ ويا حسنَ مجتلى! فلم أر كالتجمير منظرَ ناطرٍ ... ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى وفيها أيضاً يقول: أيها الرائج المجد ابتكار ... قد قضى من تهمة الأوطارا ليت ذا الحج كان حتماً علينا ... كل شهرين حجةً واعتمارا   1 ر: "عمر بن أبي ربيعة" وما أثبته عن الأصل، س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 قوله: وكم من قتيل لا يباء به دمٌ يقول: لا يقاد به قاتله، وأصل هذا أنه يقال: أبأت فلاناً بفلانٍ، فباء به، إذا قتلته به، ولا يكاد يتسعمل هذا إلا والثاني كفءٌ للأول، فمن ذلك قولُ مهلهلِ بن ربيعة، حيث قتل بجير بن الحارث بن عبادٍ، فقيل للحارث - ولم يكن دخل في حربم: إن ابنك قتلَ، فقال: إن ابني لأعظم قتيلٍ بركةً، إذ أصلح الله به بين ابني وائلٍ، فقيل له: إنه لما قتلَ قال مهلهلٌ: بؤ بشسعِ نعلِ كليبٍ1؛ فعند ذلك أدخل الحارث يه في الحرب، وقال: قربا مربط النعامةِ مني ... لقحت حرب وائل عن حيال2 لا بجير أغنى قتيلاً ولا رهـ ... ـط كليب تزاجروا عن ضلالِ لم أكن من جناتها علمَ اللهُ ... وإني بحرها اليوم صالي وقالت ليلى الأخيليةُ: فإن تكنِ القتلى بواءً فإنكم ... فتى ما قتلتم آل عوف بن عامرِ وقال التغلبي3: ألا تنتهي عنا ملوكٌ وتتقي ... محارمنا لا يبوء الدم بالدمِ ويقال: باء فلانٌ بذنبهِ، أي. بخع به وأقر، قال الفرزدق لمعاوية: فلو كان هذا الحكُ في غير ملككم ... لبؤت به أو غص بالماء شاربهْ ويقال: باء فلانٌ بالشيء، من قولٍ أو فعلٍ، أي احتمله فصارَ عليه. وقال المفسرون في قول الله جل وعزَّ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} 4، أي يجتمعا5 عليك فتحملهما.   1 الشسع: الزمام الذي يكون بين الإصبع الوسطى والتي تليها. 2 مربط: اسم مكان الربط، والنعامة: اسم فرسه. 3 هو جابر بن حنى؛ وفي ر: "عمر بن حبى"، وهو خطأ صوابه من الأصل، س. 4 سورة المائدة 29. 5 كذا في الأصل، ر وفي س: "يجتمعان". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وأما قوله: "ومن غلقٍ رهنٍ1" فمن جر فهو من قولهم: رهن غلقٌ، فلما قدم النعت اضراراً أبدل منه المنعوتَ، ولو قال: "ومن غلقٍ رهناٌ" فنصب على الحال من المعرفة بقي الاسم المضمر فيغلق. وقوله: إذا ضمهُ منى فإنما سميت منى لما يمنى فيها من الدم، يقالُ في المني - وهي النطفة - منى الرجلُ وأنى، والقراءةُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} 2 ويقال: مذى الرجلُ وأمذى، وودى وأودى، فقولهم: وذى، يعني البلةَ3 التي تكونُ في عقبِ البولِ كالمذي، وأما المذي فيعتري من الشهوةِ والحركةِ. وقال علي بن أبي طالب رحمة الله: كل فحلٍ مذاءٌ. ومن كلام العرب: كل فحلٍ يمذي وكل أنثى تقذي؛ وهو أن يكون منها مثل المذي ولمَنَى موضعٌ آخر، يقال: منى الله لك خيراً، أي قدر لك خيراً، ويقال: منى اللهُ أن ألقى فلاناً، أي قدرَ، والمنيةٌ من ذا، يقال: لقيض فلانٌ منيته، أي ما قدرَ له من الموت، فأما المنيئة بالهمزة فهي المدبغةُ، وهي المكان الذي يدبغ فيه. وقوله: إذا راح نحو الجمرة البيضُ كالدمى الجمرة إنما سميت لاجتماع الحصى فيها، ومن ثم قيل: لا تجمروا المسلمين فتفتنوهم وتفتنوا نساءهم، أي لا تجمعوهم في المغازي، والتجمير التجميع. وكذلك قيل في جمراتِ العرب، وهم: بنو نمير بن عامرِ بن صعصعةَ، وبنو الحارث بن كعب بن علةَ بن جلدٍ، وبنو ضبةَ بن أدِّ بن طابخةَ، وبنو عبس بن بغيض بن ريثٍ. لأنهم تجمعوا في أنفسهم ولم يدخلوا معهم غيرهم. وأبو عبيدةَ لميعدد فيهم عبساً في كتاب الديباج ولكنهقال: فطفئت جمرتانِ، وهما بنو ضبةَ - لأنها صارت إلى الرباِ فحالفت - وبنو الحارثِ، لأنها صارت إلىمذحجٍ؛ وبقيت بنو نميرٍ إلى الساعة، لأنهالم تحالف، وقال النميري يجيب جريراً: نميرٌ جمرةُ العربِ التي لم ... تزل في الحرب تلتهب التهابا وإني إذا أسبُ بها كليباً ... فتحت عليهم للخسف بابا   1 رسمت في ر، وتحتها كسرتان وفوقها فتحتان. 2 سورة الواقعة 58. 3 زيادات ر: "بكسر الباء رواية عاصم، وبفتحها رواية ابن سراج". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وقال في هذا الشعرِ: ولولا أن يقال هجا نميراً ... ولم تسمع لشاعرها جوابا رغبنا عن هجاء بني كليبٍ ... وكيف يشتام الناس الكلابا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 لعمر بن أبي ربيعة في الثريا بنت علي وقال عمرُ بن عبد الله بن أبي ربيعة: ليت شعري هل أقولن لركبٍ ... بفلاة هم لديها هجوع طالما عرستم فاستقلوا ... حان من نجم الثريا طلوعُ إن همي قد نفى النوم عني ... وحديث النفس شيءٌ ولوعُ قال لي فيها عتيق مقالاً ... فجرت مما يقولُ الدموعُ قال لي: ودع سليمى، ودعها ... فأجاب القلبُ: لا أستطيعُ لا تلمني في أشتياقي إليها ... وأبكِ لي مما تجنُّ الضلوعُ قوله: حان من نجم الثريا طلوعُ كنايةٌ، وإنما يريدٌ الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أميةَ الأصغر، وهم العبلات. وكانت الثريا وأختها عائشة أعتقتا الغريض المغني، واسمه عبدُ الملك، ويكنى أبا يزيد، ويقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي: إنما سمي الغريض بالطلع، لأن الطلع يقالُ له الإغريض، وليس هو عندي ما قال، وإنما سمي الغريض لطرائته، يقال: لحمُ غريضٌ. وكانت الثريا موصوفة بالجمال، وتزوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوفٍ الزهري، فنقلها إلىمصر، فقال عمرُ، يضربُ لهما المثل بالكوكبين: أيها المنكحُ الثريا سهيلاً ... عمركَ الله، كيف يلتقيانِ! هي شاميةٌ إذا ما استقلت ... وسهيلٌ إذا استقل يماني وقوله: قال لي فيها عتيق مقالاً يزعمُ الرواة أن كل شيء ذكر فيه عتيقاً أو بكراً فإنما يعني ابن أبي عتيقٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 طرف من أخبار ابن عتيق وكان ابن أبي عتيق من نساكِ قريشٍ وظرفائهم، بل كان قد بذهم ظرفاً، وله أخبارٌ كثيرةٌ، سمير بعضها في الكتابِ، إن شاء الله. فمن طريف أخباره أنه سمعَ وهو بالمدينة قول ابن أبي ربيعة: فما نلت منها محرماً غير أننا ... كلانا من الثوب المطرفِ لابسُ فقال: أبنا يعلبُ ابن أبي ربيعة! فأي محرم بقي! فركب بغلته متوجهاً إلى مكة، فلما دخل أنصاب الحرم، قيل له: أحرم، قال: إن ذا الحاجةِ لا يحرم، فلقي ابن أبي ربيعة فقال: أما زعمت أنك لم تركب حراماً قط! بلى، قال: فما قولك: كلانا من الثوب المطرفِ لابسُ فقال له: إذاً أخبركَ! خرجت بعلةِ المسجد، فصرنا إلى بعض الشعابِ، فأخذتنا السماءُ، فأمرتُ بمطرفي فسترنا الغلمانُ به، لئلا يروا بها بلةً فيقولوا: هلا استترت بسقائف المسجد! فقال لهابن أبي عتيقٍ: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنةٍ. وهو الذي سمع قول عمر بن أبي ربيعة: من رسولي إلى الثريا بأني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ! فلبس ثيابه وركب بغلته وأتى باب الثريا، فاستأذن عليها، فقالت: والله ما كنت لنا زواراً، فقال: أجل، ولكني جئت برسالةٍ، يقول لك ابن عمك عمرُ بن أبي ربيعةَ: ضقت ذرعاً بهجرك والكتابِ فلامه عمرُ، فقال له ابن أبي عتيق: إنما رأيتك متلدداً تلتمس رسولاَ، فخففت في حاجتك، فإنما كان ثوابي أن أشكرَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 ومن طريف أخباره أن عائشة بنت طلحة عتبت على مصعب بن الزبير فهجرته، فقال مصعبُ: هذه عشرة آلاف درهم لمن احتال لي أن تكلمني، فقال له ابن أبي عتيق: عدلِ المال، ثم صار إلى عائشة، فجعل يستعتبها لمصعب، فقالت والله ما عزمي أن أكلمه أبداً. فلما رأى جدها قال لها. يا بنتَ عم، إنه قد ضمن لي إن كلمته عشرةَ آلاف درهمٍ، فكلميه حتى آخذها، ثم عودي إلى ما عودكِ اللهُ. ومن أخباره أن مرون بن الحكم قال يوماً: إني لمشغوف ببغلة الحسن بن علي رحمهما الله، فقال له ابن أبي عتيق: إن دفعتها إليك، أتقضي لي ثلاثين حاجةً? قال: نعم، قال: إذا اجتمع الناس عندك العشية فإني آخذ في مآثر قريش، ثم أمسك عن الحسن، فلمني على ذلك، فلما أخذالناس مجالسهم أخذ في مآثر قريشن فقال له مروان: ألا تذكر أوليةَ أبي محمد، وله في هذه ما ليس لأحدٍ? فقال: إنما كنا في ذكر الأشراف، ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا ما لأبي محمد! فلما خرج الحسن ليركب تبعه ابن أبي عتيق، فقال له الحسن - وتبسمَ -: ألك حاجةٌ? فقال: ذكرتُ البغلة، فنزل الحسنُ ودفعها إليه. ومن طريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع الأشراف عليه من قريش والأنصار، فقالوا له: إنك لا تعمل عملاً أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاءِ، ففعل، وأجلهم ثلاثاً، فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة، فحط رحله بباب سلامة الزرقاء، وقال لها: بدأت بكِ قبل أن أصير إلى منزلي، فقالت: أو ما تدري ما حدث? وأخبرته الخبر، فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه، فقالت: إنا نخاف ألا تغني شيئاً وننكظ1، فقال: إنه لا بأس عليك، ثم مضى إلى عثمان فاستأذن عليه، فأخبره أن أحب ما أقدمه عليه حب التسليم عليه، وقال له: إن من أفضل ما عملت به تحريم الغناء والرثاء. قال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. قال: فإنك قد وفقت، ولكني رسول امرأةٍ إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها، وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بينها   1 زيادة ر: "تعني تنالنا شدة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وبين مجاورة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عثمان: إذن أدعها لك، قال: إذن لا يدعها الناس، ولكن تدعو بها فتنظرُ إليها، فإن كانت ممن يترك تركتها، قال: فادعُ بها، قال: فأمرها ابن أبي عتيق فتقشفت، وأخذت سبحةً في يدها، وصارت إليه، وحدثته عن مآثر آبائه، ففكهَ لها? فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، ففعلت، فأعجب بذاك. فقال لها: فاحدي للأمير، فحركه حداؤها، ثم قال لها: غيري للأمير، فجعل يعجب بذلك عثمانُ، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها! فقال: قل لها فلتقل، فأمرها فتغنت: سددن خصاص الخيم لما دخلنه ... بكل لبانٍ واضحٍ وجبين فنزل عثمان بن حيان عن سريره حتى جلس بين يديها، ثم قال: لا والله، ما مثلك يخرجُ عن المدينة! فقال له ابن أبي عتيق: إذن يقول الناس أذنَ لسلامةَ في المقام ومنع غيرها! فقال له عثمان: قد أذنتُ لهم جيمعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 لابن نمير الثقفي وقال ابن نمير الثقفي: أشاقتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزي الجميل من الأثاثِ ظعائن أسلكت نقب المنقى ... تحث إذا ونت أي احتثاثِ كأن على الظعائن يوم بانوا ... نعاجاً ترتعي بقل البراثِ يهيجني الحمامُ إذا تغنى ... كما سجع النوائح بالمراثي قوله: الظعائن واحداتها ظعينةٌ، وإنما قيل لها: ظعينةٌ، وهم يريدوه مظعوناً بها، كقولك: قتيلٌ، في معنى مقتول، ثم استعمل هذا وكثر حتى قيل للمرأة المقيمة: ظعينةٌ. وقوله: بذي الزي الجيمل من الأثايِ هي الرواية الصحيحة، وقد قيل بذي الري الجميل واستهواهم إليه قول الله جل ثناؤه: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً} 1 فالأثاث متاع البيت، ولاري ما ظهر من   1 سورة مريم 74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 الزينة، وإنما أخذ من قولك: رأيتُ، فالري غير الأثاث والزي من الأثاثِ، فمن ههنا غلطوا. وقوله: "أسلكت نقب المنقى"، فالمنقى موضع بعينه، والنقب: الطريق في الجبل، والخل: الطريق في الرمل، فإن اتسع الطريق في الجبل وعلا فهو ثنيةٌ، قال ابن الأيهم التغلبي: وتراهن شزباً كالسعالي ... يتطلعن من ثنايا النقابِ 1 وقوله: نعاجاً ترتعي بقل البراثِ فالنعجة عند العرب البقرة الوحشية، وحكم البقرة عندهم حكم الضائنة، وحكم الطبية عندهم حكمُ الماعزة، والعرب تكني بالنعجة عن المرأة وبالشاةِ، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 2 وقال الأعشى: فرميت غفلة عينه عن شاتِه ... فأصبت حبة قلبها وطحالها يريد المرأة. وأما البراث، فهي الأماكن السهلة من الرمل، واحدها برثٌ، مفتوح موضع الفاء من الفعل، وتقديرها: كلب وكلابٌ، والسجع من الكلام: أن تأتلف أواخره على نسقٍ، كما تأتلف القوافي، وهو في البهائم: موالاة الصوتِ، قال ابن الدمينة: أأن سجعتْ ورقاءُ في رونقِ الضحى ... على فننٍ غض النباتِ من الرند3   1 الشذب: الضوامر. 2 سورة ص 23. 3 زيادات ر: "الرند": صغار الأس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 لعمر بن أبي ربيعة وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة: قال لي صاحبي ليعلم ما بي ... أتحب القتول أختَ الر باب ِ? قلت: وجدي بها كوجدك بالما ... ء إذا ما منعت برد الشرابِ من رسولي إلى الثريا بأني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 سلبتني مجاجة المسك عقلي ... فسلوها بما تحل اغتصابي1? أزهتقت أم نوفلٍ إذ دعتها ... مهجتي، ما لقاتلي من متابِ حين قالت لها أجيبي فقالت ... من دعاني? قالت أبو الخطابِ فاستجابت عند الدعاء كما لبى ... رجالٌ يرجون حسن الثوابِ أبرزوها مثل المهاةِ تهادى ... بين خمس كواعبٍ أترابِ وهي مكنونةٌ تحير منها ... في أديم الخدين ماءُ الشبابِ ثم قالوا: تحبها? قلت: بهراً ... عدد النجم والحصى والترابِ دميةٌ عند راهبٍ ذي اجتهادٍ ... صوروها في جانب المحرابِ قوله: قلت وجدي بها كوجدكَ بالماء معنى صحيح، وقد اعتوره الشعراءُ، وكلهم أجادَ فيه. وقوله: إذا ما منعت برد الشرابِ يريد: عند الحاجة، وبذلك صح المعنى. ويورى عن علي بن أبي طالب رحمه الله أن سائلاً سأله، فقال: كيف كان حبكم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فقال: كان واللهِ أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ. وقال آخر - وأحسبه قيس بن ذريحٍ: حلفت لها بالمعشرين وزمزمِ ... وذو العرش فوق المقسمين رقيبُ2 [قال أبو الحسن: ويروى: والله فوق المقسمين، وهو أحب إليَّ] . لئن كان بردُ الماء حرانَ صادياً ... إلي حبيباً إنها لحبيبُ وقال القطامي: يقتلنا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه بادي فن ينبذن من قولٍ يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلةِ الصادي والقول فيه كثير.   1 قال المرصفى: مجاجة المسك: ومجتها التي تنفح رائحة المسك. 2 أراد بالمشعرين، المشعر الحرام فثناه، وهو موضع بالمزدلفة، قاله المرصفى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وقوله: ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ1 قوله: "والكتابِ" قسمٌ. وقوله: أزهقت أم نوفلٍ إذ دعتها مهجتي وقوله: تأويله: أبطلت وأذهبت، قال الله جل وعزَّ: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} 2 الأنبياء؛ 18؛ وللزاهق موضع آخرُ، وهو السمين المفرطُ، قال زهيرٌ: القائدُ الخيل منكوباً دوابرها ... منها الشنونُ ومنها الزاهقُ الزهِمُ3 وقوله: "ما لقاتلي من متاب" يقول: من توبةٍ، والمصدر إذا كان بزيادة الميم من فعلَ يفعلُ فهو على مفعلٍ قال الله جل وعز: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} 4 وأما قوله جل ذكره: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} 5 فيكون على ضربين، يكون مصدراً، ويكون جماعاً. فالمصدر قولك: تاب يتوب توباً، كقولك: قال يقولو قولاً، والجمع توبةٌ وتوبٌ، مثل تمرةٍ وتمر، وجمرةٍ وجمرْ. وقوله: أبرزوها مثلَ المهاةِ تهادى المهاةُ، البقرةُ في هذا الموضعِ، وتشبه المرأة بالبقرة من الوحش لحسن عينيها ولمشيتها، والبقرةُ يقال لها: العيناءُ، والجماعُ العينُ، وكذلك يقالُ للمرأةِ. وتكون المهاةُ البلورة في غير هذا الموضعِ. وقوله: "تهادى" يريدُ: يهدي بعضها بعضاً في مشيتها، ومشية البقرةِ تستحسنُ، قال ابن أبي ربيعةَ:   1 الذرع: الطاقة. 2 سورة الأنبياء 18. 3 قال المرصفى: منكوبا، من نكبت الحجارة الحافر تنكب أصابته فأمسته. 4 سورة الفرقان 71. 5 سورة غافر 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 أبصرتها ليلة ونسوتها ... يمشين بين المقامِ والحجرِ يمشين في الريط والمروط كما ... تمشي الهويني سواكنُ البقرِ وقوله: "كواعب" الواحدةُ كاعبٌ، وهي التي قد كعب ثدياها للنهود. أترابٌ: أقرانٌ، ويقال: تربُ فلانٍ. والممكورة: المكتنزة. وقوله: ثم قالوا تحبها قلتُ بهراً قال قوم: أراد بقوله: تحبها الستفهام، كما قال امرؤ القيس: أحارِترى برقاً أريكَ وميضهُ فحذف ألف الاستفهام، وهو يريد أترى، وقولوا: أراد أتحبها، وهذا خطأ فاحشٌ، إنما يجوز حذف الألفِ إذا كان في الكلامِ دليلٌ عليها، وسنفسرُ هذا ونذكرُ الصوابَ منه، إن شاء الله. قوله: تحبها إيجاب عليه، غير استفهامٍ؛ إنما قالوا: أنت تحبها، أي قد علمنا ذاك، فهذا معنى صحيحٌ لا ضرورة فيهِ. وأما قولُ امرىء القيس فإنما جاز لأنه جعل الألف التي تكونُ للاستفهام تنبيهاً للنداءِ، واستغنى بها، ودلت على أن بعدها ألفاً منويةً، فحذفت ضرورةً، لدلالة هذه العليها. ونظير قول امرىء القي: "أحار ترى برقاً" فاكتفى بالألفِ عنِ أن يعيدها في ترى قول ابن هرمة: ولا أراها تزالُ ظالمةً ... تظهر لي قرحة وتنكؤها استغنى بلا الأولى عن إعادتها؛ كما قال التميمي. وهو اللعين المنقري: لعمرك ما أدري وإن كنتُ داريا ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقرِ يريد "أشعيث" فدلت "أم" على ألف الاستفهام، وقال ابن أبي ربيعة: لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان مثل ذلك: وبيت الأخطل فيه قولان، وهو: كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ... غلس الظلامَ من الربابِ خيالاَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 قال: أراد: "أكذبتك عينكَ" كما قلنا فيما قبله، وليس هذا بالأجود، ولكنه ابتدأ متيقنا ثم شك، فأدخل "أم" كقولك: "إنها لإبل" ثم تشك فتقول: "أم شاء" يا قوم. وقوله: "قلت بهراً" يكون على وجهين؛ أحدهما: حباً يبهرني بهراً. أي يملأني، ويقال للقمر ليلة البدرِ: باهرٌ، أييبره النجوم، يملأها، كما قال ذو الرمة: كما يبهر البدرُ النجومَ السواريا وقال الأعشى: حكمتموه فقضى بينكمُ ... أبلج مثل القمرِ الباهرِ والوجهُ الآخر: أن يكون أراد "بهراً لكم" أي: تباً لكم حيث تلومونني على هذا، كما قال ابن ميادة1: تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي ... بجاريةٍ بهراً لهم بعدها بهرا وقوله: عدد النجم والحصى والترابِ فيه قولان: أحدهما أنه أراد بالنجم النجوم، ووضع الواحد في موضع الجمع، لأنه للجنس؛ كما تقول: أهلك الناس الدرهم والدينارُ، وقد كثرتِ الشاةَ والبعيرُ، وكما قال الله جل وعزَّ: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2. وقال الشاعر: فبات يعدُّ النجمَ في مستجيرةٍ ... سريعٍ بأيدي الآكلين جمودها يريد النجمَ، ويعني بالمستحيرة إهالة3. والوجهُ الآخرُ أن يكون النجمُ ما نجمَ من النبتِ، وهو ما لم يقم على ساقٍ، والشجرُ ما يقوم على ساقٍ.   1 في ر، س: "ابن مفرع" وصوابه من الأصل. 2 سورة العصر 3،2. 3 الإهالة: ما أذيب من الشحم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 واليقطين: ما انتشر على وجه الأرض. قال الله عز وجل: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} 1، وقال الحارث بن ظالمٍ، للأسودِ بن المنذر بنماء السماء: أخصيي حمارٍ بات يكدم نجمةً ... أيؤكل جيراني وجارُكَ سالمُ! ومن طريف شعره قوله: فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأطفئت ... مصابيحُ شبت بالعشاءِ وأنؤرُ وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ... وروح رعيانٌ ونومَ سمرُ ونفضت عني العين أقبلت مشية الـ ... ـحباب وركبي خيفة القوم أزورُ فحييتُ إذ فاجأتها فتولهت ... وكادت بمكنون التحيةِ تجهرُ وقالت وعضت بالبنانِ: فضحتني ... وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسرُ أريتك إذ هنا عليك ألم تخف ... رقيباً وحولي من عدوكَ حضرُ واللهِ ما أدري أتعجيلُ حاجةٍ ... سرت بك أم قد نامَ من كنت تحذرُ فقلت لها: بل قادني الشوق والهوى ... إليك وما عينٌ من الناس تنظرُ فيا لك من ليلٍ تقاصرَ طولهُ ... وما كان ليلي قبلَ ذلك يقصرُ ويا لك من ملهى هناك ومجلسٍ ... لنا لم يكدره علينا مكدرُ يمج ذكيَّ المسكِ منها مفلجٌ ... رقيقُ الحواشي ذو غروبٍ مؤشرُ يرفُّ إذا يفترُّ عنه كأنهُ ... حسى بردٍ أو أقحوانٌ مغورُ وترنو بعينيها إلي كما رنا ... إلى ربابٍ وسط الخميلةِ جؤذرُ فلما تقضي الليلُ إلا أقلهُ ... وكادت توالي نجمه تتغورُ أشارت بأن الحيَّ قد حان منهمُ ... هبوبٌ ولكن موعدٌ لك عزورُ فما راعني إلا منادٍ برحلةٍ ... وقد لاح مفتوقٌ من الصبح أشقرُ فلما رأت من قدر تثورَ منهمُ ... وأيقاظهم قالت أشرْ كيف تأمرُ فقلت: أباديهم فإما أفوتهم ... وإما ينالُ السيفُ ثأراً فيثأرُ فقالت: أتحقيقاً لِما قال كاشحٌ ... علينا، وتصديقاً لما كان يؤثر! فإن كان ما لا بد منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاءِ واسترُ أقص على أختي بدء حديثنا ... ومالى من أن تعلما متأخر   1 سورة الرحمن 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 لعلهما أن تبغيا لك مخرجاً ... وأن ترحبا سرباً بما كنتُ أحصرُ فقامت كئيباً ليس في وجهها دمٌ ... من الحزنِ تذري عبرةٌ تتحدرُ فقالت لأختيها: أعينا على فتى ... أتى زائراً والأمر للأمر يقدرُ فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا: ... أقلي عليكِ الهمَّ فالخطبُ أيسرُ يقوم فيمشي بيننا متنكراً ... فلا سرنا يفشو ولا هو يظهرُ فكان مجني دون من كنتُ أتقي ... ثلاثُ شخوصٍ كاعبانٍ ومعصرُ فلما أجزنا ساحةَ الحي قلن لي: ... ألم تتقِ الأعداءَ والليلُ مقمرُ! وقلن: أهذا دأبك الدهرَ سادراً ... أما تستحي أو ترعوي أو تفكرُ! قوله: "شبت" يقول: أوقدت، يقالُ: شببتُ النارَ والحربَ، أي أوقدتهما. وقوله: "وأنؤر" إن شئت همزتَ، وإن شئت لم تهمز، وإنما الهمز لانضمام الواو، وقد مضى تفسير هذا. وقوله: "قميرٌ"، إنما صغره لأنه ناقصٌ عن التمام، وهذا في أول الشهر، وكذلك يصغرُ في آخر الشهر، لأن النقصان فيهما واحدٌ، قال عمرُ: وقميرُ بدا ابن خمسٍ وعشريـ ... ـن له قالتِ الفتاتان قوما وقوله: رعيانٌ يريد جمع الراعي، ومثله: راكبٌ وركبانٌ، وفارسٌ وفرسانٌ. والسمرُ: جمع السامرِ، وهم الجماعة يتحدثون ليلاً. والحباب: حيةٌ بعينها. وقوله: ونفضت عني العين يقول: احترستُ منها وأمنتها، والنفضة: أمامَ العسكر: القوم يتقدمون فينفضون الطريق. وقوله: أزورُ، يعني متجافياً، يقال: تزاور فلانٌ؛ إذا ذهب في شقٍّ. وقوله: ذو غروبٍ؛ غربُ كل شيءٍ: حده، وإنما يعني الأسنانَ. وقوله: "مؤشرُ" يعني له أشرٌ، وهو تشريرُ الأسنان في قول الناس جميعاً، يقال: لأسنانه أشرٌ، فهذا الشائعُ الذائع، وأما الشنبُ، فهو عندهم جيمعاً بردٌ في الأسنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وحدثني الرياشي عن ابن عائشة قال: أخذ أبي حبةَ رمانٍ بين إصبعيه فإذا هي ترفُ، فقال: هذا الشنبُ. وقوله: وكادت توالي نجمه تتغورُ التوالي: التوابعُ، وتتغورُ: تغورُ فتذهب، وهو مأخوذ من الغور. وقوله: "أشارت بأن الحي قد حان منهم هبوبٌ" يقول: انبتاهٌ، يقال: هبَّ من نومه يهبُّ، قال عمرو بن كلثومٍ: ألا هبي بصحنكِ فاصبحينا ... ولا تبقي خمورَ الأندرينا وقال الاخر: هبت تلومُ وليست ساعةَ اللاحي ... هلا انتظرت بهذا اللومِ إصباحي وعزور: موضع بعينه. وقوله: ويقاظهم جمع يقظ. وقوله: فقالت أتحقيقاً أي أتفعل هذا تحقيقاً، ومن كلام العرب: أكلُّ هذا بخلاً? وذاك أنه رآه يفعل شيئاً أنكره فقال: أتفعل كل هذا بخلاً! وقوله: أباديهم أظهر لهم، غير مهموزٍ يقال. بدا يبدو، غير مهموزٍ، إذا ظهر، وبدأت بهذا، مهموزٌ، إذا أردت به معنى الأول. وقوله: بدء حديثنا يريد أول حديثنا. وقوله: أن ترحبا يريد: أن تتسع، أي تتسع صدروهما، من قولهم: فلانُ رحيب الصدرِ. وقوله: "أحصرُ" أضيق به ذرعاً، قد مضى تفسيره. وقوله: "مجني" يريد تُرسي. وقوله: "ثلاث شخوص" والوجهُ ثلاثةً أشخُصٍ ولكنها لما قصد إلى النساء أنثَ على المعنى، وأبان لما أرادَ بقوله: "كاعبانِ ومعصرُ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 ومثله قولُ الشاعر: فإن كلابا هذا عشرُ أبطنٍ ... وأنت بريء من قبائلها العشرِ فقال: "عشرُ أبطنٍ"، لن البطنَ قبليةٌ، وأبانَ ذلك في قوله: من قبائلها العشرِ، وقال الله جل وعز: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} 1 لأن المعنى حسناتٌ. ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبةَ المري إلى المدينة اعترض الناس، فمر به رجل من أهل الشام معه ترسٌ قبيح، فقال له: يا أخا أهل الشأم، مجن ابن أبي ربيعة أحسن من مجنك! يريد قول ابن أبي ربيعة: فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاثَ شخوصٍ كاعبان ومعصرِ وقوله: أما تستحي، يريد: تستحيي وله تفسير يبعد في العربية قليلاً، وسنذكره بعد هذا، إن شاء الله.   1 سورة الأنعام 160. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 باب عمر الوادي والعبد الأسود قال أبو العباس: وحدثتُ أن عمر الوادي قال: أقبلتُ من مكة أريدُ المدينةَ، فجلعتُ أسيرُ في صمدٍ1 من الأرض، فسمعت غناءً من القرار2 لم أسمع مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه ولو بذهاب نفسي، فانحدرتُ إليه، فإذا عبدٌ أسود، فقلت له: أعد علي ما سمعت، فقال لي: والله لو كان عندي قرى أقريك ما فعلتُ، ولكني أجعله قراكَ، فإني [والله3] ربما غنيت هذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى، ثم انبرى يغنيني4: وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها ... رى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفراتِ البيضِ ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها5 وبعده: وتحلل أحقادي إذا ما لقيتها ... وتبقى بلا ذنبٍ علي حقودها وكيف يحب القلب من لايحبه ... بلى قد تريد النفس من لا يريدها6 قال عمر: فحفظته عنه، ثم تغنيت به على الحالات التي وصف، فإذا هو كما ذكر.   1 الصمد: المكان المرتفع من الجبال، وفي ر: "صرد". 2 القرار: المطمئن من الأرض. 3 تكمله من س. 4 س: "يغنى". 5 ر: "إذا ما قضت أحدوثة". 6 مابين العلامتين من زيادات ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 خالد صامة والوليد بن يزيد وتحدث الزبيريون عن خالد صامة أنه كان من أحسن الناس ضرباً بعودٍ1، قال: فقدمت على الوليد بن يزيد، وهو في مجلس ناهيك به مجلساً! فألفيته على سريره، وبين يديه معبدٌ، ومالكُ بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كمال غزيل الدمشقي، فجعلوا يغنون، حتى بلغت النوبة لي فغنيته:   1 كذا في الأصل، ر، وفي س: "بالعود". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 سرى همي وهم المرء يسري ... وغار النجم إلا قيد فترِ أراقب في المجرةِ كل نجمِ ... تعرض أو على المجراة يجري لهم ما أزال له قريناً ... كأن القلب أبطن حر جمرِ على بكرٍ أخي فارقت بكراً ... وأي العيش يصلح بعد بكرِ! فقال لي: أعد يا صام1؛ ففعلت، فقال لي: من يقول هذا الشعر? فقلت: هذا يقوله عروة بن أذينة يرثي أخاه بكراً، فقال لي الوليد: وأي العيس يصلح بعد بكرِ هذا العيش الذي نحن فيه، والله قد تحجر واسعاً على رغم أنفهِ. وحدثت أن سكينة بن الحسين أنشدت هذا الشعر، فقالت: ومن بكرٌ? فوصف لها، فقالت: أذاك الأسيد الذي يمر بنا? والله لقد طاب كل شيءٍ بعد ذاك، حتى الخبز والزيتُ.   1 صام، بالترخيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 من أخبار يزيد بن عبد الملك وروى أصحابنا أن يزيد بن عبد الملك -وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية وإليها كان ينسب - قال يوماً: يقال: إن الدنيا لم تصف لأحد قط يوماً، فذا خلوت يومي هذا فاطووا عني الأخبار، ودعوني ولذتي وما خلوتُ له، ثم دعا بحبابة، فقال: اسقيني وغنيني، فخلوا في أطيب عيش، فتناولت حبابةُ حبة رمان، فوضعتها في فيها، فغصت بها فماتت، فجزع يزيد جزعاً أذهله ومنه من دفنها، حتى قال له مشايخ بني أمية؛ إن هذا عيب لا يستقال، وإنما هذه جيفة، فأذنَ في دفنها، وتبع جنازتها، فلما واراها قال: أمسيت والله فيك كما قال كثيرٌ: فإن تسلُ عنك النفس أو تدعِ الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلدِ وكل خليلٍ راءني فهو قائلٌ ... من اجلك: هذا هامة اليوم أو غدِ فعد بينهما خمسة عشر يوماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وقوله: "راءَني" يريد "رآني"، ولكنه قلب؛ فأخر الهمزة. ونظير هذا من الكلام قسيٌّ وإنما الأصل قؤوسٌ ولما أخرَ الواوين أبدل منهما، ياءين، كما يجب في الجمع، وتقول: دلو ودلويٌّ، وعاتٍ وعتيٌّ، وإن شئت قلت: عتي ودليُّ، من أجدل الياء، فإن كان فعولٌ لواحدٍ قلت: عتو. ويجوز القلبُ، والوجه في الواحد إثبات الواوِ، كما تقولُ: مغزوٌّ ومدعوٌّ ويجوز مغزيٌّ وفي القرآن {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} 1 وقال: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} 2 وقال: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} 3 والأصل مرضوةٌ لأنه من الواو، من الرضوان. ومن القلب قولهم طأمن ثم قالوا: اطمأن، فأخروا الهمزة وقدموا الميم، ومثل هذا كثيرٌ جداً. وقوله: "هذا هامةُ اليوم أو غدِ"، يقول: ميت في يومه أو في غدِهِ، يقال: إنما فلانٌ هامةٌ أي يصير في قبره، وأصل ذلك شيءٌ كانت العربُ تقوله، قد مضى تفسيره.   1 سورة الفرقان 21. 2 سورة مريم 69. 3 سورة الفجر 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 إسحاق الموصلي والرشيد وحدثني عبد الصمد بن المعذل قال: سمعتُ إسحاق بن إبراهيم الموصلي يتحدث قال: حججت من أمير المؤمنين الرشيد، فلما قفلنا فنزلنا المدينة آخيت بها رجلاً كان له سنٌّ ومعرفةٌ وأدبٌ، فكان يمتعني، فني ذات ليلةٍ في منزلي إذا أنا بصوته يستأذن عليَّ، فظننت أمراً قد فدحه ففزع فيه إلي، فأسرعت نحو الباب، فقلتُ: ما جاء بك? فقال: إذن أخبركَ: دعاني صديقٌ لي إلى طعام عتيدٍ1، وشرابٍ قد التقى طرفاهُ، وشواءٍ رشراشٍ، وحديثٍ ممتعٍ، وغناءٍ مطربٍ؛ فأجبته، وأقمتُ معه إلى هذا الوقت، فأخذت مني حمياً الكأسِ مأخذها، ثم غنيتُ بقول نصيبٍ: بزينب ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقل إن تملينا فما ملكِ القلبُ فكدت أطير طرباً، ثم وجدتُ في الطرب نقصاً إذ لم يكن معي من يفهم ذا كما فهمته، ففزعت إليك لأصف لك هذه الحال، ثم أرجع إلى صاحبي، وضرب نعليه مولياً عني! فقلت: قف أكلمك، فقال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجةٍ.   1 عتيد: معتد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 من أخبار حسان بن ثابت وحدثن غير واحدٍ من أصحابنا عن أبي زيدٍ سعيد بن أوسٍ الأنصاري، يسندهُ، قال: كانت وليمةٌ في أخوالنا، وهم حي يقال لهم بنو نبيطٍ، من الأنصار، قال: فحضر الناس وجاء حسانُ بن ثابتٍ وقد ذهب بصرهُ، ومعه ابنه عبد الرحمن يقودهُ، فلما وضع الطعام وجيء بالثريدِ قال حسان لابنه: يا بني، أطعامُ يدٍ أم طعامُ يدين? فقال: با طعامُ يدٍ، فأكل ثم جيْ بالشواءِ، فقال: أطعام يدٍ أم طعامُ يدين? فقال: طعام يديد، فأمسك، وفي المجلس فينتان تغنيان بشعر حسان: انظر خليلي ببابِ جلقَ هل ... تؤنس دون البلقاءِ من أحدِ؟ 1 قال: وحسان يبكي، يذكر ما كان فيه من صحة البصر والشباب، وعبد الرحمن يومىء إليهما: أن زيدا. قال أبو زيد: فلأعجبني ما أعجبه من أن تبكيا أباهُ. يقول: عجبت ما الذي اشتهى من أن تبكيا أباهُ. فقوله: أعجبني أي تركني أعجبُ. ومثله قول ابن قيس الرقياتِ: ألا هزئت بنا قرشيـ ... ـةٌ يهتز موكبها رأت بي شيبةً في الرأ ... سِ عني ما أغيبها فقالت: أبن قيسٍ ذا؟ ... وبعض الشيبِ يعجبها أي تعجب منه.   1 جلق: إحدى قرى دمشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 خليلانُ الأموي يغني لأمير البصرة وحدثني عبد الصمد بن المعذل، قال: كان خليلان1 الأموي يتغنى، ويرى ذاك زائداً في الفتوة. وكان خليلانُ شريفاً وذا نعمةٍ واسعةٍ، فحضر يوماً منزل عقبة بن سلم الهنائي وهو أمر البصرة، وكان عاتياً جباراً، فلما طعما وخلوا نظر خليلانُ إلى عودٍ موضوعس في جانب البيت، فعلم أنه عرض له به، فأخذه فتغنى:   1 خليلان، كان يعرف به خليل بن عمرو، مولى بنى عامر بن لؤى، كان يؤدب الصبيان ويعلم الجوارى الغناء في موضع واحد. "رغبة الآمل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 بابنة الأزدي قلبي كئيب ... مستهامٌ عندها ما يؤوب ولقد لاموا فقلت: دعوني ... إن من تلحون فيه حبيبُ فجعل وجه عقبة يتغير، وخليلانُ في سهو عما فيه عقبةُ، يرى أنه محسن، ثم فطن لتغير وجه عقبة، فعلم أنه كارهٌ1 لما تغنى به، فقطع الصوت، وجعل مكانه: ألا هزئت بنا قرشيةيهتزُّ موكبها فسري عن عقبة، فلما انقضى الصوت وضع خليلانُ العودَ، ووكد على نفسه الحلف ألا يني عند من يجوز أمره عليه أبداً.   1 كلمة "كاره" ساقطة من ر، وهي في الأصل، س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 غضب الرشيد لشعر مدح به أخوه وحدثت أن رجلاً تغنى بحضرة الرشيد بشعر مدح به علي بن ريطة، وهو علي ابن أمير المؤمنين المهدي، وتغناه على جهل، وهو: قل لعلي: أيا فتى العربِ ... وخير نام وخير منتسبِ أعلاك جداك يا علي إذا ... قصر جدٌّ في ذروة الحسبِ ففتش عن المغني فوجده لم يدر فيمن الشعرُ. فبحث عن أول من تغنى فيه، فذا هو عبدُ الرحيم الرقاص، فأمر فضرب أربعمائة سوط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 معاوية وابنه يزيد وحدثت أن معاوية استمع على يزيد ذات ليلةٍ، فسمع من عنده غناءً أعجبه، فلما أصبح قال ليزيد: من كان ملهيك البارحة? فقال له يزيد: ذاك سائب خاثرٍ، قال: إذاً فأخثر له من العطاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 معاوية عند عبد الله بن جعفر وحدثت أن معاوية قال لعمرو: امضِ بنا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو وسعى في هدم مروءته، حتى ننعى عليه، أي نعيب عليه فعله - يريد عبد الله بن جعفر بن أبي طالبٍ - فدخلا إليه، وعنده سائبُ خاثر، وهو يلقي على جوارٍ لعبدِ الله، فأمر عبد الله بتنحية الجواري لدخول معاوية، وثبت سائبُ مكانه، وتنحىعبد الله عن سريره لمعاوية، فرفع معاويةُ عمراً فأجلسه إلى جانبه، ثم قال لعبد الله: أعد ما كنت فيه، فأمر بالكراسي فالقيت، وأخرج الجواري، فتغنى سائبٌ بقول قيس بن الخطيم: ديارُ التي كادت ونحن على منى ... تحل بنا لولا نجاء الركائبِ ومثلك قد اصبتُ ليست بكنةٍ ... ولا جارةٍ ولا حليلة صائب1 وردده الجواري عليه، فحرك معاويةُ يديه وتحرك في مجلسه، ثم مد رجليه، فجعل يضرب بهما وجه السرير. فقال له عمروٌ: اتئد يا أمير المؤمنين، فإن الذي جئت لتلحاه أحسن منك حالاً وأقل حركة. فقال معاوية: اسكت لا أبا لك! فإن كل كريمٍ طروبٌ.   1 الكنة: امرأة الابن أو الأخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 سفيان بن عيينة وجاره السهمي وحدثت من غير وجه أن سفيان بن عيينة قال لجلسائه يوماً: إني أرى جارنا هذا السهمي قد أثرى وانفسحت له نعمةٌ، وصار ذا جاهٍ عند الأمراء، ووافداً إلى الخلفاء، فمم ذاك? يعني يحيى بن جامعٍ، فقال له جلساؤه: إنه يصير إلى الخليفة فيتغنى له، فقال سفيانُ: فيقول ماذا? فقال أحدُ جلسائه: يقول: أطوف نهاري مع الطائفني ... وأرفع من مئزري المسبلِ فقال سفيان: ما أحسن ما قال! فقال الرجلُ: واسهر ليلي مع العاكفين ... وأتلوا من المحكم المنزلِ قال: حسن والله جميل، قال: إن بعد هذا شيئاً، قال سفيان: وما هو? قال: عسى فارج الكرب عن يوسفٍ ... يسخرُ لي ربةَ المحملِ فزوى سفيانُ وجههُ، وأومأ بيده أن كفَّ، وقال: حلالاً حلالاً! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 ابن أبجر يغني لعطاء بن رباح ولقي ابن أبجر عطاء بن أبي رباح وهو يطوف، فقال: اسمع صوتاً للغريض، فقال له عطاءُ: يا خبيث، أفي هذا الموضع! فقال ابن أبجر: ورب هذه البنية لتسمعنه خفيةً، أو لأشيدنَّ به، فوقف له، فتغنَّى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 عوجي علينا ربةَ الهودج ... إنكِ إلا تفعلي تحرجي1 أنى أُتيحت لي يمانةٌ ... إحدى بني الحارثِ من مذحجِ تلبث حولاً كاملاً كلهُ ... لا نلتقي إلا على منهجِ في الحج إن حجت، وماذا منًى ... وأهله إن حي لم تحججِ! فقال له عطاء: الكثير الطيب يا خبيث!   1 تحرجى: من الحرج وهو الأثم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 سليمان بن عبد الملك في عسكره وسمع سليمان بن عبد الملك متغنياً في عسكره، فقال: اطلبوه، فجاؤوا به، فقال: أعد ما تغنيت، فتغنى واحتفل، وكان سليمانُ مفرطَ الغيرةَِ، فقال لأصحابه: والله لكأنها جرجرةُ الفحلِ في الشولِ1، وما أحسب أنثى تسمعُ هذا إلا صبت. ثم أمر به فخصي.   1 الجرجرة: هدير الفحل، والشول: جمع شائلة، وهي من الإبل التي أنى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 الفرزدق يسمع الأحوص يغني بشعر جرير وحدثت أن الفرزدق قدم المدينة فنزل على الأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقال له الأحوص: ألا أسمعك غناءً من غناءِ القرى? فأتاه بمغنٍّ فجعل يغنيه، فكان ما غناه: أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بفرغ بشامةٍ، سقي البشامُ! 1 ولو وجد الحمامُ كما وجدنا ... بسلمانين لاكتأب الحمامُ2 فقال الفرزدق: لمن هذا الشعر? فقالوا: لجريرٍ، ثم غناه: اسرى لخالدةَ الخيالُ ولا أرى ... شيئاً ألذ من الخيالِ الطارقِ إن البليةَ من تملُّ حديثَه ... فانقع فؤادكَ من حديثِ الوامِقِ3   1 سلمانين: واديا في جبل لغنى. 2 تكملة من س. 3 الوامق: المحب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 فقال: لمن هذا? فقيل: لجرير، ثم غناه: إن الذين غدوا بلبكَ غادروا ... وشلا بعينك ما يزالُ معينا غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟ فقال: لمن هذا? فقالوا: لجريرٍ، فقال الرزدق: ما أحوجه مع عفافه إلى خشونة شعري، وأحوجني مع فسوقي إلى رقةِ شعره! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 الأحوص ومعبد عند عقيلة المغنية وقال الأحوص يوماً لمعبدٍ: امض بنا إلى عقيلةَ حتى نتحدثَ إليها، ونسمع من غنائها وغناء جواريها. فمضيا، فألفيا على بابها معاذاً الأنصاري، ثم الرزرقي، وابن صائدٍ النجاري، فاستأذنوا عليها جميعاً؛ فأذنت لهم إلا الأحوص، فإنها قالت: نحن غضابٌ على الأحوص، فانصرف الأحوص وهو يلومُ أصحابه على استبدادهم، فقال: ضنت عقيلةُ لما جئتُ بالزادِ ... وآثرت حاجةَ الثاوي على الغادي فقلت: والله لولا أن تقول له ... قد باح بالسرِّ أعدائي وحسادي قلنا لمنزلها: حييتَ من طللٍ ... وللعقيق: ألا حييت َمن وادي! إني جعلتُ نصيبي من مودتها ... لمعبدٍ ومعاذٍ وابن صيادِ لابن اللعين الذي يخبا الدخانُ له ... وللمغني رسولِ الزور قوادي أما معاذٌ فإني لست ذاكرهُ ... كذا أجدادهُ كانوا الأجدادي قال الزبيري: وكان معاذٌ جلداً، فخاف الأحوص أن يضربه، فحلف معبدٌ ألا يكلم الأحوص ولا يتغنى في شعره، فشق ذلك على الأحوص، فلما طالت هجرته إياه رحل نجيباً له وجعل طلاء1 في مذرعٍ2 في حقيبة رحلهِ، وأعد دنانير، ومضى نحو معبد فاناخ ببابه - ومعبد جالسٌ بفنائه - فنزل إليه الأحوص فكلمه، فلم يكلمه معبدٌ، فقال: يا أبا عبادٍ، أتهجرني! فخرجت إليه امرأته أم كردم، فقالت: أتهجر أبا محمدٍ! واللهِ لتكلمنه، قال: فاحتمله الأحوص فأخله البيت، وقال: والله لا رمت هذا البيت حتى آكل الشواء وأشربَ الطلاءَ وأسمعوا   1 الطلاء: اسم لما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه. 2 حاشية ر: "والمذرع: فزق سلخ حين سلخ مما يلي الذراع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 الغناء، فقال له معبدٌ: قد أخزى الله الأبعد، هذا الشواءَ أكلتهُ، والغناءَ سمعته، فأنى لك بالطلاء! قال: قم إلى ذلك المذرع ففيه طلاءٌ ومعه دنانيرُ، فأصلح بها ما نريدُ من أمرنا، ففعل كل ما قال: فقالت أم كردم لمعبدٍ: أتهجرُ من ن زرنا أغدرَ1 فينا فضلاً ونيلاً، وإن فارقنا خلف فينا عقلاً ونبلاً! فانصرف الأحوص مع العصر، فمر بين الدارين وهو يميل بين شعبتي رحلهِ.   1 أغدر: ترك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 هجاء الأحوص لسعد بن مصعب وحدثت أن سعد بن مصعب بن الزبير تهم بامرأة في ليلة مناحةٍ أو عرسٍ، وكانت تحته ابنةُ حمزة بن عبد الله بن الزبير، فقال الأحوص - وكان بالمدينة رجلٌ يقال له: سعد النار -: ليس بسعد النار من تذكرونه ... ولكن سعد النار سعد بن مصعبِ ألم تر أن القوم ليلةَ جمعهم ... بغوهُ فألفوه لدى شرِّ مركبِ فما يبتغي بالشرِّ لادرَّ درهُ ... وفي بيتهِ مثل الغزال المرببِ! فأمر سعدُ بن مصعب بطعام فصنعَ، ثم حملَ إلى قبابِ العربِ، وقال للأحوص - وكان له صديقاً -: تعال نمضي فنصيب منه، فلما خلا به أمر به فأوثق، وأراد ضربه، فقال له الأحوصُ: دعني، فلا والله لا أهجو زبيريا أبداً، فحله، ثم قال: إني والله ما لمتك على مزحك، ولكني أنكرتُ قولكَ: وفي بيته مثل الغزال المرببِ وحدثت أن ابن عتيق ذكرَ له أن المخنثين بالمدينةِ خصوا، وأنه خُصِيَ الدلال فيهم، فقال: إنا لله! أما والله لئن فعلَ ذلك به لقد كان يحسنُ: لمن ربعٌ بذات الجيش أمسى دارساً خلقا ثم أستقبل ابن أبي عتيق القبلة يصلي، فلما كبر سلمَ، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: اللهم إنه كان يحسنُ خفيفه، فأما ثقيله فلا - الله أكبر! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 شفاعة وحدثت أن مدنياً كان يصلي منذ طلعتِ الشمسُ إلى أن قارب النهار أن ينتصف، ومن ورائه رجلٌ يتغنى، وهما في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا رجلٌ من الشرط قد قبض على المغني، فقال: أترفعُ عقيرتك بالغناء في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فأخذه، فانفتل المدني من صلاتهِ، فلم يزل يطلبُ إليه فيه حتى استنقذه، ثم أقبل عليه فقال: أتدري لم شفعت فيك? فقال: لا والله، ولكن إخالك رحمتني؛ قال: إذاً فلا رحمني الله! قال: فأحسبك عرفتَ قرابةٌ بيننا? قال: إذاً فقطعها الله! قال: فليدٍ تقدمت مني إليك? قال: لا والله، ولا عرفتك قبلها، قال: فخبرني، قال: لأني سمعتك غنيت آنفاً، فأقمت واوات معبدٍ، أما والله لو أسأت التأدية لكنتُ أحدَ الأعوان عليك! والصوت الذي ينسب إلى واوات معبدٍ شعرُ الأعشى الذي يعاتب فيه يزيد بن مسهرٍ الشيباني، وهو قوله: هريرةَ ودعها وإن لام لائمُ ... غداة غدٍ أم أنت للبينِ واجمُ لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويتهُ ... تقضى لباناتٌ ويسأم سائمُ قوله: "هريرةَ ودعها وإن لامَ لائمُ" منصوب بفعل مضمر، تفسيره ودعها كانه قال: ودع هريرة، فلما اختزل الفعل أظهر ما يدل عليه، وكان ذلك أجود من ألا يضمرَ، لأن الأمر لا يكون إلا بفعل، فأضمر الفعل إذ كان الأمر أحق به، وكذلك زيداً اضربه وزيداً فأكرمه وإن لمتضمر ورفعت جاز، وليس في حسن الأولِ، ترفعه على الابتداءِ وتصيرُ الأمر في موضع خبره. فأما قول الله جل وعزَّ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 وكذلك: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2 فليس على هذا، والرفعُ الوجه، لأنمعناهُ الجزاءُ، كقوله: الزانيةُ أي التي تزني، فإما وجب القطع للسرق والجلد للزنا، فهذا مجازاة، ومن ثم جاز: الذي يأتيني فله درهمٌ، فدخلت الفاءُ لأنه استحق الدرهم بالإتيان، فإن لم ترد هذا المعنى قلت الذي يأتيني له درهمٌ، ولا يجوزُ:   1 سورة المائدة 38. 2 سورة النور 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 زيدٌ فله درهمٌ، أو هذا زيدٌ، فحسن جميلٌ، جازَ، على أن زيداً خبرٌ. وليس بابتداءٍ، للإشارة دخلت الفاءُ، وفي القرآن: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 1، ودخلتِ الفاءُ لأن الثواب دخل للإنفاق. وقد قرأت القراءُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} بالنصبِ، على وجه الأمر، والوجه الرفعُ، والنصبُ حسنٌ في هاتين الآيتين، وما لم يكن فيه معنى جزاءِ فالنصبُ الوجهُ.   1 سورة البقرة 274. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 فخر معبد بخمسة أصوات من غنائه ويروى أن معبداً بلغه أن قتيبة بن مسلم فتح خمس مدائن، فقال: لقد غنيت خمسةَ أصواتٍ، هن أشد من فتح المدائن التي فتحها قتيبة. والأصواتُ: ودع هريرةَ إن الركبَ مرتحِلُ ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجلُ وقوله: هريرةَ ودعها وإن لام لائمُ ... غداة غدٍ أم أنت للبين واجمُ وقوله: رأيتُ عرابةً الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرينِ وقوله: ودع ل باب ةَ قبل أن تترحلا ... واسأل فإن قليله أن تسألا وقوله: لعمري لئن شطت بعثمة دارها ... لقد كنت من خوف الفراق أليحُ أما قوله: ودع هريرة إن الركب مرتحلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وقوله: هريرةَ ودعها وإن لام لائمُ فللأعشى، يعاتب فيهما يزيد بن مسهر الشيباني، يقول: أبلغ يزيد بني مألكةً ... أنا ثبيب أما ينفك تأتكلُ1 ألست منتهياً عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها من أطت الإبلُ2 كناطح صخرةً يوماً ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ ويقولُ في الأخرى يعاتبه أيضاً: يزيد يغض الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيهِ علي المحاجمُ فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفكَ راغمُ فأقسم إن جد التقاطع بيننا ... لتصطفقن يوماً عليكَ المآتم3 وتلقى حصانٌ تنصف ابنة عمها ... كما كان يلقى الناصعاتُ الخوادمُ4 إذا اتصلت قالت: أبكرَ بن وائلٍ? ... وبكرٌ سبتها والأنوف رواغمُ فأما الشعر الثالث فللشماخ بن ضرار بن مرة بن عطفان، يقوله لعرابة بن أوس بن قيظي الأنصاري: رأيت عرابةَ الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطعَ القرينِ إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقها عرابةُ باليمين إذا بلغتني وحملتِ رحلي ... عرابةَ فاشرقي بدمِ الوتينِ والرابع لعمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، يقوله في بعض الروايات: ودع لبابة قبل أن تترحلا ... واسأل فإن قليله أن تسألا أمكث لعمرك ساعةً فتأنها ... فعسى الذي بخلت به أن يبذلا لسنا نبالي حين ندرك حاجةً ... إن بات وظل المطي معقلا والشعر الخامس لا أعرفه.   1 المالكة: الرسالة، وتأتلل: تغضب. 2 أثلتنا: أصلنا، واطيط الإبل: أنينها. 3 الاصطفان: الاضطراب. 4 الحصان: العفيفة. وتنصف: تخدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ولم يتغن معبد في مدح قط إلا في ثلاثة أشعارٍ، منها ما ذكرنا في عرابةَ، ومنها قول عبد الله بن قيس الرقياتِ في عبد الل بن جعفر بن أبي طالب: تقدت بي الشهباءُ نحو ابن جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلها ونهارها والثالث قول موسى شهواتٍ في حمزةَ بن عبد الله بن الزبيرِ: حمزة المبتاع بالمال الثنا ... ويرى في بيعه أن قد غبن وهو إن أعطى عطاء كاملا ... ذا إخاء لم يكدره بمن ونحن ذاكرو قصص هذه الأشعار التي جرت فيها عتب ما وصفنا إن شاء الله. قال أبو العباس: كان عبد الله بن قيس الرقياتِ منقطعاً إلى مصعب بن الزبير، وكان كثير المدح له، وكان يقاتلُ معه، وفيه يقول: إنما مصعبٌ شهابٌ من الله ... تجلت عن وجهه الطلماءُ ملكهُ ملكُ قوةٍ ليس فيهِ ... جبروتٌ منه ولا كبرياءُ يتقي الله في الأمور وقد أفلحَ ... منكان همهُ الإتقاءُ قال أبو العباس1: وله فيه أشعار كثيرةٌ، فلما قتل مصعب بن الزبير1 كان عبد الملك على قتل عبد الله بن قيس، فهرب فلحق بعبد الله بن جعفر، فشفع فيه إلى عبد الملك، فشفعه في أن ترك دمه، فقال: ويدخل إليك يا أمير المؤمنين فنسمع منه? فأبى، فلم يزل به حتى أجابه، ففي ذلك يقول لعبد الله بن جعفرٍ: أتيناك نثني بالذي أنت أهلهُ ... عليك كما أثنى على الأرض جارها تقدت بين الشهباءُ نحو ابن جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلها ونهارها تزور فتى قد يعلم الناسُ أنه ... تجود له كفٌّ قليلٌ غرارها فوالله لولا أن تزور ابن جعفرٍ ... لكان قليلا في دمشق قرارها   1 من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 والشعر الذي مدح به عبد الملك: عاد له من كثيرةَ الطربُ ... فعينه بالدموع تنسكبُ وفيها يقول: ما نقموا من بني أمية إلا ... أنم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادةُ الملوك فلا ... تصلح إلا عليهم العربُ إن الفنيق الذي أبوه أبو العا ... صي عليه الوقارُ والحجبُ خليفة الله في رعيتهِ ... جفت بذاك الأقلامُ والكتبُ يعتدلُ التاجُ فوق مفرقهِ ... على جبين كأنه الذهبُ فقال له عبد الملك: أتقول لمصعبٍ: إنما مصعبٌ شهابٌ من الله ... تجلتْ عن وجههِ الظلماءُ وتقول لي: يعتدل التاجُ فوق مفرقهِ ... على جبين كأنه الذهبُ! وأما شعر الشماخ في عرابةَ فقد ذكر في موضعه بحديثهِ. وأما الشعر في حمزة بن عبد الله بن الزبير فإنه لموسى شهواتٍ، وكان موسى قال لمعبدٍ: أقول شعراً في حمزةَ وتتغنى أنتَ به، فما أعطاك من شيء فهو بيننا! فقال هذا الشعرَ: حمزةُ المبتاعُ بالمال الثنا ... ويرى في بيعه أن قد غبنْ وو إن أعطى عطاء كاملا ... ذا إخاءٍ لم يكدره بمنْ وإذ ما سنةٌ مجحفةٌ ... برت المالَ كبري بالسفنْ حسرت عنه نقيا لونهُ ... طاهرَ الأخلاق ما فيه درنْ فأعطاه مالاً، فقاسمه موسى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 باب لعتبة بن شماس في عمر بن عبد العزيز قال أبو العباسِ: قال عتبة بن شماسِ: إن أولى بالحق في كل حق ... ثم أخرى بأن يكونَ حقيقا من أبوه عبد العزيز بن مروا ... ن ومن كان جده الفاروقا رد أموالنا علينا وكانت ... في ذرا شاهقٍ يفوتُ الأنوقا يقولُ هذا الشعر في عمر بن عبد العزيز: وأم عمرَ أم عاصمٍ بنتُ عاصمِ بن عمر بن الخطاب، رحمه الله. والأنوق: الرخمةُ، ولا يقالُ: الأنوقُ للرخمةِ الأنثى. ومن أمثال العرب: "هو أعزُّ من بيضِ الأنوقِ"، وتقول العرب لمن يطلب الأمر العسير: "سألتني بيض الأنوقِ" وذاك أنها تبيضُ في رؤوس الجبالِ، فلا يكادُ يوجدُ بيضها، لبعدِ مطلبه وعسرِه. فإن سأله محالاً قال: "سألتني الأبلق العقوقَ"، وإنما هو الذكرُ من الخيل، ويقال: فرسٌ عقوقٌ، إذا حملت فامتلأ بطنها، فالأبلقُ العقوق محال. ويروى أن رجلاً سأل معاويةَ أمراً لا يوجد، فأعلمه ذلك، فسأل أمراً عسراً بعده، فقال معاويةُ: طلب الأبلقَ العقوقَ فلما ... لم ينلهُ أرادَ بيضَ الأنوقِ وإنما الأبلقُ الذكر من الخيل، يقال: فرس عقوقٌ إذا حملت فامتلأ بطنها، فالأبلق العقوقُ محالٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 لجرير في عمر بن عبد العزيز وقال جرير يمدحُ عمرَ بن عبد العزيز: ما عدَّ قومٌ كأجدادٍ تعدهمُ ... مروان ذو النور والفاروق، والحكمُ أشبهت من عمرَ الفاروقِ سيرتهُ ... قاد البريةَ وائتمت به الأممُ تدعو قريشٌ وأنصارُ النبي له ... أن يمتعوا بأبي حفصٍ وما ظلموا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وفيه يقول جريرٌ أيضاً: يعودُ الحلمُ منك على قريشٍ ... وتفرج الكربَ الشدادا وقد أمنت وحشهم برفقٍ ... ويعيي الناسَ وحشكَ أن يصادا وتبني المجدَ يا عمرَ ابن ليلى ... وتكفي الممحلَ السنةَ الجمادا وتدعو الله مجتهداً ليرضى ... وتذكر في رعيتكَ المعادا فما كعبُ بن مامةَ وابنُ سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا1 وقال أيضا - وكان ابن سعد الأزدي قد تولى صدقات الأعرابِ وأعطياتم، فقال جريرٌ يشكوه إلى عمرَ -: إن عيالي لا فواكهِ عندهم ... وعند ابن سعدٍ سكر وزبيبُ وقد كان ظني بابنِ سعدٍ سعادة ... وما الظن إلا مخطىءُ ومصيبُ فإن ترجعوا رزقي إلي فإنه ... متاعُ ليالٍ والأداءُ قريبُ تحنى العظامُ الزاحفاتُ من البلى ... وليس لداءِ الركبتين طبيبُ وقال يرثيه أيضاً: نعى النعاةُ أميرَ المؤمنين لنا ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا حملت أمراً جسيماً فاصطبرت له ... وقمت فيه بحق اللهِ يا عمرا فالشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفةٍ ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا قوله: يا عمرا ندبةٌ، أراد: يا عمراه! وإنما الألف للندبة وحدها، والهاء تزاد في الوقف لخفاء الأف، فإذا وصلت لم تزدها، تقول: يا عمرا ذا الفضلِ، فإن وقفت قلت: يا عمراه: فحذف الهاء في القافية لاستغنائه عنها. فأما قوله: "نجوم الليل والقمرا"، ففيه أقاويل كلها جيدٌ، فمنها أن تنصب "نجوم، والقمرَ" بقوله: بكاسفةٍ، يقول: الشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفةٍ نجومً   1 مابين العلامتين من زيادة ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 الليل والقمرَ، يقول: إنما تكسفُ النجومَ والقمرَ بإفراطِ ضيائها، فإذ كانت من الحزن عليه قد ذب ضياؤها ظهرت الكواكبُ. ويقال: إن الغبار يوم حليمة سد عين الشمس فظهرت الكواكب المتباعدةُ عن مطلع الشمسِ. ويوم حليمة هو اليوم الذي سافر فيه المنذرُ بن المنذرِ بعربِ العراق إلى الحارث الأعرج الغساني، وهو الأكبر، والحارث في عربَ الشأم وهو أشهر أيام العرب؛ ومن أمثالهم في الأمر الفاشي: "ما يوم حليمة بسرٍّ"، وفيه يقولُ النابغة: تخيرن من أزمان يومِ حليمةٍ ... إلى اليوم قد حرثن كل التجاربِ وأظن قول القائل من العرب: "لأرينك الكواكبَ ظهراً"؛ إنما أخذ من يوم حليمةَ، قال طرفةُ: إن تنولهُ فقد تنمعه ... وتريه النجمَ يجري بالظهرْ وقال الفرزدق لخالدِ بن عبد الله القسري: لعمري لقد سار ابن شبية سيرةٌ ... أرتكَ نجومَ الليل مُظهرةً تجري ويجوز أن يكون: "نجوم الليل والقمرا" أراد بهما الظرف، يقول: تبكي الشمسُ عليك مدة نجوم الليل والقمرِ، كقولك: تبكي عليك الدهرَ والشهرَ، وتبكي عليك الليل والنهارَ، يا فتى، ويكونُ: تُبكي عليك الشمس النجومَ، كقولك: أبكيت زيداً على فلانٍ لما رأيتُ به. وقد قال في هذا المعنى أحدُ المحدثين شيئاً مليحاً، وهو أحمد أخو أشجع السلمي، بقوله لنصر بن شبث العقيلي، وكان أوقع بقومٍ من بني تغلبَ بموضعٍ يعرفُ بالسواجيرِ، وهو أشبه بالشعرِ، قال: للهِ سيفٌ في يدي نصرِ ... في حده ماءُ الردى يجري أوقعنصر بالسواجير ما ... لم يوقع الجحاف بالبشرِ أبكي بني بكرٍ على تغلبٍ ... وتغلباً أبكي على بكرِ ويكون: "تبكي عليك نجوم الليل والقمر"، على أن تكون الواو في معنى مع، وإذا كانت كذلك فكان قبل الاسم الذي يليه أو بعده فعلٌ انتصب لأنه في المعنى مفعول وصل الفعل إليه فنصبه. ونظيرُ ذلك: استوى الماء والخشبة لأنك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 لم ترد استوى الماء واستوت الخشبة؛ ولو أردت ذلك يم يكن إلا الرفع، ولكن التقدير: ساوى الماءُ الخشبة، وكذلك "ما زلت أسير والنيلَ" يا فتى؛ لأنك لست تخبر عن النيل بسير، وإنما تريدُ أن سيرك بحذائه ومعه، فوصل الفعلُ. وهذا بابٌ يطولُ شرحه. فإن قلتَ: "عبد الله وزيدٌ أخواك" وأنت تريد بالواو معنى مع، لم يكن إلا الرفعُ، لن قبلها اسماً مبتدأ، فهي على موضعِهِ. وأجود التفسير عندنا في قوله الله جلَّ وعزَّ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} 1 أن تكون الواو في معنى مع، لأنك تقولُ: أجمعت رأيي وأمري، وجمعتُ القومَ، فهذا هو الوجهُ. وقومٌ ينصبونه على دخوله بالشركة مع اللام في معنى الأول، والمعنى الاستعدادُ بهما، فيجعلونه كقولِ القائلِ: يا ليت زوجكِ قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحا والرمح لا يتقلد، ولكن أدخل مع ما يتقلد، فتقديره: "متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً"، ويكون تقدير الآية: فأجمعوا أمركم وأعدوا شركاءكم. والمعنى يؤول إلى أمر واحدٍ. ومن ذلك قوله: شراب ألباٍ وتمرٍ وأقطْ فأما ما جاء من القرآن على هذا خاصة؛ فقوله جل وعزَّ {َوَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} 2 فأدخل من ههنا، لأن الناس مع هذه الأشياء، فجرت على لفظٍ واحدٍ، ولا تكون من إلا لمن يعقل إذا أفردتها.   1 سورة يونس 71. 2 سورة النور 45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 لرجل يشكو إلى عمر بن عبد العزيز وقال رجلٌ لعمر بن عبد العزيز يشكو إليه عمالهُ: إن الذين أمرتهم أن يعدلوا ... نبذوا كتابكَ واستحل المحرمُ واردت أن يلي الأمانة منهمُ ... بر وهيهات الأبرُّ المسلمُ طلسُ الثياب على منابرِ أرضنا ... كل بنقصِ نصيبنا يتكلمُ أنشدنيه الرياشي على الأصمعي. ونظير هذا قول ابن همام السلولي: إذا نصبوا للقول قالوا فإحسنوا ... ولكن حسن القول خالفه الفعلُ ودموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... إفاويق حتى ما يدر لها ثعلُ وقد مر تفسير هذا الشعر. والأطلسُ: الأغبرُ، وربما اشتدت غبرته حتى يخفى في الغبار، وإنما أراد بقوله: طلسُ الثياب أنهم يظهرون تقشفا، ويكون أن يكون جعلهم بمنزلة الذئاب، وهو أحسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 عمر بن الخطاب مع أحد ولاته ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله ولى رجلاً بلداً، فوفد عليه، فجاءه مدهناً حسن الحالِ في جسمه، عليه بردانِ، فقال له عمرُ: أهكذا وليناك! ثم عزلهُ، ودفع إليه غنيمات يرعاها، ثم دعا به بعد مدةٍ، فرآه بالياً أشعث في ثوبين أطلسين، وذكر عند عمر بخير، فرده إلى عمله، وقال: كلوا واشربوا وادهنوا، فإنكم تعلمون الذي تنهون عنه. ويروى عن الحسن أنه قال: اقربوا من هذه الأعوادِ1، فإنهم إذا رقوها لقنوا الحكمةَ، لتكون عليهم حجةً يوم القيامةِ.   1 الأعواد هنا: المنابر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 لرجل يرثي عمر بن عبد العزيز وقال رجل لعمر بن عبد العزيز يرثيه، أنشدنيه الرياشي: قد غيب الدافنون اللحد إذ دفنوا ... بدير سمعان قسطاس الموازينِ1 من لم يكن همه عيناً يفجرها ... ولا النخيل ولا ركض البراذينِ أقولُ لما أتاني ثم مهلكه: ... لا يبعدن قوامُ الملكِ والدينِ يقال: هذا قوام الأمر وملاكه لا غيرُ، وتقول: فلانٌن حسنُ القوامِ؛ مفتوحٌ، تريد بذلك الشطاط2، لا يكون إلا ذاك، وقوام إذا كان اسماً لم تنقلب واوه ياءً   1 دير سمعان: بلد بنواحي دمشق. 2 الشطاط: حسن القوام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 من أجل الكسرة، لأنها متحركة، إلا أن يكون جمعاً قد كانت الواو في واحده ساكنةً، فتنقلب في الجمع، لأن حركتها لعلةٍ، تقول: سوطٌ وسياطٌ وثوبُ وثيابٌ وحوضٌ وحياضٌ؛ فإن كانت الواو في الواحد متحركةً ثبتت في الجمع، نحو طويل وطوال، وكذلك فعالٌ إذا كان مصدراً صح إذا صح فعله، واعتل إذا اعتل فعله، فما كان مصدراً لفاعلتَ فهو فعالٌ صحيحٌ، تقول: قاولتهُ قوالاً، ولاوذته لواذاً، كقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً} 1، أي ملاوذة، وإذا كان مصدر فَعَلْتُ اعتل لاعتلال الفعل فقلت: قمت قياماً، ونمتُ نياماً، ولذتُ لياذاً، وعذتُ عياذاً.   1 سورة النور 63. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 لعويف القوافي يرثي سليمان بن عبد الملك وقال عويف القوافي شعراً، يرثي سليمان بن عبد الملك، ويذكر عمرَ بن عبد العزيز، هذا ما اخترنا منه: لاح سحابٌ فرأينا برقهُ ... ثم تدانى فسمعنا صعقهُ وراحت الريحتزجي بلقهُ ... ودهمه ثم تزجي ورقهُ ذاك سقى ودقاً فروى ودقهُ ... قبرَ امرىءٍ أعظم ربي حقهُ قبر سليمان الذي من عقهُ ... وجحد الخير الذي قد بقهُ في العالمين جلهُ ودقهُ ... لما ابتلى اللهُ بخيرٍ خلقهُ وكادتِ النفسُ تساوي خلقهُ ... ألقى إلى خير قريشٍ وسقهُ يا مرَ الخير الملقى وفقهُ ... سميت بالفاروقِ فافرقْ فرقهُ وأرزق عيال المسلمين رزقهُ ... واقصد إلى الخير ولا توقهُ بحرك عذابُ الماء من أعقهُ ... ربكَ، والمحرومُ من لم يسقهُ يقال: لاح البرق، إذا بدا، وألاح إذا تلألأ، وهذا البيت ينشدُ: من هاجه الليلة برقٌ ألاحْ ويقال: شرقتِ الشمسُ، إذا بدتْ، وأشرقت إذا أضاءت وصفت. ويقال: ساعقةٌ وصاقعةٌ؛ وبنو تميم تقول: صاقعةٌ؛ والصعقُ شدةُ الرعد، ويعنى في أكثر ذلك ما يعتري من يسمعُ صوت الصاعقةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وقوله: تزجي يقول: تسوقه وتستحثهُ. والأبلق من الساحب: ما فيه سوادُ وبياضٌ، وفي الخيل: كل لونٍ يخالطهُ بياضٌ فهو بلقٌ. والأورقُ: الذي بين الخضرةِ والسوادِ، وهو ألأم ألوان الإبل، ويقال: إن لحم البعير الأورق أطيبُ لحمانِ الإبلِ. والودقُ: المطرُ، يقال: ودقتِ السماءُ يا فتى، تدقُ ودقاً، قال الله جل وعزّ: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} 1، وقال عامرُ بن جوين الطائي: فلا مزنةٌ ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها وأصل العق القطعُ في هذا الموضع، وللعق مواضعُ كثيرة، يقال: عقَّ والديه يعقهما إذا قطعهما، وعققت عن الصبي2 من هذا، وقالوا: بل هو من العقيقة وهي الشعر الذي يولد الصبي به، يقال: فلان بعقيقته إذا كان بشعر الصبا لم يحلقهُ، ويقال: سيف كأنه عقيقة؛ أي كأنه لمعةُ برقٍ، يقال: رأيتُ عقيقة البرق يا فتى، أي اللمعة منه في السحاب، ويقال: فلانٌ عقتْ تميمته ببلد كذا، أي قطعت عنه في ذلك الموضع، قال الشاعر: ألم تعلمي يا دار بلجاء أنني ... إذا أخصبت أو كان جدباً جنابها أحب بلاد الله ما بين مشرفٍ ... إلي وسلمى أن يصوب سحابها بلاد بها عق الشبابُ تميمتي ... وأول أرضٍ مس جلدي ترابها وقوله: وجحد الخير الذي قد بقهُ يقال: بق فلانٌ في الناس خيراً كثيراً، وبق ولداً كثيراً، وابقَّ كلاماً كثيراً. وقوله: ألقى إلى خيرقريشٍ وسقهُ فهذا مثل، يريد: قلدهُ أمره، والوسق الحمل.   1 سورة النور43. 2 أى ذبحت عنه عقيقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وقوله: الملقى وفقه، يقال: لقي فلانٌ خيراً، أي جعل يلقاهُ، والوسق من الكيل: مقدارُ خمسة أقفزة بقفيز، وهو قفيزان ونصفٌ بقفيز مدينة السلامِ. وقوله: "ليس في أقل من خمسة أوسقٍ صدقةٍ" إنما مبلغ ذلك خمسة وعشرون قفيزاً بالبصري. والوفقُ: التوفيقُ. وقوله: "سميت بالفاروقِ" فتأويل الفاروق هو الذي يفرق بين الحقِّ والباطلِ، وكذلك قال المفسرون في الفرقان، وقد أبان ذلك بقوله: فافرق فرقهُ. وقوله: وارزق عيالَ المسلمين رزقهُ يقال: رزقه يرزقه رزقاً، والاسم الرزقُ. وقوله: بحرك عذبُ الماءِ ما أعقهُ مقلوبٌ، إنما هو ما أقعه ربك. يقال: ماء قعاعُ، وماءُ حراقٌ. فالقعاع: الشديد الملوحة، يقول: ما أملحه ربك، والحراقُ: الذي يحرقُ كل شيءٍ بملوحته، والماء العذب يقال له: النفاخُ، وما دون ذلك شيئاً يقال له: المسوسُ. أنشد أبو عبيدة: لو كنت ماءً كنتَ لا ... عذبَ المذاقِ ولا مسوسا يقال: ماء عذبٌ، وماءُ فراتٌ، وهو أعذب العذبِ، ويقال: ماءُ ملح، ولا يقال: مالحٌ، وسمكٌ مملوحُ ومليحٌ، ولا يقالُ: مالحٌ، وأشدُ الماء ملوحةً الأجاج، قال الفرزدق: ولو اسقيتهم عسلاً مصفى ... بماء النيل أو ماء الفراتِ لقالوا إنه ملحٌ أجاجٌ ... أراد به لنا إحدى الهناتِ وقوله: ذاك سقى ودقاً فروى ودقهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 يقال فيه قولان: أحدهما: فروى الغيم ودقه هذا القبرَ، يريدُ: من ودقه، فلما حذف حرف الجر عملَ الفعل والآخر كقولك: "رويت زيداً ماءً"، وروى أكثرُ من أروى، لأن روى لا يكون إلا مرةً بعد مرةٍ، يقول: فروى الله ودقه أي جعله رواءٌ، فأضمر لعلم المخاطبِ، لأن قوله: لاح سحابٌ، إنما معناه: ألاحه الله، فالفاعل كالمذكور، لأن المعنى عليه، ونظيره قوله جل وعزَّ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} 1 وكذلك {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} 2ولم يذكر الأرض. وقال قومٌ: ودقه، يريد ودقةً واحدةً، وهذا رديء في المعنى، ليس بمبالغٍ.   1 سورة ص32. 2 سورة فاطر 45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 لإسحاق بن إبراهيم الموصلي قال ابن الموصلي: لعمري لئن حلئت عن منهلِ الصبا ... لقد كنتُ وراداً لمنهله العذبِ ليالي أمشي بين برديَّ لاهيا ... أميس كغصنِ البانةِ الناعمِ الرطبِ سلامٌ على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامةِ والشربِ سلام امرىءٍ لم تبق منه بقيةٌ ... سوى نظرِ العينين أو شهوة القلبِ قوله: والشرب؛ يريد جمع شاربٍ، يقال: شاربُ وشربٌ، وراكبٌ وركبٌ، وتاجرٌ وتجرٌ، وزائرٌ وزورٌ، قال الطرماحُ: حب بالزور الذي لا يرى ... منه إلا صفحةٌ عن لِمامِ وهذا بابٌ متصل كثيرٌ، قال العجاجُ: بواسطٍ أكرمُ دارٍ دارا ... واللهُ سمى نصرك الأنصارا يريد أنصارك، فأخرجه على ناصرٍ ونصرٍ. وقوله: "سلام امرىء" على البدلِ من قوله: "سلامٌ على سيرِ القلاص" وإن شئت نصبت بفعلٍ مضمرٍ، كأنك قلت: اسلمُ سلامَ امرىءٍ، لأنك ذكرت سلاماً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 أولاً، ومثل ذلك: له صوتٌ صوت حمارٍ، لأنك لما قلتَ: له صوتٌ دللت على أنه يصوتُ، كأنك قلت: يصوتُ صوتَ حمارٍ، وكذلك: "له حنينٌ حنينَ ثكلى" و: له صريفٌ صريفَ القعوِ بالمسدِ أي: يصرف صريفاً، فما كان من هذا نكرةً فنصبه على وجهين: على المصدر، وتقديره: يصرف صريفاً مثل صريف جملٍ، وإن شئتَ جعلتهُ حالاً، وتقديره؛ يخرجه في هذه الحال. وما كان معرفةً لم يكن حالاً ولكن على المصدر، فإن كان الأول في غير معنى الفعلِ لم يكن النصبُ البتة ولم يصلح إلا الرفع على البدل، تقول: له رأسٌ رأسُ ثورٍ، وله كفُّ كفُّ أسدٍ، فالمرتفعُ الثاني إذا كان نكرةً كان بدلاً أو نعتاً، وإذا كان معرفةً كان بدلاً ولم يكن نعتاً، لأن النكرة لا تنعت بالمعرفة، وكذلك إذا كان الأول ابتداء لم يجز إلا الرفعُ، لأن الكلام غير مستغن؛ وإنما يجوز الإضمار بعد الاستغناء، تقول: صوته صوتُ الحمار، وغناؤه غناء المجيدي، وكذلك إن خبرت بأمرٍ مستقر فيه اختيرَ الرفع، تقول: له علمٌ علمُ الفقهاء، وله رأيٌ رأيُ القضاة؛ لأنك إنما تمدحه بأن هذا قد استقر له، وليس الأبلغ في مدحه أن تخبر بأنك رأيته في حال تعلم. ويجوز النصب على أنك رأيته في حال تعلم فاستدللت بذلك على علمه، فهذا يصلحُ. والأجود الرفع. فإذا قتل: "له صوتٌ صوتَ حمارٍ"؛ فإنما خبرت أنه يصوتٌ، فهذا سوى ذلك المعنى. ومما يختار فيه الرفعُ قولك: عليه نوحٌ نوحُ الحمامِ، وإنما أختير الرفع لأن الهاء في عليه اسم المفعولِ له، والهاءَ في له اسمُ الفاعلِ. ويجوز النصبُ على أنك إذا قلتَ: عليه نوحٌ دل النوحُ على أن معه نائحاً، فكأنك قلت: ينوحون نوح الحمامِ؛ فهذا تفسيرُ جميع هذه الأبواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 لابن الخياط المديني وقال ان الخياط المديني، يعني مالكَ بنَ أنسٍ: يأبى الجواب فما يراجعُ هيبةً ... والسائلون نواكسُ الأذقانِ هدي التقي وعز سلطانِ النهى ... فهو العزيزُ وليس ذا سلطانِ أراد: له هديُ التقيِّ، أو معه هيُ التقيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 باب نبذ من أقوال الحكمية ... باب قال أبو العباس: نذكر في هذا الباب من كل شيءٍ، ليكون فيه استراحةٌ للقارىء، وانتقالٌ ينفي الملل، لحسن1 موقع الاستطراف، ونخلط ما فيه من الجدّ بشيء يسيرٍ من الهزل، ليستريح إليه القلب، وتسكن إليه النفس. نبذ من الأقوال الحكيمة قال أبو الدّرداء رحمه الله: إني لأستجمُّ نفسي2 بشيء3 من الباطل ليكون أقوى لها على الحقِّ. وقال عليُّ بن أبي طالب رحمه الله: القلب إذا أكره عمي. وقال ابن مسعود4 رحمه الله: القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان فابتغوا لها ططرائف الحكمة. وقال ابن عباس رضي الله عنه: العلم أكثر من أن يؤتى على آخره، فخذوا5 من كل شيءٍ أحسنه. وليس هذا الحديث من الباب الذي ذكرنا، ولكن نذكر الشيء بالشيء، إمَّا لاجتماعهما في لفظٍ، وإمَّ لاشتراكهما في معنى. وقال الحسن -وليس من هذا الباب-: حادثوا هذه القلوب، فإنها سريعة الدُّثور، واقدعوا هذه الأنفس، فإنها طلعةٌ، وإنكم إلاّ تنزعوها تنزع بكم إلى شرّ غاية. وقد مضى تفسير هذا الكلام. وقال أردشير بن بابك: إن للآذان مجَّةً، وللقلوب مللاً، ففرّقوا بين الحكمتين يسكن ذلك استجماماً. وكان أنوشروان يقول: القلوب تحتاج إلى أقواتها من الحكمة كاحتياج الأبدان إلى أقواتها من الغذاء.   1 س: "بحسن". 2 أستجم نفسى يريد أريحها وأصله في البئر؛ تترك بعد الاستقاء ليتراجع ماؤها. 3 كذا في الأصل، س، وفي ر: "لشيء". 4 س: "عبد الله بن مسعود". 5 كذا في الأصل، س، وفي ر: "فخذ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 ويروى أنه أصيب في حكمة آل داود1: لا ينبغي للعاقل إن يخلي نفسه من واحدة من أربع: من عدّةٍ2 لمعادٍ، أو إصلاح3 لمعاش، أو فكرٍ يقف به على ما يصلحه مما يفسده، أو لذّةٍ في غير محرّمٍ يستعين بها على الحالات الثلاث. وقال عبد الله بن عمر بن عبد العزيز لأبيه يوماً: يا أبة، إنك تنام نوم القائلة، وذو الحاجة على بابك غير نائمٍ? فقال له: يا بنيَّ، إنّ نفسي مطيّتي، فإن حملت عليها في التعب حسرتها. تأويل قوله: "حسرتها": بلغت بها أقصى غاية الإعياء، قال الله جلَّ وعزَّ: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 4. وأنشد أبو عبيدة: أنّ العسير بها داءٌ مخامرها ... فشطرها نظر العينين محسور قوله: "فشطرها" يريد قصدها ونحوها، قال الله جلَّ وعزَّ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 5 [و] 6 قال الشاعر7: لهنَّ الوجالم كنَّ عوناً على النَّوى ... ولا زال منها ظالعٌ وحسير يعني الإبل، يقول: هي المفرِّقة، كما قال الآخر: ما فرَّق الألاّف بعـ ... ـد الله إلاّ الإبل ولا صاح غرا ... بٌ في الديار احتملوا وما غراب البين ... إلاّ ناقة أو جمل قال أبو الحسن: وزادني فيه غير أبي العباس:   1 كذا في الأصل، س، وفي ر:"داءد" بالهمزة والأوجه ما أثبتناه. 2 ر: "غدو"، وما أثبته عن ر والأصل. 3 س: "صلاح". 4 سورة الملك 4. 5 سورة البقرة: 144. 6 من س. 7 هو جميل بن معمر العذرى، قاله المرصفى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 والناس يلحون غرا ... ب البين لمَّا جهلوا والبائس المسكين ما ... يطوى عليه الرِّحل ويقال: إنه لأبي الشّيص. فمن قال: "آلفٌ" للواحد قال للجميع1 "ألاّفٌ" كعمل وعمّالٍ، وشاربٍ وشرَّابٍ، وجاهلٍ وجهَّالٍ. ومن قال للواحد: إلفٌ، قال للجميع: آلافٌ، وتقديره: عدلٌ وأعدالٌ، وحملٌ وأحمالٌ. وثقلٌ وأثقالٌ.   1 كذا في س، وفي الأصل، س: "قال آلاف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 في وصف الإبل وقد أنصف الإبل الذي يقول: ألا فرعى الله الرَّواحل إنما ... مطايا قلوب العاشقين الرَّواحل على أنهنَّ الواصلات عرى النَّوى ... إذا ما نأى بالآبقين التَّواصل وقال الآخر: أقول والهوجاء تمشي والفضل ... قطعت الأحداج أعناق الإبل الهوجاء: التي تجدُّ في السَّير وتركب رأسها، كأنَّ بها هوجاً، كما قال: لله درّ اليعملات الهوج وكما قال الأعشى: وفيها إذا ما هجَّرت عجرفيَّةٌ ... إذا خلت حرباء الوديقة أصيدا والفضل: مشية فيها اختيالٌ، كأنّ مشيتها تخرج عن خطامها فتفضل عليه، والأصل في ذلك أن يمشي الرجل وقد أفضل من إزاره، وتمشي المرأة وقد أفضلت من ذيلها، وإنما يفعل ذلك من الخيلاء، ولذلك جاء في الحديث: "فضل الإزار في النار"، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي تميمة الهجيميِّ: "وإيَّاك والمخيلة" 1، فقال: يا رسول الله، نحن قومٌ عرب، فما الخيلة? فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سبل الإزار".   1 المخيلة: الكبر والعجب والخيلاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وقال الشاعر1: ولا ينسيني الحدثان عرضي ... ولا أرخي من المرح الإزارا وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاريُّ: تمشي الهوينى إذا مشت قطفاً2 ... كأنَّها عود بانةٍ قصف [قال أبو الحسن: هذا وهم من أبي العباس، وما تروى إلاّلقيس بن الخطيم الأنصاري] . وقال الوليد بن يزيد: أنا الوليد الإمام مفتخراً ... أنعم بالي وأتبع الغزلا3 أنقل رجلي إلى مجالسها ... ولا أبالي مقال من عذلا غرَّاء فرعاء يستضاء بها ... تمشي الهوينى إذا مشت فضلا ثم نعود إلى الباب، قال الراجز يصف إبلاً أو نوقاً4: إنَّ لها لسائقاً خدلَّجا ... لم يدلج الليلة فيمن أدلجا الخدلَّج: المدمج السَّاقين، وإنما عنى المرأة التي ساقه حبُّه إليها.   1 زيادات ر: "ويقال إنه لقيس بن الخطيم". 2 كذا في الأصل، س، وفي ر: "فضلا". 3 كذا في الأصل، وفي ر، س: قال علي بن سليمان: مانعرف هذا البيت إلا لقيس بن الخطيم الأنصاري يعني: "تمشى الهويني". 4 كذا في الأصل: س، وفي ر: "يعني إبله أو ناقته". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 ضروب الكلام والكلام يجري على ضروب؛ فمنه ما يكون في الأصل لنفسه، ومنه ما يكنى عنه بغيره، ومنه ما يقع مثلاً، فيكون أبلغ في الوصف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 والكناية تقع على ثلاثة أضربٍ: أحدها: التَّعمية والتَّغطية، كقول النابغة الجعديّ: أكنِّي بغير اسمها وقد علم الله ... خفيات كلِّ مكتتم1 وقال ذو الرُّمَّة، استراحةً إلى التصريح من الكناية: أحبُّ المكان من أجل أنَّني ... به أتغنى باسمها غير معجم وقال أحد القرشيين2: وقد أرسلت في السرِّ أن قد فضحتني ... وقد بحت باسمي في النَّسيب وما تكني ويروى أن عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة قال شعراً، وكتب به إلى امرأةٍ محرمةٍ3 بحضرة ابن أبي عتيق، وهو: ألما بذاتِ الخالِ فاستطلعا لنا ... على العهد باقٍ ودها أم تصرما وقولاَ لها إن النوى أجنبيةٌ ... بنا وبكر قد خفت أن تتيمما قال: فقال له ابن أبي عتيقٍ: ماذا تريد إلى امرأةٍ مسلمةٍ4 محرمة تكتبُ إليها بمثل هذا الشعر! قال: فلما كان بعد مديدةٍ قال له ابن أبي ربيعة. أعلمتَ5 أن الجوابَ جاء6 من عندِ ذاك الإنسان? فقال له: ما هو? فقال: كتبت: أضحى قريضكَ بالهوى نماما ... فاقصد هديتَ وكن له كتاما واعلم بأن الخال حين ذكرته ... قعد العدو به عليك وقاما ويكن من الكناية - وذاك أحسنها- الرغبةُ عن اللفظ الخسيس المفحش إلىما يدل على معناه من غيره، قال الله - وله المثل الأعلى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ   1 ر "مكتتم" بفتح التاءين. 2 زيادات ر "هو محمد بن نمير الثقفى". 3 ر: "وكتب به محضرة ابن أبي عتيق إلى امرأة محرمة". 4 كلمة "مسلمة" ساقطة من س. 5 كذا في الأصل، ص، وفي س: "أما علمت". 6 كذا في الأصل، وفي س: "قد جاء"، وفي ر: "جاءنا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 1 وقال: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 2 والملامسة في قول أهل المدينة - مالكٍ وأصحابه - غير كنايةٍ، إنما هو اللمسُ بعينه، يقولون في الرجلِ تقع يده على امرأته أو على جاريتهِ بشهوةٍ3: إن وضوءه قد انتقض. وكذلك قولهم في قضاء الحاجةِ: جاء فلان من الغائطِ، وإنما الغائط الوادي، وكذلك المرأةُ، قال عمروُ بن معدي كرِب الزبيديُّ: فكم من غائطٍ من دون سلمى ... قليل الإنس ليس به كتيعُ وقال الله جل وعزَّ في المسيح ابن مريمَ وأمهِ صلى الله عليهما: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 4، وإنما هو كنايةٌ عن قضاء الحاجة. وقال: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} 5؛ وإنما هي كنايةق عن الفروج. ومثل هذا كثيرٌ. والضرب الثالث من الكناية: التفخيم والتعظيمُ، ومنه اشتقت الكنيةُ وهو أن يعظمض الرجل أن يدعى باسمه، ووقعت في الكلام على ضربين: وقعت في الصبيِّ على جهة التفاؤل؛ بأن يكون له ولدٌ ويدعى ولده كنايةً عن أسمه، وفي الكبير أن ينادى باسم ولده صيانةً لاسمهِ؛ وإنما يقال: كنيَ عن كذا بكذا، أي تركَ كذا إىل كذا، لبعض ما ذكرنا. وكان خالدُ بن عبد الله القسري لعنه الله يلعن عليا رضي الله عنه على المنبر فيقول: فعل الله على علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد منافٍ ابن عمّش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوج ابنته فاطمة وأبي الحسن والحسين. ثم يُقبلُ على الناسِ ويقول: أكنيتُ! فهذا تأويل هذا.   1 سورة البقرة: 187. 2 سورة النساء 43. 3 ر: "بشهوة". 4 سورة المائدة 7. 5 سورة فصلت: 31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 لأعرابي ونرجع إلى الباب الذي قصدنا له: وقال أعرابي: وحقهِ مسكٍ من نساءٍ لبستها ... شبابي وكأسٍ باكرتني شمولها1   1 حقة مسك هنا، كناية عن المرأة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 جيدةِ سربال الشباب كأنها ... أباءةُ برديٍّ سقتها غيولها محملةٍ باللحم من جون خصرها ... تطولو القصارَ والطوال تطولها قوله؛ "باكرتني شمولها"، زعم الأصمعي أن الخمر إنما سميت شمولاً لأن لها عصفة كعصفة الريح الشمال. وقوله: "أباءةُ بردي" الأباءة: القصبةُ، وجمعها الأباءُ، يا فتى1. قال كعبُ بن مالكٍ الأنصاريُّ: من سرهُ ضربٌ يرعبلُ بعضهُ ... بعضاً كمعمعة الأباءِ المحرقِ2 المعمعة: صوت إحراقه، يقال: سمعتُ معمعة القصب والقوصرة في النار، أي صوت احتراقها. وإنما شبهَ المرأة بالبردية والقصبة لبقاء اللون المستتر منها وما والاهُ ورقته. قال حميدُ بن ثور الهلاليُّ: لم ألق عمرة بعد إذ هي ناشىء ... خرجت معطفة عليها مئزرُ برزت عقيلة أربع هادينها ... بيض الوجوه كأنهن العنقرُ العطاف: الوشاح للناس، والعنقرُ: أصولُ القصبِ، يقال: عنقرٌ وعنقرٌ، وفي هذا الشعر: ذهبت بعقلك ريطةٌ مطويةٌ ... وهي التي تهدى بها لو تنشرُ3 [قال أبو الحسنِ: أنشدنيه ثعلبٌ في قوله: لو تنشرُ: تشعر] . فهممت أن أغشى إليها محجراً ... ولمثلها يغشى إليه المحجرُ4 وقوله: "سقتها غيولها" الغيل: ههنا: الأجمة، ومن هذا قوله: أسدُ غيل، قال طرفةُ:   1 ساقطة من ر. 2 يرعبل: يمزق. 3 الريطة: الملاءة البيضاء. 4 المحجر: المحرم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 أسدُ غيلٍ فإذا ما شربوا ... وهبوا كل أمونٍ وطمرْ 1 وقد أملينا جميع ما في الغيل والغيلِ. وقوله: تطول القصارَ والطوال تطولها طال: يكون على ضربين: أحدهما تقديره: فعل، وهو ما يقع في نفسه انتقالاً لا يتعدى إلى مفعول، نحو ما كان كريماً فكرمَ، وما كان وضيعاً ولقد وضع، وما كان شريفاً ولقد شرفَ، وكان الشيءُ صغيراً فكبرَ، وكذلك قصيراً فطال، وأصله طولَ. وقد أخبرنا بقصةِ الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وهما متحركتان، وعلى ذلك يقال في الفاعل: فعيلٌ نحو شريفٍ، وكريم، وطويل. فإذا قلتَ: طاولني فطلتهُ، أي فعلوته طولاً، فتقديره فعل نحو خاصمني فخصمتهُ، وضاربني فضربتهُ، وفاعلُهُ طائلٌ، كقولك ضاربٌ، وخاصمٌ. وفي الحديث: "كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوقَ الربعةِ، وإذا مشى مع الطوالِ طالهمُ".   1 الأمون: الناقة الوثيقة الخلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 بين رياح بن سنيح وجرير وقال رياحُ بن سنيحٍ الزنجي مولى بن تاجية - وكان فصيحاً - يجيب جريراً، لما قال جرير: لا تطلبن خؤولة في تغلبٍ ... فالزنجُ أكرمث منهمُ أخوالاَ فتحرك رياحُ فذكر أكثر من ولدته الزندُ من أشراف العربِ في قصدةٍ مشهورةٍ معروفةٍ، يقول فيها: والزنجُ لو لاقيتهم في صفهم ... لاقيت ثم جحاجحاً أبطالاَ ما بالُ كلبِ بني كليبٍ سبهم ... إن لم يوازن حاجباً وعقالاَ إن الفرزدق صخرةٌ عاديةٌ ... طالت فليس تنالها الأجبالاَ يريد: طالتِ الأجبال وعلت1 فليس تنالها.   1 ساقطة من ر، وهي في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 لمروان بن أبي حفصة ثم نعود إلى ذكر الباب. وقال مروان بن أبي حفصة، وهو مروان بن سليمان بن يحيى بن يحيى بن أبي حفصة، واسم أبي حفصة يزيدُ: إن الغواني طالما قتلننا ... بعيونهن ولا يدين قتيلا من كل آنسةٍ كأن حجالها ... ضمن أحور في الكناسِ كحيلاَ أردين عروة والمرقش قبله ... كل أصيب وما أطاق ذهولا ولقد تركن أبا ذؤيبٍ هائماً ... ولقد تبلنَ كثيراً وجميلا وتركن لابن أبي ربيعة منطقاً ... فيهن أصبح سائراً محمولا إلا أكن ممن قتلن فإنني ... ممن تركن فؤاده مخبولا قوله: "ولا يدين قتيلا" يقال: ودي يدي، وكل ما كان من فَعَلَ مما فاؤه واوٌ ومضارعُه يَفْعِل فالواوُ ساقطةٌ منه1، لوقوعها بني ياءٍ وكسرةٍ، وكذلك ما كان منه على فَعِلَن يَفْعِلُ، لأن العلةَ في سقو الواو كسرةٌ العين بعدَها. وقد مضى تفسيرُ هذا. ولكن في يدينَ علة أخرى، وهي أن الياء التي هي لام الفعلِ بعد كسرةٍ، فهي تعتلُّ اعتلال آخر يرمي، وأوله يعتل اعتلال واو يعد، واحتمل علتين لأن بينهما حاجزاً، ومثل ذلك وعى يعي، ووقى يقي، ووفى يفي، ووشى يشي، وونى في أمر1 يني، وما أشبه ذلك. ويقعُ في فَعِلَ، نحو وَلَى الأميرُ الآن يلي. فإذا أمرتَ كان الفعل على حرفٍ واحدٍ في الوصلِ، لاتصاله بما بعده، تقول: يا زيد ع كلاماً، وشِ ثوباً، وتقولُ: لِ عمراً يا زيدُ، من وليتُ، فإذا وقفت قلت: لهْ، وشِهْ، وقِهْ، لايكون إلا ذلك، لأن الواوَ تسقطُ فتبتدىء بمتحركٍ، فلا تحتاجُ2 إلى ألفِ وصل3، فإذا وقفت احتجت إلى ساكنٍ تقفُ عليه   1 س: "في أمره". 2 س: "يحتاج". 3 س: "الوصل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 فأدخلت الهاء لبيان الحركةِ1 في الأول، ولم يجز إلا ذلك. ومن قال لك: الفظ لي بحرفٍ واحدٍ غير موصولٍ فقد سألك2 محالا، لأنك لاتبتدىء إلا بمحركٍ. ولا تقفُ إلى على ساكنٍ، فقد قال لك الفظ لي بساكنٍ متحرك في حالٍ. وقوله؛ ضمن يقالُ: ضمن القبرُ زيداً، وضمنَ القبرَ زيدٌ؛ كلٌّ صحيحٌ. فمن قال: ضمن القبرُ زيداً، فإنما أراد جعل القبر ضمين زيدٍ، ومنقال: ضمنَ زيدٌ القبرَ، فإنما أراد: جعلَ زيدٌ في ضمنِ القبر، وينشد هذا البيت على وجهين: وما غائبٌ من غابَ يُرجى إيابهُ ... ولكنهُ من ضمنَ اللحدَ غائبُ3 ومن روى "من ضمن اللحدُ غائبُ" يريدُ من ضمنه اللحدُ، وحذفَ الهاءَ من صلةِ من، وهذا من الواضح الذي لا يحتج إلى تفسير. وقوله: أحور يعني ظبياً، وأهل الغريب يذهبون إلى أن الحوار في العين شدةً سوادِ سوادها وشدةُ بياض بياضها، والذي عليه العرب إنما هو نقاءٌ البياضِ، فعند ذلك يتضح السوادُّ. وقد فسرنا الحورَ والحواري. والكناسُ: حيث تكنسُ البقرة والظبيةُ، وهو أن تتخذ في الشجرةِ العادية كالبيت تأوي إليه وتبعر فيه، فيقال إن رائحته أطيبُ رائحة، لطيب ما ترتعي، قال ذو الرمةِ: إذا استهلت عليه غيبةٌ أرجت ... مرابضُ العين حتى يأرجَ الخشبُ كأنه بيتُ عطارٍ يضمنهُ ... لطائم المسكِ يحويها وتنتهب4 قوله: "غيبة" هي الدفعة من المطرِ، وعند ذلك تتحرك الرائحةُ. والأرجُ: توهجُ الريحِ، وإنما يستعمل ذلك في الريح الطيبةِ. والعين: جمعُ عيناءَ، يعني البقرةَ الوحشيةَ، وبها شبهت المرأة، فقيل: حورٌ عينٌ. واللطيمة: الإبلُ التي تحملُ العطرَ والبزَّ، لا تكون لغير ذلك.   1 س: "حركة الأول". 2 س: "سأل". 3 زيادات ر: "لأبى حبة النميري". 4 من س. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 فيقولُ: ضمنَّ ظبياً أحور العين أحكلَ، وجعلَ الحجالَ كالكناسِ. وقال ابن عباس في قول الله جلَّ وعزَّ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} 1 قال: أقسم2 ببقر الوحش لأنها خنسُ الأنوف: والكنسُ: التي تلزمُ الكناسَ. وقال غيره: أقسم بالنجوم التي تجري بالليل وتخنس بالنهار، وهو الأكثر. وقوله: أردين، يقول3: أهلكنَ، والردى: الهلاكُ والموت من ذا. والذهولُ الانصراف، يقال: ذهلَ4 عن كذا وكذا: إذا انصرف عنه إلى غيره. قال الله عز وجل: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تسلى وتنسى عنه إلى غيره. قال كثير: صحا قلبهُ يا عزّ أو كاد يذهلُ ... وأضحى يريدُ الصرمَ أو يتدللُ وقوله: ولقد تبلن كثيراً وجميلاً أصل التبل الترةُ، يقال: تبلي عند فلانٍ؛ قال حسانُ بن ثابتٍ: تبلت فؤادك في المنامِ خريدةٌ ... تشفي الضجيع بباردٍ بسامِ والخريدةٌ: الحييةٌ. وقوله: ممن تركن فؤاده مخبولا يريد: الخبل، وهو الجنون، ولو قال: محبولا لكان حسناً يريدُ مصيداً واقعاً في الحبالةِ، كما قال الأعشى: فلكنا هائم في إثر صاحبهِ ... دانٍ وناءٍ ومحبولٌ ومحتبلُ   1 سورة التكوير 16،15. 2 كذا في الأصل، وفي ر: "أقسم" على المضارع. 3 كذا س، والأصل: أردين: أهلكن. 4 كذا الأصل، وفي ر. "ذهل"، بكسر الهاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 من طرائف العشاق وخبرت أن رجلاً جافياً عشق قينة حضرية، فلكما يوماً على ظهر الطريق فلم تكلمه، فظن أن ذاك حياءٌ منه، فقال: يا خريدة! قد كنتُ أحسبك عروباً، فما بالنا نمقك وتشنئينا! فقالت: يا ابن الخبيثةِ! أتجمشني بالهمزِ! الخريدةٌ: الحيية. والعروبُ: الحسنةُ التبعل، وفسرَ في القرآن على ذلك في قوله: {عُرُباً أَتْرَاباً} 1. فقيل: هن المحباتُ لأزواجهن. وقال أوسُ بن حجر2: تصبي الحليم عروبٍ غير مكلاحِ3 وذكر الليثي أن رجلاً كان يحب4 جاريةً لوم يكن يحسن مما يتوصل به إلى النساء شيئاً، إلا أنه كان يحفظ القرآن، فكان يتوصل إليها بالآية بعد الآية، فكان إن وعدته فأخلفته تحين وقت مرورها، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} 5 وإن خرجت خرجةً ولم يعلم بها فينتظر تحينها في أخرى، فتلا: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} 6. وإن وشى به إليها واشٍ كتبَ إليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} 7. وذكروا أن أبا القمقام8 بن بحر السقاء عشق جارية مدينية، فبعث إليها: إن أخواناً لي زاروني، فابعثي إلي برؤوسٍ حتى نتغدى9 ونصطبح [اليوم] 10 على ذكرك، ففعلت، فلما كان في11 اليوم الثاني بعثَ إليها: إن القوم مقيمون لم   1 سورة الواقعة 37. 2 زيادات ر: "ويقال عبيد بن الأبرص" وصدره كما في الزيادات. وقد لهوت بمثل الرئم آنسة 3 أى غير عبوس. 4 ر: "أحب جارية". 5 سورة الصف 2. 6 سورة الأعراف 188. 7 سورة الحجرات 6. 8 كذا في الأصل، س، وفي ر: "القماقم". 9 كذا في الأصل، س، وفي ر: "تأكلها". 10 تكمله من س. 11 ساقطة من ر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 نفترق، فابعثي إلي بقليةٍ جزوريةٍ وبقريةٍ قديةٍ1 حتى نتغداها ونصطبح على ذكركِ، فلما كان في اليوم الثالث بعثَ إليها: إنا لم نفترق، فابعثي إلي بسنبوسكٍ2 حتى نصطبح اليوم على ذكرك، فقالت لرسوله: إني رأيت الحب يحل في القلبِ، ويفيض إلى الكبدِ والأحشاء، وإن حب صاحبنا هذا ليس يجاوزُ المعدة. وخبرت أن أبا العتاهية كان قد استأذن في أن يطلق له أن يهدي إلى أمير المؤمنين المهدي في النيروز والمهرجان، فأهدى في أحدهما برنيةً ضخمةً، فيها ثوب ناعمُ مطيب، قد كتب في حواشيه: نفسي بشيءٍ من الدنيا معلقةٌ ... الله والقائمُ المهدي يكفيها إني لأيأس منهاثم يطمعني ... فيها احتقارك للدنيا بما فيها3 فهم بدفع عتبة إليه، فجزعت، وقالت: يا أمير المؤمنين، أبعد حرمتي وخدمتي تدفعني4 إلى رجلٍ قبيح المنظر بائع جرار ومكتسبٍ بالعشق! فأعفاها، وقال: املئوا له5 هذه البرنية مالاً، فقال للكاتب: أمر لي بدنانير فقالوا: ما ندفع ذلك، ولكن إن6 شئت أعطيناك دراهم إلى أن يفصح بما أراد، فاختلف في ذلك حولاً، فقالت عتبةُ: لو كان عاشقاً كما يزعم لم يكن يختلف منذ حولٍ في التمييز بين الدراهم والدنانير، وقد أعرض عن ذكري صفحاً. ودعت أبا الحارث جمين7، واحدةٌ كان يحبها، فجعلت تحادثه ولا تذكر   1 القلية الجزوردية: مرقة تتخذ من لحوم الجزور وأكبادها: وبقرية: قطيعة من لحم البقر، وقدية: طيبة الطعم، طيبة الريح. 2 سنبوسك، فارسي مغرب وهو من ضروب الأطعمة. 3 ر، س: "ومافيها" وما أثبته من الأصل. 4 ر: "حرمتى وخدمتي أتدفعني"، وما أثبته عن الأصل. 5 ساقطة من ر. 6 كذا في الأصل، س، وفي ر: "إذا". 7 ر، س: "جميز"، وصوابه مافي الأصل، وهو جمين المدنى صاحب النوادر والمزح" وانظر المشتبه 175. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 الطعام، فلما طال ذلك به قال: جعلني الله فداكِ! لا أسمع للغداء1، ذكراً. قالت: أما تستحيي! أم في وجهي ما يشغلك عن ذا? فقال لها: جعلني الله فداكِ! لو أن جميلاً وبثينة قعدا ساعةً لا يأكلان شيئاً لبزقَ كل واحدٍ منهما في وجهِ صاحبهِ وافترقا. وأنشدت لأعرابيٍّ: وقد رابني من زهدمٍ أن زهدماً ... يشد على خبزي ويبكي على جملِ فلو كنت عذري العلاقةِ لم تكن ... سميناً وأنساك الهوى كثرةَ الأكلِ وقال أعرابي: ذكرتك ذكرةً فاصطدت ضبا ... وكنت إذا ذكرتكِ لا أخيبُ   1 كذا في الأصل، س، وفي ر: "للغداء". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 لذي الرمة في مي ّ وقال ذو الرمة: ألم تعلمي يا ميَّ أنَّا وبيننا ... مهاوًً لطرف العين فيهنَّ مطرح ذكرتك إن مرّت بنا أمُّ شادنٍ ... أمام المطايا تشرئبُّ وتسنح من المؤلفات الرمل أدماء حرَّةٌ ... شعاع الضُّحى في لونها يتوضَّح هي الشِّبه أعطافاً وجيداً ومقلةً ... وميَّة أبهى بعد منها وأملح كأنَّ البرى والعاج عيجت متونه ... على عشرٍ نهيٍ به السَّيل أبطح بئن كانت الدُّنيا عليَّ كما أرى ... تباريح من ذكراك للموت أروح قوله: "مهاوٍ"، واحدتها مهواةٌ، وهو الهواء بين الشيئين. ويقال: لفلان في داره مطرحٌ إذا وصفها بالسَّعة، يقال: فلان يطرح بصره كذا مرَّرةً وكذا مرةً، وأنشد سيبويه: نظّارة حين تعلو الشمس راكبها ... طرحاً بعيني لياحٍ فيه تحديد اللياح من البياض، واللَّوح: العطش، واللُّوح: الهواء. والشَّادن: الذي قد شدن، أي تحرَّك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وقوله: "تشرئب"، يقال: إذا وقف ينظر كالمتحيَّر: قد اشرأبَّ نحوي، ويقال: هو يسرح في المرعى. وقوله: "من المؤلفات"، يقال: "آلفت المكان أولفه إيلافاً"، ويقال: ألفته إلفاً، وفي القآن الكريم: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلاَفِهِمْ} 1 وقرأوا: "إلافهم" على القصر. وقوله: "الرمل" النصب فيه أجود بالفعل، ويجوز الخفض على شيءٍ نذكره بعد الفراغ من هذا الباب، إن شاء الله. وأصل الهجان الأبيض. والعطف: ما انثنى من العنق، قال: تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} 2. ويقال للأردية: العطف؛ لأنها تقع على ذلك الموضع. وفي الحديث: أنَّ قوما ًيزعمون أنهم من قريشٍ أتوا عمر بن الخطاب رحمه الله، وكان قائفاً3، ليثبِّتهم في قريشٍ، فقال: اخرجوا بنا إلى البقيع. فنظر إلى أكفِّهم، ثم قال: اطرحوا العطف-واحدها عطاف- ثم أمرهم فأقبلوا وأدبروا، ثم أقبل عليهم فقال: ليست بأكفِّ قريشٍ ولا شمائلها، فأعطاهم فيمن هم منه. والجيد: العنق. والبرى: الخلاخيل، واحدتها برة، وهي من الناقة التي تقع في مارن الأنف، والذي يقع في العظم يقال له الخشخاش. والعاج كان يتَّخذ مكان الأسورة، قال جرير: ترى العبس الحوليَّ جوناً بكوعها ... لها مسكاً من غير عاجولا ذبل العبس: ما تعلّق4 من الأبعار والبول بأذناب الإبل، والوذح: الذي تعلَّق بأطراف إلاء الشَّء، ويكون العبس في أذناب الإبل من البول إذا خثر.   1 سورة قريش: 1. 2 سورة الحج: 9. 3 القيافة: تتبع الآثار ومعرفتها. 4 كذا في الأصل، س، وفي ر: "مايتعلق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 والجون ههنا: الأسود وهو الأغلب فيه، والكوع: رأس الزَّند الذي يلي الإبهام، والكرسوع: رأسه الذي يلي الخنصر. والمسكة: السِّوار، والذَّبل: شيئٌ يتَّخذ من القرون كالأسورة، ويقال: سوارٌ وسوارٌ، وإسوارٌ: قالت الخنساء: كأن تحت طيِّ البرد إسوار والعشر: شجرٌ بعينه. والأبطح: ما انبطح من الوادي، يقال: أبطح، وبطحاء يا فتى، وأبرق وبرقاء، وأمعز ومعزاء، وهذا كثيرٌ. والتَّباريح: الشدائد، يقال: برَّح به، وفي الحديث: "فأين أصحاب النَّهر" ? قال: لقوا برحاً، والعرب لا تعرفه إلاَّ ساكن الراء، قال جرير: ما كنت أوَّل مشغوفٍ أضرَّ به برح الهوى وعذابٌ غير تفتير قال أبو الحسن: وقد سمعنا من غير أبي العباس، يقال: لقيت منك برحاً، بالفتح. ويقال: لقي منه البرحين، أي الدَّواهي الشِّداد التي تبرّح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 ما قيل في السر وكتمانه قال أبو العباس في المثل السائر: قيل لرجل: ما خفي? قال: ما لم يكن. وفي تفسير هذه الآية: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 1. قال: ما حدَّثت به نفسك. كما قال: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 2، تقديره في العربية: وأخفى منه. والعرب تحذف مثل هذا، فيقول القائل: مررت بالفيل أو أعظم، وإنه كالبقَّة3 أو أصغر، ولو قال: رأيت زيداً أو شبيهاً لجاز، لأنّ في الكلام دليلاً، ولو قال: رأيت الجمل، أو راكباً، وهو يريد: "عليه": لم يجز لأنه لا دليل فيه، والأول إنما قرّب شيئاً من شيءٍ، وههنا إنما ذكر شيئاً ليس من شكل ما قبله. فأما قوله جل ثناؤه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} 4 وفيه قولان: أحدهما - وهو   1 سورة طه 7. 2 سورة البقرة 235. 