الكتاب: أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل المؤلف: زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي (المتوفى: 666هـ) تحقيق: د. عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودى الناشر: دار عالم الكتب المملكة العربية السعودية - الرياض الطبعة: الأولى، 1413 هـ، 1991 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ. ---------- أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل الرازي، زين الدين الكتاب: أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل المؤلف: زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي (المتوفى: 666هـ) تحقيق: د. عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودى الناشر: دار عالم الكتب المملكة العربية السعودية - الرياض الطبعة: الأولى، 1413 هـ، 1991 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ـ[أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل]ـ المؤلف: زين الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي (المتوفى: 666هـ) تحقيق: د. عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودى الناشر: دار عالم الكتب المملكة العربية السعودية - الرياض الطبعة: الأولى، 1413 هـ، 1991 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ. الجزء: 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) قال الفقير إلى رحمة ربه ومغفرته محمد بن أبى بكر بن عبد القادر الرازي عفا الله عنه وغفر له ولجميع المسلمين؛ هذا مختصر جمعت فيه أنموزجاً يسيراً من أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها فمنه ما نقلته من كتب العلماء إلا أنى نقحته ولخصته ومنه ما فتح الله تعالى على به بسبب مذاكرة أخ لي من إخوان الصفا في دين الله ومحبة كتابه، وكان صالحاً تقياً سليم الفطره وقاد الذهن جامعاً لجملة من مكارم الأخلاق، وصفات الكمال الإنسانى أنعم الله تعالى على بصحبته ومذاكرته في معانى كتابه، وكان شديد العناية بها كثير البحث والسؤال عنها، قد هداه الله إليها وفتح عليه فيها بغرايب لم نسمعها من العلماء ولا رأينها في كتبهم فحملتنى فكرته القادحة ونيته الصالحة على جمع هذه الصبابة، وهى تزيد على ألف ومائتي سؤال، وأن كانت بالنسبة إلى ما في القرآن من العجائب والغرائب كالقطرة من الماء والسهى من نجوم السماء، ولكنى قصدت اختصار هذا الأنموذج منها وتقريبه إلى الأفهام، ليكثر الانتفاع به ولا يهجر لدقته وغموضه، وأماالأسئلة التى تتعلق بوجوه الإعراب وبالمعانى التى هى أدق على الأفهام وأخفى، فإنى وضعت لها مختصراً آخر وأودعته أنموذجاً منها فلتطلب منه، وبالله أستعين وعليه أتوكل واليه أتضرع في أن يجعل علمى وعملى خالصاً لوجهه الكريم ويتغمدنى وأخى الصالح بمغفرته ورحمته أنه غفور رحيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 سورة فاتحة الكتاب * * * فإن قيل: الرحمن أبلغ في الوصف بالرحمة من الرحيم بالنقل عن الزجاج وغيره، فكيف قدمه وعادة العرب في صفات المدح الترقى من الأدنى إلى الأعلى؟ قلنا: قال الجوهرى وغيره أنهما بمعنى واحد كنديم وندمان فعلى هذا لا يرد السؤال، وعلى القول الأول أنما قدمه لأن الله تعالى أسم خاص بالبارى لا يسمى به غيره، لا مفرداً ولا مضافا فقدمه، والرحيم يوصف به غيره مفرداً ومضافاً فأخره، والرحمن يوصف به غيره مضافاً ولا يوصف به مفرداً إلى الله تعالى فوسطه. * * * فإن قيل: كيف قدم العبادة على الإستعانة والإستعانة مقدمة لأن العبد يستعين الله على العبادة فيعينه الله عليها؟ قلنا: الواو لا تدل على الترتيب، أو المراد بهذه العبادة التوحيد، وهوم قدم على الإستعانة على أدآء سائر العبادات، فإن من لم يكن موحداً لا يطلب الإعانة على ادآء العبادات. * * * فإن قيل (المرادبالصراط المستقيم الإسلام أو القرآن أو طريق الجنة والمؤمنون مهتدون إلى ذلك، فما معنى قولهم: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ") وأنه تحصيل الحاصل؟ قلنا: ثبتنا عليه وأدمنا على سلوكه، خوفاً من سوء الخاتمة، نعوذ بالله من ذلك، كما تقول العرب للواقف قف حتى آتيك معناه دم على وقوفك وأثبت عليه أو معناه طلب زيادة الهدى كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) . * * * فإن قيل: ما فائدة دخول لا في قوله: (وَلَا الضَّالِّينَ) . وقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) . والضالين كاف في المقصود؟ قلنا: فائدته تأكيد النفى الذي دل عليه غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 سورة البقرة * * * فإن قيل: كيف قال: (لَا رَيْبَ فِيهِ) على سبيل الاستغراق وكم ضال قد ارتاب فيه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) ؟ قلنا: معناه لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين، أو هو نفى معناه نهى أي لا ترتابوا فيه إنه من عند الله، ونظيره قوله تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا) . * * * فإن قيل: كيف قال: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) . والمتقون مهتدون فكأنه تحصيل الحاصل؟ قلنا: إنما صاروا متقين بما استفادوا منه من الهدى، أو أراد أنه ثبات لهم على الهدى، وزيادة فيه، أو خصهم بالذكر لأنهم هم الفائزون بمنافعه حيث قبلوه وأتبعوه كقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) . أو أراد الفريقين وأختصر على أحدهما كقوله تعالى: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) . * * * فإن قيل: المخادعة أنما تتصور في حق من تخفى عليه الأمور ليتم الخداع في حقه يقال خدعه إذا أراد به المكروه من حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 لا يعلم، والله تعالى لا يخفى عليه شيء فكيف قال: (يخادعون الله) . قلنا: معناه يخادعون رسول الله كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) . وقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) . أو سمى نفاقهم خداعاً لشبهه بفعل المخادع. * * * فإن قيل: كيف حصر الفساد في المنافقين بقوله: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) ومعلوم أن غيرهم مفسد؟ قلنا: المراد بالفساد الفساد بالنفاق وهم كانوا مخصوصين به. * * * فإن قيل: كيف قال الله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) والاستهزاء من باب العبث والسخرية وهو قبيح والله تعالى منزه عن القبيح؟ قلنا: سمى جزاء الاستهزاء استهزاء كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) . فالمعنى الله يجازيهم جزاء استهزائهم. * * * فإن قيل: ما الفائدة في قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) ومعلوم أن الصيب لا يكون إلا من السماء؟ قلنا: فائدته أنه ذكر السماء معرفة وأضافه إليها ليدل على أنه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 جميع آفاقها لا من أفق واحد، إذ كل أفق يسمى سماء قال الشاعر: ومن بعد أرض بيننا وسماء. * * * فإن قيل: كيف قال: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . والمشركون لم يكونوا عالمين أنه لا ندَّ له ولا شريك بل كانوا يعتقدون أن له أنداداً وشركاء؟ قلنا: معناه وأنتم تعلمون أن الأنداد لا تقدرعلى شىء مما سبق ذكره في الآية (أو) وأنتم تعلمون أنه ليس في التوراة والانجيل جواز اتخاذ الأنداد. * * * فإن قيل: كيف عرف النار ونكرها في سورة التحريم؟ قلنا: تلك الآية نزلت بمكة قبل هذه الآية، فلم تكن النار التى وقودها الناس والحجارة معروفة فنكرها، ثم نزلت هذه الآية بالمدينة المنورة مشار بها إلى ما عرفوه أولا. * * * فإن قيل: قوله: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) . ليسا فعلين متغايرين لينهوا عن الجمع بينهما بل أحدهما داخل في الآخر؟ قلنا: هما فعلان متغايران لأن المراد بلبسهم الحق بالباطل كتابتهم فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 التوراة ما ليس منها، وبكتمانهم الحق قولهم: لا نجد في التوراة صفة محمد صلى الله عليه وسلم. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) . ما فائدة الثانى والأول يدل عليه وبقتضيه؟ قلنا: قوله: (مُلَاقُو رَبِّهِمْ) أي ملاقوا ثواب ربهم وما وعدهم على الصبر والصلاة، وقوله: (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) . أى موقنون بالبعث، فصار المعنى أنهم موقنون بالبعث، وبحصول الثواب الموعود، ولاتكرار فيه. * * * فإن قيل: كيف قال: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُم) . وهم إنما بدلوا القول الذي قيل لهم، لأنهم قيل لهم قولوا حطة فقالوا حنطة؟ قلنا: معناه فبدل الذين ظلموا قولاً قيل لهم، وقالوا قولا غير الذي قيل لهم. * * * فإن قيل: قوله تعالي: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) . العثو: الفساد، فيصير المعنى ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟ قلنا: معناه ولا تعثوا في الأرض بالكفر، وأنتم مفسدون بسائر المعاصى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فإن قيل: كيف قال: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) . وطعامهم كان المنّ والسلوى وهما طعامان؟ قلنا: المراد أنه دائم غير متبدل، وإن كان نوعين. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) . وقتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق؟ قلنا: معناه بغير الحق في اعتقادهم، ولأن التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمهم، وأن كانت تلك الصفة لازمة للفعل كما في عكسه. قال: (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) . لزيادة معنى في التصريح بالصفة، ولأن قتل النبى قد يكون بحق كقتل ابراهيم عليه الصلاة والسلام ولده لو وجد كان بحق. * * * فإن قيل، كيف قال: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) . وانتقالهم من صور البشر إلى صور القردة ليس في وسعهم؟ قلنا: هذا أمر إيجاد لا أمر إيجاب، فهو من قوله تعالى: (كن فيكون) فإذا قيل كيف قال: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) . ولفظة (بين) تقتضى شيئين فصاعدا، فكيف جاز دخولها على ذلك وهو مفرد؟ قلنا: يشار به إلى المفرد والمثنى والمجموع، ومنه قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) . وقوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . فمعناه عوان بين الفارض والبكر وسيأتى تمامه فى قوله: (بين أحد من رسله) . إن شاه الله. * * * فإن قيل: قوله: (قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ) . كلاهما في المعني واحد فما فائدة الثانى؟ قلنا: التفجير يدل على الخررج (بوصف الكثرة والثانى يدل على نفس الخروج) وهما متغايران فلا تكرار. * * * فإن قيل: ما الفائدة في قوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) والكتابة لا تكون إلا باليد؟ قلنا: فائدته تحقيق مباشرتهم ذلك التحريف بأنفسهم، وذلك زيادة في تقبيح فعلهم، فإنه يقال: كتب فلان كذا وإن لم يباشره بنفسه بل أمر غيره به من كاتب له ونحو ذلك. * * * فإن قيل: التولى والاعرض واحد فكيف قال: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 قلنا: معناه ثم توليتم عن الوفاء بالميثاق والعهد، وأنتم معرضون عن الفكر والنظر في عاقبة ذلك. * * * فإن قيل: قوله: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) . ما فائدة قوله: " ومن الذين أشركوا ". وهم من جملة الناس؟ قلنا: إنما خصوا بالذكر بعد العموم لأن حرصهم على الحياة أشد. أو لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث. * * * فإن قيل. قوله تعالى: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) . يدل على أن الله تعالى أنزل علم السحر على الملكين فلم يكن حراماً؟ قلنا: العمل به حرام، لأنهما، كانا يعلمان الناس السحر ليجتنبوه، كما قال تعالى: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) . ونظيره لو سأل إنسان ما الزنا لوجب بيانه له ليعرفه فيجتنبه. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أثبت لهم العلم أولا مؤكدا بلام القسم ثم نفاه عنهم؟ قلنا: المثبت لهم أنهم علموا أن من اختار السحر ما له في الآخرة من نصيب، والمنفي عنهم أنهم لا يعلمون حقيقة ما يصير إليه من يخسر الآخرة، ولا يكون له نصيب منها، فالمنفى غير المثبت فلا تنافى. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) . وأنما يستقيم أن يقال هذا خير من ذلك إذا كان في كل واحد منهما خير، ولا خير في السحر؟ قلنا: خاطبهم على اعتقادهم أن من تعلم السحر خيرا نظراً منهم إلى حصول مقصودهم الدنيوى به. * * * فإن قيل: كيف قال هنا: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) . وقال في سورة ابراهيم عليه الصلاة والسلام: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) . قلنا: في الدعوة الأولى كان مكاناً قفراً فطلب منه أن يجعله بلداً وأمناً، وفى الدعوة الثانية كان بلدا غير أمن فعرفه وطلب له الأمن، أو كان بلداً آمناً فطلب له ثبات الأمن ودوامه، وكون هذه السورة مدنية وسورة إبراهيم مكية لا تنافى في هذا لأن الواقع من إبراهيم عليه الصلاة والسلام بلغته على الترتيب الذي قلنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والإخبار عنه في القرآن على غير ذلك الترتيب أو لأن المكى منه ما نزل قبل الهجرة، فيكون المدنى متأخرا عنه، ومنه ما نزل بعد فتح مكة، فيكون متأخراً عن المدنى، فلم قلتم أن سورة ابراهيم عليه الصلاة والسلام من المكى الذي نزل قبل الهجرة. * * * فإن قيل: أي مدح وشرف لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) . مع ما له من شرف الرسالة والخلة؟ قلنا: قال الزجاج المراد بقوله من الصالحين أي من الفائزين. قإن قيل: الموت ليس في وسع الإنسان وقدرته حتى يصح أن ينهى عنه على صفة أو يؤمر به على صفة، فكيف قال: (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ؟ قلنا: معناه أثبتوا على الإسلام حتي إذا جاءكم الموت متم على دين الإسلام، فهو في المعنى أمر بالثبات على الإسلام والدوام عليه أو نهى عن تركه * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) . إن أريد به الله تعالى فلا مثل له وإن أريد به دين الإسلام فلا مثل له أيضاً، لأن دين الحق واحد؟ قلنا: كلمة "مثل " زائدة معناه فإن آمنوا بما آمنتم به، يعنى بمن آمنتم به وهو الله تعالى أو بما آمنتم به وهو دين الإسلام و"مثل" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قد تزاد في الكلام كقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . وقوله: (مثله في الظلمات) . ومثل بمعنى واحد، وقيل: الباء زائدة كما في قوله تعالى: (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) . أى مثل إيمانكم باالله أو بدين الإسلام. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) . وهو لم يزل عالماً بذلك قلنا: معناه لنعلمه واقعاً موجوداً، أو أراد بالعلم التمييز للعباد كقوله تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) . * * * فإن قيل: كيف قال: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) . وهذا يدل علي أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن راضياً بالتوجيه إلى بيت المقدس، مع أن التوجيه إليه كان بأمر الله تعالى وحكمه؟ قلنا: المراد بهذا الرضا رضا المحبة بالطبع لا رضا التسليم والإنقياد لأمر الله. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) . ولهم قبلتان لليهود قبلة وللنصارى قبلة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 قلنا: كلا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق، فكانتا بحكم الاتحاد بالبطلان قبلة واحدة. * * * فإن قيل: كيف يكون للظالمين من اليهود أو غيرهم حجة على المؤمنين حتي قال: (للِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ؟ قلنا: معناه إلا أن يقولوا ظلماً وباطلاً، كقول الرجل لصاحبه ما لك عندى حق إلا أن تظلم، وإلا أن يقول الباطل. وقيل: معناه والذين ظلموا منهم، فلا هنا بمعنى واو العطف كما في قوله تعالى: (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) . وقيل لا فيهما بمعنى لكن. وحجتهم أنهم كانوا يقولون لما توجه النبى صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ما درى محمد أين قبلته حتى هديناه، وكانوا يقولون أيضاً يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا، فلما حوله الله تعالى إلى الكعبة انقطعت هذه الحجة، فعادوا يقولون لم تركت قبلة بيت المقدس إن كانت باطلة فقد صليت إليها زماناً، وإن كانت حقاً فقد انتقلت عنها فهذا هو المراد بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) . وقيل: المراد به قولهم ما ترك محمد قبلتنا إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لوطنه، وقيل: المراد به قول المشركين قد عاد محمد إلى قبلتنا لعلمه أن ديننا حق فسوف يعود إلى ديننا، وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 سمى باطلهم حجة لمشابهة الحجة في الصورة كما قال: (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) . وقال: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) . * * * فإن قيل: ما الفائدة في قوله: (ولا تكفرون) بعد قوله: (وَاشْكُرُوا لِي) والشكر نقيض الكفران، فمتى وجد الشكر انتفى الكفران؟ قلنا: قوله واشكروا لي معناه استعينوا بنعمتى على طاعتى، وقوله ولا تكفرون معناه ولا تستعينوا بنعمتى على معصيتى، وقيل: الأول أمر بالشكر والثانى أمر بالثبات عليه. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) . وأهل دينه لا يلعنونه إذا مات على دينهم؟ قلنا: المراد بالناس المؤمنون فقط، أو على عمومه وأهل دينه يلعنونه في الآخرة. قال تعالى: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) . وقال: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) . * * * فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى: (إِلَهٌ وَاحِدٌ) . ولو قال: (والهكم واحد) . فكان أحصر وأوجز؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 قلنا: لو قال: "وإلهكم واحد" لكان ظاهره إخبار عن كونه واحداً في الألهية، يعنى لا إله غيره، ولم يكن اخباراً عن توحده في ذاته، بخلاف ما إذا كرر ذكر الألهة، والآية إنما سيقت لإثبات أحديته في ذاته ونفى ما يقوله النصارى إنه واحد والأقانيم ثلاثة أى الأصول أن زيداً واحداً وأعضاؤه متعددة فلما قال: "إله واحد". دل على أحدية الذت والصفة، ولقائل أن يقول قوله واحد يحتمل الأحدية في الذات، ويحتمل الأحدية في الصفة سواء كرر ذكر لا إله أو لم يكرر فلا يتم الجواب. * * * فإن قيل: كيف وجه صحة التشبيه في قوله تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) . وظاهره تشبيه الكفار بالراعى؟ قلنا: فيه إضمار تقديره ومثلك يا محمد مع الكفار كمثل الراعى مع الأنعام، أو تقديره ومثل الذين كفروا كمثل بهائم الراعى أو مثل واعظ الذين كفروا كمثل الراعى أو ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الراعى. * * * فإن قيل: كيف يخص المنعوق به بأنه لا يسمع إلا دعاء ونداء مع أن كل عاقل كذلك أيضاً لا يسمع إلا دعاء ونداء؟ قلنا: المراد بقوله: "لا يسمع " لا يفهم أساء سمعاً فأساء اجابة أي أساء فهماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فإن قيل: كيف قال: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وقال في موضيع آخر: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ؟ قلنا: المنفى كلام التلطف والاكرام والمثبت سؤال التوبيخ والاهانة فلا تنافى. * * * فإن قيل: كيف قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) . أى فرض، والقصاص ليس بفرض بل الولى مخير فيه بل مندوب إلى تركه؟ قلنا: المراد به فرض على القاتل التمكين، لا أنه فرض على الولى الاستيفاء. * * * فإن قيل: كيف قال: (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) . عطف الأقربين على الوالدين، وهما أقرب الأقربين والعطف يقتضى المغايرة؟ قلنا: والوالدين ليسا من الأقربين. لأن القريب من يدلى إلى غيره بواسطة كالأخ والعم ونحوهما والوالدان ليسا كذلك، ولو كانا منهم لكان خصا بالذكر كقوله تعالى: (وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فإن قيل: كيف قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) . وصوم هذه الأمة ليس كصوم أمة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام؟ قلنا: التشيه في أصل الصوم لا في كيفيته، أو في كيفية الإفطار، فإنه كان في أول الأمر الإفطار مباح من غروب الشمس إلى وقت النوم فقط، كما كان في صوم من قبلنا ثم نسخ بقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) . أو في العدد أيضاً على ما روى عن ابن عباس أنه فرض على النصارى صوم رمضان بعينه، فقدموا عشرة وأخروا عشرة لئلا يقع في الصيف، وجبروا التقديم والتأخير بزيادة عشرين فصار صومهم خمسين يوماً بين الصيف والشتاء. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله: (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى) . بعد قوله: (هُدًى لِلنَّاسِ) ؟ قلنا: ذكر أولاً أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى الله به عبيده، وفرق به بين الحق والباطل من الكتب السماوية الهادية الفارقة بين الحق والباطل فلا تكرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فإن قيل: ما فائدة إعادة ذكر المريض والمسافر؟ قلنا: فائدته أن الآية المتقدمة نسخ مما فيها تخيير الصحيح، وكان فيها تخيير المريض والمسافر أيضاً، فأعيد ذكرهما لئلا يتوهم أن تخييرهما نسخ كما نسخ تخيير الصحيح. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) . يدل على أنه يجيب دعاء الداعين، ونحن نرى كثيراً من الداعين لا يستجاب لهم؟ قلنا: روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال، إما أن يعجل دعوتة، وإما أن يدخرها له في الأخرة. واما أن يدفع عنه من السوء، مثلها، ولأن قبول الدعاء شرطه الطاعة لله، وأكل الحلال، وحضور القلب وقت الدعاء، فمتى اجتمعت هذه الشروط حصلت الاجابة، ولأن الداعى قد يعتقد مصلحته في الإجابة، والله يعلم أن مصلحته في تأخير ما سأل أو منعه عنه، فيجيبه إلى مقصوده الأصلى وهو طلب المصلحة، فيكون قد أجيب وهو يعتقد أنه منع. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالي: (تِلْكَ عَشَرَةٌ) . ومعلوم أن ثلاثة وسبعة عشرة، ثم ما فائدة قوله: (كَامِلَةٌ) والعشرة لا تكون إلا كاملة، وكذا جميع أسماء العدد لا تصدق على أقل من المذكور ولاعلى أكثر منه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 قلنا: فائدة قوله: (تلك عشرة) . أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو كما في قوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) . ولا تحل التسع جملة فنفى في قوله: (تلك عشرة) ظن وجوب أحد العددين فقط، أما الثلاثة في الحج أو السبعة بعد الرجوع، وأن يعلم العدد من جهتين جملة وتفصيلا، فيتأكد العلم به، ونظيره فذلكة الحساب وتنصيف الكتاب، وأما قوله: (كاملة) فتأكيد كما في قوله تعالى: (حولين كاملين) . أو معناه كاملة في الثواب مع وقوعها بدلاً عن الهدى، أو في وقوعها موقع المتتابع مع تفرقها أو في وقوعها (موقع الصوم في الصوم في الحج) مع وقوع بعضها بعده أو في وقوعها موقع الصوم بمكة مع وقوع بعضها في غير مكة فالحاصل أنه كمال وصفاً لا ذاتاً. * * * فإن قيل: ما فائدة تكرار الأمر بالذكر في قوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) ؟ قلنا: انما كرره تنبيهاً علي أنه أراد ذكراً مكرراً لا ذكراً واحداً، بل مرة بعد أخرى، ولأنه زاد في الثانى فائدة أخرى، وهى قوله: (كَمَا هَدَاكُمْ) . يعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته. ولأنه أراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بالذكر الأول الجمع بين الصلاتين بمزدلفة، وبالثاني الدعاء بعد الفجر بها فلا تكرار. * * * فإن قيل: كيف قال: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) . وأراد به الإفاضة من عرفات بلا خلاف، وبعد المجيء إلى مزدلفة والذكر فيها مرتين كما فسرنا كيف يفيضون من عرفات؟ قلنا: فيه تقديم وتأخير وتقديره: من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذ أفضتم من عرفات. * * * فإن قيل: كيف قال: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) . ومعلوم أن المتعجل التارك بعض الرمى إذا لم يكن عليه إثم لا يكون على المتأخر الآتى بالرمى كاملاً. قلنا: كان أهل الجاهلية فريقين منهم من جعل المتعجل آثماً، ومنهم من جعل المتأخر آثماً فأخبر الله تعالى بنفى الإثم عنهما جميعاً أو معناه لا إثم على المتأخر في ترك الأخذ بالرخصة، مع أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه، أو معناه أن انتفاء الإثم عنهما موقوف على التقوى لا على مجرد الرخصة أو العزيمة في الرمى، ثم قيل: المراد به تقوى المعاصى في الحج. وقيل: تقوى المعاصى بعد الحج في بقية العمر بالوفاء بما عاهد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 تعالى عليه في عرفة وغيرها من مواقف الحج من التوبة والإنابة، والمشكل في هذه الآية قوله تعالى: (فى يومين) . والتعجل المرخص فيه إنما هو التعجل في اليوم الثانى من أيام التشريق، فكيف ذكر لفظ "اليومين " وأراد بهما اليوم الثانى فقط. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) . وهو يدل على أنها كانت إلى غيره كقولهم رجع إلى فلان عبده ومنصبه؟ قلنا: هو خطاب لمن كان يعبد غير الله، وينسب أفعاله إلى سواه، فأخبرهم أنهم إذا كشف لهم الغطاء يوم القيامة ردوا إليه ما أضافوه إلى غيره بسبب كفرهم وجهلهم، ولأن رجع تستعمل بمعنى صار ووصل كقولهم رجع على من فلان مكروه (ومنه قول لبيد) : وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يجود رمادا بعد إذ هو ساطع. ولأنها كانت إليه قبل خلق عبيده، فلما خلقهم ملكهم بعضها خلافة ونيابة، ثم رجعت إليه بعد هلاكهم، ومنه قوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) . وقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ) . وإنه قال: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) . ولم يقل: واليه، وإن كان قد سبق ذكره مرة لقصد التفخيم والعظيم، وذلك ينافى الإيجاز والاختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فإن قيل: كيف طابق الجوب السؤال في قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) . فإنهم سألوا عن بيان ما ينفقون، وأجيبوا ببيان المصرف؟ قلنا: قد تضمن قوله تعالى "قل ما أنفقتم من خير" بيان ما ينفقونه وهو كل خير، ثم زيدوا على الجواب ببيان المصرف. ونظيره قوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) . وقوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن الوضوء بماء البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". * * * فإن قيل: كيف جاء يسألونك ثلاث مرات بغير واو: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) . (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) . (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ثم جاء ثلاث مرات بالواو: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) . (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) . (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ؟ قلنا: لأن سؤالهم عن الحوادث الأول وقع متفرقاً، وعن الحوادث الآخر وقع في وقت واحد، فجىء بحرف الجمع دلالة على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 فإن قيل: كيف قال: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) . وعزمهم الطلاق مما يعلم لا مما يسمع؟ قلنا: الغالب أن العازم على الطلاق وترك الغى لا يخلوا عن مقاولة ودمدمة، وإن خلا عنها فلابد له أن يحدث نفسه ويناجيها بما عزم عليه، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله تعالى، كما يسمع وسوسة الشيطان. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) . ولا حق للنساء في الرجعة، وأفعل تقتضى الاشتراك؟ قلنا: المراد أن الزوج إذا أراد الرجعة وأبت المرأة وجب إيثار قوله على قولها، لا أن لها حقاً في الرجعة. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) ، والزوج أحق بالرجعة سواء أراد الإصلاح أو الإضرار بها بتطويل العدة؟ قلنا: المراد أن الرجعة أصوب وأعدل إن قصد الزوج بها الاصلاح، وتركها أصوب وأعدل إن قصد الإضرار بها. * * * فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) وقوله تعالى. (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) .؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قلنا: المراد بالآية الأولى إماتة العقوبة مع بقاء الأجل، وبالآية الثانية الإماتة بانتهاء الأجل، ونظيره قوله تعالى في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) . لأنها كانت إماتة عقوبة، أو كان احياءهم آية لنبيهم على ما عرف في قصتهم، فصار كإحياء العزير حين مر على القرية، وآيات الأنبياء نوادر مستثناة فكان المراد بالآية الثانية الموتة التى ليست بسبب آية لنبى من الأنبياء، وإحياء قوم موسى آية له أيضاً فكان هذا جواباً عاماً، مع أن في أصل السؤال نظراً لأن الضمير في قوله: " لا يذوقون " للمتقين. وفى قوله "فيها" للجنات على ما يأتى بيانه في سورة الدخان إن شاء الله تعال على وجه يندفع به السؤال من أصله. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) . والله تعالى لا يؤتى ملكه أحداً؟ قلنا: المراد بهذا الملك السلطنة والرياسة التى أنكروا أعطاها لطالوت، وليس المراد أنه يوتى كل ملكه لأحد. لأن سياق الآية يمنعه. * * * فإن قيل: كيف قال في الماء (ومن لم يطعمه) ولم يقل ومن لم يشربه والماء مشروب لا مأكول؟ قلنا: طعم بمعنى أكل وبمعنى ذاق، والذوق هو المراد هنا وهو يعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فإن قيل: كيف خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر في قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ؟ قلنا: لما أوتيا من الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة مع الكاتبين العظيمين المشهورين. * * * فإن قيل: كيف قال: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) . وفى يوم القيامة شفاعة للأنبياء وغيرهم بدليل قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) . وقوله: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) . وقوله: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) ؟ قلنا: هذه الآيات لا تدل على وجود الشفاعة يوم القيامة بل تدل على أنها لا توجد ولا تنفع بغير إذنه، ولا توجد لغير مرضى عنده، وبهذا لا ينافى (نفى) وجودها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 بل المنافى له الإخبار عن وجودها لا الإخبار عن إمكان وجوها، ولو سلم فالمراد به نفى شفاعة الأصنام والكواكب التى كانوا يعتقدونها، ولهذا عرض بذكر الكفار بقوله تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون (َ. وقيل: المراد أنه لا شفاعة في إثم ترك الواجبات. لأن الشفاعه في الآخرة في زيادة الفضل لا غير، والخطاب مع المؤمنين في النفقة الواجبة وهى الزكاة. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) . على جهة الحصر وغيرهم ظالم أيضاً؟ قلنا: لأن ظلمهم أشد فكأنه لا ظالم إلا هم، ونظيره: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) . * * * فإن قيل: كيف قال: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ) . بلفظ المضارع، ولم يقل أخرجهم بلفظ الماضي، والإخراج قد وجد لأن الإيمان قد وجد؟ قلنا: لفظ المضارع فيه دلالة على استمرار ذلك الإخراج من الله تعالى في الزمن المستقبل في حق من آمن، بزيادة كشف الشبهة ومضاعفة الهداية، وفى حق من لم يؤمن ممن قضى الله أنه سيؤمن بابتداء الهداية وزيادتها أيضاً، ولفظ الماضي لا يدل على هذا المعنى. * * * فإن قيل: متى كان المؤمنون في ظلمات الكفر، والكافرون في نور الإيمان ليخرجوا من ذلك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قلنا: الإخراج يستعمل بمعنى المنع عن الدخول، يقال لمن امتنع عن الدخول في أمر وخرج منه وأخرج نفسه منه، واذ لم يكن دخل فيه، فعصمة الله تعالى المؤمنين عن الدخول في ظلمات الضلال إخراج لهم منها، وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل الذي يصدونهم به عن الحق إخراج لهم من نور الهدى، ولأن إيمان أهل الكتاب بالنبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يظهر كان نوراً لهم وكفرهم به بعد ظهوره خروج منه إلي ظلمات الكفر، ولأنه لما ظهرت معجزاته عليه الصلاة والسلام كان موافقه ومتبعه خارجاً من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومخالفه خارجاً من نور العلم إلى ظلمات الجهل. * * * فإن قيل: كيف انتقل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى حجة أخرى وعدل عن نصرة الأولى، مع أنها لم تنقطع بما عارضه به نمرود من قتل أحد المحبوسين وإطلاق الآخر، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما أراد هذا الاحياء والإماتة؟ قلنا: إما لأنه رأى خصمه قاصر الفهم عن ادراك معنى الإحياء والإماتة التى أضافها إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى الله تعالى. حيث عارض معارضة لفظية، وعمى عن اختلاف المعنيين، أو لأنه علم أنه فهم الحجة لكنه قصد التمويه والتلبيس. على أتباعه واشياعه. فعدل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أمر ظاهر، يفهمه كل أحد ولا يقع فيه تمويه ولا تلبيس. * * * فإن قيل: كيف طبع الله على قلبه فلم يعارض بالعكس في طلوع الشمس؟ قلنا: لأنه لو عارض به لم يأت الله بها من المغرب: لأن ذلك أمارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قيام الساعة فلا يوجد إلا قريباً من قيامها، ولأنه وأتباعه كانوا عالمين أن طلوعها من المشرق سابق على وجوده فلو ادعاه لكذبوه. * * * فإن قيل: كيف قال عزير منكراً مستبعداً: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) . وهو نبي والنبى لا يخفى عليه قدرة الله تعالى على إحياء قرية خربة وإعادة أهلها إليها؟ قلنا: ما قاله منكرا مستبعداً لعظيم قدرة الله، بل متعجباً من عظيم قدرته تعالى. أو طالباً لرؤية كيفية الاعادة، لأن أتى بمعنى كيف أيضاً، وقد نقل عن مجاهد أن المار على القرية القائل ذلك كان رجلا كافراً شاكاً في البعث، وإن كان الأول هو المشهور. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) . وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً؟ قلنا: لنجيب بما أجاب به، فتحصل به الفائدة الجليلة للسامعين من طلبه لإحياء الموتى. * * * فإن قيل: كيف يجوز أن يكون النبى غير مطمئن القلب بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى، حتى قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ؟ قلنا: ليطمئن قلبى بعلم ذلك عياناً كما أطمئن به برهاناً، أو ليطمئن بأنك اتخذتنى خليلا، أو بأنى مستجاب الدعوة، ولقائل أن يقول على الوجه الأول كيف يزداد يقيناً بالمشاهدة، وقد روى عن على رضى الله عنه أنه قال: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً وإبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 عليه الصلاة والسلام أعظم رتبة وأجل، وجوابه أن علياً رضى الله عنه أراد بذلك قوة يقينه قبل العيان، حتى كأن الزيادة الحاصلة له بالعيان يسيرة لا يعتد بها. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله: (فصرهن إليك) . أي فضمهن، ولفظ الأخذ مغن عنه؟ قلنا: الفائدة فيه زيادة تأملها ومعرفة أشكالها وصفاتها، لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء فيتوهم أنها غيرها. * * * فإن قيل: كيف مدح المنافقين بترك المن، ونهى عن المن أيضاً، مع أنه وصف نفسه بالمنان؟ قلنا: "من " بمعنى أعطى ومنه المنان في صفات الله تعالى وقوله: (فامنن أوامسك) . وقوله: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) . أي أنعم وقوله: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) . أي انعاماً باالإطلاق بغير عوض، و" من " بمعنى اعتد بالنعمة وذكرها واستعظمها وهو المذموم. * * * فإن قيل: (قوله تعالى) (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) . من القسم الثانى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قلنا: ذلك اعتداد بنعمة الايمان فلا يكون قبيحاً بخلاف نعمة المال، ولأنه يجوز أن يكون من صفات الله تعالى ما هو مدح في حقه ذم في حق العبد كالجبار والمتكبر والمنتقم ونحو ذلك. * * * فإن قيل: كيف قال: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) . ثم قال: (فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) ؟ قلنا: لما كان النخيل والأعناب أكرم الشجر وأكثرها منافع خصهما بالذكر، وجعل الجنة منهما، وأن كان فيها غيرها تغليباً لهما وتفصيلاً. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) . يدل على أنهم كانوا يألون برفق فكيف قال: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) ؟ قلنا: المراد به نفس السؤال والإلحاف جمعاً كقوله تعالى: (لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) . وكقول الأعشى: لا يغمز الساق من أين ولا وصب. معناه ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزها. * * * فإن قيل: كيف قال: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الحق الوعيد بأكله مع أن لابسه ومدخره وواهبه أيضاً في الإثم سواء. قلنا: لما كان أكثر الإنتفاع بالأكل عبر عن أنواح الإنتفاع بالأكل كما يقال أكل فلان ماله كله إذا أخرجة في مصالح الأكل وغيره. * * * فإن قيل: كيف خص الأكل بذكر الوعيد دون المطعم وكلاهما آثم؟ قلنا: لأن انتفاعه الدنيوى بالربا أكثر من انتفاع المطعم. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) . والكلام في الربا، ومقصودهم تشبيهه بالبيع فقياسه إنما الربا مثل البيع؟ قلنا: جاءوا بالتمثيل على طريق المبالغة، وذلك أنه إذا بلغ من اعتقادهم استحلال الربا أنهم جعلوه أصلًا في الحل والبيع فرعاً لقولهم: القمر كوجه زيد والبحر ككفه إذا أرادوا المبالغة. * * * فإن قيل: كيف قلتم أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، وقد قال الله تعالى في حق آكلى الربا: (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ؟ قلنا: الخلود يستعمل بمعنى طول البقاء، وإن لم يكن بصفة التأبيد. يقال: خلد الأمير فلاناً في الحبس إذا طال حبسه، أو قوله: فأولئك إشارة إلى من عاد إلى استحلال الربا بقوله: إنما البيع مثل الربا، بعد نزول آية التحريم، وذلك يكون كافراً والكافر مخلد في النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فإن قيل: انتظار المعسر فرض بالنص، والتصدق عليه تطوع، فكيف قال: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ؟ قلنا: كل تطوع كان محصلا للمقصود من الغرض بوصف الزيادة كان أفضل من الغرض، كما أن الزهد في الحرام فرض، وفى الحلال تطوع والزهد في الحلال أفضل كما بينا كذلك هنا. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (بدين) . وقوله: (تداينتم) مغنى عنه؟ قلنا: فائدته رجوع الضمير إليه في قوله: (فَاكْتُبُوهُ) . إذ لو لم يذكره لقال: فاكتبوا الدين، والأول أحسن نظماً، الثانى أن تداين مشترك بين الأقراض والمبايعة وبين المجازاة، وإنما عبر بينهما بفتح الدال وكسرها ومنه: (ملك يوم الدين) . (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) . فذكر الدين ليتعين أي المعنيين هو المراد. * * * فإن قيل: كيف شرط السفر في الارتهان بقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وجواز الرهن لا يختص بالسفر؟ قلنا: لم يذكره لتخصيص الحكم به، بل لما كان السفر مظنة عوز الكاتب والشاهد الموثوق بهما أمر على سبيل الإرشاد، ولحفظ مال المسافرين بأخذ الرهان. * * * فإن قيل: ما فائدة ذكر القلب في قوله: (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) . مع أن الجملة هى بالإثم لا القلب وحده؟ قلنا: كتمان الشهادة هو أن يضمرها، ولا يتكلم بها، فلما كان ذلك إثماً مقترفاً بالقلب ومكتسباً به أسند إليه. لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التى يعمل بها أبلغ كما يقال: هذا مما أبصرته عينى وسمعته أذنى وعلمه قلبى. * * * فإن قيل كيف قال: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) . وما يحدث به الإنسان نفسه لا يأثم به ما لم يفعله، إما لأنه لا يدخل الإحتراز عنه في الوسع والطاقة أو بالحديث المشهور. قلنا: قيل: أريد بالآية العموم ثم نسخ بقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) . وقيل لا نسخ فيها لأنه خبر لا أمر أو نهى بل العموم غير مراد، وإنما المراد ما يمكن الاحتراز عنه، وهو العزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 القاطع والاعتقاد الجازم لا مجرد حديث النفس والوسوسة ولأنه أخبر عن المحاسبة لا عن المعاقبة، فهو يوم القيامة يخبر العباد بما أبدوا وأخفوا ليعلموا إحاطة علمه بجميع ذلك ثم قال: يغفر لمن يشأ فضلا ويعذب من يشأ عدلا كما أخبر في الآية. * * * فإن قيل: أي شرف للرسول عليه الصلاة والسلام في مدحه بالإيمان، مع أنه في مرتبة الرسالة، ودرجتها وهى أعلى من درجة الإيمان فما فائدة قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ) ؟ قلنا: فائدته أن يبين للمؤمنين زيادة شرف الإيمان، حيث مدح به خواصه ورسله، ونظيره في سورة الصافات قوله تعالى في خاتمة ذكر كل نبي: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) . * * * فإن قيل: روى عن ابن عباس أنه قرأ: (وملآئكته وكتابه) . فسئل عن ذلك فقال كتاب أكثر من كتب فما وجهه؟ قلنا: قيل: فيه أنه أراد أن الكتاب جنس والكتب جمع، والجنس أكثر من الجمع، لأنه حقيقة في الكل على ما ذهب إليه بعضهم. ويرد على هذا أن يقال: الكلام في الجمع المضاف والمفرد المضاف والجمع المضاف للاستغراق عرفاً وشرعاً، كقوله لعبده: أكرم أصدقائى وأهن أعدائى، وقوله: زوجاتى طوالق وعبيدى أحرار بخلاف قوله صديقى وعدوى وأمرأتى، فظهر أن الجمع المضاف أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فإن قيل: بين لا يضاف إلا إلى اثنتين فصاعدا فكيف قال: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ؟ قلنا: أحد هنا بمعنى الجمع الذي هو آحاد كقوله تعالى: (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) . فإنه ثم بمعنى الجمع بدليل قوله: (حَاجِزِينَ) . فكأنه قال لا نفرق بين آحاد من رسله كقوله: المال بين آحاد الناس ولأن أحداً يصلح للمفرد المذكر والمؤنث وتثنيتها وجمعهما نفياً وإثباتاً، نقول: ما رأيت أحدا إلا بنى فلان أو إلا بنات فلان سواء، وتقول إن جاءك أحداً بكتابى فأعطه وديعتى يستوى فيه الكل، فالمعنى لا نفرق بين أثنين منهم أو بين جماعة منهم ومنه قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) . * * * فإن قيل: من أين دل قوله تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) على أن الأول في الخير والثانى في الشر؟ قلنا: قيل هو من كسبت واكتسبت، فإن الأول للخير والثانى للشر؟ وليس لقوله تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا) . وقوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) . وقوله: (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وقوله: (ومن يقترف حسنة) . والاقراف والإكتساب بمعنى واحد، وقيل: هو (من) اللام وعلى وليس بسديد أيضاً لقوله تعالى: (الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) . وقوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) وقوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) . اللهم إلا أن يدعى أن اللام وعلى عند الإطلاق تقتضيان ذلك كما في هذه الآية: (لا مقرونتين) بذكر الحسنة والسيئة أو الحسن والقبيح ويدل عليه قوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) . أطلقه وأراد به الشر بدليل ما بعده، وقولهم: الدهر يومان يوم لك ويوم عليك " وقولهم ": فلان يشهد لك وفلان يشهد عليك " ويقول الرجل لصاحبه هذا الكلام حجة عليك لا لك، وقال الشاعر: على أننى راض بأن أحمل الهوى وأخلص منه لا على ولا ليا. أما قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) . وإن كان مقيداً لأن فيه دلالة أيضاً من جهة اللام وعلى لأن القيد شامل لطرفيه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 سورة آل عمران * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) . ثم قال تعالى: (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) ؟ قلنا: لأن القرآن نزل منجماً، والتوراة والانجيل نزلا جملة واحدة كذا أجاب الزمخشري وغيره، ويرد عليه قوله تعالى بعد ذلك: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) . فإن الزمخشري قال: أراد به جنس الكتب السماوية لا الثلاثة المذكورة جصوصاً، أو أراد به الزبور أو أراد به القرآن، وكرر ذلك تعظيماً، ويرد عليه بعد ذلك: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) . وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) . وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) . والذى وقع لي فيه -والله أعلم -أن التضعيف في نزل، والهمزة في أنزل كلاهما للتعدية، لأن نزل فعل لازم في نفسه وإذا كانا للتعدية لا يكونان لمعنى آخر وهو التكثير أو نحوه لأنه لا نظير له، فإنما جمع بينهما والمعنى واحد، وهو التعدية جرياً على عادة العرب في افتتانهم في الكلام وتصرفهم فيه على وجوه شتى. ويؤيد هذا قوله تعالى: (لولا نزل عليه آية من ربه) . وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فى موضع آخر: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) . * * * فإن قيل: كيف قال: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) . ومن للتبعيض. وقال في موضع آخر: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) وهذا يقتضى كون جميع آياته محكمة؟ قلنا: المراد بقوله: "منه آيات محكمات " أي ناسخات وآخر متشابهات " أي منسوخات، وقيل: المحكمات العقليات والمتشابهات الشرعيات، وقيل: المحكمات ما ظهر معناها والمتشابهات ما كان فى معناها غموض ودقة، والمراد بقوله تعالى "كتاب أحكمت آياته ". أن جميع القرآن صحيح ثابت مصون عن الخلل والزلل فلا تنافى. * * * فإن قيل: كيف قال هنا: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) . جعل بعضه متشابهاً، وقال في موضع آخر: (كِتَابًا مُتَشَابِهًا) . وصفه كله بكونه متشابهاً. قلنا: المراد بقوله: (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) . ما سبق ذكره، والمراد بقوله: (كِتَابًا مُتَشَابِهًا) . أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة وعدم التناقض وتأييد بعضه البعض فلا تنافى. * * * فإن قيل: ما فائدة إنزال المتشابه بالمعنى الأخير، والمقصود من إنزال القرآن إنما هو البيان والهدى، والغموض والدقة في المعانى ينافى هذا المقصود أو يبعده؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قلنا: لما كان كلام العرب ينقسم إلى ما يمفهم معناه سريعاً ولا يحتمل غير ظاهره، وإلى ما هو مجاز وكناية وإشارة وتلويح والمعانى فيه متعارضة متزاحمة، وهذا القسم هو المستحسن عندهم والمستبدع فى كلامهم نزل القرآن بالنوعين تحقيقاً لمعنى الاعجاز، كأنه قال عارضوه بأى النوعين شئتم فإنه جامع لهما، وأنزله الله محكماً ومتشابهاً ليختبر من يؤمن بكله ويرد علم ما تشابه منه إلى الله، فيثيبه، ومن يرتاب فيه ويشك وهو المنافق فيعاقبه، كما ابتلى عباده بنهر طالوت وغيره أو أراد أن يشتغل العلماء برد المتشابه إلى المحكم بالنظر والاستدلال والبحث والاجتهاد فيثابون على هذه العبادة، ولو كان كله ظاهراً جلياً لاستوى فيه العلماء والجهال ولماتت الخواطر لعدم البحث والاستنباط، فإن زناد الفكر إنما يقدح بزيادة المشكلات، ولهذا قال بعض الحكماء: عيب الغنى أنه يورث البلادة ويميت الخاطر، وفضيلة الفقر أنه يبعث على إعمال الفكر واستنباط الحيل في الكسب. فإذ قيل: قول تعالى: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) . أي ترى الفئة الكافرة الفئة المسلمة مثلى عدد نفسها أو بالعكس على إختلاف القولين وكيفما كان فهو مناف لقوله تعالى في سورة الأنفال: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) . لأن يدل على أن الفئتين تساوتا في استقلال كل واحدة منهما للأخرى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قلنا: التقليل والتكثير في حالين مختلفين قلل الله المشركين في نظر المؤمنين أولا، والمؤمنين في نظر المشركين حتى اجترأت كل فئة على قتال صاحبتها، فلما التقتا كثر الله المؤمنين في نظر المشركين حتى جبنوا وفشلوا فغلبوا أو كثر الله المشركين في نظر المؤمنين، وأراهم إياهم على ما هم عليه وكانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين، ليعلموا صدق ما وعدهم الله تعالى بقوله: (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) . فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغزوة وهى غزوة بدر مع أنهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين. وقيل: أرى الله المسلمين المشركين مثلى عدد المسلمين، وكانوا ثلاثة أمثالهم لكنه قللهم في أعين المسلمين وأراهم إياهم بقدر ما أعلمهم أنهم يفلبونهم، لتقوى قلوبهم بما سبق من الوعد إن المائة من المؤمنين تغلب المائتين منهم. * * * فإن قيل: ما فائدة تكرار قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) في قوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ؟ قلنا: الأول قول الله تعالى والثانى حكاية قول الملآئكة وأولى العلم. وقال جعفر الصادق رضى الله عنه: الأول وصف والثانى تعليم أي قوله وأشهدوا كما شهدوا. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وهم معرضون) في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 والتولى والإعراض واحد كما سبق مرة؟ قلنا: معناه يتولون عن الداعى ويعرضون عما دعاهم إليه وهو كتاب الله أو يتولون بأبدانهم ويعرضون عن الحق بقلوبهم أو كان الذين تولوا علماؤهم والذين أعرضوا أتباعهم. * * * فإن قيل: كيف قال: (بيدك الخير) . خص الخير بالذكر وبيده تعالى الخير والشر والنفع والضر؟ قلنا: لأن الكلام إنما ورد رداً على المشركين فيما أنكروه، مما وعد الله به نبيه على لسان جبريل عليهما الصلاة والسلام من فتح بلاد الروم وفارس، ووعد النبى عليه الصلاة والسلام الصحابة بذلك، فلما كان الكلام في الخير خصه بالذكر باعتبار الحال، أو أراد الخير والشر فاكتفى بأحدهما لدلالته على الآخر كقوله: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) . وإنما خص الخير بالذكر لأنه المرغوب فيه المطلوب للعباد من الله تعالى. * * * فإن قيل: كيف قال: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) . وإيلاج الشيء في الشيء يقتضى اجتماع حقيقتهما بعد الإيلاج كإيلاج الخيط في الإبرة والأصبع في الخاتم ونحوهما. وحقيقة الليل والنهار لا تجتمعان؟ قلنا: الإيلاج قد يكون كما ذكرتم، وقد يكون مع تبدل صفة أحدهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 بغلبة صفة الآخر عليه مع بقاء ذاته فيه كإيلاج يسير من خبز في لبن كثير أو بالعكس فإن الحقيقتين مجتمعتان وزناً، وصفة أحدهما غالبة على الأخرى، كذلك الليل والنهار إذا كان الليل أربع عشرة ساعة بالنسبة إلى زمن الاعتدال ففيه من النهار ساعتان قطعاً. وكذا على العكس، أو معناه يولج زمن الليل في زمن النهار وبالعكس، أو يوج الليل في النهار وبالعكس باعتبار أن ليل قوم هو نهار آخرين وبالعكس، أو معناه أنه خلق ليلًا صرفاً خالصاً. ونهاراً صرفاً خالصاً وخلق ما هو ممتزج منهما وهو ما قبيل طلوع الشمس وقبيل غروبها، والجواب الثالث والرابع يعمان جيع السنة. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) . وهو معلوم من غير ذكر؟ قلنا: هى ظنت أن ما في بطنها ذكر، ولهذا نذرت أن تجعله خادماً لبيت المقدس، وكان من شريعتهم صحة هذا النذر في الذكور خاصه، فلما وضعت أنثى استحيت حيث خاب ظنها، ولم يتقبل نذرها. فقالت ذلك معتذرة تعنى ليست الأنثى بصالحة لما يصلح له الذكر من خدمة المسجد، لا أنها أرادت (أن) الأنثى ليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 كالذكر صورة أو قوة أو نحو ذلك، فلما قالت ذلك منكسرة خجلة من الله عليها بتخصيص مريم بقبولها في النذر دون غيرها من الأناث، وقال: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ) . * * * فإن قيل: المستعمل في مثله إدخال حرف النفى على القاصر، وحرف التشبيه على الكامل كقولهم: ليس الفضة كالذهب، وليس العبد كالحر، فوزانه ليست الأنثى كالذكر؟ قلنا: لما كان جعل الأصل فرعاً والفرع أصلا في التشبيه في حالة الاثبات، يقتضى المبالغة في المشابهة كقولهم: القمر كوجه زيد، والبحو ككفه، كان يجعل الأصل فرعاً والفرع أصلا في حالة النفى يقتضى نفى المبالغة في المتشابهة لا نفى المشابهة، وذلك هو المقصود هنا، لأن المشابهة واقعة بين الذكر والأنثى في أعم الأوصاف، وأغلبها، ولهذا يقاد أحدهما بالآخر، وإنما أرادت أم مريم نفي المشابهة بينهما في صحة النذرية خادماً لبيت المقدس لا غير. فلذلك عكست الثانى: إن ذلك قول الله تعالى، والمعنى ليس الذكر الذي طلبت أن يكون خادماً للكنيسة كالأنثى التى وهبت لما علم الله تعالى من جعلها وابنها آية للعالمين، وهو تفسير للتعظيم والتفخيم المجمل في قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) . وهى لا تعرف مقدار شرفه واللام في الذكر والأنثى للعهد، وهذا كله قول الزمخشري وتمامه في الكشاف، وقال الفقيه أبو الليث: قال بعضهم: هذا قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم أي وليس الذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 كالأنثى يا محمد، وقال بعضهم: هو من كلام أم مريم. * * * فإن قيل: كيف نادت الملآئكة زكريا وهو قائم يصلى في المحراب وأجابها وهو في الصلاة كما قال تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) ؟ قلنا: المراد بقوله يصلى أي يدعو لقوله تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ) . أي بدعائك * * * فإن قيل: ما فائدة تخصيص يحيى عليه الصلاة والسلام وقوله: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) . وكل واحد من المؤمنين مصدق بجميع كلمات الله تعالى؟ قلنا: معناه مصدقاً بعيسى الذي كان وجوده بكلمة من الله، وهى كن من غير واسطة أب، وكان تصديق يحيى بعيسى أسبق من تصديق كل أحد في الوجود أو في المرتبة. * * * فإن قيل: زكريا سأل الله الولد بقوله: (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) . والله تعالى بشره بيحيى على لسان الملآئكة، فكيف أنكر (بعد) هذا كله قدرة الله على إعطائه الولد حتى قال: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) ؟ قلنا إنما قاله على سبيل الإستفهام والتعجب من عظيم قدرة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 تعالى، لا عن طريق الإنكار والاستبعاد، أو اشتبه عليه هل يعطى الولد وهو شيخ وأمرأته عاقر أو تزول عنهما هاتان الصفتان، فسأل لكشف الحال فتقديره " أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ " ولقائل أن يقول آخرالآية لا يناسب هذا الجواب. * * * فإن قيل: ما فائدة تكرار ذكر الاصطفاء في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ) ؟ قلنا: الاصطفاء الأول للعبادة التى هى خدمة البيت المقدس، وتخصيصها بقبولها في النذر مع كونها أنثى، والاصطفاء الثانى لولادة عيسى عليه الصلاة والسلام أو أعيد ذكر الاصطفاء ليقيد بقوله "على نساء العالمين" فيندفع وهم أنها مصطفاة على الرجال. * * * فإن قيل: كيف نفى حضور النبى عليه الصلاة والسلام في زمن مريم بقوله: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ) . . .الآية، وذلك معلوم عندهم ولا شك فيه، وترك نفى استماعه ذلك الخبر من حافظه، وهو الذي كانوا يتوهمونه؟ قلنا: كان معلوماً أيضاً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل القراءة والرواية، وكانوا منكرين للوحى فلم يبق إلا المشاهدة والحضور، وهى في غاية الاستحالة فنفيت على طريق التهكم بالمنكرين للوحى مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية، ونظيره قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ) . (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ) . * * * فإن قيل: كيف قال: (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) . والخطاب مع مريم وهى تعلم أن الولد الذي بشرت به ابنها؟ قلنا: لأن الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، فأعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه. * * * فإن قيل: أي معجزة لعيسى عليه الصلاة والسلام في تكليم الناس كهلاً وأى خصوصية له في هذا حتي قال: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) ؟ قلنا: معناه يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التى يستحكم فيها العقل، وينبأ فيها الأنبياء، فكأنه قال: ويكلم الناس في المهد كما يكلمهم كهلاً. وقال الزجاج: هذا خرج مخرج البشارة لمريم أنه عليه الصلاة والسلام يبقى إلى زمن الكهولة، فهو بشارة لها بطول عمره. وقيل: المقصود منه أن الزمان يؤثر فيه كما يؤثر في غيره، وينقله من حال إلى حال ولو كان إلهاً لم يجز عليه التغيير. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) . والله تعالى رفعه ولم يتوفه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 قلنا: لما هدده اليهود بالقتل بشره بأنه إنما يقبض روحه بالوفاة لا بالقتل. والواو لا تفيد الترتيب ليلزم من الآية موته قبل رفعه. الثانى: أن فيه تقديماً وتأخيراً تقديره أنى رافعك ومتوفيك. الثالث: أن معناه قابضك من الأرض تاماً وافياً في أعضائك وجسدك لم ينالوا منك شيئاً، من قولهم: توفيت حقى على فلان إذا استوفيته تاماً. وافياً. الرابع: أن معناه أنى متوفيك نفسك بالنوم من قوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) . ورافعك إلى وأنت نائم حى لا تخاف، بل تستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) . وآدم (خلق من التراب، وعيس من الهواء) ، وآدم خلق من غير أب وأم، وعيسى خلق من أم؟ قلنا: المراد به التشبيه في وجوده بغير واسطة، والتشبيه لا يقتضى المماثلة من جميع الوجوه بل من بعضها. * * * فإن قيل: كيف خص أهل الكتاب بأن منهم أميناً وخائناً بقوله: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) . .الآية والمسلمون وغيرهم من أهل الملل كذلك منهم الأمين والخائن؟ قلنا: إنما خصهم باعتبار واقعة الحال، فإن سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام أودع ألفاً ومائتى أوقية من الذهب فأدى الأمانة فيها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وفنحاص بن عازوراء أودع دينارا فخانه، ولأن خيانة أهل الكتاب المسلمين يكون على استحلال بدليل آخر الآية، بخلاف خيانة المسلم المسلم فلذلك خصهم بالذكر. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) . وأكثر الجن والأنس كفرة؟ قلنا: المراد بهذا الاستسلام والانقياد، لما قضاه عليهم وقدره من الحياة والموت والمرض والصحة والشقاء والسعادة ونحو ذلك. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) . ومعلوم أن المرتد كيفما ازداد كفراً فإنه مقبول التوبة؟ قلنا: الآية نزلت في قوم ارتدوا ثم أظهروا التوبة بالقول لستر أحوالهم والكفر في ضمائرهم، قاله ابن عباس وقيل: نزلت في قوم تابوا من ذنوبهم غير الشرك، وقيل: معناه لن تقبل توبتهم وقت حضور الموت. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) . وكم من بيت بنى قبل الكعبة من زمن آدم إلى زمن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام؟ قلنا: معناه أنه أول بيت وضع قبلة للناس ومكان عبادة لهم، أو وضع مباركاً للناس، ولأن ابن عباس قال: أول من بناه آدم عليه الصلاة والسلام لما أهبط من السماء أوحي الله إليه: أبن لي بيتاً فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الأرض وأصنع حوله نحو ما رأيت الملآئكة تصنع حول عرشى، فبناه وجعل يطوف حوله. * * * فإن قيل: كيف قال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) . ولم يقل أنتم خير أمة؟ قلنا: معناه كنتم في سابق علم الله، أو كنتم يوم أخذ الميثاق على الذرية فأراد الإعلام بكون ذلك صفة أصلية فيهم لا عارضة متجددة أو معناه خلقتم ووجدتم فهى كان التامة، وخير أمة نصب على الحال وتمام الكلام في كان ذكرناه في قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا) . * * * فإن قيل: كيف قال: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) . ولا يصح أن يقال هذا خير من ذلك إلا إذ كان في كل واحد منهما خير؟ قلنا: معناه إيمانهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، مع إيمانهم بموسى عليه الصلاة والسلام، مع إيمانهم بعيسى عليه الصلاة والسلام خير من إيمانهم بموسى وعيسى فقط. * * * فإن قيل: كيف قال: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ) ... الآية) والمقصود تشبيه نفقة الكفار أموالهم في تحصيل المفاخر وطلب الصيت والسمعة أو ما ينفقونه في الطاعات مع وجود الكفر أو ما ينفقونه في عداوة رسول الله صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الله عليه وسلم بالزرع الذي أصابته ريح شديدة البرد فأهلكته فضاع ولم ينتفح به، فالتشبيه في الحقيقة بالزرع، وفى لفظ الآية بالريح؟ قلنا: فيه إضمار تقديره مثل اهلاك ما ينفقون كمثل اهلاك ريح فيها صر، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح، ونظيره قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) . ... الآية) . وقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) ... الاية) . وقال ثعلب: فيه تقديم وتأخير تقديره كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابتهم ريح فيها صر فأهلكته. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا) . فوصف الحسنة بالمس والسيئة بالاصابة؟ قلنا: المس مستعار بمعنى الاصابة، فكان المعنى واحد ألا ترى إلى قوله تعالى: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) . وقوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) . وقوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فإن قيل: كيف قال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) . والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: العجلة من الشيطان والتأنى من الرحمن؟ قلنا: قد استثنى النبى عليه الصلاة والسلام خسمة مواضع فقال: إلا في التوبة من الذنب، وقضاء الدين الحال، وتزويج البكر البالغة. ودفن الميت، وإكرام الضيف إذا نزل، والمسارعة المأمور بها في الآية هى المسارعة إلى التوبة وما في معناها من أسباب المغفرة. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) . عطفه عليهم بكلمة أو فعل الفاحشة داخل في ظلم النفس وهو (من) أبلغ أنواع ظلم النفس؟ قلنا: أريد بالفاحشة نوع من أنواع ظلم النفس، وهو الزنا أو كل كبيرة فخص بهذا الإثم تنبيهاً على زيادة قبحه، وأريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب. * * * فإن قيل: كيف قال هنا: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) . وقال في موضع آخر: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) . قلنا: معناه ومن يستر الذنوب من جميع الوجوه إلا الله، ومثل هذا الغفران لا يوجد إلا من الله تعالى. * * * فإن قيل: كيف قال: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ) وهنا اقتصر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قوله " أفإن مات "، وكان القتل يدخل فيه، فإنه موت؟ قلنا: القتل وإن كان موتاً، ولكن إذا أطلق الميت في العرف لا يفهم منه المقتول فلذلك عطف أحدهما على الآخر. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وقال في موضع آخر: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ؟ قلنا: معناه يأتى به مكتوباً في ديوانه أو يأتى حاملا لإثمه، ومعنى فرادى منفردين عن الأموال والأهل أو عن الشركاء في الغى أو عن الألهة المعبودة من دون الله، وتمام الآية يشهد للكل. * * * فإن قيل: جاء في الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم: " أن الغال يأتى يوم القيامة حاملا عين ما غله على عنقه صامتاً كان أو ناطقاً " هذا معنى الحديث، فاندفع الجواب؟ قلنا: على هذا يكون المراد بالآية الأخرى فرادى عن مال وأهل تعتزون بهما وتستنصرون، ويشهد بصحته تمام الآية. فإذ قيل: كيف قال: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) . (والعبيد ليسوا نفس الدرجات؟ قلنا: فيه إضمار تقدير هم درجات، أو أهل درجات فحذف المضاف لعدم الالتباس. وقيل: المراد: بالدرجات الطبقات فلا يكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فيه إضمار، بل معناه أنهم طبقات عند الله تعالى يتفاوتون كتفاوت الدرجات. * * * فإن قيل: كيف جعل لكلا الفريقين درجات، وأحد الفريقين لهم دركات لا درجات؟ قلنا: الدرجات تستعمل في الفريقين بدليل قوله تعالى في سورة الأحقاف بعد ذكر الفريقين: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) . وتحقيقه أن بعض أهل النار أخف عذاباً فمكانه فيها أعلى. وبعضهم أشد عذاباً فمكانه فيها أقل ولو سلم اختصاص الدرجات بأهل الجنة لقوله: (هم درجات) فيكون راجعاً إليهم خاصة بتقديره. أفمن اتبع رضوان الله وهم درجات عند الله كمن باء بسخط من الله وهم دركات؟ إلا أنه حذف البعض لدلالة المذكور عليه. * * * فإن قيل: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) . كانوا في زمن النبى صلى الله عليه وسلم، قالوا ذلك لما سمعوا قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) . فكيف قال: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ) . أي ونكتب قتلهم الأنبياء وهم لم يقتلوا أنبياء قط؟ قلنا: لما رضوا بقتل أسلافهم الأنبياء كان كأنهم باشروا ذلك فأضيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 إليهم، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيراً. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) . وظلام صيغة مبالغة من الظلم، ولا يلزم منه نفى الظالم، وعلى العكس يلزم فهلا قال: ليس بظالم ليكون أبلغ في نفى الظلم عن ذاته المقدسة؟ قلنا: صيغة المبالغة جىء بها لكثرة العبيد لا كثرة الظلم كما قال تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) . وقال: (عالم الغيب) و (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) . لما أفرد المفعول لم يأت بصيفة المبالغة. ولما جمعه أتى بصيغة المبالغة، ونظيره قولهم: زيد ظالم لعبده، وعمرو ظلام لعبيده فهما في الظلم سيان، وكذا قال تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ) فشدد لكثرة الفاعلين لا لتكرار الفعل. والثانى: أن العذاب من العظيم القدير الكثير العدل لولا سبق الجناية يكون أفحش وأقبح من الظلم ممن ليس عظيم القدر (كثير) العدل فيطلق عليه اسم الظلام باعتبار زيادة قبح الفعل منه لا باعتبار تكرره، فحاصله أن صيغة المبالغة (تارة) تكون باعتبار زيادة ذات الفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وتارة باعتبار صفته ففعل الظلم لو وجد من الله تعالى وتقدس لكان أعظم من ألف ظلم يوجد من عبيده باعتبار زيادة وصف القبح ونظيره قوله تعالى: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) . على ما يأتى بيانه في موضعه إن شاء الله. * * * فإن قيل: في قوله تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) . من حق الجزاء أن يتعقب الشرط، وهنا سابق له؟ قلنا: معناه وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل قبلك، وضعاً وهو تكذيبهم موضع المسبب وهو التأسى بهم. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَلَا تَكْتُمُونَهُ) في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) . والأول مغن عن الثانى؟ قلنا: معناه ليبيننه في الحال ويدومون على ذلك البيان فلا يكتمونه في المستقبل. الثانى: أن الضمير الأول للكتاب، والثانى: لنعت النبى صلى الله عليه وسلم وذكر هـ، فإنه قد سبق ذكر النبى عليه الصلاة والسلام قبيل هذا. * * * فإن قيل: متى بينوا الكتاب لزم بيانه بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم وذكره. لأنه من جملة الكتاب الذي هو التوراة والانجيل فقوله بعد ذلك (لا تكتمونه) . تكرار؟ قلنا: على هذا يكون تأكيداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فإن قيل: كيف قال: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) وقال في موضع آخر: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) . ويلزم من هذا أن لا يدخل المؤمنون النار كما قالت المعتزلة والخوارج؟ قلنا: أخزيته بمعنى أذللته وأهنته من الخزى، وهو الذل والهوان. وقوله: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) . من الخزاية وهى النكال والفضيحة فكل من يدخل النار يذل، وليس كل من دخلها ينكل به ويفضح أو المراد بالآية الأولى ادخال الإقامة والخلود، لا ادخال تحلة القسم المدلول عليها بقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) . أو ادخال التطهير الذي يكون لبعض المؤمنين بقدر ذنوبهم، وقيل: أن قوله تعالى: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) . كلام تام وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) . كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله. * * * فإن قيل: كيف قال: (سَمِعْنَا مُنَادِيًا) . والمسوع نداء المنادى وقوله، لا نفس المنادى؟ قلنا: لما قال منادياً ينادى صار تقديره نداء مناد كما يقال سمعت زيداً يقول كذا أي سعت قول زيدا. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله: (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وتكفير السيئات داخل في غفران الذنوب؟ قلنا: الغفران مجرد فضل، والتكفير محو السيئات بالحسنات. * * * فإن قيل: ما فائدة قولهم: (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) . (مع أنهم لا ينفعهم توفيهم مع الأبرار) . بل النافع لهم كونهم مع الأبرار سواء توفاهم معهم أو قبلهم أو بعدهم؟ قلنا: معناه وتوفنا مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم، كما يقال: أعطانى الأمير مع أصحاب الخلع والجوائز أي جعلنى من جملتهم، وإن تقدم إعطاؤه عنهم أو تأخر. * * * فإن قيل: كيف قالوا: (وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) . أي على لسان رسلك دعوة بانجاز الوعد مع علمهم وقولهم أيضا: (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) ؟ قلنا: الوعد من الله تعالى على ألسنة الرسل للمؤمنين عام يحتمل أن يراد به الخصوص، كما في أكثر عمومات القرآن، فسألوا الله تعالى أن يجعلهم من الداخلين في حكم الوعد الثانى: سألوا تعجيل النصر الذى وعدوا، فإنه تعالى وعدهم النصر على أعدائهم غير مؤقت بوقت خاص. * * * فإن قيل: كيف يجوز أن يغتر الرسول بنعمة الذي كفروا حتى نهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 عنه بقوله: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ) . أى تصرفهم فيها بالتجارات متنعمين؟ قلنا: معناه لا يغرنكم أيها المؤمنون، فإن رئيس القوم ومقدمهم يخاطب بشىء والمراد به أتباعه وجماعته، الثانى: أنه عليه الصلاة والسلام كان غير مغتر بحالهم فقيل له ذلك تأكيداً لما كان عليه وتثبيتاً على الدوام عليه. كما قيل له: (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ) . (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) . * * * فإن قيل: كيف نهى عن التقلب وهو ليس مما ينهى؟ قلنا: معناه لا تغتر بتقلبهم فيكون تقلبهم قد غرك، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب لأن تقلبهم لو غره لأغتر به، فمنع السبب وهو غرور تقلبهم اياه، فيمتنع المسبب وهو اغتراره بتقلبهم. * * * فإن قيل: كيف قال: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ) . ولم يقل: "لا يغرنك نعمهم وأموالهم " والذى يحتمل أن يغر الرسول والمؤمنين النعم والأموال لا التقلب في البلاد؟ قلنا: المراد بتقلبهم تصرفهم في التجارات والتنعم والتلذذ بالأموال، والفقير إنما يتألم وينكسر قلبه إذا رأى الغنى يتقلب في النعمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ويتمتع بها، فلذك ذكر التقلب، وقيل: معناه لا يغرنك تقلبهم في المعاصى غير مأخوذين بذنوبهم. * * * فإن قيل: كيف قال: (أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) . وقوله لهم " أجرهم عند ربهم " موضع البشارة بالثواب وسرعة الحساب، إنما تذكر في موضع التهديد والعقاب؟ قلنا: معناه (لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) . خوفاً من حسابه، فإنه سريع الحساب، فهو راجع إلى ما قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 سورة النساء * * * فإن قيل: في قوله تعالى: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) . إذ كانت حواء مخلوقة من آدم، ونحن مخلوقون منه أيضاً، تكون حواء إلى آدم نسبة الولد لأنها متفرعة منه، فتكون أختاً لنا لا أماً؟ قلنا: قال بعض المفسرين (من) لبيان الجنس لا للتبعيض، فمعناه وخلق من جنسها زوجها، كما في قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) . الثانى: وهو الذي عليه الجمهور أنها للتبعيض. ولكن خلق حواء من آدم لم يكن بطريق التوليد كخلق الأولاد من الآباء، فلا يلزم منه ثبوت حكم البنتية والأختية فيها. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) . واليتيم لا يعطى ماله حتى يبلغ اتفاقاً؟ قلنا: المراد به إذا بلغوا وإنما سموا يتامى لقرب عهدهم بالبلوغ باعتبار ما كان، كما تسمى الناقة عشراء بعد الوضع، وقد يسمى البالغ يتيماً باعتبار ما كان، كما يسمى الحى ميتاً والعنب خمراً باعتبار ما يكون. قال الله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) . وقال: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً) . ومنه قولهم للنبى صلى الله عليه وسلم بعد ما نبأه الله تعالى "يتيم أبى طالب ". * * * فإن قيل: أكل مال اليتيم (حرام وحده) ومع أموال الأوصياء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فلم ورد النهى مخصوصاً عن أكله معها بقوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) . أي معها؟ قلنا: لأن أكل مال اليتيم مع الاستغناء عنه أقبح، فلذلك خص بالنهى، ولأنهم كانوا يأكلونه مع الاستغناء عنه، فجاء النهى على ما وقع بينهم. * * * فإن قيل: لما قال: (مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) . دخل فيه القليل والكثير فما فائدة قوله: (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) ؟ قلنا: إنما قال ذلك على وجهة التأكيد والإعلام أن كل تركة يجب قسمتها، لئلا يتهاون بالقليل من التركات ويحتقر، فلا يقسم وينفرد به بعض الورثة. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ) . مع أنه لو كان الولد بنتاً فللأب الثلث؟ قلنا: الآية وردت لبيان الفرض دون التعصيب، وليس للأب مع البنت بالفرض إلا السدس. * * * فإن قيل: كيف قطع على العاصى بالخلود في النار بقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا) ؟ قلنا: أراد به من يعصى الله برد أحكامه وجحودها وذلك كفر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 والكافر يستحق الخلود في النار. * * * فإن قيل: كيف قال: (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) . والتوفى والموت بمعنى واحد فصار كأنه قال: حتى يميتهن الموت؟ قلنا: معناه حتى يتوفاهن ملآئكة الموت، الثانى معناه حتى يأخذهن الموت ويستوفى أرواحهن. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ) . ولم يقل إنما التوبة على العبد، مع أن التوبة واجبة على العبد؟ قلنا: معناه إنما قبول التوبة على الله بحذف المضاف، الثانى: أن معنى التوبة من الله رجوعه على العبد بالمغفرة والرحمة، لأن التوبة في اللغة الرجوع. * * * فإن قيل: كيف قال: (بِجَهَالَةٍ) ولو عمله بغير جهالة ثم تاب قبلت توبته؟ قلنا: معناه بجهالة بقدر قبح المعصية وسوء عاقبتها، لا بكونها معصية وذنباً، وكل عاص جاهل بذلك حال مباشرة المعصية، معناه أنه مسلوب كمال العلم به بسبب غلبة الهوى وتزيين الشيطان. * * * فإن قيل: كيف قال: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) . مع أنهم لو تابوا بعد الذنب من بعيد قبلت توبتهم؟ قلنا: معناه قبل معاينة سلطان الموت، كذا قاله ابن عباس رضى الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فإن قيل: كيف قال: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا ... الآية) . مع أن حرية الأخذ ثابتة وإن لم يكن قد أعطاها المهر، بل كان في زمته أو في يده؟ قلنا: المراد بالإيتاء الضمان والالتزام كما في قوله تعالى: (إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ) . أى ما ضمنتم والتزمتم. * * * فإن قيل: كيف قال: (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا) وأخذ مهر المرأة ظلم وليس ببهتان، لأن البهتان الكذب؟ قلنا: قال ابن عباس وابن قتيبة: المراد بالبهتان الظلم، وقال الزجاج: المراد به الباطل، والمشهور في كتب اللغة أن البهتان أن يقول الإنسان على غيره مالم يفعله، قالوا فالمراد به أن الرجل ربما رمى أمرأته بتهمة ليتوصل بذلك إلى أن يأخذ منها مهرها ويفارقها. وقيل: المراد به إنكاره أن لها مهرا في ذمته. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) . نهى عن الفعل في المستقبل و" إلا ما قد سلف " ماض فكيف يصبح استثناء الماضي من المستقبل؟ قلنا: قيل إن " إلا " هنا بمعنى بعد كما في قوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) . وقيل: هو استثناء من محذوف تقديره فأنكم تعذبون به إلا ما قد سلف، وقيل: فيه تقديم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وتأخير تقديره "إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ... الآية) . إلا ما قد سلف. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) . بلفظ الماضي مع أن نكاح منكوحة الأب فاحشة في الحال وفى المستقبل إلى يوم القيامة؟ قلنا: (كان) تارة تستعمل للماضى المنقطع كقولك: كان زيد غنياً، وكان الخزف طيناً، وتارة تستعمل للماضي المستمر المتصل ويقال للحال (كقول أبى جندب الهذلى) : وكنت إذا جارى دعا لمضوفة أشمر حتى ينصف الساق ميزرى. أى وإنى الآن، لأنه إنما يمتدح بصفة ثابتة له في الحال لا بصفة زائلة ذاهبة، والمضوفة بالفاء الأمر الذي يشفق منه، والقاف تصحيف، ومنه قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) . (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) . وما أشبه ذلك وما نحن فيه من هذا القبيل، وسيأتى تمام الكلام في كان بعد هذا إن شاء الله تعالى في قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) . * * * فإن قيل: كيف قال: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) . قيد التحريم بكون الربيبة في حجر زوج أمها، والحرمة ثابتة مطلقاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وإن لم تكن في حجره؟ قلنا: أخرج ذلك مخرج العادة والغالب لا مخرج القيد والشرط، ولهذا اكتفى في موضع الإحلال بنفى الدخول فتأمل. * * * فإن قيل: لما قال: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) . ثم قال في آخر الآية. (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) . علم من مجوع ذلك أن الربيبة لا تحرم إذ لم يدخل بأمها، فما فائدة قوله: (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) ؟ قلنا: فائدته أن لا يتوهم أن قيد الدخول خرج مخرج العادة والغالب لا مخرج الشرط كما في قيد الحجر. * * * فإن قيل: كيف قال في نكاح الإماء: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) . والمهر ملك المولى، وإنما يجب تسليمه إلى المولى لا إلى الأمة؟ قلنا: لما كانت الأمة وما في يدها ملك المولى كان أداؤه إليها كأدائه إلى المولى. الثانى: أن معناه وأتو مواليهن أجورهن بطريق حذف المضاف * * * فإن قيل: كيف قال: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) . وجواز نكاح الأمة ثابت من غير خوف العنت عند بعض العلماء؟ قلنا: فيه إضمار وتقديره: ذلك أصوب وأصلح لمن خشى العنت منكم، فيكون شرطاً لما هو الأرشد والأصلح، كما في قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) . * * * فإن قيل: كيف قال: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) والإرادة إنما تقرن بأن، يقال: أريد أن تفعل وقال الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) ؟ قلنا: قد ورد في الكتاب العزيز اللام بمعنى (أن) كثيراً، قال الله تعالى: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) . وقال: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) . وقال: (يُرِيدُونَ ليُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) . وقل في موضع آخر: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا) . كذلك هذا. * * * فإن قيل: كيف خص التجارة بالذكر في قوله تعال: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) . مع أن الهبة والصدقة والوصية والضيافة وغيرها تقتضى الحل أيضاً كالتجارة؟ قلنا: إنما خصها بالذكر لأن معظم تصرف الخلق في الأموال إنما هو بالتجارة، أو لأن أسباب الرزق أكثرها متعلقة بها. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) قالوا معناه أنهم يتمنون يوم القيامة أن يجعلوا تراباً كما جاء في آخر سورة النبأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وظاهر اللفظ يعطى أنهم يتمنون أن نجعل الأرض مثلهم ناساً كما تقول سويت زيدا بعمرو، ومعناه جعلت زيدا وهو المسوى مثل عمرو وهو المسوى به؟ قلنا: سويت هذا بهذا له معنيان أحدهما: إجراء حكم الثانى على الأول كقولك: سويت زيداً بعمرو كما تقول ساويت والثانى: أن يكون المسوى (مفعولا والمسوى به) آلة كقولك سويت القلم بالسكين، والثوب بالمقراض بمعنى أصلحته به، فقوله: " لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ" يحتمل الوجهين أن يكون بمعنى ساويت، ويكون من المقلوب أي لو يسوون بالأرض، يجعلهم تراباً كقوله تعالى: (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) . وقوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) في قول من لم يجعل الباء زائدة، وقولهم: أدخلت الخاتم في أصبعى ونحوه، وإن يكون بمعنى الآلة ودوا لو تمهد بهم الأرض وتوطد بأن يجعلوا تراباً، ويبثوا في وهادها وحضيضها لتساوى بقاعها وأكامها وقوله تعالى: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) . أي لا انخفاضاً ولا ارتفاعاً، وإن كان يدل على أن الأرض يوم القيامة متساوية السطح فجعلها متساوية السطوح إن كان قبل البعث، فإذا بعث الموتي من قبورهم خلت منهم قبورهم وحفرهم، فحصل في الأرض تفاوت. وإن كان بعد البعث فيجوز أن يكون هذا التمنى سابقاً على جعلها متساوية السطوح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فإن قيل: قولنا هذا خير من ذلك يقتضى أن يكون في كل واحد منهما خير حتى يصح تفضيل أحدهما على الآخر، لأن خيرا في الأصل (من) أفعل التفضيل، فكيف قال: (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ) . بعد ما سبق من قولهم في أول الآية؟ قلنا: المراد بالخير هنا الخير الذي هو ضد الشر لا الذي هو أفعل التفضيل كما تقول: في فلان خير. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) . والمفعول مخلوق وأمر الله تعالى وقوله غير مخلوق؟ قلنا: ليس المراد بهذا الأمر ما هو ضد النهى، بل المراد به ما يحدثه من الحوادث، فإن الحادثة تسمى أيضاً أمراً. ومنه قوله تعالى: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) وقوله: (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا) . * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) . مع أن شرك الساهي والمكره والتائب مغفور؟ قلنا: المراد به شرك غير هؤلآء المخصوصين من عموم الآية بأدلة من خارج أو نقول قيد المشيئة متعلق بالفعلين المنفى والمثبت، كأنه قال: "إن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ويغفر ما دونه لمن يشاء ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فإن قيل هذه الآية (تدل) على أن غير الشرك من الذنوب لا يقطع بانتفاء مغفرته، بل يرجى مغفرته ، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) . يدل على القطع بإنتفاء المغفرة في الكفر والظلم، وهما غير الشرك فكيف الجمع بينهما؟ قلنا: المراد بالظلم هنا الشرك قاله مقاتل، والشرك يسمى ظلماً، قال الله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) . فكأنه قال إن الذين أشركوا. الثانى: أن قوله تعالى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . وليس قطعاً بالمغفرة لغير المشرك، بل هو تعليق للمغفرة بالمشيئة، ثم بين في الآية الأخرى أن الكافر ليس داخلاً فيمن يشاء المغفرة له، فتعين دخوله فيمن لا يغفر له، لأنه لا واسطة بينهما. الثالث: أنه عام خص بالآية الثانية كما خص قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) . بالآية الأولى ويؤيد هذا إجماع الأمة على أن الكافر والمشرك سواء في عدم المغفرة والتخليد في النار، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فإن قيل: كيف قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) . ذمهم على ذلك وقال أيضاً: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) . وقد زكى النبى عليه الصلاة والسلام نفسه فقال: "والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض " ويوسف عليه الصلاة والسلام قال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ؟ قلنا: إنما قال ذلك حين قال المنافقون اعدل في القسمة، تكذيب لهم حيث وصفوه بخلاف ما كان عليه من العدل والأمانة، وأما يوسف عليه الصلاة والسلام فإنما قال ذلك ليتوصل به إلى ما هو وظيفة الأنبياء، وهو إقامة العدل وبسط الحق، وامضاء أحكام الله تعالى، ولأنه علم أنه لا أحد في ذلك الوقت أقوم منه بذلك العمل، فكان متعيناً عليه، فلذلك طلبه وأثنى على نفسه، ومع ذلك كله فإنه روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، ولكنه أخر ذلك سنة ". * * * فإن قيل: كيف قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) . إلى أن قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ) . حصر لعنته فيهم لأن هذا الكلام للحصر، وليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لعنة الله منحصرة فيهم، بل هى شاملة لجميع الكفار؟ قلنا: قوله (أولئك) إشارة إلى القائلين: (لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) . وهذا القول موجود من جميع ألكفار فكانت اللعنة شاملة للجميع. * * * فإن قيل: كيف قال: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) . أخبر أنه يعذب جلوداً لم تعص مكان الجلود العاصية وتعذيب البريء ظلم؟ قلنا: الجلود المجددة، وإن عذبت فالألم بتعذيبها إنما يحصل للقلوب، وهى غير مجددة، بل هى العاصية باعتقاد الشرك ونحوه. والثانى: أن المراد تبديلها إعادة النضيج على نضيج والجلود هى الجلود بعينها، كما قال تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) وأراد تبديل الصفات لا تبديل الذات كما قال الشاعر: وما الناس بالناس الذين عهدتهم وما الدار بالدار التى كنت أعهد. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) . وليس في الجنة شمس ليكون فيها حر يحتاج بسببه إلى ظل ظليل؟ قلنا: هو مجاز عن المستقر والمستلذ المستطاب لأن بلاد الحجاز شديدة الحر، فأطيب ما عندهم موضع الظل، فخاطبهم بما يعقلون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ويفقهون، كما قال: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) . وليس في الجنة طلوع شمس ولا غروبها ليكون فيها بكرة وعشياً، لكن لما كان في عرفهم تمام النعمة والغذاء وكمال وظيفته أن يكون حاضرا مهيأ في طرفى النهار عبر عن حضوره وتهيئته بذلك. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) . وهذا مدح لمن يطع الله والرسول وعادة العرب في صفات المدح الترقى من الأدنى إلى الأعلى، وهذا عكسه لأنه نزل من الوصف الأعلى إلى الأدنى؟ قلنا: هذا ليس من الباب الذي ذكرتموه، بل هذا كلام مقصود منه الإخبار عن كون المطيعين لله ورسوله يكونون يوم القيامة مع الأشراف والخواص، ثم كأن سائلا سأل من الأشراف والخواص، ففصلوا له زيادة في الفائدة بعد تمام المعنى المقصود بالذكر بقوله : " فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ " وبدأ في تفضيلهم بذكر الأشرف فالأشرف والأخص فالأخص إذ هو الغالب في تقدير الأشراف والخواص، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ... الآية) . والدليل على أن المراد من الآية الإخبار جملة لا تفصيلا إنه لما علم عباده أن يسألوه هذا المعنى أرشدهم إلى طلبه مجملا بقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) . * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) . وقال فى حق النساء: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) . ومعلوم أن كيد الشيطان أعظم من كيد النسوان؟ قلنا: المراد أن كيد الشيطان ضعيف في جنب نصرة الله تعالى وحفظه لأوليائه والمخلصين من عباده، كما قال: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) . وقال حكاية عن إبليس: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) . والمراد بالآية الأخرى إن كيد النسوان عظيم بالنسبة إلى الرجال، الثانى: أن القائل إن كيدكن عظيم هو عزيز مصر لا الله تعالى فلا تناقض ولا معارضة. * * * فإن قيل: كيف عاب على المشركين والمنافقين قولهم: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ورد عليهم ذلك بقوله: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) . ثم قال بعد ذلك: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) . أخبره بعين قولهم المردود عليهم؟ قلنا: قيل إن الثانى حكاية قولهم أيضاً وفيه إضمار تقديره: "فما لهؤلآء القوم لا يكادون يفقهون حديثا " فيقولون " ما أصابك ... الآية " وقيل معناه ما أصابك أيها الإنسان من حسنة أي رجاء ونعمة فمن فضل الله، وما أصابك من سيئة أي (قحط) وشدة فبشؤم فعلك ومصيبتك لا بشؤم محمد كما زعم المشركون ويؤيده قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) . * * * فإن قيل: كيف يقال إن الشر والمعصية بإرادة الله تعالى والله تعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ؟ قلنا: ليس المراد بالحسنة والسيئة الطاعة والمعصية بل القحط والرخاء والنصر والهزيمة على ما أختلف فيه العلماء الاترا أنه قال: (ما أصابك) ولم يقل: ما عملت من حسنة وما عملت من سيئة. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 السؤال فيه من وجهين أحدهما: أنه يدل من حيث المفهوم على أن في القرآن اختلافاً قليلاً، وإلا لما كان للتقييد بوصف الكثرة فائدة، الثانى: أنه (إنما) يدل عدم الاختلاف الكثير في القرآن على أنه من عند الله إن لو كإن كل كتاب من عند غير الله فيه اختلاف كثير، وليس الواقع كذلك، لأن المراد بالاختلاف إما الكذب أو التناقض أو التفاوت بين بعضه وبعضه في الجزالة والبلاغة والحكمة وكثرة الفائدة؟ قلنا: الجواب عن السؤال الأول إن التقييد بوصف الكثرة للمبالغة في إثبات الملازمة فكأنه قال: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فضلا عن القليل، وليس فيه اختلاف كثير ولا قليل فكيف يكون من عند غير الله فهذا هو المقصود من التقييد بوصف الكثرة لا أن القرآن اشتمل على اختلاف قليل، وعن السؤال الثانى: إن كل كتابا في فن من العلوم إذا كان من عند غير الله يوجد فيه اختلاف ما بأحد التفاسير المذكورة لا محالة يعرف ذلك بالاستقراء، والقرآن جامع (لفنون) من علوم شتى فلو كان من عند غير الله لوجدوا فيه بالنسبة إلى كل فن اختلاف ما، فيصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 مجموع الاختلاف اختلافا كثيرا. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) . استثني القليل على تقدير انتفاء الفضل والرحمة، مع أنه لولا فضله بالهداية والعصمة ورحمته لاتبع الكل الشيطان من غير استثناء؟ قلنا: الاسثناء راجع إلى ما تقدم تقديره أَذَاعُوا بِهِ إلا قليلا، وقيل: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا، وقيل: معناه: ولولا فضل الله عليكم بإرسال الرسول لأتبعتم الشيطان في الكفر والضلال إلا قليلا منكم كانوا يهتدون بعقولهم إلى معرفة الله تعالى وتوحيده. كما فعل قيس بن ساعدة ونحوه قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم. * * * فإن قيل: على الجواب الأخير إذ كان المراد أن من لوازم نفى الفضل والرحمة بالطريق الخاص، وهو الرسول اتباع الشيطان، ونفى الفضل والرحمة بالطريق الخاص معلوم في حق الرسول لأنه لم يرسل إليه رسول ومع هذا لم يتبع الشيطان؟ قلنا: لا نسلم أنه لم يرسل إليه رسول بل أرسل إليه الملك، وأنه رسول، الثانى: أن التقدير في الفضل والرحمة بتعيين الطريق يكون في حق الأمة، أما في حق الرسل ومن آمن بغير رسول يكون اللفظ باقياً على ظاهره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فإن قيل: هذه الآية تقتضى وجود فضله ورحمته المانع من إتباع أكثر الناس الشيطان، مع أن الواقع خلافه، فإن أكثر الناس كفره، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " الإسلام في الكفر كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود"؟ قلنا: الخطاب في هذه الآية للمؤمنين لا لكل الناس. * * * فإن قيل: إذا كان الخطاب خاصاً للمؤمنين فما معني الاستثناء، فإنه إن كان المراد به اتباعه فيما يدعو إليه ويوسوس من المعاصى فأكثر المؤمنين متبوعون له في ذلك ولو في العمر مرة واحدة في بعض الكبائر، وإن كان المراد به اتباعه في دعائه إلى الكفر فأحد من المؤمنين لم يتبعه في الكفر؟ قلنا: معناه ولولا فضل الله عليكم إيها المؤ منون ورحمته بالهداية بالرسول لاتبعتم الشيطان في الكفر وعبادة الأصنام وغير ذلك إلا قليلا منكم كقيس بن ساعدة وورقة بن نوفل ونحوهما، فأنهم لولا الفضل والرحمة بالرسول لما اتبعوا الشيطان لفضل ورحمة خصهم الله تعالى بها غير إرسال الرسول وهو زيادة الهداية ونور البصيرة. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) . مع أنه لاتفاوت بين صدق وصدق في كونه صدقاً كما في القول والعلم لا يقال هذا القول أقول، ولا هذا العلم أعلم ولا هذا الصدق أصدق لأن الصدق عبارة عن الإخبار المطابق للواقع، ومتى ثبت أنه مطابق للواقع لا يحتمل الزيادة والنقصان؟ قلنا: أصدق هنا صفة للقائل لا صفة للقول، والقائلان متفاوتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فى الصدق في نفس الأمر وإن يتساويا في قضية واحدة أخبرا بها، وكان كل واحد منهما صادقا فيها، وحاصله أن هذا الاستفهام معناه النفى كما في قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) . أى لا أحد يغفرها إلا الله، فمعناه هنا: لا أحد أصدق في حديثه من الله. فيكون ترجيحاً للمحدث على المحدث في الصدق، لا ترجيحاً لأحد الصدقين على الآخر، ولا شك أنه لا أحد أصدق في حديثه من الله. لأن غيره يجوز عليه غير الصدق عقلا، ويقع منه أيضاً ولو نادراً والله تعالى منزه عن الأمرين جميعا. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا) . وأركسه أي رده فيصير معناه كلما ردوا إلى الفتنة ردوا فيها، وهو تكرار؟ قلنا: جوابه أن الفاعل مختلف فانتفى التكرار، وصار المعنى: كلما دعاهم قومهم إلى الشرك ردهم الله إليه وقلبهم بشؤم نفاقهم، فالرد الأول بمعنى الدعاء والركس بمعنى الرد، والنكس. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) . مع أنه ليس له أن يقتله خطأ؟ قلنا: إلا بمعنى ولا، كما في قوله تعالى: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) . وقوله تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الثانى: معناه أنه ليس له أن يقتله مع تيقن إيمانه، بل له أن يقتله إذا غلب على ظنه أنه ليس بمؤمن، وهو في صف المشركين وإن كان في نفس الأمر مؤمناً. * * * فإن قيل: كيف يقال: إن أهل الكبائر من المؤمنين لا يخلدون فى النار والله تعالى يقول: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) ؟ قلنا: معناه متعمداً قتله بسبب إيمانه، والذى يفعل ذلك يكون كافرا. الثانى: أن المراد بالخلود طول المكث، لأن الخلود إذا لم يؤكد بالأبد يطلق على طول المكث، كما يقول خلد السلطان فلانا في الحبس إذا اطال حبسه. * * * فإن قيل: كيف قال: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً) . ثم قال: (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ) ؟ قلنا: المراد بالأول التفضيل على القاعدين عن الغزاة بعذر، فإن لهم فضلا لكونهم مع الغزاة بالهمة والعزيمة والقصد الصالح، ولهذا قال: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) . يعنى الجنة أي كلا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 المجاهدين والقاعدين بعذر، والمراد بالثانى: التفضيل على القاعدين عن الغزاة بغير عذر، وأولئك لا فضل لهم بل هم مقصرون مسيؤون فظهر فضل الغزاة عليهم بدرجات لانتفاء الفضل لهم. * * * فإن قيل: كيف صح قولهم: (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) جواباً لقول الملآئكة: "فيم كنتم " والجواب المطابق أن يقولوا كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟ قلنا: معنى "فيم كنتم " التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فصار قولهم " فيم كنتم " مجازاً عن قولهم (لم) تركتم الهجرة؟ فقالوا كنا مستضعفين في الأرض اعتذاراً عما وبخوا به تعللا، فردت عليهم الملآئكة ذلك بقولهم: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) .يعني أنكم إن كنتم عاجزين عن الهجرة إلى المدينة لبعدها عنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد القريبة منكم، التى تقدرون فيها على إظهار دين الإسلام. * * * فإن قيل: كيف قال: (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) . أى وجب، والعبد لا يستحق على مولاه أجراً، لأنه ليس بأجير له إنما هو عبد قن؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 قلنا: معناه وجب من جهة أنه وعد عبده أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا والخلف في وعده عز وجل محال، فالواجب من هذه الجهة، مع أن كل ذلك الوعد ابتداء فضل منه. * * * فإن قيل: كيف شرط في إباحة القصر للمسافر خوف العدو بقوله: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ... الآية) والقصر جائز مع أمن المسافر؟ قلنا: خرج ذلك مخرج الغالب لا مخرج الشرط، وغالب أسفار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يخل من خوف العدو، فصار نظير قوله تعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) . الثانى: أن الكلام قد تم عند قوله: (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) . وقوله: (إِنْ خِفْتُمْ) كلام مستأنف، وجوابه محذوف تقديره: فاحتاطوا وتأهبوا، الثالث: أن المراد به القصر من شروطها وأركانها حالة اشتداد الخوف بترك الركوع والسجود والنزول عن الدابة واستقبال القبلة ونحو ذلك، لا من عدد الركعات وذلك القصر مشروط بالخوف. * * * فإن قيل. كيف قال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) . وكان لفظ دال على المضي، والصلاة في الحال وإلى يوم القيامة أيضاً على المؤمنين فرض مؤقت؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قلنا: (كان) في القرآن العزيز على خمسة أوجه: كان بمعنى الأزل والأبد، كما في قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) وكان بمعنى المضى المنقطع كما في قوله تعالى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) . وهو الأصل في معانى كان كما تقول: كان زيد صالحا أو فقيراً أو مريضاً ونحو ذلك، وكان بمعنى الحال كما في قوله تعالى: (كنتم خير أمة) . وقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) . وكان بمعني الاستقبال كما في قوله تعالى: (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) . وكان بمعني صار كما في قوله تعالى: (وكان من الكافرين) . * * * فإن قيل: كيف قال: (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) والكافرون أيضاً يرجون الثواب في محاربة المؤمنين، لأنهم يعتقدون أن دينهم حق، وأنهم ينصرون دين الله ويذبون عنه ويقاتلون أعداءه، كما يعتقدون المؤمنون فالرجاء مشترك؟ قلنا: قيل أن الرجاء هنا بمعنى الخوف كما في قوله تعالى: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) . وقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وقول الشاعر: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ............ وعلى قول من قال: أنه بمعنى الأمل تقول: قد بشر الله المؤمنين فى القرآن، ووعدهم بإظهار دينهم على الدين كله، ومثل هذه البشارة والوعد لم يوجد في سائر الكتب فافترقا، وقيل: أن الرجاء ما يكون مستندا إلى سبب صحيح ومقدمات حقة، والطمع ما يكون مستنداً إلى خلاف ذلك، فالرجاء للمؤمنين، وأما الكافرون فلهم طمع لا رجاء * * * فإن قيل: ما فائدة قوله: (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بعد قوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) وظلم النفس من عمل السوء، فهلا اقتصر علي الأول لأن الثانى داخل فيه؟ قلنا: (أو) بمعنى الواو فمعناه ويظلم نفسه بذلك السوء، حيث دساها بالمعصية، وقيل: المراد بعمل السوء ما دون الشرك، وبظلم النفس الشرك، وقيل: المراد بعمل السوء الذنب المتعدى ضرره إلى الغير، وبظلم النفس الذنب المقتصر ضرره على فاعله. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) . ظاهره ينفى وجود الهم منهم باضلالة، والمنقول في التفاسير أنهم هموا بإضلاله وزادوا علي الهم الذى هو القصد القول المضل أيضاً، يعرف ذلك من تفسير أول القصة وهو قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قلنا: قوله (لهمت) ليس جواب لولا بل هو كلام مقدم على لولا، وجوبها في التقدير مقول على طريق القسم، وجواب لولا محذوف تقديره لقد همت طائفة منهم أن يضلوك ولولا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك. * * * فإن قيل: النجوى فعل ومن اسم فكيف صح استثناء الاسم من الفعل في قوله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) قلنا: فيها إضمار تقديره: إلا نجوى من أمر بصدقة، فيكون إستثناء الفعل من الفعل ونظيره قوله تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) . تقديره بر من آمن بالله. * * * فإن قيل: كيف قال: (إلا من أمر) ثم قال: (ومن يفعل ذلك) ؟ قلنا: ذكر الأمر بالخير ليدل به على خيرية الفاعل له بالطريق الأولى ثم ذكرالفاعل ووعده الأجر العظيم إظهاراً لفضل الفاعل المؤتمر على الأمر، الثانى: أنه أراد ومن أمر بذلك، فعبر عن الأمربالفعل كما يعبر به عن سائر أنواع الفعل وإذا كان الأمر موعوداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 بالأجر العضيم كان الفاعل موعودا به بالطريق الأولى. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا) . أى مايعبدون من دون الله إلا اللات والعزى ومناة ونحوها، وهى من مؤنثة. ثم قال: (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا) أي ما يعبدون إلا الشيطان؟ قلنا: معناه أن عبادتهم للأصنام هى في الحقيقة عبادة للشيطان، أما لأنهم أطاعوا الشيطان فيما سول لهم وزين من عبادة الأصنام (بالاغواء والاضلال أو لأن الشيطان موكل بالأصنام) ، يدعوا الكفار إلى عبادتها شفاها، ويتزيا للسدنة فيكلمهم ليضلهم. * * * فإن قيل: كيف يقال: أن العبد يحكم بكونه من أهل الجنة بمجرد الإيمان، والله سبحانه وتعالى شرط لذلك العمل الصالح بظاهر قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) . وقوله (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . وإلا لما كان للتقييد فائدة؟ قلنا: إن المراد بالعمل الصالح الاخلاص في الايمان، وقيل الثبات عليه إلى الموت، وكلاها شرط في كون الإيمان سببأ لدخول الجنة. * * * فإن قيل: كيف قال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) . والتائب المقبول التوبة غير مجزى بعمله، وكذلك من عمل سيئة ثم أتبعها حسنة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 لأنها مذهبة لها وماحية بنص القرآن؟ قلنا: المراد من يعمل سوءا ويموت مصرا (عليه) ، الثانى أن المؤمن يجازى في الدنيا بما يصيبه فيها من المرض وأنواع المصائب والمحن كما جاء في الحديث، والكافر يجازى في الآخرة. * * * فإن قيل: كيف خص المؤمنين الصالحين بأنهم لا يظلمون بقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ... الآية) مع أن غيرهم لا يظلم أيضاً؟ قلنا: قوله: (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) . راجع إلى الفريقين عمال السوء وعمال الصالحات لسبق ذكر الفريقين، الثانى: أن يكون من باب الإيجاز والاختصار فاكتفى بذكره عقيب الجملة الأخيرة عند ذكر أحد الفربيين لدلالته على إضماره عقيب ذكر الفريق الآخر فلا يظلم المؤمنون بنقصان ثواب طاعاتهم، ولا الكافرون بزيادة عقاب معاصيهم. الثالث: أن المراد بالظلم المنفى نقصان ثواب الطاعات، وهو مخصوص بالمؤمنين لأن الكافرين ليس لهم على اعمالهم ثواب ينقص منه. * * * فإن قيل: طلب الإيمان من المؤمنين تحصيل الحاصل فكيف قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 قلنا: يا أيها الذين أمنوا بعيسى آمنوا بالله ورسوله محمد، وقيل: معناه يا أيها الذين آمنو يوم الميثاق آمنوا الأن، وقيل: معناه يا أيها الذين آمنوا علانية آمنوا سراً. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) وإن كان للكافرين لم سمى ظفر المسلمين فتحاً وظفر الكافرين نصيباً؟ قلنا: تعظيماً لشأن المسلمين وتحقيراً لحظ الكافرين، لأن ظفر المسلمين أمر عظيم، لأنه متضمن نصرة دين الله، وعزة أهله. وتفتح له أبواب السماء حتى ينزل على أولياء الله، وظفر الكافرين. ليس إلا حظا دنيا وعرضاً من متاع الدنيا يصيبونه، وليس بمتضمن شيئاً مما ذكرناه. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) وقد نصر الكافرين على المؤمنين في يوم أحد وفى غيره أيضاً إلى يومنا هذا؟ قلنا: المراد بالسبيل الحجة والبرهان والمؤمنون غالبون بالحجة دائماً. * * * فإن قيل: كيف كان المنافق أشد عذاباً من الكافرين حتى قال الله تعالى في حقه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) . مع أن المنافق أحسن حالا من الكافر، بدليل: أنه معصوم الدم وغير محكوم عليه بالكفر. ولهذا قال الله تعالى في حقهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ) . فلم يجعلهم مؤمنين ولا كافرين؟ قلنا: المنافق وإن كان في الظاهر أحسن حالًا من الكافر إلا أنه عند الله تعالى وفى الآخرة أسوأ حالا منه، لأنه شاركه الكفر، وزاد عليه الاستهزاء بالإسلام وأهله، والمخادعة لله وللمؤمنين. * * * فإن قيل: الجهر بالسوء غير محبوب لله تعالى أصلا، بل المحبوب عنده العفو والصفح والتجاوز. فكيف قال: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) . أى إلا جهر من ظلم؟ قلنا: معناه ولا جهر من ظلم، فإلا بمعنى ولا، وقد سبق نظيره وشاهده في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) . * * * فإن قيل: كيف جاز دخول بين على أحد في قوله تعالى: (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) . وبين تقتضى أثنين فصاعداً، يقال: فرقت بين زيد وعمرو أو بين القوم، ولا يقال فرقت بين زيد؟ قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) . وفى آخر سورة البقرة أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 فإذ قيل: ما فائدة إعادة الكفر في الآية الثانية بقوله تعالى: (وَكُفْرِهِمْ) . بعد قوله: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ. . الآية) ؟ قلنا: لأنه تكرر الكفر منهم فإنهم كفروا بموسى وعيسى ثم بمحمد، فعطف بعض كفرهم على بعض. * * * فإن قيل: اليهود كانوا كافرين بعيسى يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة، فكيف أقروا أنه رسول الله بقولهم: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) ؟ قلنا: قالوه على طريق الاستهزاء، كما قال فرعرن: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) . * * * فإن قيل: كيف وصفهم بالشك بقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) . ثم وصفهم بالظن بقوله: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) . والشك تساوى الطرفين، والظن مرجحاً أحدهما. فكيف يكونون شاكين ظانين، وكيف استثنى الظن من العلم، وليس الظن فرداً من أفراد العلم بل هو قسيمه؟ قلنا: استعمل الظن بمعنى الشك مجازاً لما بينهما من المشابهة في انتقاء الجزم، وأما استثناء الظن من العلم فهو استثناء من غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الجنس، كما في قوله تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا) . وما أشبهه. * * * فإن قيل: كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل، وهم محجوجون بما نصبه لهم من الأدلة العقلية الموصلة إلى معرفته حتى قال: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ؟ قلنا: الرسل والكتب منبهة من الغفلة، وباعثة على النظر في أدلة العقل، ومفصلة لمجمل الدين وأحوال التكليف، التى لا يستقل العقل بمعرفتها، فكان إرسالهم إزاحة للعلة، وتتميماً لالزام الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة، وينبهنا لما وجب الانتباه له. * * * فإن قيل: كيف قال: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) ولم يقل أنزله بقدرته أو بعلمه وقدرته مع أن الله تعالى لا يفعل إلا عن علم وقدرة؟ قلنا: معناه أنزله وفيه علمه، أي معلومة أو معلمة من الشرائع والأحكام، وقيل: معناه أنزله عليك بعلم منه أنك أولى بانزاله عليك من سائر خلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فإن قيل: كلام الله تعالى صفة قديمة (قائمة) بذاته وعيسى عليه الصلاة والسلام مخلوق حادث، فكيف صح إطلاق الكلمة عليه في قوله تعالى: (رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ) ؟ قلنا: معناه أن وجوده في بطن أمه كان بكلمة الله تعالى، وهى قوله: (كن) من غير واسطة، بخلاف غيره من البشر، وقيل المراد بالكلمة الحجة. * * * فإن قيل: على الوجه الأول لو كان صحة إطلاق الكلمة على عسيى عليه الصلاة والسلام لهذا المعنى يصح إطلاقها على آدم عليه الصلاة والسلام، لأن هذا المعنى فيه أتم وأكمل، لأنه وجد بهذه الكلمة من غير واسطة أب ولا أم أيضاً؟ قلنا: لا نسلم أنه لا يصح إطلاقها عليه بهذا المعنى بل يصح. * * * فإن قيل: لو صح إطلاقها عليه لجاء به القرآن كما جاء في حق عيسى عليه الصلاة والسلام؟ قلنا: إنما جاء به، لأن المجيء به في حق عيسى عليه الصلاة والسلام إنما كان للرد على من افترى عليه، وعلى أمه ونسبه إلى أب، ولم يوجد هذا المعنى في حق آدم عليه الصلاة والسلإم، لاتفاق الناس كلهم على أنه غير مضاف إلى أب ولا إلى أم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 سورة المائدة * * * فإن قيل: كيف وجه الارتباط والمناسبة بين قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وقوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) ؟ قلنا: المراد بالعقود عهود الله تعالى عليهم في تحليل حلاله وتحريم حرامه، فبدأ بالمجمل ثم أتبعه بالمفصل من قوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. . الآية) وقوله بعده: (حرمت عليكم الميته ... الأية) . * * * فإن قيل: ما أكله السبع عدم، وتعذر أكله فكيف يحسن فيه التحريم حتى قال: (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) ؟ قلنا: معناه وما أكل منه السبع يعنى الباقى بعد أكله. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) يدل من حيث المفهوم عرفاً على إنه لم يرض لهم بالإسلام ديناً قبل ذلك اليوم وليس كذلك، فإن الإسلام لم يزل ديناً مرضياً للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند الله تعالى منذ أرسله عليه الصلاة والسلام؟ قلنا: قوله "اليوم" ظرف للجملتين الأوليين لا للجملة الثالثة، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الواو الأولى للعطف، والثانية للإبتداء، فالجملة الثالثة مطلقة غير مؤقتة. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) كيف صلح جوابا لسؤالهم، والطيبات غير معلومة. ولا متفق عليها لأنها تختلف باختلاف الطباع والبقاع؟ قلنا: المراد بالطيبات هنا الذبائح والعرب تسمى الذبيحة طيباً. وتسمى الميتة خبيثاً، فصار المراد معلوما، لكنه عام مخصوص كغيره من العمومات. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (مكلبين) بعد قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ) والمكلب هو المعلم من كلاب الصيد؟ قلنا: قد جاء في تفسير المكلب آيضاً أنه المسرى للجارح والمغرى له، فعلى هذا لا يكون تكراراً، وعلى القول الأول إنما عمم ثم خص فقال: (مُكَلِّبِينَ) . بعد قوله: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ) . لأن غالب صيدهم كان بالكلاب، فأخرجه مخرج الغالب الواقع منهم. * * * فإن قيل: ظاهر قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) تقتضى إباحة الجوارح المعلمة وهى حرام؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: وصيد ما علمتم من الجوارح، ويؤيده ما في تام الكلام من قوله: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فإن قيل: المؤمن به هو الله تعالى لقوله: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) فالمكفور به يكون هو الله أيضا، ويؤيده قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) وإذا ثبت هذا فكيف قال: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ) مع أنه لا يصح أن يقال: آمن بالإيمان فكذل ك ضده؟ قلنا: المراد به ومن يرتد عن الإيمان، يقال كفر فلان بالإسلام إذا ارتد عنه، فكفر بمعنى ارتد، لأن الردة نوع من الكفر، والباء بمعنى عن كما في قوله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ) وقوله تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) وقيل: المراد هنا بالإيمان المؤمن به تسمية للمفعول بالمصدر، كما في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) أى مصيده، وقولهم ضرب الأمير ونسج اليمن. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) ولم يقل وعملوا السيئات، مع أن الغفران يكون لفاعل السيئات لا لفاعل الحسنات؟ قلنا: كل أحد لا يخلوا عن سيئة صغيرة أو كبيرة، وإن كان ممن يعمل الصالحات، وهى الطاعات فالمعنى أن من آمن وعمل الحسنات غفرت له سيئاته، كما قال: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فإن قيل: كيف قال في آخر قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ... الآية) . (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (مع أن الذين كفروا قبل ذلك أيضاً فقد ضلوا سواء السبيل) ؟ قلنا: نعم ولكن الضلال بعد ما ذكر من النعم أقبح، لأن قبح الكفر بقدر عظم النعمة المكفورة، فلذلك خصة بالذكر. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) ولم يقل ومن النصارى؟ قلنا: لأن هؤلاء كانوا كاذبين في دعواهم أنهم نصارى، وذلك أنهم إنما سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة الله تعالى، وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله، ثم اختلفوا بعده نسطوريه ويعقوبية وملكانية أنصارا للشيطان، فقال ذلك توبيخاً لهم. * * * فإن قيل: كيف قال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) يعنى يتجاوز عن كثير مما كتمتموه من الكتاب فلا يظهره، ولا يبين كتمانكم إياه، فكيف يجوز للنبى صلى الله عليه وسلم أن يمسك عن إظهار حق كتموه مما في كتابهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 قلنا: إنما لم يبين البعض لأنه كان يتبع الأمر، ولا يفعل شيئا من الأمور الدينية من تلقاء نفسه بل اتباعاً للوحى، فما أمر ببيانه بينه، وما لم يؤمر ببيانه أمسك عنه إلى وقت أمره ببيانه، وعلى هذا الجواب يكون لفظ العفو مجازاً عن الترك، فيكون قد أعلمه الله تعالى به، وأطلعه عليه ولم يأمره ببيانه لهم فترك بيانه لهم. الثانى: أن ما كان في بيانه إظهار حكم شرعى كصفته ونعته والبشارة به وآية الرجم ونحوها بينه، وما لم يكن في بيانه حكم شرعى، ولكن فيه افتضاحهم وهتك استارهم فإنه عفا عنه. الثالث: أن عقد الذمة اقتضى تقديرهم على ما بدلوا وغيروا من دينهم إلا ما كان في إظهار معجزة له وتصديق لنبوته من صفته ونعته، أو ما اختلفوا فيه فيما بينهم وتحاكموا إليه فيه كحكم الزنا ونحوه. * * * فإن قيل: كيف قال: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ) مع أن العبد ما لم يهده الله أولاً لا يتبع رضوانه فيلزم الدور؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: يهدى به الله من علم أنه يتبع رضوانه أو ليهدى به الله من يريد أن يتبع رضوانه كما قال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) أى والذين أرادوا سبل المجاهدة فينا لنهدينهم سبل مجاهدتنا. * * * فإن قيل: لم نر ولم نسمع أن قوماً من اليهود والنصارى قالوا نحن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أبناء الله، فكيف أخبر الله تعالى عنهم يذلك؟ قلنا: المرادبقولهم أبناء الله خاصة الله، كما يقال أبناء الدنيا وأبناء الآخرة، وقيل: فيه إضمار تقديره أبناء أنبياء الله. * * * فإن قيل: كيف يصح الاحتجاج عليهم بقوله تعالى: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) مع أنهم ينكرون تعذيبهم بذنوبهم، ويدعون أن ما يذنبون بالنهار يغفر بالليل، وما يذنبون بالليل يغفر بالنهار؟ قلنا: هم كانوا مقرين أنه يعذبهم أربعين يوماً، وهى مدة عبادتهم العجل في غيبة موسى عليه الصلاة والسلام لميقات ربه، ولذلك:) َقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) وقيل: أراد به العذاب الذي أوقعه ببعضهم في الدنيا من مسخهم قردة، كما فعل بأصحاب السبت وخسف الأرض بهم كما فعل بقارون، وهذا لا ينكرونه، وعلى هذا الوجه يكون المضارع بمعنى الماضي في قوله: (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) والإضافة إليهم بمعنى الإضافة إلى آبائهم، كأنه قال: فلم عذب آباءكم. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) إن أريد به يغفر لمن يشاء منكم أيها اليهود والنصارى، ويعذب من يشاء، يلزم جواز المغفرة لهم، وأنه غير جائز لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) وإن أريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 به يغفر لمن يشاء من المؤمنين، ويعذب من يشاء، لا يصلح جواباً لقولهم؟ قلنا: المراد به يغفر لمن يشاء منهم إذا تاب من الكفر، وقيل: يغفر لمن يشاء ممن خلق وهم المؤمنون، ويعذب من يشاء وهم المشركون. * * * فإن قيل: كيف قال: (يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) ولم يكن قوم موسي عليه الصلاة والسلام ملوكاً؟ قلنا: المراد جعل فيكم ملوكاً، وهم ملوك بنى اسرائيل، اثنا عشر ملكاً لاثنى عشر سبط، لكل سبط ملك. وقيل: المراد به أنه رزقهم الصحة والكفاية والزوجة الموافقة والخادم والبيت فسماهم ملوكاً لذلك. * * * فإن قيل: من أين علم الرجلان أنهم غالبون حي قالا: (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) ؟ قلنا: من جهة وثوقهم باخبار موسي عليه الصلاة والسلام بذلك بقوله: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) وقيل: علما ذلك بغلبة الظن، وما عهداه من صنع الله تعالى بموسى عليه الصلاة والسلام في قهر أعدائه. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 يدل على أن من لم يتوكل على الله لا يكون مؤمناً، وإلا لضاع التعليق وليس كذلك؟ قلنا: (إن) هنا بمعنى إذ فتكون بمعنى التعليل كما في قوله تعالى: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) . * * * فإن قيل: كيف التوفيق بين قوله تعالى: (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) وبين قوله: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) ؟ قلنا: معناه كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها، فلما أبوا الجهاد قيل: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) الثانى: أن كل واحد منهما عام أريد به الخاص فالكتابة للبعض وهم المطيعون، والتحريم على البعض وهم العاصون الثالث: أن التحريم مؤقت بأربعين سنة، والكتابة غير مؤقتة فيكون المعنى أن بعد مضى الأربعين تكون لهم، وهذا الجواب تام على قول من نصب الأربعين بمحرمة وجعلها ظرفاً لها، فأما من جعل الأربعين ظرفاً لقوله: (يتيهون) مقدماً عليه، فإنه جعل التحريم مؤبدا فلا يتأتى على قوله هذا الجواب، لأن التقدير عنده فإنها محرمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة، وهو موضع قد اختلف فيه المفسرون، والفراء من جملة من جوز نصب الأربعين بمحرمة ويتيهون، والزجاج من جملة من منع جواز نصبة بمحرمة. ونقل أن التحريم كان مؤبداً، وأنهم لم يدخلوها بعد الأربعين، ونقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 غيره أنه دخلها بعد الأربعين من بقى منهم، وذرية من مات منهم، ويعضد الوجه الأول كون الغالب في الاستعمال تقدم الفعل على الظرف الذي هو عدد لا تأخره عنه، يقال: سافر زيد أربعين يوما، وأقام أربعين يوما وما أشبه ذلك وقلما يقال على العكس. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) ولم يقل قربانين، والذى قرباه كان قربانين، لأن كل واحد منهما قرب قربانا؟ قلنا: أراد به الجنس فعبر عنه بلفظ الفرد كقوله تعالى: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) الثانى: أن العرب تطلق الواحد وتريد الاثنين وعليه جاء قوله تعالى: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) . وقال الشاعر (ضبائى بن الحارث البرجمى فمن يك أمسى بالمدينة رحلة فإنى وقيار بها لغريب. * * * فإن قيل: كيف صلح قوله: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) جواباً لقوله: (لَأَقْتُلَنَّكَ) قلنا: لما (كان) الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له ذلك كناية عن حقيقة الجواب تعريضاً معناه إنما أتيت من قبل نفسك لأنسلاخها من لباس التقوى لا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قبل فلم تقتلنى؟ * * * فإن قيل: كيف قال هابيل لقابيل: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أى تتصرف بهما، مع أن إرادة السوء والوقوع في المعصية للأجنبي حرام فكيفه للأخ؟ قلنا: فيه إضمار حرف النفى تقديره: أنى أريد أن لاتبوء بإثمى وإثمك، كما في قوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) . أى أن لا تميد، وقوله تعالى: (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ) يعنى لا يزال تذكر يوسف، وقال امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعداً ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى) الثانى: أن فيه حذف المضاف تقديره: أنى أريد انتفاء أن تبوء بإثمى وإثمك، كما في قوله تعالى: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْل) أي حب العجل. الثالث: أن معناه أنى أريد ذلك إن قتلنى لا مطلقاً. الرابع: إنه كان ظالماً وجزاء الظالم تحسن ارادته من الله تعالى فتحسن من العبد أيضاً. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) يدل على أن قابيل كان تائبا لقوله عليه الصلاة والسلام: "الندم التوبة " فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 يستحق النار؟ قلنا: لم يكن ندمه على قتله أخيه، بل على حمله على عنقه سنة أو على عدم اهتدائه إلى الدفن الذي تعلمه من الغراب، أو على فقد أخيه لا على المعصية، ولو سلمنا أن ندمه كان على قتل أخيه، ولكن يجوز أن الندم لم يكن توبة في شريعته بل في شريعتنا أو نقول التوبة تؤثر في حقوق الله تعالى لا في حقوق العباد والدم من حقوق العباد، فلا تؤثر فيه التوبة. * * * فإن قيل: كيف يكون قتل الواحد كقتل الكل، واحياء الواحد كإحياء الكل، والدليل يأباه من وجهين: أحدهما: أن الجناية كلما تعددت وكثرت كانت أقبح، فتناسب زيادة الإثم والعقوبة هذا هو مقتضى العقل والحكمه، الثانى: أن المراد بهذا التشبيه إما أن يكون تساوى قتل الواحد والكل في الإثم والعقوبة أو تقاربهما، وأياً ما كان يلزم منه أنه إذا قتل الثانى أو الثالث وهلم جرا لا يكون عليه إثم آخر، ولا يستحق عقوبة أخرى لأنه أثم إثم قتل الكل واستحق عقوبة قتل الكل بمجرد قتل الأول أو الأول والثانى، لأن قتل الواحد إذا كان يساوى قتل الكل أو يقاربه، فقتل الاثنين يجعل عليه إثم قتل الكل وعقوبة قتل الكل، فكيف يزداد بعد ذلك بقتل الثالث والرابع وهلم جرا، ولو قتل الكل لما ازداد على إثم قتل الكل وعقوبه قتل الكل. ولا يجوز أن يستحق بقتل الواحد أو الاثنين إثم قتل الكل، وبقتل الكل إثم قتل الكل؟ قلنا: أقرب ما قيل فيه أن المراد أن من قتل نفساً واحدة بغير حق كان جميع الناس خصومه في الدنيا إن لم يكن له ولى، وفى الآخرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 مطلقاً لأنهم من أب وأم واحدة، وقيل: معناه من قتل نفساً نبياً أو إماماً عادلاً فهو كمن قتل الناس جميعاً من حيث ابطال المنفعة على الكل لأن منفعتهما عامة للكل، وقيل: المراد بمن قتل هو قابيل فإن عليه من الإثم بمنزلة إثم قتل الكل لأنه أول من سن القتل، فكل قتل يوجد بعده يلحقه شىء من وزره، بعلة التسبب لقوله عليه الصلاة والسلام: "من سن سنة حسنة ... الحديث " وهذا حسن فى المعنى، ولكن اللفظ لا يساعد عليه وهو قوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) لأن هذا المعنى إن أريد به قابيل لا تختص كتابته ببنى إسرائيل. * * * فإن قيل: كيف وجه قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية) وحقيقة المحاربة بين العبد والرب ممتنعة؟ قلنا: فيه إضمار تقديره يحاربون أولياء الله، وقيل: أراد بالمحاربة المخالفة. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) ولم يقل بهما والمذكور شيئان؟ قلنا: قد سبق جواب مثله قبيل هذا في قوله تعالي: (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) . وهنا جواب آخر وهو أن يكون وضع الضمير موضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 اسم الاشارة كأنه قال: ليفتدوا بذلك، وذلك يشار به إلى الواحد والاثنين والجمع. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) وحال النبي عليه الصلاة والسلام مع أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه لايخلوا من هذين القسمين، لأنه إما أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم؟ قلنا: فائدته تخيير النبى عليه الصلاة والسلام بين الحكم بينهم وعدمه، ليعلم أنه لا يجب عليه أن يحكم بينهم، كما يجب عليه ذلك بين المسلمين إذا تحاكموا إليه، وقيل: إن هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) يعنى بما أنزل الله عليك وهو القرآن، يدل عليه أول الآية (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) . فى الحكم بالتوراة. * * * فإن قيل: لما أنزل الله تعالى القرآن صار الانجيل منسوخاً به، فكيف قال: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ) ؟ قلنا: معناه ولما أنزلنا الانجيل، قلناء وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه، وقيل: معناه وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه من صدة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بعلاماته المذكورة فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الانجيل وذلك غير منسوخ. * * * فإن قيل: كيف قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) مع أن الكفار معاقبون بكل ذنوبهم؟ قلنا: أراد (به) عقوبتهم في الدنيا، وهو ما عجله من اجلاء بنى النضير، وقيل بنى قريظة، وذلك جزاء بعض ذنوبهم، لأنه جزاء منقطع، وأما جزاءهم (على شركهم فهو الخلود في النار وذلك جزاء) دائم لا يتصور وجوده في الدنيا، وقيل: أراد بذلك البعض، ذنب التولى عن الرضا بحكم القرآن، وإنما أبهمه تفخيماً له وتعظيماً. * * * فإن قيل: حسن حكم الله تعالى وصحته أمر سابت على العموم بالنسبة إلى الموقنين وغير الموقنين، فكيف قال: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) . قلنا: لما كان الموقنون أكثر انتفاعاً به من غيرهم، بل هم المنتفعون به في الحقيقة لا غير كانوا أخص به فأضيف إليهم لذلك، ونظيره قوله تعالى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) . * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) يقتضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 أن يكون من واد أهل الكتاب، وصادقهم كافراً، وليس كذلك لقوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ... الآية) ؟ قلنا: المراد بقوله تعالى: "ومن يتولهم منكم " المنافقون، لأنها نزلت فى شأنهم وهم كانوا من الكفار في الدنيا ضميراً واعتقاداً، أو معناه أنه منهم في الآخرة (جزاء) وعقاباً بل أشد. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وكم من ظالم هداه الله تعالى، فتاب وأقلع عن ظلمه؟ قلنا: معناه لا يهديهم ما داموا مقيين على ظلمهم، الثانى: إن معناه لا يهدى من قضى في سابق علمه أنه يموت ضالا، الثالث: إن معناه لا يهدى الظالمين يوم القيامة إلى طريق الجنة أي المشركين. * * * فإن قيل: كيف قال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل أذلة للمؤمنين، وإنما يقال ذل له، لا ذل عليه؟ قلنا: لأنه ضمن الذل بمعنى الحنو والعطف، فعداه تعديته، كأنه قال حانين على المؤمنين عاطفين عليهم. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) وكم مرة غلب حزب الله تعالى فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 زمن النبى عليه الصلاة والسلام، وبعده إلى يومنا هذا؟ قلنا: المراد به الغلبة بالحجة والبرهان لا بالدولة والصولة، وحزب الله هم المؤمنون غالبون بالحجة أبدا. * * * فإن قيل: المثوبة مختصة بالاحسان فكيف قال: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ... الآية) ؟ قلنا: لا نسلم أن الثواب والمثوبة مختص بالاحسان، بل هو الجزاء مطلقاً بدليل قوله تعالى: (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) أى هل جوزوا، وقوله تعالى: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) وهو كلفظ البشارة لا اختصاص له لغة بالخبر السار بل هو عام شامل، قال الله تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) . * * * فإن قيل: ما فائدة إرسأل الكتاب والرسول إلى أولئك الكثيرين الذين قال في حقهم: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) ؟ قلنا: فائدته إلزام الحجة عليهم، الثانى: تبجيل الكتاب والرسول. فإن الخطاب بالكتاب إذا كان عاماً، والرسول إذا كان مرسلا إلى الخلق كلهم، كان ذلك أفخم وأعظم للرسول والمرسل. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ... الآية) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 يقتضى تعلق الرخاء وسعة الرزق بالإيمان بالكتاب والعمل بما فيه وليس كذلك، فإن كثيرا من المؤمنين بالكتب الأربعة العاملين بما فيها مما لم ينسخ عيشهم في الدنيا مكدر ورزقهم مضيق؟ قلنا: هذا التعليق خاص في حق أهل الكتاب، لأنهم اشتكوا من ضيق الرزق حتى قالوا: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) فأخبرهم الله تعالى إن ذلك التضييق عقوبة لهم بشؤم معاصيهم وكفرهم والله تعالى يجعل ضيق الرزق وتقتيره نعمة في حق بعض عباده، ونقمة في حق بعضهم، وكذلك الرخاء والسعة فيعاقب بهما على المعصية ويثيب بهما على الطاعة، ويختلف ذلك باختلاف أحوال الأشخاص فلا يلزم من توسع الرزق الإكرام ولا من تضييقه الاهانة، ولا يلزم عكسه أيضأ، ولهذا رد الله تعالى ذلك بقوله: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ) إلى قوله: (كَلَّا) . أي ليس الأمر كما ظن الإنسان وزعم من أن توسيع الرزق دليل الكرامة، وتضييقه دليل الاهانة، بل دليل الكرامة هو الهداية والتوفيق للطاعات، ودليل الاهانة هو الإضلال والخذلان وحرمان التوفيق. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ومعلوم أنه إذا لم يبلخ المنزل إليه لم يكن قد بلغ الرسالة؟ قلنا: المراد حثه على تبليغ ما أنزل عليه من معايب اليهود مثالبهم، فالمعنى بلغ الجميع فإن كتمت منه حرفاً كنت في الإثم والمخالفة كمن لم يبلغ شيئاً البتة، فجعل كتمان البعض ككتمان الكل. وقيل: هو أمر بتعجيل التبليغ كأنه عليه الصلاة والسلام كان عازماً على تبليغ جميع ما أنزل إليه إلا أنه أخر تبليغ البعض خوفاً على نفسه، وحذراً مع عزمه على تبليغه في ثانى الحال فأمر بتعجيل التبليغ ويؤيد هذا القول قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) * * * فإن قيل: كيف ضمن الله تعالى لرسوله العصمة بقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ثم إنه شج وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته؟ قلنا: المراد به العصمة من القتل لا من مجميع أنواع الأذى، فإن العصمة من جميع المكارم لا تناسب أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم جامعون لمكارم الأخلاق، ومن أشرف مكارم الأخلاق تحمل الأذى، الثانى: أن هذه الآية نزلت بعد يوم أحد لأن سورة المائدة من أواخر ما نزل من القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فإن قيل: كيف قال: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) مع أن بعض الظالمين وهم العصاة من المؤمنين يشفع فيهم النبى عليه الصلاة والسلام يوم القيامة فيكون ناصرا لهم؟ قلنا: المراد بالظالمين هنا المشركون، يعلم ذلك من أول الآية ووسطها. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله: (وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) بعد قوله: (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) ؟ قلنا: المراد بالضلال الأول ضلالهم عن الانجيل، وبالضلال الثانى ضلالهم عن القرآن. * * * فإن قيل: كيف قال:. (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) والنهى عن المنكر بعد فعله ووقوعه لا معنى له؟ قلنا: فيه حذف مضاف تقديره: كانوا لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله، كما يرى الإنسان إمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فينكر. ويجوز أن يراد بقوله: "لا يتناهون " لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه، بل يصرون عليه ويداومون، يقال تناهى عن الأمر وانتهى عنه بمعنى واحد أي امتنع عنه وتركه. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) والمراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 بقوله: "منهم " المنافقون أو اليهود على اختلاف القولين، وكلهم فاسقون؟ قلنا: المراد به فسقهم بموالاة المشركين ودس الأخبار إليهم لا مطلق الفسق، وذلك الفسق الخاص مخصوص بكثير منهم، وهم المذكورون في الآية في قوله تعالى: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ) لاشاملاً لجميعهم. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وهذه الأعيان كلها مخلوقات الله تعالى فأين عمل الشيطان في وجودها؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: إنما تعاطى الخمر والميسر ... إلى آخره أو مباشرته. * * * فإن قيل: مع هذا الإضمار كيف قال: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وتعاطى الخمر والقمار ونحوهما من عمل الإنسان حقيقة؟ قلنا: إنما أضيف إلى الشيطان مجازاً، لأنه هو السبب في وجود الفعل بواسطة وسوسته وتزيينه ذلك للفساق وصار كما لو أغرى رجل رجلا بضرب آخر، فإنه يجوز أن يقال للمغرى: هذا من عملك، ونظيره قوله تعالى: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) . * * * فإن قيل: كيف جمع الخمر والميسر والأنصاب والأزلام في الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الأولى ثم خص الخمر والميسر بالذكر في الآية الثانية؟ قلنا: لأن العداوة والبغضاء بين الناس تقع كثيراً بسبب الخمر والميسر، وكذلك يشتغلون بهما عن الطاعة بخلاف الأنصاب والأزلام. فإن هذه المفاسد لا توجد فيها وإن كان فيها مفاسد أخر، وقيل: إنما كرر ذكر الخمر والميسر فقط لأن الخطاب للمؤمنين بدليل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) . وهم إنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر فقط، وإنما جمع الأربعة في الآية الأولى ليبين للمؤمنين أن هذه الأربعة من أعمال الجاهلية، وأنه لا فرق بين من عبد صنماً أو أشرك بالله بدعوى علم الغيب، وبين من شرب الخمر أو قامر مستحلا لهما. * * * فإن قيل: كيف يحسن أن يفعل الله تعالى فعلا يتوسل به إلى تحصيل علم حتى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) ؟ قلنا: معناه ليميز الله الخائف من غير الخائف عند الناس، وقيل: معناه ليعلم الخوف واقعاً كما علمه منتظراً. * * * فإن قيل. كيف قال: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ووصف العمدية ليس بشرط لوجوب الجزاء، فإنه لو قتله ناسياً أو مخطئاً وجب الجزاء أيضاً؟ قلنا: عند ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وصف العمدية شرط لوجوب الجزاء، فلا يرد عليهم السؤال، وأما عن قول الجمهور فإنما قيده بوصف العمدية لأن الواقعة التى كانت سبب نزول الآية كانت عمداً على ما روى أنه عن للصحابة حمار وشج بالحديبية، وهم محرومون فطعنه أبو اليسر برحه فقتله. فنزلت الآية، فخرج وصف العمدية مخرج الواقع لا مخرج الشرط. وقال الزهرى: نزل الكتاب بالعمد، ووردت السنة بالوجوب فى الخطأ. * * * فإن قيل: كيف قال: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) مع أن الشرط بلوغه إلى الحرم لا غير؟ قلنا: لما كان المقصود من بلوغ الهدى إلى الحرم تعظيم الكعبة ذكر الكعبة تنبيهاً على ذلك، وقيل: معناه بالغ حرم الكعبة. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أى دلالة لهذه الأمور المذكورة على علم الله تعالى بما في السموات وما في الأرض وبكل شيء؟ قلنا: ذلك إشادة إلى كل ما سبق ذكره من الغيوب في هذه السررة من أحوال الأنبياء والمنافقين واليهود، لا إلى المذكور في هذه الآية. الثانى: أن العرب كانت تسفك الدماء وتنهب الأموال، فإذا دخل الشهر الحرام أو دخلوا إلى البلد الحرام كفوا عن ذلك، فعلم الله تعالى أنه لو لم يجعل لهم زماناً ومكاناً يقتضى كفهم عن القتل ونهب الأموال لهلكوا فظهرت المناسبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 فإن قيل: كيف قال: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ... ) والجعل هو الخلق بدليل قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) وقوله: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) وخالق هذه الأشياه هو الله تعالى؟ قلنا: المراد بالجعل هنا الإيجاب والأمر أي ما أوجبها ولا أمر بها. وقيل: المراد بالجعل التحريم. * * * فإن قيل: قول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) . يدل على عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهما واجبان؟ قلنا: معنى قوله: "أنفسكم " أهل دينكم كما قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أى أهل دينكم، وقيل: المراد به آخر الزمان عند فساد الناس، وتعذر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهو زماننا هذا. * * * فإن قيل: كيف تقول الرسل: (لا علم لنا) إذا قال الله تعالى لهم (ماذا أجبتم) وهم عالمون بماذا أجيبوا؟ قلنا: هذا جواب الدهشة والحيرة، حين تطيش عقولهم من زفرة جهنم نعوذ بالله منها، ومثله لا يفيد نفى العلم ولا إثباته، الثانى: أنهم قالوا ذلك تعريضاً بالتشكى من قومهم واظهارا للالتجاء إلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 تعالى في الانتقام منهم، كأنهم قالوا أنت أعلم بما أجابونا به من التصديق والتكذيب، الثالث: معناه لا علم لنا بحقيقة ما أجابونا به. لأنا نعلم ظاهره وأنت تعلم ظاهره ومضمره، ويؤيده ما بعده. * * * فإن قيل: أي معجزة لعيسى عليه الصلاة والسلام في تكليم الناس كهلًا حتى قال: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) ؟ قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة آل عمران مستقصى. * * * فإن قيل: كيف قال الحواريرن: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) شكوا في قدرة الله تعالى على بعض الممكنات، وذلك كفر، ووصفوه بالاستطاعة وذلك تشبيه، لأن الاستطاعة إنما تكون بالجوارح، والحواريون خلص أتباع عيسى عليه الصلاة واسلام والمؤمنين به بدليل قوله تعالى حكاية عنهم: (قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) ؟ قلنا: هذا استفهام عن الفعل لا عن القدرة، كما يقول الفقير للغنى القادر، هل تقدر أن تعطينى شيئاً وهذه تسمى استطاعة المطاوعة لا استطاعة القدرة. * * * فإن قيل: لو كان المراد هذا المعنى لما أنكر عليهم عيسي عليه الصلاة السلام بقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ؟ قلنا: إنكاره عليهم إنما كان لأنهم أتوا بلفظ يحتمل المعنى الذي لا يليق بالمؤمن المخلص إرادته وإن كانوا لم يريدوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فإن قيل: كيف قال عيسى عليه الصلاة والسلام: (وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) وكل ذى نفس فهو ذو جسم، لأن النفس عبارة عن الجوهر القائم بذاته المتعلق بالجسم تعلق التدبير، والله تعالى منزه عن الجسم؟ قلنا: النفس تطلق على معنيين أحدها هذا، والثانى حقيقة الشىء وذاته كما يقال نفس الذهب والفضة محبوبة أي ذاتهما والمراد بها فى الآية ثانياً هذا العنى. * * * فإن قيل: كيف قال عيسى عليه الصلاة والسلام: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ... الآية) مع أنه قال لهم كثيراً من الكلام المباح غير الأمر بالتوحيد؟ قلنا: معناه ما قلت لهم فيما يتعلق بالإله. * * * فإن قيل: إذا كان عيسى لم يمت وإنما هو حى في السماء فكيف قال: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) ؟ قلنا: أراد بالتوفي إتمام مدة اقامته بينهم في الأرض، وتمامه قد سبق مرة في قوله تعالى: (قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) والسؤال إنما يتوجه على قول من قال إن السؤال والجواب وجد يوم رفعه إلى السماء، وأما من قال: إن السؤال إنما يكون يوم القيامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 - وعليه الجمهور - فالجواب مطابق ولا إشكال فيه. فإذ قيل: لو قال عيسى عليه الصلاة والسلام: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ؟ قلنا: معناه إن تعذبهم فإنهم عبادك، وتصرف المالك المطلق الحقيقى فى عبيده متاح أي تصرف كان، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم الذي لا ينقص من عزته شيء بترك العقوبة والانتقام ممن عصاه، الحكيم في كل ما يفعله من العذاب والمغفرة. * * * فإن قيل: كيف قال: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) يعنى يوم القيامة، والصدق نافع في الدنيا والآخرة، ولفظ الآية في قوة الحصر؟ قلنا: لما كان نفع الصدق في الآخرة هو الفوز في الجنة والنجاة من النار، ونفعه في الدنيا دون ذلك، كان كالعدم بالنسبة إلى نفعه فى الآخرة، فلم يعتد به في مقابلته. * * * فإن قيل: قوله: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) إن أراد به صدقهم في الأخرة، فالآخرة ليست بدار عمل، وإن أراد به صدقهم فى الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه، وهو الشهادة لعيسى عليه الصلاة والسلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟ قلنا: أراد به الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم، وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قتادة رضى الله عنه متكلمان صدقا يوم القيامة فنفع أحدهما صدقه دون الآخر، أحدهما إبليس قال: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ... الآية) فصدق يومئذ ولم ينفعه صدقه. لأنه كان كاذبا قبل ذلك، والآخر عيسى عليه الصلاة والسلام كان صادقا في الدنيا والآخرة فنغمه صدقه. * * * فإن قيل: في السموات والأرض العقلاء وغيرهم، فهلا غلب العقلاء فقال الله تعالى: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ؟ قلنا: لأن كلمة (ما) تتناول الأجناس كلها تناولا عاماً بأصل الوضع. و (من) لا تتناول غير العقلاء بأصل الوضع، فكان استعمال (ما) فى هذا الموضع أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 سوره الأنعام * * * فإن قيل: كيف جمع الظلمة وأفرد النور في قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) ؟ قلنا: ترك جمعه استغناء عنه بجمع الظلمة قبله، فإنه يدل عليه كما في ترك جمع الأرض أيضاً استغناء عنه بجمع السماء قبله في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) والثاني: الظلمة اسم، والنور مصدر نقله المفصل، والمصادر لا تجمع. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وجهركم) بعد قوله: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) ومعلوم أن من يعلم السر يعلم الجهر بالطريق الأولى؟ قلنا: إنما ذكره للمقابلة كما في قوله تعالى: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) فى بعض الوجوه. * * * فإن قيل: كيف خص السكون بالذكر دون الحركة في قوله تعالى: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) على قول من فسره بما يقال الحركة؟ قلنا: لأن السكون أغلب الحالتين على كل مخلوق من الحيوان والجماد أو لأن الساكن من المخلوقات أكثر عدداً من المتحرك أو لأن كل متحرك يصير إلى السكون من غير عكس أو لأن السكون هو الأصل والحركة حادثة عليه وطارئة، وقيل: فيه إضمار تقديره: ما سكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وتحرك فاكتفى بأحدهما اختصاراً لدلالته على مقابله كما في قوله تعالى: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) ولم يقل وهو ينعم ولا ينعم عليه، وهذا أعم لتناوله الاطعام وغيره؟ قلنا: لأن الحاجة إلى الرزق أمس فخص بالذكر. الثانى: أن كون المعبود أكلا متفوطا أقبح من كونه منعما عليه، فلذلك ذكره. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) يقتضى أن يسمى الله تعالى شيئاً ولو صح ذلك لصح نداؤه به كالحى والقيوم ونحوها؟ قلنا: صحة ندائه تعالى مخصوصة بما يدل على المدح، وصفة الكمال كالحى والقيوم ونحوها، لا بكل ما يصح اطلاقه عليه، ألا ترى أن الموجود والثابت يصح اطلاقه عليه سبحانه وتعالى، ولا يصح نداؤه به كذا هذا. * * * فإن قيل: استشهاد المدعى بالله لا يكفى في صحة دعواه وثبوتها شرعاً حتى لو قال المدعى: الله شاهدى، لا يكفيه هذا، فكيف صح ذلك من النبى صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ؟ قلنا: إنما لم يصح ذلك من غير النبى صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقدر على إقامة الدليل على أن الله تعالى يشهد له، والنبى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الصلاة والسلام أقام الدليل على ذلك بقوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ) لأنه معجزة. * * * فإن قيل: في قوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) كيف يكذبون يوم القيامة بعد معاينة حقائق الأمور، وقد بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور؟ قلنا: المبتلى يوم القيامة ينطق بما ينفعه وبما يضره، لعدم التمييز بسبب الحيرة والدهشة كحال المبتلى المعذب في الدنيا يكذب على نفسه وعلى غيره، ويتكلم بما يضره، ألا تراهم يقولون: ربنا أخربنا منها، وقد أيقنوا بالخلود فيها، وقالوا: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) وقد علموا أنه لا يقضى عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها. * * * فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) ؟ قلنا: للقيامة مواقف مختلفة ففى بعضها لا يكتمون، وفى بعضها يحلفون كاذبين، كما قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقال تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وقيل: إن حلفهم كاذبين يكون قبل شهادة جوارحهم عليهم (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) يكون بعد شهادتها عليهم. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وهو خير لغير المتقين أيضاً كالأطفال والمجانين؟ قلنا: إنما خصهم بالذكر لأنهم الأصل فيها من حيث إن درجتهم أعلى وغيرهم تبع لهم. * * * فإن قيل: كيف قال لمحمد عليه الصلاه والسلام: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فخاطبه بأفحش الخطابين وقال لنوح عليه الصلاة والسلام: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فخاطبه بألين الخطابين، مع أن محمدا صلى الله عليه وسلم أعظم رتبة وأعلى منزلة؟ قلنا: لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان معذورا في جهله، لأنه تمسك بوعد الله تعالى في إنجاء أهله، وظن أن ابنه من أهله، ومحمد صلى الله عليه وسلم ما كان معذوراً لأنه كبر عليه كفرهم مع علمه أن كفرهم وايمانهم بمشيئة الله تعالى، وأنهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله. * * * فإن قيل: إذا بعث الله تعالى الموتى من قبورهم فقد رجعوا إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 بالحياة بعد الموت، فما فائده قوله: (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) ؟ قلنا: المراد به وقوفهم بين يديه للحساب والجزاء، وذلك غير البعث، وهو احياؤهم بعد الموت فلا تكرار فيه. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) لو صح من النبى عليه الصلاة والسلام هذا الجواب لصح لكل من ادعى النبوة وطولب بآية أن يقول أن الله قادر على أن ينزل آية؟ قلنا: إذا أثبتت نبوته بما شاء الله من المعجزة يصح له أن يقول ذلك، بخلاف ما إذ لم يثبت نبوته، والنبى صلى الله عليه وسلم كان قد ثبتت نبوته بالقرآن وانشقاق القمر وغيرهما. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) والدابة لا تكون إلا في الأرض، لأن الدابة في اللغة اسم لما يدب على وجه الأرض، وما فائدة قوله: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) والطيران لا يكون إلا بالجناح؟ قلنا: فيه فوائد. الأولى: التأكيد كقولهم: هذه نعجة أنثى، وقولهم كلته بلسانى، ومشيت إليه برجلى، وكما قال الله تعالى: (لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وقال: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ، الثانية: نفى توهم المجاز فإنه يقال: طار فلان من أمر كذا إذا أسرع فيه، وطار الفرس إذا أسرع الجرى، الثالثة: زيادة التعميم والاحاطة، كأنه قال جميع الدواب الدابة وجميع الطيور الطائرة. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) إلى أن قال: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إليه) ومن جملة ما ذكر الدعاء فيه عذاب الساعة، وهو لا يكشف عن المشركين؟ قلنا: لم يجبرا عن الكشف مطلقاً بل مقيدا بشرط المشيئة. وعذاب الساعة لو ساء كشفه عن المشركين لكشفه. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) كيف ذكر القول في الجملة الأولى والثالثة وترك ذكره في الجملة الثانية؟ قلنا: لما كان الإخبار بالغيب كثيراً ما يدعيه البشر كالكهنة والمنجمين وواضعى الملاحم، ثم أن كثيرا من الجهال يعتقدون صحة أقاويلهم ويعملون بمقتضى أخبارهم بالغ في سلبه عن نفسه بسلب حقيقته عنه بخلاف الألوهية والملكية، فإن انتفاءها عنه وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 غيره من البشر ظاهر فاكتفى في نفيهما بنفى القول، إذا غير الدعوى فيهما لا يتصور في نفس الأمر، ولا في زعم الناس بخلاف علم الغيب فافترقا، والمراد بقوله: (لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ) أي لا أدعي الألوهية كذا قال بعض المفسرين. * * * فإن قيل: في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) كيف ذكر سبيل المجرمين، ولم يذكر سبيل المؤمنين، وكلاهما محتاج إلى بيانه؟ (الأول) أنه إذا ظهر سبيل المجرمين ظهر سبيل المؤمنين أيضاً. قلنا: بالضرورة أن السبيل سبيلان لا غير، الثاني: أن سبيل المؤمنين يراد تقديراً، وإنما حذف اختصاراً لدلالة المذكوره عليه، كما في قوله تعالى: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) اى ماكسبتم وهو يعلم ما جرحوا ليلا ونهاراً؟ قلنا: لأن الكسب أكثر ما يكون بالنهار، لأنه زمان حركة الإنسان، والليل زمان سكونه لقوله تعالى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بعد قوله: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فإن قيل: كيف قال تعالى: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) يعنى جميع الخلائق، وقال في موضع آخر: (وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) ؟ قلنا: المولى الأول يعنى المالك أو الخالق أو المعبود، والمولى الثانى بمعنى الناصر، فلا تنافى بينهما. * * * فإن قيل: كيف خص كون قوله الحق، وله الملك يوم القيامة فقال: (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) مع أن قوله الحق في كل وقت، وله الملك في كل زمان؟ قلنا: لأن ذلك اليوم ليس لغيره فيه ملك بوجه من الوجوه، وفى الدنيا لغيره ملك خلافة عنه أو هبة منه، وأنعاماً بدليل قوله تعالى في حق داود عليه الصلاة والسلام: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) وقوله تعالى: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) وقوله في ذلك اليوم: هو الحق الذي لا يدفعه أحد من العباد، ولا يشك فيه شاك من أهل العناد، لانكشاف الغطاء فيه للكل، وانقطاع الدعاوى والخصومات، ونظيره قوله تعالى: (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وإن كان الأمر له في كل زمان، وكذا قوله تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) . * * * فإن قيل: كيف قال في معرض الامتنان: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ولم يذكر اسماعيل مع أنه كان هو الابن الأكبر؟ قلنا: لأن اسحاق وهب له من حرة، واسماعيل من أمة، واسحاق وهب له من عجوز عقيم، فكانت المنة فيه أظهر. * * * فإن قيل: كيف قال في وصف القرآن: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) وكثير ممن يؤمن بالآخرة من اليهود والنصارى وغيرهم لا يؤمنون به؟ قلنا: معناه والذين يؤمنون بالآخرة إيماناً نافعاً مقبولا هم الذين يؤمنون به، إما تصديقاً به قبل إنزاله كما بشر به موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو اتباعاً له بعد إنزاله، والأمر كذلك فإن من لم يصدق موسي وعيسى عليهما الصلاة والسلام في بشارتهما بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، أو كان بعد بعثه ولم يؤمن به فإيمانه بالآخرة غير معتد به ولامعتبر. * * * فإن قيل: كيف أفرد قوله تعالى: (أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ) بالذكر بعد قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) وذلك أيضاً افتراء؟ قلنا: لأن الأول عام والثانى خاص، والمقصود الإنكار فيهما، ولا يلزم من وجود العام وجود الخاص، قلت في هذا الجواب مغالطة لأنه مسلم أنه لا يلزم من وجود العام وجود الخاص، ولكن يلزم من الذم على العام وإنكاره الذم على الخاص، وإنكاره لا محالة، وما نحن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فيه من هذا القبيل فالجواب المحقق أن يقال أن هذ الخاص لما كان مخصوصاً بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء، خصه بالذكر تنبيهاًعلى مزيد العقاب فيه والاثم. * * * فإن قيل: في قوله تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... الآية) ما فائدة قوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) بعد قوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ؟ قلنا: ذكره أولا استدلالا به على نفى الولد، ثم ذكره ثانيا توطئة وتمهداً لقوله تعالى: (فاعبدوه) فإن كونه خالق كل شىء يقتضى تخصيصه بالعبادة والطاعة فكانت الإعادة لفائدة جديدة. * * * فإن قيل: في قوله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) كيف خص بإدراكه لها ولم يقل وهو يدرك كل شيء، مع أنه أبلغ في التمدح؟ قلنا: لوجهين أحدهما مراعاة المقابلة اللفظية فإنه نوع من البلاغة. الثانى: أن هذه الصفة خاصة بينه وبين الأبصار، إنه يدركها بمعنى الاحاطة بها، وهى لا تدركه، فأما غيره فما يدرك الأبصار فهى تدركه أيضاً فلهذا خصها بالذكر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) ولم يقل وهو الذي أنزل إلى مع أن الله تعالى قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 (أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ) ؟ قلنا: لما كان انزاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه إلى الخلق ويهديهم به كان في الحقيقة منزلا إليهم، لكن بواسطة النبى عليه الصلاة والسلام فصح إضافة الانزال إليه وأليهم. * * * فإن قيل: في قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) كيف علق الكون من المؤمنين بأكل الذبيحة المسمى عليها، والكون من المؤمنين حاصل، وإن لم تؤكل الذبيحة أصلاً؟ قلنا: المراد اعتقاد الحل لأنفس الأكل، فإن بعض من كان يعتقد حل الميتة من العرب كان يعتقد حرمة الذبيحة. * * * فإن قيل: كيف أبهم فاعل التزيين هنا فقال: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقال في آية أخرى: (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) وقال في آية أخرى: (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) فمن هو مزين الأعمال للكفار في الحقيقة؟ قلنا: التزيين من الشيطان بالاغواء والاضلال والوسوسة وإيراد الشبه، ومن الله تعالى بخلق، جميح ذلك فصحت الإضافتان. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 والرسل إنما كانت من الانس خاصة؟ قلنا: المراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النبى عليه الصلاة السلام ثم ولوا إلى قومهم منذرين كما قال الله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ... الأية) . الثاني أنه كقوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) والمراد من أحدها لأنه إنما يخرج من الملح، الثالث: أنه بعث إليهم رسول منهم قاله الضحاك ومقاتل. * * * فإن قيل: كيف كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم في قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ... الآية) والمعنى فيهما واحد؟ قلنا: المعنى في المشهود به متعدد، وإن كان في الشهادة واحدا، لأنهم في الأولى شهدوا على أنفسهم بتبليغ الرسل وانذارهم، وفى الثانية شهدوا على أنفسهم بالكفر في الدنيا وهما متغايران. * * * فإن قيل: كيف أقروا في هذه الآية بالكفر وشهدوا على أنفسهم به وجحدوه في قولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) ؟ قلنا: مواقف القيامة ومواطنها مختلفة، ففى بعضها يقرون وفى بعضها يجحلون، أو يكون المراد هنا شهادة أعضائهم عليهم حين بختم على أفواههم كما قال تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْم) والسفه ليكون إلا عن جهل؟ قلنا: معنى قوله: "بغير علم " بغير حجة، وقيل: بغير علم بمقدار قبحه، ومقدار العقوبة فيه وعلى الوجهين لا يكون مستفاداً من الأول. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) بعد قوله: (قَدْ ضَلُّوا) ؟ قلنا: فائدته الإعلام بأنهم بعد ما ضلوا لم يهتدوا مرة أخرى، فإن من الناس من يضل ثم يهتدى بعد ضلاله. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (إِذَا أَثْمَرَ) بعد قوله: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) ومعلوم أنه إنما يؤكل من ثمره إذا أثمر؟ قلنا: فائدته نفى توهم توقف الاباحة على الادراك والنضج بدلالته على الاباحة من أول اخراج الثمر. * * * فإن قيل: كيف قإل تعالى: (قلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا. . . الآية) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وفى القران تحريم أكل الربا ومال اليتيم ومال الغير بالباطل وغير ذلك؟ قلنا: (يعنى كان) محرماً مما كانوا يحرمونه في الجاهلية. وقيل: مما كانوا يستحلونه فيها. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ) والموضوع موضوع العقوبة، فكان يحسن أن يقال فيه ذو عقوبة شديدة أو عظيمة ونحو ذلك؟ قلنا: إنما قال ذلك نفياً للاغترار بعسة رحمته في الاجتراء على معصيته، وذلك أبلغ في التهديد، معناه لا تغتروا بسعة رحمته فإنه (مع) ذلك لا يرد عذابه عنكم. وقيل: معناه فقل ربكم ذو رحمة واسعة للمطيعين ولا يرد عذابه عن العاصين. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ثم فسره بعشرة أحكام خمسة منها واجبة والتلاوة وصف للفظ لا للمعنى كيلا يقال أضدادها محرمة؟ قلنا: قوله: (تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) لا ينفى تلاوة غيره فقد تلا ما حرم وتلا غيره أيضاً، الثانى إن فيه إضمار تقديره: اتل ما حرم ربكم عليكم وأوجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فإن قيل: كيف خص مال اليتيم بالنهى عن قربانه بغير الأحسن، ومال البالغ كذلك أيضاً؟ قلنا: إنما خصه بالنهى لأن طمع الطامعين فيه أكثر، لضعف مالكه وعجزه، وقلة الحافظين له، والناصرين، بخلاف مال البالغ، الثانى: أن التخصيص لمجموع الحكمين وهما النهى عن قربانه بغير الأحسن، ووجوب قربانه بالأحسن، أو جواز قربانه بالأحسن بغير إذن مالكه. ومجموح الحكمين مخصوص بمال اليتيم، وهنا هو الجواب عن كونه منفياً ببلوغ الأشد، لأن المجموع ينتفى ببلوغ الأشد، لانتفاء الحكم الثانى، وقيل: إن الغاية لمحذوف تقديره: حتى يبلغ فسلموه إليه. * * * فإن قيل: كيف خص العدل بالقول فقال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) ولم يقل وإذا فعلتم فاعدلوا، والحاجة إلى العدل في الفعل أمس، لأن الضرر الناشئ من الجور الفعلى أقوى من الضرر الناشئ من الجور القولى؟ قلنا: إنما خصه بالقول ليعلم وجوب العدل في الفعل بالطريق الأولى: كما قال تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) ولم يقل: ولا تشتهما ولا تضربهما لما قلنا. * * * فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وبين قوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وقوله: (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقد جاء في الحديث المشهور "فعليه وزرها ووزر من عمل بها"؟ قلنا: المراد بالآية الأولى وزر لا يكون مضافاً إليها بمباشرة أو تسبب لتحقق إضافته إلى غيرها على الكمال، أما إذا لم يكن كذلك فهو وزرها من وجه فتزره، وقيل: معناه لا تزره طوعاً كما زعم المشركرن بقولهم للنبى عليه الصلاة والسلام: ارجع إلى ديننا ونحن كفلاء بما يلحقك من تبعة في دينك، وقول الذين كفروا للذين آمنوا (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) إلى قوله تعالى: (عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) ومعنى باقي النصوص أنها تحمله كرهاً فلا تنافي بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 سورة الأعراف * * * فإن قيل: النهي في قوله تعالى: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) متوجه إلى الحرج فما وجهه؟ قلنا: هو من باب قولهم لا أرينك هنا معناه لا تقم هنا، فإنك إن أقمت رأيتك، فمعنى الآية، فكن على يقين منه ولا تشك فيه، لأن المراد بالحرج الشك. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) والاهلاك إنما هو بعد مجيء البأس وهو العذاب؟ قلنا: معناه أردنا إهلاكها كقوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) . * * * فإن قيل: ميزان القيامة واحد فكيف قال تعالى: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ؟ قلنا: إنما جمعه لأنه أراد بالميزان الموزونات من الأعمال، وقيل: إنما جمعه لأنه ميزان تقوم مقامه موازين ويفيد فائدتها، لأنه يوزن به ذرات الأعمال، وما كان منها في عظم الجبال. * * * فإن قيل: كيف توزن الأعمال وهى أعراض لا ثقل لا ولا جسم، والوزن من خواص الأجسام؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 قلنا: الموزون صحائف الأعمال، الثانى: أنه قد ورد أن الله تعالى يحيلها في جواهر وأجسام فتتصور أعمال المطيعين في صورة حسنة، وأعمال العاصين في صورة قبيحة ثم يزنها، والله على كل شيء قدير. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وكلمة ثم للترتيب، وخطاب الملآئكة عليهم السلام بالسجود سابق على خلقنا وتصويرنا؟ قلنا: المراد ولقد خلقنا أباكم ثم صورناه بطريق حذف المضاف، وقيل: المراد ولقد خلقنا أباكم ثم صورناكم في ظهره، والقول الأول أظهر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى لأبليس: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا) أى في السماء، وليس له ولا لغيره أن يتكبر فى الأرض أيضاً؟ قلنا: لما كانت السماء مقر الملآئكة المطيعين الذين لا توجد منهم معصية أصلاً كان وجود المعصية بينهم أقبح، فلذلك خص مقرهم بالذكر. * * * فإن قيل: كيف أجيب إبليس إلى الانتظار، وإنما طلب الانتظار ليفسد أحوال عباد الله تعالى ويغويهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 قلنا: لما في ذلك من ابتلاء العباد، ولما في مخالفته من عظيم الثواب، ونظير ذلك ما خلقه الله تعالى في الدنيا من اصناف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهى وما ركبه في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) ولم يكن غرضه من الوسوسة كشف عورتهما، بل إخراجهما من الجنة، ويؤيده قوله تعالى في سورة البقرة: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) ؟ قلنا اللام في قوله: "ليبدى" لام العاقبة والضرورة، لا لام كى كما في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) وقول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب. * * * فإن قيل: أي آية لله في اللباس والكسوة حتى قال في آية اللباس والكسوة: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) ؟ قلنا: معناه أن خلق اللباس والكسوة للإنسان خاصة علامة من العلامات الدالة على أن الله تعالى فضله على سائر الحيوان، وقيل: معناه ذلك من نعم الله. * * * فإن قيل: كيف قوله تعالى في حق إبليس: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) ونازع لباسهما هو الله تعالى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 قلنا: لما كان ذلك بسبب وسوسة الشيطان واغوئه أضيفا النزع إليه كما يقال: أشبعنى الطعام، وأروانى الشراب، المشبع والمروى في الحقيقة إنما هو الله تعالى وهما سبب. * * * فإن قيل: كيف قال: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) وهو بدأنا أولا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم لحما كما ذكر، ونحن لا نعود عند الموت ولا عند البعث بعد الموت على ذلك الترتيب؟ قلنا: معناه كما بدأكم أولا من تراب كذلك تعودون تراباً، وقيل: معناه كما أوجدكم أولا بعد العدم كذلك يعيدكم بعد العدم، فالتشبيه في نفس الإحياء والخلق لا في الكيفية والترتيب، وقيل: معناه كما بدأكم سعداء وأشقياء كذلك تعودون، ويؤيده تمام الآية، وقيل: معناه كما بدأتم لا تملكون شيناً كذلك تعودون، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ... الأية) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى مخبرا عن الزينة والطيبات من الرزق: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) مع أن الواقع المشاهد أنها لغير الذين آمنوا أكثر وأدوم؟ قلنا: فيه إضمار تقديره قل هى للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا، لأن المشركين شاركوهم فيها، خالصة للمؤمنين في الآخرة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والميراث عبارة عما ينتقل من ميت إلى حى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 قلنا: هو على تشبيه أهل الجنة وأهل النار بالوارث والموروث عنه، وذلك أن الله تعالى خلق في الجنة منازل للكفار على تقدير الإيمان، فمن لم يؤمن منهم جعل منزله لأهل الجنة، الثانى: أن نفس دخول الجنة بفضل الله ورحمته من غير عوض فأشبه بالميراث، وإن كانت الدرجات فيها بحسب الأعمال. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أما الخلق بمعني الإيجاد والاحداث فظاهر أنه مختص به سبحانه وتعالى، وأما الأمر فلغيره أيضاً بدليل قوله تعالى: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وقوله تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) وقوله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ) ؟ قلنا: المراد بالأمر هنا قوله تعالى: (كن) عند خلق الأشياء، وهذا الأمر الذي به الخلق مخصورص به كالخلق، الثانى: أن المراد بالخلق والأمر ما سبق ذكرها في هذه الآية، وهو خلق السموات والأرض، وأمر تسخير الشمس والقمر والنجوم كما ذكر، وذلك مخصوص به عزوجل. * * * فإن قيل: لم قال نوح عليه السلام: (لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) بالتاء ولم يقل ليس بى ضلال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 كما وصفه قومه به، وذلك أشد مناسبة ليكون نافياً عين ما أثبتوه؟ قلنا: الضلالة أقل من الضلال فكان نفيها أبلغ نفى الضلال عنه، كأنه قال: ليس بى شىء من الضلال، كما لو قيل: ألك تمر؟ فقلت: مالى تمرة كان ذلك أبلغ في النفى من قولك ما لي تمر. * * * فإن قيل: كيف وصف الملأ بالذين كفروا في قصة هود دون قصة نوح؟ قلنا: لأنه كان في أشراف قوم هود من آمن به منهم عند هذا القول، فلم يكن كل الملأ من قومه قائلين له: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ) بخلاف قوم نوح فإنه لم يكن فيهم من آمن به عند قولهم: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) فكان كل الملأ قائلين ذلك، هكذ أجاب بعض العلماء، وهذا الجواب منقوض بقوله تعالى في سورة هود في قصة نوح: (فقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) وكذا في سورة المؤمنين، وجواب هذا النقض أنه يجوز أن القول كان مرتين، المرة الثانية بعد إيمان بعضهم. * * * فإن قيل: كيف قال صالح لقومه بعدما أخذتهم الرجفة وماتوا: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ولا يحسن من الحى مخاطبة الميت لعدم الفائدة؟ قلنا: هذا مستعل في العرف، فإن من نصح انساناً فلم يقبل منه حتى قتل أو صلب ومر به ناصحه فإنه يقول له: كم نصحتك يا أخى فلم تقبل حتى أصابك هذا، وفائدة هذا القول حث السامعين له على قبول النصيحة ممن ينصحهم لئلا يصيبهم ما أصاب المنصوح الذي لم يقبل النصيحة حتى هلك. * * * فإن قيل: لم قال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) وهم ما زالوا كافرين مفدسين لا مصلحين؟ قلنا: معناه بعد أن أصلحها الله تعالى بالأمر بالعدل وارسال الرسل، وقيل: معناه بعد أن أصلح الله تعالى أهلها بحذف المضاف، وقيل: معناه بعد الاصلاح فيها أي بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم، فإضافته كإضافة قوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) يعنى بل مكرهم في الليل والنهار. * * * فإن قيل: كيف خاطبوا شعيباً عليه الصلاة والسلام بالعود في الكفر بقولهم: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) وهو أجابهم بقوله: (إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وهو لم يكن في ملتهم قط، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم شيء من الكبائر. خصوصاً الكفر؟ قلنا: العرب تستعمل عاد بمعنى صار ابتداء، ومنه قوله تعالى: (عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) . الثانى: أنهم قالوا ذلك على طريق تغليب الجماعه على الواحد، لأنهم عطفوا على ضميره الذين آمنوا منهم بعد كفرهم، فجعلوهم عائدين جميعاً إجراء للكلام على حكم التغليب، وعلى ذلك أجرى شعيب عليه الصلاة والسلام جوابه، ومراده عود قومه المعطوفين عليه. * * * فإن قيل: لم قال فرعرن (فأت بها) بعد قوله (إن كنت جئت بآية) ؟ قلنا: معناه إن كنت جئت من عند الله تعالى بآية فأتنى بها، أي احضرها عندى. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) وقال في سورة الشعراء: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) فنسب هذا القول إلى فرعون؟ قلنا: قاله هو، وقالوه هم، فحكى قوله ثم وقولم هنا. * * * فإن قيل: السحرة إنما سجدوا لله تعالى طوعاً لما تحققوا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 معجزة موسى عليه الصلاة والسلام فكيف قال تعالى: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) قلنا: لما زالت كل شبهة لهم بما عاينوا من آيات الله تعالى على يد نبيه، أضطرهم ذلك إلى مبادرة السجود، فصاروا من غاية المبادرة كأنهم ألقوا للسجود تصديقا لله تعالى ولرسوله. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى هنا حكاية عن السحرة الذين آمنوا وعن فرعون: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) إلى قول تعالى: (وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) ثم حكى عنهم هذا المعنى في سورة طه وسورة الشعراء بزيادة ونقصان في الألفاظ المنسوبة إليهم، وهذه الواقعة ما وقعت إلا مرة واحدة، فكيف اختلفت عبارتهم فيها؟ قلنا: الجواب عنه أنهم إنما تكلموا بذك بلغتهم لا باللغة العربية: وحكى الله تعالى ذلك عنهم باللغة العربية مراراً، لحكمة اقتضت التكرار والإعادة، نبينهما في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى فمرة حكاه مطابقاً للفظهم في الترجمة رعاية للفظ، وبعد ذلك حكاه بالمعنى جرياً على عادة العرب في التفنن في الكلام والمخالفة بين أساليبه لئلا يمل إذا تمحض تكراره. * * * فإن قيل: كيف قالوا: (مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا) سموها آية ثم قالوا: "لتسحرنا بها"؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قلنا: ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية، بل حكاية لتسمة موسى عليه الصلاة والسلام على طريق الاستهزاء والسخرية. * * * فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) أى أهلكنا وقوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) ؟ قلنا: معناه ودمرنا أي أبطلنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المكر والكيد في حق موسى عليه الصلاة والسلام، (وما كانوا يعرشون) أي يبنون من الصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه ليصعد بواسطته إلى السماء، لأن التدمير يكون بمعني الاهلاك ويكون بمعنى الابطال. وقيل: هو على ظاهره لأن الله تعالى أورث ذلك بنى اسرائيل مدة ثم دمره جميعه. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) قوله: "وفى ذلكم " إن كان إشارة إلى الإنجاء فليس فيه بلاء، بل هو محض نعمة، وإن كان إشارة إلى القتل والأسر فإضافته إلى آل فرعون لقوله تعالى: "وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ " من آل فرعون عظيم أشد مناسبة لسياق الآية وهو الامتنان، ولهذا قال: " يقتلون ويستحيون " فأضاف إليهم الفعلين؟ قلنا: البلاء مشترك بين النعمة والمحنة، لأنه من الابتلاء وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الاختبار يقال بلاه وابتلاه أي اختبره والله تعالى يختبر شكر عباده بالنعمة ويختبر صبرهم بالمحنة، ويؤيده قوله تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) وقوله تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) . فمعنى الآية وفى ذلك الانجاء نعمة عظيمة من ربكم عليكم (وتجوز أن تكون الاشارة إلى المجموع معناه وفى الانجاء اختبار عظيم لشكر من أنجى، واختبار عظيم لصبر من قتل ولده أو أسر) . * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) المواعدة كانت أمره بالصوم في هذا العدد، فكيف ذكر الليالى مع أنها ليست محلا للصوم بل يقع في القلب أن ذكر الأيام أولى لأنها محل الصوم الذي وقعت به المواعدة؟ قلنا: العرب في أغلب تواريخها إنما تذكر الليالى وإن كان مرادها الأيام. لأن الليل هو الأصل في الزمان، والنهار عارض لأن الظلمة سابقة في الوجود على النور. وقيل: إنه كان في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام جواز صوم الليل. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وقد علم مجموع الميقات من قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قلنا: فيه فوائد أحدها التأكيد الثانية: أن يعلم أن العشر ليال لا ساعات، الثالثة: أن لا يتوهم أن العشر التى وقع بها الاتمام كانت داخلة في الثلاثين، يعنى كانت عشرين وأتممت بعشر كما فى قوله تعالى: (وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) على ما ذكرناه مشروحا في سورة حم السجده. * * * فإن قيل: لم قال موسى عليه الصلاة والسلام: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) وكان قبله كثيراً من المؤمنين، وهم الأنبياء ومن آمن بهم؟ قلنا: معناه وأنا أول المؤمنين بأنك لا ترى بالحاسة الفانية من الجسد الفانى في دار الفناء، وقيل: معناه وأنا أول المؤمنين من بنى اسرائيل في زماني، وقيل: أراد بالأول الأقوى والأكمل في الإيمان يعنى لم يكن طلبى الرؤية لشك عندى في وجودك أو لضعف في إيمانى، بل لطلب مزيد الكرامة. * * * فإن قيل: كيف قال: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) وهم مأمورون بالعمل بكل ما في التوراة؟ قلنا: معناه بحسنها وكلها حسن. الثاني: أنهم أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر، ففعل الخير أحسن من ترك الشر، الثالث: أن فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 حسناً وأحسن كالاقتصاص والعفو والانتصار، والصبر، والواجب والمندوب والمباح، فأمروا باللأخذ بالعزائم والفضائل، وما هو الأكثر ثواباً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ) . واتخاذهم العجل إنما كان في زمن موسى عليه الصلاة والسلام بالنقل وفى سياق الآيات ما يدل على ذلك؟ قلنا: معناه من بعد ذهابه إلى الجبل، وقيل: من بعد عهده عليهم أن لا يعبدوا غير الله. * * * فإن قيل: كيف عبر عن الندم بالسقوط في اليد في: قوله تعالى: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) وأى مناسبة بينهما؟ قلنا: لأن من عادة من اشتد ندمه وحسرته على غائب أن يعض يده غماً، فتصير يده: مسقوطاً فيها، لأن فاه قد وقع فيها، وسقط مسندا إلى قوله: "فى أيديهم " وهو من كنايات العرب كقولهم للنائم: ضرب على أذنه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (غَضْبَانَ أَسِفًا) وهما متقاربان في المعنى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 قلنا: الأسف الحزين، وقيل: الشديد الغضب ففيه فائدة جديدة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا) ولم يقل وفيها، وإنما يقال نسختها لشىء كتب مرة ثم نقل، فأما أول مكتوب لا يسمى نسخة، والألواح لم تنقل من مكتوب آخر؟ قلنا: لما ألقى الألواح قيل: إنه انكسر منها لوحان، فنسخ ما فيهما في لوح ذهب، وكان فيهما الهدى والرحمة، وفى باقى الألواح تفصيل كل شيء، وقيل: إنما قال: "وفى نسختها" لأن الله تعالى لقن موسى عليه الصلاة والسلام التوراة ثم أمره بكتابتها فنقلها من صدره إلى الألواح فسماها نسخة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) يعنى القرآن والقرآن إنما أنزل مع جبربل عليه السلام لا مع النبى؟ قلنا: (معه) أي مقارنا لزمانه، وقيل: (معه) أي عليه، وقيل: (معه أي إليه، ويجوز أن يتعلق (معه) باتبعوا، لا بأنزل، معناه واتبعوا القرآن المنزل مع أتباع النبى عليه الصلاة والسلام والعمل بسنته أو واتبعوا القرآن كما اتبعه هو مصاحبين له في اتباعه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) وهم إنما بدلوا القول الذي قيل لهم، وهو (قولوا حطة) فقالوا حنطة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة. * * * فإن قيل: كيف قال: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) وانتقالهم من صور البشر إلى صورة القردة ليس فى قدرتهم؟ قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة. * * * فإن قيل: الحليم من صفات الله تعالى فكيف قال: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ) وسرعة العقاب تنافى صفة الحلم، لأن الحليم هو الذى لا يعجل بالعقوبة على العصاة؟ قلنا: معناه شديد العقاب وقيل: معناه سريع العقاب إذا جاء وقت عقابه لا يرده عنه أحد. * * * فإن قيل: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة فكيف قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) ؟ قلنا: إنما خصها بالذكر إظهاراً لمزيتها، لكونها عماد الدين بالحديث، وناهية عن الفحشاء والمنكر بالآية. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) تمثيل لحال بلعام، فكيف قال بعده: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) والمثل لم يضرب إلا لواحد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 قلنا: المثل في السورة وإن ضرب لبلعام، ولكن أريد به كفار مكة كلهم، لأنهم صنعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ميلهم إلى الدنيا وشهواتها من الكيد والمكر ما يشبه فعل بلعام مع موسى عليه الصلاة والسلام. الثانى: أن "ساء مثلا القوم " راجع إلى قوله تعالى: "ذلك مثل القوم " لا إلى أول الآية. * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وهو عليه الصلاة والسلام كان نذيراً وبشيراً للناس كافة، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) ؟ قلنا: المراد بقوله تعالى: "لقوم يؤمنون " لقوم كتب لهم في الأزل أنهم يؤمنون، وإنما خصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالإنذار والبشارة دون غيرهم، فكأنه نذير وبشير لهم خاصة، كما قال تعالى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) ويجوز أن يكون متعلق النذير محذوفاً تقديره: إن أنا إلا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون، فاستغنى بذكر أحدهما عن الآخر كما استغنى بالجملة عن التفصيل في تلك الآية، لأن المعنى وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا للمؤمنين ونذريرا للكافرين. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى حكاية عن آدم وحواء: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) وقال: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 والأنبياء معصومون عن مطلق الكبائر فضلا عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر؟ قلنا: المراد بقوله تعالى: "جعلا له " أي جعل أولادهما بطريق حذف المضاف وكذا قوله تعالى: (فِيمَا آتَاهُمَا) أي فيما أتى أولادهما، ويؤيد هذا قوله تعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث ذكر ضمير الجمع ولم يقل يشركان، ومعنى اشراك أولادهما فيما آتاهما الله تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس ونحو ذلك مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم. وقيل: الضمير في (جعلا) للولد الصالح وهو السليم الخلق، وإنما قال: "جعلا" لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى، وقيل: المراد بذلك تسميتهما اياه عبد الحارث والحارث كان اسم إبليس في الملآئكة، وسبب تلك التسمية يعرف من تفسير الآية، وإنما قال (شركاء) إقامة للواحد مقام الجمع، ولم يذهب آدم وحواء إلى أن الحارث ربه، بل قصدا أنه كان سبب نجاته، وقال جمهور المفسرين قوله تعالي: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) في مشركي العرب خاصة، وهو منقطع عن قصة آدم وحواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 سورة الأنفال * * * فإن قيل: قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى آخر الآيتين يدل على أن من لم يتصف بجميع تلك الصفات لا يكون مؤمناً، لأن كلمة إنما للحصر؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: إنما المؤمنون إيماناً كاملا، أو إنما الكاملون الإيمان، كما يقال الرجل من يصبر على الشدائد يعنى الرجل الكامل، ونظيره قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ... الآية) وقوله تعالى: (وأن المساجد لله) . * * * فإن قيل: قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ينفي إرادة ما ذكرتم؟ قلنا: معناه أولئك هم المؤمنون إيماناً كاملا حقا، وقيل: إن حقاً متعلق بما بعده لا بما قبله، والمؤمنون تمام الكلام. * * * فإن قيل: كيف يقال أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، وقد قال الله تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) ؟ قلنا: المراد بالإيمان أثار الإيمان من الطمأنينة واليقين والخشية ونحو ذلك، لأن تظاهر الأدلة على المدلول مما يزيده رسوخا في العقائد وثبوتا، فإما حقيقة الإيمان فهو التصديق والإقرار بوحدانية الله تعالى كما أن الالهية والوحدانية لا تقبل الزيادة والنقصان فكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الاقرار بها. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) تشبيه فأين المشبه والمشبه به؟ قلنا: معناه أمض على ما رأيته صوابا من تنفيل الغزاة في قسمة الغنائم، وان كرهوا، كما مضيت في خروجك من بيتك للحرب بالحق وهم كارهون، وقيل: معناه فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فهو خير لكم وإن كرهتم، كما كان اخراجك من بيتك بالحق خيراً لهم وهم كارهون، وقيل: معناه أولئك هم المؤمنون حقا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) وكلاهما متعذر لأنه تحصيل الحاصل؟ قلنا: المراد بالحق الايمان، وبالباطل الشرك، فاندفع السؤال. * * * فإن قيل: ما فائدة التكرار في قوله تعالى: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ) ؟ قلنا: إنما ذكره أولا لبيان أن ارادتهم كانت متعلقة باختيار الطائفة التى كانت فيها الغنية، وإرادة الله تعالى باختيار الطائفة التى في قهرها نصرة الدين، فذكره أولا للتمييز بين الارادتين، ثم ذكره ثانيا لبيان الحكمة في قطع دابر الكافرين. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (نفَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ومعلوم أن المؤمنين يوم بدر قتلوا الكفار، ورماهم النبى عليه الصلاة والسلام بكف من حصى الوادى في وجوههم وقال: شاهت الوجوه، فلم يبقى مشرك إلا وقع في عينيه شى من ذلك فشغلوا في عيونهم وانهزموا، فتبعهم المؤمنون يقتلون وريأسرون؟ قلنا: لما كان السبب الأقوى في قتلم إنما هو مدد الملآئكة، وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين، وثبيت قلوب المؤمنين وأقدامهم وذلك كله فعل الله تعالى ونسبه إليه، يعنى إن كان ذلك في الصورة منكم، فهو في الحقيقة منى. فسبيلكم الشكر دون العجب والفخر وكذلك الرمية أثبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يوجد مثله عن رمى البشر فعل الله تعالى، ونظير هذا قولك لمن صدر عنه قول حسن أو فعل مكروه، بتسليط من هو أعلا رتبة منه: هذا ليس قولك ولا فعلك. وقيل: معنى قوله تعالى: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ" وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت الحصا في وجوههم ولكن الله رمى الرعب في قلوبهم، ولأهل الحقيقة في هذه الآية ونظائرها من الكتاب والسنة مباحث لا يحتلمها هذا المختصر، وهى مستقصاة في كتب التصوف. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ) ثنى في الأمر ثم أفرد في النهي؟ قلنا: كما يذكر في لغة العرب الاسم المفرد، ويراد به الأثنان والجمع فكذلك يذكر ضمير المفرد ويراد به ضمير الاثنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 كقولهم: إنعام فلان ومعروفه يغشينى، والانعام والمعروف لا ينفع مع فلان، وعليه جاء قوله تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أى أن يرضوهما، فكذلك هنا معناه ولا تولوا عنهما. الثانى: أن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله لما كانت سببا واحدا حكماً لقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) كان الاعراض عن الرسول إعراضاً عن الله تعالى، فاكتفى بذكره، الثالث: أن معناه ولا تولوا عن هذا الأمر وعن أمثاله، فالضمير للأمر لا للرسول عليه الصلاة والسلام، الرابع: أنه إنما لم يقل ولا تولوا عنهما لئلا يلزم منه الاخلال بالأدب من النبى عليه الصلاة والسلام عند نهيه للكفار في قرآنه بين اسمه واسم الله تعالى في ذكرهما بلفظ واحد من غير تقديم اسم الله، كما روى أن خطيباً خطب فقال من أطاع الله ورسوله فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى، فقال له النبى عليه الصلاة والسلام: بئس خطيب القوم أنت، هلا قلت: ومن عصي الله ورسوله فقد غوى) . * * * فإن قيل: ما معني قوله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ... الآية) قلنا: معناه ولو علم الله فيهم تصديقا وإيمانا في المستقبل لأنطق لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الموتى يشهدون بصدق نبوتك كما طلبوا، أو قيل: معنى (لأسمعهم) لرزقهم الفهم والبصيرة، ولو أسمعهم وحالهم هذا الحال، وهو أنه لم يعلم فيهم الخير لتولوا وهم معرضون. * * * فإن قيل: التولى والاعراض واحد فما فائدة قوله تعالى: (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) قلنا: لتولوا عن الإيمان، وهم معرضون عن البرهان. فلا تكرار. * * * فإن قيل: ما فائدة ذكر السماء في قوله: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) والمطر إنما يكون من السماء؟ قلنا: المطر المطلق إنما يكون من السماء، ولكن المطر المضاف هنا هو مطر الحجارة قد يكون من رؤوس الجبال، ومن حيطان المساكن والقصور وسقوفها، فكان ذكر السماء مفيدا لأن الحجارة إذ نزلت من الساء كانت أشد نكاية وأكثر ضرراً، الثانى: أنه لما كانت الحجارة المسومة للعذاب وهى السجيل معهودة النزول من السماء ذكر السماء إشارة إلى إرادة المعهود من الحجارة، كأنه قال: فأمطر علينا حجارة من سجيل، فوضع قوله: من السماء موضع قوله: من سجيل كما تقول: صب عليه مسرودة من حديد، يعنى درعاً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ويوم بدر عذبهم الله تعالى بالقتل والأسر وهو فيهم؟ قلنا: معناه وأنت مقيم بمكة وكان كذلك لأن النبى عليه الصلاة والسلام ما دام بمكة. لم يعذبوا فلما أخرجوه من مكه وخرجوا لحربه عذبوا، وقيل: معناه وما كان الله ليعذبهم عذابا الاستئصال وأنت فيهم، وقيل: معناه وما كان الله ليعذبهم العذاب الذي طلبوه وهو إمطار الحجارة. * * * فإن قيل. كيف قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ... الآية) ثم قال: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) وهو يوهم التناقض؟ قلنا: معناه ومالهم أن لا يعذبهم الله بعد خروجك من بينهم وخروج المؤمنين والمستغفرين، وقيل: المراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال وبالثانى عذاب غير الاستئصال، وقيل: المراد بالأول عذاب الدنيا. وبالثانى: عذاب الآخرة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) والمكاء الصفير والتصدية التصفيق وهما ليسا بصلاة؟ قلنا: معناه أنهم أقاموا المكاء والتصدية مقام الصلاة، كما يقول القائل زرت فلانا فجعل الجفاء صلتى أي أقام الجفاء مقام الصلة ومنه قول الفرزدق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أخاف زرمادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا ومحدرجة سمرا. أراد بالأداهم القيود، وبالمحدرجة السياط، ووضعهما موضع العطاء. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا) وهم لم ينتهوا عن الكفر، فكيف قال (وَإِنْ يَعُودُو) والعود إلى الشيء إنما يكون بعد تركه والإقلاع عنه؟ قلنا: معناه إن تنتهوا عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربته يغفر لهم ما قد سلف من ذلك، وإن تعودوا إلى قتاله وعداوته فقد مضت سنة الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، أو فقد مضت سنة الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية، وقيل: معناه إن ينتهوا عن الكفر فالإيمان يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصى، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله "، وإن يعودوا إلى الكفر بالارتداد بعد ما أسلموا فقد مضت سنة الأولين من الأمم في أخذهم بعذاب الاستئصال. * * * فإن قيل: الفائدة في تقليل الكفار في أعين المؤ منين ظاهرة، وهى زوال الرعب من قلوب المؤمنين، وتثبيت أقدامهم وزيادة اجترائهم على القتال، فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفار حتى قال الله تعالى: (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) مع أن في ذلك يقال زوال الرعب من قلوب الكافرين وتثبيت أقدامهم وزيادة اجترائهم على القتال؟ قلنا: فائدته أن لا يستعد الكفار كل الاستعداد، وأن يجترئوا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 المؤمنين معتمدين على قلتهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيدهشوا ويتحيروا، وأن يكون ذلك سببا يتنبه به المشركون على نصرة الحق إذ رأوا المؤمنين مع قلتهم في أعينهم منصورين عليهم، وفى التقليل من الطرفين معارضة تعرف بالتأمل. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) يدل على حرمة المنازعة والجدل أيضا لأنه منازعة فكيف تجوز المناظرة وهى منازعة وجدل؟ قلنا: المراد بالمنازعة هنا المنازعة في أمر الحرب والاختلاف فيه، لا المنازعة في إظهار الحق بالحجة والبرهان، والدليل عليه أن ذلك مأمور به، قال الله تعالي: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) لكن لجواز المناظرة شروط يندر وجودها في زماننا هذا، أحدها: أن يكون كل المقصود منها ظهور الحق على لسان أي الخصمين كان، كما كانت مناطرة السلف، وعلامة ذلك أن لا يفرح بظهور الحق. على لسانه أكثر مما يفرح بظهوره على لسان خصمه. * * * فإن قيل: كيف قال إبليس: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) وهو لا يخاف الله تعالى، لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضل عبيده؟ قلنا: قال قتادة صدق.عدو الله في قوله: (إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 يعنى جبريل والملآئكة معه نازلين من السماء لنصرة المؤمنين يوم بدر، وكذب في قوله: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) والله ما به مخافة الله ولكنه علم أنه لا قوة له بهم، وقيل: أنه لما رأى نزول الملآئكة على صورة لم يرها قط، خاف قيام الساعة التى هى غاية إنظاره فيحل به العذاب الموعود، وقيل معنى أخاف الله أعلم صدق وعده لنبيه بالنصر، وقد جاء الخوف بمعنى العلم ومنه قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) ويحتمل عندى أن يكون خاف أن يحل به من الملآئكة ما دون الإهلاك من الأذى إن لم يخف الإهلاك، ثم أقول: كيف تؤخذ عليه كذبة واحدة، وهو أفسق الفسقة وأكفر الكفرة، فلا عجب في كذبه، وإنما العجب في صدقه؟ * * * فإن قيل: أي مناسبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ؟ قلنا: لما أقدم المؤمنون وهم ثلاث مائة وبضعة عشر على قتال المشركين وهم زهاء ألفاً متوكلين على الله، وقال المنافقون: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 غر هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عدداً وأكثر، قال الله تعالى ردا على المنافقين، وتثبيتاً للمؤمنين: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أى غالب القليل الضعيف على الكثير القوى، وبنصره عليه، في جميع أفعاله. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ولم يقل بظالم وهو أبلغ في نفى الظلم عن ذاته المقدسة؟ قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة آل عمران. * * * فإن قيل: قولو تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وذلك إشارة إلى هلاك كفار مكة وآل فرعون، ولم تكن لهم حال مرضية غيروها؟ قلنا: كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة نغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأسوأ، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم عباد أصنام، فلما بعث الرسول إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وسعوا في قتله غيروا حالهم إلى أسوأ منها، فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من الامهال وعاجلهم بالعذاب. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) بعد قوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ؟ قلنا: مراده أن يبين أن شر الكفار الذين كفروا، واستمروا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الكفر إلى وقت الموت. * * * فإن قيل: ما فائدة تكرار المعنى الواحد في مقاومة الجماعة لأكثر منها قبل التخفيف وبعده في قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) إلى قوله: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ؟ قلنا: فائدته الدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحد لا يتفاوت، بل كما ينصر الله تعالى العشرين على المائتين، ينصر المائة على الألف، وكما ينصر المائة على المائتين ينصر الألف على الألفين. * * * فإن قيل: كيف أخبر الله تعالى عن هذه الغلبة ونحن نشاهد الأمر بخلافها فإن المائة من الكفار قد تغلب المائة من المسلمين، بل المائتين في بعض الأحوال؟ قلنا: إنما أخبر الله تعالى عن هذه الغلبة بشرط الصبر، الذي هو الثبات في مواقف الحرب أو الذي هو الموافقة بين المسلمين ظاهراً وباطناً، فمتى وجد الشرط تحققت الغلبة للمسلمين مع قلتهم لامحالة، ولقائل أن يقول: إن هذه الغلبة مخصوصة بطائفة كان النبى عليه الصلاة والسلام أحدهم وسياق الآية يدل عليه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) مع أنه أراد الدنيا أيضا، لأنه لولا إرادته إياها لما وجدت، فما فائدة هذا التخصيص؟ قلنا: المراد بالإرادة هنا الاختيار والمحبة لا إرادة الوجود والكون، فالمعنى تحبون عرض الدنيا وتختارونه، والله يختار ما هو سبب الجنة، وهو إعزاز الإسلام بالإسخان في القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 سورة التوبة * * * فإن قيل: لأى سبب تركت كتابة البسملة في أول هذه السورة بخلاف سائر السور؟ قلنا: لما تشابهت هي والأنفال، واختلفت الصحابة في كونهما سورتين أو سورة واحدة، تركت بينهما فرجة عملا بقول من قال: هما سورتان، وتركت البسملة بينهما عملا بقول من قال هما سورة واحدة، وممن قال بذلك قتادة رضى الله عنه، الثانى: أن اسم الله تعالى سلام وأمان فلا تناسب كتابته النبذ والمحاربة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) خص الأمر بالقتال بأئمة الكفر، مع أن النكث والطعن ليس مخصوصا بهم، بل هومسند إلى جميع المشركين؟ قلنا: المراد بأئمة الكفر رؤوس المشركين وقادتهم، وقيل: كفار مكة لأنهم كانوا قدوة جميع العرب في الكفر، فكأن النكث والطعن لم يوجد إلا منهم لما كانوا هم الأصل فيه، فلذلك خصهم بالذكر. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) ونحن نسأل اليهود والنصارى ذلك فينكرونه ويجحدونه؟ قلنا: طائفة من اليهود وطائفة من النصارى هم الذين يقولون ذلك لا كلهم، فالألف واللام للعهد لا للجس أو أطلق اسم الكل وأرادالبعض كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ) وإنما قال لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 جبريل وحده. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) وقول كل أحد إنما يكون بفمه؟ قلنا: معناه أنه قول لا يعضده حجة وبرهان، إنما هو مجرد لفظ لا أصل له، وقيل: ذكر ذلك للمبالغة في الرد عليهم، والإنكار لقولهم. كما يقول الرجل لغيره: أنت قلت لي ذلك بلسانك. * * * فإن قيل: دين الحق هو من جملة الهدى فما فائدة عطفه على الهدى في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) ؟ قلنا: المراد بالهدى هنا القرآن، وبدين الحق الإسلام، وهما متغايران. الثانى: أنه وإن كان داخلا في جملة الهدى، ولكنه خصه بالذكر تشريفا له وتفضيلا كما في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) وقوله تعالى: (وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ولم يقل على الأديان كلها مع أنه أظهره على الأديان كلها؟ قلنا: المراد بالدين هنا اسم الجنس واسم الجنس المعرف باللام يفيد معنى الجمع، كما في قولهم: كثر الدرهم في أيدى الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) والمذكور الذهب والفضة فأعاد الضمير على أحدهما؟ قلنا: أعاد الضمير على الفضة لأنها أقرب المذكورين، أو لأنها أكثر وجودا في أيدى الناس، فيكون كنزها أكثر، ونظيره قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) . الثاني: أنه أعاد الضمير على المعنى، لأن المكنوز دنانير ودراهم وأموال، ونظيره قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) لأن كل طائفة مشتملة على عدد كثير، وكذا قوله تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) يعنى المؤمنين والكافرين، الثالث: أن العرب إذا ذكرت شيئين يشتركان في المعنى تكتفى بإعادة الضميرعلى أحدهما استغناء بذكره عن ذكر الآخر لمعرفة السامع باشتراكهما فى المعنى (ومنه قول حسان بن ثابت) : إن شرخ الشباب والشعر الأسود. . . مالم يعاص كان جنونا. ، ولم يقل مالم يعاصيا وقول الآخر: فمن يك أمس بالمدينة رحلة. . . فإنى وقيار بها لغريب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ولم يقل لغريبان، ومنه قوله تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) وليس قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) ولا قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) من هذا القبيل، لأن الأخبار ثم عن أحدهما لوجود لفظه أو هى لاثبات أحد المذكورين، فمن جعله نظير هذا فقد سها إلا أن يثبت أن أو في هاتين الآيتين بمعنى الواو وفى هاتين الآيتين لطيفة وهى أن الكلام لما اقتضى اعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة، وأن كانت أبعد ومؤنثة أيضا لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله تعالى من اللهو، بدليل أن المشتغلين بها أكثر من المشتغلين باللهو أو لأنها أكثر نفعاً من اللهو أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما عرف من تفسير الآية، وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكير. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) وهى عند الناس كذلك أيضا في كل ملة سواء كانت الشهور قمرية أو شمسية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 قلنا: فائدته أن يعلم أن هذا التقسيم والعدد ليس مما أحدثه الناس ولبتدعوه بعقولهم من ذات أنفسهم، وإنما هو أمر أنزله الله تعالى في كتبه على ألسنة رسله. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) خص الأربعة الحرم بذلك، وظلم النفس منهى عنه في كل زمان؟ قلنا: قال ابن عباس رضى الله عنهما الضمير في قوله تعالى: (فيهن) راجع إلى قوله: "اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا" لا إلى الأربعة الحرم فقط، فاندفع السؤال الثانى: أن الضير راجع إلى الأربعة الحرم، أما لأنها أقرب أو لما قاله الفراء إن العرب تقول في العشرة وما دونها لثلاث ليال خلون، وأيام خلون وهؤلآء، فإذ جاوزت العشرة قالت: خلت، ومضت للفرق بين القليل وهو العشرة فما دونها، وبين الكثير وهو ما زاد عليها، ولهذا قال في الأثنى عشر منها، وقال في الأربعة فيهن، فعلى هذا يكون تخصيصها بالذكر، إما لمزيد فضلها وحرمتها عندهم في الجاهلية، فيكون ظلم النفس فيها أقبح، ونظيره قوله تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) وإن كان ذلك منهيا عنه في غير الحج أيضا أو لأن المراد بالظلم النسيء وهو كان مخصوصا بها، أو قتال الكفار فيها ابتداء، أو ترك قتالهم إذا ابتدوا، وكل ذلك مخصوصا بها. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: "فيهن" والشهر مذكر فقياسه فيها؟ قلنا: الضمير بالهاء والنون لا يختص بالمؤنث، ولو اختص فالمراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 بقوله تعالى: "فيهن " ساعات الأشهر وهى مؤنثة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) والإنسان لا يظلم نفسه بل يظلم غيره؟ قلنا: لا نسلم أنه لا يضلم نفسه، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) الثانى: أن معناه فلا يظلم بعضكم بعضا كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) وقال: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وقال: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) . الثالث: أن معناه فلا تنقصوا حظ أنفسكم من الآخرة بالمعصية، فإن من عصى فقد ظلم نفسه بنقصه ثوابها، وتوجيه العقاب والذم إليها، واليه الإشارة بقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) الرابع: أن كل ظالم لغيره فهو ظالم لنفسه في الحقيقة، لأن الضرر ظلمه في حق المظلوم منقطع عن قريب، لأنه لا يتعدى الدنيا، وضرر ظلمه في حق نفسه يراه في الآخرة، حيث لا ينقطع، أو يكون أشد وأدوم. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 على قبول الكفر للزيادة والنقصان، فكذك الإيمان الذي هو ضده، فيكون حجة للشافعى رحمة الله عليه في قوله: الايمان: يقبل الزيادة والنقصان؟ قلنا: معناه زيادة معصية في الكفر. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إن كان نهيا فأين الجزم؟ وإن كان نفياً فقد وقع المنفى، لأن كثيرا من المؤمنين المخلصين استأذنوه في التخلف عن الجهاد لعذر، ويعضده قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) . قيل: إن المراد به كل أمر طاعة اجتمعوا معه عليه كالجهاد والجمعة والعيد ونحوه؟ قلنا: هو نهى بصيغة النفى كقوله تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) الثانى: قال ابن عباس رضى الله عنهما هى منسوخة بقوله تعالى: (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) الثالث: أن المراد بقوله تعالى: (يَسْتَأْذِنُكَ ... الآية) ، الاستئذان في التخلف عن الجهاد من غير عذر وكذا المراد بالآية التى بعدها، وبقوله: " لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ" إباحة الاستئذان في التخلف عن الأمر الجامع لعذر فلا نسخ، لإمكان العمل بالآيتين، لأن محل الحكم مختلف، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وجود العذر وعدمه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) أخبر أنهم أمروا بالقعود، وذمهم على القعود والتخلف عن الخروج للجهاد والاستئذان في القعود؟ قلنا: ليس في الآية ما يدل على أن الله تعالى هو الآمر لهم، فقيل: الآمر لهم بذلك هو الشيطان بالوسوسة والتزين، والثانى: أن بعضهم أمر بعضا، الثالث: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لهم ذلك غضبا عليهم، الرابع: أنه أمر توبيخ وتهديد من الله تعالى لهم، كقوله تعالى: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) ويعضده قوله تعالى: "مع القاعدين " أي مع النساء والصبيان والذمى، الذي شأنهم القعود والجثوم في البيوت. * * * فإن قيل: إذ كان الله تعالى قد علم أن المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للجهاد ما زادوهم إلا خبالا أي فسادا، ولأوضعوا خلالهم أي ولأشرعوا السعى بينهم بالنمائم، فكيف أمرهم بالخروج مع المؤمنين؟ قلنا: أمرهم بالخروج لإلزامهم بالحجة، ولإظهار نفاقهم. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ) يدل على أن الفسق يمنع قبول الطاعات؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 قلنا: المراد بالفسق هنا الفسق بالكفر والنفاق لا مطلق الفسق، وذلك محبط للطاعات، ومانع من قبولها، ويعضده قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ ... الأية) * * * فإن قيل: لما عدل في آية الصدقات عن اللام إلى (فى) في المصارف الأربعة الأخيرة؟ قلنا: للتنبيه على أنهم أقوى في استحقاق الصدقة من ماسبق ذكره، لأن (فى) للظرفية والوعاء، فنبه بها على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا نصيبا لها، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفى فك الغارمين من الدين من التخليص والانقاذ، ولجمع الغازى الفقير أو المنقطع في الحج الفقير بين الفقر ومثل هذه العبادة الشاقة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال، ولا يرد المؤلفة قلوبهم لأن بعضهم كفار وبعضهم مسلمون ضعيفوا النية في الإسلام، فكيف يعارض بهم من ذكرنا، أو لأن الله تعالى علم أن وجوب إعطائهم سينسخ فلذلك جعلهم في القسم المقدم الذي هو أضعف. * * * فإن قيل: لم كرر (في) في الأربعة الأخيرة. ولم تكرر اللام في الأربعة الأولى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 قلنا: للتنبيه على ترجيح استحقاق المصرفين الآخرين على الرقاب والغارمين من جهة أن إعادة العامل تدل على مزيد قوة وتأكيد كقولك: مررت بزيد وعمرو. * * * فإن قيل: لم عدى فعل الإيمان إلى الله تعالى بالباء، وإلى المؤمنين باللام في قوله تعالى: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ؟ قلنا: لأنه قصد التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به، فعداه بالباء كما يعدى ضده بها، وقصد التسليم والانقياد للمؤمنين فيما يخبرون به لكونهم صادقين عنده، فعداه بما يعدى به التسليم والانقياد، ويعضده قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) وقوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) وقوله تعالى: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) وقوله تعالى: (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) وأما قوله تعالى: (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) مشترك الدلالة، لأنه قال في موضع آخر: (آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) وقال ابن قتيبة في الجواب عن أصل السؤال إن الباء واللام زائدتان، والمراد بالإيمان التصديق فمعناه يصدق الله ويصدق المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فإن قيل: قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا) يدل على تخليد أصحاب الكبائر في النار، لأن المراد بالمحاداة المخالفة والمعاداة؟ قلنا: قوله تعالى: "ألم يعلموا" خبر عن المنافقين الذين سبق ذكرهم، فيكون المراد المحاداة بالكفر والنفاق، وذلك موجب للتخليد في النار. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) وسور القرآن إنما تنزل على النبى عليه الصلاة والسلام لا على المنافقين؟ قلنا: معناه أن تنزل فيهم، فعلى هنا بمعنى في، كما في قوله تعالى: (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) وقولهم: كان ذلك على عهد فلان، الثانى: أن الإنزال هنا بمعنى القراءة فمعناه أن تقرأ عليهم. * * * فإن قيل: الحذر في هذه الآية واقع على أنزال السور فكيف قال تعالى: (قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ) ومناسب أول الآية منزل ما تحذرون؟ قلنا: قوله: "مخرج ما تحذرون" أي مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم بإنزال السورة، وهو مناسب لقوله تعالى: (تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) ، الثانى: أن معناه مظهر ومبرذ ما تحذرون من أنزال السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فإن قيل: كيف قال تعالى: (تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) وانبائهم بما في قلوبهم تحصيل الحاصل، لأنهم عالمون به فما فائدته؟ قلنا: معناه تنبئهم بأسرارهم وما كتموه من النفاق شائعة ذئعة، وتفضحهم بظهور ما اعتقدوا أنه لا يعرفه غيرهم، ولا يطلع عليه سواهم، وهذا ليس تحصيل الحاصل. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) وقال بعده: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وكلمة (من) أدل على المشابهة والمجانسة من حيث إنها تقتضى الجزئية والبعضية، فكانت بالمؤمنين أولى وأحرى، لأنهم أشد تشابها وتجانسا في الصفات والأخلاق؟ قلنا: المراد بقوله تعالى: (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أى بعضهم على دين بعض، أي على عادتهم وخلقهم بإضمار لفظة الدين والخلق ونحوه، لأن (من) تأتى بمعنى (على) ، ومنه قوله تعالى: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) وقوله تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) أى يحلفون على وطءِ نسائهم، وهذا المعنى هو المراد في قوله عليه الصلاة والسلام: "فمن رغب عن سنتى فليس منى "، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من غشنا فليس منا"، والمراد بقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 تعالى: "بعضهم أولياء بعضى" أي أنصارهم وأعوانهم في الدين، وكل واحدة من العبارتين صالحة للفريقين، إلا أنه يخص المنافقين بتلك العبارة تكذيباً لهم في حلفهم السابق في قوله تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) وتقريرا لقوله تعالى: (وَمَا هُمْ مِنْكُمْ) . * * * فإن قيل: أي فائدة في قوله تعالى: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ) مع أن قوله تعالى: (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ) بوضع الظاهر موضع المضمر مغن عنه، كما قال تعالى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) من غير تكرار؟ قلنا: فائدته تصدير التشبيه بذم المشبه بهم باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا، وأشتغالهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وتهجين حالهم، وتقبيح صفتهم ليكون التشبيه بعد ذلك أبلغ في ذم المشبهين بأولئك الأولين، كما تريد أن تشبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون كان يقتل بغير حق، ويظلم ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله، وأما قوله تعالى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) فإنه لما كان معطوفا على ما قبله وهو التشبيه المصدر بتلك المقدمة أغنى ذلك عن إعادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 تلك المقدمة المذكورة للتقبيح والتهجين. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) حبوط العمل إن كان عبارة عن بطلان ثوابه، فذلك إنما يكون في الآخرة، وإن كان عبارة عن بطلان منفعته فاعمال المنافقين في الدنيا ليست باطلة المنفعة، لأنهم ينتفعون بها في حقن دمائهم وأموالهم، وجريان أحكام المسلمين عليهم؟ قلنا: المراد بالأعمال إن كان نوعى أعمالهم الدينية والدنيوية، فالحابط في الدنيا راجع إلى أعمالهم الدنيوية وهى كيدهم ومكرهم وخداعهم ونفاقهم (الذى) كانوا يقصدون به اطفاء نور الله تعالى، ودفع آياته وبيناته. (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) فلم ينالوا من ذلك ما أملوه وقدموه من ابطال دين الله تعالى، وستر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والحبوط في الآخرة راجع إلى أعمالهم الدينية وهى عباداتهم وطاعاتهم، لأنهم فعلوها نفاقا ورياء، فبطل ثوابها في الآخرة، وإن المراد بأعمالهم مجرد الأعمال الدينية، فحبوطها في الدنيا هو عدم قبولها، لأن الله تعالى يقبل العبادة في الدنيا ثم يثيب عليها في الآخرة، فالمراد بحبوطها في الدنيا عدم قبولها، وعدم اطلاق الأسماء الشريفة عليها كالعبادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 والقربة والحسنة ونحو ذلك، وهذا ضد قوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) فدل على أن للطاعات أجر معجلا في الدنيا غير الأجر المؤخر إلى الآخرة، وهو القبول وحسن الثناء، والذكر والقاء المحبة في قلوب الخلق كما قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) قيل: معناه يحبهم ويحببهم إلى عباده من غير سبب بينه وبينهم يوجب المحبة، وكذلك على العكس حال العصاة والفساق يبغضهم ويبغضهم إلى عباده من غير سبب بينهم يوجب البغض. * * * فإن قيل قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) لم خص الأرض بالنفى، مع أن المنافقين ليس لهم ولى ولا نصير من عذاب الله تعالى في الأرض ولا في السماء في الدنيا ولا في الآخرة؟ قلنا: لما كان المنافقون لا يعتقدون الوحدانية، ولا يصدقون بالآخرة، كان اعتقادهم وجود الولى والنصير مقصورا على الدنيا. فعبر عن الدنيا بالأرض، وخصها بالذكر لذلك، الثانى: أنه تعالى أرد بالأرض أرض الدنيا والآخرة، فكأنه قال: وما لهم في الدنيا والآخرة من ولى ولا نصير. * * * فإن قيل: لم خص السبعين بالذكر في قوله تعالى: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 مع أن الله تعالى لا يغفر للمنافقين ولو استغفر لهم النبى صلى الله عليه وسلم ألف مرة بدليل قولو تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ولأنهم مشركون، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به؟ قلنا: جرت عادة العرب بضرب المثل في الأحاد بالسبعة، وفى العشرات بالسبعين، وفى المئات بسبعمائة استعظاما لها واستكثارا، لا أنهم يريدون بذكرها الحصر، ومنه قوله تعالى: (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) وقوله تعالى: (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) فكأنه قال إن تستغفر لهم أعظم الأعداد وأكثرها فلن يغفر الله لهم، ويعضده ما ذكره بعد ذلك من بيان الصارف عن المغفرة في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) . * * * فإن قيل: لو كان المراد ما ذكرتم لما خفى ذلك على النبى عليه الصلاة والسلام وهو أفصح العرب، وأعلمهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، حتى قال لما أنزلت هذه الآية: إن الله تعالى قد رخص لي، فسأزيد على السبعين، وفى رواية أخرى: فاستغفر لهم أكثر من السبعين ل عل الله يغفر لهم؟ قلنا: لم يخف عليه ذلك، وانما أراد بما قال إظهار غاية رحمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ورأفته بمن بعث إليهم، كما وصفه الله تعالي بقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... الآية) وفى إظهار النبى صلى الله عليه وسلم الرحمة والرأفة لطيف لأمته، وحث لهم على التراحم، وشفقة بعضهم على بعض وهذا دأب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ألا ترى إلى قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والمغفرة والرحمة إنما تكون للمسيئين لا للمحسنين؟ قلنا: معناه والله غفور رحيم للمسيئين إذا تابوا، فهو متعلق بمحذوف لا بالمحسنين، لأنهم قد سدوا بإحسانهم طريق العقاب والذم، فليس عليهم سبيل فيهما، الثانى: أن المحسن من الناس وإن تناهى في إحسانه لا يخلوا عن إساءة بينه وبين الله تعالى أوبينه وبين الناس لكنه إذا أحسن باجتناب الكبائر غفر الله له صغائر سيئاته ورحمه كما قال تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . .الآية) . * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أى سيعلم لأن ألسين للاستقبال، والرؤية من الله تعالى بمعنى العلم، والله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 عالم بعملهم حالا ومآلا؟ قلنا: معناه سيعلمه واقعا موجودا كما علمه غيبا، لأن الله تعالى يعلم كل شىء على ما هو عليه، فيعلم المنتظر منتظرا، ويعلم الواقع واقعا، وأما في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فهو على ظاهره. * * * فإن قيل: إن كان الله تعالى قد وصف العرب بالجهل في القرآن بقوله تعالى: (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) فكيف يصر الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم على كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؟ قلنا: هذا وصف من الله تعالى لهم بالجهل في أحكام القرآن لا في ألفاظه، ونحن لا نحتج بلغتهم في بيان الأحكام، بل نحتج بلغتهم في بيان معانى الألفاظ، لأن القرآن والسنة جاءا بلغتهم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا في صفة المنافقين: (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) وقال في موضع آخر: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ؟ قلنا: هذه الآية نزلت قبل تلك الآية فلا تناقض، لأنه نفى علمه بهم في زمان ثم أثبته بعد ذلك في زمان آخر. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا) قد جعل كل واحد منهما مخلوطا فأين المخلوط به؟ قلنا: كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، لأن معناه خلطوا كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 واحد منهما بالآخر، كقولك: خلطت الماء واللبن، تريد خلط كل واحد منهما بصاحبه، وفيه من المبالغة ما ليس في قولك: خلط الماء باللبن، لأنك بالباء جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به، وبالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء. كما في قولهم: بعت الشاتان بدرهمان يعنون كل شاة بدرهم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) بالواو وما قبلها من الصفات بغير واو؟ قلنا: لأنها صفة ثامنة، والعرب تدخل الواو بعد السبعة إيذانا بتمام العدد، فإن السبعة عندهم هى العقد التام كالعشرة عندنا، فأتوا بحرف العطف الدال على المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ونظيره قوله تعالى: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) بعد ما ذكر العدد مرتين بغير واو، وقوله تعالى في صفة الجنة: (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) بالواو، ولأنها ثمانية، وقال في صفة النار نعوذ بالله منها: (فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) بغير واو لأنها سبعة، وليس قوله تعالى: (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) من هذا القبيل، لأن الواو لو أسقطت فيه لاستحال المعنى لتناقض الصفتين، وقيل: إنما دخلت الواو على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الناهين عن المنكر إعلاما بأن الأمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره بالمعروف، فهما صفتان متلاذمتان بخلاف باقى الصفات المذكورة، فإنها ليست متلاذمة، ولا ينتقض هذا بقوله تعالى: (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) لأنهما ليستا صفتين متلازمتين. لأن السجود يلزم الركرع، أما الركوع لا يلزم السجود بدليل سجود التلاوة وسجود الشكر، والزمخشري بعمله لم يتكلم على هذه الواو. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي بأحسن الذي كانوا يعملون، بإضمار حرف الجر مع أنهم يجزون بحسنه أيضا لقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) ؟ قلنا: معناه بحسن الذي كانوا يعملون، وهو الطاعات كلها لا بسيئة وهو المعاصى، فالأحسن هنا بمعنى الحسن، وسيأتى في سورة الروم في قوله تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ما يوضح هذا إن شاء الله تعالى، الثانى: أن معناه ليجزيهم الله أحسن من الذي كانوا يعملون. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) يدل على أن الإيمان يقبل بالزيادة؟ قلنا: قال مجاهد رحمه الله: معناه فزادتهم علما، لأن العلم من ثمرات الإيمان، فجعل مجازاً عنه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 سورة يونس عليه السلام * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) والله تعالى يفصل ألأيات للعلماء والجهال أيضاً؟ قلنا: لما كان يقع تفصيل الآيات مخصوصا بالعلماء أو لانتفاعهم بالتفصيل أكثر أضاف التفصيل إليهم وخصهم به. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) مع أن أقوال أهل الجنة وأحوالهم لا آخر لها، لأن الجنة دار الخلود؟ قلنا: معناه وآخر دعائهم في كل مجلس دعاء أو ذكر أو تسبيح، فإن أهل الجنة يسبحون ويذكرون للتنعيم والتلذذ بالتسبيح والذكر. * * * فإن قيل: قد أنكر الله تعالى على الكفار احتجاجهم بمشيئته في قولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا) ولهذا لا يجوز للعاصى أن يحتج في وجود المعصية منه بقوله: لو شاء الله ما فعلت هذه المعصية، فلا تقيموا على حدها، فكيف قال النبى صلى الله عليه وسلم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) قلنا: النبى عليه الصلاة والسلام قال هذه الحجة بأمر الله، لأن الله تعالى قال له: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) وللعبد أن يحتج بمشية الله إذا أمره الله أن يحتج بها، أما ما ليس كذلك فليس له أن يحتج بمجرد المشيئة وما أورثتموه كذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) والبغى لا يكون إلا بغيو الحق، لأن البغى هو التعدى والفساد، من قولهم: بغى الجرح إذا فسد، كذا قاله الأصمعي فما فائدة التقييد؟ قلنا: قد يكون الفساد بالحق كاستيلاء المسلمين على أرض الكفار. وهدم دورهم، واحراق ذروعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ببنى قريظة. * * * فإن قيل: كيف شبه تعالى الحياة الدنيا بماء السماء، دون ماء الأرض فقال: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) ؟ قلنا: لأن ماء السماء وهو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه، ولا حيلة، كما أن الحياة كذلك لا حيلة للعبد في في زيادتها ونقصانها. الثانى: أن ماء السماء يستوى فيه جميع الخلائق الوضيع والشريف والغنى والفقير، وغيرهما أيضاً كالمدد والحجر والشوك والثمر، كما أن الحياة كذلك، فكان تشبيه الحياة بماء السماء أشد مناسبة ومطابقة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ) وقال في موضع آخر: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ؟ قلنا: يوم القيامة مواقف ومواطن، ففي موقف لا يكلمهم، وفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 موقف يكلمهم، ونظيره قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) وقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، الثانى: أن المراد أنه لا يكلمهم كلام إكرام بل كلام توبيخ وتقريع. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ... الآية) يدل على أنهم معترفون بأن الله تعالى هو الخالق والرازق والمدبر لجميع المخلوقات، فكيف يعترفون بذلك كله ثم يعبدون الأصنام؟ قلنا: كانوا في عبادة الأصنام يتأولون عبادة الله، فطائفة كانت تقول نحن لا نتأهل لعبادة الله تعالى بغير واسطة لعظمته وجلاله ونقصنا وحقارتنا، فجعلوا الأصنام وسائط، كما قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وطائفة كانت تقول نتخذ أصناماً على هيئة الملآئكة ونعبدها، لتشفع لنا الملآئكة عند الله، وطائفة كانت تقول الأصنام قبلة لنا في عبادة الله، كما أن الكعبة قبلة في عبادته، وطائفة وهى الأكثر كانت تقول على كل صنم شيطان موكل به من عند الله تعالى، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه على وفق مراده بأمر الله، ومن قصر في عبادة الصنم أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله، فكل الطوائف من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله والتقرب إليه، ولكن بطرق مختلفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فإن قيل: كيف قال تعالى: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وهم غير معترفين بوجود الإعادة اصلا لا من الله ولا من غيره؟ قلنا: لما كانت الإعادة ظاهرة الوجود لظهور برهانها، وهو القدرة على ابتداء الخلق، والإعادة أهون بالنسبة إلينا لزمهم الاعتراف بها، فصار كأنهم مسلمون وجودها من حيث ظهور الحجة ووضوحها. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) رتب كونه شهيدا على أفعالهم على رجوعهم إليه في القيامة، مع أنه شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة؟ قلنا: ذكر الشهادة وأراد مقتضاها ونتيجتها وهو القعاب وإلجزاء. كأنه قال ثم الله معاقب على ما يفعلون أو مجاز على ما يفعلون كما قال: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) ونظائره في القرآن العزيز كثيرة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا) ولم يقل ليلا أو نهارا وهو أظهر في المطابقة، وأكثر استعمالا مع النهار في القرآن العزيز وغيره؟ قلنا: المعهود المألوف من كلام العرب عند ذكر البطش والإهلاك والوعيد والتهديد ذكر لفظ البيات سواء قرن به النهار أو لا فلذلك لم يقل ليلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فإن قيل: كيف قال تعالى: (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) ولم يقل ماذا يستعجلون منه، وأول الخطاب للمواجهه؟ قلنا: أراد بذكر المجرمين الدلالة على موجب ترك الاستعجال، وهو الاجرام، لأن المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويفزع من مجيئه، وإن ابطاء فضلا على أن يستعجله. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) ولم يقل فبذينك والمشار إليه اثنان الفضل والرحمة؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة في قوله تعالى: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) . * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) تهديد، لأن فيه محذوفا تقديره: وما ظنهم أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم، فكيف يناسبه قوله تعالى بعده: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) ؟ قلنا: هو مناسب لأن معناه إن الله لذو فضل على الناس حيث أنعم عليهم بالعقل والوحى والهداية وتأخير العذاب وفتح باب التوبة، فكيف يفترون عليه الكذب مع توافر نعمه عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فإن قيل: كيف قال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) فأفرد ثم قال: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) فجمع والخطاب للنبى عليه الصلاة والسلام؟ قلنا: قال ابن الأنباري: إنما جمع في الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع النبى صلى الله عليه وسلم في الفعلين الأولين، وقال غيره: المراد بالفعل الثالث أيضا النبى عليه الصلاة والسلام وحده، وإنما جمع تفخيما له وتعظيما كما في قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) على قول ابن عباس، وكما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ) والمراد به النبى عليه الصلاة والسلام كذا قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، واختاره ابن قتيبة والزجاج. * * * فإن قيل: كيف قَدَّم تعالى الأرض على السماء في قوله تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) وقدم السماء على الأرض في قوله تعالى في سورة سبأ: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قلنا: حق السماء أن تقدم على الأرض مطلقا لأنها أشرف، لكنه لما ذكر هنا في صدر الآية شهادته على شئون أهل الأرض، وأقوالهم وأعمالهم، ثم أردفه بقوله تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) ناسب ذلك تقديم الأرض على السماء، الثانى: أن العطف بالواو نظير التثنية وحكمه حكمها فلا يعطى رتبة كالتثنية. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) وقال في موضع آخر: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ؟ قلنا: أثبت الاشتراك في نفس العزة التى هى في حق الله تعالى القدرة والغلبة، وفى حق الرسول عليه الصلاة والسلام علو كلمته وإظهار دينه، وفى حق المؤمنين نصرهم على أعدائهم، وقوله تعالى: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أراد به العزة الكاملة التى يندرج فيها عز الألهية والخلق والإماتة والإحياء والبقاء الدائم وما أشبه ذلك فلا تنافي. * * * فإن قيل: إذا كانت السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات وما وراءهما كل ذلك ملك لله تعالى ملكا وخلقا، فما فائدة التخصيص فى قوله تعالى: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ؟ قلنا: إنما خص العقلاء المميزين بالذكر وهم الملآئكة والثقلان ليعلم أن هؤلاء إذا كانوا عبيدا لله وهو ربهم ولا يصلح أحد منهم للربوبية ولا للشركة معه، فما وراءهم مما لا يعقل كالأصنام والكواكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ونحوهما أحق أن لا تكون له نداً ولا شريكا. * * * فإن قيل: كيف قال لهم موسى عليه الصلاة والسلام: (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا) على طريق الاستفهام، وهم إنما قالوا ذلك عن طريق الإخبار والتحقيق المؤكد بأن واللام على طريق الاستفهام قال الله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) ؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: أتقولون للحق لما جاءكم (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) ثم قال: "أسحر هذا " أنكر ما قالوه فالاستفهام من قول موسى عليه السلاة والسلام، لا مفعول لقولهم. * * * فإن قيل: كيف نوع الخطاب في قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) فثنى أولا ثم جمع ثم أفرد؟ قلنا: خوطب أولا موسى وهارون أن يتبوؤا لقومهما بيوتا ويختاروها للعبادة، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء، ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى عليه الصلاة والسلام بالبشارة تعظيما لها وتعظيما له عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فإن قيل: كيف قال تعالى: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) أضافها إليهما، والدعوة إنما صدرت من موسى عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ ... الآية) ؟ قلنا: نقل أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يدعو، وهارون كان يؤمن على دعائه، والتأمين دعاء في المعنى، فلهذا أضاف الدعوة إليهما، الثانى: أنه يجوز أن يكون هارون قد دعا أيضا مع موسى عليه الصلاة والسلام إلا أن الله تعالى خص موسى عليه الصلاة والسلام بالذكر، لأنه كان أسبق بالدعوة أو أحرص عليها أو أكثر إخلاصا فيها. * * * فإن قيل: لو كان كذلك لقال تعالى دعوتاكما بألتثنية؟ قلنا: لو كانت ألدعوة مصدرا اكتفى بذكرها في موضع الإفراد والتثنية والجمع بصيغة واحدة كسائر المصادر، ونظيره قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) وإن إنما تدخل على ما هو محتمل الوجود، وشك النبى عليه الصلاة والسلام في القرآن منتف قطعا؟ قلنا: الخطاب ليس للنبى عليه الصلاة والسلام بل لمن كان شاكا في القرآن، وفى نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فكأنه قال: فإن كنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أيها الإنسان في شك ... * * * فإن قيل: قوله تعالى: (مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) يدل على أن الخطاب للنبى عليه الصلاة والسلام لا لغيره؟ قلنا: لا يدل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) وقال: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) ، الثانى أن الخطاب للنبى عليه الصلاة والسلام والمراد غيره كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) ويعضد بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) ويعضد هذا الوجه قوله تعالى بعده: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) . الثالث: أن يكون (إن) بمعنى (ما) تقديره: فما كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل، المعنى لسنا نأمرك أن تسأل أحبار اليهود والنصارى عن صدة كتابك، لأنك في شك منه، بل لتزداد بصيرة ويقينا وطمأنينة، الرابع: أن الخطاب للنبى عليه الصلاة والسلام مع انتفاء الشك منه قطعا، والمراد به إلزام الحجة على الشاكين الكافرين كما يقول لعيسى عليه الصلاة والسلام: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وهو عالم بانتفاء هذا القول منه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 لإلزام الحجة على النصارى. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) ما فائدة قوله: "جميعا" بعد قوله: "كلهم " وهو يفيد الشمول والإحاطة؟ قلنا: كل يفيد الشمول والإحاطة، ولا يدل على " وجود إيمان منهم بصفة الاجتماع، وجميعا يدل على " وجوده منهم في حالة واحدة كما تقول: جاء القوم كلهم جميعا، أي مجتمعين، ونظيره قوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) . * * * فإن قيل: قوله تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) كيف يصح هذا مع إنا لا نعلم جميع ما فيهما ولا نراه؟ قلنا: هو عام أريد به ما ندركه بالأبصار أو البصيرة مما فيهما كالشمش والقمر والنجوم والجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان ونحو ذلك مما يدل على وجود الصانع وتوحيده وعظيم قدرته فنستدل به على ما وراءه. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ... الآية) الحكمة في ذكر المس في أحدهما والإرادة في الآخر؟ قلنا: إنما عدل عن لفظ المس المذكور في سورة الأنعام إلى لفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الإراده لأن الجزاء هنا قوله تعالى: (فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) والرد إنما يكون فيما لم يقع بعد، والمس إنما يكون فيما وقع، فلهذا قال: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) معناه فإن شاء أدام ذلك الخير وإن شاء أزاله، فلا (لطلب) دوامه وزيادته إلا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 سورة هود عليه السلام * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) مع أن التوبة مقدمة على الاستغفار؟ قلنا: المراد استغفروا ربكم من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة، كذا قاله مقاتل، وهذا الاستغفار مقدم على هذه التوبة، الثانى: أن فيه تقديما وتأخيرا، الثالث: قال الفراء (ثم) هنا بمعنى الواو، فلا تفيد ترتيبا فاندفع السؤال. * * * فإن قيل: من لم يستغفر ولم يتب فإن الله تعالى يمتعه متاعا حسنا إلى أجله أي يرزقه ويوسع عليه كما قال ابن عباس أو يعمره كما قال ابن قتيبة، فما فائدة قوله تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) ؟ قلنا: قال غيرهما: المتاع الحسن المشروط الاستغفار والتوبة هو الحياة في الطاعة والقناعة، ومثل هذه الحياة إنما تكون للمستغفر التائب التقى. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) كيف لم يقل على الأرض مع أنه أشد مناسبة لتفسير الدابة لغة، فإنها ما يدب على وجه الأرض؟ قلنا: في هنا بمعنى على كما في قوله تعالى: (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) وقوله تعالى (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الثانى: أن (فى) أعم وأشمل لأنها تتناول كل دابة على وجه الأرض، وكل دبة في باطن الأرض بخلاف (على) . * * * فإن قيل: كيف خص تعالى الدابة بذكر ضمان الرزق، والطير كذلك رزقه على الله تعالى، وهو غير الدابة بدليل قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) ؟ قلنا: إنما خص الدابة بالذكر لأن الدواب أكثر من الطيور عدداً، وفيها ما هو أكبر جثة من كل فرد من أفراد الطير كالفيل والحوت، فيكون أحوج إلى الرزق فلذلك خصه بالذكر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) وعلى للوجوب، والله تعالى لا يجب عليه شىء، وإنما يرزقها تفضلاً وكرماً؟ قلنا: (على) هنا بمعنى من، كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) . الثانى: أنه ذكره بصيغة الوجوب ليحصل للعبد زيادة سكون وطمأنينة في حصوله. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) والخطاب عام للمؤمنين والكافرين، فإنه امتحن الفريقين بالأمر بالطاعة والنهى عن المعصية، وأعمال الكافرين هى التى تتفاوت إلى حسن وأحسن، فأما اعمال الفريقين فتفاوتهما إلى حسن وقبيح؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قلنا: قوله تعالى "ليبلوكم" عام أريد به الخاص، وهم المؤمنون تشريفا لهم وتخصيصاً فصح قوله " أحسن عملا ". * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) ولم يقل: وضيق؟ قلنا: ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدرا، ونظيره قولك: زيد سائد، وجائد، إذ أردت أن إلسيادة والجود حادث فيه وعارض له، فإن أردت وصفه بالسيادة والجود الثابتين قلت زيد سيد، وجواد كما قال الزمخشري. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) أمرهم بالإتيان بمثله وما يأتون به لا يكون مثله، لأن ما يأتون به مفترى، والقرآن ليس بمفترى؟ قلنا: أراد به مثله في البلاغة والفصاحة، وإن كان مفترى، وقيل: معناه مفتريات كما أن القرآن مفترى في زعمكم واعتقادكم فيتماثلان. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (قُلْ فَأْتُوا) فأفرد ثم جمح فقال: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا) ؟ قلنا: الخطاب للنبى عليه الصلاة والسلام في الكل، ولكنه جمع في قوله: " لكم فاعلموا " تفخيما له وتعظيما، الثانى: أن الخطاب الثانى للنبى عليه الصلاة والسلام وأصحابه، لأن النبى عليه الصلاة والسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وأصحابه كانوا يتحدونهم بالقرآن، وقوله تعالى في موضع آخر: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ) يعضد الوجه الأول. الثالث: أن يكون الخطاب في الثانى والثالث للمشركين، والضمير في " يستجيبوا " لمن استطعتم يعنى فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المظاهرة على معارضته لعجزهم، فاعلموا أيها المشركون إنما أنزل بعلم الله، وهذا وجه لطيف. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) يدل على بطلان أعمالهم فما فائدة قوله بعده: (وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ؟ قلنا: المراد بقوله تعالى: (وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي بطل ثواب ما صنعوا من الطاعات في الدنيا، (وبطل ما كانوا يعملون) من الرياء فيها. * * * فإن قيل: كيف قال نوح عليه الصلاة والسلام: (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ) بالواو، وقال هود عليه الصلاة والسلام: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ) بغير واو؟ قلنا: لأن الضمير في قولهما عليهما الصلاة والسلام لتبليغ الرسالة المدلول عليه بأول الكلام في القصتين، ولكن في قصة نوح عليه الصلاة والسلام وقع الفصل بين الضمير وما هو عائد عليه بكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 آخر، فجيء بواو الابتداء، وفى قصة هود عليه الصلاة والسلام لم يقح بينهما فصل، فلم يحتج إلى واو الابتداء، هذا ما وقع لي فيه، والله تعالى أعلم. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (لاعَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) لا يناسبه المستثنى في الظاهر، وهو قوله: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) لأن المرحوم معصوم فظاهره يقتضى لا معصوم إلا من رحم، أي لا مععوم من الغرق بالطوفان إلا من رحمه الله بالانجاء في السفينة؟ قلنا: عاصم هنا بمعنى معصوم كقوله تعالى: (من مآء دافق) أي مدفوق، وقوله: (فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) أي مرضية، وقول العرب: سر كاتم أي مكتوم. الثانى: أن معناه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم أي إلا الراحم، وهو الله تعالى، وليس معناه إلا المرحوم. فكأنه قال: لا عاصم إلا الله، الثالث: أن معناه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا مكان من رحم الله من المؤمنين ونجاهم، وهو السفينة. ويناسب هذا الوجه قوله تعالى: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وهذا لأن ابن نوح لما جعل الجبل عاصما من الماء رد نوح عليه الصلاة والسلام عليه ذلك، ودله على العاصم وهو الله تعالى، أو المكان الذي أمر الله بالالتجاء إليه وهو السفينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فإن قيل: كيف صح أمر السماء والأرض بقوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) وهما لا يعقلان، والأمر والنهى إنما يكون لمن يعقل، ويفهم الخطاب؟ قلنا: الخطاب لهما في الصورة، والمراد به الخطاب للملآئكة الموكلة بتدبيرهما، الثانى: أن هذا أمر إيجاد لا أمر ايجاب، وفى أمر الإيجاد لا يشترط العقل والفهم، لأن الأشياء كلها بالنسبة إلى أمر الإيجاد مطيعة منقادة لله تعالى، ومنه قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله تعالى: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) كل ذلك أمر إيجاد. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى هنا: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ) بالفاء، وقال في قصة زكريا: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ) بغير فاء؟ قلنا: أراد بالنداء هنا إرادة النداء، فجاء بالفاء الدالة على السببية، فإن إرادة النداء سبب للنداء، فكأنه قال: وأراد نوح نداء ربه فقال: كيت وكيت، وأراد به في قصة زكريا حقيقة النداء، فلهذا جاء بغير فاء لعدم ما يقتضى السببية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فإن قيل: هو كان رسولا ولم يظهر معجزة، ولهذا قال له قومه: (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) فبأى شيء لزمتهم رسالته؟ قلنا: إنما يحتاج إلى المعجزة من الرسل من يكون صاحب شريعة لتنقاد أمته إلى شريعته، فان في كل شريعة أحكام غير معقولة، فيحتاج الرسول الآتى بها إلى معجزة تشهد بصدقه، فأما الرسول الذي لا تكون له شريعة، ولا يأمر إلا بالعقليات فلا يحتاج إلى معجزة، لأن الناس ينقادون إلى ما يأمرهم به لموافقته للعقل، وهو كان كذلك، الثانى: أنه نقل أن معجزة هود كانت الريح الصرصر فإنها كانت مسخرة له. * * * فإن قيل: على الوجه الأول لو كان أمره لهم مقصورا على العقليات لما خالفوه وكذبوه ونسبوه إلى الجنون بقولهم: (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ... الآية) ؟ قلنا: إنما صدر ذلك القول من قاصرى العقول والمعاندين والمكابرين كما قيل ذلك لكل رسول بعد اتيانه بالمعجزات الظاهرات والآيات الباهرات. * * * فإن قيل: هلا قيل أنى أشهد الله وأشهدكم لتتناسب الجملتان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 قلنا: لأن إشهاد الله تعالى على البراءة من الشرك إشهاد صحيح مفيد تأكيد التوحيد واشد معاقده، وأما إشهادهم فما هو إلا تهكم بهم وتهاون، ودلالة على قلة المبالاة، لأنهم ليسوا أهلا للشهادة، فعدل به عن اللفظ الأول وأتى به على صورة التهكم والتهاون، كما يقول الرجل لصاحبه: إذ لا حجة أشهد أنى لا أحبك، تهكما واستهانة له. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) جعل التولى شرطا والإبلاغ جزاء، والإبلاغ كان سابقا على التولى؟ قلنا: ليس الابلاغ جزاء للتولى، بل جزاؤه محذوف تقديره: فان تولوا لم أعاتب على تفريط في الابلاغ أو تقصير فيه، ودل على الجزاء المحذوف قوله: "فقد أبلغتكم " الثانى: قال مقاتل تقديره: فإن تولوا فقل لهم قد أبلغتكم. * * * فإن قيل: ما فائدة تكرار النتجية في قوله تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) ؟ قلنا: أراد بالنتجية الأولى تنجيتهم من عذاب الدنيا الذي نزل بقوم هود، وهو سموم أرسلها الله تعالى عليهم، فقطعتهم عضوا عضوا، وأراد بالنتجية الثانية تنجيتهم من عذاب الآخرة الذى استحقه قوم هود بالكفر ولا عذاب أغلظ منه وأشد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 فإن قيل: "بعداً " معناه عند العرب الدعاء بالهلاك، كذا نقله الزمخشري فما معني الدعاء عليهم بالهلاك بعد هلاكهم؟ قلنا: معناه الدلالة على أنهم مستأهلون له وحقيقون به، ونقيضه قول الشاعر: إخوتى لا يبعدوا أبداً. . . وبلى والله قد بعدوا أراد بالدعاء لهم بنفى الاهلاك بعد هلاكهم. الإعلام بأنهم لم يكونوا مستأهلون له ولا حقيقين به. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) نهى عن النقص فيهما، والنهى عن النقص أمر بالإيفاء معنى، فما فائدة قوله تعالى بعد ذلك: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) ؟ قلنا: صرح أولا بنهيهم عن النقص الذي كانوا يفعلونه لزيادة المبالغة في تقبيحه وتغيرهم إياه، ثم صرح بالأمر بالإيفاء بالعدل الذي هو أحسن عقلا لن لزيادة الترغيب فيه والحث عليه. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العثو الفساد فيصير المعنى ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة، وجواب آخر معناه: ولا تعثوا في الأرض مفسدين بالكفر وأنتم مفسدون بنقص المكيال والميزان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فإن قيل: كيف قال: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط الإيمان فيه كون البقية خيرا لهم (وهى خير لهم) مطلقا لأن المراد ببقية الله لهم ما يبقى لهم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن، وذلك خير لهم وإن كانوا كفار لأنهم يسلمون معه من عقاب البخس والتطفيف؟ قلنا: إنما شرط الإيمان في خيرية البقية، لأن خيريتها وفائدتها مع الإيمان أظهر، وهو حصول الثواب مع النجاة من العقاب، ومع فقد الإيمان أخفى الانغماس صاحبها في عذاب الكفر الذي هو أشد العذاب، الثانى: أن المراد إن كنتم مصدقين إلى فيما أقول لكم وأنصح. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) ولم يقل ببعيدين، والقوم اسم لجماعة الرجال، وما جاء في القرآن الضمير العائد إليه إلا ضمير جماعة، قال الله تعالى: (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ) وقال: (لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) ؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: وما اهلاك قوم لوط، أو وما مكان قوم لوط، ومكان قوم لوط كان قريبا منهم، واهلاكهم أيضا كان قريبا من ذمانهم، الثانى: أن فعيلا يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الجوهرى: يقال ما أنتم منا ببعيد، وقال الله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) وقال: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) * * * فإن قيل: قولهم: (وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) كلام واقع فيه وفى رهطه، وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله: (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ) ؟ قلنا: تهاونهم به وهو نبى الله تهاون بالله، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله، ألا ترى إلى قوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) . * * * فإن قيل: قد ذكر عملهم على مكانتهم، وعمله على مكانته، ثم أتبعه بذكر عاقبة العاملين منه ومنهم، فكان المطابق والموافق في ظاهر الفهم أن يقول: من يأتيه عذاب يخزيه، ومن هو صادق حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزبه إليهم، ومن هو صادق إليه؟ قلنا: القياس ما ذكرت، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا، قال: ومن هو كاذب، يعنى في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) والقرى لا تكون ظالمة، لأن الظلم من صفات من يعقل أو من صفات الحيوان دون الجماد؟ قلنا: هو من الاسناد المجازى، والمراد به أهلها، كما قال تعالى في موضع آخر: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) لكن لما أمن اللبس أسند الظلم إلى القرية لفظا كما في قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) . * * * فإن قيل: كيف توفيق بين قوله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وقوله: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَ) وقوله: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) فإن الآية الثالثة تناقض الآية الأولى بنفى الأذن، وتناقض الآيتين جميعا بنفى النطق؟ قلنا: أما التوفيق بين الآيتين الأوليين فظاهر، لأن معناه تجادل عن نفسها بإذنه فتوافقت الآيتان، وأما الآية الثالثة فإنها لا تناقض الآية الأولى بنفى الإذن إن قلنا إن الاستثناء من النفى ليس بإثبات لأن الآية الأولى لا تقتضى وجود الإذن حينئذ بل تقتضى نفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الكلام عند انتفاء الإذن، فأما إن قلنا إن الاستثناء من النفى اثبات ناقضت الآية الثالثة الأولى، ولا تناقض الآيتين بنفى النطق، لأن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف ومواطن، ففى بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفى بعضا يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم فيه، وفى بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفى بعضها يختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم، وهذا جواب تام عن مثل هذه الآيات ويرد على هذا أن يقال قوله تعالى: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ) نفى للنطق عنهم يوم القيامة، فيقتضى انتفاؤه في جميع أجزاء ذلك الزمان، عملا بعموم النفى، كما يعم النفى جميع أجزاء المكان في قولنا: لا وجود لزيد في الدار، فاندفع الجوب بخلاف المواقف والمواطن، فيكون الجواب أن الآية الثالثة أريد بها طائفة خاصة غير الطائفتين الأوليين فلا تناقض. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وكلمة (من) للتبعيض، ومعلوم أن الناس كلهم إما شقى أو سعيد، فما معنى التبعيض هنا؟ قلنا: التبعيض هنا على حقيقته، لأن أهل القيامة ثلاثة أقسام شقى وسعيد وهم أهل النار والجنة، كما ذكر في هذه الآية مفصلا، وقسم لا شقى ولا سعيد وهم أهل الأعراف، الثانى: أن معنى الكلام فمنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 شقى ومنهم سعيد وهذا يقتضى أن يكون الشقى بعض الناس، والسعيد بعض الناس، والأمر كذلك، ولا يقتضى أن يكون الشقى والسعيد كلاهما بعض الناس، بل كل واحد منهما بعض، وكلاهما كل كما تقول: من الحيوان إنسان، ومن الحيوان غير إنسان، وكل الحيوان إما إنسان أو غير إنسان. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) وأراد به بيان دوام الخلود، لأن أهل الجنة وأهل النار مخلدون فيهما خلودا لا نهاية له. والسموات والأرض دوامهما منقطع، لأنهما يوم القيامة تنهدمان، قال الله تعالى: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) وقال: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) وقال: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) ونظائره كثيرة مما يدل على خراب السموات والأرض؟ قلنا: للعرب في معنى الأبد ألفاظ منها هذا يقولون: لا أفعل كذا ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السماء والأرض، وما أظلت الأبل، ويريدون بذلك لا أفعله أبدا مع قطع للنظر عن كون المؤقت به له نهاية أو لا نهاية له. الثانى: أنه خاطبهم على معتقدهم أن السموات والأرض لا تزول ولا تتغير، الثالث: أنه أراد به كون الفريقين في قبورهم إما منعمين أو معذبين، كما جاء في الحديث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 " إن القبر إما روضة من رياض الجنان أو حفرة من حفر النار " ومن كان في روضة من رياض الجنة فهو في الجنة، ومن كان في حفرة من حفر النار فهو في النار، فعلى هذا يكون المراد بالتأقيت بدوام السموات والأرض مدة الخلود إلى يوم ألقيامة، الرابع: أن المراد به سموات الآخرة وأرضها قال تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) وتلك دائمة لا تزول، ولا تفنى. ولأنه لابد لأهل الجنة مما يظلهم ويقلهم، إما سماء يخلقها الله تعالى أو العرش كما جاء في الأخبار أن أهل الجنة تحت ظل العرش، وكل ما أظلك فهو سماء، وجاء في الأخبار أيضا في صفة الجنة: أن ترابها زعغران، فدل على أن لها أرضا، فالمراد تلك السماء وتلك الأرض. * * * فإن قيل: إذا كان المراد بهذا التأقيت دوام الخلود دواما لا آخر له، فكيف يصح الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ؟ قلنا: قال الفراء (إلا) هنا بمعنى غير وسوى فمعناه: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما شاء الله تعالى من الخلود والزيادة، فكأنه قال: خالدين فيها قدر مدة الدنيا غير ما شاء الله تعالى من الزيادة عليها إلى غير نهاية، وهذا الوجه إنما يصح إذا كان المراد سموات الدنيا وأرضها، قال ابن قتيبة: ومثله في الكلام قولك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لأسكننك في هذه الدار حولا إلا ما شئت، تريد سوى ما شئت أن أزيدك على الحول، الثانى: أنه استثناء لا يفعله كما تقول لأهجرنك إلا أن أرى غير ذلك، وعزمك على هجرانه أبدا وهو معنى قول ابن عباس إلا ما شاء ربك، وقد شاء أن يخلدوا فيها قال الزجاج: وفائدة هذا الاسثمناء إعلامنا أنه لو شاء أن لا يخلدهم لما خلدهم، ولكنه ما شاء إلا خلودهم، الثالث: أنه استثناء لزمان البعث والحشر والوقوف للعرض والحساب، فإن الأشقياء والسعداء في ذلك الزمان كله ليسوا في النار ولا في الجنة، الرابع: أن (ما) بمعنى من والمستثنى من يدخل النار من الموحدين فيعذب بقدر ذنوبه ثم يخرج من النار ويدخل الجنة، وهذا الوجه يختص بالاستثناء من الأشقياء فقط. الخامس: أن المستثنى ذمان كون أهل الأعراف على الأعراف قبل دخولهم الجنة، وهذا الوجه يختص بالاستثناء من السعداء فقط، وأهل الأعراف من السعداء لأنهم لم يدخلوا النار ولأن مصيرهم إلى الخلود في الجنة، السادس: أنه استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة، لأن الأشقياء لا يخلدون فى عذاب النار بل يعذبون بالزمهرير وغيره من أنواع العذاب سوى النار، وكذلك السعداء لهم سوى نعيم الجنة ما هو أجل منها، وهو الزيادة التى وعدهم الله إياها بقوله تعالى: (للِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) ، وهو رضوان الله كما قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وقوله تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) فهو المراد بالاسشناء، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى بعد ذكر الأشقياء: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) وقوله تعالى بعد ذكر السعداء: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) يعنى أنه يفعل بأهل النار ما يريد من أنواع العذاب، ويعطى أهل الجنة أنواع العطاء الذي لا انقمناع له، فاختلاف المقطعين يؤكد صرف الاستثناء إلى ما ذكرنا. فتأمل كيف يفسرالقرآن بعضه بعضاً. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) بعد قوله: (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) والتوفية والإيفاء إعطاء الشيء وافيا أي تاما نقله الجوهرى وغيره، والتام لا يكون منقوصا؟ قلنا: هو من باب التوكيد. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) إشارة إلى ماذا؟ قلنا: قلنا هو إشارة إلى ما عليه الفريقان من حال الاختلاف، أهل الرحمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 للرحمة، وقد فسره ابن عباس رضى ألله عنهما فقال: خلقهم فريقين فريق رحمهم فلم يختلفوا، وفريق لم يرحمهم فاختلفوا، وقيل: هو إشارة إلى معنى الرحمة وهو الترحم وعلى هذا يكون الضمير في خلقهم للذين رحمهم فلم يختلفوا وقيل: هو إشارة إلى الاختلاف والضمير في خلقهم للمختلفين، واللام على الوجه الأول والثالث لام العاقبة والضرورة لا لام كى وهى التى تسمى لام الغرض والمقصود، لأن الخلق للاختلاف في الدين لا يليق بالحكمة، ونظير هذه اللام قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) . وقول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب. . . فكلكم يصير إلى التراب وقيل: إنها لام التمكين والاقتدار كما في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا) وقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) والتكمين والاقتدار حاصل، وإن لم يسكن بعض الناس في الليل، ولم يركب بعض هذه الدواب، ومعنى التمكين والاقتدار هنا أنه سبحانه وتعالى أقدرهم على قبول حكم الاختلاف ومكنهم منه، وقيل: اللام هنا بمعنى على، كما في قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) وقول تعالى: (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) . * * * فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ) وقوله تعالى: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) ؟ قلنا: معناه وكل نبأ نقصه عليك من أنباء الرسل، هو ما نثبت به فؤادك، فـ (ما) في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف فلا يقتضى اللفظ قص أنباء جميع الأنبياء، فلا تتناقض بين الآيتين، الثانى: أن المراد بالكل هنا كما في قوله تعالى: (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا) وقوله تعالى: (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) وقوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وقوله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (وقول لبيد) ألا كل شيء ما خلا الله باطل. . . وكل نعيم لا محالة زائل. وكثير من الأشياء غير الله تعالى حق كالنبى عليه الصلاة والسلام، والإيمان، والجنة، وغير ذلك، وكذلك نعيم الجنة والآخرة ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 بزائل، ولبيد صادق في هذا البيت لقوله عليه الصلاة والسلام أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد: ألا كل شيء ... إلخ) . * * * فإن قيل: ما فائدة تخصيص هذه السورة بقوله تعالى: (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ) مع أن الحق جاءه في كل سور القرآن؟ قلنا: قالوا: فائدة تخصيص هذه السورة بذلك زيادة تشريفها وتفضيلها مع مشاركة غيرها إياها في ذلك، كما في قوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) وقوله: (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) بعد قوله: (وَمَلَائِكَتِهِ) وقوله: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) بعد قوله: (الصَّلَوَاتِ) ووجه المشابهة بينهما أنه كما حمل قوله تعالى "وجبريل وميكال" على التشريف والتفضيل عند تعذر حمله على تعليق العداوة به لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وكذا في المثال الآخر تعذر حمله على إيجاب المحافظة لما قلنا، وهنا تعذر حمله على حقيقته، وهو الجنس أو المعهود لأن حقيقته انحصار كل حق في هذه، وهو منتف أو حمل الحق على معهود سابق وهو منتف، وحمله على بض الحق يلزم منه وصف هذه السورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بوصف مشترك بينها وبين كل السور، وأنه لا يحسن كما قالوا: وجاءك في هذه آيات أو كلام الله أو كلام معجز فجعل مجازا عن التفضيل والتشريف، وقيل: الاشارة إلى الدنيا لا إلى السورة، والجمهور على القول الأول، ولا يقال إنما خصت هذه السورة بذلك لأن فيها الأمر بالاستقامة بقوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) والاستقامة من أعلى المقامات عند العارفين لأنا نقول: الأمر بالاستقامة جاء أيضا في سورة (حم (1) عسق) قال الله تعالى: (كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) فلا يصح هذا علة للتخصيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 سورة يوسف عليه السلام * * * فإن قيل: كيف قال: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ولم يقل ثلاثة عشر كوكبا وهو أوجز وأحصر، والذى رآه كان أحد عشر كوكبا غير الشمس والقمر؟ قلنا: قصد عطفهما على الكواكب تخصيصالهما بالذكر، وتفضيلا لهما على سائر الكواكب، لما لهما من المزية والرتبة على الكل، ونظيره تأخير جبريل وميكال عن الملآئكة عليهم الصلاة والسلام ثم عطفهما عليهم إن قلنا إنهما غير مرادين بلفظ الملآئكة وكذا قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ) إن قلنا أنها غير مرادة بلفظ الصلوات. * * * فإن قيل: ما فائدة تكرار (رأيت) ؟ قلنا: قال الزمخشري: ليس ذلك تكرارا بل هو كلام مستأنف، وقع جوابا لسؤال مقدر من يعقوب عليه الصلاة والسلام كأنه قال له بعد قوله: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ، كيف رأيتهما سائلا عن حال رؤيتهما فقال مجيبا له: رأيتهم ساجدين، وقال الزجاج: إنما كرر الفعل توكيدا لما طال الكلام، كما في قوله تعالى: (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) وقوله: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) ، وقال غيره إنما كرره تفخيما للرؤية وتعظيما لها. * * * فإن قيل: كيف أجريت مجرى العقلاء في قوله: (رأيتهم) وفى قوله: (ساجدين) وأصله رأيتها ساجدة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 قلنا: لما وصفها بما هو من صفات من يعقل وهو السجود أجرى عليها حكمه، كأنها عاقلة، وهذا شائع في كلامهم أن يلبس الشيء الشيء من بعض الوجوه فيعطى حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة والمقاربة، ونظيره قوله تعالى: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا) وقوله تعالى في وصف السماء والأرض: (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) . * * * فإن قيل: كيف قالوا: (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) وكانوا عاقلين بالغين وأنبياء أيضا في قول البعض وكيف رضى يعقوب عليه الصلاة والسلام بذلك؟ قلنا: على قراءة الياء لا إشكال، لأن يوسف عليه الصلاة والسلام كان يومئذ دون البلوغ فلا يحرم عليه اللعب، وعلى قراءة النون نقول كان لعبهم المسابقة والمناضلة ليعودوا أنفسهم الشجاعة لقتال الأعداء لا للهو، وذلك جائز في الشرع، ويعضد هذا قولهم: (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ) وإنما سموه لعبا لأنه في صورة اللعب، ويرد على أصل السؤال أن يقال: كيف يتورعون عن اللعب وهم قد فعلوا ما هو أعظم من اللعب وأشد، وهو إلقاء أخيهم في الجب على قصد القتل. * * * فإن قيل: كيف اعتذر إليهم يعقوب عليه الصلاة والسلام بعذرين أحدهما قوله: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) لأنه كان لا يصبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 عنه ساعة واحدة، والثانى خوفه عليه من الذنب، فأجابوه عن أحد العذرين دون الآخر؟ قلنا: حبه إياه وايثاره له وعدم صبره على مفارقته هو الذي كان يغيظهم ويؤلمهم، فأضربوا عنه صفحا ولم يجيبوه عنه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) وهو يومئذ لم يكن بالغا، والوحى إنما يكون بعد الأربعين؟ قلنا: المراد به وحى الإلهام لا وحى الرسالة، الذي هو مخصوص بما بعد الأربعين، ونظيره قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) وقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ؟ * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) وقال في حق موسى عليه الصلاة والسلام: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) ؟ قلنا: المراد ببلوغ الأشد دون الأربعين سنة على اختلافه في مقداره، والمراد بالاستواء بلوغ الأربعين منة أو الستين، وكان إيتاء كل واحد منهما الحكم والعلم في ذلك الزمان فأخبر عنه كما وقع. * * * فإن قيل: كيف وحد الباب في قوله تعالى: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) بعد جمعه في قوله تعالى: (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 قلنا: لأن إغلاق الباب للاحتياط لا يتم إلا بإغلاق جميع أبواب الدار، سواء كانت كلها في جدار الدار أو لا، وأما هربه منها إلى الباب فلا يكون إلا إلى باب واحد إن كانت كلها في جدار الدار، لأن خرجه فى وقت هربه لا يتصور إلا من باب واحد منها. وإن كان بعض الأبواب داخل بعض فإنه أول ما يقصد الباب الأدنى لقربه، ولأن الخروج من الباب الأوسط والباب الاقصى موقوفه على الخروج من الباب الأدنى، فلذلك وحد الباب. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) ولم يكن قوله شهادة؟ قلنا: لما أدى معنى الشهادة في ثبوت قول يوسف عليه السلام، وبطلان قولها سمى شهادة، فالمراد بقوله "شهد" أعلم وبين وحكم. * * * فإن قيل: (قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) يدل على أنها كاذبة وأنها هى التى تبعته وجذبت قميصه من خلفه فقدته، فأما قده من قبل كيف يدل على أنها صادقة؟ قلنا: يدل من وجهين أحدهما أنه إما كان طالبها وهى تدفعبه عن نفسها بيدها أو برجلها فتقد قميصه من قبل بالدفع، الثانى: أنه يسرع خلفها وهى هاربة منه فيعثر في مقادم قميصه فيشقه، ويرد على الوجه الثانى أنه مشترك ألدلالة من جهة العثار الذي هو نتيجة الإسراع، لأنه يحتمل أن يكون اسراعا في الهرب منها، وهى خلفه فيعثر فيقد قميصه من قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) وإنما يقال خرجت إلى السوق وطرقت عليه الباب فخرج إلى؟ قلنا: إذا كان الخروج بقهر وغلبة أو بجمال وزينة أو بآية وأمر عظيم فإنما يعدى بعلى ومنه قولهم: خرج علينا في السفر قطاع الطريق، وقوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) وقوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) . * * * فإن قيل: كيف شبهن يوسف عليه الصلاة والسلام بالملك فقلن: (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) وهن ما رأين الملآئكة قط؟ قلنا: إن كن ما رأين الملآئكة فقد سمعن وصفها، (الثانى) : أن الله تعالى ركز في الطباع حسن الملآئكة، كما ركز فيها قبح الشياطين، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن بالملك، وكل متناه في القبح بالشيطان. * * * فإن قيل: كيف قال يوسف عليه الصلاة والسلام: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) وترك الشىء إنما يكون بعد ملابسته والكون فيه، يقال: ترك فلإن شرب الخمر وأكل الربا ونحو ذلك إذا كان فيه ثم أقلع عنه، ويوسف عليه الصلاة والسلام لم يكز على ملة الكفار قط؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 قلنا: الترك نوعان: ترك بعد الملابسة ويسمى ترك انتقال، وترك قبل الملابسة ويسمى ترك إعراض كقوله تعالى في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: (ويذرك وآلهتك) وموسى عليه الصلاة والسلام ما لابس في عبادة آلهه في وقت من الأوقات، وما نحن فيه من النوع الثانى، وسيأتى نظير هذا السؤال في سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) فسر الأمر بالنهى أو بما جزاؤه بالنهى وهما ضدان؟ قلنا فيه إضمار أمر لآخر تقديره أمر أمراً اقتضى أن لا تعبدوا إلا إياه وهو قوله تعالى: (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) فإنه باعتبار تقديم المفعول في معنى الحصر، كما في قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الثانى: أن فيه إضمار نهى تقديره أمر ونهى ثم فسرالأمرين بقوله: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الثالث: أن قوله تعالى " ألا نعبدوا " وأن كان مضاد للأمر من حيث اللفظ فهو موافق له من حيث المعنى، فلم قلتم أن تفسير الشيء بما يضاده سورة ويوافقه معنى غير جائز، بيان موافقته معنى من وجهين أحدهما أن النهى عن الشيء أمر بضده، وعبادة الله تعالى ضد عبادة غير الله تعالى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الثانى: أن معنى مجموع قوله تعالى: "ألا تعبدوا إلا إياه " اعبدوه وحده، فيكون تفسيرا للأمر المطلق بفرد من أفراده، وأنه جائز. * * * فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم الناس زهدا في الدنيا ورغبة في الآخرة، فكيف قال يوسف عليه الصلاة والسلام: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ) طلب أن يكون معتمدا على الخزائن ومتوليا لها، وهو من أكبر مناصب الدنيا؟ قلنا: إنما طلب ذلك ليتوصل به إلى امضاء أحكام الله تعالى واقامة الحق وبسط العدل ونحوه، مما يبعث له الأنبياء، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء لوجه الله تعالى وسعيا في منافع العباد ومصالحهم لا لحب الملك والدنيا، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) ، يعنى لو كنت أعلم أي وقت يكون القحط لأدخرت لزمن القحط طعاما كثيرا، لا للحرص ولكن لأتمكن من إعانة الضعفاء والفقراء وقت الضرورة والضائقة، ويحتمل أن يكون علم تعيينه لذلك العمل فكان طلبه واجبا عليه. * * * فإن قيل: كيف جاز ليوسف عليه الصلاة والسلام أن يأمر المؤذن أن يقول: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) وذلك بهتان وتسريق بالصواع لمن لم يسرقه، وتكذيب للبريء واتهام له؟ قلنا: قوله: (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) تورية عما جرى منهم مجرى السرقة وتصويرها بصورتها من فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام ما فعلوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 أولا، الثانى: أن ذلك القول كان من المؤذن بغير أمر يوسف عليه الصلاة والسلام كذا قال بعض المفسرين، الثالث: أن حكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية، التى يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية كقوله تعالى لأيوب عليه الصلاة والسلام: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ) وقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام في حق زوجته: "هى أختى" لتسلم من يد الكافر، وما أشبه ذلك. * * * فإن قيل: كيف تأسف يعقوب عليه الصلاة والسلام على يوسف دون أخيه بقوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) والرزء الأحداث أشد على النفس وأعظم أثرا؟ قلنا: إنما يكون أشد إذا تساوت المصيبتان في العظم ولم يتساويا هنا، بل فقد يوسف كان أعظم عليه وأشد من فقد أخيه، فإنما خصه بالذكر ليدل على أن الرزء فيه مع تقادم عهده ما زال غضاً طرياً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ) والحزن لا يحدث بياض العين لا طبا ولا عرفا؟ قلنا: قال ابن عباس: (من الحزن) أي من البكاء، ولأن الحزن سبب للبكاء، فأطلق عليه اسم السبب وأراد به المسبب، وكثرة البكاء قد يحدث بياضا في العين يغشى السواد، وهكذا حدث ليعقوب عليه الصلاة والسلام، وقيل: إذ كثرت الدموع محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر. * * * فإن قيل: كيف قال يعقوب عليه الصلاة والسلام: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 مع أن من المؤمنين من ييأس من روح الله أي من فرجه وتنفيسه أو من رحمته على اختلاف القولين، إما لشدة مصيبته أو لكثرة ذنوبه، كما جاء في الحديث في قصة الذي أمر أهله إذا مات أن يحرقوه، ويذروا رماده في البر والبحر، ففعلوا به ذلك ثم أن الله تعالى غفر له كما جاء مشروحاً في الحديث المشهور، وهو من الصحاح مع أنه يأس من رحمة الله تعالى، وضم إلى يأسه ذنبا آخر وهو اعتقاده أنه إذا أحرق وذرى رماده لا يقدر الله تعالى على إحيائه وتعذيبه، ومع هذا كله غفر له فدل أنه لم يمت كافرا؟ قلنا: إنما ييأس من روح الله الكافر لا المسلم عملا بظاهر الآية، وكل مؤمن يتحقق منه الأياس من روح الله فهو كافر في الحال حتى يعود إلى الإسلام بعوده إلى رجاء روح ألله، وأما الرجل المغفور له في الحديث فلا نسلم أنه لم يكفر ثم أن الله تعالى لما أحياه في الدنيا عاد إلى الإسلام بعوده إلى رجاء روح الله تعالى، فلذلك غفر له أو يكون قد عاد إلى رجاء روح الله تعالى قبل موتته الأولى ولم يتسع له الزمان أن يرجع عن وصيته التى أوصى أهله بها فمات مسلما فلذلك غفر له. * * * فإن قيل: كيف ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام نعمة الله تعالى عليه في إخراجه من السجن فقال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يذكر نعمته عليه فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 إخراجه) من الجب وهو أعظم نعمة، لأن وقوعه في الجب كان أعظم خطراً؟ قلنا: إنما ذكر هذه النعمة دون تلك النعمة لوجوه، إحداها: أن منحة السجن ومصيبته كانت أعظم لطول مدتها، فإنه لبث فيه بضع سننين. وما لبث في الجب إلا مدة يسيرة، الثانى: أنه إنما لم يذكر الجب كيلا يكون في ذكره توبيخ وتقريع لأخوته بعد قوله لهم: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) ، الثالث: أن إخراجه من السجن كان مقدمة لملكه وعزه، فلذلك ذكره، وخروجه من الجب كان مقدمة الذل والرق والأسر فلذلك لم يذكره. الرابع: أن مصيبة السجن كانت أعظم عنده لمصاحبته الأوباش والأرذال وأعداء الدين، بخلاف مصيبة الجب فإنه كان مؤنسه فيه جبريل وغيره من الملآئكة عليهم الصلاة والسلام. * * * فإن قيل: كيف قال يوسف عليه الصلاة والسلام: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا) وهو يعلم أن كل نبى لا يموت إلا مسلما؟ قلنا: يجوز أن يكون قد دعا بذلك في حال غلبة الخوف عليه غلبة أذهلته عن ذلك العلم في تلك الساعة، الثانى: أنه دعا بذلك حال علمه إظهاراً للعبودية والافتقار وشدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة وتعليماً للأمة. * * * فإن قيل: كيف يجتمع الإيمان والشرك، وهما ضدان حتى قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 قلنا: معناه وما يومن أكثرهم بأن الله خالقه ورازقه وخالق السموات والأرض قولا إلا وهو مشرك بعبادة الأصنام فعلا، الثانى: أن المراد بها المنافقون يؤمنون بألسنتهم قولا ويشركون بقلوبهم اعتقاداً. الثالث: أن المراد بها تلبية العرب، كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فكانوا يؤمنون بأول تلبيتهم بنفى الشريك، ويشركون بآخرها بإثباته. * * * فإن قيل: هذه التلبية توحيد كلها ولا شريك فيها، لأن معنى قولهم: إلا شريكاً هو لك، إلا شريكاً هو مملوك لك، موصوفاً بأنك تملكه وتملك ما ملك؟ قلنا: اللام هنا للملك لا لعلاقة الشركة، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون حقيقيا، ويحتمل أن يكون مجازياً بيان الأول، أما إن قلنا إن اللام حقيقة في المعنى العام في مواردها وهو الاختصاص يكون قولهم: (لا شريك لك) عاماً في نفى كل شريك مضاف إلى الله تعالى بجهة اختصاص ما فيدخل في النفى من جهة اللفظ (الشريك) المضاف لجهة المملوكية، وهو شريك زيد وعمرو ونحوهما، ثم يقع عليه الاستثناء فيكون استثناء، وإن قلنا: أنها مشتركة بين المعانى الثلاثة الموجودة في موارد استعمالها وهى الملك والاستحقاق، ويقال: الاختصاص والغلبة، فقولهم: (لا شريك لك) يكون عاماً أيضاً عند من يجوز حمل المشترك على مفهوميه في حالة واحدة، فيكون الاستثناء أيضاً حقيقياً كما مر، وأما على قول من لا يجوز ذلك يكون النفى وارداً على أحد مفهوماته، وهو علاقة الشركة، فيكون الاستثناء بعده مجازياً من باب تأكيد المدح بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 يشبه الذم، وهو نوع من أنواع البلاغة مذكور في علم البيان، وشاهده قول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم. . . بين فلول من قراع لكتايب. معناه إن كان (هذا) عيباً ففيهم عيب، وهذا ليس بعيب فلا يكون فيهم عيب، فكذا هنا، فلا يكون لك شريك لأن كل ما يدعى أنه شريك لك فهو مملوك لك، وهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... الآية) . * * * فإن قيل: على الوجه الأول أنه ليس بصحيح، لأنا لو جعلنا اللام حقيقه في المعنى العام وهو الاختصاص يلزم منه الكفر حيث وجد نفى الشريك، من غير استثناء، لأنه يلزم منه نفى ملكه تعالى شريك زيد وعمرو ونحوهما، وهو كفر، واللازم منتف لأنه إيمان محض بلا خلاف ؟ قلنا: إنما لم يكن كفراً مع عمومه لأن حقيقته العرفية عند عدم الاستثناء نفى كل شريك مناف إلى الله سبحانه وتعالى بعلاقة الشركة، لا نفى كل شريك مضاف إليه بجهة ما، فصارت الحقيقة اللغوية مهجورة بالحقيقة العرفية عند عدم الاستثناء، والجواب عن أصل السؤال أنه سؤال حسن محقق، وأن هذه التلبية توحيد محض على التقديرين، فإن صح النقل أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عنها فإنما نهى عنها لإنها توهم إثبات الشريك بمقتضى الاستثناء عند قاصرى النظر، وهم عموم الناس، فلهذه المفسدة نهى عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 سورة الرعد * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) ولم يقل ومن هو سارب بالنهار، ليتناول معنى الاستواء المتخفى والسارب، والا فقد تناول واحداً هو مستخف وسارب أي ظاهر، وليتناسب لفظ الجملة الأولى والثانية، فإنه قال في الجملة الأولى: (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) ؟ قلنا: قوله تعالى: "وسارب " معطوف على "من " لا على (مستخف) فيتناول معنى الاستواء اثنين، الثانى: أنه وإن كان معطوفا على "مستخف" إلا أن (من) هنا في معنى التثنية كقوله: تكن مثل من يا ذنب يصطلحان فكأنه سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) أي في ضياع وبطلان، والكفار يدعون الله تعالى في أوقات الشائد والأهوال ومشارفتهم الغرق في البحر فيستجيب لهم؟ قلنا: المراد وما عبادة الكافرين الأصنام إلا في ضلال، ويعضده قوله تعالى قبله: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي يعبدون. * * * فإن قيل: كيف طابق قولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 قلنا: هو كلام جرى مجرى التعجب من قولهم، لأن الأيات الباهرة المتكاثرة التى أوتيها رسول الله لم يؤتها نبى من قبله، وكفى بالقرآن وحده آية، وراء كل آية، فإذا جحدوا آياته ولم يعتدوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط كان موضعا للتعجب، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم. * * * فإن قيل: كيف المطابقة بين قوله تعالى: (مَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) وقوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) ؟ قلنا: فيه محذوف تقديره: أفمن هو رقيب على كل نفس صالحة وطالحة يعلم ما كسبت من خير وشر، ويعد لكل جزاء كمن ليس كذلك، وهو الضم ثم ابتدأ فقال "وجعلوا لله شركاء " أو تقديره أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا لله شركاء، أو تقديره: أفمن هو بهذه الصفة يغفل عن أهل مكة وأقوالهم وأفعالهم وجعلوا لله شركاء. * * * فإن قيل: كيف أتصل قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ) بما قبله وهو قوله تعالى: (وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) ؟ قلنا: هو جواب للمنكرين معناه قل أنما أمرت فيما أنزل إلى بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 أعبد الله ولا أشرك به، فإنكاركم لبعضه إنكار لعبادة الله تعالى وتوحيده، كذا أجاب الزمخشري وفيه نظر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أثبت لهم مكرا ثم نفاه بقوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا) ؟ قلنا: معناه أن مكر الماكرين مخلوق له ولا تضر إلا بإرادته، فبهذه الجهة صحت إضافة مكرهم إليه، الثانى: أنه جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره، لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون، وهم في غفلة عما يراد بهم فيعكس مكرهم عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 سورة إبراهيم عليه السلام * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) هذا في حق غير النبى عليه الصلاة والسلام من الرسل مناسب لأن غيره لم يبعث إلى الناس كافة بلى إلى قومه فقط، فأرسل بلسانهم ليفقهوا عنه الرسالة، ولا يبقى لهم حجة بأنا لم نفهم رسالتك، فأما النبى عليه الصلاة والسلام فإنه بعث إلى الناس كافة: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) فإرساله بلسان قومه إن كان لقطع حجة العرب، فالحجة باقية لغيرهم من أهل الألسن الباقية، وإن لم يكن لغير العرب حجة فلو نزل القرآن بلسان غير العرب لم يكن للعرب حجة؟ قلنا: نزله على النبى صلى الله عليه وسلم بلسان واحد كاف، لأن الترجمة لأهل بقية الألسن تغنى عن نزوله بجميع الألسن، ويكفى التطويل كما جرى في القرآن العزيز، الثانى: أن نزوله بلسان واحد أبعد عن التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والخلاف، الثالث: أنه لو نزل بألسنة كل الناس، وكان معجزا في كل واحد منها، وكلم الرسول العربى كل أمة بلسانها كما كلم أمته التى هو منها لكان ذلك قريباً من القسر والالجاء، وبعثة الرسل لم تبن على قسر والجاء بل على التمكين من الاختيار، فلما كان نزوله بلسان واحد كافيا كان أولى الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم أقرب إليه وأفهم عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فإن قيل: كيف قال تعالى في سورة البقرة: (يذبحون) وفى سورة الأعراف (يقتلون) بغير واو فيهما، وقال هنا: (ويذبحون) بالواو والقصة واحدة؟ قلنا: حيث حذف الواو جعل التذبيح والتقتيل تفسيراً للعذاب وبيانا له، وحيث أثبتها جعل التذبيح كأنه جنس آخر غير العذب، لأنه أوفى على بقية أنواعه، وزاد عليها زيادة ظاهرة، فعلى هذا يكون إثبات الواو أبلغ. * * * فإن قيل: ما معنى التبعيض في قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ؟ قلنا: ما جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله تعالى في سورة نوح: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وقوله تعالى في سورة الأحقاف: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وقال تعالى في خطاب المؤمنين في سورة الصف: (اأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ ... إلى قوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وقال في آخر سورة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وكذا باقى الايات في خطاب الفريقين إذا تتبعتها، وما ذلك إلا للتفرقة بين الخطابين لئلا يسوى بين الفريقين في الوعد، مع اختلاف رتبتهما، لا لأنه يغفر للكفار مع بقائهم على الكفر بعض ذنوبهم، والذى يؤيد ما ذكرناه من العلة أنه في سورة نوح عليه الصلاة والسلام، وفى سورة الأحقاف وعدهم مغفرة بعض الذنوب بشرط الإيمان (لا مطلقاً) وقيل: معنى التبعيض أنه يغفر لهم ما بينهم وبينه، لا ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها، وقيل: من زائدة. * * * فإن قيل: كيف كرر تعالى الأمر بالتوكل وكيف قال أولا: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وقال ثانيا: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ؟ قلنا: الأمر الأول لاستحداث التوكل، والثانى: لتثبيت المتوكلين على ما استحدثوا من توكلهم فلهذا كرره، وقالى أولاً المؤمنون، وثانيا المتوكلون. * * * فإن قيل: كيف قالوا لرسلهم: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) والرسل لم يكونوا على ملة الكفار قط، والعود هو الرجوع إلى ما كان فيه الإنسان؟ قلنا: العود في كلام العرب يستعمل كثيراً بمعنى الصيرورة، يقولون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 عاد فلان لا يكلمنى، وعاد لفلان ماله وأشباه ذلك، ومنه قوله تعالى: (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) . الثانى: أنهم خاطبوا الرسل بذلك بناء على زعمهم الفاسد، واعتقادهم أن الرسل كانوا أولا على ملل قومهم ثم انتقلوا عنها، الثالث: أنهم خاطبوا كل رسول ومن آمن به فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد، ونظير هذا السؤال ما سبق في سورة الأعراف من قوله تعالى: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) وفى سورة يوسف عليه الصلاة والسلام من قوله: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ ... الآية) . * * * فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَ هَدَيْنَاكُمْ) ؟ قلنا: لما كان قول الصعفاء توبيخا وتقريعا وعتاباً للذين استكبروا على استتباعهم إياهم واستغوائهم أحالوا الذنب على الله تعالى في ضلالهم وإضلالهم، كما قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا) وقوله: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) يقولون ذلك في الآخرة، كما كانوا يقولونه في الدنيا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 كما حكى الله تعالى عن المنافقين: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ... الآية) ، وقيل معني جوابهم لو هدانا الله في الآخرة طريق النجاة من العذب لهديناكم أي لأغنينا عنكم، وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة في الدنيا. * * * فإن قيل: كيف اتصل وارتبط قولهم: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا) بما قبله؟ قلنا: اتصاله به من حيث إن عتاب الضعفاء للذين استكبروا كان جزعا مما هم فيه، وقلقا من ألم العذاب، فقال لهم رؤساؤهم: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) يريدون أنفسهم وإياهم لاجتماعهم في عقاب الضلالة التى كانوا مجتمعين عليها في الدنيا، كأنهم قالوا للضعفاء ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة فيه كما لا فائدة في الصبر، فإن الأمر أطم من ذلك وأعم. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) عبر عنه بلفظ الماضي، وذلك القول من الشيطان لم يقع بعد، وإنما هو مترقب منتظر يقوله يوم القيامة؟ قلنا: يجوز وضع المضارع موضع الماضي، ووضع الماضي موضع المضارع إذا أمن اللبس، قال الله تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 أى ما تلت، وقال تعالى: (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقال الحطيئة: شهد الخطيئة يوم يلقى ربه. . . أن الوليد أحق بالعذر فقوله: "على ملك سليمان " نفى اللبس، وكذا قوله تعالى: "من قبل "، وقول الحطيئة: يوم يلقى ربه، وقوله تعالى: "لماقضى الأمر" لأن قضاء الأمر إنما يكون يوم القيامة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) وقد رأينا كثيراً من الظالمين هداهم الله بالإسلام وبالتوبة، وصاروا من الأتقياء؟ قلنا: معناه أنه لا يهديهم ما داموا مصرين على الكفر والظلم، معرضين عن النظر والاستدلال، الثانى: أن المراد منه الظالم الذي سبق له القضاء في الأزل أنه يموت على الظلم، فالله تعالى يثبته على الضلالة بخذلانه، كما يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت وهو كلمة التوحيد، الثالث: أن معناه (أنه) يضل المشركين عن طريق الجنة يوم القيامة. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) والضلال والاضلال لم يكن غرضهم في اتخاذ الأنداد وهى الأصنام وإنما عبدوها لتقربهم إلى الله تعالى، كما حكى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 تعالى عنهم ذلك بقوله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ؟ قلنا: وقد شرحنا ذلك في سورة يونس عليه الصلاة والسلام، إذ قلنا هذه لام العاقبة والصيرورة، لا لام الغرض، والمقصود كما في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) وقول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب ........ وقال الآخر: فللموت تغدوا الوالدات سخالها. . . كما لخراب الدهر تبنى المساكن. والمعنى فيه أنه لما أفضى لهم اتخاذ الأنداد إلى الضلال أو الاضلال صار كأنهم اتخذوها لذلك، وكذا الألتقاط والولادة والبناء، ونظائره كثيرة في القرآن العزيز وفى كلام العرب. * * * فإن قيل: كيف طابق الأمر بإقامة الصلاة وإنفاق المال وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟ قلنا: معناه قل لهم يقدمون من الصلاة والصدقة متجراً يجدون ربحه يوم لا تنفعهم متاجر الدنيا من المعاوضات والصدقات التى يجلبونها بالهدايا والتحف لتحصيل المنافع الدنيوية فجاءت المطابقة. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ) أى لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 صداقة، وفى يوم القيامة خلال لقوله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) ولقوله عليه الصلاة والسلام: " المرء مع من أحب"؟ قلنا: معناه لا خلال فيه لمن لم يقم الصلاة ولم يؤد الزكاة، فأما المقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة فهم الأتقياء، وبينهم الخلال يوم القيامة لما تلونا من الآية. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) والمسخر للإنسان هو الذي يكون في طاعته يصرفه كيف يشاء في أمره ونهيه كالدابة والعبد والفلك، كما قال الله تعالى: (وَتَقُولُوا سُبْحَ انَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا) وقال تعالى: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) وقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) ويقال فلان مسخر لفلان إذا كان مطيعا له ممتثلاً لأوامره ونواهيه؟ قلنا: لما كان طلوعهما وغروبهما وتعاقب الليل والنهار لمنافعنا متصلا مستمراً اتصالا لا تنقطع علينا فيه المنفعة وتنخرم سواء شاءت هذه المخلوقات أم أبت، أشبهت المسخر المقهور في الدنيا كالعبد والفلك ونحوهما، الثانى: أن معناه أنها مسخرة لله تعالى لأجلنا ولمنافعنا، فأضافة التسخير إلينا بمعنى عود نفع التسخير إلينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فصحت الإضافتان. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) والله تعالى لم يعطنا كل ما سألناه ولا بعضا من كل فرد مما سألناه؟ قلنا: معناه وأتاكم بعضاً من جميع ما سألتموه، لا من كل فرد فرد. * * * فإن قيل: لا يصح هذا المحمل لوجهين: أحدهما: أنه لا يحسن الامتنان به، الثانى: أنه لا يناسبه قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) ؟ قلنا: إذا كان البعض الذي أعطانا هو الأكثر من جميع ما سألناه وهو الأصلح والأنفع لنا في معاشنا ومعادنا بالنسبة إلى البعض الذي منعه عنا لمصالحتنا أيضا، لم لا يحسن الامتنان به ويكون مناسباً لما بعده، وجواب آخر عن أصل السؤال أنه يجوز أن يكون قد أعطى جميع السائلين بعضاً من كل فرد مما سأله جميعهم وبهذا المقدار يصح الإخبار في الآية، وأن يعط كل واحد من السائلين بعضا من كل فرد مما سأله، ويضاح ذلك أن يكون قد أعطى هذا شيئاً مما سأله ذاك، وأعطى ذاك شيئاً مما سأله هذا على ما أقتضته الحكمة والمصلحة في حقهما، كما أعطى النبى صلى الله عليه وسلم الرؤية ليلة المعراج، وهى سؤل موسى عليه الصلاة والسلام وما أشبه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) والإحصاء والعدد بمعنى واحد كذا نقله الجوهرى، فيكون المعنى وأن تعدوا نعمة الله لا تعدوها، وأنه متناقض كقولك: وأن تر زيداً لا تبصره، وإذ الرؤية والأبصار واحد؟ قلنا: بعض المفسرين فسر الاحصاء بالحصر، فإن صح ذلك لغة اندفع السؤال، ويزيد ذلك قول الزمخشري: لا تحصوها أي لا تحصروها ولا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها، وعلى القول الأول فيه إضمار تقديره: وإن تريدوا عد نعمة الله لا تعدوها. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: "لا تحصوها" وهو يوهم أن نعمة الله تعالى علينا غير متناهية وكل نعمة (ممتن) بها علينا فهى مخلوقة وكل مخلوق متناه؟ قلنا: لا نسلم أنه يوهم أنها لا تتناهى، وذلك لأن المفهوم منه منحصر في أنا لا نطيق عدهما أو حصر عددها، ويجوز أن يكون الشيء متناهيا في نفسه، والإنسان لا يطيق عدده كرمل القفار، وقطر البحار، وورق الأشجار، وما أشبه ذلك. * * * فإن قيل: كيف قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) وعبادة الأصنام كفر، والأنبياء معصومون عن الكفر بإجماع الأمة، فكيف حسن منه هذا السؤال؟ قلنا: إنما سأل هذا السؤال في حالة خوف أذهله عن ذلك العلم، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعلم الناس بالله، فيكونون أخوفهم منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فيكون معذوراً بسبب ذلك. وقيل: إن في حكمة الله تعالى وعلمه أن لا يبتلى نبياً من الأنبياء بالكفر، بشرط أن يكون متضرعاً إلى ربه طالبا منه ذلك، فأجرى على لسانه هذا السؤال لتحقيق شرط العصمة. * * * فإن قيل: كيف قال: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) جعل الأصنام مضلة، والمضل ضال، وقال في موضع آخر: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) ونظائره كثيرة فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا: إضافة الاضلال إليها مجاز بطريق المشابهة، ووجهه أنهم لما ضلوا بسببها فكأنها أضلتهم، كما يقال: فتنتهم الدنيا وأغرتهم أي أفتتنوا بسببها وأغتروا، ومثله قولهم دواء مسهل، وسيف قاطع. وطعام مشبع وماء مرو، وما أشبه ذلك، معناه حصول هذه الآثار بسبب هذه الأشياء، وفاعل الآثار هو الله تعالى. * * * فإن قيل: كيف قال: (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) ولم يقل أفئدة الناس، وقوله قلوب الناس أظهر استعمالا من قوله: قلوبا من الناس؟ قلنا: قال ابن عباس رضى الله عنهما: لو قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعائه أفئدة الناس لحجت جميع الملل وازدحمت عليه الناس حتى لم يبق لمؤمين فيه موضع، مع أن حج غير الموحدين لا يفيد، والأفئدة هنا القلوب في قول الأكثرين، وقيل: الجماعة من الناس. * * * فإن قيل: إذا كان الله تعالى قد ضمن رزق العباد، فلم سأل إبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 عليه الصلاة والسلام الرزق لذريته فقال: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ) ؟ قلنا: الله تعالى ضمن الرزق والقوت الذي لابد للإنسان منه، ما دام حياً ولكن لم يضن كونه ثمراً أو حباً أو نوعاً معيناً، فالسؤال كان لطلب الثمر عيناً. * * * فإن قيل قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) شكر على نعمة الولد فكيف يناسب قوله بعده: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) ؟ قلنا: لما كان قد دعا ربه لطلب الولد بقوله: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) ناسب قوله بعد الشكر: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي لمجيبه، من قولهم: سمع الملك كلام فلان إذا أجابه وقبله، ومنه قولهم في الصلاة: سمع الله لمن حمده، أي أجابة وإثابة. * * * فإن قيل: كيف قال: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) استغفر لوالدية، وكانا كافرين والاستغفار للكافرين لا يجوز، ولا يقال أن هذا موضع الاستثناء المذكور في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ ... الآية) لأن المراد بذلك استغفار لأبيه خاصة بقوله: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) والموعدة التى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وعدها إياه كانت له خاصة بقوله: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ولهذا قال الله تعالى: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) ؟ قلنا: هذا الاستغفار لهما (كان) مشروطاً بإيمانهما تقديراً كأنه قال ولوالدى إن آمنا، الثانى: أراد بهما آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام، وقرأ ابن مسعود وأبى والنخعى والزهرى "ولولدى" (يعنى) اسماعيل واسحاق، ويعضد هذه القراءة ما سبق ذكرهما. ولا اشكال على هذه القراءة، وقيل: إن هذا الدعاء على القراءة المشهورة كان زلة من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإليها أشار بقوله: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) . * * * فإن قيل: الله تعالى منزه ومتعال عن السهو والغفلة، والنبى عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بصفات جلاله وكماله، فكيف يحسبه النبى عليه الصلاة والسلام غافلا حتى نهاه عن ذلك بقوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) ؟ قلنا: يجوز أن يكون هذا نهيا لغير النبى عليه الصلاة والسلام ممن يجوز أن يسحبه غافلا لجهله بصفاته، وقوله تعالى بعده: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) لا يدل قطعا على أن الخطاب الأول للنبى عليه الصلاة والسلام، لجواز أن يكون ذلك النهى لغيره مع أن هذا الأمر له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الثانى: أنه مجاز معناه: ولا تحسبن الله مهمل الظالمين، وتاركهم سدى لكون هذا من لوازم الغفلة عنهم، الثالث: أن النهى وإن كان حقيقة والخطاب للنبى عليه الصلاة والسلام فالمراد به دوامه وثباته على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلا كقوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وقوله تعالى: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ونظير هذا النهى من الأمر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وقول بعض المفسرين إن معنى الآية يا أيها الذين آمنوا بموسى أو بعيسى آمنوا بمحمد لا يخرج الآية عن كونها نظيرا، لأن الاستدلال بالإيمان بألله باق فتأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 سورة الحجر * * * فإن قيل: كيف قالوا: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) اعترفوا بنبوته لأن الذكر هو القرآن المنزل عليه، ثم وصفوه بالجنون؟ قلنا: إنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية لا تصديقا ولا اعترافا، كما قال فرعرن لقومه: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) وكما قال قوم شعيب له: (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) . ونظائره كثيرة، الثانى: أن فيه إضمار تقديره: يا أيها الذي يدعى أنه نزل عليه الذكر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) والوارث هو الذي يتجدد له الملك، بعد فناء المورث، والله تعالى إذا مات الخلائق لم يتجدد له ملك لأنه لم يزل مالكا للعالم بجميع ما فيه ومن فيه؟ قلنا: الوارث في اللغة عبارة عن الباقى بعد فناء غيره، سواء تجدد له بعده ملك أو لا، ولهذا يصح أن يقال لمن أخبر أن زيدا مات وترك ورثة، هل ترك لهم مالاً أو لا؟ فيكون معنى الآية: ونحن الباقون بعد فناء الخلائق، الثانى: أن الخلائق لما كانوا يعتقدون أنهم مالكون، وبسمون بذلك أيضاً مجازاً أو خلافة عن الله تعالى كالعبد المأذون والمكاتب أو يدل عليه قوله تعالى: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فإذا مات الخلائق كلهم سلمت الأملاك كلها لله تعالى عن ذلك القدر من التعلق، فبهذا إلاعتبار كانت الوراثة، ونظير هذا قوله تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) والملك له أزلا وأبد. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) دل على الشمول والإحاطة وأفاد التوكيد فما فائدة قوله تعالى: "أجمعون "؟ قلنا: قال سيبويه والخليل هو توكيد بعد توكيد، فيفيد ذيادة تمكين المعنى وتقريره في الذهن، فلا يكون تحصيل الحاصل، بل تكون نسبة "أجمعون" إلى "كلهم" كنسبة "كلهم" إلى أصل الجملة، وقال المبرد: قوله تعالى: "أجمعون " يدل على اجتماعهم في زمان السجود، و"كلهم" يدل على وجود السجود من الكل، فكأنه قال فسجد الملآئكة كلهم معا في زمان واحد، واختار ابن الأنبارى هذا القول، واختار الزججاج وأحد الأئمة قول سيبويه، وقالوا: لو كان الأمر كما زعم المبرد لكان "أجمعون " حالاً لوجود حد الحال فيه. وليس بحال لأنه مرفوع، ولأنه معرفة كسائر ألفاظ التأكيد. * * * فإن قيل: ما وجه ارتباط قوله تعالى: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) بما قبله من قوله تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي ... الآيتان) ؟ قلنا: لما أنزل الله تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي ... الآيتان) ولم يعين أهل المغفرة، وأهل العذاب، غلب الخوف على الصحابة رضى الله عنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 فأنزل الله تعالى بعد ذلك قصة ضيف إبراهيم عليه الصلاة والسلام (ليزول خوف الصحابة، وتسكن قلوبهم، فإن ضيف إبراهيم) جاءوا ببشارة للولى وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وعقوبة للعدو وهم قوم لوط عليه الصلاة والسلام، فكذلك تنزيل الآيتين المقدمتين على الولى والعدو لا على الولى وحده، الثانى: أن وجه الارتباط أن العبد وإن كان كثير الذنوب والخطايا غير طامع في المغفرة، لا يبعد أن يغفر الله تعالى له على يأسه، كما رزق إبراهيم الولد على يأسه بعد ما شاخ وبلغ مائة سنة أو قريباً منها. * * * فإن قيل: كيف قالت الملائكة: (قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) أي قضينا، والقضاء لله تعالى لا لهم؟ قلنا: هو مجاز كما يقول خواص الملك دبرنا كذا أو أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، ويكون الفاعل لجميع ذلك هو الملك لا هم، وإنما يظهرون بذلك مزيد قربهم واختصاصهم بالملك. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) وأصحاب الحجر قوم صالح، والحجر اسم واديهم أو مدينتهم على اختلاف القولين، وقوم صالح لم يرسل إليهم غير صالح فكيف يكذبونهم؟ قلنا: من كذب رسولاً واحدا فكأنما كذب الكل لأن كل الرسل متفقون في دعوة الناس إلى توحيد الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقال في سورة الرحمن: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) ؟ قلنا: الجواب عنه من وجهين: أحدهما قد ذكرناه في مثل هذا السؤال في سورة هود، الثانى: أن المراد هنا أنهم يسألون سؤال توبيخ وهو سؤال لم فعلتم؟ والمراد ثم إنهم لا يسألون سؤال استعلام واستخبار وهو سؤال هل فعلتم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 سورة النحل * * * فإن قيل: لم قدمت الاراحة وهى مدخرة في الواقع على الروح وهو مقدم في الواقع في قوله تعالى: (حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) ؟ قلنا: لأن الأنعام في وقت الاراحة وهى وردها عشيا إلى المراح تكون أجمل وأحسن، لأنها تقبل ملأى البطون حاملة الضروع متهادية فى مشيها يتبع بعضها بعضاً، بخلاف وقت السرح وهو إخراجها إلى المراعى، فإن كل هذه الأمور تكون على ضد ذلك. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) إن أريد به لم تكونوا بالغيه عليها إلا بشق الأنفس، فلا امتنان فيه وإن أريد لم تكونوا بالغيه بدونها إلا بشق الأنفس، فهم لا يبلغون عليها أيضا إلا بشق الأنفس، وهو مشقتها فما فائدة ذلك؟ قلنا: معناه وتحمل أثقالكم إلى أجسامكم وأمتعتكم معكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بدونها بأنفسكم من غير أمتعتكم إلا بجهد ومشقة، فكيف لو حملتم أمتعتكم على ظهوركم؟ والمراد بالمشقة: المشقة التى تنشأ من المشي، أو من المشي من الحمل على الظهر لا مطلق مشقة السفر، وهذا مخصوص بحال فقد الإبل، فظهر فائدة ذلك. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) بقتضى حرمة أكل لحم الخيل، كما اقتضاها في البغال والحمير، من حيث إنه لم ينص على منفعة أخرى فيها غير الركوب والزينة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ومن حيث إن التعليل بعلة تقتضى الانحصار فيها، كقولك: فعلت هذا لكذا، فإنه يناقضه أن تكون فعلته لغيره أو له مع غيره إلا إذا كان أحدهما جهة من الآخر؟ قلنا: ينتقض بالحمل عليها والحراثه بها، فإن ذلك مباح مع أنه لم ينص عليه. * * * فإن قيل: إنما ثبت ذلك بالقياس على الأنعام، فإنه منصوص عليه فيها بقوله تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) والمراد به كل منفعة معهودة منها عرفاً لا كل منفعة، فثبت مثل ذلك في الخيل والبغال والحمير؟ قلنا: لو كان ثبوته فيها بالقياس على ثبوته في الأنعام لثبت حل الاكل في الخيل بالقياس على ثبوته في الأنعام، لما ثبت، لأنه لو ثبت في الخيل لثبت في البغال والحمير كما ثبت الحمل والحراثة ثبوتاً شاملا للكل بالقياس على ثبوته في الأنعام، الجواب على الجهة الثانية في الأصل السؤال، أن هذه ليست لام التعليل بل لام التمكين كقوله تعالى: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ومع هذا يجوز في الليل غير السكون. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف السماء: (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) ولم يقل كل الثمرات مع أن كل الثمرات تنبت بماء السماء؟ قلنا: كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما ينبت في الدنيا بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 منها نموذجا وتذكرة، فالتبعيض بهذا الاعتبار، فيكون المراد بالثمرات ما هو أعم من ثمرات الدنيا، ومن يجوز (زيادة) (من) في الآيات يحتمل أن يجعلها زائدة هنا. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) المراد بمن لا يخلق الأصنام بدليل قوله تعالى بعده: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) فكيف جيء بمن المختصة بأولى العلم والعقل؟ قلنا: خاطبهم على معتقدهم، لأنهم سموها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى أولى العلم، ونظير هذا قوله تعالى في الأصنام أيضا: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ... الآية) أجرى عليهم ضمير أولى العلم والعقل لما قلنا، ويرد على هذا الجواب أن يقال: إذا كان معتقدهم خطأ وباطلا فالحكمة تقتضى أن ينزعوا عنه ويقلعوا لا أن يبقوا عليه ويقروا في خطابهم على معتقدهم إيهام لهم أن معتقم حق وصواب، وجوابه أن الغرض من الخطاب الافهام، ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم ومفهومهم فقال: أفمن يخلق كما لا يخلق، لاعتقدوا أن المراد بالثانى غير الأصنام من الجماد، الثانى: قال ابن الأنبارى: إنما جاز ذلك لأنها ذكرت مع العالم فغلب عليها حكمه في اقتضاء (من) كما غلب على الدواب في قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ... الآية) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وكما في قول العرب: اشتبه على الركب. وجمله فما أدري من ذا ومن ذا. * * * فإن قيل: هذا إلزام للذين عبدوا الأصنام، وسموها آلهة تشبيها بالله فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فظاهر الإلزام يقتضى أن يقال لهم: إفمن لا يخلق كمن يخلق؟ قلنا: لما سووا بين الأصنام وخالقها سبحانه وتعالى في تسميتها باسمه، وعبادتها كعبادته، فقد سووا بين خالقها وبينها قطعا فصح الإنكار بتقديم أيهما كان. وإنما قدم في الإنكار عليهم ذكر الخالق. أما لأنه أشرف، أو لأنه هو المقصود الأصلي من هذا الكلام (تنزيها له) وتكريما واجلالا وتعظيما. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى في وصف الأصنام (غير أحياء) بعد قوله تعالى: (اموات) ؟ قلنا: فائدته أنها أموات لا يعقب موتها حياة كالنطف والبيض والأجساد الميتة وذلك أبلغ في موتها، كأنه قال أموات في الحال غير أحياء في المآل، الثانى: أنه ليس وصفا لها بل لعبادها، معناه: وعبادها غير أحياء القلوب، الثالث: أنه إنما قال غير أحياء ليعلم أنه أراد أموات في الحال، لا أنها ستموت كما في قوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) * * * فإن قيل: كيف عاب الأصنام أو عبادها بأنهم لا يعلمون وقت البعث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 فقال تعالى: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) والمؤمنون الموحدون كذلك؟ قلنا: معناه وما تشعر الأصنام متى يبعث عبادها، فكيف تكون آلهة مع الجهل؟ أو معناه وما يشعر عبادها وقت بعثهم لا مفصلا ولا مجملا لأنهم ينكرون البعث، بخلاف الموحدين فإنهم يشعرون وقت بعثهم مجملا أنه يوم القيامة وأن لم يشعروه مفصلا. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) كيف يعترفون بأنه من عند الله تعالى بالسؤال المعاد في ضمن الجواب، ثم يقولون: هو أساطير الأولين؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال، وجوابه في سورة الحجر في قوله تعالى: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقال فى موضع آخر: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) قلنا: معناه ومن أوزار اضلال الذين يضلونهم، فيكون عليهم وزر كفرهم مباشرة، ووزر كفر من أضلوا تسببا فقوله تعالى: (أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 يعنى أوزار الذنوب التى باشروها، وأما قوله تعالى: " وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى " معناه وزر لا مدخل لها فيه، ولا تعلق له بها مباشرة ولا تسببا، ونظير هاتين الآيتان الأخريان في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) إلى قوله تعالى: (وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) وجوابهما مثل جواب هاتين الآيتين. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ ... الآية) يدل على أن المعدوم شيء، ويدل على أن خطاب المعدوم جائز، والأول منتف عند أكثر العلماء، والثانى منتف بالإجماع؟ قلنا: أما تسميته شيئاً فمجاز باعتبار ما يؤول إليه، ونظيره قوله تعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وقوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وأما الثانى فإن هذا الخطاب للتكوين يظهر به أثر المقدرة، فيمتنع أن يكون المخاطب به موجودا قبل الخطاب، لأنه يكون بالخطاب، فلا يسبقه بخلاف خطاب الأمر والنهى. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ) كيف لم يغلب العقلاء من الدواب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 غيرهم، كما في قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ... الآية) بل أولى، لأنه وصف ما لا يعقل بخصوصه بلفظ (من) وهو الحية والأنعام، وهنا لو قال من في السموات ومن في الأرض لا يلزم وصف ما لا يعقل بخصوصه وتعيينه بلفظ من بل المجموع؟ قلنا: لأنه أراد عموم كل دابة وشمولها، فجاء بما التى تعم النوعين وتشملها، ولو جاء بمن لخص العقلاء. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) يقتضى أنه لو أخذ الظالمين بظلمهم لأهلك غير الظالمين من الناس، ولأهلك جميع الدواب غير الناس، ومؤاخذة البريء بسبب ظلم الظالم لا يحسن بالحكيم؟ قلنا: المراد بالظلم هنا الكفر، وبالدابة الدابة الظالمة وهى الكافر كذا قاله ابن عباس، وقيل: معناه لو هلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء، الثانى: أنه لم لا يجوز أن يكون (بمعنى) يهلك الجميع بشؤم ظلم الظالمين مبالغة في إعدام الظالم ونفى وجود أثره، حتى لا يوجد بعد ذلك من بقية الناس ظلم موجب للإهلاك، كما وجد من الذين أهلكهم بظلمهم، ودليل جواز ذلك ما وجد في زمان نوح عليه الصلاة والسلام فإنه أهلك بشؤم ظلم قوم نوح جميع دواب الأرض إلا من نجا في السفينة، فلم تبق على ظهر الأرض دابة، وكما قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ثم إذا فعل ذلك للحكمة والمصلحة التى اقتضت فعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 عوض البريء في الآخرة ما هو خير وأبقى، الثالث: أن كل انسان مكلف، فهو ظالم إما لنفسه أو لغيره، لأنه لا يخلو عن ذنب صغير أو كبير، فلو أهلك الناس بذنوبهم لأهلك الدواب أيضاً لأنه إنما خلق الدواب لمصالح الناس، فإذ أعدم الناس وقع استغناؤهم عن الدواب كلها. * * * فإن قيل: لا نسلم أن غير الإنسان من لحيوان مخلوق لمصالح الإنسان، وسنده أنه كان مخلوقا قبل خلق الإنسان بالنقل عن الشريعة وغيرها، وقد جاء مصرحاً به في الحديث في باب الخلق من باب الأصول: سلمنا أنه مخلوق لمصلحة الإنسان لكن هلاك غير الإنسان معه يخفف عليه ألم المصيبة، لا سيما إذ كان الهالك معه من جنسه، ولهذا قيل المصيبة إذا عمت طابت، سلمنا أن إهلاكه غيره معه مؤلم له، لكن لو كان إهلاكه معه لأنه خلق لمصلحته فأُهلك تبعاً لاستغنائه عنه أو لزيادة الإيلام فالنبات أيضا خلق لمصلحته على قولكم فلم كان إهلاك الحيوان عقوبة للإنسان أولى من إهلاك النبات. ولم يقل ما ترك عليها من دابة ونبات أو من شيء؟ قلنا: الجواب عن الأول قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) وخلقه قبل الإنسان لا ينفى خلقه لمصلحة الإنسان، كما يعد عظماء الناس الدور والقصور والخدم والحشم والدواب والثياب لأولادهم وأولاد أولادهم قبل وجودهم، (وعن) الثانى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 أنا لا ندعى أنه يهلك مع الإنسان، بل قبله لتؤلمه مشاهدة هلاك محبوبه ومألوفه، (وعن) الثالث: أن المراد ما ترك عليها من دابة بواسطة منع المطر، فيعدم النبات ثم يعدم بواسطة عدمه غير الإنسان من الحيوان، ثم يعدم الإنسان كذا جاء في تفسير هذه الآية والآية التى في آخر سورة فاطر، وهذا الترتيب أبلغ في العذاب. وأعظم في العقاب من تقديم إهلاك الحيوان على النبات لأن الإنسان إذا بقى حيوانه بلا غلف كان أوجع له، مما إذا أبقى علفه بلا حيوان. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ) ولم يقل في الجبال وفى الشجر والاستعمال إنما هو بفى يقال اتخذ فلان بيتا في الجبل أو في الصحراء ونحو ذلك؟ قلنا: قال الزمخشري إنما أتى بلفظة (من) لأنه أراد معنى البعضية، وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل الشجر ولا في كل مكان من الجبل والشجر، وأنا أقول: إنه إنما ذكره بلفطة (من) لأنه أراد كون البيت بعض الجبل وبعض الشجر كما يشاهد ويرى من بناء بيوت النحل، لأنه متخذ من طين أو عيدان في الجبل والشجر كما تتخذ الطيور، فلو أتى بلفظة في لم تدل على هذا المعنى ونظيره قوله تعالى: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) وأزواجنا ليست من أنفسنا لأنهن لو كن من أنفسنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 لكن حراما علينا، فإن المتفرعة من الإنسان لا يحل له نكاحها؟ قلنا: المراد بهذا أنه خلق آدم ثم خلق منه حواء، كما قال تعالى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) الثانى: أن المراد من جنسكم كما قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ) عبر عن الأصنام بالواو والنون وهما من خواص من يعقل؟ قلنا: كان (فى) من يعبدونه من دون الله من يعقل كعزير وعيسى والملآئكة عليهم الصلاة والسلام فغلبهم. * * * فإن قيل: لما أفرد في قوله تعالى: "ما لا يملك " ثم جمع في قوله: " ولا يستطيعون "؟ قلنا: أفرد نظراً إلى لفظ ما، وجمع نظراً إلى معناها، كما قال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) فأفرد الضمير نظراً إلى لفظ ما، وجمع الظهور نظراً إلى معناها. * * * فإن قيل: ما فائدة نفى استطاعة الرزق بعد نفى ملكه والمعنى واحد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 لأن نفى ملك الفعل هو نفى استطاعته، والرزق هنا اسم مصدر بدليل أعماله في (شيئا) ؟ قلنا: ليس في يستطيعون ضمير مفعول وهو الرزق، بل الاستطاعة منفية عنهم مطلقاً، معناه لا يملكون أن يرزقوا، أو لا استطاعة لهم أصلاً في رزق أو غيره لأنهم جماد، الثانى: أنه لو قدر فيه ضمير مفعول على معنى ولا يستطيعونه كان مفيدا أيضاً على أعتبار كون الرزق اسماً للعين لأن الإنسان يجوز (له) أن لا يملك الشيء، ولكن يستطيع أن يملكه لوجود الأهلية والقدرة على اكتساب ملكه بخلاف هؤلاء فإنهم لا يملكون ولا يستطيعون أن يملكوا. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (مملوكاً) بعد قوله تعالى: (عبداً) وما فائدة قوله: " لا يقدر على شيء) بعد قوله: (مملوكاً) ؟ قلنا: لفظ العبد يصلح للحر والمملوك، لأن ألكل عبيد الله تعالى، فإن الله تعالى قال: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) فقال مملوكاً ليتمز عن الحر، وقال " لايقدرعلى شيء " ليتميز عن المأذون والمكاتب فإنهما يقدران على التصرف استقلالاً. * * * فإن قيل: المضروب به المثل اثنان، وهما المملوك والمرزوق رزقاً حسناً، فظاهره أن يقال هل يستويان، فكيف قال تعالى: (هَلْ يَسْتَوُونَ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 قلنا: لأنه أراد جنس المماليك وجنس المالكين، لا مملوكاً معيناً ولا مالكاً معيناً، الثانى: أنه أجرى الاثنين مجرى الجمع، الثالث: أن (من) تقع على الجمع، ولقائل أن يقول على الوجه الثالث يلزم منه أن يصير المعنى ضرب الله مثلا عبد مملوكاً وجماعة مالكين هل يتسوون، وأنه لا يحسن مقابلة الفرد بالجمع في التمثيل. * * * فإن قيل: (أو) في الخبر للشك، والشك على الله تعالى محال، فما معنى قوله تعالى: (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ؟ قلنا: قيل (أو) هنا بمعنى بل كما في قوله تعالى: (إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) وقوله: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) وقوله: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) ويرد على هذا أن بل للاضراب، والاضراب رجوع عن الأخبار وهو على الله تعالى محال، وقيل: هى بمعنى الواو في هذه الآيات، وقيل: (أو) للشك في الكل لكن بالنسبة إلينا لا إلى الله تعالى، وكذا في قوله تعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) يعنى بالنسبة إلى نظر النبى عليه الصلاة والسلام. وقال الزجاج ليس المراد أن الساعة تأتى في أقرب من لمح البصر، ولكن المراد وصف قدرة الله تعالى على سرعة الاتيان بها متى شاء. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يقل والبرد، مع أن السرابيل وهى الثياب تلبس لدفع الحر والبرد، وهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 مخلوقه لهما؟ قلنا: حذف ذكر إحداهما لدلالة ضده، كما في قوله تعالى: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) ولم يقل والشر، كما في قول الشاعر: وما أدرى إذا يممت أرضاً. . . أريد الخير أيهما يلينى أى إلى يد الخير لا الشر أو أريد الخير وأحذر الشر. * * * فإن قيل: فلم كان ذكر الخير والحر أولى من ذكر الشر والبرد؟ قلنا: لأن الخير مطلوب العباد من ربهم ومرغوبهم إليه، ولأنه أكثر وجوداً في العالم من الشر، وأما الحر فلإن الخطاب بالقرآن أول ما يقع مع أهل الحجاز، والوقاية (من الحر) أهم عندهم لأن الحر في بلادهم أشد من البرد. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) مع أن كلهم كافرون؟ قلنا: قال الحسن: المراد بالأكثر هنا الجمع، وفى هذا نظر لأن بعض الناس لا يجوز إطلاق اسم البعض على الكل، لأنه ليس لازما له بخلاف عكسه. * * * فإن قيل: ما فائدة قول المشركين عند رؤية الأصنام: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ) الله تعالى عالم بذلك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 قلنا: لما أنكروا الشرك بقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) عاقبهم الله تعالى بإصمات ألسنتهم وأنطق جوارحهم، فقالوا عند معاينة آلهتهم: (هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا) أي قد أقررنا بعد الإنكار وصدقنا بعد الكذب طلباً للرحمة، وفراراً من الغضب، فكان هذا القول على وجه الاعتراف منهم بالذنب لا على وجه إعلام من لا يعلم، الثانى: أنهم لما عاينوا عظم الله تعالى وعقوبته قالوا: "ربنا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا " رجاء أن يلزم الله تعالى الأصنام ذنوبهم. لأنهم كانوا يعتقدون لها العقل والتمييز فيخف عنهم العذاب. * * * فإن قيل: لم قالت الأصنام للمشركين: (إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ) وكانوا صادقين فيما قالوه؟ قلنا: إنما قالت لهم ذلك لتظهر فضيحتهم، وذلك أن الأصنام كانت جماداً لا تعرف من يعبدها، فلم تعلم أنهم عبدوها في الدنيا فظهرت فضيحتهم، حيث عبدوا من لا يعلم بعبادتهم، ونظير هذا قوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) . * * * فإن قيل: إذا كان القرآن تبياناً لكل شيء من أمور الدين فمن أين وقع بين الأمة في أحكام الشريعة هذا الخلاف الطويل العريض؟ قلنا: إنما وقع الخلاف بين الأمة لأن كل شيء يحتاج إليه من أمور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الدين ليس مبيناً في القرآن نصاً بل بعضه مبين نصاً وبعضه مستنبط بيانه منه بالنطر والاستدلال، وطرق النظر والاستدلال مختلفة فلذلك وقع الخلاف. * * * فإن قيل: كثير من أحكام الشريعة لم تعلم من القرآن نصاً ولا استنباطاً، كعدد ركعات الصلوات ومقادير ديات الأعضاء، ومدة السفر والمسح، والحيض، ومقدار حد الشرب، ونصاب الزكاة، والسرقة، وما أشبه ذلك مما يطول ذكره؟ قلنا: القرآن تبياناً لكل شيء من أمور الدين، لأنه نص على بعضها، وأحال على السنة في بعضها بقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) وأحال على الإجماع أيضاً بقوله: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ... الآية) وأحال على القياس أيضاً بقوله: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) والاعتبار والنظر والاستدلال فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها، وكلها مذكورة في القرآن فصح كونه تبياناً لكل شيء. * * * فإن قيل: كيف وحدت القدم ونكرت في قوله تعالى: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) ولم يقل القدم أو الاقدام وهو اشد مناسبة لجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الإيمان؟ قلنا: وحدت ونكرت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الجنة، فكيف بأقدام كثيرة. * * * فإن قيل: (من) تتناول الذكر والأنثى لغة، ويؤيده قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ... الآية) وقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ... الآية) وقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) ونظائره كثيرة، فكيف قال تعالى هنا: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) ؟ قلنا: إنما صرح بذكر النوعين هنا بسبب اقتضى ذلك، وهو أن النساء قلن: ذكر الله تعالى الرجال في القرآن بخير ولم يذكر النساء بخير، فلو كان فينا خير لذكرنا به، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ... ألآية) وأنزل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) فذهب عن النساء وهم تخصيصهن عن العمومات. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) وقد رأينا كثيراً من الصلحاء الأتقياء قطعوا أعمارهم في المصائب والمحن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وأنواع البلاء أعتبر بالأمثل فالأمثل إلى الأنبياء؟ قلنا: المراد بالحياة الطيبة الحياة في القناعة، وقيل: في الرزق الحلال، وقيل: في رزق يوم بيوم، وقيل: في التوفيق للطاعات، وقيل: في حلاوة الطاعات، وقيل: في الرضا بالقضاء، وقيل: المراد به الحياة في القبر، كما قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، قيل: المراد به الحياة في الدار الآخرة، وهى الحياة الحقيقية لأنها حياة لا موت بعدها دائمة في النعيم المقيم، والظاهر أن المراد به الحياة في الدنيا لقوله تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) وعدهم الله ثواب الدنيا والآخرة كما قال: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) وكثير من الصحابة وغيرهم كانوا كافرين فهداهم الله تعالى إلى الإيمان؟ قلنا: المراد بهذا الكافرون الذين علم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر، ويؤيده ما بعد ذلك من الآيتين. * * * فإن قيل: ما معنى إضافة النفس إلى النفس في قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) والنفس ليس لها نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أخرى؟ قلنا: النفس اسم للجوهر القائم بذاته المتعلق بالجسم تعلق التدبير، والتقرن وقيل: هى اسم لجملة الإنسان لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) وقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) والنفس أيضا اسم لعين الشيء وذاته كما يقال نفس الذهب والفضة محبوبة أي عينها وذاتها فكأنه قال: يوم تأتى كل نفس تجادل عن ذاته، لا يهمه شأن غيره، كل يقول نفسى نفسى فاختلف معنى النفسين (1) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ) ولم يقل فكساها الله لباس الجوع، والإذاقة لا تناسب اللباس وإنما تناسبه الكسوة؟ قلنا: الاذاقة تناسب المستعار له وهو الجوح، (من حيث إن) الجوع يقتضى الأكل فيقتضى الذوق، وأن كانت لا تناسب المستعار وهو اللباس، والكسوة تناسب المستعار وهو اللباس، ولا تناسب المستعار له وهو الجوع، وكلاهما من دقائق علم البيان يسمى الأول منها تجريد الاستعارة، والثانى ترشيح الاستعارة، فجاء القرآن   (1) ولعل الراجح أن كلمة "النفس " في القرآن فيما يتعلق بالإنسان لم تأت إلا بمعنى الذات الإنسانية، وأما إطلاقها في غير القرآن على الروح فمجاز، لأن الروح سبب وجود النفس، من باب اطلاق السبب على المسبب وهو جائز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 العزيز في هذه الآية بتجريد الاستعارة، وقد ذكرنا تمار هذا في كتابنا المسمى " روضة الفصاحة " ولباس الجوع والخوف استعارة لما يظهر على أهل القرية من أثر الجوع والخوف من الصفرة والتحول فهو كقوله تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) استعار اللباس لها يظهر على المتقى من أثر التقوى، وقيل: فيه إضمار تقديره فاذاقها الله طعم الجوع وكساها لباس الخوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 سورة الإسراء * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (بِعَبْدِهِ لَيْلًا) ولم يقل بنبيه أو برسوله أو بحبيبه أو بصفيه ونحو ذلك مع أن المقصود من ذلك الإسراء تعظيمه وتبجيله؟ قلنا: إنما سماه عبدا في أرفع مقاماته وأجلها وهو هذا، وقوله تعالى: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) لئلا تغلط فيه أمته وتضل (فيه كما) ضلت أمة المسيح به فدعته إلهاً، وقيل: لئلا يتطرق إليه الكبر والعجب. * * * فإن قيل: الإسراء لا يكون إلا بالليل فما فائدة ذكر الليل؟ قلنا: فائدته أنه ذكر منكراً ليدل على قصر الزمان الذي كان فيه الإسراء والرجوع، مع أنه كان من مكة إلى بيت المقدس، مسيرة أربعين ليلة، وذلك لأن التنكير يدل على البعضية، ويؤيده قراءة عبد الله وحذيفة (من الليل) أي من بعض الليل كقوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) فإنه أمر بالقيام في بعض الليل. * * * فإن قيل: أي حكمة من نقله عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس ثم العروج به من بيت المقدس إلى السماء وهلا عرج به من مكة إلى السماء دفعة واحدة؟ قلنا: لأن بيت المقدس محشر الخلائق، فأراد الله تعالى أن تطأها قدمه ليسهل على أمته يوم القيامة وقوفهم عيها ببركة أثر قدمه، الثانى: أن بيت المقس مجمع أرواح الأنبياء، فأراد الله تعالى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 يشرفهم بزيارته عليه الصلاة والسلام. الثالث: أنه أسرى به إلى بيت المقدس ليشاهد من أحواله وصفاته ما يخبر به كفار مكة صبيحة تلك الليلة، فيدلهم اخباره بذلك مطابقاً لما رأوا وشاهدوا على صدقه في حيث الإسراء. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (بَارَكْنَا حَوْلَهُ) ولم يقل باركنا عليه أو باركنا فيه، مع أن البركة في المسجد تكون أكثر من خارج المسجد وحوله خصوصاً المسجد الأقصى؟ قلنا: أراد (بها) البركة الدنيوية بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة، وذلك حوله لا فيه، وقيل: أراد بالبركة الدينية، فإنه مقر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومتعبدهم، ومهبط الوحى والملآئكة، وإنما قال تعالى: (بَارَكْنَا حَوْلَهُ) لتكون بركته أعم وأشمل، فإنه أراد بما حوله ما أحاط به من أرض الشام وما قاربه منها، وذلك أوسع من مقدار بيت المقدس، ولأنه إذا كان هو الأصل وقد بارك في لواحقه وتوابعه من البقاع كان هو مباركا فيه بالطريق الأولى، خلاف العكس، وقيل: المراد البركة الدنيوية والدينية ووجهها ما مر. وقيل: المراد باركنا حوله من بركة نشأت منه فعمت جميع الأرض، لأن مياه الأرض كلها أصل انفجارها من تحت الصخرة التى في بيت المقدس. * * * فإن قيل: ما وجه ارتاط قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) بما قبله ومناسبته له؟ قلنا: معناه لا تتخذوا من دونى رباً فتكونوا كافرين، ونوح كان عبدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 شكورا وأنتم من آمن به وحمل معه، فتأسوا به في الشكر كما تأسى به آباؤكم. * * * فإن قيل: (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) ولم يقل فعليها كما قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) ؟ قلنا قيل اللام هنا بمعنى على كما في قوله تعالى: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) وقوله تعالى: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ) وقيل معنى فلها رجاء الرحمة اى فلهامخلص بالتوبة والاستغفار والصحيح أن اللم هنا على بابها لأنها للاختصاص، وقيل عامل مخصص بجزاء عمله حسنة كانت أو سيئة، وقد سبق مثل هذا مستوفى في آخر سورة البقرة في قوله تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) وقال في قصة مريم وعيسى عليهما السلام (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) مع أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان وحده آيات شتى حيث كلم الناس في المهد، وكان يحيى الميت، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق الطير بإذن الله إلى غير ذلكمن الآيات، وأمه وحدها كانت آية حيث حملت من غير فحل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 قلنا: إنما أراد به الآية التى كانت مشتركة بينهما ولم يتم إلا بهها، وهى ولادة ولد من غير فحل، بخلاف الليل والنهار والشمس والقمر، الثانى: أن لفظ الآية الأخرى محذوفة إيجازاً واختصاراً تقديره: وجعلناها آية وابنها آية، وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) (والإبصار) من صفات ما له حياة، والمراد بآية النهار إما الشمس أو النهار نفسه وكلاهما غير مبصرة؟ قلنا: المبصرة في اللغة بمعنى المضيئة، نقله الجوهرى وقال غيره: معناه بينة واضحة مضيئة، ومنه قوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) أي آية واضحة مضيئة وقوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً) الثانى: معناه مبصراً بها إن كانت الشمس أو فيها إن كانت النهار، ومنه قوله تعالى: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) أي مبصراً فيه ونظيره قولهم ليل نائم ونهار صائم أي ينام فيه ويصام فيه، الثالث: أنه فعل رباعى منقول بالهمزة عن الثلاثى الذي هو بصر بالشي أي علم به فهو بصير أي عالم معناه أنها تجعلهم بصراء فيكون أبصره، بمعنى بصره، وعلى هذا حمل الأخفش قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً) أي تبصرهم فتجعلهم بصراء، الرابع: أن بعض الناس زعم أن الشمس حيوان له حياة وبصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وقدرة، وهو متحرك بإرادته في امتثال أمر الله تعالى كما يتحرك الإنسان. * * * فإن قيل: ما الفائدة في ذكر عدد السنين في قوله تعالى: (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) مع أنه لو اقتصر على قوله: "لتعلموا الحساب " دخل فيه عدد السنين إذ هو من جملة الحساب؟ قلنا: العد كله موضع الحساب كبدن الإنسان موضوع الطب ادخال المكلفين وموضوع الفقه، وموضوع كل علم مغاير له وليس جزء منه، كبدن الإنسان ليس جزءا من الطب، ولا أفعال المكلفين جزءا من الفقه، فكذا العدد ليس جزءا من الحساب، وإنما ذكر عدد السنين وقدمه على الحساب لأن المقصود الأصلى من محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة علم عدد الشهور والسنين، ثم يتفرع من ذلك علم حساب التاريخ وضرب المدد والآجال. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) وقال في موضع آخر: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) ؟ قلنا: مواقف القيامة مختلفة، ففى موقف يكل الله تعالى حسابهم إلى أنفسهم وعلمه محيط به، وفى موضع يحاسبهم هو، وقيل: هو ألذى يحاسبهم لا غيره، وقال تعالى: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) أى يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها عالم بذلك، فهو توبيخ وتقربع لا أنه تفويض لحساب العبد إلى نفسه، وقيل: من يرد مناقشته في الحساب يحاسبه بنفسه، ومن يرد مسامحته فيه يكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 حسابه إليه. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) يرد ما جاء في الأخبار أن في يوم القيامة يؤخذ من حسنات المغتاب والمديون ويزاد في حسنات رب الدين، والشخص الذي أغتيب، فإن لم تكن لهما حسنات يوضع عليهما من سيئات خصميهما، وكذلك جاء هذا في سائر المظالم؟ قلنا: المراد من الآية أنها لا تحمله اختياراً رداً على الكافرين حيث قالوا للذين آمنوا: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ... إلآيتان) والمراد من الخبر أنها تحمله كرهاً فلا تنافى بينهما، وقد سبق مرة (هذا) في آخر سورة الأنعام. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) وقال في آية أخرى: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) ؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: أمرناهم بالطاعة ففسقوا، وقال الزجاج ومثله قولهم: أمرته فعصانى، وأمرته فخالفنى، لا يفهم منه الأمر بالمعصية ولا الأمر بالمخالفة، الثانى: أن معناه كثرنا مترفيها يقال: أمرته - بالقصر والمد - بمعنى كثرته وقد قرئ بهما، ومنه الحديث: خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة، أي كثير النتاج والنسل، الثالث: أن معناه أمرنا مترفيها - بالتشديد - يقال أمرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 فلانا بمعنى أمرته أي جعلته أميرا فمعنى الآية سلطناهم بالامارة، ويعضد هذا الوجه قراءة من قرأ أمرنا - بالتشديد - وقال الزمخشري رحمه الله لا يجوز أن يكون معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا، لأن حذف ما لا دليل عليه في اللفظ غير جائز فكيف يقدر حذف ما قام الدليل في اللفظ على نقيضه، وذلك أن قوله: "ففسقوا " يدل على أن المأمور به المحذوف هو الفسق وهو كلام مستفيض، يقال: أمرته فقام وأمرته فقعد وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا المأمور به، القيام والقعود والقراءة بخلاف قولهم أمرته فعصانى وأمرته فخالفنى حيث لا يكون المأمور به المحذوف المعصية والمخالفة، لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض لأمر وينافيه مأموراً به فيكون المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوى، والمتكلم بمثل هذا لا ينوى لأمره مأموراً به بل كأنه قال: كان منى أمر فلم تكن منه طاعة أو فكانت منه مخالفة كما تقول: مر زيداً يطعمك، وكما تقول فلان يأمر وينهى ويعطى ويمنع ويصل ويقطع ويضر وينفع فإنك لا تنوى فيه مفعولا. * * * فإن قيل: على هذا حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم أفسقوا وهذا لا يكون من الله تعالى، فلا يقدر الفسق محذوفاً ولا مأموراً به؟ قلنا: الفسق المحذوف المقدر مجار عن اترافهم وصب النعم عليهم صباً أفضى بهم إلى جعلها ذريعة إلى المعاصى ووسيلة إلى اتباع الشهوات، فكأنهم أمروا بذلك، لما كان السبب في وجوده الاتراف وفتح باب النعم. * * * فإن قيل: لم لا يكون ثبوت العلم بأن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وإنما يأمر بالطاعة وألعدل والخير دليلاً على أن ألمراد أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلنا: لو جاز مثل هذا الإضمار والتقدير لكان المتكلم مريداً من مخاطبة علم الغيب، لأنه أضمر ما لا دليل عليه في اللفظ، بل أبلغ، لأنه أضمر في اللفظ ما يناقضه وينافيه، وهو قوله: "ففسقوا" فكأنه أظهرشيئاً وادعى إضمار نقيضه. فكان صرف الأمر إلى ما ذكرنا من المجاز هو الوجه، هذا كله كلام الزمخشري رحمه الله، ولا أعلم أحداً من أئمة التفسير صار إليه غيره، ثم أنه أيده فقال ونظيره أمر شاء في أن مفعوله استفاض فيه الحذف لدلالة ما بعده عليه، تقول: لو شاء فلان لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك، تريد لو شاء الإحسان لأحسن ولو شاء الإساءة لأساء، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت وتعنى لو شاء الإساءة لأحسن إليك، ولو شاء الإحسان لأساء إليك، وتقول قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان دائماً أو من أهل الإساءة دائماً، فيترك الظاهر المنطوق به ويضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة لم تكن على سداد. * * * فإن قيل: على الوجه الأول لو كان المضمر المحذوف الأمر بالطاعة لما كان مخصوصاً بالمترفين، لأن أمر الله تعالى بالطاعة عام للمترفين وغيرهم؟ قلنا: أمر الله تعالى بالطاعة وإن كان عاماً، ولكن لما كان صلاح الأمراء والرؤساء وفسادهم مستلزما لصلاح الرعية وفسادها غالباً خصتهم بالذكر، ويؤيد هذا ما جاء في الخبر: صلاح الوالى صلاح الرعية وفساد الوالى فساد الرعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فإن قيل: قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ ... الآية) (يدل) على أن من لم يزهد في الدنيا ولم يتركها كان من أهل النار والأمر بخلافه؟ قلنا: المراد من كان يريد بإسلامه وطاعته وعبادته الدنيا لا غير، ومثل هذا لا يكون إلا كافراً أو منافقاً، ولهذا قال ابن جرير هذه الآية لمن لا يوقن بالمعاد، فأما من أراد الدنيا قدر ما يتزود به إلى الآخرة كيف يكون مذموماً، مع أن الاستغناء عن الدنيا بالكلية وعن جميع ما فيها لا يتصور في حق البشر، ولو كانوا أنبياء، فعلم أن المراد ما قلنا. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) أى ممنوعاً، ونحن نرى ونشاهد في الواقع أن راحد أعطاه قناطير مقنطرة وآخر منعه حتى الدائق والحبة؟ قلنا: المراد بالعطاء هنا الرزق والله تعالى سوى في ضمان الرزق وإيصاله بين البر والفاجر والمطيع والعاصى ولم يمنع الرزق على العاصى بسبب عصيانه، فلا تفاوت بين العباد في أصل الرزق، وإنما التفاوت بينهم في مقادير الإملاك. * * * فإن قيل: كيف منع الله تعالى الكفار التوفيق والهداية ولم يمنعهم الرزق؟ قلنا: لأنه لو منعهم الرزق لهلكوا وصار ذلك حجة لهم يوم القيامة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 بأن يقولوا لو أمهلتنا ورزقتنا لبقينا أحياء فآمنا، الثانى: أنه لو أهلكهم بمنع الوزق لكان قد عاجلهم بالعقوبة، فيتعطل معنى اسمه الحليم عن معناه لأن الحليم هو الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، الثالث: أن منع الطعام والشراب من صفات البخلاء والأخساء، والله تعالى منزه عن ذلك، وقيل: إعطاء الرزق لجميع العبيد عدل وعدل الله تعالى عام، وهبة التوفيق والهداية فضل، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله: "عندك " في قوله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) ؟ قلنا: فائدته أنهما يكبران في بيته وكنفه ويكونان كلا عليه لا كافل لهما غيره، وربما تولى منهما من المشاق ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) ولم يقل ولا تزنوا؟ قلنا: لو قال ولا تزنوا كان نهياً عن الزنا لا عن مقدماته كاللمس والمعانقة والقبلة ونحو ذلك، ولما قال: "ولا تقربو) كان نهياً عنه وعن مقدماته، لأن فعل المقدمات قربان للزنا. * * * فإن قيل: الإشارة بقوله تعالى: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ) إلى ماذا على قراءة التنوين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 قلنا: الإشارة إلى كل ما هو منهى عنه من جميع ما ذكر من قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إلى هذه الآية، لا إلى جميع ما ذكر، فإن فيه حسناً وسيئاً، وقال أبو على: هو إشارة إلى قوله تعالى: "ولا تقف" وما بعده لأنه لا حسن فيه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) وقوله: "من فيهن " يتناول الآدميين كلهم، والمراد به العموم كما هو مقتضى الصيغة بدليل تأكيده بقوله تعالى بعده: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) . والتسبيح هو التنزيه من كل ما لا يليق بصفات جلاله وكماله، والكفار يضيفون اليه الزوج والولد والشريك وغير ذلك فإين تسبيحهم؟ قلنا: الضمير في قوله تعالى: "ومن فيهن " راجع إلى السموات فقط، الثانى: أنه راجع إلى السموات والأرض والمراد بقوله تعالى: "ومن فيهن " يعنى من المؤمنين، فيكون عاماً أريد به الخاص، وعلى هذا يكون المراد بالتسبيح المسند إلى (من فيهن) التسبيح بلسان المقال، الثالث: أن المراد به التسبيح بلسان الحال، حيث يدل على وجود الصانع وعظيم قدرته ونهاية حكمته، فكأنها تنطق بذلك وتنزهه عما لا يجوز عليه ولا يليق به من السوء، ويؤيده قوله تعالى بعده: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) والتسبيح العام لجميع الموجودات إنما هو التسبيح بلسان الحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فإن قيل: لو كان المراد هو التسبيح بلسان الحال لما قال: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لأن التسبيح بلسان الحال مفهوم لنا أي مفهوم ومعلوم؟ قلنا: الخطاب بقوله تعالى: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) للكفار، وهم مع تسبيحهم بلسان الحال لا يفقهون تسبيح الموجودات على ما ذكرنا من التفسير، لأنهم لما جعلوا لله شركاء وزوجاً وولداًَ دل ذلك على عدم فهمهم تسبيح الموجودات وتنزيهها، وعدم اتضاح دلائل الوحدانية لهم لأن الله تعالى طبع على قلوبهم. * * * فإن قيل: (من فيهن) وهم الملآئكة والثقلان يسبحون حقيقة والسموات والأرض والجمادات تسبح مجازاً، فكيف جمع بين إرادة الحقيقة والمجاز في لفظ واحد، وهو قوله تعالى: "تسبح "؟ قلنا: التسبيح المجازى بلسان الحال حاصل من الجميح فيحمل عليه دفعاً لما ذكرتم من المحذور. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) والمستعمل الشائع دعائه فاستجاب لأمره أو بأمره أي أجاب؟ قلنا: قال ابن عباس: المراد بقوله: "بحمده " بأمره، وقال سعيد بن جبير: إذا دعا الله الخلالق للبعث يخرجون من قبورهم، وهم ينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون سبحانك اللهم وبحمدك، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 غيره: وهم يقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ) فعلى هذا تكون الباء بمعنى مع كما في قوله تعالى: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) وقوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) . * * * فإن قيل: كيف أجمل ذكر الأنبياء كلهم بقوله تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) ثم خص داود بالذكر، فقال: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) ؟ قلنا: لأنه اجتمع له مالم يجتمع لغيره من الأنبياء، وهو الرسالة والكتابة والخطابة والخلافة والملك والقضاء في زمن واحد، قال الله تعالى: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) الثانى: قوله تعالى: (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) إشارة إلى تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) دلالة على وجه تفضيله، وهو أنه خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم، لأن ذلك مكتوب في زبور داود عليه الصلاة والسلام واليه الإشارة بقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 يعنى محمداً عليه الصلاة والسلام وأمته. * * * فإن قيل: لم نكر الزبور هنا وعرفه في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) ؟ قلنا: يجوز أن يكون الزبور من الأعلام التى تستعمل بالألف واللام وبغيرهما كالعباس والفضل والحسن والحسين ونحوهما، الثاني: أنه نكره لأنه أراد وآتينا داود بعض الزبور وهى الكتب، الثالث: أنه نكره لأنه أراد به ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور فسمى ذلك زبوراً، لأنه بعض الزبور كما سمى بعض القرآن قرآناً فقال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ ... الآية) وقال: (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) وأراد به سورة يوسف عليه الصلاة والسلام، قال: (وقرآن الفجر) أي القرآن المتلو في صلاة الفجر. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) مغن عن قوله تعالى: (وَلَا تَحْوِيلًا) لأنهم إذا لم يستطيعون كشف الضر لا يستطيعون تحويله، لأن تحويل الضر نقله من محل وإثباته في محل آخر، ومنه تحويل الفراش والمتاع وغيرهما، وكشف الضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 مجرد إزالته ومن لا يقدر على ألإزالة وحدها فكيف يقدر على الإزالة مع الإثبات؟ والمراد بالآية كشف الفقر والمرض والقحط ونحوها؟ قلنا: التحويل له معنيان أحدهما ما ذكرتم والثانى: التبديل، ومنه قولهم حولت القميص قباء والفضة خاتماً وأريد بالتبديل هنا الكشف لأن في الكشف المنفى في الآية تبديلا، فإن المرض متى كشف يبدل بالصحة، والفقر متى كشف يبدل بالغنى، والقحط متى كشف يبدل بالخصب، وكذا جميح الأضداد فأطلق التبديل وأراد به الكشف، إلا أنه لم يرد به كشف الضر لئلا يلزم التكرار، بل أراد به مطلق الكشف الذي هو الإذالة، فلا يستطيعون كشف الضر عنكم ولا كشف ما، ولهذا لم يقل ولا تحويله، وهذا الجواب مما فتح الله تعالى على به من خزائن وجوده، ونظيره ما ذكرناه في سورة النحل في قول تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ) . * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ... الآية) فيها أسئلة أولها: أن الله تعالى لا يمنعه عما يريده مانع، فإن أراد إرسال الآيات كيف يمنعه تكذيب الأمم الماضية؟ وإن لم يرد إرسالها كان وجود تكذيبهم وعدمه سواء، وكان عدم الإرسال لعدم الإرادة، الثانى: أن الإرسال يتعدى بنفسه قال الله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) فأى حاجه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الباء؟ الثالث: أن المراد بالآيات هنا ما اقترحه أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جعل الصفا ذهباً، وإزالة جبال مكة ليتمكنوا من الزراعة، وإنزال كتاب مكتوب من السماء ونحو ذلك. وهذه الآيات ما أرسلت إلى الأولين ولا شاهدوها فكيف كذبوها؟ الرابع: تكذيب الأولين لا يمنع إرسالها إلى الآخرين لجواز أن لا يكذب الآخرون، الخامس: أي مناسبة وارتباط بين صدر الآية وقوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) ؟ السادس: ما معنى وصف الناقة بالابصار؟ السابع: إن الظلم يتعدى بنفسه قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) فأى حاجة إلى الباء، وهلا قال فظلموها يعنى بالعقر والقتل؟ الثامن: أن قوله تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) يدل على الارسال بها وقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ) يدل على عدم الإرسال بها؟ قلنا: الجواب على الأول: أن المنع مجازعبر به عن ترك الإرسال بالآيات، كأنه تعالى قال: وما كان سبب ترك الإرسال بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، (وعن) الثانى: أنى الباء لتعدية الإرسال إلى المرسل به، لا إلى المرسل لأن المرسل محذوف وهو الرسول. تقديره: وما منعنا أن نرسل الرسول بالآيات، والإرسال يتعدى إلى المرسل نفسه وإلى المرسل به بالباء، وإلى المرسل إليه بالى قال الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) وعن الثالث: أن الضمير في قوله تعالى: (بها) عائد إلى جنس الآيات المقترحة لا إلى هذه الآيات المقترحة كأنه تعالى قال: وما منعنا أن نرسل بالآيات التى اقترحها أهل مكة إلا تكذيب من قبلهم بالآيات المقترحة يريد المائدة والناقة ونحوهما مما اقترحه الأولون على أنبيائهم، (وعن) الرابع: أن سنة الله تعالى في عباده أن من اقترح آية على الأنبياء وأتوه بها فلم يؤمن عجل الله هلاكه، والله تعالى لم يرد هلاك مشركى مكة لأنه تعالى علم أنه يولد منهم من يؤمن، أو لأنه قضى وقدر في سابق علمه بقاء من بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، فلو أرسل بالآيات التى اقترحوها فلم يؤمنوا لأهلكهم، وحكمته اقضت عدم إهلاكهم، فلذلك لم يرسل بها فيصير معنى الآية وما منعنا أن نومل بالآيات المقترحة عليك إلا أن كذب بالآيات المقترحة الأولون فأهلكوا فربما كذب بها قومك فأهلكوا. (وعن) الخامس: أنه تعالى لما أخبر أن الأولين كذبوا بالآيات المقترحة عين منها واحدة وهى ناقة صالح عليه الصلاة والسلام، لأن آثار ديارهم المهلكة في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم. (وعن) السادس: أن معنى مبصرة دالة كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 يقال الدليل مرشد وهاد، وقيل: مبصراً بها كما يقال: ليل نائم ونهار صائم أي ينام فيه ويصام فيه، وقيل: معناه مبصرة يعنى أنها تبصر الناس صحة نبوة صالح عليه الصلاة والسلام، ويعضد هذا قراءة من قرأ مبصرة بفتح الميم والضاد أي تبصرة، وقيل: مبصرة صفة لآية محذوفة تقديره: آية مبصرة أي مضيئة بينة، (وعن) السابع: أن الباء ليست لتعدية الظلم - هنا - إلى الناقة بل معناه فظلموا أنفسهم بقتلها أو بسببها، وقيل: الظلم - هنا - الكفر، فمعناه فكفروا بها، فلما ضمن الظلم معنى الكفر عداه تعديته. (وعن) الثامن: أن المراد بالآيات ثانياً العبر والدلالات لا الآيات التى اقترحها أهل مكة. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) وليس في القرآن لعن شجرة ما؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: والشجرة الملعونة المذكورة في القرآن، الثانى: أن معناه الملعون آكلوها وهم الكفرة، الثالث: أن الملعونة بمعنى المذمومة كذا قاله ابن عباس رضى الله عنهما وهى مذمومة في القرآن بقول تعالى: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ) وبقوله تعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) . الرابع: أن العرب تقول لكل طعام مكروه أو ضار ملعون، وفى القرآن الإخبار عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ضررها وكراهتها، الخامس: أن اللعن في اللغة هو الطرد والإبعاد، فالملعون هو المطرود عن رحمة الله تعالى، المبعد عنها، وهذه الشجرة مطرودة مبعدة عن مكان رحمة الله تعالى وهو الجنة، لأنها في قعر جهنم، وهذا الابعاد والطرد مذكور في القرآن بقوله تعالى: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) وقال بن الأنبارى: سميت ملعونة لأنها مبعدة عن منازل أهل الفضل. * * * فإن قيل: كيف خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم بقوله تعالى: (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ) ولم خصهم بنفى الظلم عنهم بقوله تعالى: (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) مع أن أصحاب الشمال يقرءون كتابهم ولا يظلمون أيضاً؟ قلنا: إنما خص أصحاب اليمين بذكر القراءة لأن أصحاب الشمال إذا رأوا ما في كتبهم من الفضائح والقبائح أخذهم من الحياء والخجل والخوف ما يوجب حبسة اللسان، وتتعتع الكلام، والعجز عن إقامة الحروف فتكون قراءتهم كلا قراءة، وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارئ لأهل المحشر: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) وأما قولو تعالى: (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) فهو عائد إلى كل الناس لا إلى أصحاب اليمن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الثانى: أنه عائد إلى أصحاب اليمين خاصة، وأنما خصهم بذلك لأنهم يعلمون أنهم لا يظلمون، ويعتقدون ذلك بخلاف أصحاب الشمال فإنهم يعتقدون أو يظنون أنهم يظلمون، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) . * * * فإن قيل: كيف قال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ) يعنى الآيات (إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) يعنى بينات وحججاً واضحات، وفرعون لم يعلم ذلك لأنه لو علم ذلك لم يقل لموسى: (إِنِّي لَأَ ظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) أى مخدوعاً أو قد سحرت أو ساحراً. مفعول بمعنى فاعل على اختلاف الأقوال، بل كان يؤمن به، وكيف يعلم ذلك وقد طبع الله على قلبه وأضله وحال بينه وبين الهدى الرشاد ولهذا قرأ على رضى الله عنه "لقد علمت " بضم التاء، وقال: والله ما علم عدو الله، ولكن موسى هو الذي علم، واختار الكسائى وثعلب قراءة على ونصراها بأنه لمأ نسب موسى إلى أنه مسحوراً علمه بصحة عقله بقوله: "لقد علمت "؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 قلنا: معناه لقد علمت لو نظرت نظراً صحيحاً أو لقد علمت نظراً إلى الحجة والبرهان ولكنك معاند مكابر تخشى فوات دعوى الألهية لو صدقتنى، فكان فرعون ممن أضله الله على علم، ولهذا بلغ ابن عباس قراءة على رضى الله عنهما ويمينه فاستدل بقوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) . * * * فإن قيل: كيف قال موسى عليه الصلاة والسلام: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) وموسى كان عالماً بذلك لا شك عنده فيه؟ قلنا: قال أكثر المفسرين: الظن هنا بمعنى العلم، كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) وإنما أوتى بلفظ الظن ليعارض ظن فرعون بظنه، كأنه قال إن ظننتنى مسحوراً فأنا أظننك مثبوراً، والمثبور الهالك والمصروف عن الخير أو الملعون أو الخاسر. * * * فإن قيل: كيف كرر تعالى الإخبار بالخرور الحالين، وهما خروجهم في حال كونهم ساجدين، وفى حال كونهم باكيين؟ قلنا: إنه أراد بالخرور الأول ألخرور في حال سماع القرآن أو قراءته، وبالخرور الثانى: الخرور في سائر الحالات وباقيها. * * * فإن قيل: الحمد إنما يكون على نعمة أنعم الله بها على العبد كما في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) لأن فيها من المنافع لنا ما لا يعد ولا يحصى، فأى نعمة حصلت لنا من كون الله تعالى لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك ولا ناصر حتى قال تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ... الآية) ؟ قلنا: النعمة في ذلك أن الملك إذا كان له ولد وزوج فإنما ينعم على عبيده بما يفضل عن ولده وزوجه، وإذا لم يكن له ولد وزوج كان جميع انعامه وإحسانه مصروفاً إلى عبيده فكان نفى اتخاذ الولد مقتضياً مزيد الإنعام عليهم، وأما نفى الشريك فلأنه يكون أقدر على الإنعام على عبيده لعدم المزاحم، وأما نفى النصير فلأنه يدل على القوة والاستغناء، وكلاهما يقتضى القدرة على زيادة الإنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 سورة الكهف * * * فإن قيل: قوله تعالى: (قَيِّمًا) بمعنى مستقيماً وقوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) مغن عن قوله: "قيماً " لأنه متى انتفى العوج ثبتت الاستقامة، لأن العوج في المعانى كالعوج في الأعيان، والمراد به هنا نفى الاختلاف والتناقض في معانيه، وأنه لا يخرج منه شىء عن الصواب والحكمة، وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً؟ قلنا: قال الفراء: معنى قوله تعالى "قيماً " قائماً على الكتب السماوي كلها، مصدقاً لها شاهداً بصحتها ناسخاً لبعض شرائعها، فعلى هذا لا تكرار فيه، وعلى القول المشهور يكون الجمع بينهما للتأكيد سواء قدر قيماً مقدماً أو أقر في مرتبته ونصب بفعل مضمر تقديره: ولكن جعله قيماً، ولابد من هذا الإضمار أو من التقديم والتأخير، وإلا يصير المعنى ولم يجعل له عوجاً مستقيماً، ولكن العوج لا يكون مستقيماً. * * * فإن قيل: اتخاذ الله تعالى ولداً محال، فكيف قال تعالى: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) وإنما يستقيم أن يقال: فلان ما له علم بكذا إذا كان ذلك الشيء مما يعلمه غيره، أو مما يصح أن يعلم كقولنا: زيد ما له علم بالعربية أو بالحساب أو بالشعر ونحو ذلك؟ قلنا: معناه ما لهم به من علم، لأنه ليس مما يعلم لاستحالته، وهذا لأن انتفاء العلم بالشي تارة يكون للجهل بالطريق الموصل إليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وتارة لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به، وما نحن فيه من هذا القبيل. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) وهو عالم بذلك في الأزل؟ قلنا: معناه لنعلم ذلك علم مشاهدة كما علمناه علم غيب. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ) ولم يقل واحدكم؟ قلنا: لأنه أراد فرداً منهم أيهم كان، ولو قال واحدكم لدل على بعث نرئيسهم ومقدمهم، فإن العرب تقول رأيت أحد القوم أي فرداً منهم، ولا تقول رأيت واحد القوم إلا إذا أرادت المقدم المعظم. * * * فإن قيل: كيف جاء تعالى بسين الاستقبال في الفعل الأول دون الآخرين في قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ) ؟ قلنا: أراد دخول الفعلين الآخرين في حكم الأول بمقتضى العطف، فاقتصر على ذكر السين في الأول إيجازاً واختصاراً كما تقول: زيد قد يخرج ويركب، تريد وقد يركب. * * * فإن قيل: كيف دخلت الواو في الجملة الثالثة دون الأوليين وهى قوله تعالى: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ؟ قلنا: قال بعض المفسرين: هى واو الثمانية، وقد ذكرنا مثلها فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 آخر سووة التوبة، وقال الزجاج: دخول هذه الواو وخروجها سواء في صفة النكرة، فجاء القرآن بهما، وقال غيره: الواو مرادة في الجملتين الأوليين، وإنما حذفت فيهما تخفيفاً، وأتى بها في الجملة الثالثة دلالة على إرادتها فيهما، ويرد على هذا القول أنه لو كان كذلك لكانت مذكورة في الجملة الأولى محذوفة في الجملة الثانية والثالثة، ليدل ذكرها أولا على حذفها بعد ذلك، كما سبق في سين الاستقبال، وقال الزمخشري وغيره: هى الواو التى تدخل على الجملة الواقعة صفة النكرة، كما تدخل على الصفة الواقعة حالا من المعرفة، تقول: جاءنى رجل ومعه آخر، ومررت بزيد وفى يده سيف، ومنه قوله تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هى التى أذنت، فإن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن، كما رجم غيرهم، والدليل عليه أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ) وأتبع القول الثالث قوله: (مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وقال ابن عباس رضى الله عنه: وقعت الواو لقطع العدد، أي لم يبق بعدها عدد عاد يلتفت إليه. ويثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات، وقال الثعلبى: هذه واو الحكم والتحقيق، وكأن الله تعالى حكى اختلافهم فتم الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 عند قوله سبعة، ثم حكم بأن ثامنهم كلبهم باستئنافه الكلام، فحقق ثبوت العدد الأخير لأن الثامن لا يكون إلا بعد السبعة، فعلى هذا يكون قوله: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) من كلام الله تعالى حقيقة أو تقديراً، ويرد على هذا أن قوله تعالى بعد هذه الواو: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) وقوله تعالى: (مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) ويدل على بقاء الابهام وعدم زوال اللبس بهذه الواو. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) وقال في موضع آخر: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ) ويلزم من تبديل الآية بالآية تبديل الكلمات فكيف الجمع بينهما؟ قلنا: معنى الأول لا مغير للقرآن من البشر، وهو جواب لقولهم للنبى عليه الصلاة والسلام: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) الثانى: أن معناه لا خلف لمواعيده ولا مغير لحكمه، ومعنى الثانى النسخ والتبديل من الله تعالى فلا تنافى بينهما. * * * فإن قيل: قول تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) اباحة واطلاق للكفر؟ قلنا: قال ابن عباس رضى الله عنه: معناه فمن شاء ربكم فليؤمن ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 شاء ربكم فليكفر، يعنى لا إيمان ولا كفر إلا بمشيئة الله تعالى، الثانى: أنه تهديد ووعيد، الثالث: أن معناه لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرونه بكفركم، فهو إظهار للغنى لا إطلاق للكفر. * * * فإن قيل: لبس الأساور في الدنيا عيب للرجال، ولهذا لا يلبسها من يلبس الذهب والحرير من الرجال، فكيف وعدها الله تعالى المؤمنين في الجنة؟ قلنا: كانت عادة ملوك الفرس والروم لبس الأساور والتيجان مخصوصين بها دون من عداهم، فلذلك وعدها الله تعالى المؤمنين في الجنة لأنهم ملوك الآخرة. * * * فإن قيل: كيف أفرد تعالى الجنة بعد التثنية فقال: (ودخل جنته) ؟ قلنا: أفردها ليدل على الحصر، معناه ودخل ما هو جنته لا جنة له غيرها ولا نصيب له في الجنة التى وعد المتقون، بل ما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد جنة معينة منهما بل جنس ما كان له. * * * فإن قيل: كيف قال الأخ المؤمن لأخيه: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) وهذا تعريض بأن أخاه مشرك، وليس في كلام أخيه ما يقتضى الشرك، بل الكفر وهو قوله تعالى: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 قلنا: إشراك أخيه الذي عرض له به هو اعتقاده أن زكاة جنته ونماءها بحوله وقوته، ولهذا قال له: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) ولهذا قال هو أيضاً لما أصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهى خاوية على عروشها: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) اعترف بالشرك. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله: "أنا" في قوله: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ) ؟ قلنا: "أنا" في مثل هذا الموضع يفيد الخبر في المخبر عنه، ومنه قوله تعالى: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) وقوله: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ) ونظائره كثيرة. * * * فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وكذا كل ما أشبهه مما جاء في القرآن العزيز، فقال تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً) و (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) و (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 كيف تحقيق معناه؟ قلنا: دون تستعمل في كلام العرب بمعنى غير، كقولهم: لفلان مال دون هذا، ومن دون هذا أي غير هذا ونظيره قوله تعالى: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ) أي من غيره، وتستعمل أيضاً بمعنى قبل كقولهم: المدينة دون مكة أي قبلها، ومن دونه حرط القتاد، ولا أقوم من مجلس دون أن تجيء، ولا أفارقك دون أن تعطينى حقى. وما أعلم أنها جاءت في القرآن العزيز بمعنى قبل، بل بمعنى غير فقط. * * * فإن قيل: كيف قال: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) يعنى في يوم القيامة أو في مقام الآخرة، والولاية بكسر الواو السلطان والملك، وبفتح الواو التولى والنصرة، وكل ذلك لله تعالى في الدنيا والآخرة، يعز من يشاء ويذل من يشاء، وينصر من يشاء ويخ ذل من يشاء، ويتولى من يشاء بحراسته وحفظه، فما فائدة تخصيص يوم القيامة؟ قلنا: فائدته أن الدعاوى المجازية كثيرة في الدنيا، ويوم القيامة تنقطع كلها ويسلم الملك لله تعالى عن كل منازع، وقد سبق نظير هذا السؤال في سورة الأنعام في قوله تعالى (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) أى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 عاقبة، وغير الله تعالي لا يثيب ليكون الله تعالي خيراً منه ثوبا؟ قلنا: هنا على الغرض والتقدير معناه: لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل، ولكانت طاعته أحمد عاقبة وخيراً من طاعة غيره. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَحَشَرْنَاهُمْ) بلفظ الماضي وما قبله مضارعان، وهما قوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) أي لا شيء عليها يسترها كما كان في الدنيا؟ قلنا: للدلالة على أن حشرهم كان قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال وتلك العظائم، كأنه قال: وحشرناهم قبل ذلك. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) مع أنه أخبر أن الصغائر تكفر بأجتناب الكبائر بقوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) ؟ قلنا: الأية الأولى في حق الكافرين بدليل قوله تعالى: (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) والمراد بهم هنا الكافرون، كذا قاله مجاهد، وقال غيره: كل مجرم في القرآن فالمراد به الكافر، والآية الثانية المراد بها المؤمنون لأن اجتناب الكبائر لا يكون متحققاً مع وجود الكفر. الثانى: لو ثبت أن المراد بالمجرم مطلق الذنب لم يلزم التناقض لجواز أن تكتب الصغائر ليشاهدها العبد يوم القيامة، ثم تكفر عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 فيعلم قدر نعمة العفو، فإن أكثر الذنوب يناسها العبد خصوصا الصغائر. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) يدل على أنه من الجن، وقوله تعالى في موضع آخر: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) يدل على أنه من الملآئكة، فكيف الجمع بينهما؟ قلنا: فيه قولان: احدهما: أنه من لجن عملا بظاهر هذه الآية، ولأن له ذرية قال الله تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي) والملآئكة لا ذرية لهم، ولأنه أكفر الكفرة وأفسق الفسقة، والملآئكة معصومون عن الكبائر لأنهم رسل الله وعن المعاصى مطلقاً لأنهم عقول مجردة بغير شهوة، ولا معصية إلا عن شهوة، ويؤيده قوله تعالى: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) وقال تعالى: (وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) "يعنى الملآئكة" فكيف يكون إبليس منهم ويؤمر بالسجود فيمتنع. فعلى هذا يكون استثناءه من الملآئكة استثناء من غير الجنس أو يكون استثناء من جنس المأمورين بالسجود لا من جنس الملآئكة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ويكون التقدير: وإذ قلنا للملآئكة وإبليس اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس، كما تقول: أمرت إخوتى وعبدى بكذا فأطاعونى إلا عبدى، والعبد ليس من الأخوة ولا داخلا فيهم إلا من حيث شملهم الأمر بالفعل معهم، فهذا كذلك، القول الثانى: أنه كان من الملآئكة قبل أن يعصى الله فلما عصاه مسخه شيطاناً، روى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنه فيكون معنى قوله تعالى: "كان من الجن صار من الجن) لمخالفته فتكون كان بمعنى صار، وقيل: معناه كان من الجن في سابق علم الله تعالى، وهذان القولان يدلان على أنه كان من الملآئكة قبل المعصية، وروى عنه أيضاً أنه كان من خزان الجنة، وهم جماعة من الملآئكة يسمون الجن، فعلى هذا يكون قوله تعالى (من الجن) أي من الملائكة الذين هم خزان الجنة (ففسق عن أمر ربه) بمخالفته فيكون استثناء من الجنس، وقال الزمخشري في سورة البقرة في قوله تعالى: (فسجدوا إلا إبليس) هو استثناء متصل لأنه كان جنياً واحداً بين أظهر الألوف من الملآئكة مغموراً بهم، فغلبوا عليه في قوله تعالى: (فسجدوا) قلت: وفى هذا التعليل نظر، ثم قال بعده: ويجوز أن يجعل منقطعاً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي) والأولياء: الأصدقاء والأحباب وهم ضد الأعداء، ويؤيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 قوله تعالى: (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) وليس من الناس أحد يحب إبليس وذريته ويصادقهم؟ قلنا: المراد بالمولاة هنا إجابة الناس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي، ويوسوسون في صدورهم وطاعنهم إياهم، فالمولاة مجاز عن هذا لأنه من لوازمها. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي لم تجب الأصنام المشركين، فنفى عن الأصنام النطق، وقال تعالى في سورة النحل: (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَ كَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ) يعنى فكذبتهم الأصنام فيما قالوا فأثبت لهم النطق فكيف الجمع بينهما؟ قلنا: المراد بقول تعالى هنا: (نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أي نادوهم للشفاعة لكم أو لدفع العذاب عنكم، فدعوهم فلم يجيبوهم لذلك، فنفى عنهم النطق بالاجابة إلى الشفاعة ودفع العذاب عنهم. وفى سورة النحل أثبت لهم النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم، فلا تناقض بين المنفى والمثبت. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: "شركائى " وقال في سورة النحل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 "شركائهم"؟ قلنا: قوله تعالى: "شركائى" معناه في زعمكم واعتقادكم، ولهذا قال: "شركائى الذين زعمتم " أو أخرجه مخرج التهكم بهم كما قال المشركون للنبى صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وقوله تعالى: "شركاءهم " يعنى آلهتهم التى جعلوها شركاء، فأضافتها إلى الله تعالى لجعلهم إياها شركاء له. وإضافتها إليهم لجعلهم: إياها شركاء، والإضافة تصح بأدنى ملابسه لفظية أو معنوية فصحت الإضافتان. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (نسيا حوتهما) والناسى إنما كان يوشع وحده بدليل قوله لموسى عليه الصلاة والسلام معتذراً: (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) أي قصة الحوت وخبره: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) ؟ قلنا: أضيف النسيان إليهما مجازاً، والمراد أحدهما قال الفراء: نظيره قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) وإنا يخرج من البحر المالح لا من العذب وقيل: نسى موسى عليه الصلاة والسلام تفقد الحوت، ونسى يوشع أن يخبره خبره، وذلك أنه كان حوتاً مملوحاً في مكتل قد تزوداه، فلما أصبابه من ماء عين الحوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 رشائش حى وأنسل من المكتل وسلك في البحر، ويوشع يراه، وكان موسى قد ذهب لقضاء حاجة فعزم يوشع أن يخبره بما رأى من أمر الحوت، فلما جاء موسى نسى أن يخبره، ونسى موسى تفقد الحوت والسؤال عنه. * * * فإن قيل: هذا التفسير يدل على أن النسيان من يوشع أو منهما كان بعد حياة الحوت وذهابه في البحر، وظاهر الآية يدل على أن النسيان كان سابقاً على ذهابه في البحر متصلا ببلوغ مجمع البحرين لقوله تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَ ا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا) ؟ قلنا: في الآية تقديم وتأخير تقديره: فلما بلقا مجمع بينهما اتخذ الحوت سبيله في البحر سرباً فنسيا حوتهما. * * * فإن قيل: كيف نسى يوشع مثل هذه الأعجوبة العظيمة في مدة يسيرة بل في لحظة، واستمر به النسيان يومه ذلك وليلته إلى وقت الغداء من اليوم الثانى، ومثل ذلك لا ينسى مع تطاول الزمان، كيف وقد كان الله تعالى جعل فقدان الحوت علامة لهما على وجدان الخضر، على ما نقل أن موسى سأل الله تعالى علامة على موضع وجدانه، فأوحى الله إليه أن خذ معك حوتاً في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم؟ قلنا: سبب نسيانه أنه كان قد اعتاد مشاهدة المعجزات من موسى عليه الصلاة والسلام، واستأنس بها، فكان إلفه لمثلها من خوارق العادات سبباً لقلة اهتمامه بتلك الأعجوبة وعدم اكتراثه لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فإن قيل: كيف قال تعالى: (حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا) بغير فاء، و (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ) بالفاء؟ قلنا: جعل خرفها جزاءاً للشرط فلم يحتج إلى الفاء كقولك: إذا ركب زيد الفرس عقره، وجعل قتل الغلام من جملة الشرط فعطفه عليه بالفاء والجزاء، قال: "أقتلت " كقولك: ركب زيد الفرس فعقره، قال له صاحبه: أعقرته؟ * * * فإن قيل: كيف خولف بين القصتين؟ قلنا: لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب، وقتل الغلام تعقب لقاءه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في قصة الغلام: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا) وفى قصة السفينة: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْراً) ؟ قلنا: قيل: إمراً معناه منكراً فعلى هذا لا فرق في المعنى، لأن النكر والمنكر بمعنى واحد، وقيل: الإمر العجب أو الداهية وخرق السفينة كان أعظم من قتل نفس واحدة، لأن في الأول هلاك كثيرين، وقيل: النكر أعظم من الإمر فمعناه جئت شيئاً أنكر من الأول، لأن ذلك كان يمكن تداركه بالسد، وهذا لا يمكن تداركه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في قصة السفينة: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وفى قصة الغلام: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ) ؟ قلنا: لقصد زيادة المواجهة بالعتاب على رفض الوصية مرة ثانية، وللتنبيه على تكرر ترك الصبر والثبات. * * * فإن قيل: ما فائدة إعادة ذكر الأهل في قوله تعالى: (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) وهلا قال: "استطعماهم " لأنه قد سبق ذكر الأهل مرة؟ قلنا: فائدة إعادة التوكيد لا غير. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) نسب الإرادة إلى الجماد، وهى من صفات من يعقل؟ قلنا: هذا مجاز بطريق المشابهة، لأن الجدار بعد مشارفته ومداناته للانقضاض والسقوط شأن من يعقل ويريد في تهيئه للسقوط، فظهرت منه هيئة السقوط كما يظهر ممن يعقل ويريد، فنسبت إليه الإرادة مجازاً بطريق المشابهة في الصورة، وقد أضافت العرب أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل مجازاً قال الشاعر: يربد الرمح صدر أبى براء. . . ويعدل عن دماء بنى عقيل (وقال حسان) : إن دهراً يلف شملى بحمل. . . لزمان يهم بالاحسان ومن أمثالهم: تمرد مارد وعز الأبلق، ومنه قوله تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وقوله: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ) وقوله: (أتينا طائعين) ونظائره كثيرة. * * * فإن قيل: لأى سبب لم يفارقه الخضر عليه الصلاة والسلام عند الاعتراض الأول والثانى، وفارقه عند الثالث؟ قلنا: لوجهين أحدهما أن موسى عليه الصلاة والسلام شرط على الخضر ترك مصاحبته على تقدير وجود الاعتراض الثالث، وقد وجد فكان راضياً به، الثانى: أن اعتراض موسى عليه الصلاة والسلام في المرة الأولى والثانية كان تورعاً وصلابة في الدين، واعتراضه في المرة الثالثة كان لهوى نفسه وشهوة بطنه فأعقبه هواه هوانا. * * * فإن قيل: قوله: (فأردت أن أعيبها) علته خوف الغضب فكان حقه أن يتأخر عن علته فلم قدم عليها؟ قلنا: هو متأخر عنه لأن علة تعييبها أو علة إرادته تعييبها خوف الغضب، وخوف الغضب سابق لأنه الحامل للخضر عليه الصلاة والسلام على ما فعله، وفى قراءة أبى وعبد الله رضى ألله عنهما: "كل سفينة صالحة " لابد من إضمار هذه الزيادة على قراءة الجمهور وإلا لم يفد الخرق. * * * فإن قيل: الشمس في السماء الرابعة وهى بقدر كرة الأرض مائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وستين مرة، وقيل مائة وخمسين مرة، وقيل مائة وعشرون مرة، فكيف تسعها عين في الأرض حتى أخبر الله تعالى عن ذى القرنين أن: (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أو "حامية " على اختلاف القراءتين؟ قلنا: المراد بقوله تعالى: "وجدها" أي في زعمه وظنه، كما يرى راكب البحر إذا لجج فيه وغابت عنه الأطراف والسواحل أن الشمس تطلع من البحر وتغرب فيه فذو القرنين انتهى إلى آخر البنيان في جهة الغرب فوجد عيناً حمئة واسعة عظيمة فظن أن الشمس تغرب فيها. * * * فإن قيل: ذو القرنين كان نبياً أو تقياً حكيماً على اختلاف القولين، فكيف خفى عليه هذا حتى وقع في ظن المستحيل الذي لا يقبله العقل؟ قلنا: الأنبياء والأولياء والحكماء ليسوا معصومين عن ظن الغلط والخطأ، وإن كانوا معصومين عن كبائر الذنوب ألا ترى إلى ظن موسى عليه الصلاة والسلام فيما انكره على الخضر عليه الصلاة والسلام في القضايا الثلاث، وظنه أنه يرى الله تعالى في الدنيا. وهو من كبار الأنبياء، وكذلك يونس عليه الصلاة والسلام على ما أخبر الله تعالى عنه بقوله: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) وكان الواقع بخلاف ظنه، الثانى: أن الله تعالى قادر على تصغير جرم الشمس وتوسيع العين الحميئة وكرة الأرض، بحيث تسع عين الماء عين الشمس فلم لا يجوز أن يكون قد وقع ذلك، ولم نعلم به لقصور علمنا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 الإحاطة بذلك؟ * * * فإن قيل: قوله تعالى: (يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) يدل على أنه كان نبياً لأن الله تعالى خاطبه؟ قلنا: من قال أنه ليس نبياً يقول هذا الخطاب له كان بواسطة النبى الموجود في زمانه، كما في قوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) وما أشبهه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا في حق الكفار: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) أي فلا ينصب لهم ميزاناً لأن الميزان إنما ينصب لتوزن به الحسنات بمقابلة السيئات، والكافر لا حسنة له ولا طاعة لقوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورً) وقال في موضع آخر: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) أي فمسكنه النار فأثبت له ميزاناً؟ قلنا: معنى قوله تعالى: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) أي لا يكون لهم عندنا قدر (ولا خاطر) لخستهم وحقارتهم، ولو كان معناه ما ذكرتم يكون المراد بقوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) من غلبت سيئاته على حسناته من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 المؤمنين، فإنه يسكن في النار، ولكن لا يخلد فيها، بل بقدر ما يمحص عنه ذنوبه فلا تنافى بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 سورة مريم عليها السلام * * * فإن قيل: النداء الصوت والصياح يقال ناداه نداء أي صاح به، فكيف وصفه تعالى بكونه خفياً؟ قلنا: النداء هنا الدعاء، وإنما أخفاه ليكون أقرب إلى الإخلاص، أو لئلا يلام على طلب الولد بعد الشيخوخة، أو لئلا يعاديه بنو عمه ويقولوا لو كره أن نقوم مقامه بعده فسأل ربه الولد لذلك. * * * فإن قيل: كيف قال، تعالى: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) والنبى لا يورث لقوله عليه الصلاة والسلام: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة؟ قلنا: المراد بقوله: "يرثنى " أي يرثنى العلم والنبوة، ويرث من آل يعقوب الملك، وقيل: الأخلاق، فأجابه الله تعالى إلى ولى وراثة العلم والنبوة والأخلاق دون الملك، وألمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث" المال، ويؤيده قوله: "ما تركناه صدقة " ويعقوب هنا أبو يوسف، وقيل: بل هو أخو زكريا، وقيل: لا بل هو أخو عمران الذي هو أبو مريم. * * * فإن قيل: كيف قال: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) فعدى الفعل في الأول بنفسه، وفى الثانى بحرف الجر وهو واحد؟ قلنا: يقال ورثه وورث منه، فجمع بين اللغتين وقيل: (من) هنا للتبعيض لا للتعدية، لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء. * * * فإن قيل: كيف طلب الولد بقوله (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 أى ولداً صالحاً، فلما بشره الله تعالى به بقوله: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ... الآية) استبعد ذلك وتعجب منه وأنكره بقوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ ... الآية) ؟ قلنا: لم يكن ذلك عن طريق الإنكار والاستبعاد، بل ليجاب بما أجيب به فيزداد الموقنون إيقاناً ويرتدع المبطلون، والا فمعتقد زكريا أولا وأخراً كان على منهاج واحد في أن الله تعالى غنى عن الأسباب، الثانى: أنه قالى ذلك تعجب فرح وسرو لا تعجب إنكار واستبعاد، الثالث: قيل: إنه قال ذلك استفهاماً عن الحالة التى يهبه الله تعالى فيها الولد، أيهبه في حالة الشيخوخة أم يرده إلى حالة الشباب ثم يهبه، ولكن هذا الجواب لا يناسبه ما أجيب به زكريا عليه الصلاة والسلام بعد استفهامه. * * * فإن قيل: كيف طلب العلامة على وجود الولد بعد ما بشره الله تعالى به، أكان عنده شك بعد بشارة الله تعالى في وجوده حتى طلب العلامة؟ قلنا: إنما طلب العلامة على وجود الحمل ليبادر إلى الشكر، ويتعجل السرور، فإن الحمل لا يظهر في أول العلوق بل بعد مدة. فأراد معرفته أول ما يوجد، فجعل الله تعالى آية وجود الحمل عجزه عن الكلام، وهو سوي الجوارح ما به خرس ولا بكم. * * * فإن قيل: كيف قالت: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وإنما يتعوذ من الفاسق لا من التقى؟ قلنا: معناه إن كنت ممن يتقى الله ويخشاه، فستنتهى عنى بتعوذى به منك، فمعنى أعوذ أحصل على ثمرة التعوذ، وعن ابن عباس رضى الله عنهما إنه كان في زمانها رجل إسمه تقى، ولم يكن تقياً بل كان فاجراً، فظنته إياه فتعوذت منه، والقول الأول هو الذي عليه المحققون، وقيل: هو على المبالغة معناه إنى أعوذ منك إن كنت تقياً) فكيف يكون حالى في القرب منك إلى الله تعالى إذا لم تكن تقياً) ؟ وقالوا: نظير هذا ما جاء في الخبر: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه) ، معناه أنه إذا كان بحال لو لم يخف الله تعالى لا يوجد منه عصيان، فكيف يكون حاله إذا خاف الله تعالى، وفى قراءة أبى وابن مسعود: إلا أن تكون تقياً. * * * فإن قيل: اتفق العلماء على أن الوحى لم ينزل على امرأة، ولم يرسل جبريل عليه الصلاة والسلام برسالة إلى امرأة قط، ولهذا قالوا في قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) أنه كان وحى إلهام، وقيل: وحى منام فكيف قال تعالى: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) وقال: (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) ؟ قلنا: لا نسلم أن الوحي لم ينزل على امرأة قط، فإن مقاتلا قال فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 قوله تعالى: " وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ " أنه كان وحياً بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام، وإنما المتفق عليه بين العلماء أن جبريل عليه الصلاة والسلام لم ينزل بوحى الرسالة على أمرأة لا بمطلق الوحى، وهنا لم ينزل على مويم بوحى الرسالة بل بالبشارة بالولد، ولهذا جاءها على صورة البشر: (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) . * * * فإن قيل: ما وجه قراءة الجمهور: (لأهب لك) والواهب للولد هو الله تعالى لا جبريل عليه الصلاة والسلام؟ قلنا: قال ابن الأنبارى: معناه إنما أنا رسول ربك يقول لك أرسلت لك رسولى إليك لأهب لك، فيكون حكاية عن الله تعالى لا من قول جبريل عليه الصلاة والسلام، فيكون فعل الهبة مستنداً إلى الله تعالى لا إليه، الثانى: أن معناه لأكون سبباً في هبة الولد بواسطة النفخ في الدرع، فالإضافة إليه بواسطة السببية. * * * فإن قيل: كيف قالت: (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) ولم يقل بغية مع أنه وصف مؤنث؟ قلنا: قال ابن الأنبارى: لما كان هذا الوصف غالباً على النساء وقلما تقول العرب رجل بغى، ولم يلحقوا به علامة التأنيث إجراء مجرى حائض وعاقر، وقال الأزهرى: لا يقال رجل بغى بل هو مختص بالمؤنث، ولام الكلمة ياء يقال بغت تبغى، فهو فعول عند المبرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أصلها بغوى، قلبت الواو ياء وأدغمت وكسرت الغين اتباعاً، فهو كصبور وشكور في عدم دخول التاء، وقال ابن جنى في كتاب التمام: هى فعيل ولو كانت فعولا لقيل بغو، كما قيل هو نهو عن المنكر، ثم قيل هى فعيل بمعنى فاعل فهى كقوله تعالى: (قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وقال الأخفش: هى مثل ملحفة جديد فجعلها بمعنى مفعول، وقيل: إنما لم يقل بغية مراعاة لبقية رؤوس الآيات. * * * فإن قيل: ما كان حزن مريم وقولها: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسرى والرطب، بل كان لخوف أن يتهمها أهلها بفعل الفاحشة؟ قلنا: كان حزنها لمجموع الأمرين هو ما ذكرتم، وجدب مكانها الذي ولدت فيه، فإنه لم يكن فيه طعام ولا شراب ولا ماء يتطهر به، فكان إجراء النهر في المكان اليابس الذي لم يعهد فيه ماء، وأخراج الرطب من الشجرة اليابسة دافع لجهتى الحزن، أما دفع الجذب فظاهر، وأما دفع حزن التنمة فمن حيث إنهما معجزتان تدلان قومها على عصمتها وبراءتهاً من السوء، وإن الله تعالى خصها بأمور إلهية خارجة عن العادة خارقة لها، فيتبين لهم أن ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها، ولا بعيد في قدرة الله تعالى المخرج في لحظة واحدة الرطب الجنى من النخلة اليابسة، (والمجرى للماء) بغتة في مكان لم يعهد فيه. * * * فإن قيل: كيف أمرها جبريل عليه الصلاة والسلام إذا رأت إنساناً أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 تكلمه بعد النذر بالسكوت بقول: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا ... الآية) وذلك خلف في النذر؟ قلنا: إنما أمرها بذلك لأنه تمام نذرها، فإنها لم تكن مأمورة بنذر مطلق السكوت حتى يندرج فيه الكف عن الذكر والتسبيح والدعاء ونحوها، بل بنذر السكوت عن تكليم الإنسى، وإذا كان تمام نذرها بقولها: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) لا تكون مكلمة للإنسى بعد تمام النذر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) وكل واحد كان في المهد صبياً؟ قلنا: كان هنا زائدة وصبياً منصوب على الحال، لا على أنه خبر كان، تقديره كيف نكلم من في المهد في حال صباه، وقيل: كان بمعنى وقع ووجد (صبياً) منصوباً على الوجه الذي مر. * * * فإن قيل: خطاب التكليف في جميع الشرائع إنما يكون بعد البلوغ أو بعد التمييز والقدرة على فعل المأمور به، وعيسى عليه الصلاة والسلام كان رضيعاً في المهد، فكيف خوطب بالصلاة والزكاة حتى قال: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) ؟ قلنا: تأخير الخطاب إلى غاية البلوغ وغيرها إنما كان ليحصل العقل والتمييز، وعيسى عليه الصلاة والسلام كان واجداً للعقل والتمييز التام في تلك الحالة فتوجه نحوه الخطاب أن يفعلهما إذ قدر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ذلك، ولهذا قيل: إنه أعطى النبوة في صباه أيضاً. * * * فإن قيل: الزكاة إنما تجب على الأغنياء، وعيسى عليه الصلاة والسلام لم يزل فقيراً لابس كساء مدة بقائه في الأرض، وعلم الله تعالى ذلك من حاله، فكيف أوصاه بالزكاة؟ قلنا: المراد بالزكاة هنا تزكية النفس وتطهيرها من المعاصى لا زكاة المال. * * * فإن قيل: كيف جاء السلام في قصة يحيى عليه السلام منكراً، وفى قصة عيسى عليه الصلاة والسلام معرَّفاً؟ قلنا: قد قيل إن النكرة والمعرفة في مثل هذا سواء لا فرق بينهما في المعنى، الثانى: أنه سبق ذكره في قصة يحيى عليه الصلاة والسلام مرة، فلما أعيد ذكره أعيد معرفاً كقوله تعالى: (فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) كأنه قال ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلى. * * * فإن قيل: كيف تكون الألف واللام في السلام للعهد، والأول سلام من الله تعالى على يحيى عليه الصلاة والسلام، والثانى: سلام على عيسى عليه الصلاة والسلام على نفسة؟ قلنا: التعريف راجع إلى ماهية السلام ومواطنه لا إلى كونه واردا من عند الله تعالى. * * * فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ) وما أشبهه ومثل هذا إنما يستعمل إذا كان المأمور مختاراً في الذكر وعدمه، كما تقول لصاحبك وهو يكتب كتاباً اذكرنى في الكتاب أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 اذكر فلاناً في الكتاب، والنبى عليه الصلاة والسلام ما كان بسبيل الزيادة أو النقصان في الكتاب ليوصى بمثل ذلك؟ قلنا: هذا على طريق التأكيد في الأمر بالابلاغ، كتأكيد الملك على رسوله بإعادة بعض فصول الرسالة وتخصيصها بالأمر بالابلاغ. * * * فإن قيل: الاستغفار للكافرين لا يجوز، فكيف وعد إبواهيم عليه الصلاة والسلام أباه بالاستغفار له بقرله: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ؟ قلنا: معناه سأسأل الله لك توبة بها مغفرة، يعنى الإسلام والاستغفار والاستسلام والاستغفار للكافر بهذا الطريق جائز وهو أن يقال اللهم وفقه للاسلام، أو اللهم تب عليه، وأهده وارشده وما أشبه ذلك، الثانى، أنه وعده ذلك بناء على أنه يسلم فيستغفر له بعد الإسلام، الثالث: أنه وعده ذلك قبل تحريم الاستغفار للكافر، فإن تحريم ذلك قضية شرعية إنما تعرف بالسمع لا عقلية، فإن العقل لا يمنع من ذلك. * * * فإن قيل: الطور وهو الجبل ليس له يمين ولا شمال، فكيف قوله تعالى: (مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) ؟ قلنا: خاطب الله تعالى العرب بما هو معروف في استعمالهم، فإنهم يقولون عن يمين القبلة وشمالها، يعنون ما يلى يمين المستقبل لها وشماله، لأن القبلة لا يدلها ليكون لها يمين وشمال، وفى هذا اتساع منهم في الكلام لعدم اللبس، فالمراد بالأيمن هنا ما عن يمين موسى عليه الصلاة والسلام من الطور لأن النداء جاء من قبل يمينه، هذا إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 كان الأيمن ضد الأيسر من اليمين، وإن كان من اليمن وهو البركة من قولهم: يمن فلان قومه فهو يأمن أي كان مباركاً عليهم، فلا إشكال لأنه يصير معناه من جانب الطور المبارك. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا) وهارون كان أكبر من موسى عليهما الصلاة والسلام فما معنى هبته له؟ قلنا: معناه أن الله تعالى أنعم على موسى عليه الصلاة والسلام باجابته دعوته فيه، حيث قال: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي ..... الآية) فقال: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) فالمراد بالهبة جعله عضداً له وناصراً ومعيناً، كذا فسره ابن عباس رضى الله عنهما. * * * فإن قيل: كيف (وصف) الله تعالى النبيين المذكورين في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ .... الاية) بقوله تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) فالمراد بآيات الرحمن القرآن، والقرآن لم يتل على أحد من الأنبياء المذكورين؟ قلنا: آيات الرحمن غير مخصوصة بالقرآن، بل كل كتاب أنزله الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 تعالى ففيه آياته، ولو سلمنا أن المراد بها القرآن فنقول: إن المراد بقول تعالى: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا) محمد صلى الله عليه وسلم وأمته. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) يدل على أن ترك الصلاة واضاعتها كفر، لأنه شرط في توبة مضيعها الإيمان؟ قلنا: قال ابن عباس رضى الله عنهما: المراد بهؤلاء الخلف هنا اليهود تركوا الصلاة المفروضة، وشربوا الخمر، واستحلوا إنكاح الأخت من الأب. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) ولم يقل آتيا كما قال تعالى: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ) ؟ قلنا: المراد بوعده موعوده وهى الجنة، وهى مأتية يأتيها أولياؤه، الثانى: أن مفعولا هنا بمعنى فاعل كما في قوله تعالى: (حِجَابًا مَسْتُورًا) أي ساتراً. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) وقوله تعالى: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 يدل من حيث المفهوم أن غير المتقين لا يدخلون الجنة؟ قلنا: المراد بالتقوى هنا التقوى من الشرك، وكل المؤمنين سواء في ذلك. * * * فإن قيل: ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال من دعوتهم الولد لله تعالى، ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلنا: معناه أن الله تعالى يقول: كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً على قائلها لولا حلمى وامهالى. فإنى لا أعجل بالعقوبة كما قال الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا) يعنى أن تخر على المشركين وتنشق الأرض بهم، ويدل على هذا قوله تعالى في آخر الآية: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورً) ، الثانى: أن يكون استعظاماً لقبح هذه الكلمة وتصويراً لأثرها في الدين، وهدمها لأركانه وقواعده، وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات أن يصيب هذه الأجسام العظيمه التى هى قوام العالم ما تنفطر منه وتنشق وتخر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا في صفة الشرك: (كَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) وهذا يدل على قوة كلمة الشرك وشدتها، وقال تعالى في سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في صفة كلمة الشرك: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 والمراد بالكلمة الخبثةكلمة الشرك، كما قال ابن عباس رضى الله عنهما: وبالشجرة الخبثة شجرة الحنظل، كذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على ضعف كلمة الشرك وتلاشيها واضمحلالها، فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا: وصفت كلمة الشرك في سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالضعف، وهنا بالقبح والفظاعة فلا تنافى بينهما. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) والإحصاء العد على ما نقله الجوهرى، أو الحصر على ما نقله بعض أئمة التفسير، كماسبق ذكره في سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) فإن كان الاحصاء العد فهو تكرار وإن كان الحصر فذكره مغنن ذكر العدد، لأن الحصر لايكون إلا بعد معرفة العدد؟ قلنا: الاحصاء قد جاء بمعنى العلم أيضا، ومنه قوله تعالى: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) أي علم عدد كل شيء وقال الشاعر: وكن للذى لم تحصه متعلما. . . وأما الذي أحصيت منه فعلم وهو المراد هنا، فيصير المعنى لقد علمهم أي علم أفعالهم وأقوالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وكل ما يتعلق بذواتهم وصفاتهم وعددهم فلا تكرار، ولا استغناء عن ذكر العدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 سورة طه عليه الصلاة والسلام * * * فإن قيل: كيف حكى الله تعالى قول موسى عليه الصلاة والسلام لأهله عند رؤية النار في هذه السورة، وفى سورة النمل، وفى سورة القصص بعبارات مختلفة، وهذه القضية لم تقع إلا مرة واحدة، فكيف اختلفت (عبارات) موسى عليه الصلاة والسلام فيها؟ قلنا: قد سبق في سورة الأعراف في قصة موسى عليه الصلاة والسلام مثل هذا السؤال والجواب المذكور ثم هو الجواب هنا. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا) ظاهر اللفظ نهى من لا يؤمن بالساعة عن صد موسى عليه الصلاة والسلام عن الإيمان بها، والمقصود هو نهى موسى عن التكذيب بها، فكيف تنزيله؟ قلنا: معناه كن شديد الشكيمة في الدين، صليب المعجم لئلا يطمع في صدك عن الإيمان بها من لا يؤمن بها، وهذا كقولهم: لا أرينك هنا معناه لا تدن منى ولا تقرب من حضرتى لئلا أراك، ففى الصورتين النهى متوجه إلى المسبب والمراد به النهى عن السبب. وهو القرب منه والجلوس بحضرته إنه سبب رؤيته وكذلك لين موسى عليه الصلاة والسلام في الدين وسلاسة قياده سبب لصدهم إياه. * * * فإن قيل: ما فائدة السؤال في قوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) وهو أعلم بما في يده جملة وتفصيلا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 قلنا: فائدته تأنيسه وتخفيف ما حصل عنده من دهشة الخطاب، وهيبة الاجلال وقت التكلم معه، كما يرى أحدنا طفلا قد دخلته هيبة واجلال وخوف وفى يده فاكهة أو غيرها فيلاطفه ويؤانسه بقوله: ما هذا في يدك؟ مع أنه عالم به، الثانى: أنه أراد بذلك أن يقرأ موسى عليه الصلاة والسلام ويعترف بكونها عصا، ويزداد علمه بكونها عصا رسوخاً في قلبه، فلا يحوم حوله شك إذا قلبها ثعباناً إنها كانت عصا ثم انقلبت ثعباناً بقدرة الله تعالى، وأن يقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه فيتنبه على القدرة الباهرة، ونظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد ويقول لك ما هذه؟ فتقول زبرة حديدثم يريك بعد أيام درعاً سابغة مسرورة ويقول هذه هى الزبرة صيرتها إلى ما تراه من عجب الصنعة وأنيق السرد. * * * فإن قيل: كيف زاد موسى عليه الصلاة والسلام على حرف: الجواب وليس ذلك من شيمة البلغاء خصوماً في مخاطبة الملوك؟ قلنا: قال ابن عباس رضى الله عنهما: إنه لما قال: هى عصاى سئل سؤالاً ثانياً فقيل: ما تصنع بها؟ فأجاب بباقى الآية، الثانى: (أنه) إنما عدد فوائدها وبين حاجته إليها خوفاً من أن يؤمر بإلقائها كما أمر بإلقاء النعلين، الثالث: (أنه) ذكر ذلك لئلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ينسب إليه العبث في حملها. * * * فإن قيل: كيف نقل أنها كانت تضيء له بالليل، وتدفع نه الهوام، وتثمر له إذا اشتهى الثمار فغرسها في الأرض من ساعتها، ويركزها فينبع الماء من مركزها، فإذا رفعها نضب، وكان يستقى بها فتطول بطول البئر وتقصر بقصرها، فهلا عدد هذه المنافع؟ قلنا: كره أن يشتغل عن سماع كلام الله تعالى بتفصيل منافعها، ففصل البعض وأجمل الباقى بقوله: (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) والله أعلم بما أجمله، الثانى: (أنه) ذكر المنافع التى هى ألزم له وحاجته إليها أمس، وإن كانت المنافع التى أجملها أعجب وأغرب. * * * فإن قيل: قد ذكر الله تعالى عصى موسى عليه الصلاة والسلام بلفظ الحية والثعبان والجان، وبين الثعبان والجان تناف، لأن الجان الحية الصغيرة كذا قاله ابن عرفه، والثعبان الحية العظيمة كذا نقله الأزهرى عن الزجاج وقطرب؟ قلنا: أراد بها في صورة الثعبان العظيم وصفة الحية الصغيرة وحركتها، ولهذا قال: (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) ، الثانى: أنها كانت في أول انقلابها تنقلب حية صغيرة صغراء دقيقة ثم تتورم ويتزايد حجمها حتى تصير ثعباناً، فأريد بالجان أول حالها، وبالثعبان مآلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) وهذا لا بيان فيه؟ قلنا: (أولا) : فائدته الإشارة إلى أنه ليس كل الأمور مما يوحى إلى النساء كالنبوة ونحوها بل بعضها، ثانيا: أنه للتأكيد كقوله تعالى: (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى) فكأنه قال: إذ أوحينا إلى أمك إيحاء، ثالثا: أنه أبهمه أولا للتفخيم والتعظيم، ثم بينه وأوضحه بقوله تعالى: (أَنِ اقْذِفِيهِ ... الآية) . * * * فإن قيل: كيف قدم هارون على موسى في قوله تعالى: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) وهارون كان وزيراً لموسى عليهما الصلاة والسلام وتبعاً له، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا) ؟ قلنا: إنما قدمه ليقع موسى مؤخراً في اللفظ فتتناسب الفواصل، أعنى في رؤوس الآيات. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) والموت والحياة في صفات الإنسان نقيضان فكيف يرتفعان؟ قلنا: المراد لا يموت فيها موتاً يستريح به، ولا يحيى حياة تنفعه ويستلذ بها، الثانى: أن المراد لا يموت فيها موتاً متصلا ولا يحيى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 حياة متصلة، بل كلما مات من شدة العذاب أعيد حياً ليذوق العذاب، هكذا سبعين مرة في مقدار كل يوم من أيام الدنيا. * * * فإن قيل: الخوف والخشية واحد في اللغة، فكيف قال تعالى: (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى) ؟ قلنا: معناه لا تخاف دركاً أي لحاقاً من فرعون، ولا تخشى غرقاً في البحر كما تقول: لا تخاف زيداً ولا تخاف عمراً، ولو قلت: ولا عمراً صح وكان أوجز، ولكن إذا أعدت الفعل كان أكد، وأما في الآية فلما لم يكن مفعول الخشية مذكوراً ذكر الفعل ثانياً ليكون دليلا عليه، وخولف بين اللفظين رعاية للبلاغة، وقيل: معناه لا تخاف دركاً على نفسك، ولا تخشى دركاً على قومك، والأول عندى أحسن. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) مغن عن قوله تعالى: (وَمَا هَدَى) ومفيد فوق فائدته، فكيف ذكر معه؟ قلنا: معناه وما هداهم بعدما أضلهم، فإن المضل قد يهدى بعد إضلاله، الثانى: أن معناه وأضل فرعون قومه وما هدى نفسه، الثالث: أن معناه وأضل فرعون قومه عن الدين، وما هداهم طريقاً في البحر، الرابع: أن قوله: "وما هدى" تهكم به في قوله لقومه: (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أضاف المواعدة إليهم والمواعدة إنما كانت لموسى عليه الصلاة والسلام، واعده الله تعالى جانب الطور الأيمن لإيتائه التوراة؟ قلنا: المواعدة وإن كانت لموسى عليه الصلاة والسلام ولكنها لما كانت لإنزال الكتاب بسبب بنى اسرائيل وفيه بيان شريعتهم وأحكامهم وصلاح معاشهم ومعادهم أضيفت المواعدة إليهم بهذه الملابسة والاتصال. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى) سؤال عن سبب العجلة، فإن موسى عليه الصلاة والسلام لما وعده الله تعالى إنزال التوراة عليه في جانب الطور الأيمن وأراد الخروج إلى ميعاد ربه اختار من قومه سبعين رجلا يصحبونه إلى ذلك المقام ثم سبقهم شوقاً إلى ربه، وأمرهم بلحاقه فعوتب على ذلك، فكان الجواب المطابق أن يقول: طلبت زيادة رضاك أو الشوق إلى لقائك وتنجز وعدك، فكيف قدم ما لا يطابق السؤال، وهو قوله: (هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي) قلنا: ما واجهه به ربه تضمن شيئين إنكار العجلة في نفسها، والسؤال عن سببها، فبدأ موسى عليه الصلاة والسلام بالاعتذار عما أنكره عليه بأنه لم يوجد منه إلا ما تقدم يسيراً لا يعتد به فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 العادة، كما يتقدم المقدم جماعته وأتباعه، ثم عقب العذر بجواب السؤال عن السبب. * * * فإن قيل: أليس أن أئمة اللغة قالوا العوج بالكسر في المعانى، وبالفتح في الأعيان، ولهذا قال ثعلب: تقول في الأمر والدين عوج، وفى العصا ونحوها عوج والجبال والأرض عين فكيف صح فيهما المكسور في قوله تعالى: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) ؟ قلنا: قال ابن السكيت: كل ما كان ينتصب كالحائط والعود قيل فيه عوج بالفتح والعوج بالكسر ما كان في الأرض أو دين أو معاش فعلى هذا لا إشكال، الثانى: أنه أراد به نفى الاعوجاج الذي يدرك بالقياس الهندسى، ولا يدرك بحاسة البصر، وذلك اعوجاج لاحق بالمعانى، فلذلك قال فيه عوج بالكسر ومما يوضح هذا إنك لو سويت قطعة أرض غاية التسوية بمقتضى نظر العين بموافقة جماعة من البصراء، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط، ثم أمرت المهندس أن يعتبرها بالمقاييس الهندسية لوجد فيها عوجاً في غير موضع، ولكنه عوج لا يدرك بحاسة البصر، فنفى الله تعالى ذلك العوج الذي لطف ودق عن الإدراك، فكان لدقته وخفائه ملحقاً بالمعانى. * * * فإن قيل: إن الله تعالى أخبر أن آدم عليه الصلاة والسلام نسى عهد الله ووصيته، وأكل من الشجرة بقوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) وإذا كان فعل ذلك ناسياً فكيف وصفه بالعصيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وبالضلال بقوله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) وعاقبه عليه بأعظم أنواع العقوبة، وهو الاخراج من الجنة؟ قلنا: النسيان هنا يعنى الترك، كما في قوله تعالى: (إِنَّا نَسِينَاكُمْ) أي تركناكم في العذاب، وقوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) فمعناه أنه ترك عهد الله ووصيته فكيف يكون من النسيان الذي هو ضد الذكر، وقد جرى بينه وبين إبليس من المناظرة والمجادلة في أكل الشجرة فصول كثيرة، منها قوله: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ. . . الآية) فكيف يبقى مع هذا نسيان؟ * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (ولم يقل يقل فتشقيا) والخطاب لآدم وحواء عليهما السلام؟ قلنا: لوجوه أحدها أن الرجل هو قيم أهله وأميرهم، فشقاؤه يتضمن شقاوهم، كما أن سعادته تتضمن سعادتهم، فاختصر الكلام بإسناد الشقاء إليه دونها لما كان متضناً له، الثانى: أنه إنما أسنده إليه دونهما للمحافظة على الفاصلة، الثالث: أنه أراد بالشقاء الشقاء فى طلب القوت واصلاح المعاش، وذلك وظيفة الرجل دون المرأة، قال سعيد بن جبير: أهبهط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فذلك شقاؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فإن قيل: هل يجوز أن يقال كان آدم محامياً غاصياً أخذاً من قوله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) ؟ قلنا: يجوز أن يقال عصى آدم كما قال تعالى، ولا يجوز أن يقال كان آدم عاصياً، لأنه لا يلزم من جواز إطلاق الفعل جواز إطلاق اسم الفاعل، ألا ترى أنه يجوز أن يقال تبارك ألله ولايجوز أن يقال الله تبارك ونحو ذلك، ويجوز أن يقال تاب الله على آدم ولا يجوز أن يقال الله تائب ونظائره كثيره. * * * فإن قيل: أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية لا محل للقياس فيها، ولهذا يقال الله عالم، ولا يقال علامة، وإن كان هذا اللفظ أبلغ في الدلالة على معنى العلم، أما أسماء البشر وصفاتهم فقياسية فلم لا يجرى فيها على القياس المطرد؟ قلنا: هنا القياس ليس بمطرد في كلام البشر أيضاً ألا ترى أنهم قالوا ذره ودعه بمعنى اتركه، وفلان يذر ويدع ولم يقولوا منهما وذر ولا واذر ولا ودع ولا وادع فاستعملوا منهما الأمر والمضارع فقط، ولقائل أن يقول: هذا شاذ في كلام البشر، ونادر فلا يترك لأحجله القياس المطرد بل يجرى على مقتضى القياس. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي عن موعظتى أو ألقرآن فلم يؤمن به ولم يتبعه) (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) أي حياة في ضيق وشدة. ونحن نرى المعرضين عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الإيمان والقرآن في أخصب معيشة وأرغدها؟ قلنا: (قال ابن عباس رضى الله عنهما المراد بالمعيشة الضنك) ضنك الحياة في المعصية، وإن كان في رخاء، ونعمة، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم "أنها عذاب القبر، الثانى: المراد بها عيشة في جهنم في الآخرة، الثالث: أن المراد بها عيشة مع الحرص الشديد على الدنيا وأسبابها، وهذه الآية في مقابلة قوله تعالى في سورة النحل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) فكل ما ذكرناه في تفسير الحياة الطيبة فضده وارد في المعيشة الضنك. * * * فإن قيل: أي كلمة هى الكلمة التى سبقت من الله تعالى فكانت مانعة من تعذيب هذه الأمة في الدنيا عذاب الاستئصال حتى قال تعالى: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا) ؟ قلنا: قيل: هى قوله تعالى: (سبقت رحمتى غضبى) ويرد عليه أنه لا اختصاص لهذه الكلمة بهذه الأمة، وقيل: هى قوله تعالى للنبى صلى الله عليه وسلم: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وقيل في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) يعنى لعالمى أمته بتأخير العذاب عنهم، وفى الآية تقديم وتأخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى، وهو الأجل الذي قدره الله تعالى بقاء للعالم وأهله إلى إنقضائه، لكان العذاب لزاماً أي لازماً لهم كما لزم الأمم التى قبلهم. * * * فإن قيل: أصحاب الصراط السوى والمهتدون واحد، فما فائدة التكرار في قوله تعالى: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) ؟ قلنا: المراد بأصحاب الصراط ألسوى السالكون للصراط المستقيم السائرون عليه، والمراد بالمهتدون الواصلون إلى المنزل، وقيل: أصحاب الصراط السوى هم الذين ما زالوا على الصراط المستقيم، والمهتدون هم الذين لم يكونوا على الطريق المستقيم ثم صاروا عليه، وقيل: المراد بأصحاب الصراط السوى أهل دين الحق في الدنيا، وألمراد بمن أهتدى المهتدون إلى طريق الجنة في العقبى. فكأنه قاله: فستعلمون من المحق في الدنيا والفائز في الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 سورة الأنبياء عليهم السلام * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) وصفه بالقرب، وقد مضى من وقت هذا الإخبار أكثر من ستمائة عام ولم يوجد يوم الحساب بعد؟ قلنا: معناه أنه قريب عند الله تعالى، وإن كان بعيد عند الناس، كما قال تعالى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا) وقال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ، الثانى: أن معناه أنه قريب بالنسبة إلى ما مضى من الزمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: إن مثل ما بقى من الدنيا في جانب ما مضى كمثل خيط في ثوب، الثالث: أن المراد به قرب حساب كل واحد في قبره إذا مات، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: من مات فقد قامت قيامته. الرابع: أن كل آت قرقيب وإن طالت أوقات استقباله وترقبه، وإنما البعيد الذي وجد وانقرض، ولهذا يقول الناس إذا سافروا من بلد إلى بلد بعد ماولوا أظهرهم البلد الأول، البلد الثانى أقرب، وإن كان أبعد مسافة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) والذكر الآتى من الله تعالى هو القرآن، وهو قديم لا محدث؟ قلنا: المراد محدث إنزاله، الثانى: أن المراد به ذكر يكون غير القرآن من مواعظ الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره، ونسبته إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الله تعالى لأن موعظته كل واعظ بإلهامه وهدايته، الثالث: أن المراد بالذكر الذاكر، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قوله تعالى في سياق الآية: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) أي استمعوا ذكره أو موعظته * * * فإن قيل: النجوى المسارة فما معنى قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) ؟ قلنا: معناه بالغوا في إخفاء المسارة بحيث لم يفطن أحد لتناجيهم ومسارتهم تفصيلا ولا إجمالا، فإن الإنسان قد يرى اثنين يتساران فيعلم من حيث الاجمال أنهما يتساران، وإن لم يعلم تفصيل ما يتساران به، وقد يتساران في مكان لا يراهما أحد. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى لمشركى مكة: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) يعنى فاسألوا أهل الكتاب عمن مضى من الرسل، هل كانوا بشراً أم ملآئكة مع أن المشركين قالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ؟ قلنا: هم وإن لم يؤمنوا بكتاب أهل الكتاب، ولكن النقل المتواتر من أهل الكتاب في القضية العقلية يفيد العلم لمن يؤمن بكتابهم ولمن لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 يؤمن به. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (ولا يستحسرون) والاستحسار مبالغة في الحسور وهو الاعياء. فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفى عنهم أدنى الحسور أو مطلقه لا أقصاه؟ قلنا: ذكر الاستحسار إشارة إلى أن ما هم فيه من التسبيح الدائم والعبادة المتصلة توجب غاية الحسور وأقصاه. * * * فإن قيل: قوله تعالى في وصف الملآئكة: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) إلى قوله تعالى: (مُشْفِقُونَ) يدل على أنهم لا يعصون الله تعالى، كما جاء هذا مصرحاً به في قوله تعالى: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) فإذا كانوا لا يعصون الله تعالى فلم يخافون حتى قال الله تعالى: (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) ؟ قلنا: لما رأوا ما جرى على إبليس وعلى هاروت وماروت من القضاء والقدر خافوا من مثل ذلك، الثانى: أن زيادة معرفتهم بالله تعالى وقربهم في محل كرامته يوجد مزيد خوفهم، ولهذا قال أهل التحقيق: من كان بالله أعرف كان من الله أخوف، ومن كان إلى الله أقرب (كان) من الله أرهب، وقال بعضهم: يا عجباً من مطيع آمن ومن عاص خائف. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وهم لم يروا ذلك؟ قلنا: معناه أو لم يعلموا ذلك بأخبار من قبلهم أو بوروده في القرآن الذي هو معجزة في نفسه، ونظيره قوله تعالى للنبى صلى الله عليه وسلم: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ... الآية) ونظائره كثيرة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) مع أن الملآئكة أحياء والجن أحياء وليسوا مخلوقين من الماء بل من النور والنار كما قال تعالى: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) وكذا آدم مخلوق من التراب، وناقة صالح مخلوقة من الحجر؟ قلنا: المراد به البعض وهو الحيوان كما في قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وقوله تعالى: (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) ونظائره كثيرة، الثانى: إن الكل مخلوق من الماء، ولكن البعض بواسطة والبعض بغير واسطة، ولهذا قيل: أنه تعالى خلق الملآئكة من ريح خلقها من الماء، وخلق الجن من نار خلقها من الماء، وخلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 آدم من تراب خلقه من الماء. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) بعد قوله تعالى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) وكأنه تكليف ما لا يطاق؟ قلنا: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة التى يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة. * * * فإن قيل: كيف قال تعال: (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ) مع أن الصم لا يسمعون الدعاء إذا ما ينشرون أيضاً؟ قلنا: اللام في الصم إشارة إلى المنذرين السابق ذكرهم بقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) فهى لام العهد لا لام الجنس. * * * فإن قيل: كيف قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) أحال كسر الأصنام إلى الصنم الكبير، وكان إبراهيم هو الكاسر لها؟ قلنا: قاله على (طريق) الاستهزاء ولتهكم بهم (لا) على طريق الجد، الثانى: أنه لما كان الحامل له على كثرها اغتياظه من رؤيتها مصفوفة مرتبة (للعبادة) مبجلة معظمة، وكان اغتياظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 من كبيرها أعظم لمزيد تعظيمهم له، أسند الفعل إليه كما يسند إلى سببه، والى الحامل عليه، الثالث: أنه أسنده إليه معلقاً بشرط منتف لا مطلقاً تقديره فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم. * * * فإن قيل: كيف صح مخاطبة النار بقوله تعالى: (نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) ولخطاب إنما يكون مع من يعقل؟ قلنا: خطاب التحويل والتكوين لا يختص بمن يعقل، قال الله تعالى: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) وقال تعالى: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) وقال تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ) . * * * فإن قيل: كيف وصف تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بكونهم من الصالحين بقوله تعالى: (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ ... الآية) مع أن أكثر المؤمنين صالحون خصوصاً في الزمن الأول؟ قلنا: معناه أنهم من الصالحين للادخال في الرحمة التى أريد بها النبوة على ما فسره (مقاتل أو الجنة على ما فسره) ابن عباس رضى الله عنهما ويؤيد ذلك قول سليمان عليه الصلاة والسلام: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) أى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الصالحين للعمل المرضى الذي سبق سؤاله. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) وقال في سورة التحريم (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) ؟ قلنا: حيث أنث أراد النفخ في ذاتها، وإن كان مبدأ النفخ من الفرج الذي هو مخرج الولد، أو جيب درعها على اختلاف القولين لأنه فرجة، وكل فرجة بين شيئين تسمى فرجاً في اللغة، وهذا أبلغ فى الثناء عليها، لأنها إذا منعت جيب درعها مما لا يحل كانت لنفسها أمنع وحيث ذكر فظاهر. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) يدل على (أنه) يجب أن يرجعوا لأن كل ما حرم أن لا يوجد وجب أن يوجد فكيف معنى الآية؟ قلنا: معناها وواجب على أهل قرية عزمنا على إهلاكهم أو قدرنا إهلاكهم أنهم لا يرجعون عن الكفر إلى الإيمان أو أنهم لا يرجعون بعد إهلاكهم إلى الدنيا، فالحرام هنا بمعنى الواجب، كذا قاله ابن عباس رضى الله عنهما ويؤيده قول الشاعر: فإن حراماً لا أرى الدهر باكياً على شجوة إلا بكيت على عمرو وقد قيل لفظ الحرام على ظاهره، ولا زائدة، والمعنى ما سبق ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 والحرمة هنا بمعنى المنع كما في قوله تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) وقال تعالى في موضع آخر: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) وواردوها يكون قريبا منها لا بعيداً؟ قلنا: معناه مبعدون عن آلامها وعذابها مع كونهم وارديها، أو معناه مبعدون عنها بعد ورودها بالانجاء المذكور بعد الورود، فلا تنافى بينهما. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) مع أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن رحمة للكافربن الذي ماتوا على كفرهم بل نقمة، لأنه لولا إرساله إليهم ما عذبوا بكفرهم لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) ؟ قلنا: كان رحمة للكافرين أيضاً من حيث إن عذاب الاستئصال أخر عنهم بسببه، الثانى: أنه كان رحمة عامة من حيث إنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه، ومن لم يتبعه فهو الذي قصر في حق نفسه وضيع نصيبه من الرحمة، ومثله صلى الله عليه وسلم كمثل عين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 عذبة فجرها الله تعالى فسقى ناس زروعهم ومواشيهم منها فأفلحوا، وفرط ناس في السقى منها فضيعوا، فالعين في نفسها نعمة من الله تعالى للفريقين ورحمة، وإن قصر البعض وفرطوا، الثالث: أن المراد بالرحمة الرحيم وهو صلى الله عليه وسلم كان رحيماً للفريقين ألا ترى أنهم لما شجوه يوم أحد وكسروا رباعيته حتى خر مغشياً عليه فلما أفاق قال: اللهم أهد قومى فانهم لا يعلمون؟ * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ) مع اخباره تعالى إياهم بقرب الساعة بقوله تعالى: (أتى أمر الله) وقوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) ونحوهما؟ قلنا: معناه ما أدرى أن العذاب الذي توعدونه وتهتدون به ينزل بكم عاجلا أو آجلاً، وليس المراد به قيام الساعة، ويرد على هذا الجواب أنه قريب على كل تقدير، لأنه إن كان قبل قيام الساعة فظاهر، وإن كان بعد قيام الساعة فهو كالمتصل بها لسرعة زمن الحساب فيكون قريباً أيضاً. * * * فإن قيل: إذا كان المؤمنون يعتقدون أن الله تعالى لا يحكم إلا بالحق فما فائدة الأمر أو الإخبار المتعلق بقوله تعالى: (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 قلنا: ليس المراد بالحق هنا ما هو نقيض الباطل، بل المراد به ما وعده الله تعالى إياه من نصر المؤمنين وخذلان الكافرين ووعده لا يكون إلا حقاً، فكأنه قال: عجل لنا وعدك وأنجزه ونظيره قوله تعالى: (تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَق) ، الثانى أنه تأكيد لما في التصريح بالصفة من المبالغة وإن كانت لازمة للفعل، ونظيره فى عكسه من صفة الذم قول تعالى: (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 سورة الحج * * * فإن قيل: قوله تعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) يدل على أن المعدوم شيء؟ قلنا: لا نسلم وسنده أن المراد أنها إذا وجدت كانت شيئاً لا أنها شيء الآن، ويؤيد هذا قوله تعالى: (عظيم) مع أن المعدوم لا يوصف بالعظم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى أولا: (يوم ترونها) بلفظ الجمع ثم أفرد فقال: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) ؟ قلنا: لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة، فعجل الناس كلهم رائين لها وعلقت آخراً بكون الناس على هيئة السكر، فلابد أن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في حق النضر بن الحارث: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) إلى أن قال: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وهو ما كان غرضه في جداله الضلال عن سبيل الله، فكيف علل جداله به، وما كان أيضاً مهتدياً حتى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال؟ قلنا: هذه لام العاقبة والصيرورة، وقد سبق ذكرها غير مرة، ولما كان الهدى معرضاً له فتركه وأعترض عنه وأقبل على الجدال بالباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال. * * * فإن قيل: الضر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 فكيفا التوفيق بينهما؟ قلنا: معناه يعبد من دون الله ما لا يضر بنفسه إن لم يعبده، ولا ينفعه بنفسه إن عبده، ثم قال تعالى يعبد من يضره الله بسبب عبادته، وإنما أضاف الضمير إليه لحصوله بسببه. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) يدل على أن في عبادة الصنم نفعاً وإن كان فيها ضرر؟ قلنا: معناه أقرب من النفع المنسوب إليه في زعمهم وهو اعتقادهم أنه يشفع لهم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي بسبب كونهم مظلومين ولم يبين ما الشيء الذي أذن لهم فيه؟ قلنا: تقديره: أذن للذين يقاتلون في القتال، وإنما حذف لدلالة يقاتلون عليه، ولدلالة الحال أيضاً، فإن كفار مكة كانوا يؤذون المؤمنين بأنواع الأذى وهم يستأذنون النبى صلى الله عليه وسلم في قتالهم فيقول: لم يؤذن لي في ذلك، حتى هاجر إلى المدينة فنزلت هذه الآية، وهى أول آية نزلت في الأذن في القتال، فنسخت سبعين آية ناهية عن القتال، كذا قاله ابن عباس رضى الله عنهما فكان المأذون فيه ظاهراً لكونه مترقباً منتظراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فإن قيل: كيف قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ) مع أنهم ما كانوا يقاتلون قبل نزول هذه الآية؟ قلنا: معناه أذن للذين يريدون أن يقاتلوا سماهم مقاتلين مجازاً باعتبار ما يؤولون إليه، كما في النظائر، وقرئ يقاتلون بفتح التاء، ولا إشكال على تلك القراءة. * * * فإن قيل: كيف صح الاستثناء في قوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) ؟ (قلنا: هو استثناء منقطع، تقديره لكن أخرجوا بقولهم: ربنا الله) ، الثانى: أنه بمنزلة قول الشاعر: لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب. تقديره وان كان فيهم عيب فهو هذا، وهذا ليس بعيب. فلا يكون فيهم عيباً. * * * فإن قيل: أي منة على المؤمنين في حفظ الصوامع والبيع عن الهدم حتى أمتن عليهم بذلك في قوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ... الآية) ؟ قلنا: المنة في ذلك أن الصوامع والبيع والكنائس في حرم المسلمين وحراستهم وحفظهم، لأن أهلها ذمة للمسلمين، الثانى: أن المراد به لهدمت صوامع وبيع في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام أي كنائس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 فى زمن موسى عليه الصلاة والسلام ومساجد في زمن النبى صلى الله عليه وسلم، فالامتنان على أهل الأديان الثلاثة لا على المؤمنين. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وكذب موسى) ولم يقل وقوم موسى كما قال تعالى فيما قبله؟ قلنا: لأن موسى ما كذبه قومه بنو اسرآئيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط، الثانى: أن يكون التنكير والايهام للتفخيم والتعظيم كأنه قال تعالى بعدما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم: وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظيم معجزاته فما ظنك بغيره. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور) ؟ قلنا: هو تأكيد كما في قوله تعالى: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) وقوله تعالى: (يقولون بألسنتهم) وما أشبه ذلك، الثانى: أن القلب يستعمل بمعنى العقل، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي عقل في أحد القولين، فكان التقييد مفيداً على قول من يزعم أن العقل في الرأس؟ * * * فإن قيل: المغفرة إنما تكون لمن يعمل السيئات لا لمن يعمل الصالحات والحسنات، فكيف قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ؟ قلنا: المراد بالعمل الصالح هنا الاخلاص في الإيمان، قال الكلبى كل موضع باء في القرآن "الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فالمراد به الاخلاص في الإيمان، فيصير المعنى فالذين آمنوا عن اخلاص يغفر لهم سيئاتهم. * * * فإن قيل: ما الفرق بين الرسول والنبى مع أن كليهما مرسل بدليل قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) ؟ قلنا: الفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من جمع له بين المعجزة وإنزال الكتاب عليه، والنبى فقط من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو أمته إلى شريعة من قبله، وقيل: الرسول من كانت له معجزة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والنبى من لم تكن له منهم معجزة، وفى هذا نظر، وقيل: الرسول من كان مبعوثاً إلى أمة، والنبى فقط من لم يكن مبعوثاً إلى أحد مع كونه نبياً، والجواب عن الآية على هذا القول أن فيه إضمارا تقديره: وما أرسلنا من رسول، ولا أنبأنا من نبى أو، ولا كان من نبى (ونظيره قول الشاعر) : ورأيت ذوجك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحاً أى ومعتقلا رمحاً أو وحاملًا رمح. * * * فإن قيل: أين المثل المضروب في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 والمذكور بعده قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... إلى آخره) ليس بمثل، بل كلام مبتدأ مستقل بنفسه؟ قلنا: الصفة أو القصة الغربية أو المستحسنة تسمى مثلا، ومنه قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) فالمعنى يثبت صفة وهى عجز الصنم عن خلق الذباب واستنقاذ ما يسلبه، وقيل: هو إشارة إلى قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) وانما أبهمه هنا لأنهم كانوا لا يصغون إلى سماع القرآن، ولهذا قالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) وكانوا يحبون الأمثال، فذكر لفظ المثل استدراجاً لهم إلى سماع القرآن والاصغاء إليه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) مع أن قطع اليد التى تساوى خمسة آلاف درهم بسبب سرقة عشرة دراهم حرج في الدين، وكذا رجم المحصن بسبب الوطء مرة واحدة، ووجوب شهرين متتابعين بسبب إفطار يوم واحد، والمخاطرة بالنفس والمال في الحج والغزو وكل ذلك حرج بين؟ قلنا: المراد بالدين كلمة التوحيد، فإنها تكفر شرك سبعين سنة، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 يتوقف تأثيرها على الإيمان والاخلاص سبعين سنه، ولا على أن يكون الاتيان بها في بيت الله أو في زمان معين، وقيل: المراد به أن كل ما يقع فيه الإنسان من الذنوب والمعاصي يجد له مخرجا في الشرع بتوبة، أو بكفارة أو رخصة، وقيل: المراد به فتح باب التوبة للمذنبين وفتح أبواب الرخص للمعذورين وشرع الكفارات والأروش والديات، وقيل: المراد به نفى الحرج الذي كان على بني اسرآئيل من الإصر والتشدد. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن أبا للأمه كلها؟ قلنا هو أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبا لأمته، لأن أمه الرسول بمنزله أولاده من جهه العطف والشفقه هذا إن كان الخطاب لعامه المسلمين وإن كان للعرب خاصه فإبراهيم أبو العرب قاطبه. * * * فإن قيل: متى سمانا إبراهيم عليه الصلاه والسلام المسلمين من قبل حتى قال الله تعالى: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) ؟ قلنا: وقت دعائه عند بناء الكعبه حيث قال: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) فكل من أسلم من هذه الأمه فهو ببركه إبراهيم عليه الصلاه والسلام، وهذا السؤال سئلت عنه في المنام، واجبت عنه بهذا الجواب في المنام الهاماً من الله سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 سورة المؤمنين * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) وحفظ الفرج إنما يعدي بعن لا بعلى، يقال فلان يحفظ فرجه عن الحرام، ولا يقال على الحرام؟ قلنا: على هنا بمعني عن كما في قول الشاعر: إذا رضيت على بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها الثانى: أنه متعلق بمحذوف تقديره: فلا يرسلونها إلا على أزواجهم. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) ولم يقل أو من ملكت أيمانهم مع أن المراد من يعقل؟ قلنا: لأنه أراد من جنس العقلاء ما يجر مجرى غير العقلاء، وهم الإناث فأن قيل: قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ) كيف خص الإخبار عن الموت الذي لم ينكره الكفار بلام التأكيد دون الإخبار عن البعث الذي انكروه، والظاهر يقتدي عكس ذلك؟ قلنا: لما كان العطف يقتدي الاشتراك في الحكم استغني به عن اعاده لفظ اللام الموجبه لذايده التأكيد فأنها ثابته معني بقضيه العطف، ولا يلزم على هذا عدم اعاده (إن) لأنها الأصل في التأكيد ولأنها أقوي والحاجه إليها أمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ) والمراد بها شجره الزيتون، وهي تخرج من الجبل الذي يسمى طور سيناء ومن غيره؟ قلنا: قيل أن أصل شجره الزيتون من طور سيناء، ثم نقلت إلى سائر المواضع، وقيل: إنما أضيف إلى ذلك الجبل لأن خروجها فيه أكثر من خروجها في غيره من المواضع. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) خبر عن كفار مكه فكيف قال تعالى: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ) أي بالتوحيد أو بالقرآن، ولم يقل وكلهم كانوا للتوحيد كارهين بدليل قولهم (بِهِ جِنَّةٌ) ؟ قلنا: كان فيهم من ترك الإيمان به أنفه واستنكافاً من توبيخ قومه كيلا يقولوا ترك دين آبائه لا كراهه للحق، كما يحكي عن أبي طالب وغيره. * * * فإن قيل: كيف جمع تعالى فقال: (رب ارجعون) ولم يقل ارجعني والمخاطب واحد وهو الله تعالى؟ قلنا: هو جمع للتفخيم والتعظيم وقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى) وما أشبهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 فإن قيل كيف قال تعالى: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) وقال تعالى في موضع آخر: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) ؟ قلنا: يوم القيامه مقداره خمسون الف سنه، ففيه أحوال مختلفه ففي بعضها يتسألون وفى بعضها لاينطقون لشده الهول والفزع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 سورة النور * * * فإن قيل: كيف قدمت المرأه في آية حد الزنا، وقدم الرجل في آية حد السرقة؟ قلنا: لأن الزنا إنما يتولد من شهوة الوقاع، وشهوة المرأه أقوي وأكثر، والسرقه إنما تتولد من الجسارة والجراءة والقوة، وذلك في الرجل أكثر. * * * فإن قيل: كيف قدم الرجل في قوله تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) ؟ قلنا: لأن الآية الأولى سبقت لعقوبتها على ما جنيا، والمرأه هي الأصل في تلك الجنايه لما ذكرنا، والآية الثانية سيقت لذكر النكاح والرجل هو الأصل فيه عرفاً، لأنه هو الراغب والخاطب والبادئ بالطلب، بخلاف الزنا فإن الأمر فيه بالعكس غالباً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) أي لا يتزوج: (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) ونحن نري الزاني ينكح عفيفة ومسلمة، والزانيه ينكحها العفيف المسلم؟ قلنا: قال عكرمه: نزلت هذه الآية في في بغايا موسرات كن بمكه، وكان بيوتهن تسمى في الجاهلية المواخير، وكان لا يدخل عليهن إلا زانى من أهل القبله، أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد جماعه من الفقراء المهاجرين أن ينكحوهن فنزلت هذه الآية زجراً لهم عن ذلك. * * * فإن قيل: ما فائدة دخول "من" في غض البصر دون حفظ الفرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 فى قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ؟ قلنا: فائدته الدلالة على أن أمر النظر أوسع من أمر الفرج، ولهذا يحل النظر في ذوات المحارم والاماء المسترضعات إلى عدة من أعضائهن، ولا يحل شيء من فروجهن. * * * فإن قيل: لأي حكمه ترك الله تعالى ذكر الأعمام والأخوال في قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) يعني الزينه الخفية: (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) وهم من المحارم وحكهم من استثنى في الآية؟ قلنا: سئل الشعبي عن ذلك فقال لئلا يصفها العم عند ابنه وهو ليس بمحرم لها، وكذا الخال فيقضي إلى الفتنة، والمعني فيه أن كل من استثني يشترك هو وابنه في المحرميه إلا العم والخال وهذا من الدلالات البليغه على وجوب الاحتياط في سترهن، ولقائل أن يقول هذا المفسدة محتمله في آباء بعولتهم، لاحتمال أن يذكرها أبو البعل عند ابنه الآخر وهو ليس بمحرم لها وأبو البعل أيضاً نقض على قولهم أن كل من استثني يشترك هو وابنه في المحرميه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 مع أن اكراههن على الزنا حرام في كل حال؟ قلنا: لأن سبب نزول الآية أن الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا مع إرداتهن التحصن (فورد النهى عن على صفه السبب وإن لم يكن شرطا فيه، الثانى أنه تعالى إنما شرط إراده التحصن) لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن لأن الأمة إذا لم ترد التحصن فإنها تزني بالطبع، لأن إرادتها الجماع مستمره في جميع الأحوال طبعاً، ولا بدله من أحد الطرفين، الثالث أن (إن) بمعني إذ كما في قوله تعالى: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقوله تعالى: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) والرابع: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره: وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم وإن أردن تحصناً، ويبقي قوله تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ) مطلقاً معلق. * * * فإن قيل: كيف مثل الله تعالى نوره اي معرفته وهداه في قلب المؤمن بنور المصباح في قوله تعالى: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) ولم يمثله بنور الشمس، مع أن نورها أتم وأكمل؟ قلنا: المقصود تمثيل النور في القلب، والقلب في الصدر، والصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فى البدن كالمصباح وهو الضوء أو الفتيله وهى في الزجاجه والزجاجه في الكوه التى لا منفذ لها، وهذا التمثيل لا يستقيم إلا في ذكر، الثانى، أن نور المعرفه له آلات يتوقف على اجتماعها كالذهن والفهم والعقل واليقظه وانشراح القلب وغير ذلك من الخصال الحميده، كما أن نور القنديل يتوقف على اجتماع القنديل والزيت والفتيل وغير ذلك، الثالث: أن نور الشمس يشرق متوجها إلى العالم السفلي لا إلى العالم العلوي، ونور المعرفه يشرق متوجها إلى العالم العلوي كنور المصباح، الرابع: أن نور الشمس لا يشرق إلا بالنهار ونور المعرفه يشرق بالليل والنهار كنور المصباح، الخامس: أن نور الشمس يعم جميع الخلائق ونور المعرفه، لا يصل إليه إلا بعضهم كنور المصباح الموصوف. * * * فإن قيل: هب أنه تعالى لم يمثله بنور الشمس لما ذكرتم فكيف لم يمثله بنور الشمع، مع أنه أتم وأكمل وأشرق من نور المصباح؟ قلنا: إنما لم يمثله تعالى بنور الشمع لأنه في الشمع غثاً لا محاله بخلاف الزيت الموصوف، فلو مثله تعالى بنور الشمع لتطاول المنافق المغشوش إلى استحقاق نصيب في المعرفه، الثاني: أنه تعالى لم يمثله بنور الشمع لأنه مخصوص بالأغنياء، بخلاف نور المعرفه فإنه في الفقراء أغلب. * * * فإن قيل: التجارة تشمل الشراء والبيع، فما فائده عطف البيع عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 فى قوله تعالى: (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ؟ قلنا: التجاره هى الشراء والبيع الذي يكون صناعه للإنسان ومقصوداً به الربح، وهو حرفة الشخص الذي يسمى تاجراً، والبيع أعم من ذلك، وقيل: المراد بالتجارة هنا مبادلة الآخرة بالدنيا كما في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) والمراد بالبيع مبادلة الدنيا كما في قوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) وقيل: إنما عطف البيع على التجاره لأنه اراد بالتجاره الشراء إطلاقا لأسم الجنس على النوع، وقيل إنما عطفه عليها للتخصيص والتميز من حيث أنه أبلغ في الالهاء، لأن البيع الرابح يتعقبه حصول الربح، بخلاف الشراء الرابح فإن الربح فيه مظنون مع كونه مترقباً منتظراً، وقيل: التجارة مخصوصة بأهل الجلب بخلاف البيع. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) وبعض الدواب ليس مخلوقاً من الماء كآدم عليه الصلاة والسلام وناقة صالح وغيرهم؟ قلنا: المراد بهذا الماء الماء الذي هو أصل جميع المخلوقات، وذلك أن الله تعالى خلق قبل خلق الأشياء جوهرة، ونظر إليها نظر هيبه فستحالت ماء، فخلق من ذلك الماء جميع الموجودات، فقد سبق مثل هذا السؤال في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فإن قيل إذا كان الجواب هذا فما فائدة تخصيص الدابة بالذكر او تخصيص الشيء الحي؟ قلنا: إنما خص بالذكر لأن القدرة فيه أظهر وأعجب منها في الجماد وغيره. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) وقال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) وهى مما لايعقل؟ قلنا: لما كان أسم الدابة يتناول المميز وغيره غلب المميز على غيره فأجرى عليه لفظه. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) وذلك إنما يسمي زحفاً لا مشيا ولا يسمي مشياً إلا ما كان بقوائم؟ قلنا: هو مجاز بطريق المشابهة، كما يقال مشي هذا الأمر، وفلان لا يتمشي له أمر، وفلان ماشي الحال. فإن قيل: كيف أمر الله تعالى بالاستئذان للأطفال الذين لم يبلغوا الحلم بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) اي من الأحرار؟ قلنا: هو في المعني أمر للاباء والأمهات بتأديب الأطفال وتهذيبهم لا للأطفال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فإن قيل: كيف أباح الله للقواعد من النساء وهن العجائز التجرد من الثياب بحضرة الرجال بقوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ. . . الآية) ؟ قلنا: المراد بالثياب هنا الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار لا جميع الثياب، وقوله تعالى: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أي غير قاصدات، بوضع الثياب الظاهره إظهار زينتهن ومحاسنهن، بل التخفيف ثم أعقبه بأن التعفف بترك الوضع خيراً لهن. * * * فإن قيل: قال تعالى: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) مع أن انتفاء الحرج عن أكل الإنسان من بيته معلوم لا شك فيه ولا شبهة؟ قلنا: المراد بقوله من بيوتكم أي من بيوت أولادكم، لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه فلهذا عبر عنه به وفى الحديث أن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه، ويؤيد ذلك أنه ذكر بيوت جميع الأقارب ولم يذكر بيوت الأولاد، وقيل: المراد بقوله تعالى: (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي أن تأكلوا من مال أولادكم وأزواجكم الذين هم في بيوتكم ومن جمله عيالكم، وقيل: المراد بقوله تعالى "من بيوتكم" البيوت التى تسكنونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وهم فيها عيال لغيرهم كبيت ولد الرجل وزوجه وخادمه ونحو ذلك. * * * فإن قيل معنى السلام هو السلامه فاذا قال الرجل لغيره السلام عليك، كان معناه سلمت منى وأمنت، فما معنى قوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) ؟ قلنا: المراد به فإذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلكم وعيالكم، وقيل: معناه إذا دخلتم المساجد أو بيوتا ليس فيها أحد فقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أي من ربنا. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) وإنما يقال خالف أمره؟ قلنا: عن زائدة كذا قاله الأخفش، الثانى: أن فيه إضماره تقديره: فليحذر الذين يخالفو الله تعالى ويعرضون عن أمره أو ضمن المخالفه معنى الإعراض فعداه تعديته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 سورة الفرقان * * * فإن قيل: الخلق هو تقدير ومنه قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) أي تقدر فما معنى قوله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) فكأنه قال تعالى: وقدر كل شى فقدره تقديرا؟ قلنا: الخلق من الله تعالى بمعنى الإيجاد والاحداث، فمعناه وأوجد كل شيء مقدراً مسوى مهياً لما يصلح له، لا زائداً على ما تقتضيه الحكمه ولا ناقصاً عن ذلك، الثانى: أن معناه وقدر له ما يقيمه ويصلحه أو وقدر له رزقاً وأجلاً أو أحوالاً تجرى عليه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف الجنه: (الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا) وهى ما كانت بعد وإنما تكون كذلك بعد الحشر والنشر؟ قلنا: إنما قال كانت لأن ما وعد الله تعالى فهو في تحقيقه كأنه قد كان، أو معناه كانت في علم الله مكتوبة في اللوح المحفوظ إنها جزاؤهم ومصيرهم. * * * فإن قيل: ما فائدة تأخير الهوى في قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) والأصل اتخذ الهوى الهاً كما تقول اتخذ الصنم معبوداً؟ قلنا: هو من باب تقديم المفعول الثانى على الأول للعناية به، كما تقول علمت منطلقاً زيداً لفضل عنايتك بانطلاقه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 قلنا: قد مر مثل هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) . * * * فإن قيل: كيف شبههم سبحانه وتعالى بالأنعام في الضلال بقوله تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ) مع أن الأنعام تعرف الله سبحانه وتعالى وتسبحهه بدليل قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُ مْ) وقوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ؟ قلنا: المراد تشبيههم بالأنعام في الضلال عن فهم الحق ومعرفة الله تعالى بواسطة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، الثانى: أن المراد تشبيههم في الضلال والعمى عن أمر الدين بالأنعام في ضلالها وعماها عن أمر الدنيا. * * * فإن قيل: إن كانوا كالأنعام في الضلال فكيف قال تعالى: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) وإن كانوا أضل من الأنعام فكيف قال تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ) وإن كانوا كالأنعام في الضلال وأضل منهم أيضا فكيف يجتمع الوصفان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 قلنا: المراد بقوله تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ) التشبيه في أصل الضلال لا في مقداره، والثانى بيان لمقداره، وقيل: المراد من أول التشبيه في المقدار أيضاً ولكن المراد بالأول طائفه والثانى طائفه أخرى ووجه كونهم أضل من الأنعام أن الأنعام تنقاد لأربابها التى تعلفها وتتعهدها وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون إلى ربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم مع إساءة الشيطان الذي هو عدو لهم ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشروع الهني والعذب الروي. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) كيف ذكر الصفه والموصوف مؤنث ولا يؤنثها كما أنثها في قوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) ؟ قلنا: إنما ذكرها نظراً إلى معني البلده وهو البلد والمكان لا إلى لفظها. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) إنزاله موصوفاً بالطهورية، وتعليل ذلك بالإحياء والسقي يشعر بأن الطهورية شرطاً في حصول تلك المصلحه، كما تقول حملنى الأمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 على فرس سابق لاصيد عليه الوحش وليس كذلك؟ قلنا: وصف الطهورية ذكر إكراما للأناسي الذين شربهم من جمله المصالح التى تنزل لها الماء، وتماماً للنعمة والمنة عليهم، لا لكونه شرطاً في تحقيق تلك المصالح والمنافع، بخلاف النظير فإنه قصد بكونه سابقاً الشرطيه لأن صيد الوحش على الفرس لا يتم إلا بها. * * * فإن قيل: كيف خص تعالى الأنعام بذكر السقى دون غيرها من الحيوان الصامت؟ قلنا: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء ولا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام، الثاني: أن الأنعام قنيه الأناسي وعامه منافعهم متعلقه بها، فكأن الأنعام يسقي الأنعام كالأنعام يسقى الأناسي، فلذلك خصها بالذكر. * * * فإن قيل: كيف قدم تعالى احياء الأرض وسقى الأنعام على سقى الأناسي؟ قلنا: لأن حياة الأناسي بحياه أرضهم وأنعامهم فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم، الثانى: أن سقي الأرض من ماء المطر سابق في الوجود على سقي الأناسي به. * * * فإن قيل: وجه صحه الأستثناء في قوله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) ؟ قلنا: هو استثناء منقطع تقديره: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فأنا أدله على ذلك وأهديه إليه، وقيل تقديره: لكن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بإنفاق ماله في مرضاته فليفعل ذلك. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أأجراً لأن من لتأكيد النفى وعمومه وقال تعالى في آية أخرى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فأثبت سؤال الأجر عليه؟ قلنا: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) راواه مقاتل والضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما والصحيح الذي عليه المحققون إنها غير منسوخة، بل هو استثناء من غير الجنس تقديره: لكن اذكركم المودة في القربى. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) ولم يقل أئمه؟ قلنا: مراعاة لفواصل الآيات، وقيل تقديره: واجعل كل واحد منا اماما. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) وهما بمعنى واحد ويؤيده قوله تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وقوله صلى الله عليه وسلم السلام تحية أهل الجنه في الجنه؟ قلنا: قال مقاتل: المراد بالتحية سلام بعض على بعض أو سلام الملآئكه عليهم والمراد بالسلام أن الله تعالى سلمهم مما ياخافون وسلم إليهم أمرهم وقيل التحيه من الملآئكه أو من أهل الجنه من الله تعالى عليهم لقوله تعالى: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) . وقيل التحية من الله تعالى لهم بالهدايا والتحف والسلام بالقول وقيل التحية الدعاء بالتعمير والسلام الدعاء بالسلامة فمعناه أنهم يلقون ذلك من الملآئكه أو بعضهم من بعض أو يلقون ذلك من الله تعالى، فيعطون البقاء والخلود مع السلامة من كل آفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 سورة الشعراء * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) والأعناق لا تعقل؟ قلنا: قيل أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضوع أو خضوع وترك الكلام على أصله كقولهم ذهبت أهل اليمامه كان الأهل غير مذكور وثله قول الشاعر رأت مر السنين أخذن منى. . . كما أخذ السرار من الهلال. أو لما وصفت الأعناق بالخضوع الذي هو من صفات العقلاء جمعت جمع العقلاء كقوله تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) وقيل: الأعناق رؤساء الناس ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما قيل لهم الرؤوس والنواصى والوجوه، وقيل: الأعناق الجماعات يقال جائنى عنق من الناس أي جماعه وقيل: أن ذلك لمراعاه الفواصل. * * * فإن قيل كيف قال تعالى: (فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فأفراد، وقال تعالى في موضع آخر: (فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) فثنى؟ قلنا: الرسول يكون بمعنى المرسل فيلزم تثنيته، ويكون بمعنى الرساله التى هى المصدر فيوصف به الواحد والاثنان والجماعه كما يوصف بسائر المصادر، والدليل على أنه يكون بمعنى الرساله قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 الشاعر قد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول. أي برساله، الثانى: أنهما لا تفاقهما في الأخوة والشريعة والرسالة جعلا كنفس واحده، الثالث: أن تقديره: أن كل واحد منا رسول رب العالمين، الرابع: أن موسي عيله الصلاة والسلام كان الأصل وهارون عليه الصلاه والسلام كان تبعاً له فأفرد إشاره إلى ذلك. * * * فإن قيل: كيف قال موسى عليه الصلاة والسلام معتذراً عن قتل القبطي والنبي لا يكون ضالاً؟ قلنا: أراد به وأنا من الجاهلين كذا قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، وقيل: أراد من المخطئين لأنه ما تعمد قتله كما يقال ضل عن الطريق إذا عدل عن الصواب إلى الخطأ وقيل من الناسين كقوله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) . * * * فإن قيل: كيف قال فرعون: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) ولم يقل ومن رب العالمين؟ قلنا: هو كان أعمي القلب عن معرفه الله تعالى منكراً لوجوده فكيف ينكر عليه العدول عن "من " إلى "ما" الثاني: إن ما لا تختص بغير المميز بل تطلق عليهما فقال الله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وقال تعالى: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) . * * * فإن قيل: كيف قال موسي عليه الصلاه والسلام: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) علق كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما بشرط كون فرعون وقومه موقنين وهذا الشرط منتف والربوبيه ثابته فكيف صح التعليق؟ قلنا: معناه إن كنتم موقنين أن السموات والارض وما بينهم موجودات وهذا الشرط موجود، الثاني: أن إن نافيه لا شرطيه. * * * فإن قيل: كيف ذكر السموات والأرض وما بينهم قد استوعب ذكر المخلوقات كلها فما فائده قوله تعالى بعد ذلك: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وقوله: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ؟ قلنا: أعاد ذكرها تخصيصاً وتمييزاً لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع، والنقل من هيئة إلى هيئة ومن حال إلى حال ومن وقت ولادته إلى وقت وفاته ثم خص المشرق والمغرب لأنه طلوع الشمس من أحدهما وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنه وحساب مستوي من أظهر ما يستدل به على وجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الصانع ولظهوره انتقل خليل الله عليه الصلاه والسلام إلى الاحتجاج به عن الاحتجاج بالأحياء والإماته: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) . * * * فإن قيل: كيف قال أولاً: (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) وقال آخراً: (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ؟ قلنا: لاينهم ولاطفهم أولاً، فلما رأى عنادهم وإصرارهم خاشنهم وعارض بقوله (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) . * * * فإن قيل: قوله " لأسجننك " أخصر من قوله: (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) فكيف عدل عنه؟ قلنا: كان مراده تعريف العهد فكأنه قال قال لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجني وكان إذا سجن إنساناً طرحه في هوة عميقة جداً مظلمة وحده لا يبصر فيها ولا يسمع وكان ذلك أوجع من القتل نكايه. * * * فإن قيل: قصة موسي عليه الصلاة والسلام مع فرعون والسحرة ذكرت في سورة الاعراف ثم في سورة طه ثم في هذا السورة فما فائدة تكرارها وتكرار غيرها من القصص؟ قلنا: فائدته تأكيد التحدي وإظهار الإعجاز كما أن المبارز إذا خرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 من الصف قال نزال نزال هل من مبارز هل من مبارز مكرراً ذلك ولذلك سمى الله تعال القرآن مثاني لأنه ثنيت فيه الأخبار والقصص، الثاني: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان بعضهم حاضرين وبعضهم غائبين في الغزوات وكان يحبون حضور مهبط الوحي فكان إذا رجعوا من غزوهم أكرمهم الله تعالى في بعض الأوقات بإعاده الوحي تشريفا لهم وتفضيلا. * * * فإن قيل: كيف كرر الله تعالى ذكر قصة موسي عليه الصلاة والسلام أكثر من قصص غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ قلنا: لأن أحاوله كانت أشبه بأحوال النبي صلي الله عليه وسلم من أحوال غيره منهم في اقامته الحجج وإظهار المعجزات لأهل مصر وإصرارهم على تكذيبه والجفاء عليه كما كان حال النبي صلى لله عليه وسلم مع أهل مكه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ) والترائي تفاعل من الروئيه فيقتضي وجود رؤيه كل جمع الجمع الآخر والمنقول أنهم لا ير بعضهم بعض فإن الله تعال أرسل غيما أبيض فحال بين العسكرين حتي منع رؤيه بعضهم بعض؟ قلنا: الترائي يستعمل بمعني التداني والتقابل إيضا كما قال صلي الله عليه وسلم المؤمن والكافر لا يترائيان أي لا يتدانيان ويقال دورنا تتراءى أي تتقارب وتتقابل. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) ولم يقل وإذا أمرضني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 كما قال قبله: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) ؟ قلنا: لأنه كان في معرض الثناء على الله تعالى وتعديد نعمه، فأضاف إليه الخير المحض حفظاً للأدب وإن كان الكل مضاف إليه ونظيره قول الخضر عليه الصلاة والسلام: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا) وقوله: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا) . * * * فإن قيل: هذا الجواب يبطل بقوله: (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) بقول الخضر عليه الصلاه والسلام: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا) ؟ قلنا: إنما أضاف الموت إلى الله تعالى لأنه سبب لقائه إياه وانتقاله إلى دار كرامته، فكان نعمه من هذا الوجه، وقيل: إنما أضاف المرض إلى نفسه لأن أكثر الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ) والمال الذي أنفق في طاعه الله تعالى وسبيله ينفع والولد الصالح ينفع والولد الذي مات صغيرا يشفع وشواهد ذلك كثيرة من الكتاب والسنه خصوصاً قوله صلى الله عليه وسلم: إذا مات ابن آدم ينقطع عمله إلا من ثلاث ... الحديث؟ قلنا: المراد بالآية لا ينفعان غير المؤمن فإنه هو الذي يأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 بقلب سليم من الكفر أو المراد بهما مال لم ينفق في طاعة الله تعالى وولد بالغ غير صالح. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي قربت والجنه لا تنقل من مكانها ولا تحول؟ قلنا: فيه قلب معناه وأزلفت المتقون إلى الجنة، كما يقول الحجاج غذا دنوا إلى مكه قربت مكه منا، وقيل: معناها أنها كانت محجوبة عنهم فلما رفعت الحجب بينهم وبينها كان ذلك تقريباً لها. * * * فإن قيل: كيف جمع الشافع ووحد الصديق في قوله تعالى: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) ؟ قلنا: لكثرة الشفعاء في العاده وقله الصديق لهذا روى أن بعض الحكماء سئل عن الصديق؟ فقال هو اسما لا معني له وارد بذلك عزة وجوده، ويجوز أن يراد بالصديق الجمع كالعدو. * * * فإن قيل: كيف قرن بين الأنعام والبنين في قوله تعالى: (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ) ؟ قلنا: لأن الأنعام كانت من أعز أموالهم عندهم وكان بنوهم هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها فلذا قرن بينهما. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (أوعظت أو لم تعض) أخصر من قوله (أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) فكيف عدل عنه؟ قلنا: مرادهم سواء علينا أفعلت هذا الفعل أم لم تكن من أهله أصلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وهذا أبلغ في قله اعتدادهم بوعظه من قولهم أم لم تعظ. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ) كيف أخذهم العذاب بعد ما ندموا على جنايتهم وقد قال صلي الله عليه وسلم: الندم توبة؟ قلنا: قال ابن عباس رضي الله عنهما ندموا حين رأوا العذاب وذلك ليس وقت التوبة كما قال تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ... الآية) وقيل: كان ندمهم ندم خوف من العقاب العاجل لا ندم توبة فلذلك لم ينفعهم. * * * فإن قيل: كيف طلب لوط عليه الصلاة والسلام تنجيته من اللواط بقوله: (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) واللواط كبيرة والأنبياء معصومون من الكبائر؟ قلنا: مراده ربي نجيني وأهلي من عقوبه عملهم أو من شؤمهم والدليل على ذلك ضمه أهله إليه في الدعاء، واستثناء الله تعالى أمرائته من قبول الدعوة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في قصه شعيب عليه الصلاة والسلام: (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) ولم يقل أخوهم كما قال تعالى في حق غيره هنا وكما قال في حقه في موضوع آخر؟ قلنا: لأنه هنا ذكر مع أصحاب الأيكة وهو لم يكن منهم إنما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 من نسل مدين، كذا قال مقاتل، وفى الحديث أن شعيباً أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة، وقال ابن جرير الطبرى: أهل مدين هم أصحاب الأيكة، فعلى هذا يكون حذف الأخ تخفيفاً. * * * فإن قيل: ما الفرق بين حذف الواو في قصة صالح عليه الصلاة والسلام وإثباتها في قصة شعيب عليه الصلاة والسلام في قولهم: (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) و (وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) ؟ قلنا: الفرق بينهما أنه عند إثبات الواو المقصود معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم التسخير والبشرية، وعند حذف الواو المقصود معنى واحد مناف لها، وهو كونه مسخراً ثم قرروا التسخير بالبشرية. كذا أجاب الزمخشري رحمه الله تعالى. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف الكهنة والمتنبئة كشق وسطيح ومسيلمة: (وأكثرهم كاذبون) بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك أثيم، والأفاك: الكذاب، والأثيم: الفاجر، ويلزم من هذا أن يكون كلهم كذابين؟ قلنا: الضمير في قوله: "وأكثرهم " عائد إلى الشياطين لا إلى كل أفاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 سورة النمل فإذ قيل: ما فائدة تنكير الكتاب في قوله تعالى: (وَكِتَابٍ مُبِينٍ) ؟ قلنا: فائدته التفخيم له والتعظيم كقوله تعالى: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) . * * * فإن قيل: العطف يقتضى المغايرة فكيف عطف الكتاب المبين على القرآن والمراد به القرآن؟ قلنا: قيل أن المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ، فعلى هذا لا إشكال، وعلى القول الآخر نقول العطف يقتضى المغايرة مطلقاً إما لفظاً أو معنى بدليل قول الشاعر: فألفى قولها كذباً ومينا .................. وقولهم: جاءنى الفقيه والظريف، والمغايرة لفظاً ثابتة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) وقال تعالى في موضع آخر: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) ؟ قلنا: تزيين الله تعالى لهم الأعمال بخلقة الشهوة والهوى وتركيبها فيهم، وتزيين الشيطان بالوسوسة والاغواء والغرور والتمنية، فصحت الإضافتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (سآتيكم) وقال قى سورة طه: (لعلى آتيكم) وأحدهما قطع، والآخر ترج، والقصة واحدة؟ قلنا: قد يقول الراجى إذا قوى رجاؤه سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) مع أنه لم يكن في النار أحد، بل لم يكن المرئي ناراً، وإنما كان نوراً في قول الجمهور، وقيل: كان ناراً ثم انقلب نوراً؟ قلنا: قال ابن عباس والحسن رضى الله عنهما: معناه قدس من ناداه من النار وهو الله تعالى، لا على معنى أن الله تعالى تجلى في شيء بل على معنى أنه أسعه النداء من النار في زعمه، الثانى: أن "من " زائدة، والتقدير: بورك في النار، وفيمن حولها، وهو موسى عليه السلام والملآئكة، الثالث: أن معناه بورك من في طلب النار، وهو موسى عليه السلام. * * * فإن قيل: إنما يقال بارك الله على كذا ولا يقال بارك الله كذا؟ قلنا: قال الفراء: العرب تقول: باركه الله، وبارك فيه، وبارك عليه، بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ) وفى لفظ التحيات: وبارك على محمد وعلى آل محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فإن قيل: ما وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى: (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ....... الآية) ؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنه استثناء منقطع بمعنى لكن، الثانى: أنه استثناء متصل، كذا قاله الحسن وقتادة ومقاتل رضى الله عنهم، ومعناه إلا من ظلم منهم بارتكاب الصغيرة، كآدم ويونس وداود وسليمان وأخوه يوسف وموسى وغيرهم عليهم السلام فإنه يخاف مما فعل مع علمه أنى غغور رحيم، فيكون تقدير الكلام إلا من ظلم منهم، فإنه يخاف فمن ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإنى غفور رحيم، ولهذا قال بعضهم: "إن " هنا وقف على قوله تعالى: (إلا من ظلم) وابتداء الكلام الثانى محذوف كما قدرنا، الثالث: أن إلا بمعنى ولا كما في قول تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي ولا الذين ظلموا منهم. الرابع: أن تقديره: أنى لا يخاف لدى المرسلون ولا غير المرسلين إلا من ظلم. * * * فإن قيل: كيف قال سليمان عليه السلام: (عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا) بنون العظمة، وهو من كلام المتكبرين؟ قلنا: لم يرد به نون العظمة، وإنما أراد به نون الجمع وعنى نفسه وأباه، الثانى: أنه كان ملكاً مع كونه نبياً فراعى سياسة الملك وتكلم بكلام الملوك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فإن قيل: كيف حل له تعذيب الهدهد حتى قال: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا) ؟ قلنا: لعل ذلك أبيح له خاصة كما خص بعضهم منطق الطير وتسخيره له وغير ذلك. * * * فإن قيل: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان عليه السلام حتى قال: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) ؟ قلنا: يجوز أنه استصغر حالها بالنسبة لحال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش، الثانى: أنه يجوز أن لا يكون لسليمان مثله، وإن عظمت مملكته في كل شيء كما يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون للملك مثله. * * * فإن قيل: كيف قال الهدهد: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مع قول سليمان عليه السلام: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) فكأنه سوى بينهما؟ قلنا: بينهما فرق وهو أن الهدهد أراد به وأوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا، لأنه عطف على الملك، وسليمان أراد به وأوتينا من كل شيء من أسباب الدين والدنيا، ويؤيد ذلك عطفه على المعجزة وهى منطق الطير. * * * فإن قيل: كيف سوى الهدهد بين عرشها وعرش الله تعالى فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الوصف بالعظيم حتى قال: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) وقال تعالى: (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ؟ قلنا: بين الوصفين بون عظيم لأنه وصف عرشها بالعظيم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله تعالى بالعظيم بالنسبة إلى ما خلق من السموات والأرض وما بينهما. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) إذا تولى عنهم فكيف يعلم جوابهم؟ قلنا: معناه ثم تول عنهم مستتراً من حيث لا يرونك فانظر ماذا يرجعون، الثانى: أن فيه تقديماً وتأخيراً تقديره: فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم. * * * فإن قيل: كيف استجاز سليمان عليه السلام تقديم اسمه في الكتاب على اسم الله تعالى حتى كتب فيه: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ؟ قلنا: لأنه عرف أنها لا تعرف الله تعالى وتعرف سليمان، فخاف أن تستخف باسم الله تعالى إذا كان أول ما يقع نظرها عليه، فجعل اسمه وقاية لاسم الله تعالى، وقيل: أن اسم سليان عليه السلام كان على عنوانه واسم الله تعالى كان في أول طية. * * * فإن قيل: كيف يجوز أن يكون "آصف " وهو كاتب سليمان عليه السلام ووزيره وليس بنبى يقدر على ما لا يقدر عليه النبى، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟ قلنا: يجوز أن يخص غير الرسول بكرامة لا يشاركه فيها رسول. كما خصت مريم بأنها كانت ترزق من فاكهة الجنة، وزكريا لم يرزق منها، وكما أن سليمان عليه السلام خرج مع قومه يستسقون فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلي السماء تستسقى فقال لقومه: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم، ولم يلزم من ذلك فضلها على سليمان عليه السلام، وقد نقل أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الخروج إلى الغزوات قال لفقراء المهاجرين والأنصار أدعوا لنا بالنصرة، فإن الله تعالى ينصرنا بدعائكم، ولم يكونوا أفضل منه عليه السلام مع أن كرامة التبع من جملة كرامات المتبوع، من وجه آخر قالوا: والعلم الذي كان عنده هو اسم الله الأعظم فدعا به فأجيب في الحال، ثم قيل هو يا حى، يا قيوم، وقيل: يا ذا الجلال والاكرام. وقيل: يا الله يا رحمن، وقيل: يا إلهنا وأله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت، فمن أخلص النية، ودعا بهذه الكلمات كلها مع إجتماع شرائط الدعاء المعروفة، فإنه يجاب لا محالة. * * * فإن قيل: كيف قالت: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وهى إنما أسلمت بعده، على يده لا معه، لأنه كان مسلماً قبلها؟ قلنا: إنما عدلت عن تلك العبارة إلى هذه لأنها كانت ملكة، فلم تر أن تذكر عبارة تدل على أنها صارت مولاة له بإسلامها على سده وإن كان الواقع كذلك. * * * فإن قيل: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 قلنا: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا جمعوا بين البيانين ثم قالوا (مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) ، يعنون ما شهدناه وحده، كانوا صادقين لأنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) ونحن نعلم الجنة والنار وأحوال القيامة وكلها غيب؟ قلنا: معناه لا يعلم الغيب بلا دليل إلا الله أو بلا معلم إلا الله أو جميع الغيب إلا الله، وقيل: معناه لا يعلم ضمائر أهل السموات والأرض إلا الله. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) وأدرك على اختلاف القراءتين هل مرجع الضمير فيه وفيما قبله واحد أم لا، وكيف مطابقة هذا الاضراب لما قبل، ومطابقته لما بعده من الاضرابين، وكيف وصفهم بنفى الشعور ثم بكمال العلم ثم بالشك ثم بالعمى؟ قلنا: مرجع الضمير في قوله تعالى: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) الكفار فقط، وفيما قبله جميع من في السموات والأرض، وقوله تعالى: "بل ادارك" معناه بل تتابع وتلاحق واجتمع كقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا) وأصله تدارك فأدغمت التاء في الدال، وقوله تعالى: "بل ادرك " معناه بل كمل وانتهى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 قال ابن عباس رضى الله عنهما يريد ما جهلوه في الدنيا علموه في الآخرة، وقال اللدى: يريد اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا ولم يختلفوا، وقال مقاتل: يريد علموا في الآخرة ما شكوا فيه وعموا عنه في الدنيا، وقوله تعالى: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا) معناه بل هم اليوم في شك من الساعة، (بل هم منها عمون) جمع عم: وهو أعمى القلب ومطابقة الاضراب الأول لما قبله، إن الذين لا يشعرون وقت البعث لما كانوا فريقين، فريق منهم لا يعلمون وقت البعث مع علمهم أنه يوجد لا محالة وهم المؤمنون، وفريق منهم لا يعلمون وقته لإنكارهم أصل وجوده، أفرد الفريق الثانى بالذكر بقوله تعالى: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) تأكيداً لنفى علهم بها فى الدنيا كأنه قال تعالى: بل فريق منهم لا يعلمون شيئاً من أمر البعث في الدنيا أصلا، ثم أضرب عن الأخبار بتتابع علمهم وتلاحقه بحقيقة البعث في الآخرة، إلى الأخبار عن شكلهم في الدنيا في أمر البعث والساعة ثم أضرب عنه إلى الإخبار عن عمى قلوبهم في أمر البعث والساعة مع قيام الأدلة الشرعية على وجودها لا محالة، وأما وصفهم بنفى الشعور ثم بكمال العلم ثم بالشك ثم بالعمى فلا تناقض فيه لأختلاف الأزمنة أو لاختلاف متعلقات تلك الأمور الأربعة وهى الشعور والعلم والشك والعمى. * * * فإن قيل: قضاء الله تعالى وحكمه واحد فما معنى قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) وهو بمنزلة قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 بقضائه أو يحكم بينهم بحكمته؟ قلنا: معناه بما يحكم به وهو عدله المعروف، المألوف لأنه لا يقضى إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكماً، وقيل: معناه بحكمته، ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه، جمع حكمة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) ولم يراع المقابلة بقوله تعالى: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) أي ليبصروا فيه؟ قلنا: راعى المقابلة المعنوية دون اللفظية، لأن معنى مبصراً ليبصروا فيه، وقد سبق ما يشبه هذا في قوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) مع أن في ذلك علامات على وحدانية الله تعالى لجميع العقلاء؟ قلنا: إنما خصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ) ولم يقل فيفزع وهو أظهر مناسبة؟ قلنا: أراد بذلك الاشعار بتحقق الفزع وثبوته، وأنه كائن لا محالة، لأن الفعل الماضي يدل على الوجود والتحقق قطعاً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) أي صاغرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 أذلاء بعد ألبعث، مع أن النبيين والصديقين والشهداء يأتوه عزيزين مكرمين؟ قلنا: المراد به صغار العبودية والرق وذلهما لا ذل الذنوب والمعاصى، وذلك يعم الخلق كلهم، ونظيره قوله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 سورة القصص * * * فإن قيل: ما فائدة وحى الله تعالى إلى أم موسى عليه السلام بإرضاعه وهى ترضعه طبعاً سواء أمرت بذلك أم لا؟ قلنا: أمرها بإرضاعه ليألف لبنها فلا يقبل سدى غيرها بعد وقوعه في يد فرعون فلو لم يأمرها بإرضاعه ربما كانت تسترضع له مرضعة فيفوت ذلك المقصود. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي) والشرط الواحد إذا تعلق به جزاءان صدق قولنا إذا وجد هذا الشرط وجد هذا الجزاء أيهما شئت، ويلزم من هذا صدق قوله: فإذا خفت عليه فلا تخافى، وإنه يشبه المتناقض؟ قلنا: معناه إذا خفت عليه من القتل قألقيه في البحر، ولا تخافى عليه من الغرق ولا تناقض بينهما. فأن قيل: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في قوله تعالى: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي) ؟ قلنا: الخوف غم يصيب الإنسان لأمر يتوقعه في المستقبل، والحزن غم يصيبه لأرق وقع في الماضى * * * فإن قيل: كيف جعل موسى عليه السلام قتله القبطى الكافر من عمل الشيطان، وسماه ظلماً لنفسه واستغفر منه؟ قلنا: إنما جعله من عمل الشيطان لأنه قتله قبل أن يؤذن له في قتله، فكان ذلك ذنباً يستغفر منه مثله قال ابن جريج: ليس لنبى أن يقتل ما لم يؤمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 فإن قيل: موسى عليه السلام ما سقى لابنتى شعيب طلباً للأجر، فكيف أجاب دعوتها لما قالت له: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) ؟ قلنا: يجوز أن يكون قد أجاب دعوتهما ودعوة أبيها لوجه الله تعالى على سبيل البر والمعروف ابتداء لا على سبيل الأجر، وإن سمته هى أجراً، ويؤيد هذا ما ووى أنه لما قدم اليه الطعام امتنع، وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهباً، ولا نأخذ على المعووف ثمناً حتى قال له شعيب عليه السلام: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا. * * * فإن قيل: كيف قال له شعيب عليه السلام: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ) ومثل هذا النكاح لا يصح لجهالة المنكوحة، والنبى عليه السلام لا ينكح نكحاً فاسداً ولا يعد به؟ قلنا: إنما كان ذلك وعداً بنكاح معينة عند الواعد وإن كانت مجهولة عند الموعود، ومثله جائز، ويكون التعيين عند إنجاز الوعد كما وقع منه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) فجعل الجناح هنا مضموماً، وقال تعالى في سورة طه: ((وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ) فجعل الجناح مضموماً إليه. والقصة واحدة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 قلنا: المراد بالجناح المضموم هنا هو اليد اليمنى، والمراد بالجناح المضموم إليه في سورة طه ما بين العضد إلى الإبط من اليد اليسرى فلا تناقض بينهما. * * * فإن قيل: ما معنى قول تعالى: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) ؟ قلنا: لما هرب من الحية أمره الله تعالى أن يضم إليه جاحه ليذهب عنه الفزع، وإنما قال تعالى: "من الرهب" لأنه جعل الرهب الذي أصابه علة وسبباً لما أمر به من ضم الجناح، قال مجاهد: كل من فزع من شيء فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع (وقيل: حقيقة ضم الجناح غير مراده بل هو مجاز عن تسكين الروع وتثبيت الجأش، قال أبو على: لم يرد به الضم بين الشيئين، وإنما أمر بالعزم والجد في الاتيان بما طلب منه، ومثله قولهم: أشدد حيازيمك للموت ........... ليس فيه شد حقيقة، وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره ولى مدبراً من الرهب. * * * فإن قيل: أي فائدة تفيد تصديق هارون لموسى عليهما السلام حتى قال: (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) ؟ قلنا: ليس مراده بقوله: "يصدقنى" أن يقول له: صدقت في دعوى الرسالة، فإن ذلك لا يفيده عند فرعون وقومه الذين كانوا لا يصدقونه مع وجود تلك الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة، بل مراده أن يلخص حججه بلسانه، ويبسط القول فيها ببيانه، ويجادل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 عنه بالحق، فيكون ذلك سببا لتصديقه، ألا ترى إلى قوله: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لما قلنا لا لقوله صدقت، فإن سحبان وادل وباقلا في ذلك سواء. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ) أي أحكمنا إليه الوحى مغنى عن قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي من الحاضرين عند ذلك؟ قلنا: معناه ما كنت من الشاهدين قصته مع شعيب عليه السلام، فاختلفت القضيتان. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وكم رأينا من الظالمين بالكفر والكبائر من قد هداه الله للإسلام والتوبة؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة المائدة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) وإنما يرى العذاب من كان ضالاً لا مهتدياً؟ قلنا: جواب لو محذوف تقديره: ورأوا العذاب لو أنهم كانوا مهتدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 لما اتبعوهم أو لما رأوا العذاب. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في آخر آية الليل: (بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ) وقال في آخر آية النهار: (بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ؟ قلنا: السماع والابصار المذكوران لا تعلق لهما بظلمة الليل ولا بضياء النهار، فلذلك لم يقرن الابصار بالضياء، وبيانه أن معنى الآيتين أفلا يسمعون القرآن سماع تدبر وتأمل فيستدلون بما فيه من الحجج على توحيد الله تعالى، أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلالة. * * * فإن قيل: كيف وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ؟ قلنا: قال الفراء: هو استثناء منقطع تقديره: ولكن ألقى إليك رحمة من ربك، أي الرحمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 سورة العنكبوت * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ) ثم قال: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) ؟ قلنا: معناه وما الكافرون بحاملين شيئاً من خطايا المؤمنين التى ضمنوا حملها، وليحمن الكافرون أثقال أنفسهم، وهى ذنوب ضلالهم، وأثقالا مع أثقالهم، وهى ذنوب إضلالهم غيرهم من الكفار لا خطايا المؤمنين التى نفى عنهم حملها، وقد سبق نظير هذا في قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فى آخر سورة الأنعام وفى سورة بنى اسرائيل. * * * فإن قيل: ما فائدة العدول عن قوله تسعمائة وخمسين عاما إلى قوله تعالى: (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) مع أن عادة أهل الحساب هو اللفظ الأول؟ قلنا: لما كانت القصة مسوقة لتسلية النبى عليه السلام بذكر ما أبتلى به نوح عليه السلام من أمته وكابده من طول مصابرتهم، كان ذكر أقص العدد الذي لا عقد أكثر منه في مراتب العدد أفخم وأعظم وأفضى إلى الغرض المقصود، وهو استطالة السامع مدة صبره، وفيه فائدة أخرى وهى نفى وهم إرادة المجاز باطلاق لفظ التسعمائة والخمسين على أكثرها، فإن هذا الوهم مع الألف والاستثناء منتف أو هو ابعد. * * * فإن قيل: كيف جاء المميز أولا بالسنة وثانيا بالعام؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 قلنا: لأن تكرار اللفظ الواحد مجتنب في مذهب الفصحاء والبلغاء إلا لغرض تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك. * * * فإن قيل: كيف نكر الرزق ثم عرفه في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) ؟ قلنا: لأنه أراد أنهم لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق فابتغوا عند الله الرزق كله، فإنه هو الرزاق وحده، لا يرزق غيره. * * * فإن قيل: كيف أضمر اسمه تعالى في قوله عز وجل: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) ثم أظهره في قوله تعالى: (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) (وكان القياس كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة) ؟ قلنا: إنما عدل إلى ما ذكر لتأكيد الإخبار عن الإعادة التى كانت هى المنكرة عندهم بالإفصاح باسمه تعالى في ذكرها، وجعله مبتدأ لزيادة الاهتمام بشأنها. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا) في معرض المدح أو في معرض الامتنان وأجر الدنيا، فإنه منقطع بخلاف أجر الآخرة، فإنه النعيم الباقى المقيم فكان أولى بالذكر؟ قلنا: المراد أجره مضموماً إلى أجره في الآخرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 من غير أن ينقص من أجر الآخرة شيئاً، قال ابن جرير: وإليه الإشارة بقول تعالي: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) يعنى لة في الآخرة جزاء الصالحين وافياً كاملاً وأجره في الدنيا، قيل: هو الثناء الحسن من الناس، والمحبة من أهل الأديان كلها، وقيل: هو البركة التى بارك الله فيه وفى ذريته. * * * فإن قيل: كيف قالوا: (إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ) يعنون مدينة قوم لوط عليه السلام، ولم يقولوا تلك القرية مع أن مدينة قوم لوط كانت بعيدة عن موضع إبراهيم عليه السلام، غائبة عند وقت هذا الخطاب؟ قلنا: إنما قالوا هذه القرية لأنها كانت قريبة حاضرة بالنسبة إليهم، وإن كانت بعيدة بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام. * * * فإن قيل: كيف قالوا: (أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ) ولم يقولوا أهل هذه القرى، مع أن مدائن قوم لوط كانت خمساً، فأهلكوا أربعة؟ قلنا: إنما اقتصروا في الذكر على قرية واحدة لأنها كانت أكبر وأقرب وهى "سدوم " مدينة لوط عليه السلام فجعلوا ما وراءها تبعاً لها في الذكر. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي ذوى بصائر يقال فلان مستبصر إذا كان عاقلاً لبيباً صحيح النظر ولو كانوا كذلك لما عدلوا عن طريق الهدى إلى طريق الضلال؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 قلنا: معناه وكانوا مستبصرين في أمور الدنيا، وقيل: معناه وكانوا عارفين بالحق بوضوح الحجج والدلائل، ولكنهم كانوا ينكرونه متابعة للهوى لقوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) ، وقيل: معناه وكانوا مستبصرين لو نظروا نظر تدبر وتفكر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وكل أحد يعلم أن أضعف البيوت تتخذها الهوام بيت العنكبوت؟ قلنا: معناه لو كانوا يعلمون أن اتخاذهم الأصنام أولياء من دون الله مثل اتخاذ العنكبوت بيتاً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) وكل أهل ألكتاب ظالمون لأنهم كافرون، ولا ظلم أشد من الكفر، ويؤيده قوله تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ؟ قلنا: المراد بالظلم هنا الامتناع عن قبول عقد الذمة وأداء الجزية أو نقض العهد بعد قبوله، الثانى: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... الآية) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) ؟ قلنا: فائدته تأكيد النفى كما يقال في الاثبات للتأكيد هذا الكتاب مما كتبه فلان بيده ويمينه، ورأيت فلان بعينه، وسمعت هذا الحديث بأذنى ونحو ذلك. * * * فإن قيل: كيف لم يؤكد سبحانه في التلاوة ولم يقل: وما كنت تتلوا من قبله من كتاب بلسانك؟ قلنا: الأصل في الكلام عدم الزيادة، فكل ما جاء على الأصل لا يحتاج إلى العلة، وإنما يحتاج إلى العلة ما جاء على خلاف الأصل. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (واوَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ومعلوم أن المجاهدة في الدين أو في حق الله تعالى مع النفس الأمارة بالسوء أو مع الشيطان أو مع أعداء الدين كل ذلك إنما يكون بعد تقدم الهدية من الله تعالى، فكيف جعل الهداية من ثمرات المجاهدة؟ قلنا: معناه والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبلنا بمعرفة الأحكام وحقائقها، وقيل: معناه لنهدينهم طريق الجنة، وقيل: معناه والذين جاهدوا لتحصيل درجة لنهدينهم إلى درجة أخرى أعلى منها وحاصله لنزيدنهم هداية وتوفيقاً للخيرات كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) وقوله تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وقال أبو سليمان الدارائى: معناه والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا، وعن بعض الحكماء: من عمل بما علم وفق لما لا يعلم، وقيل: أن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم هو من تقصيرنا فيما نعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 سورة الروم * * * فإن قيل: كيف ذكر الضمير في قوله تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) والمراد به الإعادة لسبق قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ؟ قلنا: معناه ورجعه أو ورده أهون عليه، فأعاد الضمير على المعنى لا على اللفظ كما في قوله تعالى: (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) أي بلداً أو مكاناً. * * * فإن قيل: كيف أخرت الصلة في قوله تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) وقدمت في قوله: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ؟ قلنا: لأنه هناك قصد الاختصاص، مجرى الكلام فقيل: هو على هين، وإن كان مستصعباً عندكم أن يولد بين هم وعاقر، وأما هنا فلا معنى للاختصاص فجرى على اصله، كيف والأمر مبنى على ما يعقل الناس من أن الإعادة أسهل من الإبتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) والأفعال كلها بالنسبة إلى قدرة الله تعالى في السهولة سواء، وإنما تتفاوت في السهولة والصعوبة بالنسبة إلى قدرتنا؟ قلنا: معناه " وهو هين عليه " وقد جاء في كلام العرب " أفعل " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 بمعنى اسم الفاعل من غير تفضيل، ومنه قولهم في الآذان الله أكبر أي الله كبير في قول بعضهم، وقال الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنا لنا. . . بيتاً دعائمه أعز وأطول. أى عزيزة طويلة، وقال معن بن أوس المزنى: لعمرك ما أدرى وإنى لأوجل. . . على أينا تعدو المنية أول. أى وإنى لوجل، وقال الآخر: أصبحت أمنحك مع الصدود وإننى. . . قسماً إليك مع الصدود لأميل. أى لمائل، وقال الآخر: تمنى الرجال أن أموت وإن مت. . . فتلك سبيل لست فيها بأوحد. أى بواحد، الثانى: أن معناه "وهو أهون عليه" في تقديركم وحكمكم، لأنكم تزعمون وتعتقدون فيما بينكم أن الإعادة أهون من الابتداء، كيف وأن الابتداء من ماء والإعادة من تراب، وتركيب الصورة من التراب أهون عندكم، الثالث: أن الضمير في قوله تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) راجع إلى المخلوق لا إلى الله تعالى معناه أنه لا صعوبة على المخلوق فيه ولا إبطاء، لأنه يعاد دفعة واحدة بقوله تعالى: (كن فيكون) وفى الابتداء (خلق نطفة ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 نقل إلى علقة ثم إلى مضغة ثم إلى عظام ثم إلى كسوة اللحم) ، الرابع: أن الابتداء من قبل التفضل الذي لا مقتضى لوجوبه والاعادة من قبيل الواجب لأنها لابد منها لجزاء الأعمال، وجزاؤها واجب بحكم وعده سبحانه وتعالى. * * * فإن قيل: كيف معنى قوله تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا ... الآية) على اختلاف القراءتين بالمد والقصر؟ قلنا: قال الحسن رضى الله عنه: المراد به الربا المحرم والخطاب لدافعى الربا لا لآخذيه، معناه: وما أعطيتم أكلة الربا من زيادة لتربوا وتزكوا في أموالهم فلا يربوا عند الله ولا يبارك فيها، فهو نظير قوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) لا فرق بينهما، وقال ابن عباس رضى الله عنهما والجمهور، المراد به أن يهب غيره هبة أو يهدى إليه هداية على قصد أن يعوضه أكثر منها، وقالوا: وليس في ذلك أجر ولا وزر، وإنما سماه ربا، لأنه مدفوع لاجتلاب الربا وهو الزيادة فكان سبباً لها فسمى باسمها، ومعنى قراءة المد ظاهر، وأما قراءة القصر فمعناها: وما جئتم أي وما فعلتم من إعطاء ربا، كما تقول: أتيت خطأ وأتيت صوابا أى فعلت وقوله تعالى: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ذو الاضعاف من الحسنات، وهو التفات عن الخطاب إلى الغيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (من قبله) بعد قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) ؟ قلنا: فائدته التأكيد كما في قوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وقيل: الضمير لإرسال الرياح أو السحاب فلا تكرار. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف) والضعف صفة الشيء الضعيف، فكيف يخلق الإنسان من تلك الصفة، مع علمنا أنه خلق من عين وهى الماء والتراب لا من صفة؟ قلنا: أطلق المصدر وهو الضعف، وأراد به اسم الفاعل وهو الضعيف كقولهم: رجل عدل أي عادل ونحوه، فمعناه من ضعف وهو النطفة، وقيل: معناه على ضعف، فمن بمعنى على كما في قوله تعالى: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) والمراد به ضعف جثة الطفل حال طفولته. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ) وهم إنما لبثوا في الأرض في قبورهم؟ قلنا: معناه لقد لبثتم في قبوركم ذماناً في علم كتاب الله أو في خبر كتاب الله، وقيل: معناه في قضاء الله، وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره: وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 البعث، وأراد بالذين أوتوا العلم في كتاب الله الذين علموه، وفهموا كقوله تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) وقال تعالى في موضع آخر: (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) فجعلهم مرة طالبين للإعتاب، ومرة مطلوباً منهم الإعتاب؟ قلنا: معنى قوله تعالى: (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ولا هم يقالون عثراتهم بالرد إلى الدنيا، ومعنى قوله تعالى: (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي وإن يستقيلوا فما هم من المقالين، هذا ملخص الجواب وحاصله، وقد أوضحنا معناه في شرح غريب القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 سورة لقمان عليه السلام * * * فإن قيل: كيف يحل سماع الغناء بعد قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ. ... الآية) . وقد قال الواحدى في تفسيره الوسيط: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء، وروى هو أيضاً عن النبى صلى الله عليه وسلم حديثاً مسنداً أنه قال: والذى نفسى بيده ما رفع رجل قط عقيرته يتغنى إلا ارتدفه شيطانان يضربان بأرجلهما على ظهره وصدره حتى يسكت، وقال سعيد بن جبير ومجاهد وابن مسعود رضى الله عنهم: لهو الحديث هو: والله الغناء واشتراء المغنى والمغنية بالمال، وروى أيضاً حديثاً آخر عن النبى صلى الله عليه وسلم مسنداً أنه قال في هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) اللعب والباطل كثير النفقة سمح فيه، لا تطيب نفسه بدرهم يتصدق به، وروى أيضا حديثاً آخر مسنداً عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيين يوم القيامة. قيل: وما الروحانيون؟ قال: قراء أهل الجنة، قال أهل المعانى: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو واللعب والمزامير والمعاذف على القرآن، وإن كان اللفظ ورد بالشراء، لأن هذا اللفظ يذكر في الاستبدال والاختيار كثيراً، وقال قتادة رحمه الله: حسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق هذا كله نقل الواحدى رحمه الله - وكان من كبار السلف في العلم والعمل وقال غيره: قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وعكرمة وقتادة رضى الله عنهم المراد بلهو الحديث: الغناء وعن ألحسن رضى الله عنه مثله. وعنه أنه كل ما ألهى عن الله تعالى، وفى معنى يشترى قولان: أحدهما: أنه الشراء بالمال، والثانى: أنه الاختيار كما مر، وقيل: الغناء منفدة للمال مفسدة للقلب مسخطة للرب؟ قلنا: جوابه أنهم يؤولون هذه الآية ونظائرها، وهذه الأحاديث ونظائرها فيصرفونها عن ظاهرها متابعة للهوى وميلا إلى الشهوات. ولو نظروا بعقولهم فيما ينشأ عن جمعيات السماع في زماننا هذا من المفاسد لعلموا حرمته بلا خلاف بين المسلمين، فإن شروط إباحة السماع عند من أباح لا تجتمع في زماننا هذا على ما هو مسطور فى كتب المشايخ، وأرباب الطريق، ولو اشتغلنا بتفصيل مفاسده وعدد شروطه عند من أباحه لخرجنا عن مقصود كتابنا هذا. * * * فإن قيل: كيف وقع قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ... الآيتان) في أثناء وصية لقمان لابنه، وما الجامع بينهما؟ قلنا: هى جملة وقعت معترضة على سبيل الاستطراد تأكيداً لما في وصية لقمان من النهى عن الشرك. * * * فإن قيل: قول تعالى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) كيف اعترض بين الوصية ومفعولها؟ قلنا: لما وصى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم خاصة وتعانيه من المشاقة والمتاعب تخصيصاً لها بتأكيد الوصية وتذكيراً لغظيم حقها بأفرادها بالذكر، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 أبر: قال: أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك: ثم أباك. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) فجمع الأصوات وأفرد صوت الحمير؟ قلنا: ليس المراد ذكر صوت كل واحد من آحاد الجنس حتى الجمع وإنما أراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت وأنكر الأصوات من هذه الأجناس صوت هذا الجنس فوجب إفراده. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) يطابقه وما في الأبحر من ماء مداد فكيف عدل عنه؟ قلنا: استغنى عن ذكر المداد بقوله تعالى: (يمده) لأنه من قولك مد الدواة وأمدها، فجعل البحر المحيط بمنزلة الدواة، والأبحر السبعة المملوءة مداداً أبداً صباً لا ينقطع، فصار نظير ما ذكرتم ونظيره قول تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ... الآية) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي) ولم يقل من شجر؟ قلنا: لأنه أراد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة واحدة إلا وقد بريت أقلاماً. * * * فإن قيل: الكلمات جمع قلة والمقصود التعظيم والتفخيم، فكان جمع الكثرة وهو الكلم أشد مناسبة؟ قلنا: جمع القلة أبلغ فيما ذكرتم من المقصود، لأن جمع القلة إذا لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 يغن بتلك الأقلام وذلك والمداد فكيف يغنى جمع الكثرة. * * * فإن قيل: في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ .... الآية) كيف أضاف العلم إلى نفسه في الأمور الثلاثة من الخمسة المغيبات، ونفى العلم عن العباد في الأمرين الآخرين، مع أن الأمور الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها وانتفاء علم العباد بها؟ قلنا: إنما خص الأمور الثلاثة الأول بالإضافة إليه تتميماً لها وتفخيماً لأنها أجل وأعظم، وإنما خص الأمرين الآخرين بنفى علمهما عن العباد لأنهما من صفاتهم وأحوالهم، فإذا انتفى عنهم علمهما كان انتفاء علم ما عداهما من الأمور الخمسة الأولى. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ولم يقل بأى وقت تموت، وكلاهما غير معلوم، بل نفى العلم بالزمان أولى لأن من الناس من يدعى علمه وهم المنجمون بخلاف المكان، فإن أحداً لا يدعى علمه؟ قلنا: إنما خص المكان بنفى علمه لوجهين: أحدهما: أن الكون في مكان دون مكان في وسع الإنسان واختياره. فيكون اعتقاده علم مكان الموت أقرب بخلاف الزمان، الثانى: أن للمكان تأثيراً في جلب الصحة والسقم بخلاف الزمان أو تأثير المكان في ذلك أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 سورة السجدة * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وقال تعالى في سورة المعارج: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْ مٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ؟ قلنا: المراد بالأول مسافة عروج الملك من الأرض إلى السطح الأعلى من سماء الدنيا، وذلك ألف سنة، خمسمائة سنة مسافة ما بين السماء والأرض، وخمسمائة سنة مسافة سمك سماء الدنيا. والمراد بالثانى: مسافة عروج الملآئكة من الأرض إلى العرش، الثانى: أن المراد به في الآيتين يوم القيامة، ومقداره ألف سنة من حساب أهل الدنيا لقوله تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ومعنى قوله تعالى: "خمسين ألف سنة " أي لو تولى فيه حساب الخلق غير الله تعالى، الثالث: أنه كألف سنة في حق عوام المؤمنين، وكخمسين ألف سنة في حق الكافرين لشدة ما يكابدون فيه من الأهوال والمحن، وكساعة من أيام الدنيا في حق خواص المؤمنين، ويؤيد ما روى أنه قيل: يا رسول الله يوم مقداره خمسون ألف سنة ما أطوله، فقال: والذى نفسى بيده أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا، وروى أن ابن عباس رضى الله عنهما سئل عن هأتين الآيتين، فقال: يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه. وإنى أكره أن أقول في كتاب الله تعالى بما لا أعلم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 (كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) على اختلاف القراءتين، ومقتضى القراءتين أن لا يكون في مخلوقات الله تعالى شيء قبيح والواقع خلافه، ولو لم يكن إلا الشرور والمعاصى فإنها مخلوقة لله تعالى عند أهل السنة والجماعة مع أنها قبيحة؟ قلنا: أحسن بمعنى أحكم وأتقن، الثانى: أن فيه إضمار تقديره: أحسن إلى كل شيء خلقه، وهذا الجواب يخص قراءة فتح اللام. الثالث: أن أحسن بمعنى علم كما يقال: فلان لا يحسن شيئاً أي لا يعلم شيئاً، وقال على رضى الله عنه: قيمة كل امرئ ما يحسنه أي ما يعلمه، فمعناه أنه علم خلق كل شيء أو علم كل شيء خلقه ولم يتعلمه من أحد. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) وقال تعالى في موضع آخر: (مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ) ؟ قلنا: المذكور هنا صفة ذرية آدم، والمذكور هناك صفة آدم عليه السلام يعلم ذلك من أولى الآيتين فلا تنافى. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) والله تعالى منزه عن الروح؟ قلنا: معناه ونفخ فيه من روحه مضافة إلى الله تعالى بالخلق والإيجاد، لا بوجه آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) وقال تعالى في موضع آخر: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) وقال تعالى في موضع آخر: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) ؟ قلنا: الله تعالى هو المتوفى بخلق الموت، وأمر الوسائط بنزع الروح، والملآئكة المتوفون أعوان ملك الموت وهم يجذبون من الأظفار إلى الحلقوم، وملك الموت يتناول الروح من الحلقوم فصحت الإضافات كلها. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا ... الآية) وليس المؤمنون منحصرين في من هو موصوف بهذه الصفة، ولا هذه الصفة شرط في تحقق الإيمان؟ قلنا: المراد بقوله تعالى: (ذُكِّرُوا بِهَا) أي وعظوا، والمراد بالسجود: الخضوع والخشوع والتوضع في قبول الموعظة بآيات الله تعالى، وهذه الصفة شرط في تحقق الإيمان، ونظيره قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا .... الآية) . الثانى: أن معناه إنما يؤمن بآياتنا إيماناً كاملا من اتصف بهذه الصفة، وقيل: المراد بالأيات فرائض الصلوات الخمس، والمراد التذكير بها بالآذان والإقامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 فإن قيل: قوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) يدل على أن الفاسق لا يكون مؤمناً؟ قلنا: الفاسق بمعنى الفاجر بدليل قوله تعالى بعده: (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ، والتقسيم يقتضى كون الفاسق المذكور هنا كافراً لا كون كل فاسق كافراً، ونظيره قوله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) وقوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ولم يلزم من ذلك أن كل مجرم كافر، ولا أن كل مسيء كافر. * * * فإن قيل: ما فائدة العدول عن قوله تعالى: (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) في قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ؟ قلنا: لما جعله أظلم الظلمة ثم توعد كل المجرمين بالانتقام (منه دل على أن الأظلم يصيبة النصيب الأوفر من الانتقام) ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ) سؤال عن وقت الفتح، وهو يوم القضاء بين المؤمنين والكافرين، يعنى يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 القيامة فكيف طابقه ما بعده جواباً؟ قلنا: لما كان سؤالهم سؤال تكذيب واستهزاء بيوم القيامة لا سؤال استفهام أجيبوا بالتهديد المطابق للتكذيب والاستهزاء لا ببيان حقيقة الوقت. * * * فإن قيل: على قول من فسر الفتح فتح مكة أو بفتح يوم بدر كيف وجه الجواب، وقد نفع بعض الكفار، إيمانهم في ذينك اليومين وهم الطلقاء الذين آمنوا؟ قلنا: المراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 سورة الأحزاب * * * فإن قيل: كيف قال تعالي: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ولم يقل يا محمد كما قال تعالى: يا موسى ويا عيسى ويا داود ونحوه؟ قلنا: إنما عدل عن ندائه باسمه إلى ندائه بالنبى والرسول إجلالا وتعظيماً له كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) و (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) . * * * فإن قيل: لو كان ذلك كما ذكرتم لعدل عن اسمه إلى نعته في الإخبار عنه كما عدل في النداء، ولم يعدل عنه في قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) وقوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) ؟ قلنا: إنما عدل عن نعته في هذين الموضعين لتعليم الناس أنه رسول الله وتلقينهم أنى يسمونه بذلك ويدعوه به، ولذلك ذكره بنعته لا باسمه في غير هذين. الموضعين من مواضع الإخبار، كما ذكره في النداء: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ، (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ) ، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 , (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) ، (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ) ونظائره كثيرة. * * * فإن قيل: ما فائدة ذكر الجوف في قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة الحج في قوله تعالى: (وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) . * * * فإن قيل: ما معنى قولهم: أنت على كظهر أمى؟ قلنا: أرادوا أن يقولوا: أنت على حرام كبطن أمى، فكنوا عن البطن بالظهر (لئلا يذكر البطن الذي يقارب ذكره ذكر الفرج، وإنما كنوا عن البطن بالظهر) لوجهين: أحدهما: أنه عمود البطن، ويؤيده قول عمر رضى الله عنه: يجيء به أحدهم على عمود بطنه، أي على ظهره، الثانى: أن إتيان المرأة من قبل ظهرها كان محرماً عندهم، وكانوا يعتقدون إنها إذا أتيت من قبل ظهرها جاء الولد أحول، فكان المطلق في الجاهلية إذا قصد تغليظ الطلاق قال: أنت على كظهر أمى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) جعل أزواج النبى عليه السلام بمنزلة أمهات المؤمنين حكماً، وما جعل النبى عليه السلام بمنزلة أبيهم حكماً، كما قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) ؟ قلنا: أراد الله تعالى بقوله: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) أن أمته يدعون أزواجه بأشرف الأسماء، وأشرف أسماء النساء الأم، وأشرف أسماء النبى عليه السلام رسول الله لا الأب، الثانى: أنه تعالى جعلهن أمهات المؤمنين تحريماً لهن عليهم إجلالا وتعضيماً له عليه الصلاة والسلام كي لا يطمع أحد في نكاحهن فلو جعل النبى عليه السلام أباً للمؤمنين لكان أبا للمؤمنات أيضاً فلم يحل له نكاح امرأة من المؤمنات، وذلك ينافى إجلاله وتعظيمه، وقد جعله أعظم من الأب في القرب والحرمة بقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فجعل أقرب إليهم من أنفسهم وأحب، وكثيراً من الآباء يتبرأ من ابنه، ويتبرأ منه ابنه أيضاً، وليس أحد يتبرأ من نفسه. * * * فإن قيل: كيف قدم النبى عليه السلام على نوح ومن بعده في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ؟ قلنا: لأن هذا العطف من باب عطف الخاص على العام الذي هو جزء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 منه لبيان التفضيل والتخصيص بذكر مشاهير الأنبياء وذراريهم، فلما كان النبى صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء المفضلين قدم عليهم، وفى الميثاق المأخوذ قولان: أحدهما: أنه تعالى أخذ منهم الميثاق يوم أخذ الميثاق بأن يصدق بعضهم بعضاً، والثانى: أنه تعالى أخذ منهم الميثاق أن يوحدوا الله تعالى، ويدعوا إلى توحيده، ويصدق بعضهم بعضاً. * * * فإن قيل: كيف قدم عليه نوح عليهما السلام في نظير هذه الآية وهى قول تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) ؟ قلنا: لأن تلك الآية سيقت لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة. كأنه قال شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح عليه السلام في العهد القديم، وبعث عليه محمد عليه السلام في العهد الحديث. وبعث عليه من توسطهما من الأنبياء المشاهير، فكان تقديم نوح عليه السلام أشد مناسبة بالمقصود من سرق الآية. * * * فإن قيل: ما فائدة إعادة أخذ الميثاق في قوله تعالى: (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) ؟ قلنا: فائدته التأكيد ووصف الميثاق المذكور أولا بالجلالة والعظم استعاذة من وصف الإجرام به، وقيل: إن المراد بالميثاق الغليظ اليمين بالله تعالى على الوفاء بما حملوا، فلا إعادة لاختلاف الميثاقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف حال المؤمنين التى أمتن عليهم فيها: (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) ولو بلغت القلوب الحناجر لماتوا، ولم يبق للإمتنان وجه؟ قلنا: قال ابن قتيبة: معناه كادت القلوب تبلغ الحناجر من الخوف، فهو مثل في اضطراب القلوب ووجيبها، ورده ابن الأنبارى فقال: العرب لا تضمر كاد، ولا تعرف معناه ما لم تنطق به، وقال الفراء: معناه أنهم جبنوا وجزعوا، والجبان إذا أشتد خوفه انتفخت رئته، فرفعت قلبه إلى حنجرته، وهى جوف الحلقوم وأقصاه، وكذا إذا اشتد الغضب أو الغم وهذا المعنى مروى عن ابن عباس رضى الله عنه، ومن هنا قيل: للجبان انتفخ منخره. * * * فإن قيل: كيف علق الله تعالى عذاب المنافقين بمشيئته بقوله تعالى: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ) وعذابهم متيقن مقطوع به لقوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ؟ قلنا: معناه إن شاء تعذيبهم بإماتتهم على النفاق، وقيل: معناه إن شاء ذلك وقد شاءه. * * * فإن قيل: ما حقيقة قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما: أنه نفسه أسوة حسنة أي قدوة، والأسوة اسم للمتأسى به، أي المقتدى به، كما تقول: في البيضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 عشرون مناً حديداً أي هى في نفسها هذا المقدار، الثانى: أن فيه خصلة من حقها أن يؤنس بها وتتبع وهى مواساته بنفسه أصحابه، وصبره على الجهاد، وثباته يوم أحد حين كسرت رباعيته وشج وجهه. * * * فإن قيل: كيف أظهر تعالى الأسمين مع تقدم ذكرهما في قول تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) ؟ قلنا: لئلا يكون الضمير الواحد عائداً على الله تعالى وغيره. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف بنى قريظة: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا) والله تعالى إنما ملكه أرضهم بعدما وطئوها وظهروا عليها؟ قلنا: معناه ويورثكم بطريق وضع الماضي موضع المستقبل مبالغة في تحقيق الموعود وتأكيدا، الثانى: أن فيه إضمار تقديره: وأرضاً لم تطئوها سيورثكم إياها، يعنى أرض مكة، وقيل: أرض فارس والروم، وقيل: أرض خيبر، وقيل: قل أرض ظهر عليها المسلمون بعد ذلك إلى يوم القيامة، الثالث: أن معناه وأورثكم ذلك كله في الأزل بكتابته لكم في اللوح المحفوظ. * * * فإن قيل: كيف خص الله تعالى نساء النبى عليه السلام بتضعيف العقوبة على الذنب والمثوبة المطلقة على الطاعة في قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ .... الآيتان) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 قلنا: أما تضعيف العقوبة فلأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة عن الذنوب ما لا يشاهد غيرهن، الثانى: أن في معصيتهن أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذنب من اذى الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من ذنب غيره، والمراد بالفاحشة النشوز، وسوء الخلق، كذا قاله ابن عباس رضى الله عنه، وأما تضعيف المثوبة فلأنهن أشرف من سائر النساء بقربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت الطاعة منهن أشرف كما كانت المعصية منهن أقبح ونظير ذلك الوزير والبواب في طاعتهما للملك ومعصيتهما. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) ولم يقل كواحدة من النساء؟ قلنا: قد سبق نظير هذا مرة في آخر سورة البقرة في قوله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) . * * * فإن قيل: كيف أمر الله تعالى نساء النبى عليه السلام بالزكاة في قوله تعالى: (وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ) ولم يملكن نصاباً حولا كاملا؟ قلنا: المراد بالزكاة هنا الصدقة النافلة، والأمر أمر ندب. * * * فإن قيل: ما الفرق بين المسلم والمؤمن حتى عطف أحدهما على الآخر في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 قلنا: المراد بالمسلم الموحد بلسانه، وبالمؤمن المصدق بقلبه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) مع أنه كان أباً للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم؟ قلنا: قوله تعالى: (مِنْ رِجَالِكُمْ) يخرجهم من حكم النفى من وجهين: أحد هما: أنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال، بل ماتوا صبياناً، الثانى: أنه أضاف الرجال إليهم، وهم كانوا رجاله، لا رجالهم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) وعيسى عليه السلام ينزل بعده، وهو نبى؟ قلنا: معنى كونه خاتم النبيين أنه لا ينباً أحد بعده، وعيسى ممن نبئ قبله، وحين ينزل ينزل عاملا بشريعة محمد عليه السلام مصلياً إلى قبلته كأنه بعض أمته. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) معناه. يرحمكم وبغفر لكم فما معنى قوله تعالى: (وَمَلَائِكَتُهُ) والرحمة والمغفرة منهم محال؟ قلنا: جعلوا لكونهم مستجابى الدعوة بالرحمة والمغفرة كأنهم فاعلوا الرحمة والمغفرة، ونظيره قولهم: حياك الله، أي أحياك، وأبقاك، وحيا ذيد عمراً أي دعا له بأن يحيه الله اتكالا منه على إجابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 دعوته ومثله قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) فإن قيل: قد فهم من قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ) أنه مأذون له في الدعاء إلى الله سبحانه، فما فائدة قوله تعالى " بإذنه "؟ قلنا: معناه بتسهيله وتيسيره، وقيل: معناه بأمره، لا أنك تدعوهم من تلقاء نفسك. * * * فإن قيل: كيف شبه الله تعالى النبى صلى الله عليه وصلم بالسراج دون الشمس والشمس أتم وأكمل؟ قلنا: قيل: إن المراد بالسراج هنا الشمس كما قال تعالى: (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) وقيل: إنما شبهه بالسراج لأن السراج يتفرع ويتولد منه سرج لا تعد ولا تحصى، بخلاف الشمس، والنبى عليه السلام تفرع منه بواسطة إرشاده، وهدايته جميع العلماء من عصره إلى يومنا هذا، وهلم جرا إلى يوم القيامة، وقيل: إنما شبهه بالسراج لأنه بعثه في زمان يشبه الليل بظلمات الكفر والجهل والضلال. * * * فإن قيل: كيف شبهه بالسراج دون الشمع، والشمع أشرف، ونوره أتم وأكمل؟ قلنا: قد سبق الجواب عن مثل هذا في قوله تعالى: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 فإن قيل: كيف خص تعالى المؤمنات بعدم وجوب العدة في الطلاق قبل المسيس في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ... الآية) مع أن حكم الكتابية كذلك أيضاً؟ قلنا: هذا خرج مخرج الأغلب والأكثر، لا تخصيص. * * * فإن قيل: كيف أفرد سبحانه العم وجمع العمات، وأفرد الخال وجمع الخالات في قوله تعالى: (وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ) والمعهود في كلام العرب مقابلة الجمع بالجمع؟ قلنا: لأن العم اسم على وزن المصدر الذي هو الضم ونحوه، وكذا الخال على وزن القال ونحوه، فيستوى فيه المفرد والتثنية والجمع. بخلاف العمة والخالة، ونظيره قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ) . * * * فإن قيل: هذا الجواب منقوض بقوله تعالى في سورة النور: (أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ) ؟ قلنا: العم والخال ليسا مصدرين حقيقة بل على وزن المصدر فاعتبر هنا شبههما بالمصدر، وهناك حقيقتهما عملا بالجهتين بخلاف السمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فإنه لما كان مصدراً حقيقة ما جاء قط في الكتاب العزيز إلا مفرداً. * * * فإن قيل: كيف ذكر سبحانه الأقارب في قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ .... الآية) ولم يذكر العم والخال وحكمهما حكم من ذكر في رفع الجناح؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة النور في قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ... الآية) فالأولى أن تستر المرأة عن عمها وخالها لئلا يصف محاسنها عند إبنه فيفضى إلى الفتنة. * * * فإن قيل: السادة والكبراء بمعنى واحد، فكيف عطف أحدهما على الآخر في قوله تعالى: (إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا) ؟ قلنا: هو من باب عطف اللفظ على اللفظ المغاير له مع إتحاد معناهما كقولهم: فلان عاقل لبيب، وهذا حسن جميل، وقول الشاعر: معاذ الله من كذب ومين ................ * * * فإن قيل: المراد بالإنسان آدم عليه السلام في قوله تعالى: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ) فكيف قال تعالى: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) وفعول من أوزان المبالغة فيقتضى تكرار الظلم والجهل منه، وإنه منتف؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 قلنا: لما كان عظم القدر رفيع المحل، كان ظلمه وجهله أقبح وأفحش، فقام الوصف مقام الكثرة، وقد سبق نظير هذا في سورة آل عمران في قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، وقيل: إنما سماه ظلوماً جهولا لتعدى ضرر ظلمه وجهله إلى جميع الناس، فإنهم أخرجوا من الجنة بواستطه وسلط عليهم إبليس وجنوده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 سورة سبأ * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ولم يقل إلى ما فوقهم وما تحتهم من السماء والأرض؟ قلنا: ما بين يدى الإنسان هو كل شيء يقع نظره عليه من غير أن يحول وجهه إليه، وما خلفه هو كل شيء لا يقع نظره عليه حتى يحول وجهه إليه، فكان اللفظ المذكور أعم مما ذكرتم. * * * فإن قيل: هلا ذكر سبحانه الإيمان والشمائل هنا كما ذكرها في قوله تعالى: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) ؟ قلنا: لأنه وجد هنا ما يغنى عن ذكرها، وهو لفظ العموم وذكر السماء والأرض، ولا كذلك ثم. * * * فإن قيل: كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التماثل وهى التصاوير؟ قلنا: قيل إن عمل الصور لم يكن محرماً في شريعته، ويجوز أن يكون سور غير الحيوان كالأشجار ونحوها، وذلك غير محرم في شريعتنا أيضاً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ) ولم يقل آيتان جنتان، وكل جنة كانت آية أي علامة على توحيد الله تعالى؟ قلنا: لما تماثلتا في الدلالة واتحدت جهتهما فيها جعلهما آية واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ونظيره قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي الذين زعمتموهم آلهة من دون الله مع أن المشركين ما زعموا غير الله إلهاً دون الله، بل مع الله على وجه الشركة؟ قلنا: النص لا يدل على زعمهم حصر الألهية في غير الله أصلا، بل يوهم ذلك، ولو دل فنقول فيه تقديم وتأخير تقديره: قل ادعوا الذين من دون الله زعمتم أنهم شركاء الله. * * * فإن قيل: ما معنى التشكيك في قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ؟ قلنا: قيل إن "أو" هنا بمعنى الواو في الموضعين فيصير المعنى: نحن على الهدى وأنتم في الضلال، وقيل معناه: وإنا لضالون أو مهتدون، وإنكم كذلك وهو من التعريض بضلالهم، كما يقول الرجل لصاحبه إذا أراد تكذيبه: والله إن أحدنا لكاذب، ويعنى به صاحبه. * * * فإن قيل: كيف قالت الملآئكة عليهم السلام في حق المشركين: (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) ولم ينقل عن أحد من المشركين أنه عبد الجن؟ قلنا: معناه بل كانوا يطيعون الشياطين فيما يأمرونهم به من عبادتنا أكثرهم بهم مؤمنون، أي أكثر المشركين مصدقون بالشياطين فيما يخبرونهم به من الكذب أن الملآئكة بنات الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 سورة فاطر * * * فإن قيل: في قوله تعالى: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) كيف جاء "فتثير" مضارعاً دون ما قبله وما بعده؟ قلنا: هو مضارع وضع موضع الماضي كما في قوله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) . * * * فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) ؟ قلنا: معناه وما يعمر من أحد، إنما سماه معمراً بما هو سائر إليه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) وكم أمة كانت في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ولم يخل فيها نذير؟ قلنا: إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس، وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث الله محمداً عليهما الصلاة والسلام ولميخل فيها نذير؟ * * * فإن قيل: كيف اكتفى سبحانه بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد سبق ذكرهما في أولها؟ قلنا: لما كانت النذارة مشفوعة بالبشارة لا محالة استغنى بذكر أحدهما عن الآخر بعد سبق ذكرهما. * * * فإن قيل: ما الفرق بين النصب واللغوب حتى عطف أحدهما على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 الآخر؟ قلنا: النصب: المشقة والكلفة، واللغوب: الفتور الحاصل بسبب النصب، فهو نتيجة النصب، كذا فرق بينهما الزمخشري، ويرد على هذا أن يكون انتفاء الثانى معلوماً من انتفاء الأول. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) مع أنه يوهم أنهم يعملون صالحاً غير الذي عملوه، وهم ما عملوا صالحاً، بل سيئاً؟ قلنا: هم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة، كما قال تعالى: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) فمعناه غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 سورة يس عليه السلام * * * فإن قيل: كيف قال تعالى أولا: (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) وقال الله تعالى ثانياً: (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) ؟ قلنا: لأن الأول ابتداء إخبار فلا يحتاج إلى التأكيد باللام، بخلاف الثانى فإنه بحواب بعد الإنكار والتكذيب فاحتاج إلى التأكيد. * * * فإن قيل: كيف أضاف الفطر إلى نفسه بقوله: (فطرنى) وأضاف البعث إليهم بقوله: (وإليه ترجعون) مع علمه بأن الله تعالى فطره وفطرهم وسوف يبعثه ويبعثهم فهلا قال: فطرنا وإليه نرجع أو فطركم وإليه ترجعون؟ قلنا: لأن الخلق والإيجاد نعمة من الله تعالى توجب الشكر، والبعث بعد الموت وعيد وتهديد يوجب الزجر، فكان إضافته النعمة إلى نفسه أظهر في الشكر، وإضافته البعث إليهم أبلغ في الزجر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) والتحسر على الله تعالى محال؟ قلنا: هو تحسر للخلق معناه قولوا: يا حسرتنا على أنفسنا لا تحسر من الله تعالى. * * * فإن قيل: كيف نفى سبحانه وتعالى الإدراك عن الشمس للقمر دون عكسه، وهو قوله تعالى: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 قلنا: لأن سير القمر أسرع، فإنه يقطع فلكه في شهر، والثسس لا تقطع فلكها إلا في سنة، فكانت الشمس جديرة بأن توسف بنفى الإدراك لبطء سيرها، والقمر خليقاً بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره، هذا سؤال الزمخشري وجوابه، ويرد عليه أن سرعة سير القمر يناسب أن ينفى الإدراك عنه، لأنه إذا قيل: لا القمر ينبغى له أن يدرك الشمس مع سرعة سيره، علم بالطربق الأولى أن الشمس لا ينبغى لها أن تدرك القمر مع بطء سيرها، فأما إذا قيل: لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر، أمكن أن يقال: إنما لم تدركه لبطء سيرها، فأما القمر فيجوز أن يدركها لسرعة سيره. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ) أي لأهل مكة، (أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ) أي ذرية أهل مكة أو ذرية قوم نوح عليه الصلاة والسلام (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) والذرية اسم للأولاد والمحمول في سفينة نوح عليه السلام آباء أهل مكة لا أولادهم؟ قلنا: الذرية من الأضداد، تطلق على الآباء وعلى الأولاد بدليل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) وصف جميع المذكورين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 بكونهم ذرية وبعضهم آباء، وبعضهم أبناء، فمعناه: حملنا آباء أهل مكة، أو حملنا أبناءهم لأنهم كانوا في ظهور آبائهم المحمولين. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يعنون الوعد بالبعث والجزاء، والوعد كان واقعاً لا منتظراً؟ قلنا: معناه متى إنجاز هذا الوعد وصدقه بحذف المضاف أو باطلاق اسم الوعد على الموعود كضرب الأمير، ونسج اليمن. * * * فإن قيل: قولهم: (مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) سؤال عن البعث فكيف طابقه ما بعده جواباً؟ قلنا: معناه بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل إلا أنه جيء به على هذه الطريقة تبكيتاً لهم وتوبيخاً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في صفة أهل الجنة: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ) والظل إنما يكون حيث تكون الشمس، ولهذا لا يقال لما في الليل ظل، والجنة لا يكون فيها شمس لقوله تعالى: (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) ؟ قلنا: ظل أشجار الجنة من نور العرش لئلا تبهر أبصار أهل الجنة، فإنه أعظم من نور الشمس، وقيل: من نور قناديل العرش. * * * فإن قيل: كيف سمى سبحانه نطق اليد كلاماً ونطق الرجل شهادة فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 قوله تعالى: (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) ؟ قلنا: لأن اليد كانت مباشرة، والرجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه ليس بشهادة، بل إقرار بما فعل، قلت: وفى الجواب نظر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ) مع أنه عليه الصلاة والسلام قد روى عنه ما هو شعر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: أنا النبى لا كذب. . . أنا ابن عبد المطلب وقوله عليه الصلاه والسلام: هل أنت إلا أصبع دميت. . . وفى سبيل الله ما لقيت قلنا: هذا ليس بشعر لأن الخليل لم يعد شطور الرجز شعراً، وقوله عليه الصلاة والسلام: هل أنت إلا أصبع دميت، من مشطور الرجز، كيف وقد ووى أنه عليه الصلاة والسلام قال: ميت، ولقيت، بفتح الياء وسكون التاء، وعلى هذا لا يكون شعراً، ولكن الراوى حرفه فصار شعراً. الثانى: أن حد الشعر قول موزرن مقفى مقصود به الشعر، والقصد منتف فيما ورى عنه عليه الصلاة والسلام، فكان كما يتفق وجوده في كل كلام منثور من الخطب والرسائل ومحاورات الناس، ولا يعده أحداً شعراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فإن قيل: كيف قال تعالى: (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا) والله تعالى منزه عن الجارحة؟ قلنا: هو كناية عن الانفراد بخلق الأنعام والاستبداد به من غير شريك ولا معين، كما يقال في الحب وغيره من أعمال القلب هذا مما عملته يداك، ويقال لمن لا يد له: يداك أو كفاك، وكذا قوله تعالى: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) . فإن قيل: كيف سمى قوله: (مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) مثلا وليس بمثل، وإنما هو استفهام وإنكار؟ قلنا: سماه مثلا لما دل عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل، وهو إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى مع أن العقل والنقل كلاهما يشهد بقدرته تعالى على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 سورة الصافات * * * فإن قيل: كيف جمع تعالى المشارق هنا، وثناهما في سورة الرحمن، وكيف اقتصر هنا على ذكر المشارق، وذكر ثم المغربين أيضاً، وذكر المغارب مع المشارق مجموعين في قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) ، وذكرهما مفردين في قوله تعالى: (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ؟ قلنا: لأن القرآن نزل بلغة العرب على المعهود من أساليب كلامهم وفنونه، ومن أساليب كلامهم وفنونه الإجمال والتفصيل والبسط والإيجاز، فأجمل تارة بقوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أراد مشرقى الصيف والشتاء ومغربهما على الاجمال، وفصل تارة بقوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) أراد جميع مشارق السنة ومغاربها، وهى تزيد على سبعمائة، وبسط مرة بقوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) وأوجز واختصر مرة بقوله تعالى: (وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) لدلالة المذكور وهى المشارق على المحذوف وهو المغارب، وكانت المشارق أولى بالذكر لأنها أشرف إما لكون الشروق سابقاً في الوجود على الغروب، أو لأن المشارق منبع الأنوار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 والأضواء. * * * فإن قيل: كيف خص سبحانه وتعالى سماء الدنيا بقوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) مع أن غير سماء الدنيا مزينة بالكواكب أيضاً؟ قلنا: إنما خصها بالذكر لأنا نحن نرى سماء الدنيا لا غير. * * * فإن قيل: لأى فائدة ذكر الله تعالى تزيين السماء الدنيا، وكان رؤيته بين الساء الدنيا ظإهراً لا يحتاج إلى ذكره بقوله: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) فينبغى أن يذكر لنفسه سماء غير الدنيا؟ قلنا: لا غير. * * * فإن قيل: كيف وجه قراءة الضم في قوله تعالى: (بَلْ عَجِبْتَ) وهى قراءة على وابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهم، واختيار الفراء، والتعجب روعة تعترى الإنسان عند استعظام الشيء، والله تعالى لا تجوز عليه الروعة؟ قلنا: أراد بالتعجب ألاستعظام، وهو جائز من الله تعالى كما استعظم كيد النساء، وإنكار الكفار معجزات الأنبياء عليهم السلام، الثانى: أن معناه قل يا محمد بل عجبت، وكان شريح يقرأ بالفتح ويقول: إن الله تعالى لا يعجب من شيء، وإنما يعجب من لا يعلم، فقال إبراهيم النخعى: إن شريحاً كان يعجبه علمه، وعبد الله أعلم منه، وكان يقرأ بالضم يريد عبد الله بن مسعود، قال الزجاج: إنكار هذه القراءة غلط، لأن التعجب من الله تعالى خلاف العجب من الآدميين، ونظيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 قوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) وقوله تعالى: (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) وما أشبهه، وفى الذي وقع منه العجب قولان: أحدهما كفرهم بالقرآن، والثانى: إنكارهم البعث. * * * فإن قيل: كيف مدح سبحانه نوح عليه الصلاة والسلام بقوله: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) مع أن مرتبة الرسل فوق مرتبة المؤمنين؟ قلنا: إنما مدحه بذلك تنبيهاً لنا على جلالة محل الإيمان وشرفه أو ترغيباً في تحصيله والثبات عليه، والازدياد منه كما قال تعالى في مدح إبراهيم عليه السلام: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) والنظر إنما يعدى بإلى، قال الله تعالى: (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) وقال: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ) ؟ قلنا: " في " هنا بمعنى " إلى " كما في قوله تعالى: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) ، الثانى: أن المراد به نظر الفكر لا نظر العين، ونظر الفكر إنما يعدى، بـ " في " قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فصار المعنى ففكر في علم النجوم أو في أحوال النجوم؟ * * * فإن قيل: كيف استجاز إبراهيم عليه السلام أن يقول: (إنى سقيم) ولم يكن سقيماً؟ قلنا: معناه سأسقم كما في قوله تعالى: (إنك ميت) فهو من معاريض الكلام، قاله ليتخلف عنهم إذا خرجوا إلى عيدهم فيكيد أصنامهم، وقال ابن الأنبارى: أعلمه الله تعالى أنه يمتحنه بالسقم إن طلع نجم كذا، فلما رآه علم أنه سقيم، وقيل: معناه أنى سقيم القلب عليكم إذا عبدتم الأصنام وتكهنتم بنجوم لا تضر ولا تنفع. وقيل: إنه عرض له مرض، وكان سقيماً حقيقة، وقال الزمخشري: قد جوز معض الناس الكذب في المكيدة في الحرب والتقية وإرضاء الزوج، والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين قال: والصحيح أن الكذب حرام إلا إذا عرض وورى وإبراهيم عليه السلام عرض بقوله وررى، فإنه أراد أن من في عنقه الموت سقيم، كما قيل في المثل: كفى بالسلامة داء، وقال لبيد: ودعوت ربى بالسلامة جاهداً. . . ليصحنى فإذا السلامة داء وروى أن رجلا مات فجأة فاجتمع عليه الناس، وقالوا: مات وهو صحيح، فقال أعرابى: أصحيح من الموت في عنقه؟ * * * فإن قيل: لم لا يجوز النظر في علم النجوم مع أن إبراهيم عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 السلام قد نظر فيه، وحكم منه؟ قلنا: إذا كان المنجم كإبراهيم عليه السلام في أن الله تعالى أراه ملكوت السوات والأرض أبيح له النظر في علم النجوم والحكم منه. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي يسرعون، يدل على أنهم عرفوا أنه هو الكاسر لها، وقوله تعالى في سورة الأنبياء: (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِ ينَ) وما بعده يدل على أنهم ما تعرفوا أنه الكاسر لها، فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا: يجوز أن يكون الذي عرفه وزف إليه بعضهم، والذى جهله وسأل عنه بعض آخر، ويجوز أن الكل جهلوه وسألوا عنه، فلما عرفوا أنه الكاسر لها زف إليه كلهم. * * * فإن قيل: ما معنى قوله عليه السلام: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي) ؟ قلنا: معناه إلى حيث أمرنى ربى بالمهاجرة وهو الشام، وقيل: إلى طاعة ربى ورضاه، وقيل: إلى أرض ربى، وإنما خصها بالإضافة إلى الله تعالى تشريفاً لها وتفضيلا لأنها أرض مقدسة مبارك فيها للعالمين كما في قوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) ، وقوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 فإن قيل: ما معنى قوله عليه السلام: (سيهدين) وهو كان مهتدياً؟ قلنا: معناه سيثبنى على ما أنا عليه من الهدى، ويزيدنى هدى، وقيل: معناه سيهدين إلى الجنة، وقيل: إلى الصواب في جميع أحوالى، ونظيره قول موسى عليه السلام: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) . * * * فإن قيل: كيف شاور إبراهيم ولده عليهما السلام في ذبحه بقوله: (فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) مع أنه كان حتما على إبراهيم لأنه أمر بد، لأن معنى قوله: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) أنه أمر بذبحه في المنام، ورؤيا الأنبياء وحق فإذا رأوا شينئاً في المنام فعلوه في اليقظة كذا قاله قتادة، والدليل على أن منامه كان وحياً بالأمر بالذبح قوله: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) ؟ قلنا: لم يشاوره ليرجع إلى رأيه في ذلك، ولكن ليعلم ما عنده من الصبر فيما نزل به من بلاء الله تعالى فيثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم، ويعلم القصة فيوطن نفسه على الذبح ويهونه عليها، فيلقى البلاء وهو كالمستأنس به، ويكتسب الثواب بالانقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله، وليكون سنة في المشاورة فقد قيل: لو شاور آدم الملآئكة في أكل الشجرة لما فرط منه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 فإن قيل: كيف قيل له: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) وإنما يكون مصدقاً لها لو وجد منه الذبح ولم يوجد؟ قلنا: معناه قد فعلت غاية ما في وسعك مما يفعله الذابح من إلقاء ولدك وامرار ألشفرة على حلقه، ولكن الله تعالى منع الشفرة أن تقطع، وقيل: إن الذي رآه في المنام معالجة الذبح فقط، لا إراقة الدم، وقد فعل ذلك في اليقظة فكان مصدقاً للرؤيا. * * * فإن قيل: أين جواب " لما " في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا) ؟ قلنا: قيل هو محذوف تقديره: استبشراً واغتبطاً وشكرا الله تعالى على ما أنعم به عليهما من الفداء، أو تقديره: سعدا أو أجزل ثوابهما، وقيل الجواب هو قوله تعالى: (ناديناه) والواو زائدة كما في قول امرئ القيس: فلما أجزنا ساحة الحى وانتحى. . . بنا بطن خبت ذى خفاف عقنقل أى فلما أجزنا ساحة الحى أنتحى، كذا نقله أبن الأنبارى في شرحه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في آخر قصة إبراهيم عليه السلام: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وفى غيرها من القصص قبلها أو بعدها: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ؟ قلنا: لما سبق في قصة إبراهيم عليه السلام مرة: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 طرحه في الثانى تخفيفاً أو إختصارً واكتفاءاً بذكره مرة بخلاف سائر القصص. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) وهو كان من المرسلين قبل زمان التنجية؟ قلنا: قوله تعالى: (إذ نجيناه) لا يتعلق بما قبله بل يتعلق بمحذوف تقديره: وأذكر لهم يا محمد إذ نجيناه أو أنعمنا عليه إذ نجيناه، وكذا السؤال في قوله تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) . * * * فإن قيل: كيف صح في قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) و"أو" كلمة شك، والشك على الله تعالى محال؟ قلنا: قيل "أو" هنا بمعنى "بل" فلا شك، وقيل: بمعنى الواو كما في قوله تعالى: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) وقوله تعالى: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) ، وقيل: معناه أو يزيدون في تقديركم فلو رآهم أحد منكم لقال هم مائة ألف أو يزيدون، فالشك إنما دخل في حكاية قول المخلوقين، ونظيره قوله تعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 فإن قيل: ما فائدة تكرار الأمر بالتولية والإبصار في قوله تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) ، (وَأَبْصِرْهُمْ) الآيات؟ قلنا: فائدته تأكيد التهديد والوعيد. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى أولا: (وَأَبْصِرْهُمْ) ثم قال ثانياً (وأبصر) ؟ قلنا: طرح ضمير المفعول تخفيفاً واختصاراً واكتفاء بسبق ذكره مرة، وقيل: معنى الأول وأبصرهم إذا نزل بهم العذاب. ومعنى الثانى وأبصر العذاب إذا نزل بهم فلا فرق بينهما في المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 سورة ص * * * فإن قيل: أين جواب القسم في قوله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ؟ قلنا: فيه وجوه: أحدهما: أنه لما ذكر حرفاً من حروف المعجم على سبيل التحدى والتنبيه على الاعجاز، كما قيل في كل سورة مفتتحة بحرف، أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدى عليه، كأنه قال: والقرآن ذى الذكر إنه لكلام معجز، وكذلك إذا كان الحرف مقسماً به، كأنه قال: أقسمت، بـ "ص" والقرآن ذى الذكر، إنه لكلام معجز، الثانى: إن (ص) خبر مبتدأ محذوف على أنه اسم السورة، كأنه قال: هذه ص، يعنى هذه السورة التى أعجزت العرب والقرآن ذى الذكر، كما تقول: هذا خاتم والله، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله، الثالث: أن جواب القسم كم أهلكنا، وأصله لكم أهلكنا، فلما طال الكلام حذفت اللام تخفيفاً كما في قوله تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) ، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) ، الرابع: أن قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) ، وهو قول الكسائى، وقال الفراء: وهذا لا يتقيم في العربية لتأخره جداً عن القسم. * * * فإن قيل: ما وجه المناسبة والإرتباط بين قوله تعالى: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) وبين قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 قلنا: وجه المناسبة بينهما أنه أمر أن يتقوى علي الصبر بذكر قوة داود عليه السلام على العبادة والطاعة، الثانى: أن المعنى عرفهم أن داود عليه السلام مع كرامته وشهرة طاعته، وعبادته التى منها صوم يوم دون يوم، وقيام نصف الليل كان شديد الخوف من عذابى لا يزال باكياً مستغفراً، فكيف حال هؤلاء مع أفعالهم؟ * * * فإن قيل: كيف قل الملكان لما دخلا علي داود عليه السلام: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) ، والملآئكة لا يوجد منهم البغى والظلم، وكيف قال: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) إلى آخره، ولم يكن كما قال؟ قلنا: إنما قالا ذلك على سبيل الفرض والتصوير للمسألة، ومثل ذلك لا يعد كذباً، كما تقول في تصوير المسائل زيد له أربعون شاة وعمرو له أربعون، وأنت تشير إليهما، فخلطاها، وحال عليها الحول، كم يجب فيها، وليس لهما شيء، وتقول لي أربعون شاة، ولك أربعون شاة فخلطناها وما لكما شيء. * * * فإن قيل: كيف حكم داود عليه السلام على المدعى عليه بكونه ظالماً قبل أن يسمع كلامه؟ قلنا: لم يحكم عليه إلا بعد اعترافه كذا نقله السدى إلا أنه حذف ذكر الاعتراف في القصة اختصاراً لدلالة الحال عليه، كما تقول العرب: أمرته بالتجارة فكسب الأموال. أي فأتجر فكسب الأموال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 فإن قيل: ما معنى تكرار الحب في قوله عليه السلام: (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) وما معنى تعديته بعن وظاهره، أحببت حباً مثل حب الخير، كما تقول أحببت حب زيد، أي أحببت حباً مثل حب زيد؟ قلنا: أحببت في الآية بمعنى آثرت، كما يقول المخير بين الشيئين: أحببت هذا، أي آثرته، وقد جاء أستحب بمعنى آثر قال الله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) أى آثروه لأن من؟ أحب شيئاً فقد آثره على غيره، و" عن " بمعنى "على " كما في قوله تعالى: (مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) فيصير المعنى أي آثرت حب الخير على ذكر ربى الثانى: وهو اختيار الجرجانى صاحب معانى القرآن أن أحببت بمعنى قعدت وتأخرت مأخوذ من أحب الجمل إذا برك، ومنه قول الشاعر: دعتك إليها مقلتاها وجيدها. . . فملت كما مال المحب على عمد فالمحب هنا الجمل، والعمد علة تكون في صنام الجمل. وكل من ترك شيئاً يحب أن يفعله فقد قعد عنه، فتأويل الآية: إنى قعدت عن ذكر ربى لحب الخير، فيكون انتصاب حب على أنه مفعول به. * * * فإن قيل: كيف قال سليمان عليه السلام: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وهذا يشبه الحسد والبخل بنعم الله تعالى على عبيده بما لا يضر سليمان عليه السلام؟ قلنا: قال الحسن وقتادة رضى الله عنهما: المراد به لا ينبغى لأحد أن يسلبه منى في حياتى، كما فعل الشيطان الذي لبس خاتمه وجلس على كرسيه، الثانى: أن الله تعالى علم أنه لا يقوم غيره من عباده بمصالح ذلك الملك، فاقتضت حكمته تخصيصه به فألهمه أن يسأله تخصيصه به، الثالث: أنه أراد بذلك ملكاً عظيماً فعبر عنه بتلك العبارة، ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته، كما تقول لفلان ما ليس لأحد من الفضل أو من المال، وتريد بذلك عظم فضله أو ماله، وإن كان في الناس أمثاله. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف أيوب عليه السلام: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا) مع أن الصبر هو ترك الشكوى من ألم البلوى على ما قيل، وهو قد شكا؟ قلنا: الشكوى إلى الله تعالى لا تنافى الصبر ولا تسمى جزعاً لما فيها من إظهار الخضوع والعبودية لله تعالى، والافتقار إليه، ويؤيده قول يعقوب عليه السلام: (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي) مع قوله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) وقولهم: الصبر ترك الشكوى، يعني إلى العباد، الثانى: أنه عليه الصلاة والسلام إنما طلب الشفاء من الله تعالى بعد ما لم يبق منه إلا قلبه ولسانه خيفة على قومه أن يفتنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الشيطان بما كان يوسوس إليهم به، ويقول: إنه لو كان أيوب نبياً لما أبتلى بما هو فيه، ولدعا إلى الله تعالى بكشف ضره وروى أنه عليه السلام قال في مناجاته: إلهى قد علمت أنه لم يخالف لسانى قلبى، ولم يتبع قلبى بصرى، ولم يلهنى ما ملكت يمينى، ولم آكل إلا ومعى يتيم، ولم أبت شبعاناً ولا كاسياً ومعى جائع أوعريان، فكشف الله تعالى ضره. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) يدل على أن غاية لعنة الله تعالى لإبليس هى يوم القيامة ثم تنقطع؟ قلنا: كيف تنقطع وقد قال تعالى: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) يعنى يوم القيامة: (أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) وإبليس أظلم الظلمة، ولكن مراده في الآية أن عليه اللعنة في طول مدة الدنيا. فإذا كان يوم القيامة اقترن له باللعنة من أنواع العذاب ما تنسى عنده اللعنة فكأنها انقطعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 سورة الزمر * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) وكم من كاذب كفار قد هداه الله تعالى فأسلم وصدق؟ قلنا: معناه لا يهديه إلى الإيمان ما دام على كفره وكذبه، وقيل: معناه لا يهديه إلى حجة يلزم بها المؤمنين. * * * فإن قيل: كيف يصلح قوله تعالى: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) رداً لقول من ادعى أن له ولداً، وإبطالاً لذلك، مع أن كل من نسب إليه ولداً قال: إنه اصطفاه من خلقه بجعله ولدا، فاليهود يدعون أنه عزير، والنصارى يدعون أنه المسيح عليهما السلام وطائفة من مشركى العرب يدعون أن الملآئكة بنات الله تعالى؟ قلنا: هذا إن جعل رداً على اليهود والنصارى كان معناه لاصطفى الولد من الملآئكة، لا من البشر، لأن الملآئكة أشرف من البشر بلا خلاف بين اليهود، ولا بين النصارى، وأن كان رداً على مشركى العرب كان معناه لاصطفى له ولداً من جنس، يخلق كل شيء يريده ليكون ولده موصوفاً بصفته ولم يصطف من الملآئكة، الذين لا يقدرون على إيجاد جناح بعوضة، ولا يرد على هذا خلق عيسى عليه السلام الطير لأنه ليس بعام، أو لأنه بمعنى التقدير من الطين، ثم الله تعالى يخلقه حيواناً بنفخ عيسى عليه السلام إظهاراً ًلمعجزته. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وخلق حواء من آدم عليه السلام سابق على خلقنا منه، فكيف عطفه عليه بكلمة "ثم "؟ قلنا: " ثم " هنا للعطف في الإخبار لا في الإيجاد كما تقول لصاحبك: أعطيتك اليوم كذا ثم أعطيتك أمس أكثر منه، أي ثم أخبرك بكذا، ومنه قول الشاعر: إن من ساد ثم ساد أبوه. . . ثم قد ساد قبل ذلك جده. الثانى: أن " ثم " متعلقة بمعنى واحدة، وعاطفة عليه لا على خلقكم، فمعناه خلقكم من نفس وجدت وأفردت بالإيجاد ثم شفعت بزوج، الثالث: أن " ثم " على ظاهرها لأن الله تعالى خلق آدم ثم أخرج أولاده من ظهره كالذر وأخذ عليهم الميثاق ثم ردهم إلى ظهره ثم خلق منه حواء، فالمراد بقوله تعالى: خلقكم خلقاً يوم أخذ الميثاق دفعة واحدة، لا هذا الخلق الذي نحن فيه الآن بالتوالد والتناسل. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) مع أن الأنعام مخلوقة في الأرض، لا منزلة من السماء؟ قلنا: قيل إن الله تعالى خلق الأزواج الثمانية في الجنة ثم أنزلها على آدم عليه السلام بعد إنزاله إلى الأرض، الثانى: أن الله تعالى أنزل الماء من السماء والأنعام لا توجد إلا بوجود النبات، والنبات لا يوجد إلا بوجود الماء، فكأن الأنعام منزلة له من السماء، ونظيره قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وإنما أنزل الماء الذي لا يوجد القطن والكتان والصوف إلا به. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف الذي جاء بالصدق وصدق به: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) مع أنه سبحانه وتعالى يكفر عنهم سيئ أعمالهم، ويجزيهم بحسنها أيضاً؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة التوبة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ) مع أنه جاء في الأخبار أن للأنبياء والعلماء والشهداء والأطفال شفاعة يوم القيامة؟ قلنا: معناه أن أحداً لا يملكها إلا بتمليكه كما قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وقال تعالى: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) . * * * فإن قيل: كيف ذكر الضمير في " أُوتِيتُهُ " وهو للنعمة في قوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا) قال: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 قلنا: إنما ذكره نظرا إلى المعنى لأن معنى: (نعمة منا) شيئا من النعمة ,وقسماً منها , أو لأن النعمة والإنعام بمعنى واحد. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) والقرآ كله حسن؟ قلنا: معناه اتبعوا أحسن وحي , أو كتاب أنزل اليكم من ربكم وهو القرآن كله , وقيل: أحسن القرآن الآيات المحكمات , وقيل: أحسنه كل آية تضمنت أمراً بطاعة أو إحسان , وقد سبق نظير هذه الآية في سورة الأعراف في قوله تعالى: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) والأجوبة المذكورة ثم تصلح هنا , وكذا الأجوبة هنا تصلح ثم إلا الجواب الأول. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) مع أن الموحى إليهم جماعة ولما أوحى إلى من قبله لم يكن في الوحي إليهم خطابه؟ قلنا: معناه ولقد أوحى إلى كل واحد منك ومنهم لئن أشركت , الثاني: أن فيه إضمار تقديره: ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك التوحيد ثم أبتدا فقال: لئن أشركت , الثالث: أن فيه تقديما وتأخيراً تقديره: ولقد أوحى إليك لئن أشركت وكذلك أوحى إلى الذين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 قبلك. * * * فإن قيل: كيف عبر سبحانه عن الذهاب بأهل الجنة والنار بلفظ السوق وفيه نوع إهانة؟ قلنا: المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسرى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل , والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم حثاً واسراعاً بهم إلى دار الكرامة والرضوان , كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على السلطان فشتان ما بين السوقين. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في صفة النار {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} بغير واو , وقال في صفة الجنة ٍِ (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) بالواوا؟ قلنا: فيه وجوه. أحدهما: إنها زائدة قاله الفراء وغيره , الثاني: إنها واو الثمانية , وأبواب الجنة ثمانية , الثالث: أنها واو الحال معناه جائوها وقد فتحت أبوابها قبل مجيئهم بخلاف أبواب النار فإنها إنما فتحت عند مجيئهم , والحكمة في ذلك من وجوه. أحدها: أن يستعجل أهل الجنة الفرح والسرور إذا رأوا الأبواب مفتحة , وأهل النار يأتوا النار وأبوابها مغلقة ليكون أشد لحرها , الثاني: أن الوقوف على الباب المغلق نوع ذل وهوان فصين عنه أهل الجنة لا أهل النار , الثالث: أن الكريم يعجل المثوبة ويؤخر العقوبة , فلو وجد أهل الجنة بابها مغلقاً لأثر إنتظار فتحه في كمال الكرم بخلاف أهل النار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 سورة غافر * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} مع أن الذين آمنوا أيضاً يجادلون فيها , هل هي منسوخة أم محكمة؟ وهل فيها مجاز أم كلها حقيقية؟ وهل هي مخلوقة أم قديمة؟ وغير ذلك؟ قلنا: المراد الجدال فيها بالتكذيب ودفعها بالباطل , والطعن بقصد إدحاض الحق وإطفاء نور الله تعالى , ويدل عليه قوله تعالى عقيبه {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى في وصف حملة العرش: ( ويؤمنون به) ولا يخفى على أحد أن حملة العرش يؤمنون بالله تعالى؟ قلنا: فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه , كما وصف الأنبياء عليهم السلام بالصلاح والإيمان في غير موضع من كتابه لذلك , وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} فإن قيل: قوله تعالى {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا إماتة؟ قلنا: هذا كما تقول سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر الجسم الفيل , وكما تقول للحفار ضيق فم الركية ووسع أسفلها , وليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 فيهما نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى الكبر ولا من سعة إلى ضيق , ولا من ضيق إلى سعة , وإنما أردت الأنشاء على تلك الصفات , والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معا على ذات المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما , وكذلك الضيق والسعة وإذا أختارا الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر فجعل صرفه عنه كنقله منه. * * * فإن قيل: قوله تعالى {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} بيان وتقرير لبروزهم في قوله تعالى {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} والله تعالى لا يخفى عليه شيء برزوا أو لم يبرزو؟ قلنا: معناه لا يخفى على الله منهم شيء في إعتقادهم أيضاً فإنهم كانوا في الدنيا يتوهمون أنهم إذا تستروا بالحيطان والحجب لا يراهم الله , ويؤيده قوله تعالى {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} * * * فإن قيل: كيف قال المؤمن في حق موسى عليه السلام: {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} مع أنه صادق في زعم القائل لهذا القول , وفي نفس الأمر أيضاً , ويلزم من ذلك أن يصيبهم جميع ما وعدهم؟ قلنا: فيه وجوه: أحدهما: أن لفظة "بعض" صلة , الثاني: أنها بمعنى كل كما في قول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 إن الأمور إذا الأحداث دبرها. . . دون الشيوخ ترى في بعضما خللاً ومنه قول لبيد: أو لم تكن تدرى نوار بأننى. . . وصال عقد حبائل جذامها تراك أمكنة إذا لم أرضها. . . أو يرتبط بعض النفوس حمامها قلت: ولقائل أن يقول أن لفظة "بعض " في البيتين على حقيقتها. وكنى لبيد ببعض النفوس عن نفسه كأنه قال: أتركها إلى أن أموت، وكذا فسره ابن الأنباوى على أن أبا عبيدة قال: إن بعضاً في الآية بمعنى " كل " واستدل ببيت لبيد وأنكر الزمخشري على أبى عبيدة هذا التفسير على أن غير أبى عبيدة قد قال في قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام لأمته: (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أن بعضاً فيه بمعنى " كل "، الثالث: أنها على أصلها ثم في ذلك وجهان: أحدهما: أنه وعدهم النجاة إن آمنوا، والهلاك إن كفروا فذكر لفظة " بعض " لأنهم على إحدى الحالتين لا محالة، الثانى: أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، وكان هلاكهم في الدنيا بعضاً، فمراده يصيبكم في الدنيا بعض الذي يعدكم ، الرابع: أنه ذكر البعض بطريق التنزيل والتلطف وإمحاض النصيحة من غير مبالغة ولا تأكيد ليسعوا منه ولا يتهموه، فيردوا عليه وينسبوه إلى ميل ومحاباة بموسى عليه السلام، كأنه قال: أقل ما يصيبكم البعض، وفيه كفاية، ونظيره قول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 قد يدرك المتأنى بعض حاجته. . . وقد يكون من المستعجل الزلل كأنه قال: أقل ما يكون في التأنى إدراك بعض المطلوب، وأقل ما يكون في الإستعجال الزلل، فقد أبان فضل التأنى على العجلة بما لا يقدر الخصم على دفعه ورده، والوجه الرابع: هو اختيار الزمخشري. * * * فإن قيل: التولى والإدبار واحد فما فائدة قوله تعالى: (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) ؟ قلنا: هو تأكيد كقوله تعالى: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) ونظائره كثيرة، الثانى: أنه إستشارة لحميتهم وأستجلاب لأنفتهم لما في لفظة " مدبرين " من التعريض بذكر الدبر، فيصير نظير قوله تعالى: (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) . * * * فإن قيل: ما فائدة التكرار في قوله تعالى: (ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) وهلا قال: لعلى أبلغ أسباب السموات، أى أبوابها وطرقها؟ قلنا: إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه وتعظيماً لمكانه، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمها ثم أوضحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 فإن قيل: مثل السيئة سيئة فما معنى قوله تعالى: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) ؟ قلنا: معناه أن جزاء السيئة له حساب وتقدير لئلا يزيد على المقدار المستحق، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب كما قال تعالى في آخر الآية. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ينافى ذلك؟ قلنا: ذلك لمنع النقصان لا لمنع الزيادة كما قال الله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) ولم يقل: وقال الذين في النار لخزنتها؟ قلنا: لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً، وقيل: إن جهنم هى أبعد النار قعرا وخزنتها أعلى الملآئكة الموكلين بالنار مرتبة، فإنما قصدهم أهل النار بطلب الدعاء منهم لذلك. * * * فإن قيل: كيف قال المشركون: (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا) مع قولهم: (هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 قلنا: معناه أن الأصنام التى كنا نعبدها لم تكن شيئاً لأنها لا تضر ولا تنفع، الثانى: أنهم قالوا كذباً وجحوداً كقولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) ولم يقل وفى الفلك كما قال تعالى: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ؟ قلنا: معنى الوعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما صحيح في الفلك لأنه وعاء لمن يكون فيه وحمولة لمن يستعليه، فلما صح المعنيان استقامت العبارتان معاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 سورة فصلت * * * فإن قيل: ما فائدة زيادة " من " في قوله تعالى: (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) مع أن المعنى حاصل بقوله تعالى: وبيننا وبينك حجاب؟ قلنا: لو قيل كذلك لكان المعنى أن حجاباً حاصلا وسط الجهتين. وأما بزيادة " من " فمعناه أن الحجاب ابتداؤه منا ومنك، فالمسافة المتوسطة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها. * * * فإن قيل: قال تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى قوله تعالى: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) يدل على أن السموات والأرض وما ينهما خلقت في ثمانية أيام، وقال تعالى في سورة الفرقان: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا: معنى قوله تعالي: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) في تتمة أربعة أيام لأن اليومين اللذين خلق فيهما الأرض من جملة الأربعة، أو معناه كل ذلك في أربعة أيام، يعنى خلق الأرض وما ذكر بعده فصار المجموع ستة، وهذا لا اختلاف فيه بين المفسرين. * * * فإن قيل: السموات وما فيها أعظم من الأرض وما فيها بأضعاف مضاعفة فما الحكمة في أن الله خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام. والسموات وما فيها في يومين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 قلنا: لأن السموات وما فيها من عالم الغيب، ومن عالم الملكوت، ومن عالم الأمر، والأرض وما فيها من عالم الشهادة والملك والخلق الأول أسرع من الثانى، ووجه آخر: وهو أنه تعالى فعل ذلك ليعلم أن الخلق على سبيل التدريج والتمهيل في الأرض وما فيها لم يكن للعجز عن خلقها دفعة واحدة، بل كان لمصالح لا تحصل إلا بذلك، ولهذه الحكمة خلق العالم الأكبر في ستة أيام، والعالم الأصغر وهو الإنسان في تسعة أشهر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف أهل النار: (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) مع أنهم إن لم يصبروا على عذاب النار وجزعوا فالنار مثوى لهم أيضاً؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: فإن يصبروا أو لا يصبروا فالنار مثوى لهم على كل حال، ولا ينفعهم الصبر في الآخرة كما ينفع في الدنيا. ولهذا قيل: الصبر مفتاح الفرج، وقيل: من صبر ظفر، الثانى: أن هذا جواب لقول المشركين في حث بعضهم لبعض على إدامة عبادة الأصنام: (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ) فقال الله تعالى: (فَإِنْ يَصْبِرُوا) يعنى على عبادة الأصنام في الدنيا فالنار مثوى لهم في العقبى. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف الكفار: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي بأسوأ أعمالهم مع أنهم يجزون بسيئ أعمالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 أيضاً؟ قلنا: قد سبق نضير هذا السؤال في آخر سورة التوبة والجواب الأول هناك يصلح جوابا ً هنا. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَلَا لِلْقَمَرِ) بعد قوله تعالى: (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ) وهو مستفاد من الأول بالطريق الأولى؟ قلنا: فائدة ثبوت الحكم بأقوى الدليلين وهوالنص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 سورة الشورى * * * فإن قيل: كيف قال تعالي: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) بلفظ المضارع، والوحى إلي من قبله ماضى؟ قلنا: قال الزمخشري: قصد بلفظ المضارع كون ذلك عادة وسنة لله تعالى، وهذا لا يوجد في لفظ الماضي، قلت: ويحتمل أن يكون باعتبار وضع المضارع موضع الماضي كما في قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ) أو بإضمار وأوحى إلى الذين من قبلك. * * * فإن قيل: إلى ماذا يرجع الضمير في قوله تعالى: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) ؟ قلنا: معناه في هذا التدبير أو في الجعل المذكور، وقيل: في الرحم الذي دل عليه ذكر الأزواج. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وظاهره يقتضى إثبات المثل، ونفى مثل المثل، كما يقال: ليس كدار زيد دار، فإنه يقتضى وجود الدار لزيد؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: أن المثل في لغة العرب كناية عن الذات، ومنه قولهم: مثلى لا يقال له كذا، ومثلك لا يليق به كذا، فمعناه ليس كهو شيء، الثانى: أن الكاف زائدة للتأكيد، والمعنى ليس مثله شيء، الثالث: أن مثل زائدة، فيصيو المعنى ليس كهو شيء كما مر في الوجه الأول، وألفرق بين الوجهين أن المثل في الوجه الأول كناية عن الذات، وفى الوجه الثالث زائد مطرح كأنه لم يذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ولم لم يقل سبحانه إلا مودة القربى، أي القرابة، أو إلا المودة للقربى؟ قلنا: جعلوا محلا للمودة ومقراً لها للمبالغة، كأنه قال: إلا المودة الثابتة المستقرة في القربى، كما يقال: لي في آل فلان مودة. ولى فيهم هوى وحب شديد. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ) والدواب إنما هى في الأرض فقط؟ قلنا: فيهما بمعنى فيها، باعتبار إطلاق لفظ التثنية على المفرد كما في قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح، وقيل: إن الملآئكة لهم دبيب مع طيرانهم أيضاً، وهم مبثوثون في السماء، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) فتقييده بالأرض يدل على وجود الدابة في غير الأرض من حيث المفهوم. * * * فإن قيل: كيف قدم سبحانه الإناث على الذكور في قوله تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) مع تقدمهم عليهن، ثم رجع فقدمهم عليهن، ولم نكر الإناث وعرف الذكور؟ قلنا: إنما قدم الإناث لأن الآية إنما سيقت لبيان عظمة ملكه ونفاد مشيئته، وأنه فاعل ما يشاء لا ما يشاء عبيده، فكان ذكر الإناث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 اللاتى من جملة ما لا يشاؤه عبيده أهم، والأهم واجب التقديم، فلما قدمهن وأخر الذكور لذلك المعنى تدارك تأخيرهم، وهم أحقاء بالتقديم بتعريفهم لأن التعريف تنويه وتشهير، كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المشهورين الذين لا يخفون على أحد، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، فعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن، ولكن لمقتضى آخر فقال تعالى: (ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) كما قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) وقال: (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) . * * * فإن قيل: كيف يقال إن الله تعالى كلم محمداً عليه السلام ليلة المعراج مواجهة بغير حجاب ولا واسطة، وقد حصل الله تعالى تكليمه للبشر في طريق الوحى وهو الإلهام، كما كلم أم موسى عليه السلام، والإسماع من وراء حجاب، كما كلم موسى عليه السلام، وإرسال الرسول كما كلم الأنبياء عليهم السلام بواسطة جبريل عليه السلام، وكما كلم الأمم بواسطة الرسل عليهم السلام؟ قلنا: قيل: المراد بالوحى الأول هنا الإشارة، ومنه قولهم: وحى العين، ووحى الحاجب أي إشارتهما، وقوله تعالى: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا) فتكليمه لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة ألمعراج كان مواجهة بالإشارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 فإن قيل: في قوله تعالى: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) كيف كان لا يعلم الإيمان قبل أن يوحى إليه، والإيمان هو التصديق بوجود الصانع وتوحيده، والأنبياء عليهم السلام كلهم كانوا مؤمنين بالله تعالى قبل أن يوحى إليهم بأدلة عقولهم؟ قلنا: المراد بالإيمان هنا شرائع الإيمان وأحكامه، كالصلاة والصوم ونحوهما، وقيل: المراد به الكلمة التى بها دعوة الإيمان والتوحيد وهى لا إله إلا الله محمد رسول الله، والإيمان بهذا التفسير إنما علمه بالوحى لا بالعقل، كما علم الكتاب - وهو القرآن - به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 سورة الزخرف * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ولم يقل قلناه أو أنزلناه، والقرآن ليس بمجعول لأن الجعل هو الخلق، ومنه قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) وقوله تعالى: (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَا لْأُنْثَى) ؟ قلنا: الجعل أيضاً (هنا) بمعنى القول، ومنه قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ) وقوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) أي قالوا ووصفوا لا أنهم خلقوا كذلك هنا. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) والنبى صلى الله عليه وسلم ما لقيهم حتى يسألهم؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: واسأل أتباع من أرسلنا من قبلك، الثانى: أنه مجاز عن النظر في أديانهم والبحث عن مللهم هل فيها ذلك. الثالث: أن النبى صلى الله عليه وسلم حشر له الأنبياء عليهم السلام ليلة المعراج، فلقيهم وأمهم في مسجد بيت المقدس، فلما فرغ من الصلاة نزلت عليه هذه الآية والأنبياء حاضرون لديه، فقال لا اسأل قد كفيت، وقيل إنه خطاب له والمراد به أمته. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 يعنى الآيات التسع التى جاء بها موسى صلى الله عليه وسلم، فإن كان المراد به أن كل واحدة منهن أكبر مما سواها لزم أن يكون كل واحدة فاضلة ومفضولة، وإن كان المراد به أن كل واحدة منهن أكبر من أخت معينة لها فأيتها هى الكبرى وأيتها هي الصغرى؟ قلنا: المراد بذلك أنهن موصوفات بالكبرى لا يكدن يتفاوتن فيه، ونظيره بيت الحمساة: من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم. . . مثل النجوم التى يسرى بها السارى * * * فإن قيل: كيف قال عيسى عليه السلام لأمته: (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) والنبى المبعوث إلى أمة يبين لهم كل ما يختلفون فيه؟ قلنا: كانوا يختلفون فيما يعنيهم من أمر الديانات وفيما لا يعنيهم من أمور أخرى، فكان يبين لهم الشرائع والأحكام خاصة، وقيل إن البعض هنا بمعنى الكل كما سبق في قوله تعالى: (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) . * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) بعد قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 (بَغْتَةً) أي فجأة؟ قلنا: فائدته أنها تأتيهم وهم غافلون مشغولون بأمور دنياهم، كما قال تعالى: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) فلولا قوله تعالى: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) جاز أن تأتيهم بغتة وهم فطنون مستعدون لها. * * * فإن قيل: كيف وصف سبحانه أهل النار فيها بكونهم مبلسين، والمبلس هو الآيس من الرحمة والفرج، ثم قال تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) فطلبوا الفرج بالموت؟ قلنا: تك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة فتختلف فيها أحوالهم، فيغلب عليهم اليأس تارة فيسكنون، ويشتد ما بهم من ألم العذاب تارة فيستغيثون. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ظاهره يقتضى تعدد الألهة لأن النكرة إذا أعيدت تعددت كقولك: له على درهم ودرهم، وأنت طالق وطالق، ولهذا قال ابن عباس رضى الله عنهما: لن يغلب عسر يسرين؟ قلنا: الإله هنا بمعنى المعبود (بالنقل) كما في قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) فصار المعنى: وهو الذي في السماء معبود وفى الأرض معبود، والمغايرة ثابتة بين معبوديته في السماء ومعبوديته في الأرض لأن العبودية من الأمور الإضافية فيكفى في تغايرهما التغاير من أحد الطرفين فإذا كان العابد فى السماء غير العابد في الأرض صدق أن معبوديته في السماء غير معبوديته في الأرض مع أن المعبود واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 سورة الدخان * * * فإن قيل: الخلاف بين النبى صلى الله عليه وسلم ومنكرى البعث إنما كان في الحياة بعد الموت لا في الموت، فكيف قال تبارك وتعالى: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى) ولم يقل: "إن هى إلا حياتنا الأولى"، كما قال تعالى في موضع آخر: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) وما معنى وصف الموتة بالأولى كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الموتة الأولى؟ قلنا: لما وعدوا موتة تكون بعدها حياة نفوا ذلك، كأنهم قالوا لا يقع في الوجود موتة تكون بعدها حياة إلا ما كنا فيه من موتة العدم وبعثنا منه إلى حياة الوجود، وقيل: إنهم نفوا بذلك الموتة الثانية فى القبر بعد إحيائهم لسؤال منكر ونكير. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ) والعذاب لا يصب، وإنما يصب الحميم كما قال في موضع آخر: (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) ؟ قلنا: هو استعارة ليكون الوعيد أهول وأهيب، ونظيره قوله تعالى: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) وقوله تعالى: (أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) وقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 صبت عليهم صروف الدهر من صبب .................. * * * فإن قيل: كيف وعد الله تعالى أهل الجنة لبس الاستبرق وهو، غليظ الديباج مع أن لبس الغليظ من الديباج عند السعداء من أهل الدنيا عيب ونقص؟ قلنا: كما أن رقيق ديباج الجنة وهو السندس لا يماثل رقيق ديباج الدنيا إلا في الإسم فقط، فكذلك غليظ ديباج الجنة، وقيل: السندس لباس السادة من أهل الجنة، والإستبرق لباس العبيد والخدم إظهاراً لتفاوت المراتب. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف أهل الجنة: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) مع أن الموته الأولى لم يذوقوها في الجنة؟ قلنا: قال الزجاج والفراء: إلا هنا بمعنى سوى كما في قوله تعالى: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) وقول تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ، الثانى: إن إلا بمعنى بعد كما قال بعضهم في قوله تعالى: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) ، الثالث: أن السعداء إذا حضرتهم الوفاة كشف لهم الغطاء وعرضت عليهم منازلهم ومقاماتهم في الجنة، وتلذذوا في حال النزع بروحها وريحانها، فكأنهم ماتوا في الجنة. وهذا قول ابن قتيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 سورة الجاثية * * * فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) ؟ قلنا: وجه المطابقة أنهم الزموا بما هم مقرون به من أن الله تعالى هو الذي أحياهم اولاً ثم يميتهم، ومن كان قادراً على ذلك كان قادراً على جمعهم يوم القيامة، فيكون قادراً على إحياء آبائهم. * * * فإن قيل: كيف أضاف الكتاب إلى الأمة وإليه في قوله تعالى: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) ثم قال تعالى: (هَذَا كِتَابُنَا) ؟ قلنا: الإضافة تصح بأدنى ملابسة وقد لابسهم الكتاب بكون أعمالهم مثبتة فيه، ولابسه بكونه مآلكه وكونه آمراً لملآئكته أن يكتبوا فيه أعمالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 سورة الأحقاف * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) مع أن حسن ما عملوا يتقبل عنهم أيضاً؟ قلنا: أحسن بمعنى حسن، وقد سبق نظيره في سورة الروم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف الفريقين: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) مع أن أهل النار لهم دركات لا درجات؟ قلنا: الدرجات الطبقات من المراتب مطلقاً من غير اختصاص، الثانى: أن فيه إضمار تقديره: ولكل فريق درجات أو دركات مما عملوا إلا أنه حذفه اختصاراً لدلة المذكور عليه. * * * فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) ؟ قلنا: طابقه من حيث إن قولهم ذلك استعجال للعذاب الذي توعدهم به بدليل قوله تعالى بعده: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) فقال لهم لا علم لي بوقت تعذيبكم، بل الله تعالى هو العالم به وحده. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف الريح: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) وكم من شىء لم تدمره؟ قلنا: معناه تدمر كل شيء مرت به من أموال قوم عاد وأملاكهم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ولم يقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 يغفر لكم ذنوبكم؟ قلنا: لأن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كمظالم العباد وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 سورة محمد صلى الله عليه وسلم * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) ولم يسبق ضرب مثل؟ قلنا: معناه كذلك يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين، وقيل: أراد به أنه جعل أتباع الباطل مثلا لعمل الكفار. وأتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين، أو أنه جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في حق الشهداء بعد ما قتلوا في سبيل الله: (سَيَهْدِيهِمْ) والهداية إنما تكون قبل الموت لا بعد؟ قلنا: معناه سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير، وقيل: سيهديهم يوم القيامة إلى طريق الجنة. * * * فإن قيل: ما معنى قولع تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ) إلى قوله تعالى: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) ؟ قلنا: قال الفراء: معناه من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار، وقال غيره تقديره: أمثل الجنة الموصوفة كمثل جزاء من هو خالد في النار فحذف منه ذلك إيجازاً واختصاراً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى للنبى صلى الله عليه وسلم: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وهو عالم بذلك قبل أن يوحى إليه وبعده؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 قلنا: معناه اثبت على ذلك العلم، وقال الزجاج: الخطاب له صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته كما ذكرنا في أول سورة الأحزاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 سورة الفتح * * * فإن قيل: كيف جعل سبحانه فتح مكة علة للمغفرة فقال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ... الآية) ؟ قلنا: لم يجعله علة للمغفرة بل لاجتماع ما وعده من الأمور الأربعة، وهى المغفرة وإتمام النعمة وهداية السراط المستقيم والنصر العزيز. وقيل الفتح لم يكن إتمام النعمة والنصر العزيز حاصلا وإن كان الباقى حاصلا، ويجوز أن يكون فتح مكة سبباً للمغفرة من حيث إنه جهاد للعدو. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) إن كان المراد بما تأخر ذنباً يتأخر وجوده عن الخطاب بهذه الآية فهو معدوم عند نزولها، فكيف يغفر الذنب المعدوم، وإن كان إلمراد به ذنباً وجد قبل نزولها فهو متقدم فكيف سماه متأخراً؟ قلنا: المراد بما تقدم قصة مارية، وبما تأخر قصة امرأة زيد، وقيل: المراد بما تقدم ما فرط منه قبل النبوة، وبما تأخر ما فرط منه بعدها، وقيل: المراد بما تقدم ما وجد منه، وبما تأخر ما لم يوجد (منه) على معنى أنه موعود بمغفرته على تقدير وجوده، أو على طريق المبالغة (كقولهم: فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه، بمعنى يضرب كل أحد) فكذا هذا معناه ليغفر لك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الله كل ذنب: فالحاصل أن الذنب المتأخر (عن نزولها) متقدم على نزول الآية، وإن كان متأخراً بالنسبة إلى شيء آخر قبله أو متأخراً عن نزولها وهو موعود بمغفرته، أو على طريق المبالغة كما بينا. * * * فإن قيل: ما معنى قوله: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وهو مهدى إلى الصراط المستقيم، ومهدى به أمته أيضاً؟ قلنا: معناه وبزيدك هدى، وقيل: وبثبتك على الهدى، وقيل: معناه ويهديك سراطاً مستقيماً في كل (أمر) تحاوله. * * * فإن قيل: كيف يقال أن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان وقد قال الله تعالى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) ؟ قلنا: الإيمان الذي يقال أنه لا يقبل الزيادة والنقصان هو الإقرار بوجود الله تعالى، كما أن إلهيته لا تقبل الزيادة والنقصان، فأما الإيمان بمعنى الأمن أو اليقين أو التصديق فإنه يقبلهما، وهو فى الآية بمعنى التصديق لأنهم بسبب السكينة التى هى الطمأنينة وبرد اليقين كلما نزلت فريضة وشريعة صدقوا بها فازدادوا تصديقاً مع تصديقهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَأَهْلَهَا) بعد قوله (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا) ؟ قلنا: الضمير في بها لكلمة التوحيد، وفى أهلها للتقوى فلا تكرار. * * * فإن قيل: ما وجه تعليق الدخول بمشيئة الله تعالى في إخباره حتى قال سبحانه وتعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) ؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: أن "إن" بمعنى إذ كما في قوله تعالى: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، الثانى: أنه استثناء من الله تعالى فيما يعلم تعليماً لعباده أن يستثنوا فيما لا يعلمون، الثالث: أنه على سبيل الحكاية لرؤيا النبى صلى الله عليه وسلم، فإنه رأى أن قائلا يقول له: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) ، الرابع: أن الاستثناء متعلق بقوله تعالى: (آمِنِينَ) فأما الدخول فليس فيه تعليق. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (لَا تَخَافُونَ) بعد قوله: (آمِنِينَ) ؟ قلنا: معناه آمنين في حال الدخول لا تخافون عدوكم أن يخرجكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 منه في المستقبل. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) تعليل لماذا؟ قلنا: لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوتهم كأنه قال: إنما كثرهم وقواهم ليغيظ بهم الكفار. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) وكل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح وبغيرهما من الصفات الحميدة التى ذكرها الله تعالى في هذه الآية فما معنى التبعيض هنا؟ قلنا: من هنا لبيان الجنس لا التبعيض كما في قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 سورة الحجرات * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) والمراد به نهيهم أن يتقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أو فعل، لا أن يقدموا غيرهم؟ قلنا: قدم هنا لازم بمعنى تقدم كما في قولهم بين وتبين، وفكر وتفكر، ووقف وتوقف ومنه قول الشاعر: إذا نحن سرنا سارت الناس خلفنا. . . وإن نحن أو منا إلى الناس وقفوا أى توقفوا، وقيل: معناه لا تقدموا فعلاً قبل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * فإن قيل: (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) بعد قوله سبحانه: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ؟ قلنا: فائدة تحريم الجهر في مخاطبته وإن لم يتضمن رفع صوتهم على صوته، وهذا غير مستفاد من النهى الأول، الثانى: إن المراد بالثانى النهى عن مخاطبته صلى الله عليه وسلم بأسمه نحو قولهم يا محمد ويا أحمد فهو أمر لهم بتوقيره وتعظيمه في المخاطبة، وأن يقولوا يا رسول الله ويا نبى الله ونحو ذلك، ونظيره قوله سبحانه وتعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ) أي مخافة أن تحبط أعمالكم مع أن الأعمال إنما تحبط بالكفر لا بغيره من المعاصى، ورفع الصوت في مجلس النبى صلى الله عليه وسلم ليس بكفر، كيف وقد روى أن الآية نزلت في أبى بكر وعمر رضى الله عنهما لما رفعا أصواتهما بين يدى رسول ألله صلى الله عليه وسلم، وروى أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان جهورى الصوت، فربما تأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوته؟ قلنا: معناه لا تستخفوا به، فإن الاستخفاف به ربما أدى خطؤه إلى عمده، وعمده كفر يحبط العمل، وقيل: حبوط العمل مجاز عن نقصان المنزلة وانحطاط المرتبة. * * * فإن قيل: ما وجه الإرتباط والتعلق بين قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ) وبين ما قبله؟ قلنا: معناه فاتركوا عادة الجاهلية فإن الله تعالى لم يترككم عليها، ولكن الله حبب إليكم الإيمان، وقيل: معناه فتثبتوا في الأمور كما يليق بالإيمان، فإن الله حبب إليكم الإيمان. * * * فإن قيل: إن كان الفسوق والعصيان بمعنى واحد، فما فائدة الجمع بينهما، وإن كان العصيان أعم من الفسوق فذكره مفن عن ذكر الفسوق لدخوله فيه فما فائدة الجمع بينهما؟ قلنا: قال ابن عباس رضى الله عنهما المراد بالفسوق هنا الكذب، وبالعصيان بقية المعاصى، وإنما أفرد الكذب بالذكر لأنه سبب نزول الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 فإن قيل: كيف يقال إن الإيمان والإسلام بمعنى واحد، والله سبحانه وتعالى يقول: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) ؟ قلنا: المنفى هنا الإيمان بالقلب بدليل قوله تعالى: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) يعنى لم تصدقوا بقلوبكم: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) أي استسلمنا وانقدنا خوف السيف، ولا شك في الفرق بين الإيمان والاستسلام بهذا التفسير، والذى يدعى اتحادهما لا يريد به أنهما حيث استعملا كانا بمعنى واحد، بل يريد به أن أحد معانى الإيمان هو الإسلام. * * * فإن قيل: كيف يقال إن العمل ليس من الإيمان، والله تعالى يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية) ؟ قلنا: معناه إنما المؤمنون إيماناً كاملا كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وقوله صلي الله عليه وسلم: المسلم من سلم " المسلمون من لسانه ويده " وقولهم: الرجل من يصبرعلى الشدائد، ويرد على هذا الجواب أن المنفى في أول الآية عن الأعراب نفس الإيمان الكامل فلا يناسب أن يكون المثبت بعد ذلك الإيمان الكامل بل نفس الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 سورة ق * * * فإن قيل: جواب القسم في قوله تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنه مضمر تقديره: إنهم مبعثون بعد الموت، الثانى: أن قوله تعالى: (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) واللام محذوفة لطول الكلام تقديره: لقد علمنا كما فى قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) ، الثالث: أنه قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) وأراد به حب الحصيد فأضاف الشيء إلى نفسه والإضافة تقتضى المغايرة بين المضاف والمضاف إليه؟ قلنا: معناه وحب الزرع الحصيد أو النبت الحصد، الثانى: إن إضافة الشيء إلى نفسه جائزة عند اختلاف اللفظين كما في قوله تعالى: (حق اليقين) و (حبل الوريد) و (در الآخرة) و (وعد الصدق) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) ولم يقل قعيدان، وهو وصف للملكين اللذين سبق ذكرهما بقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ) ؟ قلنا: معناه عن اليمين قعيد وعن الشال قعيد، إلا أنه حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه كما قال الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما. . . عندك راض والرأى مختلف وقال آخر: رمانى بأمر كنت منه ووالدى. . . بريئاً ومن أجل الطوى رمانى الثانى: إن فعيلا يستوى فيه الواحد والإثنان والجمع، قال الله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) وقيل: إنما لم يقل قعيدان رعاية لفواصل السورة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَلْقِيَا) والخطاب لواحد وهو مالك خازن النار؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: ما قاله المبرد أن تثنية الفاعل أقيمت مقام تثنية الفعل للتأكيد باعتبار اتحادهما (حكماً) كأنه قال تعالى ألق ألق، ونظيره قول امرئ القيس: قفا نبك أي قف قف، الثانى: أن العرب كثيراً ما يرافق الرجل منهم اثنين فأكثر على ألسنتهم خطابا الإثنين فقالوا: خليلى وصاحبى وقفا وأسعدا وعوجا ونحو ذلك. قال الفراء: سمعت ذلك كثيراً من العرب قال وأنشدنى بعضهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 فقالت لصاحبى لا تحبسانا. . . بنزع أصوله واجتز شيحا فقال لاتحسبانا والخطاب لواحد، بدليل قوله لصاحبى قال: وأنشدنى أبو ثور: فإن تزجرانى يا بن عفان أنزجر. . . وإن تداعانى أجم عرضاً ممنعا وقال امرؤ القيس: خليلى مرا بى على أم جندب. . . نقضى لبانات الفؤاد المعذب ثم قال: ألم تر أنى كلما جئت طارقاً. . . وجدت بها طيباً وإن لم طيب الثالث: أنه أمر للملكين اللذين سبق ذكرهما بقوله تعالى: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (غَيْرَ بَعِيدٍ) ولم يقل غير بعيدة وهو وصف للجنة؟ قلنا: لأنه على زنة المصار كالزئير والصليل، والمصادر يستوى في الوصف بها المذكر والمؤنث، أو على حذف الموصوف: أي مكاناً غير بعيد، وكلا الجوابين للزمخشرى. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (غَيْرَ بَعِيدٍ) بعد قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 (وَأُزْلِفَتِ) بمعنى قربت؟ قلنا: فائدته التأكيد كقولهم: هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل. * * * فإن قيل: كيف قان تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) وكل إنسان له قلب بل كل حيوان؟ قلنا: المراد بالقلب هنا العقل، كذا قاله ابن عباس رضى الله عنهما. قال ابن قتيبة: لما كان القلب موضعاً للعقل كنى به عنه، الثانى: أن المراد لمن كان له قلب واع، لأن من لا يعى قلبه فكأنه لا قلب له. ويؤيد ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ... الآية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 سورة الذريات * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ) والصادق وصف الواعد لا وصف الوعد؟ قلنا: قيل صادق بمعنى مصدوة كـ (عيشة راضية) و (ماء دافق) وقيل: معناه لصدق، فإن المصدر قد جاء على وزن اسم الفاعل كقولهم: قمت قائماً، (وقولهم) : لحقت بهم اللائمة: أي اللوم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) والمتقون لا يكونون في الجنة في العيون؟ قلنا: معناه أنهم في الجنات والعيون الكثيرة محدقة بهم من كل ناحية وهم في مجموعها لا في كل عين، ونظيره قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) لأنه بمعنى أنهار، إلا أنه عدل عنها رعاية للفواصل. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) أي في قرى قوم لوط عليه السلام، وقرى قوم لوط ليست موجودة، فكيف توجد فيها العلامة؟ قلنا: الضمير في قوله تعالى: "فيها" عائد إلى تلك الناحية والبقعة لا إلى مدائن قوم لوط، الثانى: أنه عائد إليها، ولكن " فى" بمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 من كما في قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) وقوله تعالى: (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا) ويؤيد هذا الوجه مجيئه مصرحاً به في سورة العنكبوت بلفظ من في قوله تعالى: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) ثم قيل الآية آثار منازلهم الخربة، وقيل: هى الحجارة التى أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة، وقيل: هى الماء الأسود إلذى يخرج من الأرض. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) أي صنفين، مع أن العرش والكرسى والقلم واللوح لم يخلق منها إلا واحد؟ قلنا: قيل معناه ومن كل حيوان خلقنا ذكراً أو أنثى، وقيل: معناه ومن كل شيء تشاهدونه خلقنا صنفين كالليل والنهار، والصيف والشتاء، والنور والظلمة، والخير والشر، والحياة والموت، والبحر والبر، والسماء والأرض، والشمس والقمر، ونحو ذلك. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) وقال سبحانه في موضع آخر: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) ؟ قلنا: معنى قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) أي الجئوا إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 بالتوبة، وقيل: معناه ففروا من عقوبته إلى رحمته، ومعنى قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) أي يخوفكم عذاب نفسه أو عقاب نفسه. وقال الزجاج: معنى نفسه إياه كأنه قال تعالى: ويحذركم الله إياه، كما قال سبحانه وتعالى: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أى إياه، فظهر أنه لا تناقض بين الآيتين. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وإذا قلنا، خلقهم للعبادة كان مريداً لها منهم فكيف أرادها منهم ولم توجد منهم؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنه عام أريد به الخاص وهم المؤمنون، بدليل خروج البعض منه بقوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ومن خلق لجهنم لا يكون مخلوقاً للعبادة، الثانى: إنه على عمومه، والمراد بالعبادة التوحيد، وقد وحده الكل يوم أخذ الميثاق، وهذا الجواب يختص بالإنس، لأن أخذ الميثاق مخصوص بهم بالآية، وقيل: معناه إلا أن يكونوا عبيداً لي، وقيل: معناه إلا ليذلوا ويخضعوا وينقادوا لما قضيته وقدرته عليهم فلا يخرج عنه أحد منهم، وقيل: معناه إلا لعيبدون إن اختاروا لا قرأ وإلجاء، وقيل: إلا ليعبدون العبادة المرادة في قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) والعموم ثابت في الوجوه الخمسة. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) بعد قوله: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) ؟ قلنا: معناه ما أريد منهم من رزق لأنفسهم، وما أريد أن يطعمون: أي أن يطعموا عبيدى، وإنما أضاف الإطعام إلى ذاته المقدسة لأن الخلق عياله وعبيده، ومن أطعم عيال غيره فكأنه أطعمه، ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى، أي استطعمك عبدى فلم تطعمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 سورة الطور * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) مع أن الحور ألعين في الجنة مملوكات ملك يمين لا ملك نكاح؟ قلنا: معناه قرناهم بهن من قولهم زوجت إبلى: أي قرنت بعضها إلى بعض، وليس من التزويج الذي هو عقد النكاح، ويؤيده أن ذلك لا يعدى بالباء بل بنفسه، ويقال: زوجه أمرأة ولا يقال بامرأة. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى في وصف أهل الجنة: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) أي مرهون في النار (بعمله) ؟ قلنا: قال الزمخشري: كأن نفس كل عبد ترهن عند الله تعالى بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحاً فكها وخلصا وإلا أوبقها، وقال غيره: هذه جملة من صفات أهل النار وقعت معترضة في صفات أهل الجنة، ويؤيده ما روى عن مقاتل أنه قال: معناه كل امرئ كافر بما عمل من الكفر مرتهن في النار، والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في حق النبى صلى الله عليه وسلم: (فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) وكل واحد غيره كذلك لا يكون كاهناً ولا مجنوناً بنعمة الله تعالى؟ قلنا: معناه فما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بالصدق والنبوة بكاهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 ولا مجنون كما يقول الكفار، وقيل: الباء هنا بمعنى مع كما في قوله تعالى: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) وقوله تعالى: (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) ويقال: أكلت الخبز بالتمر: أي معه. * * * فإن قيل: ما معنى الجمع في قوله تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) ؟ قلنا: معناه التفخيم والتعظيم، والمراد بحيث نراك ونحفظك، ونظيره في معنى العين قوله تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) ونظيره في الجمع للتفخيم والتعظيم قوله تعالى: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 سورة النجم * * * فإن قيل: الضلال والغواية واحدة، فما فائدة قوله تعالى: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) ؟ قلنا: قيل: إن بينهما فرقاً لأن الضلال ضد الهدى والغى ضد الرشد وهما مختلفان مع تقاربهما، وقيل: معناه ما ضل في قوله ولا غوى فى فعله، ولو ثبت اتحاد معناهما يكون من باب التأكيد باللفظ المخالف مع اتحاد المعنى. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) أدخل كلمة الشك، والشك محال على الله تعالى؟ قلنا: أو هنا للتخيير لا للشك، كأنه قال سبحانه وتعالى: إن شئتم قدروا ذلك القرب بقاب قوسين، وإن شئتم قدروه بأدنى منهما. وقيل: معناه بل أدنى، وقيل: هو خطاب لهم بما هو معهود بينهم، وقيل: هو تشكيك لهم لئلا يعملوا قدر ذلك القرب، ونظيره قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) والكلام فيهما واحد. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) من رؤية القلب لا من رؤية البصر، فأين مفعولها الثانى؟ قلنا: هو محذوف تقديره: أفرأيتموها بنات الله وأنداده، فإنهم كانوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 يزعمون أن الملآئكة وهذه الأصنام بنات الله عز وجل. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) فوصف الثالثة بالأخرى والعرب إنما تصف بالأخرى الثانية لا الثالثة، فظاهر اللفظ يقتضى أن يكون قد سبق ثالثة أولى، ثم لحقتها الثالثة الأخرى فتكون ثالثتان؟ قلنا: الأخرى نعت للعزى وتقديره: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة لأنها ثالثة الصنمين في الذكر، وإنما أخر الأخرى رعاية للفواصل كما قال: (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) ولم يقل أخر رعاية للفواصل. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) أي لا يقوم مقام العلم، مع أنه يقوم مقام العلم في صورة القياس؟ قلنا: المراد به الظن الحاصل من أتباع الهوى دون الظن الحاصل من النظر والاستدلال، ويؤيده قوله تعالى قبل هذا: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) وقد صح في الأخبار وصول ثواب الصدقة والقراءة والحج وغيرها إلى الميت؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 قلنا: فيه وجوه: أحدها: ما قاله ابن عباس رضى الله عنهما أنها منسوخة بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) معناه أنه أدخل الأبناء الجنة بصلاح الأباء، قالوا وهذا لا يصح لأن الآيتين خبر ولا نسخ في الخبر، الثانى: أن ذلك مخصوص بقوم إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وهو حكاية ما في صحفهم، فأما هذه الأمة فلها ما سعت وما سعى لها، الثالث: أنه على ظاهره، ولكن دعاء ولده وصديقه وقراءتهما وصدقتهما عنه من سعيه أيضاً بوسطة اكتسابه للقرابة أو الصداقة أو المحبة من الناس بسبب التقوى والعمل الصالح. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى بعد تعديد النقم: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى) والآلاء النعم؟ قلنا: إنما قال سبحانه بعد تعديد النعم والنقم نعم لما فيها من المزاجر والمواعظ، فمعناه: فبأى نعم ربك الدالة على وحدانيته تشك يا وليد بن المغيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 سورة القمر * * * فإن قيل: ما فائدة إعادة التكذيب في قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا) وهلا قال تعالى كذبت قبلهم قوم نوح عبدنا؟ قلنا: معناه كذبوا تكذيبا بعد تكذيب، (وقيل: إن التكذيب الأول منهم بالتوحيد، والثانى بالرسالة) ، وقيل: التكذيب الأول منهم لله تعالى، والثانى لرسوله صلى الله عليه وسلم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف ماء الأرض والسماء: (فَالْتَقَى الْمَاءُ) ولم يقل فالتقى الماءان؟ قلنا: أراد به جنس المياه. * * * فإن قيل: الجزاء إنما يكون للكافر لا للمكفور فكيف قال تعالى: (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) ؟ قلنا: جزاء مفعول له فمعناه: ففتحنا أبواب السماء وما بعده مما كان بسبب إغراقهم جزاء لله تعالى لأنه مكفور به، فحذف الجر وأوصل الفعل بنفسه كقوله تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) والجزاء يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول كسائر المصادر، الثانى: أنه نوح عليه السلام إما لأنه مكفور به فحذف الجار كما مر من الكفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 الذى هو ضد الإيمان، أو لأن كل نبى نعمة من الله على قومه، ومنه قوله تعالى، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وقال رجل للرشيد: الحمد لله عليك، فقال: ما معنى هذا، فقال: أنت نعمة حمدت الله عليها، فكأنه قال: بن جزاء لهذه النعمة إلمكفورة، وكفران النعمة يتعدى بنفسه قال الله تعالى: (وَلَا تَكْفُرُونِ) ، الثالث: أن "من" بمعنى ما فمعناه: جزاء لما كان كفر من نعم الله تعالى على العموم، وقرأ قتادة كفر بالفتح: أي جزاء للكافرين. * * * فإن قيل: كيف قال اللة تعالى: (أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي منقلع، ولم يقل منقعرة؟ قلنا: إنما ذكر الصفة لأن الموصوف وهو النخل مذكر اللفظ ليس فيه علامة التأنيث، فاعتبر اللفظ وفى موضع آخر اعتبر المعنى وهو كونه جمعاً فقال: (أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) ونظيرهما قوله تعالى: (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) وقال أبو عبيدة: النخل يذكر وبؤنث، فجمع القرآن اللغتين، وقيل: إنما ذكر رعاية للفواصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 سورة الرحمن عز وجل * * * فإن قيل: أي مناسبة بين رفع السماء ووضع الميزان حتى قرن بينهما؟ قلنا: لما صدر هذه السورة بتعديد نعمه سبحان على عبيده، ذكر من جملتها وضع الميزان الذي به نظام العالم وقوامه، لا سيما أن المراد بالميزان العدل في قول الأكثرين، والقرآن في قول، وكل ما تعرف به المقادير في قول كالميزان والمكيال والذراع المعروف ونحوها. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) أي لا تجاوزوا فيه العدل مغن عما بعده من الجملتين فما فائدتهما؟ قلنا: المراد بالطغيان فيه أخذ الزائد، وبالإخسار فيه إعطاء الناقص وأمر بالتوسط الذي هو إقامة الوزن بالقسط، ونهى عن الطرفين المذمومين. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) وهو الطين اليابس الذي لم يطبخ لكن له صلصلة: أي صوت إذا نقر، وقال تعالى في موضع آخر: (مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وقال تعالى: (مِنْ طِينٍ لَازِبٍ) وقال تعالى: (مِنْ تُرَابٍ) ؟ قلنا: الآيات كلها متفقة في المعنى، لأنه تعالى خلقه من تراب جعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 طيناً ثم حماً مسنوناً ثم صلصالاً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) فكرر ذكر الرب ولم يكرره في سورة المعارج بل أفرده فقال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) وكذا في سورة المزمل: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ، (لَ ا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) ؟ قلنا: إنما كرر ذكر الرب تأكيداً، وكان التأكيد بهذا الموضع أليق منه بذينك الموضعين، لأنه موضع الامتنان وتعديد النعم، ولأن الخطاب فيه مع جنسين وهما الإنس والجن. * * * فإن قيل: بعض الجمل المذكورة في هذه السورة ليست من النعم كقوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) وقوله تعالى: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ) فكيف حسن الامتنان بعدها بقوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ؟ قلنا: من جملة الآلاء دفع البلاء وتأخير العقاب، فإبقاء من هو مخلوق للفناء نعمة، وتأخير العقاب عن العصاة أيضاً نعمة فلهذا امتن علينا بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 فإن قيل: كيف قال تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ) والله تعالى لا يشغله شيء؟ قلنا: قال الزجاج: الفراغ في اللغة على ضربين: أحدهما: الفراغ من شغل، والآخر: القصد للشيء والإقبال عليه، وهو تهديد ووعيد، ومنه قولهم: سأتفرغ لفلان: أي سأجعله قصدى، فمعنى الآية سنقصد لحسابكم ومعاقبتكم. * * * فإن قيل: كيف وعد سبحانه الخائف جنتين فقط؟ قلنا: لأن الخطاب للثقلين، فكأنه قيل لكل خائفين من الثقلين جنتان، جنة للخائف الإنسى، وجنة للخائف الجنى، وقيل: المراد به أن لكل خائف جنتين، جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصى، وقيل: جنة يثاب بها، وجنة يتفضل بها عليه زيادة لقوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) أي الجنة وزيادة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) ولم يقل سبحانه فيهما والضمير للجنتين؟ قلنا: الضمير لمجموع الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة وغيرها مما سبق ذكره، وقيل: هو للجنتين، وإنما جمعه لاشتمال الجنتين على قصور ومنازل، وقيل: الضمير للمنازل والقصور التى دل عليها ذكر الجنتين، وقيل: الضمير لمجموع الجنان التى دل عليها ذكر الجنتين، وقيل: الضمير عائد إلى الفرش لأنها أقرب، وعلى هذا القول "فى" بمعنى على، كما في قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) أي لم يفتضهن، ونساء الدنيا لا يفتضهن الجان أيضاً، فما فائدة تخصيص الحور بذلك؟ قلنا: معناه أن تلك القاصرات الطرف إنسيات للإنس وجنيات للجن، فلم يطمث الإنسيات إنسى، ولا الجنيات جنى، وفى هذه الآية دليل على أن الجن يواقعون كما يواقع الإنس، وقيل فيها دليل على أن الجنى يغش الإنسية في الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 سورة الواقعة * * * فإن قيل: ما فائدة التكرار في قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) ؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما: أنه تأكيد مقابل لما سبقه من التأكيد: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) كأنه تعالى قال: والسابقون هم المعروف حالهم المشهور وصفهم، ونظيره قول أبى النجم: أنا أبو النجم وشعرى شعرى ................ الثانى: أن معناه: والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمته، وكرامته، ثم قيل: المراد بهم السابقون إلى الإيمان من كل أمة. وقيل: الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل: أهل القرآن، وقيل: السابقون إلى المساجد إلى الخروج في سبيل الله، وقيل: هم الأنبياء، فهذه خمسة أقوال. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) مع أن التخليد ليس صفة مخصوصة بالولدان في الجنة، بل كل أهل الجنة مخلدون فيها لا يشيبون ولا يهرمون، بل يبقى كل واحد أبداً على صفته التى دخل الجنة عليها؟ قلنا: معناه أنهم لا يتحولون عن شكل الولدان هيئة الوصافة، وقيل: مقرطون، وقيل: مسورون، ولا إشكال على هذين القولين. * * * فإن قيل: كيف قال تعالي: (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 أنث ضمير الشجر ثم ذكره؟ قلنا: قد سبق جوابه في سورة القمر. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) أي فهلا تصدقون، مع أنهم مصدقون أنه خلقهم بدليل قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) ؟ قلنا: هم وإن كانوا مصدقين بألسنتهم إلا أنهم لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم مكذبون به، الثانى: أنه تخصيص على التصديق بالبعث بعد الموت بالاستدلال بالخلق الأول، فكأنه تعالى قال: هو الذي خلقكم أولا باعترافكم، فلا يمتنع عليه أن يعيدكم ثانياً فهلا تصدقون بذلك. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في الزرع: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) باللام وقال تعالى في الماء: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) بغير لام؟ قلنا: الأصل أن تذكر اللام في الموضعين، إذ لابد منها في جواب "لو" إلا أنها حذفت في الثانى اختصاراً، وهى منوية لدلالة الأولى عليها، الثانى: أن أصل هذه اللام للتأكيد، فذكرت مع المطعوم دون المشروب، لأن المطعوم مقدم وجوداً ورتبة، لأنه إنما يحتاج إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 الماء تبعاً له، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب، فلما كان الوعيد بفقد المطعوم أشد وأصعب أكد تلك الجملة مبالغة فى التهديد. * * * فإن قيل: التسبيح التنزيه عن السوء، فما معنى باسم في قوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) وهلا قال تعالى فسبح ربك العظيم؟ قلنا: فيه وجوه أحدها: أن الباء زائدة والاسم بمعنى الذات فصار المعنى ما قلتم، الثانى: أن الاسم بمعنى الذكر، فمعناه فسبح بذكر ربك، الثالث: أن الذكر فيه مضمر، فمعناه فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك، الرابع: قال الضحاك: معناه فصل باسم ربك: أي افتتح الصلاة بالتكبير. * * * فإن قيل: إذا كان القرآن صفة من صفات الله تعالى قائمة بذاته المقدسة، فكيف قال تعالى: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) أي اللوح المحفوظ أو المصحف على اختلاف القولين؟ قلنا: معناه مكتوب في كتاب مكنون، ولا يلزم من كتابة القرآن فى الكتاب أن يكون (القرآن) حالا في الكتاب كما لو كتب إنسان على كفه ألف دينار لإ يلزم منه وجود ألف دينار في كفه، وكذا لو كتب في كفه العرش. أو الكرسى، وكذا قال تعالى في صفة النبى صلى الله عليه وسلم: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 الثانى: أن القرآن لو كان حالا في المصحف (فإما أن يكون جميعه حالا في مصحف واحد، أو في كل مصحف، بعضه) ، ولا سبيل إلى الأول لأن المصاحف كلها سواء في الحكم في كتابته فيها، ولأن البعض ليس أولى بذلك من البعض، ولا سبيل إلى الثانى وإلا لزم تعدد القرآن وأنه متحد، ولا سبيل إلى الثالث لأنه كله مكتوب في كل مصحف، ولأن هذا المصحف ليس أولى بهذا البعض من ذلك المصحف، وكذا الباقى، فثبت أنه ليس حالا في شيء منها، بل هو كلام الله تعالى وكلامه صفة قديمة قائمة به لا تفارقه. * * * فإن قيل: فإذا لم تفارقه فكيف سماه تعالى منزلا وتنزيلا، وقال سبحانه: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) ونظائره كثيرة، وإذا فارقه وباينه يكون مخلوقاً، لأن كل مباين له فهو غيره، وكل ما هو غيره فهو مخلوق؟ قلنا: معنى إنزاله أنه سبحانه وتعالى علمه لجبريل فحفظه، وأمره أن يعلمه للنبى صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يعلمه لأمته، مع أنه لم يزل ولا يزال صفة لله تعالى قائمة به لا تفارقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 سورة الحديد * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ثم قال سبحانه: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ؟ قلنا: معناه إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فإن شريعتهما تقتضى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، الثانى: إن كنتم مؤمنين بالميثاق الذي أخذه عليكم يوم أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام، الثالث: أن معناه: أي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه ويتلوا عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج، وقد ركب الله تعالى فيكم العقول ونصب لكم الأدلة ومكنكم من النظر وأزاح عللكم، فما لكم لا تؤمنون إن كنتم مؤمنين بموجب ما، فإن هذا الموجب لا مزيد عليه، فإن قيل: كيف قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) ولم يذكر مع من لا يستوى، والاستواء لا يتم إلا بذكر اثنين كقوله تعالى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) ، (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) ؟ قلنا: هو محذوف تقديره: ومن أنفق وقاتل من بعد الفتح، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه. * * * فإن قيل: كيف يقال إن أعلى الدرجات بعد درجة الأنبياء درجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 الصديقين، والله تعالى قد حكم على كل مؤمن بكونه صدريقاً بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ؟ قلنا: قال ابن مسعود ومجاهد: كل مؤمن صديق، الثانى: أن الصديق هو كثير الصدق، وهو الذي كل أقواله وأفعاله وأحواله صدق، فعلى هذا يكون المراد به بعض المؤمنين لا كلهم، وقد روى عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام. وهم أبو بكر وعثمان وعلى وحمزة بن عبد المطلب وطلحة والزبير وسعد وزيد، وألحق بهم عمر رضى الله عنهم فصاروا تسعة. * * * فإن قيل: كيف وصف سبحانه هؤلاء المذكورين بكونهم شهداء ومنهم من لم يقتل؟ قلنا: معناه أن لهم أجر الشهداء، الثانى: أنه جمع شهيد بمعنى شاهد، فمعناه أنهم شاهدون عند ربهم على أنفسهم بالإيمان، الثالث: أنه مبتدأ منقطع عما قبله لا معطوف عليه، معناه: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) والمسابقة من المفاعلة التى لا تكون إلا بين اثنين كقولك: سابق زيد عمراً؟ قلنا: قيل معناه سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في الميدان. ويؤيد هذا القول مجيئه بلفظ المسارعة في سورة آل عمران، وقيل: سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال التى توصلكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 إلى الجنة، وقيل: سابقوا إبليس قبل أن يصدكم بغروره وخداعه عن ذلك. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (وقال تعالى في سورة آل عمران: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) (فكيف) يكون عرضها كعرض السماء الواحدة وكعرض السموات السبع؟ قلنا: المراد بالسماء جنس السموات لا سماء واحدة كما أن المراد بالأرض في الآيتين جنس الأرضين فصار التشبيه في الآيتين بعرض السموات السبع والأرضين السبع. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) ولا أحد يملك نفسه عند مضرة تناله أن لا يحزن، ولا عند منفعة ينالها أن لا يفرح، وليرجع كل واحد منا في ذلك إلى نفسه؟ قلنا: ليس المراد بذلك الحزن والفرح الذي لا ينفك عنه الإنسان بطبعه قسراً وقهراً، بل المراد به الحزن المخرج لصاحبه إلى الذهول عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغي الملهي عن الشكر نعوذ بالله منهما. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 والميزان لم ينزل من السماء؟ قلنا: قيل المراد بالميزان هنا العدل، وقيل العقل، وقيل السلسلة التى أنزلها الله تعالى على داود عليه السلام، وقيل هو الميزان المعروف أنزله جبريل فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال له: مر قومك يزنوا به. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) مع أن المؤمنين مؤمنون برسوله؟ قلنا: معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد، فيكون خطاباً لليهود والنصارى خاصة، وعليه الأكثرون، وقيل: معناه يا أيها الذين آمنوا يوم الميثاق اتقوا الله وآمنوا برسوله اليوم، وقيل: معناه يا أيها الذين آمنوا بالله في العلانية باللسان اتقوا الله وآمنوا برسوله في السر بتصديق القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 سورة المجادلة * * * فإن قيل: لأى معنى خص الله تعالى الثلاثة والخمسة بالذكر في النجوى دون غيرها من الأعداد؟ قلنا: لأن قوما من المنافقين تخلفوا للتناجى على هذين العددين مغايظة للمؤمنين، فنزلت الآية على صفة حالهم تعريضاً بهم وتسميعاً لهم وزيد فيها ما يتناول كل متناجيين غير تلك الطائفتين وهو قوله تعالى: (وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ) . * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ؟ قلنا: فائدته الإخبار عن المنافقين أنهم يحلفون على أنهم ما سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اليهود كاذبين متعمدين للكذب فهي اليمين الغموس، فكان ذلك نهاية في ذمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 سورة الحشر * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) والإيمان ليس مكاناً يتبوأ لأن معنى التبوء اتخاذ المكان منزلا؟ قلنا: فيه إضمار تقديره: وأخلصوا الإيمان كقول الشاعر: علفتها تبناً وماء باردا ............... أى وصقيتها ماء بارداً، الثانى: أنه على ظاهره بغير إضمار ولكنه مجاز، فمعناه أنهم جعلوا الإيمان مستقراً مستوطناً لتمكنهم منه واستقامتهم عليه، كما جعلوا دار الهجرة كذلك وهى المدينة. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم وحرف الشرط إنما يدخل على ما يحتمل وجوده وعدمه؟ قلنا: معناه: ولئن نصروهم على الفرض والتقدير كقوله تعالى للنبى صلى الله عليه وسلم، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وقوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) والله تعالى كما يعلم ما يكون قبل كونه، فهو يعلم ما لا يكون أنه لو كان كيف يكون. * * * فإن قيل: ما معنى قوله تعالى للمؤمنين: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 أى في صدور المنافقين أو اليهود على أختلاف القولين، وظاهره لأنتم أشد خوفاً من الله، فإن كان "من الله " متعلقاً بأشد لزم ثبوت الخوف لله تعالى كما تقول: زيد أشد خوفاً في الدار من عمرو، وذلك محال، وإن كان، "من الله " متعلقاً بالخوف فأين الذي فضل عليه المخاطبون، وأيضاً فإن الآية تقتضى إثبات زيادة الخوف للمؤمنين، وليس المراد ذلك باتفاق المفسرين؟ قلنا: رهبة مصدر رهب مبيناً لما لم يسم فاعله، فكأنه قيل أشد مرهوبية، يعنى أنكم في صدورهم أهيب من الله فيها، كذا فسره ابن عباس رضى الله عنهما، ونظيره قولك: زيد أشد ضرباً في الدار من عمرو يعنى مضروبية. * * * فإن قيل: كيف يستقيم التفضيل وهم ما كانوا يرهبون الله، لأنهم لو رهبوه لتركوا النفاق والكفر؟ قلنا: معناه أن رهبتهم في السر منكم أشد من رهبتهم من الله التى يظهرونها لكم، وكانوا يظهرون للمؤمنين رهبة شديدة من الله تعالى. * * * فإن قيل: كيف قال إبليس: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) وهو لا يخاف الله تعالى لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضل عبيده؟ قلنا: قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة الأنفال. * * * فإن قيل: ما فائدة تنكير النفس والغد في قوله تعالى: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 قلنا: أما تنكير النفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمت للآخرة كأن قال: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وأين تلك النفس. وأما تنكير الغد فلعظمة وإبهام أمره كأنه قال: لغد لا يعرف كنهه لعظمه. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (لغد) وأراد به يوم القيامة، والغد عبارة عن يوم بينه وبيننا ليلة واحدة؟ قلنا: الغد له مفهومان: أحدهما ما ذكرتم، والثانى مطلق الزمان المستقبل، ومنه قول الشاعر: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله. . . ولكننى عن علم ما في غد عمى وأراد به مطلق الزمان المستقبل كما أراد بالأمس مطلق الزمان الماضي، فصار لكل واحد منهما مفهومان، ويؤيده أيضاً قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) ، وقيل: إنما أطلق على يوم القيامة اسم الغد تقريباً له كقوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وقوله تعالى: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) وكأنه تعالى قال: إن يوم إلقيامة لقربه يشبه ما ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 بينكم وبينه إلا ليلة واحدة، ولهذا روى النبى صلى الله عليه وسلم قال: " اعمل لليلة صبيحتها يوم القيامة "، قالوا: أراد بتلك الليلة ليلة الموت. * * * فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ ... الآية) ؟ قلنا: معناه أنه سبحانه لو جعل في جبل على قساوته تمييزاً كما جعل في الإنسان ثم أنزل عليه القرآن، لتشقق (خشية) من الله تعالى خوفاً أن لا يؤدى حقه في تعظيم القرآن، والمقصود توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة خشوعه عند تلاوة القرآن، وإعراضه عن تدبر قوارعه وزواجره. * * * فإن قيل: ما الفرق بين الخالق والبارئ حتى عطف تعالى أحدهما على الآخر؟ قلنا: الخالق هو المقدر لما يوجده، والبارئ هو المميز بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة، وقيل: الخالق المبدئ والبارئ المعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 سورة الممتحنة * * * فإن قيل: من ماذا استثنى قوله تعالى: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ) ؟ قلنا: من قوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) لأنه سبحانه أراد بالأسوة الحسنة قوله الذي حكاه عنه وعن أتباعه وأشياعه ليقتدوا به فيه ويتخذوه سنة يستنون بها. واستثنى سبحانه استغفاره لأبيه لأنه كان (عن) موعدة وعدها إياه. * * * فإن قيل: فإن كان استغفاره لأبيه أو وعده لأبيه بالاستغفار مستثنى من الأسوة، فكيف عطف عليه قوله: (وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) وهو لا يصح استثناؤه، ألا ترى إلى قوله تعالى: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) ؟ قلنا: المقصود بالاستثناء هو الجملة الأولى فقط، وما بعدها ذكر لأنه من تمام كلام إبراهيم لا بقصد الاستثناء، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتى إلا الاستغفار. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) ومعلوم أن النبى صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بمعروف، فهلا اقتصر على قوله تعالى: "وَلَا يَعْصِينَكَ "؟ قلنا: فائدته سرعة تبادر الأفهام إلى قبح المعصية منهن لو وقعت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 من غير توقف الفهم على المقدمة التى أوردتم في السؤال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 سورة الصف * * * فإن قيل: ما فائدة " قد " في قوله تعالى: (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) ؟ قلنا: فائدتها التأكيد، كأنه قال: وتعلمون علماً يقيناً لا شبهة لكم فيه، هذا جواب الزمخشري، وقال غيره: فائدتها التكثير، لأن قد مع الفعل المضارع تارة تأتى للتقليل كقولهم: إن الكذوب قد يصدق. وتارة تأتى للتكثير كقول الشاعر: قد أعسف النازح المجهود معسفة. . . في فظل أخضر يدعو هامة البوم وإنما يتمدح بما يكثر وجوده منه لا بما يقل. * * * فإن قيل: كيف قال عيسى عليه السلام: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ولم يقل محمد ومحمد أشهر أسماء النبى صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: إنما قال أحمد لأنه مذكور في الإنجيل بعبارة تفسيرها أحمد لا محمد، وإنما كان كذلك لأن اسمه في السماء أحمد وفى الأرض محمد، فنزل في الانجيل اسمه السماوى، وقيل: إن أحمد أبلغ فى معنى الحمد من محمد من جهة كونه مبنياً على صيغة التفصيل، وقيل: محمد أبلغ من جهة كونه على صيغة التفصيل الذي هو للتكثير. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) ولم يقل سبحانه هذه، والمشار إليه البينات وهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 مؤنثة؟ قلنا: معناه هذا الذي جئت به، فالإشارة إلى المأتى به. * * * فإن قيل: ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصار الله بقول عيسى عليه السلام: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) ؟ قلنا: التشبيه محمول على المعنى تقديره: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصاراً لعيسى عليه السلام حين قال لهم من أنصارى إلى الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 سورة الجمعة * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) والسعى العدو، والعدو إلى صلاة الجمعة وإلى كل صلاة مكروه؟ قلنا: المراد بالسعى القصد، وقال الحسن: ليس هو السعى على الأقدام، ولكنه على النيات والقلوب، ويؤيد قول الحسن قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) وقول الداعى في دعاء القنوت: واليك نسعى ونحفد، وليس المراد به العدو والاسراع بالقدم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (انْفَضُّوا إِلَيْهَا) والمذكور شيئان اللهو والتجارة؟ قلنا: قد سبق جواب هذا في سورة التوبة في قوله تعالى: (وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) والذى يؤيده هنا ما قاله الزجاج معناه: واذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه إليهما بضمير التثنية، وعليه فلا حذف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 سورة المنافقون * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ؟ قلنا: لو قال تعالى: قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يشهد إنهم لكاذبون (لكان) يوهم أن قولهم هذا كذب، وليس المراد أن شادتهم هذه كذب، بل المراد أنهم كاذبون في غير هذه الشهادة، وقال أكثر المفسرين: إنه تكذيب لهم في هذه الشهادة لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا ولم يعتقدوا أنه رسول الله بقلوبهم، فسماهم كاذبين لذلك، فعلى هذا يكون ذلك تأكيد. * * * فإن قيل: المنافقون ما برحوا على الكفر، فكيف قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) ؟ قلنا: معناه ذلك الكذب الذي حكم عليهم به، أو ذلك الإخبار عنهم بأنهم هم سماء ما كانوا يعملون بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم (ثم كفروا) بقلوبهم (فطبع على قلوبهم) كما قال تعالى فى وصفهم. (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ... الآية) ، الثانى: أن المراد به أهل الردة منهم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) ولم يقل هى العدو؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 قلنا: عليهم هم ثانى مفعولين يحسبون تقديره: يحسبون كل صيحة واقعة عليهم: أي لجبنهم وهلعهم، فالوقف على قوله تعالى عليهم وقوله سبحانه: (هُمُ الْعَدُوُّ) ابتداء كلام، وقيل: إن المفعول الثانى هو قوله تعالى: (هُمُ الْعَدُوُّ) ولكن تقديره: يحسبون أهل كل صيحة عليهم هم العدو، والأول أظهر (بذلك) بدليل عدم نصب العدو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 سورة التغابن * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) قدم الكافر في الذكر؟ قلنا: الواو لا تعطى رتبة ولا تقتضى ترتيباً كما قال تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وقال تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) وقال سبحانه: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) وقال تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) وقد ذكرنا في إلآية الأخيرة معنى آخر في موضعها. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) يوهم وجود التولى والاستغناء معاً بعد مجيء رسلهم إليهم، والله تعالى لم يزل غنياً؟ قلنا: معناه وظهر استغناء الله تعالى عن إيمانهم وعبادتهم حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته تعالى على ذلك. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) مع أن الهداية سابقة على الإيمان، لأنه لولا سبق الهداية لما وجد الإيمان؟ قلنا: ليس المراد يهد قلبه للإيمان، بل المراد به يهد قلبه لليقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 عند نزول المصائب، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، الثانى: يهد قلبه للرضا والتسليم عند نزول المصائب، الثالث: يهد قلبه للاسترجاع عند نزول المصائب، وهو أن يقول: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ، الرابع: يهد قلبه: أي يجعله ممن إذا ابتلى صبر، واذا أنعم عليه شكر، وأذ ظلم غفر، الخامس: يهد قلبه لاتباع السنة إذا صح إيمانه، وقرئ " يهدأ " بفتح الدال وبالهمز من الهدو وهو السكون، فمعناه: ومن يؤمن (بالله) إيماناً خالصاً يسكن قلبه ويطمئن عند نزول المصائب والمحن ولا يجزع ويقلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 سورة الطلاق * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) أفرد الخطاب أولا ثم جمعه ثانياً؟ قلنا: أفرد سبحانه النبى صلى الله عليه وسلم أولا بالخطاب لأنه إمام أمته وقدوتهم إظهاراً لتقدمه ورياسته، وأنه وحده في حكم كلهم وساد مسد جميعهم، الثانى: إن معناه: يا أيها النبى قل لأمتك إذا طلقتم النساء. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) ونحن نرى كثيراً من الأتقياء مضيقاً عليهم رزقهم؟ قلنا: معناه يجعل له مخلصاً من هموم الدنيا والآخرة، وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، والصحيح أن هذه الآية عامة، وأن الله يجعل لكل متق مخرجاً من كل ما يضيق على من لا يتقى، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) وجعل يقرؤها ويعيدها "، وأما تضييق رزق الأتقياء فهو مع ضيقه وقلته يأتيهم من حيث لا يأملون ولا يرجون، وتقليله لطف بهم ورحمة ليتوفر حظهم في الآخرة ويخف حسابهم، ولتقل عوائقهم عن الاشتغال بمولاهم، ولا يشغلهم الرخاء والسعة عما خلقوا له من الطاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 والعبادة، ولهذا اختار الأنبياء والأولياء والصديقون الفقر على الغنى. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أى من يثق به فيما نابه كفاه الله شر ما أهمه، وقد رأينا كثيراً من الناس يتوكل على الله في بعض أموره وحوائجه ولا يكفيه الله همه؟ قلنا: محال أن يتوكل على الله حق التوكل ولا يكفيه همه، بل ربما قلق وضجر واستبطأ قضاء حاجته بقلبه أو بلسانه أيضا ففسد توكله، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) أي نافذ حكمه، يبلغ ما يريده ولا يفوته (مراد) ولا يعجزه مطلوب، وبقوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) أي جعل لكل شيء من الفقر والغنى والمرض والصحة والشدة والرخاء ونحو ذلك أجلا ومنتهى ينتهى إليه لا يتقدم عنه ولا يتأخر. * * * فإن قيل: كيف قوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) علقه بشكنا مع أن عدتهن ذلك سواء وجد شكنا أم لا؟ قلنا: المراد بالشك الجهل بمقدار عدة الآيسة والصغيرة، وإنما علقه به لأنه لما نزل بيان عدة ذوات الأقراء في سورة البقرة قال بعض الصحابة رضى الله عنهم: قد بقى الكبار والصغار لا ندرى كم عدتهن، فنزلت هذه الآية على هذا السبب، فلذلك جاءت مقيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 بالشك والجهل. * * * فإن قيل: إذا كانت المطلقة طلاقاً بائناً تجب لها النفقة عند بعض العلماء، فما فائدة قوله تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) عند ذلك القائل؟ قلنا: فائدته أن لا يتوهم أنه إذا طالت مدة الحمل بعد الطلاق حتى مضت مدة عدة الحائل سقطت النفقة، فنفى هذا الوهم بقوله: (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى هنا: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) وقال سبحانه في موضع آخر: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) فكيف التوفيق بينهما؟ قلنا: المراد بقوله تعالى " مع " بعد لأن الضدين لا يجتمعان. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) فنسب العتو إليها، وقال تعالى: " فحاسبناها "، " وعذبناها " والعذاب على الحساب يكون في الآخرة لا في الدنيا؟ قلنا: معناه عتا أهلها، وإنما جيء به على لفظ الماضي تحقيقا له وتقريراً، لأن المنتظر من وعد الله تعالى ووعيده آت لا محالة، وما هو كائن فكأنه قد وقع، ونظيره قوله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 النَّارِ) وما أشبهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 سورة التحريم * * * فإن قيل: قرله تعالى: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) إن كان المراد به الفرد فأى فرد هو، وأيضاً فإنه لا يناسب مقابلة الملآئكة الذين هم جمع، وإن كان المراد به الجمع فهلا كان مكتوباً في المصحف بالواو؟ قلنا: هو فرد أريد به الجمع كقولك: لا يفعل هذا الفعل الصالح من ألناس، تريد به الجنس كقولك: لا يفعله من صلح منهم، وقوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) وقوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) وقوله تعالى: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) وقوله تعالى: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) ونظائره كثيرة، الثانى: أنه يجوز أن يكون جمعاً، ولكنه كتب في المصحف بغير واو على اللفظ كما جاءت ألفاظ كثيرة في المصحف على اللفظ دون اصطلاح الخط. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) ولم يقل ظهراء وهو خبر عن الجمع وهم الملآئكة؟ قلنا: هو فرد وضع موضع الجمع كما سبق، الثانى: اسم على وزن المصدر كالزميل والدبيب والصليل، فيستوى فيه الفرد والتثنية والجمع، الثالث: أن فعيلا يستوى فيه الواحد والإثنان والجمع بدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 قوله تعالى: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) . * * * فإن قيل: قوله تعالى بعد ذلك تعظيم للملآئكة ومظاهرتهم، وقد تقدمت نصرة الله تعالى وجبريل وصالح المؤمنين، ونصرة الله سبحانه أعظم؟ قلنا: مظاهرة الملآئكة من جملة نصرة الله تعالى، فكأنه فضل نصرته بهم على سائر وجوه نصرته لفضلهم وشرفهم، ولا شك أن نصرته بجميع الملآئكة أعظم من نصرته بجبريل وحده أو بصالح المؤمنين. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ ... الآية) ، فأثبت الخيرية لهن باتصافهن بهذه الصفات، وإنما تثبت لهن الخيرية بهذه الصفات لو لم تكن تلك الصفات ثابتة في نساء النبى صلى الله عليه وسلم وهى ثابتة فيهن؟ قلنا: المراد به خيراً منكن في حفظ قلبه ومتابعة رضاه، مع اتصافهن بهذه الصفات المشتركة بينكن وبينهن. * * * فإن قيل: كيف أخليت الصفات كلها عن الواو وأثبتت بين الثيبات والأبكار؟ قلنا: لأنهما صفتان متنافيتان لا تجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات، فلم يكن بد من الواو، ومن جعلها واو الثمانية فقدمها، لأن واو الثمانية لا يفسد الكلام بحذفها بخلاف هذه. * * * فإن قيل: هذه الصفات إنما ذكرت في معرض المدح، فأى مدح في كونهن ثيبات؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 قلنا: التثييب مدح من وجه، فإن الثيب أقبل للميل بالنقل وأكثر تجربة وعقلا، والبكارة مدح من وجه فإنها أطهر وأطيب وأكثر مراغبة وملاعبة. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) بعد قوله سبحانه: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) ؟ قلنا: قيل المراد بالأمر الأول الأمر بالعبادات والطاعات، وبالأمر الثانى الأمر بتعذيب أهل النار، وقيل هو تأكيد. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (تَوْبَةً نَصُوحًا) ولم يقل توبة نصوحة؟ لأن فعولا من أوزان المبالغة التى يستوى في لفظة الذكور والإناث كقولهم: امرأة صبور وشكور ونحوهما. * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (مِنْ عِبَادِنَا) بعد قوله تعالى: (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ) ؟ قلنا: فائدته مدحهما والثناء عليهما بإضافتهما إليه إضافة التشريف والتخصيص كما في قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ) وقوله تعالى: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) وهو مبالغة في المعنى المقصود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وهو (أن) الإنسان لا ينفعه إلا صلاح نفسه لإصلاح غيره، وإن كان ذلك الغير في أعلى مراتب الصلاح والقرب من الله تعالى. * * * فإن قيل: وكيف قال تعالى: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) ولم يقل سبحانه من القانتات؟ قلنا: معناه كانت من القوم القانتين: أي المطيعين لله تعالى، يعنى رهطها وأهلها، فكأنه تعالى قال: وكانت من بنات الصالحين، وقيل: إن الله تعالى لما تقبلها في النذر وأعطاها مرتبة الذكور الذين كان لا يصلح النذر إلا بهم، عاملها معاملة الذكور في بعض الخطاب إشارة إلى ذلك، وقال تعالى: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) وقال تعالى: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 سورة الملك * * * فإن قيل: ما فائدة تقديم الموت على الحياة في قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) ؟ قلنا: إنما قدم سبحانه الموت لأنه هو المخلوق أولا، قال ابن عباس رضى الله عنهما: أراد به خلق الموت في الدنيا والحياة في الآخرة، ولو سلم أن المراد به الحياة في الدنيا فالموت سابق عليها لقوله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) مع أن في خلقه سبحانه تفاوتاً عظيماً، فإن الأضداد كلها من خلقه عز وجل وهى متفاوتة، والسموات أيضاً متفاوتة في الصغر والكبر والارتفاع والانخفاض وغير ذلك؟ قلنا: المراد بالتفاوت هنا الخلل والعيب والنقصان في مخلوقه تعالى الذي هو السموات، ويؤيده قوله تعالى: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) أى من شقوق وصدوع في السماء. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) والله سبحانه وتعالى ليس في السماء ولا في غير السماء، بل هو سبحانه منزه عن كل مكان؟ قلنا: معناه من ملكوته في السماء، لأنها مسكن ملآئكته ومحل عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها تنزل أقضيته وكتبه وأوامره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 ونواهيه، الثانى: أنهم كانوا يعتقدون التشبيه، وأنه سبحانه وتعالى في السماء فخوطبوا على حسب اعتقادهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 سورة القلم * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَلَا يَسْتَثْنُونَ) أي ولا يقولون إن شاء الله فسمى ألشرط استثناء؟ قلنا: إنما سماه استثناء لأنه في معناه، فإن معنى قولك لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد، وقال عكرمة: المراد به حقيقة الاستثناء: أي أنهم لا يستثنون حق المساكين، والجمهور على الأول. * * * فإن قيل: كيف سمى أوسطهم الاستثناء تسبيحاً فقال: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) اى لولا تسثنون؟ قلنا: إنما سماه تسبيحاً لاشتراكهما في معنى التعظيم، لأن الاستثناء تفويض إليه وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلا إلا بمشيئته سبحانه، والتسبيح تنزيه له عن السوء، الثانى: أنه كان استثناؤهم (قول) سبحان الله، الثالث: أن معناه لولا تنزهون أنفسكم وأموالكم عن حق الفقراء. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) (ولا تكليف في الدار الآخرة؟ قلنا: لا يدعون إليه تكليفاً وتعبداً، ولكن ~توبيخاً وتعنيفاً على تركه في الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) وهم إنما كانوا يدعون إلى الصلاة، فإن المراد بالآية دعاؤهم إلى الجماعات بأذان المؤذن حين يقول حى على الصلاة؟ قلنا: عبر سبحانه عن الصلاة بالسجود لأنه من أركانها، بل هو أعظم الأركان وغايتها، كما عبر عنها بالركوع وبالقرآن. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَهُمْ سَالِمُونَ) أي صحيحون، مع أن الصحة ليست شرطاً لوجوب الصلاة؟ قلنا: وجوب الخروج إلى الصلاة بالجماعة مشروط بالصحة وهو المراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 سورة الحاقة * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) ولم يقل صرصرة، كما قال تعالى: (عَاتِيَةٍ) وهو صفة لمؤنث، لأنها الشديدة الصوت أو الشديدة البرد؟ قلنا: لأن الصرصر وصفه مخصوص بالريح لا يوصف به غيرها. قاشبه باب حائض وطامث وحامل، بخلاف عاتية فإن غير الريح من الأسماء المؤنثة يوصف به. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى) أي في تلك الليالى والأيام، والنبى صلى الله عليه وسلم ما رآهم فيها ولا يراهم فيها؟ قلنا: فيها ظرف لقوله تعالى صرعى، لا لقوله تعالى فترى، والرؤية هنا من رؤية العلم والاعتبار، فصار المعنى فتعلمهم صرعى في تلك الليالى والأيام بإعلامنا حتى كأنك تشاهدهم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) إلى قوله سبحانه: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) والمراد بها النفخة الأولى، وهى نفخة الصعق بدليل ما ذكر بعدها من فساد العالم العلوى والسفلى، والعرض إنما يكون بعد النفخة الثانية، وبين النفختين من الزمان ما شاء الله تعالى فكيف قال سبحانه: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 قلنا: وضع اليوم موضع الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان وما بعدهما. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) ؟ قلنا: معناه تيقنت، والظن يطلق بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى في وصف أهل النار: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) وقال سبحانه في موضع آخر: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وفى موضع آخر: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ) وفى موضع آخر: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) وفى موضع آخر: (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ؟ قلنا: معناه إلا من غسلين وما أشبهه، أو وضع الغسلين موضع كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 طعام مؤذ كريه، الثانى: أن العذاب الوان والمعذبون طبقات، فمنهم أكلة الزقوم. ومنهم أكلة الغسلين ومنهم أكلة الضريع، لكل باب منهم جزء مقسوم. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعنى أن القرآن قول جبريل عليه السلام مع أنه قول الله تعالى لا قول جبريل؟ قلنا: الاكثرين على أن المراد به النبى صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنه يقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله تعالى لا من تلقاء نفسه كما تزعمون. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) فوصف الفرد بالجمع؟ قلنا: قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في آخر سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 سورة المعارج * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) ويفسره ما بعده والإنسان في حال خلقه ما كان موصوفاً بهذه الصفات؟ قلنا: هلوعاً حال مقدرة، فالمعنى مقدراً فيه الهلع كما في قوله تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) وهم ليسوا محلقين حال الدخول. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى أولا: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) ثم قال تعالى ثانياً: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) فهل بينهما فرق؟ قلنا: المراد بالدوام المواظبة عليها والملازمة أبداً، وقيل: المراد به سكونهم فيها بحيث لا يلتفتون يميناً ولا شمالا، واختاره الزجاج وقال: إشتقاقه من الدائم بمعنى الساكن، كما جاء في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن البتول في الماء الدائم، قلت: وقوله " على " ينفى هذا المعنى، فإنه لا يقال هو على صلاته ساكن، بل يقال: هو في صلاته ساكن، والمراد بالمحافظة عليها أدؤها على أكمل وجوهها جامعة لجملة سننها وأدبها، فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة والمحافظة إلى أحوالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 سورة نوح عليه السلام * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) فإن كان المراد به تأخيرهم عن الأجل المقدر لهم في الأزل فهو محال لقوله تعالى: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) وقوله تعالى: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَ ا يُؤَخَّرُ) وإن كان المراد به تأخيرهم إلى مجيء الأجل المقدر لهم في الأزل فما فائدة تخصيصهم بهذا وهم وغيرهم في ذلك سواء على تقدير وجود الإيمان منهم وعدم وجوده؟ قلنا: معناه ويؤخركم عن العذاب إلى منتهى آجالكم على تقدير الإيمان فلا يعذبكم في الدنيا كما عذب غيركم من الأمم الكافرة. الثانى: إنه سبحانه قضى أنهم إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن لم يؤمنوا أهلكهم بالعذاب لتمام خمسمائة سنة، فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى ذلك الأجل. * * * فإن قيل: كيف أمرهم بالاستغفار، والاستغفار إنما يصح من المؤمن دون الكافر؟ قلنا: معناه استغفروا ربكم من الشرك بالتوحيد. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) والحيوان ضد النبات، فكيف يطلق على الحيوان أنه نبات؟ قلنا: هو استعارة للإنشاء والإخراج من الأرض بواسطة آدم عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 فإن قيل: كيف دعا نوح عليه السلام على قومه بقوله: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا) مع أنه أرسل ليهديهم ويرشدهم؟ قلنا: إنما (دعا) عليهم بذلك بعد ما أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون. * * * فإن قيل: كيف قال: (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) وصفهم بالفجور والكفر في حال ولادتهم وهم أطفال، وكيف علم أنهم لا يلدون إلا فاجراً كفاراً؟ قلنا: إنهم لا يلدون إلا من يفجر ويكفر إذا بلغ، وإنما علم ذلك باعلام الله سبحانه وتعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 سورة الجن * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ) ولم يقل سبحانه رسول الله أو نبى الله، والمراد به النبى عليه الصلاة والسلام؟ قلنا: لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن في ذلك المقام مرسلا إليهم. بل اتفق مرورهم به وجوازهم عليه، فلو قال تعالى رسول الله أو نبى الله لأوهم ذلك قصد أداء الرسالة (إليهم) . * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا) مع أن الأمد اسم للغاية، والغاية تكون زماناً قريباً وزماناً بعيداً، ويؤيده قوله تعالى: (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) ؟ قلنا: أراد بالقريب الحال، وبالمجعول له الأمد المؤجل، سواء كان الأجل قريباً أو بعيداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 سورة الزمل فإذ قيل: ما معنى وصف القرآن بالثقل في قوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) ؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنه كان يثقل نزول الوحى على النبى عليه الصلاة والسلام حتى يعرق عرقاً شديدا في اليوم الثانى، الثانى: أن العمل بما فيه من التكاليف ثقيل شاق، الثالث: ثقيل في الميزان يوم القيامة، الرابع: أنه ثقيل على المنافقين، الخامس: أنه كلام له وزن ورجحان، كما يقال للرجل العاقل: رزين راجح) ، السادس: أنه ليس بسفساف، لأن السفساف من الكلام يكون خفيفاً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) (ولم يقل سبحانه منفطرة به) والسماء مؤنثة؟ قلنا: هو على النسب: أي ذات إنفطار، وقيل: ذكر السماء على معنى السقف، وقيل: معناه السماء شيء منفطر به، وقيل: السماء تذكير وتؤنث. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ولم يقل تعالى أن لن تحصوهما: أي لن تعرفوا تحقيق مقادير ساعات الليل والنهار؟ قلنا: الضمير عائد إلى مصدر يقدر معناه: لن تحصوا تقديرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 سورة المدثر * * * فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: (غَيْرُ يَسِيرٍ) بعد قوله قوله سبحانه: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) ؟ قلنا: قيل معناه أنه غير لا يرجى أن يرجع يسيراً، كما يرجع تيسير العسير من أمور الدنيا، وقيل: إنه تأكيد. * * * فإن قيل: ما فائدة التكرار في قوله تعالى: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ) ومعناهما واحد؟ قلنا: معناه لا تبقى للكفار لحماً ولا تذر لهم عظماً، وقيل: معناه لا تبقيهم أحياء ولا تذرهم أمواتاً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) وما سبق من وصفهم بالاستيقان وازدياد الإيمان دل على إنتفاء الارتياب، والجمل كلها متعلقة بعدد خزنة النار، والمعنى ليستيقن الذين أوتوا الكتاب أن ما جاء به عليه الصلاة والسلام حق، حيث أخبر عن عدد خزنة النار بمثل ما في التوراة، ويزداد الذين آمنوا من أهل الكتاب إيماناً بالنبى صلى الله عليه وسلم والقرآن. حيث وجدوا ما أخبرهم به مطابقاً لما في كتابهم؟ قلنا: فائدته التأكيد والتعريض أيضاً بحال من عداهم من الشاكين وهم الكافرون والمنافقون، فمعناه ولا يرتاب هؤلاء كما أرتاب أولئك. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) يعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 حصر عدد الخزنة في تسعة عشر وذلك ليس بمثل. قلنا: هو استعارة من المثل المضروب مما وقع غريباً وبديعاً فى الكلام استغرابا منهم لهذا العدد واستبداعاً له، والمعنى: أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب، وأى حكمة قصد في جعل الخزنة تسعة عشر لا عشرين، الثانى: أن المثل هنا بمعنى الصفة كما في قوله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) فالمعنى: ماذا أراد الله بهذا العدد صفة للخزنة. * * * فإن قيل: كيف طابق قوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) وهو سؤال للمجرمين قوله تعالى: (يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ) وهو سؤال عنهم، وإنما المطابق الظاهر يسألون المجرمين ما سلككم في سقر أو يتساءلون عن المجرمين ما سلكهم في سقر: أي يسأ ل أهل الجنة بعضهم بعضا عن أهل النار؟ قلنا: قوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ) ليس بيانا للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسؤلين عن المجرمين، فالمسؤلون من أهل الجنة ألقوا إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين، وذلك أن المؤمنين إذا أخرجهم الله تعالى من النار بعد ما عذبهم بقدر ذنوبهم وأدخلهم الجنة يسألهم بعض أصحاب اليمين عن حال المجرمين وسبب تخليدهم، فقال المسئولون: قلنا لهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 وهؤلاء المؤمنون بعد إخراجهم من النار وإدخالهم الجنةصاروا من أصحاب اليمين، وقيل: المراد بأصحاب اليمين الملآئكة عليهم السلام. وقيل: الأطفال لأنهم لا يرتهنون بذنوب إذ لا ذنوب لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 سورة القيامة * * * فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) والقارئ له على النبى صلى الله عليه وسلم إنما هو جبرايل عليه السلام؟ قلنا: معناه فإذا جمعناه في صدرك، ويؤيده أول الآية: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) أي إن علينا ضمه وجمعه في صدرك فلا تعجل بقراءته قبل أن يتم حفظه، وقيل: إنما أضيفت القراءة إلى الله تعالى، لأن جبريل عليه السلام يقرؤه بأمره كما تضاف الأفعال إلى الملوك والأمراء بمجرد الأمر، مع أن المباشر لها أعوانهم أو أتباعهم. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) والذى يوصف بالنظر الذي هو الإبصار والإدراك إنما هو العين دون الوجه؟ قلنا: قيل إنما أراد بالوجوه هنا السعداء وأهل الوجاهة يوم القيامة لا الوجه هو العضو، ولا أرى هذا الجواب مطابقاً لقوله تعالى: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ) لأن العبوس والقطوب إنما يوصف به الوجه الذى هو العضو، ومما يؤيد أن المراد بقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) الأعضاء المعروفة قوله تعالى: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 فإن قيل: النطفة المنى، فما فائدة قوله تعالى: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) ؟ قلنا: النطفة اسعملت هنا بمعنى القطرة لأن النطفة تطلق على الماء القليل والكثير، ومنه الحديث: حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جوازاً، أراد بحر المشرق والمغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 سورة الإنسان * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) فوصف المفرد وهى النطفة بالجمع (وهو) الأمشاج لأنه جمع مشج والأمشاج الأخلاط، والمراد أنه مخلوق من نطفة مختلطة من ماء الرجل والمرأة؟ قلنا: قال الزمخشري: أمشاج لفظ مفرد لا جمع، كقولهم: برمة أعشار، وبيت أكباش، وبر أهدام، وقال غيره: الموصوف به أجزاء النطفة وأبعاضهاً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) والإبتلاء متأخر عن جعله سميعاً بصيراً؟ قلنا: قال ألفراد: فيه تقديم وتأخير (تقديره) فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، وقال غيره: معناه ناقلين له من حال إلى حال نطفة ثم علقة ثم مضغة فسمى ذلك ابتلاء استعارة. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) والقوارير اسم لما يتخذ من الزجاج؟ قلنا: معناه أن تلك الأكواب مخلوقة من فضة، وهى مع بياض الفضة وحنسها في صفاء القوارير وشفيفها، قال ابن عباس رضى الله عنهما: لو ضربت فضة الدنيا حتى جلتها جناح الذباب لم ير الماء من ورائها، وقوارير الجنة من فضة ويرى ما فيها من ورائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: (كَانَتْ قَوَارِيرَا) ؟ قلنا: معناه تكونت، فهو من قوله تعالى: (كُنْ فَيَكُونُ) وكذا قوله تعالى: (كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) . * * * فإن قيل: كيف شبه الله تعالى الولدان (باللؤلؤ) المنثور دون المنظوم؟ وقلنا: إنما شبههم سبحانه وتعالى باللؤلؤ المنثور لنه أراد تشيبيههم باللؤلؤ الذي لم يثقب بعد، لأنه إذا ثقب نقصت مائيته وصفاؤه، واللؤلؤ (الذى) لم يثقب لا يكون إلا منثوراً، وقيل: إنما شبههم الله تعالى باللؤلؤ المنثور لأن اللؤلؤ المنثور على البساط أحسن منظراً من المنظوم، وقيل: إنما شبههم سبحانه باللؤلؤ المنثور لانتشارهم وأنبثاثهم في مجالهم ومنازلهم وتفريقهم في الخدمة بدليل قوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) ولو كانوا وقوفاً صفاً لشبهوا بالمنظوم. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) مع أن ذلك في الدنيا إنما هو عادة الإماء ومن في مرتبتهن؟ قلنا: القرآن أول من خوطب به العرب، وكان من عادة رجالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 ونسائهم من بيت المملكة التحلى بالذهب والفضة منفردين ومجتمعين. الثانى: إن الاسم وإن كان مشتركاً بين فضة الدنيا والآخرة، ولكن شتان (ما) بينهما قال النبى صلى الله عليه وسلم: (المثقال من فضة الآخرة خير من الدنيا وما فيها) ، وكذا الكلام في السندس والإستبرق وغيرهما مما أعده الله تعالى في الجنة. * * * فإن قيل: أي شرف لتلك الدار يسقى الله تعالى عباده الشراب الطهور فيها مع أنه تعالى في الدنيا سقاهم ذلك بدليل قوله تعالى: (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) وقوله تعالى: (فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) ؟ قلنا: المراد به في الآخرة سقيهم بغير واسطة، وشتان بين الشرابين والآنيتين أيضاً. * * * فإن قيل قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) الضمير لمشركى مكة بلا خلاف، فما معنى تقسيمهم إلى الآثم والكفور. وكلهم آثم وكلهم كفور؟ قلنا: المراد بالآثم عتبة بن ربيعة، فإنه كان ركاباً للمآثم متعاطياً لأنواع ألفسوق، والمراد بالكفور الوليد بن المغيرة، فإنه كان غالياً فى الكفر شديد الشكيمة فيه مع أن كليهما كافر وآثم، والمراد به نهيه عن طاعتهم فيما كانوا يدعونه إليه من ترك الدعوة وموافقتهم فيما كانوا عليه من الكفر والضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 فإن قيل: ما معنى النهى عن طاعة أحدهما، وهلا نهى عن طاعتهما؟ قلنا: قال بعضهم إن أو هنا بمعنى الواو كما في قوله تعالى: (أَوِ الْحَوَايَا) ، الثانى: أنه لو قال تعالى ولا تطعهما جاز له أن يطيع أحدهما، وأما إذا قيل ولا تطع أحدهما كان منهياً عن طاعتهما بالضرورة. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى هنا: (وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ) أي خلقهم، وقال سبحانه في موضع آخر: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) ؟ قلنا: قال ابن عباس رضى الله عنهما والأكثرون: المراد به أنه ضعيف عن الصبر عن النساء، فلذلك أباح الله تعالى له نكاح الأمة كما سبق قبل هذه الآية، وقال الزجاج: معناه أنه يغلبه هواه وشهوته فلذلك وصف بالضعف، وأما قوله تعالى: (وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ) فمعناه ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب، وقيل: المراد بالأمر العصعص، فإن الإنسان في القبر يصير رفاتاً إلا عصعصه فإنه لا يتفتت، وقال مجاهد: المراد بالأثر مخرج البول والغائط، فإنه يسترخى حتى يخرج منه الأذى، ثم ينقبض ويجتمع ويشتد بقدرة الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 سورة المرسلات * * * فإن قيل: قوله تعالى: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ) ينفى وجود الاعتذار منهم لأن الاعتذار إنما يكون بالنطق، فما فائدة نفى الاعتذار بعد نفى النطق؟ قلنا: معناه أنهم لا ينطقون ابتداء بعذر مقبول وحجة صحيحة، ولا بعد أن يؤذن لهم في ذلك، فإن الأثير والجانى الخائف عادة قد لا ينطق لسانه بعذره وحجته ابتداء لفرط خوفه ودهشته، ولكن إذا أذن (له) في إظهار عذره وحجته انبسط وانطلق لسانه، فكانت الفائدة في الجملة، الثانية نفى هذا المعنى: أي لا ينطقون بعذر ابتداء ولا بعد الإذن. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) يدل على وجود الاعتذار منهم، فكيف التوفيق بينه وبين ما نحن فيه؟ قلنا: قيل المراد بتلك الظالمون من المسلمين، وبما نحن فيه الكافرون وآخر تلك الآية يضعف هذا الجواب، أي قوله: (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 سورة النبأ * * * فإن قيل: كيف اتصل وارتبط قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) بما قبله؟ قلنا: لما كان النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه هو البعث والنشور وكانوا ينكرونه، قيل لهم: ألم يخلق من وعد بالبعث والنشور هذه المخلوقات العظيمة العجيبة الدالة على كمال قدرته فما وجه إنكارهم قدرته على البعث. * * * فإن قيل: لو كان النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه ما ذكرتم لما قال تعالى: (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) ، لأن كفار مكة لم يختلفوا في أمر البعث، بل اتفقوا على إنكاره؟ قلنا: كان فيهم من يقطع القول بإنكاره، وفيهم من يشك فيه وبتردد فثبت الإختلاف (لأن) جهة الإختلاف لا تنحصر في الجزم بإثباته والجزم بنفيه، الثانى: إن بعضهم صدق به فآمن، وبعضهم كذب به فبقى على كفره، فثبت الإختلاف الإثبات والنفى، الثالث: إن الضمير في "يتساءلون " وفى "هم " عائد إلى الفريقين من المسلمين والمشركين، وكلهم كانوا يتساءلون عنه لعظم شأنه عندهم، فصدق به المسلمون فأثبتوه، وكذب به المشركون فنفوه. * * * فإن قيل: قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) إن كان قوله تعالى: (اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) هو جزاء الشرط فأين الشرط، وشاء وحده لا يصلح شرطاً لأنه لا يفيد دون ذكر مفعوله، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 كان كل المذكور هو الشرط فأين الجزاء؟ قلنا: معناه فمن شاء النجاة من اليوم الموصوف اتخذ إلى ربه مرجعا بطاعته، الثانى: إن معناه فمن شاء أن يتخذ إلى ربه مآبا لقوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) أي فمن شاء الإيمان فليؤمن، ومن شاء الكفر فليكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 سورة النازعات * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَالنَّازِعَاتِ) . (وَالنَّاشِطَاتِ) بلفظ التأنيث، وكذا ما بعده، والكل أوصاف للملآئكة، والملآئكة ليسوا إناثاً؟ قلنا: هو قسم بطوائف الملآئكة وفرقها، والطوائف والفرق مؤنثة. * * * فإن قيل: كيف أضاف الله تعالى الأبصار إلى القلوب في قوله تعالى: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) أي ذليلة لمعاينة العذاب، والمراد بها الأعين بلا خلاف؟ قلنا: المراد أبصار أصحابها بدليل قوله تعالى: (يَقُولُونَ) . * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى) مع أن موسى عليه الصلاة والسلام أراه الآيات كلها بدليل قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ) وكل آياته كبرى؟ قلنا: الإخبار في هذه الآية عن أول ملاقاته إياه، وإنما أراه في أول ملاقاته العصاة واليد، فاطلق عليهما الآية الكبرى لاتحاد معناهما. وقيل: أراد بالآية الكبرى العصا، لأنها كانت المقدمة والأصل والأخرى كالتبع لها لأنه كان يتبعها بيده، فقيل له أدخل يدك في جيبك. * * * فإن قيل: كيف أضاف الله سبحانه الليل إلى السماء بقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا) مع أن الليل إنما يكون في الأرض لا في السماء؟ قلنا: إنما أضافه إليها لأنه أول ما يظهر عند غروب الشمس إنما يظهر من أفق السماء من موضع الغروب، وأما قوله تعالى: (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) فالمراد به ضوء الشمس بدليل قوله تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) أي وضوئها فلا إشكال في إضافته إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 سورة عبس * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) ثم قال سبحانه وتعالى: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) ولم يقل ذكرها؟ قلنا: الضمير المؤنث لآيات القرآن أو لهذه السورة، والضمير في قوله تعالى: (ذَكَرَهُ) راجع إلى القرآن، وقيل: إنه راجع إلى معنى التذكرة وهو الوعظ والتذكير لا إلى لفظها. * * * فإن قيل: في قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) روى أن عمر رضى الله تعالى عنه قرأ هذه الآية وقال: كل هذا قد عرفنا فما الأبُّ؟ ثم قال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا عمر أن لا تدرى ما الأبُّ. ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا البيان وما لا فدعوه، وهذا شبيه النهى أن تتبع معانى القرآن والبحث عن مشكلاته؟ قلنا: لم يرد بقوله ما ذكرت، ولكن الصحابة رضى الله عنهم كانت أكثر همهم عاكفة على العمل، وكان الاشتغال بعلم لا يعمل به تكلفا عندهم فأراد أن الآية مسوقة في الإمتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله تعالى للإنسان متاعاً له ولأنعامه. فكأنه قال: عليك بما هو الآهم وهو الشكر على ما تبين لك ولم يشكل مما عدد من نعمه تعالى، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص، واكتف بمعرفته جملة إلى أن يتبين لك في وقت آخر، وعن أبى بكر رضى الله عنه أنه سئل عن الأب فقال: أيُّ سماء تظلني وأى أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى بما لا علم لي به، وأكثر المفسرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 قالوا: الأب كل ما ترعاه البهائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 سورة التكوير * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) والسؤال إنما يحسن للقاتل لا للمقتول؟ قلنا: سؤالها لتبكيت قاتلها وتوبيخه بما تقوله من الجواب، فإنها تقول: قتلت بغير ذنب، ونظيره في التبكيت والتوبيخ قوله تعالى لعيسى عليه السلام: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) حتى قال: (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) . * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) فأثبت العلم لنفس واحدة، مع أن كل نفس تعلم ما أحضرت يوم القيامة بدليل قوله تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) ؟ قلنا: هذا مما أريد به عكس مدلوله، ومثلا كثير في كلام الله تعالى وكلام العرب كقوله تعالى: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) فإن رب هنا بمعنى كم للتكثير، وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام لقومه: (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) وقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 قد أترك القرن مصفراً أنامله. . . كأن أثوابه مجت بفرصاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 سورة الانفطار * * * فإن قيل: لأى فائدة ذكر صفة الكرم دون سائر صفاته في قوله تعالى: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ؟ قلنا: قال بعض: إنما قال ذلك لطفاً بعبده وتلقيناً له حجتهم وعذره ليقول: غرنى كرم الكريم، وقال الفضيل: لو سألنى الله تعالى هذا السؤال لقلت: غرنى ستورك المرخاة، وروى أن عليا صاح بغلام له مرات فلم يلبه، ثم أقبل فقال له: مالك لم تجبنى؟ فقال: لثقتى بحلمك وأمنى عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه، ولهذا قالوا: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه، والحق أن الواجب على الإنسان أن لا يغتر بكرم الله تعالى وجوده في خلقه إياه وأسباغه النعمة الظاهرة والباطنة عليه فيعصيه ويكفر نعمته اغتراراً بتفضيله الأول، فأن ذلك أمر منكر خارج عن حد الحكمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرأها: غره جهله، وقال عمر رضى الله تعالى عنه: غره حمقه وجهله، وقال الحسن: غره والله شيطانه الخبيث الذي زين له المعاصى، فقال له: افعل ما شئت فإن ربك كريم. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) والنفوس المقبولة الشفاعة تملك لمن شفعت فيه شيئاً وهو الشفاعة؟ قلنا: المنفى ثبوت النصرة بالملك والسلطنة والشفاعة ليست بطريق الملك والسلطنة فلا تدخل في المنفى. ويؤيده قوله تعالى: (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) قال مقاتل: المراد بالنفس الثانية الكافرة، والأصح أنه على العموم في النفسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 سورة المطففين * * * فإن قيل: هلا قال الله تعالى إذا اكتالوا أو اتزنوا على الناس يستوفون كما قال سبحانه في مقابلة: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) ؟ قلنا: لأن المطففين كانت عادتهم أنهم لا يأخذون ما يكال وما يوزن إلا بالمكيال لأن استيفاء الزيادة بالمكيال كان أمكن لهم وأهون عليهم منه بالميزان، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس فيهما. * * * فإن قيل: كيف فسر سبحانه وتعالى سجيناً بكتاب مرقوم فقال تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ) وكذا فسر تعالى عليين به مع أن سجيناً اسم للأرض السابعة، وهو فعيل من السجن، وعليين اسم للجنة أو لأعلى الأمكنة، أو للسماء السابعة، أو لسدرة المنتهى؟ قلنا: قوله تعالى: (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) وصف معنوى لكتاب الفجار ولكتاب الأبرار، لا لسجين ولعليين تقديره: وهو كتاب مرقوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 سورة الانشقاق * * * فإن قيل: أين جواب "إذا " في قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) ؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنه متروك لتكرر مثله في القرآن، الثانى: إنه أذنت الثانية والواو فيها زائدة، الثالث: إنه محذوف تقديره بعد قوله تعالى: (وَحُقَّتْ) بعثتم أو جوزيتم أو لاقيتم ما عملتم، ودل على هذا المحذوف قوله تعالى: (فَمُلَاقِيهِ) ، الرابع: إن فيه تقديماً وتأخيراً تقديره: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه إذا السماء انشقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 سورة البروج * * * فإن قيل: أين جواب القسم؟ قلنا: فيه وجوه أحدها: أنه متروك، الثانى: أنه قوله تعالى: (قُتِلَ) أي لقد قتل: أي لعن، الثالث: أنه قوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) . الرابع: أنه محذوف تقديره: لتبعثن أو نحوه، الخامس: أنه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 سورة الطارق * * * فإن قيل: أين جواب القسم؟ قلنا: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ) فإن بمعنى ما، ولما بالتشديد بمعنى إلا، فيكون المعنى: ما كل نفس إلا عليها حافظ، ولما بالتخفيف ما فيه زائدة وإن هى المخففة من الثقيلة، فيكون المعنى: إن كل نفس لعليها حافظ، والقسم يتلقى بما وبإن. * * * فإن قيل: ما وجه ارتباط قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ) بما قبله؟ قلنا: وجهه أنه لما ذكر سبحانه أن على كل نفس حافظا أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في أول أمره ونشأته الأولى، ليعلم أن من أنشأه قادر على إعادته ومجازاته، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، فلا يملى على حافظه إلا ما يسره في عاقبته. * * * فإن قيل: ما فائدة الجمع بين فمهل وأمهل ومعناهما وأحد؟ قلنا: التأكيد وإنما خولف بين اللفظين طلباً للخفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 سورة الأعلى * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) مع أنه كان صلى الله عليه وسلم مأموراً بالذكرى نفعت أو لم تنفع؟ قلنا: معناه إذا نفعت، وقيل: معناه قد نفعت، وقيل: إن نفعت وإن لم تنفع، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، وذكر الماوردى: أنها بمعنى ما، وكأنه أراد ما الظرفية، وإن بمعنى ما الظرفية ليس بمعروف. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) مع أن الحيوان لا يخلو عن الاتصاف بأحد هذين الوصفين؟ قلنا: معناه لا يموت موتاً يستريح به، ولا يحيا حياة ينتفع بها، وقال ابن جرير: تصعد نفسه إلى حلقومه ثم لا تفارقه فيموت ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا، وقد سبق هذا السؤال مرة في سورة طه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 سورة الغاشية * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) مع أن جميع أبدانهم أيضاً تصلى النار؟ قلنا: الوجه يطلق ويراد به جميع البدن كما في قوله تعالى: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) وقيل: إن المراد بالوجوه هنا الأعيان والرؤساء، كما يقال: هولاء وجوه القوم، ويا وجه العرب: أي يا وجيههم، ويؤيد هذا القول ما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال: إن المراد به الرهبان وأصحاب الصوامع. * * * فإن قيل: كيف ارتبط قوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) بما قبله، وأى مناسبة بين السماء والابل والجبال والأرض حتى جمع بينها؟ قلنا: لما وصف الله تعالى الجنة بما وصف، عجب من ذلك الكفار، فذكرهم عجائب صنعه، وقال قتادة: لما ذكر ارتفاع سرر الجنة قالوا: كيف نصعدها؟ فنزلت هذه الآية: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) نظر اعتبار كيف خلقت للنهوض بالأثقال وحملها إلى البلاد البعيدة، وجعلت تبرك حتى تحمل وتركب عن قرب ويسر ثم تنهض بما حملت، فليس في الدواب ما يحمل عليه وهو بارك ويطيق النهوض إلا هى، وصخرت لكل من قادها حتى الصبى الصغير، ولما جعلت سفائن البر أعطيت الصبر على احتمال العطش عشرة أيام فصاعدا وجعلت ترعى كل نبات في البرارى ومفاوز مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 لا يرعاه سائر البهائم، وإنما لم يذكر الفيل والزرافة والكركدن وغيرها مما هو أعظم من الجمل لأن العرب لم يروا شيئا من ذلك ولا كانوا يعرفونه، ولأن الإبل كانت أنفس أموالهم وأكثرها لا تفارقهم ولا يفارقونها، وإنما جمع بينها وبين ما بعدها لأن نظر العرب قد انتظم هذه الأشياء في أوديتهم وبواديهم، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم وكثرة ملابستهم ومخالفتهم، ومن فسر الابل بالسحاب فإنما قصد بذلك طلب المناسبة بطريق تشبيه الإبل بالسحاب في السير وفى الشكل أيضاً في بعض الأوقات، لا أنه أراد أن الإبل من أسماء السحاب حقيقة، وقد جاء في أشعار العرب تشبيه السحاب بالإبل كثيراً، وشبهها ابن دريد أيضا بالسحاب في قصيدته، وقرأ أبى بن كعب وعائشة رضى الله عنهما الإبل بتشديد اللام، قال أبو عمرو وهو اسم السحاب الذي يحمل الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 سورة الفجر * * * فإن قيل: كيف نكر الليالى العشر دون سائر ما أقسم به، وهلا عرفها بلام العهد وهى ليالى معلومة معهودة فإنها ليالى عشر ذى الحجة فى فى قول الجمهور؟ قلنا: لأنها مخصوصة من بين جنس الليالى العشر بفضيلة ليست لغيرها فلما يجمع بينها وبين غيرها بلام الجنس، وإنما لم تعرف بلام العهد لأن التنكير أدل على التفخيم والتعظيم بدليل قوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ونظيره قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) فعرفه ثم قال: (وَوَالِدٍ) فنكره، والمراد به آدم وإبراهيم أو محمد عليه الصلاة والسلام، ولأن الأحسن أن تكون اللامات كلها متجانسة، ليكون الكلام أبعد عن الألغاز والتعمية، وهى في الباقى للجنس. * * * فإن قيل: كيف ذم الله تعالى الإنسان على قوله: (رَبِّي أَكْرَمَنِ) مع أنه صادق فيما قال، لأن الله تعالى أكرمه بدليل قوله تعالى: (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) كيف وأن هذا تحدث بالنعمة وهو مأمور به؟ قلنا: المراد به أن يقول ذلك مفتخراً على غيره ومتطاولا به عليه ومعتقداً استحقاق ذلك على ربه كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 ومستدلا به على علو منزلته في الدر الآخرة، وكل ذلك منهى عنه، وأما إذا قاله على وجه الشكر والتحدث بنعمة الله فليس بمذموم ولا منهى عنه. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى في الجملة الأولى: (فَأَكْرَمَهُ) ولم يقل في الجملة الثانية فأهانه؟ قلنا: لأن بسط الرزق إكرام لأنه إنعام وأفضال من غير سابقة وقبضه ليس بإهانة لأن ترك الإنعام والإفضال لا يكون إهانة بل هو واسطه بين الاكرام والاهانة، فإن المولى قد يكرم عبده وقد يهينه. ولا يكرمه ولا يهينه، وتضييق الرزق ليس إلا عبارة عن ترك إعطاء القدر الزائد، ألا ترى أنه يحسن أن تقول زيد أكرمنى إذا أهدى لك هدية، ولا يحسن أن تقول أهاننى إذا لم يهد لك. * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ) الانتقال والحركة على الله محالان لأنهما من خواص الكائن في جهة؟ قلنا: قال ابن عباس رضى الله عنهما، وجاء أمر ربك لأن في القيامة تظهر جلائل آيات الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) وقيل: معناه وجاء ظهور ربك لضرورة معرفته يوم القيامة ومعرفة الشيء بالضرورة تقوم مقام ظهوره ورؤيته، فمعناه: زالت الشكوك وارتفعت الشبهه كما ترتفع عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 سورة البلد * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) ولم يقل سبحانه وتعالى ومن ولد؟ قلنا: لأن في "ما " من الإبهام ما ليس في "من "، فقصد به التفخيم والتعظيم كأنه تعالى قال: وأى شيء عجيب غريب ولد، ونظيره قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 سورة الشمس * * * فإن قيل: كيف نكر الله تعالى النفس دون سائر ما أقسم به؟ قلنا: لأنه لا سبيل إلى لام الجنس، لأن نفوس الحيوانات غير الإنسان خارجة عن ذلك بدليل قوله تعالى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) ولا سبيل إلى لام العهد لأن المراد ليس نفساً واحدة معهودة، وعلى قول من قال إن المرأد بها نفس آدم عليه السلام، فالتنكير للتفخيم والتعظيم كما سبق في سورة الفجر. * * * فإن قيل: أين جواب القسم؟ قلنا: قال الزجاج وغيره: إنه قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) وحذفت اللام لطول الكلام، وقال ابن الأنبارى: جوابه محذوف، وقال الزمخشري: تقديره ليدمدمن الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحاً عليه السلام، قال: وأما: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) فكلام تابع لما قبله على طريق الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 سورة الليل * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى) مع أن الشقى أيضاً يصلاها: أي يقاسى حرها وعذابها؟ قلنا: قال أبو عبيدة: الأشقى هنا بمعنى الشقى، والمراد به كل كافر، والعرب تسعمل أفعل في موضع فاعل ولا تريد به التفضيل. وقد سبق تقرير ذلك والشواهد عليه في سورة الروم في قول تعالى: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ، وقال الزجاج: هذه نار موصوفة معينة، فهو درك مخصوص ببعض الأشقياء، ورد عليه ذلك بقوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) والأتقى يجنب عذاب أنواع نار جهنم كلها، والمراد بالأتقى هنا أبو بكر الصديق رضى الله عنه بإجماع المفسرين، ولهذا قال الزمخشري: إن الأشقى ليس بمعنى الشقى بل هو على ظاهره، والمراد به أبو جهل أو أمية بن خلف. فالآية واردة للموازنة بين حالتى أعظم المؤمنين وأعظم المشركين، فبولغ في صفتيهما المتناقضتين، وجعل هذا مختصاً بالمصلى كأن النار لم تخلق إلا له لوفور نصيبه منها وجاء قوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) على موازنة ذلك ومقابلته، مع أن كل تقى يجنبها، قال بعض العلماء: هذه الآية تدل على أن أبا بكر رضى الله عنه أفضل الصحابة لأنه وصفه بالأتقى، وقال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وإذا كان أكرم عند الله أفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 سورة الضحى * * * فإن قيل: كيف وصف صلى الله عليه وسلم بالضلال والنبى عليه الصلاة والسلام معاذ الله أن يكون ضالاً: أي كافراً لا قبل النبوة ولا بعدها، والضال أكثر ما ورد في القرآن بمعنى الكافر؟ قلنا: المراد به هنا أنه تعالى وجده ضالا عن معالم النبوة وأحكام الشريعة فهداه إليها، هذا قول الجمهور، الثانى: إنه ضل وهو صغير فى شعاب مكة فرده الله تعالى إلى جده عبد المطلب، الثالث: إن معناه ووجدك ناسيا فهداك إلى الذكر، لأن الضلال جاء بمعنى النسيان. ومنه قوله تعالى: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) . * * * فإن قيل: لو كان الضلال بمعنى النسيان لما جمع بينهما في قوله تعالى: (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى) ؟ قلنا: لا ندعى أنه حيث ذكر كان بمعنى النسيان فهو في تلك الآية بمعنى الخطأ، وقيل: بمعنى الغفلة، الرابع: إن معناه: ووجدك جاهلا فعلمك. * * * فإن قيل: كيف من سبحانه عليه بإخراجه من الفقر إلى الغنى بقوله تعالى: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) أي فقيراً، والعائل الفقير سواء كان له عيال أو لم يكن؟ قلنا: قال ابن السائب، واختاره الفراء: إنه لم يكن غناه بكثرة المال، ولكن الله أرضاه بما آتاه، (ولمم) يكن ذلك الرضا قبل النبوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 وذلك حقيقة الغنى، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "الغنى غنى القلب "، وقال غيره: المراد به أنه أغناه بمال خديجة عن مال أبى طالب، والمراد به الإغناء بتسهيل ما لابد منه وتيسيره، لا الإغناء بفضول المال الذي لا يجامع صفة الفقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 سورة الشرح * * * فإن قيل: أي فائدة في زيادة ذكر لك وعنك والكلام تام بدونهما؟ قلنا: فائدته الإبهام ثم الإيضاح، وهو نوع من أنواع البلاغة، فلما قال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) فهم أن ثم مشروحا له ثم قال: (صَدْرَكَ) فأوضح ما علم بهما بلفظ لك، وكذا الكلام في (وَوَضَعْنَا عَنْكَ) . * * * فإن قيل: وكلمة مع للمصاحبة والقرآن، فعا معنى إقتران العسر واليسر؟ قلنا: سبب نزول هذه الآية أن المشركين عيروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم بالفقر والضائقة التى كانوا فيها. فوعدهم الله تعالى يسراً قريباً من زمان عسرهم، وأراد تأكيد الوعد لتسليتهم وتقوية قلوبهم، فجعل اليسر الموعود كالمقارن للعسر في سرعة مجيئه. * * * فإن قيل: ما معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهم: لن يغلب عسر يسرين، ويروى ذلك عن النبى صلى الله علية وسلم أيضاً؟ قلنا: هذا عمل على الظاهر وبناء على قوة الرجاء، وإن وعد الله لا يحمل إلا على أحسن ما يحتمله اللفظ وأكمله، وأما حقيقة القول فيه فهو أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تأكيدا للأولى، كما فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 تكرار قوله تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وما أشبهه، وكما في قولك: جاءنى رجل جاءنى رجل، وأنت تعنى واحد بعينه فى الجملتين، فعلى هذا يتحد العسر واليسر، أو يكون تعريف العسر لأنه حاضر معهود، وتنكير اليسر لأنه غائب مفقود، وللتفخيم والتعظيم، ويحتمل أن تكون الجملة الثانية وعداً مستأنفاً فيتعدد اليسر حينئذ على ما قيل، ويؤكد أن الجملة الثانية للتأكيد أنه ليس في مصحف عبد الله بن مسعود رضى الله عنه إلا مرة واحدة. * * * فإن قيل: وإذا أثبت في قراءته غير مكرر، فكيف قال: والذى نفسى بيده لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسر يسرين؟ قلنا: كأنه نزل ما فيه من التفخيم والتعظيم بالتنكير منزلة التثنية، لأن المعنى يسراً وأى يسر، وأما من فسره بيسرين فإنه قال: أحد اليسرين ما تيسر من الفتوح في زمن النبى صلى الله عليه وسلم، والثانى: ما تيسر بعده في زمن الخلفاء، وقيل: هما يسر الدنيا ويسر الآخرة كقوله تعالى: (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) وهما حسن الظفر وحسن الثواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 سورة التين * * * فإن قيل: كيف وجه صحة الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ؟ قلنا: قال الاكثرون: المراد بالإنسان هنا الجنس، ويرده أسل سافلين إدخاله النار فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا ظاهر الاتصال، ويكون قوله تعالى: (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قائا مقام قوله تعالى فلا نردهم أسفل سافلين، وأما على قول من فسر الرد أسفل سافلين بالهرم والخرف وقال السافلون هم الضعفاء والزمى والأطفال والشيخ الهرم أسفل هؤلاء كلهم، فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن، ومعنى قوله تعالى: (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أى غير مقطوع بالهرم والضعف الحاصل من الكبر: أي إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال شبابهم وقوتهم، فإنهم إذا عجزوا عن العمل كتب لهم ثواب ما كانوا يعملونه من الطاعات والحسنات إلى وقت موتهم. وهذا معنى قول ابن عباس رضى الله عنهما: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، وقال بعضى العلماء: الذين آمنوا وعملوا الصالحات فى شبابهم وقوتهم فإنهم لا يردون إلى الخرف وأرذل العمر وإن عمروا طويلا، وتمسك بظاهر قول ابن عباس رضى ألله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 سورة العلق * * * فإن قيل: أين مفعول خلق الأول؟ قلنا: يحتمل وجهين: أحدهما: أن لا يقدر له مفعول، بل يكون المراد الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه، كما في قوله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) في أحد القولين، وقولهم: فلان يعطى ويمنع ويصل ويقطع، الثانى: أن يكون مفعوله مضمراً تقديره: الذي خلق كل شيء، ثم أفرد الإنسان بالذكر تشريفاً له وتفصيلاً. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) على الجمع ولم يقل: من علقة؟ قلنا: لأن الإنسان في معنى الجمع بدليل قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) والجمع إنما خلق من جمح علقة لا من علقة. * * * فإن قيل: هذا الجواب يرده قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) ؟ قلنا: المراد به فإنا خلقنا أباكم من تراب، ثم خلقنا كل واحد من أولاده من نطفة، وقيل: إنما قال من علق رعاية للفاصلة الأولى وهى خلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 سورة القدر * * * فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) وتنزلهم من الأمر لا معنى له؟ قلنا: من هنا بمعنى الباء كما في قوله تعالى: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) وقوله تعالى: (يُلْقِي الرُّوحَ) أي لكل أمر قضاه الله تعالى في تلك السنة من ليلة القدر إلى مثلها تنزل الملآئكة به من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وقيل: إلى الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 سورة البينة * * * فإن قيل: المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، فكيف قال تعالى: (يَتْلُو صُحُفًا) وظاهره يدل على قراءة المكتوب من الكتاب وهو منتف في حقه صلى الله عليه وسلم لأنه كان أمياً؟ قلنا: المراد يتلو ما في الصحف عن ظهر قلبه، لأنه هو المنقول عنه صلى الله عليه وسلم بالتواتر. * * * فإن قيل: ما الفرق بين الصحف والكتب حتى قال تعالى: (صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ) ؟ قلنا: الصحف القراطيس، وقوله تعالى: "مطهرة " أي من الشرك الباطل، وقوله تعالى: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي مكتوبات مستقيمة ناطقة بالعدل والحق، يعنى الآيات والأحكام. * * * فإن قيل: كيف قالى الله تعالى: ( هن بمد ما بحاه قه وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي النبى صلى الله عليه وسلم آو القرآن، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهم ما زالوا متفرقين مختلفين يكفر كل فريق منهم الآخر قبل مجيء البينة وبعدها؟ قلنا: المراد به تفرقهم عن تصديق النبى صلى الله عليه وسلم والإيمان به قبل أن يبعث، فإنهم كانوا مجتمعين على ذلك متفقين عليه بأخبار التوراة والإنجيل، فلما بعث إليهم تفرقوا، فمنهم من آمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 ومنهم من كفر، وقال بعض العلماء: المراد بالبينة ما في التوراة والإنجيل من الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا القول أن أهل الكتاب أفردوا بالذكر في هذا التفرق مع وجود التفرق من المشركين أيضاً بعدها جمعوا مع المشركين في أول السورة، فلابد أن يكون مجيء البينة أمراً يخصهم، ومجيء النبى صلى الله عليه وسلم والقرآن العزيز لا يخصهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 سورة الزلزلة * * * فإن قيل: ما معنى إضافة الزلزال الذي هو المصدر إلى الأرض، وهلا قال زلازلا كما قال تعالى: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) وما أشبهه؟ قلنا: معناه الزلزال الذي تستوجبه في حكمة الله تعالى ومشيئته في ذلك اليوم، وهو الزلزال الذي ليس بعده زلزال، ونظيره قولك: أكرم التقى إكرامه وأهن الفاسق إهانته، تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة، ويجوز أن يكون المراد بالإضافة الاستغراق معناه زلزالها كله الذي هو ممكن لها. * * * فإن قيل: كيف قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) على العموم، وحسنات الكافر محيطة بالكفر وسيئات المؤمن معفو عنها مغفورة باجتناب الكبائر، فكيف تثبت رؤية كل عامل جزاء عمله؟ قلنا: معناه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا من فريق السعداء، ومن يعمل مثقال ذرة شراً من فريق الأشقياء، لأنه جاء بعد قوله تعالى: (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا) ، وذكر مقاتل أنها نزلت في رجلين من أهل المدينة كان أحدهما يستقل أن يعطى السائل الكسرة أو التمرة ويقول: إنما نؤجر على ما نعطيه ونحن نحبه، وكأن الآخر يتهاون بالذنب اليسير ويقول: إنما أوعد الله النار على الكبائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 سورة العاديات * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) مع أنه تعالى أخبر بهم في كل في زمان، فما وجه تخصيص ذلك اليوم؟ قلنا: معناه أن ربهم سبحانه مجازيهم يومئذ على أعمالهم، فالعلم مجاز عن المجازاة، ونظيره قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) معناه يجازيهم على ما فيها، لأن علمه شامل لما فى قلوب كل العباد، ويقرب منه قوله تعالى: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 سورة القارعة * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) أي رجحت سيئاته على حسناته: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) أي فمسكنه النار. وأكثر المؤمنين سيئاتهم راحجة على حسناتهم؟ قلنا: قوله تعالى: (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) لا يدل على خلوده فيها، فيسكن المؤمن فيها بقدر ما تقتضيه ذنوبه، ثم يخرج منها إلى الجنة، وقيل: المراد بخفة الموازين خلوها من الحسنات بالكلية، وتلك موازين الكفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 سورة التكاثر * * * فإن قيل: أين جواب (لَوْ تَعْلَمُونَ) ؟ قلنا: هو محذوف تقديره: لو تعلمون الأمر يقينا لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر، ثم ابتدأ سبحانه بوعيد آخر فقال تعالى: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) . * * * فإن قيل: كل أحد لا يخلو عن نيل نعيم في الدنيا ولو مرة واحدة، فما النعيم الذي يسأل عنه العبد؟ قلنا: فيه سبعة أقوال: أحدها: أنه الأمن والصحة، الثانى: أنه الماء البارد، الثالث: أنه خبز البر والماء العذب، الرابع: أنه كل مأكول ومشروب لذيذان، الخامس: أنه الصحة والفراغ، السادس: أنه كل لذة من لذات الدنيا، السابع: أنه دوام الغداء والعشاء، وقيل: إن السؤال خاص للكفار، والصحيح أنه عام في كل إنسان وفى كل نعيم، فالكافر يسأل توبيخاً والمؤمن يسأل عن شكرها، ويؤيد هذا ما جاء فى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى ثلاث لا اسأل عبدى عن شكرهن وأسأله عما سوى ذلك: بيت يكنه، وما يقيم به صلبه من الطعام، وما يوارى به عورته من اللباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 سورة العصر * * * فإن قيل: الاستثناء الذي في السورة لا يدل على أن المؤمنين الموصوفين في ربح مع أن الاستثناء إنما سيق لمدحهم بمضادة حالهم لحال من لم يتناوله الاستثناء؟ قلنا: الاستثناء وإن لم يدل بصريحه على أنهم في ربح، ولكن اتصافهم بتلك الصفات الأربع الشريفة يدل على أنهم في أعظم ربح، مع أنا لو قدرنا أنهم ليسوا في ربح فالمضادة حاصلة أيضاً لأنهم ليسوا في خسر بمقتضى الاستثناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 سورة الهمزة * * * فإن قيل: ما الفرق بين الهمزة واللمزة؟ قلنا: قيل إنهما بمعنى واحد لا فرق بينهما، وإنما الثانى تأكيداً للأول، وقيل: إنهما مختلفتان، فقيل: الهمزة للمغتاب، واللمزة العياب في القفا، وقيل: الهمزة العياب في الوجه، واللمزة العياب فى القفا، وقيل: الهمزة الطعان في الناس، واللمزة الطعان في أنساب الناس، وقيل: الهمزة يكون بالعين، واللمزة باللسان، وقيل: عكسه. فهذه ستة أقوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 سورة الفيل * * * فإن قيل: ما معنى الأبابيل، وهل هو واحد أو جمع؟ قلنا: معناها جماعات في تفرقة أي حلقة حلقة، وقيل: التى يتبع بعضها بعضا، وقيل: الكثرة، وقيل: المختلفة الألوان، وقال الفراء وأبو عبيدة: لا واحد لها، وقيل: واحدها أبالة وأبول وأبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 سورة قريش * * * فإن قيل: بأى شيء تتعلق اللام في قوله تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) ؟ قلنا: قيل إنها متعلقة بآخر السورة التى قبلها: أي فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، ويؤيد هذا أنهما في مصحف أبى رضى الله عنه سورة واحدة بلا فصل، والمعنى أنه أهلك أصحاب الفيل الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيهابوهم ويحترموهم، فينتظم لهم الأمر في رحلتهم ولا يجترئ أحد عليهم، وقيل: معناه أهلكهم ليألف قريش رحلة الشتاء والصيف بهلاك من كان يخيفهم ويمنعهم. وقيل: إنها متعلقة بما بعدها وهو قوله تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، معناه أن نعم الله تعالى عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الظاهرة، وقيل: هى لام التعجب معناه آعجبوا لإيلاف قريش، وكانت لقريش في كل سنة رحلتان للتجارة التى بها معاشهم، رحلة فى الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، ثم قيل الإيلاف هنا مصدر بمعنى الإلف تقول: آلفته إيلافاً بالمد كما تقول ألفته إلفاً بالقصر كلاهما متعد إلى مفعول واحد، فيكون معنى لإيلاف قريش لإلف قريش: أي لحبهم الرحلتين، وقيل: آلف بالمد متعد إلى مفعولين، تقول ألف زيد المكان وآلف زيد عمرا المكان، فيكون معنى الآية لإيلاف الله تعالى قريشاً الرحلتين، فعلى هذ الوجه يكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 المصدر مضافا إلى المفعول، وعلى الوجه الأول يكون مضافاً إلى الفاعل، وأما تكرار إضافة المصدر في قوله تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ) فقيل: إن الثانى بدل من الأول، وقيل: إنه للتأكيد كما تقول: أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن ذل السؤال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 سورة الماعون * * * فإن قيل: كيف توعد الله الساهى عن الصلاة، والحديث ينفى مؤاخذته وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان "؟ قلنا: المراد بالسهو هنا التغافل عنها والتكاسل في أدائها وقلة الإلتفات إليها، وذلك فعل المنافقين أو الفسقة والشياطين من المسلمين، وليس المراد ما يتفق فيها من السهو بوسوسة الشيطان أو حديث النفس مما لا صنع للعبد فيه ولا اختيار، وهو المراد في الحديث، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته فضلا عن غيره، ولهذا قال تعالي: (عَنْ صَلَاتِهِمْ) ولم يقل في صلاتهم، وعن أنس رضى الله عنه أنه قال: الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 سورة الكوثر * * * فإن قيل: ما الكوثر؟ قلنا: فيه قولان: أحدهما: وهو قول ابن عباس رضى الله عنهما أنه الخير الكثير فوعل من الكثرة كقولهم: رجل نوفل: أي كثير النوافل. ومنه قول الشاعر: وأنت كثير يا ابن مروان طيب. . . وكان أبوك ابن العقائل كوثراً. قيل لأعرابية رجع ابنها من سفر: كيف آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر، ولقد أعطانى النبى صلى الله عليه وسلم خيراً كثيراً، فإنه آتاه الحكمة، ومن يوت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً، ومنهم من فسر هذا الخير الكثير بالنبوة، ومنهم من فسره بالعلم والحكمة، ومنهم من فسره بالقرآن، والقول الثانى: أن الكوثر (اسم) نهر فى الجنة، وهو قول أكثر المفسرين، وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكوثو نهر وعدنيه ربى في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتى يوم القيامة ". وعنه صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الصحيح أنه قال: " بينما أنا أسير في الجنة فإذا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف. فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فضرب الملك بيده فإذا طينه المسك الأذفر"، وروى عن صفته أنه أحلى من العسل، وأشد بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، حافتاه الزبرجد، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء، لا يظمأ من شرب منه أبداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 سورة الكافرون * * * فإن قيل: كيف قال الله تعالى: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) ولم يقل "من " مع أنه القياس؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما: أنه إنما قال «ما» رعاية للمقابلة في قوله تعالى: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) الثانى: أن "ما " مصدرية: أى لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتى، وقال الزمخشري: إنما قال: "ما " لأن المراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق. وقال غيره: "ما " في الكل بمعنى الذي، والعائد محذوف. * * * فإن قيل: ما فائدة التكرار؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما: أنه للتأكيد وقطع أطماعهم فيما طلبوه من، الثانى: أن الجملتين الأوليين لنفى العبادة في الحال، والجملتين الأخريين لنفى العبادة في الاستقبال فلا تكرار فيه، وهذا قول ثعلب والزجاج، والخطاب لجماعة علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، وقال الزمخشرى: ما يرد الوجه الثانى، وذلك أنه قال لا أعبد أريد به العبادة فيما يستقبل، لأن " لا " (لا تدخل إلا على المضارع فى معنى الاستقبال كما أن "لا ") لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال، فالجملتان الأوليان لنفى العبادة في المستقبل، والجملتان الأخريان لنفى العبادة في الماضي، فقوله: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) أي ما عهدتم من عبادة الأصنام في الجاهلية، فكيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 يرجى منى بعد الإسلام، وقوله: (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) أي ما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته، ويرد على قوله والجملتان الأخريان لنفى العبادة في الماضي أن اسم الفاعل المنون العامل عمل الفعل لا يكون إلا بمعنى الحال أو الاستقبأل وعابد هنا عامل فى " ما " وكذلك عابدون، وجوابه أنه على الحكاية كما قال تعالى: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) وأورد على هذا التقدير فقال: * * * فإن قيل: هلا قال تعالى: "ولا أنتم عابدون ما عبدت "، بلفظ الماضي، كما قال: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) ؟ قلنا: لأنهم كانوا يعبون الأصنام قبل بعثه، وهو ما كان يعبد الله تعالى قبل بعثه، بل بعد بعثه، ويرد على هذا التقدير: أن أعظم العبادة التوحيد، وكل الأنبياء كانوا موحدين بعقولهم قبل البعثة، وقال بعض العلماء: إنما جاء الكلام مكرراً لأنه ورد جوابا لسؤالهم العبادة مناوبة، وكان سؤالهم مكرراً، فإنهم قالوا: يا محمد تعبد ألهتنا كذا مدة ونعبد إلهك كذا مدة، ثم تعبد آلهتنا كذا مدة ونعبد إلهك كذا مدة، فورد الجواب مكررا ليطابق السؤال، وهذا وجه حسن لطيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 سورة النصر * * * فإن قيل: أي مناسبة بين الأمر بالاستغفار وبين ما قبله، فإن مجيء الفتح والنصر والظفر يناسب الشكر والحمد لا الاستغفار والتوبة؟ قلنا: قال ابن عباس رضى الله عنهما: لما نزلت هذه السورة علم النبى صلى الله عليه وسلم أنه قد نعيت إليه نفسه، وقال الحسن: أعلم النبى صلى الله عليه وسلم أنه قد اقترب أجله، فأمر بالتسبيح والتوبة ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر من قوله: سبحانك اللهم أغفر لي إنك أنت التواب، وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن هذه السورة تسمى سورة التوديع، وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها سنتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 سورة المسد * * * فإن قيل: كيف ذكره الله تعالى بكنيته دون اسمه، مع أن ذلك إكرام واحترام؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها: أنه يجوز أنه لم يعرف له اسم ولم يشتهر إلا بكنيته، فذكره بما أشتهر به لزيادة تشهيره بدعوة السوء عليه، الثانى: إنه نقل أنه كان اسمه عبد العزى، وهو كان عبد الله لا عبد العزى، فلو ذكره باسمه لكان خلاف الواقع، الثالث: إنه ذكره بكنيته (لموافقة حاله لكنيته) فإن مصيره إلى النار ذات اللهب، وإنما كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 سورة الإخلاص * * * فإن قيل: فالمشهور في كلام العرب أن الأحد يتسعمل بعد النفى، والواحد يتسعمل بعد الإثبات، يقال: في الدار واحد، وما في الدار أحد، وجاءنى واحد وما جاءنى أحد، ومنه قوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) وقوله تعالى: (الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) . (وَ لَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ) ، (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) ، (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ) ، (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) فكيف جاء هنا أحد في الإثبات؟ قلنا: قال ابن عباس رضى الله عنهما: لا فرق بين الواحد والأحد في المعنى، واختاره أبو عبيدة، ويؤيده قوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) وقولهم: أحد وعشرون وما أشبهه، وإذا كانا بمعنى واحد لا يختص أحدهما بمكان دون مكان، وإذ غلب استعمال أحدهما في النفى والأخر في الإثبات، ويجوز أن يكون العدول عن الغالب هنا رعاية لمقابلة الصمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 سورة الفلق * * * فإن قيل: قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) يتناول كل ما بعده، فما الفائدة في الإعادة؟ قلنا: خص شر هذه الثلاثة بالذكر تعظيماً لشرها، كما في عطف الخاص على العام تعظيما لشرفه وفضله، أو خصها بالذكر لخفاء شرها، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يشعر به، ولهذ قيل: شر الأعداء المداجى، وهو الذي يكيد الإنسان من حيث لا يعلم. * * * فإن قيل: كيف عرف سبحانه النفاثات ونكر ما قبلها وما بعدها؟ قلنا: لأن كل نفاثة لها شر وليس كل غاسق وهو الليل له شر، وكذا ليس كل حاسد له شر، بل رب حسود محمود وهو الحسد فى الخيرات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " لا حسد إلا في اثنتين .... الحديث "، وقال أبو تمام: وما حاسد في المكرمات بحاسد ................ وقال: ابن العلى حسن في مثلها الحسد ............ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 سورة الناس * * * فإن قيل: كيف خص الناس بالذكر في قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) وهو رب كل شيء؟ قلنا: إنما خصهم بالذكر تشريفاً لهم وتفضيلا على غيرهم، لأنهم أهل العقل والتمييز، الثانى: إنه لما أمر بالاستعاذة من شرهم ذكر مع ذلك أنه ربهم ليعلم أنه هو الذي يعيذ من شرهم، الثالث: إن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي هو إلههم ومعبودهم، كما يستغيث بعض العبيد إذ اعتراه خطب بسيده ومخدومه وولى أمره. * * * فإن قيل: هل قوله تعالى: (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان للذى يوسوس على أن الشيطان الموسوس ضربان جنى وإنسى كما قال تعالى: (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) أو بيان للناس الذي أضيفت الوسوسة إلى صدورهم، والناس المذكورة آخراً بمعنى الإنس؟ قلنا: قال بعض أئمة التفسير: المراد المعنى الأول، كأنه قال: من شر الوسواس الجنى، ومن شر الوسواس الإنسى، فهو إستعاذة بالله تعالى من شر الموسوسين من الجنسين، وهو اختيار الزجاج، وفى هذا الوجه إطلاق لفظ الخناس على الإنسى، والنقل أنه اسم للجنى. وقال بعضهم: المراد المعنى الثانى، كأنه قال: من شر الوسواس الجنى الذي يوسوس في صدور الناس جنهم وإنسهم، فسمى الجن ناساً كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 ساهم نفراً ورجالا في قوله تعالى: (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) وقوله تعالى: (يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) فهو استعاذة بالله من شر الوسواس الذي يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس، وهو اختيار الفراء، والمراد بالجنة هنا الشياطين من الجن على الوجه الأول، ومطلق (الجن) على الوجه الثانى، لأن الشيطان منهم هو الذي يوسوس لا غيره، ومطلقهم يوسوس إليه، واختار الزمخشري الوجه الأول، وقال: ما أحق أن اسم الناس ينطلق على الجن، لأن الجن سموا جناً لاجتنانهم: أي لاستتارهم، والناس سموا ناساً لظهورهم من الإيناس وهو الإبصار. كما سموا بشراً لظهورهم من البشرة، ولو صح هذا الإطلاق لم يكن هذا المجمل مناسباً لفصاحة القرآن، قال: وأجود منه أن يراد بالناس الأول الناسى كقوله تعالى: (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) . وكما قرئ: (مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) ثم بين بالجنة والناس، لأن الثقلن هما الجنسان الموصوفان بنسيان حقوق الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603