الكتاب: العرب في العصور القديمة المؤلف: لطفي عبد الوهاب الناشر: دار المعرفة الجامعية الطبعة: الثانية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- العرب في العصور القديمة لطفي عبد الوهاب الكتاب: العرب في العصور القديمة المؤلف: لطفي عبد الوهاب الناشر: دار المعرفة الجامعية الطبعة: الثانية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المقدمة تقديم الطبعة الثانية ... تقديم الطبعة الثانية كنت أود لهذه الطبعة الثانية من الدراسة أن تكون أكثر اكتمالًا من الطبعة الأولى وبخاصة في القسم الثالث منها الخاص بالمجتمع، وهو قسم أشعر أنه مضغوط في تفاصيله إلى حد كبير بالنسبة للقارئ العام. ولكن ضيق الوقت لا يزال يحول دون التوفر على تحقيق هذا الهدف في الوقت الحالي, وأرجو أن يتيح لي هذا التأخير الذي اضطررت إليه فرصة الانتفاع بما قد يظهر في الموضوعات التي طرقتها في هذا القسم من مناقشات وآراء جديدة. على أني اغتنمت فرصة هذه الطبعة الجديدة لأسد بعض مواطن النقص التي تنبهت إليها في عدد من النقاط أو التي نبهني إليها الأصدقاء من المهتمين بموضوع هذه الدراسة، كما انتفعت في الوقت ذاته ببعض الدراسات الجديدة التي ظهرت في العام الحالي أو الدراسات القديمة التي فاتني الانتفاع بها قبل الآن. وقد وجدت في هذا الصدد أن اللوحة اليونانية "8 - ب" في الطبعة الأولى لا يبرز وجه المقارنة فيها مع اللوحة اليمنية "8 - أ" إلا من بعد واحد هو ليونة الحركة، وهو بعد قد لا يظهر بالقدر الكافي للقارئ الذي ليس له اهتمام متخصص بالعناصر الفنية في مجال النحت أو صناعة التماثيل، فاستبدلت بها اللوحة الحالية التي تضم إلى ليونة الحركة بعدين آخرين هما: عنصر الطفولة وعنصر الحوار بين الإنسان والحيوان في عمل فني واحد، كما أضفت لوحتين أخريين هما "8 - ج" و"8 - د" لتعميق فكرة المقارنة التي قصدت إليها، كذلك نبهني تلميذي وصديقي الدكتور أحمد غزال، أستاذ الآثار بقسم الحضارة اليونانية والرومانية بجامعة الإسكندرية، إلى تطور ظهر في العملة الأثينية في القرن الخامس ق. م. يكتمل فيه التطابق بينها وبين العملة الحميرية التي ترجع إلى القرن الثالث أو الثاني ق. م. ومن ثم تخدم النقطة التي تعرضت لها في هذا الصدد "الباب الرابع: 2- ج" بشكل أفضل، كما زودني بالصور الخاصة بهذه العملة فوضعتها بدلا من صور العملة الأثينية التي ترجع إلى القرن السادس ق. م. والتي لم يكن التطابق المطلوب مكتملًا فيها "لوحة 15 - ب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وفيما يخص الحديث عن المصادر الكلاسيكية لهذه الدراسة "الباب السادس: 1 - ج" كان قد فاتني أن أتناول بالعرض والنقد كتابات المؤرخ فلافيوس يوسفوس الذي يعتبر أحد المصادر المهمة عن إحدى مراحل تاريخ الأنباط، وقد بادرت في الطبعة الحالية باستكمال هذا النقص. كذلك انتفعت في الباب الخاص بالشعر الجاهلي "الباب السابع: 3" كمصدر من مصادر المجتمع العربي القديم، بدراستين قيمتين صدرتا هذا العام لأستاذين صديقين من قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس بالقاهرة: إحداهما عن "الشعر الجاهلي" للدكتور إبرهيم عبد الرحمن محمد، وقد تناول في أحد أبوابها التفسير الميثولوجي للشعر الجاهلي، والأخرى عن "قضايا الأدب الجاهلي" للدكتور عفت الشرقاوي، وقد تناول في أحد أبوابها التفسير النفسي لشعر امرئ القيس، وقد أضافت هاتان الدراستان بعدين جديدين لتدعيم قضية هذا الشعر كمصدر رئيسي من مصادر التعرف على مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام. وأخيرًا فقد انتفعت في القسم الخاص بالحياة الدينية "الباب التاسع: 3" بدراسة للأستاذ ف. و. وبنيت F.W.WiNNET العدد 28 من مجلة "THE MOSLEM WORLD" لم أكن قد استطعت الحصول عليها قبل الآن، وفيها يناقش الباحث عددًا من النصوص العربية الشمالية القديمة عن عبادة "الله" قبل الإسلام، كما انتفعت في زيادة استيضاح هذه النقطة بمناقشة قيمة مع المؤرخ الكبير الدكتور قسطنطين زريق الأستاذ بالجامعة الأمريكية في بيروت. ل. ع.ى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تقديم الطبعة الأولى لا أهدف من هذه الدراسة إلى تقديم عرض شامل أو مفصل لتاريخ العرب في العصر السابق للإسلام، وإنما أردت أن تكون مدخلا حضاريا لهذا التاريخ يمكننا من فهمه في إطاره السليم، لا كحشد من الأحداث والأسماء والأوضاع تسرد كمقدمة مطولة لعصر لاحق، وإنما ككيان تاريخي يمتد عبر ستة عشر قرنًا في الحدود المعروفة لنا حتى الآن والتي تتسع من يوم إلى يوم كلما عثر المنقبون على أثر جديد أو على مجموعة من النقوش، وينتمي إلى عصر له أبعاده المميزة ومقوماته وعلاقاته وتياراته التي تتفق وهذه الأبعاد. وفي حدود هذا الإطار الحضاري سارت الدراسة في خطين متوازيين ومتلازمين. وفيما يخص الخط الأول حاولت أن أجيب على عدد من التساؤلات التي لم تطرح حتى الآن، أو التي طرحت كنوع من الترف الفكري أو الاستكمال الشكلي للموضوع، الذي يكتفي بالتعريف بالمسائل أو بمناقشتها دون أن يوضح موقعها من تاريخ المنطقة ووقعها عليه. وفي هذا الصدد كانت التساؤلات الرئيسية التي طرقتها هي: أين تقف شبه الجزيرة العربية من المسار الحضاري الذي عرفه العالم في العصور القديمة؟ ما هو الأثر الذي تركته الظروف الطبيعية للمنطقة على مواردها الاقتصادية وعلى تكويناتها السياسية وأوضاعها الاجتماعية والدينية؟ ثم متى ظهرت هوية العرب في المجال الدولي؟ وما هو الشكل الذي اتخذته هذه الهوية وسط قوى الشرق والغرب المتصارعة في العالم القديم؟. أما الخط الآخر فهو يخص مصادر الدراسة، وقد هدفت هنا إلى نقل تاريخ العرب قبل الإسلام إلى دائرة الاعتماد على المصادر الجادة الوحيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 التي يمكن أن نعتمد عليها بشكل علمي، وهي المصادر المعاصرة لهذا التاريخ. وهكذا بدأت بترك ما خلفه لنا كتاب العصر الإسلامي فيما عدا استثناءات قليلة ذكرتها في موضعها. فهؤلاء الكتاب كانوا بكل بساطة يكتبون عن عصر بدأ قبل وقتهم بألف وسبعمائة سنة على الأقل، كما أنهم نحوا فيما كتبوه منحى "القصاص وجروا على أساليبهم ولم يلتزموا فيها الصحة ولا ضمنوا لنا الوثوق بها" على حد تعبير واحد من هؤلاء الكتاب أنفسهم وهو ابن خلدون، ومن ثم "فلا ينبغي التعويل عليها وتترك وشأنها" حسب حكم الكاتب نفسه. وفي هذا المجال فقد اعتمدت على ما وصل إلى أيدينا، وهو كثير، من الآثار والنقوش والكتابات الكلاسيكية "اليونانية واللاتينية" التي عاصر كتابها ما كانوا يكتبون عنه. كما حاولت أن أحسم مسألة الانتفاع العلمي الكامل بمصدرين معاصرين أساسيين، فطرحت للمناقشة قيمة الاعتماد على الشعر الجاهلي كمصدر تاريخي وإلى أي حد يجوز لنا اعتماد ذلك، كما حاولت أن أبين كيفية الاعتماد على آيات القرآن الكريم بشكل علمي لا يزال الانتفاع به حتى الآن أقل من القليل. وتبقى في نهاية الحديث كلمة شكر أوجهها إلى عدد من الذين أسهموا في ظهور هذه الدراسة في شكلها الحالي، فقد شارك تلميذي وزميلي الدكتور إبراهيم بيضون في صياغة عنوان الدراسة بما يتطابق مع مضمونها، كما قام الأستاذ أمين منيمنة برسم الخرائط اللازمة لها وإن كان ما جاء بها من تحديد تقريبي للمواضع قد لا يتفق مع الدقة الجغرافية هو من تسجيل الباحث وعليه تقع مسئوليته. أما عن دار النهضة العربية التي نشرت هذه الدراسة فلها كل التقدير على ما أبداه كل أفرادها من سعة صدر في الالتزام بمتطلباتي التي كثيرًا ما وصلت إلى درجة الإرهاق. وأخيرًا وليس آخرًا, فهناك دائما زوجتي التي ساندت وساعدت وعانت في سبيل إخراج هذه الدراسة ربما أكثر مما بذلت في كتابتها. ل. ع.ى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 المحتوى تقديم القسم الأول المنطقة والشعب والأرض الباب الأول: منطقة نشوء الحضارات وشبه جزيرة العرب 17 - 39 1- أبعاد منطقة نشوء الحضارات 17 أ- تحديد المنطقة 17 ب- المنجزات الحضارية الأولى وهذه المنطقة 21 ج- المقارنة الحضارية بين هذه المنطقة والمناطق الأخرى 23 2- أسباب نشأة الحضارات الأولى في هذه المنطقة 26 أ- ظرف المناخ 27 ب- ظرف المواصلات السهلة 28 ج- الحدود شبه المانعة للمنطقة 30 3- شبه جزيرة العرب ضمن منطقة نشوء الحضارات 33 أ- حول الدور الحضاري لشبه جزيرة العرب 33 ب- مقدمات هذا الدور قبل ظهور الإسلام 35 الباب الثاني: الساميون وشبه الجزيرة والعرب 40 - 87 1- قضية الساميين أو الشعوب السامية 40 أ- افتراض لوجود عنصر سامي 41 ب- رد على هذا الافتراض 44 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 2- قضية أصل الساميين وشبه جزيرة العرب 49 أ- ملاحظات مبدئية 49 ب- افتراض أصل إفريقي للساميين 50 ج- افتراضات أصل آسيوي للساميين 54 د- حول أصل الساميين وشبه جزيرة العرب 58 3- الساميون والعرب 70 أ- ملاحظات حول فكرة موطن أصلي للساميين 71 ب- تصور مطروح حول هذه الفكرة 74 ج- العرب وفكرة الأصل السامي 81 الباب الثالث: شبه جزيرة العرب: الملامح العامة 89 - 118 1- الموقع والسطح والأقسام الطبيعية 89 2- المناخ 104 3- النبات والحيوان 107 القسم الثاني المصادر الباب الرابع: الآثار والنقوش 121 - 157 1- قيمة الآثار والنقوش في التأريخ لشبه الجزيرة 122 2- أمثلة من المخلفات الأثرية 128 أ- الآثار المعمارية 128 ب- النحت والمخربشات 136 ج- الفخار والعملة 140 3- النقوش 147 أ- نقوش عن الأحوال الداخلية لشبه الجزيرة 147 ب- نقوش عن العلاقات الخارجية لشبه الجزيرة 151 ج- تقويم عام للنقوش 155 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الباب الخامس: المصادر الدينية 159 - 194 1- القرآن الكريم 160 أ- أمثلة لأقوام شبه الجزيرة في القرآن 161 ب- أمثلة عن الحياة الدينية في شبه الجزيرة 171 ج- مثال لتكوين المجتمع في شبه الجزيرة 175 2- الحديث الشريف 179 3- التوراة والتلمود 182 الباب السادس: المصادر الكتابية 195 - 224 1- الكتاب الكلاسيكيون 196 أ- كتاب المرحلة المبكرة 196 ب- كتاب العصر المتأغرق 203 ج- كتاب العصر الروماني 206 د- كتاب المرحلة المتأخرة 217 2- الكتابات العربية في العصر الإسلامي 229 أ- صعوبات أمام الاعتماد على هذه الكتابات 229 ب- استثناءات ممكنة من هذا التعميم 235 الباب السابع: الشعر الجاهلي 1- الشعر كمصدر تاريخي 238 - 285 2- اعتراضات على الشعر الجاهلي كمصدر تاريخي 238 3- ردود على هذه الاعتراضات 252 4- حول مجالات الشعر الجاهلي 280 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 القسم الثالث المجتمع الباب الثامن: 289 الموارد الاقتصادية 290 1- الرعي 292 أ- الرعي والرعاة 294 ب- الموارد المكملة لحياة الرعاة 294 2- الزراعة والمحاصيل الطبيعية 304 أ- المورد الزراعي 304 ب- المحاصيل الطبيعية 306 3- التجارة 307 أ- أهمية هذا المورد ومظاهر ذلك 314 ب- طرق التجارة البرية 324 ج- النشاط التجاري البحري 333 4- التعدين والصناعة الباب التاسع: الأوضاع الداخلية 341 - 399 1- الوضع السياسي 342 أ- التكوينات السياسية 342 ب- نظام الحكم 358 2- الوضع الاجتماعي 367 أ- عوامل التماسك 367 ب- عوامل الانقسام 373 3- الوضع الديني 378 أ- تطور العقائد الدينية وانتشارها 379 ب- الظروف المحيطة بالحياة الدينية 392 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الباب العاشر: العلاقات الخارجية 400 - 440 1- المرحلة الأولى: ظهور الهوية العربية 400 أ- بدايات غير محددة 400 ب- العلاقات مع العبرانيين 404 ج- العلاقات مع القوى الشرقية 408 2- المرحلة الثانية: العلاقات مع القوات الغربية 420 أ- الإسكندر الأكبر والدول المتأغرقة 420 ب- العلاقات مع الإمبراطورية الرومانية 424 3- المرحلة الثالثة: العرب بين قوى الشرق والغرب 435 أ- الإمارات العربية الحدّية 435 ب- الدين والسياسة في الصراع الدولي 438 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 القسم الأول: المنطقة والشعب والأرض الباب الأول: منطقة نشوء الحضارات وشبه جزيرة العرب إبعاد منطقة نشوء الحضارات تحديد المنطقة ... الباب الأول: منطقة نشوء الحضارات وشبه جزيرة العرب 1- أبعاد منطقة نشوء الحضارات: أ- تحديد المنطقة: الحديث عن الحضارات القديمة لا يزال يشكل مجالًا خصبًا لكثير من المناقشات وكثير من التكهنات، سواء من حيث المناطق التي ظهرت فيها هذه الحضارات, أو من حيث توقيت ظهورها ومن ثَمَّ السبق الزمني لكل منها، فالكتابات التاريخية القديمة التي حاول أصحابها أن يقوموا بالتعريف بهذه الحضارات بشكل جدي لم تظهر إلا في فترة متأخرة من العصور القديمة، ومن ثم فإن القدر الأكبر من تاريخ هذه الحضارات لم يعاصره المؤرخون القدماء، وكانت سبيلهم الوحيدة إلى التعرف إليه هي ما استطاعوا أن يحصلوا عليه من أخبار المجتمعات القديمة عن طريق الرواية أو عن طريق المعلومات المتناثرة التي كانت تتأرجح بشكل غير محدد بين الحقيقة والمبالغة والأسطورة. كذلك لم تكن كتابة التاريخ تمارس آنذاك على أساس علمي كما هو الحال في الوقت الحاضر، ومن ثم فإن المؤرخ القديم لم يكن في مقدوره دائمًا أن يقوم بتحقيق المعلومات التي يجمعها، بل إنه في أغلب الأحوال لم يكن يرى من الضروري أساسًا أن يقوم بمثل هذا التحقيق ليميز بين ما هو حقيقي وما هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 غير حقيقي. هذا إلى أن هؤلاء المؤرخين القدماء لم يتناولوا في كتاباتهم إلا أماكن أو مناطق محدودة، هي التي أثارت انتباههم لسبب أو لآخر، أو هي التي استطاعوا أن يصلوا إليها أو يسمعوا عنها؛ ومن هنا فإن هذه الكتابات، حتى إذا تغاضينا عما جاء فيها من عيوب في جمع المعلومات أو تدوينها، لا يمكن أن ننظر إليها على أنها حصر لكافة الحضارات التي ظهرت في العصور القديمة أو لترتيبها الزمني. فإذا انتقلنا إلى علم الآثار الذي يعني بالتنقيب عن المخلفات القديمة وكشفها وتفسير مدلولاتها، نجد أن هذا العلم لم يبدأ إلا منذ فترة وجيزة نسبيًّا لا تزيد في عمومها على قرن ونصف القرن. وفي هذا المجال فإننا إذا تغاضينا عن مجهودات الهواة أو المجهودات الاستطلاعية الفردية أو شبه الفردية، فإننا نجد أن التنقيبات الأثرية التي قامت على أساس منظم ومنتظم تدعمه الإمكانات العلمية والمادية لم يبدأ في مصر، على سبيل المثال، إلا في أواسط القرن الماضي, ولم يبدأ في العراق إلا في أواخره، ولم يبدأ في شبه الجزيرة العربية إلا في أواسط القرن الحالي، وهكذا نجد أنفسنا -مرة أخرى- بعيدين عن ادعاء المعرفة اليقينية بكل الحضارات السالفة أو بالتوقيت الدقيق لظهور ما نعرفه من بينها. وما أكثر ما يؤدي كشف أثري في منطقة أو في أخرى إلى تعديل في تواريخ ظهور الحضارات القديمة قد يصل إلى عدة قرون، أو إلى تسبيق ظهور حضارة على حضارة يؤدي إلى تعديل جذري في ترتيب كان معترفًا به، بكل ما يستتبعه هذا من تغيير في الأبعاد الحضارية من حيث التأثر والتأثير والتأصيل والتفصيل في الجوانب المتعددة التي تتشكل من مجموعها ومن تداخلاتها وتفاعلاتها هذه الحضارات. ومن هنا فمن المرجح، أو على الأقل من المحتمل، أن هناك حضارات أخرى وجدت في فترة أو أخرى من العصور القديمة، غير تلك الحضارات التي وصل إلينا العلم بها، ولكنها لم تكشف إلا في حدود ضيقة أو لم تكشف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 إطلاقًا حتى الآن, وربما كانت هذه الحضارات التي نجهلها أو نجهل أغلب مراحل تطورها، محلية في طبيعتها, وربما أثرت في الحضارات التي نعرف عنها ما يمكننا من تتبع تطورها وتسجيل صورة عامة أو متكاملة لها. ومن بين المناطق التي تدخل ضمن هذا الإطار، على سبيل المثال، المنطقة الممتدة في أواسط القارة الآسيوية التي شهدت منذ فترة موغلة في القدم قبل بداية التاريخ المعروف حتى الآن إنجازات حضارية في مجال زراعة الحبوب وتدجين الحيوانات واستخدام المعادن وزخرفة الأواني الفخارية، وهي منطقة آناو ANaU في جنوبي تركستان, التي كشف العالم الأثري بمبللي PUMPeLLI في 1907 عن مخلفات أثرية تثبت وجود هذه الإنجازات بها منذ بدايات الألف الخامسة ق. م. على أقل تقدير. وهي إنجازات تشير إلى أن بدايات التطور الحضاري الذي وصل بها إلى هذه المرحلة الحضارية يرجع إلى تاريخ أقدم من هذا بكثير1, ولكن هذه المنطقة شهدت تغيرًا مناخيًّا بدأ فيه الجفاف يزحف عليها بعد أن كانت منطقة أمطار غزيرة تكفي للزراعة والرعي والاستقرار، وعلى أثر هذا الجفاف بدأت الهجرة منها إلى كل الجهات تقريبا، ومن ثم بدأ اختفاء المظاهر الحضارية فيها. ومن بين ما يذكر ضمن هذا الإطار كذلك شذرات عن حضارة قارة أطلانطيس ATLaNTIS التي يتلمس الباحثون شيئًا عن وجودها في حقبة من حقب الماضي السحيق قبل أن تهبط، في حدود الافتراض العلمي السائد الآن، لتستقر في قاع المحيط الأطلسي من شمالي هذا المحيط إلى جنوبيه2، نتيجة لتحركات جيولوجية، وغير هذه الأحاديث أحاديث   1 "CaMbRIDGe ANCIeNT HISTORY "C A H ط 3 ج1، القسم الأول "1970" صفحات 169، 253، 298-303، 460-461. وقد وجدت مخلفات أثرية في بعض مناطق إيران قريبة في أوصافها من تلك التي وجدت في آناو لدرجة توحي بصلات حضارية بين المنطقتين في فجر الحضارة "حوالي 4000ق. م.". قارن المرجع ذاته: صفحات 294، 298، 299. 2 أول إشارة وردت في هذا الصدد نجدها عند أفلاطون "حوالي 429-347 ق. م." في محاورات: Timaeos 25 , KritiaS 113 وتدور حول حضارة قديمة ظهرت في جزيرة تخيلها أفلاطون "أو بالأحرى سمع بها من الأساطير المتواترة في عصره" قرب الشواطئ الغربية لأوروبة وأفريقية ثم هبطت في قاع المحيط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أخرى يرد بعضها, نتيجة لروايات متواترة أو لبقايا أثرية لا تزال قائمة, عن دول وحضارات قديمة سادت في مجموعة جزر بولينيزية بالمحيط الهادي، ثم بادت في وقت من الأوقات3. وفي ضوء هذه الاعتبارات السابقة فإن أي تحديد للمنطقة التي نشأت فيها أولى الحضارات القديمة لا يمكن، بالضرورة إلا أن يكون تحديدا نسبيا. ومن منطلق هذا التحديد النسبي لنا أن نفترض أن منطقة نشوء الحضارات هي تلك المنطقة التي ظهرت فيها حتى الآن أقدم الحضارات التي عرفنا عنها شيئا متكاملا أو قريبا من التكامل من جهة، والتي كان لها، من جهة أخرى, حتى بعد أن اضمحلت وسقطت، تأثير مستمر على الحضارات التالية لها لتترك بذلك طابعها، بشكل مباشر أو غير مباشر، على المسيرة الحضارية التي تعيش الآن أحدث مراحلها. وفي حدود هذا الإطار فإن مجموعة الحضارات القديمة المتكاملة والمؤثرة بالشكل الذي ذكرته تقع ضمن منطقة حدودها الجغرافية هي خطوط الطول من 10 إلى 70 شرقًا، وخطوط العرض من 10 إلى 45 شمالًا، وتشمل من   3 الظواهر الموجودة في بعض هذه الجزر، مثل التماثيل البالغة الضخامة في "جزيرة الفصح" Easter Island، وعدد من القصص الشعبية التي تواترت عن طريق الرواية لتصف عهدًا كان فيه محاربون من الأبطال وأمم قوية في جزيرتي "ساموا" samoa و"تاهيتي" Tahiti والمقدرة الفنية والحساسية الشعرية عند السكان الحاليين لهذه الجزر، كلها توحي بأننا لسنا بصدد حضارة جديدة في طريق الصعود بقدر ما نحن بصدد حضارة قديمة كانت موجودة ثم اندثرت: راجع: will Durant: the story of Civilization ج1، ط22 "1954 New york"، ص 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الشرق إلى الغرب "بغض النظر عن الترتيب الزمني لظهور هذه الحضارات": إيران ووادي الرافدين وآسيا الصغرى وسورية "بالمعنى الجغرافي الذي يشمل المنطقة الممتدة من حدود آسيا الصغرى شمالًا إلى حدود مصر عند الحد الشرقي لشبه جزيرة سيناء جنوبا" وبعض مناطق شبه جزيرة العرب -هذا في القارة الآسيوية، ثم مصر في آسيا وإفريقيا، ثم قرطاجة في إفريقيا، ثم بلاد اليونان وشبه جزيرة إيطالية وسواحل شبه جزيرة أيبريه "أسبانية والبرتغال في الوقت الحالي" في القارة الأوروبية، ثم عددًا من الجزر الواقعة في البحر المتوسط أهمها جزيرة كريت4.   4 راجع ملحق الخرائط, خريطة رقم 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ب- المنجزات الحضارية الأولى وهذه المنطقة : في هذه المنطقة -والحديث هنا هو عن العصور القديمة- ظهرت المنجزات الحضارية الأولى للإنسان, ففي مجال تنظيم المجتمع ظهرت أول مجموعة قانونية متكاملة تنظيم القيم الجماعية والعرف والتقاليد والسوابق وتغطي ثغراتها، في وادي الرافدين على زمن حمورابي "ثم بشكل متطور في فترة متأخرة عند الرومان". وفي مجال العقائد الدينية ظهرت فكرة التوحيد لأول مرة على يد إخناتون في مصر. كذلك ظهرت أولى الرسالات السماوية في سورية "ليعقبها ظهور الرسالتين السماويتين الأخريين مرة في سورية ومرة في شبه الجزيرة العربية". وفي مجال العلوم شهدت المنطقة أولى المحاولات لتحويل المعرفة القائمة على التجربة أو الخبرة إلى نسق علمي في ميادين الفلك والرياضة، لتتطور بعد ذلك إلى نظريات علمية متكاملة عند اليونان، وفي مجال الهندسة المعمارية ظهرت أولى السدود المستخدمة في التحكم في المياه وتخزينها في وادي الرافدين واليمن، كما ظهرت أولى معجزات البناء الذي ترتكز فيه عشرات الآلاف من أطنان الحجر على سقف غرفة صغيرة في أهرام مصر. والشيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ذاته ينطبق على تحويل الصور المستخدمة للتعبير كتابيا عن الأسماء والأشياء إلى قيم صوتية، ومن ثم إلى أول حروف هجائية يعرفها العالم -توصل إليها المصريون في البداية وإن كانوا لم يضمنوها حروف الحركة "حروف العلة" كما استبقوا في آخر كل كلمة مكتوبة بالحروف الهجائية علامة تخصيص أو تمييز بالطريقة التصويرية القديمة، ثم نقلها الفينيقيون بوضعها الذي لا تظهر فيه حروف الحركة ولكنهم طوروها بتنقيتها من علاقات التخصيص التصويرية فأصبحت حروفا هجائية صرفة، ثم نقلوها إلى اليونان الذين استكملوها بزيادة حروف الحركة إليها. وأخيرا، وليس آخرا، فقد كانت منطقة نشوء الحضارات التي نتحدث عنها هي المنطقة التي عرفت تطور النظم والنظريات السياسية في شكلها الناضج من بداياتها الفردية التي تقوم على المساندة الإلهية أو الحق الإلهي للحاكم حتى وصلت عند اليونان إلى أوسع مراحل هذه النظم والنظريات شعبية، وهي مرحلة الديمقراطية5.   5 راجع النص الكامل لتشريعات حمورابي في: j. b. pritchard "ed.": ancient near eastern texts, reluting to the old testamen: anet "ط 2 1966 priceton صفحات 163- 179 ترجم النص الأكدي إلى الإنكليزية theOphile meek هذا وقد سبقت هذه المجموعة مجموعات تشريعية أخرى في وادي الرافدين كذلك ولكنها لم تكن متكاملة، مثل مجموعة ليييت عشتار lippit - lshtar ومجموعة إيشنونه eshnuna المرجع ذاته: صفحات 159-162. فيما يخص المجموعات التشريعية في القانون الروماني، راجع على سبيل المثال مجموعة جوستنيان، ويجد القارئ ترجمة إنجليزية لهذه المجموعة هي: i.b.moyle: the institutes of justinian، ط 5 "1913 oxford" ويجد القارئ العربي ترجمة لها "عن الفرنسية" قام بها عبد العزيز فهمي: "مدونة جوستنيان"، دار الكاتب المصري، القاهرة 1946. ثم "ملاحق مدونة جوستنيان" مطبعة جامعة فؤاد الأول "القاهرة حاليا" 1951. فيما يخص فكرة التوحيد عند إخناتون راجع: cyril aldred: akhenaten، طبعة abascus، "1972 london"، صفحات 123-141. عن ظهور الحروف الهجائية في مصر وانتقالها إلى الفينيقيين الذين طوروها راجع: S.R.K. glanville "ed.": the legacy of egypt oxford, 1963" صفحات 53 - 64، مقال بقلم Alan a. gardiner تحت عنوان: writing and literature عن النظريات السياسية اليونانية راجع، على سبيل المثال، أفلاطون في محاورات "الدولة" politeia و"رجل الدولة" politikos، وأرسطو في "السياسة" politika عن النظام السياسي الشعبي عند اليونان راجع، على سبيل المثال: paul cloche: la democratie athenjenne pars 1952". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ولم تكن هذه المنجزات مجرد نشاط حضاري ظهر وانقرض في الحدود المحلية للمنطقة. وإنما كانت منجزات أثرت في غيرها من المناطق واستمر تأثيرها كأساس للتطور الحضاري فيما بعد، فعن منطقة الشرق الأدنى أخذ اليونان دروسهم الأولى وطوروها، ثم أعادوها للشرق الأدنى في أعقاب فتوح الإسكندر كما صدروها للرومان، وعممها هؤلاء في الإمبراطورية الرومانية التي شملت كل حوض البحر المتوسط وجزءًا من منطقة الشرق الأدنى، وعن هذا التراث كله أخذ العرب بعد ظهور الدعوة الإسلامية والفتوح العربية التي أعقبتها وطورها وأضافوا إليها. وعنهم وعما تبقى من التراث اليوناني الروماني أخذت أوروبا في عصر النهضة أو عصر الإحياء "القرن السادس عشر الميلادي"، وفي بدايات العصر الحديث، لتطورها بدورها وتنشرها في العالم الحديث بما فيه الوطن العربي، ليسترد بذلك جزءًا من تراثه القديم في صورته المتطورة الحديثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ج- المقارنة الحضارية بين هذه المنطقة والمناطق الأخرى : هذه المنطقة التي اصطلحنا على تسميتها منطقة نشوء الحضارات، مرة أخرى في حدود ما تم اكتشافه حتى الآن من الحضارات القديمة، كانت، كما رأينا، منطقة الحضارات القديمة المؤثرة التي أسهمت في التطور الحضاري المستمر، ونحن نستطيع أن ندرك هذا بشكل واضح إذا ألقينا نظرة مقارنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 سريعة على بقية المناطق الموجودة في العالم القديم. ففي المنطقة الواقعة إلى شمالي هذه المنطقة، نجد بقية القارة الأوروبية والجزر البريطانية، وهي منطقة لم تدخل على مسرح التاريخ الحضاري إلا بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية ابتداء من القرن الخامس الميلادي. وحتى بعد ذلك فقد ظلت حتى عصر النهضة في أوائل القرن السادس عشر الميلادي في شبه انغلاق مظلم على نفسها، بينما ظلت الجزر البريطانية في انعزالها الحضاري حتى أوائل العصر الحديث. والسبب في ذلك هو سلسلة الحواجز الجبلية التي تمتد إلى جنوبي هذه المنطقة وتكاد تفصل بينها وبين حوض البحر المتوسط في حاجز يكاد يكون مستمرًا من غربي أوروبا إلى شرقيها والتي تشكل سياجًا طبيعيًّا مانعًا أو شبه مانع، إذا استثنينا بعض الفجوات أو الممرات التي لا تسمح بأكثر من تسرب حضاري ضئيل وبطيء، ومن ثم غير مؤثر في الأحوال العادية. وإذا كان الرومان قد انطلقوا من خلاله في أواخر العصور القديمة إلى غاله "فرنسا الحالية" وإلى بريطانية، فإن انطلاقهم كان في حالة "غاله" لا يشكل إلا حركة تأمين لحدود الإمبراطورية الرومانية ضد القبائل الكلتية المتبربرة الموجودة في هذه المنطقة، ولا يشكل في حالة بريطانية أكثر من فضول استعماري -وفي كلتا الحالين لم يترك أكثر من بعض الآثار اللغوية في المنطقتين. وباستثناء ذلك فقد بقيت المنطقة الأوروبية الواقعة إلى شمالي منطقة نشوء الحضارات طوال العصر القديم مغلقة على نفسها، ومن ثم منعدمة التأثير من الناحية الحضارية. والشيء ذاته نجده في المنطقة الواقعة إلى جنوبي منطقة نشوء الحضارات والتي يسكنها العنصر الأسود أو الزنجي إلى الجنوب من الصحراء الكبرى التي تمتد عبر القارة الإفريقية من غربها إلى شرقيها. إذ لم تكن هناك طريق لاتصال هذا العنصر بمنطقة نشوء الحضارات إلا نهر النيل والوادي الضيق الذي يحدُّه من الشرق والغرب. ولكن هذه الطريق لم تكن تساعد على أكثر من التسرب البسيط المتقطع لسببين: أولهما أن النيل، كوسيلة للمواصلات، تعترضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 من شمالي السودان وحتى الطرف الجنوبي لمصر مجموعة من الجنادل والشلالات التي تقف حاجزًا في سبيل الملاحة النهرية، والثاني هو انحسار الوادي في أقصى جنوب مصر بحيث تكاد الصحراء تلتصق بمجرى النهر مما يحول دون أي نزوح أو اتصال بشري وحضاري على نطاق واسع. وهكذا فإن هذا الجنوب الزنجي، إذا كانت له منجزات حضارية قديمة، فإنها بقيت مغلقة في أرجائه دون أن تجد سبيلها للانتشار وللتأثير في استمرار التطور الحضاري6. ونأتي أخيرًا إلى المنطقة المترامية الواقعة إلى الشرق من منطقة نشوء الحضارات والتي يقطن أغلبها الجنس الأصفر أو العنصر المغولي. إن هذه المنطقة لم تظهر فيها الحضارة إلا في وقت متأخر كانت فيه حضارات الشرق الأدنى "وهو جزء من منطقة نشوء الحضارات" قد وصلت إلى درجة كبيرة من التقدم، ففي الصين مثلا، التي كان يعتقد خطأ أنها ذات حضارة بالغة في القدم، نجد أن أول قطعة معدنية تشير إلى استخدام الصينيين للمعادن ترجع إلى القرن الثاني عشر "1200" ق. م. أي بعد استخدام المعادن في مصر بنحو ثلاثة آلاف سنة على الأقل، وبعد استخدامها في غربي آسيا بأكثر من ذلك. أما عن الكتابة، فإن أقدم وثيقة مكتوبة باللغة الصينية عثر عليها حتى الآن ترجع إلى القرن الحادي عشر ق. م. أو إلى القرن الذي يسبقه على أكثر تقدير، أي بعد 1000 سنة من ظهور الكتابة في منطقة الشرق الأدنى. وفوق هذا فإن قبائل الجنس الأصفر، التي حملتها هجراتها في اتجاهات متعددة بسبب الجفاف والقحط الذي كان دائم الزحف على امتدادات وسط آسيا، حين وصلت عن طريق هذه الهجرات إلى منطقة نشوء الحضارات، كانت الإنجازات الحضارية قد وصلت في هذه المنطقة إلى ذروة نضجها7.   6 j.b.breasted: ancient times, ahistory of the early world ص133. ط 2 "1944 boston". 7 المؤلف ذاته: المرجع ذاته: صفحات 132 - 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أسباب نشأة الحضارات الاولى في هذه المنطقة مدخل ... 2- أسباب نشأة الحضارات الأولى في هذه المنطقة: المنطقة التي نحن بصدد الحديث عنها، إذن، والتي أطلقنا عليها اصطلاحًا اسم منطقة نشوء الحضارات كانت، كما رأينا، أسبق من غيرها في ظهور الإنجازات الحضارية الأولى -مرة أخرى في حدود ما نعرفه من الحضارات القديمة حتى الآن. ولكن ما هي الظروف التي اختصت هذه المنطقة دون غيرها بالسبق الحضاري؟ هل هي الصدفة التاريخية؟ إن الصدفة التاريخية قد تلعب في أحيان غير قليلة دورًا كبيرًا في تحويل مسار الحضارة البشرية، وهو أمر من الطبيعي أن يسوقنا إلى التساؤل عما إذا كانت كذلك قد لعبت دورا في ظهور الحضارة البشرية. ولكن مع ذلك فالحديث عن عامل الصدفة حديث لا يمكن ضبطه أو تقنينه؛ ومن ثم، فرغم كونه واردًا من حيث الاحتمال، إلا أن الخوض فيه يصبح من قبيل الحديث عن الغيبيات التي يمكن أن تؤدي بنا إلى آفاق مجهولة. كذلك هل نستطيع أن نعزو السبق الحضاري لمنطقة نشوء الحضارات إلى أسباب تتعلق بالتفوق العنصري للسكان الذين قطنوا هذه المنطقة منذ أقدم العصور البشرية؟ إن أحدث البحوث الأنثروبولوجية "المتعلقة بعلم الإنسان" قد أثبتت أن التفوق العنصري، فضلًا عن النقاء العنصري أصلا، خرافةً لا تقوم على أسس علمية8. هذا، فضلا عن أن استقراء الواقع التاريخي منذ أقدم العصور حتى الوقت الحاضر، يثبت بشكل قاطع أن الإنجاز الحضاري لم يكن حكرا على عنصر بشري دون غيره من العناصر؛ ومن ثم يصبح الخوض في الحديث عن التفوق العنصري، هو الآخر، أمرًا لا يرتكز على أسس علمية يمكن أن نثق بنتائجها. هل هناك أسباب أخرى لهذا السبق الحضاري الذي تميزت به المنطقة؟   8 خوان كوماس "ترجمة محمد رياض": القاهرة 1960، ص 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ربما كانت هناك أسباب متعددة، ولكن يوجد على الأقل سبب واحد لا يمكن أن نتجاهل أثره على المجموعات البشرية. وهذا السبب يكمن في ظروف البيئة الجغرافية في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها. وظروف البيئة أمر أثبت البحث العلمي أثره الفعال على المجموعات البشرية في كل العصور, وبخاصة في العصور القديمة التي لم يكن فيها الإنسان قد سيطر بعد على الطبيعة بالشكل الذي عرفه في العصور التالية والذي نعرفه الآن، ومن ثم كان أكثر تأثرًا وانطباعًا بهذه الظروف, فإما أن تكون ظروف البيئة مواتية للنشاط البشري فيكون هناك انطلاق وإنجاز. وإما ألا تكون مواتية فيكون هناك تقييد وجمود، وقد كان هناك أكثر من ظرف جغرافي ترك أثره بشكل واضح على منطقة نشوء الحضارات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 أ- ظرف المناخ : وقد كان المناخ أحد الظروف الجغرافية الرئيسية التي أثرت على المنطقة, وكان المناخ الذي سادها مواتيا للنشاط البشري بشكل ملحوظ. ونحن نستطيع أن ندرك ذلك بصورة واضحة إذا عرفنا أن الخطوات الأولى التي خطاها الإنسان على طريق الحضارة في العصر الحجري القديم. وهو أول العصور الحضارية للمجموعات البشرية، قد عاصرت الدهر البليستوسيتي، وهو أحدث الدهور الجيولوجية في تاريخ الأرض، وكان ابتداؤه منذ نحو نصف مليون سنة ونهايته في أوائل الألف العاشرة ق. م. تقريبا. لقد شهدت الأرض في هذا الدهر أربع فترات طويلة من الزحف الجليدي على المناطق الشمالية من الكرة الأرضية امتدت كل منها عبر عشرات الآلاف من السنين، كانت تناظرها في المناطق الاستوائية أربع فترات من الأمطار السيلية الغزيرة, وهذه ظروف تجعل الهم الأول والأخير للإنسان أن يتفادى قسوتها, ومن ثم لا يمكن أن تكون مواتية لأي نشاط بشري إيجابي سواء في المنطقة الشمالية أو في المنطقة الاستوائية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ولكن على عكس ذلك كانت الظروف الجغرافية في منطقة نشوء الحضارات. لقد كانت هذه المنطقة تقع في مكان وسط بين الظروف الجغرافية القاسية, سواء بسبب الزحف الجليدي في المنطقة الشمالية، أو بسبب الهطول المستمر للأمطار السيلية الغزيرة في المنطقة الاستوائية. وهكذا تمتعت بمناخ معتدل نسبيا لا يعوق النشاط الإيجابي للمجموعات البشرية التي تقطنها، ومن ثم كان تحرك هذه المجموعات لا ينصرف كله إلى مجرد الاحتماء من الظروف الجغرافية القاسية، وإنما أصبح المجال مفتوحا لما يمكن أن نسميه الحوار بين هذه المجموعات البشرية وظروف البيئة التي تحيط بها، تتغلب على صعوباتها تارة وتنتفع بميزاتها تارة أخرى؛ ومن ثَمَّ كانت الإنجازات الحضارية الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ب- ظرف المواصلات السهلة : على أن المناخ الملائم للنشاط الإنساني لم يكن هو الظرف الجغرافي الوحيد الذي يسر لسكان المنطقة سبل التحرك الحضاري المبكر، وإنما كانت هناك ظروف أخرى، من بينها: سهولة المواصلات بين أرجاء المنطقة. وسهولة طرق المواصلات معناها تيسير الالتقاء والتعامل بين المجموعات السكانية في أرجاء المنطقة المختلفة، ومن ثم الانتفاع المتبادل بتجارب كل مجموعة، الأمر الذي يؤدي إلى تطوير الإنجازات البشرية على طريق التقدم. ونحن إذا نظرنا إلى خريطة المنطقة التي أسميناها منطقة نشوء الحضارات, نجد طرق الاتصال بين أقسامها المختلفة ميسرة إلى حد كبير، سواء في ذلك طرق الاتصال البري أو طرق الاتصال عن طريق البحر. فمن إيران في الطرف الشرقي للمنطقة نجد طريقين بريتين توصلان إلى منطقة وادي الرافدين، إحداهما في محاذاة الساحل الجنوبي، والثانية عبر الممرات الموجودة في جبال زاجروس، ومن وادي الرافدين نجد طريقين بريتين توصلان إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 آسيا الصغرى وإلى المنطقة السورية, ومن المنطقة السورية تمتد طريق برية ساحلية إلى مصر. بينما تخترق شبه الجزيرة العربية عدة طرق، إحداها من اليمن إلى سورية عن طريق مكة، وأخرى من اليمن إلى وادي الرافدين عن طريق نجد والمنطقة الشمالية الشرقية لشبه الجزيرة, وثالثة بين اليمن والمنطقة الشرقية وهكذا. وقد ظهرت آثار هذا الاتصال السهل بشكل واضح في العصور التاريخية في هذه المنطقة سواء من حيث التأثيرات الفنية والأدبية والفكرية والدينية بين أنحاء المنطقة أو من حيث النزاعات العسكرية والعلاقات والاحتكاكات السياسية، ولكن ما يهمنا الآن فيما يخص الخطوات الحضارية الأولى لسكان هذه المنطقة، هو أن التجارب والإنجازات الأولى سواء من ناحية استخدام المعادن وأنواع الأحجار التي قد تتوفر في قسم المنطقة دون قسم آخر أو تنظيم المجموعات البشرية الأولى على هيئة مجتمعات قروية أو طرز الأدوات التي كانوا يستخدمونها أو الأساطير التي كانت تمثل محاولة تغلب الإنسان البدائي على أسرار الكون المحيطة به -كل هذه التجارب كان تبادلها، تأثرا وتأثيرا, أمرًا واضحًا في علاقات المجتمعات التي قامت في المنطقة؛ نتيجة لسهولة هذه المواصلات البرية بين أرجائها. وكما أسلفت، لم تكن هذه المواصلات البرية هي التي تفردت بهذه السهولة، وإنما كانت البحار كذلك عاملًا أسهم إلى حد كبير في هذه السهولة. فالبحر المتوسط، في حقيقة أمره يشكل استمرارًا نحو الغرب لهذه المواصلات السهلة. والبحر المتوسط له ميزات تجعله من أنسب طرق الاتصال المائية التي تشجع الإنسان الأول وتساعده على الحركة والانتقال. وأول هذه الميزات أنه بحر هادئ إلى حد كبير، بل هو في الواقع يكاد يكون بحيرة مغلقة إذا استثنينا المضيق الموجود عند طرفه الغربي والذي أصبح يعرف منذ الفتح العربي باسم مضيق جبل طارق, ومضايق البسفور والدردنيل الواقعة عند طرفه الشرقي، وحتى هذه توصِّل إق بحر مغلق هو البحر الأسود, ومثل هذا الهدوء يعتبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أكبر عون للإنسان الأول في انتقالاته المائية. كذلك فإن عاملا آخر ييسر إلى حد كبير اتصال المجموعات البشرية الأولى، وهو تقارب شواطئه المطلة على القارات الثلاثة: آسيا وإفريقيا وأوروبا لدرجة تكاد تصل إلى التلاصق في بعض الأحيان، فنحن نجد مثلا هذا التقارب الشديد بين الشاطئ الآسيوي والأوروبي عبر مداخل البحر الأسود، ونلحظه مرة أخرى بين الطرف الجنوبي الغربي لشبه جزيرة إيطالية والطرف الشمالي الشرقي لقرطاجة "تونس الحالية" عبر جزيرة صقلية, في المنطقة الوسطى للبحر المتوسط، ثم نشاهده مرة ثالثة في أقصى الغرب بين الطرف الجنوبي لشبه جزيرة إيبرية الأوروبية وبين الطرف الشمالي الغربي للقارة الإفريقية، وليس هذا كل شيء فبين شبه جزيرة آسيا الصغرى وبين الشواطئ الأوروبية في شبه جزيرة البلقان عدد من الجزر الصغيرة والكبيرة يبلغ عدة مئات تكاد تشكل جسرا متصلا بين القسم الآسيوي والقسم الأوروبي من منطقة نشوء الحضارات، وهوجسر كان له أكبر الأثر في تيسير التحركات البشرية في العصور الأولى للنشاط الحضاري الإنساني. هذا إلى وجود عدد من الجزر الكبيرة التي تمتد من شرقي البحر المتوسط إلى غربيه لتشكل ما يمكن أن نعتبره محطات تساعد الملاح الأول على الانتقال في هذا البحر. من بينها، ابتداء من الشرق إلى الغرب، جزيرة قبرص وجزيرة كريت وجزيرة صقلية وجزيرتا قورصقة وسردينية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ج- الحدود شبه المانعة للمنطقة : وإذا كانت طرق المواصلات السهلة في منطقة نشوء الحضارات قد ساعدت على تيسير الاتصال ومن ثم التعامل والانتفاع المتبادل بتجارب المجموعات البشرية التي تقطنها، فإن ظرفًا جغرافيًّا آخر قد ساعد على تكثيف هذا الاتصال عن طريق حصره إلى حد كبير في المنطقة. هذا الظرف يتعلق بالحدود شبه المانعة لهذه المنطقة بالشكل الذي يوجه اتصال سكان المنطقة إلى داخلها وليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 إلى خارجها بشكل يكاد يكون تامًّا في العصور القديمة, إذا استثنينا بعض اتصالات بسيطة ومتباعدة وغير منتظمة. ونحن نستطيع أن نلمس ذلك إذا تتبعنا حدود المنطقة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. فعند الطرف الشرقي للهضبة الإيرانية تمتد الجبال المحاذية للشواطئ الغربية لنهر السند من الجنوب لكي تلتحم في أقصى الشمال بجبال الهملايا، وتشكل بذلك، هي والكثافة السكانية الكبيرة إلى شرقيها في الهند، حاجزًا يتوقف عنده التوجيه الحضاري والتاريخي لهضبة إيران. وعلى طول الحدود الشمالية لهذه الهضبة نجد امتدادات آسيا الوسطى بسهولة ومناطقها المقفرة، فإذا اتجهنا غربا نجد مرتفعات أرمينية ثم جبال يونتوس في شمالي شبه جزيرة آسيا الصغرى، حتى إذا تخطينا مداخل البحر الأسود إلى القارة الأوروبية وجدنا سلاسل جبال الكريات والألب الدينارية التي تحد شبه جزيرة البلقان من الشمال، ثم جبال الألب التي تقع إلى شمالي شبه الجزيرة الإيطالية وإلى جنوبي فرنسا، ثم سلسلة جبال البرانس التي تحد شبه جزيرة إيبرية "إسبانية والبرتغال الحاليين" في أقصى الغرب. فإذا انتقلنا إلى جنوبي البحر المتوسط ونظرنا إلى السهل الساحلي الذي يمتد بطول هذا البحر وجدنا جبال أطلس ثم النطاق الصحراوي الذي تشكله الصحراء الإفريقية الكبرى من غربي القارة حتى تعبر وادي النيل في مصر وتستكمل امتدادها شرقا تحت اسم صحراء العرب التي تنتهي عند سلسلة الجبال المحاذية للساحل الغربي للبحر الأحمر. أما وادي النيل الذي يخترق هذه الصحراء من الشمال إلى الجنوب فنجد أنه حين يصل إلى حدود مصر الجنوبية يعترضه حاجزان رئيسيان سبق أن أسلفت الإشارة إليهما وهما: الجنادل والشلالات التي تعترض مجرى النيل، ومن ثم تعترض الملاحة النهرية فيه، ثم انحسار الوادي على جانبي النهر مما لا يسهل أية اتصالات سكانية وحضارية واسعة النطاق مع المنطقة التي تلي ذلك جنوبا. فإذا عبرنا البحر الأحمر إلى شبه الجزيرة العربية وانحدرنا جنوبا إلى الساحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الجنوبي لها, وجدنا المحيط الهندي، تلك المساحة المائية التي لا تليها أرض إلى الجنوب9 وحقيقة: إن هذا المحيط قد أصبح في فترة متأخرة نسبيًّا طريق مواصلات سهلة تصل بين منطقة نشوء الحضارات وغيرها، ولكن هذا حدث بعد أن كانت المنطقة قد استقرت على شكلها الحضاري بعد فترة التكوين الحضارية الأولى. في داخل هذه المنطقة بحدودها الجغرافية التي تكاد تعزلها عن المناطق الأخرى المحيطة بها، تركزت التحركات الحضارية الأولى، ومن ثم تطورت وتعمقت التجربة الحضارية بدلًا من أن تتبعثر وتتسطح أو ربما تندثر. وقد ظل هذا الطابع ملازمًا للمنطقة حتى بعد أن تخطت مرحلة الظهور الحضاري إلى المرحلة التاريخية. وهكذا وجدنا التحركات الحضارية، سواء اتخذت شكلا سلميا أو سارت في طريق العنف، تتم داخل المنطقة وفي حدودها. فالهجرات البشرية التي انطلقت من شبه الجزيرة العربية استقرت على الساحل السوري وفي وادي الرافدين، والهجرات الفينيقية استقرت في قرطاجة والمناطق المحيطة بها على الساحل الإفريقي, وامتدت إلى شواطئ شبه جزيرة إيبرية في "أوروبا" والهجرات اليونانية استقرت في جزر البحر المتوسط وعلى كافة شواطئه، والإمبراطوريات المصرية والآشورية والفارسية, وإمبراطورية الإسكندر الأكبر والإمبراطورية الرومانية، كلها تمت داخل حدود المنطقة باستثناءات لا تكاد تذكر "كان هدفها الأساسي تأمين الحدود". والتراث الفكري والعلمي والأدبي والديني دار داخل المنطقة، منها وإليها, طوال العصور القديمة. وهكذا ينضم هذا الظرف الجغرافي المتصل بحدود المنطقة إلى الظرفين الآخرين المتعلقين بالمناخ وسهولة طرق المواصلات البرية والبحرية ليجعل من   9 راجع ملحق الخرائط، خريطة رقم 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 هذه المنطقة أنسب المناطق لنشوء الحضارات: مناخ معتدل أو شبه معتدل يساعد على النشاط الحضاري في وقت لم يكن الإنسان فيه قد تمكن بعد من تذليل مصاعب البيئة وعقباتها، وطرق اتصال سهلة تمكن المجموعات البشرية في داخل المنطقة من تبادل تجاربها الحضارية؛ ومن ثم تطويرها وتنميتها، وحدود شبه مانعة تؤدي إلى تركيز تلك التجارب وتعميقها بدلًا من بعثرتها وتسطيحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 شبه جزيرة العرب ضمن منطقة نشوء الحضارات حول الدور الحضاري لشبه جزيرة العرب ... 3- شبه جزيرة العرب ضمن منطقة نشوء الحضارات: أ- حول الدور الحضاري لشبه جزيرة العرب: وفي وسط منطقة نشوء الحضارات التي رأينا أنها تمتد من حدود الإمبراطورية الفارسية عند مشارف الهند شرقًا إلى حدود الإمبراطورية الرومانية عند شواطئ المحيط الأطلسي غربا, تقع شبه الجزيرة العربية في النصف الجنوبي من القسم الأوسط. وقد بدأ أقدم دور حضاري كبير في منطقة نشوء الحضارات فعلا في القسم الأوسط من المنطقة، ولكنه ابتدأ في النصف الشمالي منها، في مصر ووادي الرافدين وسورية، حيث أخذ هذا الدور يظهر بشكل واضح، بعد فترة تمهيدية طويلة، ابتداء من الألف الرابعة ق. م. أما النصف الجنوبي الذي تشغله شبه جزيرة العرب فقد تأخر دوره الحضاري عن ذلك كثيرا. وفي الواقع فإن أقدم أقسام شبه الجزيرة من حيث الظهور الحضاري الملموس في العصور التاريخية القديمة، وهو القسم الجنوبي الغربي، لا نعرف عنه في مجال الإنجاز الحضاري إلا في فترة تعود إلى القرن الثامن ق. م. أو إلى القرن السابق له على أكبر تقدير10. وحقيقة إن المخلفات الأثرية في هذه   10 عثر في القسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية "منطقة الأحساء والقطيف حاليا" على مخلفات حضارية في شكل بقايا فخارية ترجع إلى حضارة عصر العبيد "4000-3500 ق. م". وتشير هذه إلى اتصالات حضارية مع وادي الرافدين حيث اكتشفت بقايا هذه الفترة الحضارية "راجع الباب الرابع الخاص بالآثار والنقوش في هذه الدراسة، وراجع ملحق الخرائط، خريطة رقم 5" ولكن هذه المخلفات الفخارية، حتى إن دلت على خطوات حضارية ذاتية مبكرة "وليست مجرد تأثر بحضارة وادي الرافدين في عصر العبيد، وهو أمر مرجح حتى الآن" فهو على أي الأحوال لم تستمر لتشكل كيانا حضاريا واضحا، ولم تمثل دورا حضاريا مؤثرا في العصور القديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المنطقة تشير إلى تقدم فن المعمار وإلى تنظيم واضح في مجال الأمور الداخلية للبلاد وإلى معرفة بالكتابة والخط المتطور كما تشير إلى نشاط خارجي تجاري وعسكري وسياسي, وكلها أمور تركت بعض التأثيرات الحضارية في الأماكن التي اتصلت بها هذه المنطقة أو امتد إليها نفوذها، إلا أن الأثر الحضاري الكبير، وهو ما يمكن أن نسميه بالدور الحضاري, لم يظهر سواء في القسم الجنوبي الغربي من شبه جزيرة العرب أو في بقية أنحاء شبه الجزيرة إلا بعد ذلك بما يقرب من خمسة عشر قرنا. لقد بدأ هذا الدور الحضاري المؤثر لشبه جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي على أثر ظهور الدعوة الإسلامية وانطلاق الفتوح العربية من شبه الجزيرة وعبر عن نفسه في ثلاثة تيارات متواكبة، تركت أثرها واضحًا على المسار التاريخي والحضاري آنذاك, ولا زال هذا الأثر مستمرا حتى الآن. وتمثل أحد هذه التيارات في نشر الدين الإسلامي وانتشاره بين مجموعات بشرية تمثل كل العناصر تقريبا وتنتشر في مناطق تمتد من المحيط الأطلسي غربا إلى جزر أندونيسية شرقا، وهو دين لا يقتصر على الجانب الروحي وإنما يشمل إلى جانبه طرقًا للتعامل تشكل أسلوبًا للحياة يمارسه في الوقت الحاضر أكثر من 450 مليون شخص. والتيار الثاني كان حركة التعريب التي انتهت بأن أصبحت اللغة العربية هي لغة الحياة اليومية والرسمية في المناطق التي تمتد عبرها مناطق تضم ما يقرب من مائة مليون شخص. أما التيار الثالث فهو الحركة العلمية والثقافية النشطة التي قام بها العرب أو شجعوا عليها وهيئوا لها الأجواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المناسبة11. لقد استوعبت هذه الحركة الحضارات القديمة التي كانت موجودة بالمنطقة المحيطة بشبه الجزيرة في مصر وسورية ووادي الرافدين وبلاد فارس، كما استوعبت الملامح الرئيسية للحضارة اليونانية الرومانية وطورتها في فترة الركود العلمي والثقافي التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى، وأسهمت بذلك في إيقاظ أوروبا في عصر النهضة أو عصر الإحياء الذي أسلمها إلى عصر الحضارة الحديثة، وبذلك تفادت المسيرة العلمية والثقافية خطر الانقطاع الذي كان يمكن أن يحدث، ومن ثم يؤثر على الاستمرار الحضاري، إذا أدخلنا في اعتبارنا أن عصر الظلام والركود الأوروبي في العصور الوسطى أعقبه مباشرة عصر ظلام وركود شرقي استمر عدة قرون على عهد الحكم العثماني.   11 عن التراث العربي في جوانبه المتعددة راجع: "1963 oxford" the legacy of islam وهو مجموعة دراسات أشرف على تحريرها توماس آرنولد thomas arnold وألفرد جيوم alfred guillaume. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ب - مقدمات هذا الدور قبل ظهور الإسلام: وهنا يجدر بنا أن نتوقف لحظة. فهذا الدور الحضاري الكبير الذي انطلقت بوادره ومقوماته الأولى من شبه الجزيرة العربية ابتدأ في العصر الإسلامي، ومن ثم فهو ليس دورًا قامت به شبه الجزيرة قبل ظهور الدعوة الإسلامية التي تشكل بداية هذا العصر. وهذا صحيح، ولكن أي دور حضاري لا يبدأ من فراغ، وإنما لا بد له من مقدمات تمهد له الطريق وتهيئ له أسباب النجاح. وقد كانت هذه المقدمات متوفرة في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام نتيجة لعدد من الأوضاع التي كانت تسود المنطقة والتي أدت إليها ظروف الرقعة المكانية التي تشغلها شبه الجزيرة, وهي ظروف تتمثل من جهة في الموقع الذي يتوسط خطوط المواصلات بين الشرق والغرب، والتي تتمثل من جهة أخرى في الموضع الذي تفرض طبيعته على سكان المنطقة الحركة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المستمرة رعيا أو تجارة، ثم تتمثل من جهة ثالثة في الطبيعة الصحراوية الغالبة على شبه الجزيرة والتي جعلتها أو جعلت القسم الأكبر منها بمنأى عن أية أطماع جادة من جانب القوى الدولية، ومن ثم أتاحت الفرصة لانتشار العقيدة الجديدة وقيام دولة موحدة في شبه الجزيرة، الأمر الذي يشكل مقدمة مطلوبة تاريخيًّا لبداية الدور الحضاري العربي. وفي هذا المجال فإن شبه الجزيرة العربية كانت تخترقها الخطوط التجارية البرية اتجاهًا نحو الخليج ووادي الرافدين والمنطقة السورية. ومعنى هذا أن الاتصال كان دائما بين السكان الذين يقطنون كل أقسام شبه الجزيرة تقريبا. فإذا أضفنا إلى هذا حياة الرعي التي كانت تفرض على أعداد كبيرة من السكان أن يتنقلوا بشكل دائم أو موسمي سعيًا وراء الكلأ, وعددًا من الهجرات الداخلية التي قد تترتب على هذا "أو على غيره من الأسباب" لأمكن أن نتصور أقسام شبه جزيرة العرب في حالة اتصال مستمر فيما بينها. وهو أمر يؤدي بمرور الوقت إلى قدر غير قليل من التقارب بل التجانس فيما بين سكان هذه الأقسام في أكثر من جانب من جوانب حياتهم. وقد أدى هذا التجانس فعلا إلى ظهور بوادر ملموسة للشخصية أو الهوية الجماعية للعرب رغم التفتت السياسي لشبه الجزيرة في صورة قبائل أو تجمعات قبائل أو إمارات أو دول. ونحن نلمس بوادر هذه الشخصية العربية ابتداء من أواسط القرن التاسع ق. م. في عدة نصوص من سجلات الملوك الآشوريين تصف عددًا من الشخصيات التي احتك بها ملوك دولة آشور بأنهم "عرب" أو أنهم ملوك أو ملكات على "بلاد العرب" -بغض النظر عن الامتداد المكاني أو الشمول الذي تعنيه "صفة بلاد العرب" في هذه السجلات- وهو وصف يشير إلى أن الهوية العربية بدأت تحل، على الأقل في المعاملات الخارجية, محل الهوية العشائرية أو القبلية. كذلك نجد هذه الصفة "العربية" سواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 بالنسبة للسكان أو بالنسبة للبلاد تظهر بشكل محدد ومتواتر في كتابات المؤرخ اليوناني هيرودوتس herodotos في أواسط القرن الخامس ق. م. وتستمر من بعده سواء عند الكتاب اليونان أو الرومان أو البيزنطيين حتى ظهور الإسلام. كذلك يشير إلى هذا التقارب أو التجانس، ومن ثم إلى الهوية العربية التي مهدت لنجاح الدور العربي التاريخي بعد ظهور الإسلام، بعض ظواهر أخرى: من بينها عدد من المناسبات التي أخذ العرب يعتزون بها كمناسبات عربية بغض النظر عن المنطقة التي حدثت فيها. وأعني بهذه المناسبات ما اصطلح المؤرخون على تسميته بأيام العرب، مثل يوم "ذي قار" وهي الموقعة التي انتصر فيها عرب الحيرة على القوات الفارسية، أو يوم "الفيل" الذي سجل ارتداد أبرهة وجنوده عن هدم الكعبة قبيل ظهور الإسلام. ومن بين هذه الظواهر التي نلمس فيها الشخصية الجماعية العربية كذلك، الأماكن التي كان العرب يتجمعون فيها لإلقاء الشعر بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية، مثل "سوق عكاظ" "شمالي الطائف"، والاتفاق الجماعي على اعتبار المنطقة المحيطة بالكعبة مكانا مقدسا لا تنبغي ملاحقة من يلوذ به، وعلى اعتبار عدد من شهور السنة "أشهرا حرما" لا يجوز الاقتتال في أثنائها بين القبائل العربية حتى يتوفر الأمن الجماعي اللازم لممارسة العرب أسباب حياتهم في شيء من الطمأنينة والاستقرار. كذلك فإن هذا التجانس أو التقارب لا بد أنه ظهر في تقارب اللهجات في المنطقة المختلفة من شبه الجزيرة العربية، وهو تجانس يصل ما يقرب إلى التأكيد إذا تذكرنا أن القرآن نزل بلهجة قبيلة قريش، ومع ذلك فما لبث في خلال عقدين من الزمان أن انتشر بلهجته هذه في كل أرجاء شبه الجزيرة، وفي الواقع فإنه ليس لدينا ما يدعو لافتراض أن بقية قبائل شبه الجزيرة قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 اضطرت إلى تعلم لهجة قريش حتى تفهم آيات القرآن، وإنما تشير كل الملابسات إلى أن معرفتهم بهذه اللهجة كانت شيئا مفروغا منه, الأمر الذي يعزز افتراض التقارب الوثيق بين اللهجات العربية قبل ظهور الإسلام، أو وجود لهجة عامة يعرفها جميع العرب، بغض النظر عن لهجاتهم المحلية. وهكذا يتضح لنا أثر الظروف المكانية في التجانس الكبير بين عرب شبه الجزيرة لتصبح لديهم مقومات الهوية أو الشخصية الجماعية التي تساعد على سرعة انتشار أية حركة تتوفر لها البداية المقنعة لسبب أو لآخر، كما حدث في حال الدعوة الإسلامية. على أن هذا التجانس لم يكن كل ما أسهمت به الطبيعة المكانية لشبه الجزيرة العربية في سرعة انتشار الدعوة الإسلامة بها كبداية للدور الحضاري العربي خارجها, فقد ساعد هذا العامل المكاني في هذه السرعة بطريقة أخرى. لقد بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعوته في مكة. وحين ضيقت قريش الخناق على نشاطه وعلى أتباعه بما قد يؤدي إلى بطء انتشار الدعوة، هاجر هو وصحبه إلى يثرب -المدينة المنورة فيما بعد- وحقيقة إن الرسول كانت له صلة قربى في يثرب، ولكن الحقيقة الأخرى التي تواكبها هي أن يثرب كانت تقع على طريق القوافل التجارية إلى الأسواق السورية في الشمال, ومن يتحكم في موقعها يصبح في يده أن يخنق تجارة قريش إلى الشمال. وفي الواقع إن المتأمل للخط التجاري الذي يصل بين مكة والشمال لا يسعه إلا أن يلاحظ أن أهم غزوات الرسول، إلى جانب ملابساتها الأخرى بطبيعة الحال، كانت تقع على هذا الخط التجاري كما يبدو واضحا في غزوة بدر "جنوبي غربي المدينة في الطريق إلى مكة" ثم في غزوات أحد "على مشارف المدينة" وخيبر وتبوك اتجاهًا نحو الشمال على خط القوافل التجارية إلى سورية. وحين تمت غزوة الفتح وأذعنت مكة لإرادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان معنى هذا في الحقيقة الاستيلاء على الموقع الذي كانت تسيطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 عليه قبيلة قريش. وهو الموقع الذي كان يتحكم في خطوط القوافل شمالًا إلى سورية وجنوبًا إلى اليمن واتجاهًا نحو الشمال الشرقي إلى وادي الرافدين, الأمر الذي مكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه من التصدي لكل من يتعرض للدعوة الإسلامية التي كانت بداية للدور الحضاري التاريخي الذي انطلق من شبه جزيرة العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الباب الثاني: الساميون وشبه الجزيرة والعرب قضية الساميين أو الشعوب السامية مدخل ... الباب الثاني: الساميون وشبه الجزيرة والعرب 1- قضية الساميين أو الشعوب السامية: في وسط المنطقة التي اصطلحنا على تسميتها باسم "منطقة نشوء الحضارات" تقع إذن شبه جزيرة العرب. ولكن هذا الموقف الجغرافي الأوسط بكل ما يفترضه من طرق مواصلات تترتب عليها معاملات اقتصادية وتأثيرات حضارية وتداخلات سياسية لم يكن كل ما يربط شبه الجزيرة بهذه المنطقة. فقد تردد الحديث بين الباحثين على مدى القرنين الأخيرين حول شبه جزيرة العرب والمناطق المتاخمة لها فيما يخص صلة أو رابطة أخرى تربط بين المجموعات البشرية التي اتخذت هذه المناطق موطنا لها في فترة أو أخرى من فترات التاريخ، وعن كنه هذه الصلة ومقوماتها وأسبابها، وكان الحديث الذي دار ولا يزال يدور حول هذه الصلة هو الحديث عن الشعوب التي أطلق عليها هؤلاء الباحثون اسم الساميين1.   1 يجد القارئ معلومات مركزة عن الساميين بوجه عام في: "S.moscati: the semites in ancient history "cardiff, 1959. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أ- افتراض لوجود عنصر سامي : وقد تشعب الحديث حول هذا الموضوع وترددت الآراء وتعددت وتعارضت أحيانا وتقاربت أحيانا أخرى وتوافقت أحيانا ثالثة في نتائجها رغم اختلافها في منطلقاتها. ولكن تركز الحوار حول محورين رئيسيين. وأول هذين المحورين هو كنه هؤلاء "الساميين" أو هويتهم: هل هم جنس أو عنصر بالمعنى الأثنولوجي للكلمة؟ أي أنهم ينحدرون من أصل واحد له مقوماته الجسمانية التي يعرفها علماء الأثنولوجية "علم الأجناس" بمقارنة الملامح ومقاييس أجزاء الجسم ونسبتها إلى بعضها ومقاييس الرأس، طولًا من مقدمة الرأس إلى مؤخرته, وعرضًا من أحد جانبي الرأس إلى الجانب الآخر، ونسبة هذا القياس إلى ذاك فيكون الجنس من ذوي الرأس العريض brachycephalic إذ بلغت نسبة العرض إلى الطول ثمانين بالمائة أو زادت على ذلك أو يكون من ذوي الرأس الطويل Dolichocephalic إذا انخفضت النسبة إلى 75 بالمائة أو قلت عن ذلك -هل الساميون جنس أو عنصر واحد يشترك المنحدرون منه في هذه المقومات الجسمانية؟ أم أنهم مجموعة من الشعوب أو الأقوام تتحدث لغات متشابهة أو متقاربة دون أن يفترض هذا التشابه أو التقارب اللغوي بالضرورة أصلا عنصريا واحدا لهذه الشعوب أو الأقوام؟. أما المحور الثاني لهذا الحديث الذي تردد بين الباحثين ولا يزال يتردد تعارضا وتقاربا وتوافقا في نتائج تختلف رغم ذلك في منطلقاتها فهو عن الموطن الأصلي لهؤلاء "الساميين" سواء أكانت هذه التسمية تفترض أصلا واحدا أو تشير إلى مجرد تشابه أو تقارب لغوي بين مجموعة من الشعوب أو الأقوام, هل كان هذا الموطن الأصلي إفريقيًّا أم آسيويًّا؟ وإذا كان آسيويا فهل هو في خارج شبه الجزيرة العربية أم في شبه الجزيرة نفسها؟ وإذا كانت الأخيرة فمن أي قسم من أقسامها كانت بداية تفرعه وانتشاره؟ ثم ماذا كانت الأسباب التي دفعت إلى هذا الانتشار: هل هي أسباب تتعلق بتغير في المناخ ترك أثره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 على الموطن الأصلي المفترض للشعوب السامية جفافا وإجدابا فتركته بعض المجموعات بحثا عن آفاق جديدة تجد في خيراتها ما بدأت تفتقده من أسباب الحياة؟ أم أن له أسبابًا أخرى تتصل بتدهور في الحكم ومن ثم تخلخل في الأمن والأمان وإهمال لموارد البلاد, أو بتغير في إيقاع الحركة التاريخية والحضارية بين دول العالم القديم أثر بالضرورة في الأوضاع السائدة أو في أهمية الطرق التجارية المعروفة ومن ثم دفع الجماعات البشرية في المنطقة, أو بعض هذه المجموعات، إلى أن توائم بين نفسها وبين الأوضاع الجديدة الناجمة عن كل ذلك, حركة هنا ودفعا هناك واندماجا في منطقة ثالثة وتقوقعا في منطقة رابعة وهكذا؟ أسئلة كثيرة ومتداخلة، وكلها تدفعنا إلى الاهتمام بهذه القضية حتى نتعرف على وضع العرب وشبه جزيرة العرب وسط الأقوام والمناطق التي أحاطت بها، ومن ثم إلى تفهم سليم للدور الذي قام به العرب حين جاء الوقت الذي ظهروا فيه على المسرح التاريخي بشكل له أثر واضح. أما عن سبب هذه التساؤلات حول قضية الساميين فهو أن عددًا من الباحثين في لغات الشرق الأدنى لاحظوا تقاربا واضحا بين عدد من هذه اللغات من بينها الأكدية "البابلية والآشورية" والكنعانية والعبرية والفينيقية والآرامية والنبطية والحبشية والعربية. وقد وجد هؤلاء الباحثون أن هذه اللغات تتقارب في عدد من المواضع له أهميته ومغزاه. ومن بين هذه المواضع أن جذور الأفعال فيها جميعا جذور ثلاثية تعطي الانطباع العام للمعنى، فإذا تخللت حروف هذا الجذر الثلاثي حروف "أو أشكال" تفيد الحركة الطويلة أو القصيرة، فإن المعنى يتحدد حسب نوع هذه الحروف المضافة. وعلى سبيل المثال، فإن حروف "ك ت ب" في العربية تفيد معنى الكتابة بوجه عام, فإذا بدأنا في تشكيلها "والشكل يؤدي دور الحركات القصيرة" أو إضافة حروف الحركة الطويلة إليها أو المزج بين الاثنين، فإن هذا المعنى العام يتحدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 باختلاف الشكل وحروف الحركة بحيث تصبح فعلًا في زمن معين أو اسمًا في تصريف معين مثل "كَتَبَ" التي تؤدي بمعنى فعل الكتابة في الزمن الماضي بالنسبة للغائب، و"كَاتِب" التي تؤدي معنى اسم الفاعل. و"كتاب" التي تؤدي معنى اسم المفعول في إحدى صيغه وهكذا. وقد وجد الباحثون أن هذه الصفة التي تتعلق بطريقة تركيب الكلمات، تشترك فيها مجموعة اللغات المشار إليها وتميزها عن غيرها من مجموعات اللغات الأخرى التي تظهر في كل منها طرق لتركيب الكلمات خاصة بها. كذلك وجد الباحثون أن هذه اللغات التي نحن بصدد الحديث عنها تتشابه فيها "وتتطابق في بعض الأحيان" مجموعات من الألفاظ ذات مدلولات لا يمكن إغفالها أو تجاهل مغزاها. فمن بين هذه الألفاظ تلك التي تدل على الأعداد، والأعداد هي الأدوات الأولية والضرورية في تنظيم المعاملات بين الأفراد أو الجماعات، وتطابق أو تقارب الألفاظ الدالة عليها يشير إلى مجتمع واحد أو إلى مجتمعات شديدة التقارب, والشيء ذاته نجده في الألفاظ التي تؤدي معنى القرابة أو صلة الدم، وهذه تشير إلى تكوين الأسرة وهي خلية المجتمع الأولى التي تبدأ قبل أي تكوين اجتماعي آخر، كما نجده في الألفاظ الدالة على تنظيمات الدولة والعلاقات الاجتماعية والقصائد الدينية، وهذه كلها تتصل بالمجتمع في حدوده الواسعة2. وقد أدت هذه الملاحظات اللغوية بأحد هؤلاء الباحثين، وهو العالم النمساوي أوجست لودفيج شلويستر august ludwig schloester إلى أن يعلن في الشطر الأخير من القرن الثامن عشر "1781م" أن الشعوب التي تتحدث بهذه اللغات إنما تنحدر من أصل واحد، واعتمادا منه على ما جاء في الإصحاح   2 جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت - بغداد، ط 2 ج 1 "1976"، ص 222 وحواشي 1 - 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 العاشر من سفر التكوين، أول أسفار التوراة3، قال: إن سام بن نوح هو الجد الأول لهذه الشعوب جميعًا، ومن ثم سماها بالشعوب السامية. وحقيقة إن هناك قدرًا من التضارب أو على الأقل عدم التطابق بين التأصيل العنصري الذي قدمه شلويستر وبين ما جاء في سفر التكوين، بحيث تصبح التسمية التي نادى بها تسمية تقريبية على أحسن الافتراضات، إلا أن هذه التسمية لم تلبث رغم ذلك أن وجدت رواجًا في الدوائر العلمية، فأخذ بها بعد سنوات قليلة "1807م" عالم ألماني هو آيخهورن Eichhorn وبدأ ينشرها لتستقر صفة "السامية" بعد ذلك علما على هذه الشعوب4.   3 الإصحاح العاشر: 1 و21-31. 4 Eichhorn: Geschichte der neuern sprachenkunde القسم الأول تحت عنوان: sprahen dersemiten in westasien "1807 "goettingen صفحات 403 وما بعدها مقتبس في جواد علي: المرجع ذاته ص 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ب- رد على هذا الافتراض : ولكن مع ذلك فإن الحديث عن الشعوب السامية كمجموعة بشرية تنتمي إلى جنس أو عنصر واحد له ملامحه وخصائصه الجسمية الخاصة به والمميزه له, هو حديث لا يستند إلى أساس علمي لسببين: أحدهما يتصل بقضية النقاء العنصري والآخر يتصل بالعلاقة بين العنصر واللغة. وفيما يخص السبب الأول فإن تطابق الملامح والخصائص الجسمانية بين الشعوب السامية أمر غير قائم، فنحن نجد تباينا واضحا في هذا المجال بين هذه الشعوب من جهة ثم في داخل كل شعب منها من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال فهناك اختلاف في مقاييس الجماجم بين عرب عمان من جهة وبين مقاييس الجماجم لدى سكان العربية الجنوبية الغربية وتهامة من جهة أخرى, ومع ذلك فكلهم من شبه جزيرة العرب. بينما نجد من الجانب الآخر تشابها بين جماجم أهل عمان وجماجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 سكان السواحل الهندية المقابلة لهذه المنطقة العربية "وهو أمر جاء، على ما يبدو، نتيجة لتعامل تجاري أدى إلى قدر من الاختلاط العنصري بين المنطقتين، كما نجد تشابها في بعض الملامح بين سكان تهامة والقسم الجنوبي الغربي من شبه جزيرة العرب وبين سكان القرن الإفريقي. كذلك أثبتت بقايا العظام التي عثر عليها المنقبون الأثريون في المقابر البابلية والآشورية تباينا في الخصائص الجسمانية في داخل كل منطقة من المناطق التي عثر فيها على هذه العظام، وما يقال عن هذه الشعوب يصدق على العبرانيين "أو اليهود إذا أخذنا بالتسمية الدينية لهم" فهناك اختلاف في الملامح فيما بينهم رغم ما عرف, وما يزال يعرف عنهم من الحرص على التزاوج فيما بينهم5. وفي الواقع, فإن علماء الأجناس قد انتهوا منذ أواسط القرن الحالي إلى أن الحديث عن نقاء الأجناس البشرية قد أصبح في حقيقة الأمر "خرافة علمية" حسب تعبير أحد علماء الأنثروبولجيا المعاصرين6. وفي هذا المجال فلعل أقرب ما يمكن أن يقال في موضوع الجنس أو العنصر إلى الصواب هو أنه قد وجدت أجناس نقية فعلا في يوم من الأيام، ولكن هذه الأجناس بدأت في الاختلاط منذ بدء الحياة البشرية وبشكل أكثر بكثير مما نتصور.   5 عن التشابهات والاختلافات التي تجمع أو تفرق بين العمانيين وسكان السواحل الهندية المقابلة لهم، وبين سكان القسم الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية وسكان شرق إفريقيا: فصل بقلم: W.M.Krogman في bertram thomas: arabia felix, across the empty quarter "london 1932" of arabia صفحات 302-316. عن اختلاف الملامح الجسمانية للعبرانيين فيما بينهم واختلاف بعض ملامح الوجه بين العبرانيين وبقية الساميين راجع: eorge a. barton: semitic and hamitie "philadelPhia 1934" origins صفحات 85-87. عن اختلاف الخصائص الجسمانية لعرب شبه الجزيرة فيما بينهم في العصر الجاهلي راجع، جواد علي: ذاته ص 225 وحاشية1. 6 خوان كوماس "ترجمة محمد رياض": المرجع ذاته، صفحات 62-63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وفي هذا الصدد توصل هذا العالم إلى أن أوروبا، مثلا، قد عرفت، بين السلالات العديدة التي اختلطت على أرضها, سلالات مغولية وزنجية نزحت إليها في عصور ما قبل التاريخ7. وحتى لو حاولنا أن نقسم العالم إلى عناصر في أعم حدودها على أساس صفة جسمانية واحدة وهي لون البشرة مثلا, فإن هناك مناطق بأكملها مثل العالم العربي والهند لا يمكن أن تنطبق عليها التحديدات اللونية بشكل واضح. والسبب في ذلك هو أن الزمان والمكان قد بدَّدا فكرة العنصر النقي عن طريق الهجرات المستمرة التي بدأت مع ظهور الإنسان, تحت وطأة قانون الطرد والجذب الطبيعي الذي يدفع الفئات البشرية من مناطق القحط والشدة إلى مناطق الرخاء، ومن أماكن الخطر أمام الفئات الغازية إلى أماكن الدعة والأمن. ويروي لنا التاريخ، سواء في عصوره القديمة أو الوسيطة فصولًا كاملة من هذه الهجرات، مثل تلك التي اندفعت من سهوب أوروبا الشرقية قبل البلاد بنحو عشرة قرون لتستقر فيما أصبح يعرف ببلاد اليونان، ومثل هجرة جانب من سكان هذه البلاد أمام هؤلاء المهاجرين إلى الشواطئ المختلفة للبحر المتوسط وبخاصة الشريط الساحلي الغربي لآسيا الصغرى. ومثل هجرة القبائل   7 الكاتب ذاته: المرجع ذاته، ص 16. هذا وقد حاول باحث آخر أن يقرب بين نظرية الاختلاط العنصري والنقاء العنصري النسبي رغم ذلك، فقدم نظرية مؤداها أن اختلاط عدد من الأجناس "أي العناصر" داخل حدود منطقة معينة يؤدي في النهاية إلى صهر هذه الأجناس على أساسها إلى جنس جديد له مواصفاته ومقاييسه الجسمانية الخاصة به، راجع: "london" 1963 طبعة mc dougall: introduction to social psychology university paperbacks ص 283 وما بعدها. ولكني أتردد في قبول هذا الرأي، إذ إن الواقع "حتى الآن على الأقل" يدحض ذلك، وأكتفي في هذا الصدد بما أوردته فيما يخص سكان شبه الجزيرة العربية، رغم أن هذه المنطقة تعتبر، بشكل نسبي، منعزلة أكثر من غيرها، ومن ثم فلديها فرصة أكثر من غيرها في تكوين هذا الجنس أو العنصر الجديد المفترض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 التي كانت تقطن أواسط آسيا إلى الغرب لتشكل هي والقبائل الجرمانية النازحة من شمال أوروبا بعد اختلاطهما بالسكان الأصليين في وسط هذه القارة قاعدة للشعوب والقوميات الأوروبية في هذه المنطقة8. ونتيجة كل هذه التحركات البشرية هي أنه لم تتبقَّ إلا جيوب قليلة في مناطق هامشية "مثل الأطراف الشرقية لآسيا" أو مناطق ظلت مقفلة نسبيا إلى عهد قريب جدا "مثل أواسط إفريقيا" هي التي احتفظت بنقاء عنصري نسبي عام "رغم تسربات واختلاطات داخلية تبعدها عن النقاء العنصري الخالص". ووسط كل هذا نجد المنطقة التي تسكنها الشعوب التي أطلق عليها اسم الشعوب السامية, تنتشر في منطقة تبتعد، بسبب موقعها المتوسط في الجزيرة العربية والمناطق المتاخمة لها في منطقة الهلال الخصيب "وادي الرافدين وبادية الشام وسورية وفلسطين" بين شطري العالم الشرقي والغربي، عن أي انغلاق أو تقوقع عنصري يعطيها نقاء عنصريا واضحا يمكن أن يتخذ أساسًا لفكرة السامية. هذا عن قضية النقاء العنصري وقد اتضح لنا من مناقشتها أن الحديث عن جنس أو عنصر سامي يصلح أساسا للتسمية السامية هو أمر أقل ما يقال فيه هو أنه مستبعد علميا، ويبقى الحديث عن اتخاذ اللغة أساسا لوحدة الجنس أو العنصر. وفي هذا المجال فإن الثابت من الملاحظة التاريخية هو أن اللغة لا تصلح أساسا لأي تحديد عنصري؛ لسبب بسيط هو أن الفئات البشرية لها قابلية غريبة لالتقاط اللغات إذا كان ذلك يخدم أهدافًا مصلحية أو عمرانية. وأول   8 عن هجرات اليوانان راجع: j.b.bury: a history of greeCe ط، 1945 london، صفحات 5-7 و 86- 105. عن هجرات البرابرة إلى داخل حدود الإمبراطورية الرومانية راجع: ط 2 "1960 london" m.cary' a history of rome صفحات 723 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 دليل على هذا هو الأماكن الحديثة التي تفصل بين القوميات المختلفة حيث نجد الاختلاط وتشابك المصالح يؤدي إلى ازدواج لغوي في أغلب الأحيان. كذلك فهناك أمثلة واضحة على شعوب غيرت لغتها كليًّا أو جزئيًّا في مراحل مختلفة من تاريخها. فالقسم الجنوبي من العراق كانت لغته في الفترة المبكرة من تاريخه القديم, وهي اللغة السومرية، لغة غير سامية، بل تختلف عن اللغة السامية اختلافًا كليا سواء في ألفاظها وفي تصريفات هذه الألفاظ أو تركيباتها. ومع ذلك فقد تحول هؤلاء السكان تدريجيا لكي تصبح اللغة الأكدية, وهي لغة سامية، هي لغتهم في كل جانب من جوانب حياتهم الفردية والجماعية. ومصر التي تتحدث العربية الآن لم تكن تتخذها لغة لها في العصور القديمة, واختلاط بعض القبائل العربية بالمصريين الآن -لم تكن في أعقاب الفتوح العربية- لم يكن إلا بقدر ضئيل لا يصلح وحده سببا لهذا التغيير الكلي في لغتها وإنما يجب أن نبحث عن هذا السبب في مجالات أخرى غير المجال العنصري. واللغة الإنجليزية في إنجلترا حاليا يرجع القسم الأغلب منها إلى أصول لاتينية أو يونانية أو جرمانية، فإذا رددنا الأثر الجرماني فيها إلى غزو القبائل الأنجلوسكسونية "وهي قبائل جرمانية" ومن ثم إلى تأثير عنصري, فيبقى أمامنا الأثر اللاتيني واليوناني الذي لا يمكن أن نرجعه إلى هذا التأثير العنصري. كذلك فإن اتخاذ بعض الشعوب إحدى اللغات لغة لها قد يعود إلى عامل الهجرة لسبب أو لآخر فحسب. ومثلنا على ذلك اليونان الذين يقطنون أماكن مختلفة من العالم, من بينها أماكن في العالم العربي نفسه ومثل المهاجرين اللبنانيين في مهاجرهم بالأمريكتين. ومعروف أن كلًّا من هاتين الفئتين يتكلم لغات المناطق التي هاجروا إليها, بل ولهجاتها، كلغة تعامل في حياتهم اليومية, بدرجة تصل إلى الإجادة بل إلى الطلاقة في أكثر الأحوال. وليكن مثلنا الأخير هو الولايات المتحدة التي اتخذ أبناؤها اللغة الإنجليزية لسانًا لهم رغم ما بينهم من اختلاف يصل إلى درجة التنميط، سواء في الأصل أو في الملامح الجسمانية أو في المناطق التي هاجروا منها أساسًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قضية أصل الساميين وشبه جزيرة العرب ملاحظات مبدئية ... 2- قضية أصل الساميين وشبه جزيرة العرب: أ- ملاحظات مبدئية: الحديث عن أصل عنصري واحد كأساس للتشابه أو التقارب الكبير بين الشعوب التي اصطلح الباحثون، خطأً أو صوابًا، على تسميتهم بالشعوب السامية يصبح، إذن، حديثًا غير وارد في ضوء الأدلة العلمية التي أسلفت الإشارة إليها. ولكن مع ذلك فيبقى التقارب اللغوي الكبير بينها، وهو أمر لا يمكن أن نسقطه من حسابنا، إذ هو يدل بدوره على تقارب كبير بين هذه الشعوب في صورة أو في أخرى، وهو تقارب يشير في رأي غالبية الباحثين إلى منطقة أولى أو موطن أصلي وجدت فيه مجموعة بشرية تتحدث لغة واحدة يمكن أن نطلق عليها "اللغة الأم" لكل اللغات السامية، ثم انطلقت جماعات من هذا الموطن الأصلي بشكل أو بآخر إلى بقية الأماكن التي ظهرت فيها في الفترة التاريخية الشعوب التي تتحدث باللغات السامية المنبثقة من هذه اللغة الأم. ولنحاول الآن أن نناقش الآراء المختلفة في هذه القضية، وإن كنت أود قبل أن نقدم على هذه المناقشة أن أبادر بذكر تحفظين رئيسيين: أولهما هو أن الحديث عن موطن أصلي للغات السامية لا يفترض "بالضرورة" وجود مثل هذا الموطن الأصلي, وإنما هو في رأيي لا يعدو أن يكون "احتمالا" قد تثبت صحته وقد لا تثبت. ودليلي على هذا هو ما نلاحظه على مجموعة أخرى من اللغات المتشابهة أو المتقاربة, وهي مجموعة اللغات "الآرية" أو الهندوأوروبية" التي تنتشر في نطاق يمتد من شمالي شبه القارة الهندية إلى شمالي غرب شبه القارة الأوروبية, لا تعني بالضرورة موطنًا أصليًّا انتشرت منه أصول هذه اللغات وإنما قد تعني تدرجًا في التأثر نتيجة ظروف كثيرة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أما التحفظ الثاني فهو أننا حتى إذا افترضنا وجود موطن أصلي لمجموعة بشرية كانت تتحدث اللغة السامية الأم, فإن انتشار هذه اللغة في المناطق المحيطة بها ليس معناه أن الجماعات التي حملتها معها أصبحت وحدها تشكل الشعوب السامية، وإنما كل ما هناك أنها نشرتها بين أقوام أخرى كانت موجودة في هذه المناطق وانتهت إلى اتخاذ هذه اللغة لسانًا لها لسبب أو لآخر بعد أن طبعتها بالتراث المحلي لمجتمعاتها وباحتياجات هذه المجتمعات وشتى ظروفها الأخرى. ومن هنا فإن حديثي عن الموطن الأصلي المفترض للساميين والأدلة التي تشير إليه سيكون من منطلق انتشار اللغة وليس من منطلق وحدة العنصر. والافتراضات التي ظهرت حتى الآن متعددة ومتداخلة في كثير من الأحيان, ولكنها تقوم على أساسين: أولهما هو التشابهات اللغوية التي تظهر بين بعض المناطق وما قد يدعم هذه التشابهات من ظروف تاريخية أو جغرافية تشير، تقريرا أو احتمالا، إلى تحركات أو معاملات أو تأثيرات بين الجماعات البشرية, وترجح أن تكون هذه التحركات أو المعاملات أو التأثيرات قد اتخذت طريقا دون الآخر. أما الأساس الثاني فهو ما قدمته التوراة من حديث عن أبناء نوح "سام وحام ويافث" وعن الأماكن التي حلوا بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 افتراض اصل افريقي للساميين ... ب- افتراض أصلي إفريقي للساميين: وأحد هذه الافتراضات الأساسية يرى أصحابه أن إفريقيا هي موطن الساميين. وهؤلاء يقدمون بين أدلتهم صلات لغوية تربط بدرجات متفاوتة بين الأحباش والعرب والبربر. ويرى بعضهم، بناء على هذه الصلات اللغوية والاعتبارات التاريخية والجغرافية التي يفترضون أنها تدعمها، أن شمالي غرب إفريقيا هو الموطن الأصلي للساميين ومنها انحدروا إلى شبه جزيرة العرب, بينما يرى البعض الآخر أن إفريقيا الشرقية تمثل الأصل المشترك بين الساميين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 والحاميين وأن مجموعات من هذا الموطن الأصلي قد عبرت إلى شبه الجزيرة العربية عن طريق شبه جزيرة سيناء ومنها هبطوا إلى العربية الصخرية, في القسم الشمالي الغربي من شبه جزيرة العرب ثم إلى بقية شبه الجزيرة, أو عبرت مضايق الطرف الجنوبي للبحر الأحمر عند باب المندب إلى شبه الجزيرة، وأصحاب هذا الرأي الأخير يدعمون رأيهم بوجود عبادة الإله "ألمقه" في كل من الحبشة ومنطقة سبأ في العربية الجنوبية الغربية، كما يدعمونه كذلك بوجود تشابه بين الخط المسند الذي عرفت الكتابة به في كل من هاتين المنطقتين ثم ينتهي أصحاب هذا الافتراض الإفريقي إلى أن المجموعات التي استقرت في شبه الجزيرة العربية قد أكسبهم مكان إقامتهم الجديد خصائص جديدة ولكن هذه لم تتمكن من القضاء على الخصائص القديمة المشتركة التي لا تزال تشير إليها صلة التقارب بين اللغات الحامية واللغات السامية9. على أن هذا الافتراض الإفريقي للموطن الأصلي للساميين تعترضه بعض الصعوبات والاحتمالات التي قد تقلل من وقعه بعض الشيء. وعلى سبيل المثال فإن لغة البربر "على القسم الغربي من الساحل الإفريقي الشمالي" لا يمكن أن نؤكد أنها لغة محلية نقية، بل من المرجح أن يكون العكس هو الصحيح إذا أدخلنا في اعتبارنا أن قسما لا يستهان به من قبائل الوندال vandal الجرمانية التي أتت من أواسط أوروبا واخترقت حدود الإمبراطورية في الغرب لتستقر في شبه جزيرة أيبرية iberia "إسبانية والبرتغال في الوقت الحالي" بعد القرن الرابع الميلادي قد واصلت زحفها عبر المضيق "الذي عرف في العصر   9 george barton: المرجع ذاته، صفحات 6 وما بعدها. هذا ويقدم بارتون في دراسته هذه عرضًا لكل من سبقه من الكتاب في صدد النظريات التي تتصل بأصل الساميين. جواد علي: المرجع ذاته، صفحات 234 وما بعدها. ويقدم كذلك عرضا للنظريات المتعلقة بالموضوع ذاته. راجع كذلك: philip k. hitti:history of the arab ط 7، "1961 london". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 العربي باسم مضيق جبل طارق" ليستقر جزء منها في القسم الغربي من الشواطئ الإفريقية الشمالية. وقد كانت هذه القبائل التي عبرت إلى الشاطئ الإفريقي على قدر من العدد والقوة بحيث استطاعت أن تسقط الولاية الرومانية هناك وتقيم على أنقاضها مملكة خاصة بهذه القائل في 429م10. ومثل هذا الزخم الاستقراري الاستيطاني يفترض تعاملا كثيفا، إن لم يكن اندماجا مع السكان الأصليين للبلاد، بما يستتبعه هذا من التأثير على لغة هؤلاء السكان أو على الأقل تفاعلًا معها. هذا عن القسم الشمالي الغربي لإفريقيا, أما فيما يخص شرقي أفريقيا الذي يشير إلى الحبشة كموطن أصلي للساميين، فحقيقة: إن الصلة بين الحبشة وجنوبي غربي الجزيرة العربية تشجعها سهولة العبور بين الجانبين عبر مضيق باب المندب. وحقيقة: إن الأحداث التاريخية تؤكد هذه الصلة فيما نراه من احتلال الأحباش لمنطقة اليمن عدة مرات ربما كان أكثفها ما حدث في القسم الأول من القرن السادس الميلادي، بل أكثر من هذا لقد أقام عدد من الأحباش في اليمن حتى في غير أوقات الاحتلال الحبشي، بل إن هناك احتمالًا كبيرًا أن الأحباش كانت لهم مستوطنات في المنطقة11، وهذا كله قد يشير إلى تأثير من جانب الحبشة على الجزيرة العربية على سبيل الترجيح طالما أن الحبشة هي الطرف القوي في هذا "الحوار" من الناحية العسكرية. ولكن هذا الاتجاه مردود عليه, فإذا كان الغزو العسكري يحمل معه في بعض الأحيان تأثيرات الطرف الغازي، فإن هذا في حد ذاته لا يشكل في كثير من الأحوال قاعدة يمكن الاستناد إليها. ودليلنا على هذا أن الرومان   10 j.h.breasted: المرجع ذاته، صفحات 271-272. 11 maxime rodinson: mohammed "الترجمة الإنجليزية قامت بها anne carter - 1971 london" صفحات 30-31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 غزوا بلاد اليونان والمناطق المتأثرة بالحضارة اليونانية على امتداد القرون الأخيرة قبل الميلاد, ومع ذلك فإن الحضارة اليونانية هي التي غزت الرومان طوال هذه القرون وبعد هذه القرون غزوًا يكاد يكون كاملا, سواء من جانب العلم أو الأدب أو الفلسفة أو المسرح أو الفن في كافة صوره، بل إنه رغم احتفاظ الرومان بلغتهم اللاتينية وتطويرها إلى مستوى النثر الفني والكتابة الفكرية الراقية إلا أن اللغة اليونانية بقيت رغم ذلك لغة الثقافة الأولى التي لا يستغني أديب أو خطيب أو مفكر أو سياسي روماني عن دراستها والتعمق فيها. والشيء ذاته يقال عن الفترة التي بدأت فيها الإمبراطورية الرومانية تترنح تحت ضربات القبائل الجرمانية المتبربرة القادمة من الشمال. لقد استمرت هذه الضربات نحو قرن من الزمان انتهت بسقوط روما "410م" ثم بإزاحة آخر الأباطرة الرومان عن العرش الروماني "476م" وبقيام الممالك التي أسسها البرابرة قبل وبعد هذا التاريخ على أنقاض الإمبراطورية الرومانية، ولكن مع ذلك فإن الحضارة الرومانية هي التي غزت هذه الممالك ثقافة وفنًّا وتأثيرًا, لغة ودينًا12. ومن هنا فالاحتمال قائم، فيما يخص سبأ والحبشة، أن الخط المسند قد يكون تأثيرا سبئيا على الحبشة وليس العكس، وأن التأثير اللغوي قد سار في الطريق ذاته، والشيء ذاته يمكن أن يقال عن التأثير الديني الذي يرمز إليه الإله "إلْمَقَهْ" الذي لا يوجد من الأدلة القاطعة ما يثبت أنه كان بالضرورة حبشيا. كذلك فمن الأمور الواردة، إن لم يكن من الأمور المرجحة، أن يكون الأثر الذي تركته الديانتان اليهودية والمسيحية قد قرب ثقافة الحبشة من   12 عن التأثير الحضاري اليوناني على الإمبراطورية الرومانية راجع: m.cary &t.haarhoff;: life and thought: in the greek"london 1961" and roman world. عن التأثير الروماني على البرابرة راجع breasted: المرجع ذاته، صفحات 769 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الثقافة السامية؛ ومن ثم أفسح الطريق أمام التأثير السامي في اللغة الحبشية13.   13 جواد علي: المرجع ذاته، ص 237، والحواشي 1 - 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ج- افتراضات أصل آسيوي للساميين : هذا عن الافتراض الإفريقي للوطن الأصلي للشعوب السامية, على أن عددًا آخر من الباحثين في هذه القضية اتجهوا بأنظارهم صوب القارة الآسيوية محاولين أن يجدوا فيها البقعة التي تصلح في رأيهم أن تكون هذا الوطن الأصلي وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في تحديد هذه البقعة. وأحد هذه الآراء يرى صاحبه أن منطقة أرمينية هي أنسب المناطق في هذا الصدد. وهو يعتمد في رأيه هذا على قصة الطوفان كما جاءت في التوراة, ويرى أن أوصاف هذه المنطقة تتفق مع ما يمكن استنباطه مما جاء في التوراة. ولما كانت القصة تذكر أن نوحًا قد أخذ أسرته "بما فيها أبناؤه" في الفلك, فتكون الشعوب السامية والشعوب الآرية التي انحدرت من صلب هؤلاء الأبناء الذين عددتهم التوراة قد بدأت في أرمينية كموطن أصلي لها14. ولكن هذا الرد تعترضه في رأيي صعوبتان: إحداهما هي أن قصة الطوفان لم يقتصر ورودها على التوراة كجزء من التراث العبري أو اليهودي. ولكنها ترك كذلك في تراث عدد كبير من الشعوب سواء في الفترة التي تسبق التوراة أو تلك التي تليها، وفي منطقة الشرق الأوسط وغيرها من المناطق في أرجاء مختلفة من العالم إذ هي تشير، احتمالًا، إلى الأمطار الغزيرة التي هطلت في دهر في عصر البلايستوسين، آخر العصور الجيولوجية، في المناطق المدارية في حقبة ما قبل التاريخ، واحتفظت بها الشعوب في ذاكرتها عبر الرواية من جيل لجيل حتى عبروا عنها كتابةً، كلٌّ بتصوره الخاص ومن هنا فإنه   14 صاحب الرأي هو john peters ويرد الرأي في j.barton: المرجع ذاته، ص 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 يوجد أكثر من مكان مناسب لهذه القصة حسب تصور كل شعب، والصعوبة الثانية، وهي امتداد للأولى, أن قصة الطوفان كما وردت في التوراة تأخذ هيكلها العام وأكثر تفاصيلها عن قصة الطوفان كما وردت في أساطير وادي الرافدين. وقصة الطوفان في وادي الرافدين سواء في ذلك روايتها السومرية أو البابلية أو روايتها كما وردت في ملحمة جلجامش تذكر أماكن في وادي الرافدين مثل مدينة أوروك uruk "الوركاء حاليا" ومدينة شورباك shuruppak "تل فاره حاليا" وكلتاهما تقعان في جنوبي وادي الرافدين، كما تحدد مكانًا في وادي الرافدين كذلك للجبل الذي وصلت إليه سفينة نوح، وهو جبل نيسير nisir الذي يحدده الباحثون عادة بجبل بير عمر كودرون الذي يقع جنوبي نهر الزاب الصغير "أحد روافد نهر دجلة" في سلسلة جبال زاجروس التي تمتد بطول المنطقة الشرقية لوادي الرافدين من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي15. وإلى جانب هذا الرأي هناك رأي آخر يدخل كذلك ضمن الافتراض الآسيوي للموطن الأصلي للشعوب السامية, وأصحاب هذا الرأي الآخر يحاولون أن ينفذوا إلى اختيارهم لهذا الموطن الأصلي من طريق أخرى, فهم يلاحظون أن الجمل قد لازم الشعوب السامية منذ فجر تاريخهم, ولما كان الموطن الأصلي للجمل هو هضبة آسيا الوسطى أو المنطقة الواقعة إلى جنوب وجنوب شرقي بحر قزوين؛ فقد انطلقت الشعوب السامية إذًا من إحدى هاتين المنطقتين مرورًا بإيران والمناطق الآهلة بالشعوب الهندوأوروبية حتى وصلوا إلى بابل   15 فاضل عبد الواحد علي: الطوفان في المراجع المسمارية، بغداد 1975. وفيه يجد القارئ العربي ترجمة عربية للأصول المسمارية لقصة الطوفان -قصة الطوفان السومرية، صفحات 119 وما بعدها، قصة الطوفان البابلية "أتراخاسيس" صفحات 123 وما بعدها، قصة الطوفان في ملحمة جلجامش، صفحات 174 وما بعدها. قصة الطوفان في التوراة: سفر التكوين. الإصحاحات 6-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 في القسم الجنوبي من وادي الرافدين ومن هناك كان تفرعهم إلى بقية أرجاء المنطقة التي استقرت فيها الشعوب السامية بصفة نهائية. وقد أيد هؤلاء رأيهم بشاهد لغوي مؤداه أن اللغات السامية يشترك أغلبها في عدد ملحوظ من الألفاظ الدالة على مسميات تتصل بأنواع من النباتات والحيوانات وجوانب العمران، وأنه بتحليل هذه الألفاظ وبمقارنتها وتتبعها بغية التوصل إلى أقدم المناطق التي ظهرت فيها المسميات التي نشير إليها, نجد أن هذه المسميات من صميم المنطقة التي تقع فيها بابل16. وقد وجه إلى هذا الرأي ردان: أحدهما هو أنه لم يثبت ثبوتا علميا قاطعا أن المسميات التي تشير إليها الألفاظ المذكورة وجدت في إقليم بابل قبل غيره من المناطق التي عاشت فيها الشعوب السامية. هذا بالإضافة إلى أن عددا آخر من الألفاظ الدالة على مسميات أكثر التصاقا بحياة هذه الشعوب، لم تشترك فيها اللغات السامية مع أن هذا الاشتراك، إذا نظرنا من وجهة نظر لغوية صرفة، يصبح أمرا واردا ومنتظرا17، أما الرد الآخر فهو أن أية تحركات أو هجرات بشرية بغية الاستقرار تتجه بالضرورة من المناطق المقفرة إلى المناطق الخصبة وليس العكس18، ومن ثم فمن غير الممكن أن تكون الهجرات السامية قد انتقلت من جنوبي العراق، وهي منطقة على   16 راجع آراء: von kremer: semitische kulturen entlehnungen aus pflantzen - und - tierreiche, wright: comparative studies of the semitic languages, a.guidI: della sede primitiva. dei popoli semitici وهذه الآراء معروضة في BARTON: المرجع ذاته، ص 3. 17 noldeke: semitische sprachen ط 2 "1899 leipzig" ص 3. 18 hitti المرجع ذاته، ص 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 جانب كبير من الخصوبة، إلى مناطق صحراوية مثل شبه جزيرة العرب أو شبه صحراوية مثل المنطقة السورية. وأود أن أؤيد هذا الرد الأخير بمثال من الحضارة السومرية التي ظهرت في جنوبي وادي الرافدين في الفترة المبكرة من تاريخ هذه المنطقة. إن قائمة ملوك سومر التي ترك لنا فيها السومريون تصورهم عن أسماء السلالات والملوك الذين حكموا المنطقة والمدن التي حكموا فيها، يمكن أن نستنتج منها أن مجموعات سامية كانت في حركة مستمرة ومتزايدة من المنطقة الصحراوية التي تلي وادي الرافدين غربا، أو على الأقل من المنطقة الرعوية التي تقع فيها هذه الحدود، إلى المنطقة الخصبة التي تقع في جنوبي الوادي. والدليل على ذلك أن القائمة المذكورة تظهر فيها بعض الأسماء السامية في الفترة الأولى من العصر السومري ولكن عددها قليل بالنسبة لعدد الملوك ذوي الأسماء السومرية، بينما نجد الأسماء السامية يزيد عددها في الفترة اللاحقة من هذا العصر، كما يظهر على سبيل المثال من أسماء ملوك مدينة كيش "الأحيمر حاليا" الذين بلغ عددهم 23 ملكًا. فإذا أغفلنا اسما واحدا من هذه الأسماء "لم يستطع الناسخون القدماء أن يقرءوه جليا من الألواح الطينية التي سجلت عليها الأسماء" ليصبح عدد الأسماء الثابتة هو 22, وجدناها تضم 12 اسما من أصل سامي وستة أسماء سومرية وأربعة أسماء لا يمكن تحديد أصلها. وهذه الزيادة المندرجة تشير في رأيي إلى هجرات سامية من خارج المنطقة الخصبة في جنوبي وادي الرافدين بدأت على هيئة مجموعات قليلة تثبت أقدامها في المنطقة بدليل وصول عدد من زعمائهم إلى حكم البلاد، ثم زادت أعداد هذه المجموعات حتى أصبحت تشكل أغلبية في السكان أو أغلبية في السيطرة على موارد الإنتاج, أدت إلى أن تكون أغلبية ملوك المدينة أو الدويلة المذكورة من بين زعمائهم19.   19 george roux: ancient iraq "طبعة pelican 1966" ص 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 د - حول أصل الساميين وشبه جزيرة العرب: هذا فيما يخص منطقة بابل في جنوبي وادي الرافدين كموطن أصلي انطلقت منه الشعوب السامية إلى الأماكن التي استقرت فيها في العصور التاريخية. وقد رأينا الصعوبات التي تقف في طريق أصحاب هذا الرأي بعد أن رأينا صعوبات من نوع آخر تعترض الرأي الذي يجد في منطقة أرمينية أنسب مكان للموطن الأصلي لهذه الشعوب. على أن رأيا ثالثا ضمن الافتراض الآسيوي لأصل الشعوب السامية استحوذ ولا يزال يستحوذ على مناقشات الباحثين بشكل موسع حتى الآن، وهو الرأي الذي يجد أصحابه أن شبه جزيرة العرب "بما فيها الصحراء السورية التي تشكل تخومها الشمالية" هي الموطن الأصلي للساميين. وموجز ما توصل إليه أصحاب هذا الرأي هو أن شبه جزيرة العرب لم تكن منطقة صحراوية جافة في كل عصورها القديمة، فقد تعرضت لهطول أمطار غزيرة طوال عصر البلايستوسين "آخر العصور الجيولوجية" شأنها في ذلك شأن بقية المناطق المدارية "على الأقل في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية" وأنها كانت نتيجة لذلك منطقة تغطيها الغابات والنباتات والأعشاب, وتسكنها المجموعات البشرية على امتداد مساحتها. ولكن العصر البلايستوسيني انتهى بأمطاره حوالي 10.000ق. م. وبدأ الجفاف يزحف على المنطقة لتحل محل هذه المناطق الخضراء المأهولة بالسكان امتدادات صحراوية جافة مجدبة "إلا حيث وجدت الأنهار التي نحتت لها مجرى واستقرت عليه مثل نهر النيل ونهري دجلة والفرات" وكانت شبه الجزيرة العربية إحدى هذه الامتدادات. وقد كانت نتيجة ذلك, في رأي هؤلاء الباحثين، أن موارد الغذاء من النبات والحيوان بدأت تتضاءل بالتدريج بحث اضطر سكان المنطقة إلى أن ينزحوا منها بالتدريج كذلك كلما زحف الجفاف والإجداب على هذه الموارد, الأمر الذي أدى إلى موجات متتالية من الهجرات البشرية من شبه الجزيرة العربية إلى المناطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الخصبة أو الأقل جفافا والتي كانت تقع على تخومها، وهي هجرات كانت آخرها، حسبما رأى بعض هؤلاء الباحثين, هي الهجرة العربية التي تمت في أعقاب الفتوح العربية الإسلامية في القرن السابع م. وقد استقرت هذه الهجرات في المناطق التي وصلت إليها بعد أن حملت معها لغتها، وكانت النتيجة هي هذه الشعوب السامية المتعددة التي تتقارب لغاتها إلى حد كبير سواء في ألفاظها أو في طريقة تركيب الألفاظ أو تصريفها20. وقد رتب أصحاب هذا الرأي هذه الهجرات، استنادا إلى ما استنتجوه من الشواهد التاريخية، بحيث كانت تفصل بين كل هجرة والتي تليها فترة تطول أو تقصر، هي الفترة اللازمة لكي يزيد عدد السكان عن موارد البلاد المتعرضة للجفاف والتراجع بالقدر الذي يدفع جماعات منها إلى الهجرة بحثًا عن موارد جديدة خارج المنطقة، ويمكن وضع صورة الهجرات التي توصلوا إلى ترتيبها على النحو التالي:   20 نجيب ميخائيل إبراهيم: موسوعة "مصر والشرق الأدنى القديم"، ج 3 "سورية"، ط 1, الإسكندرية, 1959. وفيه تفصيل للهجرات السامية hitti: المرجع ذاته، صفحات 10 وما بعدها، ويرى أنه برغم أن الموطن الأصلي المشترك للساميين والحاميين هو شرقي إفريقيا، إلا أن الفرع السامي عبر إلى شبه الجزيرة العربية لتصبح الموطن الأصلي للساميين، ومن هذا الموطن الأصلي انطلقت الهجرات السامية إلى حيث توجد الآن. كذلك: l.caetani: studi di storia orientale ج 1, "1911 milano" صفحات 51-288، وهو صاحب نظرية الدافع الاقتصادي للهجرات السامية من شبه الجزيرة العربية وأن الفتوح العربية في العصر الإسلامي هي آخر موجات هذه الهجرات بهذا الدافع. راجع ردا على النقطة الخاصة بالدافع الاقتصادي لهذه الفتوح في: السيد عبد العزيز سالم: تاريخ العرب في العصر الجاهلي، بيروت،1970، صفحات 67-68 وفيه يرد هذه الفتوحات إلى فكرة "الجهاد" التي تضمنتها العقيدة الإسلامية، على الأقل في بداية هذه الفتوحات، وإن لم يستبعد الدافع الاقتصادي استبعادًا كاملًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 1- الأكديون, وقد استقروا في وادي الرافدين في الألف الرابعة. ق.م. 2- الكنعانيون "بما فيهم الفينيقيون والآموريُّون" وقد استقروا في المنطقة السورية ووادي الرافدين خلال الألفين الثالثة والثانية ق. م. 3- الآراميون, وقد استقروا في كل مناطق الهلال الخصيب، والعبرانيون الذين استقروا في المنطقة السورية في النصف الثاني من الألف الثانية ق. م. 4- الأنباط وبعض القبائل العربية الجاهلية, وقد استقروا في منطقة الهلال الخصيب بين القرن الثاني ق. م. والقرن السادس م. 5- العرب المسلمون, وقد استقروا في منطقة الهلال الخصيب ومصر وبقية شمال إفريقيا منذ القرن السابع الميلادي. ويدعم أصحاب هذا الرأي القائل بموجات كبيرة شبه منتظمة من الهجرات, انطلقت من شبه الجزيرة العربية نتيجة للجفاف الذي حل بها "بعد أن كانت منطقة خضراء مأهولة بالسكان" بعدد من الملاحظات الصحراوية في شبه الجزيرة من القواقع المتحجرة أو التي جفت والتي لا تعيش إلا في المياه العذبة، ومن بقايا عظام وأدوات حجرية ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ مما يشير إلى وجود الماء والحياة في هذه المناطق الصحراوية في الماضي البعيد. ومن بينها عدد من الوديان الجافة في الوقت الحاضر مثل وادي الدواسر ووادي الرمة ووادي السرحان التي ربما كانت قبل ذلك وديان أنهار جفت بعد تراجع عصر الأمطار. ومن بينها كذلك أن عددًا من الحيوانات والأشجار التي كانت معروفة في شبه الجزيرة والتي أوردها الكتاب الكلاسيكيون "اليونان والرومان، 500 ق. م -500م تقريبا" أو الكتاب العرب, ولكنها قلت أو اندثرت في الوقت الحاضر, وهو أمر يدعم نظرية استمرار الجفاف؛ ومن ثم زحف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الإقفار على المنطقة حتى في العصور التاريخية21. وقد انقسم أصحاب هذا الرأي حول تحديد المكان الذي انطلقت منه هذه الهجرات من شبه الجزيرة العربية, فقال بعضهم: إن وسط شبه الجزيرة وبخاصة منطقة نجد، هي الموطن الأول الذي انطلقت منه الهجرات السامية إلى حيث استقرت في العصور التاريخية, ويرى هؤلاء أن هذه المنطقة تمثل الصفات الأساسية التي تجمع بين الشعوب السامية خير تمثيل؛ ومن ثم فهي أنسب من غيرها من المناطق لكي تكون موطنا أصليا لهذه الشعوب22, غير أن ضعف هذا الافتراض يبدو واضحًا في جانبين: الجانب الأول: هو أن منطقة نجد تفتقر كثيرا إلى أسباب الحياة التي تؤدي إلى تكاثر السكان وتضخم عددهم بالصورة التي تجعها خزانا بشريا لا يلبث أن يفيض بما فيه من هؤلاء السكان فينطلقون منه في موجات مهاجرة متعاقبة, فالمنطقة لا يوجد فيها إلا عدد قليل من الواحات المتناثرة وسط ساحات كبيرة مقفرة, كذلك فإن قيام هجرات من هذه المنطقة إلى أطراف شبه الجزيرة في الشمال والجنوب والشرق والغرب "كما يرى أصحاب هذا الرأي" تلزمه دابة نقل مثل الجمل الذي يستطيع أن ينقل أحمالًا ثقيلة لمسافات طويلة في الأرض الرملية وفي الجو الحار الجاف في ظروف قد تنقطع فيها المياه أيامًا متعاقبة. وفي هذا المجال فإن الجمل لم يظهر في مناطق الشعوب السامية إلا منذ القرن الثاني عشر ق. م. أما دابة النقل   21 عن ترتيب الهجرات راجع: G.ROUX: المرجع ذاته، ص 37. عن ترتيب الهجرات بشكل مفصل راجع: نجيب ميخائيل إبراهيم: المرجع ذاته، صفحات 23-30. عن عرض ملخص لدعامات هذا الرأي راجع، جواد علي: المرجع ذاته، صفحات 242-245. 22 karl brockelmann: grundrisse der vergleichende grammatik der semitischen sprachen, hommel ethnologie und geographie des alten orients، ج 1 ص 2 "berlin, 1908" "1926 وmuenchen" ص 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 التي عرفتها المنطقة قبل ذلك فهي الحمار الذي لا يصلح إلا لنقل أحمال محدودة لمسافات محدودة23. أما القسم الآخر من أصحاب نظرية الهجرات المنظمة من شبه الجزيرة العربية فيرون أن اليمن هي الموطن الذي انطلقت منه الهجرات السامية. ودليلهم في ذلك أن إله القمر الذي عرفه اليمنيون ظهر كذلك بين بعض الشعوب السامية الأخرى، كما يرون أن الخط المسند الذي عرف في اليمن هو الذي اشتقت منه سائر الخطوط التي كتبت بها الشعوب السامية الأخرى ومنها الخط الفينيقي24. على أن هذا الرأي يعتوره عدد من نقاط الضعف, ومن بين هذه النقاط أن اليمن ظل لفترة طويلة منطقة خصبة مستقرة, ودليلنا على هذا الاستقرار ما وصل إليه سكانه من مستوى حضاري مزدهر في عصوره السابقة للإسلام، وهو مستوى ظهر في أكثر من جانب, سواء في ذلك بناء السدود أو تنظيم الري والزراعة أو الطرز المعمارية أو انتشار العملة ورسوخها أو العلاقات السياسية الخارجية. وإذا كان اليمن قد ظهرت فيه بعض الاضطهادات أو الاضطرابات أو حتى بعض التراخي الحضاري في فترة أو أخرى من فترات تاريخه، فإن هذا لا يكفي لأن يدفع بسكانه إلى هجرات كبيرة منتظمة أو شبه منتظمة إلى خارج البلاد. كذلك فإن انتقال عبادة إله القمر من اليمن إلى بعض الشعوب السامية لا يعني بالضرورة هجرات بشرية حملت معها هذه العبادة إلى مناطق أخرى. فهناك عقائد وعبادات قديمة انتقلت وانتشرت خارج المناطق التي ظهرت فيها دون هجرات على الإطلاق، مثل عبادة الإله آمون المصري التي عرفت طريقها   23 g. roux: المرجع ذاته، صفحات 137 - 138. 24 "alexandria, 1949" philby: the background of islam صفحات 9 وما بعدها، "montgomery: arabia and the bible 1934 philadelphia" ص 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 إلى بلاد اليونان، ومثل الآلهة إيزيس المصرية التي انتشرت عبادتها في العالم اليوناني الروماني وكان لها معبد في روما، دون أن يستلزم هذا هجرات مصرية تنقل عبادة الإلهين إلى هذه البلاد25, وما يقال عن هاتين العبادتين يصدق على غيرهما، فالعقيدة المسيحية انتشرت على امتداد الإمبراطورية الرومانية دون أن يستدعي هذا هجرة بشرية من فلسطين، بل لقد انتشرت هذه العقيدة رغم محاربة الأباطرة الرومان لها ورغم اضطهادهم لكل من كان يعتنقها وهو اضطهاد وصل إلى درجة المذابح الجماعية المنظمة كما حدث في روما على عهد الإمبراطور نيرون "54م - 68م" وكما حدث في الأسكندرية على عهد الإمبراطور دقلديانوس "284م- 305م"26. أما اشتقاق الخط العربي الشمالي أو الخط الفينيقي من الخط المسند فهو أمر لا يزال غير ثابت حتى الآن، وحتى على افتراض احتماله فإن انتقاله من جنوبي الجزيرة إلى شماليها لا يستلزم بدوره أية هجرات بالضرورة، بل إن انتقاله عبر المعاملات التجارية هو أمر طبيعي ووارد. أما القسم الثالث من أقسام شبه الجزيرة الذي اتجهت إليه أنظار بعض الباحثين ليروا فيه الموطن للهجرات السامية فهو منطقة البحرين في شرقي الجزيرة. وقد أقام هؤلاء رأيهم على بعض الدراسات التي قد تثبت أن الفينيقيين "وهم فرع من الكنعانيين، أحد الشعوب السامية" قد هاجروا إلى المدن الفينيقية من هذه المنطقة. ونحن نستطيع أن نزيد على هذه الدراسات، تأييدا   25 عن وجود عبارة الإله المصري آمون في بلاد اليونان راجع، أفلاطون في محاورات: nomoi, 738 c, alkibiades, II, 148 e-149 B. عن وجود عبادة الآلهة المصرية إيزيس عند الرومان راجع: M.cary المصدر ذاته، صفحات 468، 535, 588 - 9، 697 - 8. 26 اضطهادات المسيحيين في روما على عهد نيرون, CaRy: ذاته, ص 531, على عهد دقلديانوس, المؤلف ذاته: المرجع ذاته 768 - 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 للصلة بين منطقة البحرين والفينيقيين، نصا واستنتاجا، أما النص فهو للرحالة المؤرخ الجغرافي اليوناني سترابون strabo الذي كتب في أواخر القرن الأول ق. م. وأوائل القرن الأول الميلادي، وفيه يتحدث عن الخليج الذي تطل عليه منطقة البحرين فيشير فيه إلى جزيرتين هما: أرادوس arados وصور tyros ويحدثنا أن بهاتين الجزيرتين معابد تشبه معابد الفينيقيين وأن أهل الجزيرتين يؤكدون أن المدن والجزر الفينيقية التي تحمل هذين الاسمين "يشير إلى ميناء إرواد وإلى ميناء صور التي كانت في أصلها جزيرة ربط الفينيقيون بينها وبين الساحل السوري" هي مستوطنات لهم "أي لأهل جزيرتي الخليج"27. وأما الاستنتاج فهو أن الفينيقيين حين ظهروا لأول مرة على مسرح التاريخ في مدنهم على الساحل السوري، ظهروا كملاحين مهرة دون أن نعرفهم في فترة بدائية فيها فن الملاحة وتدربوا عليه حتى وصلوا إلى درجة الصقل والإجادة -وهذا يرجح، استنتاجين: أنهم لا بد وقد مروا بهذه المرحلة التمهيدية على شواطئ أخرى قبل وصولهم إلى الشاطيء السوري. ومن هنا، وفي ضوء النص الذي أورده سترابون, تبرز منطقة البحرين كموطن أصلي محتمل هاجر منه الفينيقيون إلى الشاطئ السوري. كذلك فأود أن أشير فيما يخص منطقة البحرين أن علاقات حضارية قديمة وجدت بينها وبين وادي الرافدين في الفترة المعاصرة لثقافة العُبَيْد "4000 - 3300 ق. م." وللحضارة السومرية في عصر فجر السلالات السومرية "2750 - 2300 ق. م" يدل على ذلك قدر لا بأس به من الآثار التي كشف عنها المنقبون الأثريون, من بينها قطع من الفخار المصنوع والمزخرف على النمط العبيدي والمعاصر لثقافة العبيد في وادي الرافدين عثر عليها في موقع الدوسرية على الشاطئ الغربي للخليج العربي "جنوبي الجبيل".   27 عن الجزر الواقعة في الخليج Strabo: XVI, 3, 4. عن المدن ذاتها على الشاطئ السوري، الكاتب ذاته: XVI,2,15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ومن بينهاكذلك تمثال يشبه التماثيل السومرية في جزيرة تاروت الواقعة على الخليج العربي مما يلي واحة القطيف28. وفي مجال التأثير والتأثر الحضاري بين هذه المنطقة وبين وادي الرافدين, يصبح احتمال التأثير من منطقة البحرين على وادي الرافدين احتمالا واردا تماما مثل الاحتمال المعاكس طالما أن الدليل القاطع على اتجاه التأثير لم يكتشف حتى الآن, وإذا صح هذا الاحتمال الأول فقد يشير إلى هجرة من البحرين إلى المنطقة الجنوبية من وادي الرافدين وبخاصة إذا تذكرنا ما سبقت الإشارة إليه من أن قائمة الملوك السومريين ضمت بين أسماء ملوكها في دويلات المدن السومرية الجنوبية بعض أسماء سامية. وعلى أي حال فإن هذا، كما ذكرت، يظل احتمالا نضمه إلى ترجيح انطلاق هجرة من هذه المنطقة إلى الشاطئ السوري الفينيقي، ولكن كلاهما لا يرقى إلى مرتبة التأكيد، كما أنه حتى في حالة ثبوت كل من الترجيح والاحتمال, فإن هذا لن يدل إلا على هجرتين "بصرف النظر عن حجمهما" لا يستقيم الاعتماد عليهما وحدهما لافتراض منطقة البحرين وطنا أصليا لكل الشعوب السامية. وأخيرا، ففي مجال افتراض شبه الجزيرة العربية كموطن أول لهجرات سامية استقرت في كافة المناطق التي يتكلم سكانها اللغات السامية الآن، نجد رأيا يقتصر على الحافة الشمالية لشبه الجزيرة العربية كمنطلق لهذه الهجرات29, والرأي في حد ذاته منطقي من حيث إنه لا يصطدم بصعوبات جغرافية في وصول هذه الهجرات إلى منطقة وادي الرافدين أو المنطقة السورية على سبيل   28 راجع ملحق اللوحات عن المخلفات الفخارية العبيدية في القسم الشمالي الشرقي من شبه الجزيرة العربية. عن عصر العبيد في وادي الرافدين راجع: G, ROUX: المرجع ذاته: صفحات 67 - 71. 