3 ر: "لكالبقة"، وما أثبته عن الأصل، س. 4 سورة الروم 27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 المرضي عندنا -: إنما هو: وهو عليه هينٌ، لأن الله جلَّ وعزَّ لا يكون عليه شيء أهون من شيءٍ آخرَ. وقد قال معن بن أوسٍ: لعمركَ من أدري وإني لأؤجل ... على أينا تغدو المنيةُ أولُ أرد: وني لوجلٌ، وكذلك يتأول من في الأذن? "الله أكبر الله أكبر"، أي الله كبيرٌ، لأنه إنما يفاضل بين الشيئين إذا كانا من جنس واحد1، يقال: هذا أكبرُ من هذا، إذا شاكله في باب. فأما "الله أجود من فلان" و"الله أعلم بذلك منك"، فوجه2 بين، لأنه من طريقِ العلم والمعرفةِ والبذلِ والإعطاءِ. وقوم يقولون: "الله أكبر من كل شيءٍ"، وليس يقع هذا على محض الروية3، لأنه تبارك وتعالى ليس كمثلهِ شيءٌ4، وكذلك قول الفرزدق: إن الذي سمك السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمه اعز وأطولٌ جائزٌ أن يكون قال للذي يخاطبه: من بيتكَ، فاستغنى عن ذكر ذلك بما جرى من المخاطبة والمفاخرة، وجائز أن تكون دعائمه عزيزةٌ طويلةٌ، كما قال الآخر5: فبحتم يا آل زيدٍ نفرا ... ألأم أصغراً وأكبرا يريد: صغاراً وكباراً. فأما قول مالك بن نويرة في ذؤاب بن ربيعة حيث قتل عتيبة بن الحارث بن شهابٍ، وفخر6 بن أسدٍ بذلك، مع كثرة من قتلت بنو يربوع منهم: فخرت بنو أسدٍ بمقتل واحدٍ ... صدقت بنو أسدٍ عتيبةُ أفضلُ فإنما معناه أفضل ممن قتلوا، على ذلك يدل الكلامُ. وقد أبان ما قلنا في بيته الثاني بقوله:   1 ساقطة من ر. 2 ر: "توجهه" 3 ر: "الرؤية"، وما أتبته عن الأصل، س. 4 ساقطة من ر. 5 ر: "قال الرجز"، وما أثبته عن الأصل، س. 6 ر: "وفخر" بالرفع، وما أثبته عن الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 فخروا بمقتلهِ ولا يوفي به ... مثنى سراتهم الذين نقتل والقول الثاني في الآية: وهو أهون عليه عندكم، لأن إعادة الشيء عند الناس أهون من ابتدائه حتى يجعل شيئاً من لا شيء. ثم نعود إلى الباب. قال زهيرٌ: ومهما تكن عند امرىءٍ من خليقةٍ ... ولو خالها تخفى على الناس تعلمِ فهذا مثل المثل الذي ذكرناه. وقال عمرو بن العاص: إذا أنا افشيت سري إلى صديقي فأذاعه فهو في حل: فقيل له: وكيف ذاك? قال: أنا كنت أحق بصيانته. وقال امرؤ القيس: إذا المرء لم يخزن عليه لسانهُ ... فليس علي شيءٍ سواه بخزانِ وأحسن ما سمع في هذا ما يعزى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقائل يقول: هو له، ويقول آخرون: قاله متمثلا، ولم يختلف في أنه كان يكثرُ إنشاده: فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا وإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا وذكر العتبي أن معاوية بن أبي سفيان أسر إلى عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان حديثاً، قال عثمانُ: فجئت إلى أبي، فقلت: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً، أفأحدثك به? قال: لا، إنه من كتم حديثه كان الخيارُ إليه، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكاً بعد أن كنت مالكاً، فقلت له: أو يدخل هذا بين الرجل وابيه? فقال: لا، ولكني أكره أن تذلل لسانك بإفشاء السر، قال: فرجعت إلى معاوية، فذكرتُ ذلك له، فقال معاوية: أعتقك أخي من رقِّ الخطإ. وقال معاوية: أعنت على علي رحمه الله بأربع: كنت رجلاً أكتمُ سري، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وكان رجلاً ظهره1، وكنت في أطوع جند وأصلحه، وكان في أخبث جندٍ وأعصاه، وتركته واصحاب الجمل وقلتُ: إن ظفروا به كانوا أهون علي منه، وإن ظفر بهم اعتددت بها عليه في دينه. ن وكنتُ أحب إلى قريشٍ منه، فيا لك من جامعٍ إلي ومفرق عليه! وعونٍ لي وعونٍ عليه! وقال أردشير: الداء في كل مكتومٍ. وقال الأخطل: إن العداوة تلقاها وإن قدمت ... كالعر يكمن حيناً ثم ينتشرُ وقال جميلٌ: ولا يسمعن سري وسرك ثالثٌ ... ألا كل سرٍّ جاوز اثنين شائعُ وقال آخر، وهو مسكينُ الدرامي: وفتيان صدقٍ لستُ أطلعُ بعضهم2 ... على سر بعض غير أني جماعها يظلون في الأرض الفضاء وسرهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها لكل امرىء شعبٌ من القلب فارغٌ ... وموضوعُ نجوى لا يرام اضطلاعها وقال آخر: سأكتمه سري وأحفظ سره ... ولا غرني أني عليه كريمُ حليم فينسى أو جهول يضيعه ... وما الناس إلا جاهل وحليمٌ وكان يقال: أصبر الناس من صبر على كتمان سره ولم يبدهِ لصديقه فيوشك أني صير عدواً فيذيعهُ. وقال العتبي: ولي صاحبٌ سري المكتومُ عنده ... مخاريق نيرانٍ بليلٍ تحرقُ3   1 أى يظهر أمره للناس. 2 ر: "لست مطلع بعضهم"، وما أثبته عن الأصل، س. 3 مخاريق: جمع مخراق، وهو ماتلعب به الصبيان من الخرق المفتولة، يضرب بعضهم بعضا، وكنى بتحريقها عن إذاعة سره. قاله المرصفى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 عطفت على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمانٍ لا تتخرق فمن تكنِ الأسرار تطفو بصدره ... فأسرارُ صدري بالأحاديث تغرقُ فلا تودعن الدهر سرك أحمقاً ... فإنك إن أودعته منه أحمقُ وحسبكَ في سترِ الأحاديث واعظاً ... من القول ما قال الأريبُ الموفقُ: إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدرُ الذي يستودعُ السر أضيقُ وقال كعب بن سعدٍ الغنوي: ولست بمبدٍ للرجال سريرتي ... ولا أنا1 عن أسرارهم بسئولِ ولا أنا يوماً للحديث سمعتهُ ... إلى هاهنا من هاهنا بنقولِ2 وقد ذكرنا قول العباس بن عبد المطلب رحمه الله لابنه عبد الله: ن ذا الرجل قد اختصك دون أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجربن الرجل عليك كذباً، ولا تفشين له سراً، ولا تغتب عنده أحداً. فقيل لابن عباس: كل واحدةٍ منهن خيرٌ من ألفِ دينارٍ، فقال: كل واحدةٍ منهن خيرٌ من عشرةِ آلافٍ. وقال بعض المحدثين: لي حيلةٌ فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلهْ من كان يكذبُ ما يري ... د فحيلتي فيه قليلهْ3 وقال آخر [قال أبو الحسن: هو أبو العباس المبرد] : إن النموم أغطي دونه خبري ... وليس لي حيلةٌ في مفتري الكذبِ وقال بعض المحدثين: كتمت الهوى حتى إذا نطقت به ... بوادر من دمعِ يسيل على خدي4 وشاع الذي أضمرت من غير منطقٍ ... كأن ضمير القلب يرشح من جلدي   1 ر: "وما أنا". 2 حاشية الأصل: "البيت الثاني سقط من الأصل، وثبت عند ش". 3 كذا في الأصل، س، وفي ر: "من كان يخلق ما يقول". 4 ر: "تسيل على الخد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وقال جميل بن عبد الله بن معمرِ العذري1: إذا جاوز الإثنين سرٌ فإنه ... بنث وإفشاءِ الحديث قمينُ وتأويل قمين، وحقيقٍ، وجدير، وخليق، واحدٌ، أي قريب من ذاك، هذا حقيقتُه، يقال: قمينٌ، وقمنٌ، في معنى. قال الحادرث بن خالدٍ المخزومي: من كان يسال عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزلٌ قمنُ وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من باع داراً أو عقاراً فلم يردد ثمنه في مثله فذلك مالٌ قمنٌ ألا يبارك فيه". وقال الرقاشي: إذا نحن خفنا الكاشحين فلم نطق ... كلاماً تكلمنا بأعيننا سرا فنقضي ولم يعلم بنا كل حاجةٍ ... ولم نكشف النجوى ولم نهتك السترا وقال معاوية لعباس2 بن صحار العبدي: ما أقرب الاختصار? فقال لمحة دالةٌ. وقيل: خيرُ الكلام ما أغنى اختصاره عن إكثاره. وقيل: النمام سهم قاتلُ وقال أحد المحدثين: لا أكتم الأسرار لكن أذيعها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي وإن قليل العقلِ من باتَ ليلةً ... تقلبه الأسرارُ جنباً على جنبِ وقال آخر: ومنع جارتي من كل خيرٍ ... وأمشي بالنميمةِ بين صحبي ويقال للنمام: القتات. وفي حديثٍ: "لا يراح القتاتُ رائحةَ الجنةِ". وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. "لعن الله المثلث" فقيل: يا رسول الله، ومن   1 المرصفى: هذا غلط، وصوابه: وقال قيس بن الخطيم. 2 ر: "عباس"، وما أثبته عن الأصل، س، وهو الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 المثلث? فقال: "الذي يسعى بصاحبه إلى سلطانه، فيهلك نفسه وصاحبه وسلطانه". وقال معاوية للأحنف في شيءٍ بلغه عنه، فأنكر ذلك الأحنف، فقال له معاوية: بلغني عنك الثقة، فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، إن الثقة لا يبلغُ. وقال أحد الماضين1: إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا ... شرا أُذيعَ، وإن لم يسمعوا كذبوا وقال المهلب بن أبي صفرة: أدنى أخلاق الشريف كتمانُ السرِّ وأعلى أخلاق نسينث ما أسر إليه. ويقال للنكاح: السرُّ؛ على غير وجه وهذا ليس من الباب الذي كنا فيه، ولكني ذكر الشيء بالشيء، وهذا حرف يغلط فيه، لأن قوماً يجعلون السرَّ الزنا، وقومٌ يجعلونه الغشيانَ، وكلا القولين خطأَ، إنما هو الغشيانُ من غير وجهه. قال الله جلَّ وعزّ: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} 2، فليس هذا موضع الزنا. وقال الحطيئة: ويحرم سرُّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاعِ وقال الأعشى لسلامة ذي فائشٍ الحميري: وقومك إن يضمنوا جارةً ... وكانوا بموضِعِ أنضادها 3 فلن يطلبوا سرها للغنى ... ولن يسلموها لإزهادها4 في هذا قولان:   1 زيادات ر: "هو طريح بن اسماعيل الثقلى". 2 سورة البقرة 235. 3 الأنضاد: الأعمار والأخوال المتقدمون إلى الشرف. قاله المرصفى. 4 يقول: لا يتركونها لفلة مالها، وهو الإزهاد، قاله صاحب اللسان-زهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 أحدهما أنهم لا يطلبون اجترارها إليهم على رغم أوليائها منأجل ماله، غضباً1 للجوار، ولا يسلمونها إذا انقطع رجاؤهم من الثواب والمكافأة. والآخر أنهم لا يرغبون في ذوات الأموال؛ إنما2 يرغبون في ذواتِ الأحساب؛ اختيارً للأولاد، وصيانةً للأصهار، أن يطمع فيهم من لا حسب له. وقوله الحطيئة: ويأكل جارهم أنفَ القصاعِ إنما يريد المستأنف الذي لم يؤكل قبل منه شيء؛ يقال: روضةٌ أنف؛ إذا لم ترعَ، وكأسٌ أنف، إذا لم يشرب منها شيء قبل، قال لقيط بن زرارة: إن الشواءَ والنشيلَ والرغفْ3 ... والقينة الحسناءَ والكاس الأنفْ للطاعنين الخيل والخيل خنفْ4   1 كذا في الأصل، س، وفي ر: "غصبا". 2 ر: "وإنما". 3 النشيل: لحم يطبخ بلا توابل. 4 الخنف: جمع خنوف، من خنف الفرس إذا لوى حافره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 المجلد الثالث تابع لبكر بن النطاح يمدح مالك بن علي الخزاعي ... بسم الله الرحمن الرحيم باب 1 قال أبو العباس: وهذا باب اشترطنا أن نخرج فيه من حزن إلى سهل ومن جد إلى هزل، ليستريح القارئ، ويدفع عن مستمعه الملال. ونحن ذاكرون ذلك إن شاء الله. بكر بن النظاح يمدح مالك بن علي الخزاعي قال بكر بن النطاح في كلمة يمدح فيها2 مالك بن علي الخزاعي: عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى، فقالت قم فجئنا بكوكب فقلت لها هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغرب3 فلو أنني أصبحت في جود مالك ... وعزته ما نال ذلك مطلبي4 فتى شقيت أمواله بسماحه ... كما شقيت قيس بأسياف تغلب   1 هذا العنوان ثابت في الاصل. س, وهو ساقط من ر. 2 ر: "مدح". وما أثبته عن الأصل. س. 3 قال في اللسان: "العنقاء: طائر ضخم ليس بالعقاب. وقيل العنقاء المغرب. كلمة لا اصل لها, يقال إنها طائر عظيم لا ترى إلا في الدهور. ثم كثر ذلك حتى سموا الداهية عنقاء مغربا ومغربة". مادة-عنق. 4 في س. هذا البيت قبل سابقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 للخليع يمدح عاصماً الغساني وقال الخليع1 في كلمة له2 يمدح بها عاصماً الغساني: أقول ونفسي بين شوقي وحسرة ... وقد شخصت عيني ودمعي على خدي3 أريحي بقتل من تركت فؤاده ... بلحظته بين التأسف والجهد فقالت: عذاب الهوى4 قبل ميتة ... وموت إذا أقرحت قلبك من بعدي5 لقد فطنت للجور فطنة عاصم ... لصنع الأيادي الغر في طلب الحمد سأشكوك في الأشعار غير مقصر ... إلى عاصم ذي المكرمات وذي المجد لعل فتى غسان يجمع بيننا ... فتأمن نفسي منكم لوعة الصد   1 الخليع لقب الحسين بن الضحاك. أحد شعراء الدولة العباسية. 2 كلمة "له" ساقطة من ر. 3 شخصت عيني: ارتفع جفنها من كثرة السهاد 4 ر: "في الهوى". وما أثبته عن الأصل. س. 5 يقال: قرح قلب الرجل من الحزن وأقرحة غيرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 لأبي العتاهية في العتاب وقال إسماعيل بن القاسم:1 إن السلام وإن البشر من رجل ... في مثل ما أنت فيه ليس يكفيني هذا زمان ألح الناس فيه على ... زهو الملوك وأخلاق المساكين أما علمت جزاك الله صالحة ... عني وزادك خيراً يا ابن يقطين أني أريدك للدنيا وعاجلها ... ولا أريدك يوم الدين للدين   1 هو المكنى أبا العتاهية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 ليزيد بن محمد يمدح إسحاق بن إبراهيم وقال يزيد بن محمد بن المهلب1 المهلبي في كلمة يمدح بها إسحاق بن إبراهيم: إن أكن مهدياً لك الشعر2 إني ... لابن بيت تهدى له الأشعار غير أني أراك من أهل بيت ... ما على الحر أن يسودوه عار وقال في كلمة أخرى له:3 وإذا جددت فكل شيء نافع ... وإذا حددت فكل شيء ضائر4 وإذا أتاك مهلبي في الوغى ... والسيف في يده فنعم الناصر   1 من س. 2 كذا في الاصل. س. وفي ر:"المدح". 3 كلمة له ساقطة من ر. س. 4 حددت: منعت, يقال: حده حدا. منعه عنه خيرا كان أم شرا. وجددت. أي رزقت الجد. وهو الحظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 في مقتل مصعب بن الزبير وقال عبد الله بن الزبير لما أتاه قتل مصعب بن الزبير: اشهده المهلب بن أبي صفرة? قالوا: لا. كان المهلب في وجوه الخوارج. قال: أفشهده عباد بن الحصين الحبطي? قالوا: لا. قال: أفشهده عبد الله بن خازم السلمي? قالوا: لا. فمثل عبد الله بن الزبير. فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلخم امرئ لم يشهد اليوم ناصره1 جعار: اسم من أسماء الضبع. وهي صفة غالبة، لأنه يقال لها: جاعرة، فهذا في بابه كفساق، ولكاع، وحلاق، للمنية. وقد فسرنا هذا الباب مستقصى على وجوهه الأربعة.   1 من أبيات الكتاب 38: 2وينسب إلى النابغة الجعدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 ابنة جارية همام بن مرة ويروى أن ابنة جارية لهمام بن مرة بن ذهب بن شيبان قالت له يوماً: أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى اللائي يكن مع الرجال فقال: يا فساق! أردت صفيحة1 ماضية. فقالت: أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى صلعاء مشرقة القذال2 فقال: يا فجار! أردت بيضة حصينة3، فقالت: أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى أير أسد به مبالي قال: فقتلها.   1 الصفيحة: واحدة الصفائح, وهي السيوف العريضة. 2 القذال في الاصل: جماع مؤخر الرأس من الإنسان والفرس. 3 البيضة من الحديد. تلبس على الرأس تقيه السلاح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 من أخبار سعيد بن سلم الباهلي وما قيل فيه من الشعر قال أبو العباس: قال أبو الشمقمق - وهو مروان بن محمد، وزعم التوزي عن أبي عبيدة قال: أبو الشمقمق ومنصور بن زياد ويحيى بن سليم الكاتب. من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 أهل خراسان، من بخارية عبيد الله بن زياد، وكان أبو الشمقمق ربما لحن، ويهزل كثيراً ويجد، فيكثر صوابه - قال يمدح مالك بن علي الخزاعي ويذم سعيد بن سلم الباهلي: قد مررنا بمالك فوجدنا ... هـ جواداً إلى المكارم ينمي1 ما يبالي أتاه ضيف مخف ... أم أتاه يأجوج من خلف ردم2 فارتحلنا إلى سعيد بن سلم ... فإذا ضيفه من الجوع يرمي3 وإذا خبزه عليه "سيكفيكهم" الله ما بدا ضوء نجم وإذا خاتم النبي سليما ... ن داود قد علاه بختم فارتحلنا من عند هذا بحمد ... وارتحلنا من عند هذا بذم وقال عبد الصمد بن المعذل يرثي سعيد بن سلم: كم يتيم جبرته بعد يتم ... وفقير بعثته بعد عدم4 كلما عضت الحوادث نادى ... رضي الله عن سعيد بن سلم وقال سعيد بن سلم: عرض لي أعرابي فمدحني فبلغ5. فقال: ألا قل لساري الليل لا تخش ضلة ... سعيد بن سلم ضوء كل بلاد لنا سيد أرثى على كل سيد ... جواد حثا في وجه كل جواد6 قال: فتأخرت عن بره قليلاً. فهجاني فبلغ7. فقال: لكل أخي مدح ثواب يعده ... وليس لمدح الباهلي ثواب مدحت ابن سلم والمديح مهزة ... فكان كصفوان عليه تراب8   1 ر: "كريما". وما أثبته عن الأصل. س. 2 ر: "أم اتقه". أأثببته عن الأصل. س. 3 ر: "فانتهينا". 4 ر: "كم صغير". 5 س: "أبلغ". 6 أي حثا التراب في وجوه الأجواد, وذلك كنايه عن تقصيرهم. 7 س: "أبلغ". 8 الصفوان الحجر الأملس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وقال أبو الشمقمق: قال لي الناس زر سعيد بن سلم ... قلت للناس لا أزور سعيدا وأميري فتى خزاعة بالبص ... رة قد عمها سماحاً وجودا ولنعم الفتى سعيد ولكن ... مالك أكرم البرية عودا فقال سعيد: لوددت أنه لم يكن ذكرني مع مالك، [وأنه] 1 أخذ مني أمنيته. وقال أبو الشمقمق أيضاً: هيهات تضرب في حديد بارد ... إن كنت تطمع في نوال سعيد والله لو ملك البحار بأسرها2 ... وأتاه سلم في زمان مدود يبغيه منها شربة لطهور ... لأبى وقال: تيممن بصعيد ومثله قول لآخر: لو أن قصرك يا ابن يوسف كله ... إبر يضيف بها فضاء المنزل وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قد قميصه لم تفعل وقال مسلم بن الوليد: ديونك لا يقضى الزمان خريمها ... وبخلك بخل الباهلي سعيد سعيد بن سلم ألأم الناس كلهم ... وما قومه من لؤمه ببعيد3 يزيد له فضل ولكن مزيداً ... تدارك منا مجده بيزيد خزيمة لا بأس به غير أنه ... لمطبخه قفل وباب حديد   1 تكملة من س. 2 س: "لو ملك البحور". 3 ر: "من نجله". وما أثبته عن الأصل. س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 وقال عبد الصمد بن المعذل، يرثي عمرو بن سعيد، وكان عمرو هلك بعيد1 سعيد بيسير: رزينا أبا عمرو فقلنا: لنا عمرو ... سيكفيك ضوء البدر غيبوبة البدر وكان أبو عمرو معاراً حياته2 ... بعمرو فلما مات أبو عمرو وقال أمير المؤمنين الرشيد يوماً لسعيد بن سلم: يا سعيد، من بيت قيس في الجاهلية? قال: يا أمير المؤمنين، بنو فزارة، قال: فمن بيتهم في الإسلام? قال: يا أمير المؤمنين، الشريف3 من شرفتموه، قال: صدقت أنت وقومك. وحدثني علي بن القاسم بن علي بن سليمان الهاشمي، قال: حدثني رجل من أهل مكة، قال: رأيت في منامي سعيد بن سلم في4، حياته وفي5 نعمته، وكثرة عدد ولده، وحسن مذهبه، وكمال مروءته، فقلت في نفسي: ما أجل ما أعطيه سعيد بن سلم! فقال لي قائل: وما ذخره الله له في الآخر أكثر. وكان سعيد إذا استقبل السنة التي يستقبل6 فيها عدد سنيه أعتق نسمة وتصدق بعشرة آلاف درهم، فقيل لمديني: إن سعيد بن سلم اشترى نفسه من ربه7 بعشرة آلاف درهم. فقال: إذاً لا يبيعه.   1 ر: "وهلك عمرو بعد". وما أثبته عن الأصل. س. 2 ر: "حياته". بفتح التاء. 3 كلمة الشريف ساقطة من ر. 4 ر: "أريت سعيد بن سلم في النوم". 5 تكملة من ر. س. 6 ر:"يستأنف". وما أثبته عن الأصل. س. 7 كذا في الأصل, س وفي ر:" إن سعيد يشتري نفسه ....... ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 مما قالته العرب في ذم باهلة وقال أحمد بن يوسف الكاتب لولد سعيد: أبني سعيد إنكم من معشر ... لا يعرفون كرامة الأضياف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 قوم لباهلة بن يعصر إن هم ... نسبوا حسبتهم لعبد مناف قرنوا الغداء إلى العشاء وقربوا ... زاداً لعمر أبيك ليس بكاف وكأنني لما حططت إليهم ... رحلي نزلت بأبرق العزاف1 ينا كذاك أتاهم كبراؤهم ... يلحون في التبذير والإسراف وأنشدني المازني: سل الله ذا المن من فضله ... ولا تسألن أبا وائله فما سأل الله عبد له ... فخاب ولو كان من باهله [قال أبو الحسن: وزادني بعض أصحابنا: ترى الباهلي على خبزه ... إذا رامه آكل آكله] وأنشدني رجل2 من عبد القيس: أباهلي ينبحني كلبكم ... وأسدكم ككلاب العرب ولو قيل للكلب يا باهلي ... عوى الكلب من لؤم هذا النسب وحدثني علي بن القاسم قال: حدثني أبو قلابة الجزمي قال: حججنا مرة مع أبي جزء بن عمرو بن سعيد، قال: وكنا في ذراه3، وهو إذ ذاك بهي وضي، فجلسنا في المسجد الحرام إلى أقوام4 من بني الحارث بن كعب، لم نر أفصح منهم، فرأوا هيئة أبي جزء وإعظامنا إياه مع جماله، فقال قائل منهم له: أمن أهل بيت الخليفة أنت? قال: لا، ولكن رجل من العرب، قال: ممن الرجل? قال. رجل5 من مضر، قال: أعرض ثوب الملبس! من أيها عافاك الله? قال: رجل   1 العزاف. بتشديد الزاي: جبل من جبال الدهناء. 2 ر: "وأنشد أبو العباس لرجل". وما أثبته عن الاصل, س. 3 ذراه: كنفه. 4 ر: "قوم". 5 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 من قيس، قال أين يراد بك، صر إلى فصيلتك التي تؤويك! قال: رجل م بني سعد بن قيس، قال. اللهم غفراً! من أيها عافاك الله? قال: رجل من بني يعصر، قال: من أيها? قال: رجل من باهلة، قال: قم عنا! قال أبو قلابة: فأقبلت على الحارثي فقلت: أتعرف هذا? قال: هذا، ذكر أنه باهلي، قال1: فقلت: هذا أمير ابن أمير ابن أمير ... قال: حتى عددت خمسة. هذا أبو جزء أمير، بن عمرو - وكان أميراً - بن سعيد - وكان أميراً - بن سليم - وكان أميراً - بن قتيبة - وكان أميراً. فقال الحارثي: الأمير أعظم أم الخليفة? فقلت: بل2 الخليفة. قال: أفالخليفة أعظم أم النبي? قلت: بل النبي. قال: والله لو عددت له في النبوة أضعاف ما عددت في الإمرة3 ثم كان باهلياً ما عبأ الله به شيئاً. قال: فكادت نفس أبي جزء تفيض4، فقلت له5: انهض بنا، فإن هؤلاء أسوأ الناس أدباً6. [قال أبو الحسن: يقال للرجل إذا سئل عن شيء فأجاب عن غيره أعرض ثوب الملبس أي أبدي غير ما يراد منه] . وحدثت أن أعرابياً لقي رجلاً من الحجاج. فقال له: ممن الرجل? قال: باهلي. قال: أعيذك بالله من ذلك. قال: أي والله، وأنا مع ذلك مولى لهم. فأقبل الأعرابي يقبل يديه ويتمسح به، قال له الرجل: ولم تفعل ذاك? قال: لأني أثق بأن الله عز وجل لم يبتلك بهذا في الدنيا إلا وأنت من أهل الجنة.   1 ساقطة من ر. 2 ساقطة من ر. 3 ر: "الإمارة". 4 ر: "تخرج". 5 ساقطة من ر. 6 ر: "آدابا" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 في مجلس قتيبة بن مسلم الباهلي ويزعم الرواة1: أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند أفضى2 إلى أثاث لم   1 ر: "الرقاشي". 2 يريد اتسع وسار عريضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 ير مله، وإلى آلات لم ير مثلها1، فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليه، ويعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدار ففرشت، وفي صحنها قدور ترتقي بالسلالم، فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل. والناس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير. فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لقتيبة: ائذن لي في معاتبته. قال: لا ترده فإنه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلا أن يأذن له - وكان عبد الله يضعف، وكان قد تسور حائطاً إلى امرأة قبل ذاك - فأقبل على الحضين بن المنذر2 فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان? قال: أجل، أسن عمك عن تسور الحيطان، قال: أرأيت هذه القدور? قال: هي أعظم من ألا ترى. قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها! قال: أجل، ولا عيلان، لو كان رآها سمي شعبان، ولم يسم عيلان، قال له عبد الله: يا أبا ساسان، أتعرف الذي يقول: عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف قال: أعرفه, وأعرف الذي يقول: خيبة من يخيب على غني ... وباهلة بن يعصر والركاب يريد يا خيبة من يخيب. قال. أفتعرف الذي يقول: كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرقت أفواه بكر بن وائل3 قال: نعم4. وأعرف الذي يقول: قوم قتيبة أمهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل قال: أما الشعر فأراك ترويه. فهل5 تقرأ من القرآن شيئاً? قال أقرأ منه الكثر الأطيب: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} 6 [الإنسان:1] قال7: فأغضبه. فقال: والله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى   1 ر: "لم يسمع بمثلها". 2 من س. 3 ر: "وقد عرقت". 4 كذا في الأصل. س. وفي ر: "أعرف هذا". 5 ر: "ولكن هل تقرأ من القرآن شيئاً". 6 سورة الإنسان آية: 1. 7 كلمة "قال" ساقطة من الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 من غيره. قال: فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى. ثم قال على رسله: وما يكون! تلد غلاماً على فراشي فيقال: فلان بن الحضين، كما يقال: عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على عبد الله فقال: لا يبعد الله غيرك. [قال أبو العباس] 1: الحضين2 بن المنذر بن الحارث بن وعلة. وكان الحضين بيده لواء علي بن أبي طالب رحمه الله على ربيعة، وله يقول القائل: لمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما   1 من س. 2 ر: "هذا الحضين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 للأعشى يمدح هودة بن علي وللحارث بن وعلة يقول الأعشى - وكان قصده فلم يحمده، فعرج1 عنه إلى هوذة بن علي ذي التاج. وهوذة من بني حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، والحارث بن وعلة من بني رقاش، وهي امرأة، وأبوهم مالك بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، فقال الأعشى يذكر الحارث بن وعلة وهوذة بن علي: أتيت حريثاً زائراً عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا إذا ما رأى ذا حاجة فكأنما ... يرى أسداً في بيته وأساودا لعمرك ما أشبهت وعلة في الندى ... شمائله ولا أباه مجالدا وإن امرأ قد زرته قبل هذه ... بجو لخير منك نفساً ووالدا تضيفته يوماً فقرب مجلسي ... وأصفدني على الزمانة قائدا وأمتعني على العشا بوليدة ... فأبت بخير منك يا هوذ حامدا يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة ... ويعدو على جمع الثلاثين واحدا وهي كلمة.   1 ر: "وعرج". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 قوله: "أتيت حريثاً" يريد الحارث، تصغيره على لفظه1: حويرث. وهذا التصغير الآخر يقال له تصغير الترخيم، وهو أن تحذف الزوائد من الاسم ثم تصغر حروفه الأصلية، فتقول في تصغير أحمد: حميد لأنه من الحمد، وفي الحارث: حريث، لأنه من الحرث، وفي غضبان: غضيب، لأنه من الغضب، لأن الألف والنون زائدتان. وكذلك ذوات الأربعة، تقول في تصغير قنديل على لفظه قنيديل، فإن صغرته مرخماً حذفت الياء فقلت: قنيدل، فعلى هذا مجرى الباب. وقوله: عن جنابة، يقول: عن غربة وبعد. يقال: هم نغم الحي لجارهم جار الجنابة، أي الغربة. يقال: رجل جنب، ورجل جانب، أي غريب، قال الله جل وعز: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} 2. وقال الحطيئة: والله ما مغشر لاموا امرأ جنباً ... في آل لأي بن شماس بأكياس وقال علقمة بن عبدة: فلا تحرمني نائلاً عن جنابة ... فإني امرؤ وسط القباب غريب فمن قال للواحد: جنب قال للجميع: أجناب، كقولك: عنق وأعناق، وطنب وأطناب، ومن قال للواحد: جانب، قال للجميع: جناب، كقوله: راكب وركاب، وضارب وضراب. قالت الخنساء: إبكي أخالك لأيتام وأرملة ... وابكي أخاك إذا جاورت أجنابا وإن كان من الجنابة التي تصيب الرجل قلت: رجل جنب، ورجلان جنب وكذلك المرأة والجميع، وقد يجوز، وليس بالوجه، رجلان جنبان، وامرأة جنبة، وقوم أجناب. وقوله: يرى أسداً في بيته وأساودا   1 س: "على اللفظ". 2 سورة النساء: آية 36. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 يريد جمع أسود سالخ، وأسود ههنا نعت، ولكنه غالب، فلذلك جرى ههنا مجرى الأسماء، لأنه يدل على الحية، وأفعل، إذا كان نعتاً بنفسه فجمعه: فغل، نحو: أحمر وحمر، وأسود وسود، وإذا كان نعتاً فأجري مجرى الأسماء فجمعه: أفاعل نحو أساود، وأجادل، وأداهم، إذا أردت القيد، لأنه نعت غالب يجري مجرى الأسماء، وإن أردت أدهم - الذي هو نعت محض - قلت: دهم، قال الأشهب بن رميلة: أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود فأجراه مجرى الأسماء، نحو: الأصاغر، والأكابر، والأحامد. وقوله: لعمرك ما أشبتهت وعلة في الندى ... شمائله ..................... فإنه جعل: شمائله، بدلاً من وعلة، والتقدير: ما أشبهت شمائل وعلة. والبدل على أربعة أضرب: فواحد منها أن يبدل أحد الاسمين من الآخر إذا رجعا إلى واحد، ولا تبالي أمعرفتين كانا أم معرفة ونكرة، وتقول: مررت بأخيك زيد، لأن زيداً رأسه. لما قلت: ضربت زيداً، أردت أن تبين موضع الضرب منه. فمثل الأول قول الله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1. وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} 2. و {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} 3. ومثل البدل الثاني قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 4   1 سورة الفاتحة: 6 – 7. 2 سورة الشورى 52 ,53. 3 سورة العلق 15, 16. 4 سورة آل عمران 97. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 من، في موضع خفض، لأنها بدل من الناس، ومثله، إلا أنه أعيد حرف الخفض: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} 1. والبدل الثالث مثل ما ذكرنا في البيت، أبدل: "شمائله" منه، وهي غيره، لاشتمال المعنى عليها، ونظير ذلك: أسألك عن زيد أمره. لأن السؤال عن الأمر وتقول على هذا: سلب زيد ثوبه، فالثوب غيره، ولكن به وقع السلب، كما وقعت المسألة عن خبر زيد، ونظير ذلك من القرآن: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 2. لأن المسألة إنما كانت عن القتال: هل يكون في الشهر الحرام? وقال الشاعر وهو الأخطل3: إن السيوف غدوها ورواحها ... تركت هوازن مثل قرن الأعضب4 وبدل رابع، لا يكون مثله في القرآن ولا في الشعر، وهو أن يغلط المتكلم فيستدرك5 غلطه، أو ينسى فيذكر فيرجع إلى حقيقة ما يقصد له، وذلك قوله: مررت بالمسجد دار زيد، أراد أن يقول: مررت بدار زيد، فإما نسي، وإم غلط، فاستدرك فوضع الذي قصد له في موضع الذي غلط فيه. وقوله: بجو فهي قصبة اليمامة. وقوله: تضيفته يوماً: إنما هو تفعلته، من الضيافة، يقال: ضفت الرجل، أي نزلت به، وأضافي، أي أنزلني. وقوله: وأصفدني: يقول: أعطاني، وهو الإصفاد، والصفد الاسم، والإصفاد المصدر، قال النابغة: فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد ويقال: صفدت الرجل فو مصفود، من القيد، ولا يقال في القيد: أصفدت، ولكن صفدته صفداً، واسم القيد الصفد، قال الله جل وعز: {مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} 6. كقولك: جمل وأجمال، وصنم وأصنام.   1 سورة الأعراف 75. 2 سورة البقرة 217. 3 من س. 4 الأغضب: الكبش المكسور القرن. 5 ر: "فيدرك". 6 سورة ص 38. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وقوله: فتى لو يباري الشمس، يقول: يعارض، يقال: انبرى لي فلان، أي اعترض [لي1] في المعنى، وفلان يباري الريح، من هذا أي يعارض الريح بجوده، فهذا غير مهموز. فأما: بارأت الكري فهو مهموز، لأنه من أبرأني وأبرأته. ويقال: برأ فلان من مرضه، برئ يا فتى؛ والمصدر منهما البرء فاعلم، وبريت القلم غير مهموز، الله البارئ المصور. ويقال: ما برأ الله مثل فلان، مهموز، وقولك: البرية، أصله من الهمز، ويختار فيه تخفيف الهمز، ولفظ التخفيف والبدل واحد، وكذلك يختار في النبي التخفيف، ومن جعل التخفيف لازماً قال في جمعه: أنبياء، كما يفعل بذوات الياء والواو، وتقول: وصي وأوصياء، وتقي وأتقياء، وشقي وأشقياء، ومن همز الواحد قال في الجميع: نباء، لأنه غير معتل، كما تقول: حكيم وحكماء، وعليم وعلماء وأنبياء لغة القرآن والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال العباس بن مرداس السلمي: يا خاتم النباء إنك مرسل ... بالحق كل هدى السبيل هداكاً 2 وقوله: أو القمر الساري لألقى المقالدا إنما سكن3 الياء ضرورة، وإنما جاز ذلك لأن هذه الياء تسكن في الرفع والخفض، فإذا احتاج الشاعر إلى إسكانها في النصب قاس هذه الحركة على الحركتين: الضمة والكسرة الساقطتين، فشبهها بهما، فجعلها كالألف التي في: مثنى التي هي على هيئة واحدة في جميع الإعراب، قال النابغة: ردت عله أقاصيه ولبده ... ضرب الوليدة يا مسحاة في الثأد4 فأسكن الياء في: أقاصيه. وقال رؤبة: كأن أيديهن بالقاع القرق5 ... أيدي جوار يتعاطين الورق 6   1 تكملة من س. 2 س: "كل هدى السماء". 3 ر: "فأسكن". 4 الثأد: الثرى. 5 القاع والقاعة ما انبسط من الأرض. والقرق: القاع لا حجارة فيه. 6 من زيادات ر: "والورق هو ورق الشجر, يضرب بالعصا فيتناثر فتلتقطه الجواري بسرعة لعطف الإبل وغيرها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وقال: سوى مساحيهن تقطيط الحقق1 [ويروى: تقطيط، بالنصب، وهو أجود، لأن بعده: تفليل ما قارعن من سمر الطرق والطرق: جمع طرقة2] . وقال آخر: كفى بالنأي من أسماء كاف ... وليس لحبها ما عشت شاف وأما قوله: وأمتعني على العشا بوليدة ... فأبت بخير منك يا هوذ حامدا فإنه كان يتحدث عنه، ثم أقبل عليه يخاطبه، وترك تلك المخاطبة. والعرب تترك مخاطبة الغائب إلى مخاطبة الشاهد، ومخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب. قال الله جل وعز: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} 3. كانت المخاطبة للأمة، ثم صرفت4 إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخباراً عنهم. وقال عنترة: شطت مزار العاشقين فأصبحت ... عسراً علي طلابك ابنة محرم فكان يحدث5 عنها ثم خاطبها. ومثل ذلك قول جرير: وترى العواذل يبتدرن ملامتي ... فإذا أردن سوى هواك عصينا وقال الآخر: فدى لك والدي وسراة قومي ... ومالي إنه منه أتاني وهذا كثير جداً. وقوله: يرى جمع ما دون الثلاثين قصرة أي قليلاً، من الاقتصار. ويروى: ويغدو، ويعدو جميعاً.   1 المساحي هنا: الحوافر, على التشبيه. 2 ما بين العلامتين من زيادات ر. وتفليل: تكسير. ما قارعن. ما ضربن بها. والطرق: حجارة طارقة بعضها فوق بعض. 3 سورة يونس22. 4 كذا في الأصل. س. وفي ر: "انصرفت" 5 ر: "يتحدث". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 من أخبار هوذة بن علي وكان هوذة بن علي ذا قدر علي، وكان1 له خرزات فتجعل على رأسه، تشبهاً بالملوك. وحدثني التوزي عن أبي عبيدة، قال: ما تتوج معدي قط، إنما كانت التيجان لليمن، قال: فسألته عن قول الأعشى لهوذة2: من ير هوذة يسجد غير متب ... إذا تعمم فوق التاج أو وضعا قال: إنما كانت خرزات تنظم له3. وكتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إلى هوذة، كما كتب إلى الملوك. وكانت بنو حنيفة بن لجيم أصحاب اليمامة، ويقول بعض النسابين: إن عبيد بن حنيفة كان أتى اليمامة وهي صحراء، فاختطها، فجعل يركض حواليها برمحه في الأرض على ما أصاب من النخل، وأنهم أكلوا ما أصابوا تحته من التمر، فلما طلع لهم التمر لم يهتدوا لصعود النخل، فأقبلوا يجدونه، حتى فكروا فأعدوا له السلالم، فلما عمرت اليمامة جعلت العرب تنجعهم لموضع التمر فيجاورون العزيز منهم، وكان يقال لمن دخلها من هؤلاء: السواقط؛ ممن كانوا. ويقال إن اليمامة والبحرين والقريتين ومواضع هناك كانت لطسم وجديس، والخبر في ذلك مشهور بزرقاء اليمامة، وقد ذكر ذلك الأعشى في قوله:   1 ر: "وكانت". 2 ساقطة من ر. 3 ذكر ابن الأثير أن كسرى أنو شروان لما دخل علية هوذة بن على أعجب به. فدعا بعقد من در فعقد على رأسه, ومن ثم سمى هوذة ذا التاج. نقله الموصفى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 [ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقاً كما نطق الذئبي إذ سجعا] 1 قالت أرى رجلاً في كفه كتف ... أو يخصف النعل لهفي أية صنعا وكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل غسان يزجي الموت والشرعا2 وحدثني التوزي عن أبي عبيدة والأصمعي عن أبي عمرو قال: قال لي رجل من أهل القريتين: أصبت ههنا دراهم، وزن الدرهم ستة دراهم وأربعة دوانيق، من بقايا طسم وجديس، فخفت السلطان فأخفيتها. وقد ذكر ذلك زهير في قوله: عهدي بهم يوم باب القريتين وقد ... زال الهماليج بالفرسان واللجم3 فاستبدلت بعدنا داراً يمانية ... ترعى الخريف فأدنى دارها ظلم4   1 ما بين العلامتين من زيادات ر. والذئبي هو سطيح الكاهن, وهو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن عدي, وكان ضعيفا منبسطا لا يقدر أن يقعد "من شرح ديوان الأعشى 74". 2 الشرع: الأوتار. واحده شرعة. 3 ر: "عهد بها", وما أثبته رواية الديوان 150, والأصل, س. وباب القريتين, التي في طريق مكة, وهي قرية كانت لطسم وجديس, والهماليج: جمع الهملاج, وهي الدالة في سيرها سرعة ويخترة, يريد بها هنا الأبل. 4 يمانية: ناحية اليمن, وظلم: اسم جبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 لجرير يهجو بني حنيفة وقال جرير يهجو بن حنيفة: هجاني الناس م الأحياء كلهم ... حتى حنيفة تفسو في مناحيها1 أصحاب بخل وحيطان ومزرعة ... سيوفهم خشب فيها مساحيها دلت وأعطت يداً للسلم صاغرة ... من بعد ما كاد سيف الله يفنيها صارت حنيفة أثلاثاً فثلثهم ... أضحوا عبيداً وثلث من مواليها قوله: مناحيها، المنحاة: مقام السانية على الحوض، والحائط: البستان. وقوله:   1 زيادات ر: "تعبر بنو حنيفة بالفسو, لأن بلادهم بلاد نخل, فيأكلون ويحدث في أجوافهم الرياح والقراقير". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 من بعدما كاد سيف الله يفنيها يعني خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم في وقعته بسلمة الكذاب. وللنسابين بعد هذا قول منكر. وقال جرير: ابني حنيفة نهنهوا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا 1 أبني حنيفة إنني إن أهجكم ... أدع اليمامة لا تواري أرنبا   1 نهنهوا سفهاءكم: كفوهم وازجروهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 لعمارة بن عقيل يهجو بني حنيفة وقال عمارة بن عقيل: بل أيها الراكب الماضي لطيته ... بلغ حنيفة وانشر فيهم الخبرا أكان مسلمة الكذاب قال لكم ... لن تدركوا المجد حتى تغضبوا مضرا مهلاً حنيفة إن الحرب إن طرحت ... عليكم بركها أسرعتم الضجرا البرك: الصدر، إذا فتحت الباء ذكرت، وإن أردت التأنيث كسرت الباء، قلت: بركة، قال الجعدي: ولوحا ذراعين في بركة ... إلى جؤجؤ رهل المنكب1 وزعم الأصمعي أن زياداً كان يقال له: أشعر بركا لأنه كان أشعر الصدر. وغير الأصمعي زعم2 أن هذا كان يقال للوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية.   1 الجؤجؤ: الصدر. أو مجتمع رءوس عظام الصدر, والمنكب: مجتمع العضد والكتف. ورهله: استرخاؤه من السمن. 2 كذا في الأصل. س. وفي ر: "يزعم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 من أخبار الوليد بن عقبة وشعره وذكروا أن عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي قال يوماً: ألا تعجبون لهذا، أشعر بركاً! يولي مثل هذا المصر! والله ما يحسن أن يقضي في تمرتين. فبلغ ذلك الوليد فقال على المنبر: أنشد الله رجلاً سماني أشعر بركاً إلا قام! فقام عدي بن حاتم فقال: أيها الأمير، إن لذي يقوم فيقول: أنا سميتك أشعر بركاً لجريء، فقال: إجلس يا أبا طريف? فقد برأك الله منها. فجلس وهو يقول: والله ما برأني الله منها. وكانت أم الوليد بن عقبة أم عثمان بن عفان رحمهما الله، وهي أروى بنت كريز بن حبيب بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، ومن ثم قال الوليد لعلي بن أبي طالب رحمه الله: أنا ألقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمي من حيث تلقاه بأبيك. وكان يقال للبيضاء بنت عبد المطلب: قبة الديباج. واسمها أم حكيم وذلك قيل لعثمان وللوليد1: يا ابن أروى، ويا ابن أم حكيم. وقال الوليد لبني هاشم لهذا النسب2 حين قتل عثمان رحمه الله: بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم ... ولا تنهبوه لا تحل مناهبه بني هاشم كيف الهوادة بيننا ... وعند علي درعه ونجائبه هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه وهذا القول باطل. وكان عروة بن الزبير إذا ذكر مقتل عثمان يقول: كان علي أتقى لله من أن يقتل عثمان3 وكان عثمان أتقى لله من أن يقتله علي4.   1 كذا في الأصل: س. وفي ر: "أو للوليد". 2 كذا في الأصل س. وفي ر: "السبب". 3 ر: "من أن يعين في قتل عثمان". 4 ر: "من أن يعين في قتل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 وقال الوليد بن عقبة: ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر1 ومالي لا أبكي وتبكي أقاربي ... وقد حجبت عنا فصول أبي عمرو!   1 ر: "التجوني" صوابه في الأصل. س. منسوب إلي تجيب. قبيلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 لليلى الأخيلية ترثي عثمان بن عفان وقال ليلى الأخيلية، أنشدنيه الرياشي عن الأصمعي: أبعد عثمان ترجو الخير أمته ... وكان آمن من يمشي على ساق خليفة الله أعطاهم وخولهم ... ما كان من ذهب جم وأوراق فلا تكذب بوعد الله وارض به ... ولا توكل على شيء بإشفاق ولا تقولن لشيء: سوف أفعله ... قد قدر الله ما كل امرئ لاق لآخر يرثيه أيضاً وقال آخر: ألا قل لقوم شاربي كأس علقم ... بقتل إمام بالمدينة محرم قتلتم أمين الله في غير ردة ... ولا حد إحصان ولا قتل مسلم تعالوا ففاتونا فإن كن قتله ... لواحدة منها يحل لكم دمي2 وإلا فأعظم الشامتين قد أتيتم ... ومن يأت ما لم يرضه الله بظلم فلا يهنين الشامتين مصابه ... فحظهم من قتله حرب جرهم3 وأنشدني الرياشي عن الأصمعي: [قال أبو الحسن: هذا الشعر لابن الغريرة الضبي:] لعمر أبيك فلا تذهلن ... لقد ذهب الخير إلا قليلا وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان سرا طويلا   1 ر: "التجوني" صوابه في الأصل. س. منسوب إلي تجيب. قبيلة. 2 ففاتونا, فحاكمونا, وفي ر: "فحل", على الفعل الماضي, وما أثبته عن الأصل. 3 نقل المرصفى عن الطبري أن الشعر لحنات بن يزيد المجاشعى عم الفرزدق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 ومثله قول الراعي: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ... ودعا فلم أر مثله مخذولا فتفرقت من بعد ذاك عصاهم ... شققاً وأصبح سيفهم مسلولا1 قوله: محرماً يريد في الشهر الحرام، وكان قتل في أيام التشريق. رحمه الله.   1 شققا: جمع شقة: بالكسر, وهي الشطبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 لأيمن بن خريم يرثيه أيضا ً وقال أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي. وكانت له صحبة: تفاقد الذابحو عثمان ضاحية1 ... أي قتيل حرام ذبحوا ذبحوا ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ولم ... يخشوا على مطمح الكف الذي طمحوا فأي سنة جور سن أولهم ... وباب جور على سلطانهم فتحوا ماذا أرادوا أضل الله سعيهم ... من سفح ذاك الدم الزاكي الذي سفحوا فاستوردتهم سيوف المسلمين على ... تمام ظمء كما يستورد النضح2 إن الذين تولوا قتله سفهاً ... لقوا3 أثاماً وخسراناً فما ربحوا الظمء: ما بين الشربتين وقوله: ضحوا بعثمان: إنما أصله فعل في الضحى، قال زهير: ضحوا قليلاً على كثبان أسنمة ... ومنهم بالقسوميات معترك4 أي نزلوه ضحى. ويقال: بيتوا ذاك. أي فعلوه ليلاً. قال الله جل وعز: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} 5. وأنشد أبو عبيدة:   1 ضاحية: علانية. 2 استوردتم: من استورد الماء, أى ورده, يريد درات سيوفهم دم عثمان على عطشها. 3 رواية الديوان 165: وعرسوا ساعة في كثب أسمنة. 4 وما أورده المبرد, هي رواية الاصمعي أسمنة: موضع بعينه.. كذلك القسوميات, مواضع, والمعترك المزدحم. 5 النساء: 108. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر لأنكح أيمهم منذراً ... وهل ينكح العبد حر لحر! وقوله: من سفح ذاك الدم الزاكي الذي سفحوا أي من صب ذاك الدم، يقال: سفحت دمه وسفكت دمه. قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} 1. وقوله: على تمام ظمء فهذا مثل، وأصل الظمء: أن تشرب الإبل يوماً ثم تغب يوماً لا ترد الماء، فما بين الشربتين ظمء، فيكون الظمء يومين، فيقال له: الربع، كما يقال في الحمى، لأنهم يعتدون بيومي شربها. والخمس: أن تظمأ ثلاثة أيام، والنضح: الحوض. والأثام: الهلاك، قال الله عز ذكره: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} ، ثم فسر فقال: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} 2. فجزم "يضاعف" لأنه بدل من قوله: "يلق أثاما" إذا كان إياه في المعنى، وأنشدني أبو عبيدة: جزى الله آبن عروة إذ لحقنا ... عقوقاً والعقوق من الأثام وقوله: على مَطْمَح الكف يقول: على رفعها وإبعادها، يقال: طمح بصره، إذا ارتفع فأبعد النظر، قال امروء القيس: لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا   1 سورة الأنعام: 145. 2 سورة الفرقان 68, 69. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 باب في التشبيه مدخل ... باب في التشبيه قال أبو العباس: وهذا باب طريف نصل به هذا الباب الجامع الذي ذكرناه وهو بعض ما مر للعرب من التشبه المصيب, وللمحدثين1 بعدهم. فأحسن ما جاء بإجماع الرواة-: ما مر لامرئ القيس في كلام مختصر, أي بيت واحد، من تشبيه شيء في حالتين مختلفتين2 بشيئين مختلفين، وهو قوله: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي3 فهذا مفهوم المعنى، فإن اعترض معترض فقال: فهلا فصل فقال: كأنه رطباً العناب وكأنه يابساً الحشف! قيل له: العربي الفصيح الفطن اللقن يرمي بالقول مفهوماً، ويرى ما بعد ذلك من التكرير عيا، قال الله جل وعز، وله المثل الأعلى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 4، علماً بأن المخاطبين يعلمون5 وقت السكون ووقت الاكتساب. ومن تمثيل امرئ القيس العجيب قوله: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب6 ومن ذلك قوله: إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل7   1 ر: "والمحدثين": وما أثبته في الأصل, س. 2 ساقطة من ر. 3 الحشف البالي: ردئ النمر, قال شارح الديوان 38: "وإنما خص قلوب الطير جاءت بقلوبها إلى أفراخها". 4 سورة القصص. 5 ر: "يعرفون". 6 الجزع: خرز فيه بياض وسواد. شبه عيون الوحش لما فيهن من السواد والبياض بالخرز. وجعله غير مثقب, لأن ذلك أصفى له وأتم لحسنه. 7 تعرضت: أي أرتك عرضها. أي ناحيتها, والوشاح المفصل: الذي جعل بين كل خرزتين فيه لؤلؤة. والأثناء: جمع ثنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وقد أكثروا في الثريا1 فلم يأتوا بمن يقارب هذا المعنى. ولا بما يقارب سهولة هذه الألفاظ. ومن أعجب التشبيه قول النابغة: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقوله: خطاطيف جحن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع2 وقوله: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب ومن عجيب التشبيه قول ذي الرمة: وردت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق 3 وقوله: فجاءت بنسج العنكبوت كأنه ... على عصويها سابري مشبرق4 وتأويله5 أنه يصف ماء قديماً لا عهد له بالوراد6، فقد اصفر واسود فقال: وماء قديم العهد بالناس7 آجن ... كأن الدبا ماء الغضا فيه تبصق 8   1 ر: "وقد أكثر الناس في الثريا". 2 الخطاطيف: جمع خطاف, وهو حديدة معقوفة الراس. ونوازع: جواذب, يقول: ولك خطاطيف أجر بها إليك. فليس عنك مهرب. 3 الاعتساف: السير على غير هدى, وابن الماء: طير من الطيور محلق على مرتفع "من شرح ديوانه 401" 4 العصوان: عرقوبا الدلو, والعرقويان: خشبتان. 5 ر: "وتأويل هذا". 6 ر: "بالواردة". 7 ر: قديم العهد بالإنس", وما أثبته هو رواية الديوان والأصل: س. 8 آجن, متغير الطعم واللون. والدبا. الجراد. والغضا: شجر له هدب إذا أكلته الإبل اشتكت بطونها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وقد أجاد علقمة بن عبدة الفحل في وصف الماء الآجن. حيث يقول: إذا وردت ماء كأن جمامه ... من الأجن حناء معاً وصبيب فقال ذو الرمة في وصف هذا الماء، فقرن بتغيره بعد مطلبه، فقال: فأدلى غلامي دلوه يبتغي بها ... شفاء الصدى والليل أدهم أبلق يريد أن الفجر قد نجم فيه. فجاءت - يعني الدلو - بنسج العنكبوت، كأنه على عصويها سابري مشبرق. والسابري: الرقيق من الثياب والدروع1 والمشبرق: الممزق. وأنشد أبو زيد: لهونا بسربال الشباب ملاوة2 ... فأصبح سربال الشباب شبارقا ومن التشبيه العجيب قول ذي الرمة في صفة الظليم: شخت الجزارة مثل البيت سائره ... من المسوح خدب شوقب خشب الشخت: الضئيل اليابس الضعيف. والجزارة القوام. وقوله: مثل البيت سائره من المسح: يعني إذا مد جناحيه. وإنما أخذه من قول علقمة بن عبدة: صعل كأن جناحيه وجؤجؤه ... بيت أطافت به خرقاء مهجوم الصعل: الصغير الرأس. الخرقاء: التي لا تحسن شيئاً، فهي تفسد ما عرضت له. قال الحطيئة: هم صنعوا لجارهم وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصناع والمهجوم: المهدوم. وفي الخبر أنه لما قتل بسطام بن قيس لم يبق بيت في بكر بن وائل إلا هجم، أي هدم. والخدب: الضخم. والشوقب الطويل. والخشب: الذي ليس بلين على من نزل به. ومن التشبيه المصيب قوله في صفة روضة:   1 قال صاحب اللسان: "الدروع السابرية منسوبة إلى سابور". واستشهد ببيت ذي الرمة. 2 الملاوة: الحين من الدهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 قرحاء حواء أشراطية وكفت ... فيها الذهاب وحفتها البراعيم قرحاء. يريد الأنوار. وقوله: حواء يقول: تضرب إلى السواد لشدة ريها وخضرتها، وكذلك قال المفسرون1 في قوله الله جل وعز: {مُدْهَامَّتَانِ} 2. تضربان إلى الدهمة، لشدة خضرتهما وريهما. وقوله: أشراطية ليس مما قصدنا له. ولكنه مما يجري فنفسره، ومعناه أنها مطرت بنوء الشرطين3. وحدثني الزيادي: قال: سمعت الأصمعي - وسئل بحضرتي، أو سألته عن قوله: أشراطية - فقال: باستة واست عرسه! وذاك أن الأصمعي كان لا ينشد ولا يفسر ما كان فيه ذكر الأنواء، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا". لأن الخبر في هذا بعينه. "مطرنا بنوء كذا وكذا"، وكان لا يفسر ولا ينشد شعراً فيه هجاء، وكان لا يفسر شعراً يوافق تفسيره شيئاً من القرآن، هكذا يقول أصحابه، وسئل عن قول الشماخ: طوى ظمأها في بيضة القيظ4 بعدما ... جرى في عنان الشعر بين الأماعز5 فأبى أن يفسر في عنان الشعربين. وقوله6: الذهاب7 فهي الأمطار اللينة الدائمة، ويقال: إنها أنجع المطر في النبت، وكذلك العهاد، وأنشد الأصمعي: أمير عم بالنعماء حتى ... كأن الأرض جللها العهاد8 والبراعين، واحدها9 برعومة، وهي أكمة الروض قبل أن تتفتق، يقال   1 ر: "وكذا المفسرون يقولون". 2 سورة الرحمن 64. 3 الشرطان: مثنى شرط بالتحريك وهي من الحمل قرناه. 4 ر: "بيضة الصيف". 5 طوى ظمأها: فقطع بها مقدار ظمأها في السير. والظمء: ما بين الشربتين, يريد أنه سار بها فلم يوردها الماء, وبيضة اليقظ: شدته. وقوله: "جرى فى عنلن الشعريين الاماعز" جعل للشعريين الصور والغميصاء- وهما كوكبان يطلعان في القيظ- عناناه طرفاه محيطان براس الأماعز, وهى الأمكنة الغليظة "من رغبة الآمل". 6 ر: "وأما قوله". 7 الذهاب: جمع ذهبة. 8 جمع عهدة. 9 ر: "واحدتها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 لواحدها: كم1، وكمام، فمن قال: كمام، فمن قال: كمام، فجمعه أكمة، مثل صمام وأصمة، وزمام وأزمة، ومن قال: كم، فالجماع أكمام، قال الله عز وجل {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} 2. ومن ذلك قول الآخر، أحسبه توبة بن الحمير. [قال أبو الحسن: يقال إنه لمجنون بني عامر، وهو الصواب] : كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح3 قطاة غرها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح [لها فرخان قد غلقا بكر ... فعشهما تصفقه الرياح] 4 فلا بالليل نالت ما ترجي ... ولا بالصبح كان لها براح5 وقد قال الشعراء قبله فلم يبلغوا هذا المقدار. وقال الشيباني6 للحجاج: هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر فهذا يجوز أن يكون في الخفقان وفي الذهاب البتة. ومن التشبيه المحمود قول الشاعر: طليق الله لم يمنن عليه ... أبو داود وابن أبي كثير ولا الحجاج عيني بنت ماء7 ... تقلب طرفها حذر الصقور وهذا غاية في صفة الجبان.   1 الكم: وعاء الطلع وغطاء النور. 2 سورة الرحمن 11. 3 ر: "تعالحه", وفى نهاية الأبيات. و"يروى: "تجاذبه", فهذا غاية الاضطراب". 4 غلقا: من الغلق. وهو الحبس. 5 البيتان الواقعان بين العلامتين من زيادات ر. 6 هو عمران بن حطان 7 بنت الماء: ما يصاد من طير الماء إذا نظرت إلى صقر قلبت عينها حذرا منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 ونصب عيني بنت ماء على الذم، وتأويله: إنه إذا قال: جاءني عبد الله الفاسق الخبيث فليس يقوله1 إلا وقد عرفه بالفسق والخبث2 فنصبه أعني وما أشبهه من الأفعال، نحو أذكر، وهذا أبلغ في الذم، أن يقيم الصفة مقام الإسم، وكذلك المدح. وقول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} بعد قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} 3. إنما هو على هذا. ومن زعم أنه أراد: "ومن المقيمين الصلاة" فمخطئ في قول البصريين، لأنهم لا يعطفون الظاهر على المضمر المخفوض، ومن أجازه من غيرهم فعلى قبح، كالضرورة. والقرآن إنما يحمل على أشرف المذاهب. وقرأ حمزة: {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} 4، وهذا مما لا يجوز عندنا إلا أن يضطر إليه شاعر، كما قال: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب وقرأ عيسى بن عمر: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} 5. أراد: وامرأته في جيدها حبل من مسد، فنصب حمالة على الذم. ومن قال إن امرأته مرتفعة بقوله: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} : فهو يجوز. وليس بالوجه أن يعطف المظهر المرفوع على المضمر حتى يؤكد، نحو: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} 6 [المائدة: 24] و: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 7، فأما قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} 8.فإنه لما طال الكلام وزيدت9 فيه لا احتمل الحذف وهذا على قبحه جائز في الكلام10، أعني: ذهبت وزيد، وأذهب وعمرو، قال جرير: ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأب له لينالا وقال ابن أبي ربيعة: قلت إذ أقبلت وزهر تهادى ... كنعاج الملا تعسفن رملا11   1 ر: "يقول". 2 ر: "بالخبث والفسق". 3 سورة النساء 162. 4 سورة النساء 1 5 سورة المسد 4. 6 سورة المائدة 21. 7 سورة البقرة 35. 8 سورة الأنعام 148. 9 ر: "وزادت", وما أثبته عن الأصل, س. 10 لفظ "في الكلام" ساقط من ر. 11 الملا: الفلاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 ومما ينصب على الذم قول النابغة الذبياني1: لعمري وما عمري علي بهين ... لقد نطقت بطلا علي الأقارع2 أقارع عوف لا أحاول غيرها ... وجوه قرود تبتغي من تجادع3 وقال عروة بن الورد العبسي: سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور والعرب تنشد قول حاتم الطائي رفعاً ونصباً: إن كنت كارهة معيشتنا ... هاتا فحلي في بني بدر الضربين، لدى أعنتهم ... والطاعنين وخيلهم تجري وإنما خفضوهما على النعت، وربما رفعوهما على القطع والابتداء. وكذلك قول الخرنق بنت هفان القيسي، من بني قيس بن ثعلب: لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر وكل ما كان من هذا فعلى هذا الوجه4. وإن لم يرد مدحاً ولا ذماً قد استقر له فوجهه النعت. وقرأ بعض القراء: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 5. وأكثر ما تنشد العرب بيت ذي الرمة نصباً، لأنه لما ذكر ما يحن إليه ويصبو إلى قربه أشاد بذكر ما قد كان يبغي، فقال: ديار مية إذ مي تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب وفي هذه القصيدة من التشبيه المصيب قوله:   1 ساقط من ر. 2 البطل: ضد الحق. والأقارع: هم بنو قريع بن عوف بن كعب. 3 تجادع: تشاتم, وفى ر: "تخادع". 4 كذا فى الأصل. س, وفى ر: "فعلى هذا أكثر إنشاده". 5 سورة المؤمنون 14. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 بيضاء في دعج، صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب1 وفيها من التشبيه المصيب قوله2: تشكو الخشاش ومجرى النسعتين كما ... أن المريض إلى عاده الوصب3 والخشاش4: ما كان في عظم الأنف، وما كان في المارن فهو برة، يقال: أبريت الناقة، فهي مبراة، قال الشماخ - وهذا من التشبيه العجيب: فقربت مبراة تخال ضلوعها ... من الماسخيات القسي المؤطرا 5 وماسخة، من نصر6 بن الأزد، وإليهم تنسب7 القسي الماسخية. وأحسن ما قيل في صفة الضلوع واشتباكها قول الراعي: وكأنما انتطحت على أثباجها ... فدر بشابة قد يممن وعولا8 الفادر: المسن من الوعل. وذو الرمة أخذ ذلك من المثقب العبدي، قال المثقب9: إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين ومن التشبيه المستحسن قول علقمة بن عبدة: كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم10 فهذا حسن جداً. وقال أبو الهندي، وهو عبد المؤمن بن عبد القدوس بن شبث بن ربعي الرياحي، من بني رياح بن يربوع. وكان شبث سيد بني يربوع بالكوفة: مفدمة قزا كأن رقابها ... رقاب بنات الماء أفزعها الرعد   1 الدعج: سواد العين. والنعج: البياض الخالص. ورواية الديوان 5: "كحلاء فى برج", والبرج: سعة فى بياض العين. 2 ساقطة من ر. 3 النسعة والنسع: سير مضفور يجعل زماما للبعير وغيره, وأن من الأنين. 4 ر: "الخشاش" بحذف الواو. 5 أصل الإطر: عطف الشئ تقبض على أحد طرفيه فتعوجه. وفى ر: "الموترا", والموتر: المشدود. 6 ر: "نصر من الأزد". 7 ر: "نسبت". 8 الأثباج: جمع ثبج, وهو معظم الظهلر. وفيه محانى الضلوع. وشابة: جبل بعينه. يممن: قصدن, وخفف في البيت للشعر. 9 ر: "أخذ ذلك المعنى من قول المثقب العبدي". 10 الشرف: ما ارتفع من الأرض وأشرف على ما حوله. مفدم: مغطى بالفدام, وهو من وصف الإبريق. وسب الكتان, يريدسبائب الكتان, والسبائب: جمع سبيبة, وهي شقة بيضاء. ملثوم, من اللثام, وهو ما يوضع على الفم, واستعاره للإبريق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 من أخبار أبي الهندي وكان أبو الهندي قد غلب عليه الشراب، على كرم منصبه، وشرف أسرته حتى كاد يبطله. وكان عجيب الجواب، فجلس إليه رجل مرة يعرف ببرزين المناقير، وكان أبوه صلب في خرابة، والخرابة عندهم: سوق الإبل خاصة. فأقبل يعرض لأبي الهندي بالشراب، فلما أكثر عليه قال أبو الهندي: أحدهم يرى الذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في أست أبيه. وفي الخرابة يقول الراجز: والخارب اللص يحب الخاربا ... وتلك قربى مثل أن تناسبا أن تشبه الضارئب الضرائبا1 وقال الآخر: إيت الطريق واجتنب أرماما ... إن بها أكتل أو رزاما2 خويربين ينقفان الهاما3 [زاد أبو الحسن: * لم يتركا لمسلم طعاما] نصب "خُوَيْرِبَيْن" على أعني لا يكون غير ذلك، لأنه إنما أثبت أحدهما بقوله: أو.   1 الضرائب: جمع ضريبة, وهى السجية والطبيعة. 2 أرمام جبل بعينه, وأكتل ورزام: لصان من لصوص البادية. 3 نقف الهامة: شجها حتى يخرج الدماغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ومر نصر بن سيار الليثي بأبي الهندي وهو يميل سكراً، فقال له: أفسدت شرفك! فقال أبو الهندي: لو لم أفسد شرفي لم تكن أنت والي خراسان. وحج به نصر بن سيار مرة، فلما ورد الحرم قال له نصر: إنك بفناء بيت الله ومحل حرمه1، فدع لي الشراب حتى ينفر الناس، واحتكم علي، ففعل. فلما كان يوم النفر أخذ الشراب فوضعه بين يديه، وأقبل يشرب ويبكي، ويقول: رضيع مدام فارق الراح روحه ... فظل عليها مستهل المدامع أديرا علي الكأس إني فقدتها ... كما فقد المفطوم در المراضع وكان يشرب مع قيس بن أبي الوليد الكناني، وكان أبو الوليد ناسكاً فاستعدى عليه وعلى ابنه، فهربا منه، فهربا منه، وقال أبو الهندي: قل للسري أبي قيس: أتوعدنا ... ودارنا أصبحت من داركم صددا2 أبا الوليد أما والله لو عملت ... فيك الشمول لما حرمتها أبدا ولا نسيت حمياها ولذتها ... ولا عدلت بها مالاً ولا ولدا ثم نرجع إلى التشبيه، وربما عرض الشيء المقصود غيره، فيذكر للفائدة تقع فيه، ثم يعاد إلى أصل الباب. قال أبو العباس: وقال عروة بن حزام العذري: كأن قطاة علقت بجناحها ... على كبدي من شدة الخفقان ويقال: إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها، فآية ذلك أن تكون عند قربه منها مرتدة النظر عنه كأنما تنظر إلى إنسان وراء3، وإذا كانت محبة له لا تقلع عن النظر إليه، وإذا نهض نظرت من ورائه إلى شخصه حتى يزول عنها، فقال رجل: أردت أن أعلم كيف حالي عند امرأتي، فالتفت وقد نهضت من بين يديها فإذا هي تكلح4 في قفاي.   1 ر: "ومحمل "وفوده"". 2 داركم صددا, منصوب على الظرفية, أي القريبة. 3 ر: "من ورائه", وما أثبته عن الأصل. 4 التكليح: التكشير في عبوس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 وقال الفرزدق في هذا المعنى، والنوار تخاصمه عند عبد الله بن الزبير بن العوام: فدونكها يا ابن الزبير فإنها ... مولعة يوهي الحجارة قيلها إذا جلست عند الإمام كأنما1 ... ترى رفقة من خلفها تستحيلها قوله: مولعة. يقول: كأنها2 مولعة بالنظر مرة ههنا ومرة ههنا. وقوله: ترى رفقة يقال: رفقة ورفقة. ومعنى تستحيلها: تتبين حالاتها. قال حميد بن ثور: إذا خرجت تستحيل الشخوص3 ... من الخوف تسمع ما لا ترى4 ومن عجيب التشبيه قول جرير فيما يكنى ذكره: ترى الصبيان عاكفة عليها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا5 ويقال: إن الفرزدق حين أنشد النصف الأول ضرب بيده إلى عنفقته توقعا لعجز البيت. ومن التشبيه الحسن قول جرير في صفة6 الخيل: يشتفن للنظر البعيد كأنما ... إرنانها ببوائن الأشطان قوله: يشتفن ويتشوفن في معنى واحد. وقوله: كأنما إرنانها ببوائن الأشطان، أراد شدة صهيلها. يقول: كأنما يصهلن في آبار واسعة تبين أشطانها عن نواحيها. ونظر ذلك قول النابغة الجعدي: ويصهل في مثل جوف الطوي ... صهيلاً يبين للمعرب   1 ر: "كأنها", وما أثبته عن الأصل: س. 2 ساقطة من ر. 3 كذ1افي الأصل س, وفى ر: "مروعة تستحيل الشخوص" وهي رواية الديوان 47. 4 وفى زبادات طبعة المرصفى: قوله: مروعة" يقول: كل شئ يدنينى من الظفر بها يروعها وبنفها. 5 العنفقة: ما بين الذقن وطرف الشفة السفلى من الشعر. 6 قال المرصفى: "هذا خطأ, صوابه قول الفرزدق يهجو جريرا ويمدح بنى تغلب, وهو فى ديوانه 882. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 المعرب: العالم بالخيل العراب. ومن حشن التشبيه قول عنترة: غادرن نضلة في معرك ... يجر الأسنة كالمحتطب1 يقول: طعن وغودرت الرماح فيه، فظل يجرها، كأنه حامل حطب. ومن التشبيه المتجاوز المفرط، قول الخنساء: وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار فجعلت المهتدي يأتم به، وجعلته كنار في رأس علم، والعلم: الجبل، قال جرير: إذا قطعن علماً بدا علم وقال الله جل ثناؤه: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} 2. ومن هذا الضرب من التشبيه قول العجاج: تقضي البازي إذا البازي كسر والتقضي: الإنقاض، وإنما أراد سرعتها، والعرب تبدل كثيراً الياء من أحد التضعيفين، فيقولون: تظنيت والأصل: تظننت، لأنه تفعلت من الظن، وكذلك: تقضيت؛ من الإنقضاض، أي تقضضت، وكذلك تسريت، ومثل هذا كثير.   1 الضمير فى "غادرن" يعود إلى الخيل ولم يجر لها ذكر. ونضلة بن الأشتر قتله ورد بن حابس العبسي, قال المرصفى. 2 سورة الرحمن 24. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 ومن تشبيه المحدثين ومن تشبيه المحدثين المستطرف قول بشار : كأن فؤاده كرة تنزى ... حذار البين إن نفع الحذار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 [يروعه السرار بكل أمر ... مخافة أن يكون به السرار] 1 وفي هذه القصيدة: جفت عيني عن التغميض حتى ... كأن جفونها عنها قصار أقول وليلتي تزداد طولاً! ... أما لليل بعدهم نهار وقال الحسن بن هانئ في صفة الخمر: فإذا ما لمستها فهباء ... تمنع اللمس ما يبيح العيونا درس الدهر ما تحسم منها ... وتبقى لبابها المكنونا فهي بكر كأنها كل شيء ... يتمنى مخير أن يكونا في كؤوس كأنهن نجوم ... جاريات، بروجها أيدينا طالعات مع السقاة علينا ... فإذا ما غربن يغربن فينا فهذه قطعة من التشبيه غاية، على سخف كلام المحدثين. وقال الحنفي: وهو إسحاق بن خلف في صفة السيف: ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح2 وكأنما در الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح وقال مسلم بن الوليد الأنصاري في مدحه يزيد بن مزيد: يمضى المنايا كما تمضي أسنته ... كأن في سرجه بدرا وضرغاما3   1 مابين العلامتين من زيادات ر: والسرار: آخر ليلة من الشهر. وهى التى يستتر فيها القمر ويختفي. 2 ر: "فكأنما" وما أثبته عن الأصل. 3 ر: "تمضى", وما أثبته عن الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 وقال دعبل بن علي في صفة المصلوب1: لم أر صفاً مثل صف الزط ... تسعين منهم صلبوا في خط2 من كل عال جذعه بالشط ... كأن في جذعه المشتط3 أخو نعاس جد في التمطي ... قد خامر النوم ولم يغط4 وقال يزيد المهلبي في مثله5: قام ولما يستعن بساقه ... آلف مثواه على فراقه كأنما يضحك في أشداقه أراد بياض الشريط في فيه. وقال أعرابي في صفة مصلوب، وهو الأخطل: [قال أبو الحسن: الأخطل الذي يعني رجل محدث من أهل البصرة، ويعرف بالأخيطل، ويلقب ببرقوقا، وذكر أبو الحسن أن أبا العباس كان يدلس به] . كأنه عاشق قد مد سفحته ... يوم الفراق إلى توديعه مرتحل أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مواصل لتميه من الكسل6 [وقال مسلم بن الوليد: وضعت حيث ترتاب الرياح به ... وتحسد الطير فيه أضبع البلد] 7 وقال حبيب بن أوس [قال أبو الحسن: يعني به إسحاق بن إبراهيم الطاهري] :   1 ر: "مصلوب". 2 الزط: جيل أسود من السند أو الهند. 3 كذا في الأصل, ويريد بالمشتط الطويل, وفي ر: "المشتط". 4 الغطيط: صوت نفس النائم. 5 في زيادات ر: "وقال آخر في صفة مصلوب, وهو يزيد المهلبي", وما أثبته من الأصل. 6 اللوثة: الاسترخاء والبطء. 7 ما بين العلامتين من زيادات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 قد قلصت شفتاه من حفيظته ... فخيل من شدة التقليص مبتسما1 وقال أيضاً في رجل ينسبه إلى الدعوة2: وتنقل من معشر في معشر ... فكأن أمك أو أباك الزئبق يقال: زئبق، وزئبر، مهموزان، ودرهم مزأبق، وثوب مزأبر3. ومن إفراط التشبيه قول أبي خراش الهذالي يصف سرعة أبيه في العدو: كأنهم يسعون في إثر طائر ... خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض يبادر جنح الليل فهو مهابد ... يحث الجناح بالتبسط والقبض وقال أوس بن حجر [قال أبو الحسن: أهل الكوفة يرونها لعبيد بن الأبرص] : كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت ... من ماء أدكن في الحانوت نضاح أو من معتقة ورهاء نشوتها ... أو من أنابيب رمان وتفاح4 وقال ابن عبدل يهجو رجلاً بالبخر: نكهت علي نكهة أخدري ... شتيم شابك الأنياب ورد5 وفي هذا الشعر: فما يدنو إلى فيه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند6 يرين حلاوة ويخفن موتاً ... وشيكاً إن هممن له بورد   1 التقليص: التقبض. وفي ر: "من شدة التعبس". 2 في زيادات ر: "وهو إسحاق بن إبراهيم الطاهري" ودفعها المرصفي, وقال: هو عتبة بن أبي عاصم, وكان قد ضمها مجلس لم يتكلم فيه حتى انصرف أبو تمتم, فأخذ يتشدق بهجائه, فبلغ أبا تمام, فقال كلمة منها هذا البيت. 3 الزئير: ما يعلو الثوب الجديد مثل ما يعلو الخز. 4 الاغتباق: شرب العشى. والأدكن: ما تعلوه الدكنة, وهي لون بين الحمرة والسواد أراد به الزق. والورهاء: الريح التي في هبوبها خرق وعجرفة. والنشوة: الرائحة الطيبة. 5 النكهة: ريح الفم. والأخدري من وصف الحمار الوحشى. 6 القند: عسل قصب السكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 الذباب: الواحد من الذبان، وأدنى العدد فيه أذبة، والكثير الذبان؛ ولكنه ذكر واحداً ثم خبر عن سائر الجنس، والأسد أنتن السباع فماً، كما أن الصقر أنتن الطير فماً. قال بعض المحدثين في رجل يهجوه، والمهجو داود بن بكر، وكان ولي الأهواز وفارس، والشعر لأبي الشمقمق: وله لحية تيس ... وله منقار نسر وله نكهة ليث ... خالطت نحهة صقر وقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن بن عائشة: من يكن إبطه كآباط ... ذا الخلق فإبطاي في عداد الفقاح1 لي إبطان يرميان جليسي ... بشبيه السلاح2 أو بالسلاح فكأني من نتن هذا وهذا ... جالس بين مصعب وصباح يعني مصعب بن عبد الله الزبيري، وصباح بن خاقان المنقري - وكانا جليسين - لا يكادان يفترقان، وصديقين متواصلين، لا يكادان يتصارمان. فحدثت أن أحمد بن هشام لقيهما يوماً، فقال: أما سمعتما ما قال فيكما هذا? يعني إسحاق بن الموصلي، فقالا: ما قال فينا إلا خيراً، قال: قال: لام فيها مصعب وصباح ... فعصينا مصعباً وصباحا وأبينا غير سعي إليها ... فاسترحنا منهما واستراحا قال: ما قال إلا خيراً، ولكن3 المكروة ما قال فيك، إذ يقول: وصافية تعشي العيون رقيقة ... رهينة عام في الدنان وعام أدرنا بها الكأس الروية موهناً ... من الليل حتى انجاب كل ظلام4 فما ذر قرن الشمس حتى كأننا ... من العي نحكي أحمد بن هشام   1 الفقاح: جمع فقحة. وهي حلقة الدبر. 2 السلاح: العذرة. 3 ساقطة من ر. 4 الموهن نحو نصف الليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 واعمل أن للتشبيه حداً؛ لأن الأشياء1 تشابه من وجوه، وتباين من وجوه؛ فإنما ينظر إلى التشبيه من أين وقع2، فإذا شبه الوجه بالشمس والقمر فإنما يراد به الضياء والرونق، ولا يراد به3 العظم والإحراق. قال الله جل وعز: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} 4، والعرب تشبه النساء ببيض النعام، تريد نقاءه ورقة لونه5، قال الراعي: كأن بيض نعام في ملاحفها ... إذا اجتلاهن قيظ ليله ومد6 وقيل للأوسية - وهي امرأة حكيمة في7 العرب - بحضرة عمر بن الخطاب رحمه الله: أي منظر أحسن? فقالت: قصور بيض، في حدائق خضر، فأنشد عمر بن الخطاب لعدي بن زيد: كدمى العاج في المحاريب ... أو كالبيض في الروض زهره مستنير وقال آخر: كالبيض في الأدحي يلمع بالضحى8 ... فالحسن حسن والنعيم نعيم وقال جرير: ما استوصف الناس من شيء يروقهم9 ... إلا رأوا أم نوح فوق ما وصفوا كأنها مزنة غراء رائحة ... أو درة ما يواري ضوءها الصدف10 المزنة: السحابة البيضاء خاصة، وجمعها مزن، قال الله جل وعز: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} 11, فالمرأة تشبه بالسحابة لتهاديها وسهولة مرها، قال الأعشى:   1 ر: "فالأشياء", وما أثبته عن الأصل. 2 ر: "من حيث وقع". 3 ساقطه من ر. 4 سورة الصافات 49. 5 ر: "ونعمة لونه". 6 الملاحف: الأغطية, والومد: ندى يجئ في صميم الحر, من قبل البحر مع سكون الريح. 7 كذا في الأصل, وفي ر, س: "من العرب". 8 الأدحى: مبيض النعام تدحوه برجلها, ثم تبيض فيه. 9 ر: "عن شئ بروقهم", وما أثبته عن الاصل, س. 10 ر: "لا يوارى لونها". 11 سورة الواقعة 69. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل الريث: الإبطاء، فهذا ما تلحقه العين منها، فأما الخفة فهي كأسرع مار، وإن خفي ذلك على البصر، قال الله جل وعز: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} 1. والعرب تشبه المرأة بالشمس، والقمر، والغصن، والكثيب2، والغزال، والبقرة الوحشية، والسحابة البيضاء، والدرة، والبيضة؛ وإنما تقصد من كل شيء إلى شيء. قال ذو الرمة: ومية أحسن الثقلين جيداً3 ... وسالفة وأحسنهم قذالا4 فلم أر مثلها نظراً وعيناً ... ولا أم الغزال ولا الغزالا تريك بياض غرتها ووجهاً ... كقرن الشمس أفتق ثم زالا5 أصاب خصاصة فبدا كليلاً ... كلا وانغل سائره انغلالا6 الجيد: العنق، والسالفة: ناحية العنق، والقذالان: ناحيتا القفا من الرأس. وقوله: أفتق ثم زالا، يقال: أفتق السحاب، إذا انكشف انكشافة فكانت منه7 فرجة يسيرة بين السحابتين. تقول العرب: دام علينا الغيم ثم أفتقنا، وإذا نظر إلى الشمس والقمر من فتق السحاب فهو أحسن ما يكون وأشده استنارة. وقوله: كلا يريد في سرعة ما بدا ثم غاب.   1 سورة النمل 88. 2 كلمة "الكثيب", ساقطة من ر, وهي في الأصل, س. 3 الديوان: "خدا". 4 الديوان: "أحسنه". 5 الديوان: "تريك بياض لبتها". 6 أصاب قرن الشمس خصاصة, أي تقف السحاب فبدا منها كليلا, أي ضعيفا, ليس مبين الضوء, وانغل: دخل, والانغلال: الدخول, يقول: دخل في الحساب. "من شرح الديوان". 7 ر. "صفه" وما أثبته عن الأصل, س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وقال الله عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} 1، وقال تبارك وتعالى: {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} 2. والمكنون: المصون، يقال: كننت الشي، إذا صنته. وأكننته، إذا أخفيته، فهذا المعروف، قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} 3 [البقرة: 235] وقد يقال: كننته، أخفيته. وقد قال جرير في يزيد بن عبد الملك، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن سفيان: الحزم والجود والإيمان قد نزلوا ... على يزيد أمين الله فاحتلفوا4 ضخم الدسيعة والإيمان، غرته ... كالبدر ليلة كاد الشهر ينتصف5 وقال ذو الرمة: فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم6 وقال ابن أبي ربيعة: أبصرتها ليلة ونسوتها ... يمشين بين المقام والحجر يرفلن في الريط والمروط كما ... تمشي الهويني سواكن البقر7 فهذه تشبيهات غريبات مفهومة. وقال أبو عبد الرحمن العطوي8: قد رأينا الغزال والغصن النجمين ... شمس الضحى وبدر الظلام فوحق البيان يعضده البر ... هان ماقط ألد الخصام   1 سورة الرحمن 58. 2 سورة الواقعة 23. 3 سورة البقرة 235. 4 احتلفوا, بالحاء المهملة, من الحلف, أي تحالفوا, وفي س: "اختلفوا" تصحيف. 5 الدسعبة: العطية. سميت دسيعة لدفع المعطى إياها مرة واحدة كما يدفع البعير جربه دفعة واحدة. 6 الوعساء: الأرض اللينة, وجلاجل: جبل بعينه. 7 الريط: جمع ريطة, وهي الملاءة غير ذات لعفين كلها نسيج واحد. والمروط: جمع مرط, وهو كساء من صوف أو كتان. 8 س: وقال أحد الشعراء المكلمين المحدثين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 ما رأينا سوى الحبيبة شيئاً1 ... جمع الحسن كله في نظام فهي تجري مجرى الأصالة في الرأ ... ي ومجرى الأرواح في الأجسام البرهان: الحجة، قال الله عز وجل: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 أي حججكم. والماقط: موضع الحرب، فضربه مثلاً لموضع المناظرة والمحاجة. والألد: الشديد الخصومة، قال الله تبارك وتعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} 3، وقال: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} 4. وقالت ليلى الأخيلية5: كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد ولم يطلع مع المتغور ولم يقدع الخصم الألد ويملأ ال ... جفان سديفاً يوم نكباء صرصر6 السديف: شقق السنام.   1 ر: "سوى المليحة". 2 سورة البقرة 111. 3 سورة مريم 97. 4 سورة البقرة 204. 5 من كلمة ترثى بها توبة بن الحمير. 6 لم يقدع: لم يكف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 الرياح ومواقعها والنكباء: الريح بين الريحين، لأن الرياح أربع، وما بين كل ريحين نكباء، فهي ثمان في المعنى. فما بين مطلع سهيل إلى مطلع الفجر جنوب، وإنما تأتي الجنوب من قبل اليمن، قال جرير: وحبذا نفحات من يمانية ... تأتيك من جبل الريان أحيانا1 وإذا هبت من تلقاء الفجر فهي الصبا تقابل القبلة، فالعرب تسميها القبول، قال الشاعر2: إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني ... نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر   1 الريان: جبل من بلاد طيئ, وفى ر: "من قبل الريان". 2 هو أبو صخر الهذلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 وإذا أتت من قبل الشأم فهي شمال، قال الفرزدق: مستقبلين شمال الشأم تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور وهي تقابل الجنوب، وكذلك قال امرؤ القيس: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل وإذا جاءت من دبر البيت الحرام فهي الدبور، وهي تهب بشدة، والعرب تسميها محوة، عن أبي زيد، لأنها تمحو السحاب. ومحوة معرفة لا تنصرف، فأما الأصمعي فزعم أن محوة من أسماء الشمال. وأنشدا جميعاً: قد بكرت محوة بالعجاج ... فدمرت بقية الرجاج الرجاج: حاشية الإبل وضعافها. وقال الأعشى: لها زجل كحفيف الحصا ... د صادف بالليل ريحاً دبورا ولهذه الرياح أسماء كثيرة، وأحكام في العربية، لأن بعضهم يجعلها نعوتاً، وبعضهم يجعلها أسماء، وكذلك مصادرها تحتاج إلى الشرح والتفسير، ونحن ذاكرون ذلك في عقب هذا الباب، إن شاء الله. يقال: جنبت الريح جنوباً، وشملت شمولاً، ودبرت دبوراً، وصبت صبواً، وسمت سموماً، وحرت حروراً، مضمومات الأوائل. فإذا أردت الأسماء فتحت أوائلها، فقلت: جنوب، وشمول، وسموم، ودبور، وحرور. ولم يأت من المصادر شيء مفتوح الأول، إلا أشياء يسيرة، قالوا: توضأت وضوءاً حسناً، وتطهرت طهوراً، وأولعت بالشيء ولوعاً، وإن عليه لقبولا، ووقدت النار وقوداً، وأكثرهم يجعل الوقود الحطب، والوقود المصدر. ويقال: الشمال، على لغات ست، يقال: شمال، وشمأل، وشمال، وشمل وشمل، وشامل، غير مهموز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 ويقال للشمال: الجربياء، قال ابن أحمر: بجو من قساً ذفر الخزامى ... تداعى الجربياء به بالحنينا1 ويقال للجنوب: الأزيب. ويقال للصبا: القبول، وبعضهم يجعله للجنوب، وهو في الصبا أشهر، بل هو القول الصحيح. والإير، والهير، والأير، والهير، قال الشاعر: مطاعيم أيسار إلى الهير هبت فهذا يدل على أنه الصبا، وذاك أنهم إنما يتمدحون بالإطعام في المشتاة2. وشدة الزمان، كما قال طرفة: نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتفر الجفلى: العامة، والنقرى: الخاصة، والآدب: صاحبة المأدبة. يقال: مأدبة ومأدبة للدعوة. وفي الحديث: "إن القرآن مأدبة الله". قال أهل العلم: معناه مدعاة الله، وليس من الأدب. وأكثر المفسرين قالوا القول الأول، وكلاهما في العربية جائز ويدل على القول الأول قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنا الجفنة الغراء"، أي التي يجتمع الناس عليها ويدعون إليه، ويقال في الدعوة: أدبه يأدبه أدباً، إذا دعاه، قال الشاعر: وما أصبح الضحاك إلا كخالع ... عصانا فأرسلنا المنية تأدبه وقولنا في الرياح: إنها تكو أسماء ونعوتاً نفسره إن شاء الله. يقول أكثر العرب: هذه ريح جنوب، وريح شمال، وريح دبور، فتجعل جنوباً، وشمالاً، ودبوراً، وسائر الرياح نعوتاً. قال الأعشى: لها زجل كحفيف الحصا ... د صادف بالليل ريحاً دبورا   1 قسا: موضع بالعالية, وذفر, من ذفر الطيب, وهو اشتداد رائحته, والخزامي: نوع من العشب, طويل العيدان, صغير الورق. 2 ر: "المشتى". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وقال زهير: مكلل بأصول النبت تنسجه ... ريح شمال لضاحي مائه حبك1 وقال جرير: ريح خريق شمال أو يمانية فهذا يكون على النعت أجود، لأنه أوضحه بيمانية، ولا تكون اليمانية إلا نعتاً، لأنها منسوبة؛ فأما الخريق فهي الشديدة من كل ريح، قال حميد بن ثور: بمثوى حرام والمطي كأنه ... قناً مسند هبت لهن خريق والبليل: الباردة من كل ريح2. وأصل ذلك الشمال.   1 مكلل: محاط, وضاحى مائه: ظاهره, وحبك: جمع حبيكة, وهي الطريقة, يصف ما أحاط به النبت, وقد ضربته الريح فأظهرت فيه تكسرا. 2 ر: "الرياح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 لجرير في بني مجاشع قل جرير يعير بني مجاشع لخذلانهم الزبير بن العوام، في كلمة يقول فيها: إني تذكرني الزبير حمامة ... تدعو بأعلى الأيكتين هديلا يا لهف نفسي إذ يغرك حبلهم ... هلا اتخذت على القيون كفيلا قالت قريش ما أذل مجاشعاً ... جاراً وأكرم ذا القتيل قتيلا! أفبعد مترككم خليل محمد ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا! أفتى الندى وفتى الطعان غررتم ... وأخا الشمال إذا تهت بليلا ويرى أن أحيحة بن الجلاح الأنصاري - وكان يبخل - كان3 إذا هبت الصبا طلع من أطمه4 فنظر إلى احية هبوبها. ثم يقول لها هبي هبوبك. فقد أعددت لك ثلثمائة وستين صاعاً من عجوة. أدفع إلى الوليد منها خمس تمرات، فيرد علي منها ثلاثاً، أي لصلابتها، بعد جهد ما يلوك منها اثنتين.   1 ساقطة من ر. 2 الأطم: الحصن ببنى الحجارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 من أخبار لبيد بن ربيعة وكان لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب شريفاً في الجاهلية والإسلام. قد نذر ألا تهب الصبا إلا نحر وأطعم حتى تنقضي. فهبت في الإسلام1، وهو بالكوفة مقتر مملق، فعلم بذلك الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف - وكان واليها لعثمان بن عفان، وكان أخاه لأمه. وأمهما أروى بنت2 كريز بن حبيب بن ربيعة بن شمس3. وأم أروى البيضاء بنت عبد المطلب - فخطب الناس وقال: إنكم قد عرفتم نذر أبي عقيل، وما وكد على نفسه. فأعينوا أخاكم. ثم نزل فبعث إليه بمائة ناقة4 وبعث الناس، فقضى نذره. ففي ذلك تقول ابنة لبيد: إذا هبت رياح أبي عقيل ... دعونا عند هبتها الوليدا5   1 ر: "بالإسلام". 2 ر: "ابنة". 3 حاشية الأصل: "غلط أبو العباس بتقديم حبيب وتأخير ربيعة". 4 زيادات ر: "وأبيات يقول فيها: أرى الجزار تشحذ مديتاه ... إذا هبت رياح أبي عقيل طويل الباع ابيض جعفري ... كريم المجد كالسيف الصقيل وفي أبن الجعفري بما لديه ... على العلآت والمال القليل فلما أتته قال: جزى الله الأمير خيرا. قد عرف الأمير أني لا أقول شعرا, ولكن اخرجي يابنية. فخرجت خمايبة, فقال لها: أجيبي الأمير, فأقبلت وأدبرت. 5 بعده في زيادات ر: طويل الباع أبيض عبشميا ... اعان على مووءته لبيدا بأمثال الهضاب كأن ركبا ... عليها من بني حام قعودا أبا وهب جزاك الله خيرا ... نحرناها وأطعمنا الثريدا فعد إن الكريم له معاد ... وظني بابن أروى أن يعودا فقال لها لبيد: أحسنت يابنية. لولا أنك سألت. فقالت: إن الملوك لا يستحى من منسألتهم. فقال لها: يابنية, وأنت في هذا أشعر" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 ومن جعل الشمال، والجنوب أسماء لم يصرفها إذا سمي بشيء منها رجل، لأنك إذا سميت رجلاً مذكراً باسم مؤنث على أربعة أحرف فصاعداً لا علامة للتأنيث فيه لم تصرفه في المعرفة، وصرفته في النكرة، نحو عناق، وأتان، وعقرب، وإن كان نعتاً انصرف. لأنك إذا سميت رجلاً مذكراً بنعت مؤنث لا علامة فيه صرفته. لأنه مذكر نعت به المؤنث. نحو حائض، وطالق، ومتئم، ومرضع. وإذا ذكرنا من الباب شيئاً فما لم نذكره منه فعلى مجراه ومنهاجه. قال الشاعر. فجعل ما وصفنا أسماء: حالت وحيل بها وغير آيها ... طول البلى تجري به الريحان 1 ريح الشمال مع الجنوب وتارة ... رهم الربيع وصائب التهتان2 وقد أنشدوا بيت زهير: ريح الجنوب لضاحي مائه حبك وقولنا: لا علامة فيه للتأنيث، لتعرف كيف حكم علامات التأنيث، لأن ذلك إنما يكون على ضربين: فما كانت فيه ألف التأنيث مقصورة أو ممدودة فغير منصرف في معرفة ولا نكرة لمذكر كان أو مؤنث. فالمقصور نحو حبلى، وسكرى، وما أشبه ذلك. والممدود نحو حمراء، وصفراء، وصحراء، وما أشبه ذلك. فإن كانت مدودة لغير التأنيث انصرف إذا كان لمذكر في المعرفة والنكرة، زائداً كان أو أصلياً. فالأصلي نحو سقاء، وغذاء، وحذاء، ورداء - والزائدة، نحو علباء، وحرباء، وقوباء يا فتى. ومن قال: قوباء يا فتى - أنث ولم يصرف، لأن الأولى ملحقة، وهذه للتأنيث، فأما الألف المقصورة التي لغير التأنيث، فإن كانت أصلية انصرفت في المذكر. نحو ملهى، ومغزى، ومشترى. وإن كانت زائدة لغير التأنيث انصرفت في النكرة، ولم تنصرف في المعرفة، نحو أرطى، وعلقى، فيمن جعل الواحدة علقاة.   1 حالت: أتى عليها حول. حيل بها: أي أحيلت عما كانت عليه. والآى: جمع أية. 2 الرهم: جمع رهمة. وهو المطر الضعيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وأما ما كانت فيه هاء التأنيث فهو منصرف في النكرة، وغير منصرف في المعرفة، لمذكر كان أو مؤنث، عربياً كان أو أعجمياً. فهذه جملة هذا الباب، فأما قياسه وشرحه فقد أتينا عليه في الكتاب المقتضب. ويقال1 في أكثر الكلام: هبت جنوباً، وهبت شمالاً، فيستغنى2 عن ذكر الريح، وهذا مما يؤكد أنها نعوت، لأن الحال إنما بابها أن تقع فيما يكون وصفاً3 قال جرير: هبت شمالاً فذكر ما ذكرتكم ... عند الصفاة إلى شرقي حورانا وقال الآخر: فأي حي إذا هبت شآمية ... واستدفأ الكلب بالمأسور ذي الذئب المأسور، يعني قتباً4. وإنما الأسر الشد بالقد5 حتى يحكم، وإنما قيل الأسير من ذا، لأنه كان يشد بالقد، ثم قالت العرب لكل محكم شديد أسير6 قال الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} 7. وقوله: ذي الذئب. يعني الفضول التي وسعته وأسبغته. يقال: غبيط مذأب أي ذو ذئب، أي موسع، والغبيط: مركب من مراكب النساء.   1 ر: "تقول". 2 ر: "فتستغنى". 3 ر: "تعتا". 4 القتب: رحل على قدر السنام. 5 القد: سير يقد من جلد غير مدبوغ. 6 ر: "شديد الأسر". 7 سورة الإنسان 28. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 لأوس بن حجر قال أوس بن حجر: في شدة البرد وغلبة الشمال، يرثي فضالة بن كلدة الأسدي: والحافظ الناس في قحوط إذا ... لم يرسلوا تحت عائذ ربعا وعزت الشمأل الرياح وقد ... أمسى كميع الفتاة ملتفعا1   1 الكميع: الضجيج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وكانت الكاعب الممنعة ... الحسناء في زاد أهلها سبعا تحوط، وقحوط، وكحل، وحجرة، أسماء للسنة المجدبة. والعائذ: الحديثة النتاج، فتنحر أولادها في السنة المجدبة إبقاء على ألبانها وشحومها. والربع الذي ينتج في الربيع، والهبع: الذي ينتج في الصيف. يقال: ما له هبع ولا ربع. وإنما سمي: هبعاً، لأن الربع أسن منه فيمشي مع أمهاته1، ولا يلحقهن الهبع إلا باجتهاد فيستعين بعنقه في المشي، يقال إذا فعل ذلك: هبع يهبع. ويقال للريح الشمال: نسع، ومسع، قال الهذلي: قد حال دون دريسيه مؤوبة ... نسع لها بعضاه الأرض تهزير2 الدريسان: ثوبان خلقان. ومؤوبة، مفعلة، من التأويب، وهو سير النهار لا تعريج فيه. قال أبو عبيدة: هو سير النهار، والإسناد: سير الليل لا تغريس فيه، وأنشد لسلامة بن جندل: يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب وإنما يعني ريحاً. وقوله: نسع: أي شمال. والعضاه: شجر ضخام3 فبعض العرب يقول للواحدة: عضاهة، وللجميع: عضاة. على وزن دجاجة ودجاج، وبعضهم يقول للواحدة: عضة، فيقول في الجمع عضوات. وعضهات. فتكون من الواو ومن الهاء قال الشاعر: هذا طريق يأزم المآزما ... وعضوات تقطع اللهازما4 ونظير عضة، سنة؛ على أن الساقط الهاء في قول بعض العرب، والواو في قول بعضهم، تقول في جمعها سنوات. وسانيت الرجل. وبعضهم يقول: سهات. وأكريته مسانهة.   1 كذا في الأصل. س. وفي ر: "أمهاتها". 2 للمنتخل. دبوان الهذليين: 16. 3 ر: "شجرة ضخمة". 4 المآزم: جمع مأزم, وهو الطريق بين جبلين, واللهازم: جمع لهزمة وهي ماتحت الأذن من أعلى اللحيين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 وهذا الحرف في القرآن يقرأ على ضروب. فمن قرأ: {لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ} 1 فوصل بالهاء - هو مأخوذ من: سانهت، التي هي سنيهة. ومن جعله من الواو قال في الوصل: لم يتسن وانظر2. فإذا وقف قال: {لَمْ يَتَسَنَّه} فكانت الهاء زائدة لبيان الحركة. بمنزلة الهاء في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 3. و {كِتَابِيَهْ} 4. و {حِسَابِيَهْ} 5. والمعنى واحد. وتأويله: لم تغيره السنون. ومن لم يقصد إلى السنة، قال: لم يتأسن. والآسن: المتغير، قال الله جل وعز: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} 6، ويقال: أسن في هذا المعنى، كما يقال: رجل حاذر وحذر. ويقال للريح الجنوب: النعامى. قال أبو ذؤيب: مرته النعامى فلم يعترف ... خلاف النعامى من الشأم ريحا ومعنى مرته استرته. وفي الحديث: "ما هبت الريح الجنوب إلا أسال الله بها وادياً". وقال رجل يمدح رجلاً: فتى خلقت أخلاقه مطمئنة ... له نفحات ريحهن جنوب يريد أن الجنوب تأتي بالمطر والندى. والعرب تكره الدبور، وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور". وقلما يكون بالدبور المطر، لأنها تجفل السحاب، ويكون فيها الرهج والغبرة. ولا تهب إلا أقل ذاك بشدة، فتكاد تقلع البيوت وتأتي على الزروع.   1 ر: "في قول بعضهم". 2 سورة البقرة 259. 3 سورة الأنعام 90. 4 سورة الحاقة 19. 5 سورة الحاقة 20. 6 سورة محمد 15. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 لرجل في الهداء وقال رجل يهجو رجلاً: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 لو كنت ريحاً كانت الدبورا ... أو كنت غيماً لم تكن مطيرا أو كنت ماء لم تكن طهوراً ... أو كنت مخاً كنت ريرا أو كنت برداً كنت زمهريرا الرير: المخ الرقيق، يقال: مخ رير ورار، في معنى واحد، وقال السليك: يصيدك قافلاً والمخ رار وقال آخر: لو كنت ماء لم تكن بعذب ... أو كنت سيفاً كنت غير عضب أو كنت لحماً كنت لحم كلب ... أو كنت عيراً كنت غير ندب1   1 الندب: الخفيف السريع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 للسليك يرثي فرسه فأما قول السليك فإنه يرثي فرسه، وكان يقال له النحام، فقال: كأن قوائم النحام لما ... تحمل صحبتي أصلاً محار على قرماء عالية شواه ... كأن بياض غرته خمار وما يدريك ما فقري إليه ... إذا ما القوم ولوا أو أغاروا ويحضر فوق جهد الحضر نصاً ... يصيدك قافلاً والمخ رار قوله: كأن قوائم النحام محار المحارة: الصدفة، يريد الملاسة، وأنه قد ارتفعت قوائمه للموت. والأصل: جمع أصيل، والأصيل، والأصيل العشي، يقال: أصيل وأصل، مثل قضيب وقضب، وجمع أصل آصال، وهو جمع الجمع، وتقديره: عنق وأعناق، وطنب وأطناب. ويقال في جمع أصيلة أصائل، مثل خليفة وخلائف، قال الأعشى: ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل1   1 وصدره. يوما بأطيب منها نشر رائحتة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وقال أبو ذؤيب: لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل وقرماء، ممدودة: اسم موضع. وشواه: قوائمه. وقد فسرناه قبل هذا. وقوله: ولوا أو أغاروا إذا طلبوا أو هربوا. وقوله: يصيدك أي يصيد لك، يقال: صدتك ظبياً، قال الله عز وجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 1. أي كالوا لهم، أو وزنوا لهم، يقال: كلتك ووزنتك، لأنه قد قال تعالى أولاً: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} 2. فأما ما جاء في الحديث من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الهبوب: "اللهم اجعلها رياحاً ولاتجعلها ريحاً"، فإن العرب تقول: لا تلقح السحاب إلا من رياح. وتصديق ذلك قول الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} 3. وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا هبت بحرية ثم تذاءبت" قال الشاعر: تسح إذا تذاءبت الرياح يقول: إذا تقابلت، يقال: تذاءبت الرياح، وتناوحت، أي تقابلت، وتناوح الشجر، إذا قابل بعضه بعضاً، وإنما سميت النائحة نائحة، لأنها تقابل صاحبتها. فإذا خلصت الريح عندهم دبوراً فهي من جنس البوار، وإذا خلصت شمالاً شتوية فهي من آيات الجدب، ومن ثم تقول العرب: فلا يطعم في الشمال، كما تقول: يطعم في المحل. قال أوس بن حجر: وعزت الشمأل الرياح أي غلبتها، فكانت أقوى منها، فلم تدع لها موضعاً وقوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} 4 أي غلبني في المخاطبة والخصومة، ومن أمثال العرب: من عز بر وتأويله: من غلب استلب5، قالت الخنساء: كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذا الناس إذ ذاك م عز بز   1 سورة المطففين 3. 2 سورة المطففين 2 3 سورة الروم 48. 4 سورة ص 23. 5 ر: "سلب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 بين غنوي وفزاري قال أبو العباس: وحدثني عمرو بن بحر الجاحظ قال: رأيت رجلاً من غنى يفاخر رجلاً نم بني فزارة، ثم أحد بني بدر بن عمرو، وكان الغنوي متمكناً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 من لسانه؛ وكان الفزاري بكيئاً1 فقال2 الغنوي: ماؤنا من بين الرقم إلى كذا، وهم جيراننا فيه، فنحن أقصر منهم رشاء، وأعذب منهم ماء، لنا ريف السهور ومعاقل الجبال. وأرضهم سبخة، ومياههم أملاح، وأرشيتهم طوال، والعرب3 من عز بز، فبعزنا ما تخيرنا عليهم، وبذلهم ما رضوا منا4 بالضيم. وقوله: كان الفزاري بكيئاً يقول: غير قادر على الكلام، وأصل ذلك في الحلب، يقال ناقة غزيرة وناقة بكيء، وهي ضد الغزيرة، أي قليلة اللبن، ودهين وصمرد، في معنى، يقال: بكأت الشاة والناقة، وبكؤت، قال الشاعر: فإذا ما حاردت أو بكؤت ... فض عن خاتم أخرى طينها5 وقال سلامة بن جندل: يقول محبسها أدنى لمرتعها ... ولو تداعى ببكء كل محلوب6 يقول: إن نحبس الإبل على ضر ونقاتل عنها فهو أدنى بأن تعز فترتع فيما تستقبل، وإن ذهبت ألبانها، لأنا إن أطردناها7 وهربنا طمع فينا واستذللنا، ويقال في الكلام: رجل عيي بكي. قال أبو العباس: وهذا لغنوي: إذا قابل8 بقبيلته آل بدر فقد أعظم الفرية، وبلغ في البهت، وأشمت العدو بجمهور قيس، وصار بهم إلى قول9 الأخطل: وقد سرني من قيس عيلان أنني ... رأيت بني العجلان سادوا بني بدر   1 ر: "بكيا". وما أثبته عن الأصل. 2 ر: "قال" وما أثبته عن الأصل. 3 ر: "والعرب عن عز بز", س: "والعرب إذا ذاك من عز بز", وما أثبته عن الأصل. 4 كذا في الأصل. س. وفي ر: "عنا". 5 هو عدى بن زيد, وقيله: ولنا باطية مملوءة ... جونة يتبعها برزينها البرزين: إناء يتخذ من قشر الطلع, والحد داء في القوائم, إذا مشى البعير نفض قوائمه, فضرب بهن الأرض كثيرا, وانظر اللسان 4: 123. 18:196. 6 ر: "وإن تداعى". 7 أطردناها: أمرنا بطردها. وفي ر: "طردناها". 8 ر: "حاول". 9 ر: "إلى ما قال". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وكان زياد يقول - وهو الغاية في السياسة - أوصيكم بثلاثة: العالم1 والشريف، والشيخ، فوالله لا أوتى بوضيع سب شريفاً، أو شاب وثب بشيخ، أو جاهل امتهن2 عالماً إلا عاقبت وبالغت.   1 ر: "بالعالم". 2 ر: "امتحن". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 لعمارة بن عقيل يهجو بني أسد وقال عمارة لبني أسد بن خزيمة: يا أيها السائلي عمداً لأخبره ... بذات نفسي وأيدي الله فوق يدي إن تستقم أسد ترشد وإن شغبت ... فلا يلم لائم إلا بني أسد إني رأيتكم يعصى كبيركم ... وتكنعون إلى ذي الفجرة النكد1 فباعد الله كل البعد داركم ... ولا شفاكم من الأضغان والحسد فرأى عصيانهم الكبير من إقبح العيب، وأدله على ضغن بعضهم لبعض، وحسد2 بعضهم بعضاً، والوضيع ينقلب إلى الشريف، لأنه يرى مقاولته فخراً، والاجتراء عليه ربحاً، كما أن مقاولة الشريف للئيم ذل وضعة. قال الشاعر: إذا أنت قاولت اللئيم فإنما ... يكون عليك الفضل حين تقاوله3 ولست كمي يرضى بما غيره الرضا ... ويمسح رأس الذئب والذئب آكله وسنشبع هذا المعنى إن شاء الله. وفي هذا الشعر بيت يقدم في باب الفتك، وهو: فلا تقربن أمر الصريمة بامرئ ... إذا رام أمراً عوقته عواذله [وقل للفؤاد إن ترى بك نزوة ... من الروع أفرخ أكثر الروع باطله] 4 الصريمة: العزيمة.   1 تكنعون: تخضعون, والفجرة: الفجور, والنكد: اللثيم. 2 ر: "وحسد" بسكون السين, والصحح ما أثبته عن الأصل. 4 ر: "يكون عليك العتب". 4 ما بين العلامتين من زيادات ر. وأفرخ: أي أخرج روعك وفزعك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 وقد امتنع قوم من الجواب تنبلاً، ومواضعهم تنبئ عن ذلك، وامتنع قوم عياً بلا اعتلال، وامتنع قوم عجزاً1، واعتلوا بكرهة السفه، وبعضهم معتل برفعة نفسه2 عن خصمه، وبعضهم كان يسبه الرجل الركيك من العشيرة فيعرض عنه3 ويسب سيد قومه، وكانت الجاهلية ربما فعلته بقى الذحول4، قال الراجز: إن بجيلاً كلما هجاني ... ملت على الأغطش أو أبان أو طلحة الخير فتى الفتيان ... أولاك قوم شأنهم كشاني ما بلت من أعراضهم كفاني ... وإن سكت عرفوا إحساني وقال أحد المحدثين: إني إذا هو كلب الحي قلت له ... إسلم، وربك مخنوق على الجرر قوله: إسلم فاستأنف بألف الوصل، لأن النصف الأول موقوف عليه. قال الشاعر: ولا يبادر في الشتاء وليدنا5 ... القدر ينزلها بغير جعال الجعال: الذي تنزل6 به البرمة، وربما توقيت به حرارتها. قال الراجز: لا نسب اليوم ولا خلة ... إتسع الخرق على الراقع وهذا كثير غير معيب. وفي مثل اختيار النبيل لتكافؤ الأغراض7 قول الأخطل:   1 ر: "عجزوا". وما أثبته عن الأصل. س. 2 ر. س: "برفعة نفسه",وهذه رواية الأصل. 