الكتاب: أهداف التربية الإسلامية المؤلف: د ماجد عرسان الكيلاني الأردني الناشر: دار القلم الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- أهداف التربية الإسلامية ماجد عرسان الكيلاني الكتاب: أهداف التربية الإسلامية المؤلف: د ماجد عرسان الكيلاني الأردني الناشر: دار القلم الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] محتويات الكتاب : الصفحة الموضوع 5 فهرس المحتويات الباب الأول: أهمية البحث في أهداف التربية الإسلامية. 11 الفصل الأول: دور الأهداف في العملية التربوية 18 الفصل الثاني: أزمة التربية الحديثة في ميدان الأهداف التربوية 29 الفصل الثالث: حاجة النظم والمؤسسات التربوية في الأقطار العربية والإسلامية إلى أهداف تربوية إسلامية الباب الثاني: تربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح. 44 الفصل الرابع، معنى "العمل الصالح" في التربية الإسلامية 52 الفصل الخامس، عناصر الإنسان الصالح المولدة لـ"العمل الصالح" 57 الفصل السادس، إحكام تربية القدرات العقلية "وظيفة العقل" 95 الفصل السابع، تربية الفرد على تعشق المثل الأعلى 104 الفصل الثامن، تنمية الخبرات الدينية والاجتماعية والكونية عند الفرد 122 الفصل التاسع، تربية الإرادة عند الفرد 137 الفصل العاشر، إحكام تنمية القدرة التسخيرية 150 الفصل الحادي عشر، إحكام توازن الإرادة العازمة والقدرة التسخيرية في تربية الفرد 154 الفصل الثاني عشر، مشكلة تربية الفرد في أهداف التربية الحديثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 167 الفصل الثالث عشر، أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية الباب الثالث: إخراج الأمة المسلمة. 179 الفصل الرابع عشر، مفهوم الأمة المسلمة 187 الفصل الخامس عشر، بدء ظاهرة الأمة المسلمة 201 الفصل السادس عشر، أهمية إخراج الأمة المسلمة الباب الرابع: مكونات الأمة المسلمة. 213 الفصل السابع عشر، العنصر الأول: عنصر الأفراد المؤمنون 213 أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة 221 ثانيا: "الهوية" و"الجنسية" و"الثقافة" الإيمانية في العالم المعاصر 226 ثالثا: دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين وتنمية تطبيقات الإيمان في "الهوية" و"الجنسية" و"الثقافة" 234 الفصل الثامن عشر، العنصر الثاني: الهجرة والمهجر 234 1- معنى الهجرة 239 2- أهمية الهجرة 243 3- دور التربية في بلورة عنصر الهجرة 247 الفصل التاسع عشر، العنصر الثالث: الجهاد والرسالة 247 1- معنى الجهاد 249 2- مظاهر الجهاد 256 3- معنى الرسالة 260 4- أهمية الرسالة في وجود الأمة 262 5- دور التربية في تعزيز الرسالة 266 الفصل العشرون، العنصر الرابع: الإيواء 266 1- معنى الإيواء 268 2- مظاهر الإيواء 299 3- أهمية الإيواء 301 4- مسئولية التربية إزاء عنصر الإيواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 306 الفصل الحادي والعشرون، العنصر الخامس: النصرة 306 1- معنى النصرة 308 2- مظاهر النصرة 337 3- أهيمة النصرة 339 4- التربية ورباط النصرة 341 الفصل الثاني والعشرون، العنصر السادس: الولاية والولاء 341 1- معنى الولاية 345 2- درجات الولاية الإيمانية 347 3- درجات ولاية غير المؤمنين 351 4- التربية ورباط الولاية 353 الفصل الثالث والعشرون، عناصر الأمة المسلمة ونظرية الحاجات في علم النفس الحديث 353 1- سلم الحاجات بين الأصول الإسلامية، وعلم النفس الإنساني 363 2- سلم الحاجات بين التطبيقات الإسلامية والتطبيقات التي يوجه إليها علم النفس الحديث الباب الخامس: صحة الأمة ومرضها وموتها. 