29 G, Roux: المرجع ذاته، صفحات 138 - 139. ويرى هذا الباحث أن الساميين كانوا في هذه المنطقة منذ عصور ما قبل التاريخ، ولكنهم كانوا يظهرون على المسرح التاريخي في سجلات الدول المستقرة عندما يرتبط اسمهم بحدث ظاهر، قد يكون تحركا عسكريا أو تفوقا سياسيا أو غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 المثال. وفي الحقيقة إن افتراض هجرة آمورية إلى وادي الرافدين وهجرة آرامية إلى سورية من هذه المنطقة يبدو افتراضًا واردًا. ولكن مع ذلك فإن هذا الافتراض، إذا ثبتت صحته، لا يفسر إلا هجرتين اثنتين تمثلان شعبين اثنين من الشعوب المتكلمة باللغات السامية, وتبقى بقية الحالات المتصلة ببقية هذه الشعوب دون تفسير مقنع. هذه، بإيجاز، هي آراء الباحثين الذين يرون أن شبه الجزيرة العربية هي موطن الساميين، وأعود فأذكِّر بأساس افتراضهم، وهو أن شبه الجزيرة كانت قبل الألف العاشرة ق. م. منطقة خضراء مأهولة بالسكان، ولكن ظروف الجفاف التي حلت بها دفعت بها نحو الإقفار التدريجي، ومن ثم فقد أخذت مواردها في النضوب مما دفع بسكانها إلى الانطلاق في هيئة هجرات متعاقبة إلى المناطق المتاخمة لها سعيا وراء موارد جديدة. ولكن أحد الباحثين البارزين الذين عكفوا على دراسة تاريخ شبه الجزيرة وأحوالها تصدى لهذا الافتراض بشقيه، سواء في ذلك الشق الذي يرد إقفار شبه الجزيرة إلى عوامل الجفاف الطبيعي, أو الشق الذي يفترض هجرات كبيرة انطلقت من شبه الجزيرة لتنتهي إلى تكوين الشعوب السامية الحالية. ويرى هذا الباحث أن إقفار الجزيرة لا يعود إلى عامل الجفاف فالبحوث الجيولوجية التي تتصل بهذا الموضوع لم تتم إلا في عدد محدود من أقسام شبه الجزيرة العربية, لا يكفي لأن يسري حكما على المنطقة بأكملها؛ ومن ثم فهو يستبعد الاعتماد على هذه البحوث الجيولوجية, ويقتصر على الدلائل التاريخية في التوصل إلى رأي في القضية30.   30 "new york, 1928" alois musil: negd، صفحات 304 - 319. راجع كذلك ردا على رأي هذا الباحث يؤكد تحولا في مناخ جنوبي شبه الجزيرة نحو الجفاف ابتداء من القرن الثالث الميلادي دفع سكان اليمن إلى الهجرة نحو الشمال، اعتمادا على أدلة أثرية وتاريخية وأدلة من القصص الشعبية في: s. huzayyin: changement historique du climat et du paysage de l' arabie du sud "bulletin of the faculty Of Arts, university of egypt" المجلد الثالث، الجزء الأول، "القاهرة 1935"، صفحات 19 - 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ومن هذا المنطلق التاريخي يرى هذا الباحث أن تحول الأرض الخصبة إلى صحارٍ مقفرة جاء نتيجة لعامل آخر هو تدهور سلطة الحكومات التي كانت موجودة في شبه الجزيرة، الأمر الذي أدى إلى تخلخل الأوضاع في الداخل وخروج الزعماء المحليين ورؤساء القبائل عن طوع هذه الحكومات، وهذا بدوره أدى إلى انتشار النزاعات القبلية والتفكك والتفتت الذي يغري بالغزو الخارجي بما يستتبعه هذا من قمع وثورات واضطهادات تؤدي إلى مزيد من تدهور الأمور. وقد ترتب على هذا التدهور انعدام الاستقرار من جهة والانصراف عن العناية بموارد البلاد من جهة أخرى بكل ما يعنيه هذا من تقلص الرقعة المزروعة وتضاؤل وإهمال المدن والمنشآت الحيوية وتضاؤل النشاط التجاري الذي يؤدي بالضرورة إلى تحول الطرق التجارية. والنتيجة الطبيعية لكل هذا هي هجرة مجموعات من سكان البلاد إلى أماكن أخرى أكثر أمنا واستقرارا، ومن ثم أكثر ملاءمةً لحياة يجدون فيها من أسباب الحياة ما بدءوا يفتقدونه في مناطقهم الأولى -وإن كان الباحث يسارع فينفي عن هذا النوع من الهجرة الصفة الدورية شبه المنتظمة التي يتبناها أصحاب الرأي الذي انبرى للرد عليه. والباحث يقدم دليلا على هذا ما حدث في اليمن حين ضعفت الحكومة المركزية وبرزت سلطة الزعماء المحليين من الأقيال والأذواء وتفاقم ما بينهم من شقاق ونزاع؛ فوقعت البلاد فريسة للتدخل الخارجي سواء من جانب الفرس أو من جانب الحبشة في النصف الأخير من القرن السادس الميلادي. ويستطرد الباحث ليذكر أن تصدع سد مأرب في تلك الفترة كان نتيجة مباشرة لضغط الماء على جوانبه ضغطًا أدى إلى انهياره، ومن ثم إلى حرمان منطقة واسعة من الأرض الزراعية من المياه التي كانت تعتمد عليها في ريها، ومن ثم إلى هجرة القبائل التي كانت تقطن هذه المنطقة وتعتمد على زراعتها كمورد حيوي لها. وواضح أن تصدع جدران السد هو نتيجة مباشرة لإهمال الحكومة القائمة في ذلك الوقت للمنشآت الحيوية للبلاد, وسد مأرب هو من أبرز هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 المنشآت. وأخيرا فإن الباحث يحاول تدعيم نظريته هذه التي ترد زحف الإقفار على الأراضي الخصبة نتيجة لتدهور الحكومات وانصرافها عن شئون العمران وليس إلى عوامل الجفاف الطبيعي بأمثلة من لتقدم الذي حدث في عدد من البلاد العربية بعد القرن التاسع عشر والذي كانت نتيجته إنشاء عدد من المدن في مناطق صحراوية واسترجاع قدر كبير من الأراضي المقفرة وتحويلها إلى أراضي مزروعة عن طريق حفر الآبار وشق القنوات وتعمير القرى. وينتهي هذا الباحث من أدلته إلى أن فكرة الهجرات الدورية الكبيرة من شبه جزيرة العرب ليس لها ما يبررها, فليس هناك من يثبت مثلا أن العبرانيين أو الهكسوس قد جاءوا من شبه الجزيرة، كما أن الحديث عن أن قبائل يمنية هاجرت إلى تخوم الشام والعراق وأسست هناك إمارتي الغساسنة والمناذرة قول لا تؤيده المصادر الكلاسيكية "اليونانية واللاتينية" أو السريانية التي تشير بوضوح إلى أن هذه التخوم كانت مناطق عامرة بالسكان تعيش على الموارد التجارية نتيجة لمرور خطوط القوافل بهذه المنطقة، وأن الحكومتين اللتين قامتا هناك أسسهما زعماء أو رؤساء قبائل من المنطقة ذاتها دون أن نضطر إلى افتراض يخرج بنا عن حدودها, كذلك فهو يرى أن الفتوح الإسلامية لم تشكل هجرة كبيرة بالمعنى المتعارف عليه انطلقت من شبه الجزيرة. وفي رأيه أن القوات التي فتحت العراق والمنطقة السورية لم تقتصر على القبائل الحجازية أو النجدية، وإنما أسهمت فيها قبائل من نصارى العراق وسورية رأوا أن المقاتلين المسلمين من بني جلدتهم, فانحازوا إليهم رغم اختلاف الدين ضد الفرس والبيزنطيين. وفي رأي هذا الباحث عدد من نقاط القوة دون شك, وبخاصة فيما يتعلق باعتراضه على فكرة الهجرات الدورية الكبيرة, وفي ذكره لعامل القلاقل المحلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 التي قد تدعو إلى هجرات صغيرة غير منتظمة. على أني أجد في رأيه عددًا من نقاط الضعف أود أن أرد عليها في إيجاز, وأول هذه النقاط هي أن تجاهل نظرية كسبب أساسي للإقفار اعتمادا على أن البحوث الجيولوجية التي تمت في شبه الجزيرة العربية محدودة سواء في عددها أو في عدد المناطق التي أجريت فيها ليس كافيًا لتجاهل العلاقة بين الجفاف والإقفار كسبب ونتيجة مترابطين ترابطا وثيقا. ودليلنا على هذا هو أن المنطقة المقفرة لا تقتصر على شبه الجزيرة وحدها بحيث يمكن أن نرد الإقفار إلى إهمال الحكومات فحسب، فشبه الجزيرة العربية تشكل جزءا واحدا من امتداد صحراوي مقفر كبير يمتد من الشواطئ الغربية الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي غربا إلى نهر الإندوس في الهند شرقا لا يخفف من حدته إلا منطقتان كانت الأنهار الكبيرة فيهما قد نحتت مجراها واستقرت عليه قبل حلول عصر الجفاف, وهما وادي النيل في مصر ووادي دجلة والفرات في العراق. ونحن لا نستطيع أن ندعي أن كل هذا الامتداد الصحراوي "الذي يضم إلى جانب شبه الجزيرة العربية، الصحراء الغربية إلى غربي النيل والصحراء الشرقية -وتسمى أحيانا صحراء العرب- إلى شرقي هذا النهر، ثم هضبة إيران" قد جاء إقفاره نتيجة لضعف الحكومات وانصرافها عن الاهتمام بالموارد الحيوية للبلاد, فقد كانت بعض هذه الصحاري ضمن حدود دول شهدت فترات من القوة والوحدة والتماسك والازدهار مثل مصر وفارس. ومع ذلك بقيت الامتدادات الصحراوية والمقفرة كما هي دون أن تمتد إليها الخصوبة. أما الاستشهاد بأن يد الإنسان قد تمكنت بعد القرن التاسع عشر من انتزاع مساحات من الأرض المقفرة الصحراوية في البلاد العربية وإدخالها في دائرة الخصوبة والزراعة والعمران فردنا عليه هو أن إمكانات العلم الحديث قد أتاحت لإنسان القرن العشرين قدرًا من السيطرة على الطبيعة لم يكن متاحا له في العصور القديمة, سواء في تعمير الأراضي المقفرة أو في غيرها من المجالات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وحتى مع ذلك فإن مساحات الأراضي المقفرة التي أمكن استصلاحها ومد العمران إليها لا تشكل حتى الآن نسبة على قدر كبير من الضآلة إذا قورنت بمساحة الامتدادات التي لا تزال على إقفارها في هذه البلاد. وأخيرا، وليس آخرا، فإن استشهاد الباحث بما حدث في حالة اليمن في القرن السادس الميلادي هو استشهاد محدود زمنًا ومكانًا؛ فشبه الجزيرة العربية، وإن كانت تخضع في عمومها لظروف جغرافية واحدة، فإن أقسامها المختلفة تختلف فيما بينها في حظ كل منها من هذه الظروف، سواء في ذلك عامل الجفاف الذي لم يكن متماثلا في كل أقسام شبه الجزيرة, وإنما كان يقسو أحيانا قسوة بالغة يظهر أثرها واضحا في حياة الارتحال والتفكك, وتخف قسوته أحيانا فتحظى بعض المناطق بأنصبة متفاوتة من الماء والخصوبة, أو عامل الموقع الذي يتأثر بالضرورة بطرق المواصلات والخطوط التجارية، كما يتأثر بالقوى والعلاقات الدولية المحيطة به في فترة أو في أخرى من فترات الحركة التاريخية النشطة غالبا المتراخية في بعض الأحيان، بين القوى الشرقية والغربية المتصارعة والتي ظهر صراعها بشكل خاص في المنطقة التي تشغل نقطة الوسط بين هذه القوى، وهي منطقة الشرق الأوسط، وشبه الجزيرة العربية. وقد كانت نتيجة كل ذلك اختلافًا في طبيعة القوام السياسي بين منطقة ومنطقة، ابتداءً بالقوام القبلي ومرورًا بالتجمعات أو الأحلاف القبلية وبالإمارات وانتهاءً بالقوام الناضج للدولة في بعض المناطق -وهو وضع طبع شبه الجزيرة العربية في عصور ما قبل الإسلام بطابعها المميز الذي تجاورت وتناوبت فيه الحضارة باستقرارها وثروتها وعمرانها وثقافتها وأديانها السماوية، مع البداوة بترحالها وفقرها وقفرها وتخلفها ووثنيتها البدائية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الساميون والعرب مدخل ... 3- الساميون والعرب: هذا هو مجمل الآراء التي دارت حول الموطن المفترض للشعوب التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 أصبحت تسمى بالشعوب السامية على امتداد القرنين الأخيرين. وقد ناقشت ما جاء فيها من شواهد وأدلة وما أثارته من ردود واعتراضات مبينا موقفي من كل منها نفيا أو احتمالا أو ترجيحا. ولعل كثرة ما دار حول هذه القضية من نقاش ورد ونقد واعتراض هو خير دليل على أن الحديث عنها لا يزال بعيدا عن مرحلة الرأي المؤكد المسلم به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 أ- ملاحظات حول فكرة موطن أصلي للساميين : على أني أود، رغم ذلك، أن أورد في ختام هذا الحديث عددًا من الملاحظات سبق أن أشرت إلى بعضها، حتى أخلص إلى تصور أرى أنه -في غياب أي دليل فاصل وقاطع في هذا الموضوع- يتفادى على الأقل عددا من نقاط الضعف أو الاعتراضات التي ظهرت في المناقشات التي دارت حوله حتى الآن. وأولى هذه الملاحظات هي أن افتراض موطن أصلي انطلقت منه هجرات كبيرة، كونت الشعوب التي تتحدث اللغات السامية ليس أمرا ضروريا أو لازما لتفسير التشابه أو التقارب بين هذه اللغات؛ فاللغات أداة تعامل وتداول تنتقل وتؤثر وتتأثر بالحركة والاختلاط والتجاور والتبادل، والهجرات جزء من هذا كله ولكنها ليست كل شيء ولا يمكن أن ينظر إليها على أنها تشكل العامل الوحيد الذي يؤدي إلى ما بين أية مجموعة من اللغات من تشابه أو تقارب. والملاحظة الثانية هي أن الارتباط بين الهجرات الدورية أو الكبيرة وبين الجفاف والإقفار الذي حل بالمناطق التي انطلقت منها هذه الهجرات أمر وارد, ولكنه لا يشكل مع ذلك حكما عاما أو قاعدة متواترة، فهناك من الشواهد التاريخية ما يثبته, لكن هناك كذلك ما ينفيه، وعلى سبيل المثال فمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الشواهد التي تؤيده الهجرات التي انطلقت في القرن الثاني عشر ق. م. من سهوب آسيا الوسطى بسبب عوامل الإقفار والقحط المترتب عليه. واندفعت غربا لكي تستقر في بعض مناطق آسيا الصغرى والقسم الشرقي من أوروبا وليفر أمامها عدد من الشعوب أو الأقوام التي حاولت أن تستقر في مناطق مختلفة على الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط, وقد عرفت هذه الشعوب في التاريخ القديم باسم شعوب البحر31. ومن هذه المنطقة "آسيا الوسطى" كذلك انطلقت في القرن الرابع الميلادي قبائل الهون التي أغارت على الحدود الشمالية الشرقية للإمبراطورية الرومانية واستقرت في عدد من مناطق أوروبا الشرقية. والمنطقة نفسها شهدت في القرن الحادي عشر الميلادي انطلاق القبائل التركية التي استقرت في آسيا الصغرى والشريط الساحلي الأوروبي لمداخل البحر الأسود لتؤسس الدولة العثمانية فيما بعد. ولكن مع ذلك فالتاريخ يقدم لنا، من الجانب الآخر، أمثلة لا يرتبط فيها الجفاف والإقفار بالهجرات الكبيرة أو الدورية, فهناك مناطق انطلقت منها هجرات كبيرة دون أن تتعرض لأي جفاف أو إقفار، وأوضح مثل على ذلك هو هجرات القبائل الجرمانية المتبربرة التي اتجهت من مواطنها الأصلية في شمالي أوروبا لتجتاح حدود الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلادي، على أن المنطقة التي جاءوا منها لم تتعرض لجفاف أو للإقفار. كذلك هناك مناطق أصابها الجفاف والإقفار ولم يؤدِّ ذلك إلى هجرة سكانها، وعلى سبيل المثال فقد عرفت مصر عدة فترات من الجفاف والقحط نتيجة لعدم فيضان النيل كانت كل فترة منها تمتد عدة سنوات،   31 النصوص المتعلقة بهجرات وتحركات شعوب البحر، ترجمة إنجليزية لها وتعليق عليها في: J.Wilson:the war against the people of the G.a,wainwright some. 262 - 263 صفحات sea "anet" sea-peoples and others in the hittite archives, journal of egyptian archaeology "J.E.A." XXV 1939. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 من بينها فترة على الأقل في العصر القديم ظلت ذكراها متواترة إلى أن أشار إليها القرآن الكريم, وفترة أخرى في العصر الوسيط ذكرها المؤرخون المسلمون. وكان المصريون حسب الانطباع الذي يتركه لدينا القرآن وحسبما سجل المؤرخون المسلمون، يقاسون مقاساة شديدة, ومع ذلك فلم يترك المصريون موطنهم الأصلي ويهاجروا إلى مناطق جديدة. والشيء ذاته نجده في وادي الرافدين، فقد عرفت هذه المنطقة فترات مشابهة من الجفاف والقحط في عصورها المختلفة نتيجة لانخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات في وقت الفيضان، وقد وعت ذاكرة السكان في وادي الرافدين القحط, والشدة التي تعرض لها سكان البلاد في تلك الفترات منذ القدم وسجلها التراث الشعبي العراقي القديم فيما تركوه من ملاحم في عصر السومريين والبابليين، ولكن هذه الملاحم لم تذكر ولو مرة واحدة شيئًا عن هجرة سكان وادي الرافدين أو عن تفكيرهم في الهجرة32. والملاحظة الثالثة هي أنه ليس هناك سبب حقيقي يدعو إلى الافتراض أن كل الشعوب المتحدثة باللغات السامية قد هاجرت بالضرورة من موطن صحراوي أو أن هذه الشعوب قضت في أطوارها الأولى حياة بدوية, والدليل الذي أسوقه في هذا الصدد هو وضع "الأكديين" في وادي الرافدين في العصور القديمة. لقد كان هؤلاء الأكديون شعبا ساميا يقطن المنطقة الزراعية الوسطى في وادي الرافدين التي تمتد بين نهري دجلة والفرات من نهر في الجنوب إلى هيت وسامراء في الشمال تقريبا، وقد ظهروا بشكل قوي على مسرح تاريخ وادي الرافدين ابتداء من عهد الملك سارجون الأكدي "حوالي   32 عن إحدى فترات الإقفار والقحط في مصر في العصور القديمة، راجع القرآن الكريم: سورة يوسف، آيات 43 - 48، إحدى فترات الإقفار في العصور الوسطى يشير إليها المؤرخ الإسلامي عبد اللطيف البغدادي. مثال من فترات الإقفار والقحط في وادي الرافدين في العصور القديمة يرد في النصوص الخاصة بالطوفان في النسخة البابلية "أتراخاسيس", راجع ترجمتها العربية في فاضل عبد الواحد علي: المرجع ذاته، صفحات 60 - 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 2371-2316 ق. م" وإن كان هذا لا يعني أنهم لم يكونوا موجودين في المنطقة قبل ذلك. وقد كانت منطقتهم أكّد تقع إلى شمالي المدن السومرية التي ظهرت منذ فجر التاريخ في جنوب الوادي ورغم أن تداخلا حدث بين الأكديين وبين السومريين قبل عهد سارجون كما يشير إلى ذلك عدد من الألفاظ السومرية التي تبناها الأكديون وعدد من الألفاظ الأكدية السامية التي تبناها السومريون "وهم شعب كان يتحدث لغة لا علاقة لها بالمرة باللغات السامية" إلا أننا لا نجد نصا سومريا واحدا -على كثرة ما عثر عليه من هذه النصوص- يصف الأكديين بأنهم أعداء أو غزاة أو بدو، وهذا يشير إلى أنهم لم يكونوا وافدين إلى المنطقة من الصحراء, وإنما كانوا مستقرين فيها مثلما كان السومريون مستقرين في الجنوب. وفي الواقع فإن هذا الاستقرار يشير إليه أكثر من دليل, فقد كان الأكديون -رغم اختلاف اللغة- يمارسون نفس نمط الحياة الذي كان يمارسه السومريون "ولا غرابة في ذلك فالشعبان تحيط بهما ظروف طبيعية واحدة". فهم يعيشون مثلهم حياة حضرية في المدن والقرى ويشاطرونهم نفس أسلوب الحياة ونفس المعتقدات الدينية. وحين أصبحت السيادة على المنطقتين للأكديين منذ عهد الملك سارجون غيرت هذه السيادة تاريخ وادي الرافدين بأكمله، ولكنه رغم ذلك لم تغير الشخصية السومرية لحضارة وادي الرافدين. ومن بين الجوانب الكثيرة التي تشير إلى هذه الحقيقة جانب المعتقدات الدينية التي ظلت كما هي في مضمونها، وجانب الملاحم البطولية التي ظلت تتخذ محورا لها أبطالا سومريين وجانب الأساطير التي كانت في عهد السياسية الأكدية مجرد ترجمة للأساطير السومرية في أغلب الأحيان33.   33 G.ROUX: المرجع ذاته، صفحات 139-140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ب- تصور مطروح حول هذه الفكرة : وبعد هذه الملاحظات المبدئية، وفي ضوئها، انتقل الآن إلى التصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الذي أريد أن أقدمه في مسألة الشعوب الناطقة باللغات السامية, إن الناظر إلى المنطقة التي استقرت فيها هذه الشعوب يجد أنها تشكل امتدادًا واحدًا متكاملًا, يضم شبه الجزيرة العربية ووادي الرافدين والصحراء السورية والمنطقة السورية، وحتى منطقة الحبشة التي تقع عبر البحر الأحمر لا يمكن اعتبارها في الحقيقة خارجة عن هذا الامتداد إذا أدخلنا في اعتبارنا أن الذي يفصل بينها وبين شبه الجزيرة العربية هو المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وهو مدخل ضيق مليء بالجزر التي تشكل اتصالا بين الحبشة والطرف الجنوبي الغربي لشبه جزيرة العرب أكثر مما يشكل انفصالا بينهما. ومن الثابت جغرافيا أن هذه المنطقة كانت قبل نهاية عصر البلايستوسين "حوالي 1000 ق. م" منطقة خضراء آهلة بالسكان, ولنا أن نتصور أن هؤلاء السكان -بحكم تجاورهم وانتمائهم إلى منطقة واحدة- كانوا يتحدثون بلغات متقاربة أو بلهجات متقاربة من لغة واحدة. ومن الثابت جغرافيا كذلك أن عصر الجفاف قد حل بهذه المنطقة "كما حل بامتداداتها في الشرق إلى نهر الإندوس في الهند, وفي الغرب إلى شواطئ المحيط الأطلسي" بحيث أدى الجفاف المستمر إلى إقفار المنطقة وتحولها إلى صحراء فيما عدا بعض المناطق التي سمحت ظروفها الجغرافية ببقاء الخضرة والخصوبة لسبب أو لآخر -مثل وادي الرافدين الذي كان فيه نهرَا دجلة والفرات قد نحتا مجراهما فتكون الوادي الخصب بينهما وأصبحا مصدرا لري هذا الوادي، ومثل بعض المناطق الأخرى في جنوب غربي شبه الجزيرة وعلى الساحل السوري وفي الحبشة, حيث تقوم المرتفعات بصد الرياح المحملة بالأمطار القليلة أو الكثيرة فتسقط هذه الأمطار على قلتها أو كثرتها في هذه المناطق لتعطيها نسبا متفاوتة من الخصوبة. ونتيجة لذلك فإن سكان المناطق التي استطاعت أن تتفادى نتائج الجفاف وتبقى على شيء من الخصوبة ظلوا مستقرين في مناطقهم الأصلية ومارسوا حياة الاستقرار بكثافات مختلفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 حسب حظ مناطقهم من الماء ومن ثم من الخصوبة، في وادي الرافدين والساحل السوري ومنطقة اليمن والحبشة والواحات التي تحيط بالعيون والينابيع المتناثرة في المناطق الصحراوية الواسعة في شبه جزيرة العرب أو على تخومها الشمالية، أما سكان المناطق المقفرة فقد تراجعوا أمام زحف الصحراء إلى تخوم المناطق الخضراء المتبقية ليعيشوا حياة بدوية تقوم على الرعي, ومن ثم الارتحال حيثما تنمو الأعشاب من منطقة إلى منطقة, ومن موسم إلى موسم. ويقدم لنا أحد الباحثين تصورا منطقيا وتاريخيا لما كان يمكن أن يجري في هذه المناطق الحدية الواقعة بين مناطق الخصوبة والاستقرار من جهة ومناطق البداوة والارتحال في الفترة السابقة لظهور الجمل في مناطق الشعوب السامية في غضون القرن الثاني عشر ق. م. حين كان الحمار لا يزال هو دابة النقل عند هذه الشعوب. وهو يذكر لنا في هذا المجال أن البدو كانوا على علاقة وثيقة ومستمرة مع المزارعين في المناطق الخصبة, فالمزارعون يشترون منهم بعض الأغنام ويزودونهم في مقابلها بالحبوب والتمر والأدوات والأسلحة والسلع الأخرى التي يحتاجون إليها في حياتهم اليومية, والصورة العامة لهذا التبادل هي أن أفرادا أو جماعات من الجانبين كانت تلتقي بشكل منتظم في القرى أو الأسواق الواقعة عادة خارج أسوار المدن، يتبادلون سلعهم ويتبادلون معها، دون شك، أحاديثهم وأفكارهم، وبعدها يعود البدو إلى مراعيهم التي ربما لم تبتعد عن هذه الأسواق والقرى إلا بضعة أميال، وفي بعض الأحيان فإن بعض الأفراد من البدو قد يتركون قبيلتهم لكي يعملوا في المدن إما كجنود مرتزقة أو كحرفيين أو كتجار. وفي أحيان أخرى فإن أسرة من البدو أو عشيرة أو قبيلة بكاملها قد تحصل على قطعة من الأرض داخل المنطقة المزروعة، إما يستولون عليها استيلاء أو يقدمها إليهم أصحاب الأراضي الزراعية أو حكوماتهم، وفيها يمارس البدو حياة الزراعة إلى جانب رعي الأغنام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وفي ضوء هذه الظروف كان يحدث كثيرا أن تمد حكومات المناطق الزراعية سيطرتها في صورة أو في أخرى إلى القبائل البدوية ليستخدموهم كجنود مرتزقة أو مساعدة بشكل خاص كلما احتاجوا إليهم. ولكن الوضع قد ينعكس في أوقات الاضطرابات أو القلق السياسي فتشن القبائل البدوية بشكل فردي أو جماعي الغارات على المجتمعات الزراعية المستقرة وتنهب مدنها وتحتل مساحة صغيرة أو كبيرة من أراضيها تنتهي بالاستقرر فيها. وهكذا يأتي هذا الباحث إلى ختام تصوره التاريخي ليذكر أن استقرار البدو في المناطق الزراعية كان، على هذا النحو، تطورا بطيئا ويكاد يكون مستمرا مع فترات تدخل مسلح من حين لآخر. وهو في هذا كله لم يتم نتيجة لحركات "هجرات" كبيرة من قلب الصحراء إلى المناطق الزراعية، وإنما اتخذ شكل انتقال على مدى مكاني قصير أو متوسط في المناطق الحدية الواقعة بين الأراضي الزراعية حيث الاستقرار, والأراضي العشبية البدوية34. وهذا التصور وارد إلى حد كبير. ورغم اقتصار الباحث في حديثه على الفترة السابقة لظهور الجمل في حياة الشعوب السامية، إلا أنه بالإمكان أن يغطي، بشكل جانبي، الفترة التالية لظهور الجمل كدابة نقل تصلح للمسافات البعيدة. وفي الواقع فإن ظهور الجمل في حياة البدو من الممكن أن يزيد من حجم هذا الاتصال بين سكان المناطق الواقعة حول العيون والينابيع في قلب الصحراء وبين المناطق الخصبة المرزوعة. وقد يتم هذا عن طريق التعامل التجاري بين أطراف شبه الجزيرة العربية وهو أمر وجد فعلا فظهرت خطوط القوافل التجارية لتصل بين سكان شبه الجزيرة العربية والمناطق المتاخمة لها في وادي الرافدين والمنطقة السورية، وقد ساعد على هذا دون شك الموقع المتوسط لشبه الجزيرة الذي كانت تمر بشماله الخطوط التجارية البرية الآتية   34 الكاتب ذاته: المرجع ذاته، ص 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 من الشرق الأقصى والذي كانت تمر على شواطئه الخطوط البحرية من المحيط الهندي والموانئ اليمنية في الجنوب الغربي لشبه الجزيرة العربية, ومنها تنتقل بالطرق البرية إلى الساحل السوري في الشمال ومنه إلى الشواطئ المتعددة للبحر المتوسط، وهي طرق لم تندثر حتى بعد أن نشطت الحركة التجارية في البحر الأحمر. هذه الحركة التجارية التي كانت تجعل أجزاء شبه الجزيرة العربية على اتصال دائم مع المناطق المتاخمة لها -كانت دون شك استمرارا موسعا لما كان يحدث في الفترة السابقة من تداخل بين مناطق البداوة والحضارة قبل أن يظهر الجمل في أفق الشعوب السامية. وقد كان هذا كله وسيلة لاتصال مستمر بين هذه الشعوب لا يجعل لغاتها تنفصل عن بعضها إلى نقطة اللا عودة أو حتى إلى نقطة الاختلاف الكبير -وهو اتصال لم تقتصر مقوماته على هذه التحركات السلمية، وإنما امتد ليشمل تحركات من نوع آخر كانت تتم بشكل توسعي، سياسي وعسكري، وكانت تتخذ عادة شكل حروب وغارات تقوم بها القوات الآشورية والبابلية الحديثة بشكل خاص على المناطق الواقعة إلى غربيها, وفي أثناء هذه التوسعات سواء أكانت مؤقتة أو طويلة الأجل كانت في حد ذاتها نوعا من استمرار الصلة، وإن تم بشكل عنيف، داخل دائرة هذه الشعوب35. وشيء مثل هذا يمكن أن يقال بتفاصيل أخرى عن العلاقة بين جنوب غربي شبه الجزيرة ومنطقة الحبشة عبر مضيق باب المندب عند الطرف الجنوبي للبحر الأحمر وبخاصة في القرن السادس الميلادي.   35 يوجد عرض وتحليل للنصوص المسمارية المتعلقة بهذه العلاقات التوسعية في رضا جواد الهاشمي: العرب في ضوء النصوص المسمارية، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، عدد 22، شباط 1978، صفحات 639 - 666. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ونحن نستطيع أن ندرك مدى استمرار الصلة بين هذه الشعوب "بغض النظر عن الصورة التي تتخذها هذه الصلة" ومن ثم استمرار التقارب بين لغاتها, إذا أضفنا إلى كل هذا أن المنطقة بأكملها كانت تقع بين القوات أو الإمبراطوريات الكبيرة؛ في الشرق حيث الفرس, وفي الغرب حيث الدول المتأغرقة التي قامت في بداية القرن الثالث على أنقاض إمبراطورية الإسكندر الأكبر، ثم الإمبراطورية الرومانية ثم الإمبراطورية البيزنطية, وأن هذه الإمبراطوريات كانت في صراع شبه دائم إن لم يكن دائما فعلا في علاقاتها، وأن هذا الصراع كان يمتد في بعض الأحيان لكي يدخل فيه طرف ثالث مثل دولة الحبشة "وبخاصة في فترة الصراع بين البيزنطيين والفرس". وفي خلال كل هذا كان سكان المنطقة ينشطون بأشكال وصور مختلفة حسب نوعية الظروف التي تبرز من مرحلة إلى مرحلة، فتقوم لهم دول مستقلة مثل مملكة تدمر أو مملكة الأنباط أو إمارات تابعة أو شبه تابعة مثل إمارة المناذرة في الحيرة وإمارة الغساسنة في الشام، وتنشط الخطوط التجارية من حين لآخر إذا تمخضت كل هذه العلاقات أو بعضها عن ظروف مواتية، أو تنشط المواجهات العسكرية في ظروف أخرى، فيتم الاتصال سلاما أو عنفا, ولكنه في كلتا الحالين محافظ على استمرار التقارب بين لغات هذه الشعوب. وأخيرا، وليس آخرا, فنحن نستطيع أن نضيف إلى كل ما سبق ذكره عاملين سبق أن أشرت إلى أحدهما بشكل جانبي, وأحد العاملين هو دون شك الاضطرابات التي كانت تحدث في بعض المناطق مثل اليمن لتصيب الاستقرار والموارد الاقتصادية فيهاجر بعض أبناء المنطقة إلى مناطق أخرى بحثًا عن الأمن والاستقرار وعن موارد جديدة. أما العامل الآخر الذي لا ينبغي أن نستبعده احتمالا، أو حتى ترجيحا, في ضوء ظروف الجفاف والقحط التي يمكن، إذا اشتدت وطأتها، أن تدفع بأعداد منظمة أو شبه منظمة من السكان إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ترك مناطقهم إلى مناطق أخرى أكثر خصبًا وبخاصة بعد ظهور الجمل في حياة الشعوب السامية, وإن كنت أبادل فأقول: إن تحديد هذه الهجرات وترتيبها في أزمان محددة واستقرارها في مناطق محددة هو أمر لا نملك أن ندعمه بشواهد تاريخية قاطعة حتى الآن. وهكذا أصل إلى نهاية النقاش لأذكِّر بأن الحديث عن الشعوب السامية, ومن بينها العرب، ليس حديثا عن شعوب تنتمي إلى عنصر واحد وتنحدر من أصل واحد لهذا العنصر، وإنما هو حديث عن شعوب تتقارب لغاتها إلى حد واضح في عدد من الجوانب المهمة، من بينها جذور ألفاظها وطريقة تكوين هذه الألفاظ وتصريفها ومن بينها الأسماء الدالة على تكوين الأسرة وعلى التنظيمات السياسية والعلاقات الاجتماعية والمعتقدات الدينية -وكلها, كما هو ظاهر، تدور حول تكوين المجتمع وحركته، ومن ثم تدل على احتكاك مستمر بين هذه الشعوب. على أن هذا كله لا يدفعنا، وليس هناك مبرر علمي أو تاريخي لأن يدفعنا، إلى افتراض موطن أصلي لهذه الشعوب انطلقت منه في صورة هجرات دورية كبيرة منتظمة إلى بقية أرجاء المنطقة التي استقرت فيها بشكل نهائي، وإنما التصور الذي يتعارض مع المنطق والذي يتفادى كثيرا من النقد العلمي والتاريخي هو أن التشابه الذي نراه بين لغات هذه الشعوب حتى الآن هو نتيجة لتعامل مستمر اتخذ أشكالًا متعددة. ومن بين أشكال هذا التعامل، التداخل البطيء الذي كان يتم بين المناطق البدوية والمناطق الزراعية التي تقع على تخومها في الفترة السابقة لظهور الجمل كدابة نقل تملك الإمكانات المناسبة للتنقلات البعيدة سواء من حيث الأحمال أو الاحتمال36. ومن بينها احتمال هجرات كبيرة من حين لآخر   36 عن تاريخ ظهور الجمل عند الساميين راجع: G.ROUX: المرجع ذاته، ص 138. وعن مناقشة هذا التاريخ بتوسع راجع forbs: studies in ancient technology "leiden 1995" صفحات 187-203. عن الإمكانات التي يملكها الجمل للتنقلات البعيدة من حيث الأحمال والاحتمال راجع: حاشية 22 من الباب الثالث من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بسبب اشتداد القحط أو بسبب اختلال الأمن وتدهور العناية بالموارد الاقتصادية في منطقة أو أخرى. ومن بينها كذلك ما دار داخل المنطقة من علاقات سلمية أو حربية بين المناطق الواقعة في داخلها. وإلى جانب كل هذا كان هناك الموقع المتوسط الذي تشغله المنطقة بين الشرق والغرب, فكانت ممرا تجاريا نشطا بينهما، وهو ممر اشتركت فيه بقوافلها بكل ما تمثله هذه القوافل من معاملات واتصالات بين شعوبها، كما تأثرت بسبب هذا الموقع المتوسط، بالقوات الكبرى التي ظهرت في الشرق أو في الغرب بكل ما يستتبعه هذا من تحركات ولقاءات سلمية أو حربية كانت المنطقة في خلالها همزة وصل في كثير من الأحيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ج - العرب وفكرة الأصل السامي: هذا، إذن، هو التصور الذي أطرحه فيما يخص الساميين أو الشعوب السامية وأصلهم وصلتهم بشبه جزيرة العرب، وهنا نصل إلى سؤال أخير: أين موقع العرب من هذه الشعوب السامية؟ لقد بدأ الحديث عن أصل العرب بين الإخباريين أو كتَّاب الأخبار الأول في صدر الإسلام عند اثنين من هؤلاء هما عبيد بن شرية الجرهمي وهو يمني, ووهب بن منبه وهو يمني كذلك، وجاء الحديث ضمن ما رواه هذان الإخباريان عن أصل الشعوب الموجودة من عرب وغير عرب، واستمر هذا الحديث في الكتابات العربية في العصر الإسلامي عدة قرون زادت فيها تفاصيله وتشعبت وتداخلت حتى لخصها وصنفها ابن خلدون في أواخر القرن الثامن الهجري "أواخر القرن الرابع عشر الميلادي" في الجزء الثاني "الذي يلي جزء المقدمة" من تاريخه المعروف "العبر وديوان المبتدأ والخبر". ودون دخول في تفاصيل الأنساب التي ربطها هؤلاء الكتاب بالعرب وفي اختلافاتهم في هذه الأنساب, فقد اتفقوا بشكل عام إلى تقسيم العرب إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 طبقتين أساسيتين هما العرب البائدة ومن بينهم قبائل عاد وثمود وطسم وجديس, وقد باد هؤلاء لسبب أو لآخر, وعرب باقية, وهؤلاء بدورهم قسمهم الكتاب من إخباريين ومؤرخين إلى طبقتين: العرب العاربة أي أصحاب اللسان العربي الأول, الذين أخذوا عن هؤلاء اللغة العربية واصطنعوها لسانا لهم. والذي يهمنا في صدد الحديث الحالي هو ما ورد في هذه الكتابات من محاولات لربط العرب عرقيا، أي عن طريق تسلسل النسب وقرابة الدم بالأصل السامي، وهي محاولات يظهر من بينها, على سبيل المثال، ما ذكره عبيد بن شرية في أثناء حديثه عن أبناء نوح -عليه السلام- من أن أحد أبنائه وهو "سام" كان له ابنان، أحدهما إرم وإليه وإلى بنيه ينتسب العرب37. وما ذكره عدد من الكتاب الآخرين, مثل البلاذري والمسعودي، من أن العرب العاربة ينتسبون إلى قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح38. ورغم أن هذه الكتابات ظهرت جميعا بعد انتهاء العصر الجاهلي وظهور الدعوة الإسلامية، بل كان ظهور بعضها بعد الإسلام بعدة قرون كما أسلفت، ورغم أن بعضها على الأقل تحيط به شكوك كثيرة سواء فيما يخص الملابسات التي أحاطت بالكتابة نفسها أو بمضمون هذه الكتابة أو فيما يخص الاختلافات بين أصحاب هذه الكتابات39, إلا أن نقطة أساسية لا بد   37 وهب بن منبه: التيجان في ملوك حمير "حيدر آباد الدكن 1347هـ" كذلك عبيد بن شرية: أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها أو كتاب الملوك وأخبار الماضين "ملحق بكتاب التيجان لوهب بن منبه" صفحات 316-319. 38 البلاذري: أنساب الأشراف ج1، "القاهرة، 1959" ص4، المسعودي: مروج الذهب، ج2 "القاهرة، 1958" ص71. 39 كان عبيد بن شرية أحد المقربين في بلاط معاوية بن أبي سفيان, راجع المسعودي: ذاته ج2,ص85. عن طريقة روايته لأخباره التي تأخذ شكل المسامرة للخليفة، راجع: عبيد بن شرية: ذاته، صفحات 313 وما بعدها، كذلك المسعودي: ذاته، ج3، ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أن نعترف بها قبل البدء في مناقشة هذا الانتساب العرقي بين العرب وبين سام بن نوح، وهذه النقطة هي أن العرب كانوا حريصين على ظاهرة النسب في عمومها، وعلى وجه الخصوص في العصر الجاهلي, وهو أمر نلمسه بشكل واضح في الشعر الجاهلي وما فيه من مواضع كثيرة يفخر فيها شعراء الجاهلية بانتسابهم إلى عشيرة أو قبيلة معينة, أو يهجون فيها عشيرة أو قبيلة أخرى. وفي الواقع فإن هذه الظاهرة كانت من طبيعة الأشياء في شبه جزيرة العرب بكل ما أحاط بها من ظروف طبيعية تجعل العصبية رابطة أساسية تتكتل أو تلتف حولها كل مجموعة من المجموعات التي انقسم إليها سكانها، تلتف حولها القبائل البدوية في تلمسهم لأسباب الحياة تسابقا وتصارعا فيما بينها حول منابت العشب ومنابع الماء أو إغارة على قبائل الحضر المستقرة، وتتكتل حولها قبائل أو عشائر الحضر سواء في تصديقهم، عنفا أو سلاما، لغارات البدو، أو في صراعهم فيما بينهم داخل المدينة الواحدة أو داخل الإمارة أو المملكة الواحدة في صراعها حول الاستئثار بزمام السلطة وما يعنيه هذا من خير كثير في وقت لم يكن فيه سكان شبه الجزيرة قد عرفوا التكتل حول إيديولوجيات سياسية, ومن ثم كان التصور الوارد هو التكتل حول العصبية التي تقوم على أساس من رابطة العرق أو رابطة الدم والانتماء إلى أصل واحد سواء أكان حقيقيا أو موهوما. ونحن نلمس هذا التمسك بأرومة الدم أو الأصل الواحد في احتفاظ عدد من الأقوام أو المجموعات التي سكنت بعض أقسام شبه الجزيرة العربية بأسمائها حتى بعد أن تنتقل، لسبب أو لآخر, من مواطنها الأصلية إلى مواطن أخرى بعيدة عنها, فقوم عاد الذين يشير القرآن الكريم إلى موطنهم الأصلي في منطقة الأحقاف في القسم الجنوبي من شبه الجزيرة تحت اسم عاد الأولى، لا نلبث أن نراهم، سواء في القرآن الكريم أو في الكتابات الكلاسيكية في موطنهم الجديد في القسم الشمالي الغربي من شبه الجزيرة, محتفظين باسمهم القديم, والثموديون الذين لا تزال نقوشهم قائمة حتى الآن في المنطقة الوسطى نراهم، هم الآخرون، وقد احتفظوا باسمهم في المنطقة الشمالية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الغربية، مرة أخرى في المصادر القرآنية والكلاسيكية40. والشيء ذاته ينطبق على السبئيين، وهم من عرب الجنوب الذين أسسوا في الشمال مدنا أو مستوطنات تحت اسم سبأ مؤثرين بذلك إلى إيثارهم لتسميتهم كقوم على أية معطيات مكانية قد توحي باسم جديد. وإذن فتصور الرابطة العرقية كنقطة تكتل بين المجموعات التي سكنت شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام "وفي الواقع حتى بعد ظهور الإسلام رغم كل ما حملت الدعوة الإسلامية من قيم جديدة تتجاوز القبلية والعنصرية عموما" هو تصور قائم، ومن ثم يصبح الحديث عن الأنساب عند العرب أمرا واردا، وهو حديث يصل التشبث به في الواقع إلى ما يتجاوز أنساب البشر في بعض الأحيان إلى محاولة لتنسيب الخيل ذاتها41. ولكن، مع ذلك، فالحديث عن تأصيل النسب شيء، والمغالاة في هذا التأصيل شيء آخر، وفي هذا الصدد قد يكون من المعقول والمنطقي أن يعرف أبناء أسرة أو عشيرة نسبهم بشيء من الدقة النسبية إلى حدود معينة, أما أن يدفع هذا النسب تأصيلا إلى عهد سام بن نوح "وفي بعض الأحيان إلى عهد آدم42، الأب الأول للبشرية" فأمر لا بد أن يدخل فيه قدر كبير من النحت والخيال. وفي الواقع فإنه لا يوجد مما تركه له سكان شبه الجزيرة قبل الإسلام، سواء في مجال الآثار أو المخلفات المادية، أو في مجال النقوش والشعر، ما يشير إلى اعتقادهم في هذا النسب الذي يصل إلى سام بن نوح، كما أن محاولة تأصيل هذا النسب بين كتاب العصر الإسلامي قد أوقعت هؤلاء الكتاب في قدر غير   40 عن عاد: راجع الباب الخامس من هذه الدراسة، عن ثمود راجع: البابين الرابع والخامس من هذه الدراسة. 41 ابن الكلبي: نسب فحول الخيل في الجاهلية والإسلام، القاهرة 1946. 42 على سبيل المثال، الموضوع الأول في كل من وهب بن منبه: ذاته، الهمداني: صفة جزيرة العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قليل من الحرج والتناقض وما يؤدي إليه هذا من تخريجات وتبريرات من بينها, على سبيل مثال واحد، ما عمد إليه بعضهم في سد الفجوة بين أجيال العرب العاربة والمستعربة43. والتصور الذي أطرحه أعود فيه إلى ما سبق أن ذكرته في هذا الحديث وهو أن نقاء العناصر أو الأجناس أمر لم يعد واردًا من الناحية العلمية الآن؛ ومن ثم فإن محاولة تنسيب العرب إلى أصل معين، سواء إلى سام أو إلى غير سام، تخرج بدورها عن نطاق التحديد العلمي. وأزيد هنا أن محاولات التنسيب والتأصيل العرقي كانت طريقة سائدة في العصور القديمة, كما حدث, على سبيل المثال, عندما حاول الرومان تنسيب -أن ينسبوا- رومولوس ROMOLUS المؤسس الأسطوري لمدينة روما إلى البطل الطروادي إينياس aeneas "الذي قد يكون بدوره بطلا أسطوريا". بل لقد وصلت هذه المحاولات عند عدد من الشعوب إلى تنسيب الآلهة ذاتها, كما حدث في ملحمة "إينوما إيليش" "حينما في العلا" التي تروي أسطورة الخلق عند البابليين، أو في ملحمة "ثيوجونيا" theogonia "سلالة الآلهة" التي حاول فيها الشاعر اليوناني هزيودوس hesiodos أن يفصل فيها نسب الآلهة عند اليونان44. فإذا أضفنا إلى هذا الاتجاه العام ما ذكرته عن تمسك عرب شبه الجزيرة في الجاهلية   43 هذه الملاحظة في سعد زغلول عبد الحميد: في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت، 1975، ص84 "راجع ابن خلدون: ذاته، ج2، ص47 مقتبسة في حاشية 3 في الصفحة ذاتها". 44 النص الكامل لملحمة إينوما إيليش في anet، صفحات 61-72، نقل النص الآكدي إلى الإنجليزية e.a.speiser تحت عنوان: the creation epic. عن سلالة الآلهة عند اليونان راجع: hesiod theogonia، الملحمة كلها. عن إينياس ورومولوس، راجع عرضا عاما لمحاولات الرومان في هذا الصدد في m. cary: a. history of rome ط2 "1960 oxford" ص35، وحاشية 12، ص40. عن أسفار إينياس الأسطورية التي حملته إلى الشواطئ الإيطالية راجع الإنيادة للشاعر اللاتيني فرجيليوس، النشيد الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 برابطة العصبية التي كانت تتمثل في رابطة عرقية ذات انطباع عميق في تصور العرب، تصبح لدينا البذرة الأولى لفكرة التنسيب التي ظهرت في الكتابات العربية بعد الإسلام. وقد وجد العرب أنفسهم بعد الإسلام أمام تحديات حضارية جديدة, فالفتوح الإسلامية وضعتهم وجها لوجه أمام حضارات قديمة مستقرة لا بد أنها دفعتهم أمام تأكيد هويتهم أمام هذه الحضارات وهو أمر نجد صداه فيما يذكره الكتاب العرب في العصر الإسلامي من صفات يتميز بها العرب عن غيرهم45 -الأمر الذي نجده في شكل أوسع في أثناء ظهور الحركة الشعوبية في العصر العباسي حين أخذ الفرس يمجدون أصلهم ويتعالون به على العرب, فكان رد الفعل عند العرب أن قابلوا ذلك بتمجيد مماثل للأصل العربي وللصفات العربية. وفي مجال تأكيد الهوية يصبح تأصيل النسب أمرًا واردًا بالدرجة الأولى. أما عن إرجاع هذا النسب إلى سام بن نوح فهو يمثل عنصر الإسرائيليات التي بدأت تتسرب إلى الكتابات العربية آنذاك, وبخاصة إذا عرفنا أن عددا من الكتاب كانوا إما من أصل يهودي أو متأثرين بالكتابات والأخبار الإسرائيلية، مثل عبيد بن شريه الجرهمي ووهب بن منبه وأبي عبيدة معمر بن المثنى التميمي46. وهكذا تصبح الكتابات العربية التي ظهرت في العصر الإسلامي عن أنساب العرب وردها إلى سام بن نوح نتاجا طبيعيا للظروف التي أحاطت   45 راجع، على سبيل المثال, الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص3، الذي يضفي على العرب عددا من الصفات المميزة لعرب شبه الجزيرة, سواء في طريقة نطقهم أو في صفاتهم الجسمانية أو في صفاتهم النفسية، أو في معاملاتهم مع غيرهم. 46 عن الأصل اليهودي لأبي عبيدة التميمي راجع ابن النديم: الفهرست، ص53. عن انتشار التأثيرات الإسرائيلية "على علاتها" عموما، راجع جواد علي: ذاته، ج1، صفحات 121-122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 بعرب شبه الجزيرة سواء في العصر السابق لظهور الإسلام, أو بعد ظهور الدعوة الإسلامية وفترة الفتوحات العربية. وهي كتابات عكست تصور العرب آنذاك, ولكننا لا يمكن أن ننظر إليها الآن كحقائق علمية, وإن كانت من جهة أخرى لا تخلو من فائدة فيما تعكسه من اختلافات بين عرب الجنوب وعرب الشمال في شبه الجزيرة, وهو اختلاف له أصوله من حيث الغنى والفقر والحضارة والبداوة وأسلوب الحياة بوجه عام، كما تعكس لنا ذكريات، مهما كانت باهتة في أذهان العرب آنذاك، عن أقوام من شبه الجزيرة ظهروا في بعض الفترات ثم هاجروا أو اندثروا وبعضهم، رغم وحدة المقام في شبه الجزيرة العربية, كانوا يتحدثون بلهجات أخرى غير اللهجة التي أصبحت لغتهم العربية. ولعل كل ما يمكن أن نصل إليه في هذا الموضوع بشكل محدد هو أن عرب شبه الجزيرة الذين سبق أن رينا كيف أسهمت الظروف في تبلور شخصيتهم أو هويتهم الجماعية بشكل تدريجي في الفترة السابقة للإسلام، كانوا عند ظهور الإسلام قد بدءوا يشعرون بشكل محدد بأنهم قوم لهم صفة عربية محددة سواء كمجموعة بشرية لها صفات عامة تجمعها وتميزها عن غيرها، أو كأصحاب لغة عامة موحدة تجمع بينهم رغم اختلاف لهجاتهم المحلية، وأن لديهم انطباعا عاما يعتقدون من خلاله أنهم ينحدرون من سلالة إبراهيم -عليه السلام- وقد أكد القرآن الكريم هاتين الفكرتين بشكل يدل على أن عرب شبه الجزيرة كان لديهم هذا الانطباع47.   47 الإشارة إلى الصفة العربية في القرآن الكريم: سورة فصلت:44, الإشارة إلى الأعراب "عشر مرات": سورة التوبة:90، 97، 98، 99، 101، 120, سورة الأحزاب: 20، سورة الفتح: 11، 16, سورة الحجرات: 14، الإشارة إلى اللسان العربي "10 مرات": سورة النحل: 103، سورة يوسف: 2, سورة الرعد: 37، سورة طه: 113، سورة الزمر: 28، سورة فصلت: 3، سورة الشورى: 7، سورة الزخرف: 3، سورة الأحقاف: 12، الشعراء: 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الباب الثالث: شبه جزيرة العرب: الملامح العامة 1- الموقع والسطح والأقسام الطبيعية: تقع شبه جزيرة العرب في القسم الجنوبي من القارة الآسيوية، وهي أقصى منطقة من هذه القارة في هذا الاتجاه، وتحدها مياه البحار من الشرق والجنوب والغرب, ومع هذا فقد سماها علماء العرب "جزيرة العرب"، وهي تسمية فيها تجاوز علمي ظاهر. وأحد الأسباب التي جعلتهم يقدمون على هذا التجاوز هو وجود نهر الفرات الذي يدخل المنطقة في قسمها الشمالي الغربي قرب شواطئ البحر المتوسط ثم يمتد في اتجاه جنوبي شرقي حتى يصبَّ في مياه الخليج في القسم الشمالي الشرقي لشبه الجزيرة، وهو أمر دفع هؤلاء العلماء إلى النظر إلى المنطقة بشكل تجاوزي على أنها جزيرة. كذلك كان بين هذه الأسباب أن المنطقة تشبه جزيرة بشرية يتحدث سكانها باللغة العربية وتحدها "غير الحدود البحرية" مجموعات بشرية تتحدث بلغات أخرى؛ مما حدا بأحد هؤلاء العلماء إلى أن يقول: إن المنطقة "تسمى جزيرة العرب؛ لأن اللسان العربي فيها شائع وإن تفاضل"1.   1 ياقوت الحموي: معجم البلدان، مادة: جزيرة العرب؛ الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ورغم قلة عدد السكان في شبه جزيرة العرب بشكل ظاهر, إلا أنها أكبر شبه جزيرة في كل قارات العالم على السواء. وتبلغ مساحتها ما يقرب من ربع مساحة القارة الأوروبية بأكملها أو ثلث مساحة الولايات المتحدة الأمريكية. أما عن تفاصيل موقعها فيحدها من الشرق الخليج العربي الذي عرف في نصوص وادي الرافدين باسم "البحر الأدنى" و"النهر المر" و"البحر المالح" و"بحر الشروق الكبير", وعرفه الكتاب الكلاسيكيون "اليونان والرمان" باسم "الخليج الفارسي" أو "البحر الفارسي". أما في الجنوب فتطل شواطئ شبه الجزيرة على المحيط الهندي الذي عرفه الكتاب الكلاسيكيون باسم "البحر الأحمر" "وهي الترجمة العربية للفظة erythre thalassa اليونانية" أما في الغرب فتغسل شواطئ شبه الجزيرة مياه البحر الأحمر الذي أطلق عليه الكتاب الكلاسيكيون الاسم نفسه. كما سموه كذلك باسم "خليج العرب" بينما عرفوا طرفه الشمالي من ناحية شبه جزيرة العرب باسم "خليج أيلة" أو "خليج الأيلانيين" نسبة إلى "إيلات"، أو "إيلوت" وهي التسمية العبرية لميناء العقبة2.   2 عن أسماء الخليج في نصوص وادي الرافدين: البحر الأدنى: anet صفحات 267 على عهد سارجون الأول "2371-2316ق. م" ص277 على عهد شلمنصر الثالث "858-824ق. م.". النهر المر: "نار مراتو" نص من عهد شلمنصر الثالث مقتبس في G.roux: ذاته ص270. البحر المالح: anet، ص316، نص من عهد حشويرش xerxes "485-465 ق. م." أثناء الحكم الفارسي في المنطقة. بحر الشروق الكبير، g.roux: ص465 "خريطة". عن أسماء الخليج عند الكتاب الكلاسيكيين: البحر الفارسي: persa thalatta في اليونانية mare persicum , strabo: XVI , 4, 1 في اللاتينية عند plinius: historia naturalis VI, 137. الخليج الفارسي: persikos kolpos في اليونانية SInUs persicus و strabo: XVI 3,2 في اللاتينية plinius H.N., VI, 138. عن المحيط الهندي عند الكتاب الكلاسيكيين: "البحر الأحمر" "كناية عن المحيط الهندي" erythre thalassa في اليونانية herodotos: II,8 كما ورد شاطئ البحر الأحمر rubrus litus بمعنى شاطئ المحيط الهندي في اللاتينية: plinius VI 154. عن البحر الأحمر عند الكتاب الكلاسيكيين: البحر الأحمر rubrum mare و herodotes: II , 185 في erythre thalassa في plinus:.H.N. ,VI, 165 كذلك الخليج العربي arabios kolpos في herodotos: II,11,102 وفي strabo: XVI, 4:2 كذلك sinus arabicus في plinius: H.N,.VI. 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 والبحر الأحمر الذي يفصل بين شبه الجزيرة من جهة والقارة الإفريقية من جهة أخرى يمثل في الواقع الجزء الأكبر من أخدود أو هبوط أرضي حدث في العصر الجيولوجي الثالث, ويعتبر في ضوء هذه الحقيقة امتدادا طبيعيا لوادي الأردن والبحر الميت ووادي عربة من ناحية الشمال. أما ساحله الذي تطل عليه شبه الجزيرة فأغلب مناطقه من الشعب أو الصخور المرجانية المتشعبة التي لا تصلح لأن تقوم فيها موانئ لرسو السفن مما صعب الملاحة وحدا بالعرب إلى أن يديروا ظهرهم لهذا البحر بشكل عام. وأخيرا ففي أقصى الجنوب من هذا البحر توجد أضيق أماكنه وهي المنطقة المعروفة باسم مضيق "باب المندب" الذي ينتشر فيه عدد من الجزر فتجعل الانتقال بين الطرف الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة وبين الشاطئ الإفريقي أمرا ميسورا، وقد كان هذا بالفعل هو سبب الاتصال الوثيق بين اليمن والحبشة في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها, سواء أكان اتصالا وديا في مجال النشاط التجاري والثقافي أم نشاطا عدائيا في مجال التدخل السياسي أو الغزو والسيطرة العسكرية. أما الحدود الشمالية والشمالية الشرقية لشبه الجزيرة فهي المنطقة الصحراوية التي تمتد بين وادي الرافدين والمنطقة السورية, والتي تقع إلى جنوبي امتداد الهلال الخصيب. والقسم الشرقي من هذه المنطقة وهو القسم المتاخم لوادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الرافدين يعرف باسم بادية السماوة بينما يعرف القسم الغربي المتاخم لسورية باسم بادية الشام. وهذه البادية الأخيرة توجد عند أطرافها من ناحية الجنوب الغربي بعض مناطق صخرية على شيء من الاتساع مثل المنطقة التي ظهرت فيها مدينة بترا petra "البتراء" عاصمة الأنباط، والتي كانوا يتحكمون من موقعها في خط القوافل التجاري إلى سورية. وفي حدود هذا الإطار نجد أن العمود الفقري لشبه الجزيرة هو سلسلة من الجبال تمتد من جنوبي سورية في الشمال إلى اليمن في الجنوب موازية لساحل البحر الأحمر وقريبة منه، وهي جبال السراة. وهي سلسلة يصل ارتفاعها إلى 9000 قدم في منطقة مدين في القسم الشمالي الغربي لشبه الجزيرة, وفي الوسط "الحجاز الحالية" إلى 1000 قدم وإلى أكثر من 12.000 قدم في اليمن، وهذه السلسلة الجبلية تنحدر انحدارا شديدا نحو الغرب حيث المنخفض الساحلي الذي تغسله مياه البحر الأحمر، بينما تنحدر بتدرج وامتداد كبير عبر كل القسم الشرقي لشبه الجزيرة. وفي وسط هذا الامتداد المتدرج الكبير مع اتجاه بسيط نحو الشمال تقع هضبة نجد التي يبلغ متوسط ارتفاعها 2500 قدم, كما توجد بها سلسلة من الجبال هي جبال شمّر، تصل إحدى قممها، وهي جبل أجأ، إلى 5550 قدمًا فوق مستوى البحر. أما عن بقية شبه الجزيرة فنحن نجد شريطا من الأرض المنخفضة على طول السواحل الجنوبية والشرقية تليها نحو الداخل سلاسل جبلية تصل إلى ارتفاعات متفاوتة، ومن بين هذه المرتفعات يصل الجبل الأخضر في عُمان إلى 9900 قدم مشكلًا بذلك استثناء واضحا للاتجاه الشرقي المتدرج لسطح شبه الجزيرة3. وفيما عدا السلاسل الجبلية والمناطق المرتفعة, وأهمها نجد أو الهضبة الوسطى الشمالية, فإن بقية الأرض تتكون من امتدادات مقفرة أو مناطق   3 Hitti: المرجع ذاته: صفحات 14-15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 معشبة وهذه الأخيرة تسمي الدارات. والدارة منطقة سهلية على شيء من الاستدارة تحيط بها التلال وتحتوي على قدر من المياه الجوفية ينبثق في شكل عيون أو ينابيع4. ومن المناطق العشبية التي تكثر فيها الدارات بادية السماوة "غربي العراق" وبادية الشام "شرقي سورية" رغم ما قد توحي به تسمية "البادية" في بعض الأحيان من صفة صحراوية تغري بالاعتقاد في إقفارها الكامل. أما المناطق الصحراوية المقفرة فيمكن تقسيمها من حيث تكوينها, إلى ثلاثة أقسام, وأحد هذه الأقسام أو التكوينات هو منطقة النفود. والمنطقة تشكل امتدادا صحراويا واسعا يقع بشكل مستعرض في القسم الشمالي من شبه الجزيرة ويبلغ طوله نحو 450 كيلومترًا مبتدئا بواحة تيماء في الغرب ومتجها نحو الشرق، بينما يبلغ عرضه نحو 250 كيلومترًا من الجوف شمالا إلى جبال شمر جنوبا, وتمتد المنطقة من الغرب إلى الشرق في انخفاض تدريجي يصل إلى نحو 150مترا. وبفعل الرياح تتخذ الرمال التي تغطي المنطقة شكل تموجات رملية أحيانا بينما تتخذ شكل كثبان في أحيان أخرى, ورغم جفاف المنطقة فإنها تتعرض من حين لآخر لشتاء ممطر فتغطيها "وبخاصة في الأماكن ذات الرمال الحمراء" الأعشاب والنباتات والزهور التي يقصدها الأعراب لأسباب الرعي, كما تنبت فيها بعض النباتات المرتفعة القوية السيقان "مثل بعض أنواع الغضا" يتخذها البدو حطبا يستخدمونه في أغراض حياتهم اليومية. ولكن هذه الفترات من الاخضرار لا تستمر إلا أسابيع قليلة، تجف بعدها أمام رياح السموم الحارقة التي تهبُّ من الشرق والجنوب في أواخر فصل الربيع وفي أشهر الصيف5.   4 الفيروزآبادي: القاموس المحيط، مادة: دارة، ويعدد أكثر من 110 دارات في شبه الجزيرة العربية. راجع عمر فروخ: تاريخ الجاهلية، بيروت،1964، ص30. 5 moritz: arabien, studien zur physikalisshen und histo-hitti ص15 "hanover 1923" rischen geographie des landes المرجع ذاته، ص15 جواد علي: المرجع ذاته، صفحات 152-153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أما القسم أو التكوين الثاني فيعرف باسم الدهناء أو الأرض الحمراء، وهو مسطح شائع من الرمال الحمراء يبتدئ من النفود في الشمال ويمتد في شكل قوس كبير عبر مسافة تزيد على 600 ميل نحو الجنوب الشرقي دخولا في المنطقة المعروفة باسم الربع الخالي والجزء الغربي من الدهناء يعرف أحيانا باسم الأحقاف "أي الكثبان الرملية". وربما كانت مياه الخليج تغمرها في يوم من الأيام إذ يوجد فيها امتداد فرعي صغير للخليج يمتد إلى جنوبي قطر كما توجد فيها رواسب من النوع الذي يوجد في قاع البحر. وحين تسقط الأمطار في المنطقة بشكل موسمي تنبت الأعشاب التي يقصدها البدو لأسباب الرعي لعدة شهور في السنة, ولكنها تجف تماما في أشهر الصيف بحيث لا يصبح فيها مجال للحياة. ويبدو أن المنطقة كانت أقل إقفارًا في مجال الحياة ومجال السكان لفترة طويلة أو قصيرة قبل الإسلام, لسببين أحدهما أنها كانت أكثر مطرا أو عيونا ومن ثم كانت أكثر خصبا, وثانيهما أنها كانت تمر بها بعض الطرق التي تسلكها الخطوط التجارية من جنوبي شبه الجزيرة إلى شواطئ الخليج, ومن بين الشواهد التي قد تدل على ذلك آثار عدد من القرى القديمة في منطقة وبار "جنوبي غرب رمال يبرين أو جبرين" وإشارة القرآن الكريم إلى منطقة الأحقاف كموطن لقوم عاد كما يدل على نشاط الخط التجاري الذي يمر بها بيت شعر للأعشى يشير فيه إلى قوافل الجمال التي كانت تمر بالدهناء إلى شاطئ الخليج حيث يحمِّلها التجار بالسلع التي كانت توجد في سوق "دارين" إحدى موانئ جزيرة تاروت "تقع إلى شمالي قطر الآن" وتعود بعدها وقد حملت من هذه السلع شيئا كثيرا6.   6 Moritz: المرجع ذاته، الصفحة ذاتها. جواد علي: المرجع ذاته, صفحات 150-152. بيت الشعر المنسوب للأعشى في الآلوسي: تاريخ نجد، طبعة القاهرة، 1347هـ، ص30 وهو: يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم ... ويرجعن من دارين بُجْر الحقائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ثم نأتي إلى القسم أو التكوين الثالث من المناطق الصحراوية وهو ما يعرف باسم "الحرار" أو "الحرات" "جمع حرة" وهي الأراضي التي تغطيها حجارة بركانية سوداء، بعضها هو أفواه البراكين ذاتها، والبعض الآخر ناتج من تفتت الحمم أو اللافه "سماها العرب اللابه أو اللوبه" التي قذفت بها هذه البراكين ثم بردت وتفتتت بمرور الزمن وثوران البراكين ظاهرة عرفتها شبه الجزيرة العربية منذ العصور السحيقة كما عرفتها المناطق المقابلة لها سواء في الحبشة أو في عدد من الأماكن الأخرى على السواحل الشرقية للقارة الإفريقية, وقد ظل بعض هذه الحرار ثائرا أو ثار بشكل متقطع بعد العصر الإسلامي, مثل حرة "النار" التي كانت لا تزال ثائرة في عهد عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين. وكانت آخر مناسبة ثارت فيها البراكين في شبه جزيرة العرب في أواسط القرن الثالث عشر الميلادي "1256م" حين ثارت إحدى الحرات في شرقي المدينة لعدة أسابيع وامتدت الحمم التي قذف بها حتى توقفت على مسافة بضعة كيلو مترات قليلة من المدينة, وكانت ثورة هذه الحرة فيما يبدو مظهرا من مظاهر الهزات الأرضية والانفجارات البركانية التي عرفتها بعض المناطق في غربي آسيا في أواخر القرن الثاني عشر وخلال القرن الذي يليه. وتوجد الحرار في شبه الجزيرة العربية على امتداد المنطقة الغربية من الجنوب قرب باب المندب حتى تلتقي بالمنطقة التي توجد فيها الحرار في سورية في منطقة حوران. كما توجد في بعض المناطق الوسطى في شبه الجزيرة مثل المنطقة الشرقية الجنوبية من هضبة نجد, وقد عد أحد علماء العرب 29 من هذه الحرار, كما أضاف إليها الرحالة المحدثون عددا آخر. ومن بين الحرات التي عرفها العرب حرة تبوك حرة النار قرب خيبر "وكلتاهما في شمالي غربي شبه الجزيرة", وحرة واقم التي تقع إلى شرقي المدينة, وحرة وبرة التي تقع على بعد ثلاثة أميال غربي المدينة في أول الطرق المؤدية إلى مكة, وحرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ضروان في اليمن7. وفي حدود هذه الملامح السريعة لحدود شبه جزيرة العرب, تعرفت دول وشعوب العالم القديم على شبه الجزيرة وحاولوا تصورها في أقسام تتفق بشكل أو بآخر مع اهتماماتهم السياسية أو الاقتصادية أو مع معلوماتهم الجغرافية، كما قسمها علماء العرب في العصر الإسلامي إلى أقسام تعكس تصور سكان شبه الجزيرة أنفسهم لهذا التقسيم في العصر السابق للإسلام, وتعتبر دون شك استمرارا لهذا التصور. وفي هذا المجال فإننا نجد أنه في خلال الفترة الأولى التي بدأت فيها الدول والشعوب المحيطة بشبه الجزيرة العربية تهتم بالمنطقة، وهي فترة تمتد بين أواسط القرن التاسع ق. م. والنصف الثاني من القرن السادس ق. م. كانت هذه الدول والشعوب تُعنى بالقسم الشمالي فحسب من بلاد العرب, مع اختلاف في مدى امتداد هذا القسم من الشرق إلى الغرب أو عمقه من الشمال إلى الجنوب. ففي عهد الملوك الآشوريين ابتداء من حكم الملك شلمنصر الثالث "858-824ق. م" كانت بلاد العرب حينما تذكر في سجلات هؤلاء الملوك تعني أقصى القسم الشمالي لشبه الجزيرة. وهو القسم الذي يشكله المعبر بين وادي الرافدين وسورية. وفي آخر عهد الدولة البابلية الحديثة نجد أن هذا التصور يتسع بعض الشيء, إذ نجد الملك نابونائيد "556-539ق. م. وهو الذي عرفه اليونان باسم نابونائيد NABONIDOS" يقيم بين السنة السابعة والسنة الحادية عشرة من حكمه في مدينة تيماء التي توجد جنوبي هذا المعبر "في القسم الشمالي   7 ياقوت: معجم البلدان، مادة: حرة؛ moritz: المرجع ذاته، ص12. henri lammens: le berceau de l,lslam, l,arabie occidentale a la veille de l,hegire, الجزء الأول وهو الوحيد الذي ظهر "1914 romae" ص73، hitti المرجع ذاته، ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الغربي لشبه جزيرة العرب" كما يصل بحملاته جنوبا حتى يصل إلى يثرب "المدينة فيما بعد" وبذلك يكون قد دفع تصور البابليين عن بلاد العرب إلى حدود هذه المدينة8. أما اليونان فقد عرفوها في أواسط القرن الثامن, أو بالأحرى أشاروا إلى المنطقة ضمنا عن أنها بادية الشام فحسب، وهو تصور كان سائدًا عند الآراميين كذلك، حسبما نستنتج من أحد النصوص الآرامية التي ترجع أحداثها إلى النصف الأول من القرن الثامن ق. م. فإذا وصلنا إلى الفترة بين أواخر القرن السادس وأواسط القرن الخامس وجدنا تصور الفرس لبلاد العرب يتراجع، على ما يبدو، إلى تصور الآشوريين، أي: إلى المعبر الصحراوي بين وادي الرافدين وسورية رغم ما يبدو في نص أكدي من عهد أحشويرش الإمبراطور الفارسي "485-465 ق. م." مما قد يشير إلى توسع في هذا التصور خارج هذه المنطقة9.   8 ANET: النصوص في صفحات 279, 283-286، 291-292، 297-301، 306 "الإشارة في هذا النص الأخير إلى مدينة تيماء وليست إلى بلاد العرب باللفظ"؛ luckenbill arab، يرد فيه 37 نصًّا أولها في ج1 نص رقم 611 من عهد شلمنصر الثالث "858-824 ق. م" وآخرها في ج2، نص رقم 1084 من عهد آشور بانيبال "668-626ق. م" 9 التصور اليوناني المذكور يأتي في homeros: odysseia النشيد الرابع، سطر 84، حيث يذكر العرب مباشرة بعد الصيدونيين مما قد يوحي بالجوار في تصور الشاعر "راجع بداية الحديث عن الكتاب الكلاسيكيين في الباب الخاص بالمصادر الكتابية في القسم الثاني من هذه الدراسة". عن التصور الآرامي the words of ahiqar, anet ص420 "نقل النص الآرامي إلى الإنجليزية h,l. Ginsberg" النص الأكدي من عهد الإمبراطور الفارسي حشويرش xerxes "485-465ق. م" في anet، ص316 "نقله إلى الإنجليزية leo oppenheim". وفيه يأتي ذكر منطقة makai قارن maka عند سترابون XVI,3.2 "وهي عمان الحالية". ثم بعدها مباشرة "العربية" مما يوحي بمنطقة في وسط شبه الجزيرة, ولكن هذا التجاور اللفظي قد لا يعني التجاور على الطبيعة بالضرورة، فمن جهة نجد أن منطقتين من المناطق المذكورة في النص بعد "العربية" إحداهما الهند والأخرى قبادوقية "في آسيا الصغرى" رغم ورودهما واحدة بعد الأخرى مباشرة. كذلك فإن الثابت تاريخيا أن منطقة سيطرة الإمبراطورية الفارسية لم تشمل وسط شبه الجزيرة وإنما اقتصرت من هذه المنطقة على أطرافها الشمالية "بادية السماوة وبادية الشام" بين وادي الرافدين والمنطقة السورية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ولكن الفترة التي تبدأ بأواسط القرن الخامس ق. م. تشهد تغيرا كبيرا في تصور بلاد العرب لدى الشعوب والدول التي اهتمت لسبب أو لآخر بالمنطقة. ويبدو هذا التغير واضحا فيما تركه لنا الكتاب الكلاسيكيون "اليونان والرومان" سواء من بينهم المؤرخون أو الرحالة أو الجغرافيون أو الكتاب الموسوعيون. وقد كان أول من ظهر في كتاباته هذا التغير الواضح في تصور حدود شبه الجزيرة هو هيرودوتس herodotos أول المؤرخين "أو أبو التاريخ حسبما لقبه شيشرون cicero الخطيب والسياسي الروماني الشهير الذي عاش في القرن الأول ق. م". فقد كان هذا المؤرخ هو أول من دفع بحدود بلاد العرب لكي تشمل كل شبه الجزيرة العربية وإن كان قد زاد على هذه الحدود بعض المناطق التي تقع إلى خارجها. وهو تصور يتأرجح بين شبه الجزيرة وهذه المناطق الواقعة إلى خارجها "مع اختلاف في امتداد هذه المناطق الخارجية" حتى استقر نهائيا على شبه الجزيرة بما في ذلك المنطقة الصحراوية الشمالية الواقعة على الحدود الجنوبية لمنطقة الهلال الخصيب "أي بما في ذلك بادية العراق وبادية الشام" في كتابات بطليموس كلاوديوس ptolemaios klaudios التي قام بها في خلال النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، وهو الكاتب اليوناني المصري الذي عرفه العلماء العرب في العصر الإسلامي باسم بطليموس الجغرافي. ولم يقتصر الكتاب الكلاسيكيون على تقديم التحديد العام لشبه جزيرة العرب، وإنما تعدوا ذلك إلى تقسيمها إلى مناطق طبيعية, قسموها بدورها إلى أقسام تضم الأماكن الزراعية أو الرعوية أو التي يعيش أهلها على التجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 كما وصفوا تضاريسها وشواطئها ومناخها وسكانها ونباتها وحيوانها. وحين وصل هذا التقسيم العام إلى أدق ما وصل إليه عند الكتاب الكلاسيكيين كان يضم ثلاث مناطق: المنطقة الأولى أطلقوا عليها اسم "العربية الصحراوية" arabia erema وهي القسم الأكبر من الناحية الشرقية من الامتداد الصحراوي الذي يتوسط وادي الفرات شرقا وسورية غربا. و"العربية الصخرية" arabia petraea وتضم القسم الغربي من هذا الامتداد وتقع في وسطها مدينة البتراء petra المنحوتة في الصخر قرب وادي موسى في الأردن حاليا, التي اتخذها الأنباط عاصمة لهم في القرن الأول ق. م. والقرن الأول الميلادي قبل أن يدخلوا ضمن الإمبراطورية الرومانية. ولنا أن نتصور أن القسم كان حدوده تتقلص أو تتسع بالضرورة حسب الظروف السياسية, فقد وصل نفوذ الأنباط إلى دمشق أحيانا في الشمال، كما امتدت منطقة نفوذهم الجنوبية إلى المنطقة التي تعرف بمدائن صالح في الوقت الحاضر "في القسم الشمالي الغربي من المملكة السعودية الآن" تدلنا على ذلك الآثار النبطية التي توجد في هذه المنطقة الآن والتي تعتبر امتدادا لآثار البتراء سواء من حيث نحتها في الصخر أو في الطراز المعماري لها. أما القسم الثالث والأخير من هذه المناطق الطبيعية التي قسم الكتاب الكلاسيكيون بلاد العرب إليها فقد أسموه "العربية الميمونة أو المباركة" arabia eudaemon وهو القسم الذي يقع إلى الجنوب من خط وهمي يمتد من الطرف الشمالي للخليج العربي "أو الفارسي حسب التسمية الكلاسكية آنذاك" في الشرق, إلى رأس خليج العقبة "خليج أيلة في الكتابات القديمة" أو إلى نقطة على الشاطئ الشرقي لهذا الخليج. وقد سماها الكتاب الكلاسيكيون بهذا الاسم لوفرة مواردها، سواء أكانت هذه موارد زراعية وبخاصة في الركن الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة العربية "منطقة اليمن" أم كانت موارد تجارية من نقل السلع بين الأطراف المختلفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 لشبه الجزيرة10. وقد كان هذا القسم الأخير من التقسيم الكلاسيكي، وهو "العربية الميمونة أو المباركة" هو القسم الذي اقتصر عليه تصور الجغرافيين العرب في العصر الإسلامي ثم قسموه إلى خمس مناطق، وأكرر هنا ما سبق أن أشرت إليه وهو أن هذه المناطق تعكس بالضرورة تصور العرب قبل الإسلام لشبه الجزيرة العربية من ثم فهو استمرار لهذا التصور11. وأولى هذه المناطق الخمسة هي منطقة الحجاز، وقد أطلقها الجغرافيون العرب على المنطقة التي تمتد فيها سلسلة جبال السراة التي رأيناها تخترق شبه الجزيرة من شماليها إلى جنوبيها، وسبب تسميتها بالحجاز عند العرب هو أنها تحجز بين المنطقة الضيقة التي توجد إلى غربيها نحو ساحل البحر الأحمر، والمنطقة الفسيحة التي تمتد شرقي هذه الجبال حتى الخليج. وقد اشار الكتاب العرب إلى عدد غير قليل من الأودية التي تتخلل هذه المنطقة الجبلية والتي يوجد بها عدد من العيون المائية. ومن بين هذه الأودية وادي نخال الذي يقع بين مكة والمدينة, ووادي القِرى الذي يقع بين المدينة والعلا "ديدان القديمة" وكان يمر به طريق القوافل الرئيسي قبل الإسلام, وبه واحة ونهر صغير "يقعان غرب آثار ديدان" وكان يتصل بهذا الوادي واديان آخران هما وادي جزل في الشمال ووادي حمض في الجنوب. ومن بينها كذلك وادي بدا الذي يوجد قرب أيلة "العقبة الحالية، على   10 راجع الحديث عن الكتاب الكلاسيكيين في الباب الخاص بالمصادر الكتابية في القسم الثاني من هذه الدراسة. 11 يذكر الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص1، أن جزيرة العرب تضم سيناء, وأن بادية الشام تدخل ضمنها، ولكن تقسيم شبه الجزيرة عند الجغرافيين العرب لا يتضمن هذه المناطق. راجع هذا القسم أدناه في الباب الحالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 رأس خليج العقبة"12. والمنطقة الثانية في التقسيم العربي لشبه الجزيرة هي منطقة "تهامة" وهي المنطقة الضيقة المنخفضة التي تقع بين جبال الحجاز والبحر الأحمر، وقد كانت كلمة تهامة عند العرب تعني الأرض المنخفضة، وهي كلمة يبدو أن العرب اشتقوها من طبيعة هذه المنطقة. أما التسمية ذاتها فهي تسمية ترد في النصوص العربية الجنوبية السابقة للإسلام في صورة "تهمت" أو "تهتم" وربما كانت لها علاقة بكلمة "تيهوم" العبرانية، كما يرى أحد الباحثين احتمال اشتقاقها من كلمة تيامتو tiamtu التي تعني البحر في البابلية, وإن كنت أستبعد هذا الرأي الأخير13. ثم تأتي المنطقة الثالثة وهي "اليمن" وتقع في الركن الجنوبي الغربي لشبه جزيرة العرب. وتخترق جبال السراة اليمن حتى البحر عند حدودها الجنوبية. ويتخلل المنطقة سواء في المناطق السهلية أو في الهضبة المطلة على عدن عدد من   12 ياقوت: المرجع ذاته، مادة حجاز، ج2 ص219؛ الهمداني: المرجع ذاته، ص 48. قارن doujhty: travels in arabia deserta "1936 london"،ج1، ص187. 13 ياقوت: المرجع ذاته، ج2، ص63 مادة: تهامة. ويميل جواد علي "ذاته، ص170" إلى تأييد شرادر schrader في الرأي الذي يذكره في دراسته عن النقوش المسمارية والتوراة die keininschriften und dasalte testament الطبعة التي قام بتنقيحها winkler و zimmern "برلين 1903"، ص492. وفيها يرجح شرادر وجود علاقة بين لفظة "تهامة" ولفظة "تيامتو" التي تعني "بحر" في البابلية ولفظة "تيهوم" العبرية. ويرى أن الذي يجمع بين هذه الألفاظ هو أصل سامي قديم له علاقة بالمنخفضات الواقعة على البحر, والتي تتميز بشدة الحرارة وشدة الرطوبة، ويذكر بأن اللفظة في لغة القرآن الكريم وفي اللهجات العربية الجنوبية تشير إلى السواحل المنخفضة الواقعة بين الجبال والبحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الوديان الجافة تنساب فيها المياه في الموسم المطير، وربما كانت هذه بقايا أنهار قديمة ولكنها جفت على مر القرون، ويرد اسم اليمن في النصوص العربية الجنوبية السابقة للإسلام في صورة "يمنت" أو "يمنات" أما الجغرافيون العرب في العصر الإسلامي فقد رد بعضهم تسمية اليمن إلى تيامن العرب بها على أساس أنها تقع إلى يمين الأرض "بالنسبة للشخص الذي يقف وظهره إلى البحر ونظره إلى امتداد شبه الجزيرة" بينما تقع الشام ناحية الشمال "بكسر الشين" أي إلى اليسار كما ذكر البعض الآخر أن سبب هذه التسمية يرجع إلى اليُمْن والخير لما فيها من زراعة ونخيل وثمار14. ولعله من الوارد في هذا المقام أن نذكر بأن تسمية arabia eudameon اليونانية وتسمية arabia felix اللاتينية وهما التسميتان اللتان أطلقهما الكتاب الكلاسيكيون على المنطقة تعنيان -كلتاهما- العربية السعيدة أو الميمونة, بينما تضيف التسمية اللاتينية إلى هذه المعاني معنى "العربية الخصبة". والمنطقة الرابعة في تقسيم العلماء العرب لشبه جزيرة العرب هي منطقة العروض. وهي تغطي الامتداد الذي يبدأ من الأطراف الشرقية لليمن ثم يستمر في اتجاه شرقي وشمالي شرقي حتى يصل إلى اليمامة وشواطئ البحرين "وإن كان أحد هؤلاء الجغرافيين يجعل اليمامة من أقسام نجد". والمنطقة تتكون من صحارٍ وسهول ساحلية، وفيها عدد قليل من الواحات التي نجمت عن سقوط القليل من المطر أو عن وجود بعض العيون التي تبلغ نحو 40 عينًا. ومن بين مدنها "هجر" التي عرفها الكتاب الكلاسيكيون باسم إجرا egra، والعقير ولعلها كانت المدينة التجارية المهمة التي عرفها هؤلاء الكتاب باسم جرهاء gerrha. وإذا اعتبرنا اليمامة "وهي المنطقة التي تلي البحرين من   14 ياقوت: المرجع ذاته، ج5، ص447، مادة: يمن؛ الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ناحية الغرب" قسمًا من أقسام العروض، فإننا نجدها الآن منطقة صحراوية وإن كانت الدلائل تشير إلى أنها كانت منطقة مأهولة في العصور السابقة, فقد وجدت ببعض جهاتها مواقع أثرية بها بقايا أبنية ضخمة لعلها كانت قصورا وهو أمر محتمل إذا أدخلنا في اعتبارنا أن خطا تجاريا كان يمر عبر اليمامة هو درب اليمامة. ومما يشجع هذا الاحتمال أن الأخبار المتواترة تذكر أن المنطقة كانت ذات عيون وآبار ومراعٍ, مزارع وجدت ولا يزال بعضها يوجد في أوديتها. ومن بين هذه الأودية العرض أو العارض, وهو يخترقها من الشمال للجنوب, ووادي الفقي ووادي حنيفة وعرض شمام15. وخامس أقسام شبه جزيرة العرب، حسب التقسيم العربي، هو منطقة نجد التي تشكلها الهضبة الوسطى في شبه الجزيرة. ويقسمها علماء العرب إلى قسمين: نجد العالية، وهي ما ولي الحجاز وتهامة؛ ونجد السافلة "أي المنخفضة" وهي ما ولي العراق, وقد جاء هذا التقسيم نتيجة تكوينها الطبيعي الذي يبدأ مرتفعا في الغرب ثم ينحدر بلطف حتى يصل إلى منطقة العروض في الشرق. ويتكون سطح الهضبة من عدد من التلال التي يبلغ ارتفاعها بضع مئات من الأقدام، كما يوجد بها عدد من الأودية أهمها: وادي الرمة ذو الأرض الطباشيرية في ناحيته الشمالية والأرض الرملية في ناحيته الجنوبية. ويبدو أن منطقة نجد كانت أكثر خصوبةً في الماضي منها في الحاضر؛ إذ يرى بعض الباحثين المحدثين أنه كانت توجد في بعض أجزائها أشجار وغابات ولا سيما في "الشربة" جنوبي وادي الرمة وفي "وجرة"16.   15 ياقوت: ذاته، ج4، ص112 مادة: عروض، ج5، ص2 مادة: يمامة، ج5، ص203، مادة: هجر, قارن جواد علي: ذاته, صفحات 170-174. كذلك ilby: the geographical journal "عدد يونيو - حزيران 1949" صفحات 86-90. 16 ياقوت: ذاته، ج5، ص245، مادة: نجد، ج1، ص6 مادة: أجا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 2- المناخ : هذا عن سطح شبه الجزيرة العربية بحدوده وأقسامه الطبيعية، وعن تصور العرب والشعوب المجاورة لهم أو المتصلة أو المهتمة بهم وببلادهم لهذه الحدود والأقسام الطبيعية. ونستمر الآن في الحديث عن بقية الملامح الجغرافية لشبه الجزيرة، وأول ما يسترعي انتباهنا في هذا المجال هو المناخ الذي يميل بشكل ملحوظ إلى الجفاف, والذي يسيطر على أغلب أقسام المنطقة بشكل عام. وقد يبدو هذا غريبا إذا أدخلنا في اعتبارنا أن شبه جزيرة العرب تحيط بها ثلاثة امتدادات مائية, هي الخليج العربي في الشرق والمحيط الهندي في الجنوب والبحر الأحمر في الغرب, وهي امتدادات مائية يبدو للوهلة الأولى أنها كفيلة, بما ينتج عنها من بخر، أن تجعل المنطقة أميل إلى الرطوبة المسببة للمطر، ولكن بعض العوامل الطبيعية حالت دون هذه النتيجة المفترضة؛ ومن ثم أدت إلى الجفاف الذي أصبح السمة المناخية الغالبة لشبه الجزيرة. وأول هذه العوامل الطبيعية هو أن اثنين من هذه الامتدادات المائية، وهما الخليج في الشرق والبحر الأحمر في الغرب, لا يشكلان في حقيقة الأمر إلا سطحين ضيقين إذا قيسا ببعض البحار الداخلية مثل البحر المتوسط أو البحر الأسود, أو بالمسطحات المائية الهائلة مثل المحيطات، ومن هنا فإن أثرهما من حيث الرطوبة غير كافٍ لكسر حدة الامتداد الصحراوي الجاف وفي استمراريته المتوافرة عبر الكتلة الإفريقية الآسيوية الهائلة. أما المحيط الهندي الذي يغسل الشواطئ الجنوبية لشبه الجزيرة فرغم ما يوفره من كمية بخر هائلة إلا أن رياح السموم الحارقة "وتسمى أحيانا بالسهام أو الهفوف"، وهي العامل الطبيعي الثاني تستوعب أغلب هذا البخر وتحول دون تحوله إلى أمطار؛ ومن ثم تقضي على أثره. وتبلغ درجة الحرارة المترتبة على هذه الرياح حول 55 درجة مئوية في عمومها مع اختلاف بسيط بين منطقة وأخرى كما هو الحال، على سبيل المثال، بين مكة التي ترتفع فيها درجة الحرارة بشكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ملحوظ، والمدينة التي تقع إلى شماليها والتي تخف فيها درجة الحرارة بشكل نسبي. كما توجد بعض الاستثناءات في المناطق المرتفعة كما هو الحال في صنعاء "باليمن" التي ترتفع إلى 7000 قدم فوق سطح البحر وتعتدل فيها الحرارة بصورة تجعل جوها من أحسن أجواء شبه الجزيرة. ولا عجب، بعد هذا، أن يرتاح أغلب سكان شبه جزيرة العرب إلى الريح الشرقية التي أسموها ريح الصبا، وهي ريح معتدلة الحرارة، وهو ارتياح عبر العرب عنه في أشعارهم بشكل واضح سواء في كثرة الأشعار التي يذكرون فيها هذه الريح أو في نوعية إبداء هذا الارتياح الذي يصل إلى ما يقرب من التغزل في كثير من الأحيان. ثم يأتي بعد هذين العاملين اللذين أديا إلى الجفاف الغالب على شبه جزيرة العرب العامل الثالث وهو وجود المناطق المرتفعة بمحاذاة السواحل وعلى مقربة منها، بحيث تصد القدر الأكبر من الرياح المحملة بالسحاب، ومن ثم تفرغ حمولتها من المطر، إذا توفرت الظروف الطبيعية لتحويل هذا السحاب إلى مطر، إلا في أماكن قليلة أو في حالات عارضة17. وقد كانت نتيجة هذه العوامل الثلاثة المؤدية إلى الجفاف أو المساعدة عليه أن أغلب المسطح الأرضي الذي تمتد عليه شبه جزيرة العرب أصبح بادية صحراوية قد لا يصيبها المطر لفترات طويلة كما هو الحال في منطقة الحجاز "بتحديدها الحالي" التي قد يستمر فيها الجفاف ثلاث سنوات متعاقبة. بينما قسم بسيط من هذا المسطح هو وحده الذي ينعم بالمطر بدرجات متفاوتة، وإذا كان هذا المطر ينهمر غزيرا في بعض الأحيان, إلا أن هذه الغزارة ليست لها صفة الاستمرار، ومن هنا فإن شبه الجزيرة بكاملها ليس فيها نهر واحد تمكن من أن يشق مجراه، نتيجة لغزارة الأمطار، حتى يصل إلى شواطئ المنطقة، وإنما توجد بدلا من الأنهار، شبكة الوديان التي تنحتها هذه المناسبات   17 hitti: ذاته، صفحات 17-18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 العارضة من المطر الغزير ثم ينحسر المطر فتجف الوديان وتشكل، بمرور الزمن، شبكة الطرق الطبيعية التي عرفها سكان شبه الجزيرة في تنقلهم وراء الكلأ أو في هجراتهم أو اتخذوا منها خطوطا لقوافلهم التجارية. وليس بغريب، نتيجة لهذا الجفاف العام في شبه جزيرة العرب، أن تكون إحدى تسميات المطر عند العرب هي "الغيث" التي توحي بمفهوم الإغاثة من الإقفار الناتج عن الجفاف، أو أن نسمع بين الممارسات الدينية للعرب عن صلوات "الاستسقاء" و"الاستمطار" حتى ينزل المطر ليسقي الأرض فيحيي النبت لصالح الإنسان والحيوان على السواء. أما هذا المطر فإنه، إلى جانب قلته، لا يصيب المناطق التي ينزل فيها بمعدل واحد من الوفرة أو الانتظام ففي اليمن ومنطقة عسير ينزل منه قدر منتظم يسمح بالزراعة الدائمة في بعض الوديان التي تمتد إلى مسافة 200 ميل من الشاطئ إلى الداخل، وفي مساحات أخرى على الشاطئ ولكنها ليست بهذا الامتداد. بل إن المطر قد ينزل على بعض المناطق الجبلية فيحولها السكان إلى مناطق زراعية، كما يفعل سكان "الجبل الأخضر" في اليمن حيث تصطدم السحب المثقلة بالبخار بقمم هذا الجبل فتفرغ ما بها من أمطار على جوانبه ويعمد سكان المنطقة إلى تسوية جوانب الجبل على هيئة مدرجات تستقبل مسطحاتها مياه المطر وتحتفظ بها ومن ثم يمكن زراعتها، بدلا من أن تنزل الأمطار جميعها إلى أسفل الجبل. وقد أدى هذا الوضع في اليمن بالذات إلى تنوع النباتات التي تتناسب مع الأجواء المختلفة، بين الجو المعتدل في المرتفعات, والجو الدافئ في الأماكن الأقل ارتفاعا، والجو الحار الرطب في الوديان المنخفضة. ولكن هذا النوع من الأمطار لم يكن من حظ مناطق أخرى، ففي القسم الشمالي من النفود، وفي القسم الشمالي الشرقي من الحجاز "بحدوده الحالية" تنزل كميات من المطر ولكنها لا تعادل أمطار اليمن وعسير سواء من حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الوفرة أو الانتظام. وقد أدى هذا إلى ظهور بعض الواحات التي قد يستمر بعضها دون البعض الآخر. ودليلنا على هذا عدد من الواحات, أكبرها تشغل مساحتها عشرة أميال مربعة، لا تزال باقية في القسم الشمالي من الحجاز، بينما عدد آخر من الواحات التي كانت موجودة في المنطقة إما اندثر أو اضمحل مثل واحة "فَدَك" "تعرف حاليا باسم الحائط" التي كان لها شأن في صدر الإسلام, ولكنها لم تعد الآن على ما كانت عليه من الخصوبة آنذاك. على أن هذه الأمطار، على عدم وفرتها أو انتظامها في كل المناطق بنسب متساوية، قد تهطل في بعض الأحيان بغزارة غير معتادة فتتحول إلى سيول قد تؤدي شدة تدفقها إلى إغراق بعض السكان أو إلى تدمير بعض معالم العمران كما كان يحدث في بعض الأحيان في مكة والمدينة، وفيما يخص مكة فقد كاد أحد هذه السيول أن يهدم الكعبة في دفقة من دفقاته العنيفة، ولكن مع ذلك فلم تكن كل هذه السيول شرا محضا، فقد عمل السكان أو الحكومات على السيطرة عليها عن طريق بناء سدود تختزن مياهها للانتفاع بها في أوقات الجفاف, وأشهر هذه السدود هو سد "مأرب" في اليمن. وإن لم يكن هذا هو السد الوحيد، فقد وجد الرحالة آثار سدود قديمة في بعض مواضع في الحجاز ونجد والعربية الجنوبية تعود إلى ما قبل العصر الإسلامي18.   18 lammens: ذاته، صفحات 17-25, راجع الحديث عن السدود في الباب الخاص بالآثار والنقوش في القسم الثاني من هذه الدراسة, راجع كذلك ملحق اللوحات في آخر الدراسة، هذا وكان بعض السيول ينزل بغزارة في الحجاز بحيث يهدد الكعبة. وفي هذا الصدد يعقد البلاذري: فتوح البلدان "ليدن 1866" صفحات 53 فصلًا بأكمله عن سيول مكة، صفحات 53-55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 3- النبات والحيوان : وقد ظهر أثر هذا الجو الذي يسوده الجفاف, إلى جانب ملوحة أجزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 كبيرة من أرض شبه الجزيرة العربية في النباتات التي عرفتها المنطقة, فلم تتسم هذه النباتات بوفرة أصنافها أو بترف نوعياتها. هذا وقد توزعت هذه النوعيات على مناطق مختلفة من شبه الجزيرة تبعا لمقدار خصوبة الأرض أو نوع تربتها، وتبعا لحظها من الرطوبة والحرارة، كما أن عددًا منها لم يكن أصيلًا في المنطقة وإنما أدخل إليها من بلاد أخرى في فترة أو أخرى من فترات التاريخ. كذلك يبدو أن عرب شبه الجزيرة قد تعرفوا على بعض طرق الزراعة في مجال حرث الأرض أو ري المزروعات من مناطق خارج شبه الجزيرة، وهو أمر قد تشير إليه بعض الألفاظ التي اتخذها أهل الحجاز ونجد في هذا المجال؛ من بينها على سبيل المثال وصف "بعل" للنباتات التي لا تحتاج إلى ري يقوم به الإنسان، والإله بعل كان إله الينابيع والأرض الباطنية في المنطقة السورية، وقد دخلت عبادة بعل إلى المنطقة في العصر الجاهلي من سورية. كذلك لفظة "أكار" بمعنى حارث الأرض، والكلمتان من أصل آرامي. وفي مجال الحبوب عرف سكان البلاد زراعة القمح في اليمن وفي بعض الواحات، كما عرفوا زراعة الأرز في عمان والحسا، وفي مناطق متفرقة عرفوا زراعة الذرة كما زرعوا الشعير كطعام أو علف للخيل. كذلك في مجال الفواكه كان عدد منها معروفًا في شبه الجزيرة، فقد ورد ذكر بعضها في القرآن الكريم مثل: التين والزيتون والأعناب والرمان. ومن بين هذه فإن زراعة الكروم "الأعناب" نبتت في مواطن كثيرة من بينها الطائف "في الحجاز" واليمن ومنها كانوا يعصرون نبيذ الزبيب, ويرى البعض أنها دخلت الحجاز من منطقة الشام في القرن الرابع الميلادي. أما الزيتون فيرى أحد الباحثين أن الحجاز لم يعرفه إطلاقا، بينما يرى باحث آخر أن ورود ذكره في القرآن الكريم يدل على وجوده في هذه المنطقة، وربما يكون قد وجد في العصر القديم ثم اندثرت زراعته مع اندثار بعض الواحات، كما سبق لنا أن رأينا، إما بسبب زحف الجفاف على هذه الواحات, وإما بسبب هجرة بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 القبائل أو أعداد منها من الحجاز إلى مناطق أخرى مع عصر الفتوح الإسلامية، أو لانصرافهم عن الزراعة واشتغالهم بالتجارة أو غيرها, كذلك فإن ذكر الزيتون في القرآن إذا كان يشير إلى معرفة عرب الحجاز بهذه الفاكهة, فإن هذا ليس معناه وجودها في هذه المنطقة بالضرورة فربما عرفها سكان البلاد عن طريق المبادلات التجارية التي نقلت إليهم ثمراتٍ وسلعًا -بل وأفكارًا- كثيرة لم يتعرفوا عليها إلا من خلال هذه المبادلات. أما عن الأشجار، فقد كانت الشجرة الأولى في شبه جزيرة العرب هي النخلة، التي انتفع سكان المنطقة بكل جزء منها؛ فهي التي تحمل التمر أكثر الفواكه شيوعا وتنوعا في الانتفاع به عند العرب. فالتمر "مع الحليب" هو الطعام الأساسي لعرب البادية إذا استثنينا بعض المناسبات التي يتناولون فيها شيئا من لحم الجمل. وليس من الغريب في هذا المقام, إذن, أن يجعله سكان البادية أحد العنصرين الأساسيين للحياة حين يعبر عن حصوله على "الأسودين" وهما التمر والماء كهدف يسعى دائما إلى تحقيقه. ومن التمر يستخرجون كذلك الدبس والنبيذ، وبعض أجزاء النخلة يتخذونه دواء يتطببون به. ومن هنا فقد اكتسبت شجرة النخيل عند عرب شبه الجزيرة أهمية خاصة بل وصلت إلى قدر كبير من التبجيل في كثير من الأحيان. ومن مظاهر هذه الأهمية أن ثروة الرجل إذا كانت تقاس بما كان يملك من جمال فإنها كانت تقاس كذلك بما كان يملك من نخيل. كذلك اهتم السكان بزراعة أنواع كثيرة من النخيل تحمل أنواعا مختلفة من التمر، وفي هذا المقام نجد الكتاب العرب يعدون مائة نوع من التمر في المدينة وحولها وحدها. وفي مجال الحديث عن نخيل شبه الجزيرة يستشهد أحد المؤرخين المسلمين بحديث يحث فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- على تبجيل النخلة؛ لأنها "من طينة آدم" وسواء أكان الحديث صحيحا أم منحولا فهو يشير إلى الفكرة التي كانت سائدة لدى العرب عن أهمية هذه الشجرة، وهي أهمية يبدو أنها لم تقتصر على العرب وحدهم وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 شاركهم فيها بعض الشعوب السامية, حيث نرى مواضع عديدة في التوراة والتلمود تشير إلى نوع من التقديس لشجرة النخيل19. ومن الأشجار التي كانت على جانب كبير من الأهمية في بعض أجزاء شبه الجزيرة العربية، أشجار البخور واللبان التي كانت تنمو على الساحل   19 عن النبات في شبه الجزيرة بوجه عام راجع جواد علي: ذاته، صفحات 207-211،:hitti ذاته، صفحات 18-20. عن الاشجار في الحجاز بوجه خاص راجع lammens: ذاته، صفحات 69-93. عن التمر كغذاء أساسي للبدوي راجع ابن قتيبة: عيون الأخبار "القاهرة 1930" ج3، صفحات 209-213. الحديث النبوي في تبجيل النخلة مذكور في السيوطي: حسن المحاضرة "القاهرة 1321هـ"، ج2، ص255. عن تبجيل النخلة عند العبرانيين في التوراة والتلمود، اللاويون: 23/ 40، نحميا: 15/8؛ المكابيون الأول 15/13. عن إدخال زراعة بعض أشجار الفواكه من خارج الجزيرة يرى hitti "ذاته، ص20" أن النخلة لا بد أن تكون قد دخلت شبه الجزيرة من وادي الرافدين حيث موطنها الأصلي الذي جذب الإنسان في العصر المبكر إلى هذه المنطقة. ولكن رغم كثرة النخيل في هذه المنطقة بشكل يجعله سمة أساسية لها ويسترعي الانتباه بشكل ملحوظ، إلا أن هذا الرأي يظل في تصوري مفتوحا للمناقشة، فالعبرانيون عرفوا النخلة وبجلوها كما أسلفت، والنخلة عموما تنبت حيثما يوجد المناخ الحار وشيء من الرطوبة والتربة الرملية القوام. عن وجود شجرة الزيتون في شبه الجزيرة ينفي ذلك hitti "ذاته، ص19" الذي يرى أن موطنها هو سورية، على أن تكرار ذكر هذه الشجرة في القرآن الكريم "سورة الأنعام: آيات:99 و141, سورة النحل: 11، سورة التين: 1، سورة عبس: 29، سورة النور: 35" يشير إلى معرفة العرب بها. كذلك يرد ذكر شجرة الزيتون في شبه الجزيرة العربية عند سترابون في أواخر القرن الأول ق. م. وأوائل القرن الأول الميلادي في XVI,4:18، وعند بلينيوس في أواسط القرن الأول الميلادي في H.n: XII.77 حيث يبينان خصائص الزيتون العربي التي تميزه من غيره. كذلك يذكر hitti "الموضع ذاته" أن عددا آخر من أشجار الفواكه نقلها اليهود والأنباط من الشمال إلى شبه الجزيرة. عن دخول الكروم في فترة متأخرة إلى المنطقة راجع جان جاك بيربي: جزيرة العرب "الترجمة العربية، بيروت، 1960" ص205. عن تعرف عرب شبه الجزيرة على بعض طرق الزراعة من الآراميين راجع hitti: ذاته، ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الجنوبي لشبه الجزيرة. وقد اكتسبت هذه الشجرة أهمية خاصة في العصر القديم حين كان إحراق الطيوب يشكل قسما أساسيا من الطقوس أو الشعائر الدينية في كل العالم القديم. ليس فقط على صعيد المناسبات الرسمية، وإنما كذلك على صعيد الحياة اليومية, وحين كان اللبان يستخدم في كثير من الأغراض الطبية. وقد كانت هذه الأشجار هي السلعة الأساسية التي تحملها القوافل التجارية من جنوبي شبه الجزيرة لتجد طريقها إلى أسواق مصر والشام، ثم لتجد طريقها من موانئ الشام بوجه خاص إلى بلاد اليونان والرومان الذين كانوا يستخدمون كميات هائلة من الطيوب واللبان للأغراض الدينية والطبية ولأغراض الزينة التي تقوم مقامها الآن الروائح العطرية. ولكن إذا كانت الأشجار, النخيل والبخور واللبان، قد وجدت في شبه جزيرة العرب تربة ومناخا ملائمين لظهورها, فإن حظ هذه البلاد كان أقل في مجال الأشجار الكبيرة التي تصلح لاستخراج الأخشاب اللازمة في بناء السفن والمعابد والبيوت. وربما وجد في بعض العصور قدر من هذه الأشجار في المناطق الجبلية والمناطق القريبة منها, حيث كان يغزر هطول الأمطار مما يؤدي إلى ظهور الأحراج والغابات في بعض مناطق اليمن مثلا. وربما كان يوجد مثل هذه الغابات في مناطق الحجاز وهو أمر قد يشير إلى تعبد أهل هذه المنطقة لإله اسمه "ذو غابة". ولكن إذا كان شيء من هذا قد وجد فلا بد أنه قل بدرجة واضحة في أواخر العصور القديمة حيث نجد سكان شبه الجزيرة يستوردون الأخشاب التي يحتاجون إليها من مناطق مثل الهند وإفريقيا. ولكن على أي الأحوال فإن أشجارا أخرى أقل من هذه في قيمة خشبها أو صلاحيته للأغراض المذكورة، مثل أشجار الأثل والطلح "الذي يستخرج منه الصمغ العربي" والأراك والغضا "الذي كان يحرق للحصول على الفحم" والسنط والسمح وغيرها20.   20 جواد علي: ذاته، صفحات 208 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وننتقل الآن إلى الحيوانات التي عرفها العرب في شبه جزيرتهم قبل ظهور الإسلام. وأول ما يطعالنا في هذه المملكة الحيوانية بالضرورة هو الجمل. وقد بدأ الساميون يعرفون الجمل في القرن الثاني عشر ق. م. ولكنه اقترن باسم العرب منذ أن بدأ اسم "العرب" يظهر في مجال الاحتكاكات الدولية بين الشعوب المجاورة لهم وبينهم. فابتداء من أواسط القرن التاسع ق. م تظهر الجمال كجزء من الغنائم التي حصل عليها ملوك الآشوريين كلما كان العرب، وحدهم أو مع غيرهم من الشعوب، هدفا لحملات هؤلاء الملوك. والشيء ذاته نجده في النصوص الفارسية فيما يخص علاقة الفرس بالعرب. وحين قام الملك الفارسي حشويرش "الذي عرفه اليونان باسم إكسركسيس XERXES" بحملته على بلاد اليونان في أوائل القرن الخامس "480ق. م" كان جنود الفصائل العربية في جيشه يركبون الجمال21. وفي واقع الأمر فإن اقتران الجمل باسم العرب ليس شيئا عفويا؛ فالجمل بالنسبة لأهل البادية هو رمز الحياة التي لا يستطيع العرب أن يتصوروها بدونه, فالعربي يشرب لبن الناقة -أنثى الجمل- حتى يوفر المياه "ولنتذكر أن المياه عزيزة في البادية" للماشية التي يعيش عليها بما فيها الجمل نفسه. وهو يأكل لحم الجمل ويغطي نفسه برداء مصنوع من جلده، ويصنع خيمته من وبره ويستخدم بعره وقودا في أغراض الطهي أو التدفئة, ومن بوله يتخذ دواء لبعض الأمراض بما فيها الأمراض التي تصيب الشعر, ولا يقتصر دور الجمل في حياة عرب البادية على ذلك, إذ هو وسيلتهم الأساسية للمواصلات ووسيلتهم   21 عن ورود ذكر الجمل في النصوص الآشورية راجع anet ص279 "نص من عهد شلمنصر الثالث، 858-824ق. م." صفحات 283-284 "نصان من عهد تجلات بيليسر الثالث 744-727 ق. م" قارن luckenbill: arab، ج1، نصوص 610، 772، 815-819. عن ظهور الفصائل العربية في جيش حشويرش وهي تركب جمالًا راجع herodotos: VII,86-7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الوحيدة للمواصلات البعيدة، إذ هو الحيوان الوحيد المؤهل لنقل الأحمال الثقيلة لمسافات بعيدة بحكم تكوين خفه الذي يساعده على المسير في الرمال بحمولته الثقيلة دون أن يغوص فيها، وبحكم قوته واحتماله وصبره الشديدين. فهو يستطيع أن يحمل أربعة أطنان ويقطع بها 60 ميلًا في اليوم في الصحراء كما يستطيع أن يسافر عشرين يوما بدون ماء في درجات الحرارة العالية, وأكثر من ذلك إذا أعطي شيئا من الكلأ الأخضر, وإلا فهو يستطيع أن يواصل سفره خمسة أيام أخرى قبل أن يموت. ومن هذا المنطلق نقدر دور الجمل في الحركة التجارية الواسعة التي مارسها العرب بشكل نشط قبل الإسلام والتي كانت قوافل الجمال تحمل خلالها منتجات شبه الجزيرة من البخور واللبان والطيوب إلى خارج المنطقة لتعود بالسلع التي يحتاجها أهل البلاد، الأمر الذي شكل المورد الاقتصادي الأول عند سكان شبه الجزيرة والمصدر الأساسي لثروتهم. ومن هذا المنطلق كذلك نستطيع أن نقول: إن الجمل بصفاته هذه، كان عاملًا أساسيًّا في تسهيل مهمة العرب في أثناء الفتوح التي تمت بعد غروب العصر الجاهلي, وظهور الدعوة الإسلامية. وفي مقدورنا أن نتبين الأهمية الكبيرة التي أضفاها عرب شبه الجزيرة على الجمل من ظاهرتين أساسيتين: إحداهما هي أن ثروة العربي كانت تقدر بعدد ما يملكه من جمال "إلى جانب ما كان يملكه من نخيل" على أساس أن الجمل يمثل أثمن سلعة في البادية. ومن هذا المنطلق كذلك كان الجمل يشكل ما يمكن أن نسميه العملة الصعبة في المعاملات, إذا جاز لي أن أستخدم تعبيرا معاصرا. فالمهر الذي يدفع لأهل العروس، والدية التي يتقاضاها أهل القتيل, والربح الذي يحصل عليه لاعب الميسر كانت كلها تقدر بعدد من الجمال. أما الظاهرة الثانية التي تشير إلى أهمية الجمل في حياة العرب في عصر ما قبل الإسلام فهي هذا العدد الهائل من الأسماء والصفات التي أعطيت للجمل "أو الناقة" فيما يخص أنواعه ودرجات لونه ومراحل نموه وطرق سيره وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 أسماء تظهر بشكل واضح في أشعار العرب في العصر الجاهلي22. وإذا كان القرآن الكريم "كمصدر نستقي منه جانبًا من معلوماتنا عن حياة العرب في العصر السابق للإسلام" قد ألمح إلى الجمل كوسيلة نقل لحمل الأثقال إلى مسافات وبلاد بعيدة، فقد أشار إلى الخيل والبغال والحمير كدواب للركوب أو الزينة. وفي هذا المجال فإن الحمار هو أقدم هذه الدواب جميعًا، فقد عرفه الساميون من فترات بالغة في القدم كوسيلة للنقل. وهو يظهر في وادي الرافدين على سبيل المثال مع بداية تاريخهم. بل إنهم حين بدءوا يعرفون الجمل سموه "في اللغة الأكدية" حمار البحر "ربما إشارة إلى أنه أتى من الشاطئ العربي لمنطقة الخليج" وفي هذا الوصف وحده دليل على أن معرفتهم بالحمار كانت أقدم بكثير. والقبائل العربية البدوية كانت متاخمة لوادي الرافدين ومن ثم فإن معرفة أحد الجانبين للحمار كانت تعنى بالتبعية معرفة الجانب الآخر له. ولكن الحمار كان بالضرورة وسيلة نقل لا تلبي في قطع المسافات الطويلة وبخاصة في رمال البادية، ومن ثم فإن استخدامه لا بد أنه كان محدودا وقاصرا على الحضر وأماكن الاستقرار كدابة لركوب العوام. ولعل هذه الصفة هي التي جعلت العرب تضعه في مرتبة أدنى بكثير من مرتبة   22 تحمل الجمل للنقل في المسافات البعيدة يأتي في القرآن الكريم بشكل متضمن في سورة النحل: آية 7. عن تفصيل حمولته ومدى احتماله راجع rodinson. ذاته، ص13؛ hitti: ذاته، ص22. عن اتخاذ بول الجمل دواء لبعض الأمراض نجد ذلك في أحد أبيات لبيد بن ربيعة "560-661م" في لويس شيخو -أفرام البستاني: المجاني الحديثة، ج1، بيروت 1960، ص122، بيت 34، يصف فيه طريقًا تقطعها ناقته: يهوي إلى قصب كأن جمامه ... سملات بول أُغليت لسقيم عن استخدام الجمل كوسيلة للمعاملة بدلا من المال راجع hitti: ذاته، ص22، وجواد علي: ذاته، ص197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الجمل كما يظهر في أشعارهم23. ويأتي الحصان بعد الحمار من حيث قدم التعرف عليه من جانب عرب شبه الجزيرة، وإذا كانت أنواعه الجيدة قد اقترنت باسم العرب، إلا أنه حيوان دخيل على العرب وبقية الشعوب السامية على السواء، فقد كان أول من دجَّنه وحوله بذلك إلى حيوان أليف هم الرعاة من القبائل الآرية "الهندوأوروبية" في بعض المناطق التي تقع إلى شرقي بحر الخزر, ثم استورده الكاشيون "من المجموعات التي استقرت في وادي الرافدين" والحيثيون "في آسيا الصغرى" وأدخلوه إلى غربي القارة الآسيوية في أواسط الألف الثانية ق. م. ومن سوريا عرف طريقه إلى شبه جزيرة العرب في الفترة السابقة للعصر الميلادي. ولكن الحصان لم يصبح في الواقع أداة نقل في المقام الأول عند عرب شبه الجزيرة. وإنما استفاد العرب من سرعته ومن بعض صفاته الأخرى في الغارات التي كانت تقوم بها القبائل فيما بينها في العصر السابق للإسلام. أما فيما عدا ذلك فقد كان دابة ترف بالنسبة للعرب، إذ كانت مهمة إطعامه والعناية به تشكل عبئا بالنسبة لأهل البادية, ومن ثم فقد كان اقتناؤه لا يتيسر إلا لمن كان على قدر من الثراء، وكان يعتبر في الواقع مظهرا من مظاهر هذا الثراء وما يتصل به من ممارسات. فالحصان كان يستخدم، إلى جانب الغزوات أو الغارات، في بعض أنواع الرياضة مثل: الصيد والسباق الذي يبدو أنه كان   23 الإشارة في القرآن الكريم إلى الخيل والبغال والحمير في سورة النحل: آية 8. عن انتقال الحمار من الشواطئ العربية للخليج إلى العراق راجع جواد علي: ذاته، ص197. وضع العرب للحمار في مرتبة أدنى من الجمل يظهر، على سبيل المثال، في بيت للمتلمس "توفي 580م"، راجع شيخو - البستاني: المجاني، ص192، بيت1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 هواية وصلت عند عرب الجاهلية إلى قدر كبير من التفصيل والتفنن والإتقان24. وأخيرا يأتي البغل كدابة ركوب أو نقل. ويشير كتاب السير من العلماء المسلمين إلى أن أول بغلة رئيت في الإسلام كانت بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما يستنتج منه أن هذه الدابة كانت نادرة الاستخدام في العصر الجاهلي. ولكن يبدو، إذا صحت رواية هؤلاء الكتاب، أن حديثهم لا يشمل شبه الجزيرة بأكملها، ولعلهم، وهو الأرجح، كانوا يقصدون منطقة الحجاز؛ إذ إن الحديث يدور عن بغلة أهداها المقوقس للرسول -صلى الله عليه وسلم25. واستند في هذا الافتراض إلى بعض القرائن: فمن جهة نجد أن ذكر البغال   24 عن تدجين رعاة القبائل المتحدثة بالآرية للحصان ودخوله إلى وادي الرافدين مع الكاشيين راجع g.roux: ذاته، ص221. عن دخوله إلى شبه جزيرة العرب من المنطقة السورية راجع hitti: ذاته، ص20، وأؤيد هذا بأن الحصان قد عرف في المنطقة السورية ابتداء من القرن السادس عشر ق. م. على الأقل, استنادا إلى أن جماعات الهكسوس التي اجتاحت مصر الشمالية قادمة من المنطقة السورية في ذلك الوقت "فرارا بدورها أمام اجتياح جماعات آرية من آسيا الصغرى" قد أدخلت استخدام الحصان إلى مصر بعد أن نقلت ذلك بدورها من جماعات من آسيا الصغرى راجع G.H.Breasted: A History of Egypt from the Earliest "New york 1964 Bantam Books" Times to the Persian Conquest ص186 عن الحدث وص501 عن تحديد التاريخ. عن إشارات القرآن الكريم إلى الحصان كدابة من دواب الزينة، سورة آل عمران: 14، النحل:8, كدابة حرب، سورة الأنفال:60، الإسراء:64. عن استخدام الحصان للصيد والرياضة يظهر في عديد من المواضع في الشعر الجاهلي، على سبيل المثال، عند امرئ القيس في شيخو- البستاني: المجاني، ص36، أبيات 61-68، وعند زهير بن أبي سلمى في شيخو - البستاني: ذاته, صفحات 91-92. عن مدى التفنن في رياضة السباق بالخيل نجد عشرة أسماء عند عرب شبه الجزيرة لترتيب الخيل في السباق وهي: السابق أو المميز وهو أول الخيل في الوصول إلى الهدف, ثم المصلي والمسلي والتالي والمرتاح وهو الخامس, ثم العاطف والخطي والمؤمل والسكيت وهو العاشر: راجع دراستنا "الكيان العربي" بيروت, 1965. 25 ابن سعد: الطبقات، بيروت 1957، ج1، ص491. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ورد في سورة النحل وهي سورة مكية والسور المكية نزلت قبل هجرة الرسول إلى المدينة، بينما التراسل بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين المقوقس لم يتم إلا بعد أن استقرت الدعوة الإسلامية في أعقاب الهجرة إلى المدينة. ومن جهة أخرى فإن شبه الجزيرة العربية كانت بها أقسام صخرية أو جبلية مثل منطقة الأنباط في شمالي غربي شبه الجزيرة التي أطلق عليها الكتاب الكلاسيكيون اسم "بلاد العرب الصخرية" Arabia petraea لكثرة ما بها من صخور "بل إن عاصمتهم -البتراء- هي مدينة كاملة واسمها هو في حد ذاته ترجمة حرفية لكلمة petra اللاتينية التي تعني الصخرة أو الحجر" وكذلك مثل بعض مرتفعات اليمن. ومثل هذه المناطق الوعرة أو المرتفعة لا يمكن للجمل أن يسير فيها أو يتسلقها، والبغل قادر على ذلك ومن ثم لا يمكن الاستغناء عنه كدابة للركوب أو لحمل الأثقال التي يستطيع البغل أن يحمل قدرًا لا بأس به منها. كذلك فإن البغل كان معروفا في منطقة فلسطين ومن هنا فإن الانتفاع به على الأقل في المناطق الصخرية القريبة من فلسطين يصبح أمرا واردا. أما عن بقية الحيوانات المستأنسة التي عرفتها شبه جزيرة العرب في الجاهلية فهي الأغنام والماعز والكلاب اللازمة للحراسة بالضرورة والقطط. وغير هذه كانت توجد الحيوانات البرية مثل الأسد الذي كان موجودا في الجاهلية وكانت له عدة أسماء يتسمى بها العرب ولكنه انقرض الآن, والفهد وبعض الزواحف والهوام مثل الثعابين والحيات التي يبدو أنها كانت منتشرة بشكل ظاهر في شبه الجزيرة26 وبعض أشباه الزواحف مثل الضب، وحيوانات   26 عن ثعابين شبه الجزيرة في النصوص الآشورية راجع luckenbill: arab، ج2، نصوص 209، 229؛ في المصادر الكلاسيكية انظر Herodotos, III,107 حيث يحدثنا المؤرخ عن ثعابين مجنحة ذات ألوان متعددة، كذلك Strabo , XVI,4,19, الذي يتحدث عن نوع من الحيات القافزة ذات لون أحمر داكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أخرى مثل القرود التي لا تزال موجودة في المناطق الجبلية باليمن حتى الآن, ثم الجراد وبعض الطيور الجارحة مثل العقاب والباز والنسر والصقر والبومة, وعدد من الطيور الأخرى مثل الغراب والهدهد والعندليب والقطا، وهذه الأخيرة يبدو أنها نالت استحسان عرب الجاهلية لسبب أو لآخر "لعله جمالها أو وداعتها إلى جانب استخدامها كطعام شهي" فخلَّدوها في أشعارهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 القسم الثاني: المصادر الباب الرابع: الاثار والنقوش مدخل ... الباب الرابع: الآثار والنقوش قبل أن أبدأ الحديث عن الآثار والنقوش كمصدر أساسي لمن يقدم على التأريخ لشبه الجزيرة العربية في الفترة السابقة للإسلام أود أن أقول: إني أقصد بالمصادر كل ما يمكن أن تصل إليه أيدينا من أصول نستطيع عن طريقها أن نرسم صورة واضحة في حدود الإمكان لمجتمع شبه الجزيرة في تلك الفترة في كل جوانب حياته، سواء في ذلك نشاطه الاقتصادي والموارد التي كان يعتمد عليها في ممارسة هذا النشاط، أو تكوينه الاجتماعي بطبقاته وفئاته، أو معتقداته وعباداته التي كان يؤمن بها ويتصرف بدرجات متفاوتة في دائرة اقتناعه بها، أو نظمه السياسية التي كانت تربط بين أفراده وما تمليه ظروفهم من تكتلات صغيرة أو كبيرة قد تكون عشيرة أو قبيلة أو مجموعة قبائل أو إمارة أو مملكة, أو علاقاته الخارجية بالمجتمعات الأخرى التي تحيط به ويحتك بها في صورة أو في أخرى، ثم الوسائل التي كان يصطنعها، أو كانت ظروفه توجهه إلى اصطناعها، لكي يعبر عن نفسه أو بالأحرى عن محصلة انطباعه بتجربته في كل هذه الجوانب، سواء أكان ذلك عن طريق الفن أم الأدب أم غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 1- قيمة الآثار والنقوش في التاريخ لشبه الجزيرة : والآثار والنقوش تأتي في مقدمة هذه المصادر، فهي التعبير المادي الملموس الذي تركه لنا مجتمع شبه الجزيرة العربية "أو من احتكوا به" عن ممارسات هذا المجتمع في كل الجوانب التي أسلفت ذكرها. فالآثار تنقسم إلى أنواع عديدة من بينها، في مجال المعمار، بقايا المنازل والقصور والمعابد والأضرحة والحصون والسدود والبوابات والأسوار والمسلات وغيرها، وفي مجال النحت نجد التماثيل بكافة أنواعها سواء أكانت كاملة أم نصفية أم دمًى صغيرة أم زخارف بالنحت البارز، ثم هناك الرسوم التي تركها سكان بعض المناطق في شبه الجزيرة على شكل مخربشات على صخور الجبال، والفخار الذي كان يشغل حيزا كبيرا في الحياة اليومية وبخاصة في مجتمعات الحضر في شبه الجزيرة "وفي الواقع في كل مجتمعات العصور القديمة" سواء اتخذ شكل أوعية أو أوانٍ أو غير ذلك. وإلى جانب ذلك هناك بطبيعة الحال أدوات العمل اليومي وأدوات الزينة. ثم المسكوكات أو العملة التي كان يتداولها هذا المجتمع في قضاء حاجاته ومعاملاته وبخاصة إذا أدخلنا في اعتبارنا أن التجارة بما فيها من معاملات نقدية كانت تشكل موردا أساسيا من موارده الاقتصادية. ثم نصل في نهاية المطاف إلى النقوش التي تركها لنا سكان شبه الجزيرة في أكثر من منطقة على جدران المعابد أو الأضرحة أو صخور الجبال أو النصب أو الألواح التذكارية, التي أراد بعض الأفراد أو الحكام أن يخلدوا بها حدثا أو موقفا يرغبون في تخليده لسبب أو لآخر. ونحن نستطيع أن نستنتج الشيء الكثير عن حياة مجتمع شبه الجزيرة من كل نوع من هذه الآثار. ففي مجال المعمار, على سبيل المثال، يشير موقع الحصن أو السور الممتد حول المدينة إلى أن المنطقة التي يوجد بها في حاجة إلى دفاع من نوع خاص؛ لأنها تقع في منطقة تتعرض فيها للخطر من جانب مجتمع مجاور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 لديه اتجاهات توسعية, أو لأن المنطقة "التي قد لا تشكل في حد ذاتها مطمعا" تقع في معبر قد تجتاحه دولة مجاورة في طريقها للاعتداء على أرض دولة أخرى مجاورة. والحجارة التي تستخدم في بناء هذا الحصن أو هذا السور لها أكثر من دلالة، ومن بين ما تدل عليه مدى الاهتمام بتحصين الموقع, وهذا نستطيع أن نعرفه من حجم الحجارة وسمك السور أو سمك جدران الحصن، كذلك هي تدلنا على مدى قدرة أفراد المجتمع في هذا الموقع على السيطرة على الحجر صقلًا وترتيبًا, وعلى مدى تأثرهم في طراز البناء بغيرهم أو مدى تعبيرهم عن شخصيتهم الخاصة. والشيء ذاته يمكن أن نقوله بتفاصيل مختلفة عن بقية أنواع المعمار، فأساسات أو بقايا المنزل أو القصر الذي يجده المنقِّب الأثري في أثناء حفائره تشير، بين أشياء كثيرة, إلى المستوى الاقتصادي أو الطبقي لمن كانوا يسكنون هذا المنزل أو القصر، والمعبد يبين لنا، إلى جانب طرازه ومدى ما فيه من شخصية فنية محلية أو تأثير خارجي، نوع العبادة التي كان يمارسها سكان المنطقة التي أقيم فيها هذا المعبد, وشيئا عن المعبود الذي تدور حوله، وربما شيئا عن الطقوس أو الشعائر التي كانت تتصل بهذا المعبود وهكذا. والتماثيل أو النحت البارز أو الرسوم والمخربشات هي الأخرى نستطيع أن نستنطقها الكثير مما كان يدور في مجتمع شبه الجزيرة قبل ظهور الإسلام, كما نستطيع أن نتعرف من العملة على أكثر من جانب من جوانب الحياة التي كان يمارسها، فالكتابة التي تظهر على أحد وجهي العملة قد تعطينا اسم الحاكم أو صفته والرسم الذي قد يوجد على الوجه الآخر له دلالته سواء صور معبودا أو حيوانا يقدسه المجتمع أو طائرا أو نباتا له أهميته في الحياة اليومية. والعملة الأجنبية التي نعثر عليها نستطيع أن نعرف منها مثلا أن قدرًا من التعامل كان قائما بين مجتمع شبه الجزيرة والدولة صاحبة هذه العملة، وعدد ما يعثر عليه من قطع هذه العملة الأجنبية يعطينا فكرة عن مدى كثافة المعاملات مع هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الدولة. كذلك فنوعية المعدن الذي سكّت منه العملة يزودنا بفكرة عن رسوخ الوضع الاقتصادي أو عدم رسوخه, إذا كانت هذه العملة ذهبا أو فضة أو بروزا وهكذا. ثم نأتي إلى النقوش, وهذه عبارة عن نصوص تركها لنا مجتمع شبه الجزيرة في العصور السابقة للإسلام, إما محفورة بشكل سريع على واجهات الصخور, أو محفورة بشكل منظم، وعادة ما يكون منمقا، على جدران المعابد أو المنازل أو على واجهات الأضرحة أو شواهد القبور، أو مختومة على ألواح أو رُقُم طينية تحرق بعد أن تسجل عليها هذه النصوص؛ كي تكتسب شيئًا من الصلابة التي تضمن لها البقاء فترات طويلة دون أن تتعرض للتفتت أو التآكل. وهذه النصوص تتراوح في طولها، فقد تكون سطورا قليلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة أو قد تمتد لتشمل عدة فقرات طويلة. كذلك فهذه النقوش قد توجد في مناطق داخل شبه الجزيرة العربية، كما قد توجد في مناطق داخل بلاد أخرى كانت على صلة بشكل أو بآخر بمجتمع شبه الجزيرة، ومن ثم ترد في نصوص لشبه الجزيرة معلومات عنها. والنقوش لها أكثر من دلالة تضعها أمام من يريد التعرف على مجتمع ما قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية. وعلى سبيل المثال فإن انتشار نصوص بلغة أو لهجة معينة في عدد من المناطق يشير إلى انتشار الفئة أو المجموعة التي تتحدث بهذه اللغة أو اللهجة في الأماكن التي وجدت فيها هذه النقوش, أو يشير على الأقل إلى تواجد -بصفة أو بأخرى- لهذه المجموعة في تلك الأماكن. ووجود نقوش بلغات مختلفة في منطقة واحدة يشير عادة إلى أن هذه المنطقة كانت نقطة التقاء أو مرور للمجموعات التي كانت تتحدث بهذه اللغات, وهو لقاء أو مرور يتم لغرض عادة ما يكون تجاريًّا. كذلك قد يشير أحد النقوش إلى حدث معين قد يكون غزوة قام بها حاكم منطقة بعيدة إلى المنطقة التي اكتشفت فيها النقش, وقد يكون ابتهالًا من أحد حكام أو أفراد منطقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 معينة إلى إله من آلهتها، فنعرف من ذلك اسم هذا الحاكم أو الشخص واسم الإله أو الآلهة التي كانت عبادتها تسود هذه المنطقة وهكذا. وتعمل الآن في حقل الكشف عن الآثار والنقوش في شبه الجزيرة العربية مجموعة من الهيئات العلمية المتخصصة, تتكون كل منها في أغلب الأحوال من فريق متكامل يمثل التخصصات المختلفة, يوجد فيه المنقب الأثري والمتخصص اللغوي والجغرافي والرسام والمهندس المعماري، وهذه الهيئات التي تنتمي إلى بلاد مختلفة تؤدي مجهوداتها هذه إلى توضيح الصورة التاريخية لشبه الجزيرة أمام الباحثين يوما بعد يوم. على أننا ندين في الواقع ببداية الاهتمام بتاريخ شبه الجزيرة العربية وبداية التعرف العلمي على آثارها ونقوشها إلى عدد من العلماء الأوروبيين والعرب والأمريكيين كان لمجهوداتهم الأولى، التي عرضتهم لكثير من المصاعب والمخاطر "وهي مخاطر أودت بحياة عدد منهم في بعض الأحيان" أكبر الأثر في قيام واستمرار العمل العلمي القائم الآن في هذا المجال. وقد كان عمل هؤلاء الرواد مختلطا في أغلب الأحوال بين الآثار والكشف عن النقوش القديمة حسبما تتيسر الظروف. ولا أهدف في هذه الكلمة التمهيدية إلى حصر أسمائهم أو أعمالهم وإنما أود أن أعرض بشكل سريع إلى التعريف بالمراحل التي سارت فيها هذه الكشوف بهدف إعطاء هيكل عام لها. وقد كان أول هؤلاء هو كارستن نيبور karsten niebuhr, الجغرافي الدانماركي الذي قام هو وخمسة أفراد آخرين في بعثة أرسلها ملك الدانمارك للكشف عن آثار اليمن بين 1761، 1772, وقد هلك زملاؤه الخمسة وبقي هو ليضع كتابا ضمنه نتاج العمل الذي قامت به البعثة، ورغم أن الكتاب يحتوي على قدر كبير من تفاصيل الرحلة ذاتها مما قد لا يهم الباحث في تاريخ شبه الجزيرة، إلا أن هذا الكتاب كان له أثرانِ مهمانِ: أولهما هو أنه نبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أذهان العلماء إلى إمكانية وأهمية العمل في حقل التعرف على آثار ونقوش اليمن, وثانيهما هو الخريطة المفصلة التي ظهرت في هذا الكتاب لتبين مواقع وأماكن لم يكن يعرف بها أحد من قبل, الأمر الذي يسر الأمور بشكل ظاهر لمن أتى بعده من العلماء. أما المرحلة الثانية فيمثلها توماس أرنو Thomas Arnaud الصيدلي الفرنسي الذي زار اليمن في 1843 وكشف، بين أشياء أخرى, عن 56 نقشًا. وأهمية رحلته العلمية هو إقبال المستشرقين على فك رموز الخط العربي الجنوبي الذي أطلقوا عليه بشكل عام في البداية اسم الحروف الحميرية. ثم تلت ذلك خطوتان هما تمكن هؤلاء المستشرقين من تقسيم هذه الحروف بشكل تخصيصي إلى ثلاث مجموعات هي الحروف الحميرية والحروف المعينية والحروف السبئية. أما الخطوة الثانية فهي التمكن من ترجمة كل النقوش التي اكتشفت في العربية الجنوبية حتى ذلك الوقت ثم جمعها والتعليق عليها في موسوعة النقوش السامية Corpus Inscriptionum Semiticarum. وتتمثل المرحلة الثالثة في مجهودات عالمين آخرين هما الفرنسي جوزيف هالفي Joseph Halevy الذي وصل إلى نجران وصنعاء في 1870, وتمكن من اكتشاف 686 نقشًا من 37 موقعًا، وإدوارد جلازر Edward Glaser العالم النمساوي الذي قام بأربع رحلات إلى اليمن بين 1882، 1894 كانت حصيلتها ألفي نص. وأهمية جهود هذين العالمين هي هذا العدد الهائل من النقوش التي عثروا عليها وسجلوها, وبفضل هذا العدد من النقوش تمكن المهتمون بدراسة تاريخ هذا القسم من شبه الجزيرة من التعرف الأعمق على خصائص اللغات العربية الجنوبية القديمة ومقارنتها بغيرها من اللغات السامية بما يستتبعه هذا من التوصل إلى معرفة عدد من العلاقات الداخلية والخارجية في صدد الاتصالات بين هذه المنطقة وغيرها من مناطق العالم القديم. والمرحلة التالية في مجال التعرف على تاريخ اليمن القديم يمثلها من بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 آخرين, عالمان مصريان هما العالم الجغرافي سليمان حزين الذي زار المنطقة ضمن بعثة ثلاثية أرسلتها جامعة القاهرة في 1936 أصدر على أثرها بحثين أحدهما عن الخطوط التجارية في شبه الجزيرة في العصر الروماني, والآخر عن التغيرات المناخية التي أدت إلى الهجرات من جنوبي شبه الجزيرة إلى شماليها في العصور القديمة. والثاني عالم أثري هو أحمد فخري الذي قام برحلة علمية أثرية إلى المنطقة في 1948, تمكن خلالها, إلى جانب نتائج أخرى، من دراسة معبد إلمقه، إله القمر السبئي الموجود في مأرب دراسة علمية وافية صدرت في ثلاثة أجزاء في 1952. أما العالم الآخر الذي يمثل هذه المرحلة، فهو العالم الأثري الأمريكي وندل فيليبس wendell phillips الذي ترأس بعثة أمريكية أثرية إلى اليمن 1952 تمكن على أثرها من الكشف على الفناء الأمامي لمعبد إلمقه. وإلى جانب هذه المجهودات العلمية الخاصة بالعربية الجنوبية كانت هناك مجهودات موازية في القسم الشمالي من شبه الجزيرة, من بينها ما قام به العالم التشيكوسلوفاكي ألويس موسيل alois musil الذي تمكن في خلال رحلاته إلى نجد والحجاز، وبخاصة المواقع التي كانت تمر بها خطوط القوافل التجارية. ومن بين هذه المجهودات كذلك ما قام به المستشرق الفرنسي رينيه دوسو rene dussaud الذي ظهرت نتائج تحقيقاته في دراسة عن نفاد الأقوام العربية والنشاط التجاري والسياسي العربي إلى داخل المنطقة السورية*.   * مثال من البعثات العلمية الأثرية التي عملت في شبه الجزيرة العربية في الفترة الأخيرة نجده في خمس بعثات قامت بتنقيبات في المملكة العربية السعودية هي: بعثة جامعة تورنتو الكندية وجامعة كنتكي الأمريكية برئاسة الفريد وينيت ووليم ريد في 1962، 1976 في شمال غربي المملكة وفي منطقة حائل، وأعمال الأستاذة الألمانية روت شتيل والعالم البرت جامي "1963-1968" في المنطقة الشمالية الغربية وأعمال البعثة الدانماركية "1968" في المسح الأثري للمنطقة الشرقية وأعمال بعثة معهد الآثار بجامعة لندن "1968" في المنطقة الشمالية الغربية, وأعمال بعثة معهد سمثسونيان الأمريكي "1968" في المنطقة الجنوبية الغربية للمملكة ومنطقة نجران وأعمال بعثة قسم التاريخ بجامعة الرياض برئاسة الدكتور عبد الرحمن الأنصاري في منطقة الفاو بوادي الدواسر في بداية السبعينات. راجع: مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية، إدارة الآثار والمتاحف، المملكة العربية السعودية، 1975. عن تفاصيل رحلات بعض العلماء الأثريين راجع: ZOHRA FREETH & victor winstone: explorers of arabia "1978 london" بعض أمثلة من الأبحاث التي ظهرت لبعض العلماء المذكورين هي: m.niebuhr: travels through arabia "ترجمة إنجليزية" Edinburgh 1792. ahmad fakhry: an archactogical journey to yamen "ثلاثة أجزاء" cairo 1952. s.huzayyin: changement historique du climat et du paysage de l,arabia du sud, bulletin of the faculty of arts, university of egypt 1952. alois musil: northen negd, new york, 1982. wendell phillips: qataban and sheba, london, 1955. rene dussaud: la penetration des arabes en syrie avant l,lslam paris 1955. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 امثلة من المخلفات الأثرية مدخل ... 2- أمثلة من المخلفات الأثرية: وسأعرض في هذه السطور إلى المخلفات والنقوش التي تتصل بشبه الجزيرة العربية, لا على سبيل الحصر، فهذا يتجاوز طاقة الباحث كما يخرج عن نطاق هذه الدراسة التقديمية، ولكن عن طريق تقديم نماذج من كل نوع من هذه الآثار والنقوش يمكن أن تعطي صورة عامة متكاملة في حدود المستطاع تصلح مدخلًا للتعرف على أحوال المجتمع العربي في عصور ما قبل الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أ- الآثار المعمارية : ولتكن بداية الحديث عن الآثار المعمارية. ومن بين المعالم البارزة في هذا الصدد معبد العوَّام الذي اكتشفت آثاره باليمن على مسافة 4 كيلومترات جنوبي صرواح "غربي مأرب، عاصمة الدولة البيئة القديمة"1. إن هذا العبد على قدر ظاهر من الفخامة، سواء في مساحته أو في تفاصيل بنائه، فالقسم الأساسي منه بيضاوي الشكل يصل محيطه إلى ألف قدم "وتره الطويل 370 قدمًا ووتره الصغير 250 قدمًا"، ويفضي إليه فناء مربع "حوالي 72 × 57   1 راجع ملحق اللوحات: 1- أ, 1 - ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 قدمًا" تمتد بإزاء جدرانه من الداخل مجموعة من 32 عمودا مربعا, وفي وسط هذا الفناء المربع عثر على تمثال لرأس ثور من المرمر على هيئة ثور وهو أحد الأوصاف التي عرف بها إله القمر إلمقه، بينما تفضي نهايته إلى ثمانية أعمدة طويلة كل منها عبارة عن كتلة واحدة منحوتة من الحجر المصقول، ما عدا اثنين يتكون كل منهما من قطعتين, الواحدة فوق الأخرى. وهذا بينما يظهر على الجدران قدر كبير من الزخرفة الدقيقة على هيئة نوافذ وهمية. أما القسم الأساسي البيضاوي من المعبد فإن جدرانه تصل في سمكها إلى 13 قدما ونصف قدم. ورغم أن هذه الجدران قد تهدمت أجزاء منها بحيث لا نستطيع أن نتعرف على ارتفاعها الأصلي إلا أن ما تبقى منها يصل في بعض المواضع إلى ارتفاع 27 قدما، وتدل بقايا من معدن البرونز في المعبد على أن أبوابه والدرج المفضي إليه كانت مغطاة بهذا المعدن. هذا وقد عثر في المعبد على عدد من النقوش سواء على الحجر أو على صفائح من البرونز بها ابتهالات مقدمة إلى الإله إلمقه. أما تاريخ البناء فإن الأساليب المعمارية المتعددة التي تظهر في جدران المعبد تدل على أنه بني على مراحل تمتد من القرن الثامن إلى القرن الخامس ق. م. وأول ما يسجله دارس التاريخ في صدد هذا الموقع الأثري هو أن منطقة سبأ كانت لا تشذ عن بقية مناطق العربية الجنوبية في عبادة القمر الذي كانت عبادته شائعة في هذه المناطق تحت أسماء مختلفة كجزء من عبادة الكواكب التي كان يجمعها ثالوث: الزهرة والقمر والشمس. كذلك تدلنا العناية الفائقة ببناء هذا المعبد، سواء من حيث بناؤه "أو بناؤه وترميمه" على مدى ثلاثة قرون أو من حيث تفاصيل البناء ذاته على مدى الاهتمام بالحياة الدينية في العربية الجنوبية، وهي ظاهرة استرعت أنظار عدد من الكتاب الكلاسيكيين من بينهم، على سبيل المثال، الكاتب الروماني بلينيوس PLINIUS الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 يحدثنا "في أواسط القرن الأول الميلادي" عن بعض مناطق الجنوبية العربية فيذكر أن القتبانيين Gebanitae كانت إحدى مدنهم وهي ثمنه Thomna تضم 65 معبدا، وأن سابوته "شبوه" Sabota عاصمة الحضرميين Artamitae كان بها 60 معبدا. وهذه الظاهرة في حد ذاتها من ظواهر حياة الاستقرار التي تسود المناطق ذات الاقتصاد الزراعي المنتظم, ونحن نلاحظها على سبيل المثال في مصر وفي وادي الرافدين, وقد كانا من الحضارات القائمة على الاقتصاد الزراعي المستقر. كذلك تدلنا ضخامة البناء وفخامته على مدى البذخ والثروة التي كانت تتمتع بها منطقة سبأ. وفي هذا نعود مرة أخرى إلى شهادة الكاتب الروماني بلينيوس الذي يذكر لنا أن أغنى أقوام العربية الجنوبية هم السبئيون "بسبب خصوبة غاباتهم في إنتاج الطيوب, وبسبب مناجم الذهب -التي توجد لديهم- وأراضيهم الزراعية التي تعتمد على الري -المنظم- وإنتاجهم للعسل والشمع" كما يدل الطراز المعماري للمعبد، بما يظهر فيه من إتقان في مبانيه وأعمدته وزخرفته, على مدى ما وصل إليه اليمنيون من تقدمٍ فنيٍّ في الفترة التي مر بها بناء هذا المعبد على الأقل، وهي تمتد، كما رأينا، عبر ثلاثة قرون, من القرن الثامن إلى القرن الخامس ق. م. وهو تقدم يدل على قدر من الرخاء كان لا يزال سائدا, حسبما تشير شهادة بلينيوس، في القرن الأول الميلادي2   2 عن تفاصيل القسم الأساسي من المعبد راجع: "cairo 1952" Ahmed fakhry. an archaological journey to yemen ج1، صفحات 29-56 ويسميه الكاتب أحيانا "محرم بلقيس". عن تفاصيل الفناء الأمامي الذي يفضي إلى المعبد راجع: "london, 1955" wendell phillips: qataband sheba صفحات 256-268. عن وفرة المعابد في العربية الجنوبية في القرن الأول الميلادي راجع فيما يخص مدينة ثمنه thomna في منطقة الجبانيين: plinius: H N,VI,153 وفيما يخص مدينة شبوه Sabota عند الحضارمة: الكاتب ذاته، الكتاب ذاته، Vt'155 وعن ثروة السبئيين ومواردها: ذاته، VI,61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وأخيرا، وليس آخرا، فإن الباحث في التاريخ قد يستنتج من الشكل البيضاوي للمعبد عدة أشياء، ربما كان أحدها أن هذا الشكل يساعد في حراسة المعبد، بما فيه من ثروة "تشير إليها بعض الأوعية الذهبية التي عثر عليها المنقبون الأثريون بداخله", ضد غارات البدو الذين كانوا يقطنون الأماكن الصحراوية في اليمن، إذ في حالة الشكل البيضاوي لا تكون هناك زوايا في البناء تحجب الرؤية عمن يقومون بحراسة المعبد، وهو استنتاج يمكن أن يتمشى مع ظاهرة أخرى عرفها الطراز المعماري في اليمن في حالة بناء المنازل، قد كانت هذه تبنى على ارتفاع يتكون من عدة طوابق حتى يكون عنصر الارتفاع عاملا يساعد على السيطرة على البدو المغيرين. مثال آخر من الآثار المعمارية نأخذه من الموقع الأثري الذي تم الكشف عنه تحت التل الكبير في منطقة الفاو "جنوبي بلدة السليل" في وسط شبه الجزيرة العربية، بالقرب من ملتقى سلسلة جبال طويق مع وادي الدواسر "على بعد 700 كيلومتر تقريبا إلى الجنوب الغربي من مدينة الرياض", ومن أبرز المعالم الأثرية التي أظهرها معول المنقب الأثري في هذا الموقع سوق تجارية كبيرة تشكل مركزا تجاريا متكاملا يرجع إلى أكثر من ألفي عام، أي إلى القرن الأول ق. م. على أقل تقدير، وهنا يؤكد لنا الموقع الأثري بشكل محدد ما كنا نعرفه بشكل عام من الكتاب الكلاسيكيين "اليونان والرومان" عن وجود طريق للقوافل التجارية بين اليمن في جنوبي غربي شبه الجزيرة ومدينة جرهاء Gerrha "التي يعتقد أنها كانت تقوم حول ميناء العقير الحالي إلى الشمال الشرقي من الهفوف حسبما تشير البحوث الأثرية التي تمت في الفترة الأخيرة" في شمالي شبه الجزيرة. وربما يكون من المعلومات ذات المغزى في هذا الصدد أن الجغرافي اليوناني الذي عرفنا لأول مرة عن وجود هذا الخط التجاري، وهو سترابون Strabo, كان يكتب في الشطر الأخير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 القرن الأول ق. م. والشطر الأول من القرن الأول الميلادي، أي حوالي الفترة التي يرجع إليها تأسيس هذا المركز التجاري في منطقة الفاو3. وفيما يخص عمارة الأسوار التي تحيط بالمدن أقدم مثالين: أحدهما السور القديم الذي توجد آثاره عند مدينة تاج الحالية في المنطقة الشرقية لشبه الجزيرة على مقربة من شاطئ الخليج, والسور الذي يبلغ عرضه ثمانية أمتار   3 قام عدد من المهتمين بدراسات شبه الجزيرة العربية وهم: فيلبي، فيليب لينز، ج. ركمانز، غ. ركمانز philby, philippe lippens, j phllippe lippene, j في بداية الخمسينات من القرن الحالي باستطلاع عابر لمنطقة الفاو ضمن استطلاع عام لمنطقة أوسع. ثم قام قسم التاريخ بجامعة الرياض تحت إشراف د. عبد الرحمن الأنصاري في مطلع السبعينات بعمليات تنقيب متعددة في التل الكبير بالمنطقة، وكشفت الحفريات عن أن الموقع سوق للقرية تحتوي على عدد من المحال التجارية في صفين متقابلين من الجنوب والشمال, تفصل بينهما ساحة تتوسطها إلى الشرق بئر واسعة، كما عثر خلف المحال التجارية على غرف لخزن البضائع ولإقامة أصحاب القوافل. وقد وجدت نقوش على جدران بعض الغرف تكررت فيها كلمة "كهل" في أشكال مختلفة بتواتر يدل على أن هذا الإله كان يعبد في هذه القرية، وهي حقيقة يدعمها ورود اسم "كهل" على مقبرة لعجل بن هفعم كمعبود أساسي، كما عثر على مقبرة ثانية لملك عاش في هذه المنطقة وهو معاوية بن ربيعة الذي أعطي لقب ملك قحطان ومذحج كما يظهر من نص من ثلاثة سطور على شاهد القبر. راجع: عبد الرحمن الطيب الأنصاري: أضواء جديدة على دولة كندة من خلال آثار ونقوش قرية الفاو "بحث ألقي في الندوة العالمية الأولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية - مصادر تاريخ الجزيرة، الرياض، 1977". عن ذكر سترابون للطريق التجارية بين المنطقة الجنوبية الغربية من شبه الجزيرة إلى جرها gerrha في شرقي شبه الجزيرة "وهي الطريق التي يشير موقع قرية الفاو إلى أنها تمر بها" راجع: Strabo: XVI, 3:3. عن تحديد موقع جرها على أنها ميناء العقير الواقعة إلى الشمال الشرقي من الهفوف، تشير إلى ذلك بحوث البعثة الدانماركية التي قامت بمسح أثري للمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية في 1968. راجع في ذلك: عبد الله حسن مصري: مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية، إدارة الآثار والمتاحف، وزارة المعارف, المملكة العربية السعودية، 1975، ص15. عن تفاصيل آثار موقع الفاو راجع: ملحق اللوحات: لوحة 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وطوله 3000 متر يرجع إلى فترة الحكم السلوقي الذي بدأ في أول القرن الثالث ق. م. ويمثل السور دون شك اهتماما كبيرا بتحصين هذا الموقع وهو أمر نستطيع أن نفهمه إذا عرفنا أن هذه الفترة شهدت قيام حكم البيت السلوقي "نسبة إلى سلوقس seleukos أحد قواد الإسكندر وأحد خلفائه" في وادي الرافدين والمنطقة المطلة على الخليج وسط صراعات عنيفة كان أحد أسلحتها، إلى جانب المواجهة العسكرية، هو السلاح الاقتصادي الذي دفع السلوقيين إلى تأمين تجارة الخليج. أما المثال الآخر الذي أقدمه لهذه الأسوار فهو السور القديم الذي لا تزال آثاره باقية إلى ارتفاع أربعة أمتار في بعض الأماكن حول مدينة تيماء في القسم الشمالي الغربي من شبه جزيرة العرب. وهذا السور يفسر لنا أهمية الموقع الذي كانت تشغله هذه المدينة في العصور القديمة، فالمدينة كانت تقع في الطريق بين وادي الرافدين وسورية, أي: في المنطقة التي شهدت اجتياح القوات العسكرية الآشورية لسورية, ومؤامرات ملك دمشق وأحلافه ضد الآشوريين، وهو صراع نعرفه من عدد من النصوص الآشورية، وظل مستمرا بشكل أو بآخر في عهد الدولة البابلية الحديثة التي اتخذ آخر ملوكها "وهو نابونائيد، نابونيدوس Nabonidos عند الكتاب الكلاسيكيين" من تيماء مقرا له حين اضطربت الأمور في بابل4.   4 عن قيام الحكم السلوقي وظروف الصراع في منطقة الشرق الأدنى آنذاك راجع: لطفي عبد الوهاب يحيى، دراسات في العصر الهلسنتي، بيروت، 1978 صفحات 88-94، 104-106. نشاط السلوقيين الاقتصادي في المنطقة يدل عليه إقامة السلوقيين مجموعة من المستوطنات من نهر الفرات إلى مدينة جرها، وعقدهم اتفاقية مع هذه المدينة لتزويدهم بالتوابل والبخور, راجع: j.G.C Anderson: Cah المجلد العاشر، صفحات 247 وما بعدها، راجع كذلك: w.w.torn: arabia "oxford classical dictionary" ocd كذلك يشير الجغرافي اليوناني سترابون إلى تجارة جرها مع الفرات عن طريق البحر.strabo: XVI,3:3 عن بقايا سور تاج راجع: ملحق اللوحات في نهاية هذه الدراسة، لوحة 3 أ. عن تيماء راجع النصوص الآشورية والبابلية الحديثة في anet صفحات 283، 284، 306، 313. عن بقايا سور تيماء راجع: ملحق اللوحات، لوحة 3ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 أما عن الآثار المعمارية التي تتصل ببناء السدود، فلعل أبرزها بقايا سد مأرب في اليمن الذي كانت تحجز مياه الأمطار وراءه بحيث يمكن التحكم فيها من خلال عيون تفتح وتغلق حسب الحاجة، ومن هذه السدود كذلك سد السملّقي الموجود بأعلى وادي ليّه من ضواحي مدينة الطائف على مسافة 35 كيلومترًا جنوبي المدينة المنورة بمنطقة الحجاز في شرقي شبه الجزيرة، وقد استمر وجوده في العصر الإسلامي ولا تزال معظم جوانبه قائمة، وسد الحصين الواقع إلى جنوبي خيبر في المنطقة الشمالية الغربية لشبه الجزيرة، ويمتاز هذان السدان الأخيران بطراز واحد هو طراز البناء المتدرج أي الذي يظهر فيه جسم السد على هيئة مدرجات. وعمارة السدود في المجتمع العربي قبل الإسلام تدلنا على أحد الشواغل الأساسية التي كانت تشغل سكان هذا المجتمع الذي كان "ولا يزال" يخلو من الأنهار بشكل تام، ومن هنا تصبح موارده المائية الوحيدة هي العيون أو الينابيع المبعثرة بشكل غير كافٍ في أغلب الأحوال في أرجاء شبه الجزيرة أو الأمطار التي تسقط بشكل موسمي؛ ومن ثم يصبح تجميعها والتحكم فيها في بقية مواسم السنة أمرا واردا في المناطق التي يسقط فيها قدر معقول من الأمطار يبرر الإقدام على بناء هذه السدود5. ثم نلاحظ في نهاية الحديث عن الآثار المعمارية، نوعا من الأبنية ظهر بوجه خاص في القسم الشمالي الغربي من شبه الجزيرة العربية "التي يقع قسم منها الآن في المملكة العربية السعودية وقسم في جنوبي الأردن" التي تكثر التكوينات الصخرية في عديد من مناطقها، وهو نوع من العمارة لا يتم عن طريق البناء، وإنما عن طريق النحت في هذه التكوينات الصخرية بحيث ينتهي هذا النحت في شكل غرف وأبواب وواجهات كبيرة وأعمدة وزخارف. ونحن نجد أمثلة كثيرة لمعابد وأضرحة نحتت في الصخر في مدينة البتراء "في جنوبي الأردن" التي كانت عاصمة لدولة الأنباط، وفي شمالي غربي المملكة   5 راجع: ملحق اللوحات، لوحات 4 أ، 4 ب، 4 ج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 العربية السعودية في واحة البدع "التي تعرف باسم مغاير شعيب، في نهاية وادي الأبيض المسمى: عفل، على الجانب الشرقي لخليج العقبة ويبعد عن تبوك 170 كيلومترا إلى الغرب" وفي مدائن صالح "15 كيلومترا شمالي العلا" وهي التي عرفها الكتاب الكلاسيكيون باسم "إجرا" egra وجاءت في القرآن الكريم باسم "الحجر" كحاضرة ثمود، وقوم نبي الله صالح. ونحن نستطيع أن نستنتج من هذا النوع من العمارة الذي ظهر في هذه المنطقة عددًا من الحقائق: من بينها امتداد المنطقة التي شملها حكم الأنباط الذين تميزوا بهذا النوع من العمارة. ومن بينها التأثر بالطراز اليوناني - الروماني في العمارة بشكل ظاهر، فواجهات هذه القطع المعمارية واجهات pedaments يونانية، رومانية وكذلك الإفريز Freeze المستطيل الذي يلي الواجهة إلى أسفل وكذلك الأعمدة التي تلي الإفريز نزولا لتحيط بباب المعبد أو الضريح. كذلك نلمس في هذا النوع من المعمار ظهورا جانبيا ولكنه ملموس للشخصية العربية المعمارية "وبخاصة في مدائن صالح في القسم الجنوبي من هذه المنطقة" وهي الشخصية التي بلغت أوجها في الطراز المعماري في العصر الإسلامي. فمن جهة نجد أن الواجهة التي تتخذ في الطراز اليوناني شكلا مثلثا ذا جانبين لهما زوايا حادة، ورأس له زاوية منفرجة، تظهر في بعض الأحيان القليلة في هذه المنطقة وقد اختفى التدبيب من زاوية الرأس فصار لها شكل قوس بيضاوي، ثم نجدها في أحيان قليلة أخرى في عدد من الطاقات NICHES وقد اتخذت قوسا نصف دائري هو القوس الذي يظهر في العمارة العربية بعد ذلك، كذلك نجد أقسام الإفريز التي كانت تتخذ في الإفريز اليوناني شكل مساحات مربعة أو مستطيلة metops تملؤها صور من النحت البارز تمثل قصصا من الأساطير اليونانية, وتفصل بين كل قسم والآخر ثلاثة خطوط رأسية متجاورة triglyphs تبقى كما هي في الإفريز العربي "النبطي" ولكن يظهر فيها تغيير جزئي، فبدلا من النحت البارز الذي يمثل القصص اليونانية ينحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 شكل زهرة ذات ست أو ثماني وريقات في أغلب الأحيان "لعلها مقدمة النجمة المثمنة في الزخرفة الإسلامية فيما بعد"6.   6 راجع: ملحق اللوحات، لوحات 5أ-ح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ب- النحت والمخربشات : وأنتقل الآن إلى الحديث عن النوع الثاني من الآثار وهو النحت الذي يتخذ شكل تماثيل، والنحت البارز الذي يتخذ شكل صور أو زخارف بارزة على واجهات أو جدران المباني أو المسلات. ومن أمثلة هذه الآثار في شبه الجزيرة العربية تمثال حجري عثر عليه قرب القلعة الموجودة في جزيرة تاروت التي تكاد تلاصق الشاطئ الغربي للخليج عند القطيف. والتمثال له دلالة حضارية كبيرة بالنسبة لتاريخ هذه المنطقة، فهو يشبه التماثيل السومرية التي وجدت في جنوبي العراق والتي يرجع تاريخها إلى نحو ثلاثة آلاف سنة ق. م. وهذا يدل على اتصال وثيق بين هذا القسم من شبه جزيرة العرب وبين حضارة وادي الرافدين في هذه الفترة المبكرة7، وهو اتصال له ما يؤيده من البقايا الفخارية المتشابهة التي عثر عليها في المنطقتين كما سنرى بعد قليل، بما يحمله هذا من معانٍ وما قد يلقيه من أضواء على بعض الجوانب الخاصة بأصل الحضارة السومرية أو بتأثيراتها. كذلك عثر في المعبد اللحياني في الخريبة "مدينة العلا القديمة قرب مدائن صالح في القسم الشمالي الغربي من شبه الجزيرة" على تمثال صغير "طوله متر واحد" يبدو نسخة مصغرة من التماثيل المصرية القديمة سواء في وقفته المتصلبة أو في الذراعين الملتصقين بجانبي الجسم أو في اليدين المقبوضتين. ولم تظهر دراسة مفصلة عن هذا التمثال حتى الآن، ولكنه يشير بشكل واضح إلى تسرب التأثير الفني المصري بشكل أو بآخر إلى المنطقة8.   7 راجع: ملحق اللوحات: لوحتي 7أ-ب. 8 راجع: ملحق اللوحات: لوحتي 8 أ - ب. التأثير المصري في مجال الفن وارد عن طريق الاحتكاك التجاري، وفي هذا المجال فإن بترا "البتراء" PETRA عاصمة الأقباط كانت تتفرع من عندها طريقان تجاريتان إحداهما تؤدي إلى تدمر palmyra وسورية، والأخرى تؤدي إلى غزة راجع: plinius: H.N,144, كذلك فإن طريقا كانت تؤدي إلى بلوزيون peluseon "الفرما" في مصر ومنها يوجد طريق مختصر إلى هيرويس heroes "السويس" في مصر، راجع: strabo: XVI,2:30 حيث تستمر الطريق البرية بعدها إلى داخل مصر. كذلك راجع العلاقات الوثيقة بين التجار المعنيين من العلا وبين مصر، وبخاصة نص زيد إيل التاجر المعيني الذي أصبح كاهنا في المعابد المصرية في الوقت ذاته، في آخر هذا الباب وحاشية 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أما المثال الثالث الذي أقدمه في هذا الصدد فهو تمثال برونزي عثر عليه ضمن مجموعة من التماثيل في مدينة "تمنع" في قتبان وهي من الأقسام السياسية التي قامت في جنوبي شبه جزيرة العرب وهو تمثال لطفل يمتطي أسدا، والطفل يمسك في يده اليمنى بلجام وفي يده اليسرى بشيء يشبه القفل بينما يرفع الأسد رجله اليمنى وكأنه يهم بالحركة. وفي هذا التمثال نجد أثر الفن اليوناني بارزًا إلى حد كبير سواء في عري الطفل، والعري ظاهرة شائعة في التماثيل اليونانية، أو في ملامح وجهه أو في ليونة الحركة الخارجية "التي تميز الفن اليوناني عن فنون الشرق الأدنى القديم مثل الفن المصري أو الفن الآشوري". ونحن نستطيع أن نستنتج من هذا التمثال، الذي يرجع صنعه إلى القرن الأول ق. م. أو القرن الأول الميلادي، تأثيرا يونانيا على المثال العربي في هذه المنطقة من شبه الجزيرة, جاء نتيجة احتكاك اتخذ صورة أو أخرى بين اليونان وجنوبي شبه الجزيرة, وبخاصة إذا عرفنا أن اليونان كانوا قد بدءوا يزاولون الملاحة في البحر الأحمر منذ العصر المتأغرق "القرون الثلاثة الأولى ق. م" بتشجيع من ملوك البيت الحاكم البطلمي في مصر، ثم استمر نشاطهم البحري بعد ذلك في عصر الإمبراطورية الرومانية "ابتداء من 27 ق. م" بعد أن عمل الأباطرة الرومان منذ بداية قيام الإمبراطورية الرومانية على فرض نفوذهم بطريق أو بأخرى على مدخل البحر الأحمر عند مضيق باب المندب "أقصى الطرف الجنوبي لهذا البحر" كمنطقة تتحكم في الطريق التجارية بين موانئ البحر المتوسط "ثم برا إلى البحر الأحمر ثم اختراقا لهذا البحر حتى جنوبيه" والمحيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الهندي. وفي خلال هذا النشاط البحري التجاري بما فيه من مبادلات كان المجال مفتوحا لوصول بعض الدمى اليونانية التي قلدها الفنان العربي الجنوبي9. وأنهي الحديث عن الآثار المنحوتة في شبه الجزيرة العربية بمثال من النحت البارز يمثله شاهد مقبرة من تيماء "القسم الشمالي الغربي من شبه الجزيرة" "يرجع إلى أواسط الألف الأولى ق. م" وقد نحتت على هذا الشاهد صورة الإله "هلال" إله القمر التمودي وقد ظهر في النحت شخص يقدم قرابين إلى الإله10، ونستطيع بشكل بسيط ومباشر أن نستنتج من النحت الموجود على هذا الشاهد حقيقتين: إحداهما أن الثموديين، أو الفرع الشمالي منهم, كانوا يقيمون بشكل مستقر، وليس بشكل عابر لتجارة أو غيرها، في هذه المنطقة. أما الحقيقة الثانية فهي نوع العبادة التي كان يمارسها هؤلاء الثموديون في هذه المنطقة, وما يمكن أن يكون لها من صلة بعبادات الأقوام الذين وجدوا في المناطق المجاورة أو الذين احتكوا بهم في صورة أو في أخرى. وإذا كان النحت بنوعيه، النحت المستدير "التماثيل" والنحت البارز يقدم لنا الشيء الكثير عن حياة العرب في شبه الجزيرة في العصر السابق للإسلام, فإن المخربشات التي تركها السكان على صخور الجبال, وإن كانت أقل منها   9 راجع ملحق اللوحات: لوحتي 9 أ - ب، عن النشاط البحري اليوناني في البحر الأحمر والمحيط الهندي "مرورا بشواطئ المنطقة الجنوبية الغربية لشبه الجزيرة العربية" في القرنين الأول ق. م. الأول م. وما حولهما راجع: rostovtzeff: social and economic history of the hellenistic world "sehh" ج2 "1941 oxford" صفحات 929-932 وحواشي 203-207، كذلك: w.w.tarn: the greeks in bactria and india "1938 cambridge", صفحات 366-373 و m.cary: geographic background to greek and roman history صفحات 204-205. 10 راجع: لوحة 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 شأنًا من الناحية الفنية، إلا أنها لا تقل عنها في قيمتها كمصدر نستقي منه أحوال المجتمع العربي في ذلك العصر. وهناك في الواقع أمثلة عديدة لهذه المخربشات التي نقشها السكان بشكل غير متقن أو بشكل عفوي وبسيط وسريع في أغلب الأحيان. وسأختار عددًا منها من المنطقة الوسطى في شبه الجزيرة, يعطينا فكرة عن بعض جوانب المجتمع الذي كان يوجد في هذه المنطقة. وأول مجموعة من هذه المخربشات نجد منظرين منها على جبل برمة في القسم الشمالي الشرقي من هذه المنطقة، وهي تضم منظرا لعنزة في حركة قافزة ومنظرا آخر يظهر فيه جمل وما يشبه النعامة. بينما نجد منظرا ثالثا في وادي ماسل يضم عددا من النعام. والمنظر الأول الذي تظهر فيه العنزة يعبر عن حياة الرعي التي سادت هذه المنطقة، بينما يعبر المنظر الثاني الذي يظهر فيه الجمل عن وسيلة المواصلات الأساسية لسكان المنطقة. أما النعامة فيبدو رغم انقراضها الآن بشكل كلي أو يكاد يكون كليا، أنها كانت من الحيوانات أو الطيور الشائعة في عصر ما قبل الإسلام شيوعًا جعلها أو جعل التشبيه بها يظهر بشكل متواتر في أشعار الجاهليين من أمثال امرئ القيس ولبيد بن ربيعة والحارث بن حلزة اليشكري وعنترة بن شداد والنابغة الذبياني وعامر بن الطفيل وعبيد بن الأبرص11. والمجموعة الثانية من هذه المخربشات منحوتة على صخور جبل برَّاقة "حوالي 30 كيلومترًا شمالي موقع الدوادمي" وفي أحد مناظرها نجد صورة   11 راجع: اللوحات: 11 أ "العنزة القافزة"، 11ب "جمل وما يشبه النعامة"، 11ج "عدد النعام". عن ذكر النعام في شعر امرئ القيس راجع الأبيات في شيخو- البستاني: المجاني ص35، بيت58, وص41، بيت24؛ عند لبيد بن ربيعة، المرجع ذاته، ص103، بيت6, وص110، بيت67؛ عند الحارث بن حلزة اليشكري، ذاته: ص150، قصيدة صيد وفخر، بيت9؛ عند عنتره بن شداد، ذاته: ص 155، بيت25؛ عند النابغة الذبياني، ذاته: ص22، بيت11؛ عند عامر بن الطفيل، ذاته: ص290، بيت14؛ عند عبيد بن الأبرص، ذاته: ص341، بيت2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 لجمل تحيط به من جميع الجهات صورة مكررة أربع مرات هي عبارة عن دائرة وإلى جانبها خط مقوَّس بعض الشيء12. إن هذه هي صورة "الوسْم" أو العلامة التي كانت تتخذها كل قبيلة تمييزًا لها عن القبائل الأخرى، وربما كان للشكل الذي يتخذه هذا الوسم سبب أسطوري وربما كان مجرد اتفاق تعبيري بين أفراد القبيلة، ولكنه يبرز للباحث حرص كل قبيلة على الترابط فيما بينها، وعلى ألا تذوب شخصيتها في المحيط الواسع الذي تتجاور فيه القبائل في منطقة أو أخرى من مناطق شبه الجزيرة العربية. ومنه تستطيع أن تدرك مدى تغلغل النزعة الانفصالية التي عبرت عن نفسها في شكل العصبية القبلية والتي سادت المنطقة "وفي الواقع أغلب مناطق شبه الجزيرة العربية" بشكل حاد في الفترة السابقة لظهور الإسلام. أما المجموعة الثالثة من المخربشات فنجدها على بعض الصخور الموجودة في وادي ماسل "70 كيلومترا جنوبي الدوادمي". وفي أحد مناظرها تظهر صورة متجاورة لعدد من الأشخاص يقومون بحركات إيقاعية تمثل مشهدا راقصا. وقد يشير هذا المشهد إلى جانب من الحياة الترفيهية التي كان يعمد إليها سكان المنطقة من حين إلى حين, ولكن يبدو كذلك وربما كان هذا هو الأرجح إذا قارناه ببعض المظاهر الأخرى ذات الطابع الديني، أنه يعبر عن رقصة تتصل ببعض الشعائر الدينية، ربما كانت جزءا من ابتهالات يقدمها أبناء القبيلة لإلههم حتى ينزل المطر في هذه المنطقة التي ربما مرت بها بعض السنوات المتعاقبة دون مطر13.   12 راجع: لوحة 12. 13 راجع: لوحة 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ج- الفخار والعملة : والبقايا الفخارية هي الأخرى تشكل مصدرًا على جانب كبير من الأهمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 في تصوير حضارة المجتمع الذي كان يوجد في شبه الجزيرة في الفترة السابقة للإسلام. ولعل الفخار يصور هذه الحضارة أكثر من غيره من أنواع الآثار الأخرى. فالفخار في العصور القديمة كان السلعة أو الأداة التي تستخدم أكثر من أي شيء آخر في الحياة اليومية. فمذ كانت تصنع أواني الطعام، والأوعية اللازمة لحفظ أو تخزين بعض أنواع المؤن مثل الزيت والنبيذ، كما كانت تصنع المزهريات وأوعية البخور التي تستخدم في الطقوس الدينية سواء في المعابد أو في أماكن الاجتماعات، ومنه كذلك كانت تصنع بعض الدمى الصغيرة لأغراض دينية أو في الحياة اليومية. وعلى هذا فوجود كميات من الفخار في أحد المواقع يشير إلى أن هذا الموقع كانت توجد فيه حياة مستقرة وأنه لم يكن مجرد معبر أو محط تجاري، وبخاصة إذا وجد في المنطقة بقايا أثرية أخرى تدل على وجود مستوطنات أو قرى أو مناطق سكنية على قدر ظاهر من الاتساع. وسأختار في هذا الصدد مجموعتين من الفخار كُشف عنهما في منطقة ساحل الخليج في القسم الشرقي من شبه الجزيرة, وإحدى هاتين المجموعتين وجدت في موقع الدوسرية "على شاطئ الخليج جنوبي الجبيل" وفي بعض المواقع القريبة منها. وفي هذه المواقع عثر على بقايا فخار ينتمي من حيث طرازه وطريقة حرقه وألوانه وزخرفته إلى المرحلة الحضارية التي عرفت باسم ثقافة "العُبَيْد" "نسبةً إلى موقع العبيد قرب الطرف الجنوبي للعراق" التي عرفتها منطقة وادي الرافدين حوالي 4000-3500ق. م14. وهذه المجموعة، بوصفها هذا، تعتبر مؤشرا آخر "إلى جانب ما رأيناه في مجال النحت" إلى الصلة الحضارية الوثيقة, تأثرا أو تأثيرا، مع هذه المرحلة الحضارية المبكرة في وادي الرافدين. وهذا بدوره معناه صلة من نوع ما قد تكون صلة تجارية أو هجرة بشرية مثلا. أما الثانية فقد وجدت في موقع "تاج" "غربي الجبيل نحو الداخل" وفي جزيرة تاروت وهي أوعية فخارية   14 راجع لوحتي 13أ-ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 يونانية الطراز ترجع إلى العصر السلوقي "فترة ما بعد الإسكندر، القرون الثلاثة الأخيرة ق. م" وتشير إلى ما تركته الفترة التي سيطر فيها السلوقيون على هذه المنطقة من تأثير حضاري يوناني15. وأعرض الآن بشكل سريع إلى نوع آخر من الآثار كثيرًا ما ألقى الضوء على عدد من جوانب الحياة في مجتمع "أو مجتمعات" شبه الجزيرة العربية في الفترة السابقة للإسلام, وهو العملة. وسأتعرض هنا لثلاث قطع من العملة على سبيل التوضيح؛ والقطعة الأولى عملة سبئية من الفضة ترجع إلى القرن الثالث أو القرن الثاني ق. م. ونحن نجد على وجه هذه القطعة من العملة رأس الآلهة أثينة اليونانية وقد تدلى من أذنها قرط بينما ظهر على خدها حرف النون بالخط السبئي. أما ظهر العملة فقد ظهرت عليه صورة بومة وصورة هلال وغصن زيتون به ورقتان في وسطهما حبة زيتون, ثم الحرفان الأولان من أثينا "الألف والثاء" مكتوبان بالخط اليوناني. ونحن نستطيع أن نبدأ استنتاجنا للحقائق التي تقدمها هذه القطعة من العملة من مجرد وجود عملة سبئية في تلك الفترة، إذ معنى ذلك أن العلاقات التجارية للمنطقة مع الخارج كانت قد بلغت مرحلة متطورة من النشاط والكثافة أصبح معها استخدام العملة بدلا من المقايضة أمرا واردا إن لم يكن في الواقع أمرا محتوما. كذلك نجد المواصفات العامة لهذه القطعة من العملة تحاكي مواصفات العملة الأثينية التي كانت قد بلغت ذروتها مع ذروة النشاط التجاري لمدينة أو دولة أثينا ابتداء من فترة التوسع الإمبراطوري لهذه الدويلة في غضون النصف الأول من القرن الخامس ق. م. بحيث أصبحت في القرن التالي "الرابع" ق. م. عملة دولية تحتذى في عدد من مواصفاتها. والطراز الأساسي للعملة الأثينية تظهر فيه صورة الآلهة أثينة على وجه العملة بينما يوجد   15 راجع لوحتي 15أ-ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 على ظهر العملة رسم البومة "التي تبرز في بعض الأساطير اليونانية المتصلة بهذه الآلهة". والهلال وغصن الزيتون ذو الورقتين وفي وسطهما حبة الزيتون "إشارة إلى اعتبار شجرة الزيتون شجرة مباركة في الفولكلور الأثيني" والحروف الأولى من اسم الآلهة16. والمحاكاة السبئية للعملة الأثينية تصل في تفصيلها إلى إظهار القرط متدليا من أذن الآلهة وإلى إبراز أوراق الزيتون فوق الشريط أو العصابة التي يتحلى بها شعرها. ومعنى هذه المحاكاة من جانب السبئيين للعملة الأثينية أن المعاملات بين منطقة اليمن وبين الأثينيين كانت قد خطت شوطا ملموسا عند ظهور هذه العملة السبئية "القرن الثالث أو القرن الثاني ق. م" إما بالطريق البرية من اليمن إلى الموانئ السورية حيث كان النشاط التجاري الأثيني على أكثفه في القسم الشرقي للبحر المتوسط قبل القرن الثالث ق. م. وإما عن طريق البحر الأحمر ابتداء من هذا القرن حيث بدأ التجار اليونان "ومن بينهم الأثينيون" يصلون إلى الموانئ اليمنية. أما ظهور حرف النون بالخط السبئي على خد الآلهة أثينة فأفترض أنه الحرف الأول من اسم الملك الحاكم في سبأ وقت سك هذه القطعة من العملة. ونحن نجد في الواقع ملكينِ سبئيينِ يبدأ اسم كل منهما بهذا الحرف، أحدهما هو نشاكرب "يهنعم بن ذمر علي ذرح" الذي حكم حوالي عام 250 ق. م "أي في أواسط القرن الثالث ق. م" والثاني هو نصرم "يهنعم" الذي حكم في حدود عام 200 ق. م. "أي في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الثاني ق. م." وأود أن أزيد هنا إلى أن ظهور حرف النون السبئية على خد الآلهة الأثينية يشير إلى نوع من التطور النقدي عند السبئيين، فالعملة الأثينية "بعد أن أصبحت عملة دولية في القرن الرابع ق. م. على نحو ما أسلفت" كانت تستخدم أو تسك كما هي في عدد من البلاد دون إضافة أو تغيير في محتوى النقوش الموجودة   16 راجع لوحتي 15 أ - ب في ملحق اللوحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 على وجهيها، ومن هنا فإن زيادة حرف النون السبئية يشكل تطورا لهذا الوضع، وأفترض في هذا الصدد أن تكون العملة السبئية قد ابتدأت بمحاكاة كاملة للعملة الأثينية في القرن الرابع ق. م. ثم وصلت إلى الرسوخ الذي يعكس ازدهارا اقتصاديا واضحا مكَّن سبأ من أن تزيد في عملتها هذا الملمح الذي يعبر عن تطور محلي17. أما المثال الثاني الذي أعرض له في مجال الحديث عن العملة كمصدر من مصادر تاريخ شبه الجزيرة العربية في العصور السابقة للإسلام فهو قطعة برونزية سبئية كذلك، تظهر على وجهها صورة لرأس رجل وخلفه شكل صغير يبدو كأنه قرص شمس ثم علامة شخصية، أما ظهرها فتظهر عليه صورة رأس رجل "يبدو من ملامحه ومن طريقة تصفيف الشعر أنها للرجل نفسه" وإلى جانبها نقش بالخط السبئي يقرأ: كرب إلى وتر. ونحن نجد في هذه القطعة من العملة تطورا عن العملة السابقة, فالوجه المرسوم لم يعد مجرد تقليد لوجه مرسوم على عملة أجنبية، وإنما أصبح الآن وجها للحاكم ذاته، والنقش الموجود لم يعد محاكاة لخط أجنبي ليس له معنى بالنسبة لسكان أو حتى لتجار المنطقة، وإنما أصبح اسمًا لملك المنطقة متكوبًا بلغة المنطقة وخطها؛ ومن ثم فإن هذه القطعة من العملة لا بد أن يكون تاريخها لاحقا للعملة السابقة. وهذه الحقيقة في حد ذاتها تساعدنا إلى حد ما في التعرف على شخصية الملك الذي تحمل العملة صورته. فنحن نعرف من النقوش التي وصلت إلينا اسم ملكين سبئيين يحملان نفس الاسم: أحدهما كرب إل وتر "بن ذمر علي بين",   17 يرد اسما الملكين نشاكرب يهنعم ونصر يهنعم في قائمة فلبي philby للملوك السبئيين التي أوردها جواد علي: ذاته، ج2، ص350. عن العثور على عملة أثينية بكميات وفيرة خارج أثينا "القسم الجنوبي من آسيا الصغرى، وصقلية، وسورية، ومصر" منذ الفترة التالية لأوائل القرن الخامس راجع: C.M Craay and m. hirmer: greek coins, p. 324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وقد حكم في أوائل القرن الرابع ق. م. "حوالي 390 ق. م" والآخر كرب إل وتر "يهنعم بن وهب آل يحز" الذي حكم في أواسط القرن الثاني ق. م. "حوالي 160 ق. م"18. وطالما أن قطعة العملة التي نحن بصدد الحديث عنها لا بد ,كما رأينا، أن تكون لاحقة في تاريخها لقطعة العملة السابقة التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث أو الثاني ق. م. فيترتب على ذلك أن الملك المقصود هو صاحب الاسم الثاني. وأخيرا فإن قرص الشمس يشير بشكل مرجح إلى عبادة الشمس التي كانت إحدى عبادات ثلاثة منتشرة في المنطقة وهي عبادة الكواكب: الزهرة عشتار والشمس "ذات حمم" والقمر "إلمقه". ثم أنتقل إلى المثال الثالث، وهو قطعة عملة برونزية من بترا "البتراء" عاصمة الأنباط في القسم الشمالي الغربي من شبه الجزيرة العربية، ونجد على وجه هذه العملة صورة نصفية لأحد الأباطرة الرومان، وهذا يظهر بالاستنتاج من مظهره وملبسه كما يظهر بالتأكيد من النقش اليوناني الذي يحيط بالجزء الأكبر من الصورة وهو: الحاكم المطلق قيصر ترايانوس. أما الوجه الآخر فنجد على محيطه نقشًا كتب باليونانية كذلك وهو: مدينة بترا, بينما تظهر في وسطه صورة إلهة لا بد أنها اللات - مناتو، إلهة هذه المدينة. ونحن نعرف من هذه العملة أنها ترجع إلى وقت حدوده هي 98-117م، وهي فترة حكم الإمبراطور الروماني ترايانوس "تراجان"، ومن ثم فإن إمارة أو مملكة الأنباط التي كان لها كيانها المستقل، قد أصبحت ولاية رومانية إما في خلال حكم هذا الإمبراطور أو قبله. وهنا نجد بالمقارنة مع كتابات الجغرافي اليوناني سترابون، الذي كتب في أواخر القرن الأول ق. م. وأوائل القرن الأول الميلادي, أن إمارة الأنباط كانت قد فقدت استقلالها قبل الفترة التي   18 راجع: لوحة 17. اسم الملكين المذكورين يردان في قائمة فلبي، راجع الحاشية السابقة "17". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 كتب فيها أو على الأقل في أثنائها، فهو يشير في حديثه إلى تبعية بلاد الأنباط لروما في "الوقت الحالي" مشيرا إلى الوقت الذي كان يكتب فيه. ولكنا نعرف من الكاتب الروماني بلينيوس plinius "الذي عاش وكتب بعد سترابون" أن هذه البلاد كانت لا تزال مستقلة في وقته "24/23-79م". وفي الواقع فإن إمارة الأنباط لم تصبح ولاية رومانية إلا منذ عام 105م حين ضمها تراجان إلى الإمبراطورية الرومانية, وبعد ذلك التاريخ أصبحت تعرف باسم "ولاية العربية الصخرية" arabia petraea19, وفي هذه الحال يصبح حديث سترابون معناه في الحقيقة أن إمارة الأنباط قبل 105م كانت داخلة في دائرة النفوذ الروماني ولكن دون أن تتحول بشكل رسمي إلى ولاية رومانية. وما دام النقش والصورة الموجودان على قطعة العملة يؤكدان تبعية المنطقة "رسميا" للإمبراطور الروماني، فيكون تاريخ ضرب هذه العملة يقع بين عام 105م وعام 117م "وهو آخر عهد تراجان" على وجه التحديد، ونستطيع عندئذٍ أن نقول: إن أية صفقة أو معاملة تتصل بها هذه القطعة من العملة تقع ضمن هذه الاثني عشر عامًا الممتدة بين 105م و117م. كذلك نستطيع أن نستنتج من هذه العملة شيئا آخر، فاللغة التي كتب بها النقشان الموجودان على وجهيها هي اللغة اليونانية, ومع ذلك فاللغة الرسمية للإمبراطورية الرومانية هي اللغة اللاتينية. وإذن فلا بد من سبب لهذا التناقض   19 راجع: لوحة 18. عن حديث سترابون عن بلاد النبط راجع: strabo: XVI. 4:21؛ عن وضعها في وقت بلينيوس، راجع: plinius: H.n VI,144, وفي الواقع نحن نستطيع أن نقول: إن دخول بلاد النبط في دائرة نفوذ الإمبراطورية الرومانية يبدأ منذ أن أرسل أغسطس حملة إلى اليمن التي استعان فيها بالوزير النبطي سللايوس ثم وجدت روما من حقها أن تحكم على هذا الوزير بالإعدام حين تردد أنه خدع القائد الروماني في هذه الحملة، راجع عن إعدام سللايوس: strabo: XVI,4:24. عن ضم إمارة أو مملكة الأنباط إلى روما في 105م لتصبح ولاية رومانية بصورة رسمية، راجع: m.CARY, a history of rome ط2 "1960, london" ص645. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الظاهر. ونحن في الواقع لسنا بحاجة إلى أن نذهب بعيدا في البحث عن هذا السبب فالثقافة اليونانية هي التي كانت تسيطر على هذه المنطقة طوال العصر المتأغرق "الهللنستي" الذي بدأ مع خلفاء الإسكندر في بداية القرن الثالث ق. م, وفي هذا العصر كانت اللغة اليونانية هي لغة المعاملات بشكل أساسي سواء في الثقافة أو الإدارة أو التجارة. وقد استمرت هذه اللغة لغةً للمعاملات حتى بعد أن دخلت المنطقة في دائرة السيطرة الرومانية. ولما كان الرومان واقعيين وعمليين في سياستهم فقد أبقوا على هذه اللغة بشكل رسمي في الولايات الرومانية, وهكذا سكت هذه العملة وقد ظهرت النقوش التي عليها باليونانية وليست باللاتينية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 النقوش نقوش عن الاحوال الداخلية لشبه الجزيرة ... 2- النقوش: أ- نقوش عن الأحوال الداخلية لشبه الجزيرة: وبعد هذا الحديث السريع عن بعض الأمثلة من أنواع الآثار المختلفة التي وجدت أو عثر عليها في شبه الجزيرة, أقدم الآن بعض أمثلة من النقوش، سواء منها ما عثر عليه بشبه الجزيرة أو في بلاد أخرى احتكت بها أو تعاملت معها بشكل أو بآخر وسجلت هذه الاحتكاكات أو هذه المعاملات نقوشها. وقد سبق أن ذكرت أن وجود عدد من النقوش بلغات مختلفة في إحدى المناطق يشير عادة إلى أن هذه المنطقة كانت نقطة التقاء أو مرور في هذه المنطقة, عادة ما يكون تجاريا، للفئات أو المجموعات التي تتحدث بهذه اللغات. ونحن نجد منطقة لها هذه الصفة في القسم الشمالي الأوسط من شبه الجزيرة, ففي واحة الجوف وغيرها من المواقع الأثرية عثر على عديد من النقوش النبطية والثمودية واللحيانية والمعينية والسبئية, كما تتكرر الظاهرة ذاتها في المنطقة الشمالية الغربية في شبه الجزيرة حيث نجد في موقع العلا عددًا من النقوش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الدادانية والمعينية واللحيانية والثمودية والنبطية20. ويلاحظ هنا أن النقوش المعينية من أندر النقوش في هذه المنطقة؛ لأنها مقصورة إلى حد كبير على جنوبي شبه الجزيرة. ونحن نستطيع أن ندرك مغزى تجمع هذه النقوش المختلفة اللغات في هذه المنطقة إذا تذكرنا أن هذه المنطقة يمر بها الخط التجاري البري الذي كان يتفرع من خط القوافل الطولي "الذي كان يخترق شبه الجزيرة من الجنوب إلى الشمال" جنوبي العلا ليصل إلى وادي الرافدين في منطقة تقع عند مدينة النجف الحالية. كذلك مر بنا أن انتشار نقوش بلغة واحدة في مناطق عديدة من شبه الجزيرة يعني أن المتحدثين بهذه اللغة ينتشرون في كل هذه المنطقة, وهو أمر نجده واضحا في انتشار النقوش الثمودية "النجدية والتيمائية" على امتداد واسع يشمل وسط شبه الجزيرة حيث نجد نقوشا ثمودية كثيرة على واجهة جبل برمة وفي موقع البيجادية شرقي الدوادمي، ويمتد نحو الغرب لنجد مجموعة أخرى من هذه النقوش حول مدينة الطائف، وإلى الشمال حيث نجد مجموعة ثالثة على جبل ياطب وجبل المليحية, وإلى المنطقة الشمالية الغربية حيث نجد بعض هذه النقوش على جبل غنيم تدلنا على أنه المكان الأصلي والأول لعبادة صلم الوثنية, ثم بعدد من المواقع في المنطقة الشمالية الغربية من شبه الجزيرة، من بينها عدد من النقوش على واجهة أحد الجبال في وادي عكمة شمالي العلا, ونقش على جدار في منظر بني عطية بالقرب من القرية21. وبعض النقوش قد تقدم لنا معلومات تساعدنا على معرفة مدى الارتباط أو الاتصال بين لغة ولغة, ومن أمثلة ذلك النقوش المعينية السبئية "وهي نقوش   20 راجع أمثلة لبعض هذه النقوش في ملحق اللوحات: 19 أ - ج؛ راجع كذلك: مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية، صفحات 65, 96، 97. 21 راجع: مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية، صفحات 17، 18، 156. راجع كذلك لوحات 20 أ - ج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 بلغة جنوبية كما أسلفت" التي وجدت بموقع إثرا في منطقة قريات الملح في القسم الشمالي الأوسط من شبه الجزيرة والتي يحاول الباحثون اللغويون أن يجدوا فيها همزة الوصل بين لغة الجنوب ولغة الشمال, ومثل النقش الذي اكتشفه جوزف هاليفي في نقب الحجر بمنطقة نجران "عام 1772م" ومن هذا النقش عرف الباحثون اللغويون أن اللغة الجنوبية في شبه جزيرة العرب قريبة من اللغة الأكدية "البابلية والآشورية" واللغة الحبشية في بعض الجوانب مثل تكوين الأسماء وتصريف الأفعال وبعض المفردات والضمائر, ولكن وجود جمع التكسير بها يجعلها تقترب أكثر من لغة العرب الشماليين واللغة الحبشية. كذلك فإن الخط الذي كتب به النقش الذي نحن بصدد الحديث عنه كان البداية لمعرفة العلاقة بين الخط العربي الجنوبي وبين الخط الذي كتبت به بعض النقوش التي عثر عليها في سيناء, وهو الخط الذي يمثل حلقة الوصل بين الأبجدية الفينيقية والأبجدية المصرية القديمة التي أخذت عنها الأبجدية الفينيقية وطورتها22. كذلك نعرف من بعض النقوش معلومات عن الأحوال والنظم والقوانين والعبادات التي كانت سائدة في منطقة أو أخرى من شبه الجزيرة. وفي هذا المجال فقد تم العثور حتى الآن في اليمن وحدها على حوالي 4 آلاف نقش يرجع أقدمها إلى القرن التاسع أو الثامن ق. م. على أقل تقدير، ويمكن تصنيفها إلى عدة أنواع؛ فبعضها يتصل بنذور قدمها بعض الأشخاص إلى الآلهة "إلمقه" و"عشتار" و"شمس" وقد نقشوها على لوحات من البرونز وضعوها في معابد هذه الآلهة, ومنها نتعرف على جانب من عبادات المنطقة، وبعضها منقوش على جدران المعابد وبعض المباني العامة ليسجل ويخلد أسماء المهندسين المعماريين الذين أسهموا في بنائها، ومن هذه النقوش "إلى جانب   22 عن النقوش المعينية - السبئية في القسم الشمالي الأوسط من شبه الجزيرة راجع حاشية 20. عن نقش نجران راجع: لوحة 21. راجع كذلك hitti: ذاته 51-52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 البقايا الأثرية نفسها" نعرف إلى أي حد ازدهر فن المعمار في اليمن بحيث حرص المهندسون المعماريون أو القائمون على هذه المباني على الربط بين أسمائهم وبين العمل المعماري الذي قاموا به أو أسهموا فيه بشكل أو بآخر. ومن بين هذه النقوش كذلك مجموعة تسجل أحداثا تاريخية مثل ذكر حملة عسكرية أو تسجيل انتصار, ومجموعة تسجل أوامر الشرطة والأوامر الإدارية الداخلية التي نتعرف من خلالها على اتجاهات الحكومات التي قامت في المنطقة في تنظيم مجتمعهم وإشاعة الاستقرار فيه, ثم مجموعة لها قيمتها بالنسبة لدارس النظم السياسية وهي تسجل بعض القوانين التي تكشف النقاب عن تطور دستور طويل عرفته المنطقة، وأخيرا هناك عدد من النقوش الجنائزية الموجودة على عدد من المقابر والتي تشير إلى بعض الشعائر والطقوس والأسماء التي تعطينا فكرة عن تقاليد السكان في هذا المجال, إلى جانب بعض المعلومات التي قد تساعدنا الأسماء الموجودة في النصوص على التوصل إليها بشكل غير مباشر عن طريق المقارنة مع نصوص أخرى. ومن بين هذه النقوش اليمنية -على سبيل المثال- نص وجد منقوشا على حجر في الحائط الجنوبي لمنزل كشف الأثريون عنه في "تمنع" في وادي بيهان "في قتبان", والمنزل يدعى منزل "يَشَف". والنص يذكر شراء بعض أشخاص لهذا المنزل حسب القواعد والقوانين المرعية التي كانت سائدة في عهد الملك "شَهْرياجل يُهَرْجِبْ" ملك قتبان وعمه الوصي على العرش فرع كرب, والتي تباركها الآلهة "والنص يعدد هذه الآلهة". ومن تفصيلات النص يمكن للباحث أن يعرف شيئا عن عبادات منطقة قتبان وآلهتها، وعن بعض أنواع العمارة التي كانت سائدة في الفترة التي نقش فيها هذا النص, إذ إن النص يذكر لنا تفصيلات المبنى وغرفه وملحقاته، وعن نظام تسجيل العقارات، ثم نستطيع القول عن طريق المقارنة مع نصوص أخرى ظهر فيها اسم الملك المذكور في النص، أن هذا النص يرجع إلى أوائل القرن الأول ق. م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 على أكبر تقدير، وأخيرا فنحن نستطيع أن نعرف بمقارنة هذا النص مع نصوص أخرى أن انقلابا أو اغتصابا للعرش قد حدث في هذه الفترة23.   23 توجد هذه النصوص في عدد من المجموعات هي: cih: corpus inscriptionum semiticarum, pars ouarta, inscriptiones himva riticas et sabaeas continens "I-III". paris, "1889-1929". res: repertoire depigraphie semitique "V-VII" paris "1928-1950". sitz. a. w.w. ph hist: kl: sitzungsberichte, akademie der wissenschaft in wien, philosophisch-historische klasse. se:collection of south arabian texts copied by the south arabia expedition of the academy of sciences in vienna. كذلك يوجد عدد من هذه النصوص ضمن مجموعة anet مع ترجمة إلى الإنجليزية بقلم a.jamme, كما توجد مجموعات منشورة بأسماء مكتشفيها مثل مجموعات: glazer, halevy, jamme, philby, بينما توجد نقوش متفرقة مصورة في ahmed fakhry: المرجع السابق ذكره، عن نص تمنع في وادي بيهار، راجع: wendell phillips: ذاته، ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ب- نقوش عن العلاقات الخارجية لشبه الجزيرة : أما عن النقوش التي تعرفنا بالعلاقات الخارجية لشبه جزيرة العرب فسأقدم ثلاثة يمثل كل واحد منها نوعا من هذه العلاقات. والنقش الأول عثر عليه في وادي ماسل بالمنطقة الوسطى من شبه الجزيرة، وهو نقش سبئي يرجع تاريخه إلى 516م كتب باسم معديكرب يعفر بمناسبة حملته ضد المنذر الثالث ملك الحيرة "وهي إمارة عربية في القسم الشمالي الشرقي لشبه الجزيرة"24. وذكر هذه الحملة في هذا النص يساعد على توضيح العلاقات الدولية التي   24 مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية، ص18. هذا ويوجد بالمنطقة نقش آخر يشير إلى نوع من العلاقات "الخارجية" ولكن بين منطقة ومنطقة في داخل شبه الجزيرة العربية "على اعتبار أن شبه الجزيرة لم تكن تشكل دولة واحدة قبل ظهور الإسلام" ويشير هذا النص "المرجع ذاته، الصفحة ذاتها" إلى أن "أبي كرب" أسعد وابنه حسان ملكي سبأ و"ذوريدان" وحضرموت ويمنات خيما بالمنطقة "وادي ماسل الجمح" أثناء حملتهما على قبيلة سعد الموجودة بها. راجع صورة للنقش في ملحق اللوحات: لوحة 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 كانت سائدة في ذلك الوقت. ودون دخول في التفاصيل فقد كان هناك صراع سياسي اقتصادي ديني متعدد الأطراف, ظهر فيه البيزنطيون والفرس والحبش واليمنيون ووجود وفاق أو خلاف بين هؤلاء الأطراف كان أمرًا يخضع لكثير من التغير من ظرف إلى ظرف، ومن هنا فإن احتكاكا أو اتصالا بين ملك اليمن وملك الحيرة "الذي كان تابعا للإمبراطور الفارسي" كان أمرا واردا. والنقش الثاني واحد من عدد كبير من النقوش تشير إلى العرب أو إلى شبه الجزيرة العربية، عثر عليها بين السجلات الخاصة بملوك الدولة الآشورية والدولة البابلية الحديثة، ويعود أولها إلى عهد الملك الآشوري شلمنصر الثالث "858-824 ق. م" وآخرها إلى عهد نابونائيد "555-539 ق. م" آخر ملوك الدولة البابلية الحديثة. والنقش الذي نحن بصدد الحديث عنه يرجع إلى عصر الملك آشور بانيبال "668-633 ق. م" وفي هذا النقش يتحدث الملك عن حملة قام بها ضد "يواتع ملك العربية" ويذكر أنه قام بهذه الحملة ضده لأن يواتع قد تجاهله ولم يرسل له الجزية المقررة عليه. وبعد أن يصف آشور بانيبال سير الحملة وتفاصيل المعركة يختم نقشه بأن يذكر أنه انتصر على يواتع وسكان العربية الذين ثاروا معه وأنه سحق هؤلاء الثوار وأحرق خيامهم. أما يواتع نفسه فقد فر إلى أرض النبط25. والنقش يلقي ضوءًا على التيارات التي كانت سائدة في شمالي شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت، وهي منطقة أصبحت معبرا بين الدولة الآشورية واتجاه توسعها نحو سورية. ويبدو من النص أن العرب في هذه المنطقة العبورية كانوا قد اعترفوا بنوع من التبعية للملوك الآشوريين، ولكنها لم تكن تبعية لينة العريكة، وإنما كان فيها شد وجذب من حين إلى حين، كما يظهر لنا كذلك أن هذا الملك العربي الذي ربما كان مجرد شيخ لقبيلة قوية أو رئيسا   25 راجع النص في anet صفحات 297-298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 لمجموعة متحالفة من القبائل في المنطقة، كانت له علاقات خارجية من النوع الذي يمكن أن نسميه علاقات حسن جوار مع منطقة الأنباط الموجودة تجاه الغرب. ثم أشير إلى أقدم نقش عربي وجد في مصر، وهو نقش يرجع إلى العصر البطلمي "301-30 ق. م" ومدون بالخط العربي الغربي على تابوت التاجر المعيني "زيد إبل". والتابوت محفوظ في المتحف المصري بالقاهرة، وفي هذا النقش يتحدث زيد إبل عن معاملات بينه وبين كهنة المعابد المصرية نراه في ثنائها يقدم إلى هذه المعابر مقادير من المر وقصب الطيب مقابل أقمشة مصرية. ويذكر أنه استخدم سفينة في استيراد هذه المحاصيل العربية، كما يشير إلى دين عليه يستحق الوفاء في شهر حتحور. وفي موضع آخر في النص يشير إلى أنه وفَّى بكل ديونه في شهر كيهك. ويختم زيد إبل حديثه بنوع من الدعاء إلى الآلهة يبدو منه أن يبتهل إليها لكي تضفي حمايتها على تابوته, وهو يجمع في هذا الدعاء بين الإله المصري "أوزير - حابي" "وهو يورده في النص بنطق معرب هو أثر حف" وبين آلهة موطنه الأصلي26.   26 F.Hommel: A Mineaean Inscription of the ptolemaic period, proceedings of the society of biblicaiarchaeology XVI "1984" صفحات 145-149. h.schwarts: dies inschrifte des wuestentempels in redes je jahrbuch fuer klassische philologie cliii 1896, ص157. N. rhodokanakis die sarkophaginschrift von gizan zeitschrift fuer semitik un verwandte gebete II. 1942، صفحات 113-114. جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج2 بيروت 1969، صفحات 24-27. عبد المنعم عبد الحليم السيد: الجزيرة العربية ومناطقها وسكانها في النقوش القديمة في مصر بحث قدم في الندوة العالمية الأولى لدراسات الجزيرة العربية، الرياض 1977، صفحات 9-11، ويمتاز هذا البحث بأن كاتبه يبين هذا النص في ضوء بقية النصوص العربية النوبية والشمالية التي وجدت في مصر من جهة، والنصوص المصرية التي سبقت ذلك من جهة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ويستطيع دارس هذا النقش أن يتعرف من خلاله على مجموعة من الحقائق ومن بين هذه الحقائق على سبيل المثال مدى العلاقة الوثيقة التي كانت تربط بين هذا التاجر العربي وبين الكهنة المصريين، وهذه العلاقة الوثيقة يمكن أن نوائم بينها وبين عدد كبير من النقوش التي كتبت بلغة عربية جنوبية أو لغة عربية شمالية، وهي نقوش عثر على أعداد كبيرة منها في الصحراء المصرية الشرقية بين نهر النيل والبحر الأحمر, وتشير إلى نزوح عدد من سكان شبه الجزيرة العربية إلى هذه المنطقة في عهد البطالمة. كذلك بمقدورنا أن نستنتج من هذا النص اندماج هذا التاجر العربي في الحياة المصرية "وهو اندماج يمكن أن يكون واردا في حالة عدد كبير من العرب النازحين إلى مصر في تلك الفترة", فنحن نرى هذا التاجر يتقدم بدعائه وابتهالاته لا إلى آلهته فحسب، بل كذلك إلى إله مصري. ثم هو لا يذكر هذا الإله المصري باسمه الذي كان شائعا بين اليونان المقيمين في مصر "وفي الواقع بين اليونان في خارج مصر، وقد كانت عبادة هذا الإله شائعة بينهم كذلك" وهو سرابيس، ولكنه يذكره باسمه المصري أوزير-حابي "بعد أن عربه إلى أثرحف" مما يشير إلى أن اندماج هذا التاجر لم يكن مع اليونان وإنما مع المصريين. بل لقد ذهب بعض الباحثين، بناء على هذا الاندماج، إلى أن "زيد إبل" أصبح في الواقع كاهنا في المعابد المصرية، وأن الكهنة المصريين قبلوا انخراطه في سلك رجال الدين المصريين، ورأوا في هذا ما ييسر عليهم الحصول على حاجتهم من البخور والطيوب اللازمة لأداء الشعائر والطقوس الدينية بشكل مباشر دون وساطة السوق التي ترفع وساطتها من ثمن هذه السلع بالضرورة. وأخيرا فإن النقش يكشف لنا عن حقيقة مهمة هي أن المواصلات في هذه الفترة بين عرب شبه الجزيرة العربية وبين مصر لم تكن قاصرة على الطريق البري، وإنما كانت تتم كذلك عن الطريق البحري عبر البحر الأحمر، وفي الواقع نحن نعرف أن المواصلات البحرية عبر البحر الأحمر كانت قائمة, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فقد وجدت أو أقيمت في مصر موانئ على شاطيء البحر الأحمر من الناحية المصرية مثل ميناء ميوس هرموس وميناء بيرينيكي "رأس بناس حاليا" وميناء القصير، كما أقام اليونان على الساحل الشرقي للبحر الأحمر من ناحية شبه الجزيرة العربية ميناء "ليوكي كومي" أو القرية البيضاء "الوجه حاليا"، ولكن الجديد الذي يقدمه لنا النص هو أن الطرق البحرية بين هذه الموانئ المتقابلة على البحر الأحمر بين مصر وشبه الجزيرة العربية لم تكن حكرًا على البحار اليونان وإنما كان الملاحون العرب يستخدمونها كذلك. ولهذه الحقيقة التي يكشفها النص أهميتها فإن النقوش العربية العديدة التي عثر عليها في صحراء مصر الشرقية كلها تقريبا نقوش مقتضبة؛ ومن ثم لم تتسع للإشارة إلى عدد من الحقائق، من بينها هذه الحقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ج- تقويم عام للنقوش : وفي ختام الحديث عن النقوش أود أن أشير إلى أن هذا النوع من النصوص هو عادة أدق في تصويره للحقيقة التاريخية من غيره من النصوص، مثل تلك التي ترد ضمن كتابات تاريخية قد لا يكون كاتبها معاصرًا للأحداث التي يؤرخ لها أو قد يكون منحازًا، لسبب أو لآخر، لأحد الأطراف التي يكتب عنها. ولكن النقوش، من جهة أخرى، تكون عادة أقل شمولا من حيث إعطاء صورة متكاملة للمجتمع ككل، أو لفترة زمنية على شيء من الطول، فالنقش، في أغلب الأحوال، يتناول حدثا واحدا وقد لا يزيد على بضعة سطور في كثير من الأحيان وهو أمر نلمسه, على سبيل المثال، في الغالبية العظمى من النصوص اليمنية "السبئية أو الحميرية أو المعينية". كذلك, فرغم دقة النقوش في تصوير الحقيقة بالنسبة لبعض الكتابات الأخرى، إلا أنه لا ينبغي لنا أن نأخذ ما تقدمه هذه النقوش كقضية مسلم بصحتها في كل الحالات، وربما كان من المؤشرات السليمة في الاعتماد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ما تقدمه لنا النقوش، هو أن نطمئن إليها إذا كانت تتحدث عن مسائل في الحياة اليومية العادية، كتسجيل عقار، أو صفقة تجارية, أو الإشارة إلى قانون, أو تقديم قربان لإله أو لعدد من الآلهة. ولكننا يجب أن نكون على شيء من الحذر إذا كان النقش يشير إلى ملك أو حاكم يتحدث عن منجزاته وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بانتصارت أحرزها على خصومه أو أعدائه، فالملوك أو الحكام في العصر القديم "وفي الواقع كل العصور" يميلون إلى المبالغة في تمجيد أنفسهم وأعمالهم إذا كان الحكم فرديا. وعلى سبيل المثال فإننا حين نسمع من أحد النصوص الآشورية التي تخص علاقة الآشوريين بالعرب أن الملك تجلات بيليسر الثالث "744-727 ق. م" قد اجتاح 15 مدينة للملك إيديبعلي العربي، فإننا يجب أن نتوقف قليلا، فهذه "المدن" قد لا تكون في الواقع أكثر من تجمعات بسيطة من الخيام. كذلك حين يذكر هذا الملك ذاته أنه قتل "ربما يقصد غَنَمًا" من الملكة سمسي، ملكة بلاد العرب، 30 ألف جمل فإننا يجب أن نتوقف مرة أخرى؛ فالملكة سمسي ليست ملكة لكل بلاد العرب، وإنما هي رئيسة لقبيلة أو ربما لعدد من القبائل المتحالفة على أكثر تقدير، و30 ألف جمل هو عدد مبالغ فيه دون شك في مثل هذه الدائرة الضيقة27. ولكن هذه المبالغات، التي هي في الواقع من طبيعة   27 نص الملك تجلات بيليسر الثالث في anet، ص284, وتبدو المبالغة في عدد 30 ألف من الجمال إذا قارناه بنص آخر من عهد الملك سنحاريب "704-681" arab ج2، ص158, نص رقم 358، وفيه نجد هذا الملك يغنم من ملكة عربية ألف جمل فقط، كذلك نجد نصا من عهد الملك أسرحدون "680-669 ق. م." anet ص 292، يتحدث بأرقام مختلفة هي 50 جملا و 65 جملا، ورغم أن هذه الأرقام الأخيرة هي مجرد زيادة فوق الجزية المقررة على ملكة وعلى ملك، إلا أنها مع ذلك لا يمكن أن تتناسب مع عدد من الجمال يزيد كثيرًا عن الألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الأشياء، لا تلغي قيمة النقش، أو حتى تقلل من هذه القيمة إلى حد ملموس، فالباحث لا يعتمد في دراسته على نقش واحد، وإنما يقارنه بغيره من النقوش أو المصادر الأخرى المتعلقة بالحدث أو الموقف الذي يكتب عنه، ومن هذه المقارنة يستطيع في أغلب الأحوال أن يقترب إلى حد كبير من الحقيقة التاريخية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الباب الخامس: المصادر الدينية مدخل ... الباب الخامس: المصادر الدينية إذا كانت الآثار التي تركتها مجتمعات شبه الجزيرة العربية هي السجل الفعلي الذي نعرف من خلاله ما أنجزته هذه المجتمعات "في حدود ما نعثر عليه من هذه الآثار", وإذا كانت النقوش التي خلفها بعض أفراد أو فئات من هذه المجتمعات تعرفنا بما ذكره هؤلاء عن أنفسهم أو عن ظروفهم ومواقفهم وعلاقاتهم، فإن نوعا آخر من المصادر يعطينا زاوية أخرى أساسية للتعرف على مجتمعات شبه الجزيرة في الفترة السابقة لظهور الإسلام, وهذا النوع هو المصادر التي وصلتنا عن طريق التدوين الكتابي, والتي فيها ذكر لأحوال هذه المجتمعات. وينقسم هذا النوع من المصادر إلى قسمين رئيسيين: أولهما ديني, ويضم القرآن الكريم والتوراة, اللذين وصلا إلينا في هذه الصورة المكتوبة، ثم الأفكار الوثيقة الصلة بهذين الكتابين المنزلين, وهي الحديث الشريف الذي يضم مجموعة التعليمات والتعليقات التي نطق بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتنوقلت عن طريق الرواية حتى تم تدوينها فيما بعد، ثم التلمود الذي يمثل مجموعة الأحكام والشروح والروايات المتصلة بالتوراة التي تواترت هي الأخرى شفاها بعض الوقت ثم سجلها بعض أحبار اليهود كتابةً بعد ذلك. أما القسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الثاني من هذه المصادر التي وصلتنا عن طريق التدوين الكتابي فهي الكتابات التي تركها لنا الأقدمون من المؤرخين والجغرافيين والرحالة وكتاب الموسوعات العلمية وغيرهم من أصحاب القلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 القرآن الكريم مدخل ... 1- القرآن الكريم: وأتحدث في هذا الباب من الدراسة عن أول هذين النوعين من المصادر وهو المصادر الدينية، وفي مقدمتها يأتي القرآن الكريم، فهو كلام الله الذي لا يرقى إليه الشك من جهة, ثم هو الكتاب الذي لم يتطرق إليه تبديل أو تحريف على مر العصور من جهة أخرى. وربما ذهب بعض الباحثين إلى أن القرآن الكريم، رغم ما يرويه من أحداث ومواقف تاريخية، لا يهدف في المقام الأول إلى تسجيل تاريخ المجتمعات القديمة في حد ذاتها، وإنما يستهدف إرساء القيم الروحية التي تربط الإنسان بالله, والقيم الاجتماعية التي تنظم علاقة الإنسان بالمجتمع، ومن ثم فإن الأحداث أو المواقف التي يرويها لا تعدو أن تكون أمثلة هدفها الحقيقي هو إظهار العبرة المستفادة من تاريخ هذه المجتمعات. وهكذا جاءت بعض الإشارات التاريخية في القرآن الكريم مقتضبة أو عابرة أو جاء تصويرها بشكل يمتزج فيه تسجيل الحدث أو الموقف بالعرض الوجداني له. وأود أن أرد على هذا الانطباع السائد بين بعض الباحثين من ناحيتين، تتصل إحداهما بالشكل وتتصل الأخرى بالمضمون. وفيما يتصل بالشكل فإن الإشارة المقتضبة أو العابرة إلى بعض الأحداث أو المواقف لا ينتقص من قيمتها في شيء، فالمصادر جميعا وحدة متكاملة، تتساند فيما بينها في استكمال الحقيقة التاريخية، سواء أكانت هذه المصار آثارًا أم نقوشًا أم كتبًا سماوية أم كتاباتٍ تاريخية أم غيرها، بل إن سطرا واحدا أو عدة كلمات من سطر نعثر عليه في أحد هذه المصادر قد تستكمل لنا حقيقة ناقصة أو تقدم تصورا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 جديدا لهذه الحقيقة أكثر اقترابا إلى الصواب. كذلك فيما يتصل بالشكل فإن المصدر التاريخي ليس من اللازم في كل الأحوال أن يكون سجلا مباشرا للأحداث أو المواقف، بل ربما كان الاستنتاج غير المباشر هو السبيل الوحيدة الواردة أمام الباحث في كثير من الأحيان, ودور الباحث هو أن يستخلص الحقيقة التاريخية التي يبحث عنها من الإطار الذي جاءت ضمنه أو الصورة التي عرضت بها. فقد تأتي الحقيقة متناثرة داخل عدة نصوص دينية أو قانونية أو سياسية أو قصصية أو غيرها, كما قد تعرض في صورة تقريرية أو تقديرية أو يمتزج فيها العرض التقريري بالعرض الوجداني أو حتى قد يداخلها الخيال في بعض الأحيان دون أن يقف هذا عائقا حقيقيا أمام استخلاصها. وأما فيما يتعلق بالمضمون فإن القرآن الكريم، إلى جانب قداسة إشارته إلى كل الحقائق، فإنه يشير إلى عدد من الأحداث والمواقف الخاصة بمجتمع شبه الجزيرة العربية، والمعاصرة لنزوله أو التي سبقت ذلك بوقت قصير أو طويل ولكنها كانت لا تزال موجودة، بدرجات متفاوتة بين التعميم والتفصيل في وعي سكان شبه الجزيرة، ومن ثم فإن القرآن الكريم يبين لنا بشكل نابض مدى انفعال هذا المجتمع بهذه الأحداث والمواقف. كذلك فإن القرآن الكريم في محاولته تصحيح عدد من الأوضاع والممارسات التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي عند نزوله يعطينا فكرة واضحة عن هذه الأوضاع والممارسات وعن الدوافع التي أدت بهذا المجتمع إلى اتخاذها طريقا له وإلى التمسك بها والمجادلة عنها والتعنت في سبيل المحافظة عليها. وهي دوافع يسهب القرآن الكريم في عرضها وتفصيلها؛ ومن ثم يحصل الباحث على صورة تاريخية حية للصراع الذي شهده هذا المجتمع في نهاية العصر الجاهلي بين أسلوبين للحياة, أحدهما هو ما كان قائما فعلا والآخر هو ما كانت الدعوة الإسلامية بسبيل تقديمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أ- أمثلة لأقوام شبه الجزيرة في القرآن : وفي الواقع فإن القرآن الكريم تعرض لأحوال المجتمع أو المجتمعات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 التي كانت موجودة في شبه الجزيرة العربية وألقى أضواء على عديد من جوانبها وسأكتفي هنا، على سبيل المثال لا الحصر، بالإشارة إلى عدد من هذه الجوانب. فقد عرفنا القرآن الكريم بعدد من الأقوام التي كانت موجودة في شبه الجزيرة، فإلى جانب قريش التي كانت موجودة وقت نزوله في أوائل القرن السابع الميلادي -واستمرت بعد ذلك- كانت هناك أقوام أخرى سابقة مثل عاد وثمود وسبأ. وفيما يخص عاد فيشير القرآن الكريم إلى عاد الأولى التي وجدت ثم اندثرت وإلى عاد أخرى اندثرت كذلك. ونحن نستطيع أن نتتبع الإشارة هذه ونستكمل بها ما جاء في مصادر أخرى, فعاد الأولى التي أرسل الله إليها هودًا -عليه السلام- كانت موجودة في جنوبي شبه الجزيرة العربية حسبما نستنتج من ارتباط اسمها بالأحقاف1, وهي منطقة صحراوية تقع في العربية الجنوبية، كذلك يشير القرآن الكريم في موضعين آخرين إلى وجود آخر لعاد في فترة غير بعيدة قبل نزوله، وفي أحد هذين الموضعين إلى منطقة تنطبق أوصافها على القسم الشمالي الغربي لشبه الجزيرة العربية كمكان لإقامتهم2. وإذن فنحن أمام وجودين لقوم عاد في مكانين مختلفين, أحدهما في الجنوب عند الأحقاف والآخر في الشمال الغربي، وفي زمانين مختلفين أحدهما لا نعرفه على وجه التحديد والآخر في وقت غير بعيد قبل نزول القرآن.   1 عاد الأولى، سورة النجم: 50؛ ارتباط عاد الأولى بالأحقاف، سورة الأحقاف: 21، هذا ورغم أن الأحقاف تعني لغويًّا الكثبان الرملية، أو على حد ما جاء في القاموس المحيط للفيروزآبادي "طبعة القاهرة 1913م" الرمل العظيم المستدير أو المستطيل المشرف "ج3، ص 129" إلا أن الإشارة إليها على طريقة التخصيص في الآية الكريمة تجعل المراد بها هو المكان المسمى بالأحقاف تحديدًا، وهو يقع في القسم الجنوبي الغربي من الربع الخالي في جنوبي شبه الجزيرة. 2 آثار مساكنها باقية، سورة العنكبوت: 38؛ موقع المنطقة في الشمال الغربي من شبه الجزيرة العربية نستنتجه مع أن قوم عاد كانوا ينحتون في الجبال بيوتا، سورة الأعراف: 74، راجع عن البيوت "الأضرحة" المنحوتة في الجبال الباب الرابع من الآثار والنقوش في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ونحن في الواقع نستطيع أن نستكمل هاتين الإشارتين إلى حد كبير من مصادر الكتاب الكلاسيكيين، إذ نجد ذكرا لقوم عاد يظهر في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي على الخارطة التي رسمها جغرافي يوناني من مصر هو بطلميوس كلاوديوس PtOLEMAIOS CLAUDIOS "كتب بين 121، 151م" الذي عرفه الجغرافيون العرب باسم بطلميوس القلوذي. ويظهر قوم عاد في هذه الخارطة تحت اسم OADITAE في شمالي شبه الجزيرة العربية في المنطقة الواقعة إلى شرقي خليج العقبة3 "وهي المنطقة التي ينطبق عليها الوصف الذي جاء في القرآن الكريم, والذي كان التجار العرب في الواقع يمرون به جيئة وذهابا في خط القوافل الذي يصل شبه الجزيرة العربية بالمنطقة السورية". ومعنى هذا أن عادًا الثانية قد تواجدت بشكل ظاهر يلفت نظر هذا الجغرافي ابتداء من النصف الأول من القرن الثاني على الأقل, ويبقى أمامنا تحديد الفترة التي اختفت فيها عاد الأولى. وهنا نلجأ مرة ثانية إلى الكتاب الكلاسيكيين، وفي هذا المجال لا نجد ذكرا لقوم عاد فيما تركه لنا الكاتب الموسوعي الروماني بلينيوس plinius في أواسط القرن الثاني الميلادي "54/23-79م" رغم أن هذا الكاتب تعرض باستفاضة لشبه جزيرة العرب وحرص على أن يذكر في عرضه المستفيض أكبر عدد من الأماكن والأقوام الموجودة في شبه الجزيرة، بل لقد ذكر عددًا من المواقع كان موجودا ثم اندثر قبل زمنه, وهو يجد في حرصه هذا نقطة اعتداد علمي يذكر القارئ بها4. فإذا توغلنا قليلا في الماضي إلى أوائل القرن الأول الميلادي والنصف الأخير من القرن الأول ق. م. لا نجد ذكرا لهؤلاء القوم في كتابات الجغرافي اليوناني إسترابون "63/ 64   3 راجع خريطة شبه الجزيرة عند بطلميوس كلاوديوس في ملحق الخرائط، خريطة رقم 4. 4 plinius:.N.H VI, 32,160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ق. م -21م على الأقل" رغم اهتمامه بوجه خاص بالقسم الشمالي الغربي لشبه الجزيرة وذكره اثنين من الأقوام الموجودة بها5. فإذا تابعنا التوغل في الماضي نجد أن قوم عاد لا يظهرون في كتابات أرتميدوس في أواخر القرن الأول ق. م. "ظهرت بعض كتاباته في 104-101 ق. م" أو في كتابات الجغرافي اليوناني إراتوسثنيس, عرفه الجغرافيون العرب باسم إراتسطين الذي عاش بين 275 و194 ق. م. ومن ثم نستطيع أن نقول: إنه بدأ يكتب منذ أوائل القرن الثاني ق. م.6. وهكذا نستطيع أن نستنتج من هذه المقارنة بين القرآن الكريم وبين ما ذكره الكتاب الكلاسيكيون أن عادا الأولى كانت قد اختفت من جنوبي شبه الجزيرة العربية ابتداء من النصف الأول من القرن الثاني ق. م على الأقل. أما عن وجود مكانين مختلفين لعاد الأولى وعاد الثانية فتفسير ذلك هو الهجرات التي عرفها عرب الجنوب إلى شمالي شبه الجزيرة، وهي هجرات قد تكون بسبب تغير مناخ المنطقة نحو الجفاف بشكل تدريجي ابتدأت آثاره تظهر بوضوح منذ القرن الثالث ق. م. كما يذهب بعض الباحثين, أو قد تكون لها أسباب أخرى7. ولكن الثابت هو أن هجرات قد تمت من الجنوب إلى الشمال بشكل أو بآخر, وأن بعض هذه الهجرات اتخذ شكل مستوطنات أقامها التجار أو الحكام الجنوبيون في شمال الجزيرة كمحطات تجارية لقوافلهم في البداية, ولكن هذه المستوطنات لم تلبث أن تحولت إلى كيانات قائمة بذاتها تتصرف وتقيم علاقاتها مع المدن أو الدول المحيطة أو القريبة منها في ضوء ظروفها الخاصة. وقد كان بعض هذه المستوطنات يتخذ اسم القوم   5.STrABO: xvi, 4:21 6 أقوال أرتميدوس في STRABO: xvi, 4:5, 18-19. أقوال إراتوسثنيس في ذاته: XVI, 1:12,3: 2,4: 2. 7 راجع الباب الثاني من هذه الدراسة تحت عنوان "الساميون وشبه الجزيرة والعرب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 أو البلد الذي جاء منه المستوطنون في البداية. ومن أمثلة ذلك مدينة جَرَش التي لا تزال قائمة في العربية الجنوبية "الآن في القسم الغربي من المملكة العربية السعودية" وسميَّتها مدينة جرش في الشمال "الآن في المملكة الأردنية"، تقعان على خط القوافل التجارية الذي كان يمتد بين اليمن وسورية، إحداهما على شوطه اليمني والأخرى على شوطه السوري. ومن أمثلتها كذلك المستوطنات التي أقامتها سبأ في الشمال واتخذت واحدة منها على الأقل الاسم ذاته وكانت لها مواقف خاصة بها إزاء محور الدفع والجذب بين الآشوريين في وادي الرافدين ودويلات المنطقة السورية في الغرب في القرن الثامن ق. م. كما نظر إليها الرومان في أواخر القرن الأول ق. م. على أنها كيان قائم بذاته8. وفي ضوء هذا كله يبدو أمرا متفقا مع الظروف التي سادت شبه الجزيرة العربية أن تفترض أن قوم قد هاجرت منهم جاليات أقامت لها مستوطنات في شمالي شبه الجزيرة، ثم تعرض القوم الأصليون في الجنوب إلى ظروف الجفاف وظروف مناخية أخرى مصاحبة مثل الأعاصير المدارية العنيفة التي تعرفها المنطقة الاستوائية, والتي قد تستمر أياما عددية متوالية تدمر فيها مناطق بأكملها وتغطيها بالرمال إذا كانت أرض هذه المناطق أرضا رملية9. ولنا أن نتصور أن مستوطنات عاد في القسم الشمالي من شبه الجزيرة، التي ابتدأت قليلة وبسيطة في عدد سكانها, لم تلبث أن ازدهرت وتزايد عدد سكانها   8 عن سبأ الشمالية راجع إشارة النصوص الآشورية إليها في القرن الثامن ق. م. "744-727ق. م" على عهد تجلات بيليسر الثالث في ANET ص283 عن سبأ الشمالية في العصر الروماني راجع: strabo: XVI,4:21. 9 الإعصار المداري له قوة قد تصل إلى ما بين 200 إلى 300 كيلوطن في الثانية، وهذه قوة خارقة إذا أدخلنا في اعتبارنا أن قنبلة هيروشيما -على سبيل المثال- كانت قوتها 20كيلوطن في الثانية أي 1/10 من القوة المذكورة, جريدة le monde, باريس، 18نوفمبر 1970، ص 23، أعمدة 1-3. عن الأعاصير في القرآن راجع أدناه في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 حتى أصبحت تشكل قوما ملحوظين منذ أوائل القرن الأول من النصف الثاني، يسترعي وجودهم نظر عالم جغرافي مثل بطلميوس كلاوديوس وهو يضع خارطة للمنطقة، وبخاصة إذا كان هؤلاء يشغلون منطقة تمر بها خطوط القوافل التجارية الواصلة من شبه الجزيرة إلى المنطقة السورية، وهي المنطقة التي وضعهم فيها هذا العالم الجغرافي بالفعل. ولنا كذلك أن نقول: إن هذا الازدهار قد استمر فترة ربما امتدت ثلاثة أو أربعة قرون ثم اندثرت هذه المستوطنات العادية الشمالية لأسباب تتعلق بالعوامل الطبيعية أو بالمنافسات التجارية وما يصحبها من غارات "كما سنرى في أثناء الحديث على ثمود" أو لأسباب أخرى، بحيث لم يعد لها ولا لقوم عاد وجود ظاهر عند نزول القرآن الذي يشير إلى عاد على أنهم قوم قد اندثروا أو اندثرت أماكن إقامتهم قبل ذلك بقليل. وإذا كنا نستطيع أن نتابع أوضاع قوم عاد من خلال آيات القرآن الكريم مستكملين الحديث من خلال المصادر الكلاسيكية, فالشيء ذاته ينطبق على قوم ثمود. إن القرآن الكريم يشير في مواضع عديدة إلى أرض الثموديين على أنها واحة غنية بالمياه الجوفية وما يترتب على ذلك من ثروة زراعية "جنات وعيون وزروع ونخل"10، وهي إشارة نجدها كذلك عند الكاتب الكلاسيكي إراتوسثنيس الذي يقسم سكان المناطق الغربية "من شبه الجزيرة" المتاخمة لسواحل البحر الأحمر فيصف المنطقة الشمالية منها "وهي المنطقة التي نحن بصدد الحديث عنها" بأنها منطقة بها قدر من الزراعة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المنطقة تمر بها خطوط القوافل التجارية المتجهة من شبه الجزيرة إلى المنطقة السورية، استطعنا أن ندرك ما يشير إليه القرآن الكريم من ثروة الثموديين "أو بالأحرى ثروة الطبقة الأرستقراطية الزراعية التجارية من الثموديين" التي تبدو في الإشارة إلى عدد القصور الذي أصبح ظاهرة   10 سورة الشعراء: 147-148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 تسترعي الانتباه وإلى النشاط المعماري الذي جعهلم ينحتون في الجبال "بيوتا" "وهي في الواقع أضرحة ومعابد تتخذ شكل البيوت فعلا ولا تزال قائمة حتى الآن في منطقة مدائن صالح -نبي ثمود". وقد اندثر الثموديون كقوم لهم كيانهم في فترة سبقت قيام الدعوة الإسلامية بفترة غير طويلة حسبما يتبين لنا من آيات الكتاب الكريم11. ونحن نستطيع في الواقع أن نتتبع الثموديين في عدد من المصادر الأخرى, فهم يظهرون في نقش آشوري يعود إلى حكم الملك سرجون في الشطر الأخير من القرن الثامن ق. م. "721-705 ق. م", على أنهم "أو أن قسما منهم" يسكنون في المنطقة الشمالية لشبه جزيرة العرب. ثم نجد عددا من النقوش الثمودية منتشرة في عدد من مناطق شبه الجزيرة العربية وتعود إلى القرون الثلاثة من الخامس إلى الثالث ق. م. ثم نجد الثموديين بعد ذلك في كتابات بلينيوس في أواسط القرن الأول الميلادي تحت اسم tamudaei ثم على خارطة بطلميوس كلاوديوس "القلوذي" في النصف الأول من القرن الثاني م. تحت اسم thamudenoi ومتعاصرين مع قوم عاد الذين يضعهم بطلميوس على خارطته إلى الشمال من الثموديين12، ولما كان القرآن   11 الإشارة إلى القصور، سورة الأعراف: 74؛ البيوت المنحوتة في الجبال، السورة ذاتها، الآية ذاتها، قارن سورة الحجر: 80-82، قارن كذلك الآثار التي لا تزال قائمة في مدائن صالح "شمال غربي شبه الجزيرة"، ملحق اللوحات: 9 ج. عن اندثارهم بوجه عام راجع بين آيات أخرى كثيرة: سورة التوبة: 70, الفرقان: 38، ص: 13-15، غافر: 31، 33، الذاريات: 43، 44، النجم: 51، الفجر: 9، 13. إشارة إراتوسثنيس منقولة في سترابون strabo: xvi,4:2. 12 النص الآشوري الذي يشير إلى ثمود في anet 286؛ عن انتشار النقوش الثمودية في عدد من مناطق شبه الجزيرة بين القرنين الخامس والثالث ق. م. راجع الباب الرابع الخاص بالآثار والنقوش في هذه الدراسة وملحق اللوحات "لوحات 20 أ - ج"؛ عن ظهور الثموديين في كتابات بلينيوس راجع: plinius n.h.vi 32,157. عن تعاصر الثموديين مع العاديين في زمن بطلميوس كلاوديوس راجع ملحق الخرائط "خريطة 4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الكريم يجعلهم "خلفاء من بعد عاد" ويشير إلى ما تبوءوه من مركز وثروة في منطقتهم، فبإمكاننا أن نستنتج من ذلك أن الثموديين استمروا بعد تعاصرهم مع العاديين فترة أخرى قبل أن يندثروا كقوم لهم سطوتهم أو مركزهم كأرستقراطية متحكمة في المنطقة الغنية التي كانوا يقيمون بها. ونحن لا نستطيع أن نضع وقتا محددا لاندثار الثموديين أو اختفائهم كقوم لهم عددهم وسطوتهم، إذ نحن نعود نسمع عنهم بعد بطلميوس الجغرافي في كتابات الكلاسيكيين ابتداء من يوسيبيوس eusebios "حوالي 260-340م" وانتهاء عند بروكوبيوس prokopios الذي توفي في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي "565م" وصمت الكتاب الكلاسيكيين عن ذكر الثموديين طوال هذه الفترة التي تبلغ ثلاثة قرون تقريبا لا يثبت لنا بالضرورة شيئًا عن وجود هؤلاء القوم أو عدم وجودهم، إذ قد يكون هذا الصمت ناتجا عن عدم اهتمام هؤلاء الكتاب بشكل خاص بذكر تفصيلي لأقوام المنطقة الشمالية من شبه الجزيرة العربية. ولكن الثابت هو أن الثموديين كانوا قد اندثروا قبل عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأن اندثارهم تم قبل ذلك بفترة غير طويلة. فقد كانت بقايا مساكنهم، حسبما يذكر القرآن الكريم, لا تزال قائمة يستطيع أن يستشهد بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في صدد محاجَّته للجاهليين وإقناعهم بالدعوة الوليدة13. وغير عاد وثمود يحدثنا القرآن الكريم عن أقوام عربية أخرى مثل قوم سبأ. وفي هذا المجال يشير إلى سيل العرم الذي اجتاح هذه المنطقة وكان سببًا في كثير من الآثار السيئة التي عانت منها. والمنطقة في الواقع كانت معرضة لهذا النوع من السيول الناتجة عن الأمطار الموسمية الغزيرة وكان سكانها يعمدون إلى جمع مياه هذه الأمطار خلف جدران السدود التي أقيمت لهذا الغرض، وأهم هذه السدود هو سد مأرب، عاصمة سبأ, ولا تزال بقايا   13 راجع حاشية 11 أعلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 هذا السد قائمة في مكانها حتى الآن. كذلك تشير لنا النقوش التي عثر عليها في المنطقة أن جدران هذا السد تصدعت في أكثر من مناسبة، إذ تذكر لنا هذه النقوش أن ترميمات لسد مأرب تمت في عهد شرحبيل يعفر في أواسط القرن الخامس الميلادي "449-450م" ثم في عهد أبرهة حاكم اليمن من قِبَلِ نجاشي الحبشة، في أواسط القرن الذي يليه "543م" وإذا كان السيل الذي أعقبه هذا الترميم الأخير قد تم في فترة قريبة من ظهور الدعوة الإسلامية بحيث كانت أخباره لا تزال ماثلة في أذهان الجاهليين الذين نزلت آيات القرآن الكريم لتذكرهم بها، فإن أخبار التصدعات والترميمات الأخرى السابقة لهذه المناسبة الأخيرة لا بد أن تكون شيئا وَعَتْه ذاكرة العرب كتاريخ على مر القرون في أثناء رحلاتهم التجارية بين اليمن والشام، فالقحط الذي يصيب منطقة مشهورة بخصبها مثل اليمن "الشهيرة بثروتها الزراعية وما يترتب عليها من رخاء" بعد أن تفقد المياه التي كان سد مأرب يحفظها للانتفاع بها في مواسم الجفاف لا بد أن يؤثر على منتجات اليمن التي تحملها القوافل التجارية وتبادل بها سلعا أخرى، ومن ثم فلا بد أن يكون تصدع السد شيئا بارزا يتناقله القادمون من اليمن والذاهبون إليه، بل إن مثل هذا الحدث يتحول في الواقع إلى تاريخ يروونه ويحددون به مواعيد الأحداث التي وقعت قبله أو بعده. وإذا كان التصدع الأخير قد حدث في عصر سيادة الحبش على المنطقة فإن أذهان العرب لا بد أنها كانت تعي تصدعات أخرى في السد حدثت حين كان السبئيون هم أصحاب السيطرة على المنطقة14.   14 عن هذا السيل, سورة سبأ: 15، 16. عن السيول في شبه جزيرة العرب بوجه عام، سورة الرعد: 17. عن بقايا السد راجع ملحق اللوحات: لوحة 4. عن شيوع فكرة السدود في شبه الجزيرة بغرض تخزين مياه الأمطار والسيول، راجع الحديث عن سد السملقى "أعلى وادي ليه من ضواحي مدينة الطائف" وسد الحصين جنوبي خيبر في الباب الرابع "الخاص بالآثار والنقوش" من هذه الدراسة، انظر كذلك لوحتي 4 ب - ح في ملحق اللوحات. عن القحط الناتج عن الجفاف الذي سببه تصدع السد ومن ثم ضياع المخزون وراءه من المياه راجع الآيتين في بداية هذه الحاشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 على أن هذه الإشارة ليست الوحيدة إلى سبأ والسبئيين في القرآن الكريم، فهناك إشارة أخرى إلى زيارة ملكة سبأ إلى سليمان النبي. ونحن نعرف أن سليمان كان ملك يهوذا وأنه حكم في الشطر الأوسط من القرن العاشر "970-937ق. م.". ولكن ربما كانت سبأ المقصودة هنا ليست سبأ الموجودة في اليمن، وإنما مدينة سبأ الموجودة في الشمال الغربي لشبه الجزيرة العربية، التي كانت على أرجح وجه إحدى المستوطنات التي أقامها التجار السبئيون على خط القوافل من اليمن إلى سورية. وقد مر بنا أن هذه المدينة مذكورة في سجلات بعض الملوك الآشوريين على أنها إحدى المدن الموجودة في القسم الشمالي من شبه الجزيرة على مقربة من المنطقة السورية. وفي الواقع فإن هذا الافتراض هو الأرجح، وقد يدعمه ما نستخلصه من الآيات القرآنية التي وردت فيها زيارة هذه الملكة إلى سليمان النبي، فبعد مقدمات متوترة بينهما تظهر في لهجة الكتاب الذي أرسله سليمان إليها، وفي اتجاه مستشاري الملكة نحو مقابلة التهديد بالقوة العسكرية، تنتهي الأمور بأن تتخذ الزيارة شكلا وديا بين حاكمين، ومن ثم نستطيع أن نصفها بأنها محاولة منطقية من جانب الملكة السبئية لتحسين علاقاتها بحاكم آخر يبدو أنه كان يحسب حسابه في مجال العلاقات الخارجية، وبخاصة إذا تذكرنا أن مدينة سبأ كانت تحصل على ثروتها من تجارة العبور "الترانزيت" عن طريق القوافل التجارية البرية في المقام الأول، وأن علاقات حسن الجوار تصبح، نتيجة لذلك, أمرا واردا إن لم يكن في الواقع أمرا حيويا بالنسبة لها، وإذا تذكرنا إلى جانب ذلك أن سليمان قد أنشأ أسطولا وأنه كان بسبيل اعتماد سياسة تجارية بحرية عن طريق البحر الأحمر، لا بد أن تؤثر تأثيرا ضارا على نشاط الخط التجاري البري، سواء بحكم طبيعة الأشياء، أو بضغوط مقصودة من جانب سليمان نفسه تعرقل الخط التجاري البري لصالح خطه البحري. كذلك مما يدل على أن إشارة القرآن الكريم إلى سبأ الشمالية وليست إلى سبأ الجنوبية أن سجلات الملوك في العربية الجنوبية، سواء من السبئيين أو غير السبئيين لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 تضم حالة واحدة فيها اسم لملكة، بينما تظهر أسماء لعدة ملكات في العربية الشمالية من بينها ملكتان لمنطقتين اجتاحهما الملك الآشوري تجلات بيليسر الثالث "744-727 ق. م" في غاراته على القسم الشمالي من شبه الجزيرة, وملكتان أخريان على عهد ملك آشوري آخر هو أسارحدون "680-669 ق. م". وقد ظهرت أسماء هذه الملكات في النقوش الآشورية التي سجلت أعمال هذين الملكين15.   15 عن توقيت بداية حكم سليمان، راجع نجيب ميخائيل إبراهيم: مصر والشرق الأدنى القديم ج3 "سورية" ط1 1959، ص234 وحاشية2. وعن نهايته راجع جواد علي: ذاته، ج2 ص64. عن موقف سليمان في المجال الدولي وعن زيارة ملكة سبأ إليه وتطورها من مقدمات متوترة إلى علاقات ودية، راجع سورة النمل: 22، 23، 28-44. عن اتجاه سليمان إلى سياسة بحرية تجارية راجع التوراة، سفر الملوك الثالث, إصحاح 9: 26، 27، المناقشة أدناه في هذا الباب. كذلك فيما يخص نفس الأسلوب في محاولة سليمان تقويته للطريق البحرية التجارية على حساب طريق القوافل البرية، قارن محاولة إغراء الملك الفينيقي حيرام، ملك صور، باستخدام الطريق البحرية بدلا من طريق مصر، راجع نجيب ميخائيل إبراهيم: ذاته، ص231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ب- أمثلة عن الحياة الدينية في شبه الجزيرة : ويعرفنا القرآن الكريم كذلك ببعض جوانب الحياة الدينية التي عرفتها مجتمعات شبه الجزيرة في العصور السابقة للإسلام، وببعض ما كان يدور حول هذه الحياة الدينية أو يتصل بها من صراعات وممارسات. فمن بين العبادات، على سبيل المثال، عبادات ودّ "القمر" والشمس والشعرى، وقد سادت هذه في العربية الجنوبية ومستوطناتها في القسم الشمالي من شبه الجزيرة. وهذا يثير في ذهن الباحث بعض القضايا المتصلة بهذا الموضوع فربما تكون عبادة هذه الكواكب تلقائية انبثقت من المنطقة، وربما يكون بعضها، مثل عبادة الشمس، نتيجة تأثير جاء من بعض الحضارات المحيطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 بالمنطقة مثل الحضارة المصرية القديمة حيث عبدت الشمس تحت اسم الإله رع أو حضارة وادي الرافدين حث كان الإله شمس أحد الآلهة الرئيسية. كذلك عرف عرب شبه الجزيرة عبادة نسر وهو أيضا من عبادات الجنوب، وعبادات أخرى مثل عبادات سواع ويغوث ويعوق وبعل. كذلك يذكر القرآن الكريم عبادة اللات التي أشار المؤرخ اليوناني هيرودوتس HERODOTOS "أواسط القرن الخامس ق. م" إلى شيوعها عند العرب والتي قرن هذا المؤرخ بينها وبين عبادة أفروديتي aphrodite عند اليونان، كما يذكر القرآن الكريم عبادة العُزَّى، وعبادة مناة. ويبدو من الألفاظ الواردة في الإشارة القرآنية أن هذه الآلهة الثلاثة السابقة كانت تشكل عند العرب ثالوثا لها16، وهي الفكرة التي قد تشير إلى فكرة التثليث التي كانت سائدة في بعض بلاد الشرق الأدنى في العصور القديمة مثل إيزيس وأوزيريس وحورس في مصر القديمة، وهي الفكرة التي ظلت سائدة حتى ظهرت في بعض مذاهب العقيدة المسيحية بعد ذلك. أما عن الصراعات التي كانت تدور في مجال الحياة الدينية، فهنا يتحدث القرآن الكريم في مواضع عديدة عن عدد من حركات الإصلاح التي ظهرت في صورة دعوات دينية قام بها عدد من الأنبياء في عدد من مناطق شبه الجزيرة   16 عن المعبودات القديمة في القرآن الكريم، الشمس في سورة النمل: 24، الشعرى في سورة النجم: 49، ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر في سورة نوح: 23، 24، نص عربي جنوبي تظهر فيه عبادة ود في anet ص 506، عن ثالوث الكواكب المعبودة في معين بالعربية الجنوبية راجع، جواد علي: ذاته، ج2، ص114، عن عبادة نسر عند العرب راجع كذلك، التلمود: عبودة زاره، 11ب، كذلك يذكرها ابن الكلبي: كتاب الأصنام "طبعة القاهرة" 1965، صفحات 11، 57. عن عبادة بعل، سورة الصافات: 125، اللات والعزى ومناة في سورة النجم: 19-20، فكرة التثليث نستنتجها من ألفاظ الآية 20 المشار إليها {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} . اللات عند هيرودوتس تحت اسم اليلات alilat ومقارنتها بأفروديتي الآلهة راجع: erodotus: historiae 1,131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 قبل قيام الدعوة الإسلامية مثل دعوة هود في قوم عاد الأولى في العربية الجنوبية، ودعوة أو حركة إصلاح أخرى في سبأ الجنوبية لا يذكر لنا القرآن الكريم اسم صاحبها وإن كان يذكر رفض السبئيين لها، ثم دعوة صالح في قوم ثمود ودعوة شعيب في أهل مدين، ودعوة أخرى لعاد الثانية لم يذكر صاحبها أو نبيها, وكل من هذه الدعوات الأخيرة قامت في القسم الشمالي من شبه الجزيرة. ثم يذكر كيف لقيت هذه الدعوات تصديا عنيفا من جانب هذه الأقوام بحيث لم يكتب لها النجاح أو الانتشار. ونحن ندرك من سياق الآيات القرآنية أن الذين عارضوا هذه الدعوات أو رفضوها أو حاربوها يشكلون طبقات أرستقراطية يشير القرآن الكريم إلى سطوتها وبطشها وأنها كانت تستعين على ذلك بثرائها العريض. ويشير القرآن الكريم بشكل مباشر إلى المورد الاقتصادي الزراعي الذي كانت هذه الطبقات تستمد منه ثروتها كما يشير بشكل ضمني إلى مورد آخر لهذه الثروة وهو المورد التجاري الذي نستنتجه من موقع هذه الأقوام أو المدن سواء على الخط التجاري الذي كان يربط جنوب شبه الجزيرة بشاطئ الخليج وبوادي الرافدين, وهو الخط الذي يمر بمنطقة الأحقاف حيث موطن عاد الأولى، أو على الخط التجاري الموازي للبحر الأحمر في غربي شبه الجزيرة وهو الخط الذي كانت تسيطر عليه مواقع الأقوام والمدن الأخرى. كما يشير القرآن إلى مورد صناعي لهذه الثروة نتعرف منه على بعض نشاط يتعلق بالتعدين وصهر المعادن وبعض الصناعات القليلة المتصلة به17.   17 عن تصدي بعض أقوام شبه الجزيرة لدعوات أو حركات الإصلاح, في حالة عاد راجع سورة هود: 50-58، وفي هذه الآية الأخيرة إشارة إلى فريق المؤيدين وفريق المعارضين، كذلك، سورة الحج: 42، العنكبوت: 38، الأحقاف: 21. في حالة ثمود، سورة هود: 61-66، المؤيدون والمعارضون يظهرون في الآية الأخيرة، كذلك، الإسراء:59، النمل:45، الذاريات: 43. وفي حالة مدين، الأعراف: 85-91، صراع المؤيدين والمعارضين في آية 90. في حالة سبأ، سورة سبأ: 15-16. عن الدعامة الاقتصادية الزراعية، سورة سبأ 15،= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أما عن بعض الممارسات التي تمت في داخل هذا المحيط الديني، فيعطينا القرآن الكريم مثلًا لها مما دار في منطقة الأخدود التي كانت في منطقة اليمن قديما "الآن في نجران في القسم الجنوبي الغربي من المملكة السعودية" حيث يشير إلى اضطهاد ديني عنيف أُحْرِق فيه عدد من الناس أحياء بسبب تمسكهم بعقديتهم. وتتوقف الإشارة القرآنية عند وصف هؤلاء بأنهم مؤمنون دون أن تفصل في التعريف بعقيدتهم وبالأسباب التي أدت إلى إحراقهم, ربما لأن الحادثة كانت أشهر من أن تعرف عند قيام الدعوة الإسلامية وبخاصة إذا أدخلنا في اعتبارنا أن اضطهادا بهذا العنف كانت أخباره تنتقل بالضرورة مع القوافل التجارية التي تمر بالمنطقة جيئة وذهابا بصفة مستمرة. ومثل هذه الإشارة السريعة نجدها كذلك في الحديث عن "أصحاب الفيل" دون ذكر لمن قام بها أو للدوافع التي أدت إلى القيام بها. ربما لأنها كانت لا تزال ماثلة في الأذهان, إذ لم يكن قد مر عليها عند نزول الرسالة أكثر من أربعين عاما أو نحو ذلك ومعنى هذا أن عددا من الذين عاصروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا شهودا عيانا لها. ونحن نستكمل من مصادر أخرى أن حادثة الأخدود كان   = الشعراء: 124, 147-184. عن الصناعة كدعامة اقتصادية لعاد الأولى، سورة الشعراء: 129. عن الإشارة إلى ممارسة صهر المعادن لصناعة الحلي وغيرها، الرعد: 17. عن احتمال أن تكون الإشارة إلى معدن الذهب، راجع الباب الثامن الخاص بالحياة الاقتصادية من هذه الدراسة. عن الدعاية الاقتصادية التجارية لهؤلاء الأقوام، موقع عاد الأولى في منطقة الأحقاف، سورة الأحقاف 46: 21 على طريق الخط التجاري إلى الخليج ووادي الرافدين، موقع ثمود على الخط التجاري بين اليمن والشام كما تدل على ذلك الإشارة إلى البيوت المنحوتة في الجبال "مدائن صالح الحالية" سورة الشعراء: 149، كذلك الإشارة إلى أهل الحجر "وهي مدينة في المنطقة ذاتها - الوجه حاليا"، سورة الحجر: 80، الحكم الطبقي الأرستقراطي نستنتجه من مستوى المعيشة "حياة القصور" في سورة الأعراف: 74. كذلك عاد وثمود ضمن أقوام أخرى في سورة الحج: 45، كما نستنتجه من صفات الطبقات المعارضة للدعوات، مثل البطش، الشعراء: 130, والطغيان، الفجر: 9، والاستكبار، فصلت: 15، والجبروت، هود: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 سببها أن حاكم اليمن "وهو ذو نواس" الذي كان قد اعتنق اليهودية قد حاول أن يرغم على اعتناقها نصارى نجران فلما رفضوا أقدم على تعذيبهم بهذه الوسيلة "حوالي 512م" وأن سبب حادثة الفيل هو أن الحبش المسيحيين الذين جاءوا إلى اليمن لنصرة المسيحيين هناك احتلوا اليمن بعد ذلك وأرادوا أن يوجهوا ضربة إلى مركز العبادة الوثنية في شبه الجزيرة آنذاك وهو الكعبة, فوجه حاكمهم على اليمن، وهو أبرهة، عددًا من قواته العسكرية مع فيل أو بعض الفيلة لهدم الكعبة "حوالي 570م"18.   