3 كلمة "عنه" ساقطة من ر. 4 الذحول: "جمع ذحل" وهو الثأر. 5 ر: "وليدها". 6 ر: "الذى بوضع فيه البرمة". وما أثبته عن الأصل. س. 7 ر: "لتتكافأ". وما أثبته عن الأصل. س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 شفى النفس قتلى من سليم وعامر ... ولم يشفها قتلى غني ولا جسر ولا جشم شر القبائل إنها ... كبيض القطا ليسوا بسود ولا حمر ولو ببني ذبيان بلت رماحنا ... لقرت بهم عيني وباء بهم وتري وقال رجل من المحدثين، وهو حمدان بن بان اللاحقي: أليس من الكبائر أن وغداً ... لآل معذل يهجو سدوسا هجا عرضاً لهم غضاً جديداً ... وأهدف عرض والده اللبيسا وقال آخر: اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا قوم إذا جر جاني قومهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا اللؤم داء لوبر يقتلون به ... لا يقتلون بداء غيره أبدا1 وقال رجل من المحدثين2: أما الهجاء فدق عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل فاذهب فأنت طليق3 عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل وقال آخر: نبئت كلباً هاب رميي له ... ينبحني من موضع نائي لو كنت من شيء هجوناك أو ... لو بنت للسامع والرائي فعد عن شتمي فإني امرؤ ... حلمني قلة أكفائي   1 ر: "اللؤم". 2 ر: "وقال أحد المحدثين", وفي الزيادات: "هو دعبل". 3 ز: "عقيق عرضك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وقال آخر1: فلو أني بليت بهاشمي ... خؤولته بنو عبد المدان صبرت على عداوته ولكن ... تعالي فانظري بمن ابتلاني   1 زيادات ر: "هو دعيل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 من أخبار ذوي الحلم ووقف رجل عليه مقطعات على الأحنف بن قيس يسبه - وكان عمرو بن الأهتم جعل له ألف درهم على أن يسفه الأحنف - فجعل لا يألوا أن يسبه سباً يغضب، والأحنف مطرق لا يكلمه1، فلما رآه لا يكلمه أقبل الرجل يعض إبهامه2، ويقول: يا سوأتاه! والله ما يمنعه من جوابي إلا هواني عليه!. وفعل ذلك آخر، فأمسك عنه الأحنف، فأكثر الرجل، إلى أن أراد الأحنف القيام للغداء؛ فأقبل على الرجل، فقال له: يا هذا! إن غداءنا قد حضر، فانهض بنا إليه إن شئت، فإنك مذ اليوم تحدر بجمل ثفال. والثفال من الإبل: البطيء الثقي الذي لا يكاد ينبعث. وعدت على الأحنف سقطة في هذا الباب، وهو أن عمرو بن الأهم دس عليه رجلاً ليسفهه. فقال له: يا أبا بحر3، ما كان أبوك في قومه? قال: كان من أوسطهم، لم يسدهم، ولم يتخلف عنهم، فرجع إليه ثانية، ففطن الأحنف أنه من قبل عمرو، فقال: ما كان مال أبيك? فقال: كانت له صرمة4 يمنح منها ويقري، ولم يك أهتم سلاحاً5.   1 لفظ "لا يكلمه" ساقط من ر. 2 ر: "إيهامه". 3 ر: "أبا بحر". 4 الصرمه: القطعة من الإبل لم تبلغ السنين. 5 السلاح: كثير السلح. يعرض بأبي عمرو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 وجعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمه - ولم تكن في موضع مرضي إنما كانت من عنزة، ثم من بني جلان1 - فأتاه الرجل، وهو بمصر أميراً عليهم، فقال: أردت أن أعرف أم الأمير. فقال: نعم، كان امرأة2، من عنزة، ثم من بني جلان، تسمى ليلى، وتلقت النابغة، إذهب فخذ ما جعل لك. وقال له مرة المنذر بن الجارود: أي رجل أنت لولا أمك! قال: فإني أحمد الله إليك، إني فكرت فيها3 البارحة، فأقبلت أنقلها في قبائل العرب، فما خطرت لي عبد القيس ببال4. ودخل عمرو مكة فرأى قوماً من قريش قد جلسوا حلقة، فلما رأوه رموه بأبصارهم، فعدل إليهم فقال: أحسبكم كنتم في شيء من ذكري! قالوا: أجل، كنا نمثل5 بينك وبين أخيك هشام أيكما أفضل? فقال عمرو: إن لهشام علي أربعة: أمه ابنة هشام بن الغميرة، وأمي من قد عرفتم، وكان أحب إلى أبيه مني، وقد عرفتم معرفة الوالد بالولد، وأسلم قبلي واستشهد وبقيت. قال أبو العباس: وقد أكثر الناس في الباب الذي ذكرناه، وإنما نذكر من الشيء وجوهه ونوادره. قال رجل لرجل من آل الزبير كلاماً أقذع له فيه، فأعرض الزبيري عنه، ثم دار كلام فسب الزبيري علي بن الحسين، فأعرض عنه، فقال له الرجل الزبيري: ما يمنعك من جوابي? فقال علي: ما منعك من جواب الرجل!.   1 تكملة من الأصل. س. 2 ر: "وخذ". 3 ر: "في هذا". 4 ر: "على بال". 5 ر: "نميل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وقد روي قول القائل: لو قلت واحدة لسمعت عشراً، فقال له: ولكنك لو عقلت عشراً ما سمعت واحدة. وقال الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فأجوز ثم أقول لا يعنيني وقال رجل لرجل - وسبه فلم يلتفت إليه: إياك أعني، فقال له الرجل: وعنك أعرض. فأما قول الشعبي للرجل ما قال فمن غير هذا الباب، وإنما مخرجه الديانة، وذاك أن رجلاً سب الشعبي بأمور قبيحة نسبه إليها، فقال له1 الشعبي: إن كنت كاذباً فغفر الله لك، وإن كنت صادقا فغفر الله لي. وقال أبو العباس: قال رجل لأبي بكر الصديق رحمه الله: لأسبنك سباً يدخل معك قبرك، فقال: معك والله يدخل لا معي. [ويحدث ابن عائشة عن أبيه: أن رجلا من أهل الشام دخل المدينة، فقال: رأيت رجلاً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا أحسن لباساً ولا أفره مركباً منه، فسألت عنه، فقيل لي: الحسن بن علي بن أبي طالب، فقال: أنا ابن ابنه، فقلت له: فيك وبك وبأبيك، أسبهما. فقال: أحسبك غريباً! قلت: أجل. فقال: إن لنا منزلاً واسعاً ومعونة على الحاجة ومالا نواسي منه. فانطلقت وما أجد على وجه الأرض أحب إلي منه] 2.   1 ساقطة من ر. 2 ما بين العلامتين من زيادات ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 قال أبو العباس: ويتصل بهذا الباب ذكر من رغب برجل عن إرث رجل لا يشاكله، وولاية رجل لا يشابهه. قال الشاعر1: بكت دار بشر شجوها أن تبدلت ... هلال بن قعقاع ببشر بن غالب وما هي إلا كالعروس تنقلت ... على رغمها من هاشم في محارب2   1 هو إسماعيل بن عمار بن عيينة الأسدى, نسبه أبو تمام إليه في الحماسة ص 1513- بشرح المرزوقي. 2 قال المرزوقي: شجوها. انتصب على أنه مفعول به. والشاعر يفضل بشرا على هلال, يقول: إن الدار التي كان يستوطنها بشر لما رحل عنها وصار فيها بدلا منه هلال – بكت وتحسر. وحق لها ذلك, فما هي فى استبدالها إلا كعروس زوجت من بنى هاشم ثم انتقلت إلى محارب. ومحارب: قبيلة فيها ضعة وخمول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 للفرزدق حين ولي ابن هبيرة العراق وقال الفرزدق حين ولي العراق عمر بن هبيرة الغزاري بعقب مسلمة بن عبد الملك1: راحت بمسلمة البغال عشية2 ... فارعي فزارة لا هناك المرتع! ولقد علمت إذا فزارة أمرت3 ... أن سوف يطمع في الإمارة أشجع4 فأرى الأمور تنكرت أعلامها5 ... حتى أمية عن عزارة تنزع عزل ابن بشر وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقع فلما ولي خالد بن عبد الله القسري على عمر بن هبيرة. قال رجل6 من بني أسد يجيب الفرزدق: عجب الفرزدق من فزارة أن رأى ... عنها أمية بالمشارق تنزع   1 ديوانه 508: "حين عزل عبد الملك بن بشر بن مروان عن البصرة وسعيد بن عمرو بن الحارث بن الحكم ابن ابي العاص عن الكوفة. وسار مسلمة من العراق إلى الشام, وولى العراق عمر بن هبيرة الفزاري". مع اختلاف في ترتيب الأبيات. 2 الديوان: ومضت لمسلمة الركاب مودعا 3 الديوان: "لئن فزارة أمرت". 4 ر: "يطمع". 5 الديوان: إن القيامة قد دنت أشراطها 6 نسبها الموفى إلى إسماعيل بن عمار الأسدى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 فلقد رأى عجباً وأحدث بعده ... أمر تضج له القلوب وتفرع بكت المنابر من فزارة شجوها ... فاليوم من قسر تذوب وتجزع وملوك خندف أسلمونا للعدى1 ... لله در ملوكنا ما تصنع! كانوا كتاركة بنيها جانبا ... سفها وغيرهم تصون وترضع   1 ر: "ذللتنا للعدى". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 للفرزدق أيضاً في هجاء عمرو بن هبيرة قال أبو العباس: وكان الفرزدق هجاء لعمر بن هبيرة عند ولايته العراق. وفي ذلك يقول ليزيد بن عبد الملك: أمير المؤمنين وأنت بر ... أمين لست بالطبع الحريص أأطعمت العرقا ورافديه ... فزارياً أحذ يد القميص1 تفهق بالعراق أبو المثنى ... وعلم قومه أكل الخبيص ولم يكن قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص قوله: لست بالطبع الحريص. فالطبع: الشديد الطمع الذي لا يفهم لشدة طمعه. وإنما أخذ هذا من طبع السيف، يقال: طبع السيف. يا فتى! وهو سيف طبع، إذا ركبه الصدأ حتى يغطي عليه. والمثل من هذا في الذي طبع على قلبه وإنما هو تغطية وحجاب. يقال: طبع الله على قلب فلان. كما قال جل وعز: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} . هذا الوقف. ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} 2 وكذلك: رين على قلبه. وغين على قلبه؛ فالرين يكون من أشياء تألف عليه فتغطيه. قال الله جل وعز: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3. وأما غين على قلبه. فهي غشاوة تعتريه، والغينة: القطعة من الشجر الملتف تغطي ما تحتها، قال الشاعر: كأني بين خافيتي عقاب ... أصاب حمامة في يوم غين4   1 ر: "أأطعمت". وما أثبته عن الأصل. س. 2 سورة البقرة 7. وفي ر: "طبع الله على قلوبهم". وهو مخالف للتلاوة. 3 سورة المطففين 14. 4 نسبه المرصفى إلى رجل من تغلب يصف فرسا. وذكر قبله: فداء خالتي وفدا صديقي ... وأهلي كلهم لبني قعين فأنت حبوتني بعنان طرف ... شديد الشد ذي بذل وصون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وقال بعضهم: أراد في التفاف من الظلمة. وقال آخرون: أراد في يوم غيم، فأبدل من الميم نوناً، لاجتماع الميم والنون في الغنة. كما يقال للحية: أيم، وأين، واستجازت الشعراء أن تجمع الميم والنون في القوافي، لما ذكرت لك من اجتماعهما في الغنة. قال الراجز: بني إن البر شيء هين ... ألمنطق اللين والطعيم وقال آخر1: ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني2 لمثل هذا ولدتني أمي والعراقان: البصرة والكوفة. والرافدان: دجلة والفرات. وقوله: أحذ يد القميص، الأحد: الخفيف. قال طرقة: وأتلع نهاض أحد ململم3 وإنما نسبه بالخفة في يده إلى السرقة4. وقوله: تفهق أي امتلأ مالاً5. يقال: بئر تفهق وغدير يفهق إذا امتلأ ماء. قال الراجز: لا ذنب لي قد قلت للقوم استقوا ... والقوم في عرض غدير يفهق وقال الأعشى فيمدحه المحلق بن حنتم. أحد بني أبي بكر بن كلاب: نفى الذم عن رهط المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق   1 نقل المرصفى عن ابن سيده. أنه أبو جهل بن هشام. 2 البازل من لاأبل: ما استكمل السنه الثامنة. وطعن في التاسعة. فإذا جاوز البزول قيل بازل عام أو عامين, وكذلك ما زاد, فإذا قيل ذلك للرجل فإنه يراد استكمال شبابه, قالة المرصفي. 3 رواية البيت بتمامه. كما في ديوانه 56 – مجموعة العقد الثمين. وأروع نباض أحد ململم ... كمرداة صخر من صفيح مصمد 4 ر: "السرق". 5 ر: "ماء". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 هكذا في رواية أبي عبيدة. وقوله: ولم يك قبلها راعي مخاض ... ليأمنه على وركي قلوص كانت بنو فزارة ترمى بغشيان الإبل. ولذلك قال ابن دارة: لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 للفرزدق أيضاً في حبس عمر بن هبيرة فلما عزل ابن هبيرة وحبسه خالد بن عبد الله القسري. قال الفرزدق: لعمري لئن نابت فزارة نوبة ... لمن حدث الأيام تحسبها قسر لقد حبس القسري في سجن واسط ... فتى شيظميا ما ينهنهه الزجر فتى لم ترببه النصارى لم يكن ... غذاء له لحم الخنازير والخمر قوله: فتى 1شيظيماً"1، الشيظمي: الطويل. قال ذو الرمة: إذا ما رمينا رمية في مفازة ... عراقيبها بالشيظمي المواشك2 يريد حادياً يسوقها وقوله: ما ينهنهه الزجر. يقول: ما يحركه. وقوله: فتى لم ترببه النصارى ينبه به على أم خالد، وكانت نصرانية رومية، وكان أبوه استلبها في يوم عيد للروم، فأولادها خالداً وأسداً. ولذلك يقول الفرزدق: ألا قطع الرحمن ظهر مطية ... أتتنا تهادى من دمشق بخالد وكيف يؤم الناس من كانت أمه ... تدين بأن الله ليس بواحد! بنى بيعة فيها النصارى لأمه ... ويهدم من كفر منار المساجد وقال: عليك أمير المؤمنين بخالد ... وأصحابه لا طهر الله خالدا بنى بيعة فيها الصليب لأمه ... ويهدم من بغض الصلاة المساجدا   1 ساقط من ر. 2 ديوانه 426. والمواشك: السريع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 وكان سبب هدم خالد منار المساجد حتى حطها عن دور الناس أنه بلغه شعر لرجل من الموالي، موالي الأنصار، وهو: ليتني في المؤذنين حياتي ... إنهم يبصرون من في السطوح فيشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كل ذات دل مليح فحطها عن دور الناس. ويروى عنه فيما روي من عتوه أنه استعفي من بيعة بناها لأمه. فقال لملأ من المسلمين: قبح الله دينهم، إن كان شراً من دينكم!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 للفرزدق عند هروبه من سجن ابن هبيرة وقال الفرزدق لابن هبيرة حين1 نقب له السجن وهرب، فسار2 تحت الأرض هو وابنه حتى نفذا3: لما رأيت الأرض قد سد ظهرها ... ولم يبق إلا بطنها لك مخرجا دعوت الذي ناداه يونس بعد ما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا فأصبحت تحت الأرض قد سرت سيرة ... وما سار سار مثلها حين أدلجا4 خرجت ولم يمنن عليك طلاقة ... سوى ربد التقريب من نسل أعوجا5 فقال ابن هبيرة: ما رأيت أشرف من الفرزدق! هجاني أميراً، ومدحني أسيراً. قوله: حيث أدلجا. تقول: أدلجت، إذا سرت6 في أول الليل. وادلجت، إذا سرت من آخره في السحر. قال زهير:   1 ر: "حيث". 2 ر: "وسار". 3 وانظر أيضا خبر هذه الأبيات بتفصيل أوسع في الديوان 141. 4 ر: "حيث أدلجا". وهذه رواية الاصل والديوان. 5 ر: الديوان: "من آل أعوجا". 6 ر: "من". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 بكرن بكورا وادلجن بسحرة ... فهن لوادي الرس كاليد للفم وأعوج: فرس كان لغني، وقالوا، كان لبني كلاب. ولا ينكر هذا، لأن خبيبة1 بنت رياح الغنوية، ولدت بني جعفر بن كلاب. فلعله أن يكون صار إلى بني جعفر بن كلاب من غني. والعرب تنسب الخيل الجياد إلى أعوج، وإلى الوجيه، ولاحق، والغراب، واليحموم، وما أشبه هذه الخيل من المتقدمات. قال زيد الخيل: جلبنا الخيل من أجإ وسلمى ... تخب نزائعا خبب الذئاب2 جلبنا كل طف أعوجي ... وسلهبة كخافية العقاب3 ثم نرجع إلى التشبيه المصيب؛ قال امرؤ القيس في طول الليل: كأن الثرا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل فهذا في ثبات الليل وإقامته. والمصام: المقام. وقيل للممسك عن الطعام: صائم، لثباته على ذلك، ويقال: صام النهار: إذا قامت الشمس. قال امرؤ القيس: فدعها وسل الهم عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا وقال النابغة: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما والأمراس: جمع مرس، وهو الحبل. قال أبو زبيد يرثي غلامه ويذكر تعرضه للحرب4: إما تقارن بك الرماح فلا ... أبكيك إلا للدلو والمرس5   1 ر: "حبيبة". وما أثبته عن الاصل. 2 النزائع: جمع نزيعة, وهي التي تنزع إلى وطنها وتحن إليه. 3 السلهية, والسهلب ايضا الفرس الطويل. 4 ر: "وتعرض للحرب فقتل". 5 ر: "إما تعلق". وما أثبته رواية الأصل. س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وقال في ثبات الليل: فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل المغار: الشديد الفتل. يقال: أغرت الحبل: إذا شددت فتله. ويذبل: جبل بعينه. وقال أيضاً: كأن أباناً في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل أبان جبل. وهما أبانان: أبان الأسود، وأبان الأبيض. قال المهلهل1 - وكان نزل في آخر حربهم، حرب البسوس، في جنب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك، وهو مذحج. وجنب حي من أحيائهم وضيع - فخطبت ابنته ومهرت أدما. فلم يقدر على الامتناع، فزوجها، وقال: أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم2 لو بأبانين جاء يخطبها ... ضرج من أنف خاطب بدم وقوله: في أفانين ودقه يريد ضروباً من ودقه. والودق: المطر. قال الله تبارك وتعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} 3. وقال عامر بن جوين الطائي: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها وقوله: كبير أناس في بجاز مزمل يريد مزملاً بثيابه. قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ, قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} 4. وهو المتزمل بثيابه5. والتاء مدغمة في الزاي. وإنما وصف   1 ر: "مهلهل". 2 الأراقم: قبائل من تغلب: ويريد بالحباء هنا المهر. والادم: الجلد. 3 سورة النور 43. 4 سورة المزمل 1/2 5 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 امرؤ القيس الغيث. فقال قوم: أراد أن المطر قد خنق الجبل فصار له كاللباس على الشيخ المتزمل. وقال آخرون: إنما أراد ما كساه المطر من خضرة النبت. وكلاهما حسن. وذكر الودق لأن تلك الخضرة من عمله. وقال الراجز يصف غيماً: أقبل في المستن من ربابه ... أسنمة الآمال في سحابه أراد أن ذلك السحاب، ينبت ما تأكله الإبل، فتصير شحومها في أسنمتها. والرباب سحاب دوين المعظم من السحاب، قال المازني1: كأن الرباب دوين السحاب ... نعام يعلق بالأرجل وقوله جل وعز: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} 2. أي أعصر عنباً فيصير إلى هذه الحال. وقال زهير: كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم الفنا: شجر بعينه، يثمر ثمراً أحمر ثم يتفرق في هيئة النبق الصغار، فهذا من أحسن التشبيه. وإنما وصف ما يسقط من أنماطهن إذا نزلن. والعهن: الصوف الملون في قول أكثر أهل اللغة. وأما الأصمعي فقال: كل صوف عهن. وكذلك قال أهل اللغة: الحنتم الخزف الأخضر. وقال الأصمعي: كل خزف حنتم. قال القرشي3: من مبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم   1 نقل المرصفي من الأغاني أنه زهير بن عروة بن جلهمة. 2 سورة يوسف 36. 3 نسبة المرصفي إلى النعمان بن عدي بن نضلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وقال جرير: ما في مقام ديار تغلب مسجد ... وبها كنائس حنتم ودنان والتشبيه جار كثيراً في كلام العرب، حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم، لم يبعد. قال الله عز وجل وله المثل الأعلى: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} 1. وقال: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} 2. وقد اعترض معترض من الجهالة الملحدين، في هذه الآية. فقال: إنما يمثل الغائب بالحاضر، ورؤوس الشياطين لم نرها، فكيف يقع التمثيل بها! وهؤلاء في هذا القول كما قال الله جل وعز: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 3. وهذه الآية قد جاء تفسيرها على ضربين4: أحدهما، أن شجراً يقال له الأستن5، منكر الصورة يقال لثمره: رؤوس الشياطين، وهو الذي ذكره النابغة في قوله: تحيد عن أستن سود أسافله6 وزعم الأصمعي أن هذا الشجر يسمى الصوم. والقولم الآخر - وهو الذي يسبق إلى القلب - أن الله جل ذكره شنع صورة الشياطين في قلوب العباد. فكان7 ذلك أبلغ من المعاينة، ثم مثل هذه الشجرة مما تنفر منه كل نفس.   1 سورة النور 35. 2 سورة الصافات 65. 3 سورة يونس 39. 4 ر: "في ضربين". وما أثبته عن الأصل. س. 5 نقل المرصفي عن أبي حنيفة الدينوري أنالأستن شجر يفشو في منابته ويكثر, إذا نظر إليه الناظر من بعيد شبهه بشخوص الناس. 6 بقيته: مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما 7 ر: "وكان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 حديث أبي النجم العجلي مع هشام بن عبد الملك قال أبو العباس: وحدثت في إسناد متصل أن أبا النجم العجلي أنشد هشاماً1: والشمس قد صارت كعين الأحول لما ذهب به الروي عن الفكر في عين هشام، فأغضبه، فأمر بطرده، فطرد2. فأمل أبو النجم رجعته. فكان3 يأوي المسجد4، فأرق هشام5 ذات ليلة، فقال لحاجبه: ابغني رجلاً عربياً فصيحاً يحادثني وينشدني. فطلب له ما طلب، فوقف على أبي النجم، فأتى. فلما دخل به إليه قال: أين تكون منذ أقصيناك? قال: بحيث ألفتني رسلك. قال: فمن كان أبا مثواك? قال: رجلين. كلبياً وتغلبياً. أتغدى عند أحدهما، وأتعشى عند الآخر، فقال له: مالك من الولد? قال: ابنتان. قال: أزوجتهما? قال: زوجت إحداهما. قال: فيم أوصيتها? قال قلت لها ليلة أهديتها: سبي الحماة وابهتي عليها ... وإن أبت فازدلفي إليها ثم اقترعي بالود مرفقيها6 ... وجددي الحلف به عليها لا تخبري الدهر بذاك ابنيها قال: أفأوصيتها بغير هذا? قال: نعم، قالت: أوصيت من برة قلباً حمرا ... بالكلب خيراً والحماة شرا لا تسأمي نهكاً لها وضرا ... والحي عميهم بشر طرا وإن كسوك ذهباً ودرا ... حتى يروا حلو الحياة مرا   1 ر: "هشام بن عبد الملك". من أرجوزيته التي مطلعها. الحمد لله العلى الأجلل 2 ساقطة من ر. 3 ر: "وكان". 4 ر: "المساجد". 5 ر: "أرق هشام ليلة". 6 الد: الوتد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 قال هشام: ما هكذا أوصى يعقوب ولده. قال أبو النجم: ولا أنا كيعقوب، ولا بنتي كولده، قال: فما حال الأخرى? قال: قد درجت بين بيوت الحي، وتنفعنا1 في الرسالة والحاجة، قال: فما قلت فيها? قال: قلت: كأن ظلامة أخت شيبان ... يتيمة ووالداها حيان الرأس قمل كله وصئبان ... وليس في الرجلين إلا خيطان فهي التي يذعر منها الشيطان قال: فقال هشام: يا غلام2، ما فعلت بالدنانير المختومة التي أمرتك بقبضها? قال: ها هي عندي، ووزنها خمسمائة، قال: فادفعها إلى أبي النجم ليجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين، أفلا تراه قال: فهث التي يذعر منها الشيطان وإن لم يره، لما قرر فيالقلوب من نكارته وشناعته! وقال آخر: وفي البقل إن لم يدفع الله شره ... شياطين يعدو بعضهن على بعض وزعم أهل اللغة أن كل متمرد من جن أو إنس أو سبع3 أو حية4 يقال له شيطان، وأن قولهم: تشيطن إنما معناه تخبث وتنكر، وقد قال الله جل وعز: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} 5 قال الراجز: أبصرتها تلتهم الثعبانا ... شيطانة تزوجت شيطانا وقال امرؤ القيس: أتوعدني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال! والغول: لم يخبر صادق قط أنه رآها. ثم نرجع إلى تفسير شعر أبي النجم6:   1 ر: "ونعتنا". 2 ر: "لحالجيه". 3 ر: "رجل". 4 ساقطة من ر. 5 سورة الأنعام 6 ر: "وأول أبي النجم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 قوله: سبي الحماة وابهتي عليها إنما يريد: ابهتيها، فوضع ابهتي في موضع اكذبي فمن ثم وصلها بعلى. والذي يستعمل في صلة الفعل اللام، لأنها لام الإضافة، تقول: لزيد ضربت ولعمرو أكرمت والمعنى: عمراً أكرمت، وإنما1 تقديره: إكرامي لعمرو، وضربي لزيد، فأجرى الفعل مجرى المصدر، وأحسن ما يكون ذلك إذا تقدم المفعول، لأن الفعل إنما يجيء وقد عملت اللام. كما قال الله جل وعز: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} 2. وإن أخر المفعول فهو عربي3 حسن، والقرآن محيط بجميع4 اللغات الفصيحة، قال الله جل وعز: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 5 والنحويون يقولون في قوله جل ثناؤه: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} 6: إنما هو: ردفكم. وقال كثير: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل وحروف الخفض يبدل بعضها من بعض، إذا وقع الحرفان في معنى في بعض المواضع، قال الله جل ذكره: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 7، أي على ولكن الجذوع إذا أحاطت دخلت في، لأنها للوعاء، يقال: فلان في النخل. أي قد أحاط به. قال الشاعر8: هم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا وقال الله جل وعز: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} 9 أي عليه. وقال تبارك وتعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} 10 أي: بأمر الله. وقال ابن الطثرية:   1 ر: "فإنما". 2 سورة يوسف 43. 3 ر: "فعربي". 4 ر: "بكل". 5 سورة الزمر 12. 6 سورة النحل 72. 7 [طه: 71] 8 هو سويد بن أبي كاهل. اللسان:4:267. وبأجدع. أي بأنف أجدع. 9 سورة الطور 38. 10 سورة الرعد 11. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 غدت من عليه تنفض الطل بعدما ... رأت حاجب الشمس استوى فترفعا وقال الآخر: غدت من عليه بعدما تم خمسها ... تصل وعن قيض بزيزاء مجهل1 أي من عنده. وقال العامري2: إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها وهذا كثير جداً. وقوله: وإن أبت فازدلفي إليها يقول: تقربي، ومن ذا سميت المزدلفة، قال العجاج: ناج طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا يقال3: زلفة وزلف، كقولك: غرفة وغرف. وقوله: بالكلب خيراً والحماة شرا كلام معيب عند النحويين، وبعضهم لا يجيزه، وذلك لأنه4 عطف على عاملين: على الباء5 وعلى الفعل. ومن قال هذا قال: ضربت زيداً في الدار، والحجرة عمراً. قال أبو العباس: وكان أبو الحسن الأخفش يراه ويقرأ: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ   1 لمزاحم العقيلي في وصف القطا, اللسلن 13:406. وقال في شرحة: "قال ابن السكيت في قولة: "من عليه": من فوقه. يعني من فوق الفرخ. ومعنى: "تصل" ,أي هي يابسة من العطش". 2 حاشية الأصل: "هو القحيف العقيلي". 3 ر: "تقول". 4 ر: "وذاك أنه". 5 ر: "بالباء". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 الرِّيَاحِ آيَاتٌ} 1. فعطف على إن وعلى في. وقال عدي بن زيد: أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا فعطف على كل وعلى الفعل. وأما قوله: غدت من عليه بعد ما تم خمسها فالخمس: ظمء من أظمائها، وهو أن ترد ثم تغب ثلاثاً، ثم ترد، فيبتدأ بيومي وردها مع ظمئها، فيقال: خمس، والربع كحمى الربع. وقوله: تصل أي تسمع لأجوافها صليلاً من يبس العطش، يقال: المسمار يصل في الباب، إذا أكره فيه، قال جرير يخاطب الزبير بمرثيته في هجائه الفرزدق: لو كنت حين غررت بين بيوتنا ... لسمعت من وقع الحديد صليلا ويقال للحمار: المصلصل، إذا أخرج صوته من جوفه حاداً خفياً. قال الأعشى: عنتريس تعدو إذا حرك السو ... ط كعدو المصلصل الجوال2 وقال المفسرون في قوله عز وجل: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} 3 [الحجر: 26] ، قالوا4: هو الطين الذي قد جف، فإذا قرعه شيء كان له صليل. وتفسير ذلك عند العرب التقن5 الذي يذهب عنه الماء في الغدران فيتشقق ثم ييبس. والقيض: قشر البيضة6 الأعلى؛ والذي يلبس البيضة فيكون ما بينها وبين قشرها الأعلى، يقال له: الغرقئ، يقال: ثوب كأنه غرقئ البيض7. والزيزاء: ما ارتفع من الأرض، وهو ممدود منصرف في المعرفة والنكرة، إذا كان لمذكر، كالعلباء والحرباء، وسنذكر هذا في غير هذا الموضع مفسراً، على أنا قد استقصيناه في الكتاب المقتضب.   1 سورة الجاثية 5. بنصب "آيات". وهي قراءة حمزة والكسائي والباقون بالرفع وانظر الكشاف 4: 225. 2 ديوانه 8 قال في شرحه: "عنتريس: صلبة قوية, أخذه بالعرندسة. إذا أخذه بالجفاء والغلط, والمصلصل: الصافي الصوت: قال: وليس هذا بالوصف الجيد". 3 سورة الحجر 26. 4 ر: "قال". 5 التقن: اسم للطين الذي يذهب عنه الماء. 6 ر: "البيض". 7 ر: "بيض". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 والمجهل: الصحراء التي يجهل فيها، فلا يهتدى لسبيلها. ويقال للشيء إذا غب وتغيرت رائحته، صل واصل، فهو صال ومصل، ويقال: نتن وأنتن. ويقال: خم وأخم، وذاك إذا كان مستوراً حتى يفسد. ويقال إذا عتق اللحم فتغير: خنز وخزن، وبيت طرفة أحسن ما ينشد: ثم لا يخنز فينا لحمها ... إنما يخنز لحم المدخر ويقال لرب البيت وربة البيت اللذين ينزل بهما الضيف: هي أم مثواه، وهو أبو مثواه، وأنشد أبو عبيدة: من أم مثوى كريم قد نزلت بها ... إن الكريم على علاته يسع وفي كتاب الله جل وعز: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} ، معناه عند العرب إضافته. ومن التشبيه المطرد على ألسنة العرب ما ذكروا في سير الناقة وحركة قوائمها، قال الراجز: كأنها ليلة غب الأزرق ... وقد مددنا باعها للسوق خرقاء بين السلمين ترتقي قوله: ليلة غب الأزرق، إنما يعني موضعاً، وأحسبه ماء، لأنهم يقولون: نطفة زرقاء، وهي الصافية، قال زهير: فلما وردنا الماء زرقاً جمامه ... وضعن عصي الحاضر المتخيم1 وقال آخر: فألقت عصا التسيار عنها وخيمت ... بأرجاء عذب الماء زرق محافر وقوله: وقد مددنا باعها للسوق   1 ديوانه 13: الجمام: ما أجتمع من الماء الواحدة جم وجمة, وضعن. أي أقمن, والحاضر. الذين حضروا الماء. والمتخيم. المقيم من شرح الديوان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 يقول: استفرغنا ما عندها في1 السير، يقال: تبوعت وانباعت، إذا مدت باعها. وقوله: خرقاء بين السلمين ترتقي يقول: لكثرة حركة الخرقاء وقلة حذقها بالصعود. وقال الآخر: كأنها نائحة تفجع ... تبكي بشجو وسواها الموجع2 وقال الشماخ: كأن ذراعيها ذراعا مدلة ... بعيد السباب حاولت أن تعذرا3 من البيض أعطافاً إذا اتصلت دعت ... فراس بن غنم أو لقيط بن يعمرا4 بها شرق من زعفران وعنبر ... أطارت من الحسن الرداء المحبرا5 تقول وقد بل الدموع خمارها ... أبى عفتي ومنصبي أن أعيرا كأن بذفراها مناديل قارفت ... أكف رجال يعصرون الصنوبرا كأن ابن آوى موثق تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفرا شبه يديها بيدي مدلة بجمال ومنصب قد سابت وأقبلت تعتذر وتشير بيديها، فوصف جمالها الذي به تدل؛ ومنصبها المتصل بمن ذكرته. وقوله: أطارت من الحسن الرداء المحبرا   1 ر: "من السير". 2 ر: "لشجو". 3 ديوانه 29. قال في شرح الديوان: شبه ذراعيها وهيي تتذرع في سيرها بذراعي امرأة مدلة أهلها ببراءة ساحتها وقوله: "بعيد السباب". أي في عقب المسابة قامت تعتذر إلى الناس". 4 قال في شرح الديوان: "البيض: جمع بيضاء. وهي نقية العرض من الدنس. والأعطاف: الجوانب واتصلت: انتسبت, وفراس: رجل عزيز. بالفتح. وهو ابن تغلب. ولقيط بن يعمر رجل أيضا عزيز. و: أو" بمعنى الواو. أي أنها شريفة النسب. فهي لا تقصر عن نفي ما رميت به". 5 الديوان: "لها شرق". والشرق: الضمح. وأطارت: رميت. والمحبر: المزين. أي أنها مدلة بجمالها فلا تختمر فتستر شيئاً عن الناظر, لأنها تبتهج بكل ما في وجهها ورأسها. "من شرح الديوان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 يقول: هي مدلة بجمالها، فلا تختمر فتستر شيئاً عن الناظر، لأنها تبتهج بكل ما في وجهها ورأسها. وقد كشف هذا المعنى عمر بن أبي ربيعة المخزومي حيث يقول: فلما تواقفنا وسلمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرؤ باغ أكل فأوضعا وقربن أسباب الهوى لمقتل ... يقيس ذراعاً كلما قسن إصبعا فقلت لمطريهن ويحك إنما ... ضررت فهل تستطيع نفعاً فتنفعا1 قوله: كأن بذفراها مناديل قارفت ... أكف رجال يعصرون الصنوبرا2 يقول: لسواد الذفرى، وهذا من كرمها، قال أوس بن حجر: كأن كحيلاً معقداً أو عنية ... على رجع ذفراها من الليت واكف3 وهذا معنى يسأل عنه، لأن الليتين صفحتا العنق. والذفرى في أعلى القفا، فيكف يكف على الذفرى من الليت! والمعنى إنما هو كأن كحيلاً معقداً أو عنية واكف على رجع ذفراها. وقوله: من الليت كقولك: كموضع دجلة من بغداد، إنما هو للحد بينهما، لا أنه وكف من شيء على شيء: وأما قوله: كأن ابن آوى موثق تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفرا 4 يقول: ليست تستقر، فكأن ابن آوى يكلمها بنابيه أو يخلبها بظفره، فهي لا تستقر. وقال أوس بن حجر:   1 ما بين العلامتين من زيادات ر. 2 الذفري: من نصف المقذ إلى أصول الأذنين. وقارفت: قاريت. وبعصرون الصنوبر: يستخرجون ما فيه. "من شرح الديوان". 3 زيادات ر "الكحيل: القطران. والعنية: ضرب منه". 4 موثق: مكتوف. ويكلم: يجرح. وظفر ,أصابها بأظافيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 كأن هراً جنيباً تحت غرضتها ... والتف ديك برجليها وخنزير1 والغرض والغرضة واحد، وهو حزام الرحل. وقال آخر: كأن ذراعيها ذراعا بذية ... مفجعة لاقت خلائل عن عفر2 سمعن لها واستفرغت في حديثها ... فلا شيء يفري باليدين كما تفري قال أبو العباس: أنشدنيهما عبد الصمد بن المعذل، وأنشدنيه سعيد بن سلم3. ولو قيل إن هذا من أبلغ ما قيل في هذا الوصف ما كان ذلك بعيداً، وصفها بأنها بذية، وقد فجعت بما أسمعت ونيل منها؛ ولقيت خلائلها بعد زمان وتلك الشكوى كامنة فيها، وأصغين لها فتسمعن4. والفري: الشق، يقال: فرى أوداجه، أي قطع، وفريت الأديم. وإذا قلت: أفريت، فمعناه أصلحت. وقول الحجاج: إني والله ما أهم إلا مضيت ولا أخلق إلا فريت. يقول: إذا قدرت قطعت. يقال: فريت القربة والمزادة، فهما مفريتان، قال ذو الرمة5: كأنه من كلى مفرية سرب وقال امرؤ القيس: كأن الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رجلها حذف أعسرا6   1 ديك: "ديك بحقوبها". 2 الخلائل: جمع خليلة, وهن اللائي أصفين الود. 3 ما بين العلامتين من زيادات ر. 4 ر: "إليها يتسمعن". 5 ديوانه, وصدره: ما بال عينك منها الماء ينسكب والكلى: جمع كلية, وهي رقعة تكون في أصل عروة المزادة. 6 ديوانه 64, قال في شرحه: "يقول إذا سارت فرقت الحصى إلي كل جهة لشدة سيرها, وشبه فعلها ذلك برمي الأعسر, وهوالذي يرمي برجله اليسرى. وخصه لأن رميه لا يذهب مستمكا. وكذلك الحصى إذا رمت الناقة به. ومعنى "نجلته" فرقته به. والخذف: بالحصى ونحوها, فإن كان بالعصا وشبهها فهو الحذف. بالحاء غير معجمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 كأن صليل المرو حين تشذه ... صليل زيوف ينتقدن بعبقرا1 قوله: حذف أعسرا يريد أنه يذهب على غير قصد. وقوله: صليل زيوف يقال: إن الزائف2 شديد الصوت صافيه. وقال آخر: كأن يديها يدا ماتح3 ... أتى يوم ورد لغب زرودا يخاف العقاب وفي نفسه ... إذا هو أنهل ألا يعودا يقول: هذا الساقي يخاف العقاب إن قصر، ولا عودة له إليه ثانية، فهو يستقي4 سقية في مرة واحدة. وقد أكثروا في هذا، فمن الإفراط في السرعة قول ذي الرمة: كأنه كوكب في إثر عفرية ... مسوم في سواد الليل منقضب يقال: عفرية وعفرية في معنى واحد، والتاء في عفريت زائدة، وهو ملحق بقنديل، يقال: فلان [عفرية زبنية. والزبنية: المنكر، وجمعه زبانية، وأصله من الحركة، يقال: زبنه، إذا دفعه، ويقال] 5: عفرية نفرية، على التوكيد، [وعفريت نفريت، ويقال: عفارية، ولم يتبع بنفارية] 6. ومن الإفراط قول الحطيئة:   1 قال في شرح الديوان, "شبه صوت الحجارة إذا رميت بها ووقوع بعضها على بعض بصوت الدراهم الزيوف, إذا انتقدها الصيرف وقلبها. والزيوف: الرديئة. واحدها زائف وزيف. وإنما خصها لأن صوتها أشد من صوت غيرها لكثرة نحاسها. والصليل: الصوت. والمرو: الحجارة. ومعنى "تشده" تفرقه. وعبقر: موضع باليمين. وكانت دراهمه زيوفا". 2 ر:"الزيف". 3 الماتح: المستقى بالدلو من أعلى البئر. وزرود: اسم رمال بطريق الحاج من الكوفة. 4 ر: "فهي تستقي". 5 مابين العلامتين من زيادات نسخة ر. 6 مابين العلامتين من زيادات ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وإن نظرت يوماً بمؤخر عينها ... إلى علم بالغور قالت له ابعد ومن الإفراط قوله: بأرض ترى فرخ الحبارى كأنه ... بها راكب موف على ظهر قردد1 ومن ذلك قوله: وكادت على الأطواء أطواء ضارج ... تساقطني والرحل من صوت هدهد وقال آخر: مروح برجليها إذا هي هجرت ... ويمنعها من أن تطير زمامها وقال الشماخ: مروح تغتلي في البيد حرف ... تكاد تطير من رأي القطيع وكذلك الأعرابي الذي يقول: لو ترسل الريح لجئنا قبلها وقد مضى خبره. وأملح ما قيل في هذا المعنى وأجوده قول امرئ القيس: وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل فجعله للوحش كالقيد. وحدثت أن رجلاً نظر إلى ظبية ترود، فقال له أعرابي: أتحب أن تكون لك? قال: نعم، قال: فأعطني أربع دراهم حتى أردها إليك، ففعل، فخرج يمحص2 في إثرها، فجدت وجد، حتى أخذ بقرنيها، فجاء بها، وهو يقول: وهي على البعد تلوي خدها ... تريغ شدي وأريغ شدها كيف ترى عدو غلام ردها   1 القردد: ما غلظ من الأرض. 2 يقال: محص الظى في عدوه يمحص محصا: أسرع وعدا عدوا شديدا, وفي ر: "يفحص". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 قال أبو العباس: ومن حلو التشبيه وقريبه، وصريح الكلام وبلغيه1 قول ذي الرمة: ورمل كأوراك العذارى قطعته ... وقد جللته المظلمات الحنادس2 الحندس: اشتداد الظلمة، وهو توكيد لها، يقال: ليل حندس، وليل أليل، كما يقال: ليل3 مظلم. وقال الشماخ في صفة الفرس: مفج الحوامي عن نسور كأنها ... نوى القسب ترت عن جريم ملجلج قوله: مفج الحوامي يريد مفرق الحوامي، فالحوامي: نواحي الحافر. والنسور، واحدها نسر، وهي نكتة في داخل الحافر، ويحمد الفرس إذا صلب ذلك منه، ولذلك شبه بنوى القسب4، وترت: سقطت. والجريم: المصروم، والملجلج: الذي قد لجلج مضغاً في الفم، ثم قذف لصلابته. وقوله: مفج ليس يريد الذي هو شديد التفرقة، ولكن الانفصال عن النسر، فإنه إن اتسع واستوى أسفله فذلك الرحح5، وهو مذموم في الخيل، وكذلك إن ضاق وصغر قيل له: مضطر، وكان عيباً قبيحاً. قال حميد الأرقط: لا رحح فيها ولا اضطرار ... ولم يقلب أرضها البيطار6 [ولا لحبليه بها حبار] الحبار: الأثر] 7. ويروى: ولم يقلم8، وتأويل ذلك: أن حوافرها   1 ساقطة من ر. 2 يقول: هذا الرمل حقف كأوراك العذارى. جللته: لبسته. الخنادس. الليالي المظلمة. والخندس: الظلام."من شرح الديوان". 3 ر: "وليل أليل مظلم". س: "وليل أليل. وهويم. كما يقال: ليل مظلم". وما أثبته عن الأصل. 4 القسب: التمر اليابس يتفتت في الفم. ونواه أصلب النوى. 5 الرحح: انبساط الحافر في رقة. 6 ر: "ولم يقلم". 7 ما بين العلامتين من زيادات ر. 8 ر: "ولم يقلب". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 لا تتشعث فيقلمها البيطار، لأنها إذا كانت كذلك ذهب منها شيء بعد شيء فمحقها. وقال علقمة بن عبدة: لا في شظاها ولا أرساغها عنت ... ولا السنابك أفناهن تقليم1 وإنما يحمد الحافر المقعب، وهو الذي هيئته كهيئة القعب، وإن كان كذلك قيل: حافر وأب2. قال ابن الخرع3: لها حافر مثل قعب الوليد ... يتخذ الفأر فيه مغارا يريد: لو دخل الفأر فيه لصلح، كقول القائل: فأتى بحفنة يقعد عليها عشرة، أي لو عقد عليها عشرة لصلح. وقال الراجز: وأب حمت نسوره الأوقارا [يقال: حافر موقور، وهو أن يصيبه داء يشبه الرهصة] 4 وفي كل حافر حاميتان. وهما حرفاه من5 عن يمين وشمال، ومقدمه السنبك، ومؤخره الدابرة. مثل قوله: عن جريم ملج قول علقمة بن عبدة: سلاءة كعصا النهدي غل بها ... ذو فيئة من نوى قران معجوم6 شبهها بالشوكة من شوك النخل؛ لأن الفرس الأنثى يخمد منها أن يدق صدرها وينخرط على امتلاء إلى مؤخرها، والحمام يحمد منهن أن يعرض الصدر ثم ينخرط إلى ذنبه ضموراً، فيقال في صفته: كأنه جلم. وقوله: كعصا النهدي، يريد في الصلابة، كما قال: وكل كميت كالهراوة صلدم وقوله: ذو فيئة من نوى قران يقول: ذو رجعة، يقول: مضغته الإبل فلم   1 رواية المفضليات 4.3: "ولا أرساغها عتب", والعتب: العيب. والشظى: عظم لاصق بالركبة. والسنابك: مقاديم الحوافر, يقول: هي وافيه السنبك لم تاكلة الأرض. 2 حافر وأب: صلب قوي. 3 هو عوف بن عطية بن الخرع. من بني تيم من عبد مناة. 4 ما بين العلامتين تكملة من س وزيادات ر. 5 ساقطة من ر. 6 السلاءة: شوكة النخل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 تكسره ثم بعرته صحاحاً. ومعجوم: ممضوغ، يقال: عجمته أعجمه عجماً1 إذا مضغته، فالعجم، ويقال للنوى من كل شيء: العجم، متحرك الجيم2، قال الأعشى: وجذعانها كلقيط العجم وقال النابغة: فظل يعجم أعلى الروق منقبضا ... في حالك اللون صدق، غير ذي أود ومثل البيت الأول قول عقبة بن سبق العنزي: له بين حواشيه ... نسور كنوى القسب فهذا تشبيه مقارب جداً. ومن التشبيه الحسن قول الشاعر3: كأن المتن والشرخين منه ... خلاف النصل سيط به مشيج يريد سهماً رمي به فأنفذ الرمية وقد اتصل به دمها، والمتن: متن السهم، وشرخ كل شيء: حده، فأراد شرخي الفوق، وهما حرفاه. والمشيج: اختلاط الدم بالنطفة، وهذا أصله، قال الشماخ: طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين وقال الله جل وعز: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} 4. وفي الحديث: "اقتلوا مسان المشركين واستبقوا شرخهم" 5، أي الشباب، لأن الشرخ الحد، قال حسان بن ثابت:   1 ساقطة من ر. وهي في الأصل. س. 2 ر: "العين" وهما بمعنى. 3 في زيادات ر: "هو الشماخ". والبيت ليس في ديوانه, وهو معمر بن الداخل الهذلى, ديوان الهذليين 104.3, وروايته: كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النصل سيط به مشيح وهو أيضا بهذه الرواية في 195.12 من غير نسبة. 4 سورة الإنسان. 5 أورده ابن الأثير في النهاية 210:2وقال في شرحه: "أراد بالشيوخ الرجال, المسان هو هل الجلد والقوة على القتال. ولم يرد الهرمي. والشرخ: الصغار الذين لم يدركو". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 إن شرخ الشباب والشعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا قال أبو العباس: وأنشدنا عمرو بن مرزوق. قال أنشدنا شعبة. قال: أنشدنا سماك بن حرب في هذا الحديث: إن شرخ الشباب تألفه البيض ... وشيب القذال شيء زهيد فأما قول الشنفرى: كأن لها في الأرض نسياً تقصه ... على أمها وإن تحدثك تبلت فإنما أراد شدة استحيائها، يقول: لا ترفع رأسها، كأنها تطلب شيئاً في الأرض. والنسي على ضربين: أحدهما ما تقادم عهده حتى ينسى، والآخر ما أضله أهله فيطلب ويطمع فيه. وتقصه: تتبعه، قال الله جل وعز: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} 1 أي اتبعي أثره، والأم: القصد. وقوله: وإن تحدثك تبلت، تقطع الحديث لاستحيائها. وأنشد بشار بن برد الأعمى قول كثير: ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكف تلين2 قال: فقال: الله أبو صخر! جعلها عصا، ثم يعتذر لها! والله لو جعلها عصا من مخ3 أو زبد لكان قد نجنها بالعصا، ألا قال كما قلت: وبيضاء المحاجر من معد ... كأن حديثها قطع الجنان إذا قامت لسبحتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران4 والخيزرانة: كل غصن لين يتثنى، ويقال للمردي: خيزرانة؛ إذا كان تثنى إذا اعتمد عليه، قال النابغة:   1 سورة القصص 11. 2 قبله. قد جعل الأعداء ينتقصوننا ... وتطمع فينا ألسن وعيون 3 ر: "من مخ". 4 السبحة: صلاة النافلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 يظل من خوفه الملاح معتصماً1 ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد2 الأين: الإعياء، والنجد: العرق3. وقد عاب بعض الناس قول كثير: فما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها4 بمنخرق من بطن واد كأنما ... تلاقت به عطارة تجارها بأطيب من أردان عزة موهناً ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها وحكى الزبيريون أن امرأة مدينية عرضت لكثير فقالت: أأنت القائل هذين البيتين? قال: نعم، قالت: فض الله فاك! أرأيت لو أن زنجية بخرت أردانها بمندل رطب أما كانت تطيب! ألا قلت كما قال سيدك5 امرؤ القيس: ألم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب6 قوله: جثجاثها وعرارها الجثجاث: ريحانة طيبة الريح برية؛ من أحرار البقل؛ قال جرير يهجو خالد عينين العبدي: كم عمة لك يا خليد وخالة ... خضر نواجذها من الكراث نبتت بمنبته فطاب لريحها ... ونأت عن القيصوم والجثجاث وإنما هجاه بالكراث، لأن عبد القيس يسكنون البحرين، والكراث من أطعمتهم، والعامة يسمونه الركل والركال، قال أحد العبديين: ألا حبذا الأحسا وططيب ترابها ... وركالها غاد علينا ورائح7   1 ر: "معتمدا", وما أثبته رواية الأصل والديوان. 2 الملاح: صاحب السفينة. والخيزرانة: السكان, وهو ذنب السفينة. 3 النجد: العرق والكرب. 4 الحزن: موضع لبنى يربوع. فيه رياض كثيرة. 5 ساقطة من ر. 6 قبله: خليلي مرا بي على أم جندب ... لنقضي لبانات الفؤاد المعذب وانظر تفصيل الخبر في الأغاني 57:14 طبعة الساسي. والموشح للمرزابي 151-153. 7 الإحساء: مدينة بالبحرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 وقول كثير: وعرارها فالعرار البهار البري، وهو حسن الصفرة طيب الريح، قال الأعشى: بيضاء ضحوتها وصفـ ... ـراء العشية كالعراره1 وقوله: موهناً يريد بعد هديء من الليل2، يقال: أتانا بعد هديء من الليل، وبعد وهن من الليل3، أي بعد دخولنا في الليل، وأنشد أبو زيد: هبت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي والمندل: العود. يقال له: المندل والمندلي. قال الشاعر4: أمن زينب ذي النار ... قبيل الصبح ما تخبو إذا ما خمدت يلقى ... عليها المندل الرطب قال أبو العباس: ذي معناه ذه يقال: ذا عبد الله، وذي أمة الله، وذة أمة الله، وته أمة الله، وتا أمة الله؛ فإذا قلت: هذا عبد الله: فالإسم ذا وها للتنبيه. وعلى هذا القول5: هذي أمة الله [وهذه أمة الله] 6. وإن شئت أسكنت في الوصل فقلت: هذه أمة الله. وإذا قلت: هذهي أمة الله. فالياء زائدة. لأن هذه الهاء لما كانت في لفظ المضمر شبهوها به في زيادة الياء. نحو: مررت بهي يا فتى! ولا7 يجوز أن تضم الهاء في هذه على قول من قال: مررت بهو، لأن هاء الإضمار أصلها الضم. تقول: رأيتهو يا فتى، ورأيتهم يا فتى! وهذه الهاء ليست من هذه، إنما هي مشبهة وتقول: هاته هند، وهاتي هند، وهاتا هند، على زيادة ها للتنبيه. قال جرير:   1 العرار: شجر له نور أصفر قدر شبر, وقبله: ياجارتي ما كنت جاره ... بانت لتحزننا عفاره ترضيك من دل ومن ... حسن مخالطه غراره وانظر ديوانه 111. 2 من الليل. ساقط من ر. 3 "من الليل". ساقط من ر. 4 ينسب البيتان لعمر بن أبي ربيعة. وهما في ملحق: ديوانه 478. 5 ر: "تقول" 6 تكملة من نسخة الاصل. 7 ر: "لا يجوز" بدون الواو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 هذي التي جدعت تيماً معاطسها ... ثم اقعدي بعدها يا تيم أو قومي1 وقال عمران بن حطان: وليس لعيشنا هذا مهاه ... وليست دارنا هاتا بدار قال أبو العباس: النحويون يثبتون الهاء في الوصل فيقولون: مهاه. وتقديره: فعال. ومعناه اللمع والصفاء2. يقال: وجه له مهاه يا فتى! والأصمعي يقول: مهاة. تقديرها حصاة. يجعل الهاء زائدة. وتقديرها في قوله3 فعلة والمهاة: البلورة. والمهاة: البقرة والوحشية، وجمعها المها.4. فإذا صغرت: ذه قلت: تيا، كأنك صغرت تا. ولا تصغر ذه على لفظها، لأنك إذا صغرت ذا قلت: ذيا. فلو صغرت ذي فقلت: ذيا، لالتبس المؤنث بالمذكر، فصغروا ما يخالف فيه المؤنث المذكر. وهذه، المبهمة يخالف تصغيرها تصغير سائر الأسماء. وسنذكر ذلك فيباب نفرده له إن شاء الله. عاد القول إلى التشبيه. أنشدتني5 أم الهيثم في صفة جمل: كأن صوت نابه بنابه ... صرير خطاف على كلابه أرادت الصريف، وهو أن يحك أحد نابيه بالآخر.   1 يهجو التيم. وقبله: ما بين تيم وإسماعيل من نسب ... إلا القرابة بين الزنج والروم إن ابن تيم لمنسوب لوالده ... داني القرابة من حام ويحموم وانظر ديوانه 489-450. 2 ر: "والبهاء". 3 "في قوله" ساقط من ر. 4 زيادات ر:"حكى يعقوب بن السكيت: "مهاة". من أسماء الشمس. وأنشد: ثم تجلى الظلام رب رحيم ... بمهاة ضياؤها منشور 5 ر: "وأنشدتني". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وقوله: صرير خطاف على كلابه فالخطاف ما تدور عليه البكرة. والكلاب ما وليه. وقد قال النابغة: مقذوفة بدخيس النخض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد القعو: ما تدور عليه البكرة إذا كان من خشب، فإن كان من حديد فهو خطاف. وإن دارت على حبل فذلك الحبل يسمى الدرك. وقوله: مقذوفة يقول: مرمية باللحم. والدخيس: الذي قد ركب بعضه بعضاً. والنخض: اللحم. وبازلها: نابها. ومعنى بزل، وفطر، واحد: وهو أ، ينشق الناب. قال ذو الرمة: كأن على أنيابها كل سدفة ... صياح البوازي من صريف اللوائك1 يقول: مما تلوكه. ويقال في الغضب: تركت فلاناً يصرف نابه عليك ويحرق ويحرق. ورأيته يعض عليك الأرم، قال زهير في مدح حصن بن حذيفة2: أبي الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله3 وقال آخر: نبئت أحماء سليمى أنما ... ظلوا غضاباً يعلوكون الأرما وقال بعض النحويين: يعني الشفاة. وقال بعضهم: يعني الأصابع. فأما قولهم: عض على ناجذه وهو آخر الأسنان، فيكون على وجهين: أحدهما أنه قد احتنك وبلغ، والآخر: أن يكون للإطراق والتشدد. ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول: إذا لقيتم القوم فاجمعوا القلوب وعضوا على النواجذ، فإن ذلك ينبي4 السيوف عن الهام.   1 السدفة: بقية من سواد الليل, فشبه أنيابه بأصوات البزاة, يقول: لاك يلوك, إذا مضغ "من شرح ديوانه". 2 زيادات ر:"ابن بدر الفزاري". 3 أفضى: سار إلى الفضاء. وقبله: من مثل حصن في الحروب ومثله ... لإنكار ضيم أو لأمر بحاوله 4 ر: "يثني". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 ثم نعود إلى التشبيه. قال الراجز1: كأنها حين بناها الباس2 ... جنية في رأسها أمراس بها سكون وبها شماس3 ... يخرج منها الحجر الكباس يمر لا يحبسه حباس ... لا نافذ الطعن ولا تراس يصف المنجنيق. والأمراس: الحبال، والواحد مرس4. والكباس: الضخم. يقال: هامة كبساء يا فتى؛ ورأس أكبس. والحباس: الذي من شأنه أن يحبس. يقال: رجل ضارب للذي يضرب، كثيراً كان منه ذلك أو قليلاً، فإذا قلت: ضراب وقتال، فإنما يكثر الفعل، ولا يكون للقليل. قال الراجز: أخضر من معدن ذي قساس ... كأنه في الحيد ذي الأضراس يرمى به في البلد الدهاس يصف معولاً. وذو قساس: معدن للحديد الجيد، وهو يقرب من بلاد بني أسد. والحيد: ما أشرف من الجبل أو غير ذلك، يقال للطنف حيد، وهو الذي يسميه أهل الحضر الإفريز؛ يقال طنف حائطك، ويقال للناتئ في وسط الكتف: حيد وعير، وكذا الناتئ في القدم. وقوله: ذي الأضراس يريد الموضع الضرس الخشن ذا الحجارة. فيقول: هذا المعوللحدته يقع في الخشونة فيهدمها كما يهدم الدهاس. والدهاس: ما لآن من الرمل. قال دريد بن الصمة في يوم حنين: أين مجتلد القوم? فقالوا: بأوطاس5. فقال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس6، ولا لين دهس!   1 زيادات ر: "هو أبو النجم". 2 ر: "تناهي". 3 الشماس والشموس. شرود الدابة نفارها. 4 ر: "مرسية". 5 أوطاس: موضع في ديار هوازن. 6 الحزن: ما غلظ من الارض. والضرس: الشديد خشونة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وقال العجاج يصف حماراً: كأن في فيه إذا ما شحجا ... عوداً دوين اللهوات مولجا1 هذا يصف العير2 الوحشي الذي قد أسن3 تراه لا يشتد نهيقه، وكأنه يعالجه علاجاً. قال الشماخ: إذا رجع التعشير شجاً كأنه ... بناجذه من خلف قارحه شجي4 فأما قول عنترة: بركت على ماء الرداع كأنما ... بركت على قصب أجش مهضم فإنما يصف الناقة ويذكر حنينها. يقال إنه يخرج منها كأشجى صوت، فإنما شبهه بالزمير، وأراد القصب الذي يزمر به. قال الأصمعي: هو الذي يقال له بالفارسية ناي. قال الراعي يصف الحادي: زجل الحداء كأن في حيزومه ... قصبا ومقنعة الحنين عجولا المقنع: الرافع رأسه، في هذا الموضع، ويقال في غيره: الذي يحط رأسه استخذاء وندماً؛ قال الله جل وعز: {مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} 5. ومن قال هو الرافع رأسه: فتأويله عندنا أن يتطاول فينظر ثم يطأطئ رأسه، فهو بعد يرجع إلى الإغضاء والإنكسار. والبعير يحن كأشد الحنين إلى ألافه إذا أخذ من القطيع. قال: وأكثر ما يحن عند العطش. قال الشاعر6: وتفرقوا بعد الجميع لنية ... لا بد أن يتفرق الجيران لا تصبر الإبل الجلاد تفرقت ... بعد الجميع ويصبر الإنسان   1 الشحيج: صوت البغل والحمار إذا أسن. 2 ر: "هذا يوصف به العير". وما أثبته عن الأصل. س. 3 ر: "إذا أسن". 4 التعشير: نهيق الحمار. 5 سورة إبراهيم 43. 6 هو مالك بن الصمصامة الجعدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وقال آخر: وهل ريبة في أن تحن نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحن نجيب! وإذا رجعت الحنين كان ذلك أحسن صوت يهتاج له المفارقون، كما يهتاجون لنوح الحمام، ولالتياح البروق. وقال عوف1 بن محلم، وسمع نوح حمامة: ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح2 أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زماناً والفؤاد صحيح ولوعا فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد قريح! وكل مطوقة عند لعرب حمامة، كالدبسي والقمري والورشان، وما أشبه ذلك؛ قال حميد بن ثور: وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وترنما3 إذا شئت غنتني بأجزاع بيشة ... أو النخل من تثليث أو بيلملما مطوقة خطباء تسجع كلما4 ... دنا الصيف وانجال الربيع فأنجما محلاة طوق لم يكن من تميمة ... ولا ضرب صواغ بكفيه درهما تغنت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة في شجوها متلوما إذا حركته الريح أو مال ميلة ... تغنت عليه مائلاً ومقوما عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فما!   1 قال المرصفي: الشعر لأبي كبير الهذلي. لا لعوف, وإنما ذكر لعبد الله بن طاهر العندليب. فالتفت إلي ابن محلم وقال: هل سمعت بأشجى من هذا؟ فقال: لا والله أبا كبير حيث يقول. وذكر الأبيات. 2 ر: "ميال". وما أثبته عن الأصل. س. 3 من قصيدة طويلة في ديوانه 1-3مطلعها: سل الربع أني يممت أم سالم ... وهل عادة للربع أن يتكلما. 4 الديوان "تصدح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 فلما أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما وقال ابن الرقاع وذكر حمامة: [قال أبو الحسن الأخفش: الصحيح أنه لنصيب] : ومما شجاني أنني كنت نائماً ... أعلل من برد الكرى بالتنسم إلى أن بكت ورقاء في غصن أيكة ... تردد مبكاها بحسن الترنم1 فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بليلى2 شفيت النفس قبل التندم ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم أما قول حميد دعت ساق حر فإنما حكى صوتها، ويقال للواحد ذكراً كان أو أنثى: حمامة، والجمع الحمام، والحمامات، فإذا كان ذكراً قلت هذا حمامة، وإذا كانت أنثى قلت هذه حمامة. وكذلك هذا بطة وهذه بطة. ويقال بقرة للذكر والأنثى، ودجاجة لهما، فإذا قلت: ثور، أو ديك بينت الذكر، واستغنيت عن تقديم التذكير. ويقال للحمامة: تغنت وناحت، وذاك أنه صوت حسن غير مفهوم، فيشبه مرة بهذا ومرة بهذا، قال قيس بن معاذ: ولو لم يشقني الظاعنون لشاقني ... حمائم ورق في الديار وقوع تجاوبن فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح ما تجري لهن دموع وقوله: وانجال الربيع يقال؛ انجال عنا، أي أقلع، ومثل ذلك أنجم عنا. وإن قلت: أثجم فمعناه لزم ووقع، فهو خلاف أنجم. وإن قلت: انجاب فمعناه انشق. يقال: المجوب للحديدة التي يثقب بها المسيب. ويقال: جبت البلاد أي دخلتها وطوقتها. وفي القرآن: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 3 أي شقوه. وقوله: لم يكن من تميمة التميمة المعاذة وقد مضى هذا.   1 ما بين العلامتين من زيادات ر. 2 ر: "سعدي" وما أثبته عن الأصل. 3 سورة الفجر 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وقوله: وما تفغر بمنطقها فما. يقول: لم تفتح. يقال: فغرفاه. إذا فتحه1. وقوله: ولا عربياً شاقه صوت أعجما يقول: لم أفهم ما قالت، ولكني استحسنت صوتها واستحزنته، فحننت له. ويروى أن بعض الصالحين كان يسمع الفارسية تنوح ولا يدري ما تقول. فيبكيه ذلك ويرققه. ويذكر به غي ما قصدت له. قال أبو العباس: وحدثت أن بعض المحدثين2 سمع غناء بخراسان بالفارسية فلم يدر ما هو. غير أنه شوقه لشجاه وحسنه. فقال في ذلك: حمدتك ليلة شرفت وطابت ... أقام سهادها ومضى كراها سمعت بها غناء كان أولى ... بأن يقتاد نفسي من غناها الغناء، الأول: المدود من الصوت. والذي ذكره بعد في القافية: من المال مقصور: ومسمعه يحار السمع فيها ... ولا تصممه لا يصمم صداها3 مرت أوتارها فشفت وشاقت ... فلو يسطيع حاسدها فداها ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدي فلم أجهل شجاها فكنت كأنني أعمى معنى ... بحب الغانيات وما يراها [وقال عبد بني الحسحاس: وراهن ربي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن المكاويا] 4   1 زيادات ر: "حكى ثعلب: "فغر فاه" و"فغر نفسه". وكذلك شجى فاه. وشجى نفسه". 2 هو أبو تمام. 3 قال المرصفي: يدعو لها بطول العمر. والعرب تقول: أصم الله صداه. تريد أهلكه. وإذا مات قالت: صم صداه. والصدى: ما تسمعه عقيب صياحك راجع إليك من جبل أو مكان مرتفع. 4 ما بين العلامتين من زيادات ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 قال أبو العباس: والشيء يذكر بالشيء وإن كان دونه فنجري لاحتواء الباب والمعنى عليهما. وفي شعر حميد هذا ما هو أحكم مما ذكرنا وأوعظ، وأحرى أن يمثل به الأشراف، وتسود به الصحف، وهو قوله: أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما ولا يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما ويروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كفى بالسلامة داء". ثم نرجع إلى التشبيه. قال أبو العباس: والعرب تشبه على أربعة أضرب: فتشبيه مفرط، وتشبيه مصيب، وتشبيه مقارب، وتشبيه بعيد يحتاج إلى التفسير ولا يقوم بنفسه: وهو أخشن الكلام. فمن التشبيه المفرط المتجاوز، قولهم للسخي: هو كالبحر. وللشجاع: هو كالأسد. وللشريف: سما حتى بلغ النجم. ثم زادوا فوق ذلك. من ذاك قول بعضهم وهو بكر بن النطاح، يقوله لأبي دلف القاسم بن عيسى: له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر له راحة لو أن معشار جودها ... على البر صار البر أندى من البحر ولو أن خلق الله في مسك فارس1 ... وبارزه كان الخلي من العمر وقد قيل: أن امرأة عمران بن حطان قالت له: أما زعمت أنك لم تكذب في شعر قط! قال: أو فعلت? قالت: أنت القائل: فهناك مجزأة بن ثور ... كان أشجع من أسامة أفيكون رجل أشجع من الأسد! قال: فقال: أنا رأيت مجزأة بن ثور فتح مدينة، والأسد لا يفتح مدينة.   1 المسك: الجلد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 ومن عجيب التشبيه في إفراط، غير أنه خرج من كلام جيد وعني به رجل جليل، فخرج من باب الاحتمال إلى باب الاستحسان، ثم جعل لجودة ألفاظه وحسن رصفه، واستواء نظمه، في غاية ما يستحسن قول النابغة يعني حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو الفزاري: يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال جنوح1 ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل ... نجوم السماء والأديم صحيح فعما قليل ثم جاء نعيه ... فظل ندي الحي وهو ينوح ومن تشبيههم المتجاوز الجيد النظم ما قد2 ذكرناه، وهو قول أبي الطمحان القيني: أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه3 ويروى عن الأصمعي أنه رأى رجلاً يختال في أزير4 في يوم قر في مشيته. فقال له: ممن أنت يا مقرور? فقال: أنا ابن الوحيد، أمشي الخيزلى5، ويدفئني حسبي. وقيل لآخر في هذه الحال: أما يوجعك البرد? فقال: بلى والله، ولكن أذكر حسبي فأدفأ. وأصوب منهما قول العريان الذي سئل في يوم قر عما يجد، فقال: ما علي منه كبير مؤونة6. فقيل: وكيف ذلك7 ? فقال: دام بي العري، فاعتاد بدني ما تعتاده وجوهكم!   1 جنوح: مصدر جنح إليه, إذا مال وسكن. 2 ساقطة س ر. 3 الجزع: ضرب من الخرر, وقيل: هو الخرز اليملني, الذي فيه بياض وسواد, تشبهبه الأعين. 4 الأزير: تصغير إزار, قال المرصفي: يريد أنه يختال في إزار قصير. 5 الخيزلي: مشيه فيها تبختر وتثاقل وتراجع وتفكك. 6 ر: "وقيل". 7 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 ومن التشبيه القاصد1 الصحيح، قول النابغة: وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالضواجع2 فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع3 يسهد من نوم العشاء سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طوراً وطوراً تراجع4 فهذه صفة الخائف المهموم. ومثل ذلك قول الآخر5: تبيت الهموم الطارقات يعدنني ... كما تعتري الأوصاب رأس المطلق والمطلق هو الذي ذكره النابغة في قوله: تطلقه طوراً وطوراص تراجع وذاك أن المنهوش إذا ألح الوجع به تارة، وأمسك عنه تارة، فقد قارب أن يوأس من برئه. وإنما ذكر خوفه من النعمان وما يعتريه من لوعة، في إثر لوعة، والفترة بينهما، والخائف لا ينام إلا غراراً، فلذلك شبهه بالملدوغ المسهد. وقوله: لحلي النساء في يديه قعاقع لأنهم كانوا يعلقون حلي النساء على الملدوغ. يزعمون أن ذلك من أسباب البرء، لأنه يسمع تقعقعها النوم فلا ينام، فيدب السم فيه. ويسهد لذلك. وقال الآخر:   1 القاصد: المستقيم الواضح القريب. 2 راكس والضواجع: موضعان في بلاد غطفان. 3 من المساورة, وهي المواثبة. والضئيلة: الحية الدقيقة. والرقش: جمع رقشاء, وهي الحية التي فيها نقط سود وبيض. 4 تناذرها الراقون, أي أنذر بعضهم بعضا ألا يتعرض لها. 5 هو شأس بن نهار العبدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل يؤتى إليه أن كل ثنية ... تيممها ترمي إليه بقاتل1 يقال لكل مستطيل كفة. يقال كفة الثوب لحاشيته، وكفة الحابل، إذا كانت مستطيلة. ويقال لكل شيء مستدير كفة، ويقال: ضعه في كفة الميزان، فهذه جملة هذا وكفة الحابل، يعني صاحب الحبالة التي ينصبها للصيد. وأما التشبيه البعيد الذي لا يقوم بنفسه، فكقوله: بل لو رأتني أخت جيراننا ... إذ أنا في الدار كأني حمار فإما أراد الصحة، فهذا بعيد، لأن السامع إنما يستدل عليه بغيره. وقال الله جل وعز وهذا البين الواضح: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} 2 والسفر الكتاب، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ} 3 في أنهم قد تعاموا عنها. وأضربوا عن حدودها وأمرها ونهيها، حتى صاروا كالحمار الذي يحمل الكتب ولا يعلم ما فيها. وهجا مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة قوماً من رواة الشعر بأنهم لا يعلمون ما هو، على كثرة استكثارهم روايته، فقال: زوامل للأشعار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر والتشبيه كما ذكرنا من أكثر كلام الناس. وقد وقع على ألسن الناس من التشبية المستحسن عندهم, وعن أصل أخذوه أن يشبهوا4 عين المرأه في الكحل بعين الظبية5 أو البقرة الوحشية، والأنف بحد السيف، والفم بالخاتم، والشعر بالعناقيد، والعنق بإبريق فضة، والساق بالجمار6. فهذا كلام جار على الألسن.   1 يؤتى إليه. أي يجئ إليه في وهمه. 2 سورة الجمعة 5. 3 الزوامل: جمع زاملة. وهي البعير بحمل المتاع والطعام. والغرائر: جمع الغرارة, وهي الأوعية, التي تسمى الجوالق. 4 ر: "أن شبهوا. وما أثبته عن الأصل. س." 5 ر: "الظبى". 6 الجمارة: شحمة بيضاء في رأس النخلة وفي س "الجمار". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وقد قال سراقة بن مالك بن جعشم: فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وساقاه ناديتان في غرزه كأنهما جمارتان، فأرده فوقعت في مقنب1 من خيل الأنصار، فقرعوني بالرماح، وقالوا: أين تريد? وقال كعب بن مالك الأنصاري: وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سر تبلج وجهه فصار كأنه البدر. وعين الإنسان مشبهة بعين الظبي والبقرة في كلامهم المنثور، وشعرهم المنظوم، من جاري ما تكلمت به العرب، وكثر في أشعارها، قال الشاعر2: فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكن عظم الساق منك رقيق3 وقال ذو الرمة: أرى فيك من خرقاء يا ظبية اللوى ... مشابه جنبت اعتلاق الحبائل فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولونك إلا أنها غير عاطل4 وقال آخر5: فلم ترعيني مثل سرب رأيته ... خرجن علينا من زقاق ابن واقف طلعن بأعناق الظباء أعين ال ... جآذر وامتدت بهن الروادف6 ويقال للخطيب: كأن لسانه مبرد. فهذا الجاري في الكلام، كما يقال للطويل: كأنه رمح. ويقال للمهتز للكرم: كأنه غصن تحت بارح. ومن عجيب7 التشبيه قول القائل: لعينك يوم البين أسرع واكفاً ... من الفنن الممطور وهو مروح8 وذاك أن الغصن يقع المطر في ورقه فيصير منها في مثل المداهن، فإذا هبت به الريح لم تلبثه أن تقطره.   1 المقنب: جماعة الخيل والفرسان. 2 هو مجنون بني عامر. وقبله: وياشبه ليلى لو تلبثت ساعة ... لعل فؤادي من جواه يفيق 3 ر: "دقيق". وما أثبته عن الأصل. س. 4 ما بين العلامتين من زيادات ر. 5 ر: "الآخر". ونسبه المرصفي إلى هدبة بن خشرم العذرى. 6 في البيت إقواء. 7 ر: "من مليح". 8 نسبه القالي في أماليه "70:1" إلى أبي حية النميري. ورواه: "لعيناك". والفنن: الغصن. وجمعه أفنان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 طرائف من تشبيهات المحدثين ثم نذكر بعد هذا طرائف من تشبيه المحدثين وملاحاتهم، فقد شرطناه في أول الباب، إن شاء الله. قال أبو العباس: ومن أكثرهم تشبيهاً، لاتساعه في القول، وكثرة ثقبه1، واتساع مذهبه2 الحسن بن هانئ، قال في مديحه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك: وكنا إذا ما الحائن الجد غره ... سنا برق غاو أو ضجيج رعاد تردى له الفضل بن يحيى بن خالد ... بماضي الظبا أزهاه طول نجاد أما خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قناً وجياد فما هو إلا الدهر يأتي بصرفه ... على كل من يشقى به ويعادي قوله: الحائن الجد يقال: حان الرجل، إذا دنا موته، ويقال: رجل حائن، والمصدر الحين. والجد: الحظ، والجد والجدة، مفتوحان، فإذا أردت المصدر من جددت في الأمر، قلت: أجد جداً مكسور الجيم، ويقال: جددت النخل أجده جداً وجداداً3 إذا صرمته. ويقال: جذذته جذاً. وتركت الشيء جذاذاً، إذا قطعته قعاً. ويروى هذا البيت لجرير على وجهين: آل المهلب جذ الله دابرهم ... أضحوا رماداً فلا أصل ولا طرف ويروى جد، وقرأ بعض القراء: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 4 فأما قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} 5 فلم يقرأ بغيره. ويقال: كم جذاذ نخلك. أي كم تصرم منها. ويروى من قول الله جل وعز: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} 6 عن أنس بن   1 كذا في س والأصل, وفي ر: "تفننه". 2 ر: "مذاهبه". 3 تكملة من س. 4 سورة هود 108. 5 سورة الأنبياء. 6 سورة الجن 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 مالك: "غنى ربنا". وقرأ سعيد بن جبير: "جدا ربنا". ولو قرأ قارئ "جدا ربنا" على معنا: جد ربنا لم يقرأ به لتغير الخط، وكذا قراءة سعيد مخالفة الخط1. وهذا الشعر ينشد بالكسر: أجدك لم تغتمض ليلة ... فترقدها مع رقادها ومثله2: أجدك لم تسمع وصاة محمد ... رسول الإله حين أوصى وأشهدا لأن معناه أجداً منك، على التوقيف، وتقديره في النصب: أتجد جداً، ويقال: امرأة جداء، إذا كانت لا ثدي لها، فكأنه قطع منها، لأن أصل الجد القطع، ويقال: بلدة جداء، إذا لم تكن بها مياه. قال الشاعر: وجداء ما يرجى بها ذو هوادة ... لعرف ولا يخشى السماة ربيبها3 القرابة والهوادة في المعنى واحدة. قال أبو الحسن: السماة هم الصادة نصف النهار، وروي عن بعض أصحابنا، عن المازني قال: إنما سمي سامياً بالمسماة، وهو خف يلبسه لئلا يسمع الوحض وطأه، وهو عندي من سما للصيد. ينشد هذا البيت: أبى حبي سليمى أن يبيدا ... وأصبح حبلها خلقاً جديد يقول: أصبح خلقاً مقطوعاً، لأن جديداً في معنى مجدود أي مقطوع، كما تقول: قتيل ومقتول وجريح ومجروح.   1 ما بين العلامتين زيادات من ر. 2 زيادات ر: "قول الأعشى". والبيت في ديوانه 103. وروايته: "نبي الغله". 3 البين في الكتاب 1: 294: 1442. ونسبه إلى العنبري, وروايته. وجداء يرجى بها ذو قراية ... لعطف وما يخشى السماة ربيبها إلى العنبري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 ويقال في غير هذا المعنى: رجل مجدود، إذا كان ذا خطر وحظ1، وفي الدعاء "ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، أي من كان له حظ في دنياه لم يدفع ذلك عنه ما يريد الله به. ولو قال قائل: ولا ينفع ذا الجد منك الجد - يريد الاجتهاد - لكان وجهاً. وقوله: سنا برق غاو والسنا: من الضياء مقصور. قال الله جل وعز: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 2. والسناء: من المجد ممدود. وقال الشاعر: وهم قوم كرام الحي طراً ... لهم خول إذا ذكر السناء وضربه الحسن3 ههنا مثلاً وجمع الرعد فقال: رعاد، كقولك: كلب وكلاب، وكعب وكعاب. وقوله: بماضي الظبي. ظبة كل شيء حده، يقال: وخزه بظبة السيف، يراد بذلك حد طرفه. وقوله: أزهاه طول نجاد، النجاد: حمائل السيف، وأزهاه: رفعه وأعلاه، والرجل يمدح بالطول، فلذلك يذكر طول حماله. قال مروان بن أبي حفصة يمدح المهدي: قصرت حمائله عليه فقلصت ... ولقد تأنق قينها فأطالها وقال الحسن بن هانئ يمدح محمداً الأمين: سبط البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط قيام4 وقال جرير للفرزدق: تعالوا ففاتونا ففي الحكم مقنع ... إلى الغر من أهل البطاح الأكارم فإني لأرضى عبد شمس وما قضت ... وأرضى الطوال البيض من آل هاشم   1 ر: "أي حظ". 2 سورة النور 43. 3 يريد الحسن بن هانئ. 4 غمر الجماجم. أي فرع القوم وعلاهم بطول قامته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وقال الآخر: لما التقى الصفان واختلف القنا ... نهالا وأسباب المنايا نهالها تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طوالها وقوله: أمام خميس، الخميس ههنا: الجيش، وكذلك قال ربيئة أهل خيبر، لما أطل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم: محمد الخميس، أي والجيش. وقال الشاعر، وهو طرفة: وأي خميس لا أفأنا تهابه ... وأسيافنا يقطرن من كبشه دما أفأنا: رددنا. يقال: أفاءه يفيء إذا رد. والأرجوان: الأحمر1. قال الشاعر: عشية غادرت خيلي حميداً ... كأن عليه حلة أرجوان والجياد: الخيل. وفي القرآن: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} 2. ومن تشبيهه3 الجيد في هذا الشعر الذي ذكرنا قوله: ترى الناس أفواجاً إلى باب داره ... كأنهما رجلا دبى وجراد4 فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى ... ويوم رقاب بوكرت لحصاد ومن التشبيه الجيد قوله5: فكأني بما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما وكان سبب هذا الشعر أن الخليفة تشدد عليه من شرب الخمر، وحبسه من أجل ذلك حبساً طويلاً، فقال:   1 الأرجوان: صبغ أحمر شديد الحمرة. 2 سورة ص 21. 3 أي الحسن بن هانئ. 4 الدبا: مقصور قبل أن يطير. 5 زيادات ر:"أي الحسن بن هانئ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شميما نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى لي خلافه مستقيما فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما كبر حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها وأن أشم النسيما فكأني بما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما1 لم يطق حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق ألا يقيما فهذا المعنى لم يسبقه إليه أحد. قال: وحدثت أن العماني2 الراجز أنشد الرشيد في صفة فرس: كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلماً محرفا3 فعلم القوم كلهم أنه قد لحن، ولم يهتد منهم أحد لإصلاح البيت إلا الرشيد. فإنه قال له: قل: تخال أذنيه إذا تشوفا. والراجز وإن كان لحن فقد أحسن التشبيه. ويروي أن جريراً دخل إلى الوليد، وابن الرقاع4 العاملي عنده ينشده القصيدة التي يقول فيها: غلب المساميح الوليد سماحة ... وكفى قريش المعضلات وسادها قال جرير: فحسدته على أبيات منها، حتى أنشد في صفة الظبية: تزجي أغن كأن إبرة روقه قال: فقلت في نفسي: وقع والله، ما يقدر أن يقول أو يشبه به، قال: فقال:   1 القعدي: من يرى رأي القعد, وهم الخوارج الذين يرون القعود والتحكيم ولا يخرجون إلى القتال. 2 العماني: هو محمد بن ذؤيب بن محجن البصري. 3 قادمة: واحدة القوائم, وهن أربع ريشات في مقدم الجناح. واللواتي بعدهن المناكب إلى أسفل الجناح. 4 هو الوليد بن عبد الملك, وابن الرقاع هو عدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 قلما أصاب من الدواة مدادها قال: فما قدرت حسداً له أن أقيم حتى انصرفت. ومن التشبيه1 الحسن الذي نستطرفه قوله: تعاطيكها كف كأن بنانها ... إذا اعترضتها العين صف مداري ومن التشبيه المليح قوله: وكأن سلمى إذ تودعنا2 ... وقد اشرأب الدمع أن يكفا3 رشأ تواصين القيان به ... حتى عقدن بأذنه شنفا4 وفي هذا الشعر من التشبيه5 الجيد قوله: خير فؤادك أو ستخبره ... قسماً لينتهين أو حلفا الحب ظهر أنت راكبه ... فإذا صرفت عنانه انصرفا ومن التشبيه الجيد قوله6: إليك رمت بالقوم خوص كأنما ... جماجمها فوق الحجاج قبور   1 ر: "تشبيهه". 2 ر: "كأن سعدي" وما أثبته عن الأصل, س. 3 زيادات ر: "يقال: اشرأب لأن يكلمني" إذا تهيأ لكلالمك. واشرأب الدمع, إذا تهيأ للوكف". 4 الرشأ: الظبي إذا قوى وأشتد, وتواصين, أوصى بعضهم بعضا. 5 ساقط من ر. 6 من كلمة يمدح بها الخصيب, أمير مصر, وقيله: ومازلت توليه النصيحة يافعا ... إلى أن بدا في العارضين قتير إذا غاله أمر فإما كفيته ... وإما عليه بالكفاة تشير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 وله أيضاً: سأرحل من قود المهارى شملة ... مسخرة ما تستحث بحادي1 مع الريح ما راحت فإن هي أعصفت ... نهور برأس كالعلاة وهادي2 العلاة: السندان، قال جرير: أيفخر بالمحمم قين ليلى ... وبالكير المرقع والعلاة وقال الحسن بن هانئ في صفة السفينة: بنيت على قدر ولاءم بينها ... طبقان من قير ومن ألواح فكأنها والماء ينطح صدرها ... والخيزرانة في يد الملاح جون من العقبان يبتدر الدجى ... يهوي بصوت واصطفاق جناح وقال في شعر آخر، يصف الخمر، ويذكر صفاءها ورقتها، وضياءها وإشراقها: إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا3 فأما قوله: بنينا على كسرى سماء مدامة ... جوانبها محفوفة بنجوم فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذاً لاصطفاني دون كل نديم   1 قود المهاري. القود: جمع قوداء, وهي الطويلة الظهر والعتق, والمهري: المنسوبة إلي مهرة بن حيدان. أي حي من العرب. 2 النهوز, مبالغة من النهز, وهو الدفع. 3 قبله. وقلت لساقيها أجزها فلم يكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا فجوزها عني سلافا ترى لها ... إلي الافق الاعلى شعاعا مطنبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 فإنما كانت صورة كسرى في الإناء. وقوله: جوانبها محفوفة بنجوم فإنما يريد ما تطوق به من الزبد. وقد قال في أخرى. [أول الشعر من غير الأم1: ودار ندامى خلفوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضعاث ريحان جني ويابس حبست بها صحبي فألفت شملهم ... وإني على أمثال تلك لحابس] 2 أقمنا بها يوماً ويوماً وليلة ... ويوماً له يوم الترحل خامس تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتها3 كسرى وفي جنباتها ... مهاً تدريها بالقسي الفوارس فللخمر ما ذرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس العسجدية: منسوبة إلى العسجد، وهو الذهب. وقال المثقب العبدي: قالت ألا تشتري ذاكم ... إلا بما شئنا ولم يوجد إلا ببدري ذهب خالص ... كل صباح آخر المسند من مال من يجني ويجني له ... سبعون قنطاراً من العسجد وقوله: تدريها أي تختلها. يقال: دريت الصيد. إذا ختلته. قال الأخطل:   1 الأم هنا أصل الكتاب. 2 ما بين العلامتين من زيادات ر. 3 قراراتها: منصوب على الظرفية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 وإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني ... بسهمك والرامي يصيد وما يدري وقال الحسن بن هانئ: ما حطك الواشون من رتبة ... عندي ولا ضرك مغتاب1 كأنما أثنوا ولم يعلموا2 ... عليك عندي بالذي عابوا وهذا المعنى عندي مأخوذ من قول النعمان بن المنذر لحجل بن نضلة، وقد ذكر معاوية بن شكل، فقال: أبيت اللعن! إنه لقعو الأليتين، مقبل النعلين، فجج الفخذين، مشاء بأقراء، تباع إماء، قتال ظبآء. فقال النعمان: أردت أن تذيمه فمدهته. قوله: مقبل النعلين، يقول: لنعله قبال. ينسبهإلى الترفه. وتباع إماء، وقتال ظباء، من ذلك. والقعو: ما تدور فيه البكرة إذا كان من خشب. وقوله: تذيمه معناه تذمه. يقال: ذمه يذمه ذماً وذامه يذيمه ذيماً، وذأمه يذأمه ذأما. والمعنى واحد، قال الله تبارك وتعالى: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً} 3.وقال الحارث بن خالد المخزومي لعبد الملك: صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها وقوله: فمدهته يريد مدحته. فأبدل من الحاء هاء، لقرب المخرج، وبنو سعد بنزياد مناة بن تميم كذلك تقول: ولخم ومن قاربها. قال رؤبة: لله در الغانيات المدَّه4 ... سبحن واسترجعن من تألهي5 يريد المدح، وفي هذه الأرجوزة:   1 ر: "ما اغتابوا". وهذه رواية الاصل. 2 ر: "كأنهم". 3 سورة الأعراف 18. 4 المده: اللاتي يمتدحن بالجمال. 5 استرجعن: قلن: "إنا لله وإنا إليه راجعون". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 براق أصلاد الجبين الأجله1 يريد الأجلح، والعرب تقول: جلح الرجل جلحاً، وجله يجله جلهاً، وجلي يجلي جلى، والمعنى واحد، قال العجاج: مع الجلا ولائح القتير ومثل بيت الحسن وكلام النعمان قول عمرو بن معد يكرب: كأن محرشاً في بيت سعدي ... يعل بعيبها عندي شفيع2 وفي قصيدة الحسن هذه: إن جئت لم تأت وإن لم أجئ ... جئت، فهذا منك لي داب! كأنما أنت وإن كنت لا ... تكذب في الميعاد كذاب وهذا كلام طريف. ومن حسن تشبيه المحدثين قول بشار بن برد العقيلي3: وكأن تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا4 وتخال ما جمعت عليه ... بنانها ذهباً وعطرا وهذا التشبيه الجامع. ونظيره في جمع شيئين لمعنيين ما ذكرت لك من قول مسلم بن الوليد: كأن فيسرجه بدراً وضرغاما ومن حسن التشبيه من قول المحدثين قول عباس بن الأحنف:   1 أي لا شعر فوق جبينه. تشبيها بالحجر الصلد. 2 يعل, من العل, وهو السقية الثانية. 3 ساقطة من ر. 4 قبلها: حوراء إن نظرت إليك ... سقتك بالعينين خمرا وكان رجع حديثها ... قطع الرياض كسين زهرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 أحرم منكم بما أقول وقد ... نال به العاشقون من عشقوا صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق1 فهذا حسن في هذا جداً. ومن حسن ما قالوا في التشبيه قول إسماعيل بن القاسم، أبي العتاهية للرشيد: أمين الله أمنك خير أمن ... عليك من التقى فيه لباس تساس من السماء بكل فضل ... وأنت به تسوس كما تساس كأن الخلق ركب فيه روح ... له جسد وأنت عليه راس وقد أخذ هذا المعنى علي بن جبلة، فقال في مدحه حميد بن عبد الحميد، وزاد في الشرح والترتيب، فقال: يرتق ما يفتق أعداؤه ... وليس يأسو فتقة آسي2 فالناس حسم وإمام الهدى ... رأس وأنت العين في الراس والعرب تختصر في التشبيه، وربما أومأت به إيماء، قال أحد الرجاز: بتنا بحسان ومعاه تئط3 ... ما زلت أسعى بينهم وألتبط4 حتى إذا كاد الظلام يختلط5 ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط! يقول في لون الذئب، واللبن إذا جهد6 وخلط بالماء ضرب إلى الغبرة، وأنشد الأصمعي: وتشربه محضاً وتسقي عيالها ... سجاجاً كأقراب الثعالب أورقا   1 الذبالة: الفتيلة. 2 الرتق: ضد الفتق, وهو لأم الفتق وإصلاحة. 3 تثط: من الأطيط, وهو صوت الامعاء من الجوع. 4 الالتباط: العدو والوثوب. 5 ر: "كان الظلام". وما أثبته من الأصل. س. 6 جهد اللبن: "أخرج زبده كله". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 السجاج: الرقيق الممذوق. والقربان: الجنبان، والواحد قرب، والجميع أقراب1، من ذلك قول عمر بن الخطاب رحمه الله لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد شاور في رجل جنى جناية، وجاء قومه يشفعون له، فشفع له قوم آخرون، فقال له عمر: يا رسول الله، أرى أن توجع قربيه، فقال القوم: يا رسول الله، إنك لن تشتد على أمتك بقول عمر: فنزل إليه جبرائيل عليه السلام فقال له ثلاثاً: يا محمد، القول قول عمر، شد الإسلام بعمر. فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضرب الرجل. والأورق: لون بين الخضرة والسواد، يقال: جمل أورق بين الورقة، وهو الأم ألوان الإبل عند العرب وأطيبها لحماً. ومن مليح التشبيه للمحدثين2 قول عبد الصمد بن المعدل في صفة العقرب: تبرز كالقرنين حين تطلعه ... تزحله مراً ومراً ترجعه3 في مثل صدر السبت خلق تفظعه ... أعصل خطار تلوح شعه4 أسود كالسبجة فيه مبضعه ... لا تصنع الرقشاء ما لا يصنعه5 وفي هذه الأرجوزة أيضاً: بات بها حين حبيش يتبعه ... وبات جذلان وثيراً مضعه6 ذا سنة آمن ما يروعه ... حتى دنت منه لحتف تزمعه فاظت تجم سمها وتجمعه ... يا بؤس للمودعه ما يودعه7 فشرعت أم الحمام إصبعه ... أنحت عليه كالشهاب تلذعه8   1 ساقطة من ر. 2 ساقطة من ر. 3 تزحله: تنحيه. 4 السبت: الجلد المدبوغ. وخلق. مخلوق. يريد ذنبها. تفظعه: تراه فضيعا. أعصل. من العصل, وهو الالتواء في الشئ. وخطار: كثير الحركة يمينا وشمالا. "من رغبة الآمل". 5 السبجة: بردة من صوف فيها سواد وبياض, والرقشاء: الحية فيها نقط سود وبيض. 6 حبيش هنا: اسم اللديغ, والحين: الهلاك., ووثيرا, من الوثارة. وهي لين الفراش. 7 فاظت: أخرجت سمها. 8 شرعة: دنت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 عطك سربال حرير تخلعه ... فكل خل ظاهر تفجعه1 يزداد من بغت الحمام جزعه ... واليأس من تيسيره توقعه وكذلك قال يزيد بن ضبة أو يزيد بن الصمة2. قال أبو الحسن: شك العباس في أنه لأحدهما، أعني هذا البيت: وكنهم بانوا ولم أدر بغتة ... وأفظع شيء حين يفجؤك البغت3 ومن أحسن التشبيه ومليحه قول رجل يهجو رجلاً برثاثة الحال: يأتيك في جبة محرقة ... أطول أعمار مثلها يوم وطيلسان كالآل يلبسه ... على قميص كأنه غيم والتشبيه كثير، وهو باب كأنه لا آخر له، وإنما ذكرنا منه شيئاً لئلا يخلو هذا الكتاب من شيء من المعاني. ونختم ما ذكرنا من أشعار المحدثين ببيتين أو ثلاثة من الشعر الجيد، ثم نأخذ في غير هذا الباب إن شاء الله. قال طفيل: تقريبه المرطى والجون معتدل ... كأنه سبد بالماء مغسول السبد: طائر بعينه. وقد قالوا: الخصفة التي توضع عند البئر، وهو بالطائر أشبه، وإنما أراد العرق في هذا الوقت. وخير الخيل ما لم يسرع عرقه ولم يبطئ، فإذا جاء ف وقته شمله. قال الراجز: كأنه والطرف منه سامي ... مشتمل جاء من الحمام وقال الأعشى:   1 العط: شق الثوب وغيره من غير أن يبين. 2 تكملة من س, وفي ر: "أو للعرجم", ولعله: "أو للعرجى". 3 حاشية الاصل: "في غيرها الموضع إنه لمحمد بن عبد الله بن نمير الثقفي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 يعادي النحوص ومسحلها ... وعفوهما قبل أن يستجم النحوص، جماعها نحص، وهي التي لم تحمل في عامها. والمسحل: العير. والعفو: الولد وجمعه عفاء، فاعلم؛ وهو أسعى له إذا لم يكن لعامه. ويستحم: يعرق. وفي حديث أم زرع: مضجعه كمسل الشطبة1 وتكفيه ذراع التجفرة2، ومعناه أنه خميص البطن، وهذا تمدح به العرب وتستحسنه، فأما قول متمم بن نويرة: فتى غير مبطان العشيات أروعا3 فإما أراد أنه لا يستعجل بالعشاء لانتظاره الضيف؛ كما قال: وضيف إذا أرغى طروقاً بعيره ... وعان نآه الغل حتى تكنعا4 وقالوا في قول الخنساء: يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس قالوا: أرادت بطلوع الشمس وقت الغارة، وبغروب الشمس وقت الأضياف. وقال رجل لبعض أهله5: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح6 فتكون فارساً: وقال رجل من بني أسد لرجل من قيس: والله ما فتقت فتق السادة، ولا مطلت مطل الفرسان.   1 الشطبة: السعفة التي تشطب من الجريد. 2 التجفرة: ما بلغ أربعة أشهر من ولد الشاة. 3 المبطان: العظيم البطن من كثرة الأكل. وصدره: لقد كفن المنهال تحت ردائه 4 قال الأصمعي: إذا ضل الرجل أرغى بعيره. أي حمله على الرغاء لتجيبه الغبل برغائها, أو تنبح لرغائه الكلاب فيقصد الحي". والعاني: الاسير, والطروق. الإتيان ليلا. وتكنع الأسير: تقبض واجتمع. 5 ر: "لابن له". 6 الأرسخ: قليل لحم الفخذين والأليتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 فهذه كلها نعوت قد عرفت لقوم حتى كأنها سمات لهم، وكانوا يقولون: ينبغي أن يكون الفارس1 مهفهف الخصرين2، متوقد العينين، حمش الذراعين3. وأنشد الأصمعي: كأنما ساعداه ساعد ذيب قالوا: ومن نعت السيد أن يكون لحيماً، ضخم الهامة، جهير الصوت، إذا خطا أبعد، وإذا تؤمل ملأ العين؛ لأن حقه أن يكون في صدر مجلس، أو ذروة منبر، أو منفرداً في موكب. وكانوا يقولون في نعت السيد: يملأ العين جمالاً، والسمع مقالاً. وقال أبو علي دعبل بن علي في رجل نسبه إلى السؤدد، يقوله لمعاذ بن جبل بن سعيد الحميري، وهو من ولد حميد بن عبد الرحمن الفقيه: فإذا جالسته صدرته ... وتنحيت له في الحاشيه4 وإذا سايرته قدمته ... وتأخرت مع المستأنيه5 وإذا ياسرته صادفته ... سلس الخلق سليم الناحيه6 وإذا عاسرته صادفته ... شرس الرأي أبياً داهيه7 فاحمد الله على صحبته ... وأسأل الرحمن منه العافيه وهذا المعنى قد أجمله جرير في قوله: بشر أبو مروان إن عاسرته ... عير وعند يساره ميسور8   1 ر: "ينبغي للفارس ان يكون". 2 مهفهف الخصرين: ضامرهما. 3 حمش الذراعين. دقيقهما. 4 حاشية كل شئ طرفه وجانبه. 5 المستأنية: المتمهلة البطيئة. 6 ياسرته: لاينته وساهلته. 7 شرس الرأي: سيئ الخلق. 8 هو بشر بن مروان, أخو عبد الملك بن مروان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 باب تجتمع فيه طرائف من حسن الكلام، وجيد الشعر، وسائر الأمثال، ومأثور الأخبار، إن شاء الله. الحجاج بن يوسف والوليد بن عبد الملك كان الحجاج بن يوسف يستثقل زياد بن عمرو العتكي، فلما أثنت الوفود عل الحجاج عند الوليد بن عبد الملك، والحجاج حاضر، قال زياد بن عمرو: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم؛ فلم يكن أحد بعد أخف على قلب الحجاج منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 لابن قيس الرقيات في معاتبة المهلب ولزياد يقول ابن قيس الرقيات في معاتبته المهلب بن أبي صفرة: أبلغا جاري المهلب عني ... كل جار مفارق لا محاله إن جاراتك اللواتي بتكريت ... لتنبيذ رجلهن مقاله1 لو تعلقن من زياد بن عمرو ... بحبال لما ذممن حباله غلبت أمه أباه عليه ... فهو كالكابلي أشبه خاله2 ولقد غالني يزيد وكانت ... في يزيد خيانة ومغاله3 عتكي كأنه ضوء بدر ... يحمد الناس قوله وفعاله   1 تكريت: بلد بين بغداد والموصل. 2 قال المرصفي: "يريد أن شهوة أمه سبقت شهوة أبيه فسرت أعراقها فيه" فلم يشبه أباه في صلابة عوده ونجابته. والكابلي: منسوب إلي كابل, وهو ثغور طخارستان, نسبة إلي العجم". 3 المغالة: الخيانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 نبذ من أقوال الحكماء وقال أسماء بن خارجة الفزاري: لا أشاتم رجلاً، ولا أرد سائلاً، إنما هو كريم أسد خلته، وأو لئيم اشتري عرضي منه. وقال سهل بن هارون: يجب على كل ذي مقالة أن يبدأ بحمد الله وقبل استفتاحها، كما بدئ بالنعمة قبل استحقاقها. وكان يقول عند التعزية: التهنئة بآجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة. وأراد رجل الحج، فأتى شعبة بن الحجاج يودعه، فقال له شعبة: أما إنك إن لم تر الحلم ذلاً، والسفه أنفاً! سلم لك حجك. وقال أويس القرني: إن حقوق الله لم تترك عند مسلم درهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 لدعبل يذم رجلا ً وقال دعبل بن علي الخزاعي يذم رجلاً: رأيت أبا عمران يبذل عرضه ... وخبز أبي عمران في أحرز الحرز يحن إلى جاراته بعد شبعه ... وجاراته غرثى تحن إلى الخبز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 لبعض آل المهلب وقال آخر1: قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار لا يقبس الجار منهم فضل نارهم2 ... ولا تكف يد عن حرمة الجار3   1 نسبه أبو تمام في الحماسه 90:4 إلي بعض آل الهلب. وقال التبريزي في شرحه: "هو عبد الله بن عبد الرحمن, ولقبه ابو الأنوار". 2 القبس: الشعلة من النار, والقابس: طالب النار. 3 زيادات ر: أظن تمامه: حتى إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار قامت بأحمرها تبدي مشافره ... كانه رئة في كف جزار والبيت الاول للأخطل, وروايته في ديوانه "قوم إذا استنبح .... " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 لرجل من طيئ وكان قتل رجلاً من بني أسد وقال رجل من طيئ، وكان رجل منهم، يقال له زيد، من ولد عروة بن زيد الخيل، قتل رجلاً من بني أسد يقال له زيد، ثم أقيد به بعد: علا زيدنا يوم الحمى رأس زيدكم ... بأبيض مصقول الغرار يمان فإن تقتلوا زيداً بزيد فإنما ... أقادكم السلطان بعد زمان [قال أبو الحسن، وأنشدنا غيره: علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض من ماء الحديد يمان] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 لشمعل التغلبي حين ضربه عبد الملك بن مروان قال: كلم شمعل التغلبي عبد الملك كلاماً لم يرضه، فرماه عبد الملك بالجرز1 فخدش وهشم، فقال شمعل: أمن جذبه بالرجل مني تباشرت ... عداتي، فلا عيب علي ولا سخر فإن أمير المؤمنين وسيفه ... لكالدهر، لا عار بما فعل الدهر! وقال الحجاج بن يوسف: البخل على الطعام أقبح من البرص على الجسد. وقال زياد: كفى بالبخيل عاراً أن اسمه لم يقع في حمد قط، وكفى بالجواد مجداً أن اسمه لم يقع في ذم قط. وقال آخر: ألا ترين وقد قطعتني عذلا ... ماذا من الفضل بين البخل والجود! لا يعدم السائلون الخير أفعله ... إما نوالا وإما حسن مردود إلا يكن ورق يوماً أراج به ... للخابطين فإني لين العود قوله: إلا يكن ورق يريد المال، وضربه مثلاً. ويقال: أتى فلان فلاناً يختبط ما عنده. والاختباط: ضرب الشجر ليسقط الورق، فجعل الخابط الطالب، والورق المال، كما قال زهير: وليس مانع ذي قربى ولا رحم ... يوماً ولا معدماً من خابط ورقا   1 الجرز: عمود من حديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 بخل الحطيئة ويروى أن ضيفاً نزل بالحطيئة، وهو يرعى غنماً له، وفي يده عصاً، فقال الضيف: يا راعي الغنم [ما عندك?] 1، فأومأ إليه الحطيئة بعصاه، وقال: عجراء من سلم2، فقال الرجل: إني ضيف، فقال الحطيئة: للضيفان أعددتها!.   1 تكملة من س. 2 العجراء: التي فيها عقد. والسلم: شجر من العضاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 متفرقات من شعر دعبل وقال دعبل: وابن عمران يبتغي عربياً ... ليس يرضى البنات للأكفاء إن بدت حاجة له ذكر الضيـ ... ـف وينساه عند وقت الغداء وقال أيضاً: أضياف سالم في خفض وفي دعة ... وفي شراب ولحم غير ممنوع وضيف عمرو وعمرو يسهران معاً ... عمرو لبطنته والضيف للجوع وقال أيضاً: ما يرحل الضيف عني بعد تكرمة ... إلا برفد وتشييع ومعذرة وقال أيضاً: لم يطيقوا أن يسمعوا وسمعنا ... وصبرنا على رحى الأسنان صوت مضغ الضيوف أحسن عندي ... من غناء القيان بالعيدان وقال القرشي من بني أمية: إذا ما وترنا لم ننم عن تراتنا ... ولم نك أوغالاً نقيم البواكيا3 ولكننا نمضي الجياد شوازباً ... فنرمي بها نحو التارت المراميا4   3 وترنا: قتل منا قتيل, والترات: جمع ترة. وهي النسل, والأوغال: جمع وغل, وهو النذل الضعيف من الرجال. 4 الشوازب من الخيل: الضوامر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 لجرير يفتخر ويهجو الأخطل وقومه وقال جرير: إن الذي حرم الخلافة تغلباً ... جعل النبوة والخلافة فينا1 مضر أبي وأبو الملوك وهل لكم ... يا خزر تغلب من أب كأبينا! هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطينا2 إن الفرزدق إذ تحنف كارهاً ... أضحى لتغلب والصليب خدينا3 ولقد جزعت إلى النصارى بعدما ... لقي الصليب من العذاب مهينا هل تشهدون من المشاعر مشعراً ... أو تسمعون من الأذان أذينا4! قال أبو العباس: حدثني عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، قال: لما بلغ الوليد قوله: هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطينا قال الوليد: أما والله لو قال: "لو شاء ساقكم"، لفعلت ذاك به، ولكنه قال: "لو شئت" فجعلني شرطياً له. ويروى أن بلالاً5 قعد يوماً ينظر بين الخصوم، ورجل منهم ناحياً يتمثل قول الأخطل على غير معرفة6: وابن المراغة حابس أعياره ... مرمى القصية ما يذقن بلالاً7   1 الخرز: ضيقو الجفون, يصفهم بأنهم ينظرون بمؤخر عيونهم حقدا وغيظا وعداوة. 2 القطين: الخدم والمماليك. 3 تحنف: تنسك وتأله. 4 الأذين: المؤذن. 5 هو بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري القاضي. 6 في هجاء جرير. 7 المراغة في الأصل: الموضع تتمرغ فيه الدواب, وتقال أيضا للأتيان التي لا تمتنع من الفحول. والأعيار: جمع عير, وهو الحمار والقصية: الموضع المتنحى البعيد. والبلال: ما بل الحلق من ماء غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 فسمعه بلال، فلما تقدم مع خصمه قال له بلال: أعد علي1 إنشادك، فغمزه بعض الجلساء، فقال الرجل: إني والله ما أدري من قاله، ولا فيمن قيل? فقال بلال: أجل، هو أسير من ذاك، هلما فاحتجا. وقال جرير: مررت على الديار فما رأينا ... كدار بين تلعة والنظيم عرفت المنتأى وعرفت منها ... مطايا القدر كالحدأ الجثوم2 وقال آخر: لقد تبلت فؤادك إذ تولت ... ولم تخش العقوبة في التولي3 عرفت الدار يوم وقفت فيها ... بريح المسك تنفح في المحل   1 ساقطة من ر. 2 جثوم: جمع جاثمة, من جثم الطائر إذا لصق بالأرض فلم يبرح. 3 تبلت فؤادك: أسقمته وأدنفته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 باب من أخبار الخوارج في بيعتهم لعبد الله بن وهب الراسبي قال أبو العباس: ذكر أهل العلم من الصفرية أن الخوارج1 لما عزموا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي من الأزد، تكره ذلك، فأبوا من سواه، ولم يريدوا غيره. فلما رأى ذلك منهم قال: يا قوم، استبيتوا الرأي، أي دعوه يغب2. وكان يقول: نعوذ بالله من الرأي الدبري. قوله: استبينوا الرأي يقول: دعوا رأيكم تأتي عليه ليلة ثم تعقبوه، يقال: بيت فلان كذا كذا، إذا فعله ليلاً، وفي القرآن: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} 3، أي أداروا ذلك بينهم ليلاً، وأنشد أبو عبيدة: أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر لأنكح أيمهم منذراً ... وهل ينكح العبد حر لحر! والرأي الدبري: الذي يعرض4 بعد وقوع الشيء، كما قال جرير5: ولا يعرفون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الأمر إلا تدبرا وكان عبد الله بن وهب ذا رأي وفهم، ولسان وشجاعة، وإنما لجأوا إليه وخلعوا معدان الإيادي، لقول معدان:   1 من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا. سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين, أم كان بعدهم علي التابعين بإحسان, والأئمة في كل زمان. والصفرية: طائفة من الخوارج, تابعوا زياد بن الأصفر, ويقال لهم: الزيادية أيضا. الملل والنحل للشهرستاني 123:1 2 يغب: أي يبيت. 3 سورة النساء 108. ر: "ليلا بينهم". 