374 الفصل الرابع والعشرون، المرحلة الأولى: مرحلة صحة الأمة وعافيتها "مرحلة الدوران في فلك الأفكار" 381 الفصل الخامس والعشرون، المرحلة الثانية: مرحلة مرض الأمة "مرحلة الدروان في فلك الأشخاص" 382 الطور الأول: طور الولاء للقوم 396 الطور الثاني: طور الولاء للعشيرة أو الطائفة أو الإقليم 403 الطور الثالث: طور الولاء للأسرة 407 الطور الرابع: طور ولاء الفرد لنفسه 412 الفصل السادس والعشرون، المرحلة الثالثة: مرحلة وفاة الأمة "مرحلة الدوران في فلك الأشياء" 436 الفصل السابع والعشرون، مصير الأمة المتوفاة 448 الفصل الثامن والعشرون، ملاحظات حول الأمة 448 أ- ملاحظات حول "مفهوم" الأمة المسلمة في القرآن الكريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 452 ب- ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لـ"مفهوم" الأمة المسلمة وعناصرها في الماضي 459 ج- ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لـ"مفهوم" الأمة المسلمة وعناصرها في الحاضر 462 د- ملاحظات حول مراحل صحة الأمة ومرضها ووفاتها 467 الفصل التاسع والعشرون، مشكلة التناقض بين "إعداد الفرد" و"إخراج الأمة" في أهداف التربية الحديثة الباب السادس: تنمية الإيمان بوحدة البشرية، والتآلف بين بني الإنسان 485 الفصل الثلاثون، ضرورة التآلف الإنساني كهدف من أهداف التربية المعاصرة 489 الفصل الحادي والثلاثون، الوحدة الإنسانية ومفاهيم التربية الدولية المعاصرة 505 الفصل الثاني والثلاثون، التربية الإسلامية ووحدة الجنس البشري 518 الفصل الثالث والثلاثون، التناقضات القائمة بين "مفاهيم التربية العالمية الإسلامية" والتطبيقات الإقليمية الجارية في العالم الإسلامي 527 الفصل الرابع والثلاثون، توصيات 551 المصادر والدراسات، أ- المصادر والدراسات العربية 553 ب- المصادر الأجنبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الباب الأول: مقدمة أهمية البحث في أهداف التربية الإسلامية مدخل ... الباب الأول: مقدمة أهمية البحث في أهداف التربية الإسلامية البحث في أهداف التربية الإسلامية أمر هام وضروري لأسباب: الأول، دور الأهداف ومكانتها في العملية التربوية كلها. والثاني، هو الأزمة التي تعاني منها التربية المعاصرة في ميدان الأهداف، واحتدام الخلافات حولها طبقا لاختلاف الفلسفات التربوية والمصالح المادية، والغايات العرقية والطبقية. والثالث، هو عدم وضوح الأهداف في المؤسسات التربوية القائمة في العالم العربي والإسلامي المعاصر. وفيما يلي تفصيل هذه الأسباب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الفصل الأول: دور الأهداف في العملية التربوية : التربية عملية هادفة مقصودة لا بد من تحديد أهدافها وإلا سارت بغير وعي ولا إرشاد. وتنقسم الأهداف التربوية إلى قسمين رئيسين: "الأهداف الأغراض" أي تشتمل على الأغراض والمقاصد النهائية التي يراد من التربية إنجازها، وتحقيقها على المستويات الفردية والاجتماعية والعالمية. و"الأهداف الوسائل" أي التي تشتمل على الوسائل، والأدوات الفعالة لتحقيق -الأهداف الأغراض. ولا غنى لأي من القسمين عن الآخر. فـ"الأهداف الأغراض" دون وسائل نوع من الأمنيات البعيدة المنال، والتطلعات المعوقة للإنجاز. و"الأهداف الوسائل" دون أغراض تنقصها الدوافع المحركة والغايات الموجهة. فمثلا تعليم درس من التاريخ هو هدف من -الأهداف الوسائل- التي توصل إلى هدف نهائي من -الأهداف الأغراض- وهو الكشف عن قوانين الله في الاجتماع البشري. والاتفاق في التربية الحديثة قائم حول -الأهداف