18 الأخدود في سورة البروج: 4-8، سورة الفيل: 1-5. عن عرض سريع لظروف الحادث راجع rodinson: ذاته، صفحات 31-33. عن منظر لمنطقة الأخدود راجع ملحق اللوحات: لوحة 2ب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ج - مثال لتكوين المجتمع في شبه الجزيرة : وليس الحديث عن الأقوام التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية وعن أحوالهم الدينية هو كل ما نستطيع أن نستخلصه، أو نستخلص إشارات عنه, من القرآن الكريم, وإنما تتطرق الآيات القرآنية إلى ما يعطينا فكرة عن الاهتمامات والعلاقات التي كانت تظهر في الشقين الرئيسيين للسكان في شبه الجزيرة العربية, وهما سكان المدن وسكان البادية. ومكة إحدى المدن التي يرد ذكرها في القرآن الكريم مؤكدا صفتها الدينية الموغلة في القدم، وهي صفة اكتسبتها في العصور السابقة للإسلام من وجود الكعبة بها، ومشيرا في موضع آخر إلى الأمن الذي كانت تتمتع به، وهو أمن نستطيع أن نرده إلى هذه الصفة الدينية وإلى صفة أخرى هي أنها كانت معقد الخطوط التجارية الرئيسية نحو الشام في الشمال واليمن في الجنوب ووادي الرافدين في الشمال الشرقي، وهو وضع يفرض الأمن بين أصحاب القوافل التجارية كإجماع على ضرورة حيوية بالنسبة لمصالحهم. كذلك نسمع من القرآن الكريم عن الصلح الذي تم بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش في المنطقة المحيطة بمكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فنعرف بذلك الملابسات التي تم فيها هذا الصلح الذي كان يمثل إحدى مراحل الحوار الدقيق والتداخل المتوازن بين الأوضاع القديمة والأوضاع الجديدة التي شهدتها نهاية العصر الجاهلي, وهو حوار كان لا يمكن أن يتم بهذه الصورة إلا بين سكان المدن، وقد كان الطرفان المتحاوران من سكان المدن. أما الإشارة القرآنية الأخيرة إلى مكة فتلقي، رغم اقتضابها، ضوءًا على جانب أساسي من جوانب الحياة بها, وهو "الإيلاف" أو الاتفاقات التي كان المكيون حريصين على إبرامها مع غيرهم حتى يؤمنوا حركتهم التجارية في "رحلة الشتاء والصيف"، وهي اتفاقات، سواء أكانت داخلية في شبه الجزيرة أم خارجية مع الدول التي تصل إليها القوافل التجارية، يبدو واضحا من هذه الإشارة أنها كانت تعود عليهم بقدر كبير من الاستقرار الذي يتمثل في عاملين رئيسيين هما: الرخاء والأمان19. كذلك هناك الإشارات العديدة إلى يثرب التي اكتسبت بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها اسم المدينة المنورة، وفي هذه الإشارات نرى وصفًا دقيقا ونابضا لعدد من الاتجاهات المعارضة أو المبطنة أو المتأرجحة التي أحاطت بالدعوة الإسلامية الوليدة والتي تعطي صورة تاريخية مجسمة لمجتمع الجاهلية وهو يعيش لحظاته الأخيرة أمام مد جديد. إننا نرى هنا بقايا الطموحات القديمة التي يتشبث بها أصحابها ولا يريدون أن يعترفوا بوضع جديد من شأنه أن يقضي على هذه الطموحات, ومن هنا فهم يعملون الرجوع إلى المدينة   19 الصفة الدينية لمكة في سورة آل عمران: 96, وصفها بالأمن، التين: 3، المعاهدات التجارية وما تعود به من رخاء وأمان، سورة قريش: 1-4 ويلاحظ في هذا الصدد أن قبيلة قريش عقدت حوالي 467م اتفاقات مع الإمبراطور البيزنطي والإمبراطور الفارسي ونجاشي الحبشة وملك حمير اليمني اتفاقات تجارية تسمح لهم بتسيير قوافلهم إلى هذه المناطق مما جعل في يدهم زعامة أغلب الجزيرة في مجال التجارة، ومن ثم عاد عليهم بكثير من الرخاء. عن صلح الحديبية, الفتح: 18، 24. عن وضع مدينة قريش كمعقد للخطوط التجارية راجع ملحق الخرائط: خريطة 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 لإخراج الرسول -صلى الله عليه وسلم- منها إخراج العزيز للذليل حسب تصورهم آنذاك. كذلك نجد في داخل المدينة عددًا من مروجي الإشاعات ضد الدعوة الجديدة أو "المرجفين" حسبما يسميهم القرآن الكريم وعددًا من المنافقين الذين لم يتخلصوا بعد من روابط العصر الذي يمر بلحظاته الأخيرة ولكنهم لا يجرءون على معاداة التيار الصاعد الجديد. ثم هناك الذين انضموا إلى الدعوة الجديدة ولكن ليست لديهم الشجاعة الكافية لتحمل المصاعب أو المخاطر التي يستتبعها هذا التحول الذي أقدموا عليه، ربما باقتناع غير كامل، ومن هنا فهم يتعللون أمام صاحب الدعوة الجديدة بخوفهم على بيوتهم وأسرهم. وهكذا يمضي الوصف لنجد فيه تصويرا مجسدا للحظة تاريخية معاصرة للوقت الذي نزل فيه القرآن الكريم يمر بها مجتمع يعيش منعطف تحول كبير تلتقي عنده نهاية عصر وبداية عصر20. ثم أنقل الحديث إلى الإشارت القرآنية التي تتصل بالشق الآخر من سكان شبه الجزيرة العربية، هؤلاء هم الأعراب الذين لا يقيمون في المدن بشكل أساسي، وإنما تكون إقامتهم في البادية أو حول المدن. هكذا تذكر لنا هذه الإشارات، كما تلقى ضوءًا, على نفسية هؤلاء الأعراب وعلى تصرفاتهم ودوافعهم، فهم لا "يؤمنون" أو يرتبطون بقيم ثابتة، وإنما صفتهم الأساسية هي "الكفر" بهذه القيم أو على أقل تقدير مجاراتها عن "نفاق" وسوء نية فيقولون "بألسنتهم ما ليس في قلوبهم" وهم ينشغلون عن هذه القيم الثابتة بالمصالح المادية التي تمثلها "أموالهم وأهلوهم". كذلك فهم قوم لا يحفظون عهدا ولا يُركن إلى وعد قطعوه على أنفسهم ولا يرون بأسا في أن "يقولوا" أو يتخلوا في اللحظة الحاسمة عمن يعتمد عليهم، أما أسلم طريق للتعامل   20 عن النفاق والمنافقين، سورة التوبة: 101، 120. عن الشائعات، الأحزاب: 60. عن الصراع داخل المدينة، المنافقون: 8. عن التوتر والخوف ومحاولات الفرار: الأحزاب:13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 معهم فهي الترغيب "بالأجر الحسن" أو الترهيب "بالعذاب الأليم"21. ولا يقتصر القرآن الكريم، كمصدر لمجتمع شبه الجزيرة العربية في العصر السابق للإسلام، على هذه الجوانب السابقة وإنما يتجاوزها ليعطي فكرة محددة عن المنطقة فيما يتعلق بعدد من الجوانب الأخرى، فالكتابة، بغض النظر عن مدى انتشارها، معروفة، وكذلك القلم والصحف "بمعنى الأوراق المكتوب عليها"، والرق الذي يكتب عليه. كذلك فإن مجتمع شبه الجزيرة لا يجهل عددا من جوانب اللهو مثل الصيد الذي تستخدم فيه الجوارح, ومثل استخدام الخيل لأغراض "الزينة" التي قد تشير إلى بعض أنواع السباق أو الألعاب الأخرى22. وأما فيما يخص شبه الجزيرة نفسها فمناخها معرض لرياح قائظة هي "السموم" وتجتاحه في بعض الأحيان أعاصير مدارية قد تكون مدمرة سواء في سرعتها أو فيما تذروه من رمال أو حصى، وهي لهذا توصف بعدة أوصاف: فهي "الطاغية" مرة، و"الذاريات" في موضع آخر, و"الحاصب" من الريح مرة ثالثة, وبالريح العقيم التي لا تذر شيئا في موضع رابع وهي "الصيحة" أو "الصاعقة" أو "ريح صرصر عاتية" في آيات قرآنية أخرى. كما تتعرض المنطقة لهزات أرضية في بعض المناسبات مثل "الرجفة" التي تعرض لها أهل   21 عن إقامة الأعراب في البادية، الأحزاب: 20. عن إقامتهم حول المدينة المنورة، التوبة: 101, 120. عن شدة كفرهم ونفاقهم، التوبة: 97. عن تقديم الماديات على القيم الأخرى، الفتح: 11، عدم الأمن لهم ووجوب معاملتهم بالترغيب والترهيب: الفتح 16، صفات المراوغة والادعاء، الحجرات: 14. 22 عن معرفة الكتابة "بصرف النظر عن مدى شيوعها"، الفرقان: 5، النور: 33، البقرة: 281-283، أدوات الكتابة؛ القلم في سورة القلم: 1، العلق: 4، الرق في سورة الطور: 3، الصحف في سورة النجم: 36، عبس: 13، التكوير: 10، الأعلى: 18-19، الصيد بالجوارح، المائدة: 4, الخيل لأغراض الزينة، النحل: 8، آل عمران: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 مدين ومثل الإشارة إلى خسف الأرض في مناسبات أخرى وهكذا. كذلك فإن وسائل المواصلات البعيدة بين بلد وبلد يستخدم فيها الجمل الذي يشير إليه القرآن الكريم مرة بشكل صريح ومرة أخرى بشكل ضمني، كما تستخدم الفلك في المواصلات البحرية، أما النقل القريب فتستخدم فيه البغال والحمير، وأما الخيل فهي وسيلة الحرب الأساسية23.   23 ريح السموم، التشبيه بقيظها الحارق في الحجر: 27، الطور: 27، الواقعة: 42. وصف الريح القوية بالطاغية في سورة الحاقة: 5، وبالذاريات في سورة الذاريات: 1، وبالحاصب من الريح في الإسراء: 68، بالريح العقيم التي لا تذر شيئا، الذاريات: 41, وبالصيحة، هود:67، وبالصاعقة، فصلت: 17، وبالصرصر العاتية في عدد من المواضع منها الحاقة: 6. عن الهزات الأرضية، الرجفة في العنكبوت: 37، خسف الأرض، الإسراء: 68، الملك: 1. الإشارة إلى الجمل ضمنا، النحل: 7، وتصريحا في الأعراف: 40. "الإشارة هنا إلى حجمه, ولكن فيها الدلالة على وجوده في حياة العرب اليومية". البغال والحمير في النحل: 8، الخيل كوسيلة للحرب في الأنفال: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 2- الحديث الشريف : كان القرآن الكريم، إذن، هو المصدر الديني الأول لتاريخ العرب قبل الإسلام؛ لأنه لا يرقى إليه الشك, ولأنه, كما أسلفت الإشارة في بداية هذا الحديث, معاصر لمجتمع شبه الجزيرة العربية في نهاية العصر الجاهلي، ثم لأنه لم يتعرض لأي تحريف أو تبديل. وإذا كان القرآن الكريم هو المصدر الديني الأول، فإن المصدر الديني الإسلامي الذي يليه هو الحديث، وهو الأقوال المروية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأهمية الحديث كمصدر تاريخي للمجتمع العربي قبل الإسلام تنسحب بالضرورة إلى المرحلة الأخيرة من المراحل التي مر بها هذا المجتمع، وهي المرحلة التي عاصرت ظهور الدعوة الإسلامية، ومن ثم يصبح الحديث مطابقا لها من الناحية الزمنية. كذلك فإن الحديث رغم اهتمامه بالأحكام الدينية وقوانين المجتمع الإسلامي في المقام الأول إلا أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 تضمن، إلى جانب هذه الأحكام والقوانين، قدرًا من أخبار الجاهليين. كذلك فنحن نستطيع أن نستنتج بشكل مباشر أو غير مباشر بعض ممارسات المجتمع الجاهلي من خلال التعاليم التي تتضمنها هذه الأحاديث النبوية. وعلى سبيل المثال فقد جاء في أحد الأحاديث: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" , قيل: يا رسول الله, أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: "بأن تنهاه عن ظلمه" والحديث في محاولة لتغيير مفاهيم المجتمع الجاهلي، يشير إشارة مباشرة إلى العصبية العشائرية أو القبلية التي كانت تحكم هذا المجتمع والتي نراها في كثير مما وصلنا من أشعار الجاهليين. وعلى سبيل مثال آخر فقد جاء في أحد الأحاديث: "إخوانكم خولكم, فأطعموهم مما طعمتم وألبسوهم مما لبستم" وفي الحديث حض صريح لحسن معاملة الخدم، الذين كانوا في أغلب الأحوال عبيدا. ونحن نستطيع أن نستنتج منه سوء معاملة هذه الطبقة ومن ثم نعرف شيئا عن العلاقات الطبقية في المجتمع الجاهلي القريب من الإسلام، وهي علاقات يذكرها القرآن الكريم، فيما يخص طبقة العبيد, في أكثر من آية ويشير إلى ما كانت تتسم به من قسوة وتسلط24. على أن هناك عدة اعتبارت ينبغي أن ندخلها في حسابنا ونحن نعتمد على الحديث كمصدر لتاريخ المجتمع العربي في الفترة السابقة للإسلام, وأول هذه الاعتبارات يتعلق بطريقة انتقاله إلينا، فالحديث ظل ينتقل بالرواية الشفوية على امتداد قرنين كاملين حتى جمع ودون على عهد عمر بن عبد العزيز في أواخر القرن الثاني الهجري, وهو أمر قد يؤدي إلى شيء من الزيادة أو   24 عن شعر الجاهلية في مجال العصبية القبلية والعشائرية، على سبيل المثال, دريد بن الصمة "توفي حوالي 630م": وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وأن ترشد غزية أرشد كذلك عمرو بن كلثوم "القرن السادس م" في المعلقة: ونشرب إن وردنا الماء صفوًا ... ويشرب غيرنا كدرًا وطينَا عن سوء معاملة العبيد في العصر الجاهلي كما يصورها القرآن الكريم، البقرة: 177، النساء: 36، التوبة: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 النقصان في هذه الأحاديث أو إلى التغيير في بعض ألفاظها مما قد يستتبع تغييرًا في المعنى المحدد المقصود منها, وهذا على عكس ما حدث في حالة القرآن الكريم الذي كانت آياته وسوره، كما رأينا في مناسبة سابقة، تسجل عند نزولها مما لا يدفع مجالا لأي تغيير فيها، وحتى إذا كان رواة الحديث ثقاتٍ فإن هذا وحده لا يكفي، فالحديث ليس رواية فحسب ولكنه، حسبما يؤكد المتخصصون فيه، "رواية ودراية"، أي أن الذي يروي الحديث لا يكفي أن يكون صادقا وحريصا في روايته فحسب، بل ينبغي كذلك أن يكون على علم بالأحاديث المروية سواء فيما يخص معناها أو ألفاظها أو الملابسات التي قيلت فيها والغرض المقصود منها يوم قولها، فالحديث قد يكون صحيحا وثابتا وقاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعلا، ولكنه منسوخ، أي أبطل العمل به في عهد الرسول نفسه25. وحتى لو افترضنا أن بعض الأحاديث قد دونت فعلا قبل عهد عمر بن عبد العزيز، وهو أمر وارد إذا أدخلنا في اعتبارنا أن المجتمع الإسلامي الأول كان على معرفة بالكتابة وأدواتها، مهما ضاق نطاق هذه المعرفة، فإن هذا لا يغير من الأمر شيئا فيما يخص الدراية بالأحاديث عامة وفيما يتعلق بالأحاديث المنسوخة بوجه خاص. كذلك يجب أن ندخل في اعتبارنا أن الفترة التي سبقت جمع الحديث وتدوينه، وهي التي تمتد عبر القرنين الأول والثاني للهجرة، كانت فترة مشحونة بالتيارات والنزاعات السياسية التي قد تتداخل أحيانا مع اعتبارات دينية، ومن ثم يصبح نحل بعض الأحاديث من قبل فئة أو أخرى أمرا واردا في سبيل تبرير موقف أو دحض موقف مضاد26. وقد كان هذا دون شك هو الذي أدى إلى شيء من الاختلاف بدرجات   25 قواعد التحديث لجمال الدين القاسمي "دمشق 1353هـ" صفحات 51-53؛ مصطلح الحديث لعبد الغني محمود "مصر، ط2، 1331هـ -1913م" صفحات 2-5، مقتبس في، عمر فروخ: تاريخ الجاهلية، بيروت 1964، ص9 وحاشية 1. 26 السيد عبد العزيز سالم: تاريخ العرب في العصر الجاهلي، بيروت، 1970، ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 متفاوتة سواء في عدد الأحاديث أو ألفاظها في عدد من مجموعات الحديث التي نذكر من بينها: الموطأ للإمام مالك "توفي 179هـ" وجامع الصحيح للبخاري "ت257هـ" وصحيح مسلم "ت262هـ" وسنن أبي داود "ت275هـ" وسنن الترمذي "ت279هـ" ومسند الإمام أحمد بن حنبل "ت قبل 303هـ". هذا التفاوت يدفع الباحث في الواقع إلى قدر كبير من الحرص وهو بصدد الاعتماد على الحديث كمصدر تاريخي لمجتمع شبه الجزيرة قبل الإسلام ومن هنا فلعل خير سبيل نعتمده في هذا المجال هو ما ذهب إليه مفكر عربي معاصر من أننا نستطيع الاعتماد على الحديث "إذا كان موافقا لما ورد في القرآن الكريم"27.   27 عمر فروخ: ذاته، ص 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 3- التوراة والتلمود : وإلى جانب القرآن الكريم والحديث الشريف، وهما المصادر الدينية العربية التي نتعرف من خلالها عن أحوال شبه جزيرة العرب ومجتمعها، هناك مصدران دينيان غير عربيين هما التوراة والتلمود. والتوراة وهي الكتاب المقدس عند اليهود، والتلمود يعتبر تكملة للتوراة ويشمل مجموعة الأحكام والشروح والروايات المتصلة بها والتي تواترت شفاهًا بعض الوقت قبل أن يدونها بعض أحبار اليهود في فترة لاحقة. وقيمة التوراة والتلمود كمصدرين من مصادر تاريخ العرب قبل الإسلام هي أنهما يتحدثان عن علاقة العبرانيين بالعرب في مواضع عديدة من جهة، كما أنهما معاصران لفترة ما قبل الإسلام من جهة أخرى. وأود أن أشير، هنا كذلك، أن ما يذكره هذان المصدران الدينيان قد يكون مقتضبا أو عابرا في بعض الأحيان وأن على الباحث أن يستكمل الحقيقة التاريخية بالمقارنة مع المصادر الأخرى مثل الآثار والنقوش والكتابات الكلاسيكية "اليونانية واللاتينية"، كما أود أن أقول: إن فترة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الرواية الشفهية التي مرت بها أحكام التلمود "وربما بعض أسفار التوراة" قبل أن تدون، لا بد أن ندخلها في اعتبارنا ونحن نعتمد على ما جاء بهما من أخبار ونقارنها بالمصادر الأخرى. وأخيرا فإن كلمة "العرب" في التوراة والتلمود تعني البدو أو عرب الصحراء أساسا وحتى حين يرد داخل المدن فإن المقصود بهم في هذه الحال هو البدو الذين نزحوا إلى هذه المدينة لسبب أو لآخر، أما سكان الحضر من شبه الجزيرة العربية فإن هذين المصدرين يشيران إليهما كأهل هذه المنطقة أو تلك كأن يقال: "أهل سبأ" أو "سكان أرض تيماء" أو "الدادانيون" "وهم سكان منطقة العلا الحالية بشمالي غربي شبه الجزيرة"، أو كأن ينسب شخص إلا مدينة "هجر" "وهي التي ترد باسم "الحجر" في القرآن الكريم ومكانها ميناء الوجه حاليا قرب مدينة العلا أو مدائن صالح" على سبيل المثال28. وسأقدم في السطور التالية بعضا من الجوانب التي اشتملت عليها حياة سكان شبه الجزيرة العربية كما تصورها التوراة والتلمود وكيف نحاول أن نستكمل صورتها التاريخية. وأول هذه الجوانب يخص المناطق شبه الصحراوية   28 عند تدوين بعض أسفار التوراة بعد فترة رواية شفهية قد تصل إلى قرنين أو ثلاثة قرون وما يترتب على ذلك من تداخل في الأحداث من الناحية الزمنية قد يصل إلى قرن كامل راجع التداخل بين الأسماء الواردة في سفر عزرا: الإصحاح الثاني "في صدد العودة من السبي" وتلك الموجودة في سفر نحيما: الإصحاح السابع. عن تفصيل التداخل راجع، نجيب ميخائيل إبراهيم: مصر والشرق الأدنى القديم، ط1، ج3 "سورية"، الأسكندرية، 1959، ص312. كذلك قصة سبأ وزيارتها لسليمان "راجع أدناه في هذا الباب" دونت بعد تداولها شفهيا بعدة قرون، راجع، جواد علي: ذاته، ج1، ص636، أرض العرب في التوراة يقصد بها الصحراء راجع، نبوءة أشعيا، إصحاح 33: 9؛ نبوءة أرميا، إصحاح 50: 12، و51: 43, وفيهما ترد تسمية "مساها عرب" بهذا المعنى. عن سكان عرب من الحضر لا يوصفون بوصف "عرب" وإنما ينسبون إلى مواطن إقامتهم راجع عن أهل سبأ: نبوءة يوئيل, الإصحاح3: 8 عن الدادانيين، نبوءة أشعيا، 12: 13 عن سكان أرض تيماء ذاته: 21: 14, عن يازبز الهجري، سفر أخبار الملوك الأول، 28: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 من شبه الجزيرة وعلاقة سكانها بالمناطق المستقرة المتاخمة لها، والمنطقة هي منطقة "عوص" التي كان يقطنها أيوب وآله من "بني قِدم". ونستنتج من التوراة أنها منطقة شبه صحراوية تجمع بين الرعي والزراعة، إذ تذكر أن أيوب كان يملك سبعة آلاف من الغنم وثلاثة آلاف من الإبل وعددا من البقر يكفي لفلاحة خمسمائة فدان من الأرض الزراعية وخمسمائة أتان. كذلك تذكر التوراة أن الكلدانيين قد هاجموا هذه المنطقة وأخذوا الجمال وتركوا وراءهم عددا كبيرا من القتلى من بين السكان، بينما أغار السبئيون عليها وأخذوا البقر والأتن29. ولنحاول الآن أن نحدد مكان منطقة "عوص". وفي هذا المجال نجد اختلافا في الرأي بين الباحثين، فبعضهم يرى أنها منطقة حوران في سورية، وبعضهم يرى أنها تقع في منطقة الحجاز، وهو رأي قد يغري به وجود موضع حتى الآن يدعى "عيص" في المجاز فعلا "شمال غربي المدينة وشمال ينبع النخل"، وبعضهم يضعها في مناطق أخرى30، فأين إذن منطقة "عوص" على وجه التحديد؟ إن التوراة أطلقت على سكانها "بني قدم"، وهو وصف يعني سكان الشرق أي: السكان الذين يقطنون إلى شرقي العبرانيين, وهذه طريقة في تحديد الأماكن تتمشى مع ما اتبعته الأقوام القديمة في هذا الصدد "كما كان أبناء وادي الرافدين، على سبيل المثال، يسمون القبائل البدوية القاطنة إلى غربهم قبائل أمورو أي: قبائل الغرب" كذلك فالمنطقة تقع في متناول غارات الكلدانيين. والكلدانيون من سكان وادي الرافدين وقد أقاموا حكمًا لهم هناك بعد أن اشتركوا في إسقاط حكم الآشوريين في 612 ق. م. وإذن فمنطقة عوص قريبة من وادي الرافدين أو على الأقل   29 منطقة عوص، سفر أيوب، 1: 1، بني قدم، ذاته، 1: 3، أملاك أيوب, ذاته, الموضع ذاته، هجوم السبئيين، ذاته: 1: 15، هجوم الكلدانيين، ذاته، 1: 17. 30 راجع جواد علي: ذاته، ج1، ص631 وحاشية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 تقع في المجال الذي تجتاحه قوات وادي الرافدين في طريق غاراتها المعتاد على المنطقة السورية. من جهة أخرى فإن السبئيين الذين أغاروا على منطقة عوص لا يمكن أن يكونوا قوات مملكة سبأ التي كانت في اليمن، فلا يعقل أن يتكبد هؤلاء مشقة اختراق شبه الجزيرة من جنوبيها إلى شماليها لكي يغيروا على منطقة يأخذون منها عددًا من البقر والأتن. وإذن فسبأ المقصودة هنا هي مستوطنة سبأ التي أقامها السبئيون في شمالي شبه الجزيرة والتي يرد ذكرها في عدد من النصوص الآشورية31. وهكذا نستطيع أن نقول: إن منطقة "عوص" المذكورة هي منطقة تقع في البادية الشمالية من شبه الجزيرة والتي تمتد بين وادي الرافدين والمنطقة السورية، وأن الحادثة التي ترويها التوراة تمثل نوعا من الاحتكاكات التي كانت تحدث بين البدو والمناطق المستقرة التي يوجدون على تخومها وأن الحدث المذكور قد يكون نوعا من الغارات التأديبية على هؤلاء البدو لسبب أو لآخر. وقد ذهب بعض المعلقين، سواء من القدامى أو المحدثين، ومن بينهم ابن عزرا، العالم اليهودي الذي عاش في القرن الثاني عشر، إلى أن أيوب وقومه كانوا من العرب، استدلوا على ذلك بما وجدوه في بعض الأسماء والألفاظ والتعابير التي وردت في سفر أيوب الذي يضم هذا الحدث، وهي تشير في رأيهم إلى أثر عربي واضح, بل إن بعض الباحثين ذهبوا إلى أن هذا السفر ربما كان ترجمة لأصل عربي مفقود، وعلى أي حال فالذي يهمنا في الموضوع هو أن المنطقة التي عاش فيها قوم أيوب تقع في شبه الجزيرة   31 عن بداية حكم الكلدانيين في وادي الرافدين راجع: GeORGE ROUX: ANCIENT IRAQ، صفحات 338 وما بعدها. عن إشارة النصوص الآشورية إلى سبأ الموجودة في الشمال راجع القسم الأول من هذا الباب، وتجدر الإشارة هنا أن بوسعنا أن نحدد تاريخ هذا السفر استنادا إلى تاريخ قيام حكم الكلدانيين في وادي الرافدين "الفقرة التالية لعام 612 ق. م". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 العربية وأن الحدث المروي يمثل علاقة هذه المنطقة شبه الصحراوية بجيرانها32. على أن أغلب الإشارات الواردة في التوراة، فيما يخص موضوعنا، تبين لنا عددا من الجوانب التي اتسمت بها العلاقات بين العرب والعبرانيين، سواء أكان العرب المقصودون من البدو أم من أهل الحضر. وهي علاقات كانت تسير في بعض الأحيان في طريق العنف السافر الذي ينتصر فيه أحد الطرفين مرة وينتصر الطرف الآخر مرة، وتسير في طريق المؤامرات أحيانا أخرى، أو في طريق العلاقات التجارية في أحيان ثالثة. فالتوراة تذكر لنا مثلا أن الفلسطينيين والعرب "الذين بقرب الكوشيين" هاجموا مملكة يهوذا على عهد ملكها يورام أو يهورام "851-843 ق. م" ويبدو من سياق الحديث أنه كان هجوما عنيفا اكتسحوا فيه المملكة، فقد هاجموا قصر الملك وسبوا نساءه وأسروا كل أبنائه فيما عدا واحدًا ونهبوا أمواله، وهنا تقف أمام الباحث صعوبة، فالكوشيون عادة يعني الأحباش أو سكان منطقة السودان، ومن هنا ذهب أحد الباحثين إلى أن العرب الذين بقرب الكوشيين هم أهل اليمن، بينما ذهب باحث آخر إلى أنهم عرب سيناء على أساس أنهم بقرب المصريين اعتبارا بأن المصريين من الحاميين ومن ثم يكونون هم المقصودون بالكوشيين33. ولكن الرأيين مردود عليهما، وفيما يخص الرأي الأول، فإن التوراة حين ترد فيها لفظة العرب تعني الصحراء أي البدو، واليمن كانت   32 جواد علي: ذاته، ج1 صفحات 633-634 وحاشية 1 في 634. 33 عن نص التوراة، إخبار الأيام الثاني، إصحاح 16:21-17، عن شدة هذا الهجوم، السفر ذاته، إصحاح 22: 1، صاحب رأي عرب اليمن هو ماجوليوت margoliouth وصاحب رأي عرب سيناء هو موسل musil, الرأيان مقتبسان في جواد علي: ذاته، ج1، ص643 وحاشية 1و2 وفي الصفحة ذاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 منطقة حضر وكانت النظرة إليها في العصور القديمة دائما بهذا الوصف الحضري رغم وجود بعض المناطق البدوية فيها بالضرورة، وسكانها يذكرون في التوراة على أنهم "سبئيون من أرض بعيدة" كما سنرى في مناسبة مقبلة، وحتى إذا دخلنا في باب الافتراض الجدلي فإن اليمنيين لا يمكن أن يكونوا هم المقصودون فليس هناك أي احتمال لاشتراك بدو اليمن مع الفلسطينيين في مهاجمة مملكة يهوذا لا من جانب المصلحة المشتركة ولا من جانب جوار "غير موجود" بينهما. أما فيما يخص الرأي الثاني الذي يجد في هؤلاء العرب القريبين من الكوشيين عربا من سيناء "على اعتبار أن المصريين هم الكوشيون" فالاحتمال ضعيف، إذ إن الألفاظ الدالة على المصريين وعلى أرض مصر واردة ومتكررة في التوراة ولو كان العرب المقصودون في النص هم عرب سيناء لأشارت التوراة إلى المصريين بالتحديد وليس إلى الكوشيين، وإذن يبقى هناك تفسيران محتملان، أولهما أن العرب المقصودين بهذا الوصف هم من جيران الفلسطينيين بحكم ظرف الحادث الوارد في النص ولكنهم كانوا من القبائل اليمنية المهاجرة إلى الشمال والتي عاشت في الشمال حياة بدوية. وأما التفسير الثاني، وهو الأبسط والأرجح في رأيي، فهو أن يكون الوصف مجرد استخدام مجازي للفظة "الكوشيين" وكان النص يريد أن يقول: إن الفلسطينيين لم يكونوا وحدهم في الهجوم وإنما كانت معهم قبائل بدوية "من كل حدب وصوب" أو "من كل فج عميق" أو من "آخر الدنيا" وهي صيغة مبالغة في التعبير واردة في اللغات السامية34. ونحن في الواقع نستطيع أن ندرك السبب الذي من أجله تم هذا التحالف بين هذه القبائل العربية القريبة من مملكة يهوذا وبين الفلسطينيين إذا رجعنا إلى   34 راجع عن الهجرات من اليمن وأسبابها الباب الثاني "الساميون وشبه الجزيرة والعرب" من هذه الدراسة. راجع عن المبالغات، ما جاء من مبالغات الأعداد في النصوص الآشورية في الباب الرابع الخاص بالآثار والنقوش في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الوراء قليلا لنرى ما تقوله التوارة عن عهد سليمان "970-937 ق. م". فقد وجه سليمان اهتمامه إلى ناحية التجارة البحرية واتخذ ميناء عصيون جابر "بجوار ميناء إيلات" على البحر الأحمر مرفأً أساسيا لهذه التجارة. وقد كان هذا دون شك ضربة للموانئ الفلسطينية على شاطئ البحر المتوسط، كما كان في الوقت ذاته ضربة إلى الأطراف الشمالية للطرق البرية التي توصل إلى موانئ الفلسطينيين، وهي الأطراف التي تمر بالضرورة في أراضي العرب المحيطين بفلسطين وتعتبر موردا اقتصاديا حيويا بالنسبة لهم35. مثال آخر من الأمثلة التي تقدمها التوراة في تصوير هذه العلاقات العنيفة بين العرب والعبرانيين نرى فيه الملك عزيّا ملك يهوذا وقد حارب الفلسطينيين والعرب المقيمين بمنطقة "جُور بَعْل" والمعونيين وهدم أسوار مدنهم وأخذ جزية من العمونيين36. وهنا تقابلنا مشكلة تحديد هذه الأماكن الثلاثة, جور بعل وأرض المعونيين وأرض العمونيين. فلفظة "جور" تعني في العبرية "مسكن" ومن ثم فمنظمة جور بعل معناها الحرفي مسكن بعل وتشير بذلك إلى منطقة تسود فيها عبادة هذا الإله والمنطقة السورية بأكملها كانت تعرف عبادة هذا الإله. لقد ذهب أحد الباحثين إلى أن المنطقة توجد على حدود الحجاز الشمالية، وليس من المستبعد، قياسا، أن تكون هذه العبادة قد انتشرت من سوريا إلى الحجاز, فالعقائد الدينية المرتبطة بعدد من الآلهة القديمة انتشرت في أحيان عديدة خارج المناطق التي ظهرت بها، كما أن طرق القوافل التي تربط بين الحجاز وسورية كان من الممكن أن تساعد على انتقال   35 عن الاتجاه البحري لسليمان راجع، سفر الملوك الثالث، إصحاح 9: 26, والباب الخاص بالعلاقات الخارجية لشبه الجزيرة القسم الثالث من هذه الدراسة. 36 إخبار الأيام الثاني، إصحاح 26: 6-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 هذه العبادة إلى الحجاز37. ولكن مع ذلك فإننا نتوقع منطقيا وقياسيا أن يشير اسم "مسكن بعل" إلى منطقة يكون بها المركز الرئيسي لعبادة هذا الإله كما كانت مدينة "عين شمس" أو "هيليوبوليس" heliopolis "وهي ترجمة يونانية للمكان نفسه تحت اسم "مدينة الشمس"" تعني المركز الأساسي لعبادة "رع" إله الشمس في مصر القديمة. ومن ثم فاحتمال أن تكون الحجاز، أو منطقة تقع على حدودها الشمالية، هي منطقة جور بعل يبقى في خير الأحوال احتمالا ضعيفا. هذا، بالإضافة إلى أن منطقة الحجاز تظل منطقة بعيدة عن المنطقة التي دار فيها الحدث المذكور ومن ثم يظل احتمال المصلحة المباشرة التي تدعو أهلها إلى أن يكونوا طرفًا في المعركة احتمالا بعيدا. كذلك ذهب باحث آخر إلى أن جور بعل قد تشير إلى صخرة بعل، ومن ثم فتكون مدينة بترا petra "البتراء" ومعناها في اليونانية "الصخرة" هي المدينة المرشحة لأن تكون جور بعل38. وهذا الاحتمال يبقى واردا ولكن دون تأكيد وإنما كل ما نستطيع أن نصل إليه في هذا الصدد هو أن نقول: إن منطقة جور بعل هي منطقة قريبة من حدود مملكة يهوذا حتى تكون لها مصلحة مباشرة تجعلنا نفهم فهما مقبولا أن تكون طرفا في المعركة مع ملك يهوذا, أي أنها في أقصى الشمال الغربي من شبه الجزيرة العربية. أما عن المعونيين، فيكاد يكون من الأرجح أنهم المعينيون، ولكنهم من المنطلق ذاته، ليسوا دولة معين التي كانت موجودة باليمن، وإنما هم جماعة منهم كانوا قد أسسوا مستوطنة أو مستوطنات في الشمال "على نمط السبئيين" واستقروا في منطقة ديدان "العلا الحالية في القسم الشمالي الغربي من شبه الجزيرة العربية" وأقاموا هناك مملكة معينية شمالية. وأما عمون التي يبدو أنها اشتركت في الحلف ولكنها لم تشترك في المعركة الفعلية ومن ثم اكتفى   37 alois musil: northen hagaz، ص274. 38 montgomery: Arabia، ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ملك يهوذا بأن يفرض جزية عليها دون تهديمها، فهي ربة عمون التي كانت تقع جنوبي عمان الحالية بمسافة قصيرة على الخط التجاري39. وإذن فنحن أمام حلف قوامه الفلسطينيون والقبائل العربية المجاورة لهم وعمان والمعينيون الشماليون. ومن مواقع المشتركين في هذا الحلف نستطيع أن نتعرف على هوية التحالف بينهم. إن للفلسطينيين موانئ على ساحل البحر المتوسط حيث تصب نهايات الخط التجاري الآتي من جنوبي شبه الجزيرة العربية، والقبائل العربية في جور بعل تمر بها نهايات هذا الخط التجاري التي توصل في أشواطها الأخيرة إلى الموانئ الفلسطينية، وعمون تقع في طريق هذه القوافل، أما المعونيون "وهم المعينيون كما رأينا"، وموقعهم إلى الجنوب قليلا، فبأرضهم يمر الخط التجاري المذكور، بالإضافة إلى ميناء تجارية لهم على البحر الأحمر هي ميناء إجرا "الحجر" أو الوجه حاليا. وهذا الحلف تجمعه مصلحة مشتركة هي المصلحة التجارية، ونحن نستطيع أن ندرك الحجم الحقيقي لهذا التحالف التجاري الحربي إذا عرفنا من التوراة أن عزيا ملك يهوذا استولى على المدن والموانئ الفلسطينية وأعاد بناء إحدى هذه الموانئ على الأقل وهي ميناء أشدود، وأنه أراد أن يحدث تغييرا جذريا في الخطوط التجارية البرية التي كانت تصل إلى الموانئ الفلسطينية وذلك بعد أن استعاد ميناء إيلات "على رأس خليج العقبة"40 وهو أمر يستطيع من خلاله أن   39 عن موقع عمون على الطريق التجارية بين بصرى والبتراء راجع: "rene dussaud: la penetration des arabes en syrie avant l'lslam 1955 paris". ص154. راجع كذلك خريطة رقم 2 في: krammer: petra et "paris 1929" la nabatene. عن استقرار المعينيين حول منطقة العلا الحالية في شمالي غربي شبه الجزيرة راجع dussaud: ذاته، ص 48. 40 إخبار الأيام الثاني، إصحاح 26: 2 و6-8 ويجدر بنا في هذا الصدد أن نشير إلى أن العرب كانوا قد بدءوا قبل هذه الفترة ينضمون إلى تحالفات في هذه المنطقة ضد بعض القوات التي تريد اجتياحها والسيطرة عليها, وذلك حسبما تشير الملابسات وموقع المنطقة حرصا على مصلحة تجارية تتأثر بهذه التحركات، كما حدث على سبيل المثل حين انضم جندبو -وهو زعيم عربي- بقوة عسكرية من راكبي الجمال إلى الحلف المؤلف من ملوك دمشق وحماة وأرواد ومدن سورية أخرى ضد الملك الآشوري شلمنصر الثالث "858-824 ق. م." في السنة السادسة من حكمه, راجع النص في ANET ص279، عن مناقشته راجع الباب الخاص بالوضع السياسي في مجتمع شبه الجزيرة في القسم الثالث من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 يجعل هذه الميناء نهاية الطريق التجارية الآتية من البحر الأحمر وبداية للطرق التجارية إلى موانئ الشاطئ الفلسطيني وهكذا تصبح ميناء إيلات منافسا خطيرا لميناء الحجر المذكور والتي كان المعينيون يعتمدون عليها في تجارتهم البحرية إلى جانب اعتمادهم على خط القوافل في تجارتهم البرية. أما المثال الثالث الذي سأقدمه من التوراة كمصدر من مصادر التعرف على العلاقات بين عرب شبه الجزيرة "أو بالأحرى أطرافها الشمالية الغربية" وبين العبرانيين، وفيه يتعادل الفريقان بشكل أو بآخر، فهو يرجع إلى فترة ما بعد عودة العبرانيين من السبي البابلي، وفيها نجد نحميا اليهودي يطلب من ارتَحَشْتا الإمبراطور الفارسي "464-424 ق. م" أن يسمح له ببناء سور حول القدس. وهنا تذكر التوراة أن نحميا وجد معارضة من عدد من زعماء المنطقة من بينهم طوبيا العموني وجشم العربي, ولكن هذه المعارضة لا تتمخض عن مواجهة عسكرية كما رأينا في المناسبتين السابقتين وإنما تقتصر على مؤامرات وحيل من الطرفين تنتهي بنجاح نحميا في بناء السور الذي يريده41. ونحن نستطيع أن نفهم ما جاء في التوراة إذا نظرنا إلى الوضع السياسي الذي كانت تمر به المنطقة بأكملها، وهو أنها قد أصبحت في ذلك الوقت جزءًا من الإمبراطورية الفارسية التي شملت كل بلاد الشرق الأدنى ومن ثَمَّ لم يكن هناك مجال لمواجهة عسكرية وإنما لمؤامرات داخلية لا تصل إلى حد هذا النوع من المواجهة، وبخاصة إذا كان الإمبراطور الفارسي هو الذي أعطى الإذن ببناء السور. ولا تقتصر التوراة كمصدر تاريخي على التعريف بعلاقات العرب والعبرانيين   41 نبوءة نحميا، إصحاح 4: 7 -21، 6: 2-16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 في مجال الاحتكاكات الحربية والمؤامرات السلمية، وإنما تتعداها لتحدثنا عن علاقات تجارية تدخل فيها السياسة أو عن علاقات تجارية عادية. ونحن نجد في هذا المجال إشارة إلى أن السبئيين في العربية الجنوبية كانوا يشترون العبيد من خارج البلاد كأيدٍ عاملة ربما للعمل في مزارعهم أو كعمال أو للخدمة في بيوت الطبقة التجارية الأرستقراطية التي كانت تسيطر على البلاد. فالتوراة تورد تهديدا من جانب يَهْوه "اسم الله عند العبرانيين" يتوعد فيه صور وصيدون وجميع بقاع فلسطين بأن يبيع بنيهم وبناتهم بأيدي يهوذا للسبئيين، لأمة بعيدة "وهذا يعني أن هؤلاء لم يكونوا من سبأ الشمالية القريبة من العبرانيين، إنما من تجار مملكة سبأ التي كانت موجودة في اليمن"، وذلك ردا على ما فعلوه حين باعوا "بني يهوذا وبني أورشليم لبني الياوانيين"، وهم اليونان42. كذلك نجد تجار سبأ "الجنوبية أو الشمالية" يتجرون مع العبرانيين بالطيوب والذهب والأحجار الكريمة و"بالأنسجة الفاخرة" وتشير التوراة كذلك إلى أهل وَدَان "العلا" الذين كانوا يتجرون مع العبرانيين "بالنمارق للركوب" وربما يقصد بذلك نوع من الأثاث، بينما تشير إلى العرب "القبائل البدوية" على أن تجارتهم مع العبرانيين كانت في الماعز والأغنام43, كما نجد مثلا مرجحا من أمثلة العلاقة التجارية بين العبرانيين والعرب في عهد سليمان إذ تذكر لنا التوراة أن سليمان في محاولته لتقوية مملكته وإشاعة الرخاء في أرجائها قد وجه عنايته إلى النشاط التجاري البحري فأنشأ أسطولًا تجاريًّا في عصيون جابر44 على خليج العقبة "غربي   42 نبوءة بوئيل، إصحاح 3: 6-8. 43 سفر الملوك الأول، إصحاح 10: 10، 14 وما بعدهما، إخبار الأيام الثاني, إصحاح 9: 13 وما بعدها. ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن المقصود بملوك العرب هو على الأرجح رؤساء أو شيوخ القبائل العربية. 44 سفر الملوك الأول، إصحاح 9: 26 وما بعدها، 10: 11. إخبار الأيام الثاني، إصحاح 9: 10؛ آراء الذين تناولوا الموضوع، وهم، DUNBOW, HASTINGS Glaser معروضة في جواد علي: ذاته، ج1، صفحات 638-639. السبب المرجح لهذه الآراء هو ورود اسم أوفير في التوراة "سفر التكوين، إصحاح 10: 26-29" على أنه اسم أحد أبناء يقطان "قحطان في العربية" ونظرا لأن مواطن اليقطانيين هي من ميشا وأنت آت "الإصحاح ذاته: 30" وحيث إن ميشا يرجح أن تكون ميسان الحالية على رأس الخليج العربي و"سفار" يرجح أنها تشير إلى = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 إيلات". قام برحلات تجارية إلى عدد من الأماكن من بينها "أوفير" التي أتى منها هذا الأسطول بكميات وفيرة من الذهب، والرأي الراجح بين الباحثين استنادا إلى بعض ما جاء في التوراة من أسماء الأقوام أو الأماكن وتحديد موقعها، واستنادا إلى مصادر أخرى أن "أوفير" تقع في شبه الجزيرة العربية على السواحل الشرقية أو الجنوبية. وأود أن أؤيد هذا الترجيح بما ذكره هيرودوتوس herodotus شيخ المؤرخين اليونان الذي كتب في أواسط القرن الخامس ق. م. وبما أورده سترابون strabo الجغرافي اليوناني "أواخر القرن الأول ق. م. وأوائل القرن الأول م" عن وجود الذهب في شكله الخالص في شبه الجزيرة العربية45. وأخيرا فإن التلمود، وهو الكتاب المكمل للتوراة، يتحدث عن عدد من جوانب الحياة عند العرب وإن كان على الباحث أن يستنتج ذلك بشكل غير مباشر في أغلب الأحوال من حديث كتاب التلمود عن المسائل الفقهية والتشريعية -وهي الموضوع الأساسي لهذا الكتاب- والتي تتطرق إلى ما يجوز وما لا يجوز العمل به في المعاملات بين العبرانيين والعرب، كذلك يجب أن ندخل في اعتبارنا ونحن بصدد الاعتماد على التلمود أن عددا من الأمثلة التي يوردها وهو بسبيل الحديث عن هذه المعاملات تشير إلى عرب سيناء وليس إلى سكان شبه الجزيرة العربية. كما أن هذا الكتاب يشير إلى العرب كثيرا تحت اسم   = ظفار الحالية على مقربة من وسط الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية فتكون أوفير على الساحل في مكان ما بين الموقعين. كذلك يرى جواد علي: ذاته، ص639 إمكانية تطابق اسم أوفير مع موضع "الحفير" الذي ذكره الهمداني في "صفة جزيرة العرب" تحت عنوان معادلة اليمامة عندما قال: إن بهذا الموضع معدن ذهب غزيرًا، وبما أن "الحفير" تكون بموضعها هذا بعيدة عن ساحل البحر فيقترح جواد علي، تخطيًا للتناقض، أن يكون بحارة أسطول سليمان التجاري قد اشتروا ذهب أوفير من إحدى الموانئ العربية الجنوبية, وظن كتاب التوراة أن أوفير تقع على الساحل. 45 راجع الباب الثامن الخاص بالوضع الاقتصادي في القسم الثالث من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 "طييعة" و"طيافة" والنسبة في هذه الأشكال هي إلى قبيلة "طي" العربية المعروفة التي يذهب أحد الباحثين إلى أنها كانت قد أصبحت في وقت تدوين التلمود من أشهر القبائل العربية وأعظمها قوة بحيث غلب اسمها على بقية أسماء القبائل العربية, فأصبح هذا الاسم يطلق على بقية هذه القبائل المجاورة46. وأختم الحديث بعرض أمثلة سريعة من حديث التلمود عن العرب وحياتهم وعاداتهم. ففي مجال العقائد والعبادات يذكر هذا الكتاب أن العرب كان لهم معبود هو "نشرا" ونحن نجد ذكر هذا المعبود يرد كذلك في القرآن الكريم على نحو ما أشرت في مناسبة سابقة, وأن مواسم حج الأعراب لم تكن ثابتة وإنما كانت تتغير من حين لآخر حسب ما يجدّ في مواسم السنة. ويشير التلمود إلى حياة الأعراب فيذكر أنهم كانوا دائمي التنقل في البادية. وأما عن عاداتهم فيذكر أن رجال العرب كانوا يعمدون إلى وضع اللثام على وجوههم في أثناء السفر على سبيل الوقاية من الزوابع الرملية، كما كان نساء العرب يغطين وجوههن عند الخروج إلى الأماكن العامة، وهي عادة يرى أحد الباحثين أنها ربما كانت تخص نساء العرب المقيمين في المدن، كما أن بين ما أشار إليه التلمود من صفات العرب هو قدرتهم الخارقة على التعرف على مواضع الماء في الصحراء بمجرد شم الرمال47، وهذه دون شك من نوع الحاسة السادسة التي أوجدتها عند العرب ظروف الجفاف التي سيطرت على شبه الجزيرة والتي أكسبت العرب بالضرورة هذا النوع من الخبرة التي لا يمكن الاستغناء عنها تحت هذه الظروف.   46 قارن ذلك بظهور اسم الطائيين تحت اسم طاويني tavani عند الكاتب الروماني بلينيوس في أواسط القرن الأول الميلادي plinius: N,H, VI, 32:157. 47 عن ورود اسم نشرا وعن تغيير مواسم الحج راجع عبودة زاره: 11ب، عن التنقل الدائم، راجع هلوت، 28: 10، عن تلثم الرجال، موعيد قطان: 24، عن تحجب النساء العربيات راجع، شيت، 6: 6، عن ربط هذه العادة الأخيرة بنساء المدن راجع، جواد علي: ذاته، ص653، عن التعرف على مواضع الماء في الرمال راجع، بابا بترا:273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الباب السادس: المصادر الكتابية مدخل ... الباب السادس: المصادر الكتابية بعد أن تعرفنا على المصادر الدينية لتاريخ شبه الجزيرة العربية في العصور السابقة لظهور الدعوة الإسلامية، وهي مصادر وصلتنا في صورة مدونة، أنقل الحديث إلى القسم الثاني من هذه المصادر المدونة، وأقصد به الكتابات التي تركها لنا الأقدمون من المؤرخين والجغرافيين والرحالة وكتاب الموسوعات العلمية وغيرهم من أصحاب القلم. وهذا القسم الثاني من المصادر المدونة نستطيع أن نميز فيه بين مجموعتين من الكتابات: الأولى هي ما حرره الكتاب الكلاسيكيون أو الكتاب اليونان والرومان "الذين كتبوا باليونانية واللاتينية"، وتستمد كتاباتهم قيمتها من معاصرة هؤلاء الكتاب لمجتمعات شبه الجزيرة العربية في الفترات السابقة لظهور الإسلام، ومن التزامهم بدرجات متفاوتة، ولكنها ملموسة في كل الأحوال، بالتحقيق العلمي والعملي لما كتبوا عنه, وهو تحقيق كانوا يملكون في الواقع مادته الرئيسية "حتى إذا صرفنا النظر عن أية ظروف ومقومات أخرى" بحكم معاصرتهم هذه للأحداث والأحوال والمواقف التي تخص المنطقة التي يكتبون عنها. أما المجموعة الثانية من الكتابات فهي الكتابات العربية التي تركها لنا كتاب العصر الإسلامي، وهذه يعوزها بالضرورة عنصر المعاصرة "الذي يتميز به هؤلاء الكتاب حين يكتبون عن تاريخ العصر الإسلامي ذاته" ومن ثم فهي تعتمد على ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الروايات والتصورات الشائعة، في أثناء فترة تدوينها، عن مرحلة تاريخية سابقة لهذا التدوين بقرون عديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الكتاب الكلاسيكيون كتاب المرحلة المبكرة ... 1- الكتاب الكلاسيكيون: أ- كتاب المرحلة المبكرة: وتبدأ الكتابات الكلاسيكية عن أحوال شبه الجزيرة العربية بشكل أساسي في أواسط القرن الخامس ق. م. وإن كانت هناك إشارات عن العرب فيما تركه لنا اليونان الأوائل، على أن هذه الإشارات ضئيلة ولا تتعدى في الواقع خمس إشارات: اثنتان منها تردان في ملحمة الأوديسية المنسوبة إلى هوميروس homeros الذي يعتمد في شعره على تراث يوناني ينتهي عند أواسط القرن التاسع ق. م. وواحدة في أشعار هزيودوس hesiodos، وهي أشعار ترجع إلى ما بعد هذه الفترة بما يقرب من قرن، واثنتان في مسرحيتين للشاعر المسرحي إيسخيلوس aeschylos وترجعان إلى العقود الأولى من القرن الخامس ق. م. ولكن هذه الإشارات جميعا، فوق أنها مبتورة تأتي كل منها في لفظة واحدة، فإن اثنتين من بينها دلالتهما غير محددة، وواحدة غير ثابتة، ولكن مع ذلك، فإن هذه الضآلة في عدد الإشارات أو في نوعيتها لها دلالة تاريخية فيما يخص شبه الجزيرة العربية, وهذه الدلالة هي أن مجتمع شبه الجزيرة لم يكن بينه وبين اليونان آنذاك اتصال مباشر، ومن ثم كان الحديث عنهم في كتابات اليونان في تلك الفترة حديثا غامضا أو شبه أسطوري1.   1 عن تحديد نهاية عصر هوميروس راجع، لطفي عبد الوهاب يحيى: هوميروس، تاريخ حياة عصر, الإسكندرية 1968، صفحات 35-40، الإشارة الأولى عند هوميروس في الأوديسية: od,IV,84 ترد فيها لفظة eremboi لتصف قومًا، ويعتقد سترابون الجغرافي XVI,4:27 بناء على اجتهاده الشخصي وعلى آراء اثنين من سابقيه تعرضا للمسألة وهما زينون zenon وبوسيدونيوس poseidonius، أن اللفظة تشير إلى العرب = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 على أن أول ذكر مفصل ومطول عن العرب وشبه الجزيرة العربية عند   = ومن الممكن أن يكون هذا واردا وبخاصة إذا عرفنا أن النصوص الآشورية ترد فيها تسميات للعرب قريبة من تسمية هوميروس، وقد وصل الآشوريون في توسعهم حتى الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط ومن ثم فقد كانوا أحد المصادر التي عرف اليونان عن العرب من خلالها, وقد كان اللقاء بينهم وبين اليونان "المهاجرين إلى قبرص والشواطئ الشرقية للبحر المتوسط" من الناحية الزمنية مطابقا أو قريبا من العصر الهومري. وفي هذه النصوص الآشورية يرد العرب كقوم تحت تسميات عديدة متقاربة من بينها aribi راجع erich ebeling: Araber: في reallexiton der Assyriologie "1928". الإشارة الثانية عند هوميروس في الأوديسية كذلك: od,XV 426 ترد فيها لفظة arbas أو arybas كاسم علم لرجل، وهي قريبة من لفظة arubu التي ترد في نص آشوري "703ق. م." من عهد سنحريب "راجع: ebeling المرجع ذاته، المكان ذاته" كصفة أو نسبة بمعنى عربي، وقياسا على ما هو شائع في التسميات العربية فإن اللفظة الدالة على الصفة أو النسبة من الممكن أن تستخدم للدلالة على اسم العلم، ولكن تبقى نقطة وهي أن لفظة هوميروس جاءت اسما لوالد امرأة فينيقية من صيدون. عن توقيت أشعار هوميروس راجع: lutti a-w. yebya: from homer to hesiod, arch & hist studies, 4, the arch soc of alexandria arabaios "1971"، صفحات 3-7. عند هزيودوس ترد لفظة: arabaios في: katalogoi gynalkon eoiai, 15 ولكن في مجال أسطوري غير محدد. عند إيسخيلوس "4/525-456 ق. م." الإشارة الأولى وهي arabos ترد كاسم علم لرجل في مسرحية persae "عرضت في 472 ق. م"، سطر 318، ورغم أن العرب كانوا يشكلون وحدة في جيش الإمبراطور الفارسي أحشويرش xerxes "راجع: herodotos: VII, 69,86"الذي تدور المسرحية حول مهاجمته لليونان في موقع سلاميس، ومن ثم تصبح اللفظة واردة، إلا أن إيسخيلوس يعقبها بوصف "الماجي" magos, والماجيون فئة "دينية على الأرجح" عن ميدية في بلاد فارس، راجع: herod: I, 110, VII, 19,37,43,113 أما الإشارة الثانية وهي arabia فهي ترد في مسرحية promethees سطر 420 ولكنها غير ثابتة في المخطوطات الأصلية للمسرحية، وحتى مع ترجيح ثبوتها فإن العبارة التي ترد فيها "وهي: أن زهرة شباب arabia يحمون بأسلحتهم الحصن المنيع على حدود القوقاز" سطور420 -425 تتركنا في حيرة مما يعنيه الشاعر: هل هؤلاء الشباب العرب يشكلون وحدة في الجيش الفارسي تحتل موقعا خارج بلاد العرب أم أن الشاعر لا يعرف بوضوح أين تقع بلاد العرب ومن ثم يضعها بشكل تقريبي على حدود القوقاز طالما أن المنطقتين تقعان إلى الشرق من بلاد اليونان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الكلاسيكيين يرجع, كما أسلفت، إلى أواسط القرن الخامس ق. م. ونجده عند المؤرخ اليوناني هيرودوتوس herodotus الملقب بأبي التاريخ أو شيخ التاريخ2. وهيرودوتوس لا يقصر تسمية بلاد العرب arabia على شبه الجزيرة العربية، ولكنه يطلقها، إلى جانب شبه الجزيرة، على كل القسم الداخلي من سورية "بادية الشام" وعلى شبه جزيرة سيناء وصحراء مصر الشرقية التي تقع بين النيل والسواحل الغربية للبحر الأحمر والتي تعرف أحيانا باسم صحراء العرب3. ولكن ليس من العسير على الباحث أن يدرك أن هذا المؤرخ يتحدث عن شبه الجزيرة حين ينصب حديثه عليها بالتخصيص وهو أمر ندركه حين يقول, على سبيل المثال: إن بلاد العرب هي أقصى البلاد المعمورة في العالم نحو الجنوب4, أو حين يقول على سبيل مثال آخر: إن أريج الطيوب يملأ جو هذه البلاد5. كذلك فإن حديثه عن   2 كان هذا أول مؤشر لاهتمام الغرب بالمنطقة بعد أول احتكاك كبير بين اليونان والعالم الشرقي ممثلا في الصدام مع الإمبراطورية الفارسية في 490 و480ق. م. وهو صدام اعتبره اليونان مسألة بقاء أو فناء بالنسبة لهم، "وقد ظهرت فيه وحدات عسكرية عربية ضمن القوات الفارسية" ثم في أواسط القرن في 459 و448 ق. م. ولا بد أن يكون هذا قد أثار اليونانيين وبخاصة المثقفين منهم "وقد شهدت فترة أواسط القرن الخامس تزايدا كبيرا في هذه الفئة" رغبة واضحة في التعرف على هذا العالم الشرقي واستكناه هويته, وهو معنى يؤكد عليه هيرودوتس سواء في العنوان الذي أعطاه لدراسته والذي اختار له لفظة "تحقيقات" historiae أو في السطور الأولى التي استهل بها هذه الدراسة. 3 بلاد العرب بمعنى سيناء historiae II, بمعنى الصحراء الشرقية II,75, بمعنى بادية الشام III, 5 , 7, 9, بمعنى المنطقة بين وادي الرافدين وخليج السويس II,39. 4 III, 107. 5 III, 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 العرب أو عن شبه الجزيرة العربية ليس متصلا دائما، وإنما يأتي متناثرا في أغلب الأحوال حسبما يقتضي سياق الموضوع من استطرادات ومقارنات مع الشعوب والمناطق الأخرى، كما أنه لا يخلو من مبالغات قد تجنح إلى الخيال في بعض الأحيان، وهو أمر يأتي كنتيجة طبيعية لاعتماد هيرودوتوس على الرواية في كثير من المواضع في وقت لم تكن قد توفرت فيه بعد أسباب الرواية عن المتخصصين6. ولكن رغم ذلك، فإن هيرودوتوس قد أورد الكثير من المعلومات التي ثبتت صحتها، وهو قد تعرض للكثير منها في استفاضة، كما أنه تطرق في كتابته إلى كل أبعاد شبه الجزيرة وأحوال سكانها تقريبا، فهو يتحدث عن موقع البلاد وتربتها وعن عادات العرب وتقاليدهم وعقائدهم الدينية وملابسهم وسلاحهم وطرقهم في الحرب. كذلك فهو يقدم لنا مقتطفات من تاريخهم وعلاقاتهم الخارجية مع الآشوريين والفرس، كما يفيض في الحديث عن منتجات شبه الجزيرة أو ما يعتقد أنه من منتجاتها، من اللبان LIBANDS والمر smyrna والقصيعة kassia والقرفة kinnamon واللادن أو المستكة ladanon, ويذكر لنا بشكل عام أن العرب يتاجرون في هذه الطيوب والتوابل مع البلاد الأخرى. وإذا كان لا يتحدث عن الطرق التي تسلكها القوافل التجارية، فنحن نستنتج من أكثر من موضع في حديث هيرودوتوس أن الفينيقيين في هذه الفترة كانوا لا يزالون هم الوسطاء في تجارة الطيوب والتوابل بين شبه الجزيرة العربية والعالم اليوناني -إلى الموانئ الفينيقية تصل هذه السلع,   6 عن جنوح الرواية إلى الخيال أحيانًا الإشارة إلى ثعابين مجنحة تحرس أشجار اللبان III,107، طريقة الحصول على القرفة III, III, أنواع من الغنم لها ذيول غير عادية الطول تحفظ بطريقة غير عادية III, 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ومن هذه الموانئ يحملها التجار الفينيقيون أو اليونان إلى الموانئ اليونانية7. كذلك فإن هيرودوتوس إذا كان قد اعتمد في قسم من المعلومات على الروايات التي سمعها من مصدر أو آخر سواء من أبناء البلاد أو المتصلين بهم أو من غير هاتين الفئتين، فإن قسمًا من هذه المعلومات كان نتيجة لملاحظته الشخصية في الأماكن التي مر بها في رحلته التي شملت قسمًا لا بأس به من بلاد الشرق الأدنى في سبيل تدوين تاريخه, وهي أماكن تضم فيما بينها الأطراف الشمالية لشبه جزيرة العرب, هذا إلى جانب أن حديثه عن البخور والطيوب الآتية من جنوبي شبه الجزيرة "سواء أكانت هذه من منتجات شبه الجزيرة جلبها العرب من مناطق أخرى ثم نقلوها في قوافلهم إلى الشواطئ السورية حيث ينقلها آخرون بحرا بعد ذلك إلى الموانئ اليونانية" كان يستند إلى ممارسة شخصية في المجتمع اليوناني الذي كان هذا المؤرخ أحد أبنائه، وهو مجتمع كان يستهلك قدرا لا بأس به من البخور والطيوب وكان بالضرورة على علم بمصدر هذه السلع أو على الأقل بمن كانوا يتاجرون فيها8.   7 عن موقع البلاد راجع حاشية 4 أعلاه، عن التربة II,12 عن العادات والتقاليد I, 199, III, 8 عن العقائد الدينية I, 131, III, 108 عن الملابس والأسلحة Vii,69 عن الأسلحة وطرق الحرب v11,86 عن علاقاتهم مع الآشوريين II, 141 عن علاقاتهم مع الفرس III, 97 vII, 69 عن المنتجات من الطيوب والتوابل III, 107, III,13عن تجارتهم بشكل عام من البلاد الأخرى III, III وساطة التجار الفينيقيين بين الطيوب والتوابل العربية وبين بلاد اليونان نستنتجها من III, 107, 111. 8 كان استهلاك الطيوب والبخور في بلاد اليونان ضرورة يومية في المنزل والمعبد والأعياد والاجتماعات السياسية والاحتفالات الرياضية "وهي احتفالات كانت لها أهمية كبرى في بلاد اليونان وترعاها الدولة" والمناسبات الاجتماعية، وقد تزايد استهلاك الطيوب والبخور مع تزايد الرخاء الذي واكب الازدياد الكبير في حجم تجارة الإمبراطورية الأثينية في القسم الشرقي للبحر المتوسط وبخاصة بعد الضربة التي تلقاها النشاط التجاري الفينيقي في المنطقة عقب الهزيمة التي حاقت بالأسطول الأثيني على شواطئ قبرص في 449ق. م، راجع عن مظاهر هذا الرخاء في أثينا j.b. bury: a history of greece ط2 1945، صفحات 367-378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 على أن حديث هيرودوتوس، إذا كان يعطينا أول معلومات جادة عن شبه الجزيرة العربية وأبعاد الحياة فيها، فإن هذا الحديث، رغم كل ما يلقيه من ضوء على هذه النقطة، يبقى حديثا موسوعيا يعنى بالقضايا العامة التي تقترب من المعرفة المجردة بقدر ما تبتعد عن المعلومات التفصيلية المحددة التي تعرف القارئ بالأماكن والقبائل والطرق والمسافات والاتجاهات. وعلينا أن ننتظر حتى العقود الأخيرة من القرن الرابع ق. م. لنشهد مرحلة جديدة في الكتابات الكلاسيكية تنتقل فيها شئون شبه الجزيرة من حديث التعميم والتجريد إلى حديث التخصيص والتحديد، وهو اتجاه ساعدت عليه حركة التخصص العلمي التي بلغت ذروتها عند المفكرين والكتاب اليونان في تلك الفترة، كما واكب وعكس انتقال شبه الجزيرة من حافة الاهتمام الدولي إلى داخل دائرة هذا الاهتمام بعد أن أقدم الإسكندر الأكبر على توسعه الإمبراطوري في الشرق واتجه بتفكيره إلى غزو شبه الجزيرة العربية9. ورغم أن هذا الغزو لم يخرج إلى حيز التنفيذ بسبب الموت المفاجئ للإسكندر في 323 ق. م. إلا أن الاستعدادات التي اتخذها لتحقيق هذا الهدف تضمنت إرسال عدد من قادته وأعوانه للتعرف المبدئي على شبه الجزيرة فيما يخص مساحتها وسواحلها وبعض الجوانب الأخرى التي تتصل بها10. وقد سجل المعلومات التي حصل عليها هؤلاء, اثنان من الكتاب الكلاسيكيين: أحدهما متخصص في الأمور العسكرية وهو بطلميوس ptolemaios ابن لاجوس، أحد رفاق الإسكندر وقواده البارزين، والثاني، وهو أرستوبولوس aristoboulos، رجل عسكري آخر من ثقات الإسكندر، ولكنه متخصص   9 كان أبرز معالم حركة التخصص العلمي آنذاك هو معهد اللوقيون الذي أسسه أرسطو وكان أول رئيس له. عن الدوافع وراء تفكير الإسكندر المقدوني في غزو شبه الجزيرة العربية راجع الحديث عن العلاقات الخارجية لشبه الجزيرة العربية في القسم الثالث من هذه الدراسة. 10 arrianos: anabasis, VII, 20: 8-10, strabo: XVI,4:4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 في الكتابة عن المسائل الجغرافية، والقضايا المتعلقة بالتاريخ الطبيعي، وقد وصلتنا دراسات هذين الكاتبين عن طريق كاتب كلاسيكي لاحق هو أريانوس arrianos, كما وصلت أجزاء منها ومن بقية المعلومات المتعلقة باستعدادات الحملة عن طريق كاتب كلاسيكي آخر هو سترابون11. ومن هذه الكتابات نعرف تقويم هؤلاء المتخصصين لشبه الجزيرة العربية آنذاك, فمساحتها "حسب تقديرهم" تقارب مساحة الهند، وساحلها المطل على البحر الأحمر يبلغ طوله من رأس الخليج أيلة "خليج العقبة حاليا" شمالًا إلى مدخل البحر الأحمر عند طرفه الجنوبي 14 ألف ستاديون "حوالي 2590 كيلومترًا"، وسواحلها تصلح لإقامة المدن وإنشاء المرافق، هذا إلى جانب معلومات عن الأماكن التي توصل إليها قادة الإسكندر على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، والجزر الصغيرة القريبة من هذا الساحل، وسكانه وعادتهم ومواردهم وأهم هذه الموارد -وهو الطيوب والتوابل- ونوعية الأماكن التي تنبت بها12. وإذا كان اهتمام هذين الكاتبين قد عكس اهتمام الإسكندر، فسجلا أول تفاصيل عن مساحة شبه الجزيرة وسواحلها، فإن كاتبًا متخصصًا ثالثًا ينتمي إلى الفترة ذاتها، وهو ثيوفراستوس THEOPHRASTOS، وكان أخصائيا في التاريخ الطبيعي وأحد تلاميذ أرسطو وخليفة هذا المفكر في رئاسة معهد اللوقيون LYKEON, كان أول من ذكر السبئيين وتكلم بشكل تشريحي عن اللبان والمر الذي تستنتجه منطقتهم، كما أعطانا معلومات عن تجارتهم   11 arrianos: ذات المرجع، المقدمة، وفيها يذكر أريانوس أن كلًّا من هذين الكاتبين قد كتب دراسة عن الإسكندر، كما يذكر أسباب اعتماده في دراسته على ما كتباه، strabo: XVI, 1: II, 3:2, 3, 5, 7. 12 arrianos: VII, 19:6,20 راجع كذلك الحاشية السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وسفنهم13, ويبدو من حديثه أنه اعتمد، في كثير من المعلومات التي أوردها، على تشريح العينات التي كان أعوان الإسكندر يرسلونها إلى معهد اللوقيون حتى بعد وفاة القائد المقدوني14.   13.theophraslos: peri phyton historias, IX,4 14 G. Sarton A History of Science "1953" ص 544. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ب- كتاب العصر المتأغرق : وقد كان هذا الاهتمام العلمي المتخصص بشئون شبه الجزيرة العربية بداية لاهتمام مكثف من جانب الكلاسيكيين بهذه المنطقة في العصر المتأغرق "وهو العصر الذي امتد عبر ثلاثة قرون بعد الإسكندر حتى قيام الإمبراطورية الرومانية قبل الميلاد بثلاثة عقود" وقد برز هذا الاهتمام المكثف بين هؤلاء الكتاب في ضوء اهتمام اقتصادي كبير من جانب دولتين من الدول المتأغرقة التي قامت على أثر تقسيم إمبراطورية الإسكندر "وهما دولة البطالمة في مصر ودولة السلوقيين في سورية" بالعلاقات التجارية مع شبه الجزيرة والخطوط التجارية الموصلة إليها. وربما كان من الحقائق التي لا تخلو من مغزى أن أبرز ثلاثة من هؤلاء الكتاب كانوا يرتبطون بشكل أو بآخر بالإسكندرية، عاصمة البطالمة وأكبر وأنشط ميناء للتجارة الواردة من شبه الجزيرة إلى شرقي البحر المتوسط والتي كانت, في الوقت ذاته، تشغل المركز الرئيسي للحركة العلمية التي كان يقوم عليها علماء جامعة الإسكندرية ومكتبتها آنذاك. وقد كان أحد أمناء هذه المكتبة، وهو إراتوسثنيس "إراتسطين عند العرب" eratosthenes الجغرافي "275-194ق. م" أول هؤلاء الكتاب. وتتخذ المعلومات التي يقدمها عن شبه الجزيرة العربية في كتاباته أبعادا جديدة تعكس بشكل علمي جدية الاهتمام الاقتصادي بالمنطقة. فلأول مرة نجد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الكتابات الكلاسيكية تقسيما لشبه الجزيرة بشكل دقيق على أكثر من صعيد. فهي تنقسم في المقام الأول إلى بلاد العرب الصحراوية arabia eremon وبلاد العرب الميمونة arabia eudaemon يفصل بينهما خط يبدأ عند هيروي heroe "قرب ميناء السويس الحالية" ويتجه نحو الشرق مارًّا بعدد من الأقوام قبل أن يصل إلى نهايته عند بابل15. والكاتب يحدد طول هذا الخط والمسافة بينه وبين السواحل الجنوبية كما يعطينا طول ساحل شبه الجزيرة المطل على البحر الأحمر, كذلك يقسم الكاتب المنطقة من الشمال إلى الجنوب حسب نوع الحياة الاقتصادية التي يمارسها السكان مبتدئا بالفلاحين ثم البدو أو سكان الخيام skenitae ومنتهيا بالزراعة المكثفة التي تتم مرتين في العام في الجنوب حيث توجد أنهار "ربما يقصد الوديان التي كانت تملؤها السيول نتيجة للأمطار في المواسم المطيرة" تغذي السهول والبحيرات بالماء، وينهي الكاتب حديثه بذكر الأقوام الأربعة الرئيسية التي كانت توجد بجنوبي شبه الجزيرة وهم المعينيون minaioi والسبئيون sabaioi والقتبانيون katabaneis والحضارمة chatramotitae محددًا المكان الذي يشغل كل قوم منهم وعواصمها والحياة السياسية التي يمارسونها، كذلك يتحدث بالتخصيص والتفصيل عن مواردهم الاقتصادية ويعطينا للمرة الأولى هيكلا عاما للخطوط التجارية البرية والبحرية التي تصل المنطقة بميناء أيلة "على خليج العقبة" شمالا وجرها على الخليج في الشمال الشرقي16. والكاتب الثاني الذي تطرق لشئون شبه الجزيرة في الفترة التي امتد عبرها العصر المتأغرق هو أجاثار خيديس agatharchides، وهو يوناني سكندري كان على صلة بالبيت المالك البطلمي، والكتاب، الذي ظهر في الثلث الأخير من القرن الثاني ق. م. عرف باسم "الطواف حول البحر الأريتري" والذي يصف   15 strabo: XVI,4:2. 16 ذاته XVI,4:2,4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فيه الكاتب الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية ضمن وصفه لسواحل البحر، هو نوع من الكتب التي كان يطلق عليها كتب الطواف periploi والتي كانت تظهر من حين لآخر في العصر اليوناني الروماني كدليل للملاحين والتجار، يعرفهم بالمدن التي يمرون بها أو يرسون في موانئها. وظهور هذا الكتاب يدل على مدى النشاط التجاري بين الدول المتأغرقة وبين الجزيرة العربية بالدرجة التي جعلت هذا الظهور أمرا واردا. والجديد الذي يقدمه هذا الكتاب في مجال الاهتمام بشئون شبه الجزيرة هو التفصيل الذي يعمد إليه الكاتب في وصف مناطق الطيوب والتوابل، وبخاصة منطقة سبأ التي يسهب في وصف مواردها وثروتها وحياة البذخ التي كان يمارسها سكانها، أو بالأحرى التي كانت تمارسها الطبقة الأرستقراطية من هؤلاء السكان17. أما الكاتب الثالث الذي يمثل هذه المرحلة فهو أرتميدوروس artemidoros "اشتهر بين 104 و 101 ق. م" الذي أقام بعض الوقت في الإسكندرية وحرر فيها عددا من الكتابات تناول في بعضها شئون شبه الجزيرة العربية بصورة تهدف إلى تعريف الرجل المثقف بشئون المنطقة، وهو ينقل كثيرا عن أجاثار خيدس ويتبع طريقته في تفصيل المعلومات عن أقسام شبه الجزيرة، ولكنه يزيد عليها قدرًا لا بأس به من التفاصيل والمعلومات الجديدة، ففيما   17 عن الفترة التي يمثلها الكاتب، يرجح أن أجاثار خيدس كان حوالي 116 ق. م. مربيًا لأحد البطالمة، لعله بطلميوس سوتر الثاني "141-81 ق. م." راجع: E. H. Warmington:Agatharchides OCD وعلى أي الأحوال فهو سابق لسترابون "63/64 ق. م -21م على الأقل" طالما أن سترابون ينقل عنه، الكتاب صدر تحت عنوان peri fas erythras tnalasses راجع: G. Mueller: Geographiei Graeci Minores ج1 صفحات 186 وما بعدها، عن كتب الطواف في العصر اليوناني الروماني راجع: F.Gisinger: Periplus, RE وصف البذخ في مناطق الطيوب والتوابل في الباب الخامس من كتاب أجاثار خيدس, هذا الوصف وصلنا منقولا في diodoros: III,46-7 في artemidoros منقولا بدوره في strabo: XVI,4:19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 يخص الساحل الغربي لشبه الجزيرة "الذي يهم البطالمة في مصر بوجه خاص" يعد أرتميدوروس نحو 13 موقعا، كما يتحدث عن ثمانية أقوام عربية كبيرة في المنطقة، ثم هو لا يكتفي بنقل الحديث العام عن الطرق التجارية البرية التي تتبعها القوافل بين سبأ من جهة وكلٍّ من وادي الرافدين وأرض الأنباط من جهة أخرى, وإنما يلقي ضوءًا على طريقة انتقال التجارة على طول هذه الطرق، فيذكر أنها تنتقل من قبيلة إلى القبيلة المجاورة "بهدف ضمان الحماية دون شك" حتى تصل إلى الأماكن المقصودة. كذلك نجد هذا الكاتب يفصل الحديث في فكرة إراتوسثنيس إلى ذكرها بشكل عام وهي طريقة الحكم في منطقة من أهم مناطق شبه الجزيرة وهي سبأ، كما يبدي عددا من الملاحظات عن العلاقات بين عدد من أقوام شبه الجزيرة، وهي الأقوام المجاورة لشواطئ البحر الأحمر، وعن العلاقات بين أحد هذه الأقوام وهم الأنباط، والقوى الخارجية18.   18 منقول في strab: XVI,4: 18-19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ج- كتاب العصر الروماني : وقد استمر اهتمام الكتاب الكلاسيكيين بشئون شبه الجزيرة العربية في العصر الإمبراطوري الروماني "الذي بدأ في 27 ق. م" وكان استمرار هذا الاهتمام وتزايده يشكل انعكاسا واقعيا لاهتمام روما بشبه الجزيرة العربية لأكثر من سبب، من بينها إطلال الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية على مشارف شبه الجزيرة، واهتمام الرومان بتأمين الخط الملاحي البحري من الشرق بعد أن أصبح الخط التجاري البري مع الشرق الأقصى، مرورا بآسيا الصغرى والوسطى مهددا من حين لآخر من قبل الفرثيين في إيران، وتزايد استهلاك الطيوب في عاصمة الإمبراطورية، ومن هنا فقد تناول كتاب العصر الروماني شبه الجزيرة العربية من عدة منطلقات أو زوايا تمثل تعدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 جوانب الاهتمام الذي ظهر في هذه المرحلة بشئون شبه الجزيرة19. وأول الكتاب الذين ينتمون إلى هذه المرحلة، وهو الجغرافي سترابون strabo لا يسعى إلى التعريف بكل الأماكن الموجودة في شبه الجزيرة أو التفصيل في الحديث عن كل جوانب الحياة فيها، كما كان يحاول من سبقه من كتاب العصر المتأغرق، وربما كان ذلك نتيجة لتصوره المعلومات الجغرافية على أنها من لوازم رجل السياسة في معالجته للشئون العامة، وهو تصور أعرب عنه بصراحة في الكتاب الأول من دراسته الجغرافية الكبيرة20. ويبدو أن هذا التصور كان وراء انتقائه أو استبعاده لهذا الجانب أو ذاك في جمعه لمعلوماته عن شبه الجزيرة العربية، بحيث جاءت في محصلتها النهائية أقرب إلى أن تكون دليلا جغرافيا سياسيا عن المنطقة لرجل السياسة المثقف. ومن هذا المنطلق فهو لا يذكر "أو ينقل عن سابقيه" من الأماكن الواقعة على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة أو الواقعة قرب هذا الساحل سوى مدينتين وجزيرتين من جزر الخليج, رأى فيها مواقع ذات أهمية تجارية21، كذلك نجده يهتم بالحديث عن التغيير الذي عاصره في مسار الخطوط التجارية البحرية والبرية من موانئ وطرق الجانب الشرقي للبحر الأحمر إلى موانئ وطرق الجانب الغربي لهذا البحر محددا بدايات الخطوط ونهاياتها والمواقع التي تمر بها قبل التغيير وبعده22. وهو يتعرض لنظام الحكم الذي كان يسود بعض المناطق العربية التي يبدو أنها كانت، في تقديره، على قدر من الأهمية السياسية أو الاقتصادية أو بسبب موقعها واتصالاتها الخارجية، كما يتعرض للعلاقات   19 راجع الجزء الخاص بالعلاقات الخارجية لشبه الجزيرة في القسم الثالث من هذه الدراسة. 20 strabo: XVI,I ,1:16-18. 21 ذاته XVI 3:24. 22 ذاته: XVI, 4.24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 بين أقوام المنطقة وغيرهم مضيفا معلومات جديدة إلى ما ذكره سابقوه من الكتاب في هذا الصدد23. على أن أهم ما قدمه إسترابون هو وصفه للحملة الرومانية على الجزيرة العربية، وهي الحملة التي قادها إبليوس جالوس aelius gallus، أول والٍ روماني على مصر. وقيمة حديثه عن هذه الحملة هو أنه كان معاصرا لها كما كان صديقا شخصيا لقائدها، ومن ثم كان في مقدوره الحصول على معلومات قد لا تتيسر لغيره. وهو يفيض في الحديث عن هذه الحملة, فيحدثنا عن الأسباب التي دفعت أغسطس "أول إمبراطور روماني" إلى التفكير يها، ثم يتحدث عن الاستعدادات التي سبقتها والطريق التي سلكتها، كما يعطي تصوره عن الأخطاء التي وقع فيها قائدها إيليوس جالوس وينهي حديثه في هذا المجال بما قامت به روما من تحقيق في مسار هذه الحملة ونتيجتها وتصرفها إزاء المسئولين عن هذه النتيجة24. ولكن الكتابة التي تقدم المعلومات بهدف تثقيف المشتغلين بالأمور السياسية لم تمثل إلا جانبا واحدا من اهتمامات الكتاب في العصر الروماني بشئون شبه الجزيرة، فقد ظهر عدد من بين هؤلاء هدفوا من كتاباتهم إلى تقديم كل ما يمكن تقديمه من معلومات عن شبه الجزيرة على أساس استقصائي علمي أو قريب من العلمي بقدر المستطاع، بحيث تكون هذه الكتابات مرجعا لمن يريد التعرف على المنطقة لسبب أو لآخر، سواء من السياسيين أو من غير السياسيين، وأحد هؤلاء هو جايوس بلينيوس سيكوندوس gAIUS pLINIUS SECUNDUS المعروف   23 ذاته: xvi,4: 21, 25-6. 24 ذاته: xvi,4: 22-24. هذا ويرى بعض الباحثين أن سترابون رافق الحملة، ولكني أرى في حديثه xvi, 4,24 ما ينفي هذا الزعم بشكل حاسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 باسم بلينيوس الأكبر "24/23-79م". وقد تناول شئون شبه الجزيرة بتفصيل كبير في قسمين من دراسته المستفيضة "التاريخ الطبيعي" HISTORIA NATURALIS التي نستطيع أن نصفها بأنها دراسة تهدف إلى الثقافة العلمية الموسوعية. وفي أحد هذين القسمين يتحدث بلينيوس بشكل موسوعي عن كافة الأمور المتعلقة بشبه الجزيرة فيما يخص مساحتها وثرواتها وما فيها من المدن والمواقع والرءوس والخلجان والجبال والقبائل والأقوام وأسمائها والطرق المتعددة لنطق هذه الأسماء والأوضاع الاقتصادية لهذه القبائل والأقوام والمناطق التي تقطنها وبعض الأحداث التاريخية التي مرت بها وطرق التجارة في شبه الجزيرة والمسافات بين بعض المراكز التجارية. وهو يقدم كل ذلك في قدر كبير من التفصيل والتدقيق لا يفوته أن ينوه به بين الحين والآخر25. أما القسم الآخر من حديث بلينيوس عن شبه الجزيرة فهو ما يتميز به هذا الكاتب. وفي هذا القسم يقدم بلينيوس تحقيقا علميا عن طيوب شبه الجزيرة وتوابلها لا نجده عند من سبقه من الكتاب، سواء منهم المؤرخون أو الجغرافيون أو علماء التاريخ الطبيعي، فاللبان، مثلا، لا يوجد في غير الجزيرة العربية وهو لا ينتج إلا في حضرموت بالذات، والمر والمستكة وصمغ اللادن وعدد آخر من الأخشاب العطرية تشترك شبه الجزيرة في إنتاجها مع عدد من البلاد الأخرى التي يحددها الكاتب. أما القرفة والقصيعة فهي لا تنتج في شبه الجزيرة ولكن يحصل عليها التجار العرب من بلاد أخرى ويعيدون تصديرها، وهو يحدثنا حديثا مفصلا عن أشجار كل من هذه الطيوب والتوابل ومواسم المحصول وطريقة استخراجه وجمعه، واحتكار بعض الأسر لتجارة بعض أنواعه، والأماكن التي تشتهر بكل نوع, وطرق التمييز بين النقي منه والمغشوش ووسائل   25 plinius: HN,VI 147-162, تنويه بلينيوس بتصحيح أو تدقيق معلومات سابقيه، يرد في ذاته: الباب ذاته، فقرات 139, 156, 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 غشه ثم طرق نقله إلى شواطئ البحر المتوسط. وهو في حديثه عن أثمان هذه الطيوب يلقي أضواء مهمة على بعض جوانب الحياة في شبه الجزيرة، من بينها الشعائر الدينية التي تواكب معالجة لحاء الأشجار لاستخراج اللبان على سبيل المثال، وتكاليف هذه الشعائر، والأثمان النهائية لأنواع اللبان بعدما تتم كل المعاملات وتحصيل الضرائب عليه وهكذا26. والنوع الثالث من الكتابات التي ظهرت عن شبه الجزيرة العربية في العصر الروماني، فهي استمرار لكتب الرحالة أو كتب الطواف periploi التي مر بنا ذكرها، ولكن في تفصيل أكثر دقة مما كان معروفا من قبل، وقد وصل إلينا كتاب أو دليل من هذا النوع لكاتب غير معروف الاسم ولكن يبدو أنه كانت تاجرا يونانيا من مصر، وقد وصل الكتاب إلينا تحت العنوان الشائع "الطواف حول البحر الأريتري" وفيه يصف الكاتب الطرق التجارية بين مصر والهند، مرورا بشواطئ شبه الجزيرة، والكتاب يحوي معلومات كثيرة من ذلك النوع الذي يحتاج إلى معرفته الملاحون والتجار، سواء في ذلك ما يتصل بالملاحة والأسواق أو ما يتصل بالمعلومات العامة عن البلاد التي تقع على السواحل العربية أو على مقربة منها. فهو يتحدث مثلا عن خطورة الملاحة حول سواحل شبه الجزيرة حيث الموانئ نادرة والمراسي عسرة المسلك، كما يقدم وصفا لسوق موزا MUZA "مخا الحالية" وهو يذكر شيئا عن الأنباط وعن اسم ملكهم الذي كان معاصرا للوقت الذي كتب فيه. كذلك أشار هذا الكاتب إلى علاقة الإمبراطورية الرومانية بشبه الجزيرة العربية في جملة قصيرة مفادها أن "قيصر" أخضع عدن قبل وقته بسنوات قليلة، دون أن يحدد اسم هذا القيصر؛ مما أدى إلى جدل طويل بين الباحثين في الوقت   26 ذاته: xii,51-99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الحاضر حول كنه هذا الحدث الذي أشار إليه وحول توقيته27. أما النوع الرابع من الكتابات العلمية التي ظهرت في العصر الروماني والتي تعرضت، فيما تعرضت إليه، إلى شبه الجزيرة العربية، هو تلك الدراسات التي كتبت للمثقفين على مستوى التخصص. وقد تمثل هذا النوع من الكتابة في الدراسة الجغرافية التي قام بها كلاوديوس بطلميوس claudius ptolemaius الذي عرفه العرب تحت اسم بطلميوس القلوذي أو بطلميوس الجغرافي، وهو يوناني من مدينة بطلمية ptolemais في صعيد مصر، قام بأبحاثه خلال النصف الأول من القرن الثاني الميلادي "121-151م". والدراسة التي قدمها تحت اسم الدليل الجغرافي geographike hyphegesis والتي يعتقد أنه قام بها تصحيحا لما قام به جغرافي سابق هو مارينوس marinus الذي ينتسب إلى مدينة صور "120م" تعتبر أشمل ما ظهر حتى ذلك الوقت، كما تعتبر الخريطة التي أرفقها بها أدق خريطة وضعت في العصر القديم، ومن ثم ظلت الخريطة المعمول بها حتى بدايات العصر الحديث. وأهم ما يسترعي النظر في دراسة بطلميوس عن شبه الجزيرة العربية هو محاولته لضبط الحدود والتقسيمات والأماكن عن طريق خطوط الطول والعرض. ورغم أن خطوط الطول التي قدمها لا تتفق مع نظائرها بسبب خطأ عنده وبسبب التحريف الذي طرأ على درجاتها على يد النساخ المتعاقبين لهذه   27 الكتاب محرر باليونانية وإن كان قد عرف تحت عنوانه المترجم إلى اللاتينية periplus maris erythrael. عن تاريخ ظهوره هناك من يقول بأن ذلك كان في القرن الأول الميلادي، راجع: anderson:cah ج10، صفحات 881-883. بينما يذهب آخرون إلى أن الكتاب ظهر في القرن الثالث الميلادي مثل: jacqueline pirenne: la date de periplee de la mer erythree "ta" "1916"، صفحات 44 وما بعدها، الإشارة إلى إخضاع قيصر لعدن ترد في periplus:26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الخريطة، ورغم أنه يترك بعض المناطق، مثل الركن الشمالي الشرقي لشبه الجزيرة بين خطي عرض 33 و35.5 شمالًا دون أن يسجل فيه مكانا واحدا، بينما يكدس في القسم الجنوبي الشرقي منها عددا كبيرا من الأسماء لا ينتمي بعضها إلى المنطقة، بالرغم من كل هذا فالدراسة والخريطة لا تفقدان ما أسلفت الإشارة إليه من قيمتهما كأدق ما وصل إلينا عن المنطقة من العصر القديم. وقد قسم بطلميوس شبه الجزيرة العربية إلى ثلاثة أقسام: العربية الصحراوية arabia erema والعربية الصخرية والحجرية arabia petraea والعربية الميمونة arabia eudaemon. والحدود التي وضعها لهذه الأقسام هي أول حدود لا تعطى بشكل عام تقريبي كما كان الحال مع سابقيه28، فهو يعطينا أسماء المواقع وخطوط الطول والعرض التي تحدد هذه الأقسام. ونحن إذا أدخلنا في اعتبارنا الخطأ الذي وقع فيه بطلميوس في خطوط الطول والعرض، وجدنا هذا التحديد يتفق مع التضاريس الطبيعية للمنطقة، وتبقى هناك ملاحظة على الخريطة المذكورة وهي أننا نستنتج من حديث بطلميوس أنه يضع الطرف الشمالي للخليج في مكان قريب من مدينة النجف الحالية، ولكنا نستطيع أن نفهم السبب الذي حدا به إلى ذلك إذا تذكرنا أن الكتاب الكلاسيكيين كانوا يعتبرون مستنقعات الأهوار الواقعة في جنوبي وادي الرافدين والتي تبدأ قريبا من موقع مدينة النجف الحالية امتدادًا للخليج, وهو رأي يظهر واضحا من تعريف بطلميوس للحدود الجانبية لوادي الرافدين29.   28 من بين هؤلاء، على سبيل المثال, didorus:II,54,strabo: XVI, 2:2,3,3:1 كذلك أراتوستنيس في strabo: XVI,4:2. 29 ptolemaios: gegr: V,14:5,18-19 الساحل الشمالي للخليج الفارسي عند بطلميوس، ذاته، 19: VI,7:19 راجع حديث بلينيوس عن تراجع الخليج أمام الطمي الذي يحمله النهران plinius: HN,vi, 139-40 -الأمر الذي يجعلنا نفهم إلى حد ما اعتبار بطلميوس لبداية منطقة الأهوار على أنها بداية للخليج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وقبل أن أختم الحديث عن الكتاب الكلاسيكيين في العصر الروماني المبكر، أعرض لواحد منهم لا يمكن تصنيفه ضمن هذه الاتجاهات الأربع السابقة التي عكست اهتمام الرومان بالمنطقة العربية في حد ذاتها، وهذا هو المؤرخ اليهودي فلافيوس جوزيفوس flavius josephus "ولد في 37 أو 38م وتوفي حوالي نهاية القرن الأول الميلادي". ويختلف يوسفوس عن كتاب هذه المرحلة في أنه لم يكتب عن العرب وأحوالهم مباشرة وإنما جاءت كتابته عنهم بشكل جانبي أو غير مباشر في أثناء حديثه عن تاريخ اليهود. ويرد حديثه عن العرب في اثنين من كتبه هما "تاريخ حرب اليهود ضد الرومان" historia loudaikou polemou pros romaious، الذي ظهر بين 75 و79م. وهو يقع في سبعة أبواب تتضمن مقدمة عن تاريخ اليهود منذ استيلاء أنتيوخوس إبيفانوس antiochos epiphanos على القدس في 170 ق. م. وتنتهي بسقوطها مرة ثانية في 70م في يد الرومان على عهد تيتوس titus. أما الكتاب الثاني فهو "أخبار اليهود القديمة" he loudaike archaiologia الذي ظهر في 93-94م وفيه يتحدث عن عقائد اليهود وتاريخهم منذ بدء الخليقة حتى 66م. وفيما يخص تقويم هذين الكتابين لنعرف الحدود التي يمكننا أن نعتمد، داخل نطاقها، على إشاراته إلى العرب، نستطيع أن نقسم ما جاء بهما، من الناحية الزمنية، إلى فترتين: الفترة الأولى تمتد من بدء الخليقة حتى 170ق. م. وهذه إما تعتمد على التوراة كمصدر لها ومن ثم نستطيع في مثل هذه المواضع أن نعتمد على التوراة مباشرة كمصدر أول في هذا الصدد، أو على الرواية اليهودية وهذه لا نستطيع تحقيقها في كل الأحوال، أو على كتاب سابقين مثل بيروسوس berosus البابلي ومانيثون manethon المصري وديوس dius الفينيقي وغيرهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 والأخبار التي تعتمد فيه على هؤلاء ممدودة من جهة، كما أنه يبدو من جهة أخرى أن المؤرخ لم يعرف نصوص هؤلاء الكتاب مباشرة وإنما عرفها من خلال كاتب آخر هو نيقولاس nicolas الدمشقي ومن ثم تصبح أخباره هنا من الدرجة الثالثة. أما الفترة الثانية فهي التي تقع بين 170 ق. م و70م. وقد عاصر القسم الأخير من هذه الفترة معاصرة مباشرة في أثناء حياته، إما رؤية أو سماعًا وكان في بعض الأحيان في موقف من يعرف بواطن الأمور بحكم مركزه الاجتماعي، فقد كان من أسرة أرستقراطية، أو بحكم مركزه الرسمي فقد كان مساعدًا لحاكم الجليل في 66م, على سبيل المثال. أما القسم السابق لحياته من هذه الفترة فيمكن أن نعتمد على أخباره عنه بصفته قسما قريبا من المعاصر، وبخاصة إذا عرفنا أن يوسفوس كان من رجال الدين، ورجال الدين اليهود يتصفون بالحرص عادة، إن لم يكن في الواقع دائما, بتسجيل الأخبار التي تخص تاريخ شعبهم. والأمر الثاني الذي يجب أن ندخله في اعتبارنا في هذا الصدد هو أن اتجاه هذا المؤرخ يختلف في أحد هذين الكتابين عنه في الكتاب الآخر. ففيما يخص كتابه عن "حرب اليهود" نجد أنه كان مواليا للإمبراطورية الرومانية ومن ثم فهو يقف ضد التعصب القومي لليهود ويظهر الرومان بأنهم أصحاب القوة التي لا تقهر، بل إنه حين كان يشغل منصب مساعد الحاكم لمنطقة الجليل كان همه الأساسي هو كبح جماح الثورة اليهودية، أما كتابه عن "أخبار اليهود القديمة" فقد كتبه في أثناء حكم الإمبراطور دوميتيانوس DOMITIANUS الذي اتسم عهده بتضييق الخناق على الكتابات الأدبية عموما وعلى الكتابات التاريخية على وجه التحديد، ومن ثم فقد كان رد الفعل عند يوسفوس هو الابتعاد عن الولاء للإمبراطورية الرومانية والاتجاه نحو تمجيد اليهود وبخاصة في ثقافتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ودينهم. وطبيعي أن اتجاه هذا المؤرخ في كل من الكتابين لا بد أن نتذكره ونحن بصدد معالجة ما يرويه لنا من أخبار عن العرب أو عن علاقة اليهود بالعرب. كذلك فنحن نجد يوسفوس أو الذين ساعدوه في إخراج كتابيه في صيغتهما النهائية30، لا يتحرى "أو لا يتحرى مساعدوه" الدقة العلمية في بعض الأحيان. ويظهر هذا بشكل واضح في كتابه عن "أخبار اليهود القديمة" ففي أحد المواضع، على سبيل المثال, نجد وصف إحدى المعارك مأخوذا من وصف معركة مذكورة في تاريخ المؤرخ اليوناني ثوكيديديس THUKYDIDES عن الحروب البلوبونيسية "القرن الخامس وأوائل الرابع ق. م"، وفي موضع آخر نجد لمسات واضحة من إحدى فقرات المؤرخ هيرودوتوس herodotos "أواسط القرن الخامس ق. م." وفي موضع ثالث يستعير الكاتب وصفه من إحدى   30 كتب يوسفوس كتابه عن "تاريخ حرب اليهود ضد روما" بالآرامية أولًا ثم ترجمه إلى اليونانية بمساعدة آخرين، ويبدو من سلاسة الأسلوب أن هؤلاء المساعدين قاموا بترجمة الكتاب كله دون أن يشترك يوسفوس في هذه الترجمة. أما كتابه عن "أخبار اليهود القديمة" فقد كتبه باليونانية وساعده آخرون في بعض المواضع كما يشهد على ذلك تأرجح الأسلوب بين السلاسة والمعاناة اللغوية، ويشير يوسفوس نفسه إلى هؤلاء المساعدين sunergol فيما يخص كتابه الأول في مقالته "ضد أبيون" "كان أبيون عالما سكندريا مشهورا بمعاداته لليهود"1.50 راجع في هذا: A.H.M. Jones: josephus, o.c.d. H. ST. J. Thackeray: josephus, the man and the his. torian, new york, 1929 "lecture V": Josephus, LCL Vol. IV "Jewish antiquities", introduction, pp. XIV XV. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 مسرحيات سوفوكليس "القرن الخامس ق. م."31. وحقيقة أن الأمر في هذه الفقرات يقتصر على التصوير الفني لموقعة أو حدث، وهو أمر قد يجنح إليه غيره من المؤرخين الكلاسيكيين، ولكن مع ذلك يجدر بنا أن نستحضره في ذهننا عند اعتمادنا على أخبار العرب الواردة في الكتابين المذكورين. على أن هناك ميزةً لهذا المؤرخ، وهي أنه يتقصى أخبار العرب وبخاصة في علاقاتهم باليهود بشكل يعطينا الخلفية التي كثيرا ما تساعدنا على التفهم الكامل لبعض المواقف كما نرى، على سبيل المثال، في حالة شلَّاء "سللايوس syllaeus عند الكتاب الكلاسيكيين" الوزير العربي في عهد عبيدة الثالث ملك الأنباط "30-9ق. م." فبينما يقتصر كاتب مثل سترابون على وصف هذا الوزير بالطموح وقوة الشخصية نجد يوسفوس يتحدث عن الوزير العربي بشكل تفصيلي فيذكر خططه لكي يحل محل عبيدة كملك على الأنباط وكيف كان هذا التخطيط، على الأقل بشكل جانبي، وراء تفكير شلاء في الزواج من سالومي أخت هيرودوس ملك إقليم "يهودية" حتى يكتسب صفة الامتزاج بالدماء الملكيةأ.   31 عن التأثر بدرجات متفاوتة، والمقصود هنا هو كتاب "أخبار اليهود القديمة": josephos: IV, 91= sophokies: oidipous epi kolonol, 589: thuk III,22. josephos: IV,92=thuk.: VII,83,sq. Josephos: IV,134=herodotos: IV,111-114. أ Josephos: loud. arch, XVI, 7:9-10: VVII, 3:4-5: loud. pol, I,24,28-32. strabon: XVI, 4:21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 د - كتاب العصر الإمبراطوري الروماني المتأخر: وأخيرا أنقل الحديث إلى الكتاب الكلاسيكيين الذين ظهروا في المرحلة المتأخرة من العصر الإمبراطوري الروماني, وهنا نجد نوعية مختلفة من المعلومات عن العرب. فبينما كان اتجاه الكتاب الكلاسيكيين حتى هذه الفترة فيما يجمعونه من أخبار عن العرب وعن شبه جزيرة العرب إما يمثل محاولة للتعرف العلمي العام بالمنطقة وسكانها كما كان في المرحلة التي عاصرت الكتاب الأول في القرن الخامس ق. م. أو اهتماما اقتصاديا في أساسه، كما كان الحال في العصر المتأغرق، أو اهتماما موسوعيا عمليا وسياسيا كما كان الحال في المرحلة الأولى من العصر الإمبراطوري الروماني، نجد الأمر يختلف الآن حين نصل إلى المرحلة المتأخرة من هذا العصر. فهذه المرحلة من تاريخ الإمبراطورية الرومانية كانت تسودها مجموعة من التيارات أو العوامل نقلت اهتمام الكتاب الذين ظهروا خلالها فيما يتعلق بالعرب وشبه الجزيرة العربية من الأشكال السابقة إلى شكل جديد. وفي هذا الصدد سيطر على الرومان، بين عدة عوامل أخرى، ثلاثة عوامل رئيسية: أحدها هو الصراع مع الإمبراطورية الفارسية، والثاني هو الصراع مع البرابرة, والثالث هو انتشار العقيدة المسيحية آنذاك في أرجاء الإمبراطورية الرومانية الشرقية، ومن ثم فقد كان اهتمام الكتاب الرومان بالعرب وبشبه الجزيرة، اهتماما جانبيا يكاد ينحصر من جهة في الإمارتين العربيتين الحديتين، اللتين تتبع إحداهما الإمبراطورية الرومانية الشرقية وهي إمارة الغساسنة وتتبع الأخرى الإمبراطورية الفارسية المناوئة وهي إمارة المناذرة، ومن جهة أخرى في الاعتماد على العرب كجنود يعملون بشكل أو بآخر ضمن القوات الرومانية في المعارك بين الرومان والبرابرة، ومن جهة ثالثة في مدى تقبل العرب للعقيدة الجديدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وموقفهم إزاء رجالها والمبشرين بها في المنطقة. وضمن هذه العوامل الثلاثة انحصر اهتمام الكتاب الكلاسيكيين في هذا العصر بالعرب كمجموعة بشرية يتحدثون عنها بشكل جانبي في أثناء حديثهم عن أحوال العالم الروماني وصراعاته، وحين يتحدثون يكون حديثهم عن صفات هذه المجموعة البشرية التي يود الرومان أن يعرفوا إلى أي مدى يمكنهم الاعتماد على خصائصها العسكرية أو ولائها السياسي أو استجابتها الدينية للعقيدة الجديدة. ومن المؤرخين الذين برزوا في هذه المرحلة ثلاثة يمثلون نوعية الاهتمام الجانبي المذكور بالعرب آنذاك. وأول هؤلاء هو يوسيبيوس eusebios الذي نشأ في قيصرية caesarea في فلسطين وأصبح أسقفًا لهذه المدينة في 311م. وقد ألف كتابًا عن أحداث تاريخ اليونان والرومان تحت اسم الحوليات chronika جاءت فيه إشارات عابرة إلى العرب في بعض المواضع، ولكن ربما كان أهم كتبه هو "تاريخ الكنيسة" ekkiesiastikes historias، وهو يحتوي على إشارات متفرقة إلى العرب و"بلاد العرب" التي كان يعني بها دائما المنطقة المجاورة لسورية. والإشارات تدور كلها، دون استثناء، في نطاق انتشار العقيدة المسيحية أو ما يتصل من أشخاص ومواقف وأحداث. فهو يحدثنا مثلا عن أن حاكم بلاد العرب قد أرسل رسالتين إلى والي مصر وإلى أسقف الإسكندرية ليرسلا له الفقيه الديني المسيحي أوريجينيس origines السكندري ليلتقي به، وأن أوريجينيس قد ذهب إليه وأنجز المهمة التي ذهب إليها ب, ويحدثنا كذلك عن بيريللوس beryllos الذي كان أسقفًا في مدينة بصرى في "بلاد العرب" وكيف حاول أن   ب eusebios: ekk. hist. VI 19:15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ينحرف بالكنيسة عن طريق تبني أفكار غريبة عن العقيدة المسيحية وكيف التقى به أوريجينيس السكندري وأعاده إلى طريق العقيدة السوية، وهو أمر يذكر بوسيبيوس أنه حدث في مناسبات أخرى ج, كما يحدثنا عما لقيه بعض رجال الدين المسيحي من تشريد أو استعباد أو قتل على يد العرب "يقصد الوثنيين منهم" د. أما الكاتب البارز الثاني في هذه المرحلة فهو أميانوس ماركلينوس ammianus marcellinus الذي ولد في أنطاكية من أصل سوري في 330م, وعاش في القرن الرابع الميلادي وكان آخر المؤرخين الرومان العظام. وقد كتب كتابا باللاتينية "التي كانت بالنسبة له لغة مكتسبة" أسماه التواريخ historiae يغطي الفترة ما بين 96 أو 378م. وقد اندثرت من هذا الكتاب الأبواب الثلاثة عشر الأولى وتبقى منه القسم الذي يبدأ بالباب الرابع عشر وينتهي بالباب الحادي والثلاثين وهو يغطي الأحداث الواقعة بين عامي 353 و 378م. ورغم أن هذا المؤرخ يشير إلى العرب بشكل عرضي ضمن وصفه لبعض الأحداث مثل غيره من مؤرخي هذه الفترة، إلا لي أن إشاراته تستمد قيمتها من معاصرته للأحداث التي كتب عنها "على الأقل في القسم المتبقي من كتابه" وفي بعض الأحيان من رؤيته لها في أثناء الحملات التي اشترك فيها كرجل عسكري، ومن بينها ملات روما ضد الإمبراطورية الفارسية في الشرق. كذلك يزيد من قيمة هذه الإشارات اهتمامه بملامح الشخصية الجماعية لمن يتعرض لوصفهم، وهو أمر ربما اكتسبه من رحلات المتعددة التي قام بها سواء في أثناء خدمته العسكرية أو في غير ذلك من الأوقات وهي رحلات   ج ibid: VI,33: 1-3, 37-1. د.VIII,12:1 "وهنا يصف العرب بالبربرية" ibid:VI, 42: 3-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 جعلته يحتك بعديد من المجتمعات. أما العامل الثالث الذي يضفي أهمية على كتابته التاريخية فهو طريقته الموضوعية في الكتابة، وهي طريقة أدت بالمؤرخ الحديث جيبون gibbon إلى أن يقول عنه أنه "يكتب بلا أحكام مسبقة وبلا انفعال، وهما صفتان عادة ما تؤثران على من يكتب عن مواقف يعاصرها"، هذا وإن كانت هذه الصفة لا تحول دون وقوع هذا الكاتب في خطأ أو التباس أو مبالغة في بعض الملاحظات التي يبديها عن العرب في بعض الأحيان. ولعل في ذكر بعض إشاراته عن العرب وشبه الجزيرة العربية ما يعطينا فكرة عن هذه الإشارات وعن طريقة تقديمه لها. وأولى هذه الإشارات تصف موقفا في عام 378م. ففي ذلك العام قامت قوة كبيرة من البرابرة مكونة من مجموعات من القوط والألان والهون بالزحف على القسطنطينية بعد أن هزموا الرومان في أدريانوبوليس، وقد سقط في المعركة عدد من القواد الرومان والإمبراطور نفسه وأصبح الموقف حرجًا. وفي هذا الشوط تقدمت الفصائل العربية التي كانت تحارب ضمن القوات الرومانية لمهاجمة البرابرة الغربيين، وهنا يقول أميانوس عن هذه الفصائل التي يسميها فصائل السراكيني saraceni: إنهم "أخذوا المبادرة على أثر حادثة غريبة لم يشهدها أحد من قبل، ذلك أن واحدا من بينهم، وهو رجل ذو شعر طويل وعارٍ إلا من قطعة قماش تغطي عورته، أخذ يطلق صيحات خشنة مخيفة ثم اندفع بسيفه القصير وسط القوطيين، وبعد أن قتل أحد رجالهم ألصق شفتيه بزور الرجل المقتول وأخذ يمص الدم الذي كان يتدفق منه بغزارة، وعند ذلك أصيب البرابرة بالرعب من هذا المنظر الغريب الوحشي، وبعدها فقد هؤلاء ثقتهم المعتادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 بأنفسهم، ولم يعودوا يتقدمون إلا بخطا مترددة كلما أقدموا على أية حركة"هـ. والحديث، رغم غرابته لأول وهلة، قد يكون صادقا، فإلى جانب معاصرة الكاتب له "فقد خدم أميانوس تحت قيادة أورسينيكوس ursinicus في الشرق"، فإن كذلك ليس من المستبعد أن يكون واردا بين بعض القبائل البدوية، ومن غير المستبعد أن يكون لهذا التصرف مغزًى معين "ميثولوجي أو أنثروبولولجي ثقافي" في أذهان عرب البادية. وعلى أية حال فهناك إشارة مباشرة واحدة على الأقل إليه في قصيدة المهلهل بن ربيعة التغلبي "توفي في النصف الأول من القرن السادس م." التي هدد فيها قاتلي كليب من بني بكر حيث يقول: و قل لبني ذهل يردُّونه ... أو يصبروا للصيلم الحَنْفقيقْ فلقد تروَّوا من دم محرم ... وانتهكوا حرمته من عقوقْ ولا يزال أثر هذا التصور سائدًا في الريف العربي حتى الآن، على الأقل من الناحية النظرية، حين نسمع أحدهم يقول عن عدو له: إذا فعل كذا فسأشرب من دمه. وفي موضع آخر يصف بعض عادات العرب "يقصد أهل البادية منهم" فيقول: "إن حياتهم في تنقل مستمر، وهم يتخذون زوجات بموجب عقد مؤقت. ولكي يكون هناك مظهر من الحياة الزوجية، فإن الزوجة المستقبلة تقدم لزوجها رمحًا وخيمة على سبيل المهر، على أن   هـ historiae: XXXI, 16.6. وشيخو وبستاني: المجاني الحديثة، قصيدة الداهية، أبيات 23-24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 يكون لها الحق في أن تتركه "أي زوجها" بعد مدة يتفق عليها فيما بينهما إذا أرادت ذلك، وإن حرارة العاطفة التي يندفع فيها الجنسان أمر لا يصدقه عقل" ح. والملاحظة التي يبديها المؤرخ في القسم الأول من النص "الخاص بالزواج" فيها، على الأقل بالمقارنة بما كان سائدا في الفترة السابقة لظهور الدعوة الإسلامية مباشرة، شيء من الالتباس أو المبالغة، فالمرأة البدوية كان لها دون شك قدر من حرية التصرف أكثر من المرأة الحضرية في المجتمع العربي في العصور السابقة للإسلام، كذلك فإن انفصال الزوجة عن زوجها كان كذلك شيئا واردا، ولكن الوصف الذي يقدمه أميانوس قد لا يستقيم مع بعض الضوابط التي كانت موجودة في الحياة الزوجية عند العرب آنذاك، وإن كان يشير، رغم هذا، إلى ذلك القدر من الحرية الذي كان يعطي المرأة العربية البدوية القدرة على مفارقة زوجها في بعض الظروف، كما نستنتج ذلك واضحًا من الشعر المنسوب إلى هند بنت عتبة وصاحباتها وهن ينشدن محرضين رجالهن ضد المسلمين في غزوة أحد: ط إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق كذلك قد يقع أميانوس في خطأ التعميم في بعض الأحيان، وهو أمر نلحظه حين يتكلم عن تسمية العرب باسم العرب الميامين "السعداء أو المحظوظين" ARABES BEATI وتعليله لهذه التسمية فيقول: "إن   ح OP.CIT: XIV,4. ط ابن هشام: السيرة، تحقيق السقا والإبياري "طبعة القاهرة 1936-1955" ج3، ص72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الفرثيين "الفرس" جيران للعرب الميامين، وقد أطلقت عليهم هذه التسمية لأنهم أثرياء سواء فيما يخص ثمار الحقول أو قطعان الماشية أو التمر أو أنواع الطيوب المختلفة. ويطل قسم كبير من حدودهم على البحر الأحمر من ناحية اليمين "بالنسبة للقادم جنوبا سواء من سورية حيث موطن المؤرخ أو من روما حيث كان يقيم" بينما يحدهم البحر الفارسي من اليسار. والناس "في هذه البلاد" يعرفون كيف يحصلون على كل الميزات من هذين العنصرين "البحرين". وعلى هذين الساحلين توجد مواضع كثيرة لرسوِّ السفن وموانئ آمنة كثيرة ومدن تجارية مستمرة في خط لا ينقطع، وقصور ملكية على قدر كبير من الفخامة والزخرف، وعيون من المياه الحارة بطبيعتها والتي تهب المرء الصحة، وعدد كبير من الأنهار والجداول. وأخيرا فإن الجو هناك صحي لدرجة أنهم، في نظر أي شخص له حكم صائب، لا ينقصهم شيء من مقومات السعادة الغامرة، كذلك فهناك عدد كبير من المدن سواء على الساحل أو في الداخل ذات سهول ووديان غنية" ي. وواضح هنا اهتمام المؤرخ ليس بإعطاء صورة مفصلة لاقتصاديات شبه الجزيرة أو حتى جغرافيتها الدقيقة على نحو التفصيل الذي رأيناه عند مؤرخي وجغرافيي المرحلة المبكرة من العصر الإمبراطوري الروماني من أمثال سترابون وبلينيوس وبطلميوس الجغرافي أو حتى من أتى قبلهم من الكتاب الكلاسيكيين، بل إنه يخطئ في ذكره لوجود عدد كبير من الأنهار والجداول، فشبه الجزيرة العربية لا توجد بها أنهار أو جداول على الإطلاق ومن المرجح أن ما يقصده أميانوس بذلك هو الوديان التي تملؤها مياه الأمطار في موسم المطر. وإنما يستهدف المؤرخ   ى Op.cit.: XIII,4:45-7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 هنا وصف شخصية المجتمع العربي ذاته كمجتمع سعيد وإبراز مقومات هذه السعادة. ولكن مع ذلك فالمؤرخ يقدم نغمة واضحة في حديثه، فمن الواضح أنه يتحدث هنا عن المجتمع العربي الحضري، فهو يتحدث عن الزراعة والتجارة والمدن ويسمي السكان باسم العرب arabes مقابلًا بذلك بينهم وبين المجتمع البدوي وسكان من الأعراب الذين أسماهم سراكيني Saraceni كما رأينا في أحد نصوصه التي أسلفت ذكرها. على أننا رغم ذلك يجب أن نحترس من التعميم الذي وقع فيه حين أضفى وصفه في مقومات ما يوجد فيه المجتمع العربي الحضري من السعادة على كل طبقات هذا المجتمع، فقد كانت هناك طبقات ترزح تحت وطأة المعاناة حتى في أغنى مناطق شبه الجزيرة العربية وهي المنطقة الجنوبية الغربية بالذات "اليمن" التي أسماها الكتاب الكلاسيكيون باسم "العرب الميمونة" ك. وأختم الحديث بثالث المؤرخين الكلاسيكيين البارزين الذين ظهروا في المرحلة المتأخرة من العصر الإمبراطوري الروماني والذين تعرضوا في كتاباتهم للعرب أو لشبه الجزيرة العربية، وهو المؤرخ بروكوبيوس PROKOPIOS الذي ولد في فلسطين وكان أحد رجال الحاشية في عهد بوستنيانوس "جستنيان" الأول وأصبح أمينًا للقائد البيزنطي بليزاريوس belisarios في 527م, وفي صحبته زار إيطاليا وولاية إفريقية "تونس وجزء من الجزائر الحالية" وآسيا الصغرى، ثم عاد معه إلى القسطنطينية في عام 542م. ورقى إلى مرتبة lllustris أي واحد   ك راجع الحديث عن الوضع الاجتماعي في الباب التاسع من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 من طبقة الأعيان، ثم عين محافظًا للقسطنطينية في 562م وتوفي بعد ذلك بثلاث سنوات. وقد كانت التجربة التي اكتسبها سواء من خلال عمله العسكري أو مركزه المدني أو من رحلاته المتعددة، عاملا أعطى قيمة للكتب التي قام بكتابتها، ومن بين هذه كتاب عن المباني ktismata أشار في مواضع قليلة منه إلى العرب، وإن كانت إشاراته لا تفرق بين عرب شبه الجزيرة وغيرهم، كما نلمس، على سبيل المثال، من حديثه وهو بصدد وصفه لإحدى الكنائس في سيناء عن تعزيز هذه الكنيسة بجامعة عسكرية تخوفا من العرب الذين قد يقتحمون المكان "ويتخذونه قاعدة للتسلل نحو الأماكن القريبة من فلسطين" ل. وواضح هنا أنه يعني بإشارته هذه قبائل الأعراب في صحراء سيناء. على أنه يتحدث كثيرا عن العرب في كتاب آخر من كتبه أعطاه تسمية "عن الحروب" hyper ton poiemon والكتاب يقع في ثمانية أجزاء خصص الجزأين الأولين منها للحروب بين البيزنطيين والفرس، وهما الجزءان اللذان يهماننا في صدد دراستنا الحالية، إذ فيهما يتحدث كثيرا عن العرب في مجال حديثه عن إمارتي الغساسنة واللخميين اللتين كانتا تمثلان المنطقتين الحدّيتين أو منقطتي نفوذ الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية على التوالي، ومن ثم كان لهما دور في الصراع العسكري بين هاتين الإمبراطوريتين. وفي هذين الجزأين من كتابه تدور المعلومات التي يوردها عن العرب داخل نطاقين رئيسيين. وفي أحد هذين النطاقين يصف الأحداث والمواقف التي تتصل بالغساسنة والمناذرة في وضعهما بين الإمبراطوريتين الكبيرتين. فهو يحدثنا مثلًا عن الحارث "ARETHAS" الثاني بن جبلة وكيف أقامه الإمبراطور بوستنيانوس justinianus "جستنيان" ملكًا للعرب "يقصد عرب بني غسان" وحثه على التصدي للمنذر "ملك إمارة اللخميين في   ل ktismata: V,8:7-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الحيرة" وعن الحرب التي خاضها فعلا ضد هذا الأخير، وعن اشتراك الحارث بجنوده مع الجيش الروماني "البيزنطي" بقيادة بيليزاريوس في الحرب التي دارت على ضفاف الفرات وكيف أرسله القائد البيزنطي في مهمة عسكرية ضد منطقة آشور وهكذا، م. كما يتحدث عن المنذر "alamoundaras" الثالث بن ماء السماء الغساني، الذي يسميه الكاتب كذلك باسم ملك العرب وعن شخصيته، ثم عن تضحيته للإمبراطور الفارسي بمحاربة الرومان "البيزنطيين" واشتراكه في هذه الحرب وعن صراعه مع الحارث بن جبلة وعن محاولة بوستنيانونس أن يتخذه حليفا له وعن تخوف البيزنطيين من نشاطه الذي اعتبره البيزنطيون تهديدًا لسورية وفينيقية ولبنان، ن. والإشارات المذكورة تعطينا دون شك معلومات قيمة عن الأحوال السائدة في القسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية في الفترة التي يغطيها الكتاب، ويزيد من هذه القيمة أن هذه الإشارات أو الأحداث جاءت من جهة في إطارها التاريخي الطبيعي وهو الصراع بين الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، كما أن الذي رواها من جهة أخرى شخص اشترك في هذا الصراع بالفعل, وكان اشتراكه هذا على أعلى مستوى؛ إذ كان أمينا للقائد البيزنطي الذي أدار القسم الأكبر من هذا الصراع ومن ثم كان في الموقع الذي يجمع إلى جانب المعرفة الداخلية بالحدث معرفة أخرى بظروف التخطيط للحدث واتخاذ القرار بتنفيذه. كذلك فإنه بموقعه المتميز في الحياة المدنية كواحد من دائرة الأعيان المقربين من الإمبراطور البيزنطي كان في وضع يمكنه من تعميق معرفته بدخائل   م عن هذه الأحداث بالترتيب: hyper ton polemon: 1,17:47-8, 18:7 26, 35; 11, 1:3-7, 16: 5 19: 11, 15-18, 26, 28: 12-14. ن عن الوصف والأحداث على الترتيب: op. cit: 1, 17:1, 40-48: 30-39, 18:1-9, 11, 28: 12-14, 1:13, 3:47, 11, 16:17,19:34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 السياسة البيزنطية إزاء الإمبراطورية الفارسية ومن ثم إزاء كل من إمارتي الغساسنة واللخميين. أما النطاق الآخر الذي دار فيه حديث المؤرخ عن العرب فإنه يتعلق من جهة بأحوال العرب فيتحدث عن أماكن سكناهم في المناطق المزروعة بالنخيل أو في فلسطين وعن أحد أعيادهم الدينية وعن اشتراكهم كجنود سواء مع القوات الفارسية أو الرومانية "البيزنطية" وهكذا32، كما يتعلق من جهة أخرى بشخصيتهم كمجموعة بشرية. وفي هذا الصدد يصف بروكوبيوس العرب بعدد من الأوصاف يبدو فيها شيء من التحامل على العرب في عديد من المواضع، وإذا كان يظهر من حديثه في بعض الأحيان أن العرب الذين يقصدهم هم عرب البادية في شمالي شبه الجزيرة العربية وفي بعض الأحيان في جنوبها "وهو بسبيل حديث عام من شبه الجزيرة" إلا أنه يبدو في أحيان أخرى أنه يتحدث عن العرب عموما بما في ذلك عرب الغساسنة واللخميين والمسئولين فيهم. وفي هذا الصدد نجده يصف العرب في الحرب بأنهم يجيدون السلب والنهب ولكنهم لا يجيدون اقتحام المدن وبأنهم كثيرا ما يشنون الحروب فيما بينهم، وبأنهم لا يأتي ذكرهم حين تعقد المعاهدات، وفي مناسبتين ذكر عن بعض قبائلهم أنهم برابرة barbaroi وأنهم من أكلة لحوم البشر33 anthropophagoi.   32 على الترتيب: op. cit:1,19:7-8, 10:11, 16:18, 1,17:1, 18:30,11, 27:30 1, 18:7 , 26, 35, 11, 16:5. 33 على الترتيب: op. cit: 11, 19:12, 28:12-14, 1:5, 1, 19:11, 15. هذا وتجدر الإشارة إلى أن وصف العرب بالبرابرة "I, 19:11" وقد ورد كذلك عند بوسيبيوس، راجع حاشية "35" أعلاه. كما تجدر الإشارة كذلك بأن وصف البرابرة لم يكن يعني دائما التحقير من شأن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وإذا كانت بعض هذه الأوصاف يمكن تسبيبها، مثل شن العرب للحرب فيما بينهم، بما شاهده المؤرخ من صراع بين الغساسنة والمناذرة. فإن الحديث لا يبدو مقنعًا في إنكار قدرة العرب على اقتحام المدن ووصف البرابرة الذي أطلقه على العرب وبخاصة إذا تذكرنا أن المؤرخ عاش في القرن السادس الميلادي وهو القرن الذي عرفت فيه إمارة الغساسنة وإمارة اللخميين في الحيرة قدرا ملموسا من التقدم في النواحي المعمارية والدينية والثقافية عموما من جهة، ومن جهة أخرى فهو القرن السابق مباشرة لظهور الدعوة الإسلامية التي كانت نقطة التفجير للتوحيد السياسي والديني لشبه الجزيرة العربية وللفتوحات العربية التي سقطت أمامها الإمبراطورية الفارسية وقسم كبير من الإمبراطورية البيزنطية. وفي هذا الصدد فإن حديث المؤرخ وملاحظاته عن العرب يبدو متناقضًا مع هذه الإنجازات التي أرى أن بوادرها لا بد أن تكون واردة في القرن السادس الذي عاش فيه وهو القرن السابق مباشرة لهذه الإنجازات, وهو تناقض إما أن نرده إلى تحامل أو تعالٍ من المؤرخ أو إلى تقصير في فهم أو تفسير ما كان يدور حوله من أحداث وتيارات.   = من يوصفون بهذه الصفة، وإنما كانت الصفة تعني بوجه عام من هم غير اليونان ومن ثم يتحدثون بلغة لا يفهمها هؤلاء "وقد كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وهي الإمبراطورية البيزنطية يونانية الحضارة" على نحو تسمية العرب للفرس بالعجم لأنهم لا يتكلمون العربية ومن ثم فهم، في تصور العرب، لا يتكلمون الكلام الجدير بهذا الوصف. وفي هذا الصدد نجد بروكوبيوس يصف المنذر بن ماء السماء بأنه "ذلك البربري "I, 17:43" رغم أنه يكرس عدة فقرات طويلة يتحدث فيها عن عظمته كقائد وعن خططه الحربية التي كانت قوات الإمبراطورية البيزنطية ترهبها ولا تستطيع التصدي لها "I, 17:40-8" بل إنه يصفه مرة بأنه "أجبر الدولة الرومانية على أن تجثو على ركبتيها على مدى خمسين عامًا" "I, 17:40", ومرة بأنه "أثبت أنه أصعب وأخطر عدو للرومان" "5, 17:45". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الكتابات العربية في العصر الاسلامي صعوبات أمام الاعتماد على هذه الكتابات ... 