4 ر: "من بعد". 5 في هجاء الفرزدق وقومه من بني مجاشع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 سلام على من بايع الله شارياً1 ... وليس على الحزب المقيم سلام فبرئت منه الصفرية، وقالوا: خالفت، لأنك برئت من القعد2. والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب، ومن ذي المعصية الظاهرة.   1 شاريا, أي بائعا نفسه في طاعة الله. 2 القعد: طائفة من الخوارج يرون التحكيم حقا, غير أنهم قعدوا عن الخروج على الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 شأنهم مع واصل بن عطاء وحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة، فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم - وكانوا قد أشرفوا على العطب - فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك? قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله، ويفهموا1 حدوده. فقالوا: قد أجرناكم، قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، قالوا: فامضوا مصاحبين، فإنكم إخواننا! قال: ليس ذلك لكم، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} 2، فأبلغونا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا بجمعهم3 حتى بلغوهم المأمن.   1 ر: "ويعرفا". 2 سورة التوبة 6. 3 ر: "بأجمعهم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 مناظرة عبد الله بن عباس لهم وذكر أهل العلم من غير وجه أن علياً رضي الله تعالى عنه لما وجه إليهم عبد الله بن عباس رحمة الله عليه، ليناظرهم، قال لهم: ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين? قالوا: قد كان للمؤمنين أميراً، فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان، فليتب بعد إقراره بالكفر نعد له. فقال ابن عباس: ما ينبغي1 لمؤمن لم يشب إيمانه أن يقر على نفسه بالكفر! قالوا: إنه قد حكم، قال: إن الله عز وجل قد أمرنا بالتحكيم في قتل صيد، فقال عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، فكيف في إمامه قد أشكلت على المسلمين! فقالوا: إنه قد حكم عليه فلم يرض، فقال: إن الحكومة كالإمامة، ومتى فسق الإمام وجبت معصيته، وكذلك الحكمان   1 ر: "لا ينبغي". 2 سورة المائدة 95. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 لما خالفا نبذت أقاويلهما فقال بعضهم لبعض: لا تجعلوا احتجاج قريش حجة عليكم، فإن هذا من القوم الذين قال الله عز وجل فيهم: {هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 1، وقال عز وجل: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} 2.   1 سورة الزخرف 58. 2 سورة مريم 97. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 الفتوى فيمن أصاب صيداً وهو محرم والشيء يذكر بالشيء. وجاء في الحديث أن رجلاً أعرابياً1 أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني أصبت ظبياً وأنا محرم، فالتفت عمر إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال: قل، فقال عبد الرحمن: يهدي شاة، فقال عمر: أهد شاة. فقال الأعرابي: والله ما درى أمير المؤمنين ما فيها حتى استفتى غيره! فخفقه عمر رضوان الله عليه بالدرة، وقال: أتقتل في الحرم وتغمص الفتيا! إن الله عز وجل قال: {حْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، فأنا عمر بن الخطاب، وهذا عبد الرحمن بن عوف. وفي هذا الحديث ضروب من الفقه؛ منها ما ذكروا أن عبد الرحمن بن عوف قال أولاً، ليكون قول الإمام حكماً قاطعاً ومنها أنه رأى أن الشاة مثل الظبية، كما قال الله عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} . وأنه لم يسأله: أخطأ قتلته3 أم عمداً? وجعل الأمرين واحداً. ومنها أنه لم يسأله: أقتلت صيداً قبله وأنت محرم? لأن قوماً يقولون: إذا أصاب ثانية لم يحكم عليه، ولكنا نقول له4: اذهب فاتق الله، لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} 5.   1 نقل المرصفي عن ابن الأثير أنه قبيصة بن هانئ أحد التابعين. 2 سورة المائدة 95. 3 ر: "قتله". وما أثبته عن الأصل. 4 كلمة "له" ساقطة من ر. 5 سورة المائدة 95. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 قول قطري بن الفجاءة لأبي خالد القناني ورد أبي خالد عليه من طريف أخبار الخوارج قول قطري بن الفجاءة المازني لأبي خالد القناني وكان من قعد الخوارج: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 أبا خالد إنفر فلست بخالد1 ... وما جعل الرحمن عذراً لقاعد أتزعم أن الخارجي على الهدى ... وأنت مقيم بين لص وجاحد! فكتب إليه أبو خالد: لقد زاد الحياة إلي حباً ... بناتي، إنهن من الضعاف أحاذر أن يرين الفقر بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صاف2 وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كوم عجاف3 ولولا ذاك قد سومت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كاف أبانا من لنا إن غبت عنا ... وصار الحي بعدك في اختلاف4!   1 ر: "يا انفر", وما أثبته عن الأصل. س. 2 الرنق: الكدر. 3 العجاف: جمع عجفاء. وهي الهزيلة التي ذهب سمنها. 4 ما بين العلامتين من زيادات ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 من أخبار عمران بن حطان وأشعاره هذا خلاف ما قال عمران بن حطان، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهب بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وكان1 رأس القعد من الصفرية وخطيبهم وشاعرهم، قال: لما قتل أبو بلال، وهو مرداس بن أدية وهي جدته، وأبوه حدير، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، قال عمران بن حطان: لقد زاد الحياة إلى بغضاً ... وحباً للخروج أبو بلال أحاذر أن أموت على فراشي ... وأرجو الموت تحت ذرا العوالي ولو أني علمت بأن حتفي ... كحتف أبي بلال لم أبالي فمن يك همه الدنيا فإني ... لها والله رب البيت قال وفيه يقول: يا عين بكي لمرداس ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس   1 ر: "وقد كان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما الناس بعد يا مرداس بالناس إما شربت بكأس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكل من لم يذقها شارب عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس وكان من حديث عمران بن حطان فيما حدثني العباس بن الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أنه لما أطرده الحجاج كان ينتقل في القبائل، فكان إذا نزل في حي انتسب نسباً يقرب منه، ففي ذلك يقول: نزلنا في نبي سعد بن زيد ... وفي عك وعامر عوبثان1 وفي لخم وفي أدد بن عمرو ... وفي بكر وحي بني العدان ثم خرج حتى نزل عند روح بن زنباع الجذامي، وكان روح يقرع الأضياف، وكان مسامراً لعبد الملك بن مروان أثيراً عنده2، فانتمى له من الأزد. وفي غير هذا الحديث أن عبد الملك ذكر روحاً فقال: من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة! أعطي فقه أهل الحجاز، ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام. رجع الحديث: وكان روح بن زنباع لا يسمع شعراً نادراً ولا حديثاً غريباً عند عبد الملك فيسأل عنه عمران بن حطان إلا عرفه وزاد فيه، فذكر ذلك لعبد الملك، فقال: إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه، فقال: خبرني ببعض أخباره، فخبره وأنشده، فقال: إن اللغة عدنانية، وأني لأحسبه عمران بن حطان؛ حتى تذاكروا ليلة قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم لعنه الله: يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره حيناً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا3 فلم يدر عبد الملك لمن هو، فرجع روح إلى عمران بن حطان، فسأله عنه.   1 في الأصل: "عوثبان", وما أثبته عن ر. وهو يوافق ما في القاموس. 2 أثيرا: مكرما. 3 زيادات ر: "قلبه الفقيه الطبري" فقال: ياضربة من شقى ما أراد بها ... إلا ليهدم من ذي العرش بنيانا إني لأذكره يوما فألعنه ... إيها والعن عمران بن حطانا قال محمد بن أحمد الطبيب يرد على عمران بن حطان: ياضربة من غدور صار ضاربها ... أشقى البرية عند الله إنسانا إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه ... وألعن الكلب عمران بن حطانا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 فقال عمران: هذا يقوله عمران بن حطان، يمدح به عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له عبد الملك: ضيفك عمران بن حطان، إذهب فجئني به، فرجع إليه، فقال: إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك، قال عمران: قد أردت أن أسألك ذلك فاستحييت منك، فامض فإني بالأثر، فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره، فقال له1 عبد الملك: أما إنك سترجع فلا تجده! فرجع وقد ارتحل عمران، وخلف رقعة فيها: يا روح كم من أخي مثوى نزلت به ... قد ظن ظنك نم لخم وغسان حتى إذا جفته فارقت منزله ... من بعد ما قيل عمران بن حطان قد كنت جارك حولاً ما تروعني ... فيه روائع من إنس ومن جان حتى أردت بي العظمى فأدركني ... ما أدرك الناس من خوف ابن مروان فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له ... في النائبات خطوباً ذات ألوان يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني وكنت مستغفراً يوماً لطاغية ... كنت المقدم في سري وإعلاني لكن أبت لي آيات مطهرة ... عند الولاية في طه وعمران ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث الكلابي، أحد بي عمرو بن كلاب. فانتسب له أوزاعياً وكان عمران يطيل الصلاة، وكان غلمان من بني عامر يضحكون منه، فأتاه رجل يوماً ممن رآه عند روح بن زنباع فسلم عليه، فدعاه زفر فقال: من هذا? فقال: رجل من الأزد، رأيته ضيفاً لروح بن زنباع، فقال له زفر: يا هذا، أأزدياً2 مرة وأوزاعياً مرة! إن كنت خائفاً أمناك3، وإن كنت فقيراً جبرناك. فلما أمسى هرب وخلف في منزله رقعة فيها:   1 كلمة "له" ساقطة من ر. 2 ر: "أزديا؟ " 3 ر: "آمناك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 إن التي أصبحت يعيا بها زفر ... أعيت عياء على روح بن زنباع قال أبو العباس: أنشدن1 الرياشي: أعيا عياها على روح بن زنباع وأنكره كما أنكرناه، لأنه قصر الممدود، وذل كفي الشعر جائز، ولا يجوز مد المقصور: ما زال يسألني حولاً لأخبره ... والناس من بين مخدوع وخداع حتى إذا انقعطت عني وسائله ... كف السؤال ولم يولع بإهلاعي فاكفف كما كف عني إنني رجل ... إما صميم وإما فقعة القاع واكفف لسانك عن لومي ومسألتي ... ماذا تريد إلى شيخ لأوزاع! أما الصلاة فإني لست تاركها2 ... كل امرئ للذي يعني به ساع أكرم بروح بن زنباع وأسرته ... قوم دعا أوليهم للعلا داع جاوزتهم سنة فيما أسر به ... عرضي صحيح ونومي غير تهجاع فاعمل فإنك منعي بواحدة ... حسب اللبيب بهذا الشيب من ناع ثم ارتحل حتى أتى عمان، فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال ويظهرونه، فأظهر أمره فيهم، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامل3 عمان، فارتحل عمران هارباً، حتى أتى قوماً من الأزد، فلم يزل فيهم حتى مات، وفي نزوله بهم يقول: نزلنا بحمد الله في خير منزل ... نسر بما فيه من الإنس والخفر نزلنا بقوم يجمع لله شملهم ... وليس لهم عود سوى المجد يعتصر من الأزد إن الأزد أكرم أسرة4 ... يمانية قربوا إذا نسب البشر فأصبحت فيهم آمناً لا كمعشر ... أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر أم الحي قحطان? فتلكم سفاهة ... كما قال روح لي وصاحبه زفر5 وما منهما إلا يسر بنسبة ... تقربني منه وإن كان ذا نفر فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر   1 ر: "أنشدنيه". 2 ر: "غير تاركها". 3 ر: "أهل". 4 ر: "معشر". 5 ر: "لي روح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 قوله: يا روح كم من أخي مثوى نزلت به قد مر تفسيره. يقال: هذا أبو مثواي، وللأنثى: هذه أم مثواي، ومنزل الإضافة1، وما أشبهها المثوى، وكذلك قال المفسرون في قول الله عز وجل: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} 2، أي إضافته. ويقال من هذا: ثوى يثوي ثوياً كقولك: مضى يمضي مضياً، ويقال: ثواء، ومضاء، كما قال الشماخ: طال الثواء على رسم بيمؤود ... أودى وكل جديد مرة مودي وقوله: فيه روائع من إنس ومن جان الواحدة رائعة، يقال: راعني يروعني روعاً، أي أفزعني، قال الله تعالى ذكره: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} 3. ويكون الرائع الجميل، يقال: جمال رائع، يكون ذلك في الرجل والفرس وغيرهما، وأحسب الأصل فيهما واحداً؛ أنه يفرط حتى يروع، كما قال الله جل ثناؤه: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 4، للإفراط في ضيائه. والرائع؛ مهموز، وكذلك كل فعل من الثلاثة مما عينه واو أو ياء، إذا كانت معتلة ساكنة، تقول: قال يقول: وباع يبيع، وخاف يخاف، وهاب يهاب، يعتل اسم الفاعل فيهمز موضع العين، نحو قائل، وبائع، وخائف، وصائب، فإن صحت العين في الفعل، صحت في اسم الفاعل، نحو: عور الرجل فهو عاور، وصيد فهو صائد، والصيد: داء يأخذ في الرأس والعينين والشؤون. وإنما صحت في عور وحول وصيد لأنه منقول من أحوال وأعور. وقد أحكمنا تفسير هذا الكتاب المقتضب. وقوله: يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدناني   1 ر: "الضيافة". 2 سورة يوسف 21. 3 سورة هود 74. 4 سورة النور 43. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 يريد أن يوماً يمان، ولولا أن الشعر لا يصلح بالنصب لكان النصب جائزاً، على معنى أتنقل يوماً كذا ويوماً كذا، والرفع حسن جميل. وهذا الشعر ينشد نصباً: أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمصال النساء العوارك1! العوارك، هن الحوائض، وكذلك قوله: أفي الولائم أولاداً لواحدة ... وفي المحافل أولاداً لعلات! قال: العلات، سميت لأن الواحدة تعل بعد صاحبتها، وهو من العلل، وهو الشرب الثاني، أي يختلفون ويتحولون في هذه الحالات. ومن كلام العرب: أتميمياً مرة وقيسياً أخرى! وكذلك إن لم تستفهم وأخبرت قلت: تميمياً مرة علم الله وقيسياً أخرى، أي تنتقل، ومن ثم قال له زفر بن الحارث: أزدياً مرة وأوزاعياً أخرى? والرفع على أنت جيد بالغ. وقوله: لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية يكون على وجهين: لنفس طاغية، والآخر للمذكر، وزاد الهاء للتوكيد للمبالغة، كما يقال: رجل راوية وعلامة ونسابة، وكلاهما وجه. ويقال: جاءت طاغية الروم، تريد الجماعة الطاغية، كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تقتلك الفئة الباغية". وقوله: عند الولاية إذا فتحت فهو مصدر الولي وفي القرآن المجيد: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} 2. والولاية مكسورة، نحو السياسة والرياضة والإيالة، وهي الولاية، وأصله من الإصلاح، يقال:آله يؤوله أولاً، إذا أصلحه. قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا؛ تأويل ذلك: قد ولينا وولي علينا. وهذه كلمة جامعة، يقول: قد ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية.   1 الأعيار: جمع عير, وهو الحمار. والبيت من شواهد الكتاب 1-172 2 سورة الأنفال 72. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 وقوله: حتى إذا ما انقضت مني وسائله وهي الذريعة والسبب، يقال: قد توسلت إلى فلان، قال رؤبة بن العجاج: والناس إن فصلتهم فصائلا ... كل إلينا يبتغي الوسائلا وقوله: ولم يولع بإهلاعي، أي بإفزاعي وترويعي، والهلع من الجبن عند ملاقاة الأقران، يقال: نعوذ باله من الهلع، ويقال: رجل هلوع، إذا كان لا يصبر على خير ولا شر، حتى يفعل في كل واحد منهما غير الحق، قال الله عز وجل1: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً, إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً, وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} 2. وقل الشاعر: ولي قلب سقيم ليس يصحو ... ونفس ما تفيق من الهلاع وقوله: إما صميم وإما فقعة القاع الصميم: الخالص من كل شيء، يقال: فلان من صميم قومه، أين من خالصهم. وقال جرير لهشام بن عبد الملك: وتنزل من أمية حيث تلقى ... شؤون الرأس مجتمع الصميم وقوله: إما فقعة القاع يقال لمن لا أصل له، هو فقعة بقاع، وذلك لأن الفقعة لا عروق لها ولا أغصان، والفقعة الكمأة البيضاء، ويقال: حمام فقيع لبياضه، ومن ذا قول الشاعر: قوم إذا نسبوا يكون أبوهم ... عند المناسب فقعة في قرقر3 وقال بعض القرشيين: إذا ما كنت متخذاً خليلاً ... فلا تجعل خليلك من تميم بلوت صميمهم والعبد منهم ... فما أدنى العبيد من الصميم!   1 ر: "وهو أصدق القائلين". 2 سورة المعارج 19-21. 3 القرقر: الأرض المطمئنة اللينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وقوله: نسر بما فيه من الإنس والخفر فأصل الخفر شدة الحياء، يقال: امرأة خفرة، إذا كانت مستترة لاستحيائها، قال ابن نمير الثقفي: تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات وقوله: من الأزد إن الأزد أكرم أسرة يقول: عصابة وقبيلة، ويقال للرجل: من أي أسرة أنت? وأصل هذا من الاجتماع، يقال للقتب: مأسور، وقد مضى تفسيره. وينشد: يمانية قربوا إذا نسب البشر يريد قربوا وهذا جائز في كل شيء مضموم أو مكسور إذا لم يكن من حركات الإعراب، تقول في الأسماء في فخذ، وفي عضد، عضد، وتقول في الأفعال: كرم عبد الله، أي كرم، وقد علم الله، أي علم الله، قال الأخطل1: فإن أهجه يضجر كما ضجر بازل ... من الإبل دبرت صفحتاه وكاهله2 وقال آخر: عجبت لمولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان ولا يجوز في ضرب ولا في حمل أن يسكن، لخفة الفتحة. وقوله: أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر يقول: أمن ربيعة أم من مضر? ويجوز في الشعر حذف ألف الاستفهام، لأن أم التي جاءت بعدها تدل عليها، قال ابن أبي ربيعة:   1 يهجو كعب بن جعيل. 2 البازل من الإبل: ما دخل في التاسعة. ودبرت. من الدبر, وهو الجرح في ظهر الدابة. والصفحتان: الجانبان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان يريد: أبسبع? وقال التميمي: لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر! الرواية على وجهين: أحدهما: أمن ربيعة أم مضر، أم الحي قحطان? يريد أذا أم ذا? والأملح1 في الرواية: من ربيعة أو مضر، أم الحي قحطان، لأن ربيعة أخو مضر، فأراد من أحد هذين أم الحي قحطان? لأنه إذا قال: أزيد عندك أم عمرو? فالجواب: نعم أو لا، لأن المعنى أحد هذين2 عندك، ومعنى الأول: أيهما عندك?. ويروى - وحدثنيه المازني - أن صفية بنت عبد المطلب أتاها رجل، فقال لها: أين الزبير? قالت: وما تريد إليه? قال: أريد أن أباطشه! فقالت: ها هو ذاك، فصار إلى الزبير فباطشه. فغلبه الزبير، فمر بها مفلولاً3 فقالت صفية: كيف رأيت زبرا ... أأقطاً أو تمرا أم قرشياً صقرا لم تشكك بين الأقط والتمر، فتقول: أيهاما هو? ولكنها أرادت، أرأيته طعاماً أم قرشياً صقراً? أي أحد هذين رأيته أم صقراً? ولو قالت: أأقطاً أم تمراً? لكان4 محالاً على هذا الوجه. وقوله: وما منهما إلا يسر بنسبة معناه وما منها واحد، فحذف لعلم المخاطب، قال الله جل اسمه: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} 5. أي وإن أحد ومعنى إن معنى ما، قال الشاعر6: وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح يريج فمنهما تارة.   1 ر: "والأصلح". 2 ر: "لأن أحد هذين عندك". 3 مفلولا: مهزوما. 4 ر: "كان". 5 سورة النساء 159. 6 هو تميم بن أبي بن مقبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وقوله: فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولى عباد الله بالله من شكر يقول: انقطعت الولاية إلا ولاية الإسلام، لأن ولاية الإسلام قد قاربت بين الغرباء. وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. وقال عز وجل فباعد به بين القرابة: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} 2. وقال نهار بن توسعة اليشكري: دعي القوم ينصر مدعيه ... ليلحقه بذي الحسب الصميم أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم   1 سورة الحجرات 15. 2 سورة هود 46. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 أول من حكم من الخوارج ويقال فيما يروى من الأخبار إن أول من حكم عروة بن أدية - وأدية جدة له في الجاهلية1 - وهو عروة بن حدير، أحد بني ربيعة بن حنظلة. وقال قوم: بل أول من حكم رجل يقال له سعيد من بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. ولم يخلفوا في إجماعهم على عبد الله بن وهب الراسبي، وأنه امتنع عليهم، وأومأ إلى غيره، فلم يقتنعوا إلا به، فكان إمام القوم، وكان يوصف بالرأي.   1 ر: "جدة له جاهلية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 أول سيف سل من سيوفهم فأما أول سيف سل من سيوف الخوارج فسيف عروة بن أدية. وذلك أنه أقبل على الأشعث فقال: ما هذه الدنية1 يا أشعث! وما هذا التحكيم? أشرط أوثق من شرط الله عز وجل! ثم شهر عليه السيف، والأشعث مول، فضرب به عجز البغلة، فشبت البغلة فنفرت اليمانية - وكان جل أصحاب علي صلوات الله عليه - فلما رأى ذلك الأحنف قصد هو وجارية بن قدامة ومسعود بن فدكي بن أعبد، وشبث بن ربعي الرياحي إلى الأشعث. فسألوه الصفح، ففعل.   1 ر: "الدنيئة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 وكان عروة بن أدية نجا من حرب النهروان، فلم يزل باقياً مدة من خلافة معاوية، ثم أتي به زياد ومعه مولى له، فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال خيراً، ثم سأله فقال: ما تقول في أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأبي تراب علي بن أبي طالب? فتولى عثمان ست سنين من خلافته، ثم شهد عليه بالكفر! وفعل في أمر علي مثل ذلك إلى أن حكم، ثم شهد عليه بالكفر! ثم سأله عن معاوية، فسبه سباً قبيحاً! ثم سأله عن نفسه? فقال: أولك لزنية وآخرك لدعوة، وأنت بعد عاص لربك! ثم أمر به فضربت عنقه، ثم دعا مولاه فقال: صف لي أموره? فقال: أأطنب أم أختصر? فقال: بل اختصر. فقال: ما أتيته بطعام بنهار قط، ولا فرشت له فراشاً بليل قط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 مناظرة علي بن أبي طالب لهم وكان سبب تسميتهم الحرورية أن علياً رضوان الله عليه، لما ناظرهم بعد مناظرة ابن عباس رحمه الله إياهم، كان فيما1 قال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني، ثم سألوني التحكيم، أفعلمتم أنه كان منكم أحد أكره لذلك مني? قالوا: الله نعم قال: فهل علمتم أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه، فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل، فمتى2 خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وانتم3 تعلمون أن حكم الله لا يعدوني? قالوا: اللهم نعم - وفيهم من ذلك الوقت ابن الكواء، وهذا من قبل أن يذبحوا عبد الله بن حباب? فإما ذبحوه بكسكر في الفرقة الثالثة - فقالوا: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا قد كفرنا، ونحن تائبون! فاقرر بمثل ما أقررنا وتب ننهض معك إلى الشأم، فقال: أما تعلمون أن الله جل ثناؤه قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته4، فقال تبارك وتعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} 5. وفي صيد أصيب في الحرم، كأرنب تساوي ربع درهم6، فقال عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 7? فقالوا: إن عمراً لما أبى عليك   1 ر: "فكان مما". 2 ر: "فإن". 3 ر: طأو أنتم". 4 ر: "وامرأة". 5 سورة النساء 35. 6 ر: "يساوي ربع دينار". 7 سورة المائدة 95. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 أن تقول في كتابك: "هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين" محوت اسمك من الخلافة، وكتبت علي بن أبي طالب. فقال لهم رضي الله عنه: لي برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة، حيث أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: "هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو" فقال: لو أقررت1 بأنك رسول الله ما خالفتك2، ولكني أقدمك لفضلك، ثم قال: اكتب: "محمد بن عبد الله"، فقال لي: "يا علي امح رسول الله"، فقلت: يا رسول الله، لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة، فقال عليه السلام: "فقفني 3 عليه" فمحاه بيده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: "اكتب محمد بن عبد الله"، ثم تبسم إلي فقال: "يا علي، أما إنك ستسام مثلها فتعطي". فرجع معه منهم ألفان من حروراء4، وقد كانوا تجمعوا بها، فقال لهم علي صلوات الله عليه: ما نسميكم? ثم قال: أنتم الحرورية، لاجتماعكم بحروراء. والنسب إلى مثل حروراء حروراوي، فاعلم، وكذلك كل ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة لكنه نسب إلى البلد بحذف الزوائد، فقيل:الحروري.   1 ر: "أقررنا". 2 ر: "ما خلفناك". 3 ر: "قفني". 4 حروراء: قرية من الكوفه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 للصلتان العبدي وقال الصلتان العبدي في كلمة له: أرى أمة شهرت سيفها ... وقد زيد في سوطها الأصبحي بنجدية وحرورية ... وأزرق يدعو إلى أزرقي فملتنا أننا المسلمون ... على دين صديقنا والنبي وفي هذا الشعر مما يستحسن قوله: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... مر الغداة وكر العشي1 أذا ليلة عرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي   1 ر: مرور الليالي وكر العشى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 قوله: وقد زيد في سوطها الأصبحي فإنه تسمى هذه السياط التي يعاقب بها السلطان الأصبحية، وتنسب إلى ذي أصبح الحميري، وكان ملكاً من ملوك حمير، وهو أول من اتخذها، وهو جد مالك بن أنس الفقيه رضي الله عنه. والنجدية تنسب إلى نجدة بن عويمر، وهو عامر الحنفي، وكان رأساً ذا مقالة مفردة1 من مقالات الخوارج، وقد بقي من أهلها قوم كثير. وكان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعه في كل جمعة، وعبد الله يطلب الخلافة، فيمسكان عن القتال من أجل الحرم.   1 ر: "منفردة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 للراعي في عبد الملك بن مروان قال الراعي يخاطب عبد الملك: إني حلفت على يمين برة ... لا أكذب اليوم الخليفة قيلا ما إن أتيت أبا خبيب وافداً ... يوماً أريد ببيعتي تبديلا ولا أتيت نجيدة بن عويمر ... أبغي الهدى فيزيدني تضليلا من نعمة الرحمن لا من حيلتي ... إني أعد له علي فضولا وفي هذه القصيدة: أخذوا العريف فقطعوا حيزومه ... بالأصبحية قائما مغلولا1 قوله: وأزرق يدعو إلى أزرقي يريد من كان من أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكان نافع شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج، وله ولعبد الله بن عباس مسائل كثيرة، وسنذكر جملة منها في هذا الكتاب، إن شاء الله.   1 العريف: القيم بأمور القبيلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وقوله: على دين صديقنا والنبي فالعرب تفعل هذا، وهو في الواو جائز، أن تبدأ بالشيء والمقدم غيره1، قال الله عز اسمه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 2، وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 3، وقال: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 4. وقال حسان بن ثابت: بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير يعني بني هاشم ومن كلام العرب: ربيعة ومضر وقيس وخندف وسليم وعامر، وأصحاب نافع بن الأزرق هم ذوو الحد والجد5. وهم الذي أحاطوا بالبصرة حتى ترحل أكثر أهلها منها، وكان الباقون على الرحلة6، فقلد المهلب حربهم، فهزمهم إلى الفرات، ثم هزمهم إلى الأهواز، ثم أخرجهم عنها إلى فارس، ثم أخرجهم إلى كرمان، وفي ذلك يقول شاعر منهم في هذه الحرب التي صاحبها الزنج7 بالبصرة، يرثي البلد، ويذكر المنقبة التي كانت لهم: [قال الأخفش: أنشدنيه يزيد المهلبي لنفسه:] سقى الله مصراً خف أهلوه من مصر ... وماذا الذي يبقى على عقب الدهر8! ولو كنت فيه إذ أبيح حريمه ... لمت كريماً أو صدرت على عذر أبيح فلم أملك له غير عبرة ... تهيب بها أن حاردت لوعة الصدر9   1 ر: "وغيرة المقدم". 2 سورة التغابن 2 3 سورة الرحمن33. 4 سورة آل عمران 43. 5 الحد, بفتح الحاء: البأس والنفاذ في النجدة, والجد بالكسر: الجتهاد والسرعة في الأمر, قاله المرصفي. 6 ر: "الترحل". 7 صاحب الزنج: رجل ظهر أيام المهتدى بالله, وزعم أنه من ولد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب, ودعا الناس إلى طاعتة, واستمال عددا كبيرا من الزنوج, يستعين بهم على العبث والفساد, سنة 27 8 عقب الدهر: نوبه وأرزاؤه 9 العبرة: الدمعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 ونحن رددنا أهلها إذ ترحلوا ... وقد نظمت خيل الأزرق بالجسر ومن يخش أطراف المنايا فإننا ... لسنا لهن السابغات من الصبر فإن كريه الموت عذب مذاقه ... إذا ما مزجناه بطيب من الذكر وما رزق الإنسان مثل منية ... أراحت من الدنيا ولم تخز في القبر وفي هذا الشعر: ليشكو بنو العباس نعمى تجددت ... فقد وعد الله المزيد على الشكر لقد جنبتكم أسرة حسدتكم ... فسلت على الإسلام سيفاً من الكفر وقد نغصتهم جولة بعد جولة ... يبيتون فيها المسلمين على ذعر وقال عبد الله بن قيس الرقيات: ألا طرقت من أهل بثنة طارقه1 ... على أنها معشوقة الدل عاشقه تبيت وأرض السوس بيني وبينها ... وسولاف رستاق حمته الأزارقه2 إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة ... حرورية أضحت من الدين مارقه   1 ر: "بيبة". 2 سولاف: قرية من أرض خوزستان. والرستاق اسم للسواد والقرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 من أخبارهم يوم النهروان وكان مقدار من أصاب علي صلوات الله عليه منهم بالنهروان ألفين وثماني مائة، في أصح الأقاويل، وكان عددهم ستة آلاف، وكان منهم بالكوفة زهاء ألفين ممن يسر أمره ولم يشهد الحرب، فخرج منهم رجل بعد أن قال علي رضوان الله عليه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتلة وشرك في دمه! ثم حمل منهم رجل على صف علي، وقد قال علي: لا تبدأوهم بقتال، فقتل من أصحاب علي ثلاثة وهو يقول: أقتلهم ولا أرى عليا ... ولو بدا أوجره الخطيا فخرج إليه علي صلوات الله عليه فقتله، فلما خالطه السيف، قال: حبذا الروحة إلى الجنة! فقال عبد الله بن وهب: ما أدري أإلى الجنة أم إلى النار! فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 رجل من سعد: إما حضرت اغتراراً بهذا، وأراه قد شك! فانخزل بجماعة من أصحابه، ومال ألف إلى ناحية أبي أيوب الأنصاري، وكان رحمه الله على ميمنة علي، وجعل الناس يتسللون، وقد قال علي وقيل له: إنهم يريدون الجسر. فقال: لن يبلغوا النطفة، وجعل الناس يقولون له في ذلك، حتى كادوا يشكون، ثم قالوا: قد رجعوا يا أمير المؤمنين، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت، ثم خرج إليهم في أصحابه، وقد قال لهم: إنه والله ما يقتل منكم عشرة ولا يفلت منكم عشرة، فقتل من أصحابه تسعة، وأفلت منهم ثمانية. وقال أبو العباس: وقيل أول من حكم ولفظ بالحكومة ولم يشد بها رجل من بني سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر، ثم1 من بني صريم، يقال له الحجاج بن عبد الله، ويعرف بالبرك، وهو الذي ضرب معاوية على أليته، فإنه لما سمع بذكر الحكمين قال: أيحكم في دين الله! فسمعه سامع فقال: طعن والله فأنفذ. وأول من حكم بين الصفين رجل من بني يشكر بن بكر بن وائل، فإنه كان في أصحاب علي، فحمل على رجل منهم فقتله غيلة، ثم مرق بين الصفين فحكم، وحمل على أصحاب معاوية، فكثروه، فرجع إلى ناحية عل صلوات الله عليه، فحمل على رجل منهم، فخرج إليه رجل من همدان فقتله، فقال شاعر همدان: ما كان أغنى اليشكري عن التي ... تصلى بها جمراً من النار حاميا غداة ينادي والرماح تنوشه ... خلعت علياً بادياً ومعاويا2 وجاء في الحديث، أن عليا رضي الله عنه تلي بحضرته: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً, الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3، فقال علي: أهل حروراء منهم. وروي عن علي صلوات الله عليه أنه خرج في غداة يوقظ الناس للصلاة في المسجد، فمر بجماعة تتحدث، فسل وسلموا عليه، فقال وقبض على لحيته: ظننت أن فيكم أشقاها، الذي يخضب هذه من هذه. وأومأ بيده إلى هامته ولحيته.   1 كلمة"ثم" ساقطة من ر. 2 تنوخم: تناله. 3 سورة الكهف 104,103. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 من شعر علي بن أبي طالب ومن شعر علي بن أبي طالب رحمه الله الذي لا اختلاف فيه أنه قاله، وأنه كان يردده، أنهم لما ساموه أن يقر بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام، فقال: أبعد صحبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرفقة في الدين أرجع كافراً!: يا شاهد الله علي فاشهد ... أني على دين النبي أحمد من شك في الله فإني مهتدي ويروى: أني توليت ولي أحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 في تقسيم غنائم خيبر ويروى أن رجلاً أسود شديد بياض الثياب، وقف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقسم غنائم خيبر - ولم تكن إلا لمن شهد الحديبية - فأقبل ذلك الأسود على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ماعدلت منذ اليوم! فغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى رئي الغضب في وجهه. فقال عمر بن الخطاب: ألا أقتله يا رسول الله? فقال رسول الله: "إنه سيكون لهذا ولأصحابه نبأ". وفي حديث آخر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: "ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل?" ثم قال لأبي بكر: "اقتله" فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله، رأيته راكعاً، ثم قال لعمر: "اقتله", فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله رأيته ساجداً، ثم قال لعلي: "اقتله", فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله لم أره، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو قتل هذا ما اختلف اثنان في دين الله". قال أبو العباس: وحدثني إبراهيم بن محمد التميمي قاضي البصرة في إسناد ذكره، أن علياً رضي الله عنه وجه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذهبة من اليمن، فقسمها أرباعاً فأعطى ربعاً للأقرع بن حابس المجاشعي، وربعاً لزيد الخيل الطائي، وربعاً لعيينة بن حصن الفزاري، وربعاً لعلقمة بن علاقة الكلابي. فقام إليه رجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 مضطرب الخق غائر العينين، ناتئ الجبهة، فقال: رأيت قسمة ما أريد بها وجه الله!، فغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تورد خداه، ثم قل: "أيأمنني الله عز وجل على أهل الأرض ولا تأمنوني? "! فقام إليه عمر فقال: ألا أقتله يا رسول الله? فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه سيكون من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، تنظر في النصل 1 فلا ترى شيئاً، وتنظر في الرصاف 2 فلا ترى شيئاً، وتتمارى في الفوق" 3. قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ضئضئ هذا" أي من جنس هذا. يقال: فلان من ضئضئ صدق، في محتد صدق4، وفي مركب صدق. وقال جرير للحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو ابن عم الحجاج، وكان عامله على البصرة: أقبلن من ثهلان أو وادي حيم ... على قلاص مثل خيطان السلم5 إذا قطعن علما بدا علم ... حتى أنخناها إلى باب الحكم خليفة الحجاج غير المتهم ... في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم ويقال: مرق السهم من الرمية، إذا نفذ منها، وأكثر ما يكون ذلك ألا يعلق به من دمها شيء، وأقطع ما يكون السيف إذا سبق الدم. قال امرؤ القيس بن عابس الكندي: وقد أختلس الضربـ ... ـة لا يدمى لها نصلي فأما ما وضعه الأصمعي في كتاب الاختيار. فعلى غلط وضع.   1 النصل: حديدة السهم والسيف. 2 الرصاف: عصب يشد على سنخ النصل. 3 الفوق: مشق رأس السهم. 4 ر: "ومن مجتد". 5 الخيطان: جمع خوط, وهي الأغصان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 من أخبار واصل بن عطاء وذكر الأصمعي أن الشعر لإسحاق بن سويد الفقيه، وهو لأعرابي لا يعرف المقالات التي يميل إليها أهل الأهواء، أنشد الأصمعي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب ولكني أحب بكل قلبي ... وأعلم أن ذاك من الصواب رسول الله والصديق حباً ... به أرجو غداً حسن الثواب فإن قوله: من الغزال منهم يعني واصل بن عطاء، وكان يكنى أبا حذيفة، وكان معتزلياً، ولم يكن غزالاً، ولكنه كان يلقب بذلك، لأنه كان يلزم الغزالين، ليعرف المتعففات من النساء، فيجعل صدقته لهن، وكان طويل العنق. ويروى عم عمرو بن عبيد، أنه نظر إليه من قبل أن يكلمه، فقال: لا يفلح هذا ما دامت عليه هذه العنق!. وقال بشار بن برد يهجو واصل بن عطاء: ماذا منيت بغزال له عنق ... كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا1 عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... تكفرون رجالاً أكفروا رجلا! ويروى: لا بل2، كأنه لا يشك فيه، أن بشاراً كان يتعصب للنار على الأرض ويصوب رأي إبليس - لعنه الله - في امتناعه من السجود لآدم عليه السلام، ويروى له: الأرض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار فهذا ما يرويه المتكلمون. وقتله المهدي على الإلحاد، وقد روى قوم أن كتبه فتشت فلم يصب فيها شيء مما كان يرمى به وأصيب له كتاب فيه: إني أردت هجاء آل سليمان بن علي،   1 النقنق: الظليم. والدو: الفلاة الواسعة. ومثل: أي أيام. 2 قال الملرصفي: هذه عبارة سخيفة, يريد أن السبب في هجائه ليس ما ذكره بشار من نسبه الكفر إلى أصحابه, إذ نسبوه إلي واصل, وإنما السبب ما بلغه من إنكار واصل قوله يفضل النار وبصوب رأي إبليس. وكلمة" كأنه لا شك فيه" معترضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 فذكرت قرابتهم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمسكت عنهم1. [إلا أني قلت: دينار آل سليمان ودرهمهم ... كبابليين حفاً بالعفاريت لا يرجيان ولا يرجى نوالهما ... كما سمعت بهاروت وماروت] 2 وحدثني المازني قال: قال رجل لبشار: أتأكل اللحم وهو مباين لديانتك? - يذهب به3 إلى أنه ثنوي - قال: فقال بشار: ليسوا يدرون أن هذا4 اللحم يدفع عني شر هذه الظلمة. وكان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان ألثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلص كلامه من الراء، ولا يفطن بذلك5 لاقتداره وسهولة ألفاظه ففي ذلك يقول شاعر من المعتزلة، يمدحه بإطالته الخطب واجتنابه الراء، على كثرة ترددها في الكلام، حتى كأنها ليست فيه: عليم بإبدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يغلب الحق باطله وقال آخر: ويجعل البر قمحاً في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر ولم يطق مطراً والقول يعجله ... فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر ومما حكي6 عنه قوله وذكر بشاراً: أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله! أما والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه، ثم لا يكون إلا سدوسياً أو عقيلياً. فقال: هذا الأعمى ولم يقل بشاراً، ولا ابن برد، ولا الضرير. وقال: من أخلاق الغالية ولم يقل المغيرية ولا المنصورية. وقال: لبعثت إليه، ولم   1 د: "منهم". 2 ما بين العلامتين من زيادات ر. 3 كلمة "به" ساقطة من ر. 4 كلمة "هذا" ساقطة من ر. 5 ر: "بذاك". 6 ر: "يحكى". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 يقل: لأرسلت إليه، وقال: على مضجعه، ولم يقل: على فراشه، ولا مرقده، وقال: يبعج، ولم يقل: يبقر، وذكر بني عقيل، لأن بشاراً كان يتوالى إليهم، وذكر بني سدوس، لأنه كان نازلاً فيهم. واجتناب الحروف شديد. وقال: لما سقطت ثنايا عبد الملك بن مروان في الطست1 قال: والله لولا الخطبة والنساء ما حفلت بها. قال: وخطب الجمحي، وكان منزوع إحدى الثنيتين، وكان يصفر إذا تكلم، وأجاد2 الخطبة، وكانت لنكاح، فرد عليه زيد بن علي بن الحسين كلاماً جيداً، إلا أنه فضله بتمكين3 الحروف وحسن مخارج الكلام. فقال عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر يذكر ذلك: صحت مخارجها وتم حروفها ... فله بذاك مزية ولا تنكر المزية: الفضيلة. وأما قوله: ابن باب فهو4 عمرو بن عبيد بن باب، وهو5 مولى بني العدوية، من بني مالك بن حنظلة، فهذان معتزليان وليسا من الخوارج، ولكن قصد إسحاق بن سويد إلى أهل البدع والأهواء، ألا تراه ذكر الرافضة معهما. فقال: ومن قوم إذا ذكروا علياً ... أشاروا بالسلام على السحاب ويروى: يردون السلام على السحاب   1 ساقطة من ر. 2 ر: "فأجاد". 3 ر: "يتمكن". 4 ر: "فإنه". 5 ر: "وكان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم نرجع إلى ذكر الخوارج. قال أبو العباس: فلما قتل علي بن أبي طالب أهل النهروان، وكان بالكوفة زهاء ألفين من الخوارج؛ ممن لم يخرج مع عبد الله بن وهب، وقوم ممن استأمن إلى أبي أيوب الأنصاري، فتجمعوا وأمروا عليهم رجلاً من طيئ، فوجه إليهم علي رجلاً، وهم بالنخيلة، فدعاهم ورفق بهم، فأبوا، فعاودهم فأبوا، فقتلوا جميعاً، فخرجت طائفة منهم نحو مكة، ووجه1 معاوية من يقيم للناس حجهم، فناوشه هؤلاء الخوارج، فبلغ ذلك معاوية ووجه معاوية بسر بن أرطأة، أحد بن عامر بن لؤي، فتوافقوا وتراضوا بعد الحرب بأن يصلي بالناس رجل من بني شيبة، لئلا يفوت الناس الحج، فلما انقضى نظرت الخوارج في أمرها، فقالوا: إن علياً ومعاوية قد أفسدا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهما لعاد الأمر إلى حقه! وقال رجل من أشجع: والله ما عمرو دونهما، وإنه لأصل هذا الفساد، فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا أقتل علياً، فقالوا: وكيف لك به? قال: أغتاله. فقال الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك: وأنا أقتل معاوية، وقال زاذويه مولى بني العنبر بن عمرو بن تميم: وأنا أقتل عمراً. فأجمع رأيهم على أن يكون قتلهم في ليلة واحدة، فجعلوا تلك الليلة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، فخرج كل واحد منهم إلى ناحية، فأتى ابن ملجم الكوفة، فأخفى فسه وتزوج امرأة يقال لها قطام بنت علقمة من تيم الرباب، وكانت ترى رأي الخوارج - والأحاديث تختلف وإنما يؤثر صحيحها - ويروى في بعض الحديث2 أنها قالت: لا أقتنع منك إلا بصداق أسميه لك، وهو ثلاثة آلاف درهم، وعبد وأمة، وأن تقتل علياً. فقال لها: لك ما سألت، وكيف3 لي به? قالت تروم ذلك غيلة، فإن سلمت أرحت الناس من شر، وأقمت مع أهلك، وإن أصبت خرجت4 إلى الجنة ونعيم لا يزول، فأنعم لها5، وفي ذلك يقول6: ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالحسام المصمم7   1 ر: "فوجه". 2 ر: "الأحاديث". 3 ر: "فكيف". 4 ر: "سرت". 5 أي قال لها نعم. 6 قال المرصفي: بل قائله ابن أبي مياس المرادي. 7 قبله: ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام من فصيح وأعجم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم وقد ذكروا أن القاصد إلى معاوية يزيد بن ملجم، والقاصد إلى عمرو آخر من بني ملجم، وأن أباهم نهاهم. فلما عصوه قال: استعدوا للموت، وأن أمهم حضتهم على ذلك. والخبر الصحيح ما ذكرت لك أول مرة. فأقام ابن ملجم، فيقال: إن امرأته قطام لامته، وقالت: ألا تمضي لما قصدت له1! لشد ما أحببت أهلك! قال: إني قد وعدت صاحبي وقتاً بعينه وكان هنالك رجل من أشجع. يقال له شبيب، فواطأه بعد الرحمن. ويروى أن الأشعث نظر إلى عبد الرحمن متقلداً سيفاً في بني كندة، فقال: يا عبد الرحمن، أرني سيفك. فأراه إياه2، فرأى سيفاً جديداً، فقال: ما تقلدك هذا3 السيف وليس بأوان حرب! فقال: إني أردت أن أنحر به جزور القرية! فركب الأشعث بغلته، وأتى علياً صلوات الله عليه فخبره. وقال له: قد عرفت بسالة ابن ملجم وفتكه، فقال علي: ما قتلني بعد. ويروى أن علياً رضوان الله عليه كان يخطب مرة ويذكر أصحابه، وابن ملجم تلقاء المنبر، فسمع وهو يقول: والله لأريحنهم منك! فلما انصرف علي صلوات الله إلى بيته أتي به ملبباً، فأشرف عليهم، فقال: ما تريدون? فخبروه بما سمعوا، فقال: ما قتلني بعد؛ فخلوا عنه. ويروى أن علياً كان يتمثل إذا رآه ببيت عمرو بن معدي كرب في قيس بن مكشوح المرادي والمكشوح هبيرة، وإنما سمي بذلك لأنه ضرب على كشحه: أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد   1 كلمة "له" ساقطة من ر. 2 كلمة "إياه" ساقطة من ر. 3 كلمة "هذا" ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 فينتفي من ذلك، حتى أكثر عليه، فقال له المرادي: إن قضي شيء كان. فقيل لعلي: كأنك قد عرفت وعرفت ما يريد بك، أفلا تقتله? فقال: كيف أقتل قاتلي. فلما كان ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، خرج ابن ملجم وشبيب الأشجعي، فاعتورا الباب الذي يدخل منه علي رضي الله عنه، وكان علي يخرج1 مغلساً، ويوقظ الناس للصلاة، فخرج كما كان يفعل، فضربه شبيبل فأخطأه، وأصاب سيفه الباب، وضربه ابن ملجم على صلعته، فقال علي: فزت ورب الكعبة! شأنكم بالرجل. فيروى عن بعض من كان في المسجد2 من الأنصار قال: سمعت كلمة علي، ورأيت بريق السيف. فأما ابن ملجم فحمل على الناس بسيفه فأفرجوا له، وتلقاه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بقطيفة، فرمى بها عليه، واحتمله فضرب به الأرض، وكان المغيرة أيداً، فقعد على صدره. وأما شبيب فانتزع السيف منه رجل من حضرموت، وصرعه وقعد على صدره. وكثر الناس، فجعلوا يصيحون: عليكم صاحب السيف، فخاف الحضرمي أن يكبوا عليه ولا يسمعوا عذره فرمى بالسيف، وانسل شبيب بين الناس فدخل بابن ملجم3 على علي رضوان الله عليه، فأومر فيه، فاختلف الناس في جوابه. فقال علي: إن أعش فالأمر لي4، وإن5 أصب فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وأن تعفوا أقرب للتقوى. وقالوا قوم: بل قال: وإن أصب فاقتلوه في مقتله فأقام علي يومين، فسمع ابن ملجم الرنة من الدار، فقال له من حضره: أي عدو الله! إنه لا بأس على أمير المؤمنين، فقال: أعلى من تبكي أم كلثوم6 ? أعلي? أما والله لقد اشتريت سيفي بألف درهم، وما زلت أعرضه، فما يعيبه أحد إلا أصلحت ذلك العيب، ولقد سقيته7 السم حتى لفظه، ولقد ضربته ضربة لو قسمت على من بالمشرق لأتت عليهم. ومات علي صلوات الله ورضوانه عليه ورحمته في آخر اليوم الثالث. فدعا عبد الرحمن بالحسن8 رضي الله عنه. فقال: إن لك عندي سراً. فقال الحسن   1 ساقطة من ر. 2 ر: "بالمسجد". 3 ساقط من ر. 4 ر: "إي". 5 "وإن أصبت فاضربوه ضربة في مقتله". 6 هي أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب, زوج عمر بن الخطاب. 7 ر: "أسقيته". 8 ر: "فدعا به الحسن". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 رضوان الله عليه: أتدرون ما يريد? يريد أن يقرب من وجهي فيعض أذني فيقطعها، فقال: أما والله لو أمكنني منها لاقتلعتها من أصلها! فقال الحسن: كلا والله. لأضربنك ضربة تؤديك إلى النار، فقال: لو علمت أن هذا في يدك1 ما اتخذت إلهاً غيرك، فقال عبد الله بن جعفر: يا أبا محمد، ادفعه إلي أشف نفسي إنك يا ابن أخي لتكحل عمك بملمولين2 مضاضين3، وقال قوم: بل قطع يديه ورجليه، وقال قوم: بل قطع رجليه، وهو في ذلك يذكر الله عز وجل. ثم عمد إلى لسانه فشق ذلك عليه، فقيل له: لم تجزع من قطع يديك ورجليك ونراك قد جزعت من قطع لسانك! فقال: نعم، أحببت أن لا يزال فمي يذكر الله رطباً، ثم قتله. ويروى أن عليا رضي الله عنه أتي بابن ملجم وقيل له: إنا قد سمعنا من هذا كلاماً ولا4 نأمن قتله لك? ثم قال علي رضوان الله عليه: اشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا5 ولا تجزع من الموت ... إذا حل بواديكا والشعر إنما يصح بأن تحذف اشدد فتقول: حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيكا ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما عليه المعنى، ولا يعتدون به في الوزن، ويحذفون من الوزن، علماً بأن المخاطب يعلم ما يريدونه. فهو إذا قال: حيازيمك للموت، فقد أضمر أشدد فأظهره، ولم يعتد. قال: وحدثني أبو عثمان المازني قال: فصحاء العرب ينشدون كثيراً:   1 ر: "في يديك". 2 الملمول: الحبل يكتحل به. 3 أي جارين. 4 ر: "فلا". 5 الحيزوم: ما اشتمل عليه الصدر, يقال للرجل: اشدد حيازيمك, أي وطن نفسك على الأمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 لسعد بن الضباب إذا غدا ... أحب إلينا منك فا فرس حمر1 وإنما الشعر: لعمري لسعد بن الضباب إذا غدا وأما الحجاج بن عبد الله الصريمي - وهو البرك - فإنه ضرب معاوية مصلياً، فأصاب مأكمته2، وكان معاوية عظيم الأوراك, فقطع منه عرقا يقال له3 عرق النكاح, فلم يولد لمعاوية بعد ذلك ولد. فلما أخذ قال: الأمان والبشارة، قتل علي في هذه الصبيحة، فاستؤني به حتى جاء الخبر، فقطع معاوية يده ورجله، فأقام بالبصرة، ثم بلغ4 زياداً أنه قد ولد له، فقال: أيولد له وأمير المؤمنين لا يولد له! فقتله. هذا أحد الخبرين. ويروى أن معاوية قطع يديه ورجليه، وأمر باتخاذ المقصورة، فقيل لابن عباس بعد ذلك: ما تأويل المقصورة? فقال: يخافون أن يبهظهم5 الناس. وأما زاذويه، فإنه أرصد لعمرو، واشتكى عمرو بطنه، فلم يخرج للصلاة. فخرج6 خارجة7، وهو رجل من بني سهم بن عمرو بن هصيص، رهط عمرو بن العاص، فضربه زاذويه فقتله، فلما دخل به على عمرو فرآههم يخاطبونه بالإمرة قال: أو ما قتلت عمراً! قيل: لا، قتلت خارجة، فقال: أردت عمراً وأراد الله خارجة8.   1 لامرئ القيس بن حجر. ديوانه 139. 2 المأكمة: واحدة المأكمتين, وهما اللحمتان اللتان على رءوس الوركين. 3 كلمة "له" ساقطة من ر. 4 ر:"فبلغ". 5 يبهظهم: يغلبهم. 6 ر: "دخرج". 7 هو خارجة بن حذافة, له صحبة. 8 ر: "والله أراد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 لأبي زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالب وقال أبو زبيد الطائي يرثي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: إن الكرام على ما كان من خلق ... رهط امرئ خاره للدين مختار طب بصير بأضغان الرجال ولم ... يعدل بخبر رسول الله أخبار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وقطرة قطرت إذ حان موعدها ... وكل شي له وقت ومقدار حتى تنصلها في مسجد طهر ... على إمام هدى إن معشر جاروا حمت ليدخل جنات أبو حسن ... وأوجبت بعده للقاتل النار قوله خاره يعني1: اختاره، وهو فعله واختاره افتعله كما تقول: قدر عليه، واقتدر عليه. وقوله: بصير بأضغان الرجال، فهي أسرارها ومخبآتها. قال الله تعالى: {فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} 2. والخبر: العالم. ويروى أن علياً رضوان الله عليه مر بيهودي يسأل مسلماً عن شيء من أمر الدين، فقال له علي: اسألني ودع الرجل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت خبر، أي عالم، قال علي عليه السلام: أن تسأل عالماً أجدى عليك3. وقوله: حتى تنصلها، يريد استخرجها. وقوله: حمت، معناه قدرت.   1 ر: "إنما هو". 2 سورة محمد 73. 3 ر: "أجى لك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 للكميت في رثائه أيضا قال الكميت: والوصي الذي أمال التجوبي ... به عرش أمة لانهدام قتلوا يوم ذاك إذ قتلوه ... حكماً لا كغابر الحكام الإمام الزكي والفارس المعلم ... تحت العجاج غير الكهام راعياً كان مسجحاً ففقدنا ... هـ وفقد المسيم هلك السوام1 وله: الوصي فهذا شيء كانوا يقولنه ويكثرون فيه. قال ابن قيس الرقيات: نحن منا النبي أحمد الصديـ ... ـق منا التقي والحكماء   1 مسجحا: سهلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وعلي وجعفر ذو الجناحين ... هناك الوصي والشهداء وقال كثير لما حبس عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية في خمسة عشرة رجلاً من أله في سجن عارم: تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المحبوس في سجن عارم وصي النبي المصطفى وابن عمه ... وفكاك أعناق وقاضي مغارم أراد ابن وصي النبي. والعرب تقيم المضاف إليه في هذا الباب مقام المضاف، كما قال الآخر: صبحن من كاظمة الخص الخرب ... يحملن عباس بن عبد المطلب يريد ابن عباس رضي الله عنه. وقال الفرزدق لسليمان بن عبد الملك: ورثتم ثياب المجد فهي لبوسكم ... عن ابني مناف: عبد شمس وهاشم يريد ابني عبد مناف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 لأبي الأسود الدؤلي في آل البيت وقال أبو الأسود: أحب محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزة والوصيا أحبهم لحب الله حتى ... أجيء إذا بعثت على هويا هوى أعطيته منذ استدارت ... رحى الإسلام لم يعدل سويا1 يقول الأرذلون بنو قشير: ... طوال الدهر ما تنسى عليا! بنو عم النبي وأقربوه ... أحب الناس كلهم إليا فإن يك حبهم رشدا أصبه ... وليس بمخطئ إن كان غيا2   1 زيادات: "السوي والسواء: الذي قد سوى الله خلقه, لا زمانة به ولاداء, وفي القرآن: "بشر سويا" وتقول: ساويت ذاك بهذا الأمر, أي جعلته مثلا له. 2 زيادات ر: "ويروى: وليست". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 وكان بنو قشير عثمانية، وكان أبو الأسود نازلاً فيهم، فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصبح شكا ذلك، فشكاهم مرة، فقالوا له1: ما نحن نرميك ولكن الله يرميك! فقال: كذبتم والله، لو كان الله يرميني لما أخطأني. قال: وكان نقش خاتمه: يا غالبي حسبك من غالب ... إرحم علي بن أبي طالب وقوله: غير الكهام فالكهام: الكليل من الرجال والسيوف، يقال: سيف كهام. وقوله: راعياً كان مسجداً فقدناه ... وفقد المسيم هلك السوام فالمسيم الذي يسيم إبله أو غنمه ترعى، وكذلك كل شيء من الماشية، فجعل الراعي للناس كصاحب الماشي الذي يسيمها ويسوسها ويصلحها، ومتى لم يرجع أمر الناس إلى واحد فلا نظام لهم، ولا اجتماع لأمورهم. قال ابن قيس الرقيات: أيها المشتهي فناء قريش ... بيد الله عمرها والفناء إن تودع من البلاد قريش ... لا يكن بعدهم لحي بقاء لو تقفى ويترك الناس كانوا ... غنم الذئب غاب عنها الرعاء وقال الحميري يعني علياً رضوان الله عليه: كان المسيم ولم يكن إلا لمن ... لزم الطريقة واستقام مسيما ولما سمع علي صلوات الله عليه نداءهم لا حكم إلا لله قال: كلمة عادلة يراد بها جور. إنما يقولون: لا إمارة، ولا بد من إمارة برة أو فاجرة. ورووا إن عليا عليه السلام لما أوصى إلى الحسن في وقف أمواله وأن يجعل فيها ثلاثة من مواليه وقف فيها عين أبي نيزر2 والبغيبغة فهذا3 غلط، لأن وقفه هذين4 الموضعين لسنتين من خلافته.   1 كلمة "له" ساقطة من ر. 2 كذا ضبط في الأصل. بفتح النون, وفي حاشية عن الصحاح: "نبرز" بكسر النون. 3 ر: "وهذا". 4 ر: "لهذين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وقف عين أبي نيزر حدثنا أبو ملحم محمد بن هشام في إسناد ذكره أخوه أبو نيزر، وكان أبو نيزر من أبناء بعض ملوك الأعاجم، قال: وصح عندي بعد أنه من ولد النجاشي - 1يعني أبا نيزر - فرغب في الإسلام صغيراً، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم. وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله صار مع فاطمة وولدها عليهم السلام. قال أبو نيزر: جاءني علي بن أبي طالب وأنا أقوم بالضيعتين: عين أبي نيزر والبغيبغة2، فقال لي: هل عندك طعام? فقلت: طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين، قرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة3، فقال: علي به، فقام إلى الربيع وهو جدول فغسل يده، ثم أصاب من ذلك شيئاً، ثم رجع إلى الربيع، فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما، ثم ضم يديه، كل واحدة منهما إلى أختها، وشرب بهما حساً4 من ماء الربيع، ثم قال: يا أبا نيزر، إن الأكف أنظف الآنية. ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه، وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثم أخذ المعول5 وانحدر في العين، فجعل يضرب، وأبطأ عليه المساء. فخرج وقد تفضج جبينه عرقا6ً. فانتكف العرق عن جبينه. ثم أخذ المعول وعاد إلى العين، فأقبل يضرب فيها، وجعل يهمهم7 فانثالث8 كأنها عنق جزور، فخرج مسرعاً، فقال: أشهد الله أنها صدقة، علي بدواة وصحيفة، قال: فعجلت بهما إليه، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين، تصدق بالضيعتين المعروفتين بعين أبي نيزر والبغيبغة، على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي الله بها وجهه حر النار يوم القيامة، لا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين، إلا أن يحتاج إليهما الحسن أو الحسين فهما طلق9 لهما، وليس لأحد غيرهما. قال محمد بن هشام: فركب الحسين رضي الله عنه دين، فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع، وقال: إنما تصدق بها أبي ليقي الله بها وجهه حر النار، ولست بائعها بشيء.   1 ساقطة من ر. 2 البغيبغة: عين لآل رسول الله صلى الله علية وسلم غزيرة الماء كثيرة النخل. 3 الإهالة: ما أذيب من الشحم والسنخة: المتغيرة الريح. 4 حسا: جمع حسوة, وهي الشربة ملء الفم. 5 المعول: الفأس العظيمة ينقر بها في الصخور. 6 تفضج جبينة عرقا: سال. 7 بهمهم, من الهمهمة, وهي ترديد الصوت في الصدر. 8 يقال انثال الرمل انثيالا, إذا تبع بعضة بعضا, وهو هنا علي الإستعارة. 9 طلق: أي حلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 كتاب معاوية إلى مروان بن الحكم وتحدث الزبيريون أن معاوية كتب إلى مروان بن الحكم، وهو والي المدينة، أما بعد، فإن أمير المؤمنين أحب أن يرد الألفة، ويسل السخيمة، ويصل الرحم، فإذا ورد عليك1 كتابي هذا2 فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على يزيد ابن أمير المؤمنين، وارغب له في الصداق. فوجه مروان إلى عبد الله بن جعفر، فقرأ عليه كتاب معاوية3 وأعلمه بما في رد الألفة من صلاح ذات البين، اجتماع الدعوة. فال عبد الله: إن خالها الحسين بينبع، وليس ممن يفتات عليه بأمر، فأنظرني إلى أن يقدم، وكانت أمها زينب بنت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. فلما قدم الحسين ذكر ذلك له عبد الله بن جعفر. فقام من عنده فدخل إلى الجارية، فقال: يا بنية، إن ابن عمك القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب أحق بك، ولعلك ترغبين في كثرة الصداق وقد نحلتك البغيبغات، فلما حضر القوم للإملاك4 تكلم مروان بن الحكم، فذكر معاوية وما قصده من صلة الرحمن وجمع الكلمة، فتكلم الحسين فزوجها من القاسم بن محمد. فقال له مروان: أغدراً يا حسين? فقال: أنت بدأت، خطب أبو محمد الحسن بن علي عليه السلام عائشة بنت عثمان بن عفان، واجتمعنا لذلك، فتكلمت أنت فزوجتها من عبد الله بن الزبير. فقال مروان: ما كان ذلك. فالتفت الحسين إلى محمد بن حاطب فقال: أنشدك الله، أكان ذاك? قال: اللهم نعم. فلم تزل هذه الضيعة في أيدي5 بني عبد الله بن جعفر، من ناحية أم كلثوم، يتوارثونها، حتى ملكها أمير المؤمنين المأمون. فذكر ذلك له، فقال: كلا، هذا وقف علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فانتزعها من أيديهم، وعوضهم عنها، وردها إلى ما كانت عليه.   1 ر: "وصل إليك". 2 كلمة "هذا" ساقطة من ر. 3 في لاأصل: "أمير المؤمنين", وما أثبته عن ر. 4 الإملاك: عقد النكاح. 5 ر: "يدي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 حديث علي مع الخوارج في أول خروجهم عليه قال أبو العباس: رجع الحديث إلى ذكر الخوارج أمر علي بن أبي طالب رحمه الله. قال: ويروى1 أن علياً في أول خروج القوم عليه دعا صعصعة بن صوحان العبدي، وقد كان وجهه إليهم، وزياد بن النضر الحارثي مع عبد الله بن العباس، فقال لصعصعة: بأي القوم رأيتهم أشد إطاقة? فقال: بزيد بن قيس الأرحبي، فركب علي إليهم إلى حروراء. فجعل يتخللهم، حتى صار إلى مضرب يزيد بن قيس، فصلى فيه ركعتين، ثم خرج فاتكأ على قوسه وأقبل على الناس، ثم قال: هذا مقام من فلج2 فيه فلج يوم القيامة. أنشدكم الله، أعلمتم أحداً منكم كان أكره للحكومة مني! قالوا: اللهم لا. قال: أفعلمتم أنكم أكرهتموني، حتى قبلتها? قالوا: اللهم نعم. قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني? قالوا: إنا أتينا ذنباً عظيماً، فتبنا إلى الله، فتب إلى الله منه واستغفره نعد لك. فقال علي: إني أستغفر من كل ذنب. فرجعوا معه، وهم ستة آلاف. فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن علياً رجع عن التحكيم ورآه ضلالاً، وقالوا: إنما ينتظر أمير المؤمنين أن يسمن الكراع3، ويجبى المال، فينهض إلى الشام. فأتى الأشعث بن قيس علياً عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تحدثوا أنك رأيت الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كفراً، فخطب علي الناس فقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب ومن رآها ضلالاً فهو أضل. فخرجت الخوارج من المسجد، فحكمت. فقيل لعلي: إنهم خارجون عليك، فقال لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون. فوجه إليهم عبد الله بن العباس، فلما صار إليهم رحبوا به وأكرموه. فرأى منهم جباهاً قرحة4 لطول السجود، وأيدياً كثفنات5 الإبل، وعليهم6 قمص مرحضة7، وهم مشمرون، فقالوا: ما جاء بك يا أبا العباس? فقال: جئتكم من   1 ر: "يروى". 2 فلج: انتصر. 3 الكراع: اسم جماعة الخيل. 4 قرحة: بها قروح. 5 ثفنات الإبل: ما يصيب الارض منها إذا بركت. 6 ر: "وعليهم". 7 قمص مرحضة مغسولة, من أرحض الثوب, غسله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 عند صهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن عمه، وأعلمنا برب وسنة نبيه، ومن عند المهاجرين والأنصار. قالوا: إنا أتينا عظيماً حين حكمنا الرجال في دين الله، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا. فقال ابن عباس: نشدتكم الله إلا ما صدقتم أنفسكم! أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته? فقالوا: اللهم نعم، فقال: فأنشدكم الله فهل1 علمتم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحديبية? قالوا: نعم، ولكن علياً محا نفسه من إمارة المسلمين، قال ابن عباس: ليس ذلك بمزيلها عنه. وقد محا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسمه من النبوة، وقد أخذ علي على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعلي أولى من معاوية وغيره. قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى علي، قال فأيهما رأيتموه أولى فولهوه، قالوا: صدقت، قال ابن عباس. ومتى2 جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. قال: فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف، فصلى بهم صلواتهم ابن الكواء، وقال: متى كانت حرب فرئيسكم شبث بن ربعي الرياحي، فلم يزالوا على ذلك يومين، حتى أجمعوا على البيعة لعبد الله بن هب الراسبي، قال: ومضى القوم إلى النهروان3، وكانوا أرادوا المضي إلى المدائن.   1 ر: "هل". 2 ر: "متى". 3 زيادات ر: "قال الأخفش: كذا كان يقول المبرد: "النهروان. بكسر النون والراء, وإنما هو النهروان" بالفتح, وأنشد للطرماح: "قل في شط نهروان" بفتح النون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 خبرهم من عبد الله بن خباب وقتلهم له قال أبو العباس: فمن طريف أخبارهم أنهم أصابوا مسلماً ونصرانياً، فقتلوا المسلم وأوصلوا بالنصراني، فقالوا: احفظوا ذمة نبيكم1. ولقيهم عبد الله بن خباب وفي عنقه مصحف، ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا له2: إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا أن نقتلك. فقال3: ما أحيا القرآن فأحيوه وما أماته فأميتوه. فوثب رجل منهم على رطبة فوضعها في فيه، فصاحوا به فلفظها تورعاً، وعرض لرجل منهم خنزير فضربه الرجل فقتله،   1 س: "احفظو ذمة نبيكم". 2 كلمة "له" سلقطة من ر, وهي في الأصل, س. 3 ر, س:"قال". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 فقالوا: هذا فساد في الأرض، فقال عبد الله بن خباب: ما علي منكم بأس، إني لمسلم، قالوا له: حدثنا عن أبيك? قال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن القاتل". قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر? فأثنى خيراً، فقالوا: ما1 تقول في علي أمير المؤمنين قبل التحكيم، وفي عثمان ست سنين? فأثنى خيراً، قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم? قال: أقول إن علياً أعلم بالله منكم2، وأشد توقياً على دينه، وأبعد3 بصيرة، قالوا: إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال عل أسمائها. ثم قربوه إلى شاطئ النهر فذبحوه، فامذقر دمه، أي جرى مستطيلاً على دقة. وساموا رجلاً نصرانياً بنخلة له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بثمن. قال: ما أعجب هذا? أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون منا جنى نخلة?.   1 ر: "فما تقول". 2 ر: "أعلم بكتاب الله". 3 ر:"وأنفذ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 غيلان بن خرشة ونيله منهم ومن طريف أخبارهم أن غيلان بن خرشة الضبي سمر ليلة عند زياد ومعه جماعة، فذكر أمر الخوارج، فأنحى عليهم غيلان، ثم انصرف بعد ليل إلى منزله فلقيه أبو بلال مرداس بن أدية. فقال له: يا غيلان، قد بلغني ما كان منك الليلة عند هذا الفاسق، من ذكر هؤلاء القوم الذين شروا أنفسهم وابتاعوا آخرتهم بدنياهم! ما يؤمنك أن يلقاك رجل منهم، أحرص والله على الموت منك على الحياة، فينفذ حضنيك1 برمحه? فقال غيلان: لن يبلغك أني ذكرتهم بعد الليلة.   1 الحضنان: ناحيتا الإنسان. والجمع أحضان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 مرداس بن أدية وزياد ومرداس تنتحله جماعة من أهل الأهواء، لقشفه وبصيرته، وصحة عبادته، وظهور ديانته وبيانه، تنتحله المعتزلة، وتزعم أنه خرج منكراً لجور السلطان، داعياً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 إلى الحق، وتحتج له بقوله لزياد حيث قال على المنبر: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم، والمطيع بالعاص1، فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام، إذ يقول: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} 2 وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم خرج في عقب هذا اليوم. والشيع تنتحله، وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي صلوات الله عليه: إني لست أرى رأي الخوارج، وما أنا إلا على دين أبيك.   1 ساقطة من ر. 2 سورة النجم 37-41. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 آراء الفقهاء في مذهب الخوارج وهذا رأي قد استهوى جماعة من الأشراف. يروى أن المنذر بن الجارود كان يرى رأي الخوارج. وكان يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج بن يوسف يراه. وكان صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق يراه. وكان عدة من الفقهاء ينسبون إليه ولعل هذا يكون باطلاً1، منهم عكرمة مولى ابن عباس. وكان يقال لك في مالك بن أنس. ويروي الزبيريون: أن مالك بن أنس المديني2 كان يذكر ثمان وعلياً وطلحة والزبير، فيقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر3.   1 ساقطة من ر. 2 حاشية س: "قد يتوهم من هذا الكلام من لا معرفة له بالأخبار والتواريخ أن المذكور هنا مالك بن أنس الفقيه المدني المشهور صاحب المذهب. وليس الأمر كذلك. وهذا تقصير أو قصور من أبي العباس, حيث أبهم في موضع البيان, لأن مالكا المذكور هنا هو مالك بن أنس بن مالك بن مسمع البكري. ثم البصري. أحد رؤساء أهل البصرة. وأعظم فقهائها في زمانه. لشرف بيته وتقدمة في معرفة كل فن, وشهرة وزهده وكثرة تهجده, لكنه كان متهما برأي الخوارج. ولم يوقف لأمره على حقيقته, الله أعلم أي ذلك كان. وأما الإمام مالك بن أنس المدني الأصبحي الحميري فهو الذهب الأبريز صفاء. والكبريت الأحمر عزة". 3 الثريد الأعفر: الأبيض. ليس بالشديد البياض. يريد الثريد الممتلئ بالإدام, قاله المرصفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 فأما أبو سعيد الحسن البصري فإنه كان ينكر الحكومة، ولا يرى رأيهم وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترحم عليه ثلاثاً، ولعن قتلته ثلاثاً، ويقول: لو لم نلعنهم للعنا، ثم يذكر علياً فيقول: لم يزل أمير المؤمنين علي رحمه الله يتعرفه1 النصر، ويساعده الظفر، حتى حكم، فلم تحكم والحق معك! ألا تمضي قدماً، لا أبالك، وأنت على الحق! قال أبو العباس: وهذه كلمة فيها جفاء، والعرب تستعملها عند الحث على أخذ الحق والإغراء، وربما استعملتها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: انظر في أمر رعيتك لا أبالك! وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة جدبة2 يقول: رب العباد مالنا ومالكا ... قد كنت تسقينا فما بدا لكا أنزل علينا الغيث لا أبالكا فأخرجه سليمان أحسن مخرج، فقال: أشهد أنه لا أبا له ولا ولد ولا صاحبة [وأشهد أن الخلق جميعاً عباده] 3. وقال رجل من بني عامر بن صعصعة أبعد من هذه الكلمة لبعض قومه: أبني عقيل لا أبا لأبيكم ... أيي وأي بني كلام أكرم وقال رجل من طيء، أنشده أبو زيد الأنصاري: يا قرط قرط حيي لا أبالكم ... يا قرط إني عليكم خائف حذر أأن روى مرقس واصطاف أعنزه ... من التلاع التي قد جادها المطر قلتم له اهج تميماً لا أبالكم ... في كف عبدكم عن ذاكم قصر فإن بيت تميم ذو سمعت به ... فيه تنمت وأرست عزها مضر   1 س: "يتعرفه". 2 ر: "جديبة". 3 تكملة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 قوله: "يا قرط قرط حيي" نصبهما معاً أكثر على ألسنة العرب، وتأويلهما: أنهم أرادوا "يا قرط حيي" فأقحموا" قرطاً" توكيداً، وكذلك لجرير1: يا تيم تيم عدي لا أبالكم ... لا يلقينكم في سوءة عمر ومثله لعمر بن لجا2: يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل عليك فانزل3 فإن لم ترد التوكيد والتكرير لم يجز إلا رفع الأول: "يا زيد زيد اليعملات" و"يا تيم تيم عدي"، كما تقول: "يا زيد أخا عمرو" على النعت. ومثل الأول في التوكيد "يا بؤس للحرب" فأقحم اللام توكيداً، لأنها توجب الإضافة. وعلى هذا جاء "لا أبالك" و"لا أبا لزيد" ولولا الإضافة لم تثبت الألف في الأب؛ لأنك تقول؛ رأيت أباك، فإذا أفردت: هذا أب صالح، وإنما كانت "لا أباك" كما قال الشاعر: أبالموت الذي لا بد أني ... ملاقي لا أباك تخوفيني وقال آخر: وقد مات شماخ ومات مزرد ... وأي كريم لا أباك يخلد! وقوله: "أأن روى مرقس" "مرقس" رجل. وروى: استقى لأهله، يقال: فلان راوية أهله، إذا كان يستقي لأهله، والتي على البعير والحمار مزادة4 فإذا كبرت وعظمت وكانت من ثلاثة آدمة5 فهي المثلثة. وأصغر منها السطيحة6، وأصغرهن الطبع7:   1 قال المرصفي: "يهجو عمر بن لجأ التيمي", وقبله كما في الديوان 285: أتبتغي التيم عذرا بعد ما غدروا ... لايقبل الله من تيم إذا اعتذروا لا تمنعون لكم عرسا وما لكم ... إلا بغيركم ورد ولا صدر 2 قال المرصفي: هذا غلط, وصوابه: لعبد الله بن رواحة الخزرجي يقوله لزيد بن أرقم. 3 اليعملات: جمع يعملة وهي الناقة السريعة. والذبل: الضوامر. 4 المزاده هي التي تكون من جلدبن يزاد بينهما نصف جلد. 5 آدمه:جمع أديم, وهو الجلد. 6 السطيحة: التي تكون من جلدين, يقابل أحدهما بالأخر. 7 الطبع, قال المرصفي: لم أر أحدا من أهل اللغة ذكره إلا في الأسقية, وإنما هو لملْ السقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وقوله: "واصطاف أعنزه"، يريد "افتعلت"، من الصيف، أي أصابت البقل فيه. والتلعة: ما ارتفع من الأرض في مستقر المسيل إذا تجافى السيل عن متنه، وجمعه بلاع. وقوله: "ذو سمعت به" يريد الذي، وكذلك تفعل طيئ، تجعل ذو في معنى "الذي"، قال زيد الخيل لبني فزارة، وذكر عامر بن الطفيل فقال: إني أرى في عامر ذو ترون وقال عارق الطائي: فإن لم يغير بعض ما قد فعلتم ... لأنتجين للعظم ذو أنا عارقه1 يريد الذي. ومن ظرفاء المحدثين اليمانية من يعمل هذا اعتماداً لإيثار لغة قومه. قال الحسن بن هانئ الحكمي: حب المدامة ذو سمعت به ... لم يبق في لغيرها فضلا وقال حبيب بن أوس الطائي: أنا ذو عرفت فإن عرتك جهالة ... فأنا المقيم قيامة العذال وقال الحسن بن وهب الحارثي: عللاني بذكرها عللاني ... واسقياني أو لا فمن تسقيان أنا ذو لم يزل يهون على الند ... مان إن عز جانب الندمان ويكون العزيز في ساعة الروع ... بصدق الطعان يوم الطعان   1 لأنتجين: لأقصدن. وعارقه, من عرق العظم يعرقه, بالضم عرقا, أخذ اللحم عنه بأسنانه نهشا, وبهذا البيت سهي عارقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 ثم نرجع إلى ذكر الخوارج1: قال أبو العباس: وكان في جملة الخوارج لدد واحتجاج، على كثرة خطبائهم وشعرائهم، ونفاذ بصيرتهم، وتوطين أنفسهم على الموت، فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى فيه إلى قاتله وهو يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} 2. ويروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لما وصفهم قال: "سيماهم التحليق 3 يقرأون القرآن لا تجاوز تراقيهم، علامتهم رجل مخدج اليد" 4. وفي حديث عبد الله بن عمرو: "رجل يقال له عمرو ذو الخويصرة"، أو "الخنيصرة". وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه نظر إلى رجل ساجد، إلى أن صلى النبي عليه السلام، فقال: "ألا رجل يقتله "? فحسر أبو بكر عن ذراعه وانتضى السيف وصمد نحوه، ثم رجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أأقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله? فقال النبي عليه السلام: "ألا رجل يفعل "? ففعل عمر مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قصد له علي بن أبي طالب عليه السلام فلم يره، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو قتل لكان أول فتنة وآخرها".   1 ر: "عاد الحديث إلى ذكر الخوارج". 2 سورة طه 84. 3 سيماهم التحليق, أي علامتهم حلق الرءوس. 4 مخدج اليد: ناقصها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 حديث المخدج ويروى عن أبي مريم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ذكر المخدج عند النبي عليه السلام، فقال أبو مريم: والله إن كان معنا لفي المسجد وكان فقيراً، وكان يحضر طعام علي إذا وضعه للمسلمين، ولقد كسوته ترساً لي، فلما خرج القوم إلى حروراء قلت: والله لأنظرن إلى عسكرهم، فجعلت أتخللهم حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 صرت إلى ابن الكواء وشبث بن ربعي، ورسل علي تناشدهم، حتى وثب رجل من الخوارج على رسول لعلي، فضرب دابته بالسيف، فحمل الرجل سرجه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم انصرف القوم إلى الكوفة، فجعلت أنظر إلى كثرتهم كأنما ينصرفون من عيد، فرأيت المخدج، كان مني قريباً، فقلت: أكنت مع القوم? فقال: أخذت سلاحي أريدهم، فإذا بجماعة من الصبيان قد عرضوا لي فأخذوا سلاحي، وجعلوا يتلاعبون بي فلما كان يوم النهر قال علي: اطلبوا المخدج. فطلبوه فلم يجدوه، حتى ساء ذلك علياً، وحتى قال رجل: لا والله يا أمير المؤمنين، ما هو فيهم، فقال علي: والله ما كذبت ولا كذبت، فجاء رجل فقال: قد أصبناه يا أمير المؤمنين، فخر علي ساجداً، وكان إذا أتاه ما يسر به من الفتوح سجد وقال: لو أعلم شيئاً أفضل منه لفعلته، ثم قال: سيماه أن يده كالثدي، عليها شعرات كشارب السنور، ايتوني بيده المخدجة، فأتوه بها، فنصبها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 من أخبار نافع بن الأزرق ويروى عن أبي الجلد أنه نظر إلى نافع بن الأزرق الحنفي وإلى نظره وتوغله وتعمقه، فقال: إني لأجد لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للخوارج، فاحذر أن تكون منهم. قال: وكان نافع بن الأزرق ينتجع عبد الله بن العباس فيسأله، فله عنه مسائل من القرآن وغيره، قد رجع إليه في تفسيرها، فقبله وانتحله، ثم غلبت عليه الشقوة، ونحن ذاكرون منها صدراً إن شاء الله. حدث أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي النسابة، عن أسامة بن زيد، عن عكرمة، قال: رأيت عبد الله بن العباس وعنده نافع بن الأزرق وهو يسأله، ويطلب منه الإحتجاج باللغة، فسأله عن قول الله جل ثناؤه: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} 1، فقال ابن عباس: وما جمع، فقال: أتعرف ذلك العرب? فقال ابن عباس: أما سمعت قول الراجز:   1 سورة الإنشقاق 17. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 إن لنا قلائصاً حقائقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا هذا قول ابن عباس: وهو الحق الذي لا يقدح فيه قادح، ويعرض القول فيحتاج المبتدئ إلى أن يزداد في التفسير. قوله: "حقائقا" إنما بنى الحقة من الإبل - وهي التي قد استحقت أن يحمل عليها - على "فعلية" مثل "حقيقة" ولذلك جمعها على "حقائق" ويقال: "استوسق" القوم، إذا اجتمعوا. وروى أبو عبيدة في هذا الإسناد - وروى ذلك غيره، وسمعناه من غير وجه - أنه سأله عن قوله عز وجل: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} 1 فقال ابن عباس: هو الجدول، فسأله عن الشواهد، فأنشده: سلماً ترى الدالج منها أزورا ... إذا يعج في السري هرهرا السلم: الدلو الذي له عروة واحدة، وهو دلو السقائين، وهو الذي ذكره طرفة فقال: لها مرفقان أفتلان كأنما ... أمرا بسلمى دالج متشدد2 والدالج: الذي يمشي بالدلو بين البئر والحوض، وأصحاب الحديث ينشدون: "تر الدالي منه أزورا" وهذا خطأ لا وجه له. وروى أبو عبيدة وغيره: أن نافعاً سأل ابن عباس عن قوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} 3: ما الزنيم? قال: هو الدعي الملزق، أما سمعت قول حسان بن ثابت: زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع ويزعم أهل اللغة أن اشتقاق ذلك من الزنمة التي بحلق الشاة، كما يقولون لمن دخل في قوم ليس منهم: زعنفة4، وللجمع زعانف، والزعنفة: الجناح من أجنحة السمك.   1 سورة مريم 24. 2 أفتلان, من القتل, وهو اندماج مرفق الناقة. 3 سورة القلم 3. 4 زيادات ر:" الأم:زعنفة بالكسر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 قال أبو الحسن الأخفش: كذا قال زعنفة، والناس كلهم يقولون: زعنفة بكسر الزاي، وهو الوجه. ويروى عن غير أبي عبيدة أنه سأله عن قوله جل اسمه: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} 1، قال: الشدة بالشدة، فسأله عن الشاهد فأنشده: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرتعن ساقها الحرب شمرا قال أبو العباس: وقرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير قصيدة جرير التي يهجو فيها آل المهلب بن أبي صفرة، ويمدح هلال بن أحوز المازني، ويذكر الوقعة التي كانت لهم عليهم بالسند في سلطان يزيد فن عبد الملك، بسبب خروج يزيد بن المهلب عليه: أقول لها من ليلة ليس طولها ... كطول الليالي ليت صبحك نورا أخاف على نفس ابن أحوز2 إنه ... جلا حمماً فوق الوجوه فأسفرا جعلت لقبر للخيار ومالك ... وقبر عدي في المقابر أقبرا3 وأطفأت نيران المزون وأهلها ... وقد حاولوها فتنة أن تسعرا4 فلم تبق منهم راية يعرفونها ... ولم تبق من آل المهلب عسكرا ألا رب سامي الطرف من آل مازن ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا فهذا نظير ذلك. والمزون: عمان. قال الكميت:   1 سورة القيامة 29. 2 زيادات ر:"قال الشيخ أبو يعقوب: الذي رويت في شعر جرير: حذرارا على نفس ابن أحوز إنه ... جلا كل وجه من معد فأسفرا 3 زيادات ر عن الشيخ أبي يعقوب: "وقوله: "عدى" يعني عدي بن أرطاة الفزاري. قتله معاوية بن يزيد بن مهلب بواسطة. وكان عامل عمر بن عبد العزيز رحمه الله". وفيها الخيار أيضا "ويروى: للخيار بواسط. الخيار: موضع بعمان فيه قبر الخيار بن سبرة المحاشعي. وواسط بها قبر عدي بن أرطاة الفزاري". 4 زيادات ر: "المزون عمان بالفارسية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 فأما الأزد أزد أبي سعيد ... فأكره أن أسميها المزونا وقال آخر يعني الحرب: فإن شمرت لك عن ساقها ... فويهاً حذيف ولا تسأم1 ويروى عن أبي عبيدة من غير وجه أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أرأيت نبي الله سليما صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع اخوله الله وأعطاه، كيف عني بالهدهد على قلته وضؤولته? فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد قناء2، والأرض له كالزجاجة، يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك، قال ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف يبصر ما تحت الأرض، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه! فقال ابن عباس: ويحك يا ابن الأزرق! أما علمت أنه إذا جاء القدر عشي البصر. ومما سأله عنه: {الم, ذَلِكَ الْكِتَابُ} 3، فقال ابن عباس: تأويله: هذا القرآن. هكذا جاء، ولا أحفظ عليه شاهداً عن ابن عباس، وأنا أحسبه أنه لم يقبله إلا بشاهد، وتقديره عند النحويين: إذا قال: "ذلك الكتاب" أنهم قد كانوا وعدوا كتاباً؛ هكذا التفسير، كما قال جل ثناؤه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} 4؛ ويعني بذلك اليهود، وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} 5، فمعناه: هذا الكتاب الذي كنتم تتوقعونه. وبيت خفاف بن ندبة على ذلك يصح معناه. وكان من خبره أنه غزا مع معاوية بن عمرو-أخي الخنساء- مرة وفزارة، فعمد ابنا حرملة: دريد وهاشم المريان عمد معاوية، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه   1 زيادات ر: "تقول: "ويها لزيد" إذا زجرته عن الشئ فأغريته به. وواها له, إذا تعجبت منه. وحذيف. يريد "حذيفة" فرخم". 2 قناء: عالم بمواضع الماء من الأرض, مأخوذ من القناة. وهي كطيمة تحفر تحت الارض. قاله المرصفي. 3 سورة البقرة 1. 4 سورة البقرة 89. 5 سورة البقرة 146. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 معاوية، فطعنه، وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكناً، وكان صميم الخيل1، فلما تنادوا معاوية: قال خفاف بن ندبة - وهي أمه، وكانت حبشية، وأبوه عمير، وهو أحد2 بني سليم بن منصور -: قتلني الله إن رمت3 حتى أثأر به، فحمل على مالك بن حمار - وه سيد بن شمخ بن فزارة - فطعنه فقتله، فقال خفاف بن ندبة: وإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمداً على عيني تيممت هالكا وقفت له علوى وقد خام صحبتي ... لأبني مجداً أو لأثأر هالكا4 أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافاً إنني أنا ذلكا يريد: أنا ذلك الذي سمعت به. هذا تأويل هذا. وقوله: "يأطر متنه" أي يثني. يقال: أطرت القوس آطرها أطراً، وهي مأطورة. وعلوى: فرسه. ومما سأله عنه قوله عز وجل: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 5"، فقال ابن عباس: غير مقطوع، فقال: هل تعرف ذلك العرب? فقال: قد عرفه أخو بني يشكر حيث يقول: وترى خلفهن من سرعة الرجـ ... ـع منيناً كأنه إهباء6 قال أبو العباس: منين، يعني الغبار، وذلك أنها تقطعه قطعاً وراءها. والمنين: الضعيف المؤذن بانقطاع، أنشدني التوزي عن أبي زيد: يا ريها إن سلمت يميني ... وسلم الساقي الذي يليني ولم تخني عقد المنين   1 صميم الخيل: قال المرصفي: "يريد بالخيل الفرسان, وصميمها: عميدها الذي تعتمد عليه, من الصميم, وهو العظم الذي به قوام العضو". 2 لفظ "هو" ساقط من ر. 3 رمت: برحت. 4 خام: جبن وضعف. 5 سورة فصلت 8. 6 يصف خيلا. والرجع: رد الدابة يديها في السير. وأهباء: جمع هبوة, يريد كأنه أهباء الزوبعة ترتفع في الجو قاله المرصفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 يريد الحبل الضعيف، فهذا هو المعروف. ويقال: منين وممنون، كقتيل ومقتول، وجريح ومجروح. وذكر التوزي في كتاب الأضداد أن المنين يكون القوي، فجعله1 "فعيلا" من "المنة"، والمعروف هو الأول. وقال غير ابن عباس: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لا يمن عليهم فيكدر عندهم. ويروى من غير وجه أن ابن الأزرق أتى ابن عباس يوماً2 فجعل يسأله3 حتى أمله، فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس، وهو يومئذ غلام، فسلم وجلس، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئاً من شعرك? فأنشده: أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر! بحاجة نفس لم تقل في جوابها ... فتبلغ عذراً والمقالة تعذر تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر وأخرى أتت من دون نعم ومثلها ... ونهى ذا النهى لو يرعوي أو يفكر إذا زرت نعماً لم يزل ذ قرابة ... لها كلما لاقيته يتنمر عزيز عليه أن أمر ببابها ... مسر لي الشحناء والبغض مظهر ألكني إليها بالسلام فإنه ... يشهر إلمامي بها وينكر بآية ما قالت غداة لقيتها ... بمدفع أكنان أهذا المشهر! قفي فانظري يا أسم هل تعرفينه ... أهذا المغيري الذي كان يذكر! فقالت: نعم، لا شك غير لونه ... سرى الليل يحيي نصه والتهجر4 لئن كان إياه لقد حل بعدنا ... عن العهد، والإنسان قد يتغير رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر   1 ر: "يجعله". 2 ساقطة من ر. 3 ر: "يسائله". 4 النص: ضرب من السير, والتهجر: السير في الهجارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 حتى أتمها، وهي ثمانون بيتاً، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه! فقال: تالله ما سمعت سفهاً، فال ابن الأزرق: أما أنشدك: رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وأما بالعشي فيخسر فقال: ما هكذا قال، إنما قال "فيضحى وأما بالعشي فيخصر" قال: أو تحفظ الذي قال? قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها، قال: فارددها، فأنشده إياها كلها1. وروى الزبيريون أن نافعاً قال له: ما رأيت أروى منك قط. فقال له ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي. وقوله: فيضحى يقول: يظهر للشمس، ويخصر، يقول: في البردن2، فإذا ذكر العشي فقد دل على عقيب العشي، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} 3، والضح: الشمس، وليس من: "ضحيت"، يقال: "جاء فلان بالضح والريح" يراد به الكثرة، قال علقمة: أغر أبرزه للضح راقبه ... مقلد قضب الريحان مفغوم له فغمة، أي رائحة طيبة، يعني إبريقاً فيه شراب؛ وفي الحديث: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما توجه إلى تبوك جاء أبو خيثمة، وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيب ثمر بستانه، ومهدت له في ظل، فقال: أظل ممدود، وثمرة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله في الضح والريح! ما هذا بخير! فركب ناقته ومضى في أثره، وقد قيل لرسول الله في نفر تخلفوا، أبو خيثمة أحدهم، فجعل لا يذكر له أحد منهم إلا قال: "دعوه فإن يرد الله به خيراً يلحقه بكم"، فقيل ذات يوم: يا رسول الله، ترى رجلاً يرفعه الآل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كن أبا خيثمة"، فكانه. وإذا انبسطت الشمس فهو الضحى مقصور، فإذا امتد النهار وبينهما مقدار ساعة أو نحو ذلك فذلك الضحاء، ممدود مفتوح الأول.   1 ساقط من ر. 2 البردان: الغداة والعشي. 3 سورة طه 119. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 الحجاج وامرأة من الخوارج وذكرت الرواة أن الحجاج أتي بامرأة من الخوارج، وبحضرته يزيد بن أبي مسلم مولاه، وكان يستسر برأي الخوارج، فكلم الحجاج المرأة فأعرضت عنه، فقال لها يزيد بن أبي مسلم: الأمير، ويلك، يكلمك! فقالت: بل الويل والله لك يا فاسق الردي. والردي عند الخوارج: هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 عبد الملك بن مروان ورجل من الخوارج وذكروا أن عبد الملك بن مروان أتي برجل منهم فبحثه فرأى منه ما شاء فهماً ثم بحثه، فرأى ما شاء إبراً ودهياً1، فرغب فيه، فاستدعاه2 إلى الرجوع عن مذهبه، فرآه مستبصراً محققاً، فزاده في الإستدعاء فقال له: لتغنك الأولى عن الثانية، وقد قلت فسمعت، فاسمع أقل، قال له: قل. فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزين له مذهبهم بلسان طلق وألفاظ بينة ومعان قريبة، فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته: لقد كان يوقع في خاطري أن الجنة خلقت لهم، وأنا3 أولى بالجهاد منهم. ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة وقرر في قلبي من الحق. فقلت له: لله الآخرة والدنيا، وقد سلطنا4 الله في الدنيا، ومكن لنا فيها، وأراك لست تجيب بالقبول5، والله لأقتلنك إن لم تطع. فأنا في ذلك إذ دخل علي بابني مروان. قال أبو العباس: كان مروان أخا يزيد لأمه، أمهما عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وكان أبياً عزيز النفس، فدخل به في هذا الوقت على عبد الملك باكياً لضرب المؤدب إياه، فشق ذلك على عبد الملك، فأقبل الخارجي، فقال له: دعه يبكي6؛ فإنه أرحب لشدقه، وأصح لدماغه، وأذهب لصوته، وأحرى ألا تأبى   1 الأرب: البصر بالأمور, والدهى, مصدر دهى, كرضي, إذ كان صاحبه عاقلا مجربا. 2 كذا في الأصل, س, وفي ر: "واستدعاء". 3 ر: "وأبى". 4 ر: "سلطني". 5 ر: "بالقول". 6 ر: "يبك" وكلاهما جائز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 عليه عينه إذا حضرته طاعة الله1، فاستدعى عبرتها. فأعجب ذلك من قوله عبد الملك، فقال معجباً: أما يشغلك ما أنت فيه وبعرضه عن هذا! فقال ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شيء، فأمر عبد الملك بحبسه، وصفح عن قتله، وقال بعد يعتذر إليه: لولا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك. ثم قال عبد الملك: من شككني ووهمني حتى مالت بي عصمة الله فغير بعيد أن يستهوي من بعدي. وكان عبد الملك من الرأي والعلم بموضع.   1 ر: "طاعة ربه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 وفود رجل من أهل الكتاب على معاوية وتزعم الرواة أن رجلاً من أهل الكتاب وفد على معاوية، وكان موصوفاً بقراءة الكتب، فقال له معاوية: أتجد نعتي في شيء من كتب الله? قال: إي والله، لو كنت في أمة لوضعت يدي عليك من بينهم. قال: فكيف تجدني? قال: أجدك أول من يحول الخلافة ملكاً، والخشنة ليناً، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، قال معاوية: فسري عني، ثم قال: لا تقبل هذا مني، ولكن من نفسك، فاجتب1 هذا الخبر. قال: ثم يكون ماذا? قال: ثم يكون منك رجل شراب للخمر، سفاك للدماء، يحتجن الأموال2، ويصطنع الرجال، ويجنب3 الخيول، ويبيح حرمة الرسول4، قال: ثم ماذا? قال: ثم تكون فتنة5 تتشعب بأقوام حتى يفضى الأمر بها إلى رجل أعرف نعته6، يبيع الآخرة الدائمة بحظ من الدنيا مخسوس، فيجتمع عليه من آلك وليس منك، لا يزال لعدوه قاهراً، وعلى من ناوأه7 ظاهراً، ويكون له قرين8 مبير9 لعين قال: أفتعرفه إن رأيته? قال:   1 ر: فاختبر, ويقال: اجتبيت الخراج اجتباء, أي جمعته. 2 احتجن الشئ أخذه وحبسه. 3 يجنب الخيل: يقودها إلى ما يركب منها اختيالا وعجبا بها. 4 قال المرصفي: ذلك ما كان من قتل الحسين ومن معه من فتيان بني هاشم وإهانة آل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا". 5 هي الفتنة التي وقعت بعد موت معاوية بن يزيدةبن معاوية, وافتراق الناس فرقتين, فريق يدعو إلى ابن الزبير. وفريق يدعو إلى بني أمية. 6 قال المرصفي: "يريد به عبد الملك بن مروان: ولم يذكر معاوية بن يزيد ولا مروان لقصر مدتهما". 7 ناوأه: عاداه. 8 يريد به الحجاج بن يوسف, وقاله المرصفي. 9 مبير: مهلك, وفي س:"مبين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 شد ما. فأراه من بالشام من بني أمية، فقال: ما أراه ههنا، فوجه به إلى المدينة مع ثقات من رسله، فإذا عبد الملك بن مروان يسعى مؤتزراً في يده طائر، فقال للرسل: ها هو ذا! ثم صاح به: إلي أبو من? قال: أبو الوليد، قال: يا أبا الوليد، إن بشرتك ببشارة تسرك ما تجعل لي? قال: وما مقدارها من السرور حتى نعلم مقدارها من الجعل? قال: أن تملك الأرض، قال: ما لي من مال، ولكن أرأيت1 إن تكلفت لك جعلاً، أأنال ذلك قبل وقته? قال: لا، قال: فإن حرمتك، أتؤخره عن وقته? قال: لا، قال فحسبك ما سمعت. فذكروا أن معاوية كان يكرم عبد الملك ليجعلها يداً عنده يجازيه بها في مخلفته في وقته. وكان عبد الملك من أكثر الناس علماً، وأبرعهم أدباً، وأحسنهم في شبيبته والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} .   1 ر: "رأيت". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 صديق عبد الملك بن مروان قال أبو العباس: وحدثني ابن عائشة عن حماد بن سلمة في إسناد ذكره: أن عبد الملك كان له صديق، وكان من أهل الكتاب، يقال له يوسف، فأسلم، فقال له عبد الملك يوماً، وهو في عنفوان نسكه، وقد مضت جيوش يزيد بن معاوية مع مسلم بن عقبة المري، من مرة غطفان، تريد المدينة ألا ترى خيل عدو الله قاصدة لحرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ? فقال له يوسف: جيشك والله إلى حرم رسول الله أعظم من جيشه، فنفض عبد الملك ثوبه ثم قال: معاذ الله! قال له يوسف: ما قلت شاكاً ولا مرتاباً، وإني لأجدك بجميع أوصافك. قال له عبد الملك: ثم ماذا? قال: ثم يتداولها رهطك. قال: إلى متى? قال: إلى أن تخرج الرايات السود من خراسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 حديث ابن جعدبة للمنصور قال: وحدثت عن ابن جعدبة، قال: كنت عند أمير المؤمنين المنصور، في اليوم الذي أتاه فيه خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: فغمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 ذلك، حتى امتنع من الغداء في وقته، وطال عليه فكره، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحدثك حديثاً: كنت مع مروان بن محمد، وقد قصده عبد الله بن علي، [قال] 1: فإنا لكذلك إذ نظر إلى الأعلام السود من بعد، فقال: ما هذه البخت المجللة2 ? قلت: هذه أعلام القوم، قال: فمن تحتها? قلت: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: وأيهم عبد الله? قلت3: الفتى المعروق4 الطويل، الخفيف العارضين، الذي رأيته في وليمة كذا يأكل فيجيد، فسألتني عنه فنسبته لك، فقلت: إن هذا الفتى لتلقامة5، قال: قد عرفته؛ والله لوددت أ، علي بن أبي طالب مكانه. قال: فقال لي المنصور: الله لسمعت هذا من مروان بن محمد? قلت: والله لقد سمعته منه، قال: يا غلام، هات الغداء.   