الوسائل- ولكنه غير قائم حول -الأهداف الأغراض. إذ هناك من ينكر -الأهداف الأغراض- ويعتبر الحديث عنها معوقًا لعمليات النمو والتقدم ومعطلا للكشف والابتكار، بينما هناك من يصر على بلورة -الأهداف الأغراض- لأن التقدم ليس هو الخير الوحيد، وإنما هو وسيلة لهدف نهائي يتلوه وهو السعادة أو الرضا. ولكن هؤلاء أيضًا لا يلبثون أن يختلفوا حول محتوى السعادة والرضا وحول مكونات أي منهما والحياة التي تعكسها ثم يبدأون الدوران في حلقة مفرغة من الجدال والاختلافات الفلسفية، حتى إذا تعبوا من الجدال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والدوران اصطلحوا على وصف -الأهداف الأغراض- بأنها أهداف نسبية متغيرة1. وهذه مشكلة لا توجد في التربية الإسلامية. فالأهداف في التربية الإسلامية هي أيضا حلقات في سلسلة متدرجة من الأهداف الوسائل، والأهداف الغايات. ولكنه تدرج متناسق كل هدف يفضي إلى الهدف الذي يليه، ويرتبط به روحا ومنطقا حتى ينتهي التدرج بـ"الأهداف الأغراض". ولتوضيح هذا نأخذ عنية من الأهداف المتولدة من -علاقة التسخير: أي علاقة الإنسان بالكون التي استعرضناها في فلسفة التربية الإسلامية في الكتاب الأول من هذه السلسلة. هناك بعض الآيات التي تضمنت نماذج من هذه الأهداف منها: - {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية: 12] . - {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14] . فنحن هنا أمام سلسلة متدرجة متناسقة من أهداف التسخير، وكل حلقة في هذه السلسلة هي وسيلة إلى ما بعدها، حتى تبلغ الحلقة الأخيرة التي تشكل الغاية والمقصد النهائي. فـ"جريان الفلك" هدف لـ"تسخير البحر". وهذا التسخير هو وسيلة لتحقيق هدف يليه هو "الابتغاء من فضل الله"، وهذا الهدف الثاني وسيلة لتحقيق الهدف النهائي وهو "شكر الناس لله".   1 فيليب فينكس، فلسفة التربية، ترجمة الدكتور محمد لبيب النجيحي "القاهرة: دار النهضة العربية، 1982" ص827-838. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ومثله حلقة الأهداف المتضمنة في الآية الثانية. فـ"أكل اللحم الطري" "واستخراج الحلية للبس" هما هدفان لـ "تسخير البحر"، وهما أيضًا وسيلة لتحقيق الهدف النهائي وهو "شكر الله". وهكذا في جميع الأهداف التي تنبثق من مختلف مكونات -فلسفة التربية الإسلامية. فهي مهما تفرغت وتعددت فإنها تنتهي إلى هدف نهائي واحد هو "شكر الله وعبادته أي محبته وطاعته". وبسبب هذه الوحدة في الهدف التربوي النهائي كان وصف محور العقيدة الإسلامية بالتوحيد. إن المشكلة القائمة في التربية المعاصرة أنها تقف في أهدافها -مثلًا- عند "جريان الفلك" و"أكل اللحم الطري" و"استخراج الحلية" ولا تتعداها إلى أمثال "شكر الله" و"الإيقان بالله" و"الحمد لله". فهي في حقيقتها وسائل بلا غايات، ولذلك تتعدد المقاصد وتتصادم، وتختلف الآراء والفلسفات وتتناقض. إن التدرج في الأهداف وانقسامها إلى -الأهداف الأغراض- والأهداف الوسائل- جعل البعض يفرق بينهما في الاسم في ميدان الممارسات التربوية فيطلق على النوع الأول اسم -الأهداف التربوية- بينما يطلق على النوع الثاني اسم -الأهداف التعليمية. فالأهداف التربوية هي تلك التغييرات التي يراد حصولها في سلوك الإنسان الفرد، وفي ممارسات واتجاهات المجتمع المحلي أو المجتمعات الإنسانية، فهي تصف الصفات العقلية والنفسية والشخصية التي يتمتع بها الفرد المثقف تثقيفًا عاليًا، وهي تصف أيضا الاتجاهات والخصائص الاجتماعية التي يتصف بها المجتمع الراقي المتحضر. وهذه الأهداف هي الثمرات النهائية للعملية التربوية كما قلنا. وأهمية هذه