2- الكتابات العربية في العصر الإسلامي: أ- صعوبات أمام الاعتماد على هذه الكتابات: وأنتقل الآن إلى الحديث عن الكتابات العربية التي ظهرت في العصر الإسلامي والتي تناولت، فيما تناولته، ذكر أحوال شبه الجزيرة العربية ومجتمعاتها قبل ظهور الإسلام. وهنا تعترض الباحث عدة صعوبات, وأول هذه الصعوبات هي عدم معاصرة أصحاب هذه الكتابات لما كانوا يكتبون عنه، وعدم المعاصرة هذا يمتد، فيما يخص الحديث عن بعض أخبار العرب وأحوالهم، عبر سبعة عشر قرنًا، فالعرب بدءوا يظهرون على مسرح التاريخ كمجموعة بشرية لها هويتها الجماعية ونظمها وعلاقاتها الخارجية منذ القرن العاشر ق. م. على أقل تقدير. فعلاقات مملكة سبأ بسليمان ملك اليهودية ترجع، كما ترويها التوراة وكما حققها المؤرخون إلى القرن العاشر ق. م. والنصوص الآشورية التي تسجل علاقات الملوك الآشوريين بالعرب يرجع أولها إلى العام السادس من عهد شلمنصر الثالث "858-824 ق. م" أي إلى أواسط القرن التاسع ق. م. ويبدأ الحديث المفصل عن العرب وشبه جزيرة العرب عند أول الكتاب الكلاسيكيين "اليونان والرومان" في أواسط القرن الخامس ق. م. هذا بينما يبدأ أول تدوين لأخبار العرب السابقين للإسلام على عهد معاوية بن أبي سفيان في أواسط القرن الأول الهجري أي: في أواخر القرن السابع الميلادي34. ومثل هذه المسافة الزمنية الطويلة بين وقوع الأحداث وتدوينها أمر يضعف بالضرورة من قيمة هذه الكتابات، وبخاصة   34 راجع عن ظهور العرب في المصادر الآشورية, الباب الرابع من هذه الدراسة، عن ظهورهم في التوراة الباب الخامس، عن بداية ظهورهم في المصادر الكلاسيكية القسم الأول من هذا الباب. أول تدوين في العصر الإسلامي عن أخبار الجزيرة في عصر ما قبل الإسلام هو عند عبيد بن شرية، فقد ذكر ابن النديم, الفهرست، ص 89: أن معاوية أمر عبيد بن شرية أن يدون أخبار العرب والعجم. وقد توفي معاوية في 60هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 إذا أضفنا إلى ذلك أن كتاب العرب في العصر الإسلامي لم يقتصروا على التأريخ للعرب منذ ظهورهم على مسرح الأحداث التاريخية كقوم لهم هويتهم الخاصة في القرن العاشر ق. م. بل تخطوا ذلك إيغالًا في الماضي ليتحدثوا عن العرب منذ عهد سام بن نوح الذي ذكروا أن العرب ينتسبون إليه, أي: إنهم دفعوا بالحديث في أغوار الماضي إلى عهود أقل ما توصف به أن من يتناولها لا يعرف في الحقيقة شيئا عنها. وهذه المحاولة من جانب كتاب العصر الإسلامي لا تنحصر في كاتب أو كاتبين، بل نجدها عندهم جميعًا، ابتداء من عبيد بن شرية في أواسط القرن الأول الهجري "أواخر القرن السابع الميلادي" إلى ابن خلدون الذي توفي في أوائل القرن التاسع الهجري "أوائل القرن الخامس عشر الميلادي". وفي الواقع فإن هذا الكاتب الأخير، الذي اشتهر بمذهبه النقدي، يبدي شيئًا من التردد في قبول هذا الاتجاه عند المؤرخين الإسلاميين، وبخاصة فيما يتعلق بتتبع أنساب العرب من جيل إلى الجيل الذي يسبقه, توصلًا في النهاية إلى بدايات ضاربة في أعماق الماضي، لتشككه في إمكان التوصل في معرفة الأنساب القديمة، كما يبدي تشككه كذلك في صحة الأخبار المتعلقة بالعصور العربية الأولى كما رواها من سبقه من الكتاب. ولكنه رغم ذلك يلخص كل ما ورد من هذه الأخبار القديمة ويحاول أن يرجح بعضها على بعض, كما يقدم لنا تنسيبًا مفصَّلًا للعرب يرتفع بأحد شقيهم إلى قحطان ويرتفع بالآخر إلى عدنان35. وهكذا لا يستطيع ابن خلدون، رغم مذهبه النقدي، أن يتخلص من وطأة الاتجاه الذي تصدى له فتنغمر ملاحظاته، حسب تعبير باحث معاصر "وسط سيل الأخبار المتضاربة، ويظهر تأريخه   35 ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر، القاهرة، 1965, ج2، عن تشككه في الأنساب صفحات 3-4, عن تشككه في الروايات القديمة ص8، عن أنساب العرب عنده رغم ذلك ص49، وص304. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 لهذه الأجيال من العرب وكأنه تاريخ تقليدي لا يختلف كثيرا عن تواريخ سابقيه"36. والملاحظة العامة الثانية على الكتابات العربية التي ظهرت في العصر الإسلامي فيما يتعلق بتاريخ شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، تخص مسألة المصادر التي اعتمدوا عليها, أو كان من المفترض أن يعتمدوا عليها طالما أنهم لم يعاصروا الفترة التي يكتبون عنها. وأذكر هذا وفي ذهني ما عمد إليه بعض الكتاب الكلاسيكيين الذين كتبوا عن أحوال شبه الجزيرة في أوقات سابقة لزمنهم فحرصوا على أن يذكروا مصادرهم من الكتاب السابقين الذين كانوا معاصرين لما كتبوا عنه، كما هو الحال عند سترابون الجغرافي اليوناني الذي حرص حرصا كاملا على أن يذكر لنا كلما تطرق إلى فترة سابقة لعصره أن يرد ما ذكره إلى إراتوستنيس أو أريستوبولوس أو أرتميدوروس أو غيرهم ممن عاصروا ما كتبوا عنه بل عاينوه على الطبيعة في أغلب الأحوال إن لم يكن في كل الأحوال37. أما فيما يخص مسألة المصادر عند كتاب العصر الإسلامي فهم إما لا يذكرونها على الإطلاق وهو الأمر السائد في كتاباتهم، أو أنهم يذكرون بعض المصادر الفارسية أو البيزنطية، ولكن في مجال الحديث عن ملوك الفرس والبيزنطيين وليس عن أحوال شبه الجزيرة، كما فعل حمزة الأصفهاني الذي دون تأريخه في أواسط القرن الرابع الهجري "العاشر الميلادي"، أو أن يتخذوا مصدرا لهم الأخباريين الأول مثل عبيد بن شرية أو ابن الكلبي من كتاب صدر الإسلام وهؤلاء لم يعاصروا ما كتبوا عنه38.   36 سعد زغلول عبد الحميد: في تاريخ العرب قبل الإسلام, بيروت، 1975، ص59. 37 راجع القسم الأول من هذا الباب. 38 كان حمزة الأصفهاني إيرانيًّا ومن ثم على دراية باللغة الفارسية, كما كان يلجأ إلى من يترجم له الكتب البيزنطية "المكتوبة باللغة اليونانية الوسطى". عن حرصه على الرجوع إلى هذه المراجع "وإن كان فيما يخص تاريخ الفرس والبيزنطيين" راجع، سعد زغلول عبد الحميد: المرجع ذاته, صفحات 47-48. رجوع المؤرخين الإسلاميين إلى الأخباريين الأول كمصدر، نجده، على سبيل المثال، عند الطبري: تاريخ الرسل والملوك، القاهرة، 1960، وعند المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، القاهرة، 1985. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وفي هذا الصدد يجب أن نتوقف عند اثنين من أصحاب الكتابات العربية ذكروا لنا شيئا عن مصادر كتاباتهم، وأول هذين هو وهب بن منبه "توفي في 110هـ-728م" وهو يهودي الأصل ومن ثم فربما كان على علم بالمصادر العبرانية المعاصرة لأحوال وأحداث شبه الجزيرة في الفترة السابقة للإسلام، وهو أمر يجعلنا نتوقف قليلا عند هذه الحقيقة، ولكنا لا نلبث أن نتردد في قبول ما يذكره لنا من أخبار العرب القدامى حين نجده يقول: "قرأت ثلاثة وتسعين كتابا مما أنزل الله على الأنبياء"39. وهو تقرير غير صادق بالضرورة ومن ثم يصح الاعتماد على الأخبار المبنية عليه أمرا غير وارد. أما الكاتب الثاني فهو الهمداني "توفي بعد 340هـ-951م" صاحب كتاب الإكليل، الذي يبدو من بعض ما ورد في كتابه أنه كان على معرفته بالخط المسند ومن ثم كان بمقدوره، افتراضا أن يقرأ النقوش الموجودة على الآثار القائمة باليمن على عصره، وهو يورد فعلا بعض هذه النقوش في لغة عربية فصيحة مسجوعة. ولنا بشكل مبدئي، أن نأخذ ما يورده على أنه الترجمة العربية الفصيحة للنص المكتوب باللغة أو اللهجة الحميرية أو المعينية الجنوبية، ولكن اعتمادنا على مصادره يبدأ في الاهتزاز عندما يذكر لنا عن أحد القصور، وهو قصر شحرار, "وفي بعض مساندها هذان البيتان بحرف المسند: شحرار قصر العلا المنيف ... أسه تبع ينوف يسكنه القيل ذي معاهر ... تخر قدامه الأنوف40   39 وهب بن منبه: كتاب التيجان في ملوك حمير، حيدرآباد الدكن, 1347هـ، ص2. 40 الهمداني، كتاب الإكليل، ج8، ط برنستن 1940. النقش الذي يورده في لغة عربية مسجوعة ص42. النقش الذي يورده شعرًا في ص 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وسبب ترددنا في الثقة بمصادره هو أن أعدادًا كبيرة من النصوص العربية الجنوبية تزيد على أربعة آلاف نص قسم قد تم العثور عليها وقراءتها حتى الآن، ولكن ليس بينها نص واحد مكتوب باللغة العربية الفصيحة وليس بينها نص واحد مكتوب بالشعر. وحقيقة إن اللغة العربية الشمالية ربما كانت معروفة في الجنوب في الفترة الجاهلية القريبة من ظهور الإسلام كلغة عامة في المعاملات التجارية والمباريات الشعرية التي يشترك فيها أشخاص من مختلف أنحاء شبه الجزيرة إلى أشخاص اللغات أو اللهجات المحلية41، ولكن ليس هناك ما يدعو إلى استخدام هذه اللغة العامة في كتابة نقش رسمى محلي مثل النص الذي نتحدث عنه. ويبقى أمامنا في هذا الصدد الافتراضات: فإما ألا يكون الهمداني على معرفة بالخط المسند وأنه كان يعرف هذه النقوش مما يسمعه عنها فحسب، أو أنه كان يعرف الخط المسند ثم يتصرف في ترجمته تصرفا يجعله يصوغ هذه الترجمة نثرا مسجوعا أو شعرا في بعض الأحيان، بما يستتبعه هذا بالضرورة من الابتعاد، بنسب متفاوتة، عن المضمون الأساسي للنص، ومن ثم يضعف من قيمته كمصدر تاريخي. وفي الواقع فإن القارئ لأخبار العرب الجاهليين في كتابات العصر الإسلامي، وبخاصة الأخبار التي تروي أحداثًا أو مواقفَ تسبق ظهور الإسلام بفترة طويلة، لا بد أن يسترعي انتباهه أسلوب القصص الشعبي الذي يسود هذه الكتابات، وهو أسلوب يصل إلى نغمة الحديث الأسطوري كلما أوغل هؤلاء الكتاب في الحديث عن الماضي حتى وصلوا إلى آدم -عليه السلام- أبي الإنسانية. وهذا الأسلوب القصصي يعترف به ضمنًا عبيد بن شرية، أول الأخباريين العرب, في روايته عن أخباره التي كان يسامر بها معاوية بن أبي سفيان كل ليلة، إذ يبدو أن الصفة الأساسية لهذه الأخبار هي أن تكون   41 راجع الباب السابع الخاص بالشعر الجاهلي "كمصدر لتاريخ شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام" في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 "عجيبة" كما نجد الخليفة يطلب إلى سميره أن يدعمها بأشعار، فيجيبه عبيد إلى طلبه بأشعار يضعها على لسان عاد أو ثمود أوغيرهما من القبائل العربية البائدة بلسان عربي فصيح، وهو أمر لا يمكننا أن نقبله أو نعتمد عليه، فقوم عاد لم تصلنا أية آثار أدبية عنهم شعرا ونثرا، وثمود وصلتنا نقوش كثيرة بلهجتهم، أو بالأحرى بلهجاتهم المختلفة، وكلها لهجات غير اللغة العربية الفصيحة42. ويبدو أن هذا الأسلوب الذي يميل إلى صفة القصص الشعبي في رواية أخبار العرب في العصر السابق للإسلام "وفي الواقع أخبار غير العرب كذلك" قد بدأ يشعر به كتاب الفترة المتأخرة "زمنيًّا" في العصر الإسلامي "رغم أنهم لم يتجنبوه". فالطبري مثلا يبدي هذا الشعور "فما يكن في كتابي هذا من خير ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو لا يستسيغه سامعه, من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قِبَلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا،   42 عن طبيعة السمر التي اتخذتها هذه الأخبار راجع عبيد بن شرية: أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها "ملحق لكتاب التيجان في ملوك حمير لوهب بن منبه" ص312: "فإذا كان معاوية في وقت السمر فهو عبيد بن شرية سميره في خاصته من أهل بيته، وكان يقص عليه ليله ويذهب عنه همومه، وأنساه كل سمير كان قبله, ولم يخطر على قلبه شيء إلا وجد عنده شيئا وفرحا ومرحا" كذلك ص 315 حيث نجد معاوية يقول له: "عزمت عليك إلا حدثتني عما أسألك عنه". قارن المسعودي: ذاته، ج3، ص40، حيث يذكر أن عبيد بن شرية كان يُسمع معاوية كل ليلة شيئًا من أخبار العرب وأيامها وأخبار العجم وملوكها وسياستها لرعيتها. عن صفة الغرابة أو العجب التي كان تجذب الخليفة إلى هذه الأخبار وعن طلبه تدعيمها بالشعر، راجع عبيد بن شرية: ذاته، ص2 و3، حيث يقول معاوية لعبيد: وأبيك, لقد أتيت وذكرت عجبًا من حديثك عن عاد، وقد علمت أن الشعر ديوان العرب والدليل على أحاديثها وأفعالها، والحكم بينهم في الجاهلية، وقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن من الشعر لحكمًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا"43. أما ابن خلدون فيعلن صراحة عن هذه الكتابات أن أصحابها "نحوا فيها منحى القصَّاص، وجروا على أساليبهم، ولم يلتزموا فيها الصحة ولا ضمنوا لنا الوثوق بها، فلا ينبغي التعوُّل عليها، وتترك وشأنها"44. وتأسيسًا على ذلك أصل إلى رأي مؤداه: أن الكتابات العربية التي ظهرت في العصر الإسلامي بقدر ما تعتبر المصدر الأول والأساسي فيما يتعلق بالعصر الإسلامي ذاته، وهو الذي يمثل الفترة المعاصرة التي عايشها أصحاب هذه الكتابات، بقدر ما تفقد، في عمومها القيمة التاريخية اللازمة للاعتماد عليها كمصدر من مصادر التعرف على أحوال شبه الجزيرة في العصور السابقة للإسلام؛ وذلك لسببين: الأول هو معالجة الكتابة عن هذه الفترة بأسلوب الأساطير أو بأسلوب القصص الشعبي الذي لا يدخل في نطاق الكتابة العلمية.   43 الطبري: كتاب الرسل والملوك "دار المعارف، القاهرة، 1960"، ج1، ص8. 44 ابن خلدون: المرجع ذاته، ج2، ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ب- استثناءات ممكنة من هذا التعميم : على أن هناك استثناءات لهذا التعميم، يمكن الاعتماد فيها، بدرجات متفاوتة، على بعض ما جاء في هذه الأخبار. ومن بين هذه ما ذكره عبيد بن شرية عن بعض ملوك الحيرة والغساسنة القريبين من ظهور الإسلام، وعن الحملة التي أرسلت من اليمن في عهد السيادة الحبشية إلى الحجاز بهدف تهديم الكعبة "يوم الفيل" وعن سنوات القحط والجفاف وأيام العرب وعدد من الأصنام والطقوس العربية الجاهلية؛ وذلك لأن عبيد بن شرية كان مخضرمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 أدرك الجاهلية والإسلام، ومن ثَمَّ قد كان معاصرًا لهذه الأحداث أو على الأقل قريبًا منها. كذلك من بين ما يمكن أن نعتمد عليه في هذه الكتابات ما جاء في "كتاب الأصنام" لابن الكلبي45 "توفي 204هـ - 819م" عن عبادات العرب في الجاهلية والمعلومات التي أوردها في هذا الصدد عن الأحجار المقدسة والأصنام والأنصاب والأوثان، وعن بيوت العبادات التي كانت تحظى بتعظيم العرب مثل الكعبة وكعبة نجران، وعن طقوس العبادة والحج القديم، وعن اليهودية والنصرانية والحنيفية "وهي بقايا ديانة إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-" التي كانت منتشرة في بعض أقسام شبه الجزيرة. واعتمادنا على "كتاب الأصنام" في هذا المجال هو اعتماد قائم لأن آثار بيوت العبادة السابقة لظهور الإسلام ظلت قائمة في الفترة الإسلامية "وفي الواقع فإنها ظلت قائمة حتى اكتشفها ودرسها علماء الآثار والتاريخ في الوقت الحاضر، مثل معبد المقة، إله القمر عند السبئيين، الذي كان لا يزال يعرف باسم محرم بلقيس على نحو ما فصلت في مناسبة سابقة". ومن ثم فإن الحديث عن الشعائر والطقوس التي كانت متصلة بها كان أمرًا واردًا، والشيء ذاته يقال عن الجزء الثامن من كتاب "الإكليل" للهمداني46 "وهو أحد أجزاء أربعة وصلتنا من هذا الكتاب هي الأجزاء الأول والثاني والثامن والعاشر" وفيه ذكر لآثار اليمن: قصورها ومدنها وسدودها وحصونها وهياكلها، فإلى جانب أن هذه الآثار التي وصفها كانت لا تزال عندما كتب عنها، فإن الكاتب نفسه رجل يمنيٌّ لديه فرصة معاينة هذه الأبنية وفحصها على الطبيعة وفرصة فهمها والتعرف الواسع بها وبما يحيط بها من أجواء ربما أكثر من غيره من الكتاب. ومن بين ما يدخل ضمن هذه المصادر العربية التي يمكن أن نستقي منها   45 طبعة بولاق 1322هـ، تصوير الدار القومية 1965. 46 تحقيق نبيه أمين فارس، يرنستن،1940. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 قسمًا من أحوال شبه الجزيرة العربية في عصر ما قبل الإسلام، المعلومات ذات الطابع الجغرافي، مثل المعلومات التي وردت عند عبيد بن شرية عن بعض مناطق شبه الجزيرة مثل: الأحقاف والحجر ووادي القرى واليمامة. ومن بينها كذلك كتاب "صفة جزيرة العرب" للهمداني47 "ولعله أهم ما كتب في هذا المجال" إذ نجد فيه، إلى جانب حديث الكاتب عن الآثار، وصفا جغرافيا لمناطق شبه الجزيرة وأسمائها التي عرفت في وقت ذكر الكاتب لها، وهي أسماء كانت هذه الأماكن تعرف بها في الجاهلية دون شك، وتحديد لمواقع هذه الأماكن يساعد الباحث في التعرف عليها سواء بالمقارنة مع مع جاء في كتب الكلاسيكيين التي كانت معاصرة لعصر ما قبل الإسلام أو بالمواقع الأثرية التي لا يفتأ المنقبون الأثريون يكشفون عنها من وقت وآخر.   47 طبعة القاهرة 1953 "نشر محمد بن عبد الله بن بليهيد النجدي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الباب السابع: الشعر الجاهلي 1- الشعر كمصدر تاريخي : الحديث عن العلاقة بين التاريخ والشعر ينسحب في الواقع على العلاقة بين التاريخ وكل ألوان الأدب، سواء أكانت هذه قصة أو رواية أو مسرحية أو أي عمل أدبي آخر. وإنما قصرت الحديث هنا على الشعر فحسب لسبب بسيط هو أن الشعر يشكل اللون الأدبي الغالب، أو لعلة اللون الوحيد الذي تبقى لنا بشكل واضح ومباشر, من ألوان الأدب العربي في الفترة السابقة لظهور الإسلام. والسؤال الذي يطرح نفسه بالضرورة في بداية الحديث هو: كيف نعتمد على الشعر كمصدر من مصادر التاريخ؟ وهو سؤال منطقي, فالتاريخ في جوهره هو الكشف عن حقائق الماضي تمهيدًا لتحليلها وتفسيرها وتقويمها "أعني تقييمها حسب الخطأ الشائع في صياغة الكلمة" والأسلوب الذي يصطنعه المؤرخ في الكشف عن هذه الحقائق هو تمحيص أو تحقيق المادة التي يحصل عليها من مصدر أو آخر من المصادر المتاحة له سواء أكانت هذه المادة تتعلق بأحداث أم مواقف أم اتجاهات أم تيارات، وهذا يبدو لأول وهلة مختلفًا، إن لم يكن مناقضًا لطبيعة الشعر "والأدب بوجه عام". وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 طبيعة تدخل فيها بالضرورة عوامل العاطفة والانفعال والتصور والخيال والانطباع الفردي الذي يختلف من شاعر أو أديب لشاعر أو أديب آخر بدرجات متفاوتة قد تصل إلى التعارض أو حتى إلى التناقض في بعض الأحيان. وتكمن الإجابة على هذا السؤال في أن دراسة التاريخ الآن قد أصبحت في المقام الأول دراسة مجتمعات ولم تعد تقتصر على التعرف على حياة الأفراد في ذاتهم لتتخذ من هذه الحياة محورا أو هدفا أساسيا، سواء أكان هؤلاء الأفراد حكاما أم زعماء أم قوادا أم مصلحين أم مفكرين أم متآمرين أم كانت لهم أية صفة أخرى. فالأفراد وحدهم، إذا جاز لنا أن نتصورهم بمعزل عن المجتمع والعصر الذي يوجدون فيه -وهو تصور مستحيل- لا يستطيعون أن يسيِّروا أو يغيروا مجتمعا, مهما كانت شخصيتهم أو قدراتهم الذاتية، وإنما يتم هذا التسيير أو التغيير عندما يتجاوبون، تأثرا وتأثيرا، مع ظروف المجتمعات التي يعيشون فيها بما تضمه من موارد وأفكار وتقاليد وترسبات وتفاعلات وطبقات وتناقضات، ومع ظروف العصر الذي يعيشون فيه بما في ذلك من تيارات واتجاهات وتطورات. وما دام الأمر كذلك فلا بد أن تدور الدراسة التاريخية في نطاق المجتمع, وأن تتناول كل جوانبه: ظروفه الاقتصادية، تكويناته الطبقية، فئاته الاجتماعية، القيم التي تسوده، معتقداته، مثله العليا، علاقاته الداخلية فيما بين طبقاته وفئاته، مواقفه الخارجية من المجتمعات الأخرى، بل أكثر من هذا يصبح من واجبنا أن نتعرف على هذا المجتمع في حياته اليومية في حله وترحاله، بيئته الجغرافية بتضاريسها ومناخها، الجفاف الذي يعاني منه والمطر الذي ينتظره، النباتات التي تقدمها أرضه أو التي يقوم بزراعتها في هذه الأرض، الدواب التي يعتمد عليها والدروب التي يسلكها، وحتى الملابس التي يرتديها وأدوات العمل والقتال والزينة التي يستخدمها، فهذه كلها احتياجات تؤثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 على مسلك أفراد هذا المجتمع. وهم في سبيل تأمينها أو الحصول عليها ينهجون هذا النهج أو ذاك أو يتصلون بهذا الشعب أو ذاك، وقد يكون اتصالهم هذا وديا سليما، وقد يكون عنيفا يتخذ درجات متفاوتة من التصادم قد تصل إلى الحرب السافرة. كذلك فإن هوية المجتمع أو شخصيته تصبح, في هذا الصدد، قسمًا من أقسام الدراسة التاريخية لا يمكن تجاهله، متى بدأ هذا المجتمع في الظهور؛ فكرته عن الأصل الذي انحدر منه، الأساطير التي تحيط بهذا الأصل ومدى اقتناعه بها، تطلعاته وتصوراته وقدرته على المواءمة بينها وبين العالم الذي يعيش فيه ويحتك به، ومن ثم مدى استعداده لاستيعاب الحركة التاريخية والتطورات الحضارية أو مسايرتها أو حتى التخلف عنها. وإذن فالباحث أمام وضع لا يجوز له فيه أن يقتصر على السجلات الحكومية التي تعبر عن أحوال فرد أو أفراد أو فئة أو طبقة حاكمة وما اختارت أن تسجله بطريقة أو أخرى عن أعمالها وعلاقاتها، وإنما لا بد له أن يضم إلى هذا المصدر مصادر أخرى من نوع آخر. وما دمنا نتحدث عن ذلك فليس أمامنا إلا ما تركه المجتمع بكل أفراده وطبقاته وطوائفه ليعبر به، في شكل أو في آخر، عن كل هذه الصور والظروف والمعاملات والعلاقات -وهنا يبرز دور الأدب كواحد من هذه المصادر الرئيسية، فمن خلاله يستطيع الفرد الذي أوتي مقدرة التعبير الأدبي، أن يرسم ملامح المجتمع الذي يحيط به، ومواقفه ومعاناته وآماله في صورة أو أخرى من الصور العديدة التي يتخذها الأدب لنفسه- وقد كان الشعر هو الصورة البارزة التي اتخذها الأدب العربي في عصر ما قبل الإسلام. ولا يجوز لنا في هذا الصدد أن ننظر إلى تعبير الشاعر على أنه تعبير ذاتي فرد، مهما كانت الاعتبارات التي تغرينا، للوهلة الأولى, بهذه النظرة، فالشاعر جزء من المجتمع بكل ظروفه وتفاعلاته، وإذا كان التعبير الشعري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 يصل إلينا من خلال الانطباع الذاتي أو المعاناة الشخصية للشاعر, فإن هذا الانطباع أو هذه المعاناة تتم في إطار التجربة التي يعيشها ويمارسها المجتمع الذي يوجد فيه الشاعر, ولا يملك الشاعر في هذه الحال إلا أن يكون جزءًا منها مهما اختلفت طريقة التعبير عنها من شاعر لآخر. على أننا ونحن بصدد التأريخ للمجتمع, لا نأخذ, ولا ينبغي أن نأخذ، الشعر كما هو على أنه حقائق تاريخية أو حضارية؛ فالشاعر قد يبالغ وقد يتخيل وهو حتى إذا تحدث عن حقائق فهو يبرزها لنا من خلال انفعاله الخاص بها. ولكن رغم ذلك فهناك عدد من الحقائق الثابتة نستطيع أن نستخلصه من الشعر عن أحوال المجتمع, إذا تخطينا المبالغات والتخيلات والانفعالات الخاصة. ومن بين هذه الحقائق, الاتجاهات العامة التي تسود المجتمع مثل القيم التي تحكمه وطبيعة تصوره لها ومن ثم الدوافع التي تعيننا على تفسير عدد من تصرفات هذا المجتمع. وفي هذا المجال فنحن قد لا نفهم عددا من العلاقات القبلية قبل الإسلام أو على الأقل لا نفهم كل الأبعاد التي وصلت إليها دون أن نعرف تصور مجتمع ما قبل الإسلام لمعنى الشرف أو الرابطة العصبية أو لممارسة الثأر -وكلها معانٍ تبرز في وضوح من خلال الشعر الجاهلي. كذلك نستطيع أن نفهم اضطرار عرب البادية إلى الارتحال المستمرِّ نتيجة لظروف الجفاف التي سيطرت على شبه الجزيرة العربية من خلال وصف الأطلال والبكاء عليها والحنين إلى العلاقات التي تمت في ظل ما كان بها من جوار ولقاءات يجد البدوي نفسه مضطرًّا إلى التضحية بها أمام واقع الوضع الاقتصادي الذي يدفعه إلى السعي وراء الكلأ وانتجاعه حيثما كان. كذلك نحن نستطيع أن ندرك في وضوح كثير مدى ما تتركه ندرة المطر في شبه الجزيرة على تصرفات القبائل وعلاقاتها فيما بينها إذا عرفنا أن شاعرًا مثل عمرو بن كلثوم يجد من بين دواعي فخره أن قبيلته ترد عين الماء أولًا فتنعم بالماء الصافي ولا تترك لغيرها من القبائل إلا ما تبقى من الكدر والطين وهكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وليست الاتجاهات العامة هي كل ما نستخلصه من الشعر, وإنما نعرف منه إلى جانب ذلك أشياء أخرى لا يملك الشاعر أن يغير فيها شيئا ولا يوجد ما يدعوه إلى ذلك؛ لأنها من صميم بيئته، مثل الحيوانات التي يعتمد عليها في تنقله رعيا أو تجارة أو حربا، ومثل الملابس التي يتخذها الرجال والنساء ومثل البيوت "أو الخيام" وطريقة بنائها أو إقامتها، ومثل الآلهة والمعتقدات والشعائر والطقوس، ومثل أسماء الأماكن التي يقيمون فيها أو يرتحلون إليها، سواء أكانت مدنا أم قرى أم مواضع، ومثل الطرق التي كانوا يسلكونها في تنقلاتهم والمعالم التي تحيط بها أو تطل عليها، ومثل الأسواق التي كانوا يلتقون فيها لقضاء معاملاتهم، ومثل المواقع أو الأيام التي تركت أثرًا في حياتهم، وفيض آخر إلى جانب كل هذا عن تفاصيل حياتهم وممارستهم اليومية تعيننا مرة أخرى على تفهم تصرفاتهم وعلاقاتهم. هذه هي قيمة الشعر كمصدر أساسي من مصادر التاريخ, نترك منه ما يشوبه الخيال، وما يعبر من خلاله الشاعر عن الانفعال المؤقت أو عن الانطباع الشخصي، أو ما نرى فيه شيئا من المبالغة التي تنتج عن المثالية والميل الطبيعي نحو البطولة وهو ميل من الطبيعي أن ننتظره في الشعر، ونستطيع أن نتحقق منه عن طريق المقارنة بما تصل إليه أيدينا من مصادر أخرى مثل النقوش والآثار وكتابات المؤرخين والرحالة والجغرافيين حتى نصل إلى أقرب نقطة ممكنة من الحقيقة التاريخية. وفي هذا المجال، فإن تصوير أحوال شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام اعتمادًا على ما تركه لنا شعراء الجاهلية, ليس بدعا أو أمرا غير عادي؛ فقد اعتمد مؤرخو الحضارة اليونانية وتاريخها على ما جاء في ملحمتي الإلياذة والأوديسية المنسوبتين إلى الشاعر اليوناني هوميروس Homeros بعد تمحيصه ومقارنته بالمصادر الأثرية والتاريخية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الأخرى1. بل لعل الشعر الجاهلي كان أوفر حظًَّا من شعر هوميروس فيما يخص إمكانات التمحيص عن طريق المقارنة، فلم يكن هناك في العصر الذي تغطيه أشعار هوميروس في العصر المبكر من ظهور المجتمع اليوناني مؤرخون معاصرون يمكن الاعتماد في المقارنة على ما تركوه لنا من كتابات، وما وجد من نقوش قليلة لم يمكن التوصل إلى مدلول حروفها إلا خلال السنوات القليلة الماضية وبشكل غير مستقر2. وهكذا لم يكن أمام مؤرخي الحضارة اليونانية إلا الاعتماد على الآثار بشكل أساسي في هذه المقارنة. أما الشعر الجاهلي فلدينا للتحقق مما أشار إليه أو جاء فيه مصادر أخرى إلى جانب الآثار، من بينها النقوش وكتابات المؤرخين والجغرافيين والرحالة والموسوعيين اليونان والرومان ومن بينها القرآن الكريم والحديث الشريف والتوراة والتلمود على سبيل المثال. وكلها تعيننا على تمحيص هذا الشعر وتحقيقه والتأكد من المعلومات التي يقدمها لنا.   1 شعر أو أشعار هوميروس تسمية تطلق على مجموعة من الأشعار اليونانية قيلت عبر فترة تزيد على ثلاثة قرون تمتد من الربع الأول للقرن الثاني عشر ق. م. إلى أواسط القرن التاسع ق. م. وقد جمع هذه الأشعار في هذا التاريخ الأخير شاعر يحيط به الغموض "وربما شاعران" -حسبما تدلنا مجموعة قرائن تاريخية وأثرية- وصاغها في صورة ملحمتين هما الإلياذة التي تروي قصة هجوم على مدينة اليون بمنطقة طروادة في القسم الشمالي الغربي من آسيا الصغرى، والأوديسية التي تروي مغامرات أحد القادة اليونانيين "وهو أوديسيوس" خلال عودته من طروادة إلى مدينة أثاكة على الشاطئ الغربي لبلاد اليونان. ولكن اليونان القدامى درجوا على أن ينسبوا هذه الأشعار إلى شاعر أطلقوا عليه اسم هوميروس. وبهذا المفهوم ستكون إشاراتي إلى أشعار هوميروس في هذا الحديث. راجع: لطفي عبد الوهاب يحيى: هوميروس، تاريخ حياة عصر، الأسكندرية، 1968، صفحات 1-40. 2 تعرف هذه الكتابة باسم Linear B وهي الكتابة التي عرفتها بعض مناطق العالم اليوناني في الفترة المبكرة قبل أن يتعرفوا في أواسط القرن التاسع ق. م. بشكل ضيق على الكتابة الجديدة التي بدأت تشيع تدريجيًّا ابتداء من القرن التالي لتصبح فيما بعد هي الكتابة المستخدمة في العصر الكلاسيكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ورغم ما بين شعر هوميروس، وبين الشعر الجاهلي من مواطن الخلاف في التركيب أو التكوين الفني، إلا أن أوجه الشبه كثيرة إذا ما نظرنا إلى كل منهما على أنه مصدر تاريخي وحضاري, فالإلياذة والأوديسية مكونتان من أناشيد ومقطوعات شعرية تماثل المقطوعات التي يمكن أن نقسم إليها المعلقات أو القصائد الجاهلية من حيث إن كلًّا منها يرسم منظرا أو موقفا يصور جانبا من جوانب الحياة في المجتمع الذي ينتمي إليه. فوصف هوميروس في النشيد الثامن عشر من ملحمة الإلياذة لعدد من الثيران وبعض كلاب الرعي وقطيع من الغنم في أحد المناظر المرسومة على درع أخيليوس Achileus، يقابله وصف الحصان وسرب من بقر الوحش في معلقة امرئ القيس أو وصف الناقة في معلقة طرفة بن العبد، والمنظر الذي يتعلق بدفع الدية لأهل القتيل في النشيد نفسه من الإلياذة يقابله وصف لدفع الدية بين بني عبس وبني ذبيان في معلقة زهير بن أبي سلمى3. وإلى جانب هذه المناظر المتقابلة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بين شعر هوميروس والشعر الجاهلي توجد عشرات من المناظر تصور طريقة كل من المجتمع اليوناني المبكر والمجتمع اليوناني في شتى مناحي الحياة وممارستها.   3 منظر قطيع الغنم والثيران وكلاب الرعي عند هوميروس في الإلياذة: نشيد 18، سطور 541-578. وصف امرئ القيس وسرب بقر الوحش في شيخو والبستاني: المجاني الحديثة "بيروت 1960"، امرؤ القيس، المعلقة، أبيات 51-65. وصف الناقة عند طرفة في شيخو والبستاني: ذاته، المعلقة، أبيات 18-38. وصف منظر الدية عند هوميروس في الإلياذة: نشيد 18، سطور 497-506. وصف دفع الدية عند زهير في شيخو والبستاني: ذاته، المعلقة، أبيات 20-25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 2- اعتراضات على الشعر الجاهلي كمصدر تاريخي : الشعر إذن، في حد ذاته، مصدر من مصادر الكتابة التاريخية لا يقل شأنًا عن غيره من المصادر، فإذا كانت السجلات الحكومية هي وثيقة الطبقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الحاكمة، فإن الشعر هو وثيقة الشعب والمجتمع بأكمله, على أن الشعر الجاهلي تعرض لقضية ينبغي أن نتوقف عندها لأنها تمسه من الأساس وتتعرض لقيمته كمصدر لمعرفة أحوال شبه الجزيرة العربية في الفترة السابقة للإسلام. فقد أثار بعض الباحثين اعتراضًا مؤداه أن أغلب هذا الشعر، إن لم يكن كله، لا ينتمي إلى العصر الجاهلي بحال، وإنما هو موضوع أو منحول، نحله الرواة في القرنين الثاني والثالث الهجريَّيْنِ ثم نسبوه إلى الشعراء الجاهليين، وقد دار حول هذه القضية جدل طويل، أخذًا وردًّا، امتد على القسم الأكبر من النصف الأول للقرن الحالي، وكان أول من أثار الاعتراض منذ أوائل القرن هو المستشرق د. س. مارجوليوث D. S. Margoliouth. والدعوى التي يقدمها مارجوليوث هي أن الشعر بالصورة التي عرفها العرب بعد ظهور الإسلام لم يكن معروفًا في الجاهلية، وحقيقة إن أشخاصا وجدوا في الجاهلية وأطلق عليهم اسم "الشعراء" وقد جاءت في القرآن الكريم سورة كاملة بهذا الاسم، ولكن الإشارات القرآنية إلى هذه الفئة تفيد أن هؤلاء كانوا فئة من الكهان يتنبئون بالغيب ويعبِّرون عن ذلك بألفاظ مبهمة، ومن ثم يصبح المقصود بالشعر هو هذه الصفة أو المهنة الدينية وليس الموهبة أو الصنعة الفنية التي تدخل ضمن أبواب الأدب. ويقدم المستشرق لتأكيد دعواه هذه مجموعتين من الأدلة4.   4 عرض هذه الآراء في مقالة Margoliouth: The Origins of Arabic Poetry, JRAS, July, 1925، صفحات 417-449. الإشارة إلى اقتران الكهانة بالشعر في العصر الجاهلي في صفحات 417-420 من المقالة, الإشارة القرآنية إلى اقتران الشعر بالكهانة وإبهام القول الذي يعادل الجنون في سورة الطور: 29-30، سورة الصافات: 36، سورة الحاقة: س 40-42. راجع عرضا بالعربية لآراء المستشرق عند، ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، القاهرة، 1956، صفحات 352-367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وقد تعرض في المجموعة الأولى من هذه الأدلة إلى الطرق التي يفترض أن الشعر الجاهلي انتقل من خلالها إلى علماء العرب من الإخباريين والرواة في القرنين الثاني والثالث للهجرة، كما تعرض لهؤلاء الإخباريين والرواة أنفسهم. ففيما يخص طرق انتقال الشعر الجاهلي يذكر أن هذا لا يكون إلا بالكتابة أو بالرواية. أما الكتابة فهو يشك فيها, فالقرآن الكريم يذكر أن الجاهليين لم يكن لهم كتاب "سماوي" يقرءونه كما كان الحال عند اليهود والنصارى، ولو كان الشعر الجاهلي مكتوبا لكان لهم كتاب أو أكثر من الكتب السماوية. وأما الرواية فهناك أكثر من سبب يؤدي إلى الشك فيها فالشعر الجاهلي فيه عدد كبير من القصائد الطويلة, ومثل هذه القصائد تفترض وجود رواة محترفين حتى يستوعبوها, ويعوها في ذاكرتهم وينقلها جيل منهم إلى الجيل الذي يليه -وليس هناك ما يثبت وجود هؤلاء الرواة المحترفين. كذلك فإن موقف القرآن الكريم الذي اتسم بالقسوة على الشعراء واتهام أتباعهم بالغواية واتهامهم هم أنفسهم بالكذب من حيث إنهم يقولون ما لا يفعلون -كل هذا يدعو إلى نسيان الشعر الجاهلي حتى إذا افترضنا وجود مثل هذا الشعر. وأخيرًا فإن الشعر الجاهلي "المفترض في رأي مارجوليوث" يخلد الروح القبلية بما يضمه من قصائد تفتخر فيها القبائل بانتصاراتها على غيرها، ومن ثَمَّ فإن الإسلام الذي كان يدعو إلى الوحدة ويعمل على تحقيقها بكافة الوسائل لا يمكن أن يشجع التغني بهذا الشعر أو العمل على إبقائه متداولًا في المجتمع الإسلامي الأول. وهذا سبب آخر يدعو إلى نسيانه أو الإعراض عنه5.   5 Margoliouth: المرجع ذاته، صفحات 423-426. الآيات القرآنية التي يستشهد بها على عدم معرفة الجاهليين بالكتابة، يستنتجها من سورة القلم: 37 و47، عن عدم نزول كتب سماوية على الجاهليين مثل كتب اليهود والنصارى، سورة السجدة: 30، القصص: 46، الأنعام: 156، عن القسوة في القرآن الكريم على الشعراء، سورة الشعراء: 224، الصافات: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أما عن علماء العرب في القرنين الثاني والثالث الهجريين ممن ذكروا الشعر الجاهلي أو قاموا على روايته فهم إما الإخباريون وهؤلاء لا يعتمد على ما ذكروه من شعر؛ إذ إن بعضهم أورد شعرًا لآدم بينما عزا البعض الآخر شعرًا غنائيًّا لإسماعيل وكلا الأمرين غير معقول، وإما الرواة من أمثال حمَّاد وجناد وخلف الأحمر وأبي عمرو بن العلاء والأصمعي وأبي عمرو الشيباني وابن إسحاق "صاحب السيرة" والمبرِّد، وهؤلاء لا يطمئن المستشرق إليهم لسببين رئيسيين: أولهما أن هؤلاء العلماء كان بعضهم يشكك في أمانة البعض الآخر في الرواية, ومثل هذه الاتهامات لا تجعلنا نعرف أين الشعر المنحول وأين الشعر الصحيح "إذا كان ثمة شعر جاهلي". والسبب الثاني هو أنه على فرض أن بعض ما رواه هؤلاء الرواة شعر صحيح أو يعتقدون أنه شعر صحيح فأين مصدره؟ لقد كان الإسلام متشددًا مع الوثنية تشددًا لا يعرف التهاون أو الكَلَل وقد ناصبها العداء بشكل انتهى إلى حروب أهلية سافرة سواء في أثناء الدعوة "غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو بعد الدعوة "حرب الردة" داخل شبه الجزيرة، فمن غير المعقول أن يشجع الشعر الجاهلي الذي يتغنى بأمجاد المجتمع الوثني. كذلك فإن أعدادا كبيرة من سكان شبه الجزيرة قد تركوها في فترة الفتوح الإسلامية ليستقروا في مواطن جديدة أدخلتهم في أجواء جديدة استوعبت اهتماماتهم وانشغلوا بالمواءمة بين أنفسهم وبين ظروفها, الأمر الذي يشجع اندثار ما كان قد علق بأذهانهم من الشعر الجاهلي على افتراض وجوده أصلا6. أما المجموعة الثانية من الأدلة فيتعرض فيها المستشرق إلى الشعر الجاهلي على أكثر من صعيد. فعلى صعيد الوزن الذي تجده فيما بين أيدينا من الشعر   6 المرجع ذاته: صفحات 428-434. الإشارة إلى شعر قاله آدم -عليه السلام- في المسعودي: مروج الذهب, المكتبة التجارية، القاهرة 1948، ج1 ص65, الإشارة إلى شعر قاله إسماعيل -عليه السلام- في الأغاني، ط دار الكتب. جسس13، ص 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 المنسوب إلى الجاهلية، فإن هذا الوزن يفترض مقدمًا أن يكون الشعر الجاهلي تاليًا لنزول القرآن وليس سابقا له كما يجب أن يكون. والسبب في ذلك أن تطور الفن الأدبي يسير من غير المنتظم إلى المنتظم، أي: يسير من النثر العادي، إلى نثر يظهر فيه السجع وشيء من الوزن ثم إلى الشعر الموزون وزنا كاملا. ونحن نرى أن القرآن الكريم فيه كثير من السجع وفيه قدر ظاهر من الوزن، ولكنه لا يصل إلى مرحلة الوزن الكامل، ومن هنا يصبح في افتراض وجود شعر جاهلي قبل نزول القرآن الكريم تناقضٌ مع تطور الفن الأدبي. ويدعم المستشرق دليله هذا بدليل آخر من حيث إن الوزن يمثل الموسيقى الشعرية فيذكر أن القرآن لم يذكر الموسيقى من مستحدثات العصر الأموي، ومن ثم فمن الصعب أن نتصور وجود شعر جاهلي بهذا الانتظام والتنوع في إيقاعه الموسيقي الذي يمثله وزن الشعر7. وعلى صعيد المعاني التي تناولها الشعر الجاهلي، فإن في بعض قصائده إشارات إلى القصص الديني مثل وصف نوح بالأمانة، واستعمالات لغوية إسلامية مثل: الحياة الدنيا ويوم القيامة ويوم الحشر والركوع والسجود ومثل هذه الإشارات لم تكن معروفة بين الجاهليين، كما أن مثل هذه الاستعمالات لم تكن شائعة أو ربما لم يكن بعضها معروفا في مجتمعهم. كذلك لا توجد في أشعار المسيحيين من شعراء الجاهلية أو من كانوا على صلة ببلاط الملوك المسيحيين "مثل ملوك الغساسنة" إشارات إلى الكتاب المقدس عند المسيحيين أو إلى تعاليم المسيحية إلا فيما ندر. وأخيرًا فإن القَسَم الذي يرد في هذه الأشعار هو دائما بالله على نمط ما جاء في القرآن الكريم، كما أن ترديد أي صدى من جانب هؤلاء الشعراء لكتاب مقدس، إنما هو ترديد لصدى القرآن   7 المرجع ذاته: 426 و446-447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الكريم، وليس مصدرا آخر غيره، وإذن فهو شعر وضع بعد الإسلام وليس شعرا قيل قبل الإسلام8. أما على صعيد اللغة التي صِيغ بها الشعر الذي يفترض أن يكون جاهليا, فإن مارجوليوث يذكر أن الشعر الجاهلي كله ورد بلغة واحدة هي لغة القرآن الكريم وهو يجد صعوبة في التوفيق بين هذه الظاهرة وبين ظاهرة أخرى وهي الاختلاف بين لغة القبائل الشمالية في مجموعها وبين اللغة الحِمْيَرِيَّة في الجنوب، ثم الاختلاف بين لهجات القبائل فيما بينها، كذلك يجد من الصعب أن نتصور وجود لغة واحدة مشتركة بين العرب في الجاهلية، فظهور الإسلام ونزول كتابه باللهجة التي نزل بها من لهجات الشمال العربي هو الذي وَحَّد العرب وكان أحد مظاهر هذه الوحدة هو الالتفاف حول لغة القرآن الكريم ويدعم المستشرق دعواه في هذا المجال فيقول: إنه لو كنا نبحث في وثائق نثرية "وليس في قصائد شعر" جاءت بلغة عربية واحدة "رغم اختلاف اللغات واللهجات في شبه جزيرة العرب قبل الإسلام" لقلنا: إنها إما ترجمت إلى اللغة الجديدة الموحدة أو إنها تدرجت من طور إلى طور آخر. ولكن الشعر فيه من الوزن والصنعة الفنية المعقدة ما يجعل ترجمته إلى لغة جديدة أو انتقاله من طور لغوي إلى طور آخر، مع محافظته على وزنه وعلى صنعته الفنية، أمرا مستحيلا9. هذه هي الدلائل التي ساقها مارجوليوث في كتاباته ليخلص منها إلى أن الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا لا ينتمي في الحقيقة إلى العصر الجاهلي, وإنما نحله الرواة في القرنين الثاني والثالث بعد الهجرة ثم نسبوه إلى أسماء جاهلية. وقد عضد هذا الافتراض عالم عربي هو الدكتور طه حسين في كتابه "في   8 المرجع ذاته: صفحات 434-437، عن الإشارة القرآنية إلى أمانة نوح -عليه السلام- راجع حاشية 23 أدناه. 9 المرجع ذاته: 440-442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الشعر الجاهلي" الذي أعاد طبعه تحت عنوان "في الأدب الجاهلي". ويوافق الدكتور طه حسين على ما قدمه الأستاذ مارجوليوث من أدلة واستنتاجات ويساندها بمزيد من التفصيلات ثم يضيف إليها شواهد جديدة تدعم شكه في وجود شعر جاهلي، وهو شك يكاد يصل عنده إلى نفي وجود هذا الشعر الجاهلي. وأهم هذه الشواهد الجديدة أن الشعر الجاهلي "المفترض في رأيه" لا يمثل الحياة الدينية أو العقلية أو السياسية أو الاقتصادية عند عرب الجاهلية. فمن الناحية الدينية يلاحظ الكاتب الكبير أن الشعر الجاهلي لا يكاد يتطرق إلى حياة دينية تبين عقائد الجاهليين واعتزازهم أو تمسكهم بها, ومع ذلك فالقرآن الكريم يشير إلى حياة دينية قوية عند هؤلاء القوم، وهي حياة يتشبثون بها، ويدعوهم تشبثهم هذا، حسبما نقرأ في عديد من الآيات القرآنية، إلى أن يجادلوا عنها، فإذا لم يغنهم الجدل لجئوا إلى الكيد للرسول -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه ثم إلى اضطهادهم، وقريش لا يمكن أن تفعل هذا بأبنائها لو لم يكن لها من الدين إلا ما يمثله هذا الشعر الذي ينسب إلى الجاهليين10. كذلك فإن هذا الجدل ذاته التي تفننت فيه قريش إبرازًا لحججها وتحدياتها الفكرية يمثل ذكاء وحياة عقلية متقدمة لا يمكن أن توجد لديهم إذا كانوا على ما يظهره لنا الشعر الجاهلي من غلظة وجفاء11. والتناقض ذاته نجده فيما يتصل بالحياة السياسية عند الجاهليين, لقد كانت العلاقات الدولية بين الفرس والبيزنطيين "الروم" تحيط بهم وتؤثر عليهم ويهمهم تتبعها فيما يتعلق بتجارتهم مع بلاد الشام التي كانت تحت حكم البيزنطيين ومن ثم كان   10 طه حسين: في الأدب الجاهلي، ط. دار المعارف، القاهرة، ط4، ص80. 11 المرجع ذاته: ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 انتصار أو انكسار واحدة أو الأخرى من هاتين القوتين أمرًا له قيمة في حياة قريش. وقد جاءت في القرآن إشارة تفيد هذا المعنى وتشير إلى العلاقة بين الفرس والروم وإلى رحلة الشتاء والصيف. وإحدى هاتين الرحلتين كانت إلى الشام حيث الروم والأخرى إلى اليمن حيث الحبش، ومع ذلك فإن شيئا من هذه الحياة التي يظهر فيها الاهتمام بمجريات الأمور السياسة لا يظهر في الشعر الجاهلي12. أما عن الحياة الاقتصادية فيلاحظ الدكتور طه أن القرآن يقسم عرب الجاهلية إلى قسمين: هما الأثرياء المتعنتون الذين روجوا الربا ومنعوا الصدقة جشعًا وبخلًا, والمعدمون المستضعفون الذين لا يملكون أمام هؤلاء شيئًا, والصراع بين هاتين الطبقتين يصبح من ثم شيئا واردا أو على الأقل تصبح المعاناة من الطبقة المعدمة تصبح ظاهرة محسوسة، ومع ذلك فالشعر الجاهلي يقف من كل هذا موقفا صامتًا مع أن المعاناة التي يتمخص عنها مثل هذا الصراع هي موضوع الشاعر في المقام الأول. ومع ذلك فإننا لا نرى شيئا من هذا في الشعر الجاهلي13، بل لا نرى إلا حديثًا عن الكرم لدرجة التبذير مع أن البخل كان موجودًا وهو وارد على الأقل إلى جانب الكرم. وأخيرًا فموقف الشعر الجاهلي يكرر نفسه فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية للعرب في الجاهلية. وهنا يلاحظ الكاتب أن هذا الشعر لا يعني إلا بحياة البادية وعلاقاتها ولا يكاد يذكر حياة البحر، فإذا ذكرها فهو ذكر الجاهل الذي لا يكاد يعرف عنها شيئًا. ومع ذلك فإن القرآن يمنُّ على العرب بأن سخر لهم البحر وجعل لهم فيه منافع كثيرة14. وهكذا يؤكد طه حسين أن الشعر الجاهلي لم يكن له وجود وأنه من   12 المرجع ذاته: صفحات 82-83. 13 المرجع ذاته: صفحات 84-85. 14 المرجع ذاته: ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وضع الرواة أو من نقل عنهم الرواة في القرنين الثاني والثالث بعد الهجرة. ثم يقدم السبب الذي يعتقد أنه دفع هؤلاء الرواة إلى ما أقدموا عليه، فيرد ذلك إلى حركة الشعوبية التي ظهرت آنذاك وهي حركة حاول فيها الشعوبيون أن يحطوا من شأن العرب والعروبة فنحلوا شعرا يصف العرب بالبداوة والغلظة والتخلف نسبوه إلى العصر الجاهلي، وقابل ذلك أنصار العروبة بأن نحلوا بدورهم شعرًا يمجد العرب وصفاتهم ونسبوه هم الآخرون إلى الجاهليين وهكذا تكوَّن رصيد الشعر الجاهلي15.   15 المرجع ذاته:176, 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 3- ردود على هذه الاعتراضات : هذه هي جملة الآراء التي يحاول أصحابها أن ينكروا وجود شعر لدى العرب في العصر الجاهلي، وأن يثبتوا أن ما وصل إلينا عن طريق الرواة في هذا الصدد لم يكن شعرا جاهليا وإنما كان شعرا منحولا وضعه هؤلاء الرواة أو من نقل عنهم هؤلاء الرواية في عصر لاحق للعصر الجاهلي بعدة قرون. على أن الأدلة والشواهد التي ساقوها هي أدلة مردود عليها, سواء فيما يتصل باللغة التي قيل بها الشعر الجاهلي أو بالشعر نفسه أو بالطريقة التي انتقل بها إلى الرواة من علماء القرنين الثاني والثالث بعد الهجرة أو بهؤلاء العلماء الرواة أنفسهم. ولكن قبل مناقشة هذه الأدلة والشواهد أجد من اللازم أن أشير إلى بديهية مؤداها أن أية مجموعة من الشعر في أي مجتمع وفي أي عصر، حتى في العصور التي أصبحت فيها الكتابة هي الوسيلة الأساسية لجمع الآثار الأدبية وحفظها، معرضة بسبب التداول لقدر من التغيير في بعض الكلمات أو العبارات أو الأبيات, بل إلى النقصان والزيادة ليس في أبيات فحسب وإنما في قصائد كاملة. وهذا التغيير أو النقصان أو الزيادة يكون واردا بشكل أكثر في العصور التي تعتمد أساسًا على الرواية الشفهية في نقل الشعر من جيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 لجيل، أو التي تطغى فيها الرواية على التدوين الكتابي للشعر، أو حتى إذا سارت جبنا إلى جنب مع هذا التدوين. وأسوق على هذا مثالين, أحدهما هو الإلياذة والأوديسية المنسوبتان إلى هوميروس, وهما ترجعان إلى أواسط القرن التاسع ق. م. ومع ذلك فقد انتقلتا عن طريق الرواية عبر ما يقرب من قرنين أو ربما أكثر من ذلك قبل أن يتم تدوينهما بصورة نهائية. بل إن الملحمتين ذاتهما حين تمت صياغتهما في أواسط القرن التاسع ق. م. كانت هذه الصياغة لا تزيد كثيرا على إعطاء حبكة فنية وأدبية لمقطوعات شعرية قيلت على مدى ثلاثة قرون أخرى قبل ذلك16. أما المثل الثاني فهو قصائد شكسبير التي لا تزال نسبة عدد مما تضمه من مقطوعات وقصائد إلى الشاعر موضع نقاش حتى الآن، رغم أن الفترة التي كتب فيها شكسبير "الشطر الأخير من القرن السادس عشر وأوائل القرن الذي يليه" كان التسجيل الكتابي هو الوسيلة الأساسية للتدوين دون منازع. وأنتقل الآن إلى مناقشة الأدلة والشواهد التي ينكر أصحابها وجود الشعر الجاهلي مبتدئًا بتلك التي تتعلق باللغة من حيث إنه كان في الجزيرة العربية قبل الإسلام لغتان أساسيتان هما: لغة القبائل الشمالية بلهجاتها في الشمال واللغة الحِمْيَرية في الجنوب, وهو أمر يستغرب معه ورود الشعر الجاهلي بلغة قبائل   16 تمت صياغة الملحمتين في أواسط القرن التاسع ق. م. ولم تنتشر الكتابة في بلاد اليونان بشكل مبدئي إلا في أواسط القرن الذي يليه، راجع حاشيتي 1 و2 أعلاه، ولنا أن نفترض مرور قرن آخر قبل أن نتصور انتشارًا في الكتابة واهتمامًا بالقراءة يسوِّغ تدوين الملحمتين. راجع مسألة تدوينهما في أواسط القرن السادس ق. م. على عهد الطاغية الأثيني بيزستراتوس في، j.b. bury: a hIstory of greece لندن، 1945، ط2، ص198. عن صياغة الملحمتين من مقطوعات شعرية تُدُووِلت شفاهًا عبر ثلاثة قرون سابقة لذلك، راجع حاشية 1 أعلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الشمال فحسب، بل بلهجة واحدة من لهجاتها هي التي نزل بها القرآن الكريم، وفي الرد على هذا يقول أحد الباحثين: إن توحد اللغتين: القحطانية أو الحميرية في الجنوب، والعدنانية في الشمال -بعد ظهور الإسلام ببضع عشرات من السنين- لا يمكن أن يتيسر في الحقيقة إلا إذا كان هناك تقارب شديد بين اللغتين في الفترة السابقة للإسلام, كان أحد مظاهره وجود لغة أدبية مشتركة بين شعراء الجزيرة العربية في العصر الجاهلي17. وأود أن أدعم هذا الرأي بشاهدين يجعلان وجود مثل هذه اللغة المشتركة أمرًا واردًا إلى حد كبير، والشاهد الأول هو أن الاتصال المباشر كان اتصالا نشطا وكثيفا بين أقسام شبه الجزيرة العربية وبخاصة بين شماليها وجنوبيها عن طريق القوافل التجارية المستمرة على مدار السنة, وقد كانت مكة بالذات هي الموقع الذي تلتقي عنده أهم طريقين من هذه الطرق التجارية، وهما الطريق المؤدية من اليمن في الجنوب إلى سورية في الشمال، والطريق التي تبدأ من مكة وتتجه اتجاها شرقيا وشماليا شرقيا لتصل إلى رأس الخليج ومن ثم إلى وادي الرافدين. وقد كانت أولى هاتين الطريقين بالذات، وهي الطريق القادمة من الجنوب، على نشاط غير عادي, فهي لا تقتصر على حمل البخور -أهم سلعة في ذلك العصر- إلى سورية وإلى موانئها على البحر المتوسط ومن ثم إلى الشواطئ الأوروبية لهذا البحر، بل كانت تزيد على ذلك حمل السلع الآتية من الهند إلى هذه الشواطئ والتي كانت تصل إلى عدن بحرا ثم يُنقل قسم قليل منها بهذه الطريق البرية إلى الشمال18. ومثل هذا النشاط التجاري الكثيف المستمر كان معناه اتصالًا دائمًا بين التجار وتجمعًا حول لغة وسيطة مشتركة للتعامل والتفاهم، وفي هذا الصدد تكون لهجة قريش في مكة هي   17 محمد الخضر حسين: نقض كتاب في الشعر الجاهلي، القاهرة، صفحات 100. 18 راجع الجزء الخاص بالحياة الاقتصادية في شبه جزيرة العرب, في القسم الثالث من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 المرشحة لأن تكون هذه اللغة طالما أن مكة هي نقطة التوقف والمحط التجاري الأساسي للقوافل الآتية من الشمال والجنوب والشرق, وهي التي تتم فيها الصفقات والمعاملات والخدمات وما يستتبعه كل هذا من بعض الشعائر الدينية أو الابتهالات أو التضحيات التي يقوم بها هؤلاء التجار تقربا من معبوداتهم والتماسًا لمباركة هذه الآلهة عند الكعبة التي كانت تقوم بساحة هذه المدينة لا تفرق بين واحد أو آخر من هذه المعبودات. أما الشاهد الثاني، فهو أن انتشار لغة عن طريق التجارة أمر له سابقة قوية في تاريخ منطقة الشرق الأدنى، وأشير هنا إلى اللغة الآرامية التي حملها التجار الآراميون من دمشق منذ أواسط القرن الثامن الميلادي لتنتشر حتى تصبح اللغة السائدة في منطقة الهلال الخصيب. لقد دخلت هذه اللغة منطقة آشور ليصبح المتحدثون بها من الآشوريين أكثر من المتحدثين باللغة الآشورية نفسها، واستمرت كذلك بعد سقوط الدولة الآشورية "612 ق. م" وقيام الدولة البابلية الحديثة على أنقاضها. كذلك بلغ من انتشار هذه اللغة في منطقة الهلال الخصيب أن اتخذها الفرس لغة رسمية للمعاملات الإدارية في أثناء سيطرة الإمبراطورية الفارسية على هذه المنطقة ابتداء من أوائل القرن السادس ق. م "530 ق. م. وما بعدها". بل لقد بلغت كثافة هذا الانتشار أن حلت بين العبرانيين كلغة للتداول والتفاهم محل لغتهم العبرية. ويكفي دليلًا على ذلك أنها كانت اللغة التي اتخذها السيد المسيح للتبشير بدعوته بين قومه من العبرانيين19. وقد كان أحد الأسباب الرئيسية في انتشار اللغة الآرامية بين شعوب منطقة الهلال الخصيب أن لغات هذه الشعوب كانت سامية ومن ثم من فصيلة هذه اللغة. فإذا كان الأمر كذلك، فإنه يصبح واردا بشكل أكثر وأقوى أن يطغى قسم من اللغة العربية على قسم آخر من اللغة نفسها إذا توفر   19 j.h. breasied: ancient times، بوستن، 1935، صفحات 186, 205, 207, 234, 265, 788. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 العنصر أو العامل التجاري النشط كما كانت الحال عند الآراميين الذين انتشرت لغتهم نتيجة لنشاطهم التجاري فحسب رغم أن السيادة العسكرية والسياسية كانت في أيدي حكومات لشعوب أخرى سواء من الآشوريين أو البابليين أو الفرس. وأنقل الحديث الآن إلى مناقشة المنكرين لوجود الشعر الجاهلي فيما يخص الشعر ذاته، وأول نقطة في هذا الصدد تتصل بالرأي القائل: إن الشعر العربي لا يمكن أن يسبق نزول القرآن الكريم بل لا بد أن يكون لاحقًا له طالما أن القرآن قد تضمنت بعض عباراته شيئًا من الإيقاع أو الوزن، بينما الشعر كله موزون، وذلك تمشيا مع افتراض مؤداه أن تطور الفن الأدبي يسير من غير المنتظم إلى المنتظم. والرد الذي أقدمه هو أن هذا الافتراض لا يتمشى مع الظواهر الأدبية أو الاجتماعية المؤكدة. فمن ناحية الظواهر الأدبية نجد أن الشعر أسبق في الظهور في المجتمعات من النثر, ودليلنا على ذلك هو ملحمتا الإلياذة والأوديسية التي أسلفت الإشارة إليهما، فقد كانت هذه الأشعار هي أول بادرة في أدب اليونان، وكانت ثاني هذه البوادر ملحمتان شعريتان أخريان هما "الأعمال والأيام" و"سلالة الآلهة" للشاعر هزيودوس20, ولم ينضج النثر الفني عند اليونان إلا بعد ذلك بعدة قرون. والسبب في سبق الشعر على النثر هو أن الشعر بوزنه "أو إيقاعه" وقافيته أقرب إلى الالتصاق بالذاكرة من النثر إذ هو يساعدها على استيعابه أكثر مما يفعل الكلام المنثور, والسبب الثاني هو أن الإيقاع أقرب إلى الفطرة. ودليلنا الاجتماعي على ذلك هو أن المجتمعات البدائية كانت ولا تزال تعبر عن نفسها برقصات إيقاعية، والإيقاع الذي تمثله الدقة والحركة في الرقص هو ذات الإيقاع الذي يمثله الوزن في الشعر.   20 يعود نظم ملحمتي هزيودوس إلى ما بعد ملحمتي هوميروس بنحو قرن على الأكثر. راجع حاشية 1 في الباب السادس من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 أما النقطة الثانية في هذا المجال فهي ما أورده المنكرون للشعر الجاهلي من أن به بعض المعاني أو الألفاظ والإشارات الدينية التي وردت في القرآن الكريم ومثل هذه المعاني والألفاظ أو الإشارات تفترض في رأيهم أن يكون ما وصلنا من الشعر الجاهلي قد وضع في فترة لاحقة لنزول القرآن الكريم. وفي هذا المجال رد أحد الباحثين على ورود بعض المعاني القرآنية في الشعر الجاهلي بأنه من الجائز أن ينطق العرب بحكمة ثم يأتي القرآن بهذه الحكمة ويبرزها على وجه أبلغ وأرقى21. وهو أمر أراه واردًا فالقرآن الكريم نزل إصلاحا للمجتمع بما فيه من أفكار وممارسات، وإذا كان من الطبيعي أن يقف في وجه الفكرة أو الممارسة الخاطئة، فمن الطبيعي كذلك أن يدعم الفكرة أو الممارسة السليمة. وأود أن أضيف هنا، فيما يخص ورود بعض استعمالات الألفاظ القرآنية مثل الركوع والسجود وغيرهما في الشعر الجاهلي أن القرآن الكريم نزل لكي يفهمه ويقتنع به الجاهليون، ومن ثم لا بد أن يستخدم ألفاظًا يعرفون ويمارسون استعمالها ومضمونها ومن غير الوارد أن ينزل بألفاظ غريبة عليهم، وفي هذا المجال فإن القرآن يحرص في مناسبات عديدة على أن يذكر بهذه الحقيقة وهي أنه نزل بلسان عربي يعقله أو يفهمه سامعوه أو أنه نزل بلسان عربي "مبين"، أي: إن هدفه هو الإيضاح والإبانة، وما كان لهذا الإيضاح أن يتم لو كانت ألفاظ القرآن غريبة على الجاهليين22. وأما عن إشارة مثل وصف نوح بالأمانة التي وردت في شعر النابغة, فإن النابغة إن لم يكن نصرانيا فقد كان على صلة دائمة ببلاط الغساسنة وهم نصارى, ومن ثم يعرفون أسفار "العهد القديم" أو التوراة التي يرد فيها   21 محمد الخضر حسين: المرجع ذاته، ص212. 22 من الآيات القرآنية التي أشارت إلى ذلك، سورة النحل: 103، سورة الشعراء: 195، يوسف: 21، طه: 113، الزمر: 28، فصلت: 3، الشورى: 7, الزخرف: 3، الأحقاف: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ذكر لنوح ووصف له بالأمانة23، والشيء ذاته يقال عن بقية الإشارات أو الألفاظ الدينية التي يوردها أصحاب هذا الرأي، ولعل أهم إشارة بينها هي الإشارة إلى "الله" عند عدد من شعراء الجاهلية. والحقيقة الثابتة في هذا الصدد هي أن "الله" كمعبود لم يكن غريبًا عن شبه الجزيرة   23 بيت النابغة الذي يشير إليه المستشرق مارجوليوث: المرجع ذاته، ص436، هو: فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون وإشارة وصف نوح بالأمانة ترد في سورة الشعراء: 107، ولكن إضفاء الأمانة على أي شخص يثق فيه قومه كان أمرًا واردًا ولا غرابة فيه، فاللفظة عربية، والصفة واردة في التعامل اليومي، وقد وصف شيوخ قريش محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالأمين وهو صبي في أثناء حادثة الحجر الأسود عند ترميم الكعبة، قبل أن ينزل القرآن الكريم، ولا أرى في الواقع وجهًا للغرابة في أن يوصف رسول بالأمانة, فالصفة الأساسية لحامل الرسالة هي الأمانة في تأديتها وتبليغها سواء قبل نزول القرآن الكريم أو في آياته. والقرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي كي يعقله ويفهمه العرب يستخدم هذه الصفة لعدد آخر من الأنبياء والرسل في سورة الشعراء: هود في آية 125، صالح 143، لوط 162، شعيب 178. وواضح أن صفة الأمانة التي تتردد في وصف الرسل في سورة الشعراء هي مقابلة مع صفة عدم الأمانة التي يوصف بها الشعراء في السورة ذاتها: 226 {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} . وفيما يخص ما يرى مارجوليوث أنه عدم معرفة من جانب مجتمع الجاهلية بنوح وأمانته, يستشهد المستشرق بعدم معرفة محمد -صلى الله عليه وسلم- وقومه بذلك كما يظهر من سورة هود: 49 {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} . ولكن الإشارة هنا هي إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وقريش، أو على أوسع تقدير إلى الجاهليين من غير أهل الكتاب، ولكنها ليست إشارة إلى اليهود والنصارى من أهل الكتاب كما هو واضح من الآية. وقد كان وصف نوح في التوراة التي تعرفها هاتان الطائفتان الدينيتان بأنه رجل بار، وهو وصف يحمل معنى الأمانة، راجع: التوراة, سفر التكوين، إصحاح 6, وإصحاح 7: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 العربية قبل ظهور الإسلام، فقد ورد "الله" بهذه الصفة في جنوبي شبه الجزيرة وشماليها ووسطها في نقوش لحيانية وثمودية وصفوية ومعينية ترجع أول مجموعة منها إلى القرن الخامس ق. م. أي: قبل ظهور الإسلام بأكثر من ألف سنة, وتشير بعض هذه النصوص التي ترجع إلى هذه الفترة المبكرة إلى أن "الله" قد احتل مركز الصدارة بين المعبودات الأخرى، كما تشير آيات القرآن الكريم إلى أن أهل مكة الذين جادلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يتحولوا إلى الإسلام كانوا يعرفون "الله" بصفته أكبر الآلهة، وأنهم كانوا يتشفعون لديه ويتزلفون إليه ببقية الآلهة الأخرى "الصغيرة"أ. ثم أنتقل إلى نقطة ثالثة فيما يخص مضمون الشعر الجاهلي الذي رأى منكرو وجوده أن ما بين أيدينا منه لا يصور الحياة في المجتمع الجاهلي في جوانبها المتعددة، ومن ثم فهو لا يمكن أن يكون أصيلًا، ولكنه منحول. وفيما يخص أحد هذه الجوانب، حسبما يرون، فإن ما وصلنا من الشعر الجاهلي خالٍ من الإشارة إلى المعتقدات والممارسات الدينية الوثنية، وإن هذا أمر لا يتصل إزاء ما نعرفه من القرآن الكريم من أن أهل قريش كانوا حريصين على عقيدتهم وأنهم جادلوا عنها ووصل تشبثهم بها إلى درجة الكيد للرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم إلى اضطهاده هو وأتباعه. وأود أن أذكر هنا أن هذه الملاحظة من جانب المعارضين لأصالة الشعر الجاهلي الموجود بين أيدينا صادقة في عمومها من حيث ندرة الإشارة إلى العقائد والممارسات الوثنية على الأقل إن لم يكن من خلوه منها تمامًا، ب, ولكن في مقابل ذلك ينبغي أن ندخل في اعتبارنا   أراجع الحديث عن الوضع الديني في الباب التاسع من هذه الدراسة. ب وردت بعض أبيات في الشعر الجاهلي من بينها الإشارة إلى ذي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 موقف الإسلام الذي كان من المنطقي أن يتخذ موقفا متشددا إزاء كل ما يتصل بالوثنية أو يذكر بها أو يغري بالعودة إليها، ومن بين ذلك مواضع الشعر التي تمجِّد الوثنية وتتغنى بها، ومن ثم فلنا أن نتصور أن أي أبيات وردت فيها إشارات واضحة إلى العقائد أو الممارسات الدينية الجاهلية كان من الطبيعي أن تُسقَط من رواية الشعر الجاهلي بعد ظهور الإسلام، وهو موقف يمكن أن نجد له شبيها في ابتعاد الفن العربي في العصر الإسلامي عن النحت خشية أن تذكِّر التماثيل المنحوتة بأوثان الجاهلية، مع أن هذا الفن كان موجودا ومزدهرا في عدد من أقسام شبه الجزيرة العربية لفترات طويلة في المرحلة السابقة للإسلام ج. على أن الأمر لا يقف عند هذا في الرد على منكري أصالة الشعر الجاهلي من هذا الجانب, فاختفاء الإشارة الظاهرة المباشرة إلى العقائد والممارسات الوثنية في الشعر الجاهلي ليس دليلا على خلو هذا الشعر منها. وفي هذا الصدد فإن الشعر، أي شعر، لا يمكن تفسيره على أنه تعبير حسي مباشر عن الأشياء والكائنات والمشاعر، فالشاعر ابن بيئته بكل ما لها من أبعاد، سواء في ذلك البعد المادي أو الحسي الذي يتمثل في العالم المحسوس المباشر أو البعد السيكولوجي الذي يتمثل في التركيب   = دوار في معلقة امرئ القيس "المجاني، المعلقة، بيت62": فعَنَّ لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار في ملاء مذيل وعند عامر بن الطفيل "المجاني، قصيدة يوم فيف الريح, بيت 9": وقد علموا أني أكرُّ عليهمو ... عشية فيف الريح كر المدور وعند ميَّة بنت أم عتبة في وصف الشمس بالآلهة "ونسب كذلك لواحدة من ثلاث نساء غيرها"، لسان العرب، مادة: لاه، تاج العروس، 374:9: تروحنا من اللعباء عصرا ... فأعجلنا الآلهة أن تئوبا ج راجع الحديث عن النحت في الباب الرابع من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 النفسي للفرد والمجتمع نتيجة للظروف الخاصة التي تحيط بهما، أو البعد الميثولوجي الذي يتمثل في المعتقدات الأسطورية التي عبَّرت مجتمعات العصور القديمة من خلالها عن تصورها لعلاقاتها بالعالم المحيط بها بكل ما فيه من مظاهر طبيعية وكونية ومن قوى إلهية تحكم كل هذه المظاهر وتحركها وتوجهها. وقد تمثلت هذه المعتقدات في قدر غزير من الأساطير التي شكلت قسمًا أساسيًّا من تراث المجتمعات القديمة، وبوجه خاص قبل نزول الأديان السماوية التي حددت للأفراد والمجتمعات الأصول التي تلتزم بها في تصورها للقوى الإلهية. وقد شكل الشعر مجالا أساسيا ظهرت فيه هذه الأساطير في هيئة صور عبَّر المجتمع من خلالها عن القوى الإلهية التي تتحكم في مظاهر الخلق والحياة والموت والبعث والأمومة والخصوبة وغيرها من المظاهر التي تحيط به، د. والمجتمع الجاهلي لم يكن، ويصبح من المناقض لطبيعة الأشياء أن نتصور أنه كان, بدعًا في هذا المجال، فقد كان مجتمعا له تصوراته الميثولوجية التي يعبر من خلالها عن القوى الإلهية التي يؤمن بها، والشعر الذي وصلنا من هذا المجتمع فيه قدر كبير من هذا التصوير, بل إن الصورة غلبت على التعبير اللغوي في هذا الشعر بحيث أصبحت ركنا أساسيا أو أصلًا من أصول التعبير الشعري الجاهلي. وحقيقة إن الشراح الذين تناولوا الشعر الجاهلي بالتفسير في العصر الإسلامي "ولا يزال يتبعهم عدد من الباحثين في الوقت الحاضر" قد قصروا جهودهم في تفسير هذه الصور والتشبيهات أو المجازات والاستعارات التي تضمنتها على البعد الحسي المباشر, فإذا قال شاعر: إن المرأة تشبه الشمس كان   د من بين هذه الملاحم الشعرية على سبيل المثال: ملحمة الطوفان السومرية، وملحمة الطوفان البابلية، وملحمة جلجامش, وملحمة إينوما أبليش وكلها من وادي الرافدين، ثم ملحمة الإلياذة وملحمة الأوديسية المنسوبتان إلى الشاعر هوميروس, وملحمة سلالة الآلهة للشاعر هزيودوس وكلها ملاحم يونانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 تفسيرهم أن الشبه بين الاثنين هو البهاء، وإذا شبهت بالظبي فإن ذلك لطول جيدها وهذه علامة جمال، فإذا كان التشبيه بالمهاة فإن ذلك سببه الحور في العينين وهكذا، هـ. ولكن يبقى هذا التفسير قاصرًا على بعد واحد من أبعاد الشعر، ويبقى هناك البعدان الآخران لتفسير هذا الشعر حتى نفهمه على وجهه الكامل، وهما البعد السيكولوجي والبعد الميثولوجي -ومن خلال التفسير الذي يتصل بهذا الأخير "الميثولوجي" يجب أن نبحث عن الأساطير التي تضم المعتقدات الدينية للمجتمع الجاهلي من خلال الصور التي يزخر بها شعر هذا المجتمع، ومن خلال التفسير الذي يتصل بالبعد السيكولوجي يجب أن نستكمل صورة هذه المعتقدات. وقد قدم باحث معاصر تفسيرًا ميثولوجيًّا مقنعًا لعدد من الصور التي ترمز إلى الشمس وإلى الزهرة كمعبودين من الثالوث الكواكبي الذي شاعت عبادته في مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، و. وابتدأ الباحث من أمر ثابت هو أن الشمس صورت في النقوش السامية الشمالية في صورة امرأة عارية تعبيرًا عن الأنوثة والخصوبة وأن عديدا من الدمى أو التماثيل الصغيرة التي عثر عليها المنقبون الأثريون في عدد   هـ- السبب المرجح لهذا المنهج هو أن شرَّاح أو مفسري الشعر في العصر الإسلامي كانوا قد ضربوا صفحًا عن أية إشارة ميثولوجية من العصر الجاهلي، فالصور الميثولوجية المتصلة بالضرورة بالعقائد الوثنية كان قد أُلقي دونها الستار بالضرورة منذ ظهور العقيدة الإسلامية التي وضعت حدا نهائيا لأساطير الأولين وحددت للمسلمين التصور الوحيد المقبول للعلاقة بين الإنسان والقوة الإلهية -وهو أمر يزداد ترجيحه إذا أدخلنا في اعبتارنا أن مفسري القرآن والحديث كانوا كثيرًا ما يستشهدون بالشعر الجاهلي سواء في تحديد المعنى المقصود من بعض الألفاظ أو في قضايا جانبية أخرى. و إبراهيم عبد الرحمن محمد: الشعر الجاهلي، قضاياه الفنية والموضوعية "القاهرة، نشر مكتبة الشباب, 1979" 234-259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 من المناطق "من بينها مناطق تسكنها شعوب سامية" تمثل الآلهة الأم في هيئة امرأة لا تتضح معالم وجهها وإنما تتضخم أعضاء جسمها التي تتصل بالخصوبة والأمومة، ز. وانتهى إلى أن الشعر الجاهلي يضم قدرًا كبيرًا من الصور التي تمثل المرأة والتشبيهات التي شبهت بها في صورة مثالية ترمز إلى الشمس الآلهة الأم من جهة، وإلى الزهرة الآلهة البنت التي تقابل إنانا في وادي الرافدين وعشتار في سورية وأفروديتي عند اليونان وفينوس عند الرومان من جهة أخرى، بكل ما يرتبط بصورها هذه من مواقف الحب الجسدي التي تزخر بها أساطير هذه المجتمعات. وأول ما يلاحظه الباحث في هذا المجال هو أن الأوصاف التي يقدمها الشعراء الجاهليون لصاحباتهم أو محبوباتهم يجمعون فيها كل الصفات المثالية للمرأة الجميلة "وفي بعض الأحيان يجمع الشاعر منهم كل هذه الصفات في قصيدة واحدة كما فعل امرؤ القيس في وصف صاحبته فاطمة، وقيس بن الحطيم في وصف صاحبته عمرة": قدها، شعرها، وجهها, نظرتها، فمها، لعابها, ترائبها، خصرها، سيقانها، رائحتها، مشيتها، وهكذا. وفي هذا الصدد نلاحظ أمرين: أحدهما هو أن كل تفاصيل الجمال الواردة نمطية لا تختلف من شاعر لشاعر وهو أمر غير معقول؛ إذ لا يتصور أن تكون كل صاحبات الشعراء نسخة مكررة, والأمر الثاني هو أنه من غير المعقول أن تجتمع كل تفاصيل الجمال   ز- المرجع ذاته، ص240، ومراجعه في حاشية 9 وكذلك ص 249 ومراجعه في حاشية 28. ولتأييد مراجع الباحث أضيف أن عددًا كبيرًا من تماثيل الآلهة الأم قد وجد في وادي الرافدين في المناطق التي عثر فيها على مخلفات مرحلة حضارة تل حلف ومرحلة حضارة العبيد "وهي تماثيل نجد مثيلًا لها في مخلفات الحضارة المينوية في كريت ومخلفات الحضارة الحيثية في الأناضول بآسيا الصغرى" راجع: G. Roux: Ancient Iraq "Pelican ed. 1946" PP.65,67,69-70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 "حتى بصرف النظر عن نمطيته" في امرأة واحدة، وهكذا لا يمكن أن تكون الأوصاف التي يقدمها هذا الشاعر أو ذاك هي أوصاف صاحبته بالذات, وأزيد على هذين الأمرين أمرًا ثالثًا متصلًا بهذا الأمر الثاني, وهو أن الشاعر غير مجبر على وصف كل تفصيلة من تفاصيل جسم صاحبته أو صفاتها، إذا لم تكن كل هذه التفاصيل جميلة "وهو الأمر الطبيعي" ولكن الشعراء دأبوا مع ذلك على وصف كل هذه التفاصيل", ومن ثم فإن المعقول والممكن هو أن تكون الصورة المقدمة هي صورة "المرأة المثال" التي لا يمكن أن تكون إلا صورة مجسدة من الآلهة المعبودة بكل ما في هذه الآلهة من أوصاف وصفات مثالية، وكأن الشاعر يقول: إن صاحبتي آلهة في جمالها. ويدعم هذا الافتراض صور التقديس التي تحيط بالمرأة، بشكل أو بآخر, عند ذكرها في عديد من المناسبات عند شعراء الجاهلية، فهي عند امرئ القيس تضيء الظلام كأنها "منارة ممسي راهب متبتل"، وعند ابن الخطيم "تمشي كمشى الزهراء" كما أنها قد "نمتها اليهود إلى قبة دوين السماء بمحرابها", وعمرو بن معد يكرب يمشي "حولها ويطوف فيها" وحتى الأعشى الذي يتهكم بالمرأة، ح، يتحدث عن "محرابها" وعن قومها الذين "يمشون حول قبابها" درءًا للمتطفلين وحذرًا من أن "يطاف ببابها" وهكذا. كذلك يدعم ربط صورة المرأة المثالية بالشمس المعبودة الأوصاف   ح- يرد الباحث تهكم الأعشى بالمرأة مع بقاء مظاهر التقديس متصلة بصورتها إلى ما بدأ يصيب عبادة الكواكب من شك على أيدي الشعراء الذين أخذوا يتصلون في أواخر العصر الجاهلي بأصحاب الديانات السماوية التي عرفت في شبه الجزيرة العربية آنذاك "المسيحية واليهودية" والحنيفية. المرجع ذاته، ص 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 التي ترد في الشعر الحاهلي والتي تربط بين لون الشمس ولون المرأة، فطرفة بن العبد يرى أن فم صاحبته قد "سقته إياه الشمس" كما يرى أن وجهها "نقي اللون" "كأن الشمس ألقت رداءها عليه". كذلك نجد الشعراء في هذا الصدد يرون من علامات الجمال فيمن يتغزلون فيهن أن يميل لونهن إلى الصفرة "التي هي لون الشمس" سواء أكانت هذه الصفرة طبيعية أم نتيجة لاستخدام طيوب التجميل، فصاحبة امرئ القيس "كبكر مقاناة البياض بصفرة" وصاحبة ابن الخطيم تبدو "كأنما شفَّ وجهها نزف" فبدا شاحبا مصفرا, يتغزل في فتاة لا تزال "غريرة" في عنفوان صباها فيذكر أنها "كالحقة الصفراء". كذلك نجد وصفًا من أوصاف المرأة يتردد كثيرا فيما وصل إلينا من الشعر الجاهلي، ويصل بين المرأة والشمس من جهة, والزهرة من جهة أخرى، وهو النور الذي يبرز مقترنًا بالندى "والإشارة واضحة إلى الفجر حيث مقدمات الشروق" حين يتحدث طرفة عن فم صاحبته عند ابتسامها فيخيل إليه "كأن منوّرًا تخلل حد الرمل دعص له ندى"، كما نجد أن صاحبة امرئ القيس "تضيء الظلام بالعشاء"، كما "يضيء الفراشَ وجهُها لضجيعها" وهكذا. ثم يخلص الأستاذ الباحث بعد ذلك إلى الصفة الموضوعية الأساسية, وهي صفة الخصوبة التي تمثلها أشعة الشمس وأمومة المرأة. وهنا نجد الشعراء الجاهليين يشبهون المرأة بالغزالة والمهاة والنخلة والظبية وهي في حالات الأمومة وما يتصل بذلك من فكرة الإخصاب، فهم يقدمون المرأة في عدد من الصور من بينها "الظبية الخذول" "أي: التي خذلت صواحبها وأقامت على رعاية ولدها"، والمهاة المطفلة "أي: كثيرة الأولاد"، والنخلة الموسقة "أي: التي نضج ثمرها ونضج حملها" وبيضة الخدر، ط،   ط المرجع ذاته، ص250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وكلها معانٍ تتردد, على سبيل المثال، في معلقة امرئ القيس وفي قصيدته التي يبدؤها بقوله: ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي, وأود أن أضيف في صدد الحديث عن المرأة رمزًا للأمومة أن امرأ القيس لا ينسى هذه الصفة حتى وهو يستمتع حسيا بصاحبته، وكأنه يريد أن يقرن "المرأة المثال" بالشمس آلهةً للأمومة، وبالزهرة آلهةً للحب الحسي حين يقول، والإشارة هنا إلى ابن صاحبته: إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحوَّلِ ثم يختم الباحث حديثه بتدعيم استنتاجه بأن صور المرأة التي يعرضها الشعراء الجاهليون هي في حقيقتها صور للمرأة المثالية التي ترمز لعبادة الشمس، فيذكر أن المرأة شبهت بالغزالة "وهي ترد كحيوان مقدس في عدد من الروايات والأشعار" وأن اللغويين جعلوا الغزالة اسما من أسماء الشمس "القاموس المحيط، مادة: غزل"، وأن قرون الغزالة تظهر في الشعر الجاهلي متصلة بالشمس في بعض أبيات، ي، بداية واحد منها هي "حتى إذا ذَرَّ قرن الشمس" وبداية آخر هي "حتى إذا ظن في قرن شمس غالبة" كما تظهر أحيانا كوصف لشعر المرأة حين يصف المرقش أبكارًا في الحي بأنها "لم تعقر قرونها لشجو" وحين يقول سويد بن أبي كاهل والإشارة إلى صاحبته: "وقرونًا سابغًا أطرافها". وأخيرا، فقد يكون من خير ما يجمع بين المرأة والغزالة والشمس هذا البيت: تمنح المرأة وجهًا ضاحكًا ... مثل قرن الشمس في الصحو ارتفع هذا عن التفسير الميثولوجي الذي يربط بين المرأة في صورتها المثالية وبين الشمس المعبودة الأم والزهرة المبعودة الأنثى. وهو تفسير أراه   ى- المرجع ذاته, صفحات 253-258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 مقنعًا في دلالته على أن الشعر الجاهلي لم يكن خلوًّا من الحديث عن المعتقدات الدينية في مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، ومن ثم تسقط حجة المعارضين لأصالة هذا الشعر التي أقاموها على أساس أنه خلو من الإشارة إلى هذه المعتقدات. ولعل خير ما أختم به التدليل على أصالة الشعر الجاهلي، فيما يخص هذا الجانب من حياة المجتمع العربي الجاهلي، هو التفسير السيكولوجي الذي قدمه باحث معاصر آخر عن شعر امرئ القيس، ك. ومن خلال هذا التفسير يرى الباحث، بعد استقرائه لما نعرف عن حياة امرئ القيس، أنه افتقر إلى حنان الأمومة في طفولته بشكل واضح، ومن ثم فهو "يفتقد دفء الأمومة، ويحن إلى المرأة الأم" ل وهو يفصح عن هذا المعنى الذي يتلمسه حين يتحدث عن محبوبته فيدخل في وصفه فكرة الأمومة والطفولة حين يقول: تصد وتبدي عن أسيل وتتَّقي ... بناظرة من وحش وجرة مُطفل وهو يعود مرة أخرى إلى هذا المعنى بتحديد أكثر وأعمق من حيث الدلالة النفسية عندما يقول: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعًا ... فألهيتها عن ذي تمائم مُغْيَل وهو بيت يرى فيه الباحث إشارة واضحة إلى أن الشاعر كان يتوق إلى التعبير عن أنه كان يخيل موقع الطفولة من حبيبته، وذلك بعد أن يلهيها عن طفلها وحملها ورضاعها إلهاء، فنحن هنا أمام شاعر يبحث عن دفء الأمومة في المرأة أكثر مما يبحث عن أي شيء آخر، م. على أن الباحث يرى أن معنى الأمومة لا يقتصر ذكره في شعر امرئ القيس على هذا السياق العام، وإنما يقرنه الشاعر في شكل واضح   ك- عفت الشرقاوي: دروس ونصوص في قضايا الأدب الجاهلي "بيروت، دار النهضة العربية، 1979"، صفحات 242-258. ل- ذاته: المرجع ذاته، ص253. م- المرجع ذاته: ص254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ومحدد بإضفاء القدسية الدينية على المرأة كأنثى وكأم في الوقت ذاته، ن، حين يقول في وصف فتاتين: هما نعجتان من نعاج تبالة ... لدى جؤذرين أو كبعض دُمى هَكِرْ فهنا معنى الأمومة واضح من تشبيه تعلق الفتاتين بمن يحبانهما بتعلق البقرتين بجؤذريهما. ولكن المغزى الديني للأمومة يبدو كذلك واضحا من تشبيههما بالدمى، والدمية هي الصنم، وهكر مدينة باليمن "حيث شاعت عبادة الشمس كواحدة من الثالوث الكواكبي" وفي بعض الروايات اسم لدير بها "لسان العرب، مادة: هكر". وهكذا يتطابق التفسير السيكولوجي لموقف امرئ القيس من المرأة الذي يرى الباحث أنه "يجمع بين الاشتهاء الجسدي والشعور الروحي العميق بقدسية الأمومة في نسق واحد" وبين التفسير الميثولوجي الذي ظهر منه أن الصور التي ظهرت فيها المرأة في الشعر الجاهلي كانت فيها في حقيقة الأمر رمزا لأمومة مقدسة على المستوى الديني للإلهتين المعبودتين: الشمس في أمومتها من جهة، والزهرة في أنوثتها من جهة أخرى, لتصبح هذه الصور إشارات إلى المعتقدات الدينية التي وردت في الشعر الجاهلي. وأنقل الحديث الآن، بعد معالجة الجانب الديني في الشعر الجاهلي، إلى الجانب الثاني الذي افتقده منكرو أصالة ما وصل إلينا من هذا الشعر، وهو الحياة العقلية؛ فغياب هذا المظهر، حسبما ذكروا، يتناقض مع قدرة الجاهليين على مجادلة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو جدال ظهر فيه شيء كثير من الوعي والذكاء. وهنا يرد أحد الباحثين بأن الشعر الجاهلي ليس في الحقيقة خلوا من هذه الحياة العقلية25 ونحن في الواقع نجد في عدد   ن- المرجع ذاته: الصفحة ذاتها. 25 محمد الخضر حسين: المرجع ذاته، ص51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 من مواضع الشعر الجاهلي ما يؤكد هذا الرد. ويكفي أن ننظر، على سبيل المثال, في الأبيات الأخيرة من معلقة زهير بن أبي سلمى أو في بعض الأبيات التي جاءت في قصيدة النابغة الذبياني التي يتحدث فيها عن وشاية ضده لدى النعمان بن المنذر أمير الحيرة لكي نتأكد من هذا الرد26. كما أضيف إلى هذا التأييد أننا يجب ألا ننتظر من الشعر أن يغلب عليه الطابع العقلاني وإلا نكون قد أخرجناه عن طبيعته. والحديث عن الجوانب الأخرى للحياة في العصر الجاهلي، وهي الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وهو ما ينكر المعارضون وجوده، أو على الأقل وجوده بشكل واعٍ, هو الآخر حديث مردود عليه. ففي الجانب السياسي نجد العلاقة مع الروم "البيزنطيين" واضحة ومفصلة في شعر امرئ القيس وهو يصف رحلته إلى بلاد الروم ليلتقي بالقيصر، ويعرفنا بالسبب الذي دعاه إلى هذه الرحلة ويصف لنا الطريق التي قطعها إلى هناك عبر سورية, ويحدد لنا الأماكن التي مر بها على هذه الطريق وما الذي ينتظره من قيصر, بل يزيد على ذلك ليذكر احتمال نجاحه أو فشله بعد هذه الرحلة. والأعشى يحدثنا عن جانب آخر من علاقات شبه جزيرة العرب بالقوى الدولية الموجودة آنذاك؛ فيشير، على سبيل المثال، إلى الصراع بين الحبشة والإمبراطورية الفارسية على اليمن وهكذا27. والشيء ذاته يقال عن الجانب الاقتصادي من الحياة الجاهلية، فالشعر الجاهلي لم يقتصر على تصوير الجود والكرم والإسراف الذي يشير إلى الثروة، ولم يتجاهل المعاناة من الحرمان والتعبير عن هذه المعاناة وعن الهوة السحيقة التي   26 أبيات زهير في شيخو والبستاني: ذاته، المعلقة، أبيات 49-64. أبيات النابغة، ذاته، قصيدة اعتذار، أبيات 5-7، 11. 27 أبيات امرئ القيس، ذاته: قصيدة في طريق بيزنطة، أبيات 29-35. الأعشى, ذاته, المعلقة, بيت 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 تفصل بين الطبقات, وأمامنا في هذا المجال مجموعة من الشعر الجاهلي الذي يعرف بشعر الصعاليك وفيها تظهر المرارة التي أحستها هذه الطبقة المحرومة في شعر الشّنْفَرى أحد هؤلاء الشعراء, وفيها كذلك ما كان يلجأ إليه أفراد هذ الطبقة من ممارسات من بينها السرقة من أجل سد الرمق، واللجوء للحيلة لتحقيق الهرب من ملاحقة الطبقة المسيطرة التي لم تكن تتورع عن التصفية الجسدية في سبيل إحكام سيطرتها على موارد الإنتاج، وهو موقف يصوره تأبط شرًّا "شاعر آخر من شعراء الصعاليك" تصويرًا يعبر, رغم ما يشيع فيه من روح مرحة ساخرة, عن هذه الهوة الساحقة بين طبقات المجتمع الجاهلي28. ولا يقصِّر شعر الجاهليين في تصوير الحياة الاجتماعية إلى جانب النواحي الأخرى من حياة المجتمع الجاهلي. فرغم أن الأغلبية الساحقة من الصور التي يقدمها لنا هذا السفر هي عن حياة البادية، إلا أن حياة البحر تظهر في عدد من الصور, وإن كان هذا العدد ضئيلًًا، ولا غرابة في هذا الإقلال من صور الحياة البحرية في الشعر الجاهلي، فابتداء من القرن السادس الميلادي، وهو القرن الذي ترجع إليه أغلب قصائد الشعراء الجاهليين كان هناك ركود في النشاط البحري لعرب شبه الجزيرة، أمام سيطرة اليونان على الخطوط الملاحية بين البحر المتوسط والمحيط الهندي29. ومع هذه الظروف التي أدت إلى الإقلال من الشعر البحري، فإن ما قدمه لنا هذا الشعر من الصور لا يكتفي بالنظرة العامة أو التشبيه العابر، ولكنه يتجاوز ذلك إلى عدد من التفاصيل   28 عن الشنفرى، ذاته: لامية العرب، 1-28. عن تأبط شرا، ذاته: قصيدة غار العسل، 1-9. 29 كان هذا أحد جوانب التدهور الاقتصادي في العربية الجنوبية في القرن السادس الميلادي. ونلاحظ أنه في خلال هذا القرن بدأ التدهور السياسي الذي اتخذ مظهر احتلال قوات غير عربية لهذه المنطقة ابتداء من 525/524م. راجع القسم الثالث من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 نجدها في شعر طرفة بن العبد والمثقب العبدي، وهي تفاصيل تتناول أسماء بعض أجزاء السفينة وطريقة سيرها وتحديد الطرق المائية التي تتخذها والمرافئ التي تتوقف عندها أو تمر بها, بل نحن نجد اسمًا لأحد الملاحين العرب، يبدو أنه كان مشهورًا آنذاك، ضمن هذه التفاصيل30. ثم أنقل الحديث الآن إلى مناقشة ما أورده أصحاب الرأي المعارض لوجود الشعر الجاهلي فيما يخص صحة روايته ومدى أمانة العلماء من رواة القرنين الثاني والثالث بعد الهجرة. وفي هذا الصدد أشير إلى ما أسلفت ذكره من أن الرواية قد تؤدي إلى تغيير أو تحوير أو زيادة أو نقصان، ولكنها لا تصل إلى أن يندثر الشعر اندثارًا كاملًا، بل لا تصل إلى أن تتغير الأفكار أو المواضيع الأساسية للشعر تغيرا كاملا. وقد رأينا أن الإلياذة والأوديسية قد تداولها اليونان على هيئة مقطوعات وأناشيد متفرقة منذ القرن الثاني عشر ق. م. قبل أن يتم إخراجها في صورة معلقتين في أواسط القرن التاسع ق. م. ثم ظلت تنتقل بالرواية الشفهية حتى دونت بعد ذلك بقرنين أو أكثر, ومع ذلك فلم تندثر ولم تتغير مواضيعها وأفكارها. وأزيد هنا أن كل كشف أثري قام به المنقبون الأثريون منذ القرن الماضي حتى الآن كان يؤكد جانبا آو آخر مما جاء في هاتين الملحمتين، بل إن كشوفا أثرية أخرى في مناطق غير يونانية وتخص حضارات غير يونانية لا تفتأ تؤكد علاقات بين اليونان وبين هذه الحضارات أشارت إليها بعض مقطوعات الملحمتين -وهكذا يبقى الشعر اليوناني الذي ضمته الملحمتان حتى الآن مصدرا أساسيا لحياة اليونان في العصر الذي يمتد عبره هذا الشعر31.   30 شيخو والبستاني: ذاته، معلقة طرفة بن العبد، أبيات 3-5. أبيات المثقب العبدي في ذاته: قصيدة مدح عمرو بن هند، أبيات 21-32. 31 مثال ذلك آثار قصر أجاممنون "قائد الحملة اليونانية إلى طروادة في ملحمة الإلياذة" في مدينة ميكيني بمنطقة أرجوس في شبه جزيرة البلوبونيسوس "المورة" في جنوبي بلاد اليونان، وآثار قصر نسطور "أحد قواد الحملة ذاتها" في مدينة بيلوس كذلك في جنوبي بلاد اليونان، وآثار مدينة أليون "بمنطقة طروادة" عند تل حصارلك تتركيه، ونقوش على جدران معبد الكرنك تتفق وما جاء في الأوديسية، راجع عن هذه النقوش: breasted: ancient egyptian records المجلد الثالث، فقرة 588. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 والشيء ذاته ينطبق, بالقياس، على الشعر الجاهلي الذي لم تستمر روايته مدة تضاهي في طولها المدة التي استمرت فيها رواية أشعار الملحمتين اليونانيتين -قد يتغير فيه شيء من هنا أو يزاد عليه أو ينقص منه شيء من هناك ولكن يظل محوره كما هو وتظل خطوطه الأساسية كما هي دون تغيير, ونحن إذا نظرنا في الواقع إلى عدد من القصائد الجاهلية ولتكن بعض القصائد الطوال التي اشتهرت باسم المعلقات سنجد فيها مصداقًا لهذا الحكم, فكل منها تظهر فيها شخصية الشاعر الخاصة به, المستقلة عن غيره، بكل محورها وملامحها. فرغم أن أغلب الشعراء اشتركوا في بكاء الأطلال والتغزل في المحبوبة, ووصف البادية والناقة والفرس، إلا أن كل شاعر كانت له نقطة اهتمامه واتجاهه الذي يميزه عن الآخرين، فامرؤ القيس هو شاعر اللهو والسعي وراء مُلْك يريد أن يحصل عليه ولكنه لا يعطي ذلك من الجد ما هو جدير به ويكاد يقدم اليأس من تحقيق بغيته على الإصرار على الوصول إليها. والنابغة هو شاعر البلاط والاعتذاريات الذي ينتقل من بلاط إلى البلاط الذي يناصبه العداء, ثم يعود إلى أمير البلاط الأول ليعتذر ويقدم خضوعه وولاءه من جديد, وعمرو بن كلثوم هو شاعر الانفعال الغاضب والعصبية القبلية التي لا تعرف للآخرين حقوقًا, وزهير بن أبي سلمى هو شاعر التعقل والسلام والمصالحة بين المتحاربين "من عبس وذبيان" والتحذير من الحقد ومن ويلات الحرب وأهوالها والحكمة المتأنية الهادئة، والحارث بن حلزة هو شاعر المهاترة والتشهير بخصومه والتزلف إلى صاحب السلطان والدس لديه ضد القبيلة المعادية لقبيلته. ونستطيع أن نذكر الشيء ذاته عن الفرق بين الشعراء الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 كانوا يتغنون بالإسراف والإفراط في الشراب مثل طرفة وزهير, والشعراء الصعاليك الذين كانوا يئنون من شظف العيش ويفضلون صحبة وحوش البادية على بني قومهم مثل الشنفرى وتأبط شرًّا, وهكذا32. كذلك فيما يخص الحديث عن رواية العصر الجاهلي فإن هناك أكثر من سبب يدعونا إلى تصديقها في جملتها بغض النظر عن أية تفصيلات جانبية فيها. فالقبائل العربية في العصر الجاهلي كانت حريصة كل الحرص على القصائد التي تسجل انتصاراتها وكانت تعتبرها أغلى ما تملك وترويها جيلًا بعد جيل. بل لقد كان لكل قبيلة راويتها الذي يعني بالاحتفاظ في ذاكرته بهذه القصائد وبخاصة في البادية التي لم يكن شيوع الكتابة فيها بمثل ما كان عليه في الحضر. ونحن نستطيع في الواقع أن نرى أثر ما تميزت به رواية الشعر الجاهلي من قوة واستمرار فيما نراه من أشعار القرن الأول الهجري مثل جرير والفرزدق وذي الرمة. لقد استخدم هؤلاء ذخيرة الشعراء الجاهليين مرارا متكررة متناولين الموضوعات ذاتها والأسلوب ذاته. حقيقة إنهم قد يقدمون على تحوير هنا أو تحسين هناك، ولكن يبقى التزامهم بهذه التقاليد الشعرية الجاهلية دون تغيير. وقد كان هذا في الواقع منتظرًا، إذ لم توجد فجوة زمنية بين شعراء الجاهلية وشعراء القرن الأول الهجري، وما دمنا قد وصلنا إلى شعراء القرن الأول ورواية الشعر الجاهلي على قوتها، فقد أصبحنا إذن على عتبة القرن الثاني، وهو عصر العلماء الرواة الذين وصل إلينا عن طريقهم الشعر الجاهلي33. ومع ذلك فإن الدلائل تشير إلى أن الرواية لم تكن وحدها هي وسيلة   32 عن طرفة، شيخو والبتساني: ذاته، المعلقة، أبيات 47-53 و62-70. عن زهير، ذاته: قصيدة هجر آل حصن، أبيات 1-4. 33 charies james Lyall: مقدمة ديوان عبيد بن الأبرص، ط دار المعارف، القاهرة، صفحات 17-19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 حفظ الشعر، فقد عرف الجاهليون الكتابة. ولا أشير هنا إلى النقوش التي اكتشفت في شبه الجزيرة العربية والتي كتبت بخط مغاير للخط العربي الذي استمرت الكتابة به بعد ظهور الإسلام، وهي نقوش موغلة في القدم بعض الشيء. وإنما أشير إلى النقوش التي كتبت بهذا الخط الأخير الذي أخذ يتدرج في شكله ابتداء من القرن الثالث الميلادي حيث نجد بعض كلمات هذه النقوش مماثلة للخط العربي المعروف في العصر الإسلامي، ومرورا بالقرن الرابع حيث تزيد نسبة هذه الكلمات بشكل غالب، إلى القرن السادس حيث يطغى استعمال هذا الخط على النقوش لكي يظهر بعد ذلك وحده في النقوش التي ترجع إلى عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم34. وقد يوجد من يقول: إن النقوش وحدها لا تنهض دليلًا على انتشار الكتابة فيما قبل الإسلام على نطاق واسع أو حتى على نطاق محسوس، فالنقوش التي عثر عليها تشير كلها تقريبا إلى ملوك "قد لا تعني كلمة ملك هنا أكثر من رئيس قبيلة" وقد نفذت لتخليد مناسبات مهمة، ومن ثم فهي لا تشير إلى ممارسة يومية على المستوى الشعبي, وفي الواقع فقد أشار القرآن الكريم إلى العرب إشارة مباشرة على أنهم أميون {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . وقد شاع معنى الأمية منذ العصر الإسلامي على أنه عدم الإلمام بالقراءة والكتابة ومن ثم أصبح التصاق هذا الوصف بعرب الجاهلية أمرا واردًا35. ومع ذلك فالأمية التي تذكرها الآية الكريمة لا تعني الجهل بالقراءة والكتابة   34 ناصر الدين الأسد: المرجع ذاته، صفحات 23-33. 35 الآية في سورة الجمعة: 2. من كتاب العصر الإسلامي الذين وصفوا عرب الجاهلية بعدم معرفة الكتابة، الجاحظ: البيان والتبيين، القاهرة، 1948، ج3، ص28، ابن عبد ربه: العقد الفريد، القاهرة، 1940، ج4, ص 242، ابن قتيبة: مختلط الحديث، القاهرة, 1326هـ, صفحات 365-366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وإنما تعني الجهل بما جاء في الكتب السماوية من قيم روحية وأخلاقية واجتماعية, والنصف الثاني من الآية يشير إلى هذا المعنى بشكل واضح، وهو معنى يؤكده القرآن في ثلاث آيات أخرى يفرق فيها بين أهل الكتاب وبين الأميين, وفي إحدى هذه الآيات يزيد على هذه التفرقة إشارة مباشرة إلى أن بعض هؤلاء "الأميين" كانوا يكتبون {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ, فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} 36. وفي الواقع فإن ممارسة الكتابة في المجتمع الجاهلي أمر يؤكده القرآن بشكل متكرر متواتر، والقرآن الكريم إلى جانب وصفه ككتاب من عند الله لا يرقى الشك إلى ما جاء فيه، هو كذلك وثيقة ظهرت في هذا المجتمع الجاهلي وكانت آياته تدون في عهد الرسول أي: في وقت نزولها كما جمعت هذه الآيات المدونة في عهد الخليفة عثمان بن عفان بعد سنوات من موت الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يقتصر القرآن على الإشارة إلى الكتابة ولكنه يشير إلى الكتب والكتاب وما كانوا يتخذونه من أدوات الكتابة. وفي هذا الصدد يرد ذكر الكتابة 51 مرة, وسطور الكتابة ثلاث مرات، والكتاب 261 مرة، والكتَّاب مرتين, والقلم ثلاث مرات؛ منها مرة يقسم فيها به وتسمى سورة باسمه، والصحف ثماني مرات والرق الذي يكتب عليه مرة واحدة37. وأبادر هنا فأقول: إننا لا نستطيع أن نقول: إن هذه الممارسة للكتابة في العصر الجاهلي كانت أمرا شائعا في كل أقسام المجتمع. ففي مجال المعاملات التجارية يذكر القرآن {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} وهي إشارة تدل   36 سورة البقرة: 78-79، والآيتان الأخريان في سورة آل عمران: 20 و75. 37 راجع بعض هذه الإشارات في الباب الخاص بالمصادر الدينية من هذه الدراسة، وحاشية 22 من الباب ذاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 على أن قلة من القوم هم الذين كانوا يعرفون الكتابة. وهو قول تؤكده آية أخرى {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 38 وهي إشارة تفيد كذلك أن الكتابة كانت منتشرة بين أهل الحضر في المدن حيث يقيم التجار أكثر منها في البادية التي تمر بها القوافل التجارية في أثناء سفرها. ولكن مع ذلك تبقى ممارسة الكتابة في المجتمع الجاهلي قائمة ويبقى عدد الذين يعرفون الكتابة كافيًا لتدوين العقود والديون وبقية المعاملات بين التجار في مجتمع كانت التجارة تشغل فيه حيزًا أساسيًّا بين الموارد الاقتصادية. وهنا أعود إلى حفظ الشعر عن طريق الكتابة فأقول: إنه إذا كان العرب حريصين على تسجيل معاملاتهم التجارية عن طريق الكتابة، فإن حرصهم لن يقل عن ذلك، إن لم يزد عليه في الواقع، على تدوين أشعارهم. فالقبائل، كما أسلفت، كانت تنظر إلى القصائد التي تعدد أمجادها على أنها سجل لتخليد هذه الأمجاد، وهو أمر يتضح لنا من فخر القبائل بانتصاراتها وتمييز الأيام التي حدثت فيها هذه الانتصارات على غيرها من الأيام على أنها أيام مشهودة ومشهورة يعرفها الجميع دون حاجة إلى استيضاح أو تفصيل39، وما دام الكتاب أو من يعرفون الكتابة موجودين فيبدو أمرا طبيعيا ومنطقيا أن تلجأ إليهم هذه القبائل لتسجل القصائد التي يرد فيها ذكر هذه الانتصارات -وهو أمر يصبح واردا بشكل أكثر إذا أدخلنا في اعتبارنا أن بعض هذه القصائد كان يكتب على امتداد أكثر من مناسبة كما هو واضح، على سبيل المثال، في معلقة عمرو بن كلثوم، وما دام الأمر كذلك فإنه يصبح طبيعيا أن   38 الآيتان بالترتيب في البقرة: 283-283. 39 راجع الأبيات في شيخو والبستاني: المرجع ذاته، على سبيل المثال، يوم الجفار بين تميم وبكر، شعر النابغة، قصيدة الرد على عيينة، بيت 16, يوم بارق بين شيبان وتغلب، شعر الأسود بن يعفر، قصيدة ذكرى، بيت 9، كذلك يوم فطيمة بين هاتين القبيلتين، شعر الأعشى، المعلقة، بيت60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 يحرص الشعراء الكبار، على الأقل, على تدوين قصائدهم التي نجدها مليئة بما يفخرون به من فروسية وبطولة وكرم وإباء، يتشبثون بذكر ذلك كله بمناسبة وبغير مناسبة ويصلون في حرصهم هذا إلى قدر كبير من المبالغة كأنما يريدون أن يسمعوا كل قبائل العرب بهذه الأمجاد. ويبقى الحديث في نهاية هذا الموضوع عن الرواة من علماء القرنين الثاني والثالث بعد الهجرة وما دار بينهم من اتهامات يشكك من خلالها كل فريق في رواية الفريق الآخر. وعلى سبيل مثال واحد من هذه الاتهامات فقد نُسب إلى المفضل بن محمد الضبي، صاحب "المفضليات" أنه قال عن حماد الراوية: إنه "رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ثم يدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق, فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟! ". ويرد أحد النقاد من المستشرقين وهو تشارلز لايال charles lyail على هذا الحديث المنسوب إلى المفضل، أنه على افتراض أن المفضل قال ذلك فعلًا -حسبما يروي صاحب الأغاني- وحتى لو سلمنا بأن حمادًا كان ينحل الشعر فيشبه شعر الشاعر الحقيقي بحيث يستحيل التمييز بين الأصيل والمنحول، فكيف أمكن أن يعرف أنه منحول إذا لم يكن هناك من يعرف القصيدة في صورتها الأولى من غير ما أضيف إليها من زيادات موضوعة؟!. فإذا أدخلنا في اعتبارنا أن المفضل كان من أعلم الناس بالشعر وأقدرهم على تمييز صحيحه من منحوله يصبح الاستنتاج السليم هو أن المفضل نفسه كان يعرف الشعر الصحيح. ثم يستطرد المستشرق في رده ليقول: إن حمادًا إذا كان يحاكي الشعر القديم فإن ذلك يدل على وجود أصل يحاكيه حماد، فإذا قلنا: إن ما بين أيدينا ليس سوى الصور المنحولة, وإنه لم يتبق شيء من الأصل نفسه فإن ذلك أمر لا يقره الفهم السليم للأمور40.   40 اتهام الضبي لحماد يرد في الأغاني، طبعة دار الكتب، القاهرة، ج6، ص89, الدفاع عن الرواة في المفضليات، تحقيق ليال، ج2، المقدمة، صفحات 19-21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ومما يمكن أن نضيفه في هذا الصدد إلى رأي المستشرق، رأي نادى به أحد العلماء العرب وهو ابن جني في كتابه "الخصائص" يشير فيه إلى الخصومة بين العلماء الرواة من أهل البصرة وأهل الكوفة, وهي الخصومة التي أدت إلى تبادل قدر كبير من الاتهامات فيما بينهم، ومؤدى هذا الرأي هو أن هذه الاتهامات المتبادلة في حد ذاتها أمر يدعو إلى حرص هؤلاء العلماء والرواة على تحري الدقة فيما ينسبونه إلى الشعراء من شعر. والسبب في ذلك هو أنه "إذا سبق إلى أحدهم ظنه، أو توجهت نحوه شبهة سُبَّ بها وبُرئ إلى الله منه لمكانها"41. وفي الواقع فإنه لا ينبغي لنا أن نبالغ في صحة هذه الاتهامات المتبادلة بين العلماء الرواة من أهل الكوفة وأهل البصرة. فإن سبب هذه الاتهامات يمكن أن نفهمه بسهولة إذا عرفنا أن علماء كل من المدينتين كانوا يشكلون منهجا أو مذهبا خاصا بهم في معالجتهم لرواية الشعر ومن ثم لقبول بعض القصائد واستبعاد البعض الآخر. فمنهج علماء البصرة كان فيه اتجاه نحو استخراج القواعد والقوانين التي يرون أنها تصلح قاعدة تقاس عليها صحة الشعر أو زيفه ومن ثم كانوا ميالين بالضرورة إلى التضييق في اختيارهم، التزامًا بما وضعوه من قواعد لا يمكن الخروج عنها، أما الكوفيون فقد كان منهجهم قائما على فهم روح اللغة واستبطان طبيعتها، ومن ثم فقد كانوا يقبلون صحة القصيدة طالما لم تخالف هذه الروح أو تغاير هذه الطبيعة دون التقيد بقواعد تعليمية مقننة، ومن هنا فقد كانوا يميلون نحو التوسيع. وطبيعي أن يؤدي هذا الاختلاف العلمي بين المدرستين الفكريتين إلى شيء من الاتهامات المتبادلة من حين إلى حين42.   41 ابن جني: الخصائص، ط دار الهلال، القاهرة، 1913، باب "في صدق النقلة وثقة الرواة والحملة" مقتبس في ناصر الدين الأسد: المرجع ذاته، صفحات 464-465. 42 ناصر الدين الأسد: المرجع ذاته، ص 436. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وفي ضوء هذا الاعتبار, وفي ضوء ما أسلفت الإشارة إليه من أن تدوين الشعر الجاهلي أو تدوين بعض منه على الأقل, ومن أن الرواية "أو الرواية والتدوين" كانت مستمرة بين العصر الجاهلي والقرن الأول الهجري كما سبق أن رأينا ذلك لدى شعراء هذا القرن الذين أسلموه إلى العلماء والرواة ابتداء من القرن الثاني، فإني أؤيد ما ذهب إليه أحد الباحثين العرب المعاصرين المتخصصين في الشعر الجاهلي من "أن بعض ... المدونات الشعرية الأولى قد وصلت إلى علماء الطبقة الأولى من الرواة، وأنهم اعتمدوها مصدرًا من مصادر تدوينهم لهذه الدواوين التي رواها عنهم تلاميذهم, وأن هؤلاء العلماء الرواة في القرن الثاني الهجري كانوا يعتمدون -هم وتلاميذهم- نسخًا متكوبة من هذه الدواوين في مجالس علمهم وحلقات دروسهم، وأن الشيخ منهم كان يقرأ شعر الشاعر من نسخته، أو يقرؤها أحد تلاميذه، ثم يعقب الشيخ على الشعر بالشرح والنقد والتحقيق والتمحيص"43. ويستطرد الباحث ليذكر أنه إلى جانب هذه المدونات كانت هناك الرواية بطبيعة الحال، يحصل عليها العالم من شعراء من قبيلة الشاعر تناقلوها جيلًا بعد جيل، كما كان هناك تداول العلماء الرواة فيما بينهم يعرف الواحد منهم من الآخر ما قد يكون على علم به من قصائد أخرى أو يعرف منه أن شعرا قد نسب إلى أحد الشعراء خطأ أو نحله هذا الشاعر عمدا, ثم يقرأ هذا على تلاميذه ويتناقشون فيه وينتهي إلى أن يزيد أو ينقص في مدونته من شعر في ضوء كل هذا. "ثم جاء علماء الطبقة الثالثة ومن تلاهم من العلماء -بين منتصف القرن الثالث ونهاية القرن الخامس الهجري- فوجدوا بين أيديهم نسخا متعددة لديوان واحد، رويت كل نسخة عن واحد من علماء الطبقة الأولى في البصرة أو الكوفة، فصنع هؤلاء العلماء المتأخرون نسخا جديدة أفرغوا فيها جميع روايات العلماء السابقين، وأشاروا في مواطن كثيرة إلى أن   43 المؤلف ذاته: المرجع ذاته، ص482. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 هذه القصيدة من رواية فلان أو فلان, أو أن هذه الأبيات لم يروها فلان, أو أن فلانًا قال: إن هذه القصيدة أو تلك الأبيات ليست لهذا الشاعر وتنسب إلى شاعر غيره يسميه"44.   44 المؤلف ذاته: المرجع ذاته، ص 483. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 4- حول مجالات الشعر الجاهلي : وأختم هذا الحديث بكلمة سريعة أضمنها بعض الملاحظات التي ينبغي أن ندخلها في اعتبارنا ونحن بصدد الاعتماد على الشعر الجاهلي كمصدر من المصادر التاريخية التي نتعرف خلالها على أحوال شبه جزيرة العرب في العصر السابق للإسلام, ثم بعض المجالات التي نستطيع أن نتعرف من خلالها على حياة هذا المجتمع الجاهلي في جوانبه المختلفة. وأولى الملاحظات في هذا الصدد هي أن الشعر الجاهلي لا يغطي إلا فترة قصيرة من عصر ما قبل الإسلام. فبينما ظهر العرب في علاقاتهم الخارجية كمجموعة بشرية لها هويتها أو شخصيتها الجماعية منذ القرن العاشر ق. م. على الأقل، أي: قبل ظهور الدعوة الإسلامية بستة عشر قرنا أو يزيد، نجد ما وصلنا من هذا الشعر لا يتخطى بدايات القرن السادس الميلادي أي: إنه يغطي قرنا واحدا قبل العصر الإسلامي. ومن ثم فالإشارات التي ترد فيه عن أحوال مجتمع شبه الجزيرة قبل الإسلام يجب أن نتعامل معها وفي ذهننا هذا الاعتبار. وهنا أود أن أشير إلى نوع هذا التعامل. فإذا كانت الإشارة إلى حدث، مثل يوم أو آخر من أيام العرب التي تغنوا بها في مواضع عديدة من هذا الشعر, فإن قدرًا كبيرًا من التدقيق يصبح واردًا لتحديد المسافة الزمنية التي وقع فيها هذا الحدث، وفي هذا المجال تصبح الاستعانة بمصادر أخرى "كلما أمكن ذلك" أمرا واجبا، سواء كانت هذه المصادر نقوشا أو نصوصا أو آثارا تعطينا قرينة أو ملابسة تساعدنا على هذا التحديد، كما هو الحال، على سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 المثال، في إشارة امرئ القيس إلى رحلته إلى بيزنطة45 التي يمكن أن نتعرف على تاريخها بصورة يمكن أن تكون محددة بقدر لا بأس به إذا تعرفنا على التيارات السياسية التي كانت تحيط بشبه الجزيرة في النصف الأول من القرن السادس الميلادي. والشيء ذاته ينطبق على الخلاف الذي نشب بين بكر وتغلب وتحاكمت فيه القبيلتان إلى عمرو بن هند أمير الحيرة، وهو الخلاف الذي كان فيه عمرو بن كلثوم متكلمًا باسم تغلب والحارث بن حلزة اليشكري متكلمًا باسم قبيلة بكر، والذي فتك فيه عمرو بن كلثوم بالأمير. أما إذا كانت الإشارة الواردة في إحدى القصائد تتعلق بعادة أو تقليد أو عبادة أو نوع من الثياب أو الأدوات أو السلاح, فإن التقيد بحدود القرن السادس الميلادي يصبح أمرًا غير ضروري في هذا الصدد, فهذه المجالات وإن كانت تتغير من زمن إلى زمن, إلا أن تغيرها يكون أمرا يساعد الباحث في أن يتعرف على مدى التغيير أو التطور الذي حدث. وهنا نجد في المصادر الكلاسيكية شيئا كثيرا عن العادات والتقاليد والنظم السياسية أو الاجتماعية التي كانت سائدة في عدد كبير من أقسام شبه الجزيرة يمكن من خلاله أن نسبر غور أي تطور في مجال أو آخر من هذه المجالات، اعتمادا على معرفتنا بالوقت الذي كتبت فيه هذه المصادر الكلاسيكية. هذا علمًا بأن هذا التعرف يمكن أن يتم كذلك عن طريق ما يمكن أن نستنتجه من الآثار أو من بعض النقوش أو من المصادر الدينية. كما أشير في ختام هذه الملاحظة إلى أن التغير أو التطور لا يتم بالضرورة بنفس السرعة أو البطء في كل المجالات, فالعصبية القبلية، على سبيل المثال, أمر لا يكاد يتغير عبر العصور حيث إنها ركيزة حيوية من الشام أو من العراق46 في فترة من الفترات التي تكون فيها   45 شيخو والبستاني: ذاته، عن رحلة بيزنطة، قصيدة في طريق بيزنطية, أبيات 29 وما بعدها. 46 الأبيات التي تشير إلى هذه الثياب، ذاته: قصيدة امرئ القيس، لدى أم جندب، بيت 10، قصيدة الشاعر ذاته، يوم صيد، بيت 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الخطوط التجارية نشطة بين هاتين المنطقتين ومن ثم يصبح استيراد مثل هذه الثياب أمرا واردا وهكذا. والملاحظة الثانية التي أود أن أوردها في مجال الاعتماد على الشعر الجاهلي كمصدر لأحوال شبه الجزيرة في العصر السابق للإسلام, هي أن رغم كل ما ثبت لنا من أن الشعر الجاهلي وجد وازدهر ولم يكن منحولا في فترة لاحقة للعصر الجاهلي، إلا أن هذا لا يعني أن كل قصيدة وردت في هذا الشعر هي قصيدة أصيلة, أو أن كل بيت من أبيات هذه القصائد هو بيت أصيل بالضرورة، فاحتمال التغيير أو الزيادة في الأبيات أو في القصائد يظل أمرا محتملا، ومن ثم يجب أن يدخل الاعتبار, والسبيل المعقولة التي نقترب بها من الاطمئنان في هذا الصدد هي مقارنة هذا الشعر ببعضه حتى يكتسب الباحث تصورا عاما للمجتمع الجاهلي تتواتر فيه إشارات أو أبعاد معينة فيصبح ما يتواءم معها أصيلًا وما لا يتواءم معها دخيلًا أو منحولًا أو على الأقل يجب التوقف عنده تحقيقا وتمحيصا. أما الملاحظة الثالثة فهي تخص ما سبق أن أشرت إليه في بداية الحديث من المبالغة المنتظرة في الشعر سواء أكان هذا شعرًا يخص المجتمع العربي الجاهلي أم في الواقع أي مجتمع آخر. وأود هنا أن أضيف كلمة أو كلمتين تخص معنى المبالغة, ففي بعض الأحيان تكون هذه المبالغة من النوع العادي الذي يسهل إدراكه بشيء من الاحتراس، كما هو الحال، مثلًا، في قول عمرو بن كلثوم: ملأنا البر حتى ضاق عنا ... ونحن البحر نملؤه سفينا بينما نعرف أن القرن السادس الميلادي الذي ظهر فيه عمرو بن كلثوم كزعيم لقبيلته تغلب لم يكن في الواقع فترة ازدهار بالنسبة للنشاط البحري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 العربي مثل بعض الفترات التي سبقته47. ولكن في أحيان أخرى قد تتخذ هذه المبالغة شكلا آخر، فقد نجد شاعرا يسمعنا صوت العقل والتروي والحكمة التي قد تصور موقفه بعد الحدث، أو تصور ما كان يود أن يكون عليه موقفه، بينما ما حدث فعلا قد يكون أقل تعقلًا أو روية أو حكمة في بعض الأحيان أو حتى في أغلبها. كذلك يجدر بالباحث الذي يريد تصوير حياة المجتمع العربي الجاهلي من خلال الشعر الجاهلي أن يتوقف قليلًا قبل أن يعطي بعض الصفات التي تظهر في هذا الشعر أبعادها الحقيقية. فصفة الكرم التي تتردد كثيرا في الشعر الجاهلي هي صفة حقيقية, بل إنها صفة تدعو إليها طبيعة شبه الجزيرة فعلا، وهي طبيعة قد تقسو على المتنقل في الصحراء لسبب أو لآخر بحيث تنقطع عنه موارده أحيانا، ومن ثم يصبح اعتماده على كرم الآخرين في بعض الحالات أمرا حيويا، ومن ثم فإن احتمال ورود هذا الموقف يجعل هناك نوعا من التفاهم الجماعي، حتى ولو كان صامتًا، على أن الكرم أو قِرَى الضيف دعامة أساسية في هذا المجتمع الذي قد يكون فيه أي فرد مهما كان مركزه عرضة لهذا الموقف. ولكن مع ذلك ففي بعض الأحيان قد يكون الكرم أقرب إلى البذخ الطبقي منه إلى هذا النوع من الكرم الحقيقي، وهو تصور يستطيع الباحث أن يستنتجه إذا ما سمع من الطرف الآخر بعض ما تركه لنا صعاليك العرب من شعر يئنون فيه أنينا مسموعا من الضيق الذي يعيشون فيه ومن تقاعس الطبقة الثرية القادرة عن مد يد المعونة إليهم48. أما المجالات التي يمكن أن نعتمد فيها على الشعر الجاهلي, في حدود هذه الملاحظات، فإنها تشمل كل جانب من جوانب الحياة في المجتمع العربي   47 راجع الحياة الاقتصادية في شبه الجزيرة, في القسم الثالث من هذه الدراسة. 