1 تكملة من س. 2 البخت: جمع بختي, وهي الأبل الطويلة الاعناق. والمجلله: المغطاة بما يزينها. 3 ر: "فقلت". 4 المعروق: القليل اللحم. 5 التلقامة: الكثير الأكل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 قتال أهل النخيلة قال أبو العباس: وكان أهل النخيلة جماعة بعد أهل النهروان، ممن فارق عبد الله بن وهب، وممن لجأ إلى راية أبي أيوب، وممن كان أقام بالكوفة، فقال: لا أقاتل علياً، ولا أقاتل معه، فتواصوا فيما بينهم وتعاضدوا، وتأسفوا على خذلانهم أصحابهم، فقام منهم قائم يقال له المستورد، من بني سعد بن زيد مناة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، ثم قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتانا بالعدل تخفق راياته، مقلباً مقالته، مبلغاً عن ربه، ناصحاً لأمته، حتى قبضه الله وذكر أن الله عز جل قرن الصلاة بالزكاة، "فرأى تعطيل إحداهما طعناً"1 على الأخرى، لا بل على جميع منازل الدين ثم قبضه الله إليه موفوراً، ثم قام بعده2 الفاروق، ففرق بين الحق والباطل، مسوياً بين الناس في إعطائه، لا مؤثراً لأقاربه،   1 ر: "فرأى أن تعطيل إحداهما طعن على الأخرى". وما أثبته عن الأصل. س. 2 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 ولا محكماً في دين ربه، وها أنتم تعلمون ما حدث، والله يقول: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 1، فكل أجاب وبايع. فوجه إليهم علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس داعياً، فأبوا، فسار إليهم، فقال له عفيف بن قيس: يا أمير المؤمنين، لا تخرج في هذه الساعة؛ فإنها ساعة نحس لعدوك عليك؛ فقال له علي: توكلت على الله وحده، وعصيت رأي كل متكهن. أنت تزعم أنك تعرف وقت الظفر من وقت الخذلان، {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2، ثم سار إليهم فطحنهم جميعاً، لم يفلت منهم إلا خمسة، منهم المستورد، وابن جوين الطائي، وفروة بن شريك الأشجعي، وهم الذين ذكرهم الحسن البصري، فقال: دعاهم إلى دين الله فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، فسار إليهم أبو حسن فطحنهم طحناً. وفيهم يقول عمران بن حطان: إني أدين بما دان الشراة به ... يوم النخيلة عند الجوسق الخرب3 وقال الحميري يعارض هذا المذهب: إني أدين بما دان الوصي به ... يوم النخيلة من قتل المحلينا وبالذي دان يوم النهر دنت به ... وشاركت كفه كفي بصفينا تلك الدماء معاً يا رب في عنقي ... ومثلها فاسقني آمين آمينا   1 سورة النساء 95. 2 سورة هود 56. 3 الجوسق الخرب: بظاهر الكوفة عند النخيلة, والبيت في معجم البلدان "17:3" من أبيات نسبها إلى قيس بن الأصم الضبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 مناظرة أهل النخيلة لابن عباس وكان أصحاب النخيلة قالوا لابن عباس: إن كان1 علي على حق لم يشكك فيه، وحكم مضطراً؛ فما باله حيث ظفر لم يسب! فقال لهم ابن عباس: قد سمعتم الجواب في التحكيم، فأما قولكم في السباء، أفكنتم سابين أمكم عائشة! فوضعوا أصابعهم في آذانهم، وقالوا: أمسك عنا غرب لسانك يا ابن عباس! فإنه طلق ذلق، غواص على موضع الحجة. ثم خرج المستورد بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة، وهو والي الكوفة، فوجه إليه معقل بن قيس الرياحي، فدعاه المستورد إلى المبارزة، وقال له: علام يقتل الناس بيني وبينك? فقال له معقل: النصف سألت، فأقسم عليه أصحابه، فقال: ما كنت لآبى عليه، فخرج إليه فاختلفا ضربتين، فخر كل واحد منهما ميتاً.   1 ر: "إذ كان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 المستورد التيمي وكان المستورد كثير الصلاة شديد الاجتهاد، وله آداب يوصي بها، وهي محفوظة عنه. كان يقول: إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم ألمه، لأني كنت أولى بحفظه. وكان يقول: لا تفش إلى أحد سراً، وإن كان مخلصاً، إلا على جهة المشاورة. وكان يقول: كن أحرص على حفظ سر صاحبك منك على حقن دمك. وكان يقول: أول ما يدل عليه عائب الناس معرفته بالعيوب، ولا يعيب إلا معيب. وكان يقول: المال غير باق عليك فاشتر من الحمد ما يبقى عليك. وكان يقول: بذل المال في حقه استدعاء للمزيد من الجواد. وكان يكثر أن يقول: لو ملكت الأرض بحذافيرها، ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 الخوارج ومعاوية قال: وخرجت الخوارج، واتصل خروجها، وإنما نذكر منهم من كان ذا خبر طريف، واتصلت به حكم من كلام وأشعار. فأول من خرج بعد قتل علي بن أبي طالب عليه السلام حوثرة الأسدي، فإنه كان متنحياً بالبندنيجين1، فكتب إلى حابس الطائي يسأله أن يتولى أمر   1 البندنيجين. بلظ المثنى: بلد طرف النهروان من أعمال بغداد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 الخوارج حتى يسير إليه بجمعه، فيتعاضدا على مجاهدة معاوية، فأجابه فرجعا إلى موضع أصحاب النخيلة، ومعاوية بالكوفة حيث دخلها مع الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، بعد أن بايعه الحسن والحسين عليهما السلام وقيس بن سعد بن عبادة. ثم خرج الحسن يريد المدينة، فوجه إليه معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم، فقال الحسن: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين، ولا أحسب ذلك يسعني، أفأقاتل عنك قوماً أنت والله أولى بالقتال منهم! فلما رجع الجواب إليه جيشاً "أكثره أهل الكوفة"1 ثم قال لأبيه أبي حوثرة: قم فاكفني2 أمر أبنك فصار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع, فأبى فأداره, فصمم، فقال له: يا بني أجيئك بابنك فلعلك تراه فتحن إليه? فقال: يا أبت، أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني! فرجع إلى معاوية فأخبره الخبر3، فقال: يا أبا حوثرة، عتا4 هذا جداً!. فلما نظر حوثرة إلى أهل الكوفة قال: يا أعداء الله، أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه، واليوم تقاتلون مع معاوية لتشدوا سلطانه!. فخرج إليه أبوه فدعاه إلى البراز، فقال: يا أبت، لك في عيري مندوحة، ولي في غيرك عنك مذهب، ثم حمل على القوم وهو يقول: أكرر على هذي الجموع حوثره ... فعن قليل ما تنال المغفرة فحمل عليه رجل من طيئ5 فقتله، فرأى أثر السجود قد لوح جبهته، فندم على قتله، ثم انهزم القوم جميعاً. وأنا أحسب أن قول القائل: وأجرأ من رأيت بظهر عيب ... على عيب الرجال ذوو العيوب   1 ر: جيشا أكثرهم من أهل الكوفة. 2 ر: "اكفني امر ابنك". 3 ساقطة من ر. 4 عتا: استكبر. 5 نقل المرصفي عن ابن الأثير أنه عبد الله بن عوف قائد ذلك الجيش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 إنما أخذه من كلام المستورد، قال رجل للمستورد. أريد أن أرى رجلاً عياباً، قال: ألتمسه بفضل معايب فيه. وقال العباس بن الأحنف يعاتب من اتهمه بإفشاء سره: تعتبت تطلب ما استحق ... بها لهجر منك ولا تقدر وماذا يضيرك من شهرتي1 ... إذا كان سرك لا يشهر أمني تخاف انتشار الحديث ... وحظي في ستره أوفر ولو لم تكن في بقيا عليك ... نظرت لنفسي كما تنظر   1 ر: "يضرك" بتشديد الراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 من أخبار مقتل الإمام علي، ووصيته لأبنائه ويروى من حديث محمد بن كعب القرظي قال: قال عمار بن ياسر، خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة ذات العشيرة فلما قفلنا نزلنا منزلاً، فخرجت أنا وعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه ننظر إلى قوم يعتملون، فنعسنا فنمنا، فسفت علينا الريح التراب، فما نبهنا إلا كلام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لعلي: "يا أبا تراب - لما عليه من التراب - أتعلم من أشقى الناس "? فقال: خبرني يا رسول الله? فقال: "أشقى الناس اثنان: أحمر ثمود الذي عقر الناقة، وأشقاها الذي يخضب هذه" - ووضع يده على لحيته – "من هذا"، ووضع يده على قرنه. ويروى عن عياض بن خليفة الخزاعي قال: تلقاني عل صلوات الله عليه في الغلس، فقال لي: من أنت? قلت: عياض بن خليفة الخزاعي، فقال: ظننتك أشقاها الذي يخضب هذه من هذا ووضع يده على لحيته وعلى قرنه. ويروى: أنه كان يقول كثيراً - قال أبو العباس: أحسبه عند الضجر بأصحابه -: ما يمنع أشقاها أن يخضب هذه من هذا! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 ويروى عن رجل من ثقيف أنه خرج الناس يعلفون دوابهم بالمدائن، وأراد علي أمير المؤمنين المسير إلى الشأم، فوجه معقل بن قيس الرياحي ليرجعهم إليه، وكان ابن عم لي في آخر من خرج فأتيت الحسن بن علي عليه السلام ذات عشية، فسألته أن يأخذ لي كتاب أمير المؤمنين إلى معقل بن قيس في الترفيه1 عن ابن عمي، فإنه في آخر من خرج، فقال: تغدو علينا والكتاب مختوم إن شاء الله تعالى، فبت ليلتي ثم أصبحت والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين الليلة، فأتيت الحسن، وإذا به في دار علي عليه السلام، فقال: لولا ما حدث لقضينا حاجتك، ثم قال: حدثني أبي عليه السلام البارحة في هذا المسجد فقال: يا بني، إني صليت ما رزق الله، ثم نمت نومة، فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشكوت إليه ما أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلة رغبتهم في الجهاد، فقال: ادع الله أن يريحك منهم، فدعوت الله. قال الحسن:ثم خرج إلى الصلاة فكان ما قد علمت. وحدثت من غير وجه أن علياً لما ضرب ثم دخل منزله اعترته غشية ثم أفاق. فدعا الحسن والحسين، فقال:أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا. ولا تأسفا على شيء فاكما منها. اعملا الخير، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً. ثم دعا محمداً فقال: أما سمعت ما أوصيت به أخويك? قال: بلى. قال: فإني أوصيك به. وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما. ولا تقطع أمراً دونهما. ثم أقبل عليهما فقال: أوصيكما به خيراً، فإنه شقيقكما وابن أبيكما. وأنتما تعلمان أن أباكما كان يحبه، فأحباه. فلما قضى علي كرم الله وجهه، قالت أم العريان: وكنا قبل مهلكه زماناً ... نرى نجوى رسول الله فينا قتلتم خير من ركب المطايا ... وأكرمهم ومن ركب السفينا ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فلا قرت عيون الشامتينا   1 الترفيه: التنفس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 ويروى أن عبد الرحمن بن ملجم بات تلك الليلة عند الأشعث بن قيس بن معدي كرب، وأن حجر بن عدي سمع الأشعث يقول له: فضحك الصبح، فلما قالوا: قتل أمير المؤمنين. قال حجر بن عدي للأشعث. أنت قتلته يا أعور! ويروى أن الذي سمع ذاك أخو الأشعث، عفيف بن قيس، وأنه قال لأخيه: عن أمرك كان هذا يا أعور! وأخبار الخوارج كثيرة طويلة. وليس كتابنا هذا1 مفرداً لهم، ولكنا2 نذكر من أمورهم ما فيه معنى وأدب، أو شعر مستطرف، أو كلام من خطبة معروفة مختارة.   1 ساقطة من ر. 2 "لكنا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 الخوارج وزياد خرج قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي - وكانا مجتهدين بالبصرة في أيام زياد، واختلف الناس في أمورهما: أيهما كان الرئيس - فاعترضا الناس. فلقيا شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، فقتلاه، وكان يقال له: رؤبة الضبعي، وتنادى الناس، فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد وفي يده السيف، فناداه الناس من ظهور البيوت: الحرورية الحرورية! انج بنفسك. فنادوه: لسنا قربة الله من الخير، وزحاف، لا عفا الله عنه، ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا، حتى مرا ببني علي بن سود من الأزد، وكان فيهم مائة يجيدون الرمي، فرموهم رمياً شديداً، فصاحوا: يا بني علي! البقيا، لا رماء بيننا، فقال رجل من بني علي: لا شيء للقوم سوى السهام ... مشحوذة في غلس الظلام1 فعرد عنهم2 الخوارج، وخافوا الطلب، فاشتقوا مقبرة بني يشكر، حتى نفذوا إلى مزينة، ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها، فجاءهم ثمانون،   1 شحذ السيف: إجلاؤه. 2 عرد الرجل تعريدا, إذا عدا فزعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وخرجت إليهم بنو طاحية بن سود وقبائل مزينة وغيرها، فاستقتل الخوارج فقتلوا عن آخرهم. ثم غدا الناس إلى زياد فقال: ألا ينهى كل قوم سفهاءهم! يا معشر الأزد، لولا أنكم أطفأتم هذه النار لقلت: إنكم أرثتموها. فكانت القبائل إذا أحست بخارجية فيهم شدتهم وثاقاً1. وأتت بهم زياداً. فكان هذا أحد ما يذكر من صحة تدبيره. وله أخرى في الخوارج، أخرجوا معهم امرأة فكفر بها فقتلها. ثم عراها. فلم تخرج النساء بعد على زياد، وكن إذا دعين إلى الخروج قلن: لولا التعرية لسارعنا.   1 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 قتل مصعب لامرأة المختار ولما قتل مصعب بن الزبير بنت النعمان بن بشير الأنصارية، امرأة المختار - وليس هذا من أخبار الخوارج - أنكره الخوارج غاية الإنكار، ورأوه قد أتى بقتل النساء أمراً عظيماً، لأنه أتى ما نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سائر نساء المشركين. وللخواص منهن أخبار، فقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة: إن من أعظم الكبائر عندي ... قتل حسناء غادة عطبول1 قتلت باطلاً عل غير ذنب ... إن لله درها من قتيل! كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول2 قال: وكان3 الخوارج أيام ابن عامر أخرجوا معهم امرأتين، يقال لأحدهما كحيلة، والأخرى قطام، فجعل أصحاب ابن عامر يغيرونهم ويصيحون بهم: يا أصحاب كحيلة وقطام! يعرضون لهم بالفجور، فتناديهم الخوارج بالدفع والردع، ويقول قائلهم: لا تقف ما ليس لك به علم.   1 العطبول: المرأة التامة الخلق. 2 المحصنات: العفيفات. 3 ر: "وكانت". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 ويروى عن ابن عباس في هذه الآية: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} 1، قال: أعياد المشركين. وقال ابن مسعود: الزور: الغناء. فقيل لابن عباس: أو ما هذا في الشهادة بالزور! فقال: لا، إنما آية شهادة الزور {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 2.   1 سورة الفرقان 22. 2 سورة الإسراء 36. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 عبد الله بن زياد والخوارج عاد الحديث إلى أمر الخوارج. وكانت1 من المجتهدات من الخوارج - ولو قلت: من المجتهدين، وأنت تعني امرأة كان أفصح، لأنك تريد رجالاً ونساء هي إحداهم، كما قال الله عز وجل: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} 2 وقال جل ثناؤه: {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} 3 - البلجاء وهي امرأة من بني حرام بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، من رهط سجاح، التي كانت تنبأت - وسنذكر خبرها في موضعه إن شاء الله - وكان مرداس بن حدير أبو بلال، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة تعظمه الخوارج، وكان مجتهداً كثير الصواب في لفظه، فلقيه غيلان بن خرشة الضبي، فقال: يا أبا بلال! إني سمعت الأمير البارحة عبيد الله بن زياد يذكر البلجاء، وأحسبها ستؤخذ، فمضى إليها أبو بلال، فقال لها: إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية4 فاستتري؛ فإن هذا المسرف على نفسه، الجبار العنيد قد ذكرك، قالت: إن يأخذني فهو أشقى بي، فأما أنا فما أحب أن يعنت إنسان بسببي. فوجه إليها عبيد الله بن زياد، فأتي بها فقطع يديها ورجليها، ورمى بها في السوق، فمر أبو بلال والناس مجتمعون، فقال: ما هذا? فقالوا: البلجاء، فعرج إليها فنظر، ثم عض على لحيته، وقال لنفسه: لهذه أطيب نفساً عن بقية الدنيا منك يا مرداس.   1 ر: "وكان". 2 سورة التحريم 12 3 سورة الشعراء 171. 4 التقية: حفظ النفس بما يستطاع من المكروه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 ثم إن عبيد الله تتبع الخوارج فحبسهم، وحبس مرداساً، فرأى صاحت السجن شدة اجتهاده وحلاوة منطقه فقال له: إني أرى لك مذهباً حسناً، وإني لا أحب أن أوليك معروفاً؛ إن تركتك تنصرف ليلاً إلى بيتك، أتدلج1 إلي? قال: نعم. فكان يفعل ذلك به. ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم، فكلم في بعض الخوارج فلج وأبى، وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم2. لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع3. فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج رجلاً من الشرط، فقال ابن زياد: ما أدري ما أصنع بهؤلاء! كلما أمرت رجلاً بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله! لأقتلن من في حبسي منهم. فأخرج السجان مرداساً إلى منزله كما كان يفعل، وأتى مرداساً الخبر، فلما كان السحر تهيأ للرجوع، فقال له أهله: اتق الله في نفسك، فإنك إن رجعت قتلت؛ فقال: إني ما كنت لألقى الله غادراً. فرجع إلى السجان فقال: إني قد علمت ما عزم عليه صاحبك، فقال: أعلمت ورجعت?!   1 الإدلاج: السير من آخلر الليل. 2 بنجم: يطلع. 3 اليراع: القصب الفارسي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 من أخبار مرداس أبي بلال ويروى أن مرداساً مر بأعرابي يهنأ1 بعيراً له، فهرج2 البعير، فسقط مرداس مغشياً عليه، فظن الأعرابي أنه قد صرع، فقرأ في أذنه، فلما أفاق قال له الأعرابي: قرأت في أذنك، فقال له مرداس: ليس بي ما خفته علي، ولكني رأيت بعيرك هرج من القطران، فذكرت به قطران جهنم، فأصابني ما رأيت، فقال: لا جرم، والله لا فارقتك أبداً! وكان مرداس قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. وأنكر التحكيم، وشهد النهر ونجا فيمن نجا، فلما خرج من حبس ابن زياد   1 يهنا بعيرا: يطلية بالهناء, وهو القطران. 2 هرج: تعب وتحير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 ورأى جد ابن زياد في طلب الشراة عزم على الخروج، فقال لأصحابه: أنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم، مجانبين للعدل، مفارقين للفصل1. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكنا ننتبذ عنهم، ولا نجرد سيفاً، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً، منهم حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي، فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً، فأبى فولوا أمرهم مرداساً، فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاري - وكان له صديقاً، فقال له: يا أخي2، أين تريد? قال أريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. فقال له: أعلم بكم أحد? قال: لا، قال: فارجع، قال أو تخاف علي مكروهاً? قال: نعم، وأن يؤتى بك! قال: فلا تخف، فإني لا أجرد سيفاً، ولا أخيف أحداً، ولا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى نزل آسك - وهو ما بين رامهرمز - وأرجان - فمر به مال يحمل لابن زياد، وقد قارب أصحابه الأربعين، فحط ذلك المال، فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه، ورد الباقي على الرسل، وقال: قولوا لصاحبكم: إنما قبضنا أعطياتنا. فقال بعض أصحابه: فعلام تدع الباقي! فقال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم. ولأبي بلال أشعار في الخروج اخترت منها قوله: أبعد ابن وهب ذي النزاهة والتقى ... ومن خاض في تلك الحروب المهالكا3 أحب بقاء أو أرجي سلامة ... وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكا! فيا رب سلم نيتي وبصيرتي ... وهب لي التقى حتى ألاقي أولئكا قوله: "وقد قتلوا" ولم يذكر أحداً، فإنما فعل ذلك لعلم الناس أنه يعني مخالفيه، وإنما يحتاج الضمير إلى ذكر قبله ليعرف، فلو قال رجل: ضربته، لم يجز، لأنه لم يذكر أحداً قبل ذكره الهاء، ولو رأيت قوما ًيلتمسون الهلال فقال قائل4: هذا هو، لم يحتج إلى تقدمة الذكر؛ لأن المطوب معلوم، وعلى هذا قال   1 الفصل: قول الحق. 2 لفظ: "ياأخي" من ر. 3 ابن وهب: هو عبد الله بن وهب الراسبي. 4 ر: "قوم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 علقمة بن عبدة في افتتاح قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم لأنه قد علم أنه يريد حبيبة له. وقوله: حتى ألاقي ولم يحرك الباء، فقد مضى شرحه مستقصى. ويروى أن رجلاً من أصحاب ابن زياد قال: خرجنا في جيش نريد خراسان، فمررنا بآسك، فإذا نحن بهم ستة وثلاثين رجلاً، فصاح بنا أبو بلال: أقاصدون لقتالنا أنتم? - وكنت أنا وأخي قد دخلنا زرباً - فوقف أخي ببابه فقال: السلام عليكم، فقال مرداس: وعليكم السلام، فقال لأخي: أجئتم لقتالنا? فقال له: لا، إنما نريد خراسان، قال: فأبلغوا من لقيكم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض، ولا لنروع أحداً. ولكن هرباً من الظلم، ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا، ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا، ثم قال: أندب إلينا أحد? قلنا: نعم، أسلم بن زرعة الكلابي، قال: فمتى ترونه يصل إلينا? قلنا: يوم كذا وكذا، فقال أبو بلال: حسبنا الله ونعم الوكيل! وجهز عبيد الله أسلم بن زرعة في أسرع وقت، ووجه إليهم في ألفين، وقد تتام صحاب مرداس أربعين رجلاً، فلما صار إليهم أسلم صاح به أبو بلال: اتق الله يا أسلم؛ فإنا لا نريد قتالاً، ولا نحتجن فيئاً. فما الذي تريد? قال: أريد أن أردكم إلى ابن زياد، قال مرداس: إذن يقتلنا، قال: وإن قتلكم! قال: تشركه في دمائنا، قال: إني أدين الله1 بأنه محق وأنكم مبطلون، فصاح به حريث بن حجل: أهو محق وهو يطيع الفجرة، وهو أحدهم، ويقتل بالظنة، ويخص بالفيء، ويجوز في الحكم! أما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة براء، وأنا أحد قتلته، ولقد وضعت في بطنه دراهم كانت معه! ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه من غير قتال. وكان معبد، أحد الخوارج، قد كاد   1 ر: "أدين بأنه محق". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 يأخذه. فلما ورد على ابن زياد غضب عليه غضباً شديداً، وقال: ويلك! أتمضي في ألفين فتهزم لحملة أربعين! وكان أسلم يقول: لأن يذمني ابن زياد حياً أحب إلي من أن يمدحني ميتاً! وكان إذا خرج إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به: أبو بلال وراءك! وربما صاحوا به: يا معبد خذه، حتى شكا ذلك إلى ابن زياد، فأمر ابن زياد الشرط أن يكفوا الناس عنه، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك؛ من بني تيم اللآت بن ثعلبة، في كلمة له: فلما أصبحوا صلوا وقاموا ... إلى الجرد العتاق مسومينا1 فلما استجمعوا حملوا عليهم ... فظل ذوو الجعائل يقتلونا بقية يومهم حتى أتاهم ... سواد الليل فيه يراوغونا يقول بصيرهم لما أتاهم ... بأن القوم ولوا هاربينا أألفا مؤمن فيما زعمتم ... ولكن الخوارج مؤمنونا هم الفئة القليلة غير شك ... على الفئة الكثيرة ينصرونا ثم ندب لهم عبيد الله بن زياد الناس، فاختار عباد بن أخضر وليس بابن في أربعة آلاف، فنهد لهم. ويزعم أهل العلم أن القوم قد كانوا تنحوا عن داربجرد من أرض فارس، فصار إليهم عباد وكان التقاؤهم في يوم جمعة، فناداه أبو بلال: اخرج إلي يا عباد، فإني أريد أن أحاورك. فخرج إليه، فقال: ما الذي تبغي? قال: أن آخذ بأقفائكم فأردكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد قال: أو غير ذلك! قال: أن ترجع، فإنا لا نخيف سبيلا، ولا نذعر مسلماً، ولا نحارب إلا من حاربنا، ولا نجبي إلا ما حمينا. فقال له عباد. الأمر ما قلت لك. فقال له حريث بن حجل: أتحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد! قال لهم: أنتم أولى بالضلال منه، وما من ذاك بد!   1 مسومين: معلمين بعلامات يعرفون بها في الحرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 وقدم القعقاع بن الباهلي من خراسان يريد الحج. فلما رأى الجمعين قال: ما هذا? قالوا: الشراة. فحمل عليهم. ونشبت الحرب، فأخذ القعقاع أسيراً، فأتي به بلال، فقال: ما أنت? قال: لست من أعدائك، وإنما قدمت للحج فجهلت وغررت، فأطلقه، فرجع إلى عباد فأصلح من شأنه. ثم حمل عليهم ثانية، وهو يقول: أقاتلهم وليس علي بعث ... نشاطاً ليس هذا بالنشاط أكر على الحروريين مهري ... لأحملهم على وضح الصراط فحمل عليه حريث بن حجل السدوسي وكهمس بن طلق الصريمي، فأسراه فقتلاه ولم يأتيا به أبا بلال، فلم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت الصلاة، صلاة يوم الجمعة، فناداهم أبو بلال: يا قوم، هذا وقت الصلاة، فوادعونا حتى نصلي وتصلوا. قالوا: لك ذاك، فرمى القوم أجمعون أسلحتهم وعمدوا للصلاة، فأسرع عباد ومن معه والحرورية مبطئون، فهم من بين راكع وقائم وساجد في الصلاة وقاعد، حتى مال عليهم عباد ومن معه، فقتلوهم جميعاً. وأتي برأس أبي بلال. وتروي الشراة أن مرداساً أبا بلال، لما قعد على أصحابه وعزم على الخروج، رفع يديه وقال: اللهم إن كان ما نحن فيه حقاً فأرنا آية. قال1: فرجف البيت. وقال آخرون: فارتفع السقف. فروى أهل العلم أن رجلاً من الخوارج ذكر ذلك لأبي العالية الرياحي يعجبه من الآية، ويرغبه في مذهب القوم، فقال أبو العالية: كاد الخسف ينزل بهم، ثم أدركتهم نظرة الله. فلما فرع من أولئك الجماعة أقبل بهم فصلبت رؤوسهم، وفيهم داود بن شبث، وكان ناسكاً، وفيهم حبيبة النصري من قيس، وكان مجتهداً.   1 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 فيروى عن عمران بن حطان أنه قال: قال لي حبيبة: لما عزمت على الخروج فكرت في بناتي، فقلت ذات ليلة: لأمسكن عن تفقدهن حتى أنظر، فلما كان في جوف الليل استسقت بنية لي، فقالت: يا أبت اسقني، فلما أجبها، فأعادت، فقامت أخية لها أسن منها، فسقتها. فعلمت أن الله عز وجل غير مضيعهن، فأتممت عزمي. وكان في القوم كهمس، وكان من أبر الناس بأمه، فقال لها: يا أمه! لولا مكانك لخرجت، فقالت: يا بني، قد وهبتك لله، ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك الحبطي: ألا في الله لا في الناس شالت ... بداود وإخوته الجذوع مضوا قتلاً وتمزيقاً وصلباً ... تحوم عليهم طير وقوع إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع وقال عمران بن حطان: يا عين بكي لمرداس ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس إما شربت بكأس دار أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكل من لم يذقها شارب عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 عباد بن أخضر المازني قال أبو العباس: ثم إن عباد بن أخضر المازني لبث دهراً في المصر، موصوفاً بما كان منه، فلم يزل على ذلك حتى ائتمر به جماعة من الخوارج أن يفتكوا به، فذمر بعضهم بعضاً على ذلك1. فجلسوا له في يوم جمعة وقد أقبل على بغلة   1 ذمره: لامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 له، وابنه رديفه. فقام إليه رجل منهم، فقال: أسألك عن مسألة. قال: قل. قال: أرأيت رجلاً قتل رجلاً بغير حق، وللقاتل جاه وقدر وناحية من السلطان، ألولي ذلك المقتول أن يفتك به إن قدر عليه? قال: بل يرفعه إلى السلطان. قال: إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه وعظيم جاهه عنده. قال: أخاف عليه إن فتك به فتك به السلطان. قال: دع ما تخافه من ناحية السلطان، أتلحقه تبعة فيما بينه وبين الله? قال: لا. قال: فحكم هو وأصحابه وخبطوه بأسيافهم. ورمى عباد ابنه فنجا. وتنادى الناس قتل عاد! فاجتمع الناس فأخذوا أفواه الطرق، وكان مقتل عباد في سكة بني مازن عند مسجد بني كليب فجاء معبد بن أخضر أخو عباد - وهو معبد بن علقمة، وأخضر زوج أمهما - في جماعة من بني مازن، فصاحوا بالناس: دعونا وثأرنا. فأحجم الناس وتقدم المازنيون، فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعاً، لم يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال، فإنه خرق خصاً ونفذ منه. ففي ذلك يقول الفرزدق: لقد أدرك الأوتار غير ذميمة ... إذا ذم طلاب التراث الأخاضر هم جردوا الأسياف يوم ابن أخضر ... فنالوا التي ما فوقها نال ثائر أفادوا به أسداً لها في اقتحامها ... إذا برزت نحو الحروب بصائر1 ثم ذكر بني كليب لأنه قتل بحضرة مسجدهم ولم ينصروه، فقال في كلمته هذه: كفعل كليب إذ أخلت بجارها ... ونضر اللئيم معتم وهو حاضر2 وما لكليب حين تذكر أول ... وما لكليب حين تذكر آخر وقال معبد بن أخضر: سأحمي دماء الأخضريين إنه ... أبى الناس إلا أن يقولوا ابن أخضرا   1 أقادوا أسدا. قتلوهم به. 2 يقال: اعتم الرجل في الشئ, إذا أبطأ فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 عروة بن أدبة وكان مقتل عباد وعبيد الله بن زياد بالكوفة. وخليفته على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة. فكتب إليه يأمره ألا يدع أحداً يعرف بهذا الرأي إلا حبسه وجد في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 طلبه ممن تغيب منهم. فجعل عبيد الله بن أبي بكرة يتتبعهم فيأخذهم، فإذا شفع إليه في أحد منهم كفله إلى أن يقدم ابن زياد، حتى أتي بعروة بن أدية فأطلقه، وقال: أنا كفيلك. فلما قدم عبيد الله بن زياد أخذ من في الحبس1 منهم فقتلهم جميعاً. وطلب الكفلاء بمن كفلوا به منهم، فكل من جاءه بصاحبه أطلقه، وقتل الخارجي، ومن لم يأت بمن كفل به منهم قتله، ثم قال لعبيد الله بن أبي بكرة: هات عروة بن أدية، قال: لا أقدر عليه، قال: إذاً والله أقتلك فإنك كفيله، فلم يزل يطلبه حتى دل عليه في سرب2 العلاء بن سوية المنقري، فكتب بذلك إلى عبيدة الله بن زياد. فقرأ عليه الكاتب: إنا أصبناه في شرب فتهانف به عبيد الله بن زياد، وكان كثير المحاورة، عاشقاً للكلام الجيد، مستحسناً للصواب منه؛ لا يزال يبحث عن عذره، فإذا سمع الكلمة الجيدة عرج عليها. ويروى أنه قال في عقب مقتل الحسين بن علي عليه السلام لزينب بنت علي رحمهما الله - وكانت أسن من حمل إليه منهن، وقد كلمته فأفصحت وأبلغت، وأخذت من الحجة - فقال لها: إن تكوني بلغت في الحجة حاجتك فقد كان أبوك خطيباً وشاعراً، فقالت: ما للنساء والشعر3! وكان مع هذا ألكن يرتضخ4 لغة فارسية. وقال لرجل مرة، واتهمه برأي الخوارج: أهروري منذ اليوم! رجع الحديث: فقال للكاتب: صحفت والله ولؤمت، إنما هو "في سرب العلاء بن سوية". ولوددت أنه كان ممن يشرب النبيذ. فلما أقيم عروة بن أدية بين يديه حاوره. وقد اختلف في خبره5. وأصحه عندنا أنه قال: لقد6 جهزت أخاك علي. فقال: والله لقد كنت به ضنيناً، وكان لي عزاً، ولقد أردت له ما أريد7 لنفسي، فعزم عزما فمضى عليه، وما   1 ر: "السجن". 2 السرب: الطريق والمسلك. 3 س: "وللشعر". 4 يرتضخ: يميل إليها في نطقه. 5 ر: "وقد اختلف الناس في خبره". 6 كلمة "لقد" ساقطة من ر. 7 ر: "مأريده". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 أحب لنفسي إلا المقام وترك الخروج، قال له أفأنت على رأيه? قال: كنا1 نعبد رباً واحداً. قال: أما لأمثلن بك! قال له: اختر لنفسك من القصاص ما شئت. فأمر به فقطعوا يديه ورجليه، ثم قال له: كيف ترى? قال: أفسدت علي دنياي وأفسدت عليك آخرتك ثم أمر فقتل، ثم صلب على باب داره. ثم دعا مولاه فسأله عنه. فأجابه جواباً قد2 مضى ذكره. قوله: فتهانف. حقيقته: تضاحك به ضحك هزء. وقل ابن أبي ربيعة المخزومي: ولقد قالت لجارات لها ... وتعرت ذات يوم تبترد أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لا يقتصد! فتهانفن وقد قلن لها ... حسن في كل عين من تود حسد حملنه من أجلها ... وقديماً كان في الناس الحسد   1 ر: "كلنا". 2 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 أمر زياد مع الخوارج وكان عبيد الله لا يلبث الخوارج، يحبسهم تارة ويقتلهم تارة، وأكثر ذلك يقتلهم، ولا يتغافل عن أحد منهم، وسبب ذلك أنه أطلقهم من حبس زياد لما ولي بعده، فخرجوا عليه. فأما زياد فكان يقتل المعلن ويستصلح المسر، ولا يجرد السيف حتى تزول التهمة. ووجه يوماً بحينة بن كبيش الأعرجي إلى رجل من بني سعد يرى رأي الخوارج، فجاءه بحينة فأخذه. فقال: إني أريد أن أحدث وضوءاً للصلاة، فدعني أدخل منزلي1. قال: ومن لي بخروجك? قال: الله عز وجل، فتركه. فدخل فأحدث وضوءاً ثم خرج، فأتى به بحينة زياداً. فلما مثل بين يديه ذكر الله زياد، ثم صلى على نبيه، ثم ذكر   1 ر: "أدخل إلى منزلي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 أبا بكر وعمر وعثمان بخير، ثم قال: قعدت عني فأنكرت ذلك، فذكر الرجل ربه فكمده، ثم ذكر النبي عليه السلام، ثم ذكر أبا بكر وعمر بخير، ولم يذكر عثمان. ثم أقبل على زياد فقال: إنك قد قلت قولاً فصدقه بفعلك، وكان من قولك: ومن قعد عنا لم نهجه. فقعدت. فأمر له بصلة وكسوة وحملان، فخرج الرجل من عند زياد وتلقاه الناس يسألونه، فقال: ما كلكم أستطيع أن أخبره، ولكني دخلت على رجل لا يملك ضراً ولا نفعاً لنفسه، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فرزق الله منه ما ترون. وكان زياد يبعث إلى الجماعة منه فيقول: أأحسب الذي يمنعكم من إتياني إلا الرجلة1 فيقولون: أجل، فيحملهم ويقول: اغشوني الآن واسمروا عندي. فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فال: قاتل الله زياداً! جمع لهم كما تجمع الذرة2، وحاطهم كما تحوط الأم البرة، وأصلح العراق بأهل العراق، وترك أهل الشام بشأمهم3، وجبى العراق مائة ألف ألف وثمانية عشر ألف ألف. قال أبو العباس: وبلغ زياداً عن رجل يكنى أبا الخير، من أهل البأس والنجدة، أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فولاه جندي سابور وما يليا، ورزقه أربعة آلاف درهم في كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: ما رأيت شيئاً خيراً من لزوم الطاعة والتقلب بين أظهر الجماعة! فلم يزل والياً حتى أنكر منه زياد شيئاً فتنمر لزياد فحبسه، فلم يخرج من حبسه حتى مات.   1 الرجلة: المشي على الرجلين. 2 الذرة: واحدة الذر, وهو النمل الصغار. 3 ر: "في شأمهم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 الرهين المرادي وشعره وقال الرهين وكان رجلاً من مراد، وكان لا يرى القعود عن الحرب وكان في الدهاء ولمعرفة والشعر والفقه بقول الخوارج، بمنزلة عمران بن حطان، وكان عمران بن حطان في وقته شاعر قعد لصفرية ورئيسهم ومفتيهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 وللرهين المرادي، ولعمران بن حطان مسائل كثيرة من أبواب العلم في القرآن والآثار، وفي السير والسنن، وفي الغريب، وفي1 الشعر، نذكر طريفها إن شاء الله. قال المرادي: يا نفس قد طال في الدنيا مرواغتي ... لا تأمنن لصرف الدهر تنقيصا2 إني لبائع ما يفنى لباقية ... إن لم يعقني رجاء العيش تربيصا3 وأسأل الله بيع النفس محتسباً ... حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا [قال الأخفش: حرقوص: ذو الثدية] . وابن المنيح ومرداساً وإخوته ... إذ فارقوا زهرة الدنيا مخاميصا4 قال أبو العباس: وهذه كلمة له، وله أشعار كثيرة في مذاهبهم. وكان زياد ولى شيبان بن عبد الله الأشعري صاحب مقبرة بني شيبان باب عثمان وما يليه، فجد في طلب الخوارج وأخافهم، وكانوا قد5 كثروا، فلم يزل كذلك حتى أتاه ليلة - وهو متكئ بباب داره - رجلان من الخوارج، فضرباه بأسيافهما فقتلاه. وخرج بنون له للإغاثة فقتلوا، ثم قتلهما الناس. فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج، فقال: اقتلوه متكئاً كما قتل شيبان متكئاً. فصاح الخارجي: يا عدلاه! يهزأ به. فأما قول جرير: ومنا فتى الفتيان والبأس معقل ... ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا فإنه أراد معقل بن قيس الرياحي، ورياح بن يربوع، وجرير من كليب بن يربوع. وقوله: ومنا الذي لاقى بدجلة معقلا   1 ر: "والشعر". 2 ر. س: "تنغيصا". 3 التربيص: الانتظار. 4 المخاميص: جمع مخامص, وهو الضامر البطن. 5 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 يريد المستورد التيمي، وهو من بني تيم1 بن عبد مناة بن أد، وتميم ابن مر بن أد. وأما قول ابن الرقيات: والذي نغص ابن دومة ما تو ... حي الشياطين والسيوف ظماء فأباح العراق يضربهم بالسيف ... صلتاً وفي الضراب غلاء2 فإنما يريد بابن دومة المختار بن أبي عبيد الثقفي، والذي نغصه مصعب نب الزبير، وكان المختار لا يوقف له على مذهب، كان خارجياً، ثم صار زبيرياً، ثم صار رافضياً في ظاهره. وقوله: "ما توحي الشياطين"، فإن المختار كان يدعي أنه يلهم ضرباً من السجاعة3 لأمور تكون، ثم يحتال فيوقعها، فيقول للناس: هذا من عند الله عز وجل. فمن ذلك قوله ذات يوم: لتنزلن من السماء نار دهماء، فلتحرقن دار أسماء. فذكر ذلك لأسماء بن خارجة، فقال: أقد سجع بي أبو إسحاق! هو والله محرق داري! فتركه والدار وهرب من الكوفة. وقال في بعض سجعه: أما والذي شرع الأديان، وجنب الأوثان، وكره العصيان، لأقلن أزد عمان، وجل قيس عيلان، وتميماً أولياء الشيطان، حاشا النجيب ظبيان! فكان ظبيان النجيب يقول: لم أزل في عمر المختار أتقلب آمناً.   1 ر: "من تميم". 2 الصلت: الماضي في الشئ. والغلاء: مجاوزة القدر في كل شئ. 3 السجاعة: صناعة السجع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 المختار بن عبيد وبعض أخباره ويروى أن المختار بن أبي عبيد - وكان والياً لابن الزبير على الكوفة - اتهمه ابن الزبير، فولى رجلاً من قريش الكوفة. فلما أطل قال لجماعة من أهلها: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه، فخرجوا إليه، فقالوا: أين تريد? والله لئن دخلت الكوفة ليقتلنك المختار، فرجع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وكتب المختار إلى ابن الزبير: إن صاحبك جاءنا فلما قاربنا رجع، فما أدري ما الذي رده! فغضب ابن الزبير على القرشي وعجزه ورده إلى الكوفة، فلما شارفها قال المختار: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه. فخرجوا إليه، فقالوا: إنه والله قاتلك، فرجع. وكتب المختار إلى ابن الزبير بمثل كتابه الأول. فلام القرشي، فلما كان في الثالثة فطن ابن الزبير، وعلم بذلك المختار، وكان ابن الزبير قد حبس محمد بن الحنفية مع خمسة عشر رجلاً من بني هاشم، فقال: لتبايعن أو لأحرقنكم، فأبوا بيعته. وكان السجن الذي حبسهم فيه يدعى سجن عارم، ففي ذلك يقول كثير: تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم ومن يلق هذا الشيخ بالخيف من منى ... من الناس يعلم أنه غير ظالم سمي النبي المصطفى وابن عمه ... وفكاك أغلال وقاضي مغارم وكان عبد الله بن الزبير يدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت، ففي ذلك يقول ابن الرقيات يذكر مصعباً: بلد تأمن الحمامة فيه ... حيث عاذ الخليفة المظلوم وكان عبد الله يدعى المحل، لإحلاله القتال في الحرم، وفي ذلك يقول رجل في رملة بنت الزبير: ألا من لقلب معنى غزل ... بذكر المحلة أخت المحل وكان عبد الله بن الزبير يظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض أهله، وكان يحسده على أيده1، ويقال: إن علياً استطال درعاً فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثم جذبها فقطعه من الموضع الذي حده أبوه، فكان ابن الزبير إذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه له أفكل2. فلما رأى المختار أن ابن الزبير قد فطن لما أراد كتب إليه: من المختار بن أبي عبيد الثقفي خليفة الوصي محمد بن علي أمير المؤمنين أبي عبد الله بن أسماء، ثم   1 الأيد: القوة. 2 الافكل: اسم للرعدة تعلو الإنسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 ملأ الكتاب بسبه وسب أبيه. وكان قبل ذلك في وقت إظهاره طاعة ابن الزبير يدس إلى الشيعة، ويعلمهم موالاته أياهم، وخيرهم أنه على رأيهم وحمد مذاهبهم، وأنه سيظهر ذلك عما قليل. ثم وجه جماعة تسير الليل وتكمن النهار، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم، ثم ساروا بهم إلى مأمنهم. وكان من عجائب المختار أنه كتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر يسأله الخروج إلى الطلب بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأبى عليه إبراهيم إلا أن يستأذن محمد بن علي بن أبي طالب، فكتب إليه يستأذنه في ذلك1، فعلم محمد أن المختار لا عقد له، فكتب محمد إلى إبراهيم بن الأشتر: إنه ما يسوؤني أن يأخذ الله لحقنا على يدي من شاء2 من خلقه. فخرج معه إبراهيم بن الأشتر، فوجهه3 نحو عبيد الله بن زياد. وخرج يشيعه ماشياً، فقال له إبراهيم: اركب يا أبا إسحاق! فقال: إني أحب أن تغبر قدماي في نصرة آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فشيعه فرسخين، ودفع إلى قوم من خاصته حماماً بيضاً ضخاماً، وقال: إن رأيتم الأمر لنا فدعوها، وإن رأيتم الأمر علينا فأرسلوها، وقال للناس: إن استقمتم فبنصر الله، وإن حصتم حيصة4 فإني أجد في محكم الكتاب، وفي اليقين والصواب، أن الله مؤيدكم بملائكة غضاب، تأتي في صور الحمام دوين السحاب. فلما صار ابن الأشتر بخازر5 وبها عبيد الله بن زياد قال: من صاحب الجيش? قيل له: ابن الأشتر، قال: أليس الغلام الذي كان يطير الحمام بالكوفة? قالوا: بلى، قال: ليس بشيء، وعلى ميمنة ابن زياد، حصين6 بن نمير السكوني من كندة ويقال السكوني والسكوني، والسدوسي والسدوسي، كذا كان أبو عبيدة يقول. [قال أبو الحسن: السكوني أكثر] 7، وعلى ميسرته عمير بن الحباب فارس الإسلام.   1 ساقطة من ر. 2 ر: "من يشاء". 3 ر: "فتوجه". 4 حصتم حيصة: ذهبتم تطلبون الفرار. 5 خازر: نهر بين إربل والموصل. 6 ر: "حضين", وما أثبته عن الأصل. 7 ما بين العلامتين من زيادات ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 فقال حصين بن نمير لابن زياد: إن عمير بن الحباب غير ناس قتلى المرج1. وإني لا أثق لك به. فقال ابن زياد: أنت لي عدو، قال حصين: ستعلم. قال ابن الحباب: فلما كان الليلة التي يريد أن نواقع ابن الأشتر في صبيحتها خرجت إليه، وكان لي صديقاً، ومعي رجل من قومي، فصرت إلى عسكره، فرأيته وعليه قميص هروي2 وملاءة، وهو متوشح3 السيف يجوس عسكره فيأمر فيه وينهى، فالتزمته من ورائه، فوالله ما التفت إلي، ولكن قال: من هذا? فقلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحباً بأبي المغلس، كن بهذا الموضع حتى أعود إليك، فقلت لصاحبي: أرأيت أشجع من هذا قط! يحتضنه رجل من عسكر عدوه، ولا يدري من هو? فلا يلتفت إليه، ثم عاد إلي وهو في أربعة آلاف، فقال: ما الخبر? فقلت: القوم كثير، والرأي أن تناجزهم، فإنه لا صبر بهذه العصابة القليلة على مطاولة هذا الجمع الكثير، فقال: نصبح إن شاء الله ثم نحاكمهم إلى ظبات السيوف وأطراف القنا، فقلت: أنا منخزل عنك بثلث الناس غداً. فلما التقوا كانت على أصحاب إبراهيم في أول النهار، فأرسل أصحاب المختار الطير، فتصايح الناس: الملائكة! فتراجعوا، ونكس عمير بن الحباب رايته، ونادى: يا لثأرات المرج! وأنزل بالميسرة كلها، وفيها قيس فلم يعصوه، واقتتل الناس حتى اختلط الظلام، وأسرع القتل في أصحاب عبيد الله بن زياد. ثم انكشفوا ووضع السيف فيهم حتى أفنوا، فقال ابن الأشتر لقد ضربت رجلاً على شاطئ هذا النهر فرجع إلي سيفي، فيه4 راحة المسك. ورأيت إقداماً وجزأة، فصرعته فذهبت يداه قبل المشرق، ورجلاه قبل المغرب، فانظروا. فأتوه بالنيران، فإذا هو عبيد الله بن زياد. وقد كان عند المختار كرسي قديم العهد، فغشاه بالديباج، وقال: هذا الكرسي من ذخائر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فضعوه في   1 قتلى المرج, يريد مرج راهط, وقد قتلت يوم ذلك قبائل قيس مقتلة لم تر مثلها. قاله المرصفي. 2 هروي: منسوب على هراة إحدى مدن خراسان. 3 ر: "متشح". 4 ر: "ومنه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 براكاء الحرب، وقاتلوا عليه، فإن محله فيكم محل السكينة في بني إسرائيل. ويقال إنه اشترى ذلك الكرسي من نجار بدرهمين1. وقوله: في براكاء القتال ويقال: براكاء وبروكاء، وهو موضع اصطدام القوم، وقال الشاعر2: وليس بمنقذ لك منه إلا ... براكاء القتال أو الفرار   1 ر: "بدرهمين من بخار". 2 حاشية الأصل: "البيت لبشر بن خازم" ويروى: ولا ينجى من الغمرات إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وهذا باب 1 اللام التي للاستغاثة والتي للإضافة إذا استغثت بواحد أو بجزاعة فاللام مفتوحة، تقول: يا للرجال، ويا للقوم، ويا لزيد! إذا كنت تدعوهم. وإنما فتحتها لتفصل بين المدعو والمدعو له، ووجب أن تفتحها لأن أصل اللام الخافضة إنما كان الفتح، فكسرت مع المظهر ليفصل بينها وبين لام التوكيد، تقول: إن هذا لزيد، إذا أردت: إن هذا زيد، وتقول: إن هذا لزيد، إذا أردت أنه في ملكه، ولو فتحت لالتبسا2. فإن وقعت اللام على مضمر فتحتها على أصلها، فقلت: إن هذا لك، وإن هذا لأنت، إذا أردت لام التوكيد ليس ههنا لبس، وذاك أن الأسماء المضمرة على غير لفظ المظهرة، فلهذا أجريتها على الأرض، والاستغاثة إلى أصلها من أجل اللبس. والمدعو له في بابه، فاللام معه مكسورة، تقول: يا للرجال للماء! ويا للرجال للعجب ويا لزيد للخطب الجليل! قال الشاعر: يا للرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يبعث لي بعد النبي طربا3   1 ر: "هذا". 2 ر: "لالتبستا". 3 لعبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 وقال آخر: تكنفني الوشاة فأعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع1 وفي الحديث لما طعن العلج - أو العبد - عمر بن الخطاب رضوان الله عليه صاح: يا لله يا للمسلمين!. وتقول: يا للعجب، إذا كنت تدعو إليه، ويا لغير العجب، كأنك قلت: يا للناس للعجب. وينشد هذا البيت: يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار2 فيا لغير اللعنة، كأنه قال: يا قوم لعنة الله والأقوام كلهم. وزعم سيبويه أن هذه اللام التي للإستغاثة دليل، بمنزلة الألف التي تبين بالهاء في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيداً، فإنما هي للاستغاثة بمنزلة هذه اللام، وذلك قولك: يا قوماه! على غير الندبة، ولكن للاستغاثة ومد الصوت. والقول كما قال، محلهما عند العرب محل واحد، فإن وصلت حذفت الهاء، لأنها زيدت في الوقف لخفاء الألف، كما تزاد لبيان الحركة، فإذا وصلت أغنى ما بعدها عنها، تقول: يا قوماً تعالوا، ويا زيداً لا تفعل، ولا يجوز أن تقول: يا لزيد وهو مقبل عليك، وكذلك لا يجوز أن تقول: يا زيداه، وهو معك، إنما يقال ذلك للبعيد، أو ينبه به النائم. فإن قلت: يا لزيد ولعمرو، كسرة اللام في "عمرو" وهو مدعو، لأنك إنما فتحت اللام في "زيد" لتفصل بين المدعو إليه، فلما عطفت على زيد استغنيت عن الفصل، لأنك إذا عطفت عليه شيئاً صار في مثل حاله. ونظير ذلك الحكاية، يقول الرجل: أرأيت زيداً، فتقول، من "زيداً"? وإنما حكيت قوله ليعلم أنك إنما تستفهمه عن الذي ذكر بعينه، ولا تسأله عن زيد غيره، والموضع موضع رفع، لأنه ابتداء وخبر، فإن قلت: ومن زيد? أو فمن زيد? لم يكن إلا رفعاً، لأنك عطفت على كلامه، فاستغنيت عن الحكاية، لأن العطف لا يكون مستأنفاً. ونظير هذا الذي ذكرت لك في اللام قول الشاعر: يبكيك ناء بعيد الدار مغترب ... يا للكهول وللشبان للعجب! فقد أحكمت كل ما في هذا الباب.   1 نسبة المرصفي إلي قيس بن ذريح وقبله: فواكبدي وعاودني رداعي ... وكان فراق لبني كالخداع 2 سمعان: بفتح السين وكسرها. وكلامها صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 ثم نعود إلى ذكر الخوارج خالد بن عباد السدوسي قال أبو العباس: وذكر لعبد الله بن زياد رجل من بني سدوسي، يقال له خالد بن عباد - أو ابن عبادة - وكان من نساكهم، فوجه إليه فأخذه، فأتاه رجل من آل ثور، فكذب عنه، وقال: هو صهري وهو في ضمني، فخلى عنه، فلم يزل الرجل يتفقده حتى تغيب، فأتى ابن زياد فأخبره، فبعث إلى خالد بن عباد فأخذ، فقال عبيد الله بن زياد: أين كنت في غيبتك هذه? قال: كنت عند قوم يذكرون الله ويذكرون أئمة الجور فيتبرأون منهم! قال: ادللني عليهم1، قال: إذن يسعدوا وتشقى، ولم أكن لأروعهم! قال: فما تقول في أبي بكر وعمر? خيراً، قال: أمير المؤمنين عثمان، أتتولاه وأمير المؤمنين معاوية? قال: إن كانا وليين لله فلست أعاديهما، فأراغه مرات فلم يرجع، فعزم على قتله، فأمر بإخراجه إلى رحبة2 تعرف برحبة الزينبي. فجعل الشرط يتفادون من قتله، ويروغون عنه توقياً، لأنه كان شاسفاً3، عليه أثر العباد، حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي، وكان من الشرط، فتقدم فقتله، فائتمر به الخوارج ليقتلوه. وكان مغرماً باللقاح4، يتتبعها5 فيشتريها من مظانها، وهم في تفقده، فدسوا إليه رجلاً في هيئة الفتيان، عليه ردع زعفران6   1 ر: "دلني عليهم". 2 الرحبة: الفجوة الواسعة بين الدور. 3 الشاسف: اليابس من الهزل. 4 اللقحة: الناقة التي لها لبن. 5 ر: "يتتبعها". 6 الودع: اللطخ بالطيب والزعفران. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 فلقيه بالمربد1 وهو يسأل عن لقحة صفي2، فقال له الفتى: إن كنت تبلغ3 فعندي ما يغنيك عن غيره، فامض معي. فمضى المثلم على فرسه والفتى أمامه، حتى أتى به بني سعد، فدخل داراً، وقال له: ادخل على فرسك، فلما دخل وتوغل في الدار أغلق الباب، وثارت به الخوارج فاعتوره حريث بن حجل، وكهمس بن طلق الصريمي فقتلاه، وجعلا دراهم كانت معه في بطنه، ودفناه في ناحية الدار، وحكا آثار الدم، وخليا فرسه في الليل، فأصيب من الغد في المربد، وتجسس4 عنه الباهليون فلم يروا له أثراً، فاتهموا به بني سدوس، فاستدوا عليهم السلطان، وجعل السدوسيون يحلفون، وتحامل5 ابن زياد مع الباهليين، فأخذ من السدوسيين أربع ديات، وقال: ما أدري ما أصنع بهؤلاء الخوارج! كلما أمرت بقتل واحد منهم اغتالوا قاتله فلم يعلم بمكانه، حتى خرج مرداس، فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث بن حجل: أههنا من بالهة أحد? قالوا: نعم، قال: يا أعداء الله، أخذتم بالمثلم أربع ديات وأنا قتلته6 وجعلت دراهم كانت معه في بطنه، وهو في موضع كذا مدفون، فلما انهزموا صاروا إلى الدار، فصابوا أشلاءه والدراهم، ففي ذلك يقول أبو الأسود الدؤلي: آليت لا أغدو إلى رب لقحة ... أساومه حتى يعود المثلم7 ثم خرجت خوارج لا ذكر لهم، كلهم قتل، حتى انتهى الأمر إلى الأزارقة.   1 المربد" المكان الذي تحبس فيه الفبل وتصان. ومنه سمي مربد البصر’. وكان موضع سوق اللإبل. 2 الصفي: الناقة الغزيرة اللبن, والجمع صفايا. 3 تبلغ: يريد إن كنت تبلغ بها ثمنا جيدا. قاله المرصفي. 4 ر: "وتحسن". 5 ر: "فتحامل". 6 ر: "وأنا قاتله". 7 بعده كما ذكره المرصفي: وقال له كوماء حمراء جلدة ... وقاربه في السوم والقتل يكتم فأصبح قد عمى على الناس أمره ... وقد بات يجري فوق أثوابه الدم وقد كان فيما كان منه بمعزل ... ولكن حين المرء للمرء مسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 تفرق الخوارج ومن ههنا افترقت الخوارج فصارت على أربعة أضرب. الإباضية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض. والصفرية، واختلفوا في تسميتهم، فقالوا قوم: سموا بابن صفار1 وقال آخرون - وأكثر المتكلمين عليه -: هم قوم نهكتهم العبادة فاصفرت وجوههم.. ومنهم البيهسية وهم أصحاب بيهس2. ومنهم الأزارقة، وهم أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي. وكانوا قبل على رأي واحد، لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ من الفروع، كما قال صخر بن عروة: إني كرهت قتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لسابقته وقرابته، فأما الآن فلا يسعني إلا الخروج، وكان اعتزل عبد الله بن وهب يوم النهر فضللته3 الخوارج بامتناعه من قتال علي.   1 هو عبد الله بن الصفا. 2 هو هيصم بن جابر. 3 ضللته: نسبته إلى الضلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 الخوارج وابن الزبير فكان أول أمرهم الذي نستاقه: أن جماعة من الخوارج، منهم نجدة بن عامر الحنفي، عزموا على أن يقصدوا مكة، لما توجه مسلم بن عقبة يريد المدينة لوقعة الحرة، فقالوا: هذا ينصرف عن المدينة إلى مكة، ويجب علينا أن نمنع حرم الله منه، ونمتحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا بايعناه، فمضوا لذلك. فكان أول أمرهم أن أبا الوازع الراسبي - وكان من مجتهدي الخوارج - كان يذمر نفسه ويلومها على القعود، وكان شاعراً، وكان يفعل ذلك بأصحابه، فأتى نافع بن الأزرق وهو في جماعة من أصحابه، يصف لهم جور السلطان - وكان ذا لسان عضب، واحتجاج وصبر على المنازعة - فأتاه أبو الوازع، فقال يا نافع، لقد أعطيت لساناً صارماً وقلباً كليلاً، فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك، وكلال قلبك كان للسانك، أتحض على الحق وتقعد عنه، وتقبح الباطل وتقيم عليه! فقال: إلى أن يجتمع1 من أصحابك من تنكي به عدوك، فقال أبو الوازع:   1 ر: "تجمع". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 لسانك لا ينكى به القوم إنما ... تنال بكفيك النجاة من الكرب فجاهد أناساً حاربوا اله واصطبر ... عسى الله أن يخزي غوي بني حرب ثم قال: والله لا ألومك ونفسي ألوم، ولأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبداً. ثم مضى فاشترى سيفاً، وأتى صيقلاً1 كان يذم الخوارج ويدل على عوراتهم، فشاوره في السيف فحمده، فقال: اشحذه، فشحذه، حتى إذا رضيه حكم وخبط به الصقيل وحمل على الناس فتهاربوا منه، حتى أتى مقبرة بني يشكر، فدفع عليه رجل حائط السترة فكرهت ذلك بنو يشكر، خوفاً أن تجعل الخوارج قبره مهاجراً، فلما رأى ذلك نافع وأصحابه جدوا، وخرج في ذلك جماعة، فكان ممن خرج عيسى بن فاتك الشاعر الخطي، من تيم اللات بن ثعلبة، ومقتله بعد خروج الأزارقة. فمضى نافع وأصحابه من الحرورية قبل الاختلاف إلى مكة، ليمنعوا الحرم من جيش مسلم بن عقبة، فلما صاروا إلى ابن الزبير عرفوه أنفسهم، فأظهر لهم أنه على رأيهم، حتى أتاهم مسلم بن عقبة وأهل الشأم، فدافعوهم إلى أن يأتي رأي يزيد بن معاوية، ولم يبايعوا ابن الزبير. ثم تناظروا فيما بينهم، فقالوا: ندخل إلى هذا الرجل فنظر ما عنده، فإن قدم أبا بكر وعمر، وبرئ من عثمان وعلي، وكفر أباه وطلحة، بايعناه، وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده، فتشاغلنا بما يجدي علينا. فدخلوا على ابن الزبير، وهو متبذل، وأصحابه متفرقون عنه، فقالوا: إنا جئناك لتخبرنا رأيك، فإن كنت عل الصواب بايعناك، وإن كنت إلى غيره دعوناك إلى الحق، ما تقول في الشيخين? قال: خيراً، قالوا: فما تقول في عثمان، الذي أحمى الحمى، وآوى الطريد، وأظهر لأهل مصر شيئاً وكتب بخلافه، وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفيء المسلمين? وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال، وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم? وفي أبيك وصاحبه، وقد بايعا علياً وهو إمام عادل مرضي، لم يظهر منه كفر، ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا، وأخرجا عائشة تقاتل، وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن2 في بيوتهن? وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى   1 الصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها. 2 يشير على قوله تعالى في سورة الأحزاب 33: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 التوبة! فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفة عند الله والنصر على أيدينا، ونسأل الله لك التوفيق، وإن "أبيت خذلك الله وانتصر منك بأيدينا"1. فقال ابن الزبير: إن الله أمر - وله العزة والقدرة - في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العتاة بأرفه2 من هذا القول، فقال لموسى ولأخيه - صلى الله عليهما - في فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 3، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تؤذوا الأحياء بسب الموتى" فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه، وأبو جهل عدو الله وعدو الرسول، والمقيم على الشرك، والجاد في المحاربة، والمتبغض إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الهجرة، والمحارب له بعدها، وكفى بالشرك ذنباً! وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبي، أن تقولوا: أتبرأ من الظالمين? فإن كانا منهم، دخلا في غمار4 الناس، وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني5 بسب أبي وصاحبه، وأنتم تعلمون أن الله جل وعز قال للمؤمن في أبويه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} 6, وقال جل ثناؤه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} 7. وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده، وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح، ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج، وأوضح لمنهاج الحق، وأولى بأن يعرف كل صاحبه من عدوه، فروحوا إلي من عشيتكم هذه أكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله. فلما كان العشي راحوا إليه، فخرج إليهم وقد لبس سلاحه، فلما رأى ذلك نجدة قال: هذا خروج منابذ لكم، فجلس على رفع من الأرض، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر، ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته، ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرتها فيها، فجعلها كالماضية، وخبر أنه آوى الحكم بن أبي العاص بإذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،   1 كذا وردت العبارة في الأصل. س. وفي ر: "وإن ابيت إلا نصر رأيك الأول. وتصويب أبيك وصاحبه. والتحقيق بعثمان, والتولي على الست التي أحلت دمه. ونقضت ...... وافدت إمامته, خذلك الله وانتصر من بأيدينا". 2 في ر: "بارأف". 3 سورة طه 44. 4 غمار الناس: جماعتهم. 5 لم تحفظوني: لم تغظبوني. 6 سورة لقمان 15. 7 سورة البقرة 83. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح، وأن القوم استعتبوه من أمور، وكان له أن يفعلها أولاً مصيباً، ثم أعتبهم بعد محسناً، وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العتبى؛ ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم، فدفعوا الكتاب إليه، فحلف أنه لم يكتبه ولم يأمر به، وقد أمر بقبول اليمنين ممن ليس له مثل سابقته، مع ما أجتمع له من صهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومكانه من الإمامة، وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه، وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها لحلف عل حق فافتداها بمائة ألف ولم يحلف، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض". فعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه، وأنا ولي وليه، وعدو عدوه، وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله يقول عن الله تعالى يوم أحد لما قطعت إصبع طلحة: "سبقته إلى الجنة"، وقال: "أوجب طلحة". وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد، قال: ذاك يوم كله أو جله لطلحة، والزبير حواري رسول الله وصفوته، وقد ذكر أنهما في الجنة، وقال جل وعز: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 1، وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم، فإن يكن ما سعوا فيه حقاً فأهل ذلك هم، وإن يكن زلة ففي عفو الله تمحيصها، وفيما وفقتهم له من السابقة مع نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومهما ذكرتموهما به فقد بدأتم بأمكم عائشة رضي الله عنها، فإن أبى آب أن تكون له أماً نبذ اسم الإيمان عنه، قال الله جل وعز وقوله الحق: {النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2. فنظر بعضهم إلى بعض، ثم انصرفوا عنه. وكان سبب وضع الحرب بين ابن الزبير وبين أهل الشأم - بعد إذ كان3 حصين بن نمير قد حصر ابن الزبير - أنه أتاهم موت يزيد بن معاوية فتوادع الناس، وقد كان أهل الشأم ضجروا من المقام على ابن الزبير، وحنقت الخوارج في قتالهم، ففي ذلك يقول رجل من قضاعة:   1 سورة الفتح 18. 2 سورة الاحزاب 6. 3 ر: "أن كان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 يا صاحبي ارتجلا ثم املسا ... لا تحسبا لدى الحصين محبسا إن لدى الأركان ناسناً بؤسا -[قال الأخفش: حفظي بأساً أبؤسا]- وبارقات يختلسن الأنفسا ... إذا الفتى حكم يوماً كلسا قوله: ثم أملسا يريد: تخلصا تخلصاً سهلاً. وكلس، أي جمل وجد. ولما سمح ابن الزبير للخوارج في القول وأظهر أنه منهم قال رجل يقال له فلان بن همام1، من رهط الفرزدق: يا ابن الزبير أتهوى عصبة قتلوا ... ظلماً أباك ولما تنزع الشكك ضحوا بعثمان يوم النحر ضاحية ... ما أعظم الحرمة والعظمى التي انتهكوا! فقال ابن الزبير: لو شايعتني الترك والديلم على قتال أهل الشأم لشايعتها. الشكك: جمع شكة، وهي السلاح، قال الشاعر: ومدججاً يسعى بشكته ... محمرة عيناه كالكلب فتفرقت الخوارج عن ابن الزبير لما تولى عثمان، فصارت طائفة إلى البصرة، وطائفة إلى اليمامة، وكان رجاء النصري2 وهو الذي جمعهم للمدافعة عن الحرم، فكان فيمن صار إلى البصرة نافع بن الأزرق الحنفي، وبنو الماحوز السليطيون، ورئيسهم حسان بن بحدج3، فلما صاروا إلى البصرة نظروا في أمورهم فأمروا عليهم نافعاً.   1 ر: "قيس بن همام". 2 كذا في الأصل. وفي ر: "النميري". 3 ر: "محرج". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 خروج نافع بن الأزرق بقومه إلى الأهواز ويروى أن أبا الجلد اليشكري قال لنافع يوماً: يا نافع، إن لجهنم سبعة أبواب، وإن أشدها حراً للباب الذي أعد للخوارج، فإن قدرت ألا تكون منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 فافعل، فأجمع القوم على الخروج، فمضى بهم نافع إلى الأهواز1 في سنة أربع وستين، فأقاموا بها، لا يهيجون أحداً، ويناظرهم الناس. وكان سبب خروجهم إلى الأهواز أنه لما مات يزيد بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد، وكان في السجن يومئذ أربعمائة رجل من الخوارج، وضعف أمر ابن زياد، فكلم فيهم فأطلقهم، فأفسدوا البيعة عليه، وفشوا في الناس، يدعون إلى محاربة السلطان ويظهرون ما هم عليه، حتى اضطر على عبيد الله أمره، فتحول عن دار الإمارة إلى الأزد، ونشأت الحرب بسببه بين الأزد وربيعة وبين بني تميم، فاعتزلهم الخوارج إلا نفراً منهم من بني تميم، معهم عبس بن طلق الصريمي أخو كهمس فإنهم أعانوا قومهم، فكان عبس الطعان في سعد، والرباب في القلب بحذاء الأزد، وكان حارثة بن بد اليربوعي في حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وفي ذلك يقول حارثة بن بدر للأحنف؛ وهو صخر بن قيس: سيكفيك عبس أخو كهمس ... مواقفة الأزد بالمربد وتكفيك عمرو على رسلها ... لكيز بن أقصى وما عددوا - لكيز هو عبد القيس - وتكفيك بكراً إذا أقبلت ... بضرب يسيب له الأمرد فلما قتل مسعود بن عمرو المعني، وتكاف الناس، أقام نافع بن الأزرق بموضعه بالأهواز، ولم يعد إلى البصرة، وطردوا عمال السلطان عنها، وجبوا الفيء.   1 الاهواز: سبع كور بين البصرة وفارس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 خروج نجدة بن عامر على نافع بن الأزرق والرسائل التي دارت بينهما ولم يزالوا على رأي واحد، يتولون أهل النهر ومرداساً ومن خرج معه، حتى جاء مولى لبني هاشم إلى نافع، فقل له: إن أطفال المشركين في النار، وإن من خالفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، قال له نافع: كفرت وأحللت بنفسك1، قال له: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلني، {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا   1 ر: س: "وأدللت". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} 1، فهذا أمر الكافرين وأمر أطفالهم. فشهد نافع أنهم جميعاً في النار، ورأى قتلهم. وقال: الدار دار كفر إلا من اظهر ايمانه, ولا يحل أكل ذبائحهم2, تناكحهم، ولا توارثهم، ومتى جاء منهم جاء فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفار العرب، لا نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل، فإن الله تعالى يقول: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} 3، وقال عز وجل فيمن كان على خلافهم: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 4. فنفر جماعة من الخوارج عنه، منهم نجدة بن عامر، واحتج عليه بقول الله عز وجل: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 5 وبقوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} 6، فالقعد منا، والجهاد إذا أمكن أفضل، لقوله جل وعز: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 7. ثم مضى نجدة بأصحابه إلى اليمامة وتفرقوا في البلدان. فلما تتابع8 نافع في رأيه وخالف أصحابه، وكان أبو طالوت سالم بن مطر بالخضارم9 في جماعة قد بايعوه، فلما انخزل نجدة خلعوا أبا طالوت، وصاروا إلى نجدة فبايعوه، ولقي نجدة وأصحابه قوماً من الخوارج بالعرمة10 والعرمة كالسكر11، وجمعها عرم، وفي القرآن المجيد {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} 12، وقل النابغة الجعدي: من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما فقال لهم أصحاب نجدة: إن نافعاً قد أكفر13 القعد ورأى الاستعراض، وقتل الأطفال، فانصرفوا مع نجدة، فلما صار باليمامة كتاب إلى نافع.   1 سورة نوح: 26 – 27. 2 س: "لا تحل". 3 سورة النساء 77. 4 سورة المائدة 54. 5 سورة آل عمران 28. 6 سورة غافر 28. 7 سورة النساء 95. 8 التتابع في الشر وهو التهافت عليه. 9 خضارم: اسم واد باليمامة. 10 العرمة: أرض صلبة تتاخم الدهناء. 11 السكر, بكسر فسكون: اسم لما سد به فم النهر. 12 سورة سبأ 16. 13 ر: "كفر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البر، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك. أما تذكر قولك: لولا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر جميع رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين? فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، وأصبت من الحق فصه، وركبت مره، تجرد لك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك واستغواك وأغواك، فغويت فأكفرت الذين عذرهم الله في كتابه من قعد المسلمين وضعفتهم، فقال جل ثناؤه، وقوله الحق ووعده الصدق: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 1. ثم سماهم أحسن الأسماء، فقال: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} 2. ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتلهم، وقال الله عز ذكره: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 3, وقال في القعد خيراً، وفضل الله من جاهد عليهم. ولا يدفع منزلة أكثر الناس عملاً منزلة من هو دونه، أو ما سمعت قوله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} 4، فجعلهم الله من المؤمنين، وفضل عليهم المجاهدين بأعمالهم، ورأيت ألا تؤدي الأمانة إلى من خالفك، والله يأمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها، فاتق الله وانظر لنفسك، واتق يوماً: {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} 5، فإن الله عز ذكره بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل، والسلام. فكتب إليه نافع: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب، وأنا أسأل الله جل وعز أن يجعلني من الذين يستمعون القول   1 سورة التوبه 91. 2 سورة التوبة 91. 3 سورة الأنعام 164. 4 سورة النساء 95. 5 سورة لقمان 33. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 فيتبعون أحسنه، وعبت علي ما دنت به من إكفار القعد وقتل الأطفال واستحلال الأمانة، فسأفسر لك لم ذلك إن شاء الله. أما هؤلاء القعد فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين، لا يجدون إلى الهرب سبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقة، وهؤلاء قد فقهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفت ما قال الله عز جل فيمن كان مثلهم، إذ قالوا: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} 1. فقيل لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 2. وقال: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} 3، وقال: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} 4، فخبر بتذيرهم، وأنهم كذبوا، الله ورسوله، وقال: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 5. فانظر إلى أسمائهم وسماتهم. وأما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحاً عليه السلام كان أعلم بالله - يا نجدة - مني ومنك، فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} 6، فسماهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح ولا نكون نقوله ببني ومنا! والله يقول: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} 7، وهؤلاء كمشركي العرب، لا نقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام. وأما استغلال أمانات من خالفنا فإن الله عز وجل أحل لنا أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق8، وأموالهم فيء للمسلمين. فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة، ولن يسعك خذلاننا، والقعود عنا، وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا، والسلام على من أقر بالحق وعمل به.   1 سورة النساء 97. 2 سورة النساء 97. 3 سورة التوبة 81. 4 سورة التوبة 90. 5 سورة التوبة 90. 6 سورة نوح 27,26. 7 سورة القمر 43. 8 الطلق: الحلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 كتاب نافع إلى ابن الزبير وكتب نافع إلى عبد الله بن الزبير يدعوه إلى أمره: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 أما بعد، فإني أحذرك من الله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 1. فاتق الله ربك، ولا تتول الظالمين، فإن الله يقول: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} 2. وقد حضرت عثمان يوم قتل، فلعمري لئن قتل مظلوماً لقد كفر قاتلوه وخاذلوه، ولئن كان قاتلوه مهتدين - وإنهم لمهتدون - لقد كفر من يتولاه وينصره ويعضده. ولقد علمت أن أباك وطلحة وعثمان، فكيف3 ولاية قاتل متعمد ومقبول في دين واحد! ولقد ملك علي بعده فنفى الشبهات، وأقام الحدود، وأجرى الأحكام مجاريها، وأعطى الأمور حقائقها، فيما عليه وله، فبايعه أبوك وطلحة، ثم خلعاه ظالمين له، وإن القول فيك وفيهما لكما قال ابن عباس: إن يكن علي في وقت معصيتكم ومحاربتكم له كان مؤمناً؛ أما لقد كفرتم بقتال المؤمنين وأئمة العدل، ولئن كان كافراً كما زعمتم، وفي الحكم جائراً، لقد بؤتم بغضب من الله لفراركم من الزحف، ولقد كنت له عدواً. ولسيرته عاتباً، فكيف توليته بعد موته! فاتق الله فإنه يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 4.   1 سورة آل عمران 30. 2 سورة آل عمران 28. 3 ر: "وكيف". 4 سورة المائدة 51. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 كتاب نافع إلى المحكمة من أهل البصرة وكتب نافع إلى من بالبصرة من المحكمة: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. والله إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار، ترون الظلم ليلاً ونهاراً، وقد ندبكم الله إلى الجهاد فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} 1، ولم يجعل لكم في التخلف عذراً في حال من الحال، فقال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 2! وإنما عذر الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل عليهم مع ذلك   1 سورة التوبة 36. 2 سورة التوبة 41. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 المجاهدين، فقال: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 1؛ فلا تغتروا ولا تطمئنوا إلى الدنيا، فإنها مرارة مكارة، لذتها نافذة، ونعمتها بائدة، حفت بالشهوات اغتراراً، وأظهرت حبرة2. وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا شارب شربة تؤنفه3؛ إلا دنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله داراً لمن تزود منها إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فلن يرضى بها حازم داراً، ولا حليم بها قراراً، فاتقوا الله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 4. والسلام على من اتبع الهدى. فورد كتابه عليهم، وفي القوم يومئذ أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي، وعبد الله بن إباض المري، من بني مرة بن عبيد. فأقبل أبو بيهس على ابن إباض فقال: إن نافعاً غلا فكفر، وإنك قصرت فكفرت. تزعم أن من خالفنا ليس بمشرك، وإنما هم كفار النعم؛ لتمسكهم بالكتاب، وإقرارهم بالرسول. وتزعم أن مناكحهم ومواريثهم والإقامة فيهم حل طلق5 ? وأنا أقول: إن أعداءنا كأعداء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تحل لنا الإقامة فيهم، كما فعل المسلمون في إقامتهم بمكة، وأحكام المشركين تجري فيهم6، وأزعم أن مناكحهم ومواريثهم تجوز لأنهم منافقون يظهرون الإسلام، وأن حكمهم عند الله حكم المشركين. فصاروا في هذا الوقت على ثلاثة أقاويل: قول نافع في البراءة والاستعراض واستحلال الأمانة وقتل الأطفال. وقول أبي بيهس الذي ذكرناه. وقول عبد الله بن إباض. وهو أقرب الأقاويل إلى السنة من أقاويل الضلال. والصفرية والنجدية في ذلك الوقت يقولون بقول ابن إباض. وقد قال ابن إباض ما ذكرنا من مقالته. وأنا أقول: إن عدونا كعدو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكني أحرم مناكحتهم ومواريثهم، لأن معهم التوحيد والإقرار معهم التوحيد والإقرار بالكتاب والرسول عليه السلام، فأرى معهم دعوة المسلمين تجمعهم، وأراهم كفاراً للنعم. وقالت الصفرية ألين من هذا القول في أمر القعد، حتى صار عامتهم قعداً واختلفوا فيهم، وقد ذكرنا ذلك فقال قوم:   1 سورة النساء 95. 2 الحبرة: النعمة وسعة العيش. 3 تؤنقه: تعجبه. 4 سورة البقرة 197. 5 طلق: حلال. 6 ر: "فيها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 سموا صفرية، لأنهم أصحاب ابن صفار، وقال قوم: إنما سموا بصفرة علتهم، وتصديق ذلك قول ابن عاصم الليثي، وكان يرى رأي الخوارج، فتركه وصار مرجئاً: فارقت نجدت والذين تزرقوا ... وابن الزبير وشيعة الكذاب1 والصفرة الأذان الذين تخيروا ... ديناً بلا ثقة ولا بكتاب - خفف الهمزة من الآذان ولولا ذلك لانكسر الشعر - وقال أبو بيهس: الدار دار كفر، والاستعراض فيها جائز، وإن أصيب من الأطفال فلا حرج. إلى ههنا انتهت المقالة.   1 يعني بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد الثقفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 مقتل نافع بالأهواز وتفرقت الخوارج على الأضرب الأربعة التي ذكرنا، وأقام نافع بالأهواز يعترض الناس ويقتل الأطفال، فإذا أجيب إلى المقالة جبا الخراج، وفشا عماله في السواد1، فارتاع لذلك أهل البصرة، فاجتمعوا إلى الأحنف بن قيس، فشكوا ذلك إليه، وقالوا: ليس بيننا وبين العدو إلا ليلتان، وسيرتهم ما ترى، فقال الأحنف: إن فعلهم في مصركم - إن ظفروا به - كفعلهم في سوادكم، فجدوا في جهاد عدوكم، فاجتمع إليه عشرة آلاف، فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وهو ببة2 - فسأله أن يؤمر عليهم، فاختار لهم ابن عبيس3 بن كريز، وكان ديناً شجاعاً، فأمره عليهم وشيعه، فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس فقال: إني ما خرجت لامتيار4، ذهب ولا فضة وإني   1 يريد بالسواد أرض العراق وضياعه. 2 الببة في الأصل: كثرة اللحم وتراكبه. لقب به عبد الله بن الحارث, وكانت أمه ترقصه وتقول: لأنكحن ببه ... جارية كالقبه مكرمة محببه ... تحب أهل الكعبه 3 هو ميلم بن عبيس. 4 الأمتيار هنا: جلب الطعام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 لأحارب قوماً إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم، فمن كان شأنه الجهاد فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع. فرجع نفر يسير، ومضى الباقون معه، فلما صاروا بدولاب1 خرج إليهم نافع، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى تكسرت الرماح، وعقرت الخيل، وكثرت الجراح، والقتلى2، وتضاربوا بالسيوف والعمد، فقتل في المعركة ابن عبيس ونافع بن الأزرق. وكان ابن عبيس قد تقدم إلى أصحابه فقال: إن أصبت فأميركم الربيع بن عمرو الأجذم الغداني، فلما أصيب ابن عبيس أخذ الربيع الراية، وكان نافع قد استخلف عبيد الله بن الماحوز السليطي، فكان الرئيسان من بني يربوع: رئيس المسلمين من بني غدانة بن يربوع، فاقتتلوا قتالاً شديداً. وادعى قتل نافع سلامة الباهلي، وقال: لما قتلته وكنت على برذون ورد3، إذا برجل على فرس - وأنا واقف في خمس قيس - ينادي يا صاحب الورد! هلم إلى المبارزة، فوقفت في خمس بني تميم. فإذا به يعرضها علي، وجعلت أتنقل من خمس إلى خمس إلى خمس، وليس يزايلني، فصرت إلى رحلي، ثم رجعت، فرآني فدعاني إلى المبارزة، فلما أكثر خرجت إليه فاختلفنا ضربتين، فضربته فصرعته، فنزلت لسلبه وأخذ رأسه، فإذا امرأة قد رأتني حين قتلت نافعاً، فخرجت لتثأر به، فلم يزل الربيع الأجذم يقاتلهم نيفاً وعشرين يوماً، حتى قال يوماً: أنا مقتول لا محالة، قالوا: وكيف? قال: لأني رأيت البارحة كأن يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني، فلما كان الغد قاتل إلى الليل، ثم غاداهم فقتل. فتدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب، إذ لم يكن لهم رئيس، ثم أجمعوا على الحجاج بن باب الحميري فأباها، فقيل له: ألا ترى أن رؤساء العرب بالحضرة، وقد اختاروك من بينهم! فقال: مشؤومة، ما يأخذها أحد إلا قتل، ثم أخذها، فلم يزل يقاتل الخوارج بدولاب، والخوارج أعد بالآلات والدروع والجواشن4، فالتقى الحجاج بن باب وعمران بن الحارث الراسبي، وذلك بعد   1 دولاب: قرية بينها وبين الاهواز أربعة فراسخ. 2 ر: "والقتلى". 3 الورد: لون أحمر يضرب إلى صفرة حسنة في كل شئ. 4 الجواشن: جمع جوشن, وهو الدرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 أن اقتتلوا زهاء شهر، فاختلفا ضربتين، فسقطا ميتين، فقالت أمر عمران ترثيه: الله أيد عمراناً وطهره ... وكان عمران يدعو الله في السحر يدعوه سراً وإعلاناً ليرزقه ... شهادة بيدي ملحادة غدر ولى صحابته عن حر ملحمة ... وشد عمران كالضرغامة الهصر قول الربيع: "استشلتني"، أي أخذتني إليها واتنفذتني. يقال: استشلاه واشتلاه. وفي الحديث "إن السارق إذا قطع سبقته يده إلى النار، فإن تاب استشلاها"، قال رؤبة: إن سليمان اشتلانا ابن علي وقول الناس: "اشليت كلبي" أي أغريته بالصيد، خطأ، إنما يقال: آسدته وأشليته: دعوته. وقولها: "بيدي ملحادة" "مفعال" من الإلحاد، كما تقول: رجل معطاة يا فتى، ومحسان، ومكرام، وأدخلت الهاء للمبالغة، كما تدخل في رواية وعلامة ونسابة. و"غدر" "فعل" من الغدر، ول"فعل" باب نذكره في عقب هذه القصة، إذا فرغنا من خبر هذه الوقعة. والضرغامة: من أسماء الأسد. والهصر: الذي يهصر كل شيء، أي يثنيه، قال امرؤ القيس: فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال ولذكرنا الصفرية والأزراقة والبيهسية والإباضية تفسير، لم نسب إلى ابن الأزرق بالأزارقة، وإلى أبي بيهس بالكنية المضاف إليها، ونسب إلى صفر ولم ينسب إلى واحدهم، ونسب إلى ابن إباض فجعل النسب إلى أبيه? وهذا نذكره بعد باب "فعل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 لقطري في يوم دولاب قال أبو العباس: ومما قيل من الشعر في يوم دولاب قول قطري: لعمرك إني في الحياة لزاهد ... وفي العيش ما لم ألق أم حكيم1 من الخفرات البيض لم ير مثلها ... شفاء لذي بث ولا لسقيم لعمرك إني يوم ألطم وجهها ... على نائبات الدهر جد لئيم ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير ذميم غداة طفت علماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم وكان لعبد القيس أول جدها ... وأحلافها من يحصب وسليم2 وظلت شيوخ الأزد في حومة الوغى ... تعوم وظلنا في الجلاد نعوم3 فلم أر يوماً كان أكثر مقعصاً ... يمج دماً من فائظ وكليم4 وضاربة خدا كريماً على فتى ... أغر نجيب الأمهات كريم أصيب بدولاب ولم تك موطناً ... له أرض دولاب ودير حميم5 فلو شهدتنا يوم ذاك وخلنا ... تبيح من الكفار كل حريم رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدن عنده ونعيم قوله: "ولو شهدتنا يوم دولاب" فلم ينصرف "دولاب" فإنما ذاك لأنه أراد البلدة، ودولاب: أعجمي، معرب، وكل ما كان من الأسماء الأعجمية نكرة بغير   1 أم حكيم امرأة من الخوارج كانت مع قطري. وكانت من أجمل النساء وجها, وأحسنهم بدينهم تمسكا. كانت تحمل على الناس وترجز: أحمل رأسا قد سئمت حمله ... وقد مللت دهنه وغسله ألا فتى يحمل عني ثقله 2 يحصب بن مالك بن حمير, وسليم بن منصور. من قيس عيلان, وأصله مصغر وكبر للوزن. 3 في البيت إقواء. 4 المقعص: المطعون. والفائظ. من قولهم: فاظ الرجل إذا مات. 5 دير حميم: موضع بالأهواز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 الألف واللام، فإذا دخلته الألف واللام فقد صار معرباً، وصار على قياس الأسماء العربية، لا يمنعه من الصرف إلا ما يمنع العربي، فدولاب،" فوعال" مثل طومار وسولاف. وكل شيء لا يخص واحداً من الجنس م غيره فهو نكرة، نحو: رجل، لأن هذا الاسم يلحق كل ما كان على بنيته، وكذلك حمل وجبل وما أشبه ذلك، فإن وقع الاسم في كلام العجم معرفة فلا سبيل إلى إدخال الألف واللام عليه، لأنه معرفة، فلا معنى لتعريف آخر فيه، فذلك غير منصرف، نحو فرعون وقارون، وكذلك إسحاق وإبراهيم، ويعقوب. وقوله: غداة طفت علماء بكر بن وائل وهو يريد على الماء، فإن العرب إذا التقت في مثل هذا الموضع لامان استجازوا حذف إحداهما استثقالاً للتضعيف، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون "علماء بنو فلان" كما قال الفرزدق: وما سبق القيسي من ضعف حيلة ... ولكن طفت علماء قلفة خالد وكذلك كل اسم من أسماء القبائل تظهر فيه لام المعرفة فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك بنو لقرب مخرج النون من اللام، وذلك قولك: فلان من بلحارث وبلعنبر، وبلهجيم. وقال آخر نم الخوارج: يرى من جاء ينظر من دجيل ... شيوخ الأزد طافية لحاها1 وقال رجل منهم: شمت ابن بدر والحوادث جمة ... والحائرون بنافع بن الأزرق والموت حتم لا محالة واقع ... من لا يصبحه نهاراً يطرق فلئن أمير المؤمنين أصابه ... ريب المنون فمن يصبه يغلق   1 دجيل: نهر بالأهواز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 نصب بعد "إن" لأن حرف الجزاء للفعل، فإنما أراد: فلئن أصاب أمير المؤمنين، فلما حذف هذا الفعل وأضمر ذكر أصابه ليدل عليه، ومثله قول النمر بن تولب: لا تجزعي إن منفساً أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي وقال ذو الرمة: إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر1 لأن إذا لا يليها إلا الفعل، وهي به أولى.   1 الوصل: واحد الأوصال, وهي المفاصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 هذا باب فعل اعلم أن كل اسم على مثال "فعل" مصروف في المعرفة والنكرة إذا كان اسماً أصلياً أو نعتاً، فالأسماء نحو، صرد ونغر وجعل، وكذلك إن كان جمعاً، نحو: ظلم وغرف. وإن سميت بشيء من هذا رجلاً انصرف في المعرفة والنكرة. وأما النعت، فنحو: رجل حطم، كما قال: قد لفها الليل بسواق حطم وكذلك مال لبد، وهو الكثير، من قوله جل جلاله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} 1. فإن كان الاسم على "فعل" معدولاً عن "فاعل" لم ينصرف إذا كان اسم رجل في المعرفة، وينصرف في النكرة، وذلك نحو: عمر وقثم، لأنه معدول عن عامر، وهو الاسم الجاري على الفعل، فهذا مما معرفته قبل نكرته، فإذا أريد به مذهب المعرفة جاز أن تبنيه في النداء من كل فعل، لأن المنادى مشار إليه، وذلك قولك: يا فسق، ويا خبث، تريد: يا فاسق ويا خبيث. وإنما قالت: "بيدي ملحادة غدر" في النداء للضرورة، فنقلته معرفة من النداء، ثم جعلته نكرة لخروجه عن الإشارة، فنعتت به "ملحادة" كما قال الحطيئة: أجول ما أجول ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع وهذا لا يقع إلا في النداء، ولكن للشاعر نقله نكرة ونقله معرفة، على حد ما كان له في النداء. فيلحق قولها "غدر" بقوله: رجل حطم، ومال لبد، وما أشبهه. وفعال في المؤنث بمنزلة "فعل" في المذكر، ولو سميت رجلاً "حطماً" لصرفته، من قولك: هذا سائق حطم، لأنه قد وقع نكرة غير معدول، فهو في النعوت بمنزلة "صرد" في الأسماء.   1 سورة البلد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 هذا باب النسب إلى المضاف النسب إلى العلم المضاف اعلم أنك إذا نسبت إلى علم مضاف فالوجه أن تنسب إلى الاسم الأول، وذلك قولك في عبد القيس: عبدي، وكذلك في عبد الله بن دارم، فإن كان الاسم الثاني أشهر من الأول جاز النسب إليه، لئلا يقع في النسب التباس من اسم باسم، وذلك قولك في النسب إلى عبد مناف منافي، وإلى أبي بكر بن كلاب بكري. قد يجوز، وهو قليل، أن تبني له من الاسمين اسماً على مثال الأربعة لينتظم النسب، وذلك قولك في النسب إلى عبد الدار بن قصي عبدري، وفي النسب إلى عبد القيس عبقسي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 النسب إلى المضاف غير العلم فإن كان المضاف غير علم فالنسب إلى الثاني على كل حال، وذلك قولك في النسب إلى ابن الزبير زبيري، لأن ابن الزبير إنما صار معرفة بالزبير، وكذلك النسب إلى ابن رألان رألاني، فلذلك قالوا في النسب إلى ابن الأزرق أزرقي، وإلى أبي بيهس، بيهسي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 النسب إلى الجماعة فأما قولهم: "صفري" فإنما أرادوا الصفر الألوان، فنسبوا إلى الجماعة، وحق الجماعة إذا نسب إليها أن يقع النسب إلى واحدها، كقولك: مهلبي، ومسمعي، ولكن جعلوا "صفراً" اسماً للجماعة، ثم نسبوا غليه، ولم يقولوا: أصفري، فينسب إلى واحدها، وإما كان ذلك لأنهم جعلوا الصفر اسماً للجماعة، كما تسمى القبيلة بالاسم الواحد، ألا ترى أن النسب إلى الأنصار، أنصاري لأنه كان علماً للقبيلة وكذلك مدائني. وتقول في النسب إلى الأبناء من بني سعد أبناوي، لأنه اسم للجماعة. فأما قولهم: "الأزارقة"، فهذا باب من النسب آخر، وهو أن يسمى كل واحد منهم باسم الأب، إذا كانوا ينسبون، ونظيره المهالبة، والمسامعة، والمناذرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 ويقولون: جاءني النميرون والأشعرون. جعل كل واحد منهم نميراً وأشعر، فهذا يتصل في القبائل، على ما ذكرت لك. وقد تنسب الجماعة إلى الواحد على رأي أو دين، فيكون له مثل نسب الولادة، كما قالوا أزرقي، لمن كان على رأي ابن الأزرق، كما تقول تميمي وقيسي لمن ولده تميم وقيس، ومن قرأ: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} 1، فإنما يريد إلياس عليه السلام ومن كان على دينه، كما قال: قدني من نصر الخبيبين قد يريد أبا خبيب ومن معه. وقد يجتمع الرجال مع الرجل في التثنية إذا كان مجازهما واحداً في أكثر الأمر على لفظ أحدهما، فمن ذلك قولهم: العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن ذلك قولهم: "الخبيبان" لعبد الله ومصعب، وقد مضى تفسيره.   1 سورة الصافات 130. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 عاد القول في الخوارج الأزارقة وولاة البصرة ... عاد القول في الخوارج قال: والأزارقة لا تكفر أحداً من أهل مقالتها في دار الهجرة إلا القاتل رجلاً مسلماً، فإنهم يقولون: المسلم حجة الله، والقاتل قصد لقطع الحجة. الأزارقة وولاة البصرة ويروى أن نافعاً مر بمالك بن مسمع في الحرب التي كانت بين الأزد وربيعة وبني تميم، ونافع متقلد سيفاً، فقام إليه مالك فضرب بيده إلى حمالة سيفه وقال: ألا تنصرنا في حربنا هذه! فقال: لا يحل لي، قال: فما بال مؤمني بني تميم ينصرون كفارهم في هذه الحرب! فأمسك عنه، وخرج بعد ذلك بأيام إلى الأهواز، فلما قتل من قتل ممن بخازر من الخوارج في أيام ابن الماحوز كره ببة القتال، وأقام حارثة بن بدر الغداني بإزاء الخوارج، يناوشهم على غير ولاية، وكان يقول: ما عذرنا عند إخواننا من أهل البصرة إن وصل إليهم الخوارج ونحن دونهم! فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير يخبرونه بقعود ببة، ويسألونه أن يولي والياً، فكتب إلى أنس بن مالك أن يصلي بالناس، فصلى بهم أربعين يوماً، وكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر فولاه البصرة. فلقيه الكتاب وهو يريد الحج، وهو في بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة، وولى أخاه عثمان محاربة الأزارقة، فخرج إليهم في اثني عشر ألفاً، ولقيه حارقة فيمن كان معه، وعبيد الله بن الماحوز في الخوارج بسوق الأهواز، فلما عبروا إليهم دجيلاً نهض إليهم الخوارج، وذلك قبيل الظهر، فقال عثمان بن عبيد الله لحارثة بن بدر: أما الخوارج إلا ما أرى? فقال له حارثة: حسبك بهؤلاء! فقال: لا جرم، والله لا أتغدى حتى أناجزهم! فقال له حارثة: إن هؤلاء لا يقاتلون بالتعسف، فأبق على نفسك وجندك، فقال: أبيتم يا1 أهل العراق إلا جبنا! وأنت يا حارثة، ما علمك بالحرب? أنت والله بغير هذا أعلم! يعرض له بالشراب. فغضب حارثة، فاعتزل، وحاربهم عثمان يومه إلى أن غابت الشمس، فأجلت الحرب عنه قتيلاً، وانهزم الناس، وأخذ حارثة الراية، وصاح بالناس: أنا حراثة بن بدر، فثاب إليه قومه، فعبر بهم دجيلاً، وبلغ فل عثمان البصرة؛ وخاف الناس الخوارج خوفاً شديداً.   1 ر: "أهل العراق", بحذف النداء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وعزل ابن الزبير عمر بن عبيد الله، وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، المعروف بالقباع، أحد بني مخزوم، وهو أخو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر، فقدم البصرة، فكتب إليه حارثة ابن بدر يسأله الولاية والمدد، فأراد توليته1، فقال له رجل من بكر بن وائل: إن حارثة ليس بذاك، إنما هو رجل شراب2، وفيه يقول رجل من قومه3: ألم تر أن حارثة بن بدر ... يصلي وهو أكفر من حمار ألم تر أن للفتيان حظاً ... وحظك في البغايا والقمار فكتب إليه القباع: تكفيني4 حربهم إن شاء الله. فقام حارثة يدافعهم. فقال شاعر من بني تميم يذكر عثمان بن عبيد الله بن معمر ومسلم بن عبيس وحارثة بن بدر: مضى ابن عبيس صابراً غير عاجز ... وأعقبنا هذا الحجازي عثمان فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر ... وأبرق والبرق اليماني خوان فضحت قريشاً غثها وسمينها ... وقيل بنو تيم بن مرة عزلان5 فلولا ابن بدر لعراقين لم يقم ... بما قام فيه للعراقين إنسان إذا قيل من حام الحقيقة أومأت ... إليه معد بالأنوف وقحطان قوله: فأرعد، زعم الأصمعي أنه خطأ، وأن الكميت أخطأ في قوله: أرعد وأبرق يا يزيد ... فما وعيدك لي بضائر وزعم أن هذا البيت الذي يرى لمهلهل، مصنوع محدث، وهو قوله:   1 ر: "أن يولية". 2 ر: "صاحب". 3 نسبه المرصفي إلى علقمة بن عبد المازني. 4 ر: "تكفي". 5 عزلان: جمع أعزل, وهو من لا سلاح معه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 أنبضوا معجس القسي وأبرقنا كما ترعد الفحول الفحولا1 وأنه لا يقال إلا "رعد وبرق" إذا أوعد وتهدد، وهو "يرعد ويبرق" وكذا يقال: رعدت السماء وبرقت، وأرعدنا وأبرقنا، إذا دخلنا في الرعد والبرق، قال الشاعر: فقل لأبي قابوس ماشئت فارعد وروى غير الأصمعي "أرعد" وأبرق على ضعف. وقوله: و"البرق اليماني خوان"، يريد والبرق اليماني يخون. وأجود النسب إلى اليمن "يمني" ويجوز "يمان" بتخفيف الياء، وهو حسن، وهو في أكثر الكلام، تكون الألف عوضاً من إحدى الياءين، ويجوز "يماني" فاعلم، تكون الألف زائدة وتشدد الياء، قال العباس بن عبد المطلب: ضربناهم ضرب الأحامس غدوة ... بكل يماني إذا هز صمما2   1 الإنباض: جذب الونر ليرن, ومعجس القوس: مقبضها, أو موضع السهم منها. 2 الأحامس: جمع أحمس, وهو الشديد الصلب في الدين والقتال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 تولية المهلب لقتال الخوارج وأخباره معهم ثم إن حارثة تفرق الناس عنه أقام بنهر تيرى، فعبرت إليه الخوارج، فهرب وأصحابه يركض، حتى أتى دجيلاً، فجلس في سفينة، واتبعه جماعة من أصحابه، فكانوا معه، وأتاه رجل من بني تميم وعليه سلاحه، والخوارج وراءه وقد توسط حارثة، فصاح به: يا حارث؛ ليس مثلي ضيع، فقال للملاح: قرب، فقرب إلى جرف، ولا فرضة هناك1. فطفر2 بسلاحه في السفينة، فساخت بالقوم جميعاً. وأقام ابن الماحوز يجبي كور الأهواز ثلاثة أشهر، ثم وجه الزبير بن علي نحو البصرة، فضج الناس إلى الأحنف، فأتى القباع فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا وفيئنا، فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزلاً، قال: فسموا رجلاً، فقال الأحنف: الرأي لا يخيل3، ما أرى لها إلا المهلب بن أبي صفرة،   1 الجرف: ماأكله السيل من أسفل شقى الوادي والنهر. والفرضة: ثلمة في النهر يسقى منها. 2 طفر: وثب. 3 لا يخيل: لا يشتبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 فقال: أو هذا رأي جميع أهل البصرة! اجتمعوا إلي في غد. وجاء الزبير حتى نزل الفرات، وعقد الجسر ليعبر إلى ناحية البصرة، فخرج أكثر أهل البصرة إليه. وقد اجتمع للخوارج أهل الأهواز وكورها، رغبة ورهبة، فأتاه البصريون في السفن وعلى الدواب ورجالة. فاسودت بهم الأرض، فقال الزبير لما رآهم: أبى قومنا إلا كفراً، فقطع1 الجسر، وأقام الخوارج بالفرات بإزائهم، واجتمع الناس عند القباع، وخافوا الخوارج خوفاً شديداً، وكانوا ثلاث فرق، فسمى قوم المهلب، وسمى قوم مالك بن مسمع، وسمى قوم زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي، فصرفهم، ثم اختبر ما عند مالك وزياد، فوجدهما متثاقلين عن ذلك2، وعاد إليه من أشار بهما وقالوا: قد رجعنا عن رأينا، ما نرى لها إلا المهلب، فوجه الحارث إليه فأتاه، فقال له: يا أبا سعيد، قد ترى ما رهقنا3 من هذا العدو، وقد اجتمع أهل مصرك عليك، وقال الأحنف: يا أبا سعيد، إنا والله ما آثرناك بها ولكنا لم نر من يقوم مقامك. فقال الحارث - وأومأ إلى الأحنف - إن هذا الشيخ لم يسمك إلا إيثاراً للدين، وكل من في مصرك ماد عينه إليك، راج أن يكشف الله عز وجل هذه الغمة بك، فقال المهلب: لا حول ولا قوة إلا بالله، إني عند نفسي لدون ما وصفتم، ولست آبياً ما دعوتم4 إليه، على شروط أشترطها. قال الأحنف: قل، قال: على أن أنتخب من أحببت، قال: ذاك لك، قال: ولي إمرة كل بلد أغلب عليه، قال: وذاك لك، قال: ولي فيء كل بلد أظفر به. قال الأحنف: ليس ذاك لك ولا لنا، إنما هو فيء المسلمين، فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم، ولكن لك أن تعطي أصحابك من فيء كل بلد تغلب عليه ما شئت، وتنفق "منه ما شئت5 "على محاربة عدوك، فما فضل عنكم كان للمسلمين. فقال المهلب: فمن لي بذلك? قال الأحنف: نحن وأميرك وجماعة أهل مصرك، قال: قد قبلت.   1 ر: "فقطعوا". 