الأهداف أنها تحدد مسارات الأنشطة التربوية وتحدد الوسائل والأدوات اللازمة للتنفيذ والتقويم. وهي تشتق مباشرة من -فلسفة التربية- وتنبثق عنها انبثاق الثمرة من البذرة كما ذكر في الكتاب الأول من هذه السلسلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وهذه الأهداف سابقة على المنهاج التعليمي، وهي توجهه وتحدد بنيته وطبيعته وطرائق ووسائل تنفيذه. أما -الأهداف التعليمية- فهي نتائج موقف تعليمي معين، أي هي المهارات المحددة التي يراد تنميتها من خلال تعليم خبرة دراسة معينة أو محتوى معين من المنهاج. ولذلك تميز الدراسات الغربية بين النوعين من الأهداف فتطلق على الأهداف التربوية اسم Educational Aims وبعضهم يطلق عليها Educational Goals، بينما يطلق على الأهداف التعليمية اسم Learning Objective أو Teaching Objective. والأهداف التربوية توجه الأهداف التعليمية، وتمنحها الشرعية اللازمة بينما تعمل الأهداف التعليمية على تجسيد الغايات التي تتضمنها الأهداف التربوية في ممارسات عملية1. وفي الشكل التالي -رقم1- تصوير لهذه العلاقة المتبادلة بين النوعين من الأهداف:   1 لعل هذا التمييز بين الأهداف التربوية والأهداف التعليمية أم ضروري لسببين: الأول، إن عدم التناسق بين النوعين هو أحد مظاهر الأزمة القائمة في التربية الحديثة. ولذلك حين يضجر البعض أمام تعقيد هذه المشكلة، فإنه يدعو بانفعال إلى طرح الأهداف التربوية بعيدا والاكتفاء بالأهداف التعليمية تحت عنوان -الأهداف السلوكية المحددة. والسبب الثاني، هو أن العلاقة والتمييز بين النوعين من الأهداف غير واضحين عند الكثيرين من الباحثين والمختصين في ميدان التربية خاصة، وإنه ليس هناك -في اللغة العربية- تمييز واضح بينهم في الاسم كما هو الشأن في اللغة الإنجليزية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ويجب أن نلاحظ أن -شبكة العلاقات التربوية- المشار إليها في "الشكل 3" تتفاعل مع إطار أوسع، ويؤثر في العملية التربوية بشكل أكبر. ويتألف هذا الإطار من المؤسسة التربوية، والبيئة الصفية "الممارسات الجماعية"، ومدخلات المدرسة "الهيئة العاملة بها"، ومدخلات المجتمع "أي الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للطلاب"، وميزانية التعليم، وبرامجه، وطول السنة الدراسية، والتنظيم المدرسي، وحجم المدرسة، والبناء المدرسي، ومتطلبات الدوام، وطريقة اتخاذ القرارات، وخصائص الأساتذة والطلبة، وطريقة التفاعل بينهما. كل هذه العوامل التي يتألف منها الإطار الأوسع الذي أشرنا إليه يمكن أن تخدم كأمور مساعدة لتحقيق الأهداف التربوية، أو إعاقة تحقيقها1. خصائص الأهداف التربوية: يجب أن تتصف الأهداف التربوية ببعض الخصائص الجوهرية، وهي: 1- أن تكون الأهداف التربوية متفقة مع الطبيعة الإنسانية مراعية لحاجاتها قابلة لإطلاق قدراتها الإبداعية. 2- أن تحدد أهداف التربية العلاقة بين الفرد والمجتمع ثم بينه وبين التراث الاجتماعي من عقائد، وقيم وعادات وتقاليد ومشكلات. 3- أن تلبي هذه الأهداف حاجات المجتمع الحاضرة وتعالج مشكلاته. 4- أن تكون مرنة قابلة للتغير حسب ما يتطلبه التطور الجاري والمعارف المتجددة. 5- أن ترشد الأهداف العاملين في التربية إلى ما يجب أن يعملوه، وأن   1 The ASCD Committee on Research and A Theory. Measuring and Attaining the Goals of Education. 1980. PP. 4-9 ASCD - The Association for Supervision and Curriculum Development in the U.S.A. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تساعدهم على تحديد الطرق اللازمة في التربية والتعليم، والأدوات اللازمة لقياس نتائج العملية التربوية وتقويمها. 