48 راجع ما جاء عن شعر الشنفرى وتأبط شرًّا في حاشية 8، أعلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 قبل الإسلام، ومن الممكن أن نتعرف منه على تصور متكامل أو قريب من المتكامل لهذا المجتمع. فنحن نسمع في هذا الشعر عن قدر كبير من الأسماء، من بينهم ملوك أو أمراء ورؤساء قبائل وأشخاص ينتمون إلى كل طبقة أو فئة من طبقات المجتمع الجاهلي وفئاته. وقد لا يفيدنا التعرف على بعض هذه الأسماء في بعض الأحيان، ولكن عددا منها يمكن أن نعتمد عليه، إذا أخذناه مع الملابسات التي تحيط به، في تكوين صورة عن العلاقات التي ضمها هذا المجتمع. كذلك فإن أسماء الرهوط والقبائل تساعدنا في تصور التكوين القبلي والعشائري الذي يشكل المقوم الأساسي من مقومات الحياة في شبه الجزيرة في الفترة السابقة لظهور الدعوة الإسلامية، وهو في الواقع مقوم ظل واردًا حتى بعد ظهور هذه الدعوة وظهور الدولة الموحدة عند استتبابها. كذلك فنحن نتعرف من هذا الشعر على قدر كبير من الأماكن والبلدان والمحالِّ والآبار، بل أكثر من ذلك في تعرفنا على عدد من الأماكن نلمس اهتمام سكان شبه الجزيرة بالتكوينات التي يتسم بها سطح المنطقة، الأماكن المرتفعة والمنخفضة والدارات والحرَّات والبطون والكثبان، وهو اهتمام له ما يبرره، إذ هو الذي يحدد المناطق الصالحة للسكنى أو لمضارب الخيام، كما يحدد مسار القوافل وأماكن الرعي، وهو من ثم يساعد الباحث التاريخي على التعرف على مناطق العمران وتوزيعها، وعلى اتجاه الطرق التجارية أو المسالك بين قسم وآخر أو قبيلة وأخرى في شبه الجزيرة -الأمر الذي يساعد في إعطاء تصور كامل لحركة المجتمع الذي كان يقطن المنطقة في الفترة السابقة للإسلام. وإلى جانب هذا، فهناك الأيام والمعارك التي سجلها الشعر الجاهلي في عديد من قصائده التي وصلت إلينا مثل: حرب السباق "حرب داحس والغبراء" ويوم بارق بين شيبان وتغلب, ويوم الجفار بين تميم بكر, ويوم حليمة بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الغساسنة والمناذرة, ويوم خزازي بين نزار واليمن, ويوم عراعر بين عبس وكلب, ويوم ذي قار بين شيبان والفرس وغيرها. كذلك هناك الأسلحة التي نستطيع أن نتعرف على أنواعها مما جاء في الشعر الجاهلي مثل: البيضة والترس والدرع وتفاصيلها وأنواعها مثل: البدن والحلق والدلاص والزعف والقد واللأمة والماذية، والأسماء التي أعطاها عرب الجاهلية للرمح مثل: الأسل والأسنة والخطي، وتلك التي أعطوها للسيف مثل: الأبيض والباتر والحسام والمهند والعضب والفيصل والقضيب والمشرفي واليماني والهندواني, إلى آخر هذه الأوصاف التي يلقي عدد منها ضوءًا على المناطق التي كانت تصنع فيها أو تستورد منها وعلى الطراز التي كانت تتبع في صناعتها. ولا أريد أن أستطرد في ذكر كل الجوانب التي تطرق إليها الشعر الجاهلي كمرآة لحياة المجتمع؛ يتطرق في الواقع إلى كل جوانب الحياة في هذا المجتمع, وإنما أشير إلى ما تبقى منها مجرد إشارة في نهاية هذا الحديث. فبعضها يخص أنواع المعبودات والمعتقدات والتقاليد والعادات، وبعضها يخص الكواكب والأبراج، وقد كان العلم بها أو تصورها بشكل أو بآخر أمرا مهما بالنسبة لمجتمع شبه الجزيرة, التي كانت مراقبة النجوم في سمائه الصافية أمرا أساسيا لتحديد الاتجاه في الامتدادات الصحراوية المتشابهة في كثير من الأحيان، بينما كانت قراءة الطالع ممارسة متعارفًا عليها للتنبؤ بأحداث المستقبل حتى التصور السائد في هذا المجتمع. وأخيرا فهناك أنواع النبات والحيوان التي عرفها مجتمع شبه الجزيرة في العصر الجاهلي والتي لا تكاد تخلو منها قصيدة من قصائده، وهنا يستطيع الباحث أن يعرف مدى أهمية بعض هذه الحيوانات بالنسبة لابن المجتمع العربي الجاهلي بتتبعه مدى الترداد في ذكر هذا الحيوان أو ذاك أو التفصيل في ذكر أحواله وأنواعه وحركاته ومراحل نموه وألوانه وهكذا، كما هو الحال، على سبيل المثال، فيما يخص الإبل والخيل والظباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 القسم الثالث: المجتمع الباب الثامن: الوضع الاقتصادي مدخل ... الباب الثامن: الوضع الاقتصادي الوضع الاقتصادي في شبه جزيرة العرب في العصور السابقة لظهور الإسلام تبرز فيه ظاهرة واضحة هي تنوع الموارد. وهذه الظاهرة جاءت نتيجة لعاملين: الأول هو تنوع طبيعة الأرض والمناخ التي انعكست في تدرج تظهر فيه المناطق الصحراوية التي لا تصلح إلا للرعي المتنقل حيث تصل الطبيعة إلى أقساها سواء في قلة الخصوبة أو في ندرة المطر ويصبح بقاء أهل البادية في منطقة معينة لموسم معين رهن بظهور بعض العشب من حين لآخر، وتظهر فيه مناطق أخرى أقل قسوة في طبيعتها من هذه، فيكثر العشب لفترات طويلة نسبيا ومن ثم يقترب أهل البادية من الرعاة إلى صفة الإقامة الثابتة في المناطق التي توجد فيها مراعيهم، مثل المناطق التي توجد على حافة الهلال الخصيب مجاورة لوادي الرافدين من جهة وللمنطقة السورية من جهة أخرى. كذلك تظهر في هذا التدرج الطبيعي بعض الواحات أو مجموعات الواحات التي يوجد فيها عدد من العيون أو الينابيع التي تُمَكِّن من قدر لا بأس به من الزراعة، مثل بعض الواحات الموجودة في نجد أو الحجاز أو القسم الشمالي الغربي لشبه الجزيرة، كما تظهر أخيرا المناطق التي تحظى بتربة خصبة وتغزر فيها الأمطار الموسمية مثل القسم الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة حيث تجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الزراعة في أكثر من موسم وتوجد الغابات الطبيعية أو المزروعة من أشجار الطيوب والبخور في منطقة اليمن. ثم كان هناك, إلى جانب هذا التدرج النباتي، بعض المعادن التي وجدت في مناطق متفرقة في أرض شبه الجزيرة. أما العامل الثاني الذي أضاف إلى هذا التنوع في الموارد فهو الموقع الجغرافي الذي تحتله شبه جزيرة العرب برًّا وبحرًا بين مناطق الشرقين الأوسط والأقصى في الشرق من جهة، وبين المناطق المطلة على البحر المتوسط في الغرب من جهة أخرى. وهكذا كانت المعبر الطبيعي، وفي بعض الأحيان المنطلق الطبيعي، لقوافل التجارة البرية والبحرية بين المنطقتين. وقد زاد من قيمة المورد التجاري الناتج عن هذا الوضع البري والبحري الوسيط، عنصر تاريخي يتصل ببعض الأوضاع التي كانت سائدة في العصر القديم. ففي ذلك العصر كانت الطيوب والبخور تشكل سلعة أساسية لا غنى عنها في الحياة اليومية سواء في التزيين أو في الطقوس والشعائر الدينية في المنزل والمعبد والصفقات التجارية والاجتماعية السياسية والمباريات الرياضية واحتفالات الزواج والمراسم الجنائزية، وفي الواقع كل ما يقدم عليه الأفراد أو المجتمع من ممارسات. وقد كانت شبه جزيرة العرب إما منتجة لهذه الطيوب وإما وسيطًا تجاريًّا يستوردها، هي وغيرها من السلع، من جهة ليصدرها إلى الجهة الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الرعي الرعي والرعاة ... 1- الرعي: أ- الرعي والرعاة: ولنبدأ بالحديث عن الرعي الذي كان يشكل بنوعيه، الثابت والمتنقل، المورد الاقتصادي، أو مورد الإنتاج الرئيسي في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية بحكم الطبيعة الجغرافية للمنطقة. وفي هذا الصدد كان رعي الإبل هو النوع الأساسي من الرعي في الأماكن التي يقل فيها العشب في المناطق الموغلة في الصحراء حيث يندر الماء، ومن ثم يصبح التنقل وراء مناطق العشب ضرورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 أساسية في حياة الرعاة. فالجمل، كما مر بنا في حديث سابق1، له صفات تلائم هذه الطبيعة الجغرافية أكثر من غيره، أهمها: الصبر على العطش لأيام طويلة، وثانيتها: قدرته على السير في المناطق الرملية بسبب طبيعة التكوين الإسفنجي التي تتميز بها أخفافه مما يعطيه ميزة في هذا المجال على غيره من الدواب، وثالثة هذه الصفات: قدرته الفائقة على نقل قدر من الأحمال تعجز عن نقلها هذه الدواب الأخرى، وهكذا كانت الإبل الحليف الأول لرعاة البادية في تنقلهم، ومن حليبها ولحمها وإلى جانب ما يحصلون عليه من تمر من هنا وهناك, كان غذاؤهم الرئيسي. أما الأماكن الغنية بالعشب القريبة من الماء والواقعة على حواف السهول الزراعية، سواء على تخوم وادي الرافدين أو المنطقة السورية أو اليمن، فكان يكثر فيها رعي الغنم أساسًا، والخيول والماشية في بعض الأحيان؛ بسبب افتقار هذه الدواب لميزات الإبل، سواء فيما يخص تحمل العطش أو القدرة على السير في المناطق الرملية لمسافات طويلة أو على نقل أحمال ثقيلة. وقد كانت أرض المراعي مشاعًا بين القبيلة حيثما تستقر في مناطق العشب لفترة تطول أو تقصر، وهو أمر أملته ظروف الطبيعة والتعايش معها، وهكذا أصبح قانونا ملازما لرعاة البادية سواء في العصور السابقة للإسلام أو حتى بعد ظهور الإسلام حيث نجده ينعكس في حديث للرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول فيه: "الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ". ولكن هذه الملكية العامة أو المشاع لم تمنع من وجود أراضٍ بداخلها تدخل في نطاق الملكية الخاصة "طوال الفترة التي توجد فيها القبيلة في منطقة أو أخرى من مناطق العشب", هذه الأراضي هي "الأحماء" التي كان الانتفاع بها قاصرا على بعض أفراد أو مجموعات القبيلة، كل حمى منها يدخل في نفوذ زعيم أو آخر هو وأتباعه من زعماء القبيلة، ترعى إبله فيها وحدها، إلى جانب الانتفاع بأراضي الرعي   1 راجع الباب الثالث من هذه الدراسة، الخاص بالملامح الجغرافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 المشاع التي ترعى فيها إبل القبيلة بأكملها. ولنا أن نتصور أن هذا الحق كان يتمتع به رئيس القبيلة أو من كان لهم؛ لسبب أو لآخر، نوع من البأس أو السطوة أو النفوذ فيها. ولكن على أي الأحوال فإن ملكية أراضي المراعي، سواء في ذلك الأرض المشاع أو الأحماء الخاصة كانت بالضرورة ملكية مؤقتة. فهي ملكية تستمر طالما وجد عشب في المنطقة, فإذا تركت القبيلة أرضها انتجاعا لعشب في منطقة أخرى وحلت محلها قبيلة أخرى صارت الأرض ملكا لهذه القبيلة الجديدة، والوضع ذاته يقال إذا ضعفت قبيلة وتمكنت قبيلة أخرى من إجلائها عن أرضها؛ فتصبح الأرض ملكا للقبيلة الغالبة2.   2 جواد علي: ذاته، ط1، ج7 "بيروت 1971"، ص97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ب- الموارد المكملة لحياة الرعاة : على أن الرعي, إذا كان يشكل المورد الأساسي لرعاة البادية العربية، فإنه لم يكن بأية حال هو موردهم الوحيد، وإنما كان هناك إلى جانبه ما يمكن أن نسميه موارد مساعدة؛ فرعاة البادية كانوا يحومون في كثير من الأحيان حول الواحات التي تقع بالقرب من الأراضي التي يرعون فيها ويحصلون بطريقة أو بأخرى على جزء من محصول التمر الذي ينتجه النخيل في الواحات، إما عن طريق القوة الساخرة بشق غارات على هذه الواحات ونهب جزء من محصولها أو عن طريق القوة المقنعة بفرض نسبة يحصلون عليها من هذا التمر لقاء عدم تعرضهم لسكان هذه الواحات أو لحمايتهم من أي مغيرين آخرين3. كذلك كانت قبائل البادية تنتفع بمرور القوافل التجارية في أرضها فتحصل القبيلة على أجر معلوم من هذه القوافل لقاء إرشادها وتوقفها وتقويم ما تحتاج إليه من خدمات على طول الطرق التي تقع عبر أرضها ولقاء حمايتها في أثناء   3 henri lammens: le berceau de I'IsLam, romae 1914 ص85. كذلك hitti: ذاته، ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 مرورها في هذه الطرق. وفي هذا الصدد يذكر لنا الكاتب اليوناني أرتميدوروس في أوائل القرن الأول ق. م. مشيرا إلى قوافل البخور والطيوب الآتية من جنوبي شبه الجزيرة أن "سكان كل منطقة كانوا يسلمونها لسكان المنطقة التي تليهم حتى تصل "هذه القوافل" إلى سورية"4 -وواضح أن حديث الكاتب يشير إلى إرشاد هذه القوافل وخدمتها وحمايتها في أثناء عبورها في أرض كل قبيلة لقاء مقابل مادي لذلك. أما الدور الثالث الذي كان يقوم به رعاة البادية كمورد مساعد لموردهم الاقتصادي الأساسي "وهو الرعي" فقد كان الوساطة بين البادية والحضر, وهو دور كان يتطور في بعض الأحيان ليصل إلى حجم أكبر بكثير من الحجم الذي ابتدأ به. وقد كان الرعاة الذين يقومون بهذه الوساطة هم أهل البوادي التي تتاخم المناطق السهلية الواسعة الخصبة أو التي على قدر من الخصوبة والتي كانت تقوم بها الدول المتاخمة للصحراء سواء في وادي الرافدين أو المنطقة السورية. حقيقة إن حكومات هذه الدول كانت تحترس من غارات أهل البادية بإقامة مناطق للحراسة، ولكن كان يسمح لهؤلاء البدو بالقيام بنوع من التبادل التجاري مع المدن الواقعة عند الحدود, يحملون إليها بعض نتاج البادية من الأغنام أو وبر الجمال الذي يصلح لبعض أنواع النسيج ليبادلوا بها بعض السلع التي يحتاج إليها أهل البادية، وفي بعض الأحيان يتطور هذا التعامل، على نحو ما أشرت في حديث سابق، فيحصل هؤلاء البدو على نوع من الإقامة في بعض الأراضي الواقعة على حدود الدولة، وقد يزاولون الزراعة أو بعض المهن في هذه الأراضي، كما قد ينخرطون كجند مرتزقة في قوات هذه الدولة5. وقد وصل حجم هذه الوساطة إلى ذروته حين كانت الدول   4 منقول في: strabo: XVI,4:19, وقد اشتهر أرتميدوروس بين 104, و101ق. م. 5 راجع الباب الثاني من هذه الدراسة, الخاص بالساميين وشبه الجزيرة والعرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 المتاخمة لشبه الجزيرة العربية تعتمد على مناطق البادية المتاخمة لها فتتخذ منها مناطق تابعة تصد عنها أية غارات خارجية، سواء أجاءت هذه الغارات من القبائل البدوية أو دول أخرى. ومثل هذا حدث في حالة الإمبراطورية الفارسية التي كانت تسيطر على منطقة وادي الرافدين, وفي حالة الدولة البيزنطية التي كانت تسيطر على المنطقة السورية. لقد حولت كل من الإمبراطوريتين المنطقة البدوية المتاخمة لها إلى إمارة تابعة لها؛ الإمبراطورية تساعدها وتساندها ماديا وفي مقابل ذلك تقوم هذه الإمارة بالتصدي لأية غارات من الجانب الآخر "أو من بدو الصحراء" على حدودها. وهكذا قامت إمارة المناذرة على الحدود الغربية لوادي الرافدين، وإمارة الغساسنة على الحدود الشرقية للمنطقة السورية، في حدود هذا المفهوم الذي أشرت إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الزراعة و المحاصيل الطبيعية المورد الزراعي ... 2- الزراعة والمحاصيل الطبيعية: أ- المورد الزراعي: المورد الثاني من الموارد الاقتصادية أو موارد الإنتاج في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام هو الزراعة. وفي هذا المجال فهناك تصور سائد مؤداه أن الزراعة كانت موردًا متدنيًا في العصر السابق للإسلام، ونحن نجد في الواقع ما يؤيد هذا التاريخ في الشعر الجاهلي. بل إن شاعرًا جاهليًّا ليس أقل من الأعشى الكبير، أحد شعراء المعلقات الذين تباهى العرب بشعرهم، يصف لنا مدى ازدرائه للزراعة والذين يعملون فيها حين يعبر عن بني إياد بأنهم يعيشون على هذه المهنة المتدنية -في نظره- ويصور لنا هؤلاء القوم وقد أخذوا ينتظرون موسم الحصاد وهم لا يجدون من عمل يقومون به سوى الجلوس خلف أبواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 موصدة يعالجون القمل وتشدهم إلى الأرض قيود لا يملكون معها فكاكًا6. وربما كان أحد الأسباب الكامنة وراء هذا التصور هو أن الزراعة -وبخاصة زراعة الحبوب- دخلت بعض أقسام شبه الجزيرة العربية من مناطق أخرى، ومن ثم اعتبرت مهنة دخيلة بينما ظل الرعي دائما هو المورد الأساسي والعمل به هو المهنة الأصيلة. ونحن نجد في الواقع ما قد يؤيد مثل هذا التصور في وجود بعض ألفاظ عربية من أصل آرامي في مجال الزراعة؛ فلفظة "حارث" العربية مأخوذة من "آرس" الآرامية، و"بيدر" مأخوذة من "إدّر" و"أكّار" وهو العامل الذي يعمل في الحقل هي ذاتها اللفظة الآرامية، ولفظة "نير" مأخوذة من "نيدرا"، ولفظة "ناطور" وهو الحارس الذي يحرس الكروم هو "ناطورا" في الآرامية، ولفظة "قمح" مأخوذة من "قمحنو"، هذا بينما ريّ "البعل" في العربية هو الري الذي يعتمد على ماء المطر "الذي يرسله بعل، إله الآراميين"7. ولكننا إذا تتبعنا هذا التصور نجد أنه كان في حقيقة الأمر قاصرًا على البدو وحدهم وأن الزراع لم يكونوا يعتنقون هذا التصور. وفي هذا الصدد فنحن نجد بين النصوص العربية الجنوبية القديمة التي عثر عليها المنقبون الأثريون   6 أبيات الأعشى في ازدراء الزراعة هي: لسنا كمن جعلت إياد دارها ... تكريت تنظر حبها أن يحصدا قومًا يعالج قُمَّلًا أبناؤهم ... وسلاسلًا أُجُدًا وبابًا موصدا ثم يستمر ليذكر أن الغزو والغارات أكرم كوسيلة للحياة, فيقول: جعل الإله طعامنا في مالنا ... رزقًا تضمَّنه لنا لن ينفَدَا مثل الهضاب جزَارة لسيوفنا ... فإذا تُراع فإنها لن تطردا راجع: ديوان الأعشى الكبير، تحقيق محمد حسين، بيروت، 1968، ص34. 7 عن الأصل الآرامي لري البعل راجع HITTI: ذاته، ص20. عن أصل لفظة قمح، جواد علي: ذاته، ج7، ص58. عن أصل الكلمات الباقية راجع: Ign, guidi: Larabie anteislamique "paris, 1921" ص50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 في اليمن ألفاظًا كثيرة تشير إلى المحصولات الزراعية أو إلى منتجاتها والمعاملات الخاصة بها. فلفظة "قمح" تقابلها لفظة "بُرّ" ولفظة "طحين" تقابلها لفظة "دققم" أي الدقيق، كما ترد في هذه النصوص لفظة "دق" بمعنى الحب الذي يتبقى في الأرض بعد التذرية، ولفظ "علص" بمعنى درس الحبوب أو بمعنى الحقل أو المزرعة. هذا بينما نجد ألفاظا أخرى عديدة غير منقولة عن الآرامية أو غيرها من لغات المناطق الواقعة خارج شبه الجزيرة, تشير إلى أنواع أخرى من الثمار أو المحاصل أو إلى عقود لتأجير الأرض بغرض الزراعة وهكذا8. وهذه النصوص بما فيها من تسميات ومعاملات تشير جميعًا إلى أن الحياة الزراعية في القسم الجنوبي من شبه الجزيرة كانت حياة طبيعية أصيلة لا ترد الألفاظ الدالة عليها من خارج البلاد وإنما تشكل موردا أصليا من موارد الإنتاج ليس فيه مجال لأن يتعالى أحد عليه أو يحط من شأنه أو شأن المشتغلين به. كذلك ربما يتبادر إلى الذهن أن هذه النصوص العربية الجنوبية قد تشير إلى أن وجود الحياة الزراعية كمورد اقتصادي أساسي أمر قاصر على القسم الجنوبي من شبه الجزيرة. ولكن شهادة الكتاب الكلاسيكيين في أواخر القرن الثالث ق. م. وأوائل القرن الذي يليه، ثم شهادة القرآن الكريم في أوائل القرن السابع الميلادي، أي: بعد ذلك بعشرة قرون كاملة، ما يثبت أن تصور الحياة الزراعية كمورد اقتصادي أساسي في شبه الجزيرة العربية كلها كان تصورا قائما وراسخا. وفي هذا المجال نجد الجغرافي اليوناني إراتوسثينس "إراتسطين الجغرافي عند العرب" يصف شبه الجزيرة في الفترة التي اشتهر   8 عن لفظتي "بر" و "دققم"، راجع نص cih, 241 عن لفظة "دق" راجع نص res, VII, 285 عن الألفاظ الخاصة بالتأجير والمعاملات الزراعية الأخرى راجع نص cih, 99 ونصي halevy, 49,147 كذلك راجع أدناه في هذا الباب عن زراعات أخرى بالعربية الجنوبية راجع، جواد علي: ذاته، ج7، ص59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وكتب خلالها "275-194ق. م." فيذكر عن بلاد العرب الميمومة "وهي شبه الجزيرة، اتجاهًا نحو الجنوب، فيما يلي رأس خليج العقبة -أيلة- غربا, ورأس الخليج العربي "الفارسي" شرقا" أن "أول قوم يقطنون بلاد العرب الميمونة، فيما يلي السوريين وأهل يهودية, هم قوم يعملون بالفلاحة، وبعد هؤلاء نجد الأرض رملية جرداء تنتج قليلًا من أشجار النخيل وبعض الأشجار الشوكية وأشجار الطرفاء MYRIKE، ويعمد أهلها إلى حفر الآبار ليحصلوا على مياه الري .... أما المناطق التي تقع في أقصى الجنوب في المنطقة المقابلة للحبشة فترويها أمطار الصيف وتبذر أرضها مرتين كل عام"9. وهو حديث كما نرى، يشير إلى درجات متفاوتة من الزراعة، مبتدئا بالزراعة العادية في الشمال، ومثنيا بالخفيفة في الوسط، ومنتهيا بالزراعة المكثفة في الجنوب. أما آيات القرآن الكريم، الذي يشير إلى أحوال شبه الجزيرة العربية في أواخر العصر الجاهلي، فهي تتواتر لتثبت لنا أن الزراعة كانت موردا أساسيا ومرموقا في الوقت نفسه بين الموارد الاقتصادية لشبه الجزيرة العربية بأكملها, وقد عبرت الآيات القرآنية عن ذلك بأكثر من طريقة. فمن جهة نجد القرآن الكريم يتحدث عن الأطوار المتعددة التي يمر بها الزرع, ابتداء بإعداد الأرض وانتهاء بنضج المحصول، فهو يشير إلى حرث الأرض بداية ثم نمو الحبوب في باطن الأرض ثم الري واستواء الزرع على سيقانه ثم تركيب السنابل ثم الحصاد. كذلك يشير بوجه عام إلى الزرع واختلاف أنواعه، ثم يعدد بشكل مفصل بعض هذه الأنواع مثل: الحب والنخيل والأعناب وعدد من الفواكه الأخرى. كذلك يشير في عدد كبير من الآيات إلى قيمة الزراعة كمورد اقتصادي أساسي مرموق، فنجد إبراهيم -عليه السلام- يحس بوطأة المكان الذي اتخذه لذريته -وهو مكان غير ذي زرع- ويبتهل إلى الله أن يرزق   9 منقول في، STRABO: xvi,4:2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 هذه الذرية قدرًا من الثمرات تعينهم على ممارسة حياتهم، كما نجد الآيات القرآنية تشبه العمل الصالح بالحبوب التي تنبت كل منها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتقدم لنا مثلا لشخصين يتباهى أحدهما على الآخر بأنه يملك جنتين من نخيل وأعناب، بل إن بعض الآيات تقدم مثل هذه الجنات كأمنية لأي شخص له أسرة أو ذرية يسعى إلى تحقيق هذه الأمنية ويحافظ عليها ويخشى أن تتعرض لما يتعرض له الزرع والثمر من عوامل الطبيعة التي قد تعصف بها أو تحرقها. كما نجد في آية أخرى هذا الزرع وقد وضع موضع رضًا وإعجاب بالنسبة لأصحابه من المؤمنين ومصدر غيظ بالنسبة لمن وقف في سبيلهم أو تصدى لهم من غير المؤمنين10. كذلك تظهر لنا الزراعة كمورد اقتصادي أساسي من موارد الإنتاج في شبه الجزيرة حين نعرف شيئا عن الأنواع العديدة من المعاملات التي اتصلت بالزرع والزراعة، وهي معاملات كانت على جانب كبير من التنظيم والتقنين. ومن بين هذه المعاملات، على سبيل المثال، المحاقلة، أي: استئجار الأرض بالحنطة أو الذهب أو أي شيء آخر يقوم مقامهما، والمزارعة وهي الاتفاق على أن يزرع شخص أرض شخص آخر لقاء نسبة معلومة من الثمر أو الحصاد يتفق عليه، على أن تكون البذور من مالك الأرض، والمخابرة وهي على نمط المزارعة ولكن تكون البذور على الزارع، وفي بعض أنواع الإيجار المتعلق   10 الحرث، سورة الواقعة: 64. الحب في باطن الأرض، الأنعام: 59. الري، السجدة: 47، النبأ: 15. الحصاد ق: 9. تركيب السنابل، البقرة: 261. الحب، الأنعام:95، 99، ق:9، الرحمن: 12, يس: 32، النبأ: 15. النخيل والأعناب، الإسراء: 91، عبس: 28، البقرة: 266، الأنعام: 99، الرعد: 4، النحل: 11، 67، الكهف: 32، المؤمنون: 19، يس: 24، النبأ: 32. الزرع بوجه عام، الواقعة: 64. اختلاف المزروعات, الأنعام: 141. موقف إبراهيم، إبراهيم: 37. تشبيه العمل الصالح بالسنابل، البقرة: 261. التباهي بالزرع، الكهف: 32. الزرع موضع رضا وإعجاب، الفتح: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 بالأرض المزروعة لمدة معينة تكون هناك شروط من بينها مثلًا أن يكون للمالك حق إبطال العقد إذا أظهر المستأجر تباطؤًا أو تكاسلًا أو إهمالًا في استغلال الأرض، إذ يصبح معنى هذا، في حالة الاتفاق على نسبة يؤديها المستأجر إلى المؤجر، أن يكون هذا التباطؤ أو الإهمال سببًا في نقص المحصول ومن ثم في قلة نصيب صاحب الأرض من هذا المحصول11. كذلك كانت هناك المعاملة على القصارة, وهي ما تبقى في السنابل من الحب بعد التذرية فيكون هناك اتفاق يجعل هذه القصارة من نصيب الذاري أحيانا ومن نصيب صاحب الزرع في أحيان أخرى. وهناك معاملة المساقاة وهي الاتفاق بين طرفين على قيام أحدهما بتوصيل الماء إلى أرض الآخر سواء أكان صاحب هذه الأرض أم ملتزمًا لها، مقابل تعهد يقدمه الطرف المستفيد من الماء إلى صاحب الماء بجزء من المحصول أو أي شيء آخر. وهناك كذلك المحاينة وهي الحصاد لقاء أجر، والمخاضرة وهي بيع الثمار قبل أن تنضج ربما للتخلص من معاملات جني الثمر أو حراسته أو حمله إلى الأسواق وما يحيط بذلك أو يتصل به من معاملات تستلزم كثيرا من الجهد أو العناء. وقد كانت المخاضرة في كثير من الأحيان مثارًا لعدد من الخلافات والمنازعات بين الأطراف المتعاقدة بسبب ما قد يصيب المحصول من تلف قبل أن يتم نضجه مما يفقد المبتاع لهذا المحصول ربحه أو جزءا من هذا الربح، فيطلب استرجاع ما دفعه كله أو بعضه، وقد أدى تواتر هذه الخصومات إلى أن نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن بيع المحصول قبل أن ينضج إلا بعد أن يتبين صلاح   11 راجع النص عن المحاقلة في rodokanakis: katabanische texte, I , 48 ونصوص عن الإيجار بشرط يمكِّن المالك من إبطال العقد في cih, 99,290,1064,1572. عن نصوص تخص استخدام الملاك لأجراء يزرعون الأرض مقابل أجر "أجرم في النصوص الجنوبية" يدفع لهم, راجع jamme: south arabian inscriptions، صفحات 76-77. عن بقية المعاملات وعن المعاملات بوجه عام راجع، جواد علي: ذاته، ج7، صفحات 216-224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 هذا المحصول، وعندئذ لا يحق لمبتاع أن يتذمر من شرائه. وأخيرا، وليس آخرًا، في هذا الصدد، فإن النصوص العربية الجنوبية تعرفنا، إلى جانب عدد من المعاملات الزراعية، بنوع من الجمعيات التعاونية لكل منها مجلس يتألف من ثمانية أشخاص يقوم على إدارة شئون الإقطاع الزراعي من تهيئة البذور والإشراف على العمل وإدارته ودفع حصة المعبد من المحصول، وحصة الحكومة "أي الضريبة المستحقة لها" وبيع المحصول أو توزيعه وهكذا12. أما عن المحاصيل فكانت متعددة، وتشير النقوش العربية الجنوبية والقرآن الكريم إلى عدد لا بأس به، سواء في ذلك الفواكه أو الحبوب أو الخضراوات، ولكن تبرز من بين هذه المحاصيل والثمار ثلاثة أنواع بوجه خاص هي النخيل والأعناب والحبوب. ويحظى النخيل وما ينتجه من تمر الأهمية الأولى في شبه الجزيرة، وقد كانت وفرة النخيل بسبب ملاءمة مناخ شبه الجزيرة لنموه، هي دون شك التي دفعت به إلى المقدمة لكي يصبح العنصر الغذائي الأساسي لسكان هذه المنطقة. يتخذه البدوي طعاما، كما مر بنا في مناسبة سابقة، إلى جانب شيء من حليب النوق وفي بعض المناسبات القليلة شيء من لحم الإبل، ويصنع من نواه المدقوق أقراصًا يعطيها لإبله علفًا، ويتخذه الحضري طعاما إلى جانب أنواع أخرى لا يتيسر للبدو. ويبدو اهتمام سكان شبه الجزيرة قبل الإسلام بالنخيل من طريقة ذكره في أشعارهم ومن ورود ذكره عند مختلف الطبقات الاجتماعية التي ينتمي إليها هؤلاء الشعراء. وفي هذا المجال نجد امرأ القيس، وهو ملك ينتمي إلى أعلى طبقة اجتماعية, يصف في معلقته مطرا عنيفا في غزارته فلا ينسى أن يذكر ما سببه هذا المطر   12 عن الجمعيات الزراعية وإدارتها راجع النص في HALEVY: 147. عن المعاملات الأخرى، جواد علي: ذات الصفحات في الحاشية السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 من دمار كان بين أبرز آثاره أنه لم يترك جذع نخلة في مدينة تيماء "في شمالي غربي شبه الجزيرة" إلا اقتلعها، وفي هذا إشارة متضمنة إلى شهرة هذه المدينة بوفرة أشجار النخيل بها. كذلك نجد هذا الملك في قصيدة أخرى يصف بعض حسان الطبقة الاجتماعية الموسرة وقد ارتدين ثيابًا ملونة من قماش موشًّى جاء من أنطاكية، فلا يجد ما يشبه به لونها وجمالها، سوى لون التمر الذي لم يكتمل نضجه، ولبيد بن ربيعة وهو من سادة بني ربيعة، يفخر في معلقته بفرسه فيشبهها، إذا رفعت عنقها، بنخلة طويلة لا يكاد يصل إلى قمتها من يريد قطف ثمارها. ثم يصف الشاعر نعمة الله على الأبرار فيذكر أن الله يرزق هؤلاء أشجار نخيل طويلة كثيرة الحمل من التمر13. وربما كانت إحدى الملاحظات اللغوية التي قدمها باحث حديث عن النخل والتمر من بين الملاحظات التي لا تخلو من مغزى في هذا الصدد، إذ يشير هذا الباحث إلى أن لفظة "نخل" مصدر يفيد معنى استخلاص الشيء الطيب من غيره من الشوائب "من فعل نَخَل"، فهذه الشجرة، إذن، هي خلاصة الشجر جميعا، كذلك لفظة "تمر" التي هي نطق آخر للفظة "ثمر" وكأنما المقصود هو أن الثمر إذا ذكر وحده فلا بد أن يكون تمر النخيل أولًا وقبل كل شيء، فإذا كان المقصود ثمرا آخر فلا بد أن يحدد نوعه. هذا إلى ما نراه في المخربشات التي تركها سكان شبه الجزيرة في العصر السابق للإسلام في مواضع   13 بيت امرئ القيس عن نخل تيماء في شيخو والبستاني: المجاني، المعلقة، بيت 75: وتيماءَ لم يُترك بها جذع نخلة ... ولا أُطُمًا إلا مشيدًا بجندل وبيته عن تشبيه ثياب الحسان في, ذاته، قصيدة لدى أم جندب، بيت 10: علوْنَ بأنطاكية فوق عَقمَة ... كجِرمَة نخل أو كجنة يثرب بيت لبيد في وصف فرسه، المرجع ذاته، المعلقة، بيت 66: أسهلت وانتصبت كجذع منيفة ... جرداء يحصر دونها جرامها بيته في رزق الأتقياء، ذاته، قصيدة إلى الله القرار، بيت 4: يوم أرزاق من يُفضِّل عُمٌّ ... موسقات وحُفَّل أبكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 عديدة من آثارهم والتي يظهر فيها رسم النخلة بشكل ظاهر14. أما في القرآن الكريم الذي تشير آياته إلى أحوال شبه الجزيرة في الفترة الأخيرة من العصر الجاهلي فتبرز فيه شجرة النخيل لتحتل، مع الأعناب, المكان الأول بين الأشجار التي يشير إليها وإلى أهميتها في مجتمع تلك الفترة على نحو ما أسلفت15. وفي الواقع فإن الإشارة إلى الأعناب متواترة في الشعر الجاهلي، أحيانًا بوصفها أعنابًا فحسب، وأحيانًا أخرى بوصفها الفاكهة التي تصنع الخمر من عصارتها، وأحيانًا ثالثة في وصف مطول مفصل للخمر وما تبعثه في النفس، وهو وصف لا نكاد نرى شاعرا جاهليا إلا وعرج عليه في قصيدة على الأقل من قصائده, فيما عدا استثناءات قليلة، بل إن بعض شعراء العصر الجاهلي جعلوا من إفراطهم في شرب الخمر وحرصهم على ذلك نقطة فخر بالنسبة لهم في عديد من المناسبات. وقد يفيد في إعطائنا صورة من هذا الفخر وهذا الحرص أن أشير، كمثال من بين أمثلة عديدة، إلى موضعين في شعر طرفة بن العبد، يساوي في موضع منهما بين مبادرته إلى الشراب قبل الآخرين، وبين مبادرته لنجدة من يلجأ إليه، كاثنتين من لذات الحياة التي يسعى إليها، بينما يفخر في الموضع الآخر بأن قومه لا تعز الخمر عليهم ولو دفعوا خير إبلهم ثمنًا لها16.   14 الملاحظة اللغوية عن النخل والتمر في LAMMENS: ذاته، ص85، عن المخربشات راجع ملحق اللوحات: لوحة 20ب. 15 راجع حاشية 10 أعلاه. 16 الموضع الأول في شيخو والبستاني: ذاته، المعلقة، أبيات 57-59: فلولا ثلاث هن من لذة الفتى, ... وجدك، لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقى العاذلات بشربة ... كُميت، متى ما تُعل بالماء تزبد وكرِّي -إذا نادى المضاف- مُحَنَّبًا ... كسيد الفضاء، نبهته، المتورِّد الموضع الثاني في المرجع ذاته، قصيدة غزل وفخر، بيت42: لا تعز الخمر، إن طافوا بها ... بسباء الشَّول والكوم البُكُر من النصوص العربية الجنوبية التي ورد فيها لفظ عنبم، أي عنب، نصا HALEVY: 360,362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وقد انتشرت زراعة الأعناب في عدد من أماكن شبه الجزيرة العربية في العصر السابق للإسلام فالنصوص العربية الجنوبية تشير في مواضع عديدة إلى معاملات تتعلق بهذه الزراعة أو بالزبيب الناتج عن تجفيف ثمارها في اليمن ومن بين هذه نص يشير إلى توزيع أبرهة "حاكم اليمن من قبل نجاشي الحبشة في أواسط القرن السادس الميلادي" لحصص من الزبيب "فصمم أو فصم في اللهجات العربية الجنوبية" بمناسبة إسهامهم في بناء سد مأرب. كذلك تظهر صور أغصان العنب وعناقيده محفورة على الآثار اليمنية سواء في الأحجار أو على الأخشاب أو الألواح المسواة من الجص، حتى صار هذا النوع من الزخرف إحدى خصائص الفن اليمني. كما نجد الأعشى الكبير يشيد بأعناب "أثافت"، إحدى مدن نجران، وقت قطافها وعصرها، في إحدى قصائده عن الخمر. والأعشى هو شاعر الخمر وشاعر الترحال والأسفار الذي يستطيع أن يقارن بين بلد وبلد وبين ما تنتجه هذه أو تلك من الأعناب. كذلك اشتهرت بعض الأماكن في الحجاز، مثل الطائف، بالأعناب والزبيب الذي يجفف منها، فعمرو بن العاص، وهو مخضرم أدرك الجاهلية، كان له بوهط من الطائف, كرم كثير بلغ عدد شجره ألف ألف عود17. وفي الواقع فإن الأعناب وما يجفف منها من زبيب كانت تمثل عنصرًا أساسيًّا من عناصر ثروة الطائف الاقتصادية. أما عن النوع الثالث من الزراعة فهو الحبوب, ومن بينها الشعير الذي كانت زراعته منتشرة بعض الشيء ثم الحنطة أو البر "القمح" الذي يبدو أن   17 عن نص أبرهة، جواد علي: مجلة المجمع العلمي العراقي، مجلد 4، ج1, ص218، سطر 128. كذلك جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط1، 1971، ج7، ص73. بيت الأعشى في شيخو والبستاني: ذاته، من قصيدة في مدح سادة نجران، بيت 25: أحب أثافت يوم القطا ... ف ووقت عصارة أعنابها عن وهط عمرو بن العاص راجع، معجم ياقوت: مادة وهط، ج5، ص386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 زراعته كانت على مستوى ضيق ربما بسبب عدم ملاءمة المناخ أو التربة إلا في بعض المناطق القليلة، وهو تصور ينطبق بشكل خاص على النصف الشمالي من شبه الجزيرة. ويبدو أن هذا الوضع كان سببا في ارتفاع أثمان الحنطة وهو أمر نستنتجه من اقتصار استخدام الخبز المصنوع من الحنطة على طبقة السادة أو الطبقة الموسرة بين عرب الجاهلية كما نراه في بيت للمتنخل الهذلي يفخر فيه بأنه يقدم "خبز" البر إلى النازلين بضيافته، ولا ينسى أن يشير، في نغمة مباهاة ظاهرة، إلى أن لديه مقادير مخزونة من هذا البر -الأمر الذي يظهر ما كانت عليه هذه السلعة من ندرة وما كان عليه ثمنها من ارتفاع. وكانت الطائف، مثل اشتهارها بالأعناب والزبيب، مشهورة كذلك بهذا المحصول المرموق، فكانت القوافل تقبل منها وهي تحمل، فيما تحمل، الحنطة إلى مكة18.   18 بيت المتنخل في تاج العروس، مادة بر: لا در دري إن أطعمت نازلكم ... قرف الحَتِيِّ وعندي البر مكنوز راجع كذلك، جواد علي: ذاته، ج7، ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ب- المحاصيل الطبيعية : وإلى جانب الزراعة، وربما أهم منها من الناحية الاقتصادية، يوجد في القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية مورد طبيعي في أغلبه هو نباتات التوابل والطيوب. ومن بين هذه اللبان أو البخور والمر والقصيعة والقرفة واللادن أو المستكة19. وقد مر بنا في مناسبة سابقة أن العصر القديم كان عصر استهلاك مكثف للبخور والطيوب بوجه خاص، ومن هنا كان الاهتمام الزائد للكتاب الكلاسيكيين في التعرف على كل المعلومات التي تتصل بهذه النباتات العربية التي حظي بها القسم الجنوبي من شبه الجزيرة، كما اتجهت   19 على سبيل المثال herodotos: historiae, III, 107. راجع كذلك، الحديث عن المصادر الكلاسيكية في الباب السادس الخاص بالمصادر الكتابية من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 أنظار الدول الكبرى في العصر القديم إلى الحصول على نصيب منها، سواء في شكل هدايا أو ضرائب أو محاولة احتلال المنطقة العربية المنتجة لها20، وهذه كلها شواهد على القيمة الكبيرة لهذا المورد الاقتصادي. ولعل في ذكر بعض الحقائق التي أوردها الكاتب الموسوعي الروماني وهو بلينيوس PLINIUS، عن أحد هذه المنتجات وهو اللبان أو البخور، ما يعطينا فكرة عن حجم هذا المورد والأهمية التي ارتبطت به. إن الغابات التي تنمو بها أشجار اللبان في منطقة سبأ تصل مساحتها إلى 20 سخوينوس SCHOENUS طولًا ونصف ذلك عرضًا، فإذا عرفنا أن طول هذا المقياس هو 5 أميال ظهرت لنا المساحة الهائلة لهذه الغابات، وهي 100 ميل طولا و50 ميلا عرضا تنتشر على التلال المرتفعة من قمتها إلى سفحها في منطقة تدعى سربية sariba وهي، حسبما يدعي اليونان، كلمة تعني "السر الخفي" وتقع ضمن أرض السبئيين على مسيرة ثمانية أيام من العاصمة شبوه. أما الأسر التي تملك هذه الغابات فتعد نحو ثلاثمائة أسرة ويدعى أفرادها بالمقدسين. كما أن العمل الذي يقوم به هؤلاء الأفراد، وهو شق لحاء الأشجار لاستخراج العصارة الصمغية القوام التي يتكون منها اللبان، يحيط به قدر كبير من القدسية التي تشير إلى مدى الأهمية التي أعطاها أصحاب هذه الغابات لهذا المورد الاقتصادي المهم. ففي الموسم المذكور لا يجوز لهم أن "يفقدوا طهارتهم" بلقاء النساء أو الاشتراك في مواكب الجنازات "ويبدو أن هذا الاشتراك كان يفقد الطهارة في نظرهم لسبب أو لآخر". ويبدو أن عددا من الشعائر الدينية كانت تحيط بهذا الموسم إذ إن بلينيوس يذكر لنا في هذا الصدد أن ارتفاع ثمن هذه السلعة   20 عن الهدايا والضرائب herodotos III,97. عن محاولات الاحتلال، راجع الباب العاشر الخاص بالسياسة الخارجية في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 يرجع في أحد أسبابه إلى التكاليف التي تستتبعها الدقة الصارمة في اتباع هذه الشعائر. ثم يذكر لنا الكاتب أنه في الزمن السابق لوقته "عاش الكاتب في أواسط القرن الثاني الميلادي"، حين كانت فرصة تسويق اللبان أقل منها في وقته، كانت العادة أن يجمع اللبان مرة واحدة في العام، أما في وقته فإن الطلب الكبير على هذه السلعة أدى إلى جمعها مرتين في العام، إحداهما في الربيع، والأخرى حين تصل حرارة الصيف إلى أشدها. أما بعد أن يجمع المحصول من الغابات فإنه يحمل على الجمال إلى العاصمة شبوه SABOTA ويفتح أحد أبواب المدينة لتدخل منه هذه القوافل المحملة باللبان. وقد حرص ملوك سبأ على أن تلتزم هذه القوافل الطريق العام الممتد بين الغابات والعاصمة واعتبروا أن الانحراف عنه يشكل جريمة أساسية يعاقب مرتكبها "وهو أمر يدلنا على حرص هؤلاء الملوك على ألا يكون هناك أي تلاعب في المحصول وهو في طريقه إلى المدينة". فإذا ما دخلت القوافل إلى شبوه أخذ الكهنة عشر المقدار تقدمة إلى إله المدينة, قبل أن يسمحوا لأحمال اللبان أن تعرض في السوق, وينفق هذا العشر في آداب دينية عامة تقام باسم هذا الإله21.   21 plinius: HN, XII, 51, 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 التجارة مدخل ... 3- التجارة: وأتحدث الآن عن مورد اقتصادي آخر، لعله كان أهم الموارد التي لعبت دورًا أساسيًّا في تشكيل الحياة الاقتصادية بما لها من تداخلات أخرى "اجتماعية وسياسية ودينية" في مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام, وهذا المورد هو التجارة. أما المقومان الرئيسيان لهذا المورد فقد كان أحدهما هو الطيوب والتوابل التي تنبت في جنوبي شبه الجزيرة لتجد طريقها برًّا وبحرًا إلى مصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وسورية ثم من الشواطئ السورية عبر المتوسط إلى الشواطئ الأوروبية في بلاد اليونان والرومان، بينما كان المفهوم الآخر هو الموقع الأوسط الذي تحتله شبه الجزيرة العربية بين الشرق والغرب لتمر بها الخطوط التجارية التي تربط بينهما، سواء في ذلك الخطوط البرية التي تخترق شمالي شبه الجزيرة متجهة إلى الشاطئ السوري، أو الخطوط البحرية التي تأتي من المحيط الهندي إلى البحر الأحمر مارَّة بمداخله عند عدن لتكمل طريقها إما برا عبر شبه الجزيرة من الجنوب إلى الشمال، أو بحرا بطول البحر الأحمر حتى موانئه الشمالية أو متنقلة بين الطريق البري والطريق البحري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أ- أهمية هذا المورد ومظاهر ذلك : وقد كان هذا الموقع الوسط وما ترتب عليه من مرور التجارة من الشرق إلى الغرب بشبه الجزيرة العربية ظاهرة استرعت اهتمام الكتاب الكلاسيكيين في العصرين اليوناني والروماني بدرجة تعطينا صورة مجسمة على حجم هذا المورد وأثره في تنمية اقتصاديات شبه الجزيرة في ذلك العصر الذي وصل فيه استهلاك الطيوب والتوابل إلى قدر كان مجال تعليق لهؤلاء الكاتب. فإلى جانب التفاصيل التي أفاضوا فيها عن طيوب شبه الجزيرة وتوابلها ووصولها إلى العالم الغربي، وهو أمر بدأ يتنبه هؤلاء الكتاب إليه منذ عهد المؤرخ اليوناني هيرودوتس في أواسط القرن الخامس ق. م. "وإن كان هذا لا يعني بطبيعة الحال، أن هذه التجارة لم تكن موجودة قبل ذلك". ومن الكتابات التي تركها لنا هؤلاء نعرف أن عرب شبه الجزيرة لم يكونوا يقتصرون على تصدير طيوبهم وتوابلهم إلى الغرب وإنما كانوا يصدرون كذلك ما يستوردونه من هذه السلع من الهند ومن الحبشة وبعض مناطق السودان aethiopia ومن الصومال trogloditikae. ويشير بلينيوس إلى الحجم الهائل لما كانت تستورده روما من شبه جزيرة العرب ضمن حديثه عن مستوردات روما من بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 هذه المناطق في أواسط القرن الأول الميلادي حين يذكر في مجال الحديث عن هذه السلع أن "الهند والصين وشبه جزيرة العرب تأخذ منا كل عام 100 مليون سستركه sesterces "عملة رومانية""، ونعرف أن هذا المبلغ كان شيئا كثيرا، حتى بالنسبة إلى الإمبراطورية الرومانية آنذاك، من العبارة التي ينهي بها حديثه في هذا الموضع حيث يقول في تعجب ظاهر: "وهذا هو ما كان يكلفنا ترفنا ونساءنا"22. وقد عاد هذا المورد التجاري على عدد من مناطق شبه الجزيرة بقدر كبير من الثروة "بغض النظر عن نصيب الطبقات المختلفة في المجتمع من المشاركة في هذه الثروة". ويتحدث الجغرافي اليوناني سترابون strabo عن غنى المنطقة الجنوبية الغربية في مجال وصفه لأسباب الحملة الرومانية التي جردها أغسطس، أول الأباطرة الرومان، على هذه المنطقة في 24 ق. م. فيذكر أن الحافز الذي دفع الإمبراطور الروماني إلى محاولة احتلالها هو ما سمعه عن ثروة سكانها ومن ثم كان هدفه هو "التعامل معهم كأصدقاء أثرياء أو السيطرة عليهم كأعداء أثرياء"23. وبصرف النظر عن مدى ما في هذا التعليل من دقة أو تطابق مع أهداف أغسطس من الحملة فإن الإشارة واضحة إلى ثروة المنطقة. كذلك يتحدث الكاتب الموسوعي الروماني بلينيوس plinius عن العرب فيذكر أنهم " في عمومهم, أغنى أجناس العالم؛ لأن ثروات واسعة تتجمع في أيديهم من روما وبلاد فارس لقاء ما يبيعونه لهذين البلدين سواء من نتاج البحر "يقصد اللآلئ" أو من غاباتهم "يقصد غابات الطيوب",   22 تعامل في طيوب الهند في strabo: 4: 25, وطيوب الحبشة في ariemidoros، منقول في strabo: XVI, 4: 19، وطيوب الصومال في plinius: HN,XII, 66. عن حجم المستوردات الرومانية من شبه جزيرة العرب "ضمن مناطق أخرى" plinius, HN,XII,84. 23.strabo: XVI,4:22 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 دون أن يشتروا منهما شيئا في مقابل ذلك24. وربما كان بلينيوس مبالغًا بعض الشيء فيما وصف به العرب من عدم استيراد أي شيء، ولكن يبدو فعلا أن وارداتهم لم تكن كثيرة، فنحن لا نسمع شيئا كثيرا عنها في علاقاتهم مع الآشوريين أو البابليين أو الفرس، أو في العصر اليوناني الروماني، وحين نبدأ نسمع شيئا عن ذلك في الشعر الجاهلي في القرن السادس الميلادي فهو لا يزيد كثيرا على بعض السيوف من الهند أو بعض الأقمشة الثمينة أو الموشاة من العراق والشام25، وربما كانت هناك كماليات أخرى مماثلة لم يرد إلينا ذكرها, ولكن تبقى في النهاية حقيقة ثابتة هي أن صادرات العرب كانت أكثر بكثير من وارداتهم، فالسلعتان الأساسيتان في العالم القديم وهما الحبوب والطيوب كانت إحداهما وهي الطيوب متوفرة لديهم، وكانت الأخرى وهي الحبوب متوفرة في منطقة اليمن وبعض الواحات، بينما لم يكن باقي سكان شبه الجزيرة يعتمدونها كمادة غذائية أساسية كما مر بنا في مناسبة سابقة. وفي الواقع فإن الثروة التي عرفتها بعض مناطق شبه الجزيرة العربية قد أدت ببعض الكتاب الكلاسيكيين إلى قدر من المبالغة في تقدير مظاهر هذه الثروة، كما فعل أجاثارخيدس agatharchides في وصفه المسهب لحياة البذخ عند السبئيين، وكما فعل أرتميدوروس ARTEMIDOROS حين ذكر أن الجرهائيين "أهل جرهاء على شاطيء الخليج" والسبئيين "قد أصبحوا، بسبب تجارتهم،   24 plinius: HN, VI, 162. 25 الأقمشة العراقية ترد, على سبيل المثال، في بيت لامرئ القيس، راجع شيخو والبستاني: ذاته، قصيدة "يوم صيد" بيت 3: جعلن حوايا واقتعدن قعائدا ... وحففن من حوك العراق المنمق عن الأقمشة السورية الموشاة الآتية من أنطاكية, كذلك امرؤ القيس، راجع البيت الثاني من حاشية 13 أعلاه. عن السيوف اليمانية، على سبيل المثال، بيت للشاعر تأبط شرا "القرن السادس الميلادي" في شيخو والبستاني: ذاته، قصيدة الشاعر والغول بيت 4: فشدت شدة نحوي فأهوى ... لها كفي بمصقول يماني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 أغنى الجميع "يقصد سكان شبه الجزيرة العربية" فلديهم قدر كبير من الأدوات المصنوعة من الذهب والفضة مثل: النمارق والكراسي والأوعية وكئوس الشراب، كما تتصف منازلهم بالبذخ إذ إن أبوابها وجدرانها وسقوفها مطعمة بالعاج والذهب والفضة ومرصعة بالأحجار الكريمة"26. ولكن إذا كانت مظاهر الثروة في بعض مناطق شبه الجزيرة قد ذكرت في المصادر الكتابية بشكل مبالغ فيه في بعض الجوانب, فإن الحديث عنها ليس خاليًا من أساس حقيقي، يدعم ذلك عدد من الأدلة الأثرية في أكثر من منطقة. ففي سبأ, على سبيل المثال، لا تزال هناك بقايا من أسوار المدن والأبراج والمعابد مثل معبد المقه إله القمر، والقصور ومجموعات الأعمدة والتماثيل، وسد مأرب الذي كان يحجز وراءه كميات هائلة من المياه تمرّر من خلال أنفاق في جسم السد لها أبواب تفتح عند اللزوم لأغراض الري. وكل هذا دليل على موارد هائلة من الثروة كانت تتمتع بها المنطقة، كما تؤكد ذلك مجموعات العملة التي ترجع إلى عهد الملوك السبئيين والملوك السبئيين الحميريين، وهي عملة كانت تضرب منذ القرن الثالث ق. م. على خط العملة الأثينية التي وجدت طريقها إلى المنطقة مع القوافل التجارية الآتية من غزة. كما كانت تتبع الوزن البابلي الشائع27 -وهي إشارات تدل على مدى نشاط تجارة هذه المنطقة من الجزيرة العربية, سواء مع وادي الرافدين أو مع شواطئ البحر المتوسط، ومن ثم الرخاء والثروة المترتبان على ذلك. وفي الأقسام الأخرى من شبه الجزيرة تجد في المنطقة التي كانت فيها إمارة الأنباط الأضرحة المنحوتة في الصخر في مدائن صالح -في شمال غربي السعودية- والبتراء -بالأردن- في مهارة فنية فائقة وبشكل يشير في مجموعه   26 منقول في سترابون، strabo:XVI,4: 19. 27 G.C. Andersen ج10، ص249. انظر كذلك عن سد مأرب وعن أحد التماثيل ملحق اللوحات، لوحتا 4أ، 9أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وفي تفاصيله إلى قدر كبير من الثراء الذي يصل إلى حد البذخ في مواضع عديدة، كما نجد في مدينة جرش -بالأردن حاليا- الساحة الكبيرة forum التي تحيط بها الأعمدة الشاهقة على النمط الروماني، وبقايا الشوارع المتقاطعة المرصوفة بالأحجار العريضة والتي لا يزال عدد كبير من الأعمدة التي تحف بها قائمة حتى الآن، هذا إلى جانب المسرح الحجري المدرج الذي بقي حتى الوقت الحاضر محتفظًا بحالته القديمة في أغلب مقوماته مثل ساحة الجوقة ومدرجات المشاهدين. أما تدمر, هذه المدينة الفريدة التي كانت تقع في قلب الصحراء في شمالي شبه الجزيرة عند نقطة التوازن القوية بين أملاك الرومان في الغرب وأملاك الفرس في الشرق، والتي عرفها اليونان والرومان باسم "مدينة النخيل" palmyra، فلا تزال آثارها الباقية حتى الآن تنطق بما كانت تتمتع به من ثروة كبيرة, ومن بين هذه الآثار العديدة طريق الأعمدة التي تنتهي بقوس النصر, وكانت هذه هي الطريق الرئيسة في المدينة, يحف بها صفانِ من الأعمدة بطولها من اليمين واليسار لا يزال باقيا منها حتى الآن 150 عمودا ضخما من أصل 375 عمودا، ومعبد بعل ومعبد بعل شمين "رب السموات" وعدد من الأبراج الجنائزية المربعة الشكل التي كانت تستخدم كمقابر للدفن وعدد من المناظر المنحوتة على طريقة النحت البارز التي كانت تزين واجهات المعابد والمباني الأخرى28. ونحن نستطيع في الواقع أن ندرك، من زاوية أخرى، مقدار ما كان يمكن أن تجنيه بعض مناطق شبه الجزيرة من ثروة من هذا المورد الاقتصادي التجاري إذا ألقينا نظرة سريعة على بعض المؤشرات التي نستنتج منها حجم النشاط التجاري والمعاملات التجارية في شبه الجزيرة العربية، ومن بين هذه المؤشرات, على سبيل المثال، ما نجده في النقوش التي عثر عليها المنقبون   28 راجع ملحقات اللوحات: لوحات 5أ،23 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الأثريون في العربية الجنوبية من وفرة في الألفاظ ذات المعاني التجارية التي تتصل بالبيع والشراء والامتلاك والعقود والأوامر التي كان الملوك يصدرونها لتنظيم جباية المكوس -الضرائب الجمركية- على السلع التي تباع في الأسواق وما يترتب على مخالفتها أو التهرب منها من عقوبات، أو لتنظيم المعاملات التجارية بجوانبها المختلفة مثل الشروط التي تتصل بحقوق الأغراب في ممارسة التجارة بالمنطقة أو بممارسة أهل المنطقة للتجارة في الخارج. وعلى سبيل المثال, فنحن نجد من بين هذه النقوش نقشًا يشكل مرسومًا ملكيًّا موجهًا من الملك "شهر هلل -أو هلال- بن يدع اب" إلى تجار قتبان، سواء منهم أبناء المنطقة أو الأغراب القادمون إليها بقصد الاتجار، ومن بين ما ورد في هذا النقش أن "من يتجر تجارة في تمنع -عاصمة قتبان- أو بخارج تمنع فعليه أن يقدم عربونًا إلى تمنع وأن يكون مقيما بشمر -إحدى المدن- وإن آثر قتبان محلًّا لاتجاره، وأراد أن يتجول ليشتري، فعليه أن يشتري من شمر"29 والجملة تشير، كما هو واضح, إلى الشروط التي يجب أن يلتزم بها التجار الأغراب الوافدون إلى قتبان للاتجار فيها, سواء من حيث مكان إقامتهم أو مكان مشترياتهم أو مكان ممارستهم لتجارتهم، أو الرسوم المطلوب تأديتها إلى الإدارة المختصة بالعاصمة. والشيء ذاته نجده في منطقة الحجاز حيث ظهر أكثر من مركز تجاري من بينها مكة ويثرب والطائف. وفي مكة، على سبيل المثال, نرى قبيلة قريش وقد نشطت نشاطا ملحوظا ومستمرا في المعاملات التجارية سواء فيما بين القرشيين وبعضهم أو مع الشعوب الأخرى مثل البيزنطيين والفرس والحبش، بحيث أصبح لديهم من تجاربهم في هذا المجال عدد من القواعد والأصول التي شكلت عرفا تجاريا متبعا جعل باحثا معاصرا يرى فيه ما يمكن   29 الجملة وردت في النص رقم RES 4337, الترجمة لجواد علي: ذاته، ج7، ص231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 أن نسميه "قانون التجارة" بالنسبة لأهل تلك المدينة30، كما نجد قريشا تعقد عددا من المعاهدات أو الاتفاقات التجارية لتأمين تجارتها سواء في خارج شبه جزيرة العرب أو في داخلها مثل المعاهدتين التي عقدت إحداهما مع حكومة الإمبراطورية البيزنطية في بيزنطة والأخرى مع حكومة الإمبراطورية الفارسية في طيسفون ctesiphon -المدائن في العصر الإسلامي- ومثل الاتفاق الذي تم مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين بعد أن أخذ المسلمون يقطعون على قريش الطريق التي تمر بها قوافلها التجارية، وهو الاتفاق الذي تضمنه صلح الحديبية31. وقد كان هناك عدد من الطرق البرية والبحرية التي تنقل هذه التجارة النشطة. وبعض هذه الطرق كان يبدأ من المنطقة الجنوبية الغربية في شبه الجزيرة متخذًا طريقه إلى وادي الرافدين أو إلى سورية، والبعض الآخر كان يخترق شبه الجزيرة في اتجاه عرضي بين وادي الرافدين وسورية، ثم كانت هناك الطرق التي تحمل التجارة من المحيط الهندي ثم بطول البحر الأحمر حتى موانئه الشمالية. ويحدثنا الكتاب الكلاسيكيون عن هذه الطرق وتقسيماتها وتفريعاتها وما حدث فيها من تغير أو إضافات بين عصر وعصر والخدمات التي كانت تتم على طول بعض هذه الطرق بشيء غير قليل من التفصيل الذي يعطينا فكرة واضحة في عمومها عن النشاط التجاري الكثيف لشبه الجزيرة العربية.   30 جواد علي: ذاته، ج7، ص230. 31 عن اتفاقات قريش مع المناطق المجاورة لها راجع lammens: la mecque a la.veille de ihegire ص26. عن المعاهدتين مع بيزنطة وفارس، ذاته، ص32. عن صلح الحديبية راجع القرآن الكريم، سورة الفتح: 24. عن تفاصيل الصلح راجع البلاذري: أنساب الأشراف، صفحات 350-351. عن تحليل للصلح راجع m.rodinson: mohammed "london 1971": صفحات 250-253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ب- طرق التجارة البرية : ومن خلال هذه التفاصيل ومن عدد من النقوش والمصادر الأخرى نستطيع أن نميز عدة اتجاهات رئيسة للطرق البرية. والاتجاه الأول كانت تتبعه طريق موازية تقريبا للبحر الأحمر من أقصى جنوب شبه الجزيرة إلى المنطقة السورية وشواطئها في الشمال. هذه الطريق كانت تبدأ من مناطق قتبان في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة وحضرموت الواقعة إلى شرقيها وسبأ المتاخمة لهما من ناحية الشمال. ويبدو أن اتفاقًا ما كان قائما في أواسط القرن الثاني الميلادي "وربما كان قائما قبل ذلك التاريخ, وربما استمر قائما بعده" بين اثنتين من هذه المناطق الثلاث على الأقل، وهما سبأ وقتبان، تتجمع بمقتضاه أحمال الطيوب في تمنع "thomna عند الكاتب الموسوعي الروماني بلينيوس plinius" عاصمة قتبان، ولعل التضاريس الجغرافية هي التي قضت بهذا الاتفاق، ومن تمنع تبدأ طريق القوافل الرئيسة نحو الشمال مخترقة الحدود الشمالية لمنطقة سبأ لتتخذ بعد ذلك شكل ممر طويل ضيق يقع في أرض المعينيين ثم تصل بعد ذلك إلى مكة التي نراها قبل ظهور الإسلام مركزا تجاريا نشطا يعقد الصفقات ويبرم الاتفاقات سواء منها الداخلية أو التي تتم مع الدول المتاخمة لشبه الجزيرة، ثم تستمر الطريق شمالًا إلى ديدان "العلا الحالية" ثم إلى مدين "مغاور شعيب حاليا" حيث لا تزال الآثار التي تنم عن ثروة هاتين المدينتين تشير إلى الثروة التجارية التي كانتا تتمتعان بها ثم إلى أيلة -العقبة حاليا- ثم بعد ذلك إلى البتراء "petra عند الكتاب الكلاسيكيين" عاصمة الأنباط، ثم تتفرع الطريق هنا إلى فرعين أحدهما إلى تدمر "palmyra عند الكتاب الكلاسيكيين" في الشمال والآخر يتجه إلى الغرب مع ميل طفيف إلى الشمال الغربي حتى يصل إلى غزة ورينوكولورا rhinokoloura على الشاطئ الفلسطيني. هذا وقد زيد على هذين الفرعين فرع ثالث في عهد الإمبراطور تراجان "ترايانوس trajanus" يصل بين أيلة -العقبة- وتدمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ثم شقّه في 110-111 مارًّا بالبتراء وآريوبوليس areopolis "ربة عمون" وفيلادلفيا philadelphia "عمان" وبصرى bostra ومنتهيا إلى تدمر32. هذه هي الطريق البرية الطولية التي كانت تصل بين جنوبي شبه الجزيرة العربية وشماليها، اتجاها إلى المنطقة السورية. ويذكر لنا أراتوسثنيس الجغرافي اليوناني "275-194ق. م" أن القوافل التجارية كانت تقطع الجزء الواقع من هذه الطريق بين جنوبي شبه الجزيرة وأيله -العقبة- في الشمال في 70 يومًا33, كما يذكر بلينيوس "23 /24 -75م" أن رحلة القوافل من تمنع "عاصمة قتبان" إلى غزة كانت مقسمة إلى 65 شوطا "تمثل بالضرورة 65 يوما" في كل شوط منها مواقف للجمال، وأن أصحاب القوافل كان عليهم أن يدفعوا في كل شوط من هذه الأشواط ثمن الحصول على الماء أو الحشائش والعلف للجمال أو أجر النزل الخاصة بالمبيت أو رسومًا لقاء السماح بالمرور أو الحماية وهكذا34.   32 الطريق التجارية بين حضرموت وقتبان إلى أيلة -العقبة- يذكره أراتوسثنيس, منقول في strabo: XVI, 4: 4. بين سبأ وسورية يذكره أرتميدوروس، منقول في strabo: XVI,4: 19. الطريق من تمنع إلى عزة في plinius: xii, 64. اتفاق مرور تجارة سبأ من تمنع في plinius: XII 64. احتكار مرور القرفة من تمنع، ذاته: XXI, 93. المرور في أرض المعينيين، ذاته: XII, 54. المرور بمكة، سورة قريش: 1-2 والمعاهدات المشار إليها في الحاشية السابقة. عن المرور في العلا "ديدان" راجع: rene dussaud: La penetration des arbes en syrie avant l'lslam "paris 1955 ص 48. عن الطريق بين البتراء وغزة راجع: plinius: VI,145. عن طريق البتراء ودمشق راجع dussaud: ذاته، ص 24. عن الفرع بين أيلة -العقبة- وتدمر راجع dussaud: ذاته، ص24 وصفحات 154-155. 33 منقول في strabo: XVI, 4:4. 34 plinius: XII, 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ونحن نجد، إلى جانب هذا التعميم، مثالًا محددًا لما كان يحدث في تمنع في بداية الطريق، حيث كان ملك قتبان يجبي ضريبة على كل الطيوب المارة بمنطقته, كما كانت حصص من الطيوب تعطى لرجال الدين ولأمناء الملك وحرس حاشيته وخدمه ولحراس البوابات مما كان يرتفع كثيرا بثمن هذه الطيوب قبل أن تصل إلى نهاية طريقها على شواطئ المتوسط35. أما الطريق بين أيلة وتدمر، وهي الطريق التي شقت في عهد الإمبراطور تراجان فقد لقيت عناية مستمرة من جانب الولاة الرومان الذين أقاموا عليها مراكز شرطة للحراسة عند محاطِّ القوافل التجارية التي كانت تمر بها، أقاموا عددا آخر من هذه المراكز على امتداد هذه الطريق في الطريق الرئيسة جنوبا حتى الحدود التي كانت تفصل بين سورية والحجاز، أي: إلى منطقة ديدان -العلا حاليا- وإجرا "الحجر في القرآن الكريم والوجه حاليا"36. أما عن الطرق التي كانت تخترق شبه الجزيرة عرضًا فقد عرفت المنطقة أربعًا منها على الأقل في العصور السابقة للإسلام. وأولى هذه الطرق جنوبا يشير إليها إراتوسثنيس "أراتسطين" الجغرافي حين يذكر أن طريقا كانت تمتد من المناطق المنتجة للمر في الغرب، متخذة اتجاها شرقيا بطول الساحل المتعرج لشبه الجزيرة حتى تصل إلى المنطقة المنتجة للقرفة بعد 5000 ستاديون -حوالي 600 ميل- ولكن يبدو أن هذه الطريق لم تكن توصل إلى ميناء على شاطئ المحيط الهندي أو الخليج الفارسي -الخليج العربي الآن- إذ يذكر لنا هذا الكاتب أن أحدا لم يكن قد وصل بعد في عصره "275-194ق. م." إلى أبعد من منطقة القرفة التي يتحدث عنها، كما يزيد على ذلك أنه لا توجد مدن كثيرة على الشاطئ بينما يوجد في الداخل عدد من المدن الجميلة وهي   35 الكاتب ذاته: الموضع ذاته. 36 DUSSAUD: المرجع ذاته ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 إشارة لنا أن نستنتج منها عدم وجود موانئ على الشاطئ37. وهكذا يبدو لنا أن نعتبر أن هذه الطريق كانت مهمتها الأساسية, وربما الوحيدة، أن تتبعها قوافل القرفة "سواء أكانت هذه القوافل لتجار من منطقة القرفة، أم لتجار أتوا إليها من الغرب وعادوا بأحمال القرفة" متجهة نحو الغرب حتى تتجمع في تمنع "عاصمة قتبان" عند بداية خط القوافل المتجهة شمالًا. وهو استنتاج يؤيده ما يذكره لنا الكاتب الموسوعي بلينيوس الذي نعرف منه أن ملك قتبان كان الوحيد الذي يتحكم في تجارة القرفة38. والطريق الثانية تنطلق كذلك من القسم الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة، متخذة اتجاها شماليا إلى جرهاء GERRHA وهي مدينة من المرجح أن موقعها كان على مقربة من ميناء العقير الحالية "شمال شرقي الهفوف" في وسط ساحل شبه الجزيرة المطلّ على الخليج. ويبدو أن نشاط هذا الخط التجاري كان مكثفًا إلى حد كبير، فجرهاء كانت إحدى المنطقتين التي أفاض الكتاب الكلاسيكيون في وصف سكانهما بالثراء الذي يصل إلى حد البذخ، كما يبدو أن هذا النشاط التجاري يرجع إلى فترات زمنية موغلة في القدم، كما تدل على ذلك آثار الأماكن القريبة منها في الدوسرية وجزيرة تاروت وأبقيق وكلها تشير إلى علاقة حضارية قوية مع حضارة عصر العُبيد -بضم العين- التي سادت وادي الرافدين في أواسط الألف الرابعة ق. م. أما عن نشاط هذه الطريق في العصر المتأغرق "عصر ما بعد الإسكندر الأكبر خلال القرون الثلاثة الأخيرة ق. م.", فتدل عليه, إلى جانب ما ذكره الكتاب الكلاسيكيون، الآثار التي وجدت في منطقة الفاو بوادي الدواسر في منطقة نجد والتي ترجع إلى حوالي 300 ق. م. وهي منطقة يشير موقعها أنها كانت إحدى المحطات   37 منقول في strabo: XVI, 4:4. 38 plinIus: XII, 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 على الطريق التي نحن بصدد الحديث عنها. وقد سبق أن رأينا من بين ما عثر عليه من آثار هذا الموقع سوقًا تجارية كاملة تضم مخازن تجارية وطرقًا ونزلًا لمبيت التجار، كذلك تدل بعض هذه الآثار، ومنها مقابض أبواب من البرونز على شكل رأس أسد، على قدر من الثراء والترف يصلح مؤشرا إلى مدى النشاط الاقتصادي على هذه الطريق التجارية التي كانت تحمل طيوب العربية الجنوبية إلى وادي الرافدين. هذا وحين كانت أحمال الطيوب تصل إلى جرهاء كانت تنقل بعد ذلك إلى وادي الرافدين إما برا، وإما في قوارب تبحر في الخليج حتى تصل إلى نهر الفرات ومن هناك تستأنف رحلتها البرية إلى حيثما توجد أسواق المنطقة39. الطريق البرية الثالثة التي تخترق شبه الجزيرة عرضا تبدأ من مكة وتنتهي إلى وادي الرافدين. ودليلنا التاريخي على ذلك هو إبرام القرشيين لاتفاق مع الإمبراطور الفارسي كما أشرت في مناسبة سابقة، وهو اتفاق كان هدفه تأمين تجارة القرشيين في المناطق الواقعة تحت سيطرة الفرس، ومن ثم يشير إلى وجود مثل هذه الطريق. وفي الواقع فإن هناك آثارًا لا تزال باقية حتى   39 عن الطريق من سبأ إلى وادي الرافدين MESOPOTAMIA وربط جرهاء كنقطة الانطلاق الرئيسة إلى وادي الرافدين، أرتميدوروس، منقول في 19: strabo: XVI, 4: 19, كذلك سترابون XVI, 3: 3 عن ثروة الجرهائيين وبذخهم، أرتميدوروس: الموضع ذاته المنقول في سترابون. تحديد موقع جرهاء قرب ميناء العقير وصلت إليه البعثة الدانماركية التي قامت بحفائر في منطقة الأحساء والقطيف في عام 1968. عن هذا وعن الآثار التي تدل على قدم المدينة راجع الباب الرابع الخاص بالآثار والنقوش في هذه الدراسة، راجع كذلك: مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية "إدارة الآثار والمتاحف، وزارة المعارف، المملكة العربية السعودية، 1975" صفحات 37-38، واللوحات الموجودة في صفحات 43-45، 52. راجع كذلك ملحق اللوحات في هذه الدراسة، لوحات 7أ، 14أ. عن السوق التجارية في مدينة الفاو راجع الفصل الرابع في هذه الدراسة، كذلك مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية ص 18 واللوحات على صفحتي 20 و21, كذلك ملحق اللوحات في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الآن لطريق بين مكة ووادي الرافدين. وعند حائل في وسط المسافة تقريبا تتفرع الطريق إلى فرعين في هذا الاتجاه، أحدهما يصل إلى مصب الفرات مارًّا بموقع "بُرَيْدة" والآخر يصل إلى بابل مارًّا بعدد من المواقع أو بقربها مثل "السِّفن"، و"فيد". وقد أصبح هذا الفرع الأخير طريقًا رئيسة للحج والتجارة في العصر الإسلامي تحت اسم "درب زبيدة" "الذي كان يصل إلى المتحف بجوار بابل"، ولكن يبدو مؤكدا أنه كان موجودا ومستخدما قبل ظهور الإسلام، ففي "فيد" توجد آثار يطلق عليها الآن اسم "خرائب قصر جراش" يعتقد أنها تشكل موقع مدينة كانت قائمة في عصر ما قبل الإسلام. وأما السفن -بكسر وتشديد السين- فهي تقع في وادٍ صغير "في سفح جبل أجا إلى الشمال الشرقي من حائل" وقد اكتشفت بها آثار أحواض وقنوات مائية قديمة كانت تستخدم لتصريف مياه الوادي وسقي المزارع، ويستدل من النقوش الموجودة على جبل أجا -الذي تقع عند سفحه- على أن الموقع يعود تاريخه إلى القرن الخامس ق. م. ومثل هذا الوادي بمزارعه وأحواضه وقنواته دليل استقرار يشير إلى أنه موقع صالح لأن يكون محطًّا من محاطِّ طرق القوافل في العصر القديم40. ويبدو أن طريق مكة، وادي الرافدين لم تكن طريقًا قديمة لها من الشهرة ما كان للطرق الأخرى التي اهتم بها رواد المنطقة أو الذين كتبوا عنها من الجغرافيين والكتاب الكلاسيكيين الأوائل، فنحن لا نسمع عنها حتى عهد بلينيوس الذي كتب في أواسط القرن الأول الميلادي بينما نسمع عن الطريق الجنوبية الشمالية الموصلة بين قتبان وسبأ وحضرموت من جهة وأيلة وغزة من جهة أخرى، وعن الطريق الموصلة بين هذه المناطق وجرهاء. ولكنا نبدأ في التعرف عليها في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي حين نراها   40 مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية، ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 على خريطة الجغرافي اليوناني بطلميوس كلاوديوس "كتب بين 121، 151م, وهو الذي عرفه الكتاب المسلمون فيما بعد باسم القلوذي أو الجغرافي"، وهي تظهر في خريطته تحت اسم مكارابو makarabu. ونحن إذا تأملنا الاسم نجد أن طريقة نطقه ونهايته لها مسحة أكدية واضحة41 "واللغة الأكدية تطلق على اللهجتين الساميتين: البابلية والآشورية. وهذا يشير إلى حقيقة ظاهرة هي الاتصال القوي بين مكة وبين وادي الرافدين عن طريق القوافل التجارية بحيث أصبح الشكل الأكدي لاسم مكة هو الشكل السائد الذي تعرف به عند الشعوب الأخرى والكتاب الذين ينتمون إلى هذه الشعوب مثل بطلميوس الجغرافي، وهو يوناني من مصر. كذلك نستطيع أن نستنتج من ورود اسم مكة في خريطة هذا الجغرافي مع عدم ورودها في الكتابات الجغرافية أو الموسوعية أو النصوص السابقة أن أهميتها قبل عهد بطلميوس الجغرافي كانت محلية ومحدودة، وأنها لم تبدأ تظهر على أي مستوى له قيمته في مجال التجارة الدولية إلا في الوقت الذي كتب فيه هذا الجغرافي أو قبل ذلك بقليل، ربما في أواخر القرن الأول الميلادي "الذي كتب بلينيوس في وسطه ولم يذكرها، على كثرة ما ذكر من أماكن ومناطق في وصفه لشبه الجزيرة العربية وعلى حرصه على ذلك". أما الطريق العرضية الرابعة، فكانت تتفرع من الطريق الطولية الجنوبية الشمالية بعد مسافة شمالي يثرب "iatribu في النصوص الأكَّدية والمدينة المنورة منذ هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها" في اتجاه شمالي شرقي مارة بعدد من الأماكن أهمها تيماء "tema   41 راجع خريطة بطلميوس الجغرافي، رقم 4 في ملحق الخرائط بهذه الدراسة. عن المسحة الأكدية لاسم مكة كما ورد عند بطلميوس قارن على سبيل المثال أسماء المدن ياتريبو "يثرب"، ياداكو "فدك" دادانو "ددان"، وقد وردت في: c.g. gadd: the harran inscription of nabonidus "anatolianstudies" الجزء الثامن، 1958، صفحات 35 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 في النصوص الأكدية" ثم دومة الجندل "adumatu في النصوص الأكدية، والجوف حاليا" ثم تنتهي إلى وادي الرافدين عند بابل على نهر الفرات. وهذه الطريق من الطرق التجارية المهمة القديمة، فنحن نجد الإشارة إلى تيماء في أكثر من نص من النصوص الأكدية أولها يرجع إلى عهد تجلات بيليسر الثالث "727-744 ق. م" فنجده يستولي عليها في حملة شنها على سورية بعد العام التاسع من حكمه، ثم تظهر في نص آخر غير محدد التاريخ ولكنه يعود إلى حكم الملك ذاته. ثم يتواتر ذكرها عدة مرات في عهد الملك البابلي نابونائيد "555-539 ق. م" الذي يقيم بها نحو عشر سنوات من سني حكمه. والمدينة تقع ضمن واحة كانت على قدر كبير من الازدهار في العصور القديمة، نعرف ذلك من أحد النقوش المتعلقة بالملك نابونائيد الذي يشير إلى المدينة وإلى الريف المحيط بها، وهو ريف يبدو أنه كان غنيًّا ببساتين النخيل التي ظلت سمة هذه الواحة عبر القرون إلى أن نجد إشارة واضحة إليها في شعر امرئ القيس في القرن السادس الميلادي بعد 12 قرنًا من عهد الملك نابونائيد "ولا يزال في الواقع حتى الآن، كما يستطيع الزائر للمنطقة أن يراه وبخاصة حول بئر الهداج التي يحتمل أن يعود تاريخ بنائها إلى القرن الثالث ق. م" كذلك يشير النص إلى قصر اتخذه نابونائيد بتيماء وإلى حامية عسكرية من جنوده اتخذت مراكز هناك لحماية المدينة. وفي الواقع فإن الآثار المتبقية حتى الآن من هذه المدينة تشير بشكل واضح إلى أهميتها التي كانت ذات طابع اقتصادي في المقام الأول. فلا يزال هناك جزء من سورها الضخم يرجع إلى حوالي القرن الخامس ق. م. وبقايا من قصر الرضم الذي يرجع إلى القرن الثالث ق. م. والذي شيدت دعامات سوره من الحجر المصقول, كما لا تزال هناك بعض قواعد الأعمدة التي كانت تشكل جزءًا من قصر السموأل بن عادياء "القرن السادس الميلادي" المسمى بقصر الأبلق والذي نجد إشارة إليه في أكثر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 موضع من شعر الأعشى الكبير الذي عاصر نهاية العصر الجاهلي وبداية العصر الإسلامي42. أما عن دومة الجندل فهي لا تقل في قدمها وأهميتها عن تيماء فقد ورد ذكرها في نص أكدي كإحدى المدن التي استولى عليها سنخريب الملك الآشوري "704-681". كذلك كانت هذه المنطقة -ولا تزال- واحة تجعل منها محطًّا تجاريًّا من الطراز الأول، يزيد من أهميته وقوعه في نقطة الوسط على الطريق بين وادي الرافدين والخط التجاري الطولي الذي يمتد بإزاء الشاطئ الغربي لشبه الجزيرة. ونحن نستطيع أن نعرف شيئًا عن الأهمية التجارية لهذه المدينة باستقراء الآثار التي لا تزال باقية بها حتى الآن، ومن بين هذه قصر مارد أو قصر الأكيدر الذي يرجع بناؤه إلى القرن الثالث ق. م. كما نستنتج من دراسة هذا الأثر أن فترات بناء متعددة قد تعاقبت عليه بعد ذلك، مما يدل على أهمية موقعه. وإلى جانب هذا فقد عثر في الموقع على عدد من النقوش المتباينة في لهجاتها، بين معينية وثمودية ولحيانية ونبطية43, وهي ظاهرة تدل على قوافل تجارية لأقوام متعددة كانت تمر بهذه المنطقة.   42 النصان عن تيماء في عهد تجلات بيليسر في ANET، صفحات 283-284, في عهد نابونائيد النصوص في anet، صفحات 306، 313. وصفها كمكان كان مليئًا بالنخيل في شعر امرئ القيس، البيت الأول في حاشية 13 أعلاه. بئر الهداج ونخيل تيماء حاليا في مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية، لوحة ص20، سور تيماء ملحق اللوحات في هذه الدراسة، لوحة 3ب، بقايا قصر الرضم وقصر الأبلق في نهاية ملحق اللوحات. الإشارات إلى قصر الأبلق في شعر الأعشى في شيخو والبستاني: ذاته، قصيدة قصة السموأل، بيت7: بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار وكذلك في المجموعة ذاتها, قصيدة "مدح المحلق": ولا عاديا لم يمنع الموت ماله ... وحصن بتيماء اليهودي أبلق 43 دومة الجندل في نص سنخريب تحت تسمية adumatu في anet ص291، عن قصر الأكيدر راجع: مقدمة آثار السعودية, ص65, ولوحة على ص80، عن النقوش المتعددة اللهجات، ذاته: ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وتبقى في نهاية الحديث عن الطرق البرية العرضية طريق خامسة، هي الطريق التي تقع إلى أقصى الشمال في شبه الجزيرة العربية. وقد كانت هذه الطريق تشكل في الواقع امتدادًا صحراويًّا لطريق تجارية تبدأ من الرمادي "على نهر الفرات إلى شمالي غربي بغداد" وتسير بمحاذاة النهر حتى ماري mari "قرب أبو كمال الحالية على القسم الشمالي من نهر الفرات من ناحية الصحراء" ثم تمتد غربا إلى تدمر، ومن تدمر تمتد غربا بميل طفيف إلى الشمال الغربي إلى حمص، ومن هناك تتفرع إلى عدة فروع تصل بين حمص من جهة والموانئ الفينيقية ودمشق وفلسطين من الناحية الأخرى. وفي الواقع فإن هذه الطريق كانت حلقة الوصل فيها هي مدينة تدمر، هذه الواحة الغنية بالنخيل التي تقبع في وسط الصحراء، أما بقية الطريق الواقعة إلى شرقي تدمر أو غربيها، فكانت، رغم قصرها "فهي لا تزيد كثيرا على 300 ميل" معرضة لغارات القبائل البدوية المتنقلة بالمنطقة المحيطة بها44. ولكن مع ذلك فقد احتفظت هذه الطريق القديمة بأهميتها. كما احتفظت بالأهمية ذاتها كل الطرق الأخرى التي شقت بعد ذلك واتخذت من تدمر نقطة ارتكاز لها في الوصل بين طرفي الصحراء عند حدود كل من وادي الرافدين وسورية وأهمها طريق دقلديانوس STRATA DIOCLETIANS التي شقت في عهد هذا الإمبراطور "284-305م" بين دمشق في الجنوب الغربي وسرجيوبوليس sergiopolis "الرصافة" في الشمال الشرقي على مقربة من الفرات، بعد تدمير مدينة تدمر "273م". أما السبب الذي أدى إلى أهمية هذه الطريق فله صفة سياسية، إلى جانب صفته التجارية. فالمنطقة، كما أسلفت، كانت تقطنها قبائل بدوية متنقلة تسبب كثيرا من القلق على الحدود السورية أو حدود وادي الرافدين. ومن ثم فقد كان موقع تدمر كنقطة تأمين للطريق ومن ثم إقرار للأمور أمرا واردا لأي من القوتين في شرقي الصحراء أو غربيها، وهكذا انتهى الأمر دائما بتأمين الطريق لهذا   44 g-roux: ancient iraq: ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الهدف السياسي وتبع ذلك ازدهار النشاط التجاري عليه. وهكذا، على سبيل المثال، اعتنت حكومة الإمبراطورية الرومانية ببناء عدد من الحصون على طول طريق دقلديانوس التي سبقت الإشارة إليها، وقد تم اكتشاف بقايا عدد من هذه الحصون قائمة في أماكن عديدة على طول هذه الطريق حتى الآن45. هذا، إلى أن التوتر السياسي والعسكري الدائم بين الرومان والفرس ودأب الفرس على قطع الطريق التجارية على التجار الرومان، أفسح المجال أمام مدينة تدمر على أن تلعب دور الوساطة التجارية كمنطقة شبه محايدة، وإن كانت داخلة ضمن النفوذ الروماني، طالما أنها لم تكن من الناحية الرسمية، وهكذا تضمن روما الحصول على السلع اللازمة لها من الشرق الأوسط والأقصى.   45 راجع DUSSAUD: ذاته، ص80-81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ج- النشاط التجاري البحري : وأنتقل بالحديث الآن إلى الشق الآخر من النشاط التجاري لشبه الجزيرة، وهو النشاط التجاري البحري. وأول ما نلاحظه في هذا الصدد هو أن الموقع الجغرافي التاريخي لشبه الجزيرة العربية كان موقعًا يتيح لها إمكانات واسعة في مجال التجارة البحرية. فهي تشغل، كما سبق أن رأينا في مناسبة سابقة، موقعا وسطا بين بحرين هما البحر الأحمر من الغرب والخليج من الشرق وبينهما يمتد المحيط الهندي ليستمر بعد ذلك شرقا. كذلك فإن الرياح الموسمية التي تسود المنطقة أثبتت أنها عامل مساعد للملاحين إلى حد كبير. هذا، إلى أن نهري دجلة والفرات في شمال الخليج، ونهر النيل عبر البحر الأحمر، بإمكاناتهما في مجال النقل يشكلان امتدادين لهذا الموقع التجاري الوسيط، أما من الناحية التاريخية فشبه الجزيرة كان يحيط بها دائما قوتان حضاريتان كبيرتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 إما حضارة الآشوريين والبابليين أو الفرس في الشرق، وإما المصريون أو البطالمة أو الرومان في الغرب. ولكن وقفت في الجانب الآخر عدة صعاب لم تمكن عرب شبه الجزيرة في الحقبة الأولى من العصور القديمة من الانتفاع بهذه الإمكانات المتاحة لها من حيث الموقع. فالبحر الأحمر شواطئه ليست آمنة تماما، بل إن أغلب هذه الشواطئ، وبخاصة في القسم الشمالي من هذا البحر, عبارة عن شعب مرجانية لا تسمح بوجود موانئ ترسو عليها السفن في شيء من الأمان، أما فيما يخص الخليج فإن سواحله الشرقية لا تطل على أماكن يوجد فيها قدر كافٍ من الماء اللازم لمساعدة القائمين بأي نوع من النشاط التجاري في الفترات الموغلة في القدم. كذلك فإن شبه الجزيرة لا تنتج أي نوع من الأخشاب الصلبة الطويلة التي تصلح لبناء السفن. ومن هنا، فرغم أننا نسمع عن نشاط بحري في الحقبة الأولى من العصور القديمة في البحر الأحمر من جانب المصريين، أو لفترة وجيزة من جانب العبرانيين "على عهد سليمان" يعاونهم الفينيقيون "على عهد حيرام ملك صور"، وفي الخليج الفارسي من جانب الآشوريين والفرس، إلا أننا لا نسمع عن نشاط بحري عربي من جانب شبه الجزيرة في هذه الحقبة على الإطلاق46. وفي الواقع فإن علينا أن ننتظر إلى العصر المتأغرق "القرون الثلاثة الأخيرة ق. م" والعصر الروماني الذي بدأ بعده مباشرة قبل أن نسمع عن ظهور النشاط التجاري البحري لسكان شبه الجزيرة وعن تطور هذا النشاط, وقد كان العصر المتأغرق في الواقع عصر نشاط اقتصادي من الطراز الأول   46 george hourani: arab seafaring in the indian ocean in ancient and early medieval times "khayat's reprints, beirut, 1963" صفحات 4-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وبخاصة في مجال التجارة، وعلى وجه التحديد في مجال التجارة البحرية، وهو نشاط أشار الإسكندر الأكبر إلى اتجاهه حين أرسل عددًا من معاونيه البحريين ليتعرفوا على شواطئ شبه الجزيرة سواء من ناحية الخليج أو من ناحية البحر الأحمر47، وحين أسس مدينة الإسكندرية على الشاطئ المصري لتصبح بعد موته أنشط ثغر بحري في مجال الاتصالات التجارية بين الشرق والغرب، ومن ثم يدخل البحر الأحمر والخليج في دائرة التصور الكامل لهذه الاتصالات. وهكذا نسمع عن مدن من شبه الجزيرة العربية لها نشاط تجاري بعد ذلك بقليل. ففي أواسط القرن الثالث ق. م. أو قبل ذلك، يبدأ الجرهائيون "أهل مدينة جرهاء" قرب الشاطئ العربي للخليجيقومون بنشاط تجاري كبير, وحقيقة: إن أغلب هذا النشاط كان بريًّا في اتجاه القسم الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة, ولكن جزءًا منه كان بحريا يمر بمياه الخليج ثم يسير شمالا في نهر الفرات حتى مدينة سليوقية seleukeia التي أقامها السلوقيون على النهر "في المكان الذي أصبح بغداد فيما بعد"48. كذلك نجد حوليات العهد المبكر من حكم أسرة "هان" في الصين، في مجال الحديث عن علاقات هذه الأسرة الصينية الحاكمة مع منطقتي الشرق الأوسط والأدنى، تشير إلى نشاط بحري في المنطقة في فترة ترجع إلى ما بعد 140 ق. م. فتذكر أن الرحلة البحرية بين "تياو شيه" TIAO-CHIH "التي أمكن التعرف على أنها القسم الجنوبي المطل على الخليج من وادي الرافدين" "وأرض الشمس الغاربة" "ربما يقصد شمالي البحر الأحمر" تستغرق مائة يوم49. والإشارة إلى هذه السفرة البحرية تشير إلى نشاط بحري من إحدى موانئ المنطقة دون شك,   47 ARRIANOS: ANABASIS, vii 20: 8-10. 48 eratosthenes منقول في سترابون aristobolous, strabo: XVI, 1:9 منقول في سترابون strabo XVI, 3: 3. كذلك agatharchides: XX "راجع GGM ج1، صفحات 186 وما بعدها". 49 النص مقتبس في G. hourani: ذاته، ص15 من ترجمة إلى الإنجليزية F.HIRth: china and the roman orient "leipzig, 1885". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وأرجح أن تكون هذه الميناء هي خاراكس charax "ميسان الحالية" التي تقع على رأس الخليج في جنوبي وادي الرافدين، وكان الإسكندر قد أسسها وجعل لها ميناء في المنطقة، ثم ذوت أهميتها بعض الشيء، ولكن أنطيوخوس antiochos خامس الحكام السلوقيين "الذين خلفوا الإسكندر على حكم سورية ووادي الرافدين" اعتنى بها وأعاد إليها أهميتها، ثم أعاد إنشاءها ملك "أو زعيم" لمنطقة عربية مجاورة هو سباوسينيس50 spaosenes "لعل النطق العربي للاسم شباس أو سباس". كذلك فإن هذه الحوليات الصينية تذكر في أواخر القرن الأول الميلادي "97م" أن أحد سفرائها من أواسط آسيا، وكان - ينج kan-ying الذي وصل إلى تياو - تشيه -التي سبق ذكرها- في طريقه إلى تاتسن ta-t'sin "سورية" استفسر عن هذه الرحلة فذكر له سكان تياو - تشيه "الشواطئ الجنوبية لوادي الرافدين" أن "البحر كبير وواسع، وأنه إذا كانت الرياح مواتية فمن الممكن الوصول في ثلاثة أشهر، أما إذا لم تكن مواتية فمن الممكن أن تستمر السفرة سنتين، ولهذا فإن الذين يركبون البحر يأخذون معهم زادًا يكفيهم لثلاث سنوات، فإن في البحر شيئًا يحرك في الإنسان الحنين إلى بلده، وقد فقد الكثيرون حياتهم بسبب ذلك"51. والنص، يشير، كما هو واضح، إلى معرفة بالبحر ومن ثم بالتجارة البحرية، ولكن يبدو أن شيئا من التخوف كان يحيط بالرحلات البحرية بين الخليج من جهة والبحر الأحمر من جهة أخرى، ربما لأن تجارة الشاطئ العربي المطل على الخليج كانت موجهة حتى ذلك الوقت أساسًا إلى الشرق أو على أكثر تقدير إلى الشواطئ الجنوبية لشبه الجزيرة، إذا اتجهت غربًا.   50 plinius: HN, VI 193. 51 مقتبس في g.hourani: ذاته، ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وربما نستطيع أن نستنتج مثل هذا التصور إذا عرفنا أن تجار خاراكس "ميسان حاليا" كانوا يمارسون تجارة نشطة مع باريجازه barygaza، على خليج كامباي cambay، في الهند -تحمل سفنهم السلع العربية إليها، ثم تعود منها محملة بالنحاس والعاج وأنواع مختلفة من الأخشاب، ولعل استيراد هذه السلعة الأخيرة يشير إلى نوع من النشاط في بناء السفن التي كانت الأخشاب الصالحة لبنائها لا توجد في شبه الجزيرة العربية على نحو ما رأينا آنفًا. كذلك كانت سفن خاراكس تحمل السلع إلى الشواطئ الجنوبية العربية لشبه الجزيرة52. كما يذكر لنا بيلينيوس ثلاث مدن وموانئ أخرى ذات نشاط تجاري بحري، هي جرهاء وأكيلة acila "قرب رأس الخيمة الحالية" وهمنة homna وأطانة attana كموانئ على الجانب الشرقي لشبه الجزيرة العربية، ويذكر واحدة منها على الأقل، وهي أكيلة، في صدد العلاقات التجارية مع الهند53. هذا عن النشاط التجاري العربي انطلاقا من منطقة الخليج. أما عن النشاط المماثل في البحر الأحمر، فنحن نجد اهتمام الإسكندر الأكبر بالتعرف على هذا البحر قد استمر في عهد حكام أسرة البطالمة الذين أسسوا دولة في مصر على أثر وفاته وكان هذا الاهتمام دافعًا كبيرًا وراء النشاط التجاري في هذا البحر. وحقيقة: إن التجار والملاحين اليونانيين قد استأثروا بالقسم الأكبر من هذا النشاط، ولكن النشاط التجاري العربي ظهر هنا في صور مختلفة منذ بداية هذا العهد وطوال العصر المتأغرق والقسم الأكبر من عصر الإمبراطورية الرومانية الذي ابتدأ في فجر العهد الميلادي. وفي هذا الصدد أعود إلى نقش أسلفت الإشارة إليه يرجع إلى النصف   52 hourani: ذاته، ص16 وحاشية 16. 53 plinius: HN, vI, 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الأول من القرن الثالث ق. م. وفيه نجد تاجرًا معينًا هو زيد إبل بن زيد، وقد التحق بخدمة المعابد المصرية ضمن رجال الدين وكان يستورد المر والقليمة لهذه المعابد لقاء سلع من الأقمشة المصرية الفاخرة المصنوعة من الكتان ويقوم بهذا النشاط "في سفينته الخاصة"54. ومعنى هذا أن عربا من شبه الجزيرة كانوا يمارسون التجارة في البحر الأحمر وأن الملاحة في هذا البحر كانت آمنة آنذاك من غارات القراصنة الذين كانوا ينشطون فيه من حين لآخر. كذلك نجد في القرن الثاني في جزيرة ديلوس delos في بجرايجة "بين آسيا الصغرى وشبه جزيرة البلقان" نقوشا عربية معينية وسبئية مقدمة إلى آلهة عربية جنوبية من تجار عرب55. وفي هذا إشارة واضحة إلى المدى الذي وصل إليه هؤلاء التجار الذين نستطيع أن نرجح أنهم كانوا ينقلون تجارتهم في البحر الأحمر إلى مصر ثم إلى الإسكندرية ومنها إلى جزيرة ديلوس فقد كانت تجارة الإسكندرية نشطة مع هذه الجزيرة في خلال العصر البطلمي، كما كانت تجارة العرب الجنوبيين مع مصر واردة كما يثبت ذلك نص زيد إبل التاجر المعيني السابق الذكر. على أن النشاط التجاري العربي في البحر الأحمر يبدو أن تراجع في القرن الأول ق. م. فلا يوجد لدينا خلال هذا القرن من الكتابات أو النقوش ما يشير إليه. وربما كان هناك سببان وراء هذا التراجع: السبب الأول هو تكثيف البطالمة في مصر لنشاطهم التجاري في البحر الأحمر والمحيط الهندي وإحكام سيطرتهم الاقتصادية على هذين الامتدادينِ المائيينِ، فقد عثر في مصر على أربعة نقوش ترجع إلى الفترة بين عامي 110 و51 ق. م. تشير إلى موظفين في حكومة البطالمة "مسئولين عن شئون البحر الأحمر والمحيط   54 راجع النص في القسم الخاص بالنقوش, في الباب الرابع من هذه الدراسة. 55 rostovizeff: social and economic history of the hellenistic world ج2، ص702 وحاشية 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 الهندي"*. ومثل هذا التكثيف التجاري من جانب البطالمة بإمكاناتهم الاقتصادية القوية من المنطقي أن يؤدي إلى التراجع الذي أصاب التجارة البحرية من الجزيرة العربية، على الأقل في خارج دائرة النشاط البحري المحلي. أما العامل الآخر الذي أدى إلى هذا التراجع فهو اكتشاف بحار يوناني اسمه هبالوس hippalos لقيمة الرياح الموسمية في تسهيل رحلات السفن عبر المحيط الهندي إذا أحكم توقيت هذه الرحلات بحيث تتم في شهور معينة من السنة. وقد أدى هذا الاكتشاف لقيمة الرياح الموسمية إلى تكثيف أكثر للتجارة المباشرة بين البحر الأحمر والمحيط الهندي56، وهي تجارة كان لا يمكن للتجار العرب أن ينافسوا فيها التجار اليونان الذين يملكون السفن الكبيرة التي تستخدم فيها المسامير لتوصيل ألواحها ببعضها، بينما كانت السفن العربية من النوع الصغير الذي تستخدم فيه الألياف لربط الألواح ببعضها57. على أننا لا نلبث أن نسمع عن عودة للنشاط العربي في التجارة البحرية مع العصر الإمبراطوري الروماني الذي ابتدأ في فجر القرن الأول الميلادي. ففي أواسط هذا القرن يصف لنا صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" "وهو كاتب يوناني" ميناء ليوكي كومي leuke kome "القرية البيضاء" في القسم الشمالي من ساحل شبه الجزيرة، المطل على البحر الأحمر، بأنها سوق نبطية "أي: في منطقة الأنباط" للسفن العربية المحلية. كما يتعرض هذا الكاتب لميناء موزا muza "عند أو قرب مخا حاليا" فيصفها بأنها   * rostovizeff: ذاته، ج2، صفحات 923-929 وحواشي 203-207. كذلك في w.otto & h. bengIson: zur geschichte des niederganges des ptolemaierreiches "1938 muenchen" صفحات 194 وما بعدها. 56 plinius: hn.vi,100, 104,106. 57 g.hourani: ذاته، ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 سوق بحكم القانون ترسو عندها السفن. وعندها نجد المكان "وقد اكتظ بالعرب سواء من أصحاب السفن أو التجارة وهم منشغلون بأمورهم التجارية، إذ إنهم كانوا يمارسون التجارة مع الساحل البعيد "الساحل الإفريقي" ومع باريجازه "في الهند"" ثم ينتقل الكاتب في حديثه إلى "كانة" kane "حصن الغراب حاليا" التي تقع في شرقي العربية الميمونة arabia Eudaemon فيذكر أن أحمال اللبان والبخور كانت تصل إليها وأن هذه المدينة التي كانت سوقا "تتاجر كذلك مع مدن السوق الموجودة في الجانب البعيد "الجانب الإفريقي" كذلك، كما كانت تتاجر مع باريجازه وسكيثية "وادي السند" وأومانة OMANA "ربما لم تكن عمان الحالية" وبرسيس PERSIS المجاورة لها". هذا بينما نجد جزيرة سقطري "جنوبي شبه الجزيرة العربية" "التي تتبع ملك أرض اللبان" "يقصد ملك العربية الجنوبية" وقد أقام على شواطئها الشمالية تجار عرب وهنود ويونان"58. أما عن الساحل الإفريقي فنحن نجد التجار العرب في كل مكان تقريبا حتى ميناء رابطة RHAPTA جنوبًا "قرب الزنجبار- جزء من تانزانيا حاليا". وعن هذه المنطقة يقول صاحب كتاب الطواف: "إن رئيسها "الذي كان من أصل عربي جنوبي" يحكمها بمقتضى حق قديم يجعلها خاضعة لسيادة المدينة التي تصل إليها أول ما تصل إلى ساحل العربية "يقصد مدينة موزا". وأهل موزا ... يرسلون الآن سفنًا يجعلون عليها غالبا بحارة ووكلاء من العرب، على معرفة بأهل البلاد، يتزاوجون معهم ويعرفون الشاطئ ولغة المنطقة"59. وحين يأتي القرن الثاني الميلادي لا يختفي النشاط التجاري البحري لعرب شبه الجزيرة رغم ازدياد نشاط التجارة اليونانية الرومانية في هذا القرن. وفي   58 periplos: XXI,XXVII. 59 ذاته: 7-10, 14, 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 هذا الصدد عثر المنقبون الأثريون في مصر على نقش من عهد الإمبراطور الروماني هادريانوس "117-138م" يذكر نقابة مزدهرة ومعترفًا بها من الإمبراطور لربابنة من مدينة "تدمر" يعملون في البحر الأحمر60. وهو نقش يدعو في الحقيقة إلى التأمل، إذ إن أهل هذه المدينة قد اعتادوا ممارسة التجارة البرية في منطقة صحراوية، ومن ثم فانتقالهم إلى التجارة البحرية، إلى جانب إشارته إلى مقدرتهم، يثير في الحقيقة أكثر من تساؤل حول تغيير محتمل في ميزان الأهمية النسبية لكل من التجارة البرية وتجارة البحر. ويبدو أن هذا القرن شهد الازدهار الأخير لنشاط التجارة البحرية العربية قبل الإسلام، ففي القرن الثالث الميلادي لا نسمع شيئا عن هذا النشاط، وفي الحقيقة لقد شهد هذا القرن عصر التدهور الاقتصادي للإمبراطورية الرومانية كما هبط فيه النشاط التجاري اليوناني في البحر. أما القرون الثلاثة التالية "بين القرن الرابع وظهور الدعوة الإسلامية في القرن السابع الميلادي" وهي الفترة التي عاصرت الإمبراطورية البيزنطية في الغرب والإمبراطورية الساسانية في الشرق, فنحن لا نسمع فيها شيئًا عن النشاط العربي التجاري في البحر الأحمر. لقد أصبحت جزيرة سيلان في تلك الفترة هي همزة الوصل بين تجارة الصين وتجارة الشرق الأدنى. إليها يصل التجار الصينيون ليفرغوا تجارتهم، ومنها يبحر بهذه التجارة تجار من فارس والحبشة axum. وقد عادت التجارة اليونانية إلى النشاط بعض الشيء، فكانت تصل من شمالي البحر الأحمر حتى أدوليس adulis "عدول" على شاطئ الحبشة شمالي باب المندب، وربما عبرت باب المندب في بعض الأحيان. أما عن التجارة العربية البحرية وأما   60 annees d'epigraphie, 1912, نص رقم 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 عن التجار العرب فلا يرد ذكر لها سواء في نقوش أو كتابات هذه الفترة61. بل نحن نجد شاهدا على تدهور النشاط البحري العربي عموما فيما حدث في عام 524-525م حين أرسل أتزبيهه atzbeha ملك الحبشة "أكسوم" حملة من أدوليس عبرت البحر الأحمر ورست على شواطئ اليمن. ورغم أن هذه الحملة لقيت بعض المقاومة على هذا الشاطئ إلا أن حاكم المنطقة الحميري "ذا نواس" لم يكن لديه أسطول وانتهى الأمر باحتلال القوات الحبشية للمنطقة62. ولكن إذا كان النشاط التجاري البحري لغرب شبه الجزيرة لم يصل إلينا شيء عنه في ذلك العصر، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه اختفى نهائيًّا، وربما يكون الاستنتاج المعقول، حسبما يرى باحث معاصر، هو أنه "لم يعد يلعب دورا جديرا بالملاحظة في البحار الكبيرة"63 بل أصبح يدور في نطاق محلي. وقد كان هذا طبيعيا في إطار التدهور الاقتصادي والسياسي الذي لحق بالعربية الجنوبية في القرن السادس الميلادي. وأضيف، تأييدا لهذا الرأي، أن الإشارة إلى نشاط بحري تجاري عربي ترد في القرن السادس مرتين على الأقل، إحداهما عند طرفة بن العبد والأخرى عند المثقب العبدي، كما ترد الإشارة إلى هذا النشاط في القرن السابع في عدد من آيات القرآن الكريم64.   61 j.b.bury: history of the later roman empire "london 1923" ج2، صفحات 316-333. 62 bury: المرجع ذاته، ج2، صفحات 322 وما بعدها. 63 hourani: ذاته، ص43. 64 عن الإشارة إلى السفن في الشعر الجاهلي، راجع الباب السابع الخاص بالشعر الجاهلي في هذه الدراسة، عن ذكر البحر والملاحة في القرآن الكريم راجع سور: الأنعام: 97، ويونس: 22، النحل: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 4- التعدين والصناعة : وتبقى في نهاية الحديث كلمة عن مورد آخر من الموارد التي شكلت في مجموعها وفيما كان يتصل بها من معاملات، صورة الوضع الاقتصادي لشبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الجزيرة العربية في العصور السابقة لظهور الإسلام -وهذا المورد هو التعدين والصناعة. وفي صدد الحديث عن هذا المورد يسترعي الانتباه عدد من الملاحظات أو الظواهر العامة سواء بصدد توزيعه على أقسام شبه الجزيرة أو في مدى معرفة سكان المنطقة به أو في مدى اعتمادهم عليه أو نظرتهم إليه. وفيما يخص الظاهرة الأولى وهي توزيع هذا المورد فإن المصادر تشير إلى وجود المعادن، على سبيل المثال، في مناطق دون مناطق أخرى، فالمناطق التي توجد فيها هذه المعادن هي الحجاز واليمن والساحل الشرقي المطلّ على الخليج والمحيط الهندي، أما بقية المناطق فلا تشير إليها هذه المصادر. ومن الطبيعي أن أقسامًا من شبه الجزيرة لا توجد فيها معادن، كذلك من الطبيعي أنه إذا وجدت بعض المعادن في أماكن لا يوجد فيها عمران فإنها تبقى مطمورة دون أن يعرف أحد عن وجودها. ولكن مع ذلك فلنا أن نتصور أن بعض المناطق المعمورة "بنسب متفاوتة" لم يكن سكانها يهتمون بهذا المورد؛ فالمناطق التي كانت تعيش على الرعي، حيث البدو الرحل، لم يكن لدى سكانها مثل هذا الاهتمام أو الإمكانات التي تشجع عليه. كذلك فإن القسم الأكبر من سكان الواحات، وبخاصة الواحات المتناثرة في قلب البادية، يصدق عليها هذا الحكم. وإلى جانب هذا فالمناطق الموجودة في القسم الشمالي الغربي من شبه الجزيرة، مثل: مملكة معين الشمالية وممكلة الأنباط حيث وجد قدر ظاهر من الثروة والاستقرار "كما يظهر من الآثار المتبقية في المنطقة" يبدو أنها جنت خيرا كثيرا من المورد التجاري ومن ثم انصرفت إلى الحفاظ عليه والذود عنه ضد كل من يحاول التأثير عليه بالمنافسة أو بأي نوع آخر من النشاط بحيث إنها لم تهتم بأي مورد آخر غيره. أما عن الظاهرة الثانية وهي مدى معرفة سكان شبه الجزيرة بالمعادن والتعدين فيدل على ذلك عدد من الشواهد: والشاهد الأول يأتي من القرآن الكريم "القرن السابع م" حيث نجد فيه إشارة مباشرة وصريحة إلى معرفة بفوائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الحديد وإلى خبرة بصهر المعادن وصناعة الحلي والأدوات منها. والشاهد الثاني نجده فيما تركه لنا الكتاب الكلاسيكيون من وصف لموارد شبه الجزيرة حيث يشير أرتميدوروس "أوائل القرن الثاني ق. م" إلى وجود الذهب في المنطقة القريبة من الساحل الغربي لشبه الجزيرة شمالي سبأ "الحجاز أو نجران" سواء في صورة تراب الذهب أو في صورة معدن على هيئة قطع يصلون إليها عن طريق التعدين، كما يشير إلى أن سكان المنطقة يبادلون به الفضة والنحاس من الأماكن المجاورة لهم، ولنا أن نرجح أن الإشارة هنا هي إلى أن المناطق الموجودة في اليمن. كذلك يشير الكاتب الروماني بلينيوس "أواسط القرن الأول الميلادي" إلى وجود الذهب في بعض الأماكن على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة65.   65 إشارات الكتاب الكلاسيكيين إلى وجود الذهب والفضة والنحاس في strabo: XVI, 4: 18, plinius: HN, VI150. الإشارة إلى وجود الحديد وفوائده في القرآن الكريم؛ سورة الحديد: 25 وإلى صهر المعادن وصناعة الحلي وغيرها في سورة الرعد: 17. كذلك هناك آية قرآنية في الشعراء قد تشير إلى الصناعة في سورة الشعراء: 129, حيث يلوم هود -عليه السلام- قومه عاد: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} ، ولكن تبقى لفظة مصانع، هنا حائرة بين المصنع بمعنى القرية والمصنع بمعنى مكان الصناعة. كذلك تجد في التوراة: سفر أخبار الأيام الثاني، إصحاح 9: 10، أن عبيد سليمان قد أحضروا له ذهبًا من أوفير. وقد كثر النقاش حول أوفير، ومن بين الآراء التي ظهرت في هذا الصدد أن أوفير يجب أن تكون موجودة في الهند؛ لأن الموضع المشار إليه في التوراة يجعل من بين السلع المستوردة إلى جانب الذهب، خشب الصندل وهو غير موجود في شبه الجزيرة العربية، راجع: a.hourani: arab seafaring، ص9. ولكن الرأي يمكن أن يكون مردودا عليه إذ إن هذه السفن التي أرسلها سليمان قد تكون وصلت إلى الهند حيث جلبت شجر الصندل, ولكنها وهي في طريقها جلبت ذهبا من إحدى موانئ الساحل الشرقي لشبه الجزيرة حيث يذكر الكاتب الروماني بلينيوس أن الذهب كان موجودا بها "راجع بداية هذه الحاشية". ولكن الرأي الغالب هو أن أوفير، موجودة فعلًا على الشاطئ الشرقي لشبه جزيرة العرب وذلك اعتمادًا على ما جاء في التوراة من أن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 كذلك من بين هذه الشواهد الألفاظ العديدة التي استعملها كتاب العصر الإسلامي كأسماء للذهب في حالاته المختلفة مثل "التبر" وهو الذهب الذي لم يعالج بعد، و"العسجد" وهو اسم يبدو أنه كان عامًّا يطلق على الذهب والجواهر كالدرر والياقوت، و"السحالة" وهي تراب الذهب و"الإبريز" و"العقيان" وهو الذهب الخالص. وهذا التعدد في الأسماء نجده كذلك فيما يخص بعض المعادن الأخرى مثل الفضة التي كانت تعرف كذلك باسم "اللجين" كما كانت تعرف باسم "الصريف" في حالتها الخالصة و"الرضراض" في حالتها المتفوقة كما كانت تعرف سبيكتها أو القطعة المجلوَّة منها باسم "الوذيلة". ومثل الرصاص الذي عرف سكان اليمن نوعين منه، الأبيض وكانوا يسمونه "الأسرب" أو "الأبار" والأسود وكانوا يسمونه "الصرفان" أو "القلعي" وهكذا. وإلى جانب ذلك فنحن نجد لدى كتاب العصر الإسلامي كذلك ذكرًا لأماكن عديدة كانت توجد بها المناجم "أو المعادن حسبما كانوا يسمونها، جمع معدن وهو المنجم أو مكان التعدين"، التي كانوا يستخرجون منها المعادن التي أشاروا إليها في كتاباتهم66. وطبيعي أن تعدد الأسماء التي كانت تطلق على كل   = أوفير، هو أحد أبناء يقطان "أي قحطان - والتوراة تمزج بين أسماء الأشخاص والأماكن"، وقد ذكر أن موطن اليقطانيين هو ما بين أسماء وأنت آتٍ نحو سفار جبل المشرق، "سفر التكوين، إصحاح 10: 26 وما بعدها" وحيث إن ميشا هي في أغلب الظن ميسان عند الطرف الشمالي للخليج وأن سفار هي ظفار، فتكون الإشارة إلى شرقي شبه الجزيرة. هذا ويدعم جواد علي "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج1، صفحات 639-640" هذا الترجيح بما ذكره الهمداني "صفة جزيرة العرب" عن معدن "منجم" من معادن اليمامة اسمه "حفير" ويجد في هذا الاسم اقترابا من أوفير. ورغم أن اليمامة بعيدة عن الساحل إلا أن الكاتب يرى أن ذهب "الحفير" كان ينقل إلى الساحل لبيعه في إحدى الموانئ، وأن ملاحي سليمان اشتروه من هناك، ولما كان معروفا بذهب حفير فقد ذكرت التوراة أن الذهب من أوفير التي يرى الكاتب أنها هي حفير. 66 عن بعض أسماء المعادن راجع تاج العروس، مواد: ذهب، عسجد، عقي، سحل -عن الذهب, ومواد: صرف، لجن، وذل -عن الفضة, ومواد: رص، صرف، قلع -عن الرصاص. راجع عن تصنيف وافٍ لهذه المعادن ولمعادن أخرى، جواد علي: ذاته، ج7، صفحات 512 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 معدن في حالاتها المختلفة ووفرة عدد الأماكن التي كانت تستخرج منها المعادن شاهدان يدلان على المعرفة المفصلة بالمعادن والتعدين، وهو أمر لا يمكن أن يكون قد طهر فجأة في العصر الإسلامي وإنما كان موجودا, على الأقل في نسبة منه، في عصور ما قبل الإسلام. أما الشاهد الخير في هذا الصدد فهو الآثار التي خلفها لنا سكان شبه الجزيرة في الفترة السابقة للإسلام. وفي هذا المجال فقد عثرت شركة التعدين السعودية العربية في منجم "مهد الذهب" الذي يقع إلى شمالي المدينة، على أدوات ترجع إلى عصر ما قبل الإسلام كانت تستخدم لاستخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه من بينها رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح، كما وجدوا آثارًا تدل على قيام عمال بالحفر في هذا المنجم لاستخراج الذهب منه. كما عثر المنقبون الأثريون على بقايا من الرصاص في المباني الأثرية باليمن تشير إلى أن أهل المنطقة كانوا يصبون الرصاص المصهور في أسس الأعمدة لتثبيتها وبين مواضع اتصال الحجارة لتشدها إلى بعضها67. ولم تقتصر معرفة المجتمع العربي قبل الإسلام على هذه المعادن وعلى معالجتها وحدها, فقد عرف عرب شبه الجزيرة في تلك الفترة معادن أخرى مثل: الملح والعقيق والزمرد وغيرها, كما عرف أهل اليمن قدرًا متقدمًا من صناعة النسيج والحياكة. وقد ورد ذكر هذه الصناعة الأخيرة في النصوص العربية الجنوبية كما ورد في أشعار الجاهليين ما يشير إلى المستوى المرموق   67 جواد علي: ذاته، ج7، صفحات 514-516. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 سواء للنسيج اليماني أو للمهارة في هذه الصناعة68. ويبقى في نهاية الحديث عن الصناعة وما يتصل ببعض جوانبها من تعدين تساؤل هو: إلى أي حد نظر سكان شبه الجزيرة العربية إلى هذا المورد بعين الاهتمام؟ وإلى أي حد كان استغلالهم له؟ وهل وصل هذا الاستغلال للقدر الذي يجعل المصنوعات سلعًا للتصدير تسهم في زيادة دخل المجتمع أو المجتمعات التي وجدت في شبه الجزيرة؟ إن الإجابة على هذا التساؤل لا يمكن إلا أن تكون مختلطة ومتداخلة. فالشواهد التي عرضت طرفًا منها تدل على قدر غير قليل من الاهتمام بهذا المورد وباستغلاله. وقد وصل هذا الاستغلال في بعض الأحيان إلى تصدير بعض السلع على الأقل من منطقة إلى أخرى، في داخل شبه الجزيرة العربية، مثل السيوف اليمانية والنسيج اليماني، وهما سلعتان يبدو من أشعار الجاهليين أنهما كانتا تصلان من اليمن إلى بقية مناطق شبه الجزيرة. كذلك فنحن نجد أن نشاط التعدين أو الصناعة لم يكن على نفس المستوى في الأقسام المختلفة من شبه الجزيرة. وفي هذا الصدد يذكر لنا الكاتب اليوناني أرتميدوروس في وصفه لسكان المنطقة التي تقع إلى شمالي سبأ أن بعض هؤلاء السكان يحصلون على الذهب في هيئة كتل أو كرات صغيرة عن طريق الحفر "يقصد التعدين بالضرورة" وهم إما أن يأخذوا هذه الكرات كما هي   68 عن بقية المعادن، راجع حاشية 66 أعلاه. عن الإشارة إلى النسيج في النقوش العربية الجنوبية راجع نص GLASER 1000 A. عن الإشادة بالنسيج اليماني راجع بيتين لطرفة في شيخو والبستاني, ص76، بيت2، وهو: وبالسفح آيات كأن رسومها ... يمان وشتها ريدة وسحول وعن صناعة النسيج ذاتها, راجع بيت ذي الرمة في تاج العروس، مادة: حاك. والبيت هو: كأن عليها سحق لفق تأنقت ... به حضرميات الأكف الحوائك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ولا يصنعون فيها شيئًا أكثر من ثقبها لكي يصنعوا منها عقودًا وأساورَ، أو أنهم يبيعونها "بسعر رخيص إلى جيرانهم، بسبب عدم مقدرتهم على صياغة الذهب"69. وفي هذا دليل واضح على أن جيرانهم هؤلاء، وفي ترجيحي أنهم السبئيون أنفسهم حسبما يشير سياق الكلام عند هذا الكاتب، أكثر منهم مقدرةً على هذه الصياغة. وفي الواقع فإننا نجد من الشواهد التي أسلفت الإشارة إليها أن أغلب نشاط التعدين والنشاط الصناعي عمومًا يكاد يكون مركزًا في اليمن حيث توجد منطقة سبأ والمناطق الأخرى المجاورة لها. وتفسير ذلك في رأيي أن هذه المناطق كانت أكثر استقرارًا من غيرها, ففي اليمن كانت ظروف التربة الخصبة والأمطار الموسمية المنتظمة تساعد على اقتصاد زراعي وافر وثابت. كذلك كانت مواردها الطبيعية من الطيوب مادة أولية ثابتة ومستمرة للتجارة، كما كان موقعها عند بدء الخطوط التجارية البرية إلى سورية ووادي الرافدين، وعند مفترق الطريق التجاري البحري بين البحر الأحمر والمحيط الهندي "ومن ثَمَّ بين تجارة الشرق والغرب" ما يجعلها في مأمن مما قد يصيب تجارة العبور من هزات تسببها الظروف الطارئة. وطبيعي أن مثل هذا الاستقرار يجعل في إمكان المجتمع الموجود بالمنطقة أن يقبل على النشاط الصناعي. ولكن مع ذلك فيبدو أن الحجم الحقيقي للمصنوعات لم يكن بالقدر الذي قد تنتظره لأول وهلة. فرغم أن اليمن، على سبيل المثال، قد صدرت السيوف اليمانية وبعض أنواع النسيج إلى عدد من أقسام شبه الجزيرة، إلا أن تصدير هاتين السلعتين أو غيرهما من السلع المصنعة ظل قاصرًا على هذا الإطار المحلي ولم يعرف طريقه إلى الخارج, إذ لا نصادف في المصادر التي بين أيدينا ما يشير إلى ذلك. بل أكثر من هذا، فرغم الإشارات المتواترة إلى   69 منقول في strabo: XVI, 4: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وجود الذهب ومعادنه "مناجمه" في اليمن وإلى وجود صناعة نسيج قوية بها، إلا أننا نجد أحد الكتاب اليونان يذكر لنا أن ميناء أبولوجوس "أُبُلّه" الفارسية كانت تصدر إلى اليمن عددًا من السلع من بينها الأقمشة والذهب70 "وأغلب الظن أن هذا لم يكن ذهبا خاما، ولكنه ذهب قد تمت صياغته". أما عن تفسير هذا التناقض فأغلب الظن أنه يكمن في النظرة التي كان ينظر بها العرب إلى العمل اليدوي. فرغم أنهم كانوا بحاجة إلى السلع المصنوعة ذاتها، ورغم تغنيهم بها في أشعارهم، إلا أنهم كانوا يعتبرون ممارسة العمل في صنع هذه السلع أمرًا متدنيًا في قيمته كمهنة يحترفونها إذ "لا يليق بالعربي الشريف الحر" على حد تعبير باحث معاصر "أن يكون صانعًا؛ لأن الصناعة من حرف العبيد والخدم والأعاجم والمستضعفين من الناس" وهي نظرة يبدو أنها استمرت بين عرب شبه الجزيرة في العصر الإسلامي, إذ نجد أحد الكتاب المسلمين في هذا العصر يذكر لنا عن أحد المعادن "المناجم" أن به ألوفًا من المجوس الذين يعملون المعدن حتى إنه كان لهم بيتا نار للعبادة في ذلك المكان71.   