2 ر: "عن ذاك". 3 رهقنا: أتعبنا. 4 س: "مما دعوتم". 5 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 فكتبوا بذلك كتاباً ووضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الحنفي، وانتخب المهلب من جميع الأخماس، فبلغت نخبته اثني عشر ألفاً، ونظروا ما في بيت المال، فلم يكن إلا مائتي ألف درهم، فعجزت، فبعث المهلب إلى التجار: إن تجارتكم مذ حول قد كسدت، عليكم بانقطاع مواد الأهواز وفارس عنكم، فهلم بايعوني واخرجوا معي أوفكم إن شاء الله حقوقكم، فتاجروه، فأخذ من المال ما يصلح به عسكره، واتخذ لأصحابه الخفاتين والرانات المحشوة بالصوف. ثم نهض وأكثر أصحابه رجالة، حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأحضرت وأصلحت، فما ارتفع النهار حتى فرغ منها، ثم أمر الناس بالعبور إلى الفرات، وأمر عليهم ابنه المغيرة، فخرج الناس، فلما قاربوا الشاطئ خاضت إليهم الخوارج، فحاربهم المغيرة ونضحهم1 بالسهام حتى تنحوا، فصار هو وأصحابه على الشاطئ، فحاربوهم فكشفوهم وشغلوهم، حتى عقد المهلب الجسر، وعبر والخوارج منهزمون، فنهى الناس عن اتباعهم. ففي ذلك يقول شاعر من الأزد: إن العراق وأهله لم يخروا ... مثل المهلب في الحروب فسلموا أمضى وأيمن في اللقاء نقيبة ... وأقل تهليلاً إذا ما أحجموا التهليل: التكذيب2 والانهزام. وأبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري، وكان من فرسان بني تميم وشجعانهم، فقال عطية: يدعى رجال للعطاء وإنما ... يدعى عطية للطعان الأجرد وقال الشاعر: وما فارس إلا عطية فوقه ... إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما به هزم الله الأزارق بعدما ... أباحوا من المصرين حلاً ومحرما فأقام المهلب أربعين يوماً يجبي الخراج بكور دجلة، والخوارج بنهر تيرى، والزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز، فقضى المهلب التجار   1 نضحهم بالسهام: رماهم بها. 2 قال المرصفي: "التكذيب: مصدر كذب في القتال إذا فر ونكس". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وأعطى أصحابه، فأسرع إليه الناس رغبة في مجاهدة الخوارج، ولما في الغنائم، وللتجارات، فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الأزدي وعبد الله بن رياح ومعاوية بن قرة المربي - وكان يقول - يعني معاوية -: لو جاء الديلم من ههنا والحرورية من ههنا لحاربت الحرورية - وأبو عمران الجوني، وكان يقول: كان كعب يقول: قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أنوار. ثم نهض المهلب إليهم إلى نهر تيرى، فتنحوا عنه إلى الأهواز، وأقام المهلب يجبي مال حواليه من الكور، وقد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج، فإأتوه بأخبارهم ومن في عسكرهم، فإذا حشوة1؛ ما بين قصار وصباغ وداعر وحداد. فخطب المهلب الناس، فذكر من هناك، وقال للناس: أمثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم! فلم يزل مقيماً حتى فهمهم وأحكم أمره، وقوى أصحابه، وكثرت الفرسان في عسكره، وتتام إليه زهاء عشرين ألفاً. ثم مضى يؤم سوق الأهواز، فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى، وفي مقدمته المغيرة بن المهلب، حتى قاربهم المغيرة، فناوشوه، فانكشف عنه بعض أصحابه، وثبت المغيرة بقية يومه وليلته، يوقد النيران، ثم غاداهم القتال، فإذا القوم قد أوقدوا النيران في ثقلة متاعهم، وارتحلوا عن سوق الأهواز، فدخلها المغيرة، وقد جاءت أوائل خيل المهلب، فأقام بسوق الأهواز، وكتب بذلك إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كتاباً يقول فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم". أما بعد: فإنا منذ خرجنا نؤم هذا العدو في نعم من الله متصلة علينا، ونقمة من الله متتابعة عليهم، نقدم ويحجمون، ونحل ويرتحلون، إلى أن حللنا سوق الأهواز، والحمد لله رب العالمين، الذي من عنده النصر، وهو العزيز الحكيم. فكتب إليه الحارث: هنيئاً لك أخا الأزد، الشرف في الدنيا، والذخر في الآخرة، إن شاء الله! فقال المهلب لأصحابه: ما أجفى أهل الحجاز! أما ترونه عرف2 اسمي واسم أبي وكنيتي!   1 حشوة الناس: رذالهم. 2 ر: "يعرف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 وكان المهلب يبث الأحراس في الأمن، كما يبثهم في الخوف، ويذكي العيون في الأمصار، كما يذكيها في الصحارى، ويأمر أصحابه بالتحرز، ويخوفهم البيات1، وإن بعد منهم العدو، ويقول: احذروا أن تكادوا كما تكيدون، ولا تقولوا: هزمنا وغلبنا، فإن القوم خائفون وجعون، والضرورة تفتح باب الحيلة، ثم قام فيهم خطيباً فقال: يا أيها الناس؛ إنكم قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج، وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم وسفكوا دماءكم. فقاتلوهم على ما قاتل عليه أولهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فقد لقيهم قبلكم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس، والعجل المفرط عثمان بن عبيد الله، والمعصي المخالف حارثة بن بدر، فقتلوا جميعاً وقتلوا، فالقوهم بجد وحد، فإنما هم مهنتكم وعبيدكم، وعار عليكم، ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم، ويطأوا حريمكم. ثم سار يريدهم، وهم بمناذر الصغرى، فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلاً، فيهم صالح بن مخراق، إلى نهر تيرى، وبها المعارك بن أبي صفرة، فقتلوه وصلبوه، فنمى الخبر إلى المهلب، فوجه ابنه المغيرة، فدخل نهر تيرى وقد خرج واقد منها، فاستنزله ودفنه، وسكن الناس، واستخلف بها، ورجع إلى أبيه وقد حل بسولاف2، والخوارج بها، فواقعهم، وجعل على بني تميم الحريش بن هلال، فخرج رجل من أصحاب المهلب، يقال له عبد الرحمن الإسكاف، فجعل يحض الناس وهو على فرس له صفراء، فجعل يأتي الميمنة والميسرة والقلب، فيحض الناس ويهون أمر الخوارج، ويختال بين الصفين، فقال رجل من الخوارج لأصحابه: يا معشر المهاجرين، هل لكم في فتكة فيها أريحية? فحمل جماعة منهم على الإسكاف، فقاتلهم وحده فارساً، ثم كبا به فرسه3، فقاتلهم راجلاً، قائماً وباركاً، ثم كثرت به الجراحات، فذبب بسيفه، وجعل يحثو   1 البيات: الإيقاع بالقوم وهم غارون. 2 سولاف: قرية غربي دجيل. 3 كبا به الفرس: أي عثر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 التراب في وجوههم، والمهلب غير حاضر، ثم قتل رحمه الله، وحضر المهلب فأخبر، فقال للحريش وعطية العنبري: أأسلمتما سيد أهل العسكر، لم تعيناه ولم تستنقذاه، حسداً له، لأنه رجل من الموالي! ووبخهما، وحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحابه فقتله، فحمل عليه المهلب فطعنه وقتله، ومال الخوارج بأجمعهم على العسكر، فانهزم الناس، وقتلوا سبعين رجلاً، وثبت المهلب، وأبلى المغيرة يومئذ وعرف مكانه، ويقال: حاص المهلب يومئذ حيصة1. وتقول الأزد: بل كان يرد المنهزمة ويحمي أبارهم، فقال رجل من بني منقر بن عبيد بن الحارث بن كعب بن سعد بن مناة بن تميم: بسولاف أضعت دماء قومي ... وطرت على مواشكة درور قوله: مواشكة يريد سريعة، ويقال: نحن على وشك رحيل. ويقال: ذميل مواشك، إذا كان سريعاً، قال ذو الرمة: إذا ما رمينا رمية في مفازة ... عراقيبها بالشيظمي المواشك2 ودرور، فعول من در الشيء، إذا تتابع. وقال رجل من بني تميم آخر: تبعنا الأعور الكذاب طوعاً ... يزجي كل أربعة حمارا3 فيا ندمى على تركي عطائي ... معاينة وأطلبه ضمارا إذا الرحمن يسر لي قفولاً ... فحرق في قرى سولاف نارا قوله: الأعور الكذاب، يعني المهلب، ويقال: غارت عينه بسهم كان أصابها. وقال: الكذاب لأن المهلب كان فقيهاً، وكان يعلم ما جاء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله: "كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة: الكذب في الصلح بين الرجلين، وكذب الرجل لامرأته يعدها، وكذب الرجل في الحرب يتوعد ويتهدد". وجاء عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما أنت رجل، فخذل عنا، فإنما الحرب خدعة".   1 حاص حيصة: أي جال جولة يطلب بها الفرار. 2 الشيظمي: الطويل الجسم. 3 يزجى: يسوق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 وقال عليه السلام في حرب الخندق لسعد بن عبادة وسعد بن معاذ، وهما سيدا الحيين، الخزرج والأوس: "إيتيا بني قريظة، فإن كانوا على العهد فأعلنا بذلك، وإن كانوا قد نقضوا ما بيننا فالحنا لي لحناً أعرفه. ولا تفتا في أعضاد المسلمين". فرجعا بغدر القوم فقالا: يا رسول الله عضل والقرة. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أبشروا فإن الأمر ما تحبون" قال الأخفش: سألت المبرد عن قولهما: عضل والقارة فقال: هذان حيان كانا في نهاية العداوة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأرادا في الانحراف عنه والغدر به كهاتين القبيلتين. قال أبو العباس: فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ويضعف من أمر الخوارج. فكان حي من الأزد يقال لهم الندب إذا رأوا المهلب رائحاً إليهم قالوا: قد راح المهلب ليكذب! وفيه يقول رجل منهم: أنت الفتى كل الفتى ... لو كنت تصدق ما تقول فبات المهلب في ألفين، فلما أصبح رجع بعض المنهزمة فصار في أربعة آلاف. فخطب أصحابه فقال: والله ما بكم من قلة، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن الضعف والطمع والطبع، فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. فسيروا إلى عدوكم على بركة الله. فقام إليه الحريش بن هلال فقال: أنشدك الله1 أيها الأمير أن تقاتلهم إلا أن يقاتلوك! فإن بالقوم جراحاً وقد أثخنتهم هذه الجولة. فقبل منه ومضى المهلب في عشرة، فأشرف على عسكر الخوارج، فلم ير منهم أحداً يتحرك فقال الحريش: ارتحل عن هذا الموضع، فارتحل، فعبر دجيلاً، وصار إلى عاقول2 لا يؤتى إلا من وجه واحد. فأقام به وستراح الناس ثلاثاً، وقال ابن قيس الرقيات:   1 أنشدك الله: أي أذكرك الله. 2 العاقول: الأرض لا يهتدى لها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 ألا طرقت من آل بثنة طارقه1 ... على أنها معشوقة الدل عاشقه تبيت وأرض السوس بيني وبينها ... وسولاف رستاف حمته الأزارقه إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة ... حرورية أضحت من الدين مارقه أجازت إلينا العسكرين كليهما ... فباتت لنا دون اللحاف معانقه وقد ذكرنا الضمار ومعناه الغائب. وأصله من قولك: أضمرت الشيء أي أخفيته عنك، ويقال: مال عين، للحاضر. ومال ضمار، للغائب. قال الأعشى: ومن تضيع له ذمة ... فيجعلها بعد عين ضمارا وقال أيضاً: أبانا فلا رمت من عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم أرانا إذا أضمرتك البلا ... د تجفي وتقطع منا الرحم والفعل من هذا أضمر يضمر، والمفعول به مضمر، والفاعل مضمر، والضمار، اسم للفعل في معنى الإضمار. وأسماء الأفعال تشرك المصادر في معانيها، تقول أعطيته عطاء، فيشر كالعطاء الإعطاء في معناه، ويسمى به المفعول. وتقول: كلمته تكليماً وكلاماً في معناه. والمصدر ينعت به الفاعل في قولك: رجل عدل، ورجل كرم، ورجل نوم، ويوم غم وغيم، وينعت به المفعول في قولك: رجل رضحاً، وهذا درهم ضرب الأمير، وجاءني الخلق، تعني المخلوقين. وقال رجل من الخوارج في ذلك اليوم: وكائن تركنا يوم سلاف منهم ... أسارى وقتلى في الجحيم مصيرها قوله: وكائن معناه كم وأصله كاف التشبيه دخلت على أي فصارتا بمنزلة كم، ونظير ذلك له كذا وكذا درهماً، إنما هي ذا دخلت عليها الكاف. والمعنى له كهذا العدد من الدراهم. فإذا قال له كذا كذا درهماً، فهو كناية عن   1 ر: "بيبة": س: "مية".وما أثبته رواية الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 أحد عشر درهماً إلى تسعة عشر، لأنه ضم العددين. فإذا قال: كذا وكذا، فهو كناية عن أحد وعشرين إلى ما جاز فيه العطف بعده. لكن كثرت كأي فخففت، والتثقيل الأصل، قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} 1 {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} 2, وقد قرئ بالتخفيف. كما قال الشاعر: وكائن رددنا عنكم من مدجج ... يجيء أمامك الألف يردي مقنعاً3 وقال آخر: وكائن ترى يوم الغميصاء من فتى ... أصيب ولم يجرح وقد كان جارحا4 قال أبو العباس: وهذا أكثر على ألسنتهم، لطلب التخفيف، وذلك الأصل، وبعض العرب يقلب فيقول: كيئ يا فتى. فيؤخر الهمزة لكثرة الاستعمال. قال الشاعر: وكيئ في بني دودان منهم ... غداة الروع معروفاً كمي قال أبو العباس: فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل، والخوارج بسلى وسلبرى. قال الأخفش: سلى وسلبرى بفتح السين فيهما: موضعان بالأهواز، وسلى بكسر السين موضع بالبادية. وكذا ينشد هذا البيت: كأن غديرهم بجنوب سلى ... نعام قاق في بلد قفار فنزل قريباً منهم، فقال ابن الماحوز لأصحابه: ما تنتظرون بعدوكم وقد هزمتموهم بالأمس وكسرتم حدهم? فقال له وافد مولى أبي صفرة: يا أمير المؤمنين، إنما تفرق عنهم أهل الضعف والجبن، وبقي أهل النجدة والقوة, فإن   1 سورة الحج 48. 2 سورة آل عمران 146. 3 يردى: يعدو. والمقنع: المغطى بالسلاح. 4 الغميصاء: موضع بالبادية قرب مكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 أصبتهم لم يكن ظفراً هنيئاً. لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا. فإن غلبوا ذهب الدين، فقال أصحابه، نافق وافد، فقال ابن الماحوز: لا تعجلوا على أخيكم. فإنه إنما قال هذا نظراً لكم، ثم توجه الزبير بن علي إلى عسكر المهلب لينظر ما حالهم، فأتاهم في مائتين. فحزرهم ورجع. وأمر المهلب أصحابه بالتحارس. حتى إذا أصبح ركب إليهم على تعبية صحيحة، فالتقوا بسلى وسلبرى فتصافوا. فخرج من الخوارج مائة فارس، فركزوا رماحهم بين الصفين واتكأوا عليها. وأخرج إليهم المهلب عدادهم، ففعلوا مثل ما فعلوا، لا يريمون إلا لصلاة حتى أمسوا، فرجع كل قوم إلى معسكرهم ففعلوا هذا ثلاثة أيام. ثم إن الخوارج تطاردو لهم في اليوم الثالث، فحمل عليهم هؤلاء الفرسان يجولون ساعة. ثم إن رجلاً من الخوارج حمل على رجل فطعنه فحمل عليه المهلب فطعنه، فحمل الخوارج بأجمعهم، كما صنعوا يوم سولاف، فضعضعوا الناس، وفقد المهلب. وثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان. ثم نجم المهلب1 في مائة فارس، وقد انغمست كفاه في الدماء، وعلى رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر2 محشوة قزاً، وقد تمزقت. وإن حشوها ليتطاير. وهو يلهث. وذلك في وقت الظهر، فلم يزل يحارهم إلى الليل. حتى كثر القتل في الفريقين. فلما كان الغد غاداهم، وقد كان وجه بالأمس رجلاً من طاحية بن سود بن مالك بن فهم بن الأزد يرد المنهزمين، فمر به عامر بن مسمع فرده. فقال: إن الأمير أذن لي، فبعث إلى المهلب فأعلمه، فقال: دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن والضعف، وقد تفرق أكثر الناس، فغاداهم المهلب في ثلاثة آلاف، وقال لأصحابه: ما بكم من قلة، أيعجز أحدكم أن يرمي رمحه ثم يتقدم فيأخذه، ففعل لك رجل من كندة يقال له عياش، وقال المهلب لأصحابه: أعدوا مخالي فيها حجارة. وارموا بها في وقت الغفلة، فإنها تصد الفارس وتصرع الراجل، ففعلوا. ثم أمر منادياً ينادي في أصحابه. يأمرهم بالجد والصبر، ويطمعهم في العدو. ففعل، حتى مر ببني العدوية، من بني مالك بن حنظلة فضربوه. فدعا   1 نجم: ظهر. 2 المغفر: ما يقي الرأس: وهو حلق يتقنع بها المسلح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 المهلب بسيدهم. وهو معاوية بن عمرو، فجعل يركله1 برجله وهذا معروف في الأزد، فقال: أصلح الله الأمير! أعفني من أم كيسان والركبة تسميها الأزد أم كيسان. ثم حمل المهلب وحملوا. فاقتتلوا قتالاً شديداً. فجهد الخوارج، فنادى مناديهم: ألا إن المهلب قد قتل! فركب المهلب برذوناً قصيراً أشهب، وأقبل يركض بن الصفين، وإن إحدى يديه لفي القباء وما يشعر بها، وهو يصيح: أنا المهلب! فسكن الناس مع العصر، فصاح المهلب بابنه المغيرة: تقدم، ففعل، وصاح بذكوان مولاه، قدم رايتك، ففعل. فقال له رجل من ولده: إنك تغرر بنفسك. فذمره2 ثم صاح: يا بني تميم، أآمركم فتعصونني! فتقدم وتقدم الناس، واجتلدوا أشد جلاد. حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز. وانصرف الخوارج، ولم يشعر المهلب بقتله. فقال لأصحابه: ابغوني رجلاً جلداً يطوف في القتلى، فأشاروا عليه برجل من جرم، وقالوا: إنا لم نر رجلاً قط أشد منه، قطوف ومعه النيرا، فجعل إذا مر بجريح من الخوارج قال: كافر ورب الكعبة! فأجهز عليه، وإذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه وحمله. وأقام المهلب في عسكره يأمرهم بالاحتراس، حتى إذا كان نصف الليل وجه رجلاً من اليحمد. [قال الأخفش: اليحمد من الأزد، والخليل من بطن منهم، يقال لهم الفراهيد. والفرهود في الأصل الحمل. فإن نسبت إلى الحي قلت: "فراهيدي"، وإن نسبت إلى الحملان قلت: "فرهودي" لا غير] . في عشرة، فصاروا إلى عسكر الخوارج. فإذا القوم قد تحملوا إلى أرجان. فرجع إلى المهلب فأعلمه. فقال: أنا لهم الساعة أشد خوفاً، فاحذروا البيات. قال أبو العباس: ويروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لأصحابه يوماً: إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات. فإن كان ذلك   1 الركل: الرفس بالرجل. 2 فذمره: حضه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون. فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمر بها ويروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. فلما أصبح المهلب غدا على القتلى، فأصاب ابن الماحوز فيهم. ففي ذلك يقول رجل من الخوارج: بسلى وسلبرى مصارع فتية ... كرام وجرحى لم توسد خدودها وقال آخر: بسلى وسلبرى مصارع فتية ... كرام وعقرى من كميت ومن ورد1 وقال رجل من موالي المهلب: لقد صرعت بحجر واحد ثلاثة. رميت به رجلاً فأصبت أصل أذنه فصرعته، ثم أخذت الحجر فضربت به آخر على هامته فصرعته، ثم صرعت به ثالثاً. وقال رجل من الخوارج: أتانا بأحجار ليقتلنا بها ... وهل تقتل الأبطال ويحك، بالحجر! وقال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى وسلبرى وقتل ابن الماحوز: ويوم سلى وسلبرى أحاط بهم ... منا صواعق ما تبقي ولا تذرد حتى تركنا عبيد الله منجدلاً ... كما تجدل جذع مال منقعر قال أبو العباس: تقول العرب: صاعقة وصواعق. وهو مذهب أهل الحجاز، وبه نزل القرآن، وبنو تميم يقولون: صاقعة وصواقع. والمنقعر: المنقلع من أصله. قال الله أصدق القائلين: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر} 2.   1 نسبه ابن بري إلى أبي المقدام بيهس بن صهيب بن عامر الجرمي, وهو فارس شاعر كان مع المهلب في هذه الحرب, وله مواقف مشهورة وبلاء حسن. وعقري: جمع عقير, بمعنى معقور, من عقر الفرس, إذا قطع قوائمه. "رغبة الأمل". 2 سورة القمر 20. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 ويورى أن رجلاً من الخوراج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه، فلما خالطه الرمح صاح: يا أمتاه! فصاح به المهلب: لا كثر الله بمثلك المسلمين! فضحك الخارجي وقال: أمك خير لك مني صاحبا ... تسقيك محضاً وتعل رائبا وكان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه نكس على قربوس سرجه، وحمل من تحتها فبراها بسيفه، وأثر في أصحابها، حتى تخرمت الميمنة من أجله. وكان أشد ما تكون الحرب أشد ما يكون تبسماً، فكان المهلب يقول: ما شهد معي حرباً قط إلا رأيت البشر في وجهه. وقال رجل من الخوارج في هذا اليوم: فإن تلك قتلى يوم سلى تتابعت ... فكم غادرت أسيافنا من قماقم! 1 غداة نكر المشرفية فيهم ... بسولاف يوم المأزق المتلاحم المأزق: هو يوم تضايق الحرب. والمتلاحم: نعت له. والمشرفية: السيوف. نسبت إلى المشارف من أرض الشام، وهو الموضع الملقب موته الذي قتل به جعفر بن أبي طالب وأصحابه. [قال الأخفش: كان المبرد لا يهمز "مؤتة". ولم أسمعها من علمائنا إلا بالهمز] . قال أبو العباس: فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع.   1 القماقم: السيد الكثير الخير الواسع الفضل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإنا لقينا لأزارقة المارقة بحد وجد، فكانت في الناس جولة، ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر، بنيات صادقة، وأبدان شداد، وسيوف حداد. فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الأمل، فصاروا درئة رماحنا، وضرائب سيوفنا1. وقتل الله أميرهم ابن الماحوز، ارجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها، والسلام. وكتب إليه أهل البصرة يهنئونه، ولم يكتب إليه الأحنف، ولكن قال: اقرأوا عليه السلام، وقولوا له: أنا لك على ما فارقتك عليه. فلم يزل يقرأ الكتب ويلتمس في أضعافها كتاب الأحنف. فلما لم يره قال لأصحابه: أما كتب إلينا? فقال له الرسول: حملني إليك رسالة، وأبلغه. فقال: هذه أحب إلي من هذه الكتب. واجتمعت الخوارج بأرجان، فبايعوا الزبير بن علي، وهو من بني سليط بن يربوع. من رهط ابن الماحوز. فرأى فيهم انكساراً شديداً وضعفاً بيناً. فقال لهم: اجتمعوا. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أقبل عليهم فقال: إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي، وإن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلف. وقد أصبتم فيهم2 مسلم بن عبيس وربيعاً الأجذم والحجاج بن باب وحارثة بن بدر. وأشجيتم المهلب. وقتلتم   1 الدرئة: الحلقة يتعلم فيها الرمي والطعن, والضرائب جمع ضريبة. وهي كل ما ضربت بسيفك. 2 ر: "منهم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 أخاه المعارك، والله يقول لإخوانكم من المؤمنين: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} 1، فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصاً، ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالاً. فلا تغلبن على الشكر في حينه، والصبر في وقته، وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض، والعاقبة للمتقين. ثم تحمل لمحاربة المهلب، فنفحهم2 المهلب نفحة، فرجعوا. فأكمن للمهلب في غمض من غموض الأرض3، يقرب من عسكره، مائة فارس ليغتالوه. فسار المهلب يوماً يطوف بعسكره ويتفقد سواده، فوقف على جبل فقال: إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كميناً. فبعث عشرة فوارس، فاطلعوا على المائة. فلما علموا أنهم قد علموا بهم قطعوا القنطرة ونجوا، وكسفت الشمس، فصاحوا بهم: يا أعداء الله! لو قامت القيامة لجددنا في جهادكم. ثم يئس الزبير من ناحية المهلب، فضرب إلى ناحية أصبهان، ثم كر راجعاً إلى أرجان، وقد جمع جموعاً. وكان المهلب يقول: كأني بالزبير وقد جمع جموعاً، فلا ترهبوهم فتخبث قلوبكم، ولا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم. فجاءوه من أرجان فألفوه مستعداً آخذاً بأفواه الطرق، فحاربوه فظهر عليهم ظهوراً بيناً. ففي ذلك يقول رجل من بني تميم، أحسبه من بني رياح بن يربوع: سقى الله المهلب كل غيث ... من الوسمي ينتحر انتحارا4 فما وهن المهلب يوم جاءت ... عوابس خيلهم تبغي الغوارا وقال المهلب يومئذ: ما وقعت في أمر ضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالاً من بني الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون، وكأن لحاهم أذناب العقاعق5. وكانوا صبروا معه في غير موطن.   1 سورة ىل عمران 140. 2 فنفحهم: دفعهم. 3 الغموض: جمع غمض, وهو المطمئن من الأرض. 4 ينتحر انتحارا, كذا تقول العرب للسحاب إذا أنبعق بماء كثير, قال الراعي: فمر على منازلهم وألقى ... بها الأثقال وانتحر انتحارا 5 العقاعق: جمع عقعق, وهو طائر ذو لونين أبيض وأسود طويل الذنب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 وقال رجل من بني تميم، من بني عبشمس بن سعد: ألا يا من لصب مستحن1 ... قريح القلب قد صحب المزونا لهان على المهلب ما لقينا ... إذا ما راح مسروراً بطينا يجر السابري ونحن شعث ... كأن جلودنا كسيت طحينا2 المزون: عمان. وهو اسم من أسمائها، قال الكميت: فأما الأزد أزد أبي سعيد ... فأكره أن أسميها المزونا وقال جرير: واطفأت نيران المزن وأهلها ... وقد حاولوها فتنة أن تسعرا وحمل يومئذ الحريش بن هلال على قيس الإكاف، وكان قيس من أنجد فرسان الخوارج، فطعنه فدق صلبه. وقال: قيس الإكاف غداة الروع يعلمني ... ثبت المقام إذا لاقيت أقراني وقد كان فل المهلب يوم سلى وسلبرى صاروا إلى البصرة. ذكروا أن المهلب أصيب، فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية، حتى ورد كتابه بظفره. فأقام الناس، وتراجع من كان ذهب منهم. فعند ذلك يقول الأحنف بن قيس: البصرة بصرة المهلب. وقدم رجل من كندة يقال له فلان بن أرقم، فنعى ابن عم له، وقال: رأيت رجلاً من الخوارج وقد مكن رمحه من صلبه. فقدم المنعي، فقيل له ذلك. فقال: صدق ابن أرقم، لما أحسسن برمحه بين كتفي صحت: البقية! فرفعه عني، وتلا: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3.   1 مستحسن: من الحنين. 2 الثوب السابري: الرقيق. 3 سورة هود 86. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 ووجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلاً من الأزد، برأي عبيد الله بن بشير بن الماحو إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع. فلما صار بكربج1 دينار لقيه حبيب وعبد الملك وعلي، بنو بشير بن الماحوز، فقالوا له: ما الخبر? ولا يعرفهم. فقال: قتل الله المارق ابن الماحوز، وهذا رأسه معي. فوثبوا عليه فقتلوه وصلبوه ودفنوا الرأس، فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير، وكان وسيماً جسيماً، فقال: من هذا? فخبر فقتله. ووهب ابنه الأزهر وابنته لأهل الأزدي المقتول، وكانت زين بنت بشير لهم مواصلة، فوهبوهما لها.   1 موضع قريب من الأهواز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 توليه مصعب بن الزبير على البصرة واستقدامه للمهلب فلم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع، حتى عزل الحارث وولي مصعب بن الزبير، فكتب إليه أن أقدم علي، واستخلف ابنك المغيرة، ففعل، فجمع الناس فقال لهم: إني قد استخلفت عليكم المغيرة، وهو أبو صغيركم رقة ورحمة، وابن كبيركم طاعة وبراً وتبجيلاً، وأخو مثله مواساة ومناصحة، فلتحسن له طاعتكم، وليلن له جانبكم، فوالله ما أردت صواباً قط إلاسبقني إليه. ثم مضى إلى مصعب. وكتب مصعب إلى المغيرة بولايته. وكتب إليه: إنك لم تكن كأبيك، فإنك كاف لما وليتك، فشمر واتزر وجد واجتهد. ثم شخص المصعب إلى المذار1 فقتل أحمر بن شميط، ثم أتى الكوفة فقتل المختار بن أبي عبيد. وقال للمهلب: أشر علي برجل أجعله بيني وبين عبد الملك فقال: أذكر لك واحداً من ثلاثة: محمد بن عمير بن عطارد الدارمي. أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي. أو داود بن قحذم. فقال: أو تكفيني? قال: أكفيك إن شاء الله. فولاه الموصل. فشخص المهلب إليها.   1 المذار: بلد في ميسان بين واسط والبصرة, وهي قصبة ميسان بينها وبين البصرة اربعة ايام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 مشاورة مصعب الناس فيمن يكفيه أمر الخوارج وصار مصعب إلى البصرة، فسأل: من يستكفي أمر الخوارج وفد إلى أخيه? فشاور الناس، فقال قوم: ول عبيد الله بن أبي بكرة. وقال قوم: ول عمر بن عبيد الله بن معمر. وقال قوم: ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم. وبلغت المشورة الخوارج. فأداروا الأمر بينهم، فقال قطري بن الفجاءة المازني: إن جاءكم عبيد الله بن أبي بكرة، أتاكم سيد سمح جواد كريم مضيع لعسكره؛ وإن جاءكم عمر بن عبيد الله بن معمر أتاكم شجاع بطل فارس جاد، يقاتل لدينه وملكه، وبطبيعة لم أر مثلها لأحد، فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس يطلع حتى يشد على قرنه فيضربه؛ وإن رد المهلب فهو من قد عرفتموه، إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر، يمده إذا أرسلتموه، ويرسله إذا مددتموه لا يبدأكم إلا أن تبدأوه، إلا أن يرى فرصة فينتهزها، فهو الليث المبر1 والثعلب الرواغ، والبلاء المقيم. فولى عليهم عمر بن عبيد الله. وولاه فارس، والخوارج بأرجان، وعليهم الزبير بن علي السليطي. فشخص إليهم فقاتلهم، وألح عليهم حتى أخرجهم عنها فألحقهم بأصبهان فلما بلغ المهلب أن مصعباً ولى عمر بن عبيد الله قال: رماهم بفارس العرب وفتاها. فجمعوا له وأعدوا واستعدوا، ثم أتوا سابور، فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ. فقال له مالك بن حسان الأزدي: إن المهلب كان يذكي العيون، ويخاف البيات، ويرتقب الغفلة، وهو على أبعد من هذه المسافة منهم، فقال له عمر: اسكت خلع الله قلبك! أتراك تموت قبل أجلك! فأقام هناك. فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج، فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح، فلم يظفروا منه بشيء. فأقبل على مالك بن حسان فقال: كيف رأيت? قال: قد سلم الله عز وجل، ولم   1 المبر: الغالب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 يكونوا يطمعون من المهلب مثلها. فقال: أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب لرجوت أن أنفي هذا لعدو، ولكنكم تقولون: قرشي حجازي بعيد الدار، خيره لغيرنا، فتقاتلون معي تعذيراً. ثم زحف الخوارج من غد ذلك اليوم، فقاتلهم قتالاً شديداً، حتى ألجأهم إلى قنطرة. فكاثف الناس عليها حتى سقطت، فأقام حتى أصلحها، ثم عبروا، وتقدم ابنه عبيد الله بن عمر - وأمه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب - فقاتلهم حتى قتل فقال قطري: لا تقاتلوا عمر اليوم فإنه موتور. ولم يعلم عمر بقتل ابنه؛ حتى أفضى إلى القوم، وكان مع ابنه النعمان بن عباد، فصاح به: يا نعما، أين ابني? فقال: احسبه "أيها الأمير"1 فقد استشهد رحمه الله صابراً مقبلاً غير مدبر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم حمل على الناس حملة لم ير مثلها. وحمل أصحابه بحملته، فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلاً من الخوارج، فلما استقروا قال لهم قطري: أما أشرت عليكم بالانصراف! فجعلوه وجوههم حتى خرجوا من فارس. وتلقاهم في ذلك الوقت الفرز بن مهزم العبدي فسألوه عن خبره، وأراد قتله، فأقبل على قطري فقال: إني مؤمن مهاجر. فسأله عن أقاويلهم، فأجاب إليها، فخلوا عنه، ففي ذلك يقول في كلمة له: وشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي2 ... إلى قطري ذي الجبين المفلق وحاججتهم في دينهم وحججتهم3 ... وما دينهم غير الهوى والتخلق ثم إنهم تراجعوا وتكانفوا.   1 ساقط من ر. 2 ألجوا: أصله ألجئوا. 3 حاججتهم: نازعتهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 قال الأخفش: تكانفوا أعان بعضهم بعضاً واجتمعوا وصار بعضهم في كنف بعض. وعادوا إلى ناحية أرجان، فسار إليهم عمر، وكتب إلى مصعب: أما بعد، فإني قد لقيت الأزارقة. فرزق الله عبيد الله بن عمر الشهادة، ووهب له السعادة. ورزقنا عليهم الظفر. فتفرقوا شذر مذر، وبلغتني عنهم عودة، فيممتهم، وبالله أستعين وعليه أتوكل. فسار إليهم ومعه عطية بن عمرو ومجاعة بن سعيد، فالتقوا، فألح عليهم حتى أخرجهم. وانفرد عمر1 من أصحابه. فعمد له أربعة عشر رجلاً منهم، من مذكوريهم وشجعانهم وفي يده عمود، فجعل لا يضرب رجلاً منهم ضرة إلا صرعه. فركض إليه قطري على فرس طمرة2. وعمر على مهر فاستعلاه قطري بقة فرسه حتى كاد يصرعه، فبصر به مجاعة فأسرع إليه، فصاحت الخوارج بقطري: يا أبا نعامة! إن عدو الله قد رهقك فانحط قطري عن قربوسه. فطعنه مجاعة، وعلى قطري درعان فهتكهما، وأسرع السنان في رأس قطري، فكشط عنه جلده ونجا. ارتحل القوم إلى أصبهان فأقاموا بها3 برهة، ثم رجعوا إلى الأهواز، وقد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر، فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعاً، فقال له4: كم جبيت? قال: تسعمائة ألف. فقال: هي لك. فقال يزيد بن الحكم الثقفي لمجاعة: ودعاك دعوة مرهق فأجبته5 ... عمر وقد نسي الحياة وضاعا فرججت عادية الكتيبة عن فتى6 ... قد كاد يترك لحمه أوزاعا7   1 ساقط من ر. 2 ر: "طمر". والطمرة: الطويلة الخفيفة القوائم. 3 ساقطة من ر. 4 ساقطة من ر. 5 المرهق: الذي ادرك ليقتل. 6 العادية: الخيل تعدو. 7 أوزاعا: قطعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وعزل مصعب بن الزبير وولي حمزة بن عبد الله بن الزبير، فوجه المهلب إليهم، فحاربهم فأخرجهم عن الأهواز، ثم رد مصعب والمهلب بالبصرة، والخوارج بأطراف أصبهان والوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فأقام الخوارج هناك شيئاً يجبون القرى. ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس، فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله: ما أنصفتنا، أقمت بفارس تجبي الخراج ومثل هذا العدو يحاربك! والله لو قاتلت ثم هربت لكان أعذر لك، وخرج مصعب من البصرة يريدهم. وأقبل عمر بن عبيد الله يريدهم. فتنحى الخوارج إلى السوس، ثم أتوا المدائن، فقتلوا أحمر طيئ، وكان شجاعاً، وكان من فرسان عبيد الله بن الحر، ففي ذلك يقول الشاعر: تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ ... بساباط لم يعطف عليه خليل ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة، فلما خالطوا سوادها، وواليها الحارث بن عبد الله القباع فتثاقل عن الخروج وكان جباناً. فذمره1 إبراهيم بن الأشتر، ولامه الناس، فخرج متحاملاً حتى أتى النخيلة، ففي ذلك يقول الشاعر: إن القباع سار سيرا نكرا ... يسير يوماً ويقيم شهرا وجعل يعد الناس بالخروج ولا يخرج. والخوارج يفشون2، حتى أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها. وكانت جميلة، ثما أرادوا قتلها، فقالت: أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال قائل منهم: دعوها. فقالوا: قد فتنتك، ثم قدموها فقتلوها، ثم قربوا أخرى، وهم بحذاء القباع والجسر معقود بينهما، فقطعه القباع، وهو في ستة آلاف، والمرأة تستغيث به وهي تقول3: علام تقتلونني? فوالله ما فسقت ولا كفرت ولا ارتددت! والناس يتفلتون إلى الخوارج، والقباع يمنعهم، فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذلك بقطع الجسر، فأقام بين دباها ودبيرى4 خمسة أيام، والخوارج بقربه، وهو يقول للناس في كل يوم: إذا لقيتم العدو غداً فأثبتوا أقدامكم واصبروا، فإن أول الحرب الترامي، ثم إشراع الرماح،   1 الذمر: الحض. 2 ر: "يعيثون".س: يعبثون. 3 ر: "وتقول". 4 دباها ودبيري: قربتان من قرى بغداد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 ثم السلة1، فثكلت رجلاً أمه فر من الزحف! فقال بعضهم لما أكثر عليهم: أما الصفة فقد سمعناها، فمتى يقع الفعل? وقال الراجز: إن القباع سار سيرا ملسا ... بين دباها ودبيرى خمساً2 فأخذ الخوارج حاجتهم، وكان شأن القباع التحصن منهم، ثم انصرفوا ورجع إلى الكوفة، وصاروا من فورهم إلى أصبهان، فبعث عتاب بن ورقاء إلى الزبير بن علي: أنا ابن عمك، ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري. فبعث إليه الزبير: إن أدنى الفاسقين وأبعدهم في الحق3 سواء. وإنما سمي الحارث بن عبيد الله بن أبي ربيعة القباع، لأنه ولي البصرة فعير على الناس مكاييلهم، فنظر إلى مكيال صغير في مرآة العين وقد أحاط بدقيق استكثره، فقال: إن مكيالكم هذا لقباع. والقباع الذي يخفي أو يخفى ما فيه، يقال: انقبع الرجل، إذا استتر، ويقال للقنفذ القبع، وذلك أنه يخنس رأسه. قال أبو العباس: وأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال ويراوحونه، حتى طال عليهم المقام، ولم يظفروا منه بكبير، فلما كثر ذلك عليهم انصرفوا، لا يمرون بقرية بين أصبهان والأهواز إلا استباحوها وقتلوا من فيها. وشاور المصعب الناس فيهم4، فاجتمع5 رأيهم على المهلب، فبلغ الخوارج مشاورته6، فقال لهم القطري: إن جاءكم عتاب بن ورقاء فهو فاتك يطلع في أول المقنب7 ولا يظفر بكبير، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم، فإما له وإما عليه، وإن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه، ويأخذ منكم ولا يعطيكم، فهو البلاء اللازم، والمكروه الدائم. وعزم المصعب على توجيه المهلب، وأن يشخص هو لحرب عبد الملك، فلما أحس به الزبير بن علي خرج إلى الري، وبها يزيد بن الحارث بن رؤيم. فحاربه   1 السلة: استلال السيوف. 2 الملس: السير الشد. 3: "من الحق". 4 ساقطة من ر. 5 ر: "فأجتمع". 6 ر: "مشورته" 7 المقنب: جماعة الخيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 ثم حصره. فلما طال عليه الحصار خرج إليه، فكان الظفر للخوارج، فقتل يزيد بن رؤيم، ونادى يومئذ ابنه حوشباً ففر عنه وعن أمه لطيفة، وكان علي بن أبي طالب عليه السلام دخل على الحارث بن رؤيم يعود ابنه يزيد، فقال له: عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك، فسماها يزيد لطيفة، فقتلت معه يومئذ. وفي ذلك يقول الشاعر: مواقفنا في كل يوم كريهة ... أسر وأشفى من مواقف حوشب دعاه يزيد والرماح شوارع ... فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب ولو كان شهم النفس أو ذا حفيظة ... رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب وقد مر خبر عيسى بن مصعب مستقصى. وقال آخر: نجى حليلته وأسلم شيخه ... نضب الأسنة حوشب بن يزيد وقال ابن حوشب لبلال بن أبي بردة يعيره بأمه، وبلال مشدود عند يوسف ابن عمر: يا ابن حوراء. فقال بلال وكان جلداً: إن الأمة تسمى حوراء وجيداء ولطيفة. وزعم الكلبي أن بلالاً كان جلداً حين ابتلي1 قال الكلبي: ويعجبني أن أرى الأسير جلداً قال وقال خالد بن صفوان له بحضرة يوسف بن عمر: الحمد لله الذي أزال سلطانك وهد ركنك، وغير حالك، فوالله لقد كنت شديد الحجاب، مستخفاً بالشريف، مظهراً للعصبية فقال له بلال: إنما طال لسانك يا خالد لثلاث معك هن علي: الأمر عليك مقبل وهو عني مدبر، وأنت مطلق وأنا مأسور، وأنت في طينتك وأنا في هذا البلد غريب. وإنما جرى إلى هذا، لأنه يقال إن أصل آل الأهتم من الحيرة، وإنهم أشابة2 دخلت في بني منقر من الروم. ثم انحط الزبير بن علي على أصبهان، فحصر بها عتاب بن ورقاء الرياحي سبعة أشهر، وعتاب يحاربه في بعضهن. فلما طال به الحصار قال لأصحابه: ما تنتظرون? والله ما تؤتون من قلة، وإنكم لفرسان عشائركم، ولقد حاربتموهم   1 ر: "حيث ابتلي". 2 الأشابة: الأخلاط من الناس ليس أصلهم واحدا. كالأوباش والاوشاب قاله المرصفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 مراراً فانتصفتم منهم، وما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه أخوه، ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه، فقاتلوا القوم وبكم قوة، من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه. فلما أصبح الغد، صلى بهم الصبح، ثم خرج بهم1 إلى الخوارج وهم غارون، وقد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين، فقال: من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين، ومن أراد الجهاد فليخرج معي. فخرج في ألفين وسبعمائة فارس، فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم، فقاتلوا بجد لم ير الخوارج منهم مثله، فعقروا منهم خلقاً كثيراً وقتلوا الزبير بن علي، وانهزمت الخوارج، فلم يتبعهم عتاب. ففي ذلك يقول الشاعر: ويوم بجي تلافيته ... ولولاك لاصطلم العسكر2 - قال أبو العباس: نفسر قول: ولولاك في آخر هذا الخبر إن شاء الله - وقال رجل من بني ضبة في تلك الوقعة: خرجت من المدينة مستميتاً ... ولم أك في كتيبة ياسمينا أليس من الفضائل أن قومي ... عدوا مستلمين مجاهدينا وتزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون، ويحمل بعضهم على بعض، وربما كانت مواقفة لغير حرب3، وربما اشتدت الحرب بينهم. وكان رجل من أصحاب عتاب يقال له شريح، ويكنى أبا هريرة، إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج وبالزبير بن علي: يا ابن أبي الماحور والأشرار ... كيف ترون يا كلاب النار! شد أبي هريرة الهرار ... يهركم بالليل والنهار4 ألم تروا جياً على المضمار ... تمسي من الرحمن في جوار5   1 ساقطة من ر. 2 الصلم في الاصل. قطع الاذن. 3 ر: "بغير حرب". 4 أصل الهرير في الكلب والذئب, إذا كشر كل منهما عن نابه, واستعمل في الرجل تجاوزا. 5 المضمار: الغاية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 فغاظهم ذلك منه، فكمن له عبيدة بن هلال فضربه، واحتمله أصحابه، فظنت الخوارج أنه قد قتل، فكانوا إذا توافقوا نادوهم: ما فعل الهرار? فيقولون: ما به من بأس، حتى أبل من علته، فخرج إليهم فصاح: يا أعداء الله، أترون بي بأساً! فصاحوا به: قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية، في النار الحامية. قال أبو العباس: نفسر أشياء من العربية تحتاج إلى الشرح. من ذلك قوله: ولولاك، ومنه قوله: ألم تروا جياً ومنه قوله: يهركم بالليل والنهار. أما قوله: لولاك فإن سيبويه يزعم أن لولا تخفض المضمر ويرتفع بعدها الظاهر بالإبتداء. فيقال: إذا قلت لولاك، فما الدليل على أن الكاف مخفوضة دون أن تكون منصوبة، وضمير النصب كضمير الخفض? فتقول: إنك تقول لنفسك: لولاي، ولو كانت منصوبة لكانت النون قبل الياء، كقولك: رماني وأعطاني، قال يزيد بن الحكم الثقفي: وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي1 النيق: أعلى الجبل، وجزم الإنسان خلقه. فيقال له: الضمير في موضع ظاهره، فكيف يكون مختلفاً? وإن كان هذا جائزاً فلم لا يكون في الفعل وما أشبهه، نحو إن وما كان معها في الباب? وزعم الأخفش سعيد أن ضمير مرفوع، ولكن وافق ضمير الخفض، كما يستوي الخفض والنصب، فيقال: فهل هذا في غير هذا الموضع? قال أبو العباس: والذي أقوله أن هذا خطأ لا يصلح، إلا أن تقول: لولا أنت، كما قال عز وجل: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} 2. ومن خالفنا "فهو لا بد"3 يزعم أن الذي قلناه أجود، ويدعي الوجه الآخر فيجيزه على بعده. وأما جي فالأجود فيها أن تقول: ألم تروا جي على المضمار فلا تنون، لأنها مدينة، والاسم أعجمي، والمؤنث إذا سمي باسم أعجمي على ثلاثة أحرف ينصرف إذا كان مؤنثاً، وإن كان أوسطه سكاناً، نحو جور وحمص وماه4. وما كن مثل ذلك، ولو كان اسماً لمذكر لانصرف، فإن صرفته   1 منهوي: ساقط. 2 سورة سبأ 31. 3 ساقط من ر. 4 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 جعلته اسماً لبلد، وإن لم تصرفه جعلته اسماً لبلدة أو لمدينة، ألا ترى أنك تصرف نوحاً ولوطاً، وهما أعجميان? وكذلك لو كان على ثلاثة أحرف كلها متحرك، لأنك تصرف قدماً لو سميت بها1 رجلاً، فالأعجمي بمنزلة المؤنث، لأن امتناعها واحد. وأما قوله: يهركم فإن كل ما كان من المضاعف على ثلاثة أحرف وكان متعدياً، فإن المضارع منه على يفعل، نحو شده يشده، وزره يزره، ورده يرده، وحله يحله وجاء منه حرفان على يفعل، ويفعل، فيهما جيد: هره يهره، إذا كرهه، يهره أجود، وعله بالحناء يعله، ويعله أجود. ومن قال: حبته قال: يحبه لا غيره. وقرأ أبو رجاء العطاردي: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2. وذلك أن بني تميم تدغم في موضع الجزم، وتحرك أواخره لالتقاء الساكنين.   1 ر: "به". 2 سورة آل عمران 31.وهي قراءة شاذة. وقرأها الأربعة عشر: "يحببكم" بفك الإدغام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 ولاية قطري بن الفجاءة على الخوارج ومبايعتهم له رجع الحديث: قال أبو العباس: ثم إن الخوارج أداروا أمرهم بينهم، فأرادوا تولية عبيد بن هلال، فقال: أدلكم على من هو خير مني! من يطاعن في قبل، ويحمي في دبر، عليكم قطري بن الفجاءة المازني. فبايعوه، فوقف بهم فقالوا: يا أمير المؤمنين، أمض بنا إلى فارس، فقال: إن بفارس عمر بن عبيد الله بن معمر، لكن نصير إلى الأهواز، فإن خرج مصعب بن الزبير من البصرة دخلناها. فأوا الأهواز، ثم ترفعوا عنها إلى إيذج1 وكان المصعب2 قد عزم على الخروج إلى باجميرا3، فقال لأصحابه: إن قطرياً قد أطل علينا، وإن خرجنا عن البصرة دخلها، فبعث إلى المهلب فقال: اكفنا هذا العدو، فخرج إليهم المهلب، فلما أحس به القطري، يمم4 كرمان، فأقام المهلب بالأهواز، ثم كر قطري عليه وقد استعد، فكان الخوارج في جميع حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم بكثرة السلاح، وكثرة الدواب، وحصانة الجنن، فحاربهم المهلب، فنفاهم إلى رام هرمز. وكان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغماً لعتاب بن ورقاء، يقال إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن علي، وكان الحارث بن عميرة هو الذي تولى قتله وحاص إليه أصحابه، ففي ذلك يقول أعشى همدان:   1 إيذج: بالمد بين خوزستان واصبهان. 2 ر: "مصعب". 3 باجميرا: بلد دون تكريت. 4 ر: "تبسم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 إن المكارم أكملت أسبابها ... لابن الليوث الغر من قحطان لفارس الحامي الحقيقة معلماً ... زاد الرفاق إلى قرى نجران1 الحارث بن عميرة الليث الذي ... يحمي العراق إلى قرى كرمان ود الأزارق لو يصاب بطعنة ... ويموت من فرسانهم مائتان وتأويله: أن الرفقة إذا صحبها أغناها عن التزود، كما قال جرير وأراد ابن له سفراً، وفي ذلك السفر يحيى بن أبي حفصة، فقال لأبيه: زودني فقال جرير: أزاداً سوى يحيى تريد وصاحباً ... ألا إن يحيى نعم زاد المسافر فما تنكر الكوماء ضربة سيفه ... إذا أرملوا أو خف ما في الغرائر2 وقوله: ويموت من فرسانهم يكون على وجهين: مرفوعاً ومنصوباً، فالرفع على العطف، ويدخل في التمني. والنصب على الشرط والخروج من العطف، وفي مصحف ابن مسعود: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} والقراءة {فَيُدْهِنُونَ} 3 على العطف. وفي الكلام: ود لو تأتيه فتحدثه، وإن شئت نصبت الثاني. قال أبو العباس: وخرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن، ولم يأت المهلب وأصحابه، فتواقفوا يوماً على الخندق، فناداهم الخوارج: ما تقولون في المصعب? قالوا: إمام هدى، قالوا: فما تقولون في عبد الملك? قالوا: ضال مضل. فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل مصعب، وأن أهل الشأم فاجتمعوا على عبد الملك، وورد عليه كتاب عبد الملك بولايته، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج: ما تقولون في مصعب? قالوا: لا نخبركم، قالوا: فما تقولون في عبد الملك? قالوا: إمام هدى، قالوا: يا أعداء الله! بالأمس ضال مضل، واليوم إمام هدى! يا عبيد الدنيا، عليكم لعنة الله! وولي خالد بن عبد الله بن أسيد، فقدم فدخل البصرة، فأراد عزل المهلب، فأشير عليه بألا يفعل، وقيل له: إنما أمن أهل هذا المصر، بأن المهلب بالأهواز،   1 زيادات ر: ويروى. زاد الرفاق وفارس الفرسان 2 أرملوا: نفد زادهم. 3 سورة القلم 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وعمر بن عبيد الله بفارس فقد تنحى عمر، وإن نحيت المهلب لم تأمن على البصرة من الأزارقة1. فأبى إلا عزله، فقدم المهلب البصرة، وخرج خالد إلى الأهواز، فأشخصه، فلما صار بكربج دينار لقيه قطري فمنعه حط أثقاله، وحاربه ثلاثين يوماً. ثم أقام قطري بإزائه، وخندق على نفسه، فقال المهلب: إن قطريا ً ليس بأحق بالخندق منك، فعبر دجيلاً إلى شق نهر تيرى، واتبعه قطري، فصار إلى مدينة نهر تيرى فبنى سورها وخندق عليها، فقال المهلب لخالد: خندق على نفسك، فإني لا آمن عليك البيات، فقال: يا أبا سعيد، الأمر أعجل من ذلك، فقال المهلب لبعض ولده: إني أرى أمراً ضائعاً، ثم قال لزياد بن عمرو: خندق علينا، فخندق المهلب وأمر بسفنه ففرغت، وأبى خالد أن يفرغ سفنه، فقال المهلب لفيروز حصين: صر معنا، فقال: يا أبا سعيد، الحزم ما تقول، غير أني أكره أن أفارق أصحابي. قال: فكن بقربنا، قال: أما هذه فنعم. وقد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمد خالداً بجيش كثيف، أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ففعل، فقدم عليه عبد الرحمن، فأقام قطري يغاديهم القتال ويراوحهم أربعين يوماً، فقال المهلب لمولى لأبي عيينة: انتبذ إلى ذلك الناووس2 فبت عليه في كل ليلة، فمتى أحسست خبراً من الخوارج أو حركة أو صهيل خيل فاعجل إلينا. فجاء ليلة فقال: قد تحرك القوم. فجلس المهلب بباب الخندق، وأعد قطري سفناً فيها حطب فأشعلها ناراً، وأرسلها على سفن خالد، وخرج في أدبارها حتى خالطهم. فجعل لا يمر برجل إلى قتله، ولا بدابة إلا عقرها، ولا بفسطاط إلا هتكه. فأمر المهلب يزيد ابنه3 فخرج في مائة فارس، فقاتل وأبلى يومئذ، وخرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأبلى بلاء حسناً؛ وخرج فيروز حصين في مواليه، فلم يزل يرميهم بالنشاب هو ومن معه، فأثر أثراً جميلاً، فصرع يزيد بن المهلب يومئذ، وصرع عبد الرحمن، فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا، وسقط فيروز حصين في   1 ساقطة من ر. 2 الناووس: مقابر النصارى. 3 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 الخندق، فأخذ بيده رجل من الأزد فاستنقذه، فوهب له فيروز حصين عشرة آلاف درهم، وأصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء، فجعل لا يرى إلا قتيلاً أو صريعاً، فقال للمهلب: يا أبا سعيد، كدن نفتضح، فقال خندق على نفسك، فإلا تفعل عادوا إليك؛ فقال: اكفني أمر الخندق، فجمع له الأحماس1، فلم يبق شريف إلا عمل فيه، فصاح بهم الخوارج: والله لولا هذا الساحر المزوني لكان الله قد دمر عليكم. وكانت الخوارج تسمي المهلب الساحر، لأنهم كانوا يدبرون الأمر فيجدونه قد سبق إلى نقض تدبيرهم، فقال أعشى همدان لابن الأشعث في كلمة طويلة: ويوم أهوازك لا تنسه ... ليس الثنا والذكر بالداثر2 وقد ذكرنا في قصر المدود، من أن مد المقصور لا يجوز، ما يغني عن إعادته.   1 الأحماس. جمع حمس "بضم فسكون".جمع الاحمس, وهم الشجعان المتشددون في القتال. 2 في الديوان 34: بالباد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 فيروز حصين وبعض أخباره ونذكر فيروز حصين لما مر من ذكره: وكان فيروز حصين رجلاً جيد البيت في العجم، كريم المحتد، مشهر الآباء، فلما أسلم والي حصيناً، وهو حصين بن عبد الله العنبري، من بني العنبر بن تميم بن مر، ثم من ولد طريف بن تميم، وكان فيروز حصين شجاعاً جواداً، نبيل الصورة، جهير الصوت، وتروي الرواة أن رجلاً من العرب كانت أمه فتاة، فقاول بني عم له. فسبوه بالعجمية، ومر فيروز حصين، فقال: هذا خالي، فمن منكم له خال مثله? وظن الفتى1 أن فيروز لم يسمعها، وسمعها فيروز، فلما صار إلى منزله بعث إلى الفتى، فاشترى له منزلاً وجارية، ووهب له عشرة آلاف درهم. ومن مآثره المعروفة أن الحجاج بن يوسف لما واقف ابن الأشعث برستقاباذ نادى منادي الحجاج: من أتى برأس فيروز فله عشرة آلاف درهم. ففصل فيروز من الصف، فصاح بالناس: من عرفني فقد اكتفى، ومن لم يعرفني فأنا فيروز   1 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 حصين، وقد عرفتم مالي ووفائي، من أتى برأس الحجاج فله مائة ألف، فقال الحجاج، فوالله1 لقد تركني أكثر التلفت وإني لبين خاصتي. فأتى به الحجاج فقال له: أأنت الجاعل في رأس أميرك مائة ألف درهم2 ? قال: قد فعلت، فقال: والله لأمهدنك3 ثم لأحملنك؛ أين المال? قال: عندي فهل إلى الحياة من سبيل? قال: لا، قال: فأخرجني إلى الناس حتى أجمع لك المال فلعل قلبك يرق علي! ففعل الحجاج، فخرج فيروز فأحل الناس من ودائعه، وأعتق رقيقه، وتصدق بماله، ثم رد إلى الحجاج فقال: شأنك الآن فاصنع ما شئت، فشد في القصب الفارسي، ثم سل حتى شرح، ثم نضح بالخل والملح، فما تأوه حتى مات. قال أبو العباس: ومضى قطري إلى كرمان، فانصرف خالد إلى البصرة، فأقام قطري بكرمان أشهراً، ثم عمد لفارس، وخرج خالد إلى الأهواز، وندب للناس رجلاً، فجعلوا يطلبون المهلب، فقال خالد: ذهب المهلب بحظ هذا المصر، إني قد وليت أخي قتال الأزارقة، فولى أخاه عبد العزيز، واستخلف المهلب على الأهواز في ثلثمائة، ومضى عبد العزيز في ثلاثين ألفاً، والخوارج بدراب جرد، فجعل عبد العزيز يقول في طريقه: يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلب، فسيعلمون! قال صعب بن زيد: فلما خرج عبد العزيز عن الأهواز جاءني كردوس حاجب المهلب فقال: أجب الأمير، فجئت إلى المهلب وهو في سطح وعليه ثياب هروية، فقال: يا صعب، أنا ضائع، كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز، وأخشى أن توافيني الأزارقة ولا جند معي، فابعث رجلاً م قبلك يأتيني بخبرهم سابقاً به إلي، فوجهت رجلاً يقال له عمران بن فلان، فقلت: اصحب عسكر عبد العزيز واكتب إلي بخبر يوم يوم، أورده على المهلب. فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة، فقال له الناس: هذا يوم صالح، فينبغي أن تنزل4 - أيها الأمير - حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا، فقال: كلا، الأمر قريب،   1 ر: والله. 2 ساقطة من ر. 3 لأمهدانك. من مهدت الفراش مهدا. بسطة ووطأته. يريد لأجعلنك طريحا كالفراش الممهود. قاله المرصفي. 4 ر: "تترك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 فنزل الناس على غير أمره، فلم يستتم النزول حتى ورد عليهم سعد الطلائع في خمسمائة فارس، كأنهم خيط ممدود. فناهضهم عبد العزيز، فواقفوه ساعة، ثم انهزموا عنه مكيدة، فاتبعهم، فقال له الناس: لا تتبعهم فإنا على غير تعبية، فأبى، فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة، فاقتحمها وراءهم. والناس ينهونه، وكان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريمي، الملقب عبس الطعان، وعلى بكر بن وائل مقاتل بن مسمع القيسي وعلى شرطته رجلاً من بني ضبيعة بن نزار، فنزلوا عن العقبة ونزل خلفهم، وكان لهم في بطن العقبة كمين، فلما صاروا وراءها خرج عليهم الكمين. وعطف سعد الطلائع، فترجل عبس بن طلق فقتل، وقتل مقاتل بن مسمع، وقتل الضبعي1 صاحب الشرطة، وانحاز عبد العزيز، واتبعهم الخوارج على فرسخين يقتلونهم كيف شاؤوا، وكان عبد العزيز قد خرج معه بأم حفص ابنة المنذر بن الجارود امرأته. فسبوا النساء يومئذ، وأخذوا أسرى لا تحصى، فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم وثاقاً، ثم سدوا عليهم بابه حتى ماتوا فيه. وقال رجل حضر ذلك اليوم: رأيت عبد العزيز، وإن ثلاثين رجلاً ليضربونه بأسيافهم وما تحيك في جنته2. يقال ما أحاك فيه السف، وما يحيك فيه، وما حك ذا الأمر في صدري، وما حكى في صدري، وما احتكى في صدري. ويقال: حاك الرجل في مشيته يحيك؛ إذا تبختر. ونودي على السبي يومئذ، فغولي بأم حفص، فبلغ بها رجل سبعين ألفاً، وذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا ولحقوا بالخوارج، ففرض لكل واحد منهم خمسمائة، فكاد يأخذها، فشق ذلك على قطري وقال: ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفاً، إن هذه لفتنة3، فوثب إليها أبو الحديد العبدي فقتلها، فأتي به قطري فقال له4: يا أبا الحديد، مهيم! فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت المؤمنين قد تزايدوا في هذه المشركة، فخشيت عليهم الفتنة. فقال قطري: قد أصبت وأحسنت! فقال رجل من الخوارج:   1 ر"الضبيعي". 2 ر: "جسده". 3 ر. "فتنة". 4 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 كفانا فتنة عظمت وجلت ... بحمد الله سيف أبي الحديد أهاب المسلمون بها وقالوا ... على فرط الهوى: هل من مزيد? فزاد أبو الحديد بنصل سيف ... رقيق الحد فعل فتى رشيد قوله: أهاب يريد أعلن، يقال أهبت به، إذا دعوته، مثل صوت، قال الشاعر: أهاب بأحزان الفؤاد مهيب ... وماتت نفوس للهوى وقلوب وقوله: مهيم حرف استفهام1، معناه: ما الخبر وما الأمر، فهو دال على ذلك محذوف الخبر، وفي الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى بعبد الرحمن بن عوف ردع خلوق2 فقال: "مهيم"! فقال: تزوجت يا رسول الله، فقال: "أولم ولو بشاة"، وكان تزوج على نواة، وأصحاب الحديث يروونه على نواة من ذهب قيمتها خمسة دراهم. وهذا خطأ وغلط. العرب تقول نواة فتعني بها خمسة دراهم، كما تقول: النش لعشرين درهماً، والأوقية لأربعين درهماً، فإنما هو اسم لهذا المعنى. وكان العلاء بن مطرف السعدي ابن عمر عمرو القنا، وكان يحب أن يلقاه في تلك الحروب مبارزة، فلحقه عمرو القنا وهو منهزم، فضحك عمرو وقال متمثلاً: تمناني ليلقاني لقيط ... أعام لك ابن صعصعة بن سعد ثم صاح به: انج أبا المصدى! وكان عمرو القنا يكنى أيضاً أبا المصدى. وهذا البيت الذي تمثل به عمرو ليزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي، يقوله يعني لقيط بن زرارة، وكان يطلبه. وقوله: "أعام لك" يريد يا عامر، فرخم، وإنما يريد الحي تعجباً، أي لكم أعجب من تمنيه للقائي! فدعا بني عامر بن صعصعة، وهم بنو صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ياقل إن عامر بن صعصعة هو ابن سعد بن زيد مناة بن تميم، لا ابن   1 قال المرصفي: يريد كلمة "استفهام" هي مبتدأ محذوف الخبر. 2 الخلوق: الطيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 معاوية، وإنهم ناقلة1 في قيس، ولذلك امتنعت2 بنو سعد من محاربتهم مع بني تميم يوم جبلة، ولذلك أنذرهم كرب بن صفوان. وهذا البيت وضعه سيبويه في باب النداء الذي معناه معنى التعجب، وشبيه به قول الصلتان العبدي: فيا شاعرا ًلا شاعر اليوم مثله ... جرير ولكن كليب تواضع على معنى قوله: فلله دره شاعراً! وكان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين له، إحداهما من بني ضبة يقال لها أم جميل، والأخرى بنت عمه، وهي فلانة بنت عقيل، فطلق الضبية وتخلص بهما يومئذ، وحمل الضبية أولاً. ففي ذلك يقول: ألست كريماً إذ أقول لفتيتي ... قفوا فاحملوها قبل بنت عقيل ولو لم يكن عودي نضاراً لأصبحت ... تجر على المتنين أم جميل3 قال الصعب بن يزيد: بعثني المهلب لآتيه بالخبر، فضربت4 إلى قنطرة أربك5 على فرس اشتريته بثلاثة آلاف درهم، فلم أحسس خبراً، فسرت مهجراً إلى أن أمسيت، فلما أظلمنا سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم6، فقلت: ما وراءك? فقال: الشر، فقلت: فأين عبد العزيز? قال: أمامك، فلما كان من آخر الليل إذا أنا بزهاء خمسين فارساً معهم لواء، فقلت، لواء7 من هذا? فقالوا: هذا لواء عبد العزيز؛ فتقدمت إليه، فسلمت وقلت: أصلح الله الأمير! لا يكبرن عليك ما كان، فإنك كنت في شر جند وأخبثه. قال لي: أو كنت معنا? قلت: لا، ولكن كأني شاهد أمرك، قال: كأنك كنت معنا، قلت: أرسلني المهلب لآتيه بخبرك. ثم تركته وأقبلت إلى المهلب، فقال لي: ما وراءك? قلت ما يسرك، قد   1 الناقلة: القبيلة تنتمي إلى أخرى. 2 ر: "تمنعت". 3 ر: "تخر". 4 ر: "قصرت". 5 أربك إحدى قرى خوزسنان. 6 الجهاضم: يريد بني جهضم بن عوف بن مالك. 7 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 هزم عبد العزيز1 وقل جيشه. فقال: ويحك! وما يسرني من هزيمة رجل من قريش وقل جيش المسلمين! قلت: قد كان ساءك أو سرك، فوجه رجلاً إلى خالد يخبره. قال الرجل: فلما أخبرت خالداً قال: كذبت ولؤمت. ودخل رجل من قريش فكذبني. وقال لي خالد: والله لهممت أن أضرب عنقك. قلت: أصلح الله الأمير! إن كنت كاذباً فاقتلني، وإن كنت صادقاً مطرف هذا المتكلف. فقال خالد: لبئس ما أخطرت به دمك! فما برحت حتى دخل بعض الفل. وقدم عبد العزيز سوق الأهواز، فأكرمه المهلب وكساه، وقدم معه على خالد، واستخلف ابنه حبيباً، وقال له: تحسس عن الأخبار، فإن أحسست بخبر الأزارقة قريباً منك فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى، فلما دخلها أعلم خالد، فغضب عليه، واستتر حبيب في بني هلال بن عامر بن صعصعة. فتزوج هناك في استتاره الهلالية أم عباد بن حبيب. وقال الشاعر لخالد يفيل رأيه، أي يخطئه: بعثت غلاماً من قريش فروقة2 ... وتترك ذا الرأي الأصيل المهلبا أبى الذم واختار الوفاء وأحكمت ... قواه وقد ساس الأمور وجربا وقال الحارث بن خالد المخزومي: فر عبد العزيز لما رأى الأب ... طال بالسفح نازلوا قطريا ويروى: فر عبد العزيز إذ راء عيسى ... وابن داود نازلاً قطريا عاهد الله إن نجا ملمنايا ... ليعودن بعدها حرميا يسكن الخل والصفاح فمرا ... ن وسلعا وتارة نجديا حيث لا يشهد القتال ولا يس ... مع يوماً لكر خيل دويا   1 ساقطة من ر. 2 الفروقة: الشديد الفزع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 قوله: إذ راء عيسى، الأصل رأى ولكنه قلب فقدم الألف وأخر الهمزة، كما قال كثير: وكل خليل راءني فهو قائل ... من اجلك هذا هامة اليوم أو غد والقلب كثير في كلام العرب، وسنذكر منه شيئاً في موضعه إن شاء الله. وقوله: ملمنايا يريد من المنايا، ولكنه حذف النون لقرب مخرجها من اللام، فكانتا كالحرفين يلتقيان على لفظ فيحذف أحدهما، ومن كلام العرب أن يحذفوا النون إذا لقيت لام المعرفة ظاهرة، فيقولون في بني الحارث وبني العنبر وما أشبه ذلك: بلحارث وبلعنبر وبلهجيم كما يقولون: علماء بنو فلان فحذفون إحدى اللامين. وقوله: ليعودن بعدها حرميا العرب تنسب إلى الحرم فيقولون حرمي وحرمي على قولهم حرمة البيت وحرمة البيت، وقال النابغة الذبياني: من قول حرمية قالت وقد رحلوا ... هل في مخفيكم من يشتري أدما1 والخل: ها هنا موضع، وأصله الطريق في الرمل. وكتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز، وقال للمهلب: ما ترى عبد الملك صانعاً بي? قال: يعزلك، قال: أتراه قاطعاً رحمي? قال: نعم، قد2 أتته هزيمة أمية أخيك من البحرين، وتأتيه هزيمة أخيك عبد العزيز من فارس! قال أبو العباس: فكتب عبد الملك إلى خالد3: أما بعد، فإني كنت حددت لك حداً في أمر المهلب، فلما ملكت أمرك نبذت طاعتي واستبددت برأيك، فوليت المهلب الجباية، ووليت أخاك حرب الأزارقة، فقبح الله هذا رأياً! أتبعث غلاماً غراً لم يجرب الحروب للحرب4، وتترك سيداً شجاعاً مدبراً حازماً قد مارس الحروب تشغله بالجباية،!   1 المحف: الخفيف المتاع. 2 ساقطة من ر. 3 في س بعدها: "بسم الله الرحمن الرحيم". ولم تذكر في الأصل. ر. 4 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 أما لو كافأتك على قدر ذبنك لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه، ولكن تذكرت رحمك فلفتني عنك، وقد جعلت عقوبتك عزلك. وولى بشر بن مروان وهو بالكوفة وكتب إليه: أما بعد، فإنك أخو أمير المؤمنين، يجمعك وإياه مروان بن الحكم، وإن خالداً لا مجتمع له مع أمير المؤمنين دون أمية، فانظر المهلب بن أبي صفرة، فوله حرب الأزارقة، فإنه سيد بطل مجرب، فأمدده1 من أهل الكوفة بثمانية آلاف رجل. فشق عليه ما أمره به2 في المهلب، وقال: والله لأقتلنه، فقاله له موسى بن نصير3: أيها الأمير3، إن للمهلب حفاظاً وبلاء ووفاء. وخرج بشر بن مروان يريد البصرة، فكتب موسى وعكرمة إلى المهلب أن يتلقاه لقاء لا يعرفه به. فتلقاه المهلب على بغل، فسلم عليه في خمار الناس، فلما جلس بشر مجلسه قال: ما فعل أميركم المهلب? قالوا: قد تلقاك أيها الأمير وهو شاك. فهم بشر أو يولي حرب الأزارقة عمر بن عبيد الله، فقال أسماء بن خارجة: إنما ولاك أمير المؤمنين لنرى رأيك. فقال له عكرمة ابن ربعي: اكتب إلى أمير المؤمنين وأعلمه علة المهلب. فكتب إليه يعلمه علة المهلب وأن بالبصرة من يغني غناءه، ووجه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه، رئيسهم عبد الله بن حكم المجاشعي، فلما قرأ الكتاب خلا بعبد الله بن حكيم فقال: إن لك ديناً ورأياً وحزماً، فمن لقتال هؤلاء الأزارقة? قال: المهلب. قال: إنه عليل. قال: ليست علته بمانعة4، فقال عبد الملك: أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد. فكتب 5إلى بشر5 يعزم عليه أن يولي المهلب، فوجه إليه. قال المهلب: أنا عليل ولا يمكنني الإختلاف، فأمر بشر بحمل الدواوين إليه، فجعل ينتخب، فاعترض بشر عله، فاقتطع أكثر نخبته، ثم عزم6 ألا يقيم بعد ثالثة، وقد   1 أمدده: أعنه. 2 ساقطة من ر. 3 ساقطة من ر. 4 ر: "بمانعته". 5 ساقطة من ر. 6 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 أخذت الخوارج الأهواز وخلفوها وراء ظهورهم وصاروا بالفرات، فخرج إليهم المهلب حتى صار إلى شهار طاق، فأتاه شيخ من بني تميم، فقال: أصلح الله الأمير! إن سني ما ترى، فهبني لعيالي قال: على أن تقول للأمير إذا خطب فحثكم على الجهاد، كيف تحثنا على الجهاد وأنت تحبس أشرافنا وأهل النجدة منا? ففعل الشيخ ذلك، فقال بشر: وما1 أنت وذاك? قال: لا شيء، وأعطى المهلب رجلاً ألف درهم على أن يأتي بشراً فيقول له أيها الأمير أعن المهلب بالشرط والمقاتلة، ففعل الرجل ذلك، فقال له بشر: ما أنت وذاك? قال نصيحة حضرتني2 للأمير والمسلمين، ولا أعود إلى مثلها، فأمده بالشرطة والمقاتلة. وكتب بشر إلى خليفته بالكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانية آلاف من كل ربع ألفين، ويوجه به مدداً إلى المهلب، فلما أتاه الكتاب بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فعقد له، واختار له من كل ربع ألفين، فكان على ربع أهل المدينة بشر بن جرير البجلي، وعلى ربع تميم وهمدان عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وعلى ربع كندة وربيعة محمد بن إسحاق بن الأشعث الكندي، وعلى مذحج وأسد حر بن قيس المذاحجي، فقدموا على بشر، فخلا بعبد الرحمن بن مخنف، فقال له: قد عرفت رأي فيك وثقتي بك، فكن عند ظني، انظر هذا المزوني فخالفه في أمره، وأفسد عليه رأيه، فخرج عبد الرحمن بن مخنف وهو يقول: ما أعجب ما طمع مني فيه هذا الغلام! يأمرني أن أصغر شيخاً من مشايخ أهلي وسيداً من ساداتهم! فلحق بالمهلب. فلما أحس الأزارقة بدنوه منهم انكشفوا من الفرات، فاتبعهم المهلب إلى سوق الأهواز، فنفاهم عنها، ثم اتبعهم3 إلى رام هرمز فهزمهم منها، فدخلوا فارس وأبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء شديداً4، تقدم فيه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، فلما صار القوم بفارس وجه إليهم ابنه المغيرة، فقال له عبد الرحمن بن صبح: أيها الأمير! إنه5 ليس برأي قتل هذه الأكلب، ولئن والله قتلتهم لتقعدن في بيتك، ولكن طاولهم وكل بهم، فقال: ليس هذا من الوفاء.   1 ر: "ما أنت". 2 ساقطة من ر. 3 ر: "نتبعهم". 4 ر: "حسنا". 5 ر: "أتاه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 فلم يلبث برام هرمز إلا شهراً حتى أتاهم1 موت بشر، فاضطرب الجند على ابن مخنف، فوجه إلى محمد بن إسحاق بن الأشعث ابن زحر واستحلفهما ألا يبرحا، فحلفا له ولم يقيا، ف-جعل الجند من أهل الكوفة يتسللون حتى اجتمعوا بسوق الأهواز، وأراد أهل الانسلال من المهلب، فخطبهم فقال: إنكم لستم كأهل الكوفة، إنما تبون عن مصركم وأموالكم وحرمكم فأقام منهم قوم وتسلل منهم ناس كثير. وكان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان، فوجه مولى له بكتاب منه إلى من بالأهواز، يحلف فيه بالله مجتهداً، لئن لم يرجعوا إلى مراكزهم وانصرفوا عصاة لا يظفر بأحد منهم إلا قتله فجاء مولاه، فجعل يقرأ الكتاب عليهم ولا يرى في وجههم قبوله، فقال: إني لأرى وجوهاً ما القبول من شأنها، فقال له ابن زحر: أيها العبد، اقرأ ما في الكتاب وانصرف إلى صاحبك، فإنك لا تدري ما في أنفسنا، وجعلوا2 يستحثونه بقراءته، ثم قصدوا قصداً الكوفة، فنزلوا النخيلة، وكتبوا إلى خليفة بشر يسألونه أن يأذن لهم في الدخول فأبى، فدخلوها بغير إذن.   1 ر: "أتاه". 2 ر: "يستحثونه في قراءته". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 ولاية الحجاج العراق وأمره مع المهلب والخوارج فلم يزل المهلب ومن معه من قواده ابن مخنف في عدد قليل، فلم ينشبوا أن ولي الحجاج العراق، فدخل الكوفة قبل البصرة، وذلك في سنة خمس وسبعين، فخطبهم وتهددهم، وقد ذكرنا الخطبة متقدماً. ثم نزل فقال لوجوه أهلها: ما كانت الولاة تفعل بالعصاة? فقالوا: كانت تضرب وتحبس، فقال الحجاج: ولكن ليس لهم عندي إلا السيف، إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون، ولو ساغت المعصية لأهلها ما قوتل عدو ولا جبي فيء، ولا عز دين. ثم جلس لتوجيه الناس، فقال: قد أجلتكم ثلاثاً، وأقسم بالله لا يتخلف أحد من أصحاب ابن مخنف بعدها ولا من أهل الثغور إلا قتلته، ثم قال لصاحب حرسه وصاحب شرطه: إذا مضت ثلاثة أيام فاتخذا سيوفكما عصياً، فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي بابنه، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا أنف لكم مني، وهو أشد بني تميم أيداً، وأجمعهم سلاحاً، وأربطهم جأشاً، وأنا شيخ كبير عليل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 واستشهد جساءه، فقال له1 الحجاج: إن عذرك لواضح، وإن ضعفك لبين ولكني أكره أن يجترئ بك الناس علي. وبعد فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان، ثم أمر به فقتل، فاحتمل الناس، وإن أحدهم ليتبع بزاده وسلاحه، ففي ذلك يقول ابن الزبير الأسدي: أقول لعبد الله يوم لقيته ... أرى الأمر أمسى منصباً متشعبا تخير فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه ... يد الدهر حتى يترك الطفل أشيبا فأضحى ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي أقربا وهرب سوار بن المضرب السعدي من الحجاج وقال: أقاتلي الحجاج إن لم أزر له ... دراب وأترك عند هند فؤاديا وقد مرت هذه الأبيات. وخرج الناس عن الكوفة، وأتى الحجاج البصرة، فكان عليهم أشد إلحاحاً2 وقد كان أتاهم خبره بالكوفة، فتحمل الناس قبل قدومه، فأتاه رجل م بني يشكر، وكن شيخاً كبيراً أعور، وكان يجعل على عينه العوراء صوفة، فكان يلقب ذا الكرسفة، فقال: أصلح الله الأمير! إن بي فتقاً، وقد عذرني بشر، وقد رددت العطاء، فقال: إنك عندي لصادق، ثم أمر به فضربت عنقه، ففي ذلك يقول كعب، الأشقري أو الفرزدق: لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة ... تقرقر منها بطن كل غريف ويروى عن ابن ميرة قال: إنا لنتغدى معه يوماً إذ جاء رجل من بني سليم برجل قوده، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا عاص، فقال له الرجل: أنشدك الله أيها الأمير في دمي، فوالله ما قبضت ديواناً قط، ولا شهدت عسكراً، وإني لحائك أخذت من تحت الحف3، فقال: اضربوا عنقه، فلما أحس بالسيف سجد،   1 ساقطة من ر. 2 ر: "حاء". 3 الحف: المنسج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 فلحقه السيف وهو ساجد، فأمسكنا عن الأكل1، فأقبل علينا الحجاج فقال: مالي أراكم صفرت أيديكم واصفرت وجوهكم وحد نظركم من قتل رجل واحد! إن العاصي يجم خلالاً: يخل بمركزه، ويعصي أميره، ويغر المسلمين وهو أجير لهم، وإنما يأخذ الأجرة لما يعمل، والوالي مخير فيه، إن شاء قتل وإن شاء عفا. ثم كتب الحجاج إلى المهلب: أما بعد؛ فإن بشراً رحمه الله استكره نفسه عليك، وأراك غناءه عنك، وأنا أريك حاجتي إليك، فأرني الجد في قتال عدوك، ومن خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله، فإني قاتل من قبلي، ومن كان عندي من ولي من هرب عنك فأعلمني مكانه، فإني أرى أن آخذ الولي بالولي، والسمي بالسمي. فكتب إليه المهلب: ليس قبلي إلا مطيع، وإن الناس إذا خافوا العقوبة كبروا الذب، وإذا أمنوا العقوبة صغروا الذنب، وإذا يئسوا من العفو أكفرهم ذلك، فهب لي هؤلاء الذي سميتهم عصاة، فإنما هم فريقان2 أبطال، أرجو أن يقتل الله بهم لعدو ونادم على ذنبه. فلما رأى المهلب كثرة الناس عليه قال: اليوم قوتل هذا العدو، ولما رأى ذلك قطري قال: انهضوا بنا نريد السردان3 فنتحصن فيها، فقال عبيدة بن هلال: أو نأتي سابور، وخرج المهلب في آثارهم، فأتى أرجان، وخاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن، وليست بمدينة، ولكن جبال محدقة منيعة، فلم يصب بها أحداً، فخرج نحوهم فعسكر بكازرون، واستعدوا لقتاله، وخندق على نفسه، ثم وجه إلى عبد الرحمن بن مخنف: خندق على نفسك، فوجه إليه: خنادقنا سيوفنا، فوجه إليه المهلب: إني لا آمن عليك البيات، فقال ابنه جعفر: ذاك أهون علينا من ضرطة جمل! فأقبل المهلب على ابنه المغيرة فقال: لم يصيبوا الرأي ولم يأخذوا بالوثيقة، فلما أصبح القوم غادوه الحرب، فبعث إلى ابن مخنف يستمده، فأمده بجماعة، وجعل عليهم ابنه جعفراً، فجاؤوا وعيهم أقبية بيض جدد، فقاتلوا يومئذ حتى عرف مكانهم، وحاربهم المهلب، وأبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد، ثم نظر إلى رئيس منهم يقال له صالح بن مخراق، وهو ينتخب   1 ر: "الطعام". 2 ر: "فريسان". 3 السردان: موضع ببلاد فارس بإزاء كازرون "البكري". وفي ر: "السردان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 قوماً من جلة العسكر، حتى بلغوا أربعمائة، فقال لابنه المغيرة: ما يعد هؤلاء إلا للبيات. وانكشف الخوارج والأمر للمهلب عليهم، وقد كثر فيهم القتل والجراح. وقد كان الحجاج في كل يوم يتفقد العصاة ويوجه الرجال، فكان يحسبهم نهاراً، ويفتح الحبس ليلاً، فينسل الناس إلى ناحية المهلب، وكأن الحجاج لا يعلم، فإذا رأى إسراعهم تمثل: إن لها لسائقاً عشنزرا ... إذا ونين ونية تغشمرا العشنزر: الصلب، والغشمرة1: ركوب الرأس. والمتغشمر: الجاد على ما خيلت. وكتب إلى المهلب من قبل الوقعة: أما بعد، فإنه بلغني أنك أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدو، وإني وليتك وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشي وعباد بن حصين الحبطي. واخترتك وأنت من أهل عمان، ثم رجل من الأزد، فالقهم يوم كذا في مكان كذا، وإلا أشرعت إليك صدر الرمح. فشاور بنيه فقالوا: إنه أمير، فلا تغلظ عليه في الجواب. فكتب إليه المهلب: ورد علي كتابك تزعم أني أقبلت على جباية الخراج فهو عن قتال العدو أعجز، وزعمت أنك وليتني وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي وعباد بن حصين الحبطي، ولو وليتهما لكانا مستحقين لذلك في فضلهما وغنائهما وبطشهما، واخترتني وأنا رجل من الأزد، ولعمري إن شراً من الأزد لقبيلة تنازعها ثلاث قبائل، لم تستقر في واحدة منهن. وزعمت أني إن لم ألقهم في يوم كذا، في مكان كذا، أشرعت إلي صدر الرمح، فلو فعلت لقبلت إليك ظهر المجن، والسلام. ثم كانت الواقعة. فلما انصرف الخوارج قال المهلب لابنه الميغرة: إني أخاف البيات على بني تميم فانهض إليهم فكن فيهم.   1 ر: التغشمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 فأتاهم المغيرة، فقال له الحريش بن هلال: يا أبا حاتم، أيخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا? قال له فليبت آمناً، فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله. فلما انتصف الليل وقد رجع المغيرة إلى أبيه، سرى صالح بن مخارق في القوم الذي أعدهم إلى ناحية بني تميم، ومعه عبيدة بن هلال، وهو يقول: إني لمذك للشراة نارها ... ومانع ممن أتاها دارها وغاسل بالطعن عنها عارها فوجد بني تميم أيقاظاً متحارسين، فخرج إليهم الحريش بن هلال وهو يقول: لقد وجدتم وقراً أنجادا ... لا كشفاً ميلاً ولا أوغادا هيهات لا تلفوننا رقادا ... لا بل إذا صيح بنا آسادا ثم حمل على القوم فرجعوا عنه، فاتبعهم وصاح بهم: إلى أين كلاب النار! فقالوا: إنما أعدت النار لك ولأصحابك، فقال الحريش: كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار إن دخلها مجوسي فيما بين سفوان وخراسان. قوله: وجدتم وقراً جمع وقر. والنجد: ضد البليد، وهو المتيقظ الذي لا كسل عنده ولا فتور. والأميل فيه قولان: قالوا: الذي لا يستقر على الدابة، وقالوا: هو الذي لا سيف معه. والأكشف: الذي لا ترس معه. والأجم: الذي لا رمح معه. والحاسر: الذي لا درع عليه. والأعزل: الذي لا يتقوم على ظهر الدابة. والوغد: الضعيف. ثم قال بعضهم لبعض: نأتي عسكر ابن مخنف فإنه لا خندق عليهم، وقد تعب فرسانهم اليوم مع المهلب، وقد زعموا أنا أهون علهم من ضرطة جمل، فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف وأصحابه بهم إلا وقد خالطوهم في عسكرهم. وكان ابن مخنف شريفاً. يقول رجل من غامد لرجل يعاتبه، ويضرب بابن مخنف المثل: تروح وتغدو كل يوم معظماً ... كأنك فينا مخنف وابن مخنف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 فترجل عبد الرحمن بن مخنف فجالدهم فقتل، وقتل معه سبعون من القراء، فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، ونفر من أصحاب ابن مسعود، وبلغ الخبر المهلب، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب، فجاءهم مغيثاً فقاتلهم حتى ارتث1 وصرع، ووجه المهلب إليهم ابنه حبيباً فكشفهم، ثم جاء المهلب حتى صلى على ابن مخنف وأصحابه رحمهم الله، وصار جنده في جند المهلب، فضمهم إلى ابنه حبيب، فعيرهم البصريون، فقال رجل لجعفر بن عبد الرحمن: تركت أصحابنا تدمى نحورهم ... وجئت تسعى إلينا خضفة الجمل2 قوله: خضفة الجمل يريد ضرطة الجمل، يقال: خضف البعير. وأنشدني الرياشي لأعرابي يذم رجلاً اتخذ وليماً: إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف ... أغلق عنا بابه م حلف لا يدخل البواب إلا من عرف ... عبداً3 إذا ما ناء بالجمل خضف4 يقال: ناء بحمله، إذا حمله في ثقل وتكلف، وفي القرآن: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} 5، والمعنى أن العصبة تنوء بالمفاتيح. وقد مضى تفسير هذا. فلامهم المهلب، وقال: بئسما قلتم! والله ما فروا ولا جبنوا، ولكنهم خالفا أميرهم، أفلا تذكرون فراركم يوم دولاب، وفراركم بدارس6 عن عثمان، وفراركم عني! ووجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم، وكتب إليه: إنك لتحب بقاءهم لتأكل بهم. فقال المهلب لأصحابه: حركوهم، فخرج فرسان من أصحابه إليهم، فخرج إليهم من الخوارج جمع، فاقتتلوا إلى الليل، فقال لهم الخوارج: ويلكم أما تملون! فقالوا: لا، حتى تملوا، قالوا: فمن أنتم?   1 ارتث: حمل من المعركة وبه بقية من الحياة. 2 أي يا أيا خضفة. 3 ر: "عبد". 4 زيادات ر: "تقول العرب: حبج الرجل وخبق وخضف وردم. كل ذلك إذا ضرط". 5 سورة القصص: 76. 6 دارس: موضع قريب من البصرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 قالوا: تميم، قالت الخوارج: ونحن بنو تميم، فلما أمسوا افترقوا، فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب وخرج إليهم عشرة من الخوارج، فاحتفر كل واحد حفيرة وأثبت قدمه فيها، فكلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره وقام1 مكانه، حتى أعتموا2، فقال لهم الخوارج: ارجعوا، فقالوا: بل ارجعوا أنتم، فقالوا إلى الحجاج، فقال له: مه! قال: رأيت قوماً لا يعين عليهم إلا الله. وكتب إليه المهلب: إني منتظر بهم إحدى ثلاث: موت ذريع، أو جوع مضر، أو اختلاف من أهوائهم. وكان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد، كان يتولى ذلك بنفسه، ويستعين بولده وبمن يحل محلهم في الثقة عنده. وقال أبو حرملة العبدي يهجو المهلب: عدمتك يا مهلب من أمير ... أما تندى يمينك للفقير! بدولاب أضعت دماء قومي ... وطرت على مواشكة درور3 فقال المهلب: ويحك! والله إني لأقيكم بنفسي وولدي، قال: جعلني الله فداء الأمير! فذاك الذي نكره منك، ما كلنا يحب الموت، قال: ويحك! وهل عنه محيص? قال: لا، ولكنا نكره التعجيل، وأنت تقدم عليه إقداماً، قال المهلب: أما سمعت قول هبيرة4 الكلحبة اليربوعي: فقلت لكأس ألجميها فإنما ... نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا قال: بلى والله قد سمعته، ولكن قولي أحب إلي منه، وهو5: فلما وقفتم غدوة وعدوكم ... إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري وطرت ولم أحف مقالة عاجز ... يساقي المنايا بالرجينية السمر   1 ر: "ووقف". 2 أعتموا: صارواإلى العتمة وهي ثلث الليل الأول. 3 ر: "دماء قوم", ومواشكة دور: سريعة. 4 ساقطة من ر. 5 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 فقال له1 المهلب:بئس حشو الكتيبة والله أنت! فإن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك، فقال: بل أقيم معك أيها الأمير، فوهب له المهلب وأعطاه، فقال يمدحه: يرى حتماً عليه أبو سعيد ... جلاد القوم في أولى النفير إذا نادى الشراة أبا سعيد ... مشى في رفل محكمة القتير2 الرفل: الذيل. وكان المهلب يقول: ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع بدل بيهس بن صهيب، فيقال له: أيها الأمير، بيهس ليس بشجاع، فيقول: أجل، ولكنه سديد الرأي محكم العقل، وذو الرأي حذر سؤول، فأنا آمن أن يعتقل، فلو كان مكانه ألف شجاع قلت: إنهم ينشامون3 حين يحتاج إليهم4 ومطرت السماء مطراً شديداً وهم بسابور، وبين المهلب وبين الشراة عقبة، فقال المهلب: من يكفينا هذه العقبة الليلة? فلم يقم أحد، فلبس المهلب سلاحه وقام إلى العقبة واتبعه ابنه المغيرة، فقال رجل من أصحابه يقال له عبد الله: دعانا الأمير إلى ضبط العقبة، والحظ في ذلك لنا فلم نطعه، فلبس سلاحه واتبعه جماعة من أهل العسكر فصاروا إليه، فإذا المهلب والمغيرة لا ثالث لهما، فقالوا: انصرف أيها الأمير، فنحن نكفيك إن شاء الله، فلما أصبحوا إذا بالشراة على العقبة، فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فارس، فجعل يحمل وفرسه يزلق، وتلقاه مدرك بن المهلب في جماعة حتى ردهم. فلما كان يوم النحر والمهلب على المنبر يخطب الناس، إذا الشراة قد تألبوا، فقال المهلب: سبحان الله! أفي مثل هذا اليوم! يا مغيرة أكفنيهم، فخرج إليهم المغيرة بن المهلب وأمامه سعد بن نجد القردوسي، وكان سعد شجاعاً متقدماً في   1 ر: "وقال المهلب". 2 القتير: رءوس مسامير حلق الدروع. 3 ينشامون. من إنشام الشيء. دخل وأختبأ. يريد أنهم يكون بمعزل مخافة أن ينتفلوا. 4 ر: "حتى يحتاج إليهم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 شجاعته، وكان الحجاج1 إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له: لو كنت سعد بن نجد القردوسي ما عدا - وقردوس من الأزد. فخرج أمام المغيرة، وتبع المغيرة جماعة من فرسان المهلب، فالتقوا، وأما الخوارج غلام جامع السلاح، مديد القامة، كريه الوجه، شديد الحملة، صحيح الفروسية، فأقبل يحمل على الناس وهو يقول: نحن صبحناكم غداة النحر ... بالخيل أمثال الوشيج تجري2 فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي من الأزد، ثم تجاولا ساعة، فطعنه سعد فقتله، والتقى الناس، فصرع يومئذ المغيرة، فحامى عليه سعد بن نجد وذبيان السختياني وجماعة من الفرسان حتى ركب، وانكشف الناس عند سقطة المغيرة، حتى صاروا إلى أبيه المهلب، فقالوا: قتل المغيرة، ثم أتاه ذبيان السختياني، فأخبره بسلامته، فأعتق كل مملوك كان بحضرته. ووجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة القوم، وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل، وتحصنت بالخنادق، وطاولت القوم وأنت أعز ناصراً، وأكثر عدداً، وما أظن بك مع هذا معصية ولا جبناً، ولكنك اتخذت أكلاً3، وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم، فناجزهم وإلا أنكرتني، والسلام. فقال المهلب للجراح: يا أبا عقبة، والله ما تركت جيلة إلا احتلتها، ولا مكيدة إلا أعملتها، وما العجب من إبطاء النصر وتراخي الظفر، ولكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره! ثم ناهضهم ثلاثة أيام، يغاديهم القتال، ولا يزالوا كذلك إلى العصر، وينصرف4 أصحابه وبهم قرح، وبالخوارج قرح وقتل، فقال [له الجراح5] : قد أعذرت.   1 ر: "وكان المهلب". وما أثبته عن الأصل. س. 2 الوشيج: ما نبت من شجر الرماح متلفا دخل بعضه في بعض. 3 الأكل: الرزق. 4 من هنا خرم في نسخة الأصل ينتهي في ص 384 من هذا الجزء. 5 تكلمة من س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 فكتب المهلب إلى الحجاج: أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم، على أنك لا تظن بي معصية ولا جبناً، وقد عاتبتني معاتبة الجبان، وأوعدتني وعيد العاصي، فاسأل1 الجراح، والسلام. فقال الحجاج للجراح: كيف رأيت أخاك? قال: والله ما رأيت أيها الأمير مثله قط ولا ظننت أن أحداً يبقى على مثل ما هو عليه. ولقد شهدت أصحابه أياماً ثلاثة يغدون إلى الحرب ثم ينصرفون عنها وهم بها يتطاعنون بالرماح، ويتجالدون بالسيوف، ويتخابطون بالعمد، ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئاً، رواح قوم تلك عادتهم وتجارتهم. فقال: الحجاج: لشد ما مدحته أبا عقبة! قال: الحق أولى. وكانت ركب2 الناس قديماً من الخشب، فكان الرجل يضرب ركابه فيتقطع، فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد، فأمر المهلب فضربت الركب من الحديد، وهو أول من أمر بطبعها، ففي ذلك يقول عمران بن عصام العنزي: ضربوا الدراهم في إمارتهم ... وضربت للحدثان والحرب حلقاً ترى منها مرافقهم ... كمناكب الجمالة الحرب3 وكتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي، من بني رياح بن يربوع بن حنظلة، وهو والي إصبهان، يأمره بالمسير إلى المهلب، وأن يضم إليه جند عبد الرحمن بن مخنف، فكل بلد تدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلب أمير الجماعة فيه، وأنت على أهل الكوفة، فإذا دخلتم بلداً فتحه لأهل الكوفة فأنت أمير الجماعة [فيه] 4، والمهلب على أهل البصرة. فقد عتاب في إحدى جماديين من سنة ست وسبعين على المهلب، وهو بسابور، وهي من فتوح أهل البصرة فكان المهلب أمير الناس، وعتاب على أصحاب ابن مخنف، والخوارج في أيديهم كرمان، وهم بإزاء المهلب بفارس يحاربونه من جميع النواحي.   1 س: "فسيل" 2 الركب: جم ركاب. وهو ما يعتمد عليه راكب السرج بقدميه. 3 أي ضربت حلفا. ومرافقهم. أي معتمدات أرجلهم. والجمالة: أصحاب الجمال. 4 من س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 فوجه الحجاج إلى المهلب رجلين يستحثانه مناجزة القوم، أحدهما يقال له زياد بن عبد الرحمن، من بني عامر بن صعصعة، والآخر من آل أبي عقيل جد الحجاج، فضم زياداً إلى ابنه حبيب، وضم الثقفي إلى يزيد ابنه، وقال لهما: خذا يزيد وحبيباً بالمناجزة، فغادوا الخوارج فاقتتلوا أشد قتال، فقتل زياد بن عبد الرحمن، وفقد الثقفي، ثم باكروهم في اليوم الثاني وقد وجد الثقفي، فدعا به المهلب ودعا بالغداء، فجعل النبل يعق قريباً منهم، والثقفي يعجب من أمر المهلب، فقال الصلتان العبدي: ألا يا أصبحاني قبل عوق العوائق ... وقبل اختراط القوم مثل العقائق غداة حبيب في الحديد يقودنا ... نخوض المنايا في ظلال الخوافق حرون إذا ما الحرب طار شرارها ... وهاج عجاج الحرب فوق البوارق1 فمن مبلغ الحجاج أن أمينه ... زياداً أطاحته رماح الأزارق قوله: وقبل اختراط القوم مثل العقائق يعني السيوف، والعقائق: جمع عقيقة، يقال: سيف كأنه عقيقة برق، أي كأنه لمعة برق، ويقال انعق البرق إذا تبسم. وللعقيقة مواضع: يقال فلان بعقيقة الصبي2، أي بالشعر الذي ولد به لم يحلقه، ويقال: عققت الشيء أي قطعته، ومن ذا فلان يعق أبويه، وكذا عققت عن الصبي، إذا ذبحت عنه، قوال أعرابي: ألم تعلمي يا دار بلجاء أنني ... إذا أجدبت أو كان خصباً جنابها أحب بلاد الله ما بين مشرف ... إلي أن يصوب سحابها3 بلاد بها عق الشباب تميمتي ... وأول أرض مس جلدي ترابها فلم يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر، حتى ظهر شبيب، فكتب الحجاج إلى عتاب يأمره بالمصير4 إليه ليوجه إلى شبيب، وكتب إلى المهلب   1 قال المرصفي: "الحزون: لقب حبيب؛ لأنه كان يحرن في الأرض فلا يبرح". والبوارق والسيوف. 2 ر: "الصبي" بكسر الصاد وألف مقصورة. 3 مشرف: رمل بالدهناء. 4 س: "بالمسير". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 [يأمره] 1 بأن يرزق الجند، فرق المهلب أهل البصرة، وأبى أن يرزق أهل الكوفة، فأبى، فجرت بينهما غلظة، فقال عتاب: قد كان يبلغني أنك شجاع فرأيتك جباناً. وكان يبلغني أنك جواد فرأيتك بخيلاً، فقال له المهلب: يا ابن اللخنا! فقال له عتاب: لكنك معم مخول2، فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف، ووثب ابن تيم بن هبيرة بن أبي3 مصقلة على عتاب فشتمه، وقد كان المهلب كارهاً للحلف، فلما رأى نصرهة بكر بن وائل سره الحلف واغتبط به، ولم يزل يؤكده فغضبت تميم البصرة لعتاب، وغضبت أزد الكوفة للمهلب. فلما رأى ذلك المغيرة بن المهلب مشى بين أبيه وبين عتاب، فقال لعتاب: يا أبا ورقاء، إن الأمير يصير لك إلى كل ما تحب، وسأل أباه أن يرزق أهل الكوفة، فأجابه، فصلح الأمر، فكانت تميم قاطبة وعتاب بن ورقاء يحمدون المغيرة بن المهلب، وقال عتاب: إني لأعرف فضله على أبيه، وقال رجل من الأزد من بني إياد بن سود: ألا أبلغ أبا ورقاء عنا4 ... فلولا أننا كنا غضابا على الشيخ المهلب إذ جفانا ... للاقت خيلكم منا ضرابا وكان المهلب يقول لبنيه: لا تبدأوهم بقتال حتى يبدأوكم فيبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا نصرتم عليهم. فشخص عتاب بن ورقاء إلى الحجاج في سنة سبع وسبعين، فوجه إلى شبيب، فقتله شبيب، وأقام المهلب على حربهم، فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهراً اختلفوا. وكان سبب اختلافهم أن رجلاً حداداً من الأزارقة كان يعمل نصالاً مسمومة، فيرمى بها أصحاب المهلب، فرفع ذلك إلى المهلب فقال: أنا قطري فقال: ألق هذا الكتاب في عسكر قطري واحذر على نفسك - وكان الحداد يقال له أبزى - فمضى الرسول، وكان في الكتاب: أما بعد، فإن نصالك قد وصلت إلي، وقد وجهت إليك بألف درهم، فاقبضها وزدنا من هذه النصال، فوقع الكتاب والدراهم إلى   1 تكملة ر. س. 2 معم مخول. أي كريم الأعمام والأخوال. 3 ر: "أخي". 4 كذا في س, وفي ر: "بني ورقاء". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 قطري. فدعا بأبزى، فقال: ما هذا الكتاب? قال: لا أدري، قال: فهذه الدراهم? قال: ما أعلم علماها، فأمر به فقتل، فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له: أقتلت رجلاً إلى غير ثقة ولا تبين! فقال له: ما حال هذه الدراهم! قال: يجوز أن يكون أمرها كذباً ويجوز أن يكون حقاً، فقال له قطري: قتل رجل في صلاح الناس غير منكر، وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحاً، وليس للرعية أن تعترض عليه، فتنكر له عبد ربه في جماعة [معه] 1، ولم يفارقوه. فبلغ ذلك الملهب فدس إليه رجلاً نصرانياً، فقال له: إذا رأيت قطرياً فاسجد له، فإذا نهاك فقل: إنما سجدت لك. ففعل النصراني، فقال له قطري: إنما السجود لله، فقال: ما سجدت إلا لك، فقال له رجل من الخوارج قد عبدك من دون الله، وتلا: {إنكم إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 2، فقال قطري: إن هؤلاء النصارى قد عبدوا عيسى ابن مريم فما ضر ذلك عيسى شيئاً، فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر ذلك عليه وقال: أقتلت ذمياً! فاختلفت الكلمة فبلغ ذلك المهلب، فوجه إليهم رجلاً يسألهم عن شيء تقدم به إليه، فأتاهم الرجل فقال: أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم، فمات أحدهما في الطريق وبلغكم الآخر فامتحنتموه فلم يجز المحنة، ما تقولون فيهما? فقال بعضهم: أما الميت فمؤمن من أهل الجنة، وأما الآخر الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيزها. وقال قوم آخرون: بل هما كافران حتى يجيزا المحنة، فكثر الاختلاف. فخرج قطري إلى حدود إصطخر، فأقام شهراً والقوم في اختلافهم، ثم أقبل، فقال لهم صالح بن مخراق: يا قوم، إنكم قد قررتم أعين عدوكم وأطعمتوهم لكم، لما ظهر من اختلافكم، فعودوا إلى سلامة القلوب واجتماع الكلمة. وخرج عمرو القنا فنادى: يا أيها المحلون3. هل لكم في الطراد، فقد طال العهد به! ثم قال: ألم تر أنا مذ ثلاثون ليلة ... قريب وأعداء الكتاب على خفض   1 تكملة من س. 2 سورة الأنبياء 98. 3 المحلون: الذين لاعهد لهم ولاحرمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 فتهايج القوم، وأسرع بعضهم إلى بعض، فأبلى يومئذ المغيرة بن المهلب، وصار في وسط الأزارقة، فجعلت الرماح تحطه1 وترفعه، واعتورت رأسه السيوف، وعليه ساعد حديد فوضع يده على رأسه، فجعلت السيوف لا تعمل فيه شيئاً، واستنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع، وكان الذي صرعه عبيدة بن هلال، وهو يقول: أنا ابن خير قومه هلال ... شيخ على دين أبي بلال وذاك ديني آخر الليالي فقال رجل للمغيرة: كنا نعجب كيف تصرع، والآن نعجب كيف تنجو! وقال المهلب لبنيه: إن سرحكم لغار، ولست آمنهم عليه، أفوكلتم به أغار على السرح، فشق ذلك على المهلب، وقال: كل أمر لا أليه بنفسي فهو ضائع، وتذمر عليهم، فقال له بشر بن المغيرة: أرح نفسك، فإن كنت إنما تريد مثلك فوالله لا يعدل أحدنا شسع نعلك، فقال: خذوا عليهم الطريق، فثار بشر بن المغيرة، ومدرك والمفضل ابنا المهلب، فسبق بشر إلى الطريق، فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل السرح2، أي يطرده، وهو يقول: نحن أقمعناكم بشل السرح ... وقد نكأنا القرح بعد القرح3 الشل: الطرد: ويقال: نكأت القرحة، مهموز، ونكيت العدو، غير مهموز، من النكاية، ونكأت القرحة نكأ، قال ابن هرمة: ولا أراها تزال ظالمة4 ... تحدث لي قرحة وتنكؤها ولحقه المفضل ومدرك، فصاحا برجل من طيئ: اكفنا الأسود، فاعتوره الطائي وبشر بن المغيرة فقتلاه، وأسرا رجلاً من الأزارقة، فقال المهلب: ممن الرجل? قال: رجل من همدان، قال: إنك لشين همذان، وخلى سبيله.   1 هنا آخر الخرم في النسخة الأصل, وأوله في ص 377 من هذا الجزء. 2 السرح: المال الذي يسام في المرعى من الأنعام. 3 أقمناكم: قهرناكم. 4 أي لاتزال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 وكان عياش الكندي شجاعاً بئيساً1، فأبلى يومئذ، ثم مات على فراشه بعد ذلك، فقال المهلب: لا وألت نفس الجبان بعد عياش! وقال المهلب: ما رأيت كهؤلاء كلما ينقص منهم يزيد فيهم! ووجه الحجاج إلى المهلب رجلين: أحدهما من كلب، والآخر من سليم، يستحثانه بالقتال، فقال المهلب متمثلاً: ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم الشعر لأوس بن حجر، وقوله: زبنته يقول: دفعته، ولم يترمرم، أي لم يتحرك، يقال: قيل له كذا وكذا فما ترمرم. وقال ليزيد: حركهم، فحركهم فتهايجوا، وذلك في قرية من قرى إصطخر، فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فطعنه، فشك فخذه بالسرج، فقال المهلب للسلمي والكلبي: كيف نقاتل قوماً هذا طعنهم! وحمل يزيد عليه وقد جاء الرقاد، وهو من فرسان المهلب، وهو أحد بني مالك بن ربيعة، على فرس له أدهم، وبه نيف وعشرون جراحة، وقد وضع عليها القطن، فلما حمل يزيد ولى الجمع وحماهم فارسان، فقال يزيد لقيس الخشني مولى العيتك من لهذين? قال: أنا، فحمل عليهما، فعطف عليه أحدهما، فطعنه قيس الخشني فصرعه، وحمل عليه الآخر فعانقه، فسقطا جميعاً إلى الأرض، فصاح قيس الخشني: اقتلونا جميعاً، فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء، فحجزوا بينهما، فإذا معانقه امرأة، فقام قيس مستحيياً، فقال له يزيد: أما أنت فبارزتها على أنها رجل، فقال: أرأيت لو قتلت! أما كان يقال: قتلته امرأة! وأبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي، فقال له غلام له يقال له خلاج: والله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى أصير إلى مستقرهم فأستلب مما هناك جاريتين. فقال مولاه: وكيف تمنيت اثنتين? قال: لأعطيك إحداهما وآخذ الأخرى، فقال ابن المنجب:   1 البئيس: الشديد البأس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 أخلاج إنك لن تعانق طفلة ... شرقاً بها الجادي كالتمثال حتى تلاقي في الكتيبة معلمة ... عمرو القنا وعبيدة بن هلال وترى المقعطر في الكتيبة مقدماً ... في عصبة قسطوا مع الضلال أو أن يعلمك المهلب غزوة ... وترى جبالاً قد دنت لجبال قوله: طفلة يقول: ناعمة، وإذا كسرت الطاء فقلت: طفلة فهي الصغيرة. والجادي: الزعفران، والكتيبة: الجيش، وإنما سمي الجيش كتيبة لانضمام أهله بعضهم إلى بعض. وبهذا سمي الكتاب. ومنه قولهم: كتبت البغلة والناقة إذا خرزت ذلك الموضع منها. وكتبت القربة. والمعلم: الذي قد شهر نفسه بعلامة، إما بعمامة صبيغ، وإما بمشهرة، وإما بغير ذلك. وكان حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه معلماً يوم بدر بريشة نعامة في صدره وكان أبو جدانة - وهو سماك بن خرشة الأنصاري - يوم أحد لم قال رسول الله صلى الله عليه سلم: "من يأخذ سيفي هذا بحقه?" قالوا: وما حقه يا رسول الله? قال: "أن يضرب به في العدو حتى ينحني"، فقال أبو دجانة: أنا، فدفعه إليه، فلبس مشهرة فأعلم بها، وكان قومه يعلمون لما بلوا منه أنه إذا لبس تلك المشهرة لم يبق في نفسه غاية، ففعل، وخرج يمشي بين الصفين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنها لمشية يبغضها الله عز وجل إلا في مثل هذا الموضع". ويروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع علياً صلوات الله عليه يقول لفاطمة ورمى إليها بسيف، فقال: هاك حميداً فاغسلي عنه الدم. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدقه معك سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة". وفي بعض الحديث "وقيس بن الربيع" وكل هؤلاء من الأنصار. عاد الحديث إلى ذكر الخوارج: وعمرو القنا من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، وعبيدة بن هلال من بني يشكر بن بكر بن وائل، والذي طعن صاحب المهلب في فخذه فشكها مع السرج من بني تميم. قال: ولا أدري أعمرو هو أم غيره. والمقعطر من عبد القيس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 وقوله: قسطوا أي جاروا، يقال قسط فهو قاسط، إذا جار، قال الله جل ثناؤه: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} 1. ويقال: أقسط يقسط فهو مقسط، إذا عدل، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2. وكان بدر بن الهذيل شجاعاً، وكان لحانة، فكان إذا أحس بالخوارج نادى يا خيل3 الله اركبي، وله يقول القائل: وإذا طلبت إلى المهلب حاجة ... عرضت توابع دونه وعبيد العبد كردوس وعبد مثله ... وعلاج باب الأحمرين شديد كردوس: رجل من الأزد، وكان حاجب المهلب. وقوله: "وعلاج باب الأحمرين شديد"، العرب تسمي العجم الحمراء، وقد مر تفسير ذا. وقوله: توابع أراد به الرجال، فجاز في الشعر، وإنما رده إلى أصله للضرورة، وما كان من النعوت على فاعل فجمعه فاعلون لئلا يلتبس بجمع فاعله التي هي نعت، وقد قلنا في هذا: ولم قالوا: فوارس وهالك في الهوالك. وكان بشر بن المغيرة أبلى يوماً بلاء حسناً عرف مكانه فيه، وكانت بينه وبين بني المهلب جفوة، فقال لهم: يا بني عم، إني قد قصرت عن شكاة العاتب، وجاوزت شكاة المستعتب4؛ حتى كأني لا موصول ولا محروم، فاجعلوا لي فرجة أعش بها وهبوني امرأ رجوتم نصره، أو خفتم لسانه. فرجعوا له ووصلوا، وكلموا فيه المهلب فوصله. وولى الحجاج كردماً فارس، فوجهه الحجاج إليها والحرب قائمة، فقال رجل من أصحاب المهلب: ولو رآها كردم لكردما ... كردمة العير أحس الضيغما الضيغم: الأسد. والكردمة: النفور.   1 سورة الجن. 2 سورة الحجرات 9. 3 بكسر اللام, وهو موضع اللحن. 4 العاتب: الساخط المستعتب: طالب الرضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر ودراب جرد لأرزاق الجند، ففعل، وقد1 كان قطري هدم مدينة إصطخر، لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره، وأراد مثل ذلك بمدينة فسا، فاشتراها منه آزاد مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم فلم يهدمها، فواقعه المهلب فهزمه، ونفاه إلى كرمان، واتبعه ابنه المغيرة وقد كان دفع إليه سيفاً وجه به الحجاج إلى المهلب، وأقسم عليه أن يتقلده، فدفعه إلى المغيرة بعدما تقلد به، فرجع به المغيرة إليه وقد دماه، فسر المهلب بذلك وقال: ما يسرني أن أكون كنت قد1 دفعته إلى غيرك من ولدي، اكفني جباية خراج هاتين الكورتين، وضم إليه الرقاد، فجعلا يجبيان ولا يعطيان الجند شيئاً، ففي ذلك يقول رجل منهم، وأحسبه من بني تميم، في كلمة له: ولو علم ابن يوسف مانلاقي ... من الآفات والكرب الشداد لفاضت عينه جزعاً علينا ... وأصلح ما استطاع من الفساد ألا قل للأمير جزيت خيراً ... أرحنا من مغيرة والرقاد فما رزقا الجنود بها قفيزاً ... وقد ساست مطامير الحصاد2 يقال: ساس الطعام وأساس، إذا وقع فيه السوس، وداد وأداد، من الدود، وروى أبو زيد: ديد فهو مدود في هذا المعنى. فحاربهم المهلب بالسيرجان حتى نفاهم عنها إلى جيرفت، واتبعهم فنزل قرباً منهم، واختلفت كلمتهم. وكان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اليشكري أتهم بامرأة رجل رأوه مراراً يدخل منزله بغير إذن، فأتوا قطرياً فذكروا ذلك له، فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد بحيث رأيتم فقالوا: إنا لا نقاره على الفاحشة، فقال: انصرفوا، ثم بعث إلى عبيدة فأخبره وقال: إنا لا نقار على الفاحشة، فقال: بهتوني3 يا أمير المؤمنين، فما ترى? قال: إني جامع بينك وبينهم، فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البريء، فجمع بينهم فتكلموا، فقام عبيدة   1 ساقطة من ر. 2 المطامير: جمع مطمورة, وهي حفرة تحت الأرض تخبأ فيها الحبوب. 3 من المقارة وهي السكون والطمأنينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 فقال: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 1 الآيات. فبكوا وقاموا إليه فاتنقوه، وقالوا: استغفر لنا، ففعل، فقال لهم عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة: والله لقد خدعكم، فبايع عبد ربه منهم ناس كثير لم يظهروا ولم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتاً. وكان قطري قد استعمل رجلاً من الدهاقين فظهرت له أموال كثيرة، فأتوا قطرياً فقالوا: أن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا، فقال قطري: إني استعملته وله ضياع وتجارات، فأوغر ذلك صدورهم، وبلغ ذلك المهلب، فقال: إن اختلافهم أشد عليهم مني. وقالوا لقطري: ألا تخرج بنا إلى عدونا? فقال: لا، ثم خرج، فقالوا: قد كذب وارتد! فاتبعوه يوماً فأحس بالشر، فدخل داراً مع جماعة من أصحابه، فصاحوا به: يا دابة، اخرج إلينا، فخرج إليهم، فقال: رجعتم بعدي كفاراً! فقالوا: أو لست دابة! قال الله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 2, ولكنك قد كفرت بقولك: إنا قد رجعنا كفاراً، فتب إلى الله عز وجل، فشاور عبيدة، فقال: إن تبت لم يقبلوا منك، ولكن قل: إنما استفهمت فقلت: أرجعتم بعدي كفاراً? فقال ذلك لهم، فقبلوه منه، فرجع إلى منزله، وعزم أن يبايع المقعطر العبدي، فكرهه القوم وأبوه، فقال له صالح بن مخراق عنه وعن القوم: ابغ لنا غير المقعطر، فقال لهم3 قطري: أرى طول العهد قد غيركم، وأنتم بصدد عدوكم، فاتقوا الله وأقبلوا على شأنكم، واستعدوا للقاء القوم، فقال صالح بن مخراق: إن الناس قبلنا قد3 ساموا عثمان بن عفان أن يعزل عنهم سعيد بن العاصي ففعل، ويجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت. فأبى قطري أن يعزله، فقال له القوم: إنا خلعناك وولينا عبد ربه الصغير، فانفصل إلى عبد ربه أكثر من الشطر، وجلهم الموالي والعجم، وكان هناك منهم ثمانية آلاف، وهم القراء، ثم نم صالح بن مخراق، فقال لقطري: هذه نفحة من نفحات الشيطان.   1 سورة النور 11وما بعدها. 2 سورة هود 6 3 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 فأعفنا من المقعطر وسر بنا إلى عدوك، فأبى قطري إلا المقعطر، فحمل فتى من العرب على صالح بن مخراق، فطعنه فأنفذه، وأجره الرمح فقتله. ومعنى أجره الرمح طعنه وترك الرمح فيه، قال عنترة: وآخر منهم أجررت رمحي ... وفي البجلي معبلة وقيع فنشبت الحرب بينهم، فتهايجوا، ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم، فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فأجلت الحرب عن ألفي قتيل، فلما كان الغد باكروهم القتال، فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب من المدينة. وأقام عبد ربه بها، وصار قطري خرجاً من مدينة جيرفت بإزائهم، فقال له عبيدة: يا أمير المؤمنين، إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك إلا أن تخندق. فخندق على باب المدينة، وجعل يناوشهم. وارتحل المهلب فكان منهم على ليلة، ورسول الحجاج معه يستحثه فقال له: أصلح الله الأمير! عاجلهم قبل أن يصطلحوا، فقال المهلب: إنهم لن يصطلحوا، ولكن دعهم، فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها، ثم دس رجلاً من أصحابه فقال: إيت عسكر قطري، فقل: إني لم أزل أرى قطرياً يصيب الرأي حتى نزل منزلة هذا فبان خطؤه؛ أنقيم بني المهلب وعبد ربه، يغاديه هذا القتال ويراوحه هذا! فنمى الكلام إلى قطري، فقال: صدق، تنحوا بنا عن هذا الموضع، فإن اتبعنا المهلب قاتلناه، وإن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون، فقال له الصلت بن مرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت إنما1 تريد الله فاقدم على القوم، وإن كنت إنما1 تريد الدنيا فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا، وأنشأ الصلت يقول: قل للمحلين قد قرت عيونكم ... بفرقة القوم والبغضاء والهرب كنا أناسا على دين فغيرنا ... طول الجدال وخلط الجد باللعب ما كان أغنى رجالاً ضل سعيهم ... عن الجدال وأغناهم عن الخطب إني لأهونكم في الأرض مضطرباً ... ما لي سوى فرسي والرمح من نشب ثم قال: أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع فيه منه، فارتحل قطري، وبلغ ذلك المهلب، فقال لهريم بن عدي بن أبي طحمة المجاشعي: إني لا آمن أن يكون   1 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 قطري كادنا بترك موضعه، فاذهب فتعرف الخبر، فمضى هريم في إثني عشر فارساً، فلم ير في العسكر إلا عبداً وعلجاً، فسألهما عن قطري وأصحابه، فقالا: مضوا يرتادون غر هذا المنزل، فرجع هريم إلى المهلب فأخبره، فارتحل المهلب حتى نزل خندق قطري، فجعل يقاتلهم أحياناً بالغداة، وأحياناً بالعشي، ففي ذلك يقول رجل من سدوس، يقال له المعنق، وكان فارساً: ليت الحرائر بالعراق شهدننا ... ورأيننا بالسفح ذي الأجيال فنكحن أهل الجزء من فرساننا1 ... والضربين جماجم الأبطال ووجه المهلب يزيد إلى الحجاج يخبره أنه قد نزل منزل قطري، وأنه مقيم على عبد ربه، ويسأله أن يوجه في إثر قطري رجلاً جلداً في جيش، فسر ذلك الحجاج سروراً أظهره. ثم كتب إلى المهلب يستحثه مع عبيد بن موهب؛ وفي الكتاب. أما بعد، فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي، فترجع بعذرك، وذل أنك تمسك حتى تبرأ الجراح، وتنسى القتلى، ويجم الناس2. ثم تلقاهم فتحتمل منهم مثل ما يحتملون منك من وحشة القتل، وألم الجراح، ولو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم، والقرن قد قصم3. ولعمري ما أنت والقوم سواء؛ لأن من ورائك رجالاً وأمامك أموالاً، وليس للقوم إلا ما معهم. ولا يدرك الوجيف بالدبيب، ولا الظفر بالتعذير. فقال المهلب لأصحابه: إن الله عز وجل قد أراحكم من أقران أربعة قطري بن الفجاءة، وصالح بن مخراق، وعبيدة بن هلال، وسعد الطلائع، وإنما بين أيديكم عبد ربه، في خشار من خشار4 الشيطان، تقتلونهم إن شاء الله. فكانوا يتغادون القتال ويتراوحون، فتصيبهم الجراح، ثم يتحاجزون كأنما انصرفوا من   1 أهل الجزء: أهل الكفاية والغناء في الحرب. 2 يجم الناس: يسترخون. 3 قصم قرن الحيوان: كسره, ضربة مثلا لهلاك القوم. 4 الخشار: الردئ من كل شيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 مجلس كانوا يتحدثون فيه، فيضحك بعضهم إلى بعض، فقال عبيد بن موهب للمهلب: قد بان عذرك، وأنا مخبر الأمير. فكتب المهلب إليه. أما بعد: فإني لم أعط رسلك على قول رسلك على قول الحق أجراً، ولم أحتج منهم مع المشاهدة إلى تلقي، ذكرت أني أجم القوم، ولا بد من راحة يستريح فيها الغالب، ويحتال فيها المغلوب، وذكرت أن في ذلك الجمام ما ينسي القتلى، وتبرأ منه الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم، تأبى ذلك قتلى لم تجن، وقروح لم تتقرف1. ونحن القوم على حالة، وهم يرقبون منا حالات، إن طمعوا حاربوا. وإن ملوا وقفوا، وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا، ونتحرز إذا وقفوا، وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا، ونتحرز إذ وقفوا، ونطلب إذا هربوا فإن تركتين والرأي كان القرن مقصوماً، والداء بإذن الله محسوماً، وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعص، وجعلت وجهي إلى بابك، وأنا أعوذ بالله من سخط الله، ومقت الناس. ولما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه: لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال، فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره، والمسلم إذا صح توحيده عز بربه، وقد أراحكم الله من غلظة قطري، وعجلة صالح بن مخراق ونخوته، واختلاط عبيدة بن هلال، ووكلكم إلى بصائركم، فالقوا عدوكم بصبر ونية، وانتقلوا عن منزلكم هذا؛ من قتل منكم قتل شهيداً. ومن سلم من القتل فه المحروم. وقدم في هذا الوقت على المهلب عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي، يستحثه بالقتال، ومعه أمينان، فقال له: خالفت وصية الأمير، وآثرت المدافعة والمطاولة، فقال له المهلب: ما تركت جهداً، فلما كان العشي خرج الأزارقة وقد حملوا حرمهم وأموالهم وخف متاعهم لينتقلوا، فقال المهلب لأصحابه: الزموا مصافكم، وأشرعوا رماحكم2، ودعوهم والذهاب، فقال له عبيد: هذا لعمري أيسر عليك، فقال للناس: ردوهم عن وجههم3، وقال لبنيه: تفرقوا في الناس،   1 لم نتفرق: يم تنقشر ولم تيبس. 2 أشرع الرمح: صوبه. 3 "وجههم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 وقال لعبيد بن أبي ربيعة: كن مع يزيد فخذه بالمحاربة أشد الأخذ، وقال لأحد الأمينين: كنا مع المغيرة ولا ترخص له في الفتور، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى عقرت الدواب وصرع الفرسان، وقتلت الرجال فجعلت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق الخسيس أشد قتال، وسقط رمح برجل من مراد من الخوارج، فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل، وذلك مع المغرب، والمرادي يقول: الليل ليل فيه ويل ويل ... وسل بالقوم الشراة السيل إن جاز للأعداء فينا قول فلما عظم الخطب فيه بعث المهلب إلى المغيرة1: خل لهم عن الرمح، عليهم لعنة الله1، فخلوا لهم عنه. ثم مضت الخوارج حتى نزلوا على أربعة فراسخ من جيرفت، ودخلها المهلب، فأمر بجمع ما كان لهم فيها من المتاع، وما خلفوه من دقيق2 وختم عليه هو والثقفي والأمينان، ثم أتبعهم، فإذا هم قد نزلوا على عين لا يشرب منها إلا قوي، يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها، وهناك قرية فيها أهلها، فغاداهم القتال. وضم الثقفي إلى يزيد، وأحد الأمينين إلى المغيرة، واقتتل القوم إلى نصف النهار، فقال المهلب لأبي علقمة العبدي - وكان شجاعاً عاتياً: أمدد بخيل اليحمد، وقل لهم: فليعيرونا جماجمهم ساعة، فقال له: إن جماجمهم ليست بفخار فتعار، وليست أعناقهم كردان3 فتنبت - قال أبو العباس4: تقول العرب لأعذاق النخل: كرادن، وهو فراسي أعرب -. وقال لحبيب بن أوس: كر على القوم، فلم يفعل، وقال: يقول لي الأمير بغير علم ... تقدم حين جد به المراس فما لي إن أطعتك من حياة ... وما لي غير هذا الرأس رأس   1 ر"خل عن الرمح عليهم لعنهم الله" والجود ما أثبته عن الأصل, س. 2 ر: "رفيق". وما أثيته من الأصل, س. 3 ر: "كردي". 4 ر: "أبو الحسن الأخفش". وما أثبته من الأصل, س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 نصب: غير، لأنه استثناء مقدم، وقد مضى تفسيره. وقال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة: احمل، فقال: لا، إلا أن تزوجني أم مالك بنت المهلب، ففعل، فحمل على القوم فكشفهم، وطعن فيهم، وقال: ليت من يشتري الغداة بمال ... هلكه اليوم عندنا فيرانا نصل الكر عند ذاك بطعن ... إن للموت عندنا ألوانا ثم جل الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج، فالتفت عند ذلك المهلب إلى المغيرة فقال: ما فعل الأمين الذي كان معك? قال: قتل، وكان الثقفي قد هرب، وقال ليزيد: ما فعل عبيد بن أبي ربيعة? قال: لم أره منذ كانت الجول، فقال الأمين الآخر للمغيرة: أنت قتلت صاحبي، فلما كان العشي، فقال رجل من بني عامر بن صعصعة: ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا ... وتغعمنا بوصية الحجاج حتى إذا ما الموت أقبل زاخراً ... وسما لنا صرفاً بغير مزاج وليت يا ثقفي غير مناظر ... تنساب بين أحزة وفجاج ليست مقارعة الكماة لدى الوغى ... شرب المدامة في إناء زجاج قوله: بين أحزة هو جمع حزيز، وهو متن ينقاد من الأرض ويغلظ، والفجاج: الطرق، واحدها فج. وقال المهلب للأمين الآخر: ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل حتى تبيتوا عسكرهم، فقال: ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما قتلت صاحبي. قال: ذاك إليك، وضحك المهلب، ولم تكن للقوم خنادق، فكان كل حذراً من صاحبه، غير أن الطعام والعدة مع المهلب، وهم في زهاء ثلاثين ألفاً، فلما أصبح أشرف على واد، فإذا هو برجل معه رمح مكسور وقد خضبه بالدماء، وهو ينشد: جزاني دوائي ذو الخمار وصنعتي ... إذ بت أطواء بني الأصاغر أخادعهم عنه ليغبق دونهم ... وأعلم غير الظن أني مغاور كأني وأبدان السلاح عشية ... يمر بنا في بطن فيحان طائر فدعاه المهلب فقال: أتميمي أنت? قال: نعم، قال: أحنظلي? قال: نعم، قال: أيربوعي? قال: نعم، قال: أثعلبي? قال: نعم، قال: أمن آل نويرة? قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 نعم، أنا من ولد مالك بن نويرة، وسبحان الله أيها الأمير! أيكون مثلي في عسكرك لا تعرفه! قال: عرفتك بالشعر. قوله: ذو الخمار يعني فرساً. وكان ذو الخمار فرس مالك بن نوير. قال جرير يهجو الفرزدق: بيربوع فخرت وآل سعد ... فلا مجدي بلغت ولا افتخاري بيربوع فوارس كل يوم ... يواري شمسه رهج الغبار عتيبة، والأحيمر وابن عمرو ... وعتاب، وفارس ذي الخمار قوله: أطواء يقال: رجل طوي البط، أي منطو يخبر أنه كان يؤثر فرسه على ولده، فيشبعه وهم جياع، وذلك قوله: أخادعهم عنه ليغبق دونهم والغبوق شرب آخر النهار، وهذا شيء تفخر1 به العرب، قال الأشعر الجعفي: لكن قعيدة بيتنا مجفوة ... باد جناجن صدرها ولها غنى2 نقفي بعيشه أهلها وثابة ... أو جرشعاً نهد المراكل والشوى3 قال: فمكثوا أياما على غير خنادق يتحارسون ودوابهم مسرجة، فلم يزالوا على ذلك حتى ضعف الفريقان، فلم كانت الليلة التي قتل في صبحتها عبد ربه جمع أصحابه وقال: يا معشر المهاجرين، إن قطرياً وعبيدة هربا طلب البقاء، ولا سبيل إليه، فالقا عدوكم، فإن غلبوكم على الحياة، فلا يغلبنكم على الموت، فتلقوا الرماح بنحوركم، والسيوف بوجوهكم، وهبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة. فلما أصبحوا غادوا المهلب فقاتلوه قتالاً شديداً، نسي به ما كان قبله، فقال رجل من الأزد من أصحاب المهلب: من يبايعني على الموت? فبايعه أربعون رجلاً   1 ر: "تفتخر". 2 الجناجن" عظائم الصدر. 3 الجرشع: المنتقخ الجنين. والمركل: موضع رجل الفارس من الفرس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 من الأزد وغيرهم، فصرع بعضهم وقتل بعض، وجرح بعض. وقال عبد الله بن رزام الحارثي لأصحاب المهلب، احملوا، فقال: المهلب: أعرابي مجنون! وكان من أهل نجران، فحمل وحده، فاخترق القوم حتى نجم من ناحية أخرى ثم رجع، ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى، وتهايج الناس، فترجلت الخوارج وعقروا دوابهم، فناداهم عمرو القنا ولم يترجل هو وأصحابه من العرب، وكانوا زهاء أربعمائة: موتوا على ظهور دوابكم ولا تعقروها فقالوا: إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار. فاقتتلوا، ونادى المهلب بأصحابه: الأرض الأرض، قال لبنيه: تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم، ونادى الخوارج: ألا إن العيال لمن غلب، فصبر بنو المهلب، وصبر يزيد بين يدي أبيه، وقاتل قتالاً شديداً ألى فيه، فقال له أبوه: يا بني إني أرى موطناً لا ينجو فيه إلا من صبر، وما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب. وكسرت الخوارج أجفان سيوفهم، وتجاولوا، فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقولاً، فهرب عمرو القنا وأصحابه، وأستأمن قوم، وأجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل وجرحى كثر من الخوارج، فأمر المهلب بأن يدفع كل جريح إلى عشيرته، وظفر عسكرهم فحوى ما فيه، ثم انصرف إلى جيرفت، فقال: الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض والدعة، فما كان عيشنا بعيش، ثم نظر إلى قوم في عسكر لم يعرفهم، فقال: ما أشد عادة السلاح! ناولني درعي: فلبسها ثم قال: خذوا هؤلاء، فلما سير بهم إليه قال: ما أنتم? قالوا: نحن قوم جئنا لنطلب غرتك لنفتك بك، فأمر بهم فقتلوا. قال أبو العباس: ووجه المهلب كعب بن معدان الأشقري، ومرة بن تليد الأزدي، من أزد شنوءة، فوفدا على الحجاج، فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده: يا حفص إني عداني عنكم السفر ... وقد سهرت فأودى نومي السهر1 فقال له الحجاج: أخبرني عن بني المهلب، قال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى   1 وضع الشطر الثاني في ر بين علامتي الزيادة, وهو غير زائد في الصل, س. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 بيزيد فارساً شجاعاً! وجوادهم وسخيهم قبيصة ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدرك، وعبد الملك سم ناقع، وحبيب موت زعاف، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة! قال: فكيف خلفت جماعة الناس? قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف خلفت جماعة الناس? قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم1 ? قال: كانوا حماة السرح نهاراً، فإذا أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد? قال: كانوا كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم? قال: كنا إذا أخذنا عفونا، وإذا أخذوا يئسنا منهم، 2إذا اجتهدوا واجتهدنا بلغنا فيهم2 آمالنا بإدراك الفرصة منهم، فقال الحجاج إن العاقبة للمتقين، كيف أفلتكم قطري قال: كدناه ببعض ما كادنا به، فصرنا منه إلى التي3 نحب، قال: فهلا اتبعتموه? قال: كان الحد عندنا آثر من الفل، قال: فيكيف كان لكم المهلب وكنتم له? قال: كان لنا منه شفقة الوالد، وله منا بر الولد، قال: فكيف اغتباط الناس? قال: فشا فيهم الأمن، وشملهم النفل، قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب? قال: لا يعلم الغيب إلا الله قال: فقال: هكذا تكون والله الرجال! المهلب كان أعلم بك حيث وجهك. وكان كتاب المهلب إلى الحجاج: بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الكافي بالإسلام فقد ما ساه، الذي 4وصل المزيد بالشكر، والنعمة بالحمج، وقضى ألا ينقطع المزيد منه4 حتى ينقطع الشكر من عباده. أما بعد، فقد كان من أمرنا ما قد بلغك، وكنا ونحن وعدونا على حالين مختلفين، يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا، ويسوءهم منا أكثر مما يسرهم، على اشتداد شوكتهم، فقد كان علن أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة، ونوم به الرضيع، فانتهزت منهم الفرصة في وق إمكانها، وأدنيت السواد من السواد، حتى تعارفت الوجوه، فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 5.   1 ر: "فيكم". 2 كذا في الأصل, س. وفي ر. "وإذا اجتهد واجتهدنا طمعنا فيهم". 3 ر. "الذي". 4 كذا في الأصل, س. وفي ر "الذي حكم بألا ينقطع المزيد منه". 5 سورة الأنعام: 45. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإن الله عز وجل قد فعل المسلمين خيراً، وأراحهم من حد الجهاد، وكنت أعلم بما قبلك، والحمد لله رب العالمين فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسم في المجاهدين فيئهم، ونفل الناس على قدر بلائهم، وفضل من رأيت تفضيله، وإن كانت بقيت من القوم بقية فخلف خيلاً تقوم بإزائهم، واستعمل على كرمان من رأيت، وول الخيل شهماً من ولدك، ولا ترخص لأحد في اللحاق بمنزلة دون أن تقدم بهم علي، وعجل القدوم، إن شاء الله. فولى المهلب ابنه يزيد كرمان، وقال له: يا بني، إنك اليوم لست كما كنت، إنما لك من مال كرمان ما فضل عن الحجاج، ولن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك، فأحسن إلى من معك، وإن أنكرت من إنسان شيئاً فوجهه إلي، وتفضل على 1قومك إن شاء الله 2. قال أبو العباس: وقدم المهلب على الحجاج فأجلسه إلى جانبه، وأظهر إكرامه وبره، وقال: يا أهل العراق، أنتم عبيد المهلب، ثم قال: أنت والله كما قال لقيط الإيادي: وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا يطعم النوع إلا ريث يبعثه ... هم يكاد حشاه يقصم الضلعا لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتبعا حتى استمرت على شر مريرته ... مستحكم الرأي لا قحماً ولا ضرعا فقام إليه رجل، فقال: أصلح الله الأمير! والله لكأني أسمع الساعة قطرياً وهو يقول: المهلب كما قال لقيط الإيادي، ثم أنشد هذا الشعر، فسر الحجاج حتى امتلأ سروراً. قوله: نفل إي أقسم بينهم، والنفل: العطية التي تفضل، كذا كان الأصل، وإنما فضل الله عز وجل بالغنائم على عباده، قال لبيد:   1 ساقطة من ر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريث وعجل1 وقال جل جلاله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} , ويقال: نفلتك كذا وكذا. أي أعيطتك، ثم صار النفل لازماً واجباً. وقول الإيادي: رحب الذراع، فالرحب: الواسع، وإنما هذا مثل. يريد واسع الصدر متباعد ما بين المنكبين والذراعين، وليس المعنى على تباعد الخلق، ولكن عل سهولة الأمر عليه. قال الشاعر: رحيب الذراع بالتي لا تشينه ... وإن قيلت العوراء ضاق بها ذرعا وكذلك قوله جل وعز: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 2. وقوله: مضطلعاً إنما هو مفتعل من الضليع، وهو الشديد، يريد أنه قوي عل أمر الحرب، مستقل بها. وقوله: يكون متبعاً طرواً ومتبعاً أي قد اتبع الناس فعلم ما يصلح به أمر الناس، واتبع فعلم ما يصلح الرئيس، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد ألناوإيل3 علينا. أي قد أصلحنا أمور الناس، وأصلحت أمورنا. وقوله: على شرز مريرته فهذا مثل، يقال: شزرت الحبل، إذا كررت فتله بعد استحكامه راجعاً عليه. المريرة: الحبل. والضرع: لصغير الضعيف. والقحم: آخر سن الشيخ، قال العجاج: رأين قحما شاب واقلحما ... طال عليه الدهر فاسلهما والمقلحم مثل القحم، وهو الجاف، ويقال للصبي مقلحم، إذا كان سيء الغذاء، أو ابن هرمين، ويقال: رجل إنقحل وامرأة إنقحلة، إذا أسن حتى ييبس. والمسلهم: الضامر. قال الشاعر: لما رأتني خلقا ًإنقحلا ويقال في معنى: قحم قحر، ويقال: بعير قحارية، في هذا المعنى، وقوله: لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه هم. فريث وعوض ما يضاف إلى الأفعال، وتأويله أنه لا يطعم النوم إلا يسيراً حتى يبعثه الهم، فمعناه مقدار ذلك   1 الشطر الثاني ساقطة من ر. 2 سورة الأنعام: 125. 3 من الإيالة: وهي سياسة الحكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 ومما يضاف إلى الأفعال أسماء الزمان، كقوله عز ذكره: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} 1؛ فأسماء الزمان كلها تضاف إلى الفعل، نحو قولك: آتيك يوم يخرج زيد. وجئتك يوم قام عبد الله، وما كان منها في معنى الماضي جاز أن يضاف إلى الابتداء والخبر، فتقول: جئتك يوم زيد أمير، ولا يجوز ذلك في المستقبل، وذلك لأن الماضي في معنى إذ، وأنت تقول: أجيئك إذ زيد أمير، والمستقبل في معنى إذا، فلا يجوز أن تقول: أجئتك إذا زيد أمير، فلذلك لا يجوز: أجيئك يوم زيد أمير. فأما الأفعال في إذا وإذ فهي بمنزلة واحدة، تقول: جئتك إذ قام زيد، وأجيئك إذا قام زيد، فهذا واضح بين، ومما يضاف إلى الفعل ذو في قولك: افعل ذاك بذي تسلم، وافعلاه بذي تسلمان معناه: بالذي يسلمكما، ومن ذلك "آية" في قوله: بآية تقدمون الخيل شعثاً ... كأن على سنابكها مداما2 والنحو يتصل ويكثر، وإنما تركه الاستقصاء لأنه موضع اختصار، 3وقد أتينا على جمع هذا في الكتاب المقتضب3. فقال المهلب: إنا والله ما كنا أشد على عدونا ولا أحد، ولكن دمغ الحق الباطل، وقهرت الجماعة الفتنة، والعاقبة للتقوى، وكان ما كرهناه من المطاولة خيراً مما أحببناه من العجلت. فقال له الحجاج: صدقت، اذكر لي القوم الذين أبلوا وصف لي بلاءهم، فأمر الناس فكتبوا ذلك للحجاج، فقال لهم المهلب: ما ذخر الله لكم خير لكم من عاجل الدنيا إن شاء الله. ثم ذكرهم للحجاج على مراتبهم في البلاء وتفاضلهم في الغناء، وقدم بنيه: المغيرة، ويزيد، ومدركاً، وحبيباً، وقبيصة، والمفضل وعبد الملك، ومحمداً وقال: إنه والله لو قدمهم أحد في البلاء لقدمته عليهم، ولولا أن أظلمهم لأخرتهم. قال الحجاج: صدقت، وما أنت بأعلم بهم مني وإن حضرت وإبت إنهم لسيوف من سيوف الله. ثم ذكر معن بن المغيرة بن أبي صفرة والرقاد وأشباههما، فقال الحجاج: أين الرقاد? فدخل رجل طويل أجنأ4، فقال المهلب هذا فارس العرب، فقال الرقاد: أيها الأمير، إني كنت أقاتل مع غير المهلب، فكنت   1 سورة المائدة: 119. 2 نسبة سيبويه في الكتاب "1: 460"إلى الأعشى. 3 ساقطة من ر. 4 من الجنأ؛ وهو ميل في الظهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 كبعض الناس، فلما صرت مع من يلزمني الصبر ويجعلني أسوة نفسه وولده ويجاريني على البلاء، صرت أنا وأصحابي فرساناً؛ فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم، وزاد ولد المهلب ألفين، وفعل بالرقاد وجماعة شبيهاً بذلك. قال يزيد بن حبناء من الأزارقة: دعي اللوم إن العيش ليس بدائم ... لا تعجلي باللوم يا أم عاصم فإذ عجلت منك الملامة فاسمعي ... مقالة مقني بحقك عالم ولا تعذلينا في الهدية إنما ... تكون الهدايا من فضول المغانم فليس بمهد من يكون نهاره ... جلاداً ويمسي ليله غير نائم يريد ثواب الله يوماً بطعنة ... غموس كشدق العنبري بن سالم أبيت وسربالي دلاص حصينة ... ومغفرها والسيف فوق الحيازم1 حلفت برب الواقفين عشية ... لدى عرفات حلقه غير آثم لقد كان في القوم الذين لقيتهم ... بسابور شغل عن بروز اللطائم توقد في أيديهم زاعبية ... ومقهة تقري شؤون الجماجم قوله: من يكون نهاره جلاداً ويمسي ليله غير نائم يريد يمسي هو في ليله ويكون هـ في نهاره، ولكنه جعل الفعل لليل والنهار على السعة، وفي القرآن: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} 2. والمعنى بل مكركم في الليل والنهار، وقال من أهل البحرين من اللصوص: أما النهار ففي قيد وسلسلة ... والليل في جوف منحوت من الساج وقال آخر: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم ولو قال: من يكون نهاره جلاداً ويمسي ليله غير نائم. فكان جيداً، وذاك أنه أراد من يكون نهاره يجالد جلاداً، كما تقول: إنما   1 الدلص من كل شيء البراق, ومنه سميت الدرع دلاسا. 2 سورة سبأ: 33. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 أنت سيراً، وإنما أنت ضرباً تريد تسير سيراً، وتضرب ضرباً، فأضمر لعلم المخاطب أنه لا يكون هو سيراً، ولو رفعه على أن يجعل الجلاد في موضع المجالد، على قوله: أنت سير أي أنت جائز كما قالت الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار وفي القرآن: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} 1 أي غائراً، وقد مضى تفسير هذا بأكثر من هذا الشرح، ولو قال: ويسمي ليله غير نائم لجاز: يصير اسمه في يمسي، ويجعل ليله ابتداء، وغير نائم خبره على السعة التي ذكرنا. وقوله: غموس يريد واسعة محيطة. والعنبري بن سالم رجل منهم كان يقال له الأشدق. واللطائم: واحدتها: لطيمة، وهي الإبل التي تحمل البز والعطر. وقوله: توقد في أيديهم زاعبية يعني الرماح، والتوقد للأسنة، والزاعبية منسوبة إلى زاعب، وهو رجل من الخزرج كان يعمل الرماح. وتفري: تقد، يقال فرى إذا قطع، وأفرى إذا أصلح. وقال حبيب بن عوف من قواد المهلب: أبا سعيد جزاك الله صالحة ... فقد كفيت ولم تعنف على أحد داويت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا ... وكنت كالوالد الحاني على الولد وقال عبيدة بن هلال في هربهم مع قطري: ما زالت الأقدار حتى قذفنني ... بقومس بين الفرخان وصول ويروى أن قاضي قطري، وهو رجل من بني عبد القيس، سمع قول عبيدة بن هلال: علا فوق عرش فوق سبع ودونه ... سماء ترى الأرواح من دونها تجري فقال له العبدي: كفرت إلا أن تأتي بمخرج، قال: نعم، روح المؤمن تعرج إلى السماء، قال: صدقت. وقال يذكر رجلاً منهم:   1 سورة الملك 30. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 يطوي وترفعه الرياح كأنه ... شلو تنشب في مخالب ضار1 فثوى صريعاً والرماح تنوشه ... إن الشراة قصيرة الأعمار تنوشه: تأخذه وتتناوله، قال الله عز وجل: {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 2 أي التناول. ومثل بيته هذا قول حبيب الطائي: فيم الشماتة إعلاناً بأسد وغى ... أفناهم الصبر إذ أبقاكم الجزع وقال أيضاً في شبيه بهذا المعنى: إن ينتحل حدثان الموت أنفسكم ... ويسلم الناس بين الحوض والعطن فالماء ليس عجيباً أن أعذبه ... يفنى ويمتد عمر الآجن الأسن وقالأيضاً: عليك سلام الله وقفاً فإنني ... رأيت الكريم الحر ليس له عمر وقال القاسم بن عيسى: أحبك يا جنان فأنت مني ... مكان الروح من بدن الجبان ولو أني أقول كان روحي ... لخفت عليك بادرة الزمان3 لإقدامي إذا ما الحرب جاشت ... وهاب حماتها حر الطعان وقال معاوية بن أبي سفيان في خلاف هذا المعنى: أكان الجبان يرى أنه ... يدافع عنه الفرار الأجل فقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشجاع البطل رجع الحديث: وقال رجل من عبد القيس من أصحاب المهلب: سائل بنا عمرو القنا وجنوده ... وأبا نعامة سيد الكفار أبو نعامة: قطري.   1 الشلو: العضو. 2 سورة سبأ: 52. 3 بادرة الرجل: ما بدر منه من قولٍ أو فعلٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 وقال المغيرة بن حبناء الحنظلي من أصحاب المهلب: إني امرؤ كفني ربي وأكرمني ... عن الأمور التي في رعيها وخم وإنما أنا إنسان أعيش كما ... عاشت رجال وعاشت قبلها أمم ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا ... عني بما صنعوا عجز ولا بكم ولو أردت قفولاً ما تجهمني ... إذن الأمير ولا الكتاب إذ رقموا إن المهلب إن أشتق لرؤيته ... أو أمتدحه فإن الناس قد علموا أن الأريب الذي ترجى نوافله ... والمستعان الذي تجلى به الظلم القائل الفاعل الميمون طائره ... أبو سعيد إذا ما عدت النعم أزمان أزمان إذ عض الحديد بهم ... وإذ تمنى رجال أنهم هزموا قال أبو العباس: وهذا الكتاب لم نبتدئه لتتصل فيه أخبار الخوارج ولكن ربما اتصل الشيء بالشيء، والحديث ذو شجون، ويقترح المقترح ما يفسخ به عزم صاحب الكتاب، ويصده عن سننه، ويزيله عن طريقه. ونحن راجعون إن شاء الله إلى ما ابتدأ له هذا الكتاب، فإن مر من أخبار الخوارج شيء مر كما مر غيره ولو نسقناه على ما جرى من ذكرهم لكان الذي يلي هذا خبر نجدة، وأبي فديك، وعمارة الرجل الطويل، وشبيب، ولكان يكون الكتاب للخوارج مخلصاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 المجلد الرابع ... بسم الله الرحمن الرحيم باب في اختصار الخطب والتحميد والمواعظ نبذ من كلام الحكماء في الموعظة قال أبو العباس: كان الحسن يقول: الحمد لله الذي كلفنا ما لو كلفنا غيره، لصرنا فيه إلى معصيته، وآجرنا على ما لا بد لنا منه. يقول: كلفنا الصبر، ولو كلفنا الجزع لم يمكنا أن نقيم عليه، وآجرنا على الصبر، ولا بد لنا من الرجوع إليه. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه1 يقول عند التعزية: عليكم بالصبر، فإن به يأخذ الحازم، وإليه يلجأ2 الجازع. وقال للأشعث بن قيس: إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور. وقال الخزيمي: ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته ... عليه، ولكن ساحة الصبر أوسع3 وفي هذا الشعر وإن لم يكن من هذا الباب: وأعددته ذخراً لكل ملمةٍ ... وسهم المنايا بالذخائر مولع   1 ر: "صلوات الله عليه". 2 ر, س: "يعود". 3 قبله: وأني وإن أظهرت في جردة ... وصانعت أعدائي عليه لموجع ملكت دموع العين حتى ردتها ... إلى ناظري وأعين القلب تدمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 خطبة لأبي طالب وخطب أبو طالب بن عبد المطلب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تزوجه خديجة بنت خويلد رحمة الله عليها، فقال؛ الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس؛ ثم إن محمد بن عبد الله، ابن أخي، من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه براً وفضلاً، وكرماً وعقلاً، ومجداً ونبلاً، وإن كان في المال قل1، فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلي. وهذه الخطبة من أقصد خطب الجاهلية.   1 قل: "قليل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 وفود النابغة الجعدي على ابن الزبير ومن جميل محاورات العرب ما روي لنا عن يحيى بن محمد بن عروة، عن أبيه عن جده، قال: أقحت السنة علينا، النابغة الجعدي، فلم يشعر به ابن الزبير حين صلى الفجر حتى مثل بين يديه يقول: حكيت لنا الصديق حين وليتنا ... وعثمان والفارق فارتاح معدم وسويت بين الناس في العدل فاستووا ... فعاد صباحاً حالك الليل مظلم أتاك أبو ليلى يشق به الدجى ... دجى الليل جواب الفلاة عثمثم لترفع منه جانباً ذعذعت به ... صروف الليالي والزمان المصمم فقال له ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى، فأيسر وسائلك عندنا الشعر، أما صفوة أموالنا فلبني أسد، وأما عفوتها فلآل الصديق، ولك في بيت المال حقان: حق لصحبتك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحق بحقك في المسلمين. ثم أمر له بسبع قلائص وراحلة رحيل. ثم أمر بأن توقر له حباً وتمراً. فجعل أبو ليلى يأخذ التمر فيستجمع به الحب فيأكله، فقال له ابن الزبير: لشد ما بلغ منك الجهد يا أبا ليلى! فقال النابغة: أما على ذاك لسمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "ما استرجمت قريش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 فرحمت وسئلت فأعطت، وحدثت فصدقت، ووعدت فأنجزت، فأنا والنبي ون على الحوض فراط لقادمين". قوله: أقحمت السنة يكون على وجهين: يقال: اقتحم إذا دخل قاصداً، وأكثر ما يقال من غير أن يدخل، ويكون من القحمة، وهي السنة الشديدة، وهو أشبه الوجهين، والآخر حسن. والسنة: الجدب، يقال: أصابتهم سنة إذا أصابهم1 جذب، ومن ذا قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} 2، أي بالجدب. وقوله: صفوة، فهي في معنى الصفو، وأكثر ما يستعمل الكسر، والباب في المصادر للحال الدائمة الكسر3 كقولك: حسن الجلسة والركبة والمشية3 والنيمة، كأنها خلقة. والعفوة إنما هو ما عفا، أي ما فضل، {خُذِ الْعَفْوَ} 4، قالوا: الفضل، وكذلك قوله جل اسمه: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 5 وقوله: عثمثم، يريد الموثق الخلق الشديد. وذعذعت، أي أذهبت ماله وفرقت حاله. وقوله: راحلة رحيل، أي قوية على الرحلة معودة لها. ويقال: فحل فحيل، أي مستحكم في الفحلة، وفي الحديث أن ابن عمر قال لرجل: اشتر لي كبشاً لأضحي به، أملح، واجعله أقرن فحيلاً. وقوله: "فأنا والنبي ون على الحوض فراط لقادمين"، الفارط: الذي يتقدم القوم فيصلح لهم الدلاء والأرشية وما أشبه ذلك من أمرهم حتى يردوا، ومن ذلك قول المسلمين في الصلاة على الطفل: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً. وجاء في   1 كذا الأصل, س, وفي ر: "أي جدب". 2 سورة الأعراف: 130 3 تكملة من ز. 4 سورة الأعراف 199. 5 سورة البقرة 219. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنا فرطكم على الحوض". وكان يقال: يكفيك من قريش أنها أقرب الناس من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسباً، ومن بيت الله بيتاً. ويقال: إن دار أسد ابن عبد العزى كان يقال لها: رضع الكعبة، وذلك أنها تفيء عليها الكعبة صباحاً، وتفيء على الكعبة عشياً، وإن كان الرجل من ولد أسد ليطوف بالبيت فينقطع شسع نعله فيرمي بنعله في منزله فتصلح له، فإذا عاد في الطواف رمي بها إليه، وفي ذلك يقول القائل: لهاشم وزهير فضل مكرمة ... بحيث حلت نجوم الكبش والأسد1 مجاور البيت ذي الأركان بيتهما ... ما دونهم في جوار البيت من أحد وقال آخر: سمين قريش مانع منك لحمه ... وغث قريش حيث كان سمين وقال آخر: وإذا ما أصبته من قريش ... هاشمياً أصبت قصد الطريق وقال حرب بن أمية لأبي مطر الحضرمي يدعوه إلى حلفه ونزول مكة: أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكنفك الندامى من قريش وتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش وتسكن بلدة عزت قديماً ... وتأمن أن يزورك رب جيش صلاح: اسم من أسماء مكة وكانت بلداً لقاحاً، واللقاح: الذي ليس في سلطان ملك، وكانت لا تغزى تعظيماً لها، حتى كان أمر الفجار، وإنما سمي الفجار لفجورهم إذ قاتلوا في الحرم. وكانت قريش تعز الحليف وتكرم المولى وتكاد تلحقه بالصميم، وكانت العرب تفعل ذلك، ولقريش فيه تقدم.   1 حاشية الأصل: هما هاشم وزهير, أبنا الحارث بن أسد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 تحريض سديف على بني أمية ودخل سديف مولى أبي العباس السفاح0 على أبي العباس أمير المؤمنين، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أدناه وأعطاه يده فقبلها، فلما رأى ذلك سديف أٌبل على أبي العباس، وقال: لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن تحت الضلوع داءً ودوياً فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أموياً فأقبل عليه سليمان فقال: قتلتني أيها الشيخ قتلك الله! وقام أبو العباس فدخل، فإذا المنديل قد ألقي في عنق سليمان ثم جر فقتل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 تحريض شبل بن عبد الله على بني أمية ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي، وقد أجلس ثمانين رجلاً من بني أمية على سمط الطعام، فمثل بين يديه، فقال: أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العباس طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميل من الزمان وياس لا تقلين عبد شمس عثاراً ... واقطعن كل رقلة وأواسي ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحز المواسي ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي أنزلوها بحيث أنزلها الله ... بدار الهوان والإتعاس واذكروا مصرع الحسين وزيداً ... وقتيلاً بجانب المهراس والقتيل الذي بحران أضحى ... ثاوياً بين غربة وتناسي نعم شبل الهراش مولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس! فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد، وبسطت عليهم البسط، وجلس عليها، ودعا بالطعام، وإنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعاً وقال لشبل: لولا أنك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 خلطت كلامك بالمسألة لأغنمتك جميع أموالهم، ولعقدت لك على جميع موالي بني هاشم. قوله: الآساس واحدها أس، وتقديرها فعل وأفعال وقد يقال للواحد: أساس، وجمعه أسس. والبهلول: الضحاك. وقوله: بعد ميل من الزمان ويأس يقال: فيك ميل علينا، وفي الحائط ميل، وكذلك كل منتصب. وقوله: واقطعن كل رقلة، الرقلة: النخلة الطويلة، ويقال إذا وصف الرجل بالطول: كأنه رقلة. والأواسي، ياؤه مشددة في الأصل وتخفيفها يجوز، ولو لم يجز في الكلام لجاز في الشعر؛ لأن القافية تقتطعه، وكل مثقل فتخفيفه في القوافي جائز، كقوله: أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر1 وواحدها أسية وهي أصل البناء بمنزلة الأساس. وقوله: وغاظ سوائي تقول: ما عندي رجل سوى زيد، فتقصر إذا كسرت أوله، فإذا فتحت أوله على هذا المعنى مددت، قال الأعشى: تجانف عن جو اليمامة، ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا2 والسواء ممدود في كل موضع وإن اختلفت معانيه، فهذا واحد منه، والسواء: الوسط، ومنه قوله عز وجل: {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} 3, وقال   1 مطلع قصيدة لطرفة: ديوانه 36. 2 تجانف: تميل وتعدل 3 سورة الصافات 55. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد والسواء: العدل والاستواء، ومنه قوله عز وجل: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} 1، ومن ذلك: عمرو وزيد سواء، والسواء: التمام، يقال: هذا درهم سواء، وأصله من الأول، وقوله عز وجل: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} 2، معناه تماماً. ومن قرأ: سَواءٍ فإنما وضعه في موضع مستويات. والنمارق، واحدتها نمرقة، وهي الوسائد، قال الفرزدق: وإنا لتجري الكأس بين شروبنا ... وبين أبي قابوس فوق النمارق وقال نصيب: إذا ما بساط اللهو مد وقربت ... للذاته أنماطه ونمارقه وقوله: مصرع الحسين وزيد يعني زيد بن علي بن الحسين، كان قد خرج على هشام بن عبد الملك، وقتله يوسف بن عمر الثقفي وصلبه بالكناسة3 عرياناً، هو وجماعة من أصحابه. ويروى الزبيريون أنه كان بين يوسف بن عمر وبين رجل إحنة، فكان يطلب عليه علة، فلما ظفر بزيد بن علي وأصحابه أحسوا بالصلب، فأصلحوا من أبدانهم واستحدوا4، فصلبوا عراة، وأخذ يوسف عدوه ذلك، فنحله أنه كان من أصحاب زيد فقتله وصلبه، ولم يكن استحد5، لأنه كان عند نفسه آمناً، وكان بالكوفة رجل معتوه عقده6 التشيع، فكان يجيء فيقف على زيد وأصحابه فيقول: صلى الله عليك يا ابن رسول الله، فقد جاهدت في الله حق جهاده، وأنكرت الجور ودافعت الظالمين؛ ثم يقبل عليهم رجلاً رجلا فيقول: وأنت يا فلان   1 سورة أل عمران 64. 2 سورة فصلت 10. 3 الكناسة: محلة بالكوفة. 4 الاستحداد: الحلق. 5 ر: "استمد". 6 عقد: اعتقاده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 فجزاك الله خيراً، فقد جاهدت في الله حق جهاده، وأنكرت الجور ونصرت ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يقف على عدو يوسف فيقول: فأما أنت يا فلان، فوفور عانتك يدل على أنك بريء مما قرفت1 به!. [قال أبو العباس: وقال حبيب بن جدرة - ويقال: ابن جدرة، وهي السلعة2 - الهلالي. قال الأخفش: الصحيح عندنا ابن خدرة بالخاء وكسرها، وقال المبرد: لم أسمعه إلا جَدَرَةَ ويقال: جُدرةَ] 3. وهو من الخوارج، يعني زيد بن علي: يابا حسين لو شراة عصابة ... صحبوك كان لوردهم إصدار4 يابا حسين والجديد إلى بلى ... أولاد درزة أسلموك وطاروا تقول العرب للسفلة والسقاط: أولاد درزة، وتقول لمن تسبه: ابن فرتنى، وأولاد فرتنى. وتقول للصوص: بنو غبراء، وفي هذا الباب. ويروى أن شاعراً لبني أمية قال معارضاً للشيع في تسميتهم زيداً المهدي [والشاعر هو الأعور الكلبي] 3: صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ... ولم نر مهدياً على الجذع يصلب ونظر بعد زمين إلى رأس زيد ملقى في دار يوسف وديك ينقره، فقال قائل من الشيعة: اطردوا الديك عن ذؤابة زيد ... طالما ما كان لا تطاه الدجاج وقوله: وقتيلاً بجانب المهراس   1 فرقت: اتهمت. 2 السلعة: خلقة في البدن من ضرب أو جراحة. 3 مابين العلامتين من زيادات ر. 4 ر: "صبحوك" والبيت لم يذكر في س. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 يعني حمزة بن عبد المطلب، والمهراس ماء بأحد، ويروى في الحديث أن رسول الله صلى الله علية وسلم عطش يوم أحد، فجاءه علي في درقة بماء من المهراس فعافه فغسل به الدم عن وجهه. وقال ابن الزبعري في يوم أحد: ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل فاسأل المهراس من ساكنه ... بعد أبدان وهام كالحجل وإنما نسب شبل قتل حمزة إلى بني أمية؛ لأن أبا سفيان بن حرب كان قائد الناس يوم أحد. والقتيل الذي بحران هو إبراهيم بن محمد بن علي، وهو الذي يقال له الإمام. وكان يقال: ضحى بنو حرب بالدين يوم كربلاء، وضحى بنو مروان بالمروءة يوم العقر؛ فيوم كربلاء يوم الحسين بن علي بن أبي طالب وأصحابه، ويوم النقر يوم قتل يزيد بن المهلب وأصحابه. وإنما ذكرنا هذا لتقدم في إكرام مواليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 من أخبار الموالي ولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيش موتة زيداً مولاه، وقال: إن قتل فأميركم جعفر. وأمر رسول الله أسامة بن زيد، فبلغه أن قوماً طعنوا في إمارته، وكان أمره على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار، فقال عليه السلام: "إن طعنتم في إمارته لقد طعنتم في إمارة أبيه قبله، ولقد كان لها أهلاً، وإن أسامة لها لأهل"، وقالت عائشة: لو كان زيد حياً ما استخلف رسول الله غيره. وقال عبد الله بن عمر لأبيه: لم فضلت أسامة علي وأنا وهو سيان? فقال: كان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك، وكان أحب إلى رسول الله منك. وأوصى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض أزواجه لتميط عن أسامة أذى من مخاط أو لعاب، فكأنها تكرهته، فتولى منه ذلك رسول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده. وقال له يوماً، ولم يكن أسامة من أجمل الناس: "لو كنت جارية لنحلناك وحليناك حتى يرغب الرجال فيك". وفي بعض الحديث أنه قال: "أسامة من أحب الناس إلي". وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدى إلى بني قريظة مكاتبة سلمان، فكان سلمان مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: سلمان منا أهل البيت. ويروى أن أمير المؤمنين المهدي نظر إليه ويد عمارة بن حمزة في يده، فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين? فقال: أخي وابن عمي عمارة بن حمزة، فلما ولى الرجل ذكر ذلك المهدي كالممازح لعمارة، فقال له عمارة: انتظرت والله أن تقول: ومولاي فأنفض والله يدك. فتبسم أمير المؤمنين المهدي. ولم يكن الإكرام للموالي في جفاة العرب؛ زعم الليثي أنه كانت بين جعفر ابن سليمان وبين مسمع بن كردين منازعة، وبين يدي مسمع مولى له، له بهاء ورواء ولسن، فوجه جعفر إلى مسمع مولى له لينازعه، ومجلس مسمع حافل، فقال: إن أنصفني والله جعفر أنصفته، وإن حضر حضرت معه، وإن عند عن الحق عندت عنه، وإن وجه إلي مولى مثل هذا - وأومأ إلى مولاه1 مولى مثل هذا، عاضاً لما يكره1 - فعجب أهل المجلس من وضعه مولاه الذي تبهى بمثله العرب. وقد قيل: الرجل من أبيه، والمولى من مواليه. وفي بعض الحديث2 أن المعتق من فضل طينة المعتق. ويروى أن سلمان أخذ من بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه، فانتزعها منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "يا أبا عبد الله، إنما يحل لك من هذا ما يحل لنا".   1 ساقطة من ر. 2 ر: "الأحاديث". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 ويروى أن رجلاً من موالي بني مازن، يقال له عبد الله بن سليمان، وكان من جلة الرجال، نازع عمرو بن هداب المازني، وهو في ذلك الوقت سيد بني تميم قاطبة1، فظهر عليه المولى حتى أذن له في هدم داره، فأدخل الفعلة دار عمرو، فلما قلع من سطحه سافاً2 كف عنه، ثم قال يا عمرو! أريتك القدرة وسأريك العفو. وقد كان في قريش من فيه جفوة ونبوة. كان نافع بن جبير، أحد بني نوفل بن عبد مناف، إذا مر عليه بالجنازة سأل عنها، فإن قيل: قرشي قال: وا قوماه! وإن قيل: عربي قال: وا مادتاه! وإن قيل: مولى أو عجمي قال: اللهم هم عبادك تأخذ منهم من شئت وتدع من شئت! ويروى أن ناسكاً من بني الهجيم بن عمرو بن تميم كان يقول في قصصه: اللهم اغفر للعرب خاصة وللموالي عامة، فأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك. وزعم الأصمعي قال: سمعت أعرابياً يقول لآخر: أترى هذه العجم تنكح نساءنا في الجنة? قال: أرى ذلك والله بالأعمال الصالحة، قال: توطأ واله رقابنا قبل ذلك. وهذا باب لم نكن ابتدأنا ذكره، ولكن الحديث يجر بعضه بعضاً، ويحمل بعضه على لفظ بعض.   1 قاطبة, أي جميعهم. 2 الساف: كل سطر من الطين واللبن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 ثم نعود إلى ما ابتدأناه إن شاء الله، وهو ما نختاره من مختصرات الخطب وجميل المواعظ، والزهد في الدنيا المتصل بذلك، وبالله التوفيق. بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو العابس: قد ذكرنا في صدر كتابنا هذا، أنا نذكر فيه خطباً ومواعظ: فمما نذكره في1 ذلك أمر التعازي والمراثي؛ فإنه باب جامع، وقد قيل إنه لم يقل في شيء قط كما قيل في هذا الباب؛ لأن الناس لا ينفكون من المصائب، ومن لم يثكل أخاه ثكله أخوه، ومن لم يعدم نفيساً كان هو المعدوم دون النفيس، وحق الإنسان الصبر على النوائب، واستشعار ما صدرناه، إذ كانت الدنيا دار فراق ودار بوار، لا استواء. وعلى فراق المألوف حرقة لا تدفع، ولوعة لا ترد، وإنما يفاضل الناس بصحة الفكر، وحسن العزاء، والرغبة في الآخرة، وجميل الذكر.   1 ر: "من". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 من مراثي الآباء والإخوة والأبناء فقد قال أبو خراش الهذلي، وهو أحد حكماء العرب، يذكر أخاه عروة بن مرة: تقول أراه بعد عروة لاهياً ... وذلك رزء لو علمت جليل فلا تحسبي أني تناسيت عهده ... ولكن صبري يا أميم جميل وقال عمرو بن معدي كرب: كم من أخ لي حازم ... بوأته بيدي لحدا أعرضت عن تذكاره ... وخلقت يوم خلقت جلدا وكان يقال: من حدث نفسه بالبقاء، ولم يوطنها على المصائب فعاجز الرأي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 وعزى رجل رجلاً عن ابنه فقال: أكان يغيب عنك? قال: كانت غيبته أكثر من حضوره، قال: فأنزله غائباً عنك، فإنه إن لم يقدم عليك قدمت عليه. وقال إبراهيم بن المهدي يذكر ابنه: وإني وإن قدمت قبلي لعالم ... بأني وإن أبطأت عنك قريب1 وإن صباحاً نلتقي في مسائه ... صباح إلى قلبي الغداة خبيب وكفى باليأس معزياً، وبانقطاع الطمع زاجراً! كما قال الشاعر: أيا عمرو لم أصبر ولي فيك حيلة ... ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر تصبرت مغلوباً وإني لموجع ... كما صبر العطشان في البلد القفر وقال بعض المحدثين وليس بناقصه حظه من الصواب أنه محدث، يقوله لرجل رثاه [قال أبو الحسن: وهو أبو تمام] : عجبت لصبري بعده وهو ميت ... وقد كنت أبكيه دماً وهو غائب على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب وحدثت أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه عبد الملك خطب الناس فقال: الحمد لله الذي جعل الموت حتماً واجباً على عباده، فسوى فيه بين ضعيفهم وقويهم، ورفيعهم ودنيهم، فقال عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 2 فليعلم ذوو النهي منهم أنهم صائرون إلى قبورهم، مفردون بأعمالهم. واعلموا أن لله   1 ر: "منك". 2 سورة آل عمران 185. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 مسألة فاحصة، قال عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1، وله يقول القائل: تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذي الصغير ويولد هل ابنك إلا من سلالة آدم ... لكل على حوض المنية مورد وقال رجل من قريش يرثي ابنه [قال أبو الحسن: هو العتبي] : بأبي وأمي من عبأت حنوطه ... بيدي وودعني بماء شبابه2 كيف السلو وكيف صبري بعده ... وإذا دعيت فإنما أكنى به! وقال ابن لعمر بن عبد العزيز يرثي عاصم بن عمر: فإن يك حزن أو تجزع غصة ... أماراً نجيعاً من دم الجوف منقعا تجرعته في عاصم واحتسيته ... لأعظم منه ما احتس وتجرعا وقال أبو سعيد إسحاق بن خلف يرثي ابنة أخته، وكان تبناها، وكان حدباً عليها كلفاً بها: أمست أميمة معموراً بها الرجم ... لقى صعيد عليها الترب مرتكم3 يا شقة النفس إن النفس والهة ... حرى عليك ودمع العين منسجم4 قد كنت أخشى عليها أن تقدمني ... إلى الحمام فيبدي وجهها العدم   1 سورة الحجر: 92-93. 2 يقال: عبأت الطيب عبئا؛ إذا صنعته وخلطته. 3 الرجم: القبر, واللقى: الشيء الملقى لهونه. 4 الشفة: نصف الشيء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 فالآن نمت فلا هم يؤرقني ... يهدا الغيور إذا ما أودت الحرم1 للموت عند أياد لست أنكرها ... أحيا سروراً وبي مما أتى ألم وهذا المرثية ليست مما تقع مع الجزع القراح والحزن المفرط، ولكنه باب للمراثي يجمع إفراط الجزع، وحسن الاقتصاد، والميل إلى التشكي، والركون إلى التعزي، وقول من كان له واعظ من نفسه، أو مذكر من ربه، ومن غلبت عليه الجساوة2، وكان طبعه إلى القساوة، فقد اختلط كل بكل. وقال رجل من المحدثين يرثي أباه3: تحل رزيات وتعرو مصائب4 ... ولا مثل ما أنحت علينا يد الدهر لقد عركتنا للزمان ملمة ... أذمت بمحمود الجلادة والصبر5 فهذا يحسن من قائله أن الرزء كان جليلاً بإجماع، فللقائل أن يتفسح في القول فيه. وهذا يقوله عبد العزيز بن عبد الرحيم بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان عبد الرحيم من جلة أهله لسناً ونعمة وسناً وولاية، ومات معزولاً عن اليمن في حبس الخليفة. وأم جعفر بن سليمان أم حسن بنت جعفر بن حسن بن علي بن أبي طالب، صلوات الله عليهم. فلذلك يقول عبد العزيز في هذه القصيدة:   1 ألهت: هلكت. 2 الجساوة: الغلظ. 3 ر: "أخاه". 4 حاشية الأصل: "ش: تحل". 5 أذمت: تركته مذموما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 بموتك يا عبد الرحيم بن جعفر ... تفاحش صدع الدين عن ألأم الكسر فيا ابن النبي المصطفى وابن بنته ... ويا ابن علي والفواطم والحبر1 ويا ابن اختيار الله من آل آدم ... أباً فأباً طهراً يؤدي إلى طهر ويا ابن سليمان الذي كان ملجأ ... لمن ضاقت الدنيا به من بني فهر ومن ملأ الدنيا سماحاً ونائلاً ... وروى حجيجاً بالملمعة القفر2 لعز بما قد نالنا من رزيئة ... بموتك محبوساً على صاحب القبر فإن تضح في حبس الخليفة ثاوياً ... أبياً لما يعطي الذليل على القشر لكم من عدو للخليفة قد هوى ... بكفك أو أعطى المقادة عن صغر فوا حزناً! لو في الوغى كان موته ... بكينا عليه بالردينية السمر وكنا وقيناه القنا بنحورنا ... وفات كذا في غير هيج ولا نفر وحدثت أن عمر بن الخطاب لما ولى كعب بن سور الأزدي قضاء البصرة، أقام عاملاً له عليها إلى أن استشهد، على أنه كان قد عزله ثم رده، فلما قام عثمان بن عفان أقره، فلما كان يوم الجمل خرج مع إخوة له - قالوا ثلاثة، وقالوا أربعة - وفي عنقه مصحف، فقتلوا جميعاً، فجاءت أمهم حتى وقفت عليهم، فقالت: يا عين جودي بدمع سرب ... على فتية من خيار العرب وما لهم غير حين النفو ... س أي أميري قريش غلب! هذه الرواية سرب وقالوا معناه: جار في طريقه، من قولهم: انسرب في حاجته. وبيت ذي الرمة يختار فيه الفتح: كأنه من كلى مفرية سرب   1 الحبر: هو عبد الله بن العباس. 2 الملمعة: الأرض يلمع فيها السرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 لأنه اسم، والأول المكسور نعت، ويقبح وضع النعت موضع1 المنعوت غير المخصوص. [قال أبو الحسن: حق النعت أن يأتي بعد المنعوت، ولا يقع في موقعه حتى يدل عليه فيكون خاصاً له دون غيره، تقول: جاءني إنسان طويل، فإن قلت: جاءني طويل لم يجز؛ لأن طويلاً أعم من قولك: إنسان، فلا بدل عليه. فإن قلت: جاءني إنسان متكلم، ثم قلت بعد: جاءني متكلم جاز؛ لأنك تدل به على الإنسان، فهذا شرح قوله: المخصوص] . وقولها: غير حين النفوس نصب على الاستثناء الخارج من أول الكلام، وقد ذكرناه مشروحاً. والمراثي كثيرة كما وصفنا، وإنما نكتب منها المختار والنادر والمتمثل به السائر. فمن مليح ما قيل قول رجل يرثي أباه: [قال أبو الحسن: يقال إنه2 لأبي العتاهية] قلب يا قلب أوجعك ... ما تعدى فضعضعك يا أبي ضمك الثرى ... وطوى الموت أجمعك ليتني يوم مت صرت ... إلى حفرة معك3 رحم الله مصرعك ... برد الله مضجعك   1 ر: "موضع". 2 ر: "يقال إنه ابن لأبي التاهية". 3 ر: "تربة معك". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 وقال إبراهيم بن المهدي يرثي ابنه، وكان مات بالبصرة: نأى آخر الأيام عنك حبيب ... فللعين سح دائم وغروب1 دعته نوى لا يرتجي أوبة لها ... فقلبك مسلوب وأنت كئيب يؤوب إلى أوطانه كل غائب ... وأحمد في الغياب ليس يؤوب تبدل داراً غير داري وجيرة ... سواي، وأحداث الزمان تنوب أقام بها مستوطناً غير أنه ... على طول أيام المقام غريب كأن لم يكن كالغصن في ميعة الضحى ... سقاه الندى فاهتز وهو رطيب2 كأن لم يكن كالدر يلمع نوره ... بأصدافه لما تشنه ثقوب كأن لم يكن زين الفناء ومعقل الن ... ساء إذا يوم يكون عصيب وريحان صدري كان حين أشمه ... ومؤنس قصري كان حين أغيب وكانت يدي ملأى به ثم أصبحت ... بحمد إلهي وهي منه سليب قليلاً من الأيام لم يرو ناظري ... بها منه حتى أغلقته شعوب3 كظل سحاب لم يقم غير ساعة ... إلى أن أطاحته فطاح جنوب أو الشمس لما من غمام تحسرت ... مساء وقد ولت وحان غروب سأبكيك ما أبقت دموعي والبكا ... بعيني ماء يا بني يجيب وما غار نجم أو تغنت حمامة ... أو اخضر في فرع الأراك قضيب حياتي ما دامت حياتي فإن أمت ... ثويت وفي قلبي عليك ندوب وأضمر إن أنفدت دمعي لوعة ... عليك لها تحت الضلوع وجيب دعوت أطباء العراق فلم يصب ... دواءك منهم في البلاد طبيب   1 السح: الصب, وغروب: جمع غرب وهو الدمع حين يجري 2 ميعة كل شيء: أوله؛ أي في أول شبابه. 3 شعوب: اسم للموت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 ولم يملك الآسون دفعأً لمهجة ... عليها لأشراك المنون رقيب قصمت جناحي بعد ما هد منكبي ... أخوك، فرأسي قد علاه مشيب فأصبحت في الهلاك إلا حشاشة ... تذاب بنار الحزن فهي تذوب توليتما في حقبة فتركتما ... صدى يتولى تارة ويثوب فلا ميت إلا دون رزئك رزؤه ... ولو فتتت حزناً عليه قلوب وإني وإن قدمت قبلي لعالم ... بأني وإن أبطأت منك قريب وإن صباحاً نلتقي في مسائه ... صباح إلى قلبي الغداة حبيب وقال أبو عبد الرحمن العتبي، وتتابع له بنون: كل لساني عن وصف ما أجد ... وذقت ثكلا ما ذاقه أحد وأوطنت حرقة حشاي فقد ... ذاب عليها الفؤاد والكبد ما عالج الحزن والحرارة في ... الأحشاء من لم يمت له ولد فجعت باثنين ليس بينهما ... إلا ليال ليست لها عدد فكل حزن يبلى على قدم الد ... هر وحزني يجده الأبد وذكر بعض الرواة أن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان عاملاً لعلي بن أبي طالب على اليمن، فشخص إلى علي، واستخلف على اليمن عمرو بن أركة الثقفي، فوجه معاوية إلى اليمن ونواحيها بسر بن أرطاة، أحد بني عامر ابن لؤي، فقتل عمرو بن أراكة، فجزع عليه عبد الله أخوه جزعاً شديداً، فقال أبوه: لعمري لئن أتبعت عينيك ما مضى ... به الدهر أو ساق الحمام إلى القبر لتستنفدن ماء الشؤون بأسره ... ولو كنت تمهرين من ثبج البحر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارساً ... بصنعاء كالليث الهزبر أبي أجر وقلت لعبد الله إذ حن باكياً ... تعز، وماء العين منهمر يجري تبين فإن كان البكار رد هالكا ... على أهله فاشدد بكابك على عمرو ولاتبك ميتاً بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر قوله: من ثبج البحر فثبج كل شيء وسطه، ويروى في الحديث1: كنت إذا ُفاتحت الزهري فتحت منه ثبج البحر. وقوله: تمريهن هو مثل، يقال: "مريت الناقة" إذا مسحت ضرعها لتدر، فإنما هو استخراج اللبن، ويقال: "مريت برجلي الأرض"، إذا مسحتها، والأصل ذلك، فإنما أراد: ولو كنت تستخرج الدموع من ثبج البحر. وكان بسر بن أرطاة ي تلك الحروب أرشد على ابنين لعبيد الله بن العباس ابن عبد المطلب، هما، طفلان أمهما من بني الحارث بن كعب، فوارتهما الحارثية، فيقال إنه أخذهما من تحت ذيلها فقتلهما، ففي ذلك تقول الحارثية: ألا من بين الأخوين ... أمهما هي الثكلى تسائل من رأى ابنيها ... وتستبغي فما تبغى وفي ذلك تقول أيضاً: يا من أحسن بنيي اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف2 يا من أحس بنيي اللذين هما ... سمعي وطرفي فطرفي اليوم مختطف   1 قال المرصفي: "الصواب ما ذكره ابن الأثير في نهايته, قال: "وفي حديث أم حرام قوم "يركبون ثبج هذا البحر", أي معظمه ووسطه, ومنه حديث الزهري: كنت إذا فاتحت عروة بن الزبير فتقت به ثبج بحري" يريد غزارة علمه وفهمه". 2 تشظي: تشقق وتفرق شظايا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 يا من أحس بنيي اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف1 نبئت بسراً، وما صدقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا أنحى على ودجي طفلي مرهفة ... مشحوذة، وعظيم الإفك يقترف من دل والهة حرى مفجعة ... على صبيين غابا إذ مضى السلف ويرى أن معاوية لما أتاه موت عتبة تمثل: إذا سار من خلف امرئ وأمامه ... وأوحش من أصحابه فهو سائر فلما أتاه موت زياد تمثل: وأفردت سهماً في الكنانة واحداً ... سيرمي به أو يكسر السهم كاسر وماتت امرأة للفرزدق بِجُمع ومعنى جمع ولدها في بطنها وإن شئت قلت: جِمعٌ يا فتى، فقال الفرزدق: وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو أن المنايا أنسأته لياليا! وهذا من البغي في الحكم والتقدم. وقال رجل من المحدثين في ابنين لعبد الله بن طاهر أصيبا في يوم واحد وهما طفلان شبيهاً بهذا، ولكنه اعتذر فحسن قوله وصح معناه باعتذاره، وهو الطائي: لهفي على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيكون بدراً كاملاً   1 مزدحف: أصيب به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 الفرزدق يرثي حدراء الشيبانية وقال الفرزدق يرثي حدراء الشيبانية: يقول ابن صفوان بكيت ولم تكن ... على امرأة عيني إخال لتدمعا يقولون زر حدراء، والترب دونها ... وكيف بشيء عهده قد تقطعا ولست وإن عزت علي بزائر ... تراباً على مرموسة قد تضعضعا1 وأهون مفقود إذا الموت ناله ... على المرء من أصحابه من تقنعا وما مات عند ابن المراغة مثلها ... ولا تبعته ظاعناً يوم ودعا   1 المرسوسة: يقال رمس الميت يرمسه, إذا دفنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 لجرير يرثي امرأته وقال جرير يرثي امرأته: لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار نعم الخيل وكنت علق مضنة ... ولدي منك سكينة ووقار لن يلبث القرناء أن يتفرقوا ... ليل يكر عليهم ونهار صلى الملائكة الذين تخيروا ... والصالحون عليك والأبرار أفأم حزرة يا فرزدق عبتم ... غضب المليك عليكم الجبار2   1 حزرة, هو ابن جرير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 لرجل من خزاعة يرثي عمر بن عبد العزيز وقال رجل من خزاعة - وينحله كثير - يرثي عمر بن عبد العزيز بن مروان: [1قال أبو الحسن: الشعر لقطرب النحوي؛ وهو الذي صح عنه1] :   1 ر: "قال الحسن: الذي صح عندنا أن الشعر لقطرب النحوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 أما القبور فإنهن أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور جلت رزيئته فعم مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار رنة وزفير ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور يثني عليك لسان من لم توله ... خيراً لأنك بالثناء جدير ومثله قول عمارة يمدح خالد بن يزيد بن مزيد: أرى الناس طراً حامدين لخالد ... وما كلهم أفضت إليه صنائعه ولن يترك الأقوام أن يمدحوا الفتى ... إذا كرمت أخلاقه وطبائعه فتى أمعنت ضراؤه في عدوه ... وخصت وعمت في الصديق منافعه ومن قوله: والناس مأتمهم عليه واحد أخذ الطائي في مرثيته: لئن أبغض الدهر الخؤون لفقده ... لعهدي به حياً يحب به الدهر لئن عظمت فيه مصيبة طيئ ... لما عريت منها تميم ولا بكر وقال القرشي: قد كنت أبكي على كان1 من سلفي ... وأهل ودي جميع غير أشتات فاليوم إذ فرقت بيني وبينهم ... نوى بكيت على أهل المروءات وما بقاء امرئ كانت مدامعه ... مقسومة بين أحياء وأموات!   1 ر: "من فات". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 ما تمثل به علي بن أبي طالب عند قبر فاطمة ويروى أن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه تمثل عند قبر فاطمة رحمها الله: [الكل اجتماع من خليلين فرقة ... وإن الذي دون الفراق قليل] 1 وإن افتقادي واحداً بعد واحد ... دليل على ألا يدوم خليل   1 البيت من زيادات ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 لعقيل بن علفة يرثي ابنه وقال عقيل بن علفة المري، من غطفان: لعمري لقد جاءت قوافل خبرت ... بأمر من الدنيا علي ثقيل وقالوا ألا تبكي لمصرع هالك ... أصاب سبيل الله خير سبيل! كأن المنايا تبتغي في خيارنا ... لها ترة أو تهتدي بدليل لتأت المنايا حيث شاءت فإنها ... محللة بعد الفتى ابن عقيل فتى كان مولاه يحل بنجوة ... فحل الموالي بعده بمسيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 ما تمثلت به عائشة على قبر أخيها وتمثلت عائشة رحمها الله عند قبر عبد الرحمن بن أبي بكر بقول متمم بن نويرة: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ومات صديق لسلميان بن عبد الملك، يقال له شراحيل، فتمثل عند قبره: وهون وجدي عن شراحيل أنني ... إذا شئت لاقيت امرأ مات صاحبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 لأعرابي وق ال أعرابي: ألا لهف الأزامل واليتامى ... ولهف الباكيات على قصي! لعمرك ما خشيت على قصي ... متالف بين حجر والسلي1 ولكني خشيت على قصي ... جريرة رمحه في كل حي فتى الفتيان محلول ممر ... وأمار بإرشاد وغي2 فهذا من أجفى أشعار العرب، ينبئ صاحبه أن تقديره في المرثي أن تكن منيته قتلاً، ويتأسف من موته حتف أنفه، ويقول في مدحه: وأمار بإرشاد وغي   1 حجرة: موضع باليمامة, والسلى: واد بها أيضا. 2 ممر من أمر الشيء, ضد حلا 5. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 خبر عامر بن الطفيل وأربد أخي لبيد وشبيه بهذا قول لبيد في أخيه أربد، لما أصابته الصاعقة وأصابت عامراً الغدة1 بدعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان عامر قد قدم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2 ومعه أربد، فقال لأربد: أنا أشغله لك واضربه أنت بالسيف من ورائه، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام على أن يجعل له أعنة الخيل، فقال عامر: ومن يمنعها مني اليوم! ولكن إن شئت ذلك المدر ولي الوبر، أو لي المدر ولك الوبر. فأعرض عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: فاجعل لي هذا الأمر بعدك، فأعلمه النبي أن ذلك ليس بكائن، قال: فأبشر بخيل أولها عندك وآخرها عندي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يأبى الله ذلك وابنا قيلة" يعني الأوس والخزرج. ويروى أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، علام يسحب هذا ا لأعرابي لسانه عليك! دعني أقتله. ويروى أن عامراً قال للنبي عليه السلام: لأغزونك على ألف أشقر وألف شقراء، فلما قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم اكفنيهما". وتروي قيس أنه قال:   1 الغدة: طاعون الإبل. 2 ر: "وكان عامر بن الطفيل صار إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 "اللهم إن لم تهد عامراً فاكفنيه". وقال عامر لأربد: قد شغلته عنك مراراً فألا ضربته! قال: أربد: أردت ذلك مرتين فاعترض لي في إحداهما حائط من حديد، ثم رأيتك الثانية بيني وبينه، أفأقتلك! فلم يصل واحد منهما إلى منزله، أما عامر فغد في ديار بني سلول بن صعصة، فجعل يقول: أغدة كغدة البعير وموتاً في بيت سلولية! وأما أربد فارتفعت له سحابة فرمته بصاعقة فأحرقته، وكان أخا لبيد لأمه، فقال يرثيه: أحشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد ما إن تعري المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد فجعني الرعد والصواعق بالق ... ارس يوم الكريهة النجد1 يا عين هلا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام العدو في كبد2 وقال أيضاً: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتحدثون مخانة وملاذة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب يا أربد الخير الكريم جدوده ... غادرتني أمشي بقرن أعضب إن الرزيئة لا رزيئة مثلها ... فقدان كل أخ كضوء الكوكب قوله: في خلف يقال: هو خلف فلان لمن يخلفه من رهطه، وهؤلاء خلف فلان؛ إذا قاموا مقامه من غير أهله، وقلما يستعمل خلف إلا في الشر، وأصله ما ذكرنا. والمخانة: مصدر من الخيانة. والملوذ: الذي لا يصدق في مودته، يقال: رجل ملوذ وملذان، وملاذة مصدره. والأعضب: المقطوع. وفي الحديث: "لا يضحى بعضباء". ويروى أن رجلاً قال لمعن بن زائدة في مرضه: لولا ما من الله به من بقائك، لكنا كما قال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجر فقال له معن: إنما تذكر أني سدت حين ذهب الناس؛ هلا قلت كما قال نهار بن توسعة: قلدته عرى الأمور نزار ... قبل أن تهلك السراة البحور ثم نرجع إلى ذكر المراثي:   1 النجدة: البطل الشجاع. 2 الكبد: الجهد والمشقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 لأعرابي وقال أعرابي: لعمري لقد نادى بأرفع صوته ... نعي حيي أن سيدكم هوى أجل صادقاً والقائل الفاعل الذي ... إذا قال قولاً أنبط الماء في الثرى1 فتى قبل لم تعنس السن وجهه ... سوى وضح في الرأس كالبرق في الدجى2 أشارت له الحرب العوان فجاءها ... يقعقع بالأقراب أول من أتى3 ولم يجنها لكن جناها وليه ... فآس وآداه فكان كمن جنى4   1 أنبط الماء في الثرى, قال المرصفي: "مثل لانجاز ذلك الوعد, وإنباط الماء استخراجه كاستنباطه" اسم ذلك الماء, بالتحريك. 2 قيل, قال المرصفي: هو في الأصل أن يرى الهلال ساعة يطلع من غير أن يتطلب لوضوحه؛ يريد أنه حين يبدو واضح الوجه ظاهره, ولم تعنس السن وجهه؛ أي لم تحوله إلى الكبر, والوضح: بياض الشيب. 3 القعقة ل: اضطراب السلاح بعضه ببعض, والأقرب: جمع بسكون الراء وضمها, يريد أقرب الخيل. 4 آداه: أعانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 صدار الخنساء ويروى أن عائشة رضي الله عنها نظرت إلى الخنساء وعليها صدر من شعر، فقالت: يا خنساء، أتلبسين الصدار وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه! فقالت: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 رجلاً متلافاً فأخفق1، فأراد أن يسافر، فقلت له: أقم وأنا آتي أخي صخراً فأسأله. فأتيته فشاطرني ماله، فأتلفه زوجي، فعدت له فعاد لي بمثل ذلك، فأتلفه زوجي، فعدت له. فلما كان في الثالثة أو الرابعة، قالت له امرأة: إن هذا المال متلف، فامنحها شرارها، فقال صخر: والله لاأمنحها شرارها ... ولو هلكت خرقت خمارها واتخذت من شعر صدارها فلما هلك اتخذت هذا الصدار؛ وكان صخر أخا الخنساء لأبيها فقط. ويروى عن بعض نساء بني سليم أنها نظرت إليها في صدر وهي تصنع طيباً لابنتها لتنقلها إلى زوجها، فقاولتها في شيء كرهته الخنساء، فقالت لها: اسكتني، فوالله لقد كنت أبسط منك عرفاً2، وأطيب منك ورساً، وأحسن منك عرساً، وأرق منك نعلاً، وأكرم منك بعلاً. وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعراً قط إلا تبين الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء! فقال: تلك كان لها أربع حصى.   1 أخفق: ذهب ماله. 2 العراق: الرائحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 لبعض القرشيين يرثي أخاه وقال القرشي وتتابعه له بنون: أسكان بطن الأرض لو يقبل الفدا ... فديتم وأعطينا بكم ساكني الظهر فيا ليت من فيها عليها وليت من ... عليها ثوى فيها مقيماً إلى الحشر فماتوا كأن لم يعرف الموت غيرهم ... فثكل على ثكل وقبر على قبر قد شمت الأعداء بي وتغيرت ... عيون أراها بعد موت أبي عمرو تجري علي الدهر لما فقدته ... ولو كان حياً لاجترأت على الدهر وقاسمني دهري بني مشاطراً ... فلما توفى شطره مال في شطري1   1 توفى أي استوفى , وشطر الشيء: نصفه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 لآخر يرثي أبناءه أيضا ً وحدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: قدم رجل من البادية، فلما صار بجبل سنام مات له بنون، فدفنهم هناك، وقال: دفنت الدافعين الضيم عني ... برابية مجاورة سناما أقول إذا ذكرت العهد منهم ... بنفسي تلك أصداء وهاما فلم أر مثلهم ماتوا جميعاً ... ولم أر مثل هذا العام عاما [قال أبو الحسن الأخفش: وفيها عن غير أبي العباس: فليت حمامهم إذ فارقوني ... تلقانا فكان لنا حماما] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 للحارث بن عبد الله الباهلي يرثي أبناءه قال أبو العباس: ويورى أن رجلاً كان له بنون سبعة - يروي ذلك أبو الحسن المدائني - قال أبو العباس: فاختلف علي فيهم، فقال قوم: كانوا تحت حائط، وقال قوم آخرون: بل حلب لهم في علبة فمج فيها أفعى فبعث بها إليهم فشربوها فماتوا جميعاً. والرجل يقال له الحارث بن عبد الله الباهلي، وهلكت لجار له شاة فجعل يعلن بالبكاء علهيا، فقال قائل: يا أيها الباكي على شاته ... يبكي جهاراً غير إسرار إن الرزيئات وأمثالها ... ما بقي الحارث في الدار دعا بني معن وإخوانهم ... فكلهم يعدو بمحفار قال أبو العباس: والمصائب، ما عظم منها وما صغر، تقع على ضربين؛ فالحزم التسلي عما لا يغني فيه، والاحتيال لدفع ما يدفع بالحيلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 ومن أحسن القول في هذا المعنى في الإسلام، قول علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، حين مات ابنه فلم ير منه جزع، فسئل عن ذلك، فقال: أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره. وفي هذا زيادة تنتظر، وفضل تسليم لقضاء الله عز وجل. والعرب تقول: الحذر أشد من الوقيعة. وقال رجل من الحكماء: إنما الجزع والإشفاق قبل وقوع الأمر، فإذا وقع فالرضا والتسليم. ومن هذا قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إذا استأثر الله بشيء فاله عنه. يقال: لهيت عن الأمر ألهى؛ إذا أضربت عنه، ولهوت ألهو، من اللعب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 الأوس بن حجر يرثي فضالة بن شريك ومن أقدم ما قيل في هذا المعنى قول أوس بن حجر الأسيدي، من بني أسيد بن عمرو بن تميم، يرثي فضالة بن كلدة، أحد بني أسد بن خزيمة: أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا إن الذي جمع السماحـ ... ـة والنجدة والحزم والقوى جمعا أودى فما تنفع الإشاحة من ... شيء لمن قد يحاول [البدعا] 1 الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا المخلف المتلف المرزأ لم ... يمتع بضعف ولم يمت طبعا والحافظ الناس في تحوط إذا ... لم يرسلوا خلف عاتئذ ربعا وعزت الشمأل الرياح وقد ... أمس كميع الفتاة ملتفعا وشبه الهيدب العبام من ... الأقوام سقباً ملبساً فرعا وكانت الكاعب الممنعة ... الحسناء في زاد أهلها سبعا ليبكك الشرب والمدامة والفتيان ... طراً وطامع طمعا وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولباً جدعا   1 البيت من زيادات ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 وفيها زيادة. لكنا اخترنا. قوله: الألمعي: الحديد اللسان والقلب، وقد أبانه بقوله: الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا. وقوله المخلف المتلف أراد أنه يتلف ماله كرماً ويخلفه نجدة، كما قال: ناقته ترقل في النقال1 ... متلف مال ومفيد مال وقال آخر: فاتلف ذاك متلاف كسوب والمرزأ: الذي تناله الرزيئات في ماله لما يعطي ويسأل. والإمتاع: الإقامة، فيقول: لم يقم وهو ضعيف. والطبع: أسوأ الطمع، وأصله أن القلب يعتاد الخلة الدنيئة فتركبه كالحائل بينه وبين الفهم لقبح ما يظهر منه، وهذا مثل وأصله في السيف وما أشبه، يقال: طبع السيف، إذا ركبه صدأ يستر حديده و {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} 2 من ذا. وتحوط وقحوط: اسمان للسنة الجدبة، كما يقال: حجرة وكحل. وقوله: لم يرسلوا خلف عائذ ربعا فالعائذ الحديثة النتاج، والربع: الذي ينتج في الربيع، ومن شأنهم في سنة الجدب أن ينحروا الفصال، لئلا ترضع فتضر بالأمهات. وقوله: وعزت الشمأل الرياح يقول: غلبتها، وتلك علامة الجدب   1 النقال: وانظر رغبة الأمل. الإرقال: ضرب من المشي, والنقال: الحجارة. 2 سورة محمد 16. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 وذهاب الأمطار، ومن ذلك قولهم: من عز بز أي من غلب استلب، وفي القرآن: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} 1، أي غلبني في المخاطبة. وقوله: وقد أمسى كميع الفتاة فالكميع الضجيع، وهو الكمع، قال الشاعر2: ومشحوذ الغرار يبيت كمعي يعني السيف، أي يبيت مضاجعي. ملتفعاً، يقال: تلفع في مطرفه وفي كسائه، إذا تلفف وتزمل فيه، فيقول: من شدة الصر يلتفع به دون ضجيعه. والكاعب: التي كعب ثديها، يقول: تصير كالسبع في زاد أهلها بعد أن كانت تعاف طيب الطعام. وقوله: وذات هدم، يعني امرأة ضعيفة، والهدم: الكساء الخلق الرث. وقوله: عار نواشرها، النواشر: عروق الساعد. والتولب: الصغير. والجدع: السيئ الغذاء، وهو الجحن والقتين.   1 سورة ص33. 2 في ر: "الرجز", والصواب ما أثبته من الأصل, والبيت من البحر الوافر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 لأعرابي وقال أعرابي1. خليلي عوجا بارك الله فيكما ... على قبر أهبان سقته الرواعد فذاك الفتى كل الفتى كان بينه ... وبين المزجى نفنف متباعد2 إذا نازع القوم الأحاديث لم يكن ... عييا ولا عبئا على من يقاعد   1 نسبة أبو تمام في "الحماسة 2: 977 – شرح المرزوقي" إلى امرأة مكن بني أسد, ونقل المصفي عن الأغاني أن الأبيات لهفان بن همام. 2 النفنف: المهواة بين الجبلين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 لليلى الأخيلية في رثاء توبة وقالت ليلى الأخيلية: دعا قابضاً والمرهفات ينشنه ... فقبحت مدعواً ولبيك داعيا! فليت عبيد الله كان مكانه ... صريعأً ولم أسمع لتوبة ناعيا وكان سبب هذا الشعر أن توبة بن حمير العقيلي ثم الخفاجي، غزا فغنم، ثم انصترف فعرس1 في طريقه فأمن فقال2، فندت فرسه، فأحاط به عدوه، ومعه عبيد الله أخوه وقابض مولاه، فدعاهما، فذبب عبيد الله شئياً وانهزما وقتل توبة، ففي ذلك تقول ليلى الأخيلية: أعيني ألا فابكي على ابن حمير ... بدمع كفيض الجدول المتفجر لتبك عليه من خفاجة نسوة ... بماء شؤون العبرة المتحدر سمعن بهيجا أزحفت فذكرنه ... وقد يبعث الأحزان طول التذكر كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... بنجد ولم يطلع مع المتغور ولم يرد الماء السادام إذا بدا ... سنا الصبح في أعقاب أخضر مدبر ولم يقدع الخصم الألد ويملإ ... الجفان سديفاً يوم نكباء صرصر ألا رب مكروب أجبت وخائف ... أجرت ومعروف لديك ومنكر فيا توب للمولى ويا توب للندى ... ويا توب للمستنبح المتنور قولها: لتبك عليه من خفاجة نسوة تعني، خفاجة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. والهيجاء تمد وتقصر، وقد مر هذا. وقولها: بنجد ولم يطلع مع المتغور   1 التعريس: المسافر أي حين. 2 فقال: من القيلولة؛ وهي النوم نصف النهار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 فالنجد كل ما أشرف من الأرض، والغور كل ما انخفض، ويقال: ماء سدام ومياه سدم، وهي القديمة المندفقة، قال الشاعر: وعلمي بأسدام المياه فلم تزل ... قلائص تحدى في طريق طلائح وسنا الصبح: ضوؤه، وهو مقصور، فإذا أردت الحسب مددت. والأخضر: الذي ذكرت: الليل، والعرب تسمي الأسود أخضر، وقولها: ولم يقدع الخصم الألد، فالألد الشديد الخصام. والسديف: شقق السنام. والنكباء: الريح بين الريحين الشديدة الهبوب. والصرصر: الشديدة الصوت. والمستنبح: الذي يسري فلا يعرف مقصداً فينبح لتجيبه الكلاب فيقصدها. والمتنور: الذي يلتمس ما يلوح له من النار فيقصده. قال الأخطل يعير جريراً. قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار فيقال إن جريراً توجع من هذا البيت، وقال: جمع بهذه الكلمة ضروباً من الهجاء والشتم؛ منها البخل الفاحش، ومنها عقوق الأم في ابتذالها دون غيرها، ومنها تقذير الفناء، ومنها السوءة التي ذكرها من الوالدة. وقال آخر: وإني لأطوي البطن من دون ملئه ... لمختبط في آخر الليل نابح وإن امتلاء البطن في حسب الفتى ... قليل الغناء وهو الجسم صالح1 وقالت ليلى الأخيلية: نظرت وركن من بوانة دوننا ... وأركان حسمى أي نظرة ناظر! 2   1 الغناء: الإجزاء. 2 بوانة وحمسي: موضعان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 إلى الخيل أجلى شأوها عن عقيرة ... لعاقرها فيها عقيرة عاقر كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفحصن الحصى بالكراكر ولم يبن أبراداً رقاقاً لفتية ... كرام ويرحل قبل فيء الهواجر فتى لا تخطاه الرفاق ولا يرى ... لقدر عيالاً دون جار مجاور وكنت إذا مولاك خاف ظلامة ... دعاك ولم يقنع سواك بناصر قولها: أي نظرة ناظر؛ يصلح فيه الرفع، والنصب على قوله: نظرت أي وتأويله مررت برجل كامل، فأيما في موضع كامل، وتقول: مررت بزيد أيما مخرج استفهام، وتقديره: أي نظرة ناظر فعلى القطع والابتداء، والمخرج مخرج استفهام، وتقديره: أي نظرة هي! كما تقول: سبحان الله، أي رجل زيد! وهذا البيت ينشد على وجهين: فأومأت إيماء خفيا لحبتر ... وللله عينا حبتر أيما فتى وأيما إن شئت على ما فسرنا. وقولها: إلى الخيل أجلى شأوها عن عقيره شأوها: طلقها1 وقولها: لعاقرها فيها عقيرة عاقر أي قد أصابوا عقيرة نفيسة؛ كقول القائل: نعم غنيمة المغتنم، وكقولهم: عقيرة وكما تكون. وهذا نظير قوله: ولما أصابوا نفس عمرو بن عامر ... أصابوا به وتراً ينيم ذوي الوتر   1 الطلق: الشوق والغاية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 يقال: ثأر منيم، إذا أصابه المثئر هدأ واستقر، لأنه أصاب كفؤاً، وهذا خلاف قول الآخر: قوم إذا جر جاني قومهم أمنوا ... للؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا وخلاف قول الحارث بن عباد: لا بجير أغنى قتيلاً ولا رهـ ... ـط كليب تزاجروا عن ضلال ولكن كما قال دريد بن الصمة: قتلت بعبد الله خير لداته ... ذؤاباً فلم أفخر بذاك وأجزعا وكما قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان التيمي، من بني تيم اللآت بن ثعلبة، حيث قتل مصعب بن الزبير بأخيه النابي بن زياد: لسار على رغم العدو وغادي ... أن عبيد الله ما دام سالماً ونحن قتلنا ابن الزبير ورأسه ... حززنا برأس النابي بن زياد كسر الياء على الأصل، كما قال ابن قيس الرقيات: لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطلب ومن أخذه من نبأت على القوم، أي طلعت عليهم، فلا علة فيه ولا ضرورة. [قال الأخفش: المعروف فيه الهمز، والمبرد لم يهمزه، فإنما أخذه من نبا ينبو، فصار مثل رام وقاض وما أشبههما] . وقال أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسري، لما قتلوا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بخالد بن عبد الله: فإن تقتلوا منا كريما فإننا ... قتلنا أمير المؤمنين بخالد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 وإن تشغلونا عن ندانا فإننا ... شغلنا وليداً عن بناء الولائد تركنا أمير المؤمنين بخالد ... مكباً على خيشومه غير ساجد وقال الخزاعي1 بعد: قتلنا بالفتى القسري منهم ... وليدهم أمير المؤمنينا ومرواناً قتلنا عن يزيد ... كذاك قضاؤنا في المعتدينا وبابن السمط منا قد قتلنا ... محمداً بن هارون الأمينا فمن يك قتله سوقاً فإنا ... جعلنا مقتل الخلفاء دينا وقولها: ويرحل قبل فيء الهواجر تريد أنه متيقظ ظعان والمولى في قولها: إذا مولاك خاف ظلامة يحتمل ضروباً، فالمولى ابن العم، وقوله عز وجل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} 2؛ يريد بني العم؛ قال الفضل بن العباس: مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا ويكون المولى المعتق؛ ويكون المولى من قوله جل ثناؤه: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} 3 ويكون المولى الذي هو أحق وأولى منه قوله: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} 4، أي أولى بكم. والمولى: المالك. وقولها: ولم يبن أبراداً تريد الخيام. قال أبو العباس: وكانت الخنساء وليلى بائنتين في أشعارهما، متقدمتين لأكثر الفحول، ورب امرأة تتقدم في صناعة، وقلما يكون ذلك، والجملة ما قال الله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 5. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن المرأة خلقت من ضلع عوجاء، وإنك إن ترد إقامتها، تكسرها، فدارها تعش بها".   1 هو دعبل. 2 سورة مريم 5. 3 سورة محمد11. 4 سورة الحديد15. 5 سورة الزخرف18. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 فممن ندر1 من النساء في باب من الأبواب: أم أيوب الأنصارية2، أم الدرداء3، ورابعة القيسية4 ومعاذة العدوية5، فإن هؤلاء النسوة تقدمن في الفضل والصلاح، على تقدم بعضهن بعضاً. حدثني الجاحظ عن إبراهيم بن السندي، قال: وكانت تصير إلي هاشمية جارية حمدونة في حاجات صاحبتها، فأجمع نفسي لها، وأطرد الخواطر عن فكري، وأحضر ذهني جهدي، خوفاً من أن تورد علي ما لا أفهمه، لبعد غورها، واقتدارها على أن تجري على لسانها ما في قلبها. وكذلك ما يؤثر عن خالصة وعتبة جاريتي ربطة بنت أبي العباس. فأما النساء الأشراف فإن القول فيهن كثير متسع.   1 ندر: ظهر وبرز 2 أم أيوب بنت قيس الخزرجية, زوج أبو أيوب الأنصاري الصحابي. 3 أم الدرداء: زوج أبي الدرداء الخزرجي الصحابي 4 رابعة بنت إسماعيل العدوية من ولد مالك بن ضبيعة بن قيس 5 معاذة بنت عبد الله العدوية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 من مراثي الخنساء فمما ندر من شعر الخنساء قولها ترثي صخراً: يا صخر وراد ماء قد تناذره1 ... أهل المياه وما في ورده عار مشى السبنتى إلى هيجاء معضلة ... له سلاحان: أنياب وأظفار2 وما عجول على بو تحن له ... لها حنينان: إغلان وإسرار ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار يوماً بأوجع مني يوم فارقني ... صخر، وللعيش إخلاء وإمرار وإن صخراً لوالينا وسيدنا ... وإن صخراً إذا نشتو لنحار وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار لم تره جارة يمشي بساحتها ... لريبة حين يخلي بيته الجار   1 تناذره, أي أنذر بعضهم بعضا وأخافه 2 الهيجاء: الحرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 قولها: يا صخر وراد ماء قد تناذره ... أهل المياه وما في ورده عار تعني الموت، أي لإقدامه على الحرب. والسبنتي والسبندي واحد، وهو الجريء الصدر، وأصله في النمر. والعجول: التي فارقها ولدها. والبو، قد مضى تفسيره، وكذلك فإنما هي إقبال وإدبار، وقد شرحنا كيف مذهبه في النحو. وقولها: إلى هيجاء معضلة تعني الحرب. وقولها: بأنه علم في رأسه نار فالعلم الجبل، قال الله جل وعز: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} 1} ، وقال جرير2: إذا قطعن علماً بدا علم ومن حسن شعرها قولها: أعيني جوداً ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الجريء الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا إذا القوم مدوا بأيديهم ... إلى المجد مد إليه يدا فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا يكلفه القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا   1 سورة الرحمن 24. 2 من أرجورة له في ديوانه520, وبعده: فهن بحثا كمضلات الخدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 ترى الحمد يهوي إلى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا قولها: طويل النجاد، النجاد: حمائل السيف، تريد بطول نجاده طول قامته، وهذا مما يمدح به الشريف، قال جرير: فإني لأرضى عبد شمس وما قضت ... وأرضى الطوال البيض من آل هاشم وقال مروان لأمير المؤمنين المهدي1: قصرت حمائله عليه فقلصت ... ولقد تألق قينها فأطالها وقال رجل من طيئ: جدير أني يقل السيف حتى ... ينوس إذا تمطى فقي النجاد2 وقال الكمي [أبو نواس] 3: سبط البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط قيام وقال عنترة: بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوأم4 وقولها: رفيع العماد إنما تريد ذاك، يقال: رجل معمد، أي طويل، ومنه قوله عز وجل: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} 5، أي الطوال. وقولها: ما عالهم أي ما نابهم ونزل بهم، تقول العرب: ما عالك فهو عائلي، أي ما نابك فهو نائبي، ومن ذا قول كثير: يا عين بكي للذي عالني ... منك بدمع مسبل هامل   1 كذا في الأصل, س, وفي ر: "المهدي". 2 قل الشيء: رفعه, وينوس: يتحرك. 3 مكتملة من ر. 4 سورة الفجر7. 5 سورة الفجر 7. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 ومن جيد قولها: أبعد ابن عهمرو من آل الشريد ... حلت به الأرض أثقالها لعمر أبيه لنعم الفتى ... إذا النفس أعجبها ما لها فإن تك مرة أودت به ... فقد كان يكثر تقتالها فخر الشوامخ من فقده ... وزلزلت الأرض زلزالها هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها! لأحمل نفسي على آلة ... فإما عليها وإما لها قولها: حلت به الأرض أثقالها حلت من الحلي1، تقول: زينت به الأرض الموتى. وقال المفسرون في قول الله عز وجل: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} 2، قالوا الموتى. وقولها: لنعم الفتى إذا النفس أعجبها ما لها؛ تقول: يجود بما هو له في الوقت الذي يؤثره أهله على الحمد. والشوامخ: الجبال، والشامخ: العالي، ويقال للمتكبر: شمخ بأنفه. وقولها: على آلة أي على حالة وعلى خطة، هي الفصيل، فإما ظفرت وإما هلكت. وقولها: فأولى لنفسي أولى لها، يقول الرجل إذا حاول شيئاً فأفلته من بعد ما كاد يصيبه: أولى له! وإذا أفلت من عظيمة قال: أولى لي! ويروى عن ابن الحنفية أنه كان يقول إذا مات ميت في جواره أو في داره: أولى لي! كدت والله أكون السواد المخترم، وقد مضى هذا مفسراً. وأنشد لرجل يقتنص، فإذا أفلته الصيد، قال: أولى لك! فكثر ذلك منه فقال:   1 الحلى: اسم لكل ما يتزين به. 2 سورة الزلزلة 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم1 ... ولكن أولى يترك القوم جوعا وقالت الخنساء ترثي أخاها معاوية بن عمرو - وكان معاوية أخاها لأبيها وأمها، وكان صخر أخاها لأبيها، وكان أحبهما إليها بعيداً2، وكان صخر يستحق ذلك منها بأمور: منها أنه كان موصوفاً بالحلم، ومشهوراً بالجود، ومعروفاً بالتقدم في الشجاعة، ومحظوظاً في العشيرة -: أريقي من دموعك واستفيقي ... وصبراً إن أطقت، ولن تطيقي وقولي إن خير بني سليم ... وفارسها بصحراء العقيق ألا هل ترجعن لنا الليالي ... وأيام لنا بلوى الشقيق3 وإذ نن الفوارس كل يوم ... إذا حضروا وفتيان الحقوق وإذ فينا معاوية بن عمرو ... على أدماء كالجمل الفنيق4 فبكيه فقد أودى حميداً ... أمين الرأي محمود الصديق فلا واله لا تسلاك نفسي ... لفاحشة أتيت ولا عقوق ولكني رأيت الصبر خيراً ... من النعلين والرأس الحليق قولها: أريقي من دموعك واستفيقي معناه أن الدمعة تذهب الوعة ويروى عن سليمان بن عبد الملك أنه قال عند موت ابنه أيوب، لعمر بن   1 قال المرصفي: "يريد صدت لهم" 2 ساقطة من ر. 3 العقيق: ماء لبني أسيد بن عمرو بن تميم 4 أدماء؛ أي ناقة أدماء, في الإبل: البياض مع سواد المقلتين, والجمل الفنيق: كريم على أهله لا يهان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 عبد العزيز ورجاء بن حيوة: إني لأجد في كبدي جمرة لا تطفئها إلا عبرة، فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك الصبر. فنظر إلى رجاء بن حيوة كالمستريح إلى مشورته، فقال له رجاء: أفضها يا أمير المؤمنين، فما بذاك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنه إبراهيم، وقال: "العين تدمع، والقلب يوجع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا يا إبراهيم لمحزونون" فأرسل سليمان عينه فبكى حتى قضى أرباً، ثم أقبل عليهما فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي. ثم لم يبك بعدها، ولكنه تمثل عند قبره لما دفنه وحثا على قبره التراب، وقال: يا غلام، دابتي، ثم التفت1 إلى قبره، فقال: وقفت على قبر مقيم بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق رجعنا إلى تفسير قولها: وقولها: وصبراً إن أطقت ولن تطيقي كقول القائل: إن قدرت على هذا فافعل، ثم أبانت عن نفسها فقالت: ولن تطيقي. وقولها: فلا والله لا تسلاك نفسي تريد: لا تسلو عنك, كقوله عزوجل: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 2, أي كالوا لهم أو وزنوا لهم. وقولها: لفاحشة أتيت ولا عقوق معناه: لا أجد فيك ما تسلو نفسي عنك له، ثم اعتذرت من إقصارها بفضل الصبر، فقالت:   1 كذا في الأصل, س, وفي ر, "ثم وقف متلفتا" 2 سورة المطففين 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 ولكني رأيت الصبر خيراً ... من النعلين والرأس الحليق تأويل النعلين أن المرأة كانت إذا أصيبت بحميم جعلت في يديها نعلين تصفق1 بهما وجهها وصدرها. قال عبد مناف بن ربع الهذلي: ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً ... من بطن حلية لا رطبا ولا نقدا إذا تأوب نوح قامتا معه ... ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا قوله: ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما يعني أختيه، يقول: ماذا يرد عليهما العويل والسهر! وقوله: كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً أراد لترديد النائحة صوتاً كأنه زمير، وإنما يعني بالقصب المزامير، كما قال الراعي: زجل الحداء كأن في حيزومه ... قصبا ومقنعة الحنين عجولا [قال الأخفش: الزجل: اختلاط الصوت الذي لصوته تطريب. والحيزوم: الصدر, وقصبا يعني زمارا2, شبه صوت الحادي بالمزمار, ومقنعة، أراد: وصوت مقنعة، يعني ناقة، ثم حذف الصوت وأقام مقنعة مقامه.   1 تصفق: تضرب؛ "من صفق الطائر بجناحيه" أي ضرب بهما. 2 قال المرصفي: "صوابه مزمار, فهو صوت النعامة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وقال عنترة: بركت على ماء الرداع كأنما ... بركت على قصب أجش مهضم قال الأصمعي: نرمناي1 وقوله: لا رطبا ولا نقدا يقول: ليس برطب لا يبين فيه الصوت ولا بمؤتكل، يقال: نقدت السن، إذا مسها ائتكال، وكذلك القرن، قال الشاعر2: يألم قرناً أرومه نقد وقوله: بسبت يعني النعل المنجردة. ويلعج: يؤثر، واحتاج إلى تحريك الجلد فأتبع آخره أوله، وكذلك يجوز في الضرورة في كل [شيء] 3 ساكن. وأما قول الفرزدق: خلعن حليهن فهن عطل ... وبعن به المقابلة التؤاما4 يعني اشترين النعال، فليس [هذا] 5 من هذا الباب، وإنما سبين فاشترين نعالاً للخدمة. وكذلك قوله: أجذن حريرات وأبدين مجلداً ... ودارت عليهن المنقشة الصفر6 يعني القداح، يقول: سبين فاقتسمن بالقداح.   1 نرمناي: هو الناي 2 حاشية الأصل: تيس تيوس إذا يناطحها وهو لصخر الغي. 3 من ر. 4 عطل: جمع عاطل بدون هاء؛ وهن اللوائي لم يكن عليهن حلي. وخلت أجيادهن من القلائد, والمقابلة, النعال؛ التي جعل لها قبالان. 5 من ر. 6 حريرات: حزينات جمع حريرة, وهي التي تجد حر الحزن في صدرها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 وإنما قالت الخنساء هذا الشعر في معاوية أخيها قبل أن يصاب صخر أخوها، فلما أصيب صخر نسيت به من كان قبله. وكان معاوية فارساً شجاعاً، فأغار في جمع من بني سليم على غطفان، وكان صميم خليهم فنذر به1 القوم فاحتربوا، فلم يزل يطعن فيهم ويضرب، فلما رأوا ذلك تهيأ له ابنا حرملة: دريد، وهاشم، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية فطعنه، وخرج عليه الآخر وهو لا يشعر فقتله، فتنادى القوم: قتل معاوية! فقال خفاف بن ندبة: قتلني الله إن رمت حتى أثأر به! فحمل على مالك بن حمار، وهو سيد بني شمخ بن فزارة، فطعنه فقتله، وقال: فإن تك خليلي قد أصيب صميمها ... فعمداً على عيني تيممت مالكا وقفت له علوى وقد خام صحبتي ... لأبني مجداً أو لأثأر هالكا2 أقول له والرمح يأطر متنه3 ... تأمل خفافاً إنني أنا ذلكا فلما دخلت الأشهر الحرم ورد عليهم صخر، فقال: أيكم قاتل أخي? فقال أحد ابني حرملة للآخر: خبره. فقال: استطردت له فطعنني هذه الطعنة، وحمل عليه أخي فقتله، فأينا قتلت فهو ثأرك، أما إنا لم نسلب أخاك. قال: فما فعلت فرسه السمى? قالوا: ها هي تلك فخذها، فانصرف بها، فقيل لصخر: ألا تهجوهم? قال: ما بيني وبينهم أقذع من الهجاء، ولو لم أمسك عن سبهم إلا صيانة للساني عن الخنا لفعلت، ثم خاف أن يظن به عي فقال: وعاذلة هبت بليل تلومني ... ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا تقول ألا تهجو فوارس هاشم ... ومالي إذ أهجوهم ثم ماليا! أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا إذا ما امرؤ أهدى لميت تحية ... فحياك رب الناس عني معاويا4   1 نذر به القوم: عملوا. 2 علوي: اسم فرسه, وخام القوم: جبنوا وخافوا. 3 بأطر رمحه: يثنية. 4 ر: "رب العرش". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وهون وجدي أنني لم أقل له ... كذبت، ولم أبخل عليه بماليا قال أبو عبيدة: فلما أصاب دريداً زاد فيها: وذي رحم قطعت أرحام بينهم ... كما تركوني واحداً لا أخا ليا1 [قال أبو الحسن الأخفش: وزادني الأحول بعد قوله: معاويا: لنعم الفتى أدنى ابن صرمة بزه ... إذا راح فحل الشول أجدب عاريا] 2 قال أبو العباس: فلما انقضت الأشهر الحرم جمع لهم ليغير عليهم، فنظرت غطفان إلى خليه بموضعها، فقال بعضهم لبعض: هذا صخر بن الشريد على فرسه السمى، فقيل: كلا! السمى غراء3، وهذه بهيمة3، وكان قد حمم غرتهم، فأصاب فيهم، وقتل دريد بن حرملة. وأما هاشم، فإن قيس بن الأسوار الجشمي - من بني جشم بن بكر بن هوازن بن خصفة بن منصور، والخنساء من بني سليم بن منصور - لقيهم منصرفين؛ كل واحد منهم من وجهه، فرآه، وقد انفرد لحاجته، فقال: لا أطلب بمعاوية بعد اليوم، فأرسل عليه سهماً ففلق قحقحه4 فقتله، فقالت الخنساء: فدى للفارس الجشمي نفسي ... وأفديه بمن لي من حميم فداك الحي حي بني سليم ... بظاعنهم وبالأنس المقيم كما من هاشم أقررت عيني ... وكانت لا تنام ولا تنيم5   1 "وذي إخوة". 2 ما بين العلامتين لم يذكر في الأصل, وهو في ر, س. 3 لم يرد في ر, س. 4 الفحقح: العظم الناتئ من الظهر بين الأليتين. 5 في البيت إقواء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 فأما صخر فسندرك مقتله مع انقضاء ما نذكر من مراثي الخنساء إياه، قالت الخنساء: ألا يا صخر إن أبكيت عيني ... لقد أضحكتني دهراً طويلا بكيتك في نساء معولات ... وكنت أق من أبدى العويلا دفعت بك الجليل وأنت حي ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا! إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا وقالت أيضاً: تعرفني الدهر نهساً وحزا ... وأوجعني الدهر قرعاً وغمزا1 وأفنى رجالي فبادوا معاً ... فأصبح قلبي بهم مستفزا كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذ الناس إذ ذاك من عز بزا وكانوا سراة بني مالك ... فخر العشيرة مجداً وعزا2 وهم في القديم سراة الأديم ... والكائنون من الخوف حرزا3 وهم منعوا جارهم والنسـ ... ـاء يحفز أحشاءها الخوف حفزا عداة لقوهم بملومة ... رداح تغادر للأرض ركزا4 وخيل تكدس بالدارعين ... تحت العجاجة يجمزن جمزا5 ببيض الصفاح وسمر الرماح ... فبالبيض ضرباً وبالسمر وخزا6   1 النهس: أخذ الشيء بمقدم الأسنان, وتعرفني الدهر: نالني, من قولهم: تعرق العظم إذا أخذ ما عليه من اللحم. 2 ر "زين العشيرة". 3 الأديم الجلد, قال المرصفي: تكنى بذلك عن أنهم أشراف, لم تدنس أعراضهم. 4 الملمومة: الكتيبة مجتمعة, رداح: ضخمة. 5 تكدس: يركب بعضها بعضا, والجمزة: نوع من العدو. 6 الواخز: الطعن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 جزرنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنون ألا تجزا ومن ظن ممن يلاقي الحروب ... بألا يصاب فقد ظن عجزا نعف ونعرف حق القرى ... ونتخذ الحمد ذخراً وكنزا ونلبس طوراً ثياب الوغى ... وطوراً بياضاً وعصباً وخزا1 وكان سبب قتل صخر بن عمرو بن الشريد، أنه جمع جمعاً وأغار على بني أسد بن خزيمة، فنذروا به فالتقوا، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فارفض أصحاب صخر عنه. وطعن طعنة2 في جنبه استقل بها، فلما صار إلى أهله تعالج منها، فنتأ من الجرح كمثل اليد فأضناه ذلك حولا، فسمع سائلاً يسأل امرأته وهو يقول: كيف صخر اليوم? فقالت: لا ميت فينعى، ولا صحيح فيرجى! فعلم أنها قد برمت به، ورأى تحرق أمه عليه، فقال: أرى أم صخر ما تجف دموعها ... وملت سليمى مضجعي ومكاني وما كنت أخشى أن أكون جنارة ... عليك، ومن يغتر بالحدثان! أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان لعمري لقد أنبهت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان فأي امرئ ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا في شقي وهوان ثم عزم على قطع ذلك الموضع، فلما قطعه يئس من نفسه، فبكاها فقال: أيا جارتا إن الخطوب قريب ... من الناس، كل المخطئين تصيب أيا جارتا إنا غريبان ها هنا ... وكل غريب للغريب نسيب كأني وقد أدنوا إلي شفارهم ... من الأدم مصقول السراة نكيب   1 هذا البيت لم يرد في الأصل, س. 2 ر: "وطعنه أبو ثور". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 مرثية ابن مناذر لعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي قال أبو العباس: ومن حلو المراثي وحسن التأبين شعر ابن مناذر، فإنه كان رجلاً عالماً مقدماً وشاعراً مفلقاً، وخطيباً مصقعاً، وفي دهر قريب، فله في شعره شدة كلام العرب بروايته وأدبه، وحلاوة كلام المحدثين بعصره ومشاهدته ولا يزال، وقد رمى في شعره بالمثل السائر، والمعنى اللطيف، واللفظ الفخم الجليل، والقول المتسق النبيل، وقصيدته لها امتداد وطول، وإنما نملي ما اخترنا من نحو ما وصفنا. قال يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي - وكان به صباً، واعتبط عبد المجيد لعشرين سنة من غير ما علة، وكان من أجمل الفتيان وآدبهم وأظرفهم، فذلك حيث يقول ابن مُناذر: حين تمت آدابه وتردى ... برداء من الشباب جديد وسقاه ماء الشبيبة فاهتز ... اهتزاز الغصن الندي الأملود وسمت نحوه العيون وما كا ... ن عليه لزائد من مزيد وكأني أدعوه وهو قريب ... حين أدعوه من مكان بعيد فلئن صار لا يجيب لقد كان ... سميعاً هشا إذا هو نودي يا فتى كان للمقامات زيناً ... لا أراه في المحفل المشهود لهف نفسي أما أراك، وما عن ... دك لي إن دعوت من مردود! كان عبد المجيد سم الأعادي ... ملء عين الصديق رغم الحسود عاد عبد المجيد رزءاً وقد كان ... رجاء لريب دهر كنود1 خنتك الود لم أمت كمداً بعدك ... إتي عليك حق جليد2 لو فدى الحي ميتاً لفدت نفسك ... نفسي بطارفي وتليدي ولئن كنت لم أمت من جوى الحز ... ن عليه لأبلغن مجهودي   1 كنود: معاند 2 قال المرصفي: "يريد جليد حق جليد". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 لأقيمن مأتماً كنجوم اللي ... ل زهراً يلطمن حر الخدود موجعات يبكين للكبد الحرى ... عليه وللفؤاد السعيد ولعين مطروفة أبداً قا ... ل لها الدهر: لا تقري وجودي كلما عزك البكاء فأنفذ ... ت لعبد المجيد سجلا فعودي لفتى يحسن البكاء عليه ... وفتى كان لامتداح القصيد وأول هذا الشعر: كل حي لاقي الحمام فمودي ... ما لحي مؤمل من خلود لا تهاب المنون شيئاً ولا ترعي ... على والد ولا مولود يقدح الدهر في شماريخ رضوى ... ويحط الصخور من هبود1 ولقد تترك الحوادث والأيام ... وهياً في الصخرة الصيخود2 وفي هذا الشعر مما استحسنته: أين رب الحصن الحصين بسوراء ... ورب القصر المنيف المشيد3 شاد أركانه وبوبه بابي ... حديد وحفه بجنود كان يجبى إليه ما بين صنعا ... ء فمصر إلى قرى بيرود4 وترى خلفه زرافات خيل ... جافلات تعدو بمثل الأسود فرمى شخصه فأقصده الدهر ... ر بسهم من المنايا سديد ثم لم ينجه من الموت حصن ... دونه خندق وبابا حديد   1 يقدح: يؤثر, شماريخ: جمع شمراخ, وهو رأس مستدير طويل دقيق في الجبل من أعلاه, ورضوي: جيل بالمدينة وهبود: جبل أيضا. 2 صيخود: الصخرة الملساء. 3 سوراء موضع قريب من بغداد. 4 بيرد: ناحية بين الأهواز ومدينة الطيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 وملوك من قبله عمروا الأر ... ض أعينوا بالنصر والتأييد فلو أن الأيام أخلدن حياً ... لعلاء أخلدن عبد المجيد ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النعش من عفاف وجود! ويح أيد حثت عليه وأيد ... دفنته، ما غيبت في الصعيد! إن عبد المجيد يوم تولى ... هد ركناً ما كان بالمهدود [وأرانا كالزرع يحصده الده ... ر فمن بين قائم وحصيد وكأنا للموت ركب مخبو ... ن سراعاً لمنهل مورود] 1 هد ركني عبد المجيد وقد كن ... ت بركن أنوء منه شديد فبعبد المجيد تأمور نفسي ... عثرت بي بعد انتعاش جدودي2 وبعبد المجيد شلت يدي اليم ... نى وشلت به يمين الجود وفي هذا الشعر: فبرغمي كنت المقدم قبلي ... وبكرهي دليت في الملحود كنت لي عصمة وكنت سماء ... بك تحيا أرضي ويخضر عودي   1 من زيادات ر 2 التأمور: دم القلب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 مرثية أعشى باهلة للمنتشر بن وهب قال أبو العباس: وكانت العرب تقدم مراثي وتفضلها، وترى قائلها بها فوق كل مؤبن، وكأنهم يرون ما بعدها من المراثي منها أخذت، وفي كنفها تصلح. فمنها قصيدة أعشى باهلة، ويكنى أبا قحافة، التي يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي، وكان أحد رجليي العرب1. [قال الأخفش: هو منسوب إلى الرجل] ، وهم السعاة السابقون في سعيهم. وكان من خبره أنه أسر صلاءة بن العنبر الحارثي، فقال: افتد2 نفسك. فأبى، فقال: لأقطعنك أنملة أنملة، وعضواً عضواً ما لم تفتد نفسك؛ فجعل يفعل   1 الرجلي: الشديد العدو. 2 ر: "أفد". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 ذلك به حتى قتله، ثم حج من بعد ذلك المنتشر ذا الخلصة - وهو بيت كانت خثعم تحجه، زعم أبو عبيدة أنه بالعبلات، وأنه مسجد جامعها، فدلت عليه بنو نفيل بن عمرو بن كلاب الحارثيين؛ فقبضوا عليه، فقالوا: لنفعلن بك كما فعلت بصلاءة. ففعلوا ذلك به، فلقي راكب أعشى باهلة، فقال له أعشى باهلة: هل من جائبة خبر? قال: نعم، أسرت بنو الحارث المنتشر، وكانت بنو الحارث تسمي المنتشر مجدعا، فلما صار في أيديهم قالوا: لنقطعنك كما فعلت بصلاءة، فقال أعشى باهلة يرثي المنتشر: إني أتتني لسان لا أسر بها ... من عل لا عجب منها ولا سخر فبت مرتفقاً للنجم أرقبه ... حيران ذا حذر لو ينفع الحذر! فجاشت النفس لما جاء جمعهم ... وراكب جاء من تثليث معتمر يأتي على الناس لا يلوي على أحد ... حتى التقينا وكانت دوننا مضر ينعى امرأ لا تغب الحي جفنته ... إذا الكواكب أخطا نوءها المطر من ليس في خيره شر يكدره ... على الصديق ولا في صفوة كدر طاوي المصير على العزاء منصلت ... بالقوم ليلة لا ماء ولا شجر لا تنكر البازل الكوماء ضربته ... بالمشرفي إذا ما اجلوذ السفر وتفزع الشؤل منه حين تبصره ... حتى تقطع في أعناقها الجرر لا يصعب الأمر إلا ريث يركبه ... وكل أمر سوى الفحشاء يأتمر تكفيه فلذة كبد إن ألم بها ... من الشواء ويكفي شربة الغمر لا يتأرى لما في القدر يرقبه ... ولا تراه أمام القوم يقتفر لا يغمز الساق من أين ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر مهفهف أهضم الكشحين منخرق ... عنه القميص، لسير الليل محتقر عشنا بذلك دهراً ثم فارقنا ... كذلك الرمح ذو النصلين ينكسر [فإن جزعنا فقد هدت مصيبتنا ... وإن صبرنا فإنا معشر صبر إني أشد حزيمي ثم يدركني ... منك البلاء ومن آلائك الذكر] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 لا يأمن الناس ممساه ومصبحه ... من كل أوب وإن لم يأت ينتظر إما يصبك عدو في مباوأة ... يوماً فقد كنت تستعلي وتنتصر لو لم تخنه نفيل وهي خائنة ... ألم بالقوم ورد منه أو صدر وراد حزب شهاب يستضاء به ... كما يضيء سواد الطخية القمر إما سلكت سبيلاً كنت سالكها ... فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر من ليس فيه إذا قاولته رهق ... وليس فيه إذا عاسرته عسر قوله: إني أتتني لسان يقال: هو اللسان وهي اللسان. فمن ذكر فجمعه ألسنة، ونظيره حمار وأحمرة، وفراش وأفرشة، وإزار وآزرة؛ ومن أنث قال: لسان وألسن، كما تقول: ذراع وأذرع، وكراع وأكرع؛ لا تبالي أمضموم الأول كان أو مفتوحاً أو مكسوراً إذا كان مؤنثاً، ألا ترى أنك تقول: شمال وأشمل1 قال أبو النجم: يأتي لها من أيمن وأشمل وقال آخر، أنشدنيه المازني: فظلت تكوس على أكرع ... ثلاث وكان لها أربع2 وأراد باللسان ها هنا الرسالة: وقوله: من عل يقول: من فوق. فإذا كان معرفة مفرداً بني على الضم. كقبل وبعد. وإذا جعلته نكرة نونته وصرفته، كما قال جرير: إني انصببت من السماء عليكم ... حتى اختطفتك يا فرزدق من عل والقوافي مجرورة. وإن شئت رددت ما ذهب منه. وهي ألف منقلبة منن واو، لأن بناءه فعل من علا يا فتى، قال الراجز:   1 في وصف الإبل, وبعده: ذو خرق طلس وشخص مذأل 2 قال المرصفي: "يريد عفرت إحدى قوائمها الأربع, وتكوس كوسا: مشى على ثلاث قوائم". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا1 وقوله: فبت مرتفقاً وهو المتكئ على مرفقه، وإنما أراد السهر، كما قال أبو ذؤيب: إني أرقت فبت الليل مرتفقاً ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح2 وقوله: جاشت النفس يقول: خبثت، يكون ذلك من تذكرها للتهوع3 ومن جزعها منه. ويورى عن معاوية أنه قال: اجعلوا الشعر أكثر همكم وأكثر آدابكم؛ فإن فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهرير وقد عزمت على الفرار، فما يردني إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري: أبت لي عفتي وأبي بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح4 وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي5   1 نسبة صاحب اللسان "8: 255" إلى غيلان بن حريث وقال في شرحه: "الضمير في قوله: "فهي" للإبل وتنوش الحوض تتناول ملأه وقوله "من علا" أي من فوق يريد أنها عالية الأجسام طوال الأعناق وذلك النوش الذي تناله هو الذي يعينها على قطع الفلوات والأجواز: جمع جوز وهو الوسط أي تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربا كثيرا وتقطع بذلك الشرب فلوات فلا تحتاج إلى ماء آخر". 2 ديوان الهذليين 1: 104, وروايته هناك: نام الخلي وبت الليل مشتجرا ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح والصاب: شجرة مرة لها لبن يمض العين إذا إصابها ومذبوح: مشقوق. 3 التهوع: التقيؤ. 4 المشيح: المجد. 5 جشأت: نهضت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 يقال: جشأت مهموز، وجاشت غير مهموز وتثليث موضع بعينه1 وقوله: لا يلوي على أحد يقال: استقام فلان فما لوى على أحد، ويقال: ألوى بالشيء إذا ذهب به. وقوله: إذا الكواكب أخطا نوءها المطر فالنوء عندهم طلوع نجم وسقوط آخر، وليس كل الكواكب لها نوء، وإنما كانوا يتقولون هذا في أشياء بعينها؛ ويورى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا" يعني أمر الأنواء، لم يختلف في ذلك المفسرون، وعنه عليه السلام في غب سماء: "أتدرون ما قال ربكم تبارك وتعالى? قال: اصبح عبادي مؤمناً بي وكافراً بالكواكب، وكافراً بي ومؤمناً بالكواكب وأما المؤمن بي الكافر بالكواكب فهو الذي يقول: مطرنا بنوء الرحمة، والمؤمن بالكواكب الكافر بي الذي يقول: مطرنا بنوء كذا". والنوء، مهموز، وهو من قولك: ناء بجمله، أي استقل به في ثقل، فالنوء مهموز، وهو في الحقيقة الطالع من الكواكب لا الغائر، وكان الأصمعي لا يفسر من الشعر ما فيه ذكر الأنواء، بل كان لا يسمع ما كان فيه هجاء أو كان فيه ذكر النجوم، ولا يفسر ما وافق تفسيره بعض ما في القرآن إلا ساهياً. فيما يذكر أصحابه عنه. ويروى أنه سئل عن غير شيء من ذلك فأباه وزجر السائل. وقوله: طاوي المصير يقال لواحد المصران مصير. وتقديره: قضيب وقضبان، وكثيب وكثبان. والعزاء: الأمر الشديد، يقال: فلان صابر على العزاء. وكذلك اللأواء، وكذلك الجلى مقصور. فأما العزاء واللأواء فممدودان. وقوله: منصلت، يقال: سيف منصلت، وصلت: إذا جرد من غمده.   1 تثليث: موضع بالحجاز قرب مكة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 وقوله: ليلة لا ماء ولا شجر يريد: القفر، ووقت الصعوبة. وقوله: لا تنكر البازل الكوماء ضربته بالمشرفي. يقول: قد عود الإبل أن ينحرها، ومن شأنهم أن يعرقبوها قبل النحر. والمشرفي: السيف. وهو منسوب إلى المشارف1 وقوله: اجلوذ، امتد، وأنشدني الزيادي لرجل من أهل الحجاز، أحسبه ابن أبي ربيعة: ألا حبذا حبذا حبذا ... حبيب تحملت منه الأذى ويا حبذا برد أنيابه ... إذا أظلم الليل واجلوذا وقوله: حتى تقطع في أعناقها الجرر2 يقول: حتى اعتادت أن ينحرها، فهي تفزع منه حتى تقطع حرتها، ومثل هذا قول الخنوت:3 سأبكي خليلي عنتراً بعد هجعة ... وسيفي مرداساً قتيل قنان4 قتيلان لا تبكي اللقاح عليهما ... إذا شبعت من قرمل وأفان يقول: كانا ينحران الإبل، فهي لا تجزع لفقدهما، وقرمل وأفان: ضربان من النبت. وشبيه بهذا قوله حيث يقول: فلو كان سيفي باليمين تباشرت ... ضباب الملا من جمعهم بقتيل   1 المشارف: قرى من أرض العرب تدنو من الريف. 2 والجرر: جمع جرة وهي ما يفيض من البعير من كرشه فيقرضه. 3 الخنوت: لقب ربيعة بن مضرس شاعر جاهلي 4 قنان: جبل لبني أسد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 يقول: هؤلاء قوم كانوا يحترشون الضباب، فكلما قتل منهم واحد سرت بذلك الضباب واستبشرت. وقوله: لا يتأرى لما في القدر يرقبه يقول: لا يتحبس له، ومن ذا سمي الآري1؛ لأنه محبس الدابة. وقوله: ولا تراه أمام القوم يقتفر يقول: لا يسبقهم إلى شيء من الزاد. وقوله: ولا يعض على شرسوفه الصفر الشراسيف: أطراف الضلوع، ولاصفر: ها هنا: حية البطن، وله مواضع. وقوله: مهفهف يعني ضامراً، وأهضم الكشحين توكيد له. وقوله: إما يصبك عدو في مباوأة يقول: في وتر، يقال: باء فلان بكذا، كما قال مهلهل: بؤ بشسع كليب. أي هو ثأر بالشسع. والطُّخيةُ، والطَّخيةُ، والطِّخية، ثلاث لغات: شدة الظلمة، وكان الذي أصابه هند بن أسماء الحارثي، ففي ذلك يقول: أصبت في حرم منا أخا ثقة ... هند بن أسماء لا يهنئ لك الظفر يقال: هنأ له، كما تقول هنياً له، قال الأخطل:   1 الأرى: الأخية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 إلى إمام تغادينا فواضله ... أظفره الله فليهنئ له الظفر وقوله: وليس فيه إذا غامرته عسر مدح شريف، مثل قولهم: "إذا عز أخوك فهن"؛ وإنما هذا فيمن لا يخاف استذلاله، بأن يخرج صاحبه عند مساهلته إلى باب الذل، فأما من كان كذلك فمعاسرته أحمد. ومدافعته أمدح، كما قال جرير: بشر أبو مروان إن عاسرته ... عسر، وعند يساره ميسور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 مراثي متمم بن النويرة في أخيه مالك قال أبو العباس: ومن أشعار العرب المشهورة المتخيرة في المراثي قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، وسنذكر منها أبياتاً نختارها، من ذلك قوله: أقول وقد طتار السنا في ربابه ... وغيث يسح الماء حتى تريعا سقى الله أرضاً حلها قبر مالك ... ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا وأثر سيل الواديين بديمة ... ترشح وسمياً من النبت خروعا تحيته مني وإن كان نائياً ... وأضحى تراباً فوقه الأرض ومصرعا يذكرن ذا البث الحزين ببثه ... إذا حنت الأولى سجعن لها معا بأوجع مني يوم فارقت مالكاً ... ونادى به الناعي الرفيع فأسمعا وفيها: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 فإن تكن الأيام فرقن بيننا ... فقد بان محموداً أخي يوم ودعا قتول ابنة العمري مالك بعدما ... أراك حديثاً ناعم البال أفرعا فقلت لها طول الأسى إذ سألتني ... ولوعة حزن تترك الوجه أسفعا وفقد بني أم تفانوا فلم أكن ... خلافهم أن أستكين وأضرعا ولست إذا ما الدهر أحدث نكبة ... ورزاء بزوار القرائب أخضعا ولا فرح إن كنت يوماً بغبطة ... ولا جزع إن ناب دهر فأوجعا ولكنني أمضي على ذاك مقدماً ... إذا بعض من لاقى الخطوب تكعكعا فعمرك ألا تسمعيني ملامة ... ولا تنكثي قرح الفؤاد فييجعا وقصرك إني قد شهدت فلم أجد ... بكفي عنه للمنية مدفعا فلو أن ما ألقى أصاب متالعاً ... أو الركن من سلمى إذاً لتضعضا وفي هذه القصيدة: لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا ولا برم تهدي النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا لبيباً أعان اللب منه سماحة ... خصيباً إذا ما زائد الجدب أوضعا تراه كنصل السيف يهتز للندى ... إذا لم تجد عند امرئ السوء مطمعا إذا ابتدر القوم القداح وأوقدت ... لهم نار أيسار كفي من تضجعا بمثنى الأيادي ثم لم تلف مالكاً ... على الفرث يحمي اللحم أن يتمزعا قوله: وقد طار السنا في ربابه، السنا: الضوء، وهو مقصور، قال جل وعز: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 1 والسناء، من الحسب ممدود. والرباب: سحاب دون السحاب كالمتعلق بما فوق. قال المازني:   1 سورة النور 43. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل1 وقوله: يسح معناه يصب، فإذا قلت: يسحو، أو يسحى، فمعناه يقشر، ومن ذا سميت سحاءة القرطاس وسحابته، ومنه قيل للحديدة التي يقشر بها وجه الأرض مسحاة، قال عنترة: سحاً وساحية فكل قرارة ... يجري عليها الماء لم يتصرم2 وقوله: تريع أي كثر حتى جاء وذهب، يقال: راع يريع إذا رجع، ومنه سمي ريع الطعام؛ لأنه يرجع بفضل. قال مزرد: خلطت بصاعي عجوة صاع حنطة ... إلى صاع سمن فوقه يتريع والذهاب: الأمطار اللينة. والمدجنات من السحاب: السود، وهو مأخوذ من الدجن والدجنة. ومعناه إلباس الغيم وظلمته، قال طرفة: وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف الممدد3 ويقال: أمرع الوادي، إذا أخصب، من ذلك قول مولاة بن الأجيد عن أوفى بن دلهم. قال أبو العباس: حدثني به ابن المهدي أحمد بن محمد النجوي، يحدث به عن الأصمعي عن أبيه، عن مولاة بن الأجيد عن أوفى، قال: في النساء أربع، فمنهن الصدع4، تفرق ولا تجمع، ومنهن من لها شيئها أجمع، ومنهن عيث وقع في بلد فأمرع، ومنهن التبع5، ترى ولا تسمع. قال: فذكرت ذلك لرجل فقال: ومنهن القرثع، قلت: وما هي? قال: التي تكحل عيناً وتدع الأخرى، وتلبس ثوبها مقلوباً.   1 نسبة المرصفي إلى زهير بن عروة بن جلهمة المازني. 2 الساحية: المطرة الشديد الوقع تقشر وجه الأرض. 3 البهكنة: الجارية المليحة والطراف: البيت من وجه الأرض. 4 قال المرصفي: "يريد ذات الصدع "بسكون الدال وحركها للسجع وهو مصدر صدع الشيء فتصدع فرقة فتفرق". 5 التبغ: العجوز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 [قال الأخفش: حدثني بذلك أبو العيناء عن الأصمعي، وذكر نحو ذلك] وقوله: وأثر سيل الواديين بديمة زعم الأمعي وغيره من أهل العمل أن الديمة المطر الدائم أياماً برفق. وقوله: ترشح وسمياً أي تهيئه لذلك، يقال: فلان يرشح للخلافة، والوسمي: أول مطر يسم الأرض، والولي: كل مطرة بعد مطرة، فالثانية ولي للأخرى؛ لأنها تليها. والخروع: كل عود ضعيف. وقوله: فما وجد أظآر ثلاث روائم أظآر: جمع ظئر، وهي النوق تعطف على الحوار فتألفه. وروائم، واحدتها رؤوم، ومعنى ترأمه: تشمه. والحوار: ولد الناقة، ويقال له حيث يسقط من أمه سليل، قبل أن تقع عليه الأسماء، فإن كان ذكراً فهو سقب، وإن كانت أنثى فهي حائل، وهو في ذلك كله حوار سنة. وقوله: ندماني جذيمة يعني جذيمة الأبرش الأزدي، وكان ملكاً، وهو الذي قتلته الزباء، وهو أول من أوقد بالشمع ونصب المجانيق للحرب، وله قصص تطول، وقد شرحنا ذلك في كتاب الاختيار. ونديماه يقال لهما مالك وعقيل، ففي ذلك يقول أبو خراش الهذلي: ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... خليلا صفاء مالك وعقيل والمثل يضرب بهما لطول ما نادماه، كما يضرب باجتماع الفرقدين، قال عمرو بن معدي كرب: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 وكل أخ مفتارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان قال هذا من قبل أن يسلم. وقال إسماعيل بن القاسم: ولم أر ما يدوم له اجتماع ... سيفترق اجتماع الفرقدين وقوله: أراك حديثاً ناعم البال أفرعا الأفرع: التام شعر الرأس وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: الفرعان خير أم الصلعان? فقال: بل الفرعان، وكان أبو بكر أفرع، وكان عمر أصلع، فوقع في نفسه أنه يسأل عنه وعن أبي بكر. والأسفع: الأسود، يقال: سفعته النار، أي غيرت وجهه إلى السواد. وقوله: فعمرك يقسم عليها، ويقال: عمرك الله أي أذكرك الله؛ قال: عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا ... هل كنت جارتنا أيام ذي سلم! وقوله: غير مبطان العشيات، يقول: كان لا يأكل في آخر نهاره انتظاراً للضيف. ويروى أن عمر بن الخطاب سأله فقال: أكذبت في شيء مما قلته في أخيك? فقال: نعم، في قولي: غير مبطان، وكان ذا بطن، ويقال في غير هذا الحديث: إن من سيما الرئيس السيد أن يكون عظيم البطن ضخم الرأس، فيه طرش. وقال رجل لفتى: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح1 فتكون فارساً. وقال رجل لرجل: والله ما فتقت فتق2 السادة، ولا مطلت3 مطل الفرسان. والأروع: ذو الروعة والهيئة.   1 الرسح: قلة لحم العجز والفخذين وذلك لملازمته الركوب. 2 ما فتقت قال المرصفي: من الفتق وهو شق العصا وتصدع الكلمة ووقوع الحرب تسيل منها الدماء وتكثر الجراحات. 3 مطلت بالبناء للمجهول قال المرصفي: وهو في الأصل ضرب الحداد الحديدة لتطول يريد ليس بذي رأي يرتق ما فتق بين القوم ولا بفاريناله قرع السيوف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 والبرم: الذي لا ينزل مع الناس ولا يأخذ في الميسر؛ ولا ينزع إلا نكداً، قال النابغة: هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأسمط البرما1 وقوله: إذا القشع وهو الجلد اليابس، ويقال لكناسة الحمام القشع، قال أبو هريرة: وكذبت حتى رميت بالقشع. وحدثني العباس بن الفرج الرياشي، عن محمد بن عبد الله الأنصاري القاضي، في إسناد ذكره، قال: صلى متمم مع أبي بكر الصديق الفجر في عقب قتل أخيه؛ وكان أخوه خرج مع خالد مرجعه من اليمامة، يظهر الإسلام، فظن به خالد غير ذلك، فأمر ضرار بن الأزور الأسدي فقتله، وكتان مالك من أرداف الملوك، ومن متقدمي فرسان بني يربوع، قال: فلما صلى أبو بكر قام متمم بحذائه، واتكأ على سية2 قوسه، ثم قال: نعم القتيل إذا الريح تناوحت ... خلف البيوت، قتلت يا بن الأزور ولنعم حشو الدرع كنت وخاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المتنور أدعوته بالله ثم غررته ... لو هو دعاك بذمة لم يغدر وأومأ إلى أبي بكر، فقال: والله ما دعوته ولا غررته، ثم أتم شعره، فقال: لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه ... حلو شمائله عفيف المئزر ثم بكى وانحط على سية قوسه - وكان أعور دميماً - فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء، فقام إليه عمر بن الخطاب فقال: لوددت أني رثيت أخي زيداً بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك! فقال يا أبا حفص! والله لو علمت أن أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك. وكان   1 تغشى: تلبس والأشمط الذي خالطه الثيب. 2 سية القوس: ما عطف من صرفيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 زيد بن الخطاب قتل شهيداً يوم اليمامة، وكان عمر بثول: إني لأهش للصبا؛ لأنها تأتينا من ناحية زيد. ويروى عن عمر أنه قال: لو كنت أقول الشعر كما تقول؛ لرثيت أخي كما رثيت أخاك. ويروى أن متمماً رثى زيداً فلم يجد، فقال له عمر: لم ترث زيداً كما رثيت أخاك مالكاً! فقال: لأنه والله يحركني لمالك ما لا يحركني لزيد. ومن طريف شعره: لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع والموت يذهب بالفتى1 لئن مالك خلى علي مكانه ... لفي إسوة إن كنت باغية الأسا2 كهول ومرد من بني عم مالك ... وأيفاع صدق قد تمليتهم رضا سقوا بالعقار الصرف حتى تتابعوا ... كدأب ثمود إذ رغا سقيهم ضحى3 إذا القوم قالوا: من فتى لملمة ... فما كلهم يدعى، ولكنه الفتى ومثل هذا الشعر قول النهشلي: لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس? خالهم إياه يعنونا وأول هذا المعنى لطرفة: إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد وقال متمم أيضاً في كلمة له يرثي بها مالكاً: جميل المحيا ضاحك عند ضيفه ... أغر جميع الرأي مشترك الرجل   1 ما دهري: ما همي وغايتي. 2 أيفاع؛ وهو الشاب الذي شارف البلوغ وتمليتهم: عشت معهم وتمتعت بهم ملاة من الدهر. 3 العقار: الخمر والصرف: التي لم يريد به الموت على الاستعارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 وقوراً إذا القوم الكرام تقاولوا ... فحلت حباهم واستطيروا من الجهل1 وكنت إلى نفسي أشد حلاوة ... من الماء بالماذي من عسل النحل2 وكل فتى في الناس بعد ابن أمه ... كساقطة إحدى يديه من الخبل وبعض الرجال نخلة لا جنى لها ... ولا ظل إلا أن تعد من النخل وقال له عمر بن الخطاب: إنك لجزل؛ فأين كان أخوك منك? فقال: كان والله في الليلة المظلمة ذات الأزير والصراد3، يركب الجمل الثفال، ويجنب4 الفرس الجرور، وفي يده الرمح الثقيل، وعليه الشملة الفلوت، وهو بين المزادتين حتى يصبح، فيصبح أهله متبسماً. الجمل الثفال: البطيء الذي لا يكاد ينبعث. والفرس الجرور: الذي لا يكاد ينقاد مع من يجنبه، إنما يجر الحبل، والشملة الفلوت: التي لا تكاد تثبت على لابسها. وذكر لنا أن مالكاً كان من أرداف الملوك، وفي تصداق ذلك يقول جرير يفخر ببني يربوع: منهم عتيبة والمحل وقعنب ... والحنتفان ومنهم الردفان5 فأحد الردفين مالك بن نويرة اليربوعي، والردف الآخر من بني رياح بن يربوع. وللردافة موضعان: أحدهما أن يردفه الملك على دابته في صيد أو تريف أو ما أشبه ذلك من مواضع الأنس، والوجه الآخر أنبل، وهو أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم فينظر بين الناس بعده.   1 حباهم: جمع حبوة وهي الثوب الذي يحتبي به الرجل يجمع به ظهره وساقه. 2 الماذي: العسل الأبيض. 3 الأزير: البرد, والصراد: سحاب بارد ندي ليس فيه ماء. 4 يجنب الفرس: يقوده إلى جنبه. 5 عتبة بن الحارث بن شهاب, والمحل وقعنب: رجلان من بني حنظلة بن يربوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 باب من أخبار من جزعوا عند الموت مدخل ... باب من أخبار من جزعوا عند الموت قال أبو العباس: لما احتضر إبراهيم النخعي رحمه الله، جزع جزعاً شديداً، فقيل له في ذلك، فقال: وأي خطر أعظم من هذا! إنما أتوقع رسولاً يرد على من ربي، إما بالجنة وإما بالنار. ولما احتضر بان سيرين، جعل يقول: نفسي واله أعز الأنفس علي. ولما احتضر حجر بن عدي ليقتل، سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين، وظهر منه جزع شديد،، فقال له قائل: أتجزع! فقال: وكيف لا أجزع! سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور، ولست أدري أيؤديني إلى جنة، أم إلى نار. [قال أبو الحسن: ما يقوم بقتل حجر بن عدي شيء! وإني لأعجب من قوله هذا: ولست أدري أيدنيني إلى جنة أو إلى نار، وهو شهيد الشهداء، رحمه الله!] . وقد ذكرنا موت عمرو بن العاص وكلامه عند الموت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 ممن ظهرت عليهم القسوة عند الموت ومن ظهرت منه عند الموت قسوة حلحلة الفزاري، وسعيد بن أبان بن عيينة بن حصن الفزاري، فإن عبد الملك لما أحضرهما ليقيد منهما قال لحلحة: صبراً حلحل! فقال إي والله: أصبر من ذي ضاغط عركرك ... ألقى بواني زوره للمبرك1 ثم قال لابن الأسود الكلبي: أجد الضربة، فإني والله ضربت أباك ضربة   1 قال المرصفي: يريد من بعير ذي ضاغط, والضاغط: أن يتحرك مرفق البعير حتى يقع في الجنة فيحرقه وعركوك: به أثر من العرك البعير جنبه بمرفقه فيؤثر فيه. وبواني زوره: أضلاعه والواحدة بانية وزوره: صدره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 أسلحته، فعددت النجوم في سلحته. ثم قال عبد الملك لسعيد بن أبان: صبراً سعيد! فقال: إي والله!. أصبر من عود بجنبيه الجلب ... قد أثر البطان فيه والحقب1 ومنهم وكيع بن أبي سود، أحد بني غدانة بن يربوع، فإنه لما يئس منه خرج الطبيب من عنده، فقال له محمد ابنه: ما تقول? فقال: لا يصلي الظهر، وكان محمد ناسكاً، فدخل إلى أبيه، فقال له أبوه وكيع: ما قال لك المعلوج? قال: وعد أنك تبرأ، قال: أسألك بحقي عليك! قال: ذكر أنك لا تصلي الظهر، قال: ويلي على ابن الخبيثة! والله لو كانت في شدقي للكتها إلى العصر. ويروى أن إبراهيم النخعي قال في الحديث الذي ذكرناه: والله لوددت أنها تلجلج في حلقي إلى يوم القيامة. وفي وكيع بن أبي سود يقول الفرزدق: لقد رزئت بأساً وحزماً وسودداً ... تميم بن مر يوم مات وكيع وما كان وقافاً وكيع إذا دنت ... سحائب موت وبلهن نجيع إذا التقت الأبطال أبصرت لونه ... مضيئاً وأعناق الكماة خضوع فصبراً تميم إنما الموت منهل ... يصير إليه صابر وجزوع وقال أيضاً: لتبك وكيعاً خيل ليل مغيرة ... تساقي المنايا بالردينية السمر2   1 العود: الجمل المسن: والجلب: حمع جلبة وهي القرحة تعلوها قشرة البره والبطان: حزام الرجل. والحقب:: الحزام الذي يلي حقو البعير. 2 الويل: غزارة المطر والنجيع: الدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 لقوا مثلهم فاستهزموهم بدعوة ... دعوها وكيعاً والجياد بهم تجري1 ومن الجفاة عند الموت هدبة نب خشرم العذري، وكان قتل زيادة بن زيد العذري، فلما حمل إلى معاوية، تقدم معه عبد الرحمن أخو زيادة بن زيد، فادعى عليه، فقال له معاوية: ما تقول? قال: أتحب أن يكون الجواب شعراً أم نثراً? قال: بل شعراً فإنه أمتع، فقال هدبة: فلما رأيت أنما هي ضربة ... من السيف أو إغضاء عين على وتر عمدت لأمر لا تعير والدي ... خزايته ولا يسب به قبري2 رمينا فرامينا فصاد سهمنا ... منية نفس في كتاب وفي قدر وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... وراءك من معدى ولا عنك من قصر3 فإن تك في أموالنا لا نضق بها ... ذراعاً، وإن صبر فنصبر للصبر4 فقال له معاوية: أراك قد أقررت يا هدبة! قال: هو ذاك، فقال عبد الرحمن: أقدني، فكره ذاك معاوية وضن بهدبة عن القتل - وكان ابن زيادة صغيراً - فقال له معاوية: أوما عليك أن تشفي صدرك وتحرم غيرك! ثم وجه به إلى المدينة فقال: يحبس إلى أن يبلغ ابن زيادة، فبلغ. وكان والي المدينة سعيد بن العاصي، فمما وقف عليه من قسوته قوله: ولما دخلت السجن يا أم مالك ... ذكرتك والأطراف في حلق سمر   1 قال المرصفي أنه لما مات منع والي البصرة عدي بن أرطاة الفزاري أن يناح عليه فوضعوا نعشه وقالوا: لا يحمل حتى يجئ الفرزدق فجاء وعليه قميص أسود مشقوق والناس يترحمون ويذكرون الله فأخذ بقائمة السرير فنهض به ثم أنشأ يقول: لتبك وكيعا ... البيتين. 2 الخزاية: الاستحياء. 3 من معدي: من متجاوز إلى غيرك ولا عنك من قصر يريد ولا منع في أمري عنك"رغبة الآمل". 4 فإن تك يريد الدية, والصبر: الحبس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 وعند سعيد غير أن لم أبح به ... ذكرتك إن الأمر يذكر بالأمر فسئل عن هذا القول، فقال: لما رأيت ثغر سعيد - وكان سعيد حسن الثغر جداً - وذكرت به ثغرها. ويقال إنه عرض على ابن زيادة عشر ديات فأبى إلا القود، وكان ممن عرض الديات عليه ممن ذكر لنا، الحسين بن علي وعبيد الله بن جعفر، عليهما السلام، وسعيد بن العاصي، ومروان بن الحكم، وسائر القوم من قريش والأنصار، فلما خرج به ليقاد بالحرة جعل ينشد الأشعار، فقالت له حبى المدينية: ما رأيت أقسى قلباً منك! أتنشد الأشعار وأنت يمضى بك لتقتل، وهذه خلفك كأنه ظبي عطشان تولول! تعني امرأته، فوقف ووقف الناس معه، فأقبل على حبى فقال: ما وجدت وجدي بها أم واحد ... ولا وجد حبي بابن أم كلاب رأته طويل الساعدين شمردلا ... كما انتعتت من قوة وشباب1 فأغلقت حبى الباب في وجهه وسبته. وعرض له عبد الرحمن بن حسان، فقال: أنشدني، فقال له: أعلى هذه الحال! قال: نعم، فأنشده: ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب ولا أتبغى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب وحربني مولاي حتى غشيته ... متى ما يحربك ابن عمك تحرب2 فلما قدم نظر إلى امرأته، فدخلته غيرة، وقد كان جدع في حربهم، فقال: فإن يك أنفي بان منه جماله ... فما حسبي في الصالحين بأجدعا   1 الشمردل: الفتى القوي الجلد. وانتعشت. 2 حربني: حملني على الغضب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا فقالت: قفوا عنه ساعة، ثم مضت ورجعت وقد اصطلمت أنفها! فقالت: أهذا فعل من له في الرجال حاجة! فقال: الآن طاب الموت، ثم أقبل على أبويه فقال: أبلياني اليوم صبراً منكما ... إن حزناً منكما اليوم لشر ما أظن الموت إلا هيناً ... إن بعد الموت دار المستقر ثم قال: أذا العرش إني عائذ بك مؤمن ... مقر بزلاتي إليك فقير وإني وإن قالوا أمير مسلط ... وحجاب أبواب لهن صرير لأعلم أن الأمر أمرك إن تدن ... فرب وإن تغفر فأنت غفور ثم قال لابن زيادة: أثبت قدميك، وأجد الضربة، فإني أيتمتك صغيراً، وأرملت أمك شابة. وبزعم بعض أصحاب الأخبار أنه قال: ما أجزع من الموت، وآية ذلك أني أضرب برجيل اليسرى بعد القتل ثلاثاً؛ وهو باطل موضوع، ولكن سأل فك قيوده، ففكت، فذلك حيث يقول: فإن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلت أخاكم مطلقاً لم يقيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 من أخبار من وقفوا على القبور قال أبو العباس: ووقف حبار بن سلمى على قبر عامر بن الطفيل، ولم يكن حضره، فقال: أنعم صباحاً أبا علي! فوالله لقد كنت سريعاً إلى المولى بوعدك، بطيئاً عنه بإيعادك، ولقد كنت أهدى من النجم، وأجرى من السيل. ثم التفت إليهم فقال: كان ينبغي أن تجعلوا قبر أبي علي ميلاً في ميل! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 وذكر الحرمازي أن الأحنف بن قيس لما مات، وكان موته بالكوفة، مشى المصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء، وقال: اليوم مات سيد العرب، فلما دفن قامت امرأة على قبره - أحسبها من بني منقر - فقالت: لله درك من مجن في جنن1، ومدرج في كفن! فنسأل الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك، أن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الخير دليلك، وأن يوسع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك، وفوالله لقد كنت في المحافل شريفاً، وعلى الأرامل عطوفاً، ولقد كنت في الحي مسوداً، وإلى الخليفة موفداً، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين. قال: فقال الناس: ما سمعنا كلام امرأة أبلغ ولا أصدق معنى منها. ووقف رجل على قبر النجاشي فترحم وقال: لولا أن القول لا يحيط بما فيك، والوصف يقصر دونك لأطنبت، بل لأسهبت. ثم عقر ناقته على قبره، وقال: عقرت على قبر النجاشي ناقتي ... بأبيض عضب أخلصته صياقله على قبر من لو أنني مت قبله ... لهانت عليه عند قبري رواحله وروى ابن دأب أن حسان بن ثابت الأنصاري اجتاز بقبر ربيعة بن مكدم فأنشد: لا يبعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب نفرت قلوصي من حجارة حرة ... نصبت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شريب خمر مسعر لحروب2 لولا السفار وطول قفر مهمه ... لتركتها تحبو على العرقوب3   1 مجن: اسم مفعول من أجنه إذا ستره والجنن: القبر. 2 مسعر للحروب: أي يسعرها ويشبها. 3 المهمه: القفر من الأرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 نعم الفتى أدى نبيشة رحله ... يوم الكديد نبيشة بن حبيب وربيعة بن مكدم - رجل من بني كنانة، وكان قتله أهبان بن غادية الخزاعي، وقيس تقول: قتله نبيشة بن حبيب السلمي، وكان أهبان أخا نبيشة لأمه، وكان أتاه زائراً. وأغار ربيعة بن مكدم على بني سليم، فخرج أهبان مع أخيه، فحمل عليه فقتله، وحمل أخو ربيعة على أهبان فقتله، فلأنه في بني سليم، قال حسان: نفرت قلوصي من حجارة حرة لأن الحرة هناك لبني سليم، وفي تصداق ما تدعيه خزاعة يقول أهبان: ولقد طعنت ربيعة بن مكدم ... يوم الكديد فخر غير موسد في عارض شرق بنات فؤاده ... منه بأحمر كالنقيع المجسد ولقد وهبت سلاحه وجواده ... لأخي نبيشة قبل لوم الحسد وقال أخو ربيعة يجيبه: فات ابن غادية المنية بعد ما ... رفعت أسفل ذيله بالمطرد1 قل لابن غادية المتاح لقتلنا ... ما كان يقتلنا الوحيد المفرد يريد أن أهبان مفرد من قومه في أخواله. وقال أيضاً: فإن تذهب سليم بوتر قومي ... فأسلم من منازلنا قريب   1 المطر: الرمح القصير يطارد به الفارس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 لليلى الأخيلية ترثي توبة وقالت ليلى الأخيلية: آليت أبكي بعد توبة هالكاً ... وأحفل من دارت عليه الدوائر لعمرك ما بالموت عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعاير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 فلا يبعدنك الله يا توب إنما ... لقاء المنايا دارعاً مثل حاسر ويورى: فلا يبعدنك الله يا توب هالكاً ... أخا الحرب إن دارت عليه الدوائر فكل جديد أو شباب إلى بلى ... وكل امرئ يوماً إلى الله صائر وذكر المدائني أن رجلاً عزى رجلاً أفرط عليه الجزع على ابنه فقال: يا هذا، سررت به وهو حزن وفتنة، وجزعت عليه وهو صلاة ورحمة، فسري عنه. ويروى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "تعزوا عن مصائبكم بي". وقال رجل لابن عمر: أعظم الله أجرك، فقال: نسأل الله العافية! معناه: أنه لما قال له: "أعظم الله أجرك"، إنما دعا بأن يكثر ما يؤجر عليه، ودل على أنه من باب المصائب تعزيته إياه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وهذا باب طريف من أشعار المحدثين لمطيع بن إياس في يحيى بن زياد قال مطيع بن إياس الليثي يرثي يحيى بن زياد الحارثي وكان صديقه، وكانا مرميين جميعاً بالخروج عن الملة: يا أهل بكوا لقلبي القرح ... ولدموع الهوامل السفح1 راحوا بيحيى إلى مغيبه ... في القبر بين التراب والصفح2 راحوا بيحيى ولو تطاوعني الأقـ ... دار لم يبتكر ولم يرح يل خير من يحسن البكاء له الـ ... يوم ومن كان أمس للمدح3 وفي يحيى يقول مطيع لنبوة كانت بينهما: كنت ويحيى كيدي واحد ... نرمي جميعاً ونرامي معا إن سره الدهر فقد سرني ... أو حادث ناب فقد أفظعا أو نام نامت أعين أربع ... منا، وإن هب فلن أهجعا حتى إذا ما الشيب في عارضي ... لاح وفي مفرقه أسرعا سعى وشاة طبن بيننا ... فكاد حبل الوصل أن يقطعا4 فلم ألم يحيى على حادث ... ولم أقل خان ولا ضيعا   1 الهوامل: الذوارف. 2 الصفح: جمع صفيحة وهي القطعة العريضة من الصخر. 3 ذكر المرصفي: بعده: قد ظفر الحزن بالسرور وقد ... أديل مكروهنا من الفرح 4 طبن: جمع طابن, وهو الفطن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 لأبي عبد الرحمن العتبي يرثي على بن سهل وقال أبو عبد الرحمن العتبي يرثي على بن سهل بن الصباح وكان له صديقاً: يا خير إخوانه وأعطفهم ... عليهم راضياً وغضبانا أمسيت حزناً وصار قربك لي ... بعداً وصار اللقاء هجرانا إنا إلى الله راجعون لقد ... أصبح حزني عليك ألوانا حزن اشتياق وحزن مرزئة ... إذا انقضى عاد كالذي كانا قوله: يا خير إخوانه محال وباطل، وذلك أنه لا يضاف أفعل إلى شيء إلا وهو جزء منه. وقال أيضاً: دعوتك يا أخي فلم تجبني ... فردت دعوتي حزناً عليا بموتك ماتت اللذات مني ... وكانت حية إذ كنت حيا فيا أسفي عليك وطول شوقي ... إليك لو أن ذاك يرد شيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 وقوف رجل على قبر عدوه وحدثني رجل من أصحابنا، قال: شهدت رجلاً في طريق مكة معتكفاً على قبر، وهو يردد شيئاً ودموعه تكف من لحيته، فدنوت إليه لأسمع ما يقول، فجعلت العبرة تحول بينه وبين الإبانة، فقلت له: يا هذا! فرفع رأسه إلي، وكأنما هب من رقدة، فقال: ما تشاء? فقلت: أعلى ابنك تبكي? قال: لا، قلت: فعلى أبيك? قال: لا، ولا على نسيب ولا صديق، ولكن على من هو أخص منهما، قلت: أو يكون أحد أخص من ذكرت? قال: نعم، من أخبرك عنه، إن هذا المدفون كان عدواً لي من كل باب، يسعى علي في نفسي وفي مالي وفي ولدي فخرج إلى الصيد أيأس ما كنت من عطبه، وأكمل ما كان من صحته، فرمى ظبياً فأقصده1، فذهب ليأخذه، فإذا هو قد أنفذه حتى نجم2 سهمه من   1 أقصده: لم يخطئه. 2 نجم سهمه: ظهر وبرز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 صفحة الظبي1، فعثر فتلقى بفؤاده ظبة2 السهم، فلحقه أولياؤه فانتزعوا السهم وهو والظبي ميتان، فنمى إلي خبره، فأسرعت إلى قبره معتبطاً بفقده، فإني لضاحك السن؛ إذ وقعت عيني على صخرة، فرأيت عليها كتاباً، فهلم فاقرأه، وأومأ إلى الصخرة، فإذا عليها: وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم وتقدموا قلت: أشهد أنك تبكي على من بكاؤك عليه أحق من النسيب.   1 صفحة الظبي: جانبه. 2 ظبة السهم: حده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 مراثي يعقوب بن الربيع في جارية له ومما استطرفنا من شعر المحدثين قول يعقوب بن الربيع في جارية طالبها سبع سنين، بيذل فيها جاهه وماله وإخوانه حتى ملكها، فأقامت عنده ستة أشهر ثم ماتت، فقال فيها أشعاراً كثيرة، اخترنا منها بعضها، من ذلك قوله: لله آنسة فجعت بها ... ما كان أبعدها من الدنس! أتت البشارة والنعي معاً ... يا قرب مأتمها من العرس! يا ملك نال الدهر فرصته ... فرمى فؤاداً غير محترس كم من دموع لا تجف ومن ... نفس عليك طويلة النفس أبكيك ما ناحت مطوقة ... تحت الظلام تنوح في الغلس يا ملك في وفيك معتبر ... ومواعظ يوحشن ذا الأنس ما بعد فرقة بيننا أبداً ... في لذة درك لملتمس وأخذ ما في صدر هذا الكلام من قول القائل: رب مغروس يعاش به ... فقدته كف مغترسه وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 وقريب من هذا قول امرأة شريفة ترثي زوجها ولم يكن دخل بها1: أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والفرس أبكي على فارس فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس يا فارساً بالعراء مطرحاً ... خانته قواده مع الحرس من لليتامى إذا هم سغبوا ... وكل عان وكل محتبس! أم من لبر أم من لفائدة ... أم من لذكر الإله في الغلس! ومما استطرفه من شعر يعقوب قوله: ليت شعري بأي ذنب لملك ... كان هجري لقبرها واجتنابي! ألذنب حقدته كان منها ... أم لعلمي بشغلها عن عتابي! أم لامني لسخطها رضاها ... حين واريت وجهها في التراب! ما وفى في العباد حي لميت ... بعد يأس منه له في الإياب وفي هذا الشعر: إنما حسرتي إذا ما تذكر ... ت عنائي بها وطول طلابي لم أزل في الطلاب سبع سنين ... أتأتى لذاك من كل باب2 فاجتمعنا على اتفاق وقدر ... وغنينا عن فرقة باصطحاب أشهراً ستة صحبتك فيها ... كن كالحلم أو كلمع السراب وأتاني النعي منك مع البش ... رى فيا قرب أوبة من ذهاب!   1 نسبة بعضهم إلى لبانة بنت موسى الهادي في محمد المين. 2 أتاتي: أتعرض له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 ومن مليح شعره قوله يرثيها: حتى إذا فتر اللسان وأصبحت ... للموت قد ذبلت ذبول النرجس وتسللت منها محاسن وجهها ... وعلا الأنين تحثه بتنفس رجع اليقين مطامعي يأساً كما ... رجع اليقين مطامع المتلمس1 ومن مليح شعره أيضاً قوله: فجعت بملك وقد أينعت ... وتمت فأعظم بها من مصيبه! فأصبحت مغترباً بعدها ... وأمست بحلوان ملك غريبة2 أراني غريباً وإن أصبحت ... منازل أهلي مني قريبه فأقبلت أبكي وتبكي ومعي ... بكاء كئيب بحزن كئيبه وقلت لها مرحباً مرحباً ... بوجه الحبيبة أخت الحبيبة سأصفيك ودي حفاظاً لها ... فذاك الوفاء بظهر المغيبة أراك كملك وإن كمل تكن ... لملك من الناس عندي ضريبه   1 المتلمس: المتطلب. 2 حلوان: مدينة في آخر حدود العراق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 مرثية يزيد المهلبي في المتوكل ومما اخترنا من مرثية يزيد المهلبي للمتوكل على الله قوله: لا حزن إلا أراه دون ما أجد ... وهل كمن فقدت عيناي مفتقد! لا يبعدن هالك كانت منيته ... كما هوى عن عطاء الزبية الأسد1 لا يدفع الناس ضيماً بعد ليلتهم ... إذ لا تمد إلى الجاني عليك يد لو أن سيفي وعقلي حاضران له ... أبليته الجهد إذ لم يبله أحد   1 الزبية: حفيرة تحفر للأسد في عال الأرض تغطي فيمر بها السد فيهوي ويصاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 جاءت منيته العين هاجعة ... هلا أتته المنايا والقنا قصد1! هلا أتته أعاديه مجاهرة ... والحرب تسعر والأبطال تجتلد فخر فوق سرير الملك منجدلاً ... لم يحمه ملكه لما انقضى الأمد قد كان أنصاره يحمون حوزته ... وللردى دون أرصاد الفتى رصد2 وأصبح الناس فوضى يعجبون له ... ليثاً صريعاً تنزى حوله النقد3 علتك أسياف من لا دونه أحد ... وليس فوقك إلا الواحد الصمد جاؤوا عظيماً لدنيا يسعدون بها ... فقد شقوا بالذي جاؤوا وما سعدوا ضجت نساؤك بعد العز حين رأت ... خداً كريماً عليه قارت جسد أضحى شهيد بني العباس موعظة ... لكل ذي عزة في رأسه صيد4 حليفة لم ينل ما ناله أحد ... ولم يضع مثله روح ولا جسد كم في أديمك من فوهاء هادرة ... من الجوائف يغلي فوقها الزبد5 إذا بكيت فإن الدمع منهمل ... وإن رثيت فإن القول مطرد قد كنت أسرف في مالي وتخلف لي ... فعلمتني الليالي كيف أقتصد لما اعتقدتم أناساً لا حلوم لهم ... ضعتم وضيعتم من كان يعتقد ولو جعلتم على الأحرار نعمتكم ... حمتكم السادة المذكورة الحشد قوم هم الجذم والأنساب تجمعهم ... والمجد والدين والأرحام والبلد6   1 قصد: جمع قصد: وهي ما تكسر من الرماح. 2 الرصد: القوم الراصدون 3 تنزي: تثب والنقد: جنس من الغنم قصار الأرجل. 4 الصيد: مصدر صيد يصيد فهو أصيد والأصيد: الذي يرفع رأسه أكبر. 5 فوها يريد طعنة واسعة وهاردة من هدر الشرب إذا غلا وقذف بالزبد والجوائف: جمع جائفة وهي التي تبلغ الجوف. 6 الجذام: الأصل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 إذا قريش أرادوا شد ملكهم ... بغير قحطان لم يبرح به أود قد وتر الناس طراً ثم قد صمتوا ... حتى كأن الذي نيلوا به رشد من الألى وهبوا للمجد أنفسهم ... فما يبالون ما نالوا إذا حمدوا [قال أبو الحسن، قوله: قارت، يقال: قرت الدم يقرت قروتاً. ودم قارت. قد يبس بين الجلد واللحم، ومسك قارت، وهو أخفه وأجوده، قال: يعل بقرات من المسك قاتن وقرات، فعال، وقاتن، مسك قاتن قد قتن قتوناً، أي يابس لا ندوة فيه] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 باب ذكر الأذواء من اليمن في الإسلام مدخل ... باب ذكر الأذواء من اليمن في الإسلام [فأما في الجاهلية، فيكثرون نحو ذي يزن، وذي كلاع وذي نواس وذي رعين وذي أصبح وذي المناور وذي القرنين: فأما في الإسلام، فمنهم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، سماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أنصاري, ومنهم قتادة بن النعمان الأنصاري ذو العين. كانت عينه أصيبت فردها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت أحسن عينيه. وكانت تعتل عينه الصحيحة فلا تعتل المردودة معها, ومنهم أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري ذو السيفين؛ كان يتقلد سيفين في الحرب, ومنهم حباب بن المنذر بن الجموح ذو الرأي، وهو صاحب المشورة يوم بدر، أخذ برأيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان له آراء في الجاهلية مشهورة, ومنهم سعد بن صفيح ذو السيال، ومنهم ذو المشهرة، وهو أبو دجانة سماك بن خرشة، وكانت له مشهرة إذا لبسها وخرج يختال بين الصفين لم يبق ولم يذر وكل هؤلاء من الأنصار] . ومن اليمن من غيرهم عبد الله بن الطفيل الأزدي ثم الدوسي ذو النور، أعطاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوراً في جبينه ليدعو به قومه، فقال: يا رسول الله، هذه مثلة1، فجعله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سوطه، فلما ورد على قومه بالسراة2 جعلوا يقولون: إن الجبل ليلتهب، وكان أبو هريرة ممن اهتدى بتلك العلامة. ومنهم، ثم من خزاعة، ذو اليدين، سماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذا اليدين، وكان قبل يدعى ذا الشمالين: وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى بهم الظهر فسلم في الركعة   1 مثله: أي تنكيل. 2 السراة: الجبل المشرف على عرفة ويمتد إلى صنعاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 الثانية، فقال ذو اليدين: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت? فقال: "ما كان ذاك"، فقال: بلى يا رسول الله، فالتفت إلى أصحابه فقال: "ما يقول ذو اليدين?" فقالوا: صدق يا رسول الله، فنهض فأتم، ثم قال: "إني لأنسى أو أنسى لأستن" 1.   1 لأستن: من السنن وهو المذهب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 وهذه تسمية من كان بينه وبين الملائكة سبب من اليمانية منهم سعد بن معاذ الأنصاري، وهبط لموته سبعون ألف ملك لم يهبطوا إلى الأرض قبلها. وقبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رجليه في المشي لئلا يطأ على جناح ملك، واهتز لموته عرش الله جل وعز. وفي ذلك، يقول حسان: وما اهتز عرش اله من موت هالك ... سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو وكبر عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسعاً؛ كما كبر على حمزة بن عبد المطلب، وشم من تراب قبره رائحة المسك. ومنهم حسان بن ثابت الأنصاري. قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اهجهم وروح القدس معك". وقال في حديث آخر: "إن الله مؤيد حساناً بروح القدس ما نافح عن نبيه". وقالت عائشة: كان يوضع لحسان منبر في مؤخر المسجد فينافح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومنهم حنظلة بن أبي عامر الأنصاري. غسلته الملائكة، وذاك أنه خرج يوم أحد فأصيب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صاحبكم هذا قد غسلته الملائكة". فسئل عن ذلك، فقالت امرأته: كان معي على ما يكون الرجل مع امرأته. فأعجلته حطمة بلغته في المسلمين فخرج فأصيب، ففي ذلك يقول الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح حمي الدبر1، وكان خال أبيه: غسلت خالي الملائكة الأبـ ... رار ميتاً أكرم به من صريع! وأنا ابن الذي حمت ظهره الدبـ ... ـر قتيل اللحيان يوم الرجيع! ومنه حارثة بن النعمان، رأى جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين، وأقرأه جبريل السلام.   1 الدير: النحل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 ومنهم، ثم من خزاعة عمران بن حصين، كانت تصافحه الملائكة وتعوده، ثم افتقدها. فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله؛ إن رجالاً كانوا يأتونني لم أر أحسن مهم وجوهاً، ولا أطيب أرواحاً، ثم قد انقطعوا عني، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أصابك جرح فكنت تكتمه? فقال: أجل، قال: ثم أظهرته? قال: قد كان ذلك. قال: أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت. ومنهم جرير بن عبد الله البجلي. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن، عليه مسحة ملك". ومنهم دحية بن خليفة الكلبي، كان جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهبط في صورته، فمن ذلك يوم بني قريظة. لما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخندق وهبط عليه جبيل عليه السلام فقال: "يا محمد أقد وضعتم سلاحكم! ما وضعت الملائكة أسلحتها بعد، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، وهأنذا سائر إليهم فمزلزل بهم". فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فجعل يمر بالناس فيقول: "أمر بكم أحد?" فيقولون: مر بنا دحية بن خليفة على بغلة عليها قطيفة خز نحو بني قريظة، فيقول: "ذلك جبرائيل"، ثم مر دحية بعد ذلك، وكان لا يزال عليه السلام في غير هذا اليوم ينزل في صورته، كما ظهر إبليس في صورة الشيخ النجدي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 وهذا باب قد تقدم ذكرنا إياه ووعدنا استقصاءه الفرق بين تعريف الحيوان وتنكيره وبين تذكيره وتأنيثه . قال أبو العباس: اعلم أن كل شيء من الحيوان؛ كان مما يخبر الناس عنه كما يخبرون عن أنفسهم ومما يقتنونه ويتخذونه، فبهم حاجة إلى الفصل بين معرفته ونكرته ومذكره ومؤنثه، تقول: جاءني رجل إذا لم تدر من هو بعينه، أو دريت فلم ترد أن تبين. ثم تعرفه لصاحبك إذا أردت ذلك إما بألف ولام، وإما باسم معروف، أو إضافة أو غير ذلك. وكذلك يفصل الناس بين الخيل بأسماء أو نعوت يعرفون بها بعضها من بعض، وكذلك الشاء والكلاب والإبل، ولولا تمييز بعضها من بعض لم يستقم الإخبار عنها والاختصاص بما أريد منها؛ فإذا كان الشيء لي مما يتخذونه لم يحتاجوا إلى التمييز بين بعضه وبعض، يقول الرجل: رأيت الأسد؛ فليس يعني أسداً بعينه، ولكن يريد الواحد من الجنس الذي قد عرفت، وكذلك الذئب والعقرب والحية وما أشبه ذلك، ألا ترى أن ابن عرس وسام أبرص وأم حبين وأبا الحارث وأبا الحصين معارف لا على أن تميز بعضها من بعض ولكن تعريف الجنس. وقولك: ابن مخاض وابن لبون، وابن ماء، نكرات، لأن هذا مما يتخذه الناس، وابن ماء إنما هو مضاف إلى الماء الذي يعرف. فإذا أردت التعريف من هذا لهذه النكرات أدخلت فيما أضيفت إليه الألف واللام، أو لقبتها ألقاباً تعرف بها، كزيد وعمرو. واعلم أن كل جمع مؤنث؛ لأنك تريد معنى جماعة. ولا تذكر من ذلك إلا ما كان فعله يجري بالواو والنون في الجمع، وذلك كل ما يعقل، تقول: مسلم ومسلمون؛ كما تقول: قوم يسلمون، وتقول للجمال: هي تسير وهن يسرن, الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 كما تقول للمؤنث، لأن أفعالها على ذلك، وكذلك الموات، قال الله عز وجل في الأصنام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1، والواحد مذكر. وقال المفسرون في قوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} 2، قالوا: الموات، فكل ما خرج عما يعقل فجمعه بالتانيث وفعله عليه، لا يكون إلا ذلك، إلا ما كان من باب المنقوص. نحو سنين وعزين وليس هذا موضعه. وجملته أنه لا يكون إلا مؤنثاً، فلهذا كان يقع على بعض هذا الضرب الاسم المؤنث، فيجمع الذكر والأنثى، فمن ذلك قولهم: عقرب، فهن اسم مؤنث، إلا أنك إن عرفت الذكر قلت: هذا عقرب، وكذلك الحية، تقول للأنثى: هذه حية، وللذكر هذا حية، قال جرير: إن الحفافيث منكم يا بني لجإ ... يطرقن حيث يصول الحية الذكر [قال الأخفش: الحفافيث: ضرب من الحيات يكون صغير الجرم ينتفخ ويعظم وينفخ نفخاً شديداً، لا غائلة له] 3. وتقول: هذا بطة للذكر، وهذه بطة للأنثى، وهذا دجاجة، وهذه دجاجة. قال جرير: لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس يريد زقاء الديوك، فالاسم الذي يجمعهما دجاجة للذكر والأنثى. ثم يخص الذكر بأن يقال: ديك. وكذلك تقول: هذا بقرة "4وهذه بقرة4" لهما جميعاً. وهذا حباري، ثم يخص الذكر فتقول: ثور. وتقول للذكر من الحباري: خرب، فعلى هذا يجري هذا الباب، وكل ما لم نذكره فهذا سبيله. قال أبو العباس: وقد كنا أرجأنا أشياء ذكرنا أنا سنذكرها في آخر هذا الكتاب، منها خطب ومواعظ ورسائل، ونحن ذاكرون ما تهيأ من ذلك إن شاء الله.   1 سورة إبراهيم 36. 2 سورة النساء 117. 3 هذه الزيادة ليست في الأصل 4 مابين الرقمين مما لم يرد في ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 خطبة لأعرابي بالبادية قال الأصمعي فيما بلغني: خطبنا أعرابي بالبادية؛ فحمد الله واستغفره ووحده وصلى على نبيه. فبلغ في إيجاز، ثم قال: أيها الناس، إن الدنيا دار بلاغ، وإن1 الآخرة دار قرار، فخذوا من مفركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، في الدنيا كنتم، ولغيرها خلقتم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والمصلى عليه رسول الله والمدعو له2 الخليفة، والأمير جعفر بن سليمان.   1 ساقطة من ر. 2 قال المرصفي: "المدعو له يرد أبا جعفر المنصور وقد ولي ابن عمه جعفر بن سليمان بن عباس المدينة سنة ست وأربعين ومائة" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 خطبة لعمر بن عبد العزيز وحدثت في بعض الأسانيد أن عمر بن عبد العزيز قال: في خطبة له: أيها الناس، إنما الدنيا أمل مخترم، وأجل منتقص، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرأ فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه، ونور قلبه! أيها الناس، قد علمتم أن أباكم قد أخرج من الجنة بذنب واحد، وأن ربكم وعد على التوبة، فليكن أحدكم من ذنبه على وجل، ومن ربه على أمل. ويروى أن رجلاً معروفاً، ذهب اسمه عني، قال: أتيت ابن عمر فقلت: أتجب الجنة لعامل بكل الخيرات وهو مشرك? فقال: لا، فقلت له: أتجب النار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 لعامل بالشر كله وهو موحد? قال: عش ولا تغتر. قال: وأتيت ابن عباس، فسألته فأجابني بمثل جوابه سواء، وقال: عش ولا تغتر1 قال: وحدثني بهذا الحديث القاضي [يعني إسماعيل بن إسحاق]   1 عش ولا تغتر مثل يضرب في التوصية والأخذ بالأحوط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 خطبة لعتبة بن أبي سفيان بالموسم وذكر العتبي أحسبه عن أبيه عن هشام بن صالح عن سعد القصر قال: خطب الناس بالموسم عتبة في سنة إحدى وأربعين، وعهد الناس حديث بالفتنة1. فاستفتح ثم قال: أيها الناس، إنا قد ولينا هذا الموضع الذي يضاعف الله فيه للمحسن الأجر وعلى المسيء الوزر. فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع دوننا، ورب متمن حتفه في أمنيته، اقبلوا العافية ما قبلناها منكم وفيكم. وإياكم ولو فقد أتعبت من كان قبلكم ولن تريح من بعدكم. فأسأل الله أن يعين كلا على كل. فنعق به أعرابي من مؤخر المسجد فقال: أيها الخليفة! فقال: لست به ولم تبعد، قال: فيا أخاه! قال: قد أسمعت فقل، فقال: واله لأن تحسنوا وقد أسأنا خير لكم من أن تسيئوا وقد أحسنا، فإن كان الإحسان لكم فما أحقكم باستتمامه، وإن كان لنا فما أحقكم بمكافأتنا! رجل من بني عامر يمت إليكم بالعمومة، ويختص إليكم بالخؤولة، وقد وطئه زمان وكثرة عيال، وفيه أجر، وعنده شكر. فقال عتبة: أستعيذ بالله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بغناك، فليت إسراعنا إليك، يقوم بإبطائنا عنك!.   1 يريد فتنة على ومعاوية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 خطبة لعتبة أيضاً بمصر وذكر العتبي أن عتبة خطب الناس بمصر عن موجدة، فقال: يا حاملي ألأم آنف ركبت بين أعين، إني إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي لكم. وسألتكم صلاحكم إذ كان فسادكم باقياً عليكم. فأما إذ أبيتم إلا الطعن على السلطان، والتنقص للسلف، فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم، فإن حسمت أدواءكم، وإلا فإن السيف من ورائكم. فكم من حكمة منا لم تعها قلوبكم، ومن موعظة منا صمت عنها آذانكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذ جدتم بالمعصية، ولا أويسكم من مراجعة الحسنى أن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى. ثم نزل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 خطبة لداود بن علي العباسي وذكر العتبي أو غيره أن داود بن علي بن عبد الله بن العباس خطب الناس في أول موسم ملكه بنو العباس، بمكة. فقال: شكراً شكراً، إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهراً، ولا لنبني فيكم قصراً، أظن عدو الله أن لن نقدر عليه أن روخي له من خطامه، حتى عثر في فضل زمامه! فالآن حيث أخذ القوس باريها، وعادت النبل إلى النزعة، ورجع الملك في نصابه في أهل بيت النبوة والرحمة. والله لقد كنا نتوجع لكم ونحن في فرشنا. أمن الأسود والأحمر، لكم ذمة الله، لكم ذمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكم ذمة العباس، لا ورب هذه البنية - وأومأ بيده إلى الكعبة - لا نهيج منكم أحداً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 خطبة لمعاوية بن أبي سفيان قال: وخطب الناس معاوية بن أبي سفيان، فحمد الله وصلى على نبيه ثم قال: يا أيها الناس! إني من زرع قد استحصد. ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه، كما لم يكن قبلي إلا من هو خير مني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 ما قاله معاوية عند موته وتعزية الناس ليزيد من بعده وفي غير هذا الخبر أنه قال لبناته عند وفاته: قلبنني، ففعلن. فقال: إنكن لتقلبنه حولاً قلباً إن وقي كبة النار. ثم قال متمثلاً: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 لا يبعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب وقال لابنة قرظة1: ابكيني، فقالت: ألا أبكيه ألا أبكيه ... ألا كل الفتى فيه فلما مات دخل الناس على يزيد يعزونه بأبيه ويهنئونه بالخلافة، فجعلوا يقولون، حتى دخل رجل من ثقيف فقال: السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. إنك قد فجعت بخير الآباء، وأعطيت جميع الأشياء، فاصبر على الرزية، واحمد الله على حسن العطية، فلا أعطي أحد كما أعطيت، ولا رزيء كما رزيت، فقام ابن همام السلولي فأنشده شعراً كأنما فاوضه الثقفي، فقال: اصبر يزيد فقد فارقت ذائقة ... واشكر بلاء الذي بالملك أصفاكا أصبحت تملك هذا الخلق كلهم ... فأنت ترعاهم واله يرعاكا ما إن رزي أحد في الناس نعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا الحول، معناه ذو الحيلة. والقلب: الذي يقلب الأمور ظهراً لبطن. وقوله: إن وقي كبة النار فكبة النار معظمها، وكذلك كبة الحرب، ويقال: لقيته في كبه القوم، ويروى عن بعض الفرسان أنه طعن رجلاً في حرب فقال: طعنته في الكبة، فوضعت رمحي في اللبة، وأخرجته من السبة. والسبة: الدبر.   1 قرظة هي إحدى زوجاته وأسمها فاختة بنت قرظة. 2 صخدت الشمس: اشتد حرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 حديث خالد بن صفوان عن الطعام ويروى أن خالد بن صفوان دخل على يزيد بن المهلب وهو يتغدى، فقال: ادن فكل يا أبا صفوان. فقال: أصلح الله الأمير! لقد أكلت أكلة لست ناسيها، قال: وما أكلت? قال: أتيت ضيعتي لإبان الغراس وأوان العمارة، فجلت فيها جولة، حتى إذا صخدت1 الشمس وأزمعت2 بالركود، ملت إلى غرفة لي   1 صخدت الشمس: اشتد حرها. 2 أرمعت بالركود: عزمت على السكون يريد: قامت وقت الظهيرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 هفافة1، في حديقة قد فتحت أبوابها، ونضح بالماء جوانبها، وفرشت أرضها بألوان الرياحين، من بين ضيمران2 نافح وسمسق3 فائح، وأقحوان زاهر، وورد ناضر، ثم أتيت بخبز أرز كأنه قطع العقيق، وسمك بناني4 بيض البطون، زرق العيون، سود المتون، عراض السرر، غلاظ القصر، ودقة وخلول، ومري وبقول، ثم أتيت برطب أصفر، صاف غير أكدر، لم تبتذله الأيدي، ولم يهشمه كيل المكاييل، فأكلت هذا ثم هذا؛ فقال يزيد: يا ابن صفوان؛ لألف جريب من كلامك مزروع خير من ألف جريب مذروع.   1 هفافة: تهف فيها الريح. 2 الضيمران: نوع من الرياحين. 3 السمسق: الياسمين. 4 بناتي: قال المرصفي: منسوب إلى بناة مجلة بالبصرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 الرسائل التي دارت بين المنصور وبين محمد بن عبد الله بن الحسن ونحن ذاكرون الرسائل بين أمير المؤمنين المنصور، وبين محمد بن عبد الله بن حسن العلوي كما وعدنا في أول الكتاب، ونختصر ما يجوز ذكره منه، ونمسك عن الباقي، فقد قيل: الراوية أجد الشاتمين، قال: لما خرج محمد بن عبد الله على المنصور كتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله، أما بعد: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1، ولك عهد الله وذمته وميثاقه وحق نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إن تبت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن بايعك وتابعك وجميع شيعتك، وأن أعطيك ألف ألف درهم،   1 سورة المائدة 33-34. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأقضي لك ما شئت من الحاجات، وأن أطلق من في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك، ثم لا أتتبع أحداً منكم بمكروه، فإن شئت أن تتوثق لنفسك، فوجه إلي من يأخذ لك من المثاق والعهد والأمان ما أحببت، والسلام. فكتب إليه محمد بن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد: أما بعد: {طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} 1، وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني وقد تعلم أن الحق حقنا، وأنكم إنما طلبتموه بنا، ونهضتم فيه بشيعتنا، وخبطتموه2 بفضلنا، وأن أبانا علياً عليه السلام كان الوصي والإمام، فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء! وقد علمت أنه ليس أحد من بني هاشم يمت بمثل فضلنا، ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا وسببنا! وإنا بنو أم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاطمة بنت عمرو في الجاهلية دونكم، وبنو ابنته فاطمة في الإسلام من بينكم. فأنا أوسط بني هاشم نسباً، وخيرهم أماً وأباً، لم تلدني العجم، ولم تعرق في أمهات الأولاد، وأن اله تبارك وتعالى لم يزل يختار لنا، فولدني من النبي ين، أفضلهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن أصحابه أقدمهم إسلاماً، وأوسعهم علماً، وأكثرهم جهاداً، علي بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهن خديجة بنت خويلد، أول من آمن بالله وصلى القبلة، ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين   1 سورة القصص 1-6. 2 خبطتموه: قال المرصفي: "من خبط وهو في الأصل ضرب الشجر بعصا يتناثر ورقة فتطعمه الدواب يريد: جاهدوا فيه حتى جنوا ثماره". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 في الإسلام الحسن والحسين سيداً شباب أهل الجنة. ثم قد علمت أن هاشما ولد عليا مرتين، وان عبد المطلب ولد الحسن مرتين، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولدني مرتين، من قبل جدي الحسن والحسن، فما زال الله يختار لي حتى اختار لي في النار، فولدني أرفع الناس درجة في الجنة، وأهون أهل النار عذاباً، فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة وابن خير أهل النار. ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكل ما أصبته، إلا حدا من حدود الله، أو حقاً لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمك في ذلك، فأنا أوفي بالعهد منك، وأحرى لقبول الأمان. فأما أمانك الذي عرضت علي فأي الأمانات هو! أأمان ابن هبيرة1 أم أمان عمك عبد الله بن علي2? أم أمان أبي مسلم! 3 والسلام. فكتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله، أما بعد: فقد أتاني كتابك، وبلغني كلامك، فإذا جل فخرك بالنساء، لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء، ولقد جعل العم أباً، وبدأ به على الوالد الأدنى، فقال جل ثناؤه عن نبيه عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} 4، وقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمومته أربعة، فأجابه اثنان: أحدهما أب,5. وكفر اثنان6 أحدهما أبوك.   1 هو عمر بن هبيرة الفزاري عامل العراق امروان بن محمد آخر ملوك بن أمية بذل له السفاح الأمان ثم غدر به وأمر أخاه المنصور بقتله سنة 132. 2 هو عبد الله بن علي عم المنصور كان دعا لنفسه بعد موت السفاح فحاربه المنصور ثم بعث له بأمان إن قدم عليه فلما أمر بقتله هو وأصحابه سنة 140. 3 أبو مسلم الخراساني وشى به عند المنصور فاحتال لمقدمه حتى اسمكن منه وقتله سنة 137. 4 سورة يوسف: 38. 5 هما أبو حمزة والعباس. 6 هما أبو طالب وأبو لهب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 فأما ما ذكرت من النساء وقراباتهن فلو أعطين على قرب الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت وهب، ولكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه. فأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب، فإن الله لم يهد أحداً من ولدها للإسلام، ولو فعل لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الآخرة والأولى، وأسعدهم بدخول الجنة غداً، ولكن الله أبى ذلك فقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1 فأما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وفاطمة أم الحسن وأن هاشما ولد عليا مرتين، وان عبد المطلب ولد الحسن مرتين، فخير الأولين والآخرين محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يلده هاشم إلا مرة واحدة، ولم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة. وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله، فإن الله عز وجل أبى ذلك فقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 2، ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، غير أنها امرأة لا تحوز الميراث، ولا يجوز أن تؤم، فكيف تورث الإمامة من قبلها? ولقد طلب بها أبوك بكل وجه، فأخرجها تخاصم، ومرضها سراً، ودفنها ليلاً، فأبى الناس إلا تقديم الشيخين3، ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بالصلاة غيره، ثم أخذ الناس رجلاً رجلاً، فلم يأخذوا أباك فيهم، ثم كان في أصحاب الشورى فكل دفعه عنها. بايع عبد الرحمن عثمان وقبلها عثمان، وحارب أباك طلحة والزبير، ودعا سعداً4 إلى بيعته فأغلق بابه دونه، ثم بايع معاوية بعده، وأفضى أمر جدك إلى أبيك الحسن، فسلمه إلى معاوية بخرق ودراهم، وأسلم في يديه شيعته، وخرج إلى المدينة، فدفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالاً من غير حلة، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه.   1 سورة القصص: 56. 2 سورة الأحزاب:40. 3 هما أبو بكر وعمر. 4 هو سعد بن أبي وقاص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 فأما قولك: إن الله اختار لك في الكفر، فجعل أباك أهون أهل النار عذاباً، فليس في الشر خيار، ولا من عذاب الله هين، ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفخر بالنار، وسترد فتلعم، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 1 وأما قولك: إنك لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمهات الأولاد وأنك أوسط بني هاشم نسباً وخيرهم أماً وأباً، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً، وقدمت نفسك على من هو خير من أولاً وآخراً، وأصلاً وفصلاً، فخرت على إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى والد ولده، فانظر ويحك أين تكون من الله غداً! وما ولد فيكم مولود بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من علي بن الحسين، وهو لأم ولد، ولقد كان خيراً من جدك حسن بن حسن، ثم ابنه محمد بن علي خير من أبيك، وجدته أم ولد، ثم ابنه جعفر، وهو خير منك، ولقد علمت أن جدك علياً حكم حكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به، فاجتمعا على خلعه، ثم خرج عمك الحسين بن علي على ابن مرجانة2، فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه، ثم أتوا بكم على الأقتاب3 بغير أوطية، كالسبي المجلوب، إلى الشأم. ثم خرج منكم غير واحد فقتلتكم بنو أمية، وحرقوكم بالنار، وصلبوكم على جذوع النخل، حتى خرجنا عليهم، فأدركنا بثأركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم، وأورثناكم أرضهم وديارهم، بعد أن كانوا يعلنون أباك في أدبار الصلاة المكتوبة كما تلعن الكفرة، فعنفناهم وكفرناهم، وبينا فضله، وأشدنا بذكره، فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنا لما ذكرنا من فضل علي أنا قدمناه على حمزة والعباس وجعفر، كل أولئك مضوا سالمين مسلماً منهم، وابتلي أبوك بالدماء، ولقد علمت أن مآثرنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم، وكانت للعباس دون إخوته، فنازعنا فيها أبوك إلى عمر، فقضى لنا عمر عليه، وتوفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس من عمومته أحد حياً إلا العباس، فكان وارثه دون بني عبد المطلب، وطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم، فلم ينلها إلا ولده،   1 سورة الشعراء:227. 2 ابن مرجانة: هو عبيد الله بن زياد. 3 الأقتاب: جمع قتب وهو الرجل على قدر سنام البعير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الأنبياء، وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب بفضل القديم والحديث، ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كرهاً لمات عماك طالب وعقيل جوعاً أو يلحسا جفان عتبة وشيبة،1 فأذهب عنهما العار والشنار، ولقد جاء الإسلام والعباس يمون أبا طالب للأزمة التي أصابتهم، ثم فدى عقيلاً يوم بدر. فقد مناكم في الكفر، وفديناكم من الأسر، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وحزنا شرف الآباء، وأدركنا من ثأركم ما عجزتم عنه، ووضعناكم بحيث لم تضعوا أنفسكم. والسلام.   1 عتبة وشيبة ابنا ربيعة من عبد شمس كانا من المطعمين لقريش يوم بدر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله القسري قال أبو العباس: وقد ذكرنا1 رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله، وإنا سنذكرها بتمامها في غير الموضع2 الذي ابتدأنا وذكرها أولاً فيه، وكان سبب هذه الرسالة إفراط خالد في الدالة على هشام، وأنه أخذ ابن حشان النبطي فضربه بالسياط، وكان يقال له سهيل، قال: فبعث بقميصه إلى أبيه وفيه آثار الدم، فأدخله أبوه إلى هشام، مع ما قد أوغر صدر هشام عليه من إفراط الدالة، واحتجان الأموال، وكفر ما أسداه إليه من توليته إياه العراق، فكتب هشام إلى خالد: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛ فقد بلغ أمير المؤمنين عنك أمر لم يحتمله لك، إلا لما أحب من رب3 الصنيعة قبلك، واستتمام معروفه عندك, وكان أمير المؤمنين أحق من   1 قال المرصفي: "نسى أبو العباس أنه لم يذكر شيئا منها فيما سلف وإنما أشار إليها بقول هناك: "ومما يشاكل هذا المعنى ويجانس هذا المذهب ما كان من خالد بن عبد الله القسري فإنه كان متقدماً في الخطابة متناهيا في البلاغة فخرج عليه المغيرة بن سعيد بالكوفة في عشرين رجلاً فعطعطوا فقال خالد: اطعموني ماءً وهو على المنبر فعبر بذلك فكتب به هشام إليه في رسالة يوجه فيها وسنذكرها في موضعها إن شاء الله". 2 ر: "في غير هذا الموضع". 3 رب الصنيعة واضعها ومنميها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 استصلح ما فسد عليه منك، فإن تعد لمثل مقالتك وما بلغ أمير المؤمنين عنك، رأى في معالجتك بالعقوبة رأيه. إن النعمة إذا طالت بالعبد ممتدة أبطرته، فأساء حمل الكرامة، واستقل العافية، ونسب ما في يديه إلى حيلته وحسبه وبيته ورهطه وعشيرته، فإذا نزلت به الغير، وانكشطت عنه عماية الغي والسلطان، ذل منقاداً، وندم حسيراً، وتمكن منه عدوه قادراً عليه قاهراً له، ولو أراد أمير المؤمنين إفسادك لجمع بينك وبين من شهد فلتات خطلك. وعظيم زللك، حيث تقول لجلسانك: والله ما زادتني ولاية العراق شرفاً، ولا ولاني أمير المؤمنين شيئاً لم يكن من قبلي ممن هو دوني يلي مثله! ولعمري لو ابتليت ببعض مقاوم الحجاج في أهل العراق، في تلك المضايق التي لقي، لعلمت أنك رجل من بجيلة، فقد خرج عليك أربعون رجلاً فغلبوك على بيت مالك وخزائنك، حتى قلت: أطعموني ماء؛ دهشاً وبعلاً1 وجبناً، فما استطعتهم إلا بأمان. ثم أخفرت ذمتك، منهم رزين وأصحابه. ولعمري أن لو حاول أمير المؤمنين مكافأتك بخطلك في مجلسك، وجحودك فضله إليك، وتصغير ما أنعم به عليك، فحل العقدة، ونفض الصنيعة، وردك إلى منزلة أنت أهلها، كنت لذلك مستحقاً؛ فهذا جدك يزيد بن أسد قد حشد مع معاوية في يوم صفين، وعرض له دينه ودمه، فما اصطنع إلا عنده، ولا ولاه ما اصطنع إليك أمير المؤمنين وولاك، وقبله من أهل اليمن وبيوتاتهم من قبيله أكرم من قبيلتك، من كندة وغسان وآل ذي يزن وذي كلاع وذي رعين، في نظرائهم من بيوتات قومهم، كلهم أكرم أولية، وأشرف أسلافاً، من آل عبد الله بن يزيد. ثم أثرك أمير المؤمنين بولاية العراق، بلا بيت رفيع، ولا شرف قديم، وهذه البيوتات تعلوك وتغمرك وتسكتك، وتتقدمك في المحفل والمجامع عند بدأة الأمور وأبواب الخلفاء، ولولا ما أحب أمير المؤمنين من رد غربك؛ لعاجلك بالتي كانت أهلها، وإنها منك لقريب مأخذها، سريع مكروهها. فيها، إن أبقى الله أمير المؤمنين،   1 البعل: الدهش عند الروع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 زوال نعمه عنك، وحلول نقمه بك، فيما ضيعت وارتكبت بالعراق، من استعانتك بالمجوس والنصارى، وتوليتهم رقاب المسلمين وجبوة1 خراجهم، وتسلطهم عليهم، نزع بك إلى ذلك عرق سوء فيهم من التي قامت2 عنك، فبئس الجنين أنت يا عدي نفسه!. وإن الله عز وجل لما رأى إحسان أمير المؤمنين إليك، وسوء قيامك بشكره، قلب قلبه فأسخطه عليك، حتى قبحت أمورك عنده، وآيسه من شكرك ما ظهر من كفرك النعمة عندك، فأصبحت تنظر سقوط النعمة، وزوال الكرامة، وحلول الخزي، فتأهب لنوازل عقوبة الله بك، فإن الله عليك أوجد، ولما عملت أكره، فقد أصبحت وذنوبك عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبكتك، إلا راتباً3 بين يديه، وعنده من يقررك بها ذنباً ذنباً، ويبكتك بما أتيت أمراً أمراً، فقد نسيته وأحصاه الله عليك، ولقد كان لأمير المؤمنين زاجر عنك فيما عرفك به من التسرع إلى حماقتك في غير واحدة. منها القرشي4 الذي تناولته بالحجاز ظالماً، فضربك الله بالسوط الذي ضربته به مفتضحاً على رؤوس رعيتك، ولعل أمير المؤمنين يعود لك بمثل ذلك، فإن يفعل فأهله أنت، وإن يصفح فأهله هو! ومن ذلك ذكرك زمزم، وهي سقيا الله وكرامته لعبد المطلب وهذا الحي من قريش تسميها أم جعار5؛ فلا سقاك الله من حوض رسوله، وجعل شركما لخيركما الفداء، ووالله أن لو لم يستدلل أمير المؤمنين على صنف نحائزك وسوء تدبيرك إلا بفسالة دخائلك وبطانتك وعمالك، والغالبة عليك جاريتك الرائفة6،   1 الجبوة: مصدر جبا الخراج يجباه. 2 قال المرصفي: "كني بذلك عن أمه وكانت رومية نصرانية وهبها عبد الملك لأبيه". 3 راتبا: وقفا. 4 هو رجل من بني عبد الدار بن قصي وكان وفد على سليمان بن عبد الملك فسأله عن خالد فذكره بشر فلما سمع خالد بذلك أخذ ابنا له ومولى فضربهما بالسياط ضربا مبرحا فشكا القرشي إلى سليمان فأمر رجلا من كلب فسار إلى خالد فضرب خالدا وأمر أن يشهر به مدرعة ويمشي إلى الشام ورآه الفرزدق فنال منه في أبيات معروفة. 5 أم جعار: اسم للضبع 6 الرائفة: النازلة الريف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 بائعة الفهود ومستعملة الرجال، مع ما أتلفت من مال الله في المبارك1، فإنك ادعيت أنك أنفقت عليه اثني عشر ألف ألف درهم. والله لو كنت من ولد عبد الملك بن مروان ما احتمل لك أمير المؤمنين ما أفسدت من مال الله، وضيعت من أمور المسلمين، وسلطت من ولاة السوء على جميع أهل كور عملك، تجمع إليك الدهاقين2 هدايا النيروز والمهرجان، حابساً لأكثره، رافعاً لأقله، مع مخابث مساويك التي قد أخر أمير المؤمنين تقريك بها، ومناصبتك أمير المؤمنين في مولاه حسان، ووكيله في ضياعه وأحوازه في العراق، وإقدامك على ابنه بما أقدمت به، وسيكون لأمير المؤمنين في ذلك نبأ إن لم يعف عنك، ولكنه يظن أن الله طالبك بأمور أتيتها، غير تارك لتكشيفك عنها، وحملك الأموال ناقصة عن وظائفها التي جباها عمر بن هبيرة، وتوجيهك أخاك أسداً إلى خراسان، مظهراً العصبية بها، متحاملاً على هذا الحي من مضر، قد أتت أمير المؤمنين بتصغيره بهم واحتصاره لهم وركوبه أياهم الثقات، ناسياً لحديث زرنب3 وقصص الهجريين كيف كانت في أسد بن كرز، فإذا خلوت أو توسطت ملأ فاعرف نفسك، وخف رواجع البغي عليك وعاجلات النقم فيك. واعلم أن ما بعد كتاب أمير المؤمنين هذا أشد عليك، وأفسد لك، وقبل أمير المؤمنين خلف منك كثير، في أحسابهم وبيوتاتهم وأديانهم، وفيهم عوض منك، والله من وراء ذلك. وكتب عبد الله بن سالم سنة تسع عشرة ومائة. 4وهذا باب من متنخل طريف الشعر وذكر آيات من القرآن ربما غلط في مجازها النحويون4. قال أبو العباس: هذا الكتاب قد وفيناه جميع حقوقه، ووفينا بجميع شروطه، إلا ما أذهل عنه النسيان، فإنه قلما يخلى من ذلك، ونحن خاتموه بأشعار طريفة، وآخر ذلك الذي نختم به آيات من كتاب الله عز وجل، بالتوقيف على معانيها إن شاء الله.   1 المبارك: نهر بالبصرة احتفره خالد القسري لهشام بن عبد الملك. 2 الدهاقين: التجار. 3 زرنب: مولاة تزوجها أحد أحداد خالد في الجاهلية وكانت بغيا بعير بها. 4 ما بين الرقمين مما لم يذكر في ر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 مختارات متفرقة من الشعر قال الشاعر: أذكر مجالس من بني أسد ... بعدوا وحن إليهم القلب الشرق منزلنا، ومنزلهم ... غرب، وأتى الشرق والغرب! من كل أبيض جل زينته ... مسك أحم وصارم عضب وقال آخر: حياة أبي العوام زينٌ لقومه ... لكل امرئ قاس الأمور وجربا ونَعتِبُ أحياناً عليه ولو مضى ... لكنا على الباقي من الناس أعتبا وقال مسلم: حياتك يا ابن سعدان بن يحيى ... حياة للمكارم والمعالي جلبت لك الثناء فجاء عفواً ... ونفس الشكر مطلقة العقال وترجعني إليك، وإن نأت بي ... دياري عنك، تجربة الرجال وقيل في المثل: المبالغة في النصيحة تقع بك على عظيم الظنة. وأنشدني العباس بن الفرج الرياشي: وكم سقت في آثاركم من نصيحة ... وقد يستفيد الظنة المتنصح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وأنشدني الرياشي: إذا الأمر أغنى عنك جنوبه فاجتنب ... معرة أمر أنت عنه بمعزل وقال العتابي: لا ترج رجعة مذنب ... خلط احتجاجاً باعتذار وقال أيضاً: وفيت كل خليل ودني ثمناً ... إلا المؤمل دولاتي وأيامي وقيل للعتابي: ما أقرب البلاغة? قال: ألا يؤتى السامع من سوء إفهام القاتل، ولا يؤتى القائل من سوء فهم السامع. وقال ابن يسير: أقدر لرجلك قبل الخطو منزلها ... فمن علا زلقاً عن غرة زلقا وكان يقال: اصمت لتفهم، واذكر لتعلم، وقل لتذلق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 آيات من القرآن الكريم وبيان ما فيها من المجاز ونذكر آيات من القرآن ربما غلط في مجازها النحويون. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} 1، مجاز الآية أن المفعول الأول محذوف، ومعناه: يخوفكم من أوليائه. وفي القرآن: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 2، والشهر لا يغيب عنه أحد، ومجاز الآية: فمن كان منكم شاهداً بلده في الشهر فليصمه، والتقدير {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ} أي فمن كان شاهداً في شهر رمضان فليصمه، نصب الظروف لا نصب المفعول به.   1 سورة آل عمران 175. 2 سورة آل عمران 185. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 وفي القرآن في مخاطبة فرعون: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} 1، فليس معنى ننجيك نخلصك، لكن نلقيك على نجوة من الأرض، ببدنك: بدرعك، يدل على ذلك لتكون لمن خلفك آية. وفي القرآن: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} 2، فالوقف {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} أي ويخرجونكم لأن تؤمنوا بالله ربكم. هذا آخر الكتاب الكامل، والشكر لله والحمد له، وصلى الله على رسول الله، ونستغفر الله مما قلناه من عمد وقصد وزلل.   1 سورة يونس92. 2 سورة الممتحنة 1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105