70 الإشارة في periplos maris erythraei: 35-36. وهذا الاسم "الطواف حول البحر الإريتري" هو العنوان اللاتيني لكتاب كتبه في أواسط القرن الأول الميلادي كاتب يوناني لم يصل إلينا اسمه. 71 التعبير لجواد علي: ذاته، ج7، ص506. عن عمل المجوس في المناجم "المعادن" انظر الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 الباب التاسع: الأوضاع الداخلية مدخل ... الباب التاسع: الأوضاع الداخلية بعد الحديث عن الموارد الاقتصادية لشبه جزيرة العرب يصبح في مقدورنا أن نتحدث عن الإطار العام للأوضاع الداخلية في هذه المنطقة بجوانبها الثلاثة: السياسية والاجتماعية والدينية. فقد كانت هذه الأوضاع نتيجة منطقية لهذه الموارد من جهة ثم لتفاعل هذه الموارد مع الموقع والظرف التاريخي الذي أحاط بأقسام شبه الجزيرة من جهة أخرى. لقد رأينا أن الموارد الاقتصادية تدور بصفة أساسية حول محاور ثلاثة: الرعي بنوعيه، المتنقل الضارب في قلب البادية والمستقر أو شبه المستقر على حدود الهلال الخصيب بدوله أو إمبراطورياته المستقرة، ثم الزراعة بنوعيها الخفيف والمكثف، ثم التجارة بخطوطها التجارية التي تربط بين شبه الجزيرة والمناطق المحيطة بها إلى الشمال الشرقي من جهة وإلى الشمال الغربي من جهة أخرى. كذلك كانت تحدق بالمنطقة دول أو إمبراطوريات في هاتين الجهتين وكان بين هذه الدول أو الإمبراطوريات صراع شبه مستمر لا يهدأ إلا لكي يثور من جديد، وكانت كل هذه العوامل تتداخل وتتفاعل في حركة تاريخية يبرز جانب منها حينًا ويبرز أكثر من جانب في أحيان أخرى، وكان لا بد لهذا كله أن يترك أثره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 على الأوضاع التي سادت شبه الجزيرة بشكل يظهر في كل قسم من أقسامها حسب موارده الاقتصادية ومدى تفاعلها مع الظرف التاريخي في مرحلة أو أخرى من مراحله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الوضع السياسي مدخل ... 1- الوضع السياسي: وفيما يخص الوضع السياسي فقد ظهر هذا الاختلاف من قسم إلى قسم فيما يخص التكوين العام من جهة، وأعني بذلك الشكل السياسي الذي برز في كل قسم، سواء أكان ذلك تكوينًا صغيرًا أو كبيرًا، أم كان تكوينًا مستقلًّا أم تابعًا أم يقف في نقطة توازن متحركة بين الاستقلال والتبعية، ومن جهة أخرى من حيث نوعية التنظيم السياسي أو نظام الحكم الذي وجد في قسم أو في آخر من أقسام شبه الجزيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 أ- التكوينات السياسية : وأحد الأشكال أو التكوينات السياسية في شبه الجزيرة العربية هو التكوين القبلي، ولا أعني هنا التكوين القبلي بمفهومه الاجتماعي، فقد وجدت القبائل كوحدات اجتماعية في كل أرجاء شبه الجزيرة، ولكني أعني التكوين أو الشكل القبلي الذي تصبح فيه القبيلة إلى جانب وظيفتها الاجتماعية وحدة سياسية كذلك تتصرف بوصفها كيانا سياسيا قائما بذاته سواء في أمورها الداخلية أو في علاقاتها الخارجية بما يدخل في ذلك من حرب وسلام واتفاقات وتحالفات ومناورات وغير ذلك من أشكال هذه العلاقات. وفي هذا الصدد فقد كانت الوحدة السياسية القبلية هي الشكل المنتشر في البادية؛ أدت إلى ذلك طبيعة هذه البادية بقسوتها التي كانت تدفع كل قبيلة إلى التنقل وراء الكلأ حيثما وجد انتجاعًا للمرعى -وهو وضع كان الشكل السياسي الوحيد الذي يتواءم معه هو الوحدة السياسية الصغيرة، وهي القبيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وقد كانت الأسرة هي الخلية التي تتألف القبيلة من تكرارها وتكويناتها, تعيش الأسرة في خيمة أو ربما في عدد صغير من الخيام، وكل مجموعة من الأسر تشكل حيًّا أو قومًا يعتقدون، حقيقة أو تصورًا، أنهم ينحدرون من أصل واحد ومن ثم تربط بينهم آصرة الدم أو القرابة، ومن مجموع هذه الأحياء أو الأقوام تتكون القبيلة. وقد عبر أبناء الحي أو القوم الواحد عن آصرة القرابة التي تربط بينهم بانتسابهم إلى اسم هو الجد الأول لهم فيما كانوا يعتقدون، فهم بنوه الذين يعرفون ويتعاملون ويتفاخرون باسمه. فهناك بنو الأصفر وبنو جرم وبنو جرهم وبنو شاكر وبنو عباد وبنو عبد القيس وبنو هذيل، وبنو ذبيان، إلى آخر هذه الأسماء. وقد يسمي أبناء القبيلة كلها "أو ربما عدد من القبائل" أنفسهم أنهم بنو فلان أو غيره مثل: بني تنوخ أو بني لخم، ولكن الوضع السائد عادة هو أن هذه التسمية كانت لتمييز الأحياء أو الأقوام. كذلك نجد بين بعض هذه الأسماء التي انتسبت إليها الأحياء أسماء نساء تشير بالضرورة إلى إحدى المراحل التي مر بها مجتمع البادية وهي المرحلة الأموية matriarchal التي كانت فيها الأم هي محور رابطة القرابة أو الدم ومن ثم كان الانتساب إليها. وهكذا وجد من بين عرب شبه الجزيرة أقوام مثل بني بجيلة وبني البقعاء وبني جهينة وبني ربيعة وبني فزارة وبني حنيفة وبني الرباب وبني أمية وبني جذيمة، وقد ظلت هذه التسميات الأموية قائمة حتى بعد أن انقرض النظام الأموي وحل محله النظام الأبوي patriarchal، بل لقد وصل الأمر إلى أن أصبحت بعض هذه الأسماء أسماء لذكور مثل أمية بن أبي الصلت أو جذيمة بن الأبرش. هذا، وجدير بالذكر هنا أن انتساب بعض الأقوام إلى نسب أموي ليس شيئًا غريبًا في حد ذاته، فقد كانت المرحلة الأموية إحدى المراحل التي مرت بها أغلب المجتمعات القديمة عامة، سواء في شبه الجزيرة العربية أو في غيرها من المناطق. كذلك كان يحدث في بعض الأحيان أن يظهر نوع من التكوين القبلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ينتظم عددًا من القبائل تتكتل في هيئة مجموعات موحدة بصورة أو بأخرى ولسبب عارض أو دائم تحت رئاسة أو زعامة واحدة. ومثل هذه التكتلات العربية نستنتج وجودها من عدد من النقوش الآشورية التي نجد واحدًا منها يشير إلى قوة عسكرية "عربية" تحت زعامة "جندبو" كواحدة من القوات المتحالفة مع ملك دمشق ضد الملك الآشوري شلمنصر الثالث "858-824ق. م" كما نجد عددا آخر منها يشير إلى صدامات عسكرية أو علاقات سياسية مع عدد من الشخصيات يوصف كل منها بأنه "ملك بلاد العرب" أو أنها "ملكة بلاد العرب" على نحو ما سنرى بالتفصيل في حديث قادم. والشيء ذاته نستنتجه من بعض مواضع في التوراة نجد فيها العرب يتكتلون مرة مع الفلسطينيين لاكتساح مملكة يهوذا "أو يهودية" في عهد الملك العبراني يهورام "851-843ق. م", ثم نجد خلفه الملك عزّيّا "779-740ق. م" ينتصر على الفلسطينيين وعدد من حلفائهم من بينهم "العرب الساكنون في جور بعل" على نحو ما مر بنا في مناسبة سابقة. وكلها إشارات يدل ما جاء فيها من تسميات وما أحاط بها من ملابسات على أن المقصود هو تكتلات أو تجمعات قبلية وليست قبائل منفردة1. وإلى جانب هذا النوع من التكوينات السياسية، وهو التكوين القبلي سواء اتخذ شكل قبائل منفردة أو تجمعات من القبائل, وجد نوع آخر هو الإمارات أو الممالك الصغيرة التي قامت إما حول مراكز تجارية أو عند نقطة توازن بين دولتين كبيرتين متصارعتين أو على حدود كل من هاتين الدولتين، تدخل في منطقة نفوذ الواحدة أو الأخرى منهما وتعمل لحسابها لحماية حدودها   1 أمثلة للنقوش الآشورية في ANET، صفحات 279، 283-286، 291. أمثلة لنصوص التوراة في سفر أخبار الأيام الثاني، إصحاح 21: 16 وما بعدها، عن الظروف والملابسات راجع الباب العاشر الخاص بالعلاقات الخارجية في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ضد أية غارات من البدو أو من جانب القوة الأخرى. والصفة المشتركة بين هذه الإمارات أو الممالك الصغيرة هي أن وجودها كان عابرًا، إذ كان يتوقف على بقاء أوضاع تجارية مواتية أو على بقاء علاقات وظروف دولية بين الدول الكبيرة المتصارعة، كما كان تدهورها أو اندثارها معلقًا بأي تعديل في مسار الخطوط التجارية أو أي تغيير في ميزان العلاقات بين الدول الكبيرة المتصارعة. ومن بين هذه الإمارات أو الممالك، مملكة الأنباط التي قامت في القسم الشمالي الغربي لشبه الجزيرة العربية حول المدينة التي عرفت في نصوص التوراة باسم "سيلع" أي: الصخرة, والتي عرفها الكتاب اليونان باسم بترا PETRA وهي الترجمة اليونانية للفظة ذاتها كما أنها الاسم الذي لا تزال المدينة تعرف به حتى الآن في صورته العربية "البتراء" والأنباط الذين كانوا في بدايتهم قبائل بدوية متنقلة استولوا من الإيدوميين في القرن السادس ق. م. على المنطقة السهلية التي تشرف عليها المدينة "وهي المنطقة التي تعرف الآن باسم وادي موسى" ثم ما لبثوا أن استولوا على المدينة ذاتها التي كانت موقعًا أساسيًّا على الخط التجاري الذي كان يصل بين سبأ والمناطق المجاورة في جنوبي شبه الجزيرة وبين الموانئ السورية في الشمال2. وقد وصل الأنباط نتيجة لهذا الموقع التجاري الحيوي الذي تميزت به عاصمتهم إلى قدر ظاهر من الازدهار الاقتصادي مكنهم من توسيع حدود   2 عن استيطان الأقباط راجع: DUSSAUD: LA PENETRATION DES ARABES EN SYRIE صفحات 21-24. عن اسم سيلع في التوراة راجع: نبوءة أشعيا، إصحاح 46: 1، 42: 11، سفر الملوك الثاني، 17: 7. عن اسم بترا petra عند الكلاسيكيين راجع أمثلة في strabo: XVI, 4: 21,23,24 كذلك: Plinius: HN, VI, 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 مملكتهم على حساب جيرانهم، ففي 87 ق. م. أدخلوا ضمن هذه الحدود دمشق ومنطقة البقاع "جوف سورية koele syria في تعبير الكتاب اليونان" كما ضموا إلى مملكتهم كذلك المنطقة الشمالية من الحجاز "مدائن صالح" ربما في القرن الأول الميلادي, ولكن هذا القرن "الأول الميلادي" كان قد بدأ يشهد تطورين ما لبثا أن أديا إلى تدهور هذه المملكة ثم سقوطها واندثارها. ففي غضون هذا القرن نشط الخط التجاري البحري الذي يمر من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي ومن ثم انتقل إليه قسم غير قليل من التجارة التي كانت تنقل على الخطوط البرية، كذلك تزحزح مسار الخط البري الطولي من اليمن إلى سوريا نحو الشرق قليلًا فلم تعد البتراء تمثل موقعًا تجاريًّا حيويًّا، كما تزحزح الخط التجاري العرضي الذي كان يمر بين وادي الرافدين والشواطئ السورية نحو الشمال, فانتقلت الأهمية التجارية من البتراء إلى تدمر في الشمال, وكان هذا إيذانًا بالتدهور الاقتصادي لمملكة الأنباط3. أما التطور الآخر فهو أن مملكة الأنباط كانت في هذا القرن قد بدأت تسترعي انتباه الإمبراطورية الرومانية بشكل متزايد بعاصمتها المنيعة التي تحصنها التكوينات الصخرية المحكمة من ثلاث جهات هي الشرق والغرب والجنوب بحيث لا يمكن النفاذ إليها إلا من ممر ضيق بين الصخور في الشمال. وهكذا رأت روما في المنطقة حاجزا حدّيّا أمام محاولات الفرثيين "الإمبراطورية الفارسية" للتوسع على حساب أراضي الإمبراطورية الرومانية، ومن ثم أدخلت مملكة الأنباط في دائرة نفوذها في شكل تبعية غير رسمية. ورغم أن هذه التبعية لم تؤثر في البداية على ازدهار المنطقة "بل لقد وصل هذا الازدهار إلى درجة كبيرة في ظل هذه التبعية التي انحصر هدفها في القيمة العسكرية للموقع   3 عن التوسع في سورية وفي الجنوب راجع: hitti، ذاته، ص 68. عن تحول الخط التجاري للشمال راجع: kammerer: petra et la nabatene "paris 1929" ص307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 فحسب" إلا أن هذه التبعية لم تلبث أن وصلت إلى نهايتها المنطقية حين ضمت روما مملكة الأنباط إلى إمبراطوريتها بشكل رسمي في 105م على عهد الإمبراطور ترايانوس "تراجان،70-106م" لتصبح من تلك السنة ولاية رومانية ويختفي نشاطها من سجل التاريخ لعدة قرون4. والإمارة أو المملكة الأخرى التي تمثل هذا النوع من التكوينات السياسية هي تدمر التي يرجع قيامها وازدهارها إلى موقعها الذي يتحكم في خط تجاري حيوي من جهة ويشغل منطقة حدية مهمة في مجال التوازن بين القوتين الكبيرتين المتصارعتين في الشرق والغرب. ورغم أن تدمر لم تظهر على مسرح التاريخ كتكوين سياسي محسوس إلا منذ أوائل القرن الأول الميلادي، إلا أنها كانت موجودة قبل ذلك، ففي أحد النقوش التي ترجع إلى عهد الملك الآشوري تجلات بيليسر الأول "1114-1076ق. م" نجد ذكر هذه المدينة "تدمر بفتح الميم في النطق الآشوري" "الواقعة في آمورور" أي الغرب كموقع من المواقع التي اجتاحها هذا الملك في طريقه إلى سورية. ثم نسمع عنها بعد ذلك بأكثر من عشرة قرون حين يحاول القائد الروماني ماركوس أنطونيوس marcus antonius أن يستولي عليها في 42-41 ق. م. أما ظهورها ككيان سياسي يتميز عن مجرد كونه مكانًا أو موقعًا يشكل واحة في الصحراء الممتدة بين وادي الرافدين وسورية فيعود إلى ما قبل القرن الأول بقليل إذ ترجع أول نقوشها المحلية إلى 9 ق. م5. وقد دخلت تدمر في دائرة النفوذ الروماني في أوائل القرن الأول الميلادي   4 عن التبعية غير الرسمية لروما strabo: XVI, 4: 21. عن تحويل المملكة إلى ولاية رومانية ammianus marcellinus: Rerum gestarum libri, XXXII, 14, 8: 13. 5 بترا كمنطقة توازن حدية في plinius: HN, V, 38. في نص تجلات بيليسر في anet ص275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وأصبحت ولاية رومانية في أوائل القرن الثاني وظلت كذلك حتى الربع الأخير من القرن الثالث الميلادي ولكنها مع ذلك نظرًا لموقعها الحدي بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية كانت ولاية من نوع متميز بعض الشيء فلم ترسل روما ولاة رومانيين إليها، وإنما كان حكامها من أبنائها المحليين الذين أبدوا ولاءً غير عادي لروما في التصدي لمحاولات التوسع الفارسية على حساب الحدود الرومانية الشرقية. وفي ظل هذا الوضع المتميز وصلت تدمر إلى قمة ازدهارها الاقتصادي بين 130 و270م، وبخاصة بعد أن نشطت طريق التجارة البرية الآتية من الصين إلى الغرب مارة بهذه المدينة وهو ازدهار مَكَّن مملكة تدمر من أن توسع حدودها فلم تعد قاصرة على العاصمة والقرى أو المدن الصغيرة الواقعة بقربها وإنما اتسعت منطقة نفوذها، كمكافأة من الإمبراطور، لتشمل سورية وشمالي شبه الجزيرة العربية. ولكن حين حاولت الزبَّاء أو زينب "زينوبيا zenobia عند الرومان" أن تستغل موقعها الحدي بين الشرق والغرب وتتفاهم مع الفرس وتعتمد على هذا التفاهم لتحصل على مناطق توسع جديدة في آسيا الصغرى ومصر اجتاحت القوات الرومانية هذه المملكة ودمرت عاصمتها في 272م واختفت من فوق المسرح التاريخي ونسيت خرائبها حتى بدأ الرحالة وعلماء الآثار ابتداء من القرن الثامن عشر في اكتشافها وتكوين صورة تتضح يومًا بعد يوم عن تاريخها وحضارتها6. كان هذان، إذن، مثالين من النوع الثاني للتكوينات السياسية التي ظهرت في شبه الجزيرة العربية، وهو النوع الذي اتخذ شكل الإمارة أو المملكة الصغيرة. وقد قامت المملكة الأولى وهي مملكة الأنباط، كما رأينا،   6 dussaud: ذاته، صفحات 71-188. كذلك m. cary: Ahistory of rome, "london 1960" ط1, صفحات 724, 725، 728. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 بشكل أساسي على أساس من موقعها الحيوي المتحكم في الخط التجاري الطولي الذي يصل جنوبي شبه الجزيرة العربية بالمنطقة السورية من جهة، والخط التجاري الطولي الذي يصل جنوبي شبه الجزيرة العربية بالمنطقة السورية من جهة، والخط التجاري العرضي الذي يصل بين وادي الرافدين والمنطقة السورية، وحين تدهورت أهمية موقعها تدهورت معه المملكة وانتهت بالسقوط. أما المملكة الثانية وهي تدمر فقد قامت على أساسين متوازيين، أولهما هو الموقع التجاري الأوسط الذي يحكم الطريق التجارية العرضية بعد أن تزحزحت نحو الشمال، وثانيهما هو الاعتماد على موقعها الاستراتيجي المتوسط بين القوتين المتصارعتين: الإمبراطورية الفارسية في الشرق والإمبراطورية الرومانية في الغرب، بأن تضع نفسها في خدمة إحداهما وهي الإمبراطورية الرومانية، ولكنها حين حاولت أن تحول اللعبة لحسابها بتغيير ولائها إلى الجانب الآخر، أثبتت لعبة القوى الكبرى أنها أقوى منها، فدمرها الرومان ولم يساعدها الفرس. أما المثال الثالث لهذا النوع الثاني من التكوينات السياسية في شبه الجزيرة العربية، وهو الممالك أو الإمارات الصغيرة، فتمثله إمارتان قامت إحداهما على حدود الإمبراطورية الفارسية والأخرى على حدود الإمبراطورية الرومانية. أما الأساس الذي قامت عليه كل منهما, فهو في قسم بسيط منه وقوع أقسام من الخطوط التجارية في أراضيهما، ولكن القسم الأهم منه هو قيام كل من هاتين الإمارتين بحماية حدود الإمبراطورية التي تدين لها الإمارة بالتبعية والولاء سواء من غارات البدو أو من محاولات التوسع التي يقوم بها الجانب الآخر -هاتان الإمارتان هما إمارة الغساسنة على الحدود الشرقية للشام وإمارة اللخميين على التخوم الغربية لنهر الفرات. وربما كان الغساسنة يشكلون في الأصل قبيلة يمنية هاجرت إلى منطقة حوران على أثر تصدع سد مأرب في القرن الثالث الميلادي تحت زعامة عَمْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 مزيقية بن عامر ماء السماء، ولكن المؤسس الحقيقي للإمارة بعد استقرارها في موطنها الجديد "إذا كانت حقيقة قد نزحت من اليمن" هو جفنة أحد أبناء هذا الزعيم أو الرئيس. وقد أسست هذه القبيلة إمارتها في المنطقة الواقعة إلى الجنوب الشرقي من دمشق عند الطرف الشمالي للخط التجاري البري الذي يصل اليمن بالشام واتخذوا موقع "جابية" في الجولان عاصمة لهم كما كانت "جُلّق" عاصمة لهم بعض الوقت. وما لبث الغساسنة أن دخلوا في دائرة نفوذ الإمبراطورية البيزنطية "الرومانية الشرقية" ووضعوا أنفسهم في خدمة مصالحها في المنطقة، وكانت هذه المصالح تتمثل بالدرجة الأولى في الحفاظ على الحدود الشرقية للإمبراطورية على نحو ما أسلفت. وقد كان أهم ملوك هذه الإمارة هو الحارث الثاني أو الحارث بن جبلة "حوالي 529-569م" الذي لقب باسم الحارث الأعرج عند الكتاب المسلمين. وقد أظهر هذا الحاكم من الولاء للإمبراطور البيزنطي ما أدى بالإمبراطور يوستنيانوس justinianus "جستنيان" إلى أن يضفي عليه لقب فيلارخوس phylarchos وهو أسمى لقب في الإمبراطورية بعد لقب الإمبراطور، كما عينه في 529م سيدًا على كل القبائل العربية في سورية. وقد أدى ملوك الغساسنة دورهم الذي تقتضيه تبعية إمارتهم للإمبراطورية البيزنطية، فدافعوا عن حدود هذه الإمبراطورية. وكان من بين ما قاموا به في هذا المجال حرب شرسة مستطيلة قام بها الحارث في أواسط القرن السادس الميلادي لصالح البيزنطيين ضد المنذر الثالث ملك الحيرة الذي كان بدوره يدافع عن حدود الإمبراطورية الفارسية. كذلك قام خلفه المنذر "الغساني" بغارة أحرق خلالها الحيرة عاصمة اللخميين. إلا أن البيزنطيين كانوا قد بدءوا يشكون في ولائه "لأسباب تتعلق بالمذهب الديني الذي كان يعتنقه" فأخذوه إلى القسطنطينية وسجنوه بعد ذلك في صقلية. أما ابنه النعمان فقد حاول أن يغير على بعض الأراضي التابعة للإمبراطورية فاستاقوه كذلك إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 القسطنطينية. وبانتهاء حكم النعمان يشيع في مملكة الغساسنة قدر ظاهر من التفكك وعدم الاستقرار كما لا نستطيع التحقق الكامل من ظروفها إلى أن يتم فتح المنطقة في 636م على يد خالد بن الوليد في موقعة اليرموك في عصر الفتوح الإسلامية7. أما إمارة اللخميين في الجانب الآخر فقد أقامتها مجموعة من القبائل من بني تنوخ الذين استقروا في المنطقة المتاخمة للضفة الغربية للفرات في أوائل القرن الثالث الميلادي "وهو ذات الوقت الذي استقر فيه الغساسنة في بادية الشام"، وكان التنوخيون يشكلون عددًا من قبائل مجموعة أكبر هي مجموعة قبائل اللخميين الذين ربما كانوا يشكلون هجرة يمنية إلى المنطقة وربما كانوا يشكلون مجرد تسرب بطيء من قبائل البادية إليها. وقد أقام التنوخيون مقرًّا لهم في الموقع الذي عرف بعد ذلك باسم الحيرة على مقربة من بابل "على مسافة كيلومترات قليلة جنوبي الكوفة". ونحو أواخر القرن ذاته أسس أحد التنوخيين وهو عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن لخم إمارة في المنطقة وضعت نفسها في خدمة الإمبراطورية الفارسية. وقد ظهر هذا واضحًا في اشتراك المنذر الأول إلى جانب الساسانيين في حربهم ضد البيزنطيين من 421م وفي قيام المنذر الثالث "حوالي 505-554" بغارات على سورية خربت أراضي المنطقة حتى أنطاكية إلى أن تصدى له الحارث الغساني. وكما رأينا في حالة الإمارات السابقة، فهناك كذلك وصلت إمارة اللخميين إلى قدر من الاستقرار, كان من بين مظاهره قدر من النشاط المعماري المتقدم مثل قصر الخورنق الذي أقامه النعمان الأول "حوالي 400-418م" بالقرب من الحيرة والذي كان يعتبر أعجوبة معمارية في عصره، ومثل قصر السدير الذي يذكر لنا ياقوت الحموي أن النعمان أقامه كذلك، وكان يقوم   7 hitti: ذاته, صفحات 78-80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 في وسط الصحراء بين الحيرة وسورية، ومثل الدير، الذي أقامته إحدى أميرات هذه الإمارة وهي هند، أم عمرو بن هند، ومثل انتشار قدر من الحياة الثقافية في الحيرة. كما يدل على هذا الاستقرار كذلك ما وصل إلينا عن حياة البذخ التي كان يمكن للقصر أن يمارسها, كما تشهد على ذلك إشارات إلى توافد مغنين وموسيقيين من الرجال والنساء، سواء في ذلك الذين وفدوا من مكة أو البابليون أو اليونان. ولكن هذا الاستقرار كان مرتبطًا دائمًا بإرادة الدولة الكبيرة، الإمبراطورية الفارسية، التي كان منطلقها الأساسي هو مصلحتها إزاء الصراع الكبير بينها وبين الإمبراطورية البيزنطية، ومدى ثقتها في ولاء الأمراء اللخميين إزاء هذا الهدف. وهكذا فرغم ظروف التخلخل الذي كانت تمر به الإمبراطورية من حين لآخر حول مسألة العرش -وهي ظروف أتاحت الفرصة لبعض حكام إمارة اللخميين للتدخل في مناسبة واحدة على الأقل في تحديد الشخص الذي يلي العرش "كما حدث أيام المنذر الأول 418-462م"- إلا أن الوضع كان يتغير تماما إذا أحس الأباطرة الفرس بشيء من الشك في ولاء الأمراء اللخميين، وقد حدث هذا بعد حكم النعمان الثالث أو النعمان أبي قابوس بن المنذر "580-602م" إذ نجد الإمبراطور الفارسي يعين إلى جانب الأمير العربي، وهو النعمان بن قبيسة الطائي "602-611م" مقيما فارسيا يمسك في يده بمقاليد الحكومة وهكذا تحول الأمراء العرب في المنطقة إلى حكام بلا سلطة، وظل الأمر كذلك حتى الفتوح الإسلامية حين حصل خالد بن الوليد على استسلام الحيرة في 633م8. وأصل الآن إلى المثال الأخير لهذا النوع الثاني من التكوينات السياسية التي عرفتها شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، وهو الإمارات أو الممالك الصغيرة، وهذا المثال هو مملكة كندة التي قامت في المنطقة الوسطى من   8 "paris, 1921" ign, guidi: LArabie anteislamlque"، صفحات 11-19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 شبه الجزيرة كمملكة تابعة للملك اليمني حسان بن تبَّع الحميري، وكان قيامها، فيما أرجح, يشكل نوعًا من حصول الملك اليمني على منطقة نفوذ قريبة من إمارتي اللخميين والغساسنة كإجراء لازم في ضوء الصراع الفارسي البيزنطي الذي لم يقتصر على الحدود المباشرة بين هاتين الإمبراطوريتين، وإنما اتسعت دائرته لتشمل المناطق التي تمر بها الخطوط التجارية البرية والبحرية التي تصل إلى الإمبراطوريتين ومن ثم وجدت منطقة اليمن نفسها منساقة إلى الاشتراك بشكل أو بآخر في هذا الصراع وإلى اتخاذ بعض المواقف إزاءه. وقد بدأ ظهور مملكة كندة حين عين الملك الحميري في الربع الأخير من القرن الخامس "حوالي 480م" أحد رؤساء قبيلة كندة وحو حُجْر آكل المرر حاكمًا على بعض القبائل العربية الموجودة في وسط شبه الجزيرة والتي كان الملك الحميري قد غزاها في فترة سابقة. وفي مجال العمل السياسي في هذا الصراع المثلث بين القوى الدولية استطاع أحد ملوك كندة وهو الحارث بن عمرو أن يسيطر على الحيرة بعد موت الإمبراطور الفارسي قباذ، ولكن المنذر الثالث، ملك الحيرة، تمكن من استعادة إمارته "في 529م" وأعدم الحارث ونحو خمسين من زعماء مملكة كندة، ليحل بعد ذلك في هذه المملكة نوع من التفكك وضع نهاية لوجودها السياسي. ورغم أن أحد أمراء هذه القبيلة، وهو امرؤ القيس، حاول أن يعيد كيان هذه المملكة بمساعدة الإمبراطور البيزنطي معتمدًا على العداء بين هذا الإمبراطور والإمبراطور الفارسي الذي كانت إمارة الحيرة تابعة له، إلا أن لعبة الدول الكبرى كانت أوسع من طموحه، وهكذا لم يحصل على المساندة المنشودة وباءت هذه المحاولة بالفشل. ولكن رغم اندثار مملكة كندة بعد فترة وجيزة من ظهورها إلا أن قيامها في حد ذاته، رغم قصر مدته، كانت له في رأي أحد الباحثين المعاصرين قيمة أساسية من حيث إنها كانت سابقة لاتحاد قبائل وسط شبه الجزيرة العربية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 أوجدت تصور الوحدة في هذه المنطقة ومن ثم كانت سابقة مهدت الطريق أمام توحيد المنطقة بعد ظهور الدعوة الإسلامية9. هذا عن النوع الثاني من التكوينات السياسية التي عرفتها شبه جزيرة العرب قبل الإسلام، وهو النوع الذي انتشر أساسًا في القسم الشمالي منها، أما النوع الثالث من هذه التكوينات فقد كانت تشكله الملكيات أو الممالك التي قامت في جنوبي شبه الجزيرة. وقد كان الأساس الذي قامت عليه هذه الملكيات أكثر ثباتًا واستقرارًا وأقل اعتمادًا على الظروف العارضة من الإمارات والممالك الشمالية. فبينما كانت هذه الأخيرة تقوم في المناطق الصحراوية وتعتمد على أساس من تجارة العبور التي تعتمد على الموقع التجاري ومن التوازن الدولي بين القوى الكبيرة المتصارعة في شرقي شبه الجزيرة وغربيها، ومن ثم تزدهر وتقوى إذا ظلت الخطوط التجارية في مكانها وعلى أهميتها وإذا ظل التوازن الدولي مواتيًا، نجد أن الأساس الذي قامت عليه ممالك الجنوب يختلف عن ذلك اختلافا جذريا, فقد عرفت هذه الممالك الجنوبية مساحات ممتدة من الأراضي الخصبة وقدرًا كافيًا ومنتظمًا من الأمطار الموسمية الغزيرة، وهكذا عرفت الأساس الاقتصادي الزراعي المستمر، بل لقد كان السكان لا يكتفون بالأراضي السهلية فيزرعون محصولاتهم على "الأجلال" أو المدرجات التي يسوونها على جوانب الجبال10. كذلك عرفت المنطقة مساحات واسعة من الغابات الطبيعية والنباتات التي تنتج الطيوب والتوابل، وهي سلعة لم يكن للعالم القديم غناء عنها -الأمر الذي زاد من استقرار المورد الاقتصادي. أما المورد الذي شكل القسم الثاني من هذا الأساس الاقتصادي فهو ما سبقت الإشارة إليه في مناسبة سابقة وهو   9 GUIDI: ذاته، صفحات 28-30. 10 راجع الباب الثالث الخاص بملامح شبه الجزيرة في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 التجارة. وهذه التجارة لم تكن مثل نظيرتها في الشمال مجرد تجارة عبورية تعتمد على بقاء الخطوط التجارية وتختلّ إذا أصاب هذه الخطوط أي تغيير أو تعديل في مسارها, وإنما هي تجارة أصلية، الجزء الأكبر من مقوماتها "أو موادها الأولية" موجود في البلاد فعلًا، وإلى جانب كل من هذا فموقع هذه الممالك الموجود في جنوبي الجزيرة كان يجعلها بالضرورة على نقطة الانطلاق من بداية أية طريق برية نحو الشمال، كما كان موقعها عند ملتقى البحر الأحمر والمحيط الهندي يعطيها ميزة مضاعفة في مجال الخطوط التجارية، فالخطان البري والبحري موجودان, وإذا قوي أحدهما على حساب الآخر فإن هذا لا يدفع بها إلى خارج الصورة، وإنما تظل منتفعة في كل الأحوال11. وقد كانت نتيجة كل ذلك أن بقيت هذه الممالك طوال العصر القديم. حقيقة إن واحدة منها قد تصل إلى مركز القوة على حساب الأخريات في بعض الأحيان, ولكن واحدة منها لم تندثر، كما حدث في بعض الإمارات والممالك الشمالية، كما كانت الحال مع مملكة الأنباط أو مملكة تدمر على سبيل المثال. أما الصفة الثانية التي تميزت بها ممالك العربية الجنوبية فهي ما نلحظه بينها، رغم تعددها, من توافق أو ما يشبه التوافق، يقترب بها من التداخل بقدر ما يبتعد بها عن التناحر والتصارع الذي نجده في بعض إمارات الشمال مثل إمارة الغساسنة وإمارة اللخميين. ولعل مرجع هذا إلى التكاملالاقتصادي فيما بينها؛ فبعض المناطق تنتج نوعًا من الطيوب والتوابل وبعضها ينتج نوعًا آخر وكلها تصب عند بداية خط القوافل البري الذي يمر في مناطق حددتها التضاريس الطبيعية وجعلتها أنسب من غيرها، ومن ثَمَّ لم يكن هناك بديل لها. وهكذا كان لا بد من قدر من الاتفاق بين هذه الممالك جميعًا لا يمكن الاستغناء عنه، فكل منطقة تعتمد على الأخرى، هذه تنتج وتريد أن تسوِّق تجارتها وتلك تمر القوافل من أرضها وتستفيد مما تجنيه من ذلك من رسوم وأجور   11 راجع الباب الثامن الخاص بالموارد الاقتصادية في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 على ما تقدمه من خدمات، وفي بعض الأحيان تجمع بين الموردين: الإنتاج والنقل وهكذا. ومن ثم كانت السيادة السياسية بين هذه الممالك تتعاصر أحيانًا وتتتابع أحيانًا, وتتفوق فيه مملكة على مملكة أخرى، أو تصل إحدى هذه الممالك إلى السيطرة على كل الممالك الباقية فيما يشبه الوحدة السياسية. ونظرة واحدة على المسار السياسي لهذه الممالك توضح ما أعنيه بهذا التوافق أو التداخل بين الممالك التي قامت في هذا القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية, فقد قامت مملكة سبأ الأولى "جنوبي نجران" واتخذت صرواح "غربي مأرب" عاصمة لها بين 750 و610ق. م. لتتلوها مملكة سبأ الثانية التي اتخذت مأرب "60 ميلا تقريبا شرقي صنعاء" عاصمة لها بين 610 و115ق. م. وفي ذروة ازدهار سبأ سيطرت لفترة من الوقت على مملكة المعينيين التي قامت في منطقة الجوف اليمنية "غير الجوف الموجودة في شمالي شبه الجزيرة". أما المعينيون فقد عاصروا السبئيين لفترة من الوقت، إذ قامت مملكتهم بين 700 ق. م. واستمرت حتى القرن الثالث وكانت عاصمتهم هي قرناو "معين الحالية" في القسم الجنوبي من الجوف إلى الشمال الشرقي من صنعاء، وفي فترة ازدهارهم سيطروا على القسم الأكبر من العربية الجنوبية. وغير هاتين المملكتين قامت مملكة قتبان في الركن الجنوبي من شبه الجزيرة شرقي عدن بين أوائل القرن الرابع وأواسط القرن الأول ق. م. "400-50ق. م.". واتخذت مدينة "تمنع" "كُحلان الحالية" عاصمة لها, كما قامت مملكة حضرموت إلى شرقي قتبان بين أواسط القرن الخامس ق. م. وآخر القرن الأول الميلادي, وفي بعض الفترات كانت هاتان المملكتان تحت السيطرة السبئية أو المعينية. ثم نجد السيادة الحميرية تظهر ابتداء من 115 وحتى نهاية العصر القديم، وقد أتى الحميريون من المرتفعات الجنوبية الغربية لليمن واتخذوا من "ظفار" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 "حوالي 100 ميل شمالي شرقي مخا على الطريق إلى صنعاء" عاصمة لهم وسيطروا على قسم كبير من المنطقة التي وجدت فيها الممالك التي سبق ذكرها واتخذ كل من حكامهم لقب: "ملك سبأ وذو ريدان" "وذو ريدان هي قتبان" وبقى هذا هو اللقب الملكي حتى أول القرن الثالث الميلادي "300م" حين نجده يتغير إلى "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات" ومعنى ذلك: أن مملكة حضرموت قد دخلت في تبعية السيطرة الحميرية في ذلك الوقت. هذا وقد زاد هذا اللقب في فترة لاحقة ليضم "وأعرابها في الجبال وفي تهامة"، "وتهامة تقع على الشاطئ الغربي في امتداد جنوبي شمالي" وهي زيادة تشير إلى اتساع نطاق السيادة الحميرية لتشمل كل المنطقة المأهولة في العربية الجنوبية12. ثم تأتي الصفة الثالثة لهذه الممالك الجنوبية وهي نقاط التوسع خارج حدودها عن طريق المستوطنات. ونحن نستدل على ذلك من بعض النقوش الآشورية التي يرد في واحد منها من عهد الملك تجلات بيليسر الثالث "744-427 ق. م", على سبيل المثال, أن هذا الملك مد نفوذه إلى عدد من القبائل والمدن من بينها سبأ, ثم يذكر في النقش ذاته أن هذه الأماكن تقع في أقصى الغرب "بالنسبة لدولة آشور" كما يضع سبأ في ترتيبها بعد تيماء مما يعطينا فكرة عامة عن موضعها. وهذا النقش وغيره من النقوش الآشورية التي يرد فيها اسم سبأ تشير بشكل واضح إلى أن المقصود هو مستوطنات سبئية في الشمال. كذلك نجد عددًا من النقوش المعينية في العلا وفي شمالي غربي شبه الجزيرة وفي الجوف في القسم الشمالي منها، وكلها تشير إلى قيام عدد من المستوطنات المعينية في هاتين المنطقتين. كما نجد مثالًا تتضخم فيه هذه المستوطنات لكي تتحول بعد ذلك إلى دولة متكاملة، كما حدث في عهد المملكة الحميرية   12 عن عرض موجز للمسار السياسي لهذه المناطق، راجع، guidi: ذاته، صفحات 64-84، كذلك hitti: ذاته، صفحات 49-66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 حين أقام بعض العرب الجنوبيين مستوطناتٍ لهم في الحبشة ابتداء من القرن الأول الميلادي وكانوا بذلك نواة لدولة أكسوم التي قامت في المنطقة13. ومثل هذه المستوطنات ابتدأت بالضرورة كمحطات تجارية لتجار العربية الجنوبية ثم نمت واستقرت بعد ذلك لتتحول إلى مدن لها كيانها الخاص ولكن تبقى بينها وبين الأماكن التي انبثقت منها في البداية علاقات مصالح تجارية، كما نتصور أن تكون لها مع هذه الأماكن علاقات أدبية ودينية، كما حدث في حال المستوطنات اليونانية خارج بلاد اليونان، التي تحولت على مدى الزمن إلى مدن يونانية لكل منها كيانها السياسي المستقل القائم بذاته.   13 النص عن سبأ في مجموعة arab ج1، فقرة 779 وفي anet ص283. نصوص أخرى من عهد سرجون يشار فيها إلى السبئيين كقوم يسكنون في الشمال في anet، صفحات 284-286. عن وجود مستوطنات سبئية في الشمال، انظر dussaud: ذاته، ص22، حاشية 4. النصوص المعينية في الجوف والعلا والتعليق عليها بما يثبت وجود مستوطنات معينية في هذه المناطق في wr, صفحات 73-74 و119-120. عن مستوطنات عربية جنوبية في الحبشة راجع، hitti: ذاته، صفحات 56-57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ب- نظام الحكم : بعد الحديث عن الأشكال أو التكوينات السياسية التي عرفتها شبه الجزيرة العربية, نلقي نظرة سريعة على النظم السياسية، أو نظم الحكم، التي عرفتها هذه التكوينات. وفي هذا الصدد نستطيع أن نتبين ثلاثة أنواع من هذه النظم, والنوع الأول نراه في النظام السياسي الذي عرفته التكوينات القبلية ونظام الحكم هنا يمكن أن نصفه بأنه نظام رئاسي يقوم على قاعدة شعبية قوامها كل أفراد القبيلة أو التجمع القبلي "في حالة وجود كيان سياسي يضم أكثر من قبيلة" ولكنه مع ذلك يميل إلى الصفة الطبقية أو الأرستقراطية إذا جاز لي أن أستعير تعبيرًا غير عربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وحاكم القبيلة أو التجمع القبلي هنا هو الشيخ أو السيد. والأساس الذي يقوم عليه حكمه ليس هو الوراثة وإنما هو الاختيار الذي قد يكون انتخابًا أو إجماعًا من القبيلة أو التجمع القبلي لنا أن نتصور أنه يتم في حدود رؤساء الأسر والأقوام "الأحياء" التي يتكون منها هذا الكيان القبلي إذا أدخلنا في اعتبارنا حرص العرب على النقاء الأسري في العصر السابق للإسلام حين لم تعرف القبائل العربية في البداية نظام الدولة بما لها من مؤسسات، ومن ثم كان التماسك الأسري "داخل التماسك القبلي" هو البديل الأساسي إن لم يكن البديل الوحيد لحفظ كيان القبيلة من التميع ومن ثم الاندثار. والصفات التي تؤهل السيد لمنصبه في السيادة أو الرئاسة هي صفات مستوحاة من حاجة القبيلة ومن ظروفها أساسًا. فالسن عليها معول كبير دون شك، إذ إنها مؤشر إلى التجربة والحكمة في مجتمع كانت العلاقات القبلية فيه تتعرض للغارات المتبادلة لأوهى الأسباب، وإن كان لنا أن نتصور وجود سادة أو رؤساء للقبائل دون اشتراط تقدم السن إذا كانت التجربة أو الحكمة في التصرف متوفرة في الشخص المرشح للرئاسة. كذلك كانت الشجاعة والحلم والكرم والثروة والحرص على مصالح القبيلة من المؤهلات الرئيسة للسيد. فالشجاعة مؤهل أساسي في مجتمع الغارات المتبادلة, والكرم لا يقل عنه ضرورة في مجتمع معرض للظروف الجغرافية القاسية التي قد تودي بالزرع والضرع، أو تؤدي إلى ندرة العشب إذ حلت بالمنطقة فترة جفاف طويلة. وقد كان ذلك واردًا في شبه الجزيرة14. على أنه يحدث في بعض الأحيان أن يكون السيد الجديد ابنًا للسيد القديم، ولكن هذا لم يكن معناه ابتعادًا عن النظام الانتخابي أو الاختياري المذكور أو اقترابًا من النظام الوراثي، وإنما يكون ناتجًا عن توفر صفات الرئاسة بحكم   14 عن الصفات التي ينبغي توفرها في سيد القبيلة راجع، lammens، ذاته، صفحات 211-238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الصدفة أو الواقع في ابن السيد السابق. ونحن نجد في هذا الصدد سيدًا لإحدى القبائل، وهو عامر بن الطفيل الذي يبدو أنه اختير سيدًا بعد وفاة أبيه، السيد السابق للقبيلة، يحاول جاهدًا أن يرد عن نفسه ما قد يوجه إليه من اتهام بوراثة السيادة ويستنكر مثل هذا الاتهام، ذاكرًا أن قبيلته هي التي سودته عليها ومشيرا إلى صفاته التي جعلت قبيلته تختاره لسيادة القبيلة فيقول: فإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المندوب في كل موكب فما سوَّدتني عامرٌ عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب15 كذلك قد يحدث أن تعطى سيادة القبيلة أو التجمع القبلي لامرأة وليس بالضرورة لرجل, والبيت الثاني من الأبيات السابقة يشير صراحة إلى هذا الاتجاه. ولم يكن هذا في الواقع أمرا غريبا عن عرب شبه الجزيرة في العصور السابقة للإسلام؛ فنحن نعرف من المصادر التي وردت فيها معاملات بين عرب شبه الجزيرة وغيرهم من الشعوب عن عدد من النساء اللاتي شغلن منصب الرئاسة لمجتمعات قبلية عربية، وقد أسمتهن هذه النصوص "ملكات" للعرب حسب التسمية السائدة عند الشعوب التي تنتمي إليها هذه النصوص. وهكذا نسمع في القرآن الكريم وفي التوراة عن معاملات في القرن العاشر ق. م. بين سليمان ملك اليهودية "971-937ق. م" وبين ملكة سبأ، التي أصبح من المرجح أنها لم تكن ملكة دولة سبأ الموجودة في جنوبي شبه الجزيرة، وإنما رئيسة مستوطنة سبئية شكلتها مجموعة قبائل جنوبية هاجرت واستقرت في شمالي شبه الجزيرة. وفي القرن الثامن ق. م. نسمع في النقوش الآشورية عن احتكاكات سياسية وعسكرية بين الملك الآشورية تجلات بيليسر الثالث   15 الأبيات في شيخو والبستاني: المجاني، ص293، أبيات 6-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 "744-727 ق. م." وبين ملكتين عربيتين هما الملكة زبيبة والملكة سمسي، وفي القرن السابع ق. م. نسمع من النقوش ذاتها عن معاملات سياسية بين الملك الآشوري إسار حدّون "680-669ق. م" وبين ملكة عربية أخرى هي إسكلاتو. كما نسمع في الكتابات اليونانية في أواخر القرن الرابع الميلادي "حوالي 380م" عن "ماوية، ملكة العرب" التي قامت بعدد من الغارات على الأراضي الفلسطينية والفينيقية16. وإلى جانب السيد أو شيخ القبيلة نستطيع أن نتبين من النصوص وجود تجمعين أو مجلسين يشاركانه في تصريف أمور القبيلة: أحدهما هو مجلس أعيان القبيلة والآخر يضم كل أفراد القبيلة. ويشير القرآن الكريم إلى المجلس الأول في أكثر من مناسبة تحت اسم "الملأ". وحقيقة إن هذه التسمية قد وردت في إحدى الآيات القرآنية لتدل على مجرد مجموعة من الناس، كما وردت في آيات أخرى قليلة بشكل قد يحتمل المعنى العام والمعنى الخاص الذي نحن بصدد الحديث عنه، ولكن الصفة المتواترة عند ذكر هذه التسمية تشير بشكل لا يشوبه الغموض إلى أن المقصود منها هو هذا المجلس الذي يضم الأعيان, الذين يبدو منطقيا أنهم كانوا رؤساء الأحياء والأسر التي تشكل القبيلة. ولنا أن نستنتج أن هذه التسمية بالذات هي التي كانت سائدة للتدليل على هذا المجلس، طالما أن القرآن الكريم يذكرها على أنها شيء معروف عند العرب الجاهليين الذين كان يخاطبهم.   16 ملكة سبأ في سورة النمل: 22-23 "راجع الباب الخاص بالمصادر الدينية في هذه الدراسة"، كذلك التوراة، سفر أخبار الأيام الثاني، إصحاح 9: 1 وما بعدها، عن الملكات العربيات اللاتي ترد أسماؤهن في النصوص الآشورية، زبيبة وسمسي في عهد تجلات بيليسر في ANET ص283، مثال آخر للملكة سمسي على عهد سرجون الثاني "750-721 ق. م" في ذاته: ص286، الملكة إسكلاتو، في ذاته: ص291، الملكة ماوية في THEOPHANES: 64 "طبعة BOOR". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 أما النقاش داخل هذا "الملأ" فيبدو أنه كان إلى حد غير قليل نقاشًا مفتوحًا وديمقراطيًّا يتسع للرأي ونقيضه. ونحن نجد صورة نابضة في القرآن الكريم لهذا النقاش الذي يتعاقب فيه الفريقان المتعارضان في اجتماع الملأ واحدًا بعد الآخر، في إدلاء بالرأي، ورد عليه ثم اعتراض على الرد ثم رد على الاعتراض وهكذا. كما نجد أحد الفريقين المتناقشين، حين تتأزم المناقشة، يطرح موضوع النقاش على العامة من أفراد القبيلة ليدلوا برأيهم في الموضوع وربما كان الاسم الذي أطلق على هذا التجمع العام الأخير هو النادي الذي قد يشير كذلك إلى مكان هذا الاجتماع العام. فالاسم ورد في القرآن الكريم في معنى التجمع العام، كما أن مدلول اللفظة ذاتها يفيد معنى التجمع المقترن بالنقاش17. والنوع الثاني من التنظيمات السياسية التي عرفتها شبه الجزيرة العربية نجده في التجمعات القبلية التي تحولت إلى إمارات أو ممالك تابعة للإمبراطوريات الكبرى أو داخلة في دائرة نفوذها بشكل أو بآخر مثل مملكة تدمر وإمارتي الغساسنة واللخميين. ومنصب الذي يتقلد الرئاسة على هذه القبائل كان بالنسبة للعرب يتخذ تسمية "الملك"، كما يتبين من النقش الذي وجد على قبر امرئ القيس الأول بن عمرو بن عدي "288-328م" وهو أحد الحكام اللخميين وفيه نجده يصف نفسه بأنه "ملك العرب كلهم"، وكما يتبين لنا كذلك من إشارة الشاعر التغلبي عمرو بن كلثوم إلى عمرو بن المنذر الثالث بن ماء السماء "المعروف باسم عمرو بن هند" الذي يقول: إذا ما الملك سام الناس خسْفًا ... أبينا أن نقر الذل فينا18   17 عن الملأ، القرآن الكريم، سورة الأعراف: 60، 66، 75، 88، 90، هود: 27، إحدى المناقشات النابضة في السورة ذاتها: 73-76. الملأ كمجرد مجموعة وليس مجلسًا، في هود: 38. النادي في العنكبوت: 29. 18 شيخو والبستاني: ص136، بيت97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 أما بالنسبة للدولة التي تتبعها الإمارة فقد كان لقب حاكم الإمارة يتخذ أسماء متعددة حسب الظروف, كما حدث في حالة أذينة حاكم تدمر، على سبيل المثال، حين نجد الإمبراطور الروماني يضفي عليه لقبين لقاء خدماته، أحدهما "قائد الشرق" أو "قائد المنطقة الشرقية" dux orientis والآخر "آمر الجند" imperator وكما حدث في حال المنذر الثالث الغساني الذي أضفى عليه الإمبراطور يوستنيانوس "جستنيان" لقب "حاكم القبائل" phylarchus إلى جانب لقب شرفي آخر هو "النبيل" patricius. والحكم في هذه الإمارات كان فرديا وراثيا "على عكس ما رأينا في نظام الحكم القبلي بالنسبة للسيد" يظهر هذا من قائمة حكام الغساسنة واللخميين كما يبدو في تدمر من تقلد الزباء ملكة تدمر لصلاحيات السلطة كوصية على العرش بعد موت زوجها أذينة. ويبدو أن الدول الكبرى التي كانت تتبعها هذه الإمارات لم تتدخل في هذا النظام الوراثي، ولعل السبب في ذلك هو أن هذا النظام كان يمثل بالنسبة لها شيئا من الاستقرار الذي تنشده على حدودها. وحتى حين كانت تشك في نوايا أو تصرفات أحد هؤلاء الحكام كانت تبقي على نظام الوراثة كما هو ولكنها تتخذ الإجراء الذي تراه مناسبًا للمحافظة على مصالحها. ومن أمثلة ذلك ما حدث حين لم ترتح الإمبراطورية البيزنطية إلى بعض تصرفات المنذر الرابع وابنه النعمان فأخذ الأول سجينًا إلى القسطنطينية ثم سجن بعد ذلك في صقلية، بينما اقتِيدَ الثاني منفيًّا إلى القسطنطينية. ومن أمثلته كذلك ما حدث حين عين الإمبراطور الفارسي إلى جانب إياس بن قبيصة "602-611م"، الحاكم اللخمي، مقيما فارسيا وضعت السلطة الحقيقية في يده بحيث أصبحت سلطة الحاكم العربي سلطة اسمية19.   19 عن ألقاب أذينة راجع: m. cary: a history of rome ص725، كذلك kammerer: ذاته، ص320، عن قوائم ملوك الغساسنة واللخميين، kammerer: ذاته، صفحات 337، 341، عن الوراثة في الأسرة الحاكمة في تدمر ووصاية الزباء، cary: ذاته، ص725, عن تصرف القوات الكبرى في حالة شكهم في نوايا هؤلاء الحكام hitti: ذاته، صفحات 80 و84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 نظام آخر من أنظمة الحكم في شبه الجزيرة في العصور القديمة نجده في مملكة الأنباط التي قامت وازدهرت كمملكة مستقلة في أغلب مراحل وجودها حتى أدخلها الرومان في دائرة نفوذهم في أواخر القرن الأول ق. م. أو أوائل القرن الأول الميلادي قبل أن تتحول إلى ولاية رومانية رسمية في أوائل القرن التالي. وفي هذه المملكة كان منصب الملك وراثيًّا كذلك. ولكن يبدو أن الحكم مع ذلك لم يكن فرديًّا، فنحن نجد مجلسًا شعبيًّا يذكر لنا الكاتب اليوناني سترابون أن الملك كان يقدم أمامه تقريرًا عن أعماله، بل لقد كان هذا المجلس يناقش الأسلوب الذي يتبعه الملك في حياته الخاصة في بعض الأحيان. كذلك كان يحد من سلطات الملك وزير أو رئيس للجهاز التنفيذي يتخذ لفظ "الأخ" ونحن نعرف على الأقل واحدا من الذين شغلوا منصب "الأخ" وهو سللايوس syllaeus "صلاء، شلاء" الذي عاصر حملة الرومان على شبه الجزيرة العربية في 24 ق. م. وقد كان صاحب سلطة واسعة فعلًا. وربما كان ناتجًا عن قوة شخصيته وضعف شخصية الملك النبطي آنذاك وهو عبيدة "أوبودا oboda عند الرومان" كما يشير إلى ذلك سترابون في شيء من التفصيل. ولكن مع ذلك فإن التسمية التي أطلقت على المنصب وهي "الأخ" تشير إلى شيء من اتساع صلاحيات هذا المنصب20. أما النوع الأخير من نظم الحكم أو النظم السياسية فقد وجد في جنوبي شبه الجزيرة العربية، والنظام كان ملكيا في الدول التي قامت في هذا القسم من شبه الجزيرة. ويبدو أن الملكية في هذه المنطقة كانت فردية مطلقة في المرحلة الأولى من مراحل ظهورها، وهي مرحلة ترجع إلى القرن السابع على أقل تقدير في بعض أجزاء المنطقة. ويظهر لنا ذلك من أن الملك كان يجمع بين   20 عن الحكم الوراثي ومنصب الأخ، ونفوذ سللايوس إزاء ضعف شخصية عبيدة strabo: XVI, 4: 21، عن الملك ومجلس الشعب، ذاته: XVI, 4: 26 مناقشة لشخصية سللايوس في، kammerer ذاته، صفحات 90-91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 منصبه الملكي ومنصب الكاهن الأعلى أو "المكرب"، "المقرب، ربما من تقديم القرابين إلى الآلهة" في واحدة على الأقل من الممالك التي قامت في المنطقة، وهي مملكة سبأ في مرحلتها الأولى "من حوالي 610 إلى 115ق. م"21. وهو وضع مغزاه، إذا أدخلنا في اعتبارنا أن الدين كان يعتبر الدعامة التي تعطي للنظام الملكي قاعدته الشرعية في العصر القديم بوجه عام، ولنا أن نتصور في ظل هذا الوضع أن يكون الحكم الملكي وراثيًّا كذلك، فهو أمر وارد في النظام الملكي وهو أمر أكثر ورودًا إذا كان الحكم الملكي من النوع الفردي المركزي. ولكن يبدو أن هذا النظام الملكي الذي يقوم على الحكم الفردي المركزي "سواء في سبأ أو الملكيات الأخرى" لم يبق على ما كان عليه. ففي سبأ, على سبيل المثال، فقد الملك صلاحياته الدينية ابتداء من 115 ق. م. لتتركز في أيدي رجال الدين الذين يبدو أنهم كانوا يشكلون طبقة لا يستهان بها إذا بنينا حكمنا على العدد الهائل من المعابد التي يذكر الكاتب الروماني بلينيوس أنها كانت موجودة في بعض مدن المنطقة في أواسط القرن الأول الميلادي، وهي فترة غير متأخرة كثيرا عن التاريخ المذكور. كذلك يذكر لنا سترابون "أواخر القرن الأول ق. م وأوائل القرن الأول الميلادي" أن النظام الملكي لم يكن وراثيًّا آنذاك فيقول في هذا المجال: إن ابن مالك لم يكن هو الذي كان يخلفه على العرش وإنما أحد أفراد الأعيان "أو الطبقة الأرستقراطية"22، وبذلك تكون ركيزة الوراثة قد انتزعت كذلك من صلاحيات النظام الملكي. ومثل هذا التطور ليس في الواقع شيئًا معدوم النظير في العصور القديمة، فقد عرفته الدويلات اليونانية حوالي القرن الثامن في المرحلة التي عاصرت   21 hitti: ذاته ص52. 22 انتزاع السلطة الدينية من الملك في hitti: ذاته، ص54، كثرة عدد المعابد في plinius: HN, VI, 153 نظام اعتلاء العرش في strabo: XVI, 4:3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 تطور نظام الحكم من الحكم الملكي إلى الحكم الأرستقراطي. فقد بدأت بانتزاع صلاحيات الملك واحدة بعد الأخرى. وكان من بين هذه الصلاحيات النظام الوراثي والسلطة الدينية. ونحن نستطيع أن نفهم ما حدث في الممالك العربية الجنوبية في هذا الصدد إذا عرفنا مدى قوة الطبقة الأرستقراطية هناك وهو أمر نستنتجه مما يذكره لنا الكاتب بلينيوس ذاته حين يعرفنا أن ثلاثًا من المناطق العربية الجنوبية "وهي مناطق السبئيين والمعينيين والحضرميين" كانت فيها 3000 أسرة تحتكر حق امتلاك أشجار الطيوب والاتجار فيها بشكل وراثي، وهو أمر غير غريب عن مناطق العربية الجنوبية، فالملكية الجماعية، أو الإدارة الجماعية لقطع واسعة من الأراضي الزراعية معروفة لنا من النصوص التي عثر عليها في المنطقة23. ومعنى هذا في الواقع أن الطبقة الأرستقراطية الثرية كانت طبقة لا يمكن أن يتجاهلها الملك، بل لا يمكن إلا أن تزحف على صلاحيات النظام الملكي بما في ذلك النظام الوراثي للعرش بحيث يتحول الملك إلى ما يمكن أن نسميه "الأول بين الأقران" أو Primus inter pares حسب التعبير اللاتيني الذي صاغه الرومان عن هذا المعنى. فالملوك كانوا، هم الآخرون، من الأسر التي تملك هذا الحق الاقتصادي الوراثي. وفي ضوء هذا الوضع تتحول سلطة الملك الذي كانت الطبقة الأرستقراطية تختاره بطريقة أو بأخرى من بين صفوفها إلى ممثل لهذه الطبقة والتي هو نفسه منها، يحافظ على مصالحها وينمِّي هذه المصالح إزاء أية ظروف معاكسة. ولعلنا نفهم من خلال هذا التصور ما يذكره لنا الكاتب اليوناني أرتميدوروس "اشتهر في أوائل القرن الثاني ق. م." من أن الملك عند السبئيين رغم كونه المرجع "في القضايا وكل شيء" إلا أنه "كان لا يملك أن يترك قصره "لعله   23 عن الأسر المحتكرة plinius: HN, XII, 54, عن المزارع الجماعية راجع الموارد الاقتصادية في الباب السابق، والوضع الاجتماعي أدناه في الباب الحالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 يريد أن يترك العرش" وإذا تركه فإن الغوغاء, حسب نبوءة معينة، ترجمة حتى الموت"24. ولنا أن نتصور أن هؤلاء الغوغاء هم أتباع أو أجراء الطبقة الأرستقراطية المالكة لهذا المورد الإنتاجي الأول في البلاد، كذلك لنا أن نتصور شيئًا من المبالغة فيما يخص مسألة الرجم. ولكن يبقى المعنى، حتى بعد هذه التحفظات واضحًا، وهو أن تنازل الملك عن عرشه أو تركه له بشكل أو بآخر، قد لا يناسب الطبقة التي اختارته إذا جاء ذلك في وقت غير مناسب لها، ومن ثم فمثل هذا التنازل لم يكن ليتم إلا بموافقة هذه الطبقة.   24 منقول في سترابون: strabo:XVI, 4: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الوضع الاجتماعي مدخل ... 2- الوضع الاجتماعي: كان هذا، إذن، هو الوضع السياسي في شبه الجزيرة العربية في العصور السابقة للإسلام وليكن حديثنا الآن عن الوضع الاجتماعي. وفي هذا المجال فإن الناظر إلى مجتمعات شبه الجزيرة، سواء في ذلك المجتمعات القبلية البدوية أو مجتمعات الحضر التي تظهر على أوضحها في التكوينات السياسية الكبيرة، يجد أنها تشترك جميعًا في عنصرين أساسيين: العنصر الأول هو عوامل التماسك التي تبدو وكأنها تشد المجتمع إلى بعضه. والعنصر الثاني هو عوامل الانقسام الطبقي التي تسير في موازاة العوامل الأولى. ولنحاول الآن أن نعرف إلى أي حد سيطر كل من العاملين على سكان شبه الجزيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 أ- عوامل التماسك : وفيما يخص عوامل التماسك فإننا نجد عددا واضحا منها في التكوينات القبيلة تهدف إلى إشاعة التماسك، حسب تصور معين، في المجتمع القبلي. ومن بين هذه العوامل، عامل العصبية وعامل آخر مكمل له وهو الثأر. وحقيقة، إن العصبية والثأر قد أديا إلى مناسبات كثيرة من الصراع بين قبائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 شبه الجزيرة في العصر السابق للإسلام، وكان هذا الصراع يصل في بعض الأحيان إلى فترات من العداء الصريح الذي يستمر عقودًا بأكملها بين توتر أو مناوشات أو غارات كثيفة متبادلة حفظ التراث العربي لنا عددًا من مواقعها وهي التي تسمى أيام العرب25. ولكن من الجانب الآخر فإن كلًّا من هذين العاملين كان أمرًا حيويًّا بالنسبة للقبيلة حتى لا يذوب كيانها في مجال العلاقات بين القبائل في ظل الظروف القاسية التي سادت مجتمع البادية في شبه الجزيرة، فالعصبية التي تنتج عن تصور حقيقي أو مفترض لرابطة القرابة أو الدم كانت وسيلة التكتل الأساسية بين أفراد القبيلة في غياب أية وسائل أخرى ثابتة لإشاعة هذا التكتل. وهي وسيلة تجمع بين هؤلاء الأفراد بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى المطروحة مثل اعتبارات الحق والباطل أو الظلم والعدل، بحيث يصبح هذا التكتل هو القيمة الأولى في حياة القبيلة التي كثيرًا ما كان يدفعها السعي وراء الكلأ إلى التنقل، وهو ظرف قد يؤدي إلى التشتت ومن ثم الاندثار كوحدة اجتماعية، أو إلى التصارع مع قبائل أخرى في سبيل الحصول على هذا الكلأ أو على عين ماء إذا أدخلنا في اعتبارنا قلة الماء في شبه الجزيرة إلى درجة الندرة في بعض الأحيان, وهنا مرة أخرى يبدو التكتل كعامل حيوي في ظل هذا الصراع. ونحن نجد الحديث عن هذه العصبية واردًا في أغلب ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي، سواء أكان في الفخر بالقبيلة إلى درجة المبالغة، أم في هجاء قبيلة أو قبائل أخرى إلى درجة المبالغة كذلك.   25 عن عرض شامل لأيام العرب راجع، جورجي زيدان: العرب قبل الإسلام "مراجعة وتعليق حسين مؤنس"، طبعة دار الهلال, القاهرة صفحات 254-274. عن عرض بعض هذه الأيام راجع، عمر فروخ: تاريخ الجاهلية، صفحات 77-86، السيد عبد العزيز سالم: تاريخ العرب في العصر الجاهلي، صفحات 426-443، سعد زغلول عبد الحميد: في تاريخ العرب قبل الإسلام، صفحات 311-318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 كذلك يذكر لنا المؤرخ اليوناني هيرودوتوس26 أن القبيلة قد تلجأ في سبيل تقوية هذه العصبية إلى ما يمكن أن نسميه المؤاخاة بين شخص من داخل القبيلة وآخر من خارجها وذلك بأن يتقاسم هذا الأخير طعامًا مع ابن القبيلة, أو يمص قطرات من جرح يحدثه في جسمه, وهكذا يصبح هذا الشخص الغريب عن القبيلة ابنًا متبنًّى لهذه القبيلة. ولنا أن نتصور أن مثل هذا الشخص يكون مرغوبًا في تبنيه بسبب غزوة له أو بأس يتصف به، ولكن الأمر يظل على أي الأحوال طريقة من الطرق التي تلجأ إليها القبيلة لتقوية عصبيتها. ومن ثَمَّ يصبح هذا التصرف مؤشرًا نحو التماسك. أما الثأر فهو نتاج طبيعي للعصبية وامتداد لها ويكمل نفس المهمة وهي الحفاظ على كيان القبيلة عن طريق مقابلة الاعتداء عليها باعتداء يهدف القائمون به إلى أن يكون رادعًا، ونحن نرى في هذا الصدد فكرة الثأر وقد أصبحت أحد واجبات سيد القبيلة كما يظهر، على سبيل المثال، من موقف أحد رؤساء القبائل، وهو عامر بن الطفيل "سيد بني عامر الذي سبقت الإشارة إليه" همًّا لا يستطيع أن يستريح قبل أن يقوم به رغم ما قد يسببه له ذلك في بعض الأحيان من حرج أو ألم. تقوم ابنة العمريّ: ما لك، بعدما ... أراك صحيحًا، كالسليم المعذب؟ فقلت لها: همي الذي تعلمينه ... من الثأر في حيي زبيد وأرحب إن أغْزُ زبيدًا أغْزُ قومًا أعزة ... مركبهم في الحي خير مركب وإن أغز حيي خثعم، فدماؤهم ... شفاء، وخير الثأر للمتأوب ثم يمضي ليفخر بتأديته لواجبه في طلب الثأر بكل ما يرى أنه: سلاح امرئ قد يعلم الناس أنه ... طلوب لثارات الرجال مطلَّب   26 herodotus: III, 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وبعد أن يتحدث عن اختيار قبيلته إياه سيدًا عليها يلخص مغزى الثأر بالنسبة لها "وفي الواقع بالنسبة لأية قبيلة أخرى" حين يقول: ولكنني أحمي حماها، وأتقي ... أذاها، وأرمي من رماها بمنكب27 وإذا كانت العصبية والثأر هما عاملا التماسك بالنسبة لكيان القبيلة, فإن الحرص عليهما لم يكن قاصرًا على رجال القبيلة فحسب، بل كان يتعدى ذلك إلى نسائها اللائي كن يحرصن عليهما بكل الطرق، بما في ذلك تحريض الرجال بكافة الطرق على التمسك بهذين العاملين اللذين أصبحا محورا أساسيا لحياة القبيلة وبمساعدتهن لهم على تنفيذهما والوقوف إلى جانبهم حتى في ميدان القتال، كما يبدو واضحًا من أبيات عمرو بن كلثوم في وصف أحد لقاءات الحرب: على آثارنا بيض حسان ... نحاذر أن تقسّم أو تهونا أخذن على بعولتهن عهدًا ... إذا لاقوا كتائب معلمينا ليستلبُنَّ أفراسا وبيضا ... وأسرى في الحديد مقرنينا يقُتْن جيادنا ويقلن: لستم ... بعولتنا إذا لم تمنعونا إذا لم نحمهن، فلا بقينا ... لشيء، بعدهن، ولا حيينا28 أما العامل الثالث الذي ساعد على التماسك القبلي فهو الاشتراك على المشاع في الكلأ الذي يوجد حيث تحل القبيلة، كما أشرت في مناسبة سابقة. إن هذا النظام أملته ظروف البادية على المجتمع القبلي من حيث هو ضرورة   27 هذا البيت والأبيات السابقة في شيخو والبستاني: المجاني، صفحات 292-293، أبيات 1-4، 7، 10. 28 شيخو والبستاني: ذاته، ص135، أبيات 77، 79-80، 82-83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 اقتصادية لا يمكن إغفالها أو تجاوزها، ولكنه في الوقت ذاته كان عاملًا من عوامل التماسك الاجتماعي بين أفراد القبيلة حول قيمة حيوية بالنسبة لهم -يعيشون فيها ويذودون عنها، وفي كل الأحوال يلتفون حولها متضامنين فيما يقدمون عليه سواء كان انتفاعا أو دفاعا. فإذا خرجنا عن نطاق التكوينات القبلية إلى تكوينات ذات المجتمعات الكبيرة مثل تلك التي كانت موجودة في القسم الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة حين تزدهر الزراعة وتوجد الغابات الممتدة من أشجار الطيوب وقدر لا بأس به من أعمال الصناعة والتعدين وجدنا كذلك إشارات متواترة، سواء في النقوش التي عثر عليها المنقبون الأثريون أو في الكتابات التي تركها لنا الكتاب الكلاسيكيون، إلى عدد من الممارسات في الحياة اليومية يؤدي إلى التماسك في جوانب مختلفة من الحياة الاجتماعية. وفي المجال يبدو أن فكرة الملكية "الامتلاك" الجماعية كانت معروفة في المنطقة بين أفراد الأسرة الواحدة على الأقل، يشير إلى ذلك سترابون ذاكرًا أن السيطرة على هذه الأملاك الجماعية كانت في يد الأخ الأكبر، ونحن نجد تأييدًا لهذا فيما ذكره بلينيوس الذي سبقت الإشارة إلى حديثه عن ملكية جماعية بين 3000 أسرة لجميع أشجار الطيوب الموجودة في دول الجنوب ولحق الاتجار في نتاج هذه الأشجار، وأضيف هنا أن هذا الكاتب يخوض في تفصيل كيفية هذا الانتفاع الجماعي فيذكر أن هناك من يقول: إن "مجموعات من" هذه الأسر تتناوب هذا الانتفاع من سنة إلى سنة وأن هناك من يقول: إن أرباح النتاج تقسم على كل الأسر سنويًّا، وسواء كان هذا أو ذاك ففكرة الملكية الجماعية والانتفاع الجماعي حسب تنظيم أو آخر قائمة في الحالين29.   29 جماعية الملكية في الأسرة في strabo: XVI, 4, 25، الملكية الجماعية لأشجار الطيوب وطرق الانتفاع بنتاجها في plinius: HN, XII, 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ولنا أن نصدق ما رواه هذان الكاتبان فأولهما كان صديقا شخصيا لقائد الحملة الرومانية على بلاد اليمن وقد كان حريصًا أن يستفسر من الجنود الرومان الذين اشتركوا في الحملة عما شهدوه في المنطقة، والثاني وهو بلينيوس يذكرنا في أكثر من موضع بأنه يحصل على معلوماته من التجار الرومان واليونان الذين يتعاملون مع سكان هذه المناطق. كما نجد تأييدًا لهذه النزعة نحو الملكية الجماعية في عدد من النقوش العربية الجنوبية التي يشير بعضها إلى جمعيات زراعية من نوع الجمعيات التعاونية التي نعرفها في الوقت الحاضر. وقد أسلفت الإشارة إلى واحدة من هذه الجمعيات كان لها مجلس إدارة مكون من ثمانية أشخاص يقومون على إدارة هذه "المؤسسة الزراعية" حسبما سماها باحث معاصر، والإشراف على العمل بها من تهيئة البذور ودفع الحصص أو الضرائب الواجب دفعها للحكومة أو للمعبد، ومن خزن وتسويق وبيع30. ومثل هذا الاتجاه نحو الجماعية في الامتلاك أو إدارة الأملاك أو الانتفاع بنتاجها، رغم أنها ممارسة اقتصادية إلا أن انعكاساتها الاجتماعية تؤدي إلى التماسك بين شرائح كبيرة وكثيرة في هذا المجتمع الذي مُورست فيه الزراعة أو الانتفاع بغابات الطيوب أو الاتحاد في محصولها على نطاق واسع. ولعل إشارة أخيرة، في هذا الصدد قدمها لنا الكاتب الجغرافي والتاريخي سترابون تعطينا، في ختام الحديث عن هذه النقطة مدى تأثير هذه النزعة الجماعية حتى على التصورات أو الاعتبارات المتصلة بروابط الأسرة، إذ يذكر لنا هذا الكاتب أن "الإخوة كانوا يوضعون في منزلة أكثر تقديرًا من الأبناء"31. ونحن إذا تمعَّنَّا في هذه العبارة التي تجعل الإخوة مقدمين على الأبناء وجدناها تشير بشكل واضح إلى تجاوز التكتل داخل الأسرة الواحدة   30 نص halevy: 147, راجع الباب السابق الخاص بالموارد الاقتصادية وصف "المؤسسة الزراعية" في جواد علي: ذاته، ج7، ص224. 31 strabo: XVI, 4:25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 "أي بين الأب والأم والأبناء" إلى تكتل أوسع هو مجموعة الأسرة التي يكونها كل من الإخوة حول آصرة قوية هي الآصرة التي تربط هؤلاء الإخوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ب- عوامل الانقسام: ولكن مع كل العوامل المؤشرة إلى التماسك سواء في مجتمع التكوينات القبلية أو في مجتمع التكوينات الكبيرة فإن عوامل الانقسام كانت موجودة في داخل هذه التكوينات في الوقت ذاته. ففي المجتمع القبلي، رغم ما كانت عليه العصبية من رسوخ يدفع القبيلة إلى أن تخفَّ للدفاع عن أي فرد من أفرادها إذا تعرض لأذًى أو اعتداء أو إهانة من قبيلة أخرى، فإن نداء العصبية هذا لم يكن يمارس بنفس الحماس في حالة كل الأشخاص. ولعل الأقرب إلى الواقع في هذا الصدد هو أن هذا الحماس في الاستجابة لنداء العصبية كان يشتد أو يخف أو حتى ينعدم حسب وضع الشخص في القبيلة، فإذا كان من الوجهاء أو الأعيان أو السادة فإن القبيلة تهب في استجابة فورية لهذا النداء، كما حدث، على سبيل المثال، فيما يرويه ابن الأثير من غضب عمرو بن كلثوم حين أحس أن إهانة قد لحقت بأمه على يدي أم الأمير اللخمي عمرو بن هند فنادى آل قبيلته تغلب، واستجابت القبيلة للنداء وكان بعدها صدام مسلح انتهى لصالح التغلبيين32. ونحن نستطيع أن نقابل بين هذا وبين ما نستنتجه من شعر قاله قريط بن أنيف أحد بني العنبر "وهو شاعر مخضرم" وكان عدد من أفراد بني ذهل بن شيبان قد نهبوا عددًا من إبله فاستغاث بقوم فلم يغيثوه، فندَّد بموقفهم   32 ابن الأثير: الكامل في التاريخ، القاهرة 1348هـ، ج1، ص331. هذا وربما كان في رواية ابن الأثير الذي نقل ما ذكره عن الرواية العربية، شيء من تزيين الحوادث بتفصيلات مشوقة كما يحدث حين تنتقل الرواية شفاهًا لعدة قرون، ولكن يبقى الاتجاه العام واردًا في حدود ما وصل إلينا من شعر الجاهليين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 هذا في أبياته. والتفسير المنطقي هنا هو أن قريطًا ربما كان من طبقة العوام في قبيلته، ومن ثم لم يكن ما أصابه من أذى "سواء بالحق أو بالباطل" مدعاة لاهتمام بين أفرادها ليهبوا لمساندته، وهو يشرح لنا هذا الموقف بكل وضوح حين يقول: لو كنت من مازن لم تستبِحْ إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا إذن لقام بنصري معشر خُشُن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة هانا قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا33 كذلك فقد كان العرف المتبع في القبيلة يضع حواجز بين بعض فئاتها، فالعبيد الذين حرروا لا يصبحون أبناء للقبيلة وإنما يتحولون إلى موالٍ أو أتباع مهما قدموا من خدمات. والتصنيف ذاته ينطبق على أي غريب يلجأ للقبيلة لسبب أو لآخر ويطلب أن تحميه وأن يعيش في كنفها34. إنه هو الآخر يصبح من طبقة الموالي الذين لا يرقون إلى مرتبة أبناء القبيلة مهما تفانى في تأدية دوره في خدمة مصالحها والذود عن هذه المصالح. وهكذا تتكون بالتدريج داخل كل قبيلة فئة أو طبقة لا تشعر بالانتماء الكامل لها ويمكن أن تصبح عنصر انقسام بدلًا من أن تكون عنصر تماسك. والشيء ذاته نجده، في صورة أخرى في حالة الخلعاء، أي: أفراد القبيلة الذين تخلعهم القبيلة لتصرف أتوه ولم ترضَ القبيلة عنه. إن القبيلة تعلن على لسان سيدها أو شيخها أنها غير مسئولة عن تصرفاته؛ وبالتدريج تتكون مجموعة من المنبوذين عن المجتمع القبلي تشكل بدورها عنصرًا من عناصر الانقسام. هذا إلى وجود طبقة من المدقعين   33 "ديوان الحماسة, مختارات أبي تمام"، طبعة الرافعي، القاهرة, أولى قصائد الديوان. 34 hitti: ذاته ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 أو المعدمين من أفراد القبائل, كان فقرهم يدفع بهم إلى الحصول على رزقهم بكافة الطرق دون مراعاة لعرف القبيلة وتقاليدها، وهؤلاء هم صعاليك العرب الذين كان ينتهي بهم الأمر إلى الخروج على القبيلة والخروج من أرضها، لتتضخم بذلك طبقة غير المنتمين على اختلاف فئاتهم. بل أكثر من هذا فإنه حتى في حالة المنتمين من أفراد القبيلة، فإنهم رغم المساواة المفترضة بينهم، لم يكونوا كلهم سواء فعلًا، ولم يكونوا كلهم راضين عن معاملة القبيلة لهم. ولقد مر بنا أنه حتى في حالة الكلأ الذي كان مشاعًا بين جميع أفراد القبيلة، كانت هناك أحماء يتمتع بها أفراد بعينهم إلى جانب تمتعهم بميزات الكلأ العام35. وهو نوع من التمييز كان لا بد أن يشكل خطًّا، مهما كان باهتًا، يقسم القبيلة إلى طبقة من المتميزين وطبقة ممن لا يحظون بهذا الموقع المتميز. ونحن نلمس هذا الانقسام الطبقي بين سكان شبه الجزيرة في أكثر من شاهد. فالكاتب اليوناني أرتميدوروس يذكر لنا في مجال حديثه عن السبئيين أن "الملك ومن حوله يعيشون في بذح أنثوي"، كما سبق أن رأيناه يتحدث عن الطبقة الثرية من السبئيين والجرهائيين ليذكر أنهم يقتنون الأدوات المصنوعة من الذهب والفضة ويسكنون بيوتًا طعمت أبوابها وجدرانها وسقوفها بالعاج والذهب والفضة ورصعت بالأحجار النفيسة. هذا، إلى ما سبقت الإشارة إليه من امتلاك طبقة محددة تتكون من 3000 أسرة لكل أشجار الطيوب في العربية الجنوبية، ولحق التجارة في هذه الطيوب دون غيرهم. وأضيف هنا إلى هذا أن الوظائف في الدولة كانت قاصرة على أولاد الملوك، فإذا أدخلنا في اعتبارنا ما سبقت الإشارة إليه من أن منصب الملك كان بالتناوب بين أفراد الطبقة الأرستقراطية، كان معنى هذا أن وظائف الدولة هي الأخرى كانت   35 راجع الباب السابق الخاص بالموارد الاقتصادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 حكرًا على هذه الطبقة. وفي القرن السابع الميلادي نجد الظاهرة لا تزال موجودة، فالقرآن الكريم يتحدث عن فئة من المجتمع تكسب {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} وعن {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مشيرا بذلك إلى وجود طبقة أخرى من المعوزين لا تعود عليهم هذه الثروة بأي نفع يخفف من ضائقتهم, كما يسمي على الأقل واحدا من أثرياء مكة الذين جمعوا قدرا كبيرا من المال، وهو أبو لهب، ملمحًا إلى موقفه الطبقي المتعنت اعتمادا على ثروته36. كذلك نجد، في الجانب الآخر، تقسيمًا في مجتمع العربية الجنوبية في أواخر القرن الأول ق. م. وأوائل القرن الأول الميلادي، يصنف هذا المجتمع إلى فئات لها طابع طبقي؛ إلى فلاحين وحرفيين وعاملين في جمع المر واللبان، وهو تصنيف مانع لا يتغير من الآباء إلى الأجداد ولا يمكن أن يغير فيه أحد الأفراد مهنته لينتقل من فئة إلى فئة، ومن ثم فهو يكرس الطبقية في صورة حادة ومستمرة في الوقت ذاته. وقد زاد من حدة الوضع الطبقي أن طبقة أصحاب الحرف أو من كانوا يعملون بالأجر كان ينظر إليهم، كما مر بنا، على أنهم يمارسون عملا متدنيا، رغم حاجة المجتمع إليهم. أما في أوائل القرن السادس الميلادي فنحن نجد الشنفرى، أحد صعاليك العرب, يصف لنا حياة الجوع التي كان يمارسها والتي وصل من حدتها أنه كان يماطل الجوع ويستفُّ التراب حتى لا تظهر عليه آثاره فيشمت فيه أفراد الطبقة الأخرى، وهو وصف لا أرى فيه مبالغة إذا أدخلنا في اعتبارنا أن الشاعر   36 بذخ الملك ومن حوله في أرتميدوروس، منقول في سترابون strabo: XVI, 4: 19 عن بذخ السبئيين والجرهائيين. راجع الباب الثامن عن الموارد الاقتصادية في هذه الدراسة. إشارات القرآن الكريم إلى أصحاب الثروة بترتيب المتن في، سورة آل عمران: 14، التوبة: 34، تبت, أو ما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 كان لا يبغي من وراء شعره استعطافًا لأحد وأنه يفخر باعتزازه الشديد رغم جوعه الشديد: أديم مطال الجوع حتى أُميتَه ... وأضرب عنه الذكر صفحًا، فأذهل وأستفّ ترب الأرض كي لا يُرى له ... عليّ، من الطوْل, امرؤ متطول وأطوي على الخمص الحوايا، كما انطوت ... خيوطة ماريّ تغار وتفتل وأغدو على القوت الزهيد، كما غدا ... أزل تهاداه القنائف، أطحل كما نجد صعلوكًا آخر، وهو تأبط شرًّا، يعرض حياته لخطر محقق ليسرق قليلا من العسل من منحل في غار لبني هذيل، ثم يجد في احتياله حتى يفر من القتل نوعًا من الذكاء الذي يفخر به -الأمر الذي نستنتج منه مدى المعاناة التي كانت تمارسها هذه الطبقة، وبخاصة إذا عرفنا أن بني هذيل كانوا أعداء لتأبط شرًّا يتربصون به الدوائر، ومع ذلك فقد أقدم على المخاطرة في سبيل ما يسد به جوعه. فإذا وصلنا إلى القرن السابع الميلادي وجدنا القرآن الكريم يشير في شكل متواتر إلى طبقة متعددة الفئات من الذين تفصل بينهم وبين الطبقة الثرية هوة واسعة من بينهم السائلون والمساكين وأبناء السبيل واليتامى الذين يبدو أن العرف السائد في المجتمع لم يكن يضمن لهم أي نوع من الكفالة الاجتماعية، أو إذا وجدت هذه الكفالة الاجتماعية افتراضًا، كان المجتمع متهاونًا في الوسائل التي تمكن من وضعها موضع التنفيذ الفعلي37.   37 تقسيم المهن في strabo: XVI, 4:25، قارن كذلك أرتميدوس في سترابون، ذاته XVI, 4:92 حيث يذكر أن العامة يعملون في الزراعة ونقل الطيوب. الاستعلاء على أصحاب، عن الاستعلاء الطبقي على الذين يعملون في الحرف راجع الباب الثامن الخاص بالموارد الاقتصادية في هذه الدراسة. أبيات الشنفرى في شيخو والبستاني: المجاني، ص7، أبيات 21-22، 25-26. أبيات تأبط شرا في ذاته: ص11، أبيات 1-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وقد ظهرت آثار هذا التقسيم الطبقي الحاد، سواء أكان بموجب قوانين رسمية، أم كان نتيجة للممارسة الفعلية للطبقات الموجودة في المجتمع، أم كان سببه تصور يؤدي إلى نظرة استعلائية إزاء إحدى الفئات أو الطبقات وكانت محصلة هذه الآثار المترتبة على التقسيم الطبقي وجود طبقة متضررة تعبر عن معارضتها للأوضاع القائمة بأكثر من وسيلة. ففي العربية الجنوبية نسمع من النقوش التي عثر عليها المنقبون الأثريون عن جماعات من المزارعين تهرب من الأرض وتلجأ إلى المدن بكل ما يترتب على هذا من إلحاق الأذى بالزراعة وبالمحاصيل، وذلك رغم تشديد الحكومات على منع الهجرة وترك المزارع دون موافقة أصحاب الأرض. كذلك نجد القرآن الكريم يعطينا صورة للمعارضة التي كانت قائمة ضد الأوضاع السائدة في مجتمعات شبه الجزيرة في عصور ما قبل الإسلام والتي كانت تتبلور كلما ظهر أحد الرسل والأنبياء بدعوة تستهدف إصلاح أحوال المجتمع وكان صوت هذه المعارضة يبدو واضحا ومحددا في الانحياز إلى جانب أصحاب هذه الدعوات وفيما كان يثور بينهم وبين الطبقة المسيطرة على أمور المجتمع من محاجَّات ومجادلات. وأخيرًا فقد كانت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو وأتباعه من مكة إلى المدينة دليلا واضحا على مدى الانقسام المذكور ومدى التعنت الطبقي الذي كان يسود مجتمع شبه الجزيرة في الوقت الذي ظهرت فيه الدعوة الإسلامية38.   38 النقوش الخاصة بهرب المزارعين في RES, 4646, HALEVY, 147. عن إشارات القرآن الكريم إلى معارضة الأوضاع الطبقية السائدة راجع: صفحات 172-173 وحاشية 17 في الباب الخامس من هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الوضع الديني مدخل ... 2- الوضع الديني: وأنقل الحديث الآن إلى الوضع الديني أو الحياة الدينية التي عرفتها مجتمعات شبه الجزيرة العربية في العصور السابقة للإسلام؛ استكمالًا للتكوين الذي عرفته هذه المجتمعات والذي عرفنا شيئا عن موارده الاقتصادية ثم عن أوضاعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 السياسية والاجتماعية. ولن أخوض في تفاصيل هذا الوضع، وهي تفاصيل تخرج عن طبيعة هذه الدراسة التقديمية وعن نطاقها، ولكني مع ذلك أود أن أشير إلى عدد من الظواهر التي اتصلت بهذا الوضع سواء فيما يخص تطور العقائد الدينية أو فيما يخص الظروف التي أحاطت بالحياة الدينية المتصلة بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 أ- تطور العقائد الدينية وانتشارها : والظاهرة التي نلاحظها على تطور العقائد الدينية في شبه الجزيرة هي أن المنطقة عرفت عددًا من مراحل التطور الديني في العصور السابقة للإسلام, ولكن مع ذلك فإن هذا التطور لم يشمل كل أرجاء شبه الجزيرة في وقت واحد منتقلا بها كلها من مرحلة إلى مرحلة، وإنما ظهرت هذه المراحل بشكل متفرق في الأقسام المختلفة من شبه الجزيرة وكانت في بعض الأحيان تتجاور أو تتداخل حسب ظروف كل قسم من هذه الأقسام, ويشمل هذا التطور في عمومه مراحل أربعة. والعبادات التي تمثل المرحلة الأولى من مراحل هذا التطور الديني، إذا كانت قد ظهرت بين عدد من مجتمعات شبه الجزيرة في حياته البدائية قبل أن تصبح مجتمعات أكثر تطورًا وتقدمًا، وإذا كانت بعض آثارها قد ظلت موجودة في صورة أو أخرى في هذه المجتمعات حتى بعد تطورها، إلا أنها كانت السمة التي بقيت كظاهرة أساسية في مجتمع البادية. هذه المرحلة الأولى هي مرحلة عبادة أو تقديس أشياء مادية محددة مثل: الأحجار والأشجار والكهوف وينابيع المياه، وهي أشياء يرى البدوي أنها تفيده في حياته اليومية. فالأحجار، وبخاصة ما كان منها يختلف عن اللون الرملي المعتاد في الصحراء، مثل الحجر الأسود "وفي بعض الأحيان الحجر الناصع البياض" أو إذا كانت بارزة في مظهرها بشكل أو بآخر، كان وجودها في مكان ما يشكل إشارة يستدل بها البدوي على طريقه في مناطق قد تتشابه فيها الرمال في كل الاتجاهات ومن ثم يصبح فيه البدوي على طريقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 معرضًا لأن يضل طريقه في أثناء تنقله من مكان إلى مكان. والأشجار وبخاصة شجرة النخيل كانت تشكل عنصرا أساسيا في حياة البدوي يعتمد على تمرها كغذاء رئيسي ويعتمد على أجزاء أخرى منها لتغطية حاجات وضرورات أخرى في حياته اليومية، والشجرة تصبح أكثر أهمية ومن ثم أكثر قداسة بالنسبة له في المناطق التي يقل فيها الشجر؛ وبالتالي تصبح شيئا يعتمد عليه البدوي ويلتصق به بدرجة أكبر. والكهوف تمثل في الصحراء نقطة الحماية التي يلجأ إليها البدوي للاحتماء من الشمس أو من الأعداء، وقد لجأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو ورفيقه أبو بكر الصديق إلى غار حراء، على سبيل المثال، للاحتماء من متتبعيه من قريش في الفترة التي ضيقت هذه خلالها الخناق عليه هو وأتباعه. أما ينابيع المياه فهي بالضرورة نبع الحياة في الامتدادات الصحراوية المقفرة التي لا تعرف الأنهار وقد تمر سنوات متتابعة لا تنزل بها الأمطار، وإذا نزلت فهي تنزل بغير انتظام وتكون قصيرة المدى رغم شدتها التي قد تبلغ مبلغ السيل في بعض الأحيان. وهذا النوع من العبادة أو التقديس هو ما يعرف باسم "الأرواحية" أو حيوية المادة ANIMISM أي أن يتصور المرء أن هناك روحًا تحل في هذه الأشياء فتعطيها هذه الفائدة الحيوية بالنسبة له. وربما لم يصل الأمر دائما إلى عبادة هذه الأشياء أو على الأقل إلى عبادتها بصفة دائمة، ولكن تقديسها ظل قائما في كل الأحوال، حتى حين انتقل البدوي إلى مرحلة دينية أكثر تطورًا حين بدأ يعتقد في قوى إلهية أكثر شمولا وأكثر تجريدا، كما حدث عندما ظهرت في منطقة الحجاز أو انتقلت إليها عبادات اللات والعزى ومناة وبعل39.   39 وجدت هذه العبادات في فترات مبكرة في العربية الشمالية ومن المحتمل أن تكون قد انتقلت إلى الحجاز من هناك. عن وجود اللات في العربية الشمالية انظر HERODOTUS: iii, 83 وترجع الإشارة إلى أواسط القرن الخامس وهو الوقت الذي كتب فيه هيرودوتوس. عن وجود اللات والعزى في مملكة الأنباط راجع dussaud: ذاته، صفحات 44-45، عن وجودهما في تدمر راجع، ذاته: المرجع ذاته، صفحات 102-103, وكذلك اللوحتين 21-22 في الصفحتين ذاتهما، المعبودة مناة في تدمر، ذاته: ذات المرجع، ص90، بعل عند الكنعانيين منذ فترة مبكرة، ذاته: ص195. 40 عن اللات، ابن الكلبي ص16. عن العزى، ذاته، صفحات 18-20 و24-27. عن مناة، ذاته، ص13. عن زمزم، ابن هشام: السيرة، 71. عن الزرع البعل، hitti: ص97. قارن مع اللات، المعبود "ذو شارة" الذي كان حجرا أسود كبيرا في البتراء والذي كان على رأس المجمع الإلهي النبطي، راجع hitti: ذاته, ص72، كذلك dussaud: ذاته، صفحات 30 و42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وهنا نجد "اللات" وهي القوة الإلهية بالدرجة الأولى ويمثلها في الطائف حجر مربع، والعزى "الزهراء التي تقابل فينوس عند الرومان" وهي الآلهة التي يشير اسمها إلى القوة وكانت تمثل عند قريش أقدس القوى الإلهية, كانت تمثلها شجرة في منطقة "نخلة" الواقعة إلى شرقي مكة، وكان محرابها يتكون من ثلاث شجرات، بينما كان القرشيون يقدمون إليها القرابين من الضحايا البشرية في كهف مقدس بالمنطقة يدعى كهف "غَبْغَبْ". و"مناة" الآلهة التي كانت تمثل القدر, كان محرابها أو رمزها الأساسي حجرًا أسودَ في موقع "القديد" على الطريق بين مكة ويثرب. أما الإله "بعل" الذي انتقلت عبادته من المنطقة السورية إلى الحجاز فقد ارتبطت عبادته بالينابيع والمياه الجوفية التي تروي الأشجار، ويشير باحث معاصر إلى أن آثار هذا الارتباط قد ظلت مستمرة حتى تركت أثرها في نظام الضرائب التي كانت تجبى على المزروعات في العصر الإسلامي، إذ كانت قيمة الضريبة تختلف بين زراعة البعل "أي: التي لا تحتاج إلى ري بالطرق المعتادة" وبين الزراعات الأخرى. وشبيه من هذا بئر زمزم التي كانت تعتبر مياهها مقدسة في الفترة السابقة للإسلام على أساس ارتباطها بقصة إسماعيل -عليه السلام- وزوجته هاجر40. أما المرحلة التالية فهي عبادة الكواكب التي عرفتها بوجه خاص العربية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 الجنوبية, وكان أهم هذه الكواكب هو الثالوث الذي يمثله القمر والشمس والزهراء, وكان الأول بين أركان هذا الثالوث هو القمر الذي عرفه السبئيون باسم "المقه" والمعينيون باسم "ودّ" "ربما تعني الحب أو المحب أو الأب" والحضرميون باسم "سن" والقتبانيون باسم "عم" "أي العم". وكانت زوجته الإلهية هي الشمس التي أطلقت عليها تسمية "ذات حمم" عند السبئيين و"نكرح" عند المعينيين ثم ابنهما الإلهي الذي عرف عند المعينيين باسم "عثتر" وهو كوكب الزهراء41. وعبادة هذا الثالوث من الكواكب تمثل في حقيقة الأمر تداخلًا بين مرحتلين من مراحل تطور المجتمع. فعبادة القمر والزهراء هي عبادات مجتمع رعي في المقام الأول، فالانتقال في البادية, حيث يحدث أن تتشابه الاتجاهات وبخاصة في الليل، يكون فيه ضوء القمر وسيلة لتوضيح المعالم والشيء ذاته، بالنسبة لكوكب الزهراء الذي يمكن التعرف على الوقت والاتجاه من خلاله، ولكن ربما كانت القيمة الأساسية هي أن القمر بالذات يرمز إلى فترة الليل حيث تهبط درجة الحرارة وتتكثف الأبخرة الموجودة في الجو لتتحول إلى ندى يبعث الحياة في العشب الذي تتكون منه المراعي، بينما ينظر البدوي إلى الشمس على أنها عدوه الأول حيث تحرق بشواظها الذي ينبعث مع أشعتها النارية هذا العشب, ومن ثم تدمر المقوم الأول للحياة الرعوية. هذا بينما أشعة الشمس بالنسبة للمجتمعات الزراعية هي التي تعطي النماء للزراعة وهي التي تنضج المحصول42. وقد كانت العربية الجنوبية منطقة زراعية في المقام الأول، ولكنها عرفت شيئًا من الرعي كذلك في بعض مناطقها، وأكثر من ذلك فإن الرعي يمثل مرحلة مبكرة تظهر عادة في المجتمعات قبل مرحلة الزراعة التي تمثل بالضرورة مرحلة أكثر استقرارًا ومن ثم أكثر تطورًا.   41 جواد علي: ذاته، صفحات 114-115. 42 hitti: ذاته، صفحات 97-98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ولكن مع ذلك فعبادة القمر قد ظلت في مكان متفوق على عبادة الشمس كما شهدنا في هذا التكوين الكوكبي الثلاثي، وهذا في حد ذاته يمثل نوعًا من دأب العبادات القديمة في الاستمرار حتى بعد أن يكون المجتمع قد تطور إلى مرحلة جديدة، ومن ثم يمثل نوعًا من التداخل الذي يجمع بين عبادات تنتمي إلى مراحل مختلفة من تطور المجتمع. والظاهرة ليست في الواقع غريبة على العالم القديم أو حتى على المنطقة التي وجدت شبه الجزيرة العربية في وسطها, ففي إحدى أساطير وادي الرافدين نجد حوارًا يشير إلى هذا الدأب في الاستمرار بين دوموزي dumuzi "تمّوز" الذين كان إلهًا أو نصف إله للرعي وإنكمدو Enkimdu الذي كان إلها أو نصف إله للزراعة. ورغم أن وادي الرافدين كان قد تحول في الفترة التي تنتمي إليها القصيدة التي تحتوي على هذه الأسطورة "وهي الفترة السومرية التي انتهت حوالي 2400 ق. م" إلى مجتمع زراعي أساسًا إلا أن الحوار الذي يوجد في القصيدة بين هذين الإلهين أو شبه الإلهين على خطب ود الآلهة إنانّا "عشتار" يشير إلى أن دوموزي الذي يمثل الرعي هو الذي كسب الموقف43. والمرحلة الثالثة في هذا التطور الديني تمثلها عبادة الشمس "شمش" التي تشير إلى مجتمع مستقر يقوم أساسًا على الزراعة، وهذه نجدها في مملكة الأنباط وفي تدمر44. وحقيقة إن كلًّا من المنطقتين لم تكن تمثل مجتمعًا زراعيًّا صرفا، فتدمر كانت واحة غنية بنخيلها ولكن المناطق المحيطة بها والتي كانت تعتبر امتدادا لها كانت مناطق صحراوية بدوية، والشيء ذاته يقال عن مملكة الأنباط التي تعتبر شبه واحة توجد فيها الزراعة في وادي موسى حول مدينة   43 نص القصيدة في ANET، صفحات 41-42. 44 عن عبادة الشمس في البتراء راجع DUSSAUD: ذاته، صفحات 93، 103، راجع كذلك لوحة 21 في, ذاته ص102. عن وجود عبادة الشمس في شمال الجزيرة العربية عمومًا، ذاته، ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 البتراء عاصمة المملكة ولكن توجد فيها كذلك مناطق صحراوية لا يجود فيها إلا الرعي. ولكن لنا أن نتصور هنا أن عددًا من العوامل أدى إلى انتصار عبادة الشمس، عبادة المجتمع الزراعي المستقر أساسا، رغم هذا التداخل الرعوي الزراعي. فالقسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية, حيث توجد هاتان المنطقتان, قريب من حضارتين زراعيتين مستقرتين ومتصل بهما وبما يستتبعه هذا من تأثيرات عن طريق طرق المواصلات التجارية، وهما حضارة مصر في الغرب حيث كان "رع" إله الشمس هو الإله الأول، وحضارة وادي الرافدين في الشرق حيث تطور المجتمع إلى مجتمع زراعي كثيف في المراحل اللاحقة للفترة السومرية "وقد عاصرت المملكتان، النبطية والتدمرية، مرحلة من هذه المراحل اللاحقة" حين أصبح "شَمَس" إله الشمس أحد الآلهة الرئيسة في مجمع الآلهة في وادي الرافدين. كذلك فإن المنطقتين تقعان في القسم الشمالي لشبه الجزيرة العربية حيث تخف درجة الحرارة بشكل ملحوظ عما هو موجود في وسط شبه الجزيرة أو في جنوبها، ومن ثم لا تصبح الشمس عدوًّا يحرق الكلأ بالأشعة النارية. كذلك فإن المجتمع النبطي والمجتمع التدمري بثرائهما التجاري وما ترتب على ذلك من رخاء واستقرار عن طريق تحكمهما في مواقع حيوية على الخطوط التجارية البرية في شبه الجزيرة، كانا بالضرورة مجتمعين تنشط فيهما كافة أنواع المعاملات الخاصة بالتجارة وما يتصل بها من صفقات واتفاقات وأسواق وحسابات وخدمات تجعل الحياة اليومية خلية نشاط في وضح النهار وتصبح فيها الشمس صديقًا للتاجر وليست عدوًّا ينتظر غروبه ليأتي الليل بنسيمه وقمره ونداه الذي يحيي العشب. وأود في ختام الحديث عن هذه المراحل الثلاث من التطور الديني في شبه الجزيرة, وقبل أن أنتقل إلى المرحلة الرابعة من هذا التطور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 "وهي مرحلة التوحيد"، أن أشير إلى ظاهرة جديرة بالاهتمام، وهي أن اتجاهًا نحو التوحيد الذي لم يكتمل كان قد بدأ يظهر في مجتمع شبه الجزيرة العربية إلى جانب وجود المعبودات التي عرفها العرب في أثناء وجود هذه المراحل، وهو اتجاه يرجع ظهوره إلى فترة مبكرة. وفي هذا الصدد فقد ظهر معبود تحت اسم "الله" في سورية ثم رفعه السوريون إلى مرتبة الإله الأكبر. وقد انتقلت عبادته إلى اللحيانيين "شمالي الحجاز" بهذه الصفة "صفة كبير الآلهة" عن طريق التعامل التجاري على أرجح تقدير، ثم انتشرت في فترات لاحقة، وبدرجات متفاوتة، في كل أرجاء شبه الجزيرة تقريبا كما يتضح من عدد كبير من النقوش المنتشرة فيها، والتي ترد فيها أسماء مثل: سعد الله، ووهب الله، وزيد الله، وحرم الله، ومرء الله، كما ترد فيها ابتهالات مثل: "يا الله اهدني" و"يا الله مكني من تحقيق الخلاص" و"يا الله امنحه السلام" و"يا الله ارفع عنه ما يسوءه" وهكذا أ.   أالنقوش الأصلية منقولة في: winnet, F.V. and Reed, W.L: ancient records from north arabia "toronto, 1970", dedanite and lihyanite inscriptions, 10 11, 14, pp, 127, 129. winnet, F.V.: allah before islam "the moslem world, XXVIII, 1938", pp. 241-2. عن مدى انتشار النقوش التي يرد فيها اسم "الله": يوجد في جنوبي شبه الجزيرة نقشان: أحدهما سبئي والثاني معيني، وفي شمالي شبه الجزيرة 6 نقوش لحيانية مبكرة، 28 نقشا لحيانيا متأخرا, ونقش ثمودي مبكر, و4 نقوش ثمودية متأخرة وحمسة نقوش صفوية وعديد من النقوش النبطية موجودة بكاملها في: "الجزء الثاني" cantineau: le nabateen. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 والذي يؤكد أن هذه النقوش تشير إلى الاتجاه نحو التوحيد، وإن لم يكن قد اكتمل بعد كما ذكرت من لحظات، هو المضمون الذي تحتوي عليه بعض هذه النقوش، والصفة التي ترد في البعض الآخر لوصف المعبود الله. وعلى سبيل المثال فإن هناك نقشًا لحيانيًّا مبكرًا نقرأ فيه "عبد مناة الصادق، امنحه يا الله العمر الطويل والحظ السعيد" وهو تعبير يشير بوضوح إلى عبادة المعبودة "مناة" من جهة ولكنه يشير من جهة أخرى إلى أن "الله" هو المعبود الرئيسي دون منازع. كذلك فإن هناك نقشين ثموديين ترد فيهما صفة "الأبتر" بعد ذكر المعبود "الله" وهي صفة تشير إلى من لا ولد له وهو المعنى المباشر الذي سار عليه أحد الباحثين المعاصرين، كما أن باحثًا آخر رأى فيها معنى "الوحيد" والصفتان من صفات التوحيد دون شك وتردان في القرآن الكريم بهذا المعنى التوحيدي ب. وقد ظهر المعبود "الله" بهذه الصفة التي تمثل خطوة أولى على سبيل التوحيد في نقوش اللحيانيين منذ القرن الخامس ق. م. وعند الثموديين في نقوش ترجع إلى القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد. ولا نعرف متى بدأت عبادة "الله" بهذه الصفة في الحجاز، ولكن على أي الأحوال يبدو أنها كانت قد سادت وتمكنت في قبيلة قريش على الأقل قبل ظهور الدعوة الإسلامية, ودليل ذلك أن الإشارة إليه ترد في القرآن الكريم في عدد من الآيات مثل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} والسؤال هنا موجه إلى الجاهليين من قريش قبل أن يسلموا، ومن ثم يكون المقصود بلفظة "الله" هنا هو المعبود الجاهلي وليس الله سبحانه وتعالى كما يعرفه المسلمون. والصفة الأساسية لهذا المعبود وهي   ب النقش اللحياني رقمه js 8، والنقشان الثموديان hu 475, 643. إشارة القرآن الكريم في سورة الإخلاص: 1، 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 أنه على رأس المعبودات الأخرى عند أهل قريش تظهر من آيات قرآنية أخرى من بينها: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ومن الواضح أن "الله" الذي يتحدث عنه القرشيون الجاهليون هو "الله" المعبود الجاهلي الذي كانت عبادته قائمة إلى جانب المعبودات الصغر، وهو ما يتطابق مع النص اللحياني الذي سبقت الإشارة إليه ج. ثم نأتي بعد ذلك إلى المرحلة الرابعة التي وجدت جبنا إلى جنب في بعض أقسام شبه الجزيرة مع واحدة أو أخرى من هذه العبادات السابقة. وهذه المرحلة تمثلها عقائد التوحيد وهي   ج راجع نفس المعنى في القرآن الكريم، الزمر: 3، الأنعام: 148، النحل: 35، لقمان: 24. هذا، وتجدر الإشارة هنا إلى أن عبادة "الله" بهذه الصفة قد تسربت إلى شبه الجزيرة العربية من المنطقة السورية، وأنها تركزت في المنطقة أول ما تركزت عند اللحيانيين "شمالي الحجاز" الذين نجد عندهم، كما أسلفت، أولى الإشارات في شبه الجزيرة إلى هذا المعبود. أما عن الثموديين فربما أخذوا هذه العقيدة عن اللحيانيين وربما أخذوها مباشرة عن السوريين وهو الأرجح، إذ إن لفظة "الأبتر" التي ترد في نصوصهم كصفة لهذا المعبود لا توجد في النصوص اللحيانية مما يشير بشكل قوي إلى أنهم أخذوا العبادة من منطقة أخرى غير منطقة اللحيانيين، كذلك يبدو من النصوص التي عثر عليها حتى الآن أن انتشار العبادة في جنوبي شبه الجزيرة لم يكن بنفس الاتساع الذي كان في الشمال، إذ إن هناك نصين فقط ترد فيهما الإشارة إلى "الله" باللغة العربية الجنوبية، وحتى أحد هذين النصين عثر عليه في منطقة العلا "في القسم الشمالي العربي من شبه الجزيرة"، ومن هنا يصبح هناك نص واحد مكتوب باللغة العربية الجنوبية وموجود في جنوبي شبه الجزيرة فعلا، في مقابل النصوص العديدة التي ترد فيها عبادة "الله" في القسم الشمالي من شبه الجزيرة. راجع: winnett، ذاته، صفحات 245-248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 المسيحية واليهودية ثم الحنيفية التي كانت نوعًا من عقائد التوحيد التي تبتعد عن تفصيلات هاتين الديانتين لتتبع خطوطًا رئيسة بسيطة ظهرت في عقيدة إبراهيم -عليه السلام- وهنا كذلك نجد أن هذه الأديان الثلاث تجاوزت مع مراحل أخرى من مراحل التطور الديني في عدد من أقسام شبه الجزيرة. ففي العربية الجنوبية تجاورت المسيحية واليهودية مع مرحلة عبادة الكواكب وأصبحت اليهودية في عهد "ذو نواس" "الربع الأول من القرن السادس الميلادي" عقيدة رسمية يدين بها الحاكم. وفي إمارة اللخميين تجاورت المسيحية عند الشعب مع الوثنية عند الأسرة الحاكمة التي لم تشذ عنها إلا في حالة حاكم واحد هو النعمان الثالث أبو قابوس "حوالي 580-602م" الذي اعتنق المسيحية. وفي الحجاز تجاورت العقائد التوحيدية الثلاثة مع المراحل الأولى للتطور الديني حيث عبادة الأحجار والأشجار وتقديس الكهوف والينابيع، وحيث عبادة الكواكب التي كانت قد تحولت إليها في صورة من الصور عبادات اللات والعزى ومناة في الفترة الأخيرة قبل الإسلام، وفي إمارة الغساسنة، كانت الأسرة الحاكمة والرعية قد تحولت إلى المسيحية بعد ظهور هذه الأسرة في عصر الإمبراطورية البيزنطية. أما الظاهرة الثانية التي نلاحظها على تطور العقائد الدينية في شبه الجزيرة في عصر ما قبل الإسلام، فهي تخص انتشار العقائد التي وجدت في المنطقة. وفي هذا المجال نلمس عددا من التأثيرات الدينية التي تعرضت لها المنطقة والتي أتت من المناطق المجاورة لها، وهي ظاهرة لا تبدو غريبة في العصور القديمة التي عرفت هجرة العقائد الدينية أو التأثيرات والأساطير المرتبطة بها من منطقة إلى منطقة أخرى, "إذ كانت هجرة العقائد الدينية أو انتشار تأثيراتها تقابل انتقال العقائد السياسية وتأثيراتها في العصر الحاضر من منطقة إلى مناطق أخرى" كما حدث في انتقال الأساطير المتصلة بعشتار وتموز "إنانّا ودموزي" من وادي الرافدين لتظهر في أساطير برسيفوني وأدونيس في العقائد الدينية اليونانية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وكما حدث في انتقال عبادة آمون المصرية إلى بلاد اليونان وانتقال عبادة إيزيس المصرية كذلك إلى العالم اليوناني الروماني. وفي هذا المجال، وفيما يخص شبه الجزيرة العربية، نجد عددا من الأمثلة. ففي دولة الأنباط نجد المعبود "ذو شارة" الذي رأينا أنه كان يتمثل في حجر مكعب كبير أسود، ينظر إليه في العصر المتأغرق "ما بعد الإسكندر الأكبر المقدوني" على أنه إله الكروم التي يرجح أن زراعتها قد وجدت طريقها إلى المنطقة من بلاد اليونان في تلك الفترة، ومن ثم فقد أدخلت على عبادته خصائص من عبادة الإله "ديونيسوس DIONYSOS" أو باخوس BACCHOS وهو أحد أسماء هذا الإله الأخير "الذي كان إلها للكروم عند اليونان". كذلك نجد في مملكة تدمر الإله "بل" وهو بابلي الأصل يأخذ مكانه على قمة المجمع الإلهي التدمري45، والإله "بعل شامين" "سيد السموات" الذي تشير تسميته ذاتها إلى خصائص الإله آنو الذي عرفته منطقة وادي الرافدين إلهًا للسماء. أما اليهودية التي وجدت طريقها إلى بعض المناطق في العربية الشمالية مثل: تيماء والحجاز وإلى العربية الجنوبية حيث انتشرت بشكل خاص في ظل المملكة الحميرية الثانية "بعد 300م" ووصل انتشارها إلى أقصاه في الفترة المبكرة من القرن السادس الميلادي كما مر بنا، فقد يرجع انتشارها في شبه الجزيرة في نسبة منه إلى فرار عدد من العبرانيين إلى القسم الشمالي من شبه الجزيرة بوجه خاص على أثر تدمير الوالي الروماني بيتوس لأورشليم "القدس"   45 عن "ذو شارة" وديونيسوس: انظر HERODOTUS: III, 8 "ويشير المؤرخ إلى ذي شارة تحت اسم orotait" وتقابل "أعارة" وهو الاسم الذي عرف به قبل مجيء الأنباط. راجع المطابقة بين التسمية المبكرة وتسمية هوميروس والتسمية النبطية في dussaud: ذاته، صفحات 30، 42، 56. عن الأصل البابلي للإله التدمري، dussaud: ذاته، صفحات 93-94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 في 70م. ولكن مع ذلك فهناك دليلان يشيران إلى أن هذا الانتشار لم يكن يشكل هجرة عبرانية واسعة إلى المنطقة بقدر ما كان يشكل تأثيرا دينيا يهوديا عرف طريقه إليها بطريقة ما رغم الطبيعة العنصرية المتقوقعة المعروفة عن هذه الديانة, أحدهما: هي أن أغلب الأسماء التي وصلت إلينا عن يهود شبه الجزيرة العربية ليست أسماء عبرانية، وإنما أسماء عربية أو آرامية لأشخاص يبدو أنهم اتخذوا اليهودية دينًا لهم لسبب أو لآخر46. والدليل الآخر هو أن الشاعر الوحيد من بين عدد من الشعراء اليهود الذين تحدث الكتاب العرب عن وجودهم في شبه الجزيرة العربية، والذي ترك لنا قدرا من الشعر يصلح أن يكون ديوانا، وهو السموأل بن عادياء الذي يبدو أنه كان أحد أثرياء تيماء، لا نجد في شعره ما يجعله يختلف في تصوراته أو منطلقات هذه التصرفات عن تصورات العرب الوثنيين ومنطلقاتها47. الأمر الذي يجعلنا نشك في أنه كان عبرانيًّا، بقدر ما يوحي بأنه كان عربيًّا اتخذ الديانة اليهودية في عمومها التي كانت تهمه "وربما فعل ذلك هو وغيره" حين وجد أن قيم الحياة الوثنية الشائعة في شبه الجزيرة لم تعد تغطي القيم الاجتماعية أو الروحية التي كان يحس بحاجته إليها. أما عن اليهودية في اليمن خاصة, فأرجح أنها انتشرت هناك للسبب نفسه إلى جانب سبب آخر هو ما وصل إليه رجال الدين في العربية الجنوبية من سطوة تحولوا معها إلى طبقة لها امتيازاتها الواسعة التي كانت تزحف على سلطات الملك ذاته في بعض الأحيان كما رأينا، على سبيل المثال، في حالة المملكة السبئية الثانية حين انتزع رجال الدين الصلاحيات الدينية من سلطان الملك. وقد كانت هذه السطوة التي تمتع بها رجال الدين تساند الطبقة الأرستقراطية   46 hitti: ذاته، ص61. 47 ذاته، المرجع ذاته، ص107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 من محتكري امتلاك غابات الطيوب والتجارة في نتاجها48. وأمام التقسيم الطبقي الحاد الذي وجد في المجتمع كان من السهل أن ينتقل قسم من المجتمع إلى عقيدة دينية جديدة يلتف حولها في دفاع طبقي عن نفسه. أما المسيحية فقد دخلت تأثيراتها من خارج شبه الجزيرة كذلك, ومن المرجح أنها نجحت في الانتشار في العربية الجنوبية للسبب ذاته الذي رأيناه في انتشار اليهودية. وقد بدأت المسيحية في الواقع تتسرب إلى العربية الجنوبية في فترة مبكرة عن طريق بعض رجال الدين المسيحيين الذين فروا أمام الاضطهادات الدينية في سورية في فترات لا نعرف تحديدها. ولكن أول بعثة دينية مسيحية نسمع عنها إلى العربية الجنوبية أرسلها الإمبراطور البيزنطي قسطنطين في 356م تحت قيادة ثيوفيلوس إندوس theophilus indus لأسباب سياسية تتعلق بمحاولة مد النفوذ البيزنطي إلى اليمن في فترة اشتد فيها الصراع البيزنطي الفارسي حول السيطرة على منطقة الشرق الأوسط وتخومه. أما عن المسيحية عند الغساسنة فقد جاءت نتيجة تفاعل بين تأثيرات خارجية ومعطيات محلية، فقد كانت إمارة الغساسنة إمارة تابعة للدولة البيزنطية في فترة كانت هذه الدولة خلالها تعتبر نفسها مسئولة عن المسيحية وانتشارها, والمسيحيين في العالم الشرقي. ومن هنا انتشرت العقيدة المسيحية بين الغساسنة, ولكن الطابع المحلي السوري الذي يتناسب مع اتجاهات المنطقة المحيطة على أكثر من صعيد أعطاها المذهب المونوفيزي أو مذهب أصحاب الطبيعة الواحدة. وشيء مماثل يمكن أن يقال عن انتشار المسيحية بين بعض طبقات الشعب في الحيرة "وليس على المستوى الحكومي إلا في مثال واحد هو النعمان الثالث" فقد انتشرت المسيحية هناك من مصدر سوري، فإذا وصلنا إلى   48 راجع الحديث عن الوضع السياسي والوضع الاجتماعي أعلاه في هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 داخل الجزيرة وجدنا تسربات مسيحية إلى الحجاز من الحيرة ومن سورية ومن بيزنطة التي عرف التجار العرب طريقهم إليها بشكل أو بآخر. يشهد على ذلك بعض الأسماء العربية في المنطقة في الفترة السابقة للإسلام مثل: داود وعيسى وسليمان49. على أننا يجب ألا نبالغ في هذه التأثيرات المسيحية في المنطقة، إذ يبدو أن انتشارها لم يكن واسعًا. وفي هذا المجال فنحن نجد بعض إشارات التوحيد في أشعار الجاهليين الذين ينتمون إلى هذه المنطقة مثل أشعار أمية بن أبي الصلت ونسمع عن اعتناق للمسيحية عند بعض الأفراد البارزين في المجتمع الحجازي مثل ورقة بن نوفل وربما كانوا كذلك ولكن من المحتمل كذلك أن يكونوا من هذه الفئة التي لم تعد الوثنية البدائية تغطي تطلعاتهم نحو قيم اجتماعية وروحية أكثر تطورا وتقدما فعمدوا إلى اعتناق خطوط توحيدية عامة في عقيدة إبراهيم -عليه السلام- وسموا بالحنيفية50.   49 HITTI ذاته، ص106. 50 الإشارة إلى الحنيفية في القرآن الكريم، سورة البقرة: 135، آل عمران: 67 و95، النساء: 125، الأنعام: 79 و161، يونس: 105، النحل: 120 و123، الروم: 30، الحج: 31, البينة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ب- الظروف المحيطة بالحياة الدينية : فإذا تركنا العقائد الدينية ذاتها، سواء فيما يخص تطورها أو انتشارها, وانتقلنا إلى الحديث عن الظروف التي أحاطت بممارستها نجد ظاهرتين واضحتين. وإحدى هاتين الظاهرتين هي المركز القوي أو المؤثر الذي تمتع به رجال الدين في أكثر من قسم من أقسام شبه الجزيرة كما نستطيع أن نستنتج بوضوح سواء من المخلفات الأثرية أو من الكتابات التي تركها لنا الكتاب الكلاسيكيون. وأحد المؤشرات إلى هذا الوضع هو العدد الكبير من المعابد الذي عرفته منطقة العربية الجنوبية على سبيل المثال. لقد كانت كثرة عدد المعابد في مدن هذه المنطقة وبذخها إحدى الظواهر التي شدت انتباه الكتاب الكلاسيكيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 أو التجار والجنود والبحارة اليونان والرومان الذين أخذ عنهم هؤلاء الكتاب معلوماتهم في بعض الأحيان. وهنا نجد الكاتب الروماني بلينيوس يحدثنا عن عدد هائل من المعابد في مدن هذه المنطقة، فمدينة شبوه SABOTA عاصمة حضرموت بها 60 معبدًا, ومدينة تمنع Thomna عاصمة قتبان بها 65 معبدًا. ولم يكن الأمر قاصرا على هذا العدد الهائل من المعابد، بل يبدو أن شيئا غير قليل من البذخ والعناية كان ظاهرا في بناء هذه المعابد, إذ كان هذا يصل في مستواه إلى مستوى ما يبذل في بناء القصور الملكية ذاتها كما نستنتج من حديث الجغرافي اليوناني سترابون الذي يتحدث عن مدن العربية الجنوبية التي "يزينها جمال المعابد والقصور الملكية". ونحن نجد مصداقا لهذا الكلام في آثار معبد المقه، إله القمر عند السبئيين, التي كشفت عنها في أواسط هذا القرن البعثة المصرية برئاسة أحمد فخري ثم استكملت أعمال التنقيب البعثة الأمريكية برئاسة وندل فيليبس51. وشيء قريب من هذا نجده في مدينة تدمر التي كان مجمعها الإلهي يزيد على عشرين معبودا، ولا بد أن عددا كبيرا من المعابد التي بنيت على قدر كبير من البذخ كانت تزينها، إذ رغم ما أصابها من تدمير شامل على يد الجيش الروماني بقيادة الإمبراطور أورليانوس aurehanus في 273م لا يزال مستوى البذخ المعماري الذي تميزت به مبانيها يطل علينا من بقاياها الأثرية،   51 strabo: XVI, 4: 3, plinius: HN, VI, 153. عن معبد المقه راجع: ahmad fakhry: an archaelogical journey to yemen "1952 cairo" راجع كذلك Wendell ph'lips: qataban and sheba صفحات 251 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 كما لا يزال هناك عدد من بقايا معابدها ومبانيها الدينية الأخرى مثل معبد "بل" ومعبد "بعل شمين" والأبراج الجنائزية المضلعة "المربعة", وعدد من التوابيت التي وجدت في مغارة الجديدة، تزينها مناظر من النحت البارز تشهد بعظمة المستوى الفني وبالعناية الفائقة التي كانت تبذل في المجال الديني52. ومثل هذه العناية التي بلغت مبلغ البذخ بالمعابد تشير دون شك إلى مدى القوة التي كان يتمتع بها رجال الدين في تلك المناطق, وهي قوة يبدو أنها كانت موجودة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فعلى الصعيد الاقتصادي كان لرجال الدين حق معلوم من محصول اللبان ابتداء من جمعه ومرورًا بتسويقه وانتهاء بنقله. وهنا يحدثنا الكاتب الروماني بلينيوس عن الالتزام الشديد بالمراسم الدينية التي كانت تصاحب جمع اللبان، كما يذكرنا أن أحمال هذه السلعة المجزية كان لا يسمح لها بأن توضع في سوق شبوه "عاصمة حضرموت" قبل أن يحصل رجال الدين منها على الحصة المخصصة للإله، والشيء ذاته كان يحدث عندما تمر القوافل التجارية بهذه الأحمال في منطقة قتبان، فهنا كذلك كان لرجال الدين حصة من الطيوب لا بد من الوفاء بها53. ولنا أن نتصور مقدار الثروة التي كان يحصل عليها رجال الدين من "حقهم" في هذه الطيوب إذا أدخلنا في اعتبارنا عاملين: أحدهما هو مستوى البذخ الذي كانت عليه المعابد التي رأينا كيف أنها كانت من نفس مستوى القصور الملكية، والآخر هو الأثمان الباهظة التي كانت تباع بها الطيوب في العصر القديم كما رأينا في مناسبة سابقة، وهكذا قد لا نبتعد كثيرًا عن الصواب إذا قلنا: إن طبقة رجال الدين كانت، إلى جانب ما تحرقه من هذه الطيوب   52 عن عدد الآلهة راجع dussaud: ذاته، صفحات 90-91. عن الاثار راجع، kammerer: ذاته، الجزء الثاني الخاص بالأطلس واللوحات، لوحات: 115، 116، 118 "1"، 120 "2". 53 plinius: HN, XII, 54, 63-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 بالضرورة في المعابد، كانت تحصل على دخل كبير من التجارة التي كان لا بد أن تمارسها في هذا المجال. ولعل هذه القوة الاقتصادية هي التي انعكست على الصعيد السياسي في واحدة على الأقل من هذه الممالك العربية الجنوبية، وهي مملكة سبأ، التي رأينا رجال الدين فيها ينتزعون الصلاحيات الدينية من يد الملوك بعد أقل من قرن ونصف قرن من قيام هذه المملكة، لينفردوا بها "منذ حوالي 610 ق. م" نحو خمسة قرون كاملة54. وقد كان السلطة المترتبة على الصلاحيات الدينية في العصر القديم هي إحدى السلطات الرئيسة في نظم الحكم في المجتمعات المستقرة. والمركز الذي كان يتمتع به رجال الدين في ممالك العربية الجنوبية، سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية السياسية، نجد شبيهًا له في العربية الشمالية في مملكة تدمر. فهنا كذلك نجد رجال الدين على قدر كبير من القوة والنفوذ في هاتين الناحيتين. وعلى سبيل المثال فالكهنة الذين كانوا يقومون على معبد الإله بل "كبير الآلهة" وتابعيه الإله يرحبول "إله الشمس في أحد مظاهره" والإله عجلبول "إله القمر" كانوا لا يسمحون لأحد أن يدخل ضمن صفوفهم إلا إذا كان ينتمي إلى الأرستقراطية التجارية في تدمر. كذلك كانت موافقتهم لازمة لتعيين كبار الموظفين في الدولة، وهكذا فإن النصوص التي تشير إلى أن الإله يرحبول قد سمى أحد الأشخاص ليشغل إحدى هذه الوظائف معناها في الحقيقة أن مجموعة هؤلاء الكهنة قد اختاروا هذا الشخص للوظيفة المسماة55. أما الظاهرة الأخرى أو الظرف الآخر الذي اتصل بالحياة الدينية في شبه   54 راجع الوضع السياسي أعلاه في هذا الباب. 55 SYRIG: SYRIA, xxii "1941" صفحات 268 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الجزيرة العربية في العصور السابقة للإسلام فهو ظاهرة الارتباط الشديد بين التغييرات الاجتماعية والسياسية من جانب والتغييرات الدينية من جانب آخر، وقد ظهرت شدة هذا الارتباط في كثير من الأحيان في التصدي العنيف الذي كانت تلقاه أية محاولة للتغيير الديني. وليس هذا غريبًا في الواقع في مجتمعات العصر القديم التي كان الدين يقوم فيها بدور أساسي كقاعدة تقوم عليها الأوضاع الاجتماعية والسياسية "سواء في ذلك النظم السياسية أو حتى العلاقات السياسية الخارجية"، ومن هنا فقد كانت أية محاولة للتغيير في العقيدة الدينية معناها في الحقيقة محاولة للتغيير في واقع العلاقات الاجتماعية وما تقوم عليه من علاقات الإنتاج وما تؤدي إليه من نظم سياسية تبلور هذه العلاقات وتعطيها شرعيتها اللازمة لاستقرارها, كما كانت تؤثر كذلك في العلاقات السياسية الخارجية في مجتمع دولي يشتد فيه التوتر والصراع بين القوى الكبرى المتصارعة التي كانت بدورها ترى في الدين عامل اقتراب وتوافق أو عامل ابتعاد وتصادم حسب الظرف المطروح. وقد مر بنا في هذا الصدد العنيف الذي تعرض له أصحاب الدعوات الدينية في أقوام عاد وثمود ومدين وسبأ. وقد رأينا في هذه الدعوات أن كلًّا من هذه الدعوات كانت تستقطب طبقة من المجتمع الذي ظهرت فيه هي طبقة المستضعفين على حد وصف القرآن الكريم لها في مواجهة طبقة أخرى من المتسلطين الذين كانوا يملكون موارد الثروة في المجتمع. كما رأينا الجدل العنيف الذي كان يقوم بين الطرفين حول الدعوة الدينية التي كان يبشر بها هؤلاء الرسل والأنبياء والتي يبدو واضحًا من سياق وصفها ووصف الجدل الذي أثارته بين طبقتي المجتمع أنها كانت تستهدف تعديل النظام الاجتماعي وإحداث تغيير في توزيع موارد الثروة أو النظم التي كانت تحكم الانتفاع بهذه الموارد بصورة أو بأخرى56.   56 راجع الباب السادس من هذه الدراسة، صفحات 172-173 وحاشية 17 في الباب ذاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ويبدو واضحا أن هذه الأوضاع الاجتماعية كانت متداخلة إلى حد كبير مع الأوضاع الدينية السائدة ومستندة إليها ومتساندة معها لإبقاء الأمور على ما كانت عليه بحيث انتهت الدعوات الدينية المذكورة إلى الإخفاق. والصراع ذاته نجده في حالة الدعوة الإسلامية حيث نجد رسولها محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه يتعرضون لشيء مماثل من الجدل العنيف ومن التضييق والاضطهاد الذي وصل إلى محاولة التصفية الجسدية لصاحب الدعوة. ولا شك أن جانبًا من نجاح الدعوة الإسلامية، يرجع إلى مقابلة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للخطط بخطط مثلها وتصديه للقوة بقوة مثلها، ومن بين ذلك هجرته هو وأتباعه من مكة إلى يثرب "المدينة المنورة" حيث وجد أنصارًا يتصدون معه لقريش, ومنها تصديه هو وأتباعه لقريش في عدد من الغزوات عند المواقع التي تقطع على القرشيين طرقهم التجارية, ومنها نجاحه في مهادنتهم عند اللزوم في صلح الحديبية ومنها فتحه لمكة التي كانت معقد الخطوط التجارية بين وادي الرافدين من جهة وبين سورية واليمن من جهة أخرى. ولكن بقيت فكرة التصدي للدعوة الدينية التي كانت تستهدف تغيير النظم الداخلية في المجتمع هي الفكرة المسيطرة على مسار الأمور طوال وقت الدعوة وحتى نجاحها "وقد كانت حرب الردة التي نشبت بعد موت الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي دون شك انتفاضة أخيرة للتصدي للدعوة الدينية الجديدة حتى بعد نجاحها". ونحن نجد أمثلة أخرى لهذا العنف الذي واكب التغيرات الدينية في شبه الجزيرة العربية في الفترة السابقة لظهور الإسلام. ففي 523م نجد "ذو نواس" الحاكم الحميري اليهودي يتصدى للمسيحيين في نجران ويقدم على إحراق عدد كبير منهم في حادثة الأخدود التي ورد ذكرها في القرآن الكريم, لسبب ربما كان مرتبطا بالسياسة الوطنية ضد التدخل الحبشي في المنطقة ومن ثم اعتبر ذو نواس المسيحيين من نفس عقيدة الأحباش أو خشي أن ينحازوا إليهم. وبعد ذلك بحوالي نصف قرن، في 570 أو 571م نجد محاولة من الحبشة لهدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الكعبة في عام الفيل المشهور, على أساس أن الكعبة كانت تمثل المركز الأول للعبادات الوثنية في شبه الجزيرة ومن ثم فهناك خطر من جانبها على انتشار أي نفوذ مسيحي يمهد الطريق لنفوذ حبشي في الحجاز بكل ما يعنيه هذا من سيطرة حبشية على طرق التجارة التي كانت مكة هي معقدها كما مر بنا57. والشيء ذاته نجده في تفاصيل مختلفة في علاقات الإمبراطورية البيزنطية بإمارة الغساسنة والإمبراطورية الساسانية "الفارسية" باللخميين "المناذرة". ففي حالة الغساسنة نجد أن حكام هذه الإمارة يتبنون المذهب المسيحي المونوفيزي "مذهب الطبيعة الواحدة" وهو مذهب مخالف للمذهب السائد في القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية. وقد قبل الأباطرة البيزنطيون هذا الوضع على شيء من المضض تمشيًا مع قبول الأمر الواقع طالما ظل انتفاعهم مستمرًّا بولاء الغساسنة في مجال التصدي لأية تحرشات من جانب الإمبراطورية الفارسية أو من جانب أمراء الحيرة الداخلية في نفوذها. ولكن حين بدأ حماس الغساسة لتدعيم مذهبهم الديني المسيحي يظهر بشكل متواتر وملحوظ منذ عهد الحارث "الثاني" بن جبلة "حوالي 529-569م" بدأت الشكوك تساور البيزنطيين, وهكذا أمر الإمبراطور البيزنطي تيبريوس الثاني tiberius II بالقبض على المنذر بن الحارث الذي خلفه على الإمارة في أثناء افتتاحه لكنيسة في "حوارين" بين دمشق وتدمر حوالي 580م، وذلك رغم ما قام به هذا الأمير الغساني من تصدٍّ للأمراء اللخميين وصل إلى حد إحراقهم للحيرة، عاصمتهم, قبل ذلك بقليل في السنة ذاتها، وقد اقتيد المنذر إلى القسطنطينية، ثم سجن في صقلية. أما في حالة اللخميين من أمراء الحيرة، فنحن نجدهم لا يعتنقون المسيحية ويبقون على وثنيتهم رغم انتشار المسيحية في مجتمع الحيرة ورغم أن إحدى   57 يجد القارئ عرضًا موجزًا لهذه الأحداث الموجودة في الفقرات التالية في، hitti: ذاته، صفحات، 62، 64، 79-80، 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الأميرات وهي هند "أم عمرو بن هند" كانت قد اعتنقت هذه العقيدة, وكان الاستثناء الوحيد بين هؤلاء الحكام هو النعمان الثالث أبو قابوس "حوالي 580-602م". ومن المرجح أن عدم إقدام هؤلاء الأمراء على اعتناق المسيحية هو عدم إثارة شكوك الإمبراطورية الفارسية ضدهم حيث إن المسيحية هي العقيدة الرسمية للإمبراطورية البيزنطية وهي العدو اللدود للفرس. وحت حين اعتنق النعمان الثالث هذه العقيدة نجد أنه اعتنقها على المذهب النسطوري المونوفيزي "الذي لا تدين به الإمبراطورية البيزنطية" ومن ثم يصبح أقرب المذاهب إلى القبول لدى حكام الإمبراطورية الفارسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 الباب: العاشر: العلاقات الخارجية المرحلة الأولى: ظهور الهوية العربية بدايات غير محددة ... الباب العاشر: العلاقات الخارجية 1- المرحلة الأولى: ظهور الهوية العربية: أ- بدايات غير محددة: قبل القرن العاشر ق. م. لا نكاد نعرف شيئا واضحا عن أية علاقات خارجية يظهر فيها العرب كمجموعة بشرية لهم هوية محددة، سواء تحت اسمهم العام كعرب، أو تحت اسم أو آخر ينتمي لمنطقة أو أخرى من المناطق التي تنقسم إليها شبه الجزيرة العربية. وكل ما نعرفه في هذا الصدد إما إشارات قد تشمل العرب وغيرهم، أو إشارات قد تكون إلى العرب ولكن تحت تسميات أخرى وفي مناطق ربما نزحوا إليها من موطنهم في شبه الجزيرة، أو ذكر لأقوام من شبه الجزيرة كانت لهم تحركات في مجال هذه العلاقات ولكنهم إما يدخلون تحت الصفة السامية العامة، وإما يلتفون حول هوية جماعية يكاد يقتصر نصيبها من الصفة العربية على انتمائها للمنطقة التي أصبحت فيما بعد تسمى باسم بلاد العرب. وعلى سبيل المثال, فإن النقوش المصرية القديمة طوال عهد الفراعنة ابتداء من الألف الثالثة ق. م. وحتى الفتح الفارسي لمصر في أواسط الألف الأولى ق. م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 لا ترد فيها لفظة "ع ر ب" أو "أر ب" أو أية لفظة أخرى قريبة من هذا النطق، رغم وفرة هذه النقوش وغزارتها، ورغم كثرة أسماء الشعوب التي وردت ضمن هذه النقوش ممن احتكت بهم مصر في صورة أو أخرى في المراحل العديدة التي مر بها تاريخها في هذه الفترة. ومع ذلك فقد عرفت مصر في عهد الفراعنة طريقها إلى كل منطقة الهلال الخصيب التي تشكل التخوم الشمالية لشبه الجزيرة العربية في صور متعددة من العلاقات التجارية أو السياسية أو العسكرية. وكل ما نحظى به من إشارات في النقوش المصرية فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه هو تسميات عامة مثل تسمية "عامو" أي: الآسيويين أو "تاعاموا" أي: أرض الآسيويين التي كانت تطلق على سكان أو مناطق الصحراء الشرقية وسورية وفلسطين والقسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية، ومثل "تا - نثر" التي كانت تشير إلى الأراضي الواقعة إلى شرقي وادي النيل بوجه عام والتي كان مدلولها يتسع باتساع معرفة المصريين بالمناطق التي تشملها هذه الأراضي ونشاطهم فيها حتى شمل في عصر الدولة الحديثة المناطق الممتدة شرقي مصر عبر المنطقة السورية حتى شمال العراق, ومن ثم كان من الممكن أن يضم الامتدادات لشبه الجزيرة العربية1. أما الألفاظ المحددة التي وردت في هذه النقوش والتي قد تشير إلى بعض المجموعات العربية، فهي الأخرى لا تعطينا صورة مباشرة في هذا المجال؛ فلفظة "خبسيتو" التي ترد ضمن نقوش الدير البحري "في صعيد مصر" في أثناء وصف البعثة التجارية المصرية التي وصلت في عهد الملكة حتشبسوت "أواسط الألف الثانية ق. م" إلى بلاد بونت "الصومال والحبشة حاليًا" يرى بعض   1 وصلت الحدود المصرية، عبر منطقة الهلال الخصيب، إلى نهر الفرات في عهد كل من الفراعنة تحتمس الأول وتحتمس الثالث "الذي عبر الفرات" وأمنحوتب الثاني، راجع j. h. breasied: a history of egypt صفحات 219, 252، 254، 270. عن تسميات تاعاموا وتا - نثر, انظر عبد المنعم عبد الحليم السيد: الجزيرة العربية ومناطقها وسكانها في النقوش القديمة في مصر، صفحات 1-2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الباحثين أنها نطق مصري لكلمة حبشات، وهي اسم قبائل ذات أصل عربي جنوبي كانت تسكن منطقة مهرة في جنوبي بلاد العرب وهاجرت إلى الساحل الإفريقي للبحر الأحمر واستقرت في المنطقة وأعطتها اسمها "الحبشة". ولفظة "جنبتيو" التي تصف جماعة جاءوا إلى مصر في عهد تحتمس الثالث "1490-1436ق. م" تحمل إليه هدايا من الصمغ العطري ومن البخور، يرجح أحد الباحثين أنها تشير إلى القتبانيين، أحد الأقوام التي كانت تقطن العربية الجنوبية في العصور القديمة. أما قبائل الهكسوس التي غزت القسم الشمالي من المنطقة السورية حوالي 1700 ق. م. واستقرت فيه قرنا كاملا قبل أن يطردها فراعنة الأسرة الثانية عشرة، فلم يستقر الباحثون حتى الآن على هويتهم، فقد يكونون أحد شعوب المنطقة السورية أو خليطًا من هذه الشعوب قد يكون بينها عرب أو لا يكونون، وربما ضمت إلى جانبها مجموعات من شعوب أخرى من الشمال كانت تطاردها أمامها في أثناء إحدى تحركات الشعوب التي عرفت المنطقة عددًا منها في العصور القديمة2. والشيء ذاته نجده فيما يخص وادي الرافدين، فهنا نجد القبائل الآمورية تتسرب من منطقة الهلال الخصيب شبه الصحراوية، وربما من المنطقة السورية كذلك؛ لتقيم لها مواقع حصينة في مدينة بابل وعدد من المدن الأخرى المجاورة في أواخر الألف الثالثة ق. م. ثم سيطروا على كل وادي الرافدين في النصف الأول من القرن الثامن عشر ق. م. كذلك نجد الملك الآشوري تجلات بيليسر الأول "1114-1076" ق. م يجتاح مدينة تدمر "التي   2 عن العلاقة بين اسم خبسيتو وحبشات, انظر عبد المنعم عبد الحليم السيد: ذاته، ص 4, وحاشيتي 9-10. عن اسم جنبتيو، انظر a.a. saleh: the gnbtyw of thutmosis annals and the south arabian geb "b" anitae of the classical writers b.l.f.a.w., lXXXII, 1972" ص252، مقتبس في عبد المنعم عبد الحليم السيد ذاته: صفحات 4-5. عن الهكسوس راجع breasted: ذاته، صفحات 179 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 أصبحت مقر المملكة أو إمارة عربية في عصر لاحق". ولكن هذه المدينة كانت في عصر هذا الملك مدينة آمورية "تقع في بلاد آمورو" كما يشير النقش الذي وردت فيه. وهكذا نجد أنفسنا هنا كذلك لا نستطيع أن نتبين هوية العرب كمجموعة بشرية لها شخصيتها الجماعية المحددة. فالآموريون لا نستطيع أن نضفي عليهم أكثر من هوية سامية، فهم إحدى المجموعات التي تنطبق عليها هذه التسمية، وقد يكونون شديدي القرب من المجموعة العربية، ولكنهم ليسوا هذه المجموعة ذاتها3. ولكن القرن العاشر ق. م. والقرون التي تليه بدأت تشهد تطورًا محسوسًا في هذا الصدد. فمنذ ذلك القرن تظهر الهوية المحددة للعرب بشكل واضح في العلاقات مع شعوب المنطقة المجاورة لشبه الجزيرة، مثل العبرانيين والآشوريين والبابليين "الدولة البابلية الحديثة" والفرس. وحقيقة إن هذه الهوية قد لا تظهر كتسمية مباشرة للعرب، وإنما تظهر بشكل استنتاجي انتسابًا إلى مكان أو آخر أو قوم أو آخر من الأماكن والأقوام التي وجدت في شبه الجزيرة العربية، مثل سبأ والسبئيين "سواء أكان المقصود هو سبأ الموجودة في جنوبي شبه الجزيرة أم إحدى مستوطناتها في الشمال التي اتخذت الاسم نفسه" ومثل الدادانيين "أهل منطقة دادان - العلا الحالية". كذلك فإن الحالات التي تتخذ فيها هذه الهوية صورة تسمية مباشرة للعرب أو بلاد العرب، فإن هذه التسمية لا تعني لغويا أكثر من البدو أو البادية التي يسكنها البدو، كما هو الحال مثلًا في تسمية "عربيم" أو "عربئيم" بمعنى عرب، أو "مسّاها عرب" بمعنى بلاد العرب، في أسفار التوراة والتلمود عند العبرانيين، وكما هو الحال في تسمية "أريبي" أو "أرابي" أو ألفاظ أخرى مقاربة لها في النطق بمعنى عرب أو "ماتوا أريبي" بمعنى بلاد العرب عند الآشوريين والبابليين،   3 عن الآموريين في العراق راجع g. ruox: ancient irak, صفحات 164 وما بعدها، نص تجلات بيليسر عن تدمر في anet ص275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 أو تسمية "عربانه" أو أزبابه" في النصوص الفارسية. وأخيرا فإن التسمية المباشرة للعرب أو لبلاد العرب كانت تشير في كل الحالات، عند هذه الشعوب، إلى قبائل القسم الشمالي من شبه جزيرة العرب. ولكن مع كل هذه الملاحظات، فقد كانت كل هذه النصوص تدل على مجموعة بشرية أصبحت لها هوية أو شخصية جماعية محددة في مجال الاحتكاكات أو العلاقات الخارجية مع الشعوب المذكورة4.   4 عن سبأ الجنوبية، التوراة: نبوءة يوئيل، إصحاح3: 8. عن سبأ الشمالية النص في anet ص283. عن الدادانيين، التوراة: نبوءة أشعيا، إصحاح 21: 13. العرب بمعنى البدو عند العبرانيين، نبوءة أشعيا، إصحاح 13: 20، كذلك نبوءة أرميا، إصحاح 25: 24. عن تسميات العرب في وادي الرافدين راجع: erich ebeling: reallexikon der assyriologie "1928" مادة araber. عن إشارة هذه التسميات إلى البداوة راجع: adolf grohmann: geschichte des alten orients, arabien muenchen 1963"" ص3 وحاشية1, كذلك ص21 وحاشية2. ترجمة النص الفارسي في anet: 316 والتعليق عليه في e.herzield: altpersische inschriften "1398 berlin" نص رقم 14 صفحات 27 وما بعدها. 5 التوراة: سفر أخبار الأيام الأول، إصحاح 30:27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ب- العلاقات مع العبرانيين : ونحن نجد هذه الصورة المحددة منذ القرن العاشر في أول علاقات نسمع عنها بين العرب وجيرانهم, وهي العلاقات مع العبرانيين. لقد وجدت قبل ذلك، في عهد الملك داود، إشارات في التوراة إلى معاملات مع العرب، ولكنها كانت معاملات فردية لا نسمع فيها إلا عن أفراد مثل "أوبيل الإسماعيلي" أي: المنتمي إلى بني إسماعيل، أو "يازيز الهجري" "نسبة إلى الهِجْر أو الحِجْر في مدائن صالح"5. أما في القرن العاشر فنجد المعاملات العربية تتحول عن هذه الصورة الفردية لتصبح معاملات منطقة كاملة. وفي هذا النطاق تدور العلاقة بين ملكة سبأ والملك سليمان "970-937 ق. م" ملك العبرانيين. إن النصوص التي تشير إلى هذه العلاقة نلمس منها في وضوح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 محاولة من ملكة السبئيين لإقامة علاقات ودية مع هذا الملك تجاوزًا أو تخطيًّا لعلاقات يبدو من هذه النصوص أنها كانت على شيء من التوتر أو التأزم ومن ثم فهناك مصالح متعارضة لكلا الطرفين، وتحاول ملكة سبأ أن تخفف من حدة هذا التعارض الذي يضرب بمصلحة مملكتها. وقد رأينا في مناسبة سابقة أن مثل هذا التعارض لا يمكن أن يكون مفهومًا إذا كانت سبأ المقصودة هي مملكة سبأ الموجودة في القسم الجنوبي لشبه الجزيرة العربية. إذ في مثل هذه الحال لا توجد حدود مشتركة أو مصالح مهددة أو ضغوط سياسية أو غيرها، وإنما تصبح كل هذه الأمور أو بعضها واردة إذا كان بين المملكتين نوع من التجاور أو الاقتراب يجعل توتر العلاقات لسبب أو لآخر أمرا واردا. ونحن نجد في الواقع مدينة في الشمال تحمل اسم سبأ كلك ويرد ذكرها في النصوص الآشورية على أنها واقعة في أقصى الغرب بالنسبة للآشوريين، أي على حدود المنطقة السورية "بالمفهوم الجغرافي لهذه التسمية" ومن ثم تكون على حدود أو قرب حدود مملكة العبرانيين التي كان يتربع سليمان على عرشها. وقد قامت هذه المدينة ونمت حول واحدة أو أكثر من المستوطنات التي أقامها في شمالي شبه الجزيرة التجار السبئيون الجنوبيون شأنهم في ذلك شأن المعينيين، على سبيل المثال، الذين فعلوا شيئًا مماثلًا في الشمال6. سبأ المذكورة إذن, هي سبأ الشمالية والقضية المطروحة هي قضية تعارض بين المصالح. فإذا أدخلنا في اعتبارنا أن سبأ مدينة تجارية تحصل على موردها الاقتصادي الرئيسي من تحكمها في أحد المواقع التي يمر بها الخط التجاري الذي تمر به القوافل المحملة بالطيوب وغيرها من السلع الآتية من جنوبي شبه الجزيرة ومتجهة إلى موانئ البحر المتوسط في الشمال، أصبح من الطبيعي أن   6 العلاقة بين سبأ وسليمان، في القرآن الكريم: سورة النمل: 22-23 و28-44. التوراة: سفر أخبار الأيام الثاني، إصحاح 9: 1 وما بعدها عن سبأ الشمالية نص في ANET ص238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 نستنتج أن نقطة التعارض بين مصالح المملكتين المتجاورتين هي نقطة مصالح تجارية مهددة بطريقة أو بأخرى. ونحن نجد في الواقع في سياسة الملك سليمان ما يؤدي إلى وجود هذا التعارض. لقد أراد هذا الملك أن يتبع سياسة اقتصادية يحول بها مملكته من الزراعة إلى الصناعة بما يستتبعه هذا من مواد أولية يحصل عليها من أسواق خارجية. كما أراد أن يدعم هذا الاتجاه الاقتصادي بانتهاج نشاط تجاري بحري لا يجعله تحت رحمة الخط البري التجاري القادم من الجنوب وإنما يترك له حرية الحركة المباشرة مع الأسواق التي يريد أن يتاجر معها. ونحن نجد في نصوص التوراة إشارة واضحة إلى هذا الاتجاه حين نعرف أنه اتخذ ميناء عصيون جابر "بجوار ميناء أيلة" على رأس خليج العقبة مرفأ أساسيا يبتدئ منه أو ينتهي إليه هذا النشاط التجاري، وحين نجده يلجأ إلى الملك حيرام، ملك صور، بالعمال والبحارة لبناء أسطول تجاري ولتسيير هذا الأسطول التجاري في البحر الأحمر، وحين نعرف كذلك، أنه وصل بنشاطه التجاري البحري هذا إلى "أوفير" التي يرجح أنها كانت ميناء على الشواطيء الشرقية لشبه الجزيرة العربية، إن لم يكن, حسب رأي بعض الباحثين، إحدى الموانئ الهندية. بل أكثر من هذا نجد هذا الملك يحاول إغراء حيرام ملك صور باستخدام هذا الخط التجاري البحري الجديد بدلًا من طريق مصر للاتجار مع بلاد العرب, في محاولة يبدو واضحًا أنها كانت تستهدف تنشيط هذه الطريق البحرية التجارية على حساب أية طرق أخرى في المنطقة7. ومثل هذا الاتجاه من جانب سليمان كان كفيلًا أن يؤثر تأثيرا ضارا على موقع تجاري مثل الموقع الذي تحتله مملكة سبأ الشمالية، ومن هنا تثور مخاوف ملكة السبئيين التي كان هذا الموقع التجاري هو المورد الاقتصادي   7 عن سياسة سليمان البحرية انظر التوراة: سفر الملوك الثالث, إصحاح 9: 26-27. عن محاولة إغرائه لحيرام بترك طريق مصر راجع: نجيب ميخائيل إبراهيم: مصر والشرق الأدنى القديم، ج3، سورية، ص231 عن أوفير، التوراة: أخبار الأيام الثاني، إصحاح 9: 1، راجع مناقشة مكانها في الباب الثامن الخاص بالموارد الاقتصادية في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الأساسي، إن لم يكن الوحيد بالنسبة لمملكتها، ونفهم موقف التوتر الذي ثار بينها وبين سليمان من جهة، كما نفهم سبب الهدية السخية التي تظهر بين محتوياتها الطيوب والذهب والفضة والأحجار الكريمة، كمحاولة لإقامة علاقات, يمكن أن نصفها بلغة العصر الحديث أنها علاقات حسن جوار تصل من خلالها إلى اتفاق يحفظ لها مصالحها التجارية، وهكذا نجد في هذا الاتفاق أول مثال يصل إلى أيدينا حتى الآن لعلاقات خارجية عربية لا تتم في صورة معاملات فردية، وإنما تتم على مستوى مجموعة عربية منظمة في هيئة دولة لها مصالح محددة وهي تسعى بطريقة أو بأخرى لمعالجة علاقاتها بجيرانها لحماية هذه المصالح. ومنذ ذلك الوقت نسمع عن علاقات خارجية عربية مع العبرانيين يقوم بها العرب كمجموعة ذات هوية واضحة تتحرك انطلاقًا من مصالح اقتصادية محددة وترتب عليها خطا سياسيا محددا. وقد مر بنا في مناسبة سابقة تحالف قام بين العرب والفلسطينيين ضد مملكة يهوذا "إحدى المملكتين التي انقسمت إليهما مملكة سليمان" في عهد الملك يهورام "851-843 ق. م" انتهى باجتياح هذه المملكة وإنزال أضرار فادحة بالقصر الملكي وبالبيت المالك. كما رأينا كذلك موقفا آخر في العلاقات الخارجية بين العرب والعبرانيين في عهد عزّيّا ملك يهوذا أو اليهودية "779-740 ق. م" تنعكس فيه الآية فينتصر على تكتل فلسطيني - عربي، يظهر فيه، إلى جانب الفلسطينيين، تجمع عربي مكون من العمُّونيين والمعينيين وعرب "جور بعل" الذين عرفنا أنهم كانوا أهل منطقة ربة عمون "عمان الحالية" ومملكة المعينيين الشماليين في منطقة العلا الحالية بالقسم الشمالي الغربي من شبه الجزيرة العربية، ومنطقة أخرى مجاورة للملكة العبرية، أما المناسبة الثالثة التي تظهر فيها هذه العلاقات فترجع إلى القرن الخامس ق. م. حين عاد العبرانيون من السبي البابلي. وهنا نجد عددا من الزعماء العرب من بينهم طوبيا العموني وجشم العربي يقفون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 موقف التوجس من نحميا اليهودي حين حصل على إذن من أرتحَشْتا الإمبراطور الفارسي "646-424 ق. م" ببناء سور حول أورشليم "القدس". ورغم أن هذا التوجس لم يعبر عن نفسه إلى تصد إيجابي للزعيم اليهودي وإنما ظهر في هيئة معارضة ومناورات من جانب هؤلاء الزعماء قابله الزعيم اليهودي بمناورات مماثلة وانتهى الأمر ببناء السور الذي كان يريد بناءه, إلا أنه في الوقت ذاته يشير إلى أن العرب لم تزل هويتهم قائمة ومتمثلة في إدراك مصالحهم التي تصوروا أن بناء هذا السور قد يضر بها بشكل أو بآخر، ولكن يبدو أن الأمر لم يكن بأيديهم بالدرجة الأولى، فالإمبراطور الفارسي، وهو صاحب الأمر والنهي في المنطقة في ذلك الوقت على هذه المنطقة التي كانت قد دخلت ضمن إمبراطوريته، كان قد أعطى الإذن ببناء السور، من ثم فلم يكن هناك مجال واسع لتحرك عربي أو تكتل عربي يصل إلى مستوى التصدي وبخاصة إذا أدركنا أن الطرف الآخر، وهو الزعيم العبري، كان هو الآخر في وقف مماثل لا يملك فيه أن يقدم أو يؤخر كثيرًا8.   8 راجع التفصيلات في صفحات 186-191 في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 ج- العلاقات مع القوى الشرقية : وأنتقل الآن إلى صعيد آخر للعلاقات الخارجية للعرب، وهو الصعيد الذي ظهر عليه موقفهم إزاء منطقة وادي الرافدين حيث الدولة الآشورية ومن بعدها الدول الكلدانية "أو الدولة البابلية الحديثة" وإزاء الإمبراطورية الفارسية التي مدت سيطرتها إلى منطقة الشرق الأدنى بأكمله في غضون القرن السادس ق. م. وتكمن أهمية العلاقات العربية الخارجية في هذا الاتجاه ليس في ظهور الهوية الواضحة للعرب فحسب، وإنما في تطورها تدريجيا نحو التبلور بحيث اتخذ تحركها في هذا المجال أكثر من صورة وظهر في أكثر من اتجاه. وقد كانت أولى العلاقات العربية في هذا الاتجاه الشرقي مع الآشوريين, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 كما وردت في عدد كبير من النقوش المسمارية التي سجل عليها ملوك الدولة الآشورية إنجازاتهم العسكرية والسياسية مع جيرانهم. وأول نص تظهر فيه إشارة للعرب في هذا المجال يعود إلى عهد الملك شلمنصر الثالث "858-824 ق. م". وفي هذا النص الذي يرجع إلى السنة السادسة من حكمه يتحدث عن تحركاته العسكرية ضد المنطقة السورية، يذكر لنا الملك الآشوري أنه توجه إلى منطقة القرقار؛ لمواجهة تجمع كونه ملك دمشق, ظهرت فيه إلى جانب قوات الملك الدمشقي قوات من حماة وإرواد ومدن سورية أخرى، وكان من بين القوى المتحالفة مع ملك دمشق ضد الملك الآشوري "ألف عربي من راكبي الجمال بزعامة جنْدِبو"9. ونحن نستطيع أن ندرك المغزى الحقيقي لظهور العرب في هذا النص إذا نظرنا إليه من أكثر من جانب, فهذا النص يأتي بعد ظروف شدت اهتمام الدولة الآشورية بشكل قوي طوال قرن بأكمله، هو القرن العاشر ق. م. تجاه المنطقة الواقعة على الحدود الغربية لهذه الدولة، حيث كانت تتعرض لهجمات متكررة من القبائل والممالك الآرامية؛ الأمر الذي اضطر الآشوريين إلى العمل العسكري المستمر للقضاء على هذه الهجمات الآرامية وعلى بقايا المستعمرات الحيثية في المنطقة، ودفع بهم "أي: الآشوريين" إلى مد هذا العمل العسكري إلى داخل الأراضي السورية كما يظهر من النصوص الآشورية التي ترجع إلى عهد الملك تجلات بيليسر الأول "1114-1076 ق. م" والملك آشور ناصر بال الثاني "883-859 ق. م" 10.   9 النص ANET صفحات 278-279. 10 عن ظروف الآشورية انظر رضا جواد الهاشمي: العرب في ضوء المصادر المسمارية، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، عدد 22 شباط، 1978، صفحات 640-641. قارن H.W. F. Saggs: The Greatness that was babylon "london 1962" صفحات 90 وما بعدها، نصا تجلات بيليسر الأول وآشور ناصر بال الثاني في anet صفحات 274-276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وقد تمكن الآشوريون خلال هذا العمل العسكري المتواصل طيلة القرن العاشر من السيطرة على القسم الشمالي والأوسط من منطقة الهلال الخصيب التي تصل بين وادي الرافدين وسورية وأصبح في مقدورهم التوغل في المنطقة السورية نفسها، ولكن يبدو أن المنطقة البدوية التي كانت تقع على التخوم الجنوبية لمنطقة الهلال الخصيب بدأت تسترعي اهتمام الملوك الآشوريين، الذين وجدوا في هذه المنطقة ما يستدعي الحرص على السيطرة عليها أو على الأقل على عمل فرض الأمن في أرجائها منعًا لسكانها من أي تحرك سياسي أو عسكري؛ نظرا لمرور بعض الخطوط التجارية بها, وقد كان هذا التحرك السياسي والعسكري واردا فعلا, والدليل على ذلك هو اشتراك تجمع من هذه القبائل البدوية بزعامة جندبو العربي في الحلف العسكري الذي كونه الملك الدمشقي. أما الجانب الثاني الذي يضيف إلى مغزى ظهور العرب في النص المذكور فهو أن هذا الظهور في حد ذاته يشير إلى أن هذه القبائل البدوية لم تعد مجرد قبائل متفرقة تعيش بعيدا عن مجرى الأحداث في المنطقة، ولكنها أصبحت تجمعات تشير إلى أكثر من معنى على الصعيدين السياسي والعسكري. فألف محارب من راكبي الجمال هم أكبر من طاقة قبيلة واحدة، ومن ثم فهم يمثلون تجمعا قبليا بلغ من التنظيم السياسي قدرًا يمكن من تكوين هذه القوة العسكرية11. كذلك فإن هذه التجمعات القبلية في المنطقة لا بد أنها قد أصبح لها قدر محسوس من الفعالية؛ ومن ثم أصبح موقفها من هذا الحدث أو ذاك أمرا يحسب حسابه، فالحلف العسكري الدمشقي ضم قوات تابعة لتسعة ملوك من بينهم, إلى جانب ملك دمشق، ملوك حماة وإرواد ومدن سورية أخرى، واشتراك جندبو العربي بتجمعه القبلي مع هؤلاء الملوك وعلى مستواهم أمر يصبح له دلالته في ضوء هذا الاعتبار.   11 رضا جواد الهاشمي: ذاته، ص643. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 أما الجانب الثالث الذي يدعم من مغزى هذا الظهور السياسي والعسكري من جانب العرب في العلاقات الدولية في المنطقة فنستطيع أن ندركه إذا تذكرنا أن تجمعا عربيا مماثلا "ولعله كان نفس التجمع أو تجمعا مجاورا له أو متداخلا معه" قد تحالف مع الفلسطينيين في نفس الفترة لاجتياح مملكة يهوذا "أو يهودية" على عهد الملك العبري يهورام "851-843 ق. م." وإذا أدخلنا في اعتبارنا أن هذا التحالف قد تم لأسباب اقتصادية تدور حول مرور الخطوط البرية التجارية في أراضي هذه القبائل العربية12. ومعنى هذا أن هذه القبائل كانت لها مصلحة حيوية في تحديد مواقفها إزاء الأحداث والعلاقات التي كانت تدور في المنطقة آنذاك. وقد استمرت الحملات التي قام بها الآشوريون على المنطقة طوال العصر الآشوري الذي انتهى بسقوط الدولة الآشورية في 612 ق. م. وكان قسم أساسي من هذه الحملات موجهًا إلى التجمعات العربية التي يبدو من النصوص الآشورية أنها لم تكن سهلة المراس، الأمر الذي يشير إلى إدراكها المحدد لمصالحها التجارية في المنطقة وإلى اتساع هذه المصالح بما يدفعها إلى اتخاذ المواقف كلما شعرت بتحرك قد يؤدي إلى تهديد هذه المصالح. وتشير هذه النصوص إلى تطورين يمثلان مرحلتين جديدتين في العلاقات الآشورية العربية "بعد المرحلة التي يمثلها نص شلمنصر الثالث الذي ظهر فيه جندبو الزعيم العربي" تتخذ خلالهما هذه العلاقات أبعادا أكثر حدة وأكثر تكثيفا. وأولى هاتين المرحلتين الجديدتين نجد فيها أن الملوك الآشوريين لم يقتصروا في معالجتهم للتجمعات العربية على الحملات العسكرية وإنما بدءوا يتجهون، إلى جانب ذلك، إلى سياسة يمكن أن نسميها سياسة الاحتواء السياسي من الداخل، عن طريق التدخل في تنصيب الزعماء العرب الذين يثقون في ولائهم   12 راجع أعلاه في هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 على هذه التجمعات القبلية. وجدير بالذكر هنا أن هؤلاء الزعماء أصبح يشار إليهم في النصوص الآشورية التي ترجع إلى هذه المرحلة على أنهم ملوك أو "ملكات" لبلاد العرب, وليس مجرد إشارة بدون لقب كما رأينا في حالة جندبو العربي، وهو أمر قد يدل على أن تنظيم التجمعات القبلية العربية قد أصبح أكثر رسوخًا. وهكذا نرى الملك الآشوري أسرحدون "680-669 ق. م." يعين الملكة العربية "تاربوا" التي نشأت في قصر والده سنحاريب ملكة على العرب. ونجده في مناسبة ثانية، بعد أن توفي حزائيل الملك العربي، ينصب ابنه ياتع ملكًا. كما نجده في مناسبة ثالثة يعفو عن ملك مدينة يادع الذي استطاع أن يهرب من وجه جيوش الملك الآشوري في إحدى حملاته، فيعفو عنه هذا ويعينه ملكًا على بلاد "بازو"13. أما من جانب العرب فقد بدا موقفهم في هذه المرحلة الجديدة أكثر إيجابيةً من المرحلة السابقة, فلم يعد موقفهم قاصرا على التصدي لحملات الملوك الآشوريين أو الهرب في بعض الأحيان من وجهها, وإنما بدءوا ينتهزون فرص التخلخل الذي بدأ يصيب الدولة الآشورية من الداخل والتي اتخذت شكل نزاعات على العرش صاحبتها ثورات داخلية في بعض الأحيان. ففي عهد الملك سنحاريب "704-681 ق. م." قام أحد الزعماء الكلدانيين في بابل، وهو مردوخ بلادان، بثورة ضد الملك. ويحدثنا سنحاريب في نقش سجل عليه انتصاره على هذا الثائر أن من بين الأقوام التي اشتركت في تدعيم هذه الثورة عربًا وآراميين وكلدانيين وأن هؤلاء, بما فيهم العرب المشار إليهم، كانوا يسكنون مدن الوركاء ونفر وكيش وسبار. وحقيقة إن هذه المناطق تقع داخل وادي الرافدين، أي: ضمن حدود الدولة الآشورية، إلا أن الملك يذكر أنه في أثناء عودته إلى عاصمته حارب مجموعة من القبائل يعدد   13 النص الخاص بتاربوا وياتع في anet صفحات 291-292. نص ملك يادع في مجموعة arab, ج2, نص رقم 538. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 أسماءها وهم قبائل من البدو. ويستنتج أحد الباحثين المعاصرين أن أسماء هذه القبائل ترجح أن الملك سلك في عودته إلى آشور "العاصمة" طريقًا في البادية محاذية لنهر الفرات ليلقي الروع في نفوس القبائل التي أيدت الثائر مردوخ بلادان وينتزع منهم الولاء للآشوريين14. وإذا كانت هذه المرحلة قد تميزت بهذا التدخل الإيجابي من جانب القبائل العربية الملاصقة لوادي الرافدين عن طريق مساندة الزعماء الثائرين ضد الملك الآشوري سنحاريب في داخل البلاد, فإن المرحلة التالية التي بدأت في عهد الملك الآشوري آشور بانيبال "668-633 ق. م." أخذت فيها العلاقات العربية مع الدولة الآشورية بعدا جديدا. ففي أثناء الثورة التي قام بها "شمش شوم أوكن" حاكم بابل ضد أخيه الملك آشور بانيبال، نجد تجمعا قبليا عربيا يشترك مع الأخ الثائر ضد أخيه الملك, ولكن العرب الذين قاموا بدعم الثورة ضد الملك ليسوا من قبائل البادية الملاصقة لنهر الفرت كما حدث في عهد الملك سنحاريب, وإنما يزحف التجمع العربي القبلي هذه المرة من منطقة بعيدة في النصف الغربي من شمالي شبه الجزيرة العربية، وهي منطقة دومة الجندل وتيماء، تحت قيادة الملك العربي ياتع الذي يبدو أنه لم يكتفِ بدعم الثورة بقواته، وإنما لعب دورًا أساسيًّا في تكوين حلف ضم قوات زعماء أو ملوك عرب آخرين "من بينهم ملك اسمه أبو ياتع" لهذا الغرض، كما "حرض كل سكان البلاد العربية للالتحاق به"15. كذلك نجد أحد الملوك المشتركين في هذا الحلف "وهو أبو ياتع الذي أسلفت الإشارة إليه" يواصل تحديه للملك الآشوري ويزيد على ذلك فيسعى في أكثر   14 النص في مجموعة arab، ج2، نص رقم 234. الاستنتاج يقدمه رضا جواد الهاشمي: ذاته، ص647. 15 النص في anet, صفحات 297-298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 من مناسبة لاستمالة الأنباط في "أقصى الطرف الغربي للهلال الخصيب" إلى جانبه في عدائه للملك آشور بانيبال، وبعد عدد من المحاولات ينجح أبو ياتع في استمالة الأنباط لمحاربة الآشوريين, لا لصد هجمات آشور بانيبال، ولكن هذه المرة لمهاجمة حدود الدولة الآشورية ذاتها بتدعيم من "نانتو" زعيم الأنباط16. وقد سقطت الدولة الآشورية في 612 ق. م. تحت ضربات القوتين المتحالفتين؛ الكلدانيين من "بابل" والميديين "من إيران". وبسقوط هذه الدولة قامت الدولة الكلدانية "أو الدولة البابلية الحديثة" في وادي الرافدين، وبدأ تطور جديد في العلاقات الخارجية العربية مع هذه المنطقة. وإذا كانت العلاقات الخارجية بين العرب ومنطقة وادي الرافدين قد اتخذت في عهد الآشوريين منطلقًا اقتصاديًّا يحاول فيه الآشوريون بسط نفوذهم على المواقع الأساسية للطرق التجارية البرية في الغرب من جهة، ويحاول العرب، ضمن الأقوام الأخرى أحيانا ووحدهم في أحيان أخرى، أن يقابلوا هذا الاتجاه الآشوري بتصدٍّ وصل إلى درجة الإيجابية الهجومية في بعض المناسبات من جهة أخرى، فإن ظروف الدولة البابلية الحديثة قد دفعتها إلى اتخاذ موقف من علاقاتها مع العرب لم يصل إليه الآشوريون من قبل، وكان محور هذه الظروف هو الوضع الاقتصادي المتدهور الذي وجدت الدولة الجديدة نفسها مقبلة عليه. وقد كان هناك سببانِ أديا إلى هذا الوضع, وأول هذين السببين هو أن سقوط الدولة الآشورية أتاح فرصة ذهبية أمام عدد من القبائل العربية   16 النص في anet ص299. عن المطابقة بين لفظة: nabaiati الواردة في النص وبين الأنباط المعروفين تاريخيًّا راجع، رضا جواد الهاشمي: ذاته, ص 659. عن رأي معارض لذلك راجع، hitti ذاته، ص67، حاشية1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 للسيطرة على عدد من المواقع الحيوية على الطريق التجارية الرئيسة التي كانت تربط بين جنوبي شبه الجزيرة العربية وشماليها، وأهم هذه القبائل هم الأنباط الذين نجحوا في الاستقرار في المنطقة المحيطة بالبتراء "جبل سعير" بعد أن زحزحوا القبائل الأيدومية من هذه المنطقة ودفعوا بهم نحو الشمال. وهكذا استطاع الأنباط "الذين رأيناهم يشتركون مع أبي ياتع في الهجوم على حدود الدولة الآشورية في عهد بانيبال" في أن يسيطروا من موقعهم الجديد ومن عاصمتهم التي تحصنها التكوينات الحجرية من ثلاث جهات، على عقدة رئيسة تتحكم في الطرف الشمالي من الخط التجاري المذكور. أما السبب الثاني فهو أن الميديين "الذين اشتركوا في إسقاط الدولة الآشورية" ما لبثوا أن ركزوا أنفسهم في القسم الشمالي الغربي من إيران، وأبعدوا بذلك الدولة البابلية الحديثة عن الطرق التجارية الآتية من شرق وشمال إيران، وهي الطرق التي كانت تجد طريقها قبل ذلك نحو الغرب إلى وادي الرافدين في عهد الآشوريين؛ وهكذا منع الميديون عن الدولة الجديدة في وادي الرافدين موردا اقتصاديا لا يمكن إغفاله أو الإقلال من أهميته17. ويبدو أن هذا التدهور الاقتصادي استمر تدريجيًّا وبشكل منتظم حتى بلغ أقصاه في الشطر الأخير من عهد الدولة البابلية الحديثة، إذ تشير أسعار المواد في العقدين الأخيرين اللذينِ سبقا سقوط بابل أمام الزحف الفارسي "في 539 ق. م." إلى ارتفاعها إلى الضعف, ولنا أن نتصور ما يمكن أن يتركه هذا التضاعف على الواقع المعيشي والاقتصادي في المنطقة18. وأمام هذا التدهور من جهة، والازدهار الاقتصادي من جهة أخرى في   17 عن استقرار الأنباط في البتراء راجع، hitti: ذاته، الصفحة ذاتها. عن الميديين، رضا جواد الهاشمي: ذاته، ص660. 18 "london 1962" saggs: the greatness that was babylon، ص148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 المواقع العربية المسيطرة على الخطوط التجارية البرية, وبخاصة الخط الذي يخترق شبه الجزيرة العربية من الشمال إلى الجنوب, نجد نابونائيد "نابونيدوس nabonidus عند الكتاب الكلاسيكيين" يتجه بأنظاره إلى الغرب ويقرر نقل مقر إمبراطوريته إلى واحة تيماء التي تشكل موقعا حيويا على الطريق التجاري الذي يصل شمالي شبه الجزيرة بجنوبها. وكان ذلك في السنة السابعة من حكمه أي: في 549 ق. م. وأقام بها نحو عشر سنوات قبل أن يعود إلى بابل في 539 ق. م. وهي السنة التي سقطت فيها بابل في أيدي الفرس الأخمينيين. وقد كان انتقال الملك البابلي إلى قلب شبه الجزيرة دون شك أمرًا جديدًا لم يكن في حسبان القبائل العربية التي اعتادت أن تتعامل مع ملوك من وادي الرافدين, إما يأتون إليها في حملات ينتهي أثرها في كثير من الأحيان بعودة هؤلاء الملوك إلى عاصمة دولتهم، أو يقضون فترات بعيدينَ عن هذه القبائل إذا ما شغلهم إقرار الأمور في داخل وادي الرافدين، وبخاصة في أوقات الاضطراب والثورات، عن الالتفات بشكل حاسم إلى محاولات العرب للسيطرة على المواقع المهمة على الخطوط التجارية مما أغراهم في بعض المناسبات بنقض عهودهم مع الملوك الآشوريين أو حتى بمحاولة الاعتداء على حدود الدولة الآشورية كما مر بنا. وهكذا حين انتقال نابونائيد للإقامة في تيماء نجد موقف العرب يبدو واضحًا في جهتين محددتين، سواء إزاء اتخاذه لهذه المدينة مقرًّا له, أو إزاء إخضاعه لعدد آخر من المدن الواقعة على الخط التجاري الشمالي الجنوبي بعد ذلك. فمن جهة نجد بعض قبائل العرب تتصدى له مباشرة وهو موقف يتضح لنا من أحد النقوش التي نجد فيها هذا الملك يقدم على قتل أمير تيماء وعلى ذبح قطعان الماشية التي يمتلكها سكان المدينة وضواحيها، ومن نقش آخر، رغم تلف بعض سطوره، نفهم أن سكان بعض المناطق العربية تعرضوا للملك وحاولوا أن ينهبوا ممتلكاته ولكنه نجح في القضاء على بعضهم وتشتيت البعض الآخر مما اضطرهم للخضوع له, ومن الجهة الأخرى يبدو أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 سكان بعض المناطق آثروا قبول الأمر الواقع، إذ يقول الملك: "إن بلاد العرب وكل الملوك الذين أبدوا عداءهم، أرسلوا لي برسلهم طالبين السلم وحسن العلاقات"19. وهناك ملاحظتان على إقامة نابونائيد في تيماء والأماكن التي وصل إليها وسيطر عليها, وأولى الملاحظتين هي أن المدن التي يذكرها في هذا الصدد تقع على الخط التجاري الشمالي الجنوبي مما يؤكد هدفه الاقتصادي من نقل مقر حكمه إلى تيماء. فإلى جانب هذه المدينة يذكر الملك أن هذه المدن هي دادانو، فاداكو، هيبرا، ياديهو، باتريبو20. وفيما يخص دادان فإن هذه المدينة "وهي العلا الحالية" كانت أحد المواقع الرئيسة التي اتخذها المعينيون الشماليون مقرًّا لهم، وهيبرا هي خيبر، وفداكو هي فدك الواحة الخصبة الواقعة إلى شمالي خيبر, كذلك فإن ياديهو، كما يظهر من نطقها, هي يادع، وهي منطقة بين فدك وخيبر. أما ياتريبو فهي يثرب التي تغير اسمها إلى المدينة المنورة بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها. وأما الملاحظة الثانية فهي أن يثرب تشكل آخر عمق في شبه الجزيرة العربية وصل إليه أي ملك من ملوك الدول التي قامت في وادي الرافدين. ثم أختم الحديث عن علاقات العرب بالقوات الشرقية بعرض سريع لهذه العلاقات مع الإمبراطورية الفارسية. وفي هذا الصدد نجد الفرس يبدءون في مد نفوذهم على المناطق العربية بعد أن انتهوا من إسقاط بابل في 539 ق. م. ففي أحد النقوش التي ترجع إلى عهد الملك قورش الثاني "557 -529 ق. م."   19 النصوص على التوالي في anet, صفحات 313-314 وg.g.gadd: the harran inscriptions of nabonidus "anatolian studies, III, 1958" صفحة 35 وما بعدها. 20 النص الوارد في gadd في الحاشية السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 نجد هذا الملك الفارسي يذكر أن كل ملوك المنطقة الممتدة بين البحر الأدنى "الخليج" والبحر الأعلى "البحر المتوسط" قد دانوا له بالولاء, وأنهم قدموا إلى بابل حاملينَ معهم جزية كبيرة وقبَّلوا قدميه, ويذكر من بينهم "كل ملوك الأراضي الغربية، الذين يسكنون الخيام"21. والنص صريح فهو يشير إلى كل هؤلاء الملوك، ومن ثم فرؤساء القبائل والتجمعات العربية القبلية "إلى جانب المناطق العربية الحضرية" قد خضعت لسلطان هذا الإمبراطور الفارسي. غير أن تطورًا في العلاقات الفارسية العربية يبدو أنه حدث بين الشطر الأخير من القرن السادس ق. م. حين أخضع الملك قورش الثاني "557-529 ق. م." هذه المنطقة بعد سقوط بابل في 539 ق. م., وبين أواسط القرن الخامس ق. م. إذ يذكر لنا المؤرخ اليوناني هيرودوتس "الذي عاش في أواسط هذا القرن" في أكثر من مناسبة ما يفيد أن العرب كان لهم وضع خاص, وعلى سبيل المثال فنحن نجد هيرودوتس herodotos المؤرخ اليوناني يذكر لنا في أثناء حديثه عن الولايات، أن "الولاية الخامسة "من ولايات الإمبراطورية الفارسية" تمتد بين بوسيدونيون على الشاطئ السوري ... وبين مصر، ما عدا القسم الذي يسكنه العرب فهم لا يدفعون ضريبة" ثم يعدد في موضع آخر أسماء الشعوب التي لم تكن تدفع ضرائب للإمبراطور الفارسي ولكنها تقدم هدايا له, ويذكر من بينها العرب الذين كانوا "يقدمون ما يساوي ألف وزنة talentum من الطيوب سنويا"22. ويبدو واضحًا من المقارنة بين النقش الفارسي وبين نصوص المؤرخ هيرودوتس أن المنطقة التي احتلها الفرس على عهد قورش الثاني تعرض فيها   21 النص في ANET، ص 316. 22 النصوص على التوالي، HERODOTOS: iii, 91, 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 النفوذ الفارسي لشيء غير قليل من التخلخل, إذ يذكر المؤرخ اليوناني أن الإمبراطور الفارسي دارا "521-489ق. م." أخضع كل آسيا، ما عدا العرب "الذين لم يقدموا له طاعة العبودية" ولكنه كان مرتبطًا معهم برباط الصداقة حيث أمَّنوا لقمبيز "إمبراطور فارس من 529-521 ق. م." الطريق إلى مصر "التي ما كان ليستطيعَ دخولها لولا موافقة -يقصد حسن نية- العرب" ويؤكد هذا القول في مواضع أخرى يذكر فيها أن العرب ساعدوا قمبيز عندما أراد احتلال مصر بأن أمنوا له الطرق وزودوه بالماء وتبادلوا معه العهود23. وهكذا تكون العلاقة بين الفرس والعرب في هذه الفترة علاقة من نوع خاص، فالعرب في المنطقة القريبة من مصر هم الذين يسيطرون على مسالك الطرق الصحراوية المؤدية من المنطقة السورية "بالمفهوم الجغرافي" إلى مصر؛ ومن ثم فلا يمكن السيطرة عليهم سيطرة كاملة بالطرق التنظيمية التقليدية, ولكن الفرس في الوقت ذاته محتاجون إلى خدماتهم في تأمين الطرق أمام القوات الفارسية وإرشاد هذه القوات وتزويدها بالمياه على الطريق. وهكذا يتحول مفهوم العلاقة بين الفرس والعرب إلى خدمات متبادلة وعهود متبادلة، ويشير هيرودوتس في صراحة محددة إلى أن العرب حافظوا على عهودهم مع الفرس24. غير أن المناطق العربية الواقعة في أقصى الشمال من شبه الجزيرة العربية لم تكن المناطق الوحيدة التي تعرض لها الفرس في شبه الجزيرة، ففي نص من عهد الإمبراطور الفارسي حشويرش "خشيارشاه الذي عرفه الكتاب اليونان باسم XERXES 485-465 ق. م." نجد هذا الإمبراطور يشير بشكل مباشر إلى امتداد حكمه على بلاد العرب, إذ يذكر بين قائمة الأماكن التي امتد حكمه إليها "ماكا والبلاد العربية" و "ماكا" هي دون شك ماكاي MAKAE التي يأتي ذكرها عند الكتاب الكلاسيكيين, كتسمية لقسم من الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية "عُمَان الحالية",   23 على التوالي، ذاته: iii,88,4,7,9. 24 ذاته: iii,7,8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وهي التي عرفت في النصوص الأكدية "في وادي الرافدين" قبل ذلك باسم ماكان أو ماجان وهي "بالجيم الجافة"25. أما بلاد العرب في هذا النص فيبدو بالمقارنة مع النصوص الآشورية أنها تعني المناطق الواقعة في شمالي شبه الجزيرة بين وادي الرافدين والمنطقة السورية, وإن كان لنا أن نستثني من هذا التعميم، المناطق التي كانت تسكنها القبائل العربية في جنوبي المنطقة السورية التي رأينا أن العلاقة بينها وبين الفرس كانت علاقة من نوع خاص.   25 نص خشيارشاه في ANET، ص316. بعض النصوص عن ماجان في, ذاته: صفحات 41، 49، 266، 268، 294، 296. عن تحديد مكانها في عمان بصفة مبدئية راجع، G. ROUX ذاته، ص28. عن MAKAE في النصوص الكلاسيكية وتحديد مكانها في مواجهة الشاطئ الفارسي للخليج راجع strabo: XVI, 3:2, كذلك راجع خريطة الجغرافي اليوناني بطلميوس كلاوديوس في ملحق الخرائط بهذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 المرحلة الثانية: العلاقات مع القوات الغربية الاسكندر الأكبر والدول المتأغرقة ... 2- المرحلة الثانية: العلاقات مع القوات الغربية: أ- الإسكندر الأكبر والدول المتأغرقة: وقد بقيت السيطرة الفارسية على منطقة الشرق الأدنى حتى الشطر الأخير من القرن الرابع.ق. م. وفي خلال هذه السيطرة لنا أن نتصور أن علاقاتهم بالعرب في شبه الجزيرة بقيت على ما هو عليه بما في ذلك علاقتهم "الخاصة" مع العرب الموجودين في أقصى الطرف الشمالي من القسم الشمالي الغربي لشبه الجزيرة العربية في المنطقة الواقعة بين القسم الجنوبي لسورية والحدود المصرية. ولكن الشطر الأخير من القرن الرابع ق. م. شهد بداية مرحلة جديدة من علاقات العرب بالعالم الخارجي ظهر على امتدادها اتجاهان واضحان: الأول هو أن هذه العلاقات اتخذت اتجاها غربيا بالدرجة الأولى، وبخاصة في العصر المتأغرق عصر الدول التي قامت على أنقاض إمبراطورية الإسكندر في أول القرن الثالث ق. م. وامتدت حتى ظهور العصر الإمبراطوري الروماني في العقود الأخيرة من القرن الأول ق. م. وفي عصر الإمبراطورية الرومانية. أما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 الاتجاه الثاني الذي اختلفت فيه هذه المرحلة عن المرحلة الخارجية فلم يعد قاصرًا على القسم الشمالي لشبه الجزيرة العربية، وإنما أصبح ينتظم كل شبه الجزيرة، بما فيها قسمها الجنوبي, وبخاصة المنطقة الجنوبية الغربية منه حيث منطقة إنتاج الطيوب ونقطة الانطلاق في تجارتها وهمزة الوصل في خطوط المواصلات بين الشرق والغرب في العالم القديم. ولعلنا نستطيع أن ندرك الأبعاد الحقيقية ولو بشكل جزئي لهذه المرحلة إذا رجعنا قليلًا إلى الوراء، ففي النصف الأول من القرن الخامس ق. م. بعد الصدام العسكري بين اليونان والإمبراطورية الفارسية "490 و480 ق. م." وهو أول صدام كبير بين اليونان والعالم الخارجي بدأ اليونان يظهرون قدرا متزايدا من الاهتمام بشئون العالم الشرقي الذي وصلت صورته إلى عقر دارهم في أثناء هذه الحروب التي دارت معاركها على الأراضي اليونانية أو في المياه اليونانية التي تفصل بين بلاد اليونان وبين الساحل الغربي لشبه جزيرة آسيا الصغرى حيث يوجد آخر امتداد غربي لولايات الإمبراطورية الفارسية, وكان أحد مظاهر الاهتمام هو التحقيقات التاريخية historiae التي شكلت كتابات المؤرخ اليوناني هيرودوتس في أواسط القرن الخامس ق. م. التي ظهر الحديث فيها عن شئون شبه الجزيرة العربية بشكل واضح، وهي كتابات أعقبتها احتكاكات أخرى سياسية وعسكرية بين اليونان والفرس وكتابات أخرى لرحالة مؤرخين وعلماء يونانيين بدأت فيها الكتابات عن شئون شبه الجزيرة تنتقل من دائرة المعلومات الموسوعية العامة إلى دائرة الحديث المتخصص وبخاصة عن الموارد الاقتصادية لهذه المنطقة، وأهمها، بطبيعة الحال، هو الطيوب. ثم جاء الشطر الأخير من القرن الرابع ق. م. بتطور جديد وحاسم في   26 راجع لطفي عبد الوهاب يحيى: الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية، صفحات 2-3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 العلاقات الدولية بين الغرب والشرق هي الفتوحات العسكرية التي قام بها الإسكندر الكبير ملك مقدونيا. لقد نقلت هذه الفتوحات علاقات الغرب بالشرق من مجرد مواجهات عسكرية محدودة أو علاقات سياسية في صورة أو في أخرى، بين الغرب والشرق لم تؤثر كثيرًا على الوضع القائم في علاقات هذين الجانبين، إلى مواجهة حاسمة سيطرت قوات الإسكندر على أثرها على الإمبراطورية الفارسية وبعض الأراضي المجاورة لها، أي: على أقسام كبيرة من منطقتي الشرق الأدنى والأوسط أحدقت بحدود شبه الجزيرة العربية ودفعت بالإسكندر إلى التفكير في غزو هذه المنطقة والاستعداد الفعلي لتنفيذ ذلك حتى تكتمل له حلقة الاتصال البحري الذي كان يرى فيه تدعيمًا لدائرة سيطرة عالمية شملت مناطق من الشرق والغرب. ورغم أن الحملة المزمعة لم تخرج إلى حيز التنفيذ بسبب الموت المفاجئ للإسكندر في 323 ق. م. إلا أن الاستعدادات التي اتخذها بهدف القيام بهذه الحملة تمت عن آخرها. وفي هذا الصدد نجد الإسكندر يرسل عددًا من أعوانه، من بينهم قائده البحري أناكسكراتيس anaxikrates؛ ليجمعوا له كل المعلومات الممكنة عن الساحل الغربي وجزء من الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة، كما يرسل ثلاثة قواد بحريين آخرين، الواحد تِلْوَ الآخر؛ لاستكشاف الساحل للجزيرة وصل أحدهم وهو هييرون hieron إلى نقطة يعتقد أنها عند منطقة رأس الخيمة الحالية27. وقد كان اهتمام الإسكندر بشبه الجزيرة العربية بداية لعلاقة نشطة بين اثنين من الدول المتأغرقة التي قامت على أنقاض إمبراطورية الإسكندر، هما دولة السلوقيين في سورية ودولة البطالمة في مصر من جانب، وبين شبه الجزيرة   27 ARRIANOS: ANABASIS, vii, 20:8-10. عن محاولة تحديد المكان الذي وصل إليه مساعدو الإسكندر راجع M. cary & e. h. warmington: ancient explorers الفصل الرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 العربية من جانب آخر. وقد جاء هذا الاهتمام نتيجة للصراع العنيف الطويل الذي شَبَّ بين خلفاء الإسكندر، وبخاصة بين هذين البيتين الحاكمين، وهو صراع استخدمت فيه كل أنواع الأسلحة بما فيها السلاح الاقتصادي على وجه التخصيص؛ ومن هنا يبدأ الاهتمام بمنطقة شبه الجزيرة العربية. فالسلوقيون الذين دخلت منطقة وادي الرافدين ضمن ملكهم لبعض الوقت، أقاموا عددًا من المستوطنات بين الفرات ومدينة جرهاء "على شاطئ شبه الجزيرة العربية المطل على الخليج" كما عقدوا اتفاقية مع هذه المدينة لتمدهم بالتوابل والطيوب لقاء عدم سيطرتهم السياسية عليها28. أما عن البطالمة فنحن نجد بطليموس فيلادلفوس philadelphos "308-246 ق. م." ثاني ملوك هذه الأسرة الحاكمة، يرسل أرستون ariston ليستكشف له ساحل شبه الجزيرة العربية المطل على البحر الأحمر حتى المداخل الجنوبية لهذا البحر "مضيق باب المندب حاليا" حتى يتعرف على أصلح الأماكن التي تسهِّل له طريق المواصلات البحرية التي تخدم مصالحه التجارية التي شكلت قسما بارزا من اهتماماته إزاء الصراع الاقتصادي والسياسي والعسكري العنيف الذي كان سمة منطقة الشرق الأدنى والقسم الشرقي للبحر المتوسط في ذلك الوقت. كذلك نجد هذا الملك يعمل على اعتراض "طريق الطيوب والتوابل" الذي يصل بين العربية الجنوبية والبتراء "في الشمال" عاصمة الأنباط عقابًا لهم بسبب انضمامهم إلى جانب السلوقيين في الصراع البطلمي السلوقي، فيعقد اتفاقية مع اللحيانيين الذين كانوا يسيطرون على ديدان dedan "العلا الحالية" جنوبي مملكة الأنباط، كذلك نستطيع أن نتبين خطوة أخرى في هذا الاتجاه العام فيما أقدم عليه بعض التجار اليونان "من ميلتوس miletos على الساحل الغربي لشبه جزيرة آسيا الصغرى" من إقامة مستوطنة أمبيلوني ampelone على الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية كميناء بحرية لمدينة   28 plinius: HN, VI, 147, polybieos: II, 39: 11 sq. ,XIII,9:4-5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ديدان لصالح الملك ذاته. كما اهتم البطالمة، إلى جانب ذلك بتأسيس أو تشجيع ورعاية عدد من المستوطنات اليونانية على الساحل الغربي لشبه الجزيرة؛ لتأمين الخط التجاري البحري في البحر الأحمر29. وقد كانت نتيجة ذلك كله أن الخط الجديد للمواصلات التجارية البحرية في البحر الأحمر ازدهر على حساب القسم الشمالي من الخط التجاري البري الطولي في شبه الجزيرة؛ مما أثر على اقتصاديات مملكة الأنباط. وفي هذا المجال يذكر لنا سترابون الجغرافي اليوناني، أن السلع التي كانت تأتي بحرًا إلى ميناء ليوكي كومي leuke kome "القرية البيضاء" على القسم الشمالي من ساحل شبه الجزيرة المطل على البحر الأحمر،" في داخل منطقة الأنباط" ومنها برًّا إلى البتراء حيث تجد طريقها إلى الموانئ الفينيقية، أصبحت تصل الآن رأسًا "بالطريق البحري" إلى ميناء ميوس هورموس myos homos على الساحل المصري المقابل، ومنها بالطريق البري إلى النيل عند منطقة طيبة، ثم عن طريق النيل إلى الأسكندرية30. وقد كانت نتيجة هذا التأثير السيئ "ولو بشكل جزئي" على اقتصاديات الأنباط ما أدى بهؤلاء إلى مهاجمة السفن التجارية التي تقلع من الموانئ المصرية، ولكنهم كفوا عن ذلك "بعدما أدبهم المصريون" حسب تعبير سترابون31.   29 plinius: hn,VI, 159. راجع كذلك، w.w.tarn:jea "1929" صفحات 9 وما بعدها. 30 strabo: XVI, 4: 24. 31 ذاته: XVI, 4: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ب - العلاقات مع الإمبراطورية الرومانية: ولكن الدول المتأغرقة، بما فيها مصر وسورية، كانت قد بدأت في التدهور لتحل محلها على المسرح الدولي قوة جديدة، وهي روما التي كان ظهورها كقوة قد بدأ بشكل تدريجي منذ القرن الثالث ق. م. وحين أطلت العقود الأخيرة من القرن الأول ق. م. كانت هذه القوة، التي صبحت الآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 إمبراطورية, قد بدأت تفصل في أمور المناطق المتاخمة لسواحل البحر المتوسط في الشرق وفي الغرب. وقد اتجهت الإمبراطورية الرومانية بأنظارها إلى شبه الجزيرة العربية لسببين رئيسيين: أولهما هو الرخاء الكبير الذي كان يسود المجتمع الروماني آنذاك، وهو رخاء كان أحد مظاهره استهلاك غير عادي في حجمه من جانب المجتمع الروماني للطيوب والتوابل التي كان قسم منها يأتي من العربية الجنوبية، بينما يمر القسم الباقي الذي يأتي من مناطق أخرى بشواطئ العربية الجنوبية, ليصل عن الطرق البرية أو البحرية من هناك إلى أصحاب رءوس الأموال "أو طبقة الفرسان equites كما كانت تُدْعَى في روما آنذاك" التي كانت تسيطر على جوانب كثيرة من الاقتصاد الروماني، من بينها التجارة الخارجية التي كانت في أغلبها تجارة شرقية والتي كانت أغلى سلعها هي الطيوب والتوابل. وإلى جانب ذلك فقد كانت هناك ظروف أخرى وجهت نظر روما إلى شبه الجزيرة العربية وموانئها, فبعد استيلاء روما على سورية وتحويلها إلى ولاية رومانية نجحت في 30 ق. م في غزو مصر وتحويلها بدورها إلى ولاية أخرى من ولاياتها، وهنا شعرت روما أنها بحاجه إلى تدعيم هذه الحدود الشرقية لإمبراطوريتها إزاءَ غارات المناطق الواقعة على الأطراف الغربية لشبه الجزيرة العربية، والتي كانت تهدد هذه الحدود الشرقية سواء في أرضها أو مواصلاتها. كذلك كانت هناك قوة شرقية كبيرة، وهي الدولة الفرثية "البارثية" في إيران، التي كانت في حالة صراع شبه دائم مع الرومان، استمر سجالًا ابتداء من القرن الأول ق. م. وقد تسبب هذا العداء في تهديد الفرثيين للطريق التجارية البرية الواقعة في أقصى الشمال من شبه الجزيرة العربية التي كانت تربط روما بالشرق الأقصى مرورًا بآسيا الصغرى، ومن هنا اتجه الرومان إلى معالجة هذا الوضع بطريقتين، إحداهما هي البحث عن وسيلة لتأمين هذا الخط البري الواقع في شمالي شبه الجزيرة بشكل أو بآخر, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 والثانية بتعويض هذه الطريق بالسيطرة في حدود الإمكان على المناطق التي تمر بها الطريق التجارية البحرية من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، والتي يشكل القسم الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة العربية نقطة حيوية تتحكم عند نقطة التقاء البحر بالمحيط32. وفي إطار هذه الظروف جميعًا كانت تدور علاقات الرومان بالتجمعات أو التكوينات السياسية في شبه الجزيرة العربية، وهي علاقات تعرضت من خلالها روما إلى ثلاث مناطق في شبه الجزيرة هي، حسب الترتيب الزمني: اليمن أو المنطقة الجنوبية الغربية، ومملكة الأنباط في القسم الشمالي الغربي، ثم مملكة تدمر في أقصى الشمال. وكان أول نشاط الرومان في هذا المجال هو الحملة التي أرسلها أغسطس augustus, أول الأباطرة الرومان، إلى منطقة سبأ في العربية الجنوبية عام 25 ق. م. تحت قيادة إيليوس جالوس aelius gallus الوالي الروماني على مصر آنذاك. ويذكر لنا سترابون أن هناك اعتبارين وراء هذه الحملة: أحدهما هو السيطرة على مداخل البحر الأحمر إما عن طريق كسب العرب إلى صفه أو إخضاعه لهم. والاعتبار الآخر هو ما سمعه أغسطس عن الثروة الهائلة لهذه المنطقة التي تكثر بها الطيوب والتوابل؛ الأمر الذي أغراه بإرسال هذه الحملة حتى يتمكن من "أن يتعامل معهم كأصدقاء أغنياء أو أن يسيطر عليهم كأعداء أغنياء"33 وهو تعليل يوضح تفاصيل كثيرة وصحيحة تدور كلها حول هذين الاعتبارين، كما يذكر سترابون عاملًا شجع أغسطس على هذه الحملة، وهو ما وعده به الأنباط من مساعدة في تنفيذها عن طريق إرشاد القائمين عليها إلى طرقات المنطقة وتعريفهم بأرضها34.   32 لطفي عبد الوهاب يحيى: ذاته، صفحات 8-9. 33 strabo: XVI, 4: 22. 34 ذاته: الموضع ذاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وقد أبحر إيليوس جالوس بحملة من ميناء أرسينوي arsinoe المصرية عند الطرف الشمالي الشرقي لخليج القلزم "السويس حاليًا" ونزل بجنوده في ليوكي كومي leuke kome التي تقع على خط عرض 25 شمالًا على الساحل الشرقي للبحر الأحمر، وهي آخر موانئ الأنباط جنوبًا على هذا الساحل، ومن هنا كان على الحملة أن تقطع المسافة الباقية إلى سبأ عن طريق الصحراء وهي مسافة تصل إلى 1400 كيلومتر أو تزيد. وقد تعرضت الحملة على طول هذه المسافة إلى مصاعب لم تكن في حساب القائد الروماني، منها قلة المياه على الطريق وقلة مواد التموين, ومنها كذلك الأمراض المتوطنة التي تعرض لها قسم كبير من الجنود, ثم عدم توفر الطرق الصالحة لسير تشكيلات كبيرة من الجنود مما جعل هذه الحملة تستمر في طريقها ستة أشهر كاملة قبل أن تصل إلى حدود سبأ, بكل ما تعنيه هذه المدة الطويلة من صعوبات سواء اتخذت هذه الصورة تكاليف مادية أو هبوطًا في الروح المعنوية للجنود. وحين وصلت هذه الحملة أخيرًا إلى سبأ لم تستطع أن تحقق هدفها الأساسي وهو الاستيلاء على عاصمة المملكة التي كان أغسطس يرمي إلى السيطرة عليها فقد وصل جالوس إلى مدينة يدعوها المؤرخ بلينيوس ماربه mariba "وربما تكون مأرب العاصمة" وبعد حصار دام ستة أيام اضطر أن يعود أدراجه؛ إذ لم يكن لديه من الماء ما يكفي لاستهلاك جنوده في حصار أطول من هذا، وبذلك تكون الحملة قد انتهت دون تحقيق هدفها العسكري. كذلك نسمع عن حملة رومانية أخرى أرسلها الإمبراطور أغسطس عن طريق البحر في وقت لاحق "ربما بعد عشرين سنة" إلى هذه المنطقة تحت قيادة ابنه بالتبني جايوس قيصر gaius caesar. ويبدو أن هذه الحملة لم تستغرق وقتا أو جهدا كبيرا إذ يذكر لنا الكاتب الروماني بلينيوس أن هذا القائد "لم يفعل أكثر من إلقاء نظرة سريعة على بلاد الغرب"35.   35 تفاصيل حملة إيليوس جالوس في ذاته: xvi, 4: 23-4. عن حملة جايوس قيصر، plinius: HN, VI, 141. عن إلقائه نظرة سريعة على بلاد العرب، ذاته: VI, 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ولكن يبدو مع ذلك أن كلًّا من الحملتين, أو إن الحملتين في مجموعهما, قد حققتا الهدف الاقتصادي والسياسي بالنسبة لروما. وهناك أكثر من دليل يشير إلى هذه النتيجة, فمن جهة يذكر لنا كاتب يوناني وصل إلينا كتابه وإن لم يصلنا اسمه أن "قيصر" أخضع عدن 36eudaemon. وسواء أكانت تسمية "قيصر" تعني جايوس قيصر قائد الحملة البحرية أو تشير إلى أغسطس الذي كان يشار إليه عادة باسم قيصر، فالنتيجة واحدة. كذلك يذكر لنا بلينيوس أن جايوس قيصر قد "حصل على شهرة واسعة"37 من وراء هذه الحملة, وهو حديث يدل على أن روما حققت هدفًا ملموسًا من وراء حملته. فإذا تذكرنا أنه لم يفعل في هذه الحملة أكثر من مجرد الظهور على سواحل الغربية الجنوبية يكون معنى هذا أن الحملة الأولى لم تكن فاشلة تماما في جانبها السياسي بحيث إن مجرد ظهور القوة الرومانية مرة أخرى بعد نحو عشرين سنة -وهي المدة المرجحة بين الحملتين- كان كافيا في حد ذاته لإخضاع عدن "حتى ولو أخذنا هذا الإخضاع بأقل معانيه وهو حصول روما على امتيازات في هذه الميناء". وأما الشاهد الأخير فهو شاهد أثري مؤداه أن حوالي نصف العملة الرومانية التي وجدت في الهند ترجع إلى عهد كل من الإمبراطور أغسطس والإمبراطور تيبريوس Tiberius ثاني الأباطرة الرومان. ومعنى هذا أن التجارة الرومانية مع الهند قد نشطت نشاطا كبيرا في هذه الفترة38, وغني عن البيان أن نقطة الوسط في طريق التجارة بين روما والهند تشغلها السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، الأمر الذي يدل على أن روما، إن لم تكن قد وضعت المنطقة تحت نفوذها, تكون قد حصلت على تسهيلات تجارية كبيرة في موانيها.   36 periplos: 26. 37 plinius: HN, XII, 55. 38 M.Cary: A History of Rome ط2، 1960، ص591, حاشية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 هذا فيما يخص علاقة روما بجنوبي شبه الجزيرة العربية. أما في القسم الشمالي من شبه الجزيرة، فقد احتكت روما، كما أسلفت، بمنطقتين أساسيتين إحداهما مملكة الأنباط والأخرى مملكة تدمر. وفيما يخص مملكة الأنباط فإن أول ظهور واضح لها في مجال السياسة الخارجية كان في مجال العلاقات مع الإمبراطورية الرومانية. وفي هذا المجال نجد أن الرومان يعتمدون على الوزير النبطي سللايوس syllaeus "الشلاء أو الصلاء" ليرشد القوات الرومانية في طريقها إلى العربية الجنوبية. وقد عانت الحملة الرومانية كثيرًا، كما رأينا، من هذه الطريق التي استمر السير فيها ستة أشهر كاملة، قبل الوصول إلى هدفها، وهو أمر أثار الشك عند أحد الكتاب الذين عاصروا الحملة وهو سترابون الذي كان صديقا شخصيا لقائدها الروماني إيليوس جالوس, فيذكر لنا هذا الكاتب أن الوزير النبطي قد تعمد تضليل الحملة، وأنه كان يهدف من وراء ذلك إلى القضاء عليها أو إفشال هدفها بعد أن تكون قد دمرت بعض المدن التي قد تبدي شيئًا من المقاومة، ومن ثم يتمكن سللايوس بعد ذلك من فرض سيادته على كل المنطقة معتمدًا في مخططه هذا على ضعف شخصية الملك النبطي عبيدة Obodas. ثم ينهي الكاتب حديثه باكتشاف روما, بعد إخفاق الحملة، لأهداف سللايوس وإعدامه عقابًا على مجموعة أخطاء من بينها هذه الخديعة39. وقد كان الوزير النبطي سللايوس رجلا ذا شخصية قوية فعلا، وربما أقدم على هذه الخديعة، وربما لم يقدم عليها كما يذهب بعض الباحثين40, ولكن تبقى في النهاية حقيقة لا تقبل الجدل وهي أن روما قد حاكمته وأعدمته   39 strabo: XVI, 4: 24. 40 عن قوة شخصية سللايوس راجع kammerer: petra et la nabatene ص191. عن رأي يستبعد الخدعة راجع J.G.C. Anderson: CAH, X ص152 وحاشية1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 فعلا، ومعنى هذا أنها وجدت من حقها ومن سلطانها أن تقدم على هذا التصرف، وهو تصرف نرجح أمامه أن مملكة الأنباط، رغم عدم تبعيتها من الناحية الرسمية لروما، إلا أنها في ضوء هذا الظرف لا بد أنها كانت داخلة في دائرة نفوذ الإمبراطورية الرومانية. ويدعم هذا الترجيح أن الكاتب نفسه "سترابون" يذكر في موضع آخر من كتابه أن الأنباط كانوا قد أصبحوا في الوقت الذي كتب فيه "أواخر القرن الأول ق. م. وأوائل القرن الأول الميلادي" من رعايا روما41 رغم أن مملكة الأنباط لم تصبح ولاية رومانية من الناحية الرسمية إلا بعد ذلك بقرن وربع تقريبًا. ويؤكد دخول مملكة الأنباط في دائرة النفوذ الروماني في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها "الربع الأخير من القرن الأول ق. م" أن الإمبراطور أغسطس كاد يطيح بالحارثة "aretas عند الرومان" الملك النبطي الذي اعتلى العرش بعد موت عبيدة؛ لأنه لم يستأذنه قبل اعتلاء العرش42. ويرجع السبب الذي أدى بالإمبراطورية الرومانية إلى مد نفوذها على مملكة الأنباط إلى ظروف تتعلق بإقرار الأمور على الحدد الشرقية لهذه الإمبراطورية. وهي ظروف كانت تستوجب من أغسطس موقفا حازما على هذه الحدود؛ إذ كان للسلام السائد في هذه المنطقة ألا يتعرض لأية هزات في غير صالح روما. فقُبَيْل هذه العلاقات الرومانية النبطية كانت هناك ظروف في المنطقة تحمل بذور الاضطراب على الحدود الرومانية في الشرق. فالعلاقات بين سلّلايوس، الوزير النبطي، وبين هيرودوس herodos، ملك يهوذا "اليهودية" كانت قد تعقدت بعض الشيء مما أدى بالوزير النبطي إلى أن يحرِّض على قيام بعض الحركات الثورية ضد هيرودوس, الأمر الذي دفع   41 strabo: XVI, 4:21. 42 kammerer: ذاته، ص242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 هذا الأخير إلى مهاجمة الأراضي النبطية43. وكان طبيعيًّا في وسط هذه الظروف المشحونة بالاضطرابات أن يتخلخل نفوذ روما بعض الشيء في المنطقة مما أغرى سللايوس باغتيال أحد المسئولين الرومان, ومن هنا نستطيع أن نفهم التصرف الذي أقدم عليه أغسطس وهو فرض النفوذ الروماني على مملكة الأنباط إقرارًا للأمور على الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية، وهو أمر كان من الأهداف الأولى لهذا الإمبراطور. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد كان الفرثيون لا يفتئون من حين لآخر يحاولون توسيع حدود إمبراطوريتهم "الإمبراطورية الفارسية" أو مناطق نفوذها نحو الغرب على حساب حدود الإمبراطورية الرومانية ومناطق نفوذها كما كان الفرثيون يهددون بالذات الطرق التجارية التي تصل روما بالشرق الأقصى. ومن هنا كانت البتراء، عاصمة الأنباط، سواء بموقعها الذي تحصنه التكوينات الصخرية المرتفعة من أغلب جهاتها، أو بموقعها التجاري الحيري على الخط التجاري الذي يصل بين شمالي شبه الجزيرة العربية وجنوبيها، موقعًا يشكل نقطة إغراء بالنسبة لروما، سواء في التحرز ضد أي اجتياح فارسي، أو من حيث ضمان التحكم في أحد الخطوط التجارية الرئيسة. وهكذا ابتدأت تبعية المملكة النبطية بهذا الشكل غير الرسمي ليصل الأمر إلى ضم روما لهذه المملكة كولاية من ولاياتها تحت اسم "الولاية العربية" provincia arabia في 105م على عهد الإمبراطور الروماني ترايانوس44. ثم نأتي إلى المنطقة الثالثة "من مناطق شبه الجزيرة العربية" التي كانت لها علاقات مع الإمبراطورية الرومانية وهي تدمر. وأول مناسبة نسمع فيها عن علاقات بين هذه المدينة والإمبراطورية الرومانية هي في 17م على عهد   43 ذاته: ص 245 وما بعدها. 44 cary: ذاته، ص645. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 الإمبراطور تيبريوس "14-37م" ففي هذه السنة نجد قرارات رومانية تتعلق بالجمارك الخاصة بهذه المدينة45. أما عن السبب الذي أدى بدخول تدمر في دائرة النفوذ الروماني فيكمن في عاملين متداخلين يتعلقان، كما سبق أن رأينا في حالة مملكة الأنباط، بوجود الخطر الفارسي في الشرق. إن توترًا كان يشوب العلاقات الرومانية الفارسية بشكل يكاد يكون مستمرًّا، وكان هذا التوتر يعبر عن نفسه في شكلين متكاملين. والشكل الأول هو محاولة دائبة من جانب الفرس لقطع الطرق التجارية التي تصل الإمبراطورية الرومانية بتجارة الشرق الأقصى عبر آسيا الوسطى، أو على الأقل تهديد هذه الطرق. وأما الشكل الثاني فهو انفجار هذا التوتر بشكل مسلح, كثيرا ما كان يقع على الحدود الفاصلة بين الإمبراطوريتين الكبيرتين. وقد كانت تدمر تقع فيما يمكن أن نسميه المنطقة الحرام الواقعة قرب هذه الحدود: إلى شرقيها يقع وادي الرافدين الذي يسيطر عليه الفرس, وإلى غربيها تقع سورية التي يسيطر عليها الرومان، ثم في وسط موقعها يمر الخط التجاري المهم الذي يوصل بين الشرق والغرب في أقصى الشمال من شبه الجزيرة العربية. ولعل هذا الموقع الحساس في نقطة الوسط بين الإمبراطوريتين هو الذي حدد شكل العلاقة بين روما وبين هذه الواحة في قلب الصحراء، بحيث اختلفت هذه العلاقة عما رأيناه بين روما وبين مملكة الأنباط. ذلك أن منطقة الأنباط كانت تقع على الحدود المباشرة للإمبراطورية الرومانية، ومن هنا كانت روما تستطيع أن تلجأ معها إلى سياسة العصا الغليظة، سواء في حالة التبعية غير المباشرة أو التبعية الرسمية كولاية رومانية كما رأينا في أكثر من مثال في أثناء الحديث عن هذه العلاقة. ولكن الوضع كان مختلفًا في حالة تدمر فهي على الحدود بين الخصمين اللدودين ومن ثم يصبح من السهل عليها إذا   45 راجع ترجمة لنصوص بعض هذه القرارات في KAMMERER ذاته، صفحات 313-314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ضغط عليها طرف أكثر من اللازم, أن تنقل ولاءها للطرف الآخر. ومن هنا فإن سياسة الإمبراطورية الرومانية إزاءها اتسمت منذ البداية بشيء غير قليل من الليونة التي تركت لهذه المدينة كثيرًا من الاستقلال في الحركة المستقلة رغم تبعيتها للإمبراطورية الرومانية, سواء بشكل غير رسمي أو بشكل رسمي بعد ذلك. وفي ضوء هذا المفهوم نجد تدمر هي والمدن الصغيرة التابعة لها, تنتقل من النفوذ الروماني الصامت إلى تبعية واضحة للإمبراطورية الرومانية على عهد الإمبراطور هادريانوس hadrianus "117-138م" وعلى أثر زيارة قام بها هذا الإمبراطور للمدينة في 130م تدشن هذه التبعية ليصبح اسم المدينة بالميرا هادريانا palmyra hadriana "أي: تدمر الهادريانية، إذ كان اسم تدمر عند الرومان هو بالميرا, أي: مدينة النخيل بسبب الأعداد الهائلة من النخيل التي كانت موجودة بها". ثم نجد الإمبراطور سبتميوس سيفيروس septimius severus "193-211 م" يحولها هي والمدن التابعة لها إلى مدن لها وضع مدن الولايات الرومانية، وأخيرًا تصبح تدمر في أوائل القرن الثالث الميلادي ولاية رومانية رسمية. ولكن في كل هذه الأحوال اكتفت روما بالتبعية الاسمية من جانب هذه المدينة تاركة لها قدرًا يكاد يكون كاملًا من الاستقلال الإداري الذي وصل إلى درجة الحكم الذاتي46.وقد قابلت المدينة هذا الموقف من جانب روما بشيء كثير من الولاء في خدمة مصالح الإمبراطورية الرومانية. ففي أثناء الصراع الطويل الذي نشب بين الرومان والساسانيين "الذين خلفوا حكم الفرثيين في الإمبراطورية الفارسية" وقفت تدمر في جانب الرومان ووصل الأمر في 260م إلى موقف من جانب تدمر ظهر فيه قدر كبير من الإيجابية إزاء الرومان. ففي ذلك العام   46 عن آراء مختلفة في توقيت مراحل التبعية راجع KAMMERER ذاته، ص317؛ كذلك hitti: ذاته، ص75؛ Cary: ذاته، ص724. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 نجد الإمبراطور الفارسي شابور الأول يغزو قسمًا كبيرًا من سورية -التي كانت ولاية رومانية- ويأسر الإمبراطور الروماني فاليريانوس valerianus, وهنا يتدخل أذينة "أوديناتوس odenatus عند الرومان" أمير تدمر لصالح الرومان وينجح في مطاردة الإمبراطور الفارسي شابور إلى حدود عاصمة طيسفون ctesiphon "المدائن فيما بعد، طاق كسرى الآن على حدود بغداد". وكانت النتيجة التي ترتبت على ذلك هي مزيد من الثقة الرومانية التي جعلت الرومان يعطون هذا الأمير التدمري في 66م سلطة فعلية على بعض الولايات الرومانية وهي سورية والعربية الشمالية وربما أرمينية، وإن كانت السلطة الاسمية التي أضفاها عليه الإمبراطور الروماني جالينيوس47 galienus "253-268 م"47. ولكن مع ذلك فإن المنطلق الأساسي للسياسة الرومانية إزاء تدمر كان بطبيعة الحال هو المصلحة الرومانية في المقام الأول. وعلى هذا فحين شكت روما في بعض تصرفات البيت الحاكم التدمري نجد هذا الأمير "أذينة" وابنه يغتالان في حمص، على أرجح الظن, بتدبير من روما. ويتكرر موقف روما المنبثق من مصالحها في عهد الملكة الزباء "زينوبيا zenobia" التي خلفت زوجها أذينة كوصية على ابنها الصغير وهب اللات "فابالاتوس VABALATUS". وقد سبق أن رأينا في مناسبة سابقة أن الرومان وسعوا نطاق سلطتها مكافأة لها على رعاية مصالح الإمبراطورية الرومانية؛ لتمتد، إلى جانب تدمر، إلى سورية وشمالي الجزيرة العربية. ولكن حين حاولت هذه الملكة الطموحة أن تنتهز انشغال الإمبراطور الروماني أورليانوس aurelianus في بعض الحروب لتمد نفوذها على بعض المناطق في مصر وفي آسيا الصغرى عاجلها الإمبراطور   47 hitti: ذاته، الصفحة ذاتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 واجتاحت قواته مدينتها ودمرتها في 272م وأخذت الملكة أسيرة لتسير في موكب النصر الإمبراطوري في روما48.   48 cary: ذاته، ص728. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 المرحلة الثالثة: العرب بين قوى الشرق والغرب مدخل ... 3- المرحلة الثالثة: العرب بين قوى الشرق والغرب: طوال المرحلة التي ابتدأت في العقود الأخيرة قبل الميلاد وامتدت حتى الشطر الأخير من القرن الثالث الميلادي رأينا العلاقات العربية تتجه أساسا نحو الغرب، حيث الإمبراطورية الرومانية بنشاطها العسكري والسياسي الدائب. ورغم وجود الإمبراطورية الفارسية في تحفز دائم نحو الشرق ومتاخمة حدودها لحدود الإمبراطورية الرومانية عبر القسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية، إلا أن شبه الجزيرة دارت بشكل أو بآخر في دائرة النفوذ الروماني، وفي قسم من المنطقة على الأقل، وهو القسم الشمالي، جاء الوقت الذي دخلت فيه في تبعية مباشرة للإمبراطورية الرومانية التي أدارت معها حوارا دائما، إذا جاز لي أن أستخدم هذا التعبير المجازي، في ليونة مرة وفي ضغط أو عنف مرة، وأولتها ثقتها في بعض الأحيان، ووضعتها في ظل الشك في أحيان أخرى حتى جاء عام 272م الذي دمر فيه الإمبراطور الروماني أورليانوس مملكة تدمر لتختفي هذه المدينة ككيان سياسي من المسرح التاريخي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 أ - الإمارات العربية الحدّية: وقد شهدت الفترة التي تلت هذا الحدث واستمرت حتى ظهور الدعوة الإسلامية في بدايات القرن السابع الميلادي, ظروفًا من نوع جديد أدت إلى اتخاذ العلاقات العربية الخارجية اتجاهين جديدين. وأول هذين الاتجاهين هو أن الصراع بين القوتين الكبيرتين اللتين تحيطان بشبه الجزيرة العربية من الشرق ومن الغرب، رغم استمرار ما بينهما من توتر كان يصل إلى الصدام العسكري السافر في بعض الأحيان "كما حدث على سبيل المثال في أواسط القرن السادس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 حين هاجم الإمبراطور الفارسي خسرو "كسرى" أنوشروان أراضي الإمبراطورية الرومانية فاجتاح سورية وأسقط أنطاكية ودمرها عن آخرها"49، إلا أن ظروفًا جديدة كانت قد ظهرت في غضون القرن الثالث الميلادي أدت إلى اعتماد هاتين الإمبراطوريتين على إمارتين عربيتين حديتين, كل منهما تتبع قوة من القوتين الكبيرتين وتدافع عن حدود هذه القوة في مجابهة القوة الأخرى، وفي بعض الأحيان كان الأمر ينتهي بأن ينحصر الصراع بين هاتين الإمارتين نفسيهما, دفاعًا عن مصالح القوى الكبرى. وقد انقسمت الظروف التي أدت إلى هذا الوضع إلى قسمين بعضها خارجي يخص الدولتين الكبيرتين, وبعضها داخلي يخص شبه الجزيرة. وفيما يخص الظروف الخارجية نجد أن كلًّا من هاتين القوتين شهد تغييرات في غضون القرن الثالث والذي يليه كان لها أثرها على اتجاه كل منهما. ففي الغرب كانت القبائل الجرمانية المتبربرة قد بدأت مواقعها ووقعها على حدود الإمبراطورية الرومانية وتلت ذلك فترة من التدهور انتهت بتقسيم الإمبراطورية من الناحية الفعلية في عهد الإمبراطور قسطنطين "306-337م" الذي اتخذ بيزنطة "على مداخل البحر الأسود" عاصمة له بعد أن أعاد تسميتها لتصبح القسطنطينية. ثم انتهى الأمر بتكريس رسمي لهذا التقسيم الفعلي في 395م. كما شهدت هذه الإمبراطورية الرومانية الشرقية التي بدأت تعرف باسم الإمبراطورية البيزنطية عددًا من الصراعات العسكرية على عرش الإمبراطورية أثر إلى حد ملموس على فاعليتها في مجال الصراع الخارجي. أما فيما يخص الإمبراطورية الفارسية فكانت قد شهدت اضطرابا داخليا حول الحكم انتهى بسقوط الأسرة الحاكمة الفرثية وقيام الأسرة الساسانية مكانها في 226م لتنشغل بعد ذلك بعض الوقت في تثبيت دعائم حكمها في الداخل وسيطرتها على إمبراطوريتها في الخارج.   49 maxime rodinson: mohammed ص6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 فإذا نظرنا إلى داخل شبه الجزيرة العربية وجدنا تحركات من نوع آخر تأخذ مجراها في منطقة الهلال الخصيب في القسم الشمالي من شبه الجزيرة, ففي غربي هذا القسم كانت بعض القبائل التي ربما جاءت مهاجرة من اليمن قد بدأت تستقر على الحدود السورية وهم بنو غسان. بينما كانت تجمعات قبلية أخرى قد بدأت تستقر في القسم الشرقي من الهلال الخصيب على الحدود الغربية للفرات وهم بنو تنوخ الذين كانوا ينتمون إلى تجمع أكبر هو قبائل اللخميين. وانتهى الأمر، كما مر في مناسبة سابقة إلى أن أصبح كل من هذين التجمعين القبليين يشكل كيانا أساسيا يمكن أن نسميه دولة أو إمارة، ما لبثت أن دخلت في علاقة تبعية مع الدولة الكبيرة المتاخمة لها، فالغساسنة دخلوا في دائرة النفوذ البيزنطي والتنوخيون "أو اللخميون" دخلوا في دائرة النفوذ الفارسي. وقد أدت كل من الإمارتين دورها كدولة حدية تحمي حدود القوة الكبيرة التي تتبعها ضد غارات الإمارة الأخرى كما حدث في الشطر الأوسط من القرن السادس الذي شغلته سلسلة من الحروب الضارية بين كل من الحارث "الثاني" بن جبلة الغساني، والمنذر "الثالث" بن ماء السماء اللخمي, ولكن مع ذلك فإن دور هاتين الإمارتين لم يكن كلمة تبعية للدولتين الكبيرتين. ففي عام 563م، على سبيل المثال, نجد الحارث الثاني يذهب إلى القسطنطينية وينتزع من الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس "جستنيان" الأول موافقة على تعيين يعقوب البردعي أسقفًا للعرب السوريين على المذهب المونوفيزي رغم مخالفة هذا المذهب للمذهب الرسمي البيزنطي، رغم أن الدولة البيزنطية كانت تعتبر نفسها حامية لهذا المذهب في العالم المسيحي، كذلك نجد المنذر الأول اللخمي "814-862م" يقوم بدور يتخطى حدود التبعية الإمبراطورية الفارسية, فيتدخل في شئون العرش الفارسي ذاته، كما حدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 حين فرض على رجال الدين الفرس أن يتوجوا بهرام "الذي كان ربيبًا لوالده" في مواجهة منافس قوي من أمراء البيت الحاكم الإمبراطوري50. ولكن مع ذلك فإن هذا القدر من حرية الحركة بالنسبة لأمراء هاتين الإمارتين يبدو أنه لم يكن واردًا إلا في حالات إما تعتمد على الشخصية القوية لأحد هؤلاء الأمراء أو ترتبط بظروف تخلخل مؤقت في الأسرة الحاكمة في إحدى الدولتين الكبيرتين. أما الخط الأساسي الذي أثبت نفسه بصفة متواترة فقد كان دائما حرص هاتين الدولتين على إزاحة أي أمير من هؤلاء الأمراء من الطريق إذا بدأت تصرفاته تثير الشك في مدى ولائه للدولة التي يتبعها. وقد مر بنا في مناسبة سابقة موقف الإمبراطور البيزنطي تيبريوس الثاني الذي ساق كلًّا من الحارث الثاني وابنه النعمان إلى السجن في المنفى حين بدأ الشك يساوره في تصرفات كل منهما, كما رأينا، على الجانب الآخر, الإمبراطور الفارسي يعين بعد النعمان الثالث اللخمي أميرا من طيء هو إياس بن قبيصة "602-611م" ويعين إلى جانبه مقيما فارسيا أخذ في قبضته زمام الأمور ليصبح الأمير العربي مجرد من أية سلطة فعلية51.   50 hitti: ذاته، صفحات 79 و83. 51 ذاته: صفحات 80 و84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ب- الدين والسياسة في الصراع الدولي : وأنتقل الآن إلى الحديث عن الاتجاه الثاني الذي سارت فيه العلاقات الخارجية العربية في المرحلة التي نحن بصدد الحديث عنها. وهذا الاتجاه يشكله تداخل العامل الديني في نسيج هذه العلاقات الخارجية وهو أمر بدأ يظهر بوضوح خاص في القرن السادس الميلادي في الصراع الثنائي بين الفرس والبيزنطيين على السيطرة على القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية، وفي هذا الصراع تدخل الحبشة كقوة من الدرجة الثانية تساند سياسة الحكومة البيزنطية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 وتنفذها، وإن كانت الأمور لا تثبت دائمًا على هذا الوضع فتتخذ هذه الدولة مواقف تبدو فيها كأنها بدأت تعمل لحسابها. ونحن نجد مثالًا على ذلك في حادثة الأخدود حين أحرق "ذو نواس" الملك الحميري اليهودي في 523م عددًا كبيرًا من المسيحيين في فترة الصراع الديني الذي نشب بين المسيحية واليهودية في نجران. لقد أرسل المسيحيون يستنجدون بالإمبراطور البيزنطي يوستين "جستن justin" الأول الذي كان يعتبر نفسه حاميا للمسيحية والمسيحيين أينما وجدوا. لقد كتب يوستين إلى نجاشي الحبشة، وهو ملك أقرب دولة مسيحية للمنطقة ليخف لنجدة المسيحيين, وكان بذلك يعمل في حقيقة الأمر على مد نفوذه على العربية الجنوبية حتى يبعدها عن نفوذ الإمبراطورية الفارسية التي كانت تسعى جاهدة لأن تجد لنفسها موطأ لقدم في المنطقة. وقد تدخلت القوات الحبشية وانتصرت في مناسبتين؛ مرة في 523م تحت قيادة أرباط، ومرة في 525م تحت قيادة أبرهة. ولكن الأحباش الذين دخلوا كمنجدين بقوا كمستعمرين لمدة نصف قرن حتى 575م52. وقد شهد هذا العام تكملة، ولكن من الجانب الآخر، لهذا الصراع الديني السياسي المتداخل الذي عرفته العلاقات العربية في الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها. فنحن نسمع في ذلك العام عن حركة وطنية يقودها سيف بن ذي يزن وهو من سلالة البيت الحاكم الحميري قبل الاستعمار الحبشي، وفي هذه الحركة يحاول هذا الأمير أن يستنجد بالإمبراطور البيزنطي لإنهاء الحكم الحبشي، ولكن دون جدوى، فسياسة بيزنطة هي محاولة احتواء العربية الجنوبية عن طريق دولة مسيحية صديقة حتى تبعد المنطقة عن النفوذ الفارسي. وهنا يتوجه الأمير العربي حيث ينجح، عن طريق أمير الحيرة في الحصول   52 H. rodinson: ذاته، صفحات 31-32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 على نجدة من الإمبراطور الفارسي الذي وجد في هذا الموقف فرصة لمد النفوذ الفارسي إلى المنطقة. وهنا مرة أخرى كما حدث في حالة التدخل الحبشي، بدأ الفرس كمنجدين وانتهى الأمر بهم كمستعمرين، وتحولت العربية الجنوبية إلى ولاية "ستربية" فارسية حتى عام 628م53. على أن أمورًا أخرى كانت قد بدأت تجد في وسط شبه الجزيرة في ذلك الوقت, ففي أوائل القرن السابع كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بدأ يرسي في منطقة الحجاز، الدعوة الإسلامية الوليدة. وقد قدر لهذه الدعوة أن تغير مجرى التاريخ لقرون طويلة تالية، وأن تغير معه كل ما يتصل بالمجال الدولي من علاقات وأبعاد.   53 hitti: ذاته، ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 الملاحق اللوحات ... 1- اللوحات المصادر: - مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية، إدارة الآثار والمتاحف، المملكة العربية السعودية، 1395هـ - 1975م. - breasted, j.h.: ancient times, A History of the Early World, boston 1944. - Broadman, J.: Greek Art, London, 1964. - Hitti, Ph. K.: History of the Arabs "7 thed.", london, 1961. - kammerer, A.: Petra et la nabatene "Atlas" Paris, 1930. - Wendell, Ph.: qataban and sheba, london, 1955. - Rachewiltz, B. de: An introduction to egyptian Art, london, 1966. - Roux, G.: Ancient Iraq "Pleican ed." 1966. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 1- أ: رسم تخطيطي لبهو الأعمدة في معبد المقه عن: qataban and sheba الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 1- ب: رسم تخطيطي لمعبد المقه في مأرب عن: qataban and sheba الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 2- أ: آثار السوق التجارية في موقع الفاو عن: آثار السعودية 2- ب: منظر عام لآثار الأخدود عن: آثار السعودية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 3- أ: قسم من بقايا سورتاج "منطقة الخليج" عن: آثار السعودية: 3- ب: قسم من بقايا سور تيماء "شمال غرب شبه الجزيرة" عن: آثار السعودية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 4- أقسم من سد مأرب عن: qataban and sheba الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 4- ب: سد السملقي "قرب الطائف". عن: آثار السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 4- ج: فتحة لتصريف المياه في سد الحصين جنوب خيبر. عن: آثار السعودية. 5- أ: البتراء الضريح الكبير المسمى "الخزنة". عن: Petra et la nabatene. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 5- ب: رسم يدوي لمدخل ضريح منحوت في الصخر- مداين صالح عن: Petra et la nabatene. 5- ج: رسم يدوي مقارن لواجهة معبد زيوس في أوليمبيا "اليونان" عن: Greek Art. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 5- د: منظر عام لضريح منحوت في الصخر في خربة العلا. عن: آثار السعودية. 5- هـ: تفصيل في الإفريز بواجهة ضريح في مداين صالح. عن: آثار السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 5- و: تدرج في فن العمارة النبطية نحو القوس العربي. عن: آثار السعودية. 5- ز: طاقة في مداين صالح تظهر بداية القوس العربي. عن: آثار السعوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 6- أ: القسم العلوي من تمثال حجري - جزيرة تاروت "3000ق. م". عن: آثار السعودية. 6- ب: تمثال للمقارنة من ماري - وادي الرافدين، العصر السومري "2700-2400 ق. م" عن: Ancient Iraq. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 7- أ: تمثال عثر عليه في المعبد اللجياني - العلا عن: آثار السعودية 7- ب: تمثال للمقارنة، الكاهن الأعلى - الأسرة الخامسة - مصر القديمة عن: egyptian Art الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 8- أ: تمثال برونزي لطفل يركب أسدًا - تمنع - اليمن "75-50 ق. م". عن: qataban and sheba. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 8- ب: طفل يحضن "أو يخنق" أوزة، نسخة إيطالية من تمثال يوناني. لاحظ الطفولة والعري وليونة الحركة وفكرة التعامل مع الحيوان, قارن مع لوحة 8-أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 8- ج: 8- ج: تمثال لسيدة أرستقراطية من قتبان عثر عليه المنقبون الأثريون في تمنع "اليمن". صورة ص458. 8- د: 8- د: تمثال لآلهة يونانية - أوائل القرن الخامس ق. م. "متحف برلين" قارن مع لوحة 8-ج في الجلسة وعصابة الشعر وبروز الصدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 9- أ: شاهد قبر من تيماء "أواسط الألف الأولى ق. م" يظهر عليه المعبود هلال وشخص يقدم قرابين. عن: آثار السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 10- أ: رسم عنزة قافزة - جبل برمة. عن: آثار السعودية. 10- ب: منظر نعام في وادي ماسل. عن: آثار السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 11- : رسم جمل يحيط به وسم قبلي مكرر عن: آثار السعودية 12- : رسم لمشهد راقص "وادي ماسل الجمح". عن: آثار السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 13- أ: فخار من موقع الدوسرية "منطقة الخليج" "2500 ق. م". عن: آثار السعودية. 13- ب: فخار عبيدي للمقارنة من وادي الرافدين "4000-3500 ق. م". عن: Ancient IRAQ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 14- : آنية فخارية من تاج "منطقة الخليج" من العصر المتأغرق "تأثير يوناني" عن: آثار السعودية. 15- أ: عملة حميرية "القرن الثالث أو الثاني ق. م" تمثل التأثير الأثيني "اليوناني" عن: HISTORY OF THE ARABS. 15- ب: عملة أثينية للمقارنة "القرن السادس ق. م" عن: Ancient times. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 16- : عملة حميرية - حوالي 50 م عليها نقش يقرأ: كرب إبل وتر. عن: history of the arabs. 17- : عملة نبطية - الوجه يمثل رأس تريانوس الظهر يمثل آلهة مدينة بترا "اللات - مناتو" عن: history of the arabs. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 18- أ: نقش ثمودي تيمائي من جبل غنيم "شمال غرب شبه الجزيرة". عن: آثار السعودية. 18- ج: نقش نبطي على أحد أضرحة مداين صالح. عن: آثار السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 18- ب: مسلة عليها نقش باللحيانية "300ق. م" شمال غرب شبه الجزيرة. عن: آثار السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 19: نقوش ثمودية من أماكن متفرقة في شبه الجزيرة. أ- على صخرة من جبل برمة "وسط شبه الجزيرة" قرن 4-5 ق. م. عن: آثار السعودية. ب- على جبل المليحية "شمال شبه الجزيرة" قرن 3 ق. م. عن: آثار السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 ج- على جدار في منظر بني عطية "شمال غرب شبه الجزيرة". عن: آثار السعودية. 20- : نقش سبئي من وادي ماسل "وسط شبه الجزيرة" دونه ملك سبأ ذو ريدان وحضرموت ويمنات في أثناء غزوه للمنطقة في القرن الخامس الميلادي. عن: آثار السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 21- أ: جرش، الساحة "forum". عن: petra et nabatene. 21- ب: جرش، طريق الأعمدة الرئيسي عن: petra et la nabatene. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 21- ج: جرش المسرح عن: petra et la nabatene. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 22- أ: تدمر، طريق الأعمدة الرئيسي وقوس النصر عن: history of the arabs 22- ب: تدمر، معبد بعل شمين عن: petra et la nabatene الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 22- ج: تدمر، مدافن الأبراج عن: petra et la nabatene 22- د: تدمر، منظر داخلي لمدفن مغارة الجديدة عن: petra et la nabatene. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 22- : مقابض برونزية من موقع الفاو "وسط شبه الجزيرة". عن: آثار السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 24: قاعدة أحد الأعمدة من قصر الأبلق "شمال غرب شبه الجزيرة". عن: آثار السعودية. 25: قصر الرضم - قسم من آثار السور "شمال غرب شبه الجزيرة". عن: آثار السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 2- الخرائط : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 مختارات من المصادر و المراجع المصادر ... 3- مختارات من المصادر والمراجع1 أولًا: المصادر 1- المصادر الدينية: - القرآن الكريم. - الحديث: صحيح البخاري، القاهرة، 1348هـ. - التوراة: العهد العتيق، وهو القسم الأول من "الكتاب المقدس" الترجمة العربية، طبعة جمعيات الكتاب المقدس المتحدة، بيروت، 1951. - التلمود: الترجمة الإنجليزية "بلا تاريخ". the Talmud: "Tr." H. polono, london, Frederick Warne & co. 2- مجموعات الآثار: - مقدمة عن آثار المملكة العربية السعودية، إدارة الآثار والمتاحف، وزارة المعارف، المملكة العربية السعودية، 1975. - Fakhry,: An Archaeological Joureny To Yemen "3 Vols." Cairo, 1952. - Kammerer, A: Perta et la nabatene.L'Arabie Petree et Les Arabes du nord jusqu'a i'islam "Atlas", Paris, 1930.   1 المصادر والمراجع المذكورة هنا هي التي تمس تاريخ شبه الجزيرة العربية وحضارتها بشكل مباشر، ضمن ما جاء ذكره في حواشي هذه الدراسة. وقد أغفلت من هذا الثبت المصادر والمراجع التي تمس الموضوع بشكل غير مباشر مثل تلك التي جاءت في معرض المقارنة أو التفصيل اللازم لإيضاح بعض النقاط واكتفيت بذكرها في مكانها بالحواشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 3- مجموعات النقوش2: - ANET: J.B. Pritchard: "ed" Ancient Near Eastern Texis Relating to the Old Testament "2nd ed.", Princeton, 1966. - ARAB: D.D. Luckenbill: Ancient Records of Assyria and Baby lonia "2Vols." New York, 1968. - CIH: Corpus Inscriptionum Semiticarum, Pars Quarta, Inscriptione Himya-ritical et Saaeas continens "I-III", Paris, 1889 - 1929. - RES: Répertoire d'Epigraphie Sémitique "V-VII", Paris, 1928 - 50. - WR: F.V. Winnet and W. L. Reed: Ancient Records from North Arabia, Toronto, 1970. - مجموعات معروفة باسم ناشريها ومترجميها ومحققيها هي مجموعات: Glaser' Halévy, Jamme. 4- المصادر الكلاسيكية - Agatharchides: Peri tes Erythras Thalases "موجود ضمن 3 GGM". - Arrianos: Anabasis - Artemidoros: "منقول في Strabo أدناه" - Eratosthenes: "منقول في Strabo أدناه" - Eusebios: Ekklesiastekes Historias. - Herodotos: Historiae - Josephos: Historia Loudaikou Polemou -   : He Loudike Archaiologia -   : Hyper ton Polemon - Marcellinus, Ammianus: Historiae - Periplus peri maris Erythraei - Plinius: Historia Naturalis - Prokopios: Ktismata - Ptolemaios Klaudios: Geographike Hyphogosis   2 تشير إلى اختصار اسمها. الحروف التي تسبق المجموعة. 3 اختصار: C. Mueller: Geographici Graeci Minoress "1855 - 61". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 5- الشعر الجاهلي: - ديوان الأعشى الكبير، شرح وتحقيق محمد محمد حسين، بيروت، 1968. - شرح المعلقات السبع، أبو عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني، دار القاموس الحديث، بيروت "بدون تاريخ". - المجاني الحديثة، مختارات من "مجاني الأدب في حدائق العرب" للأب لويس شيخو اليسوعي - الجزء الأول: العصر الجاهلي, تبويب وشرح وتحقيق فؤاد أفرام البستاني، ط2، بيروت، 1960. 6- كتابات لاحقة زمنيًّا في حكم المصادر: - الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب: مصر 1332 هـ - 1913م. - ابن الكلبي، أبو المنذر هشام بن محمد: كتاب الأصنام، نشر أحمد زكي باشا، بولاق 1332هـ، تصوير الدار القومية، القاهرة، 1965. - الهمداني، أبو محمد الحسن بن أحمد: صفة جزيرة العرب، نشر محمد بن عبد الله بن بليهيد النجدي، القاهرة، 1953. - ياقوت الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله: معجم البلدان "5 مجلدات" بيروت، 1955. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 ثانيًا: المراجع 1- المراجع العربية: - الأسد، ناصر الدين: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، دار المعارف، القاهرة، 1956. - الأنصاري, عبد الرحمن الطيب: أضواء جديدة على دولة كندة من خلال آثار ونقوش قرية الفاو "أبحاث الندوة العالمية الأولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية، الرياض، 1977". - إبراهيم، نجيب ميخائيل: مصر والشرق الأدنى القديم، ج3 "سورية"، ط1، الأسكندرية، 1959. - باقر، طه: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ج2، بغداد، 1956. - حسين، طه: في الأدب الجاهلي، ط4، دار المعارف، القاهرة. - حسين، محمد الخضر: نقض كتاب في الشعر الجاهلي، القاهرة "بدون تاريخ". - ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: العبر وديوان المبتدأ والخبر، ج2، القاهرة، 1965. - زيدان، جورجي: العرب قبل الإسلام، مراجعة وتعليق حسين مؤنس, دار الهلال، القاهرة "بدون تاريخ". - سالم, السيد عبد العزيز: تاريخ العرب في العصر الجاهلي، بيروت، 1971. - السيد، عبد المنعم عبد الحليم: الجزيرة العربية ومناطقها وسكانها في النقوش القديمة في مصر " أبحاث الندوة العالمية الأولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية، الرياض، 1977". - ابن شرية، عبيد: أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها أو كتاب الملوك وأخبار الماضين "ملحق بكتاب التيجان لوهب بن منبه - انظر أدناه". - الشرقاوي، عفت: قضايا الأدب الجاهلي، بيروت، 1979. - عبد الحميد، سعد زغلول: في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت، 1975. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 - علي, جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام "9 أجزاء" ط2، بيروت - بغداد 1976. - علي, فضل عبد الواحد: الطوفان في المراجع المسمارية, بغداد، 1975. - فروخ، عمر: تاريخ الجاهلية، بيروت، 1964. - محمد، إبراهيم عبد الرحمن: الشعر الجاهلي، قضاياه الفنية والموضوعية، القاهرة، 1979. - المسعودي، أبو الحسين علي بن الحسين: مروج الذهب ومعادن الجوهر "4 أجزاء" القاهرة، 1958. - ابن منبه، وهب: التيجان في ملوك حمير, حيدر آباد الدكن، 1347 هـ. - الهاشمي، رضا جواد: العرب في ضوء المصادر المسمارية، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، عدد 22، شباط 1978. - يحيى، لطفي عبد الوهاب: الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية "أبحاث الندوة العالمية الأولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية، الرياض، 1977". 2- مراجع في لغة أجنبية: أ- اختصارات أسماء الدوريات العلمية والمعاجم والمجموعات: - AJSL, American Journc ?????? Semitic Languages and lite??? "Chicago". - BIFAO: Bulletin de ?????? Francais d'Archéologie Oriertale "Le Caire". - CAH: Cambridge Ancient History "Cambridge". - JA: Journal Asiatique "Paris". - JEA: Journal Of Egyptian rabaeology "London". - JRAS: Journal of the Royal Asiatic fociety "London". - OCd: The Oxford Classical Dictionary. ب- الأبحاث والدراسات: - Barton, G.A.: Semitic and Hamitic Origins, London, 1934. - Breasted, J.H. Ancient Times, A History of the Early World, Boston, 1944. - A History of Egypt Bantam Books, New York 1964. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 - Burckhardt: Travels in Arabia "Reprint", London, 1968. - Bury, J.B.: A History of Greece, 2 nd ed, london, 1945. - ": A History of the Later Roman Empire, London, 1923. - Caetani, L.: Studi di Storia orientale, Milano, 1911. Cary, M,: A History of Rome, 2 nd. ed, London, 1960. - Dussaud, R.: La Penetration des Arabes en Syrie avant IIslam, Paris, 1950. - Gadd, C.G.: The harran Inscription of Nabonidus "Anatolian Studies, VIII", 1958. - Grohmann A.: Kulturgeschichte des Alten Orients "III, 4" Arabien, Muenchen, 1963. - Guidi, Ign.: L'Arabie Anteislamique, Paris, 1921. - Hitti, Ph. K.: History of the Arabs, 7 th ed, London, 1961. - Hommel: Ethnologie and Geographie des Alten Orients, I, Muenchen, 1969. - Hourani, G.F.: Arab Seafaring in the Indian Ocean in Ancient and Early Medieval Times, Beirut, 1963. - Huzayyin, S.: Changement Historique du Climat et du Paysage de l'Arabie du Sud "Bulletin of the Faculty of Arts, University of Egypt, III, Part I", 1935. - Kammerer, A: pétra et la Nabaténe, L'Arabie Pétrée et Les Arabes du Nord Jusquéa l'Islam "Texte" Paris, 1929. - Lammens, H.: L'Arabie Occidentale avant l Hegire, Beyrouth, 1928. - ": Le Berceau de l'Islam, I, Romae, 1914. - Margoliouth, D.S.: The Origins of Arabic Poetry "JRAS", July, 1925. - Montgomery: Arabia and the Bible,Philadelphia, 1943. Moscati, S.: The Semites in Ancient History, Cardiff, 1959. - Moritz: Arabien, Studien zur Physikalischen und Historischen Geographie des Landes, Hanover, 1923. - Musil, A.: Arabia Deserta, New York, 1927. - ": Northern Negd, New York, 1928. - Niebuhr: Travels Through Arabia "Eng???thr" Edinburgh, 1792. - Otto, W. & Bengtson, H.: Zur Geschichte des Niederganges der Ptolemaie-rreiches, Muenchen, 1938. - Philby, H.: the Background of Islam, Alexandria, 1947. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 - Phillips, W.: Qatraban and Sheba, London, 1955. - Pirénne, J.: La Date de periplée de la Mer Erythrée "JA", 1916. - Rhodokanakis: Die Sarkophaginschrift von Gizen "Zeitschrift fur Semitik und Verwandte Gebiete", II, 1924. - Rodinson, M.: Mohammed "Eng. Tr", London, 1971. - Rostovizeff, M.: Social and Economic History of the Hellenistic World, Oxford, 1941. - Roux, G: Ancient Iraq "Pelican ed.", 1966. - Saleh, A.A.: The GNBTYW of Thutmosis IIIs Annals and the South Arabian GeB "B" ANITAE of the Classical Writers "B.I.F.A.O", LXXII, 1972. - Tarn, W.W.: Arabia "QCD", 1964 - Thomas, B.: Arabia Felix, ACross the Empty Quarter of ARabia, London, 1932. - Winnett, F.V.: Allah before islam "The Moslem World". XXVIII, 1938. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487