6- أن توضع هذه الأهداف نوع المعارف والمهارات، والمواقف، والاتجاهات والعادات التي يراد تنميتها في شخصية المتعلم1. 7- أن تكون هذه الأهداف شاملة متكاملة في ضوء العلاقات، التي تحدد نشأة الإنسان ومصيره وعلاقاتها بالكون، والإنسان والحياة من حوله.   1 Rodman B.Web, Schooling and Society, "New york: Macmillan Publishing co., Inc, 1981" PP. 112-113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الفصل الثاني: أزمة التربية الحديثة في ميدان الأهداف التربوية تعاني التربية الحديثة من أزمة معينة في ميدان الأهداف التربوية. وهي أزمة نابعة من الأصل التربوي الذي يسبق الأهداف في دورة العملية التربوية -أي أزمة فلسفة التربية- التي استعرضنا مظاهرها في كتاب -فلسفة التربية الإسلامية. وتتمركز مظاهر أزمة الأهداف التربوية في أمور عديدة هي: مشكلة ماهية الأهداف الأساسية للتربية، ومشكلة أهداف تربية الفرد، ومشكلة التناقض بين أهداف تربية الفرد والأهداف الاجتماعية -الاقتصادية، ومشكلة التناقض بين أهداف تربية الفرد والأهداف المتعلقة بالفضائل الأخلاقية. ولكن الحديث في هذا الفصل سوف يقتصر على المشكلة الأولى دون المشكلات الأخرى، التي ستناقش في مواقعها من هذا البحث. فما زال الجدال يدور بشدة حول ماهية أهداف التربية وتصنيفها. ويتخذ هذا الجدل مظاهر ثلاثة: الأول: ما هي الأهداف التربوية التي يجب تحديدها؟ والثاني: هل تتصل هذه الأهداف بغايات الحياة الرئيسية أم يجب الاقتصار على بلورة أهداف سلوكية عملية تنحصر في موضوع دراسي محدد أو موقف تعليمي محدد؟ والثالث: هل هذه الأهداف ضرورية للتربية أم هي غير ضرورية أصلًا؟ أما عن تفاصيل المظهر الأول، فلقد كان الاعتقاد في الماضي بوجوب جعل الأهداف الأساسية للتربية هو الحصول على المعرفة من أجل المعرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 بعيدا عن منافعها العملية في الميادين المهنية، وما زال عدد كبير من المربين والأساتذة يؤمنون بهذا الرأي ويدعون إليه. والواقع أن "المعرفة من أجل المعرفة" كان هدفًا مقدسًا منذ أيام أرسطو واستمر بمجيء المسيحية التي أضفت على هذا الهداف طابعا دينيا، ثم استمر على يد أمثال الفيلسوف هيجل والمدرسة المثالية. ثم جاء -جون ديوي- الذي نشأ في بيئة دينية وبدأ من أنصار الفلسفة المثالية، ولكن اضطراب عقيدته الدينية -بسبب التناقض والانشقاق بين المسيحية، والعلم خاصة بعد ظهور الدارونية- أي به إلى التخلي على عقائده الدينية، وعن الفلسفة المثالية ثم تبني فلسفة نفعية "براجماتية" تركز اهتمامها في الوجود المحسوس، والتمتع بخيراته المحسوسة. وكان لهذا التطور العقائدي أثره في الفكر التربوي عند ديوي، فأفرغ قوالب الفلسفة المثالية، والعقائد المسيحية من محتوياتها ثم ملأها بمحتويات مشتقة من عقائده الجديدة. فهو -أولًا- أبقى على اقتران الفلسفة بأهداف التربية -كما فعل المثاليون. كذلك أبقى على الهداف التربوي الذي تتبناه الفلسفة المثالية وتتمحور نشاطاتها التربوية حوله وهو تحقيق الذات -realisation Self والذي يعني استمرار رقي الضمير الإنساني. ولكن ديوي غير اسم هذا الهدف وأطلق عليه مصطلح -النمو Growth- وجعل محتواه استمرار نمو عقل الفرد بدون انقطاع، بل إن التربية -عند ديوي- صارت تعني النمو، وإن هذا النمو هو هدف في حد ذاته. ثم فسر هذا النمو تفسيرًا يتفق مع الدارونية التي تأثر بها تأثرا شديدًا واستمد منها مفهوم -التطور- وعزز بها مفاهيم النمو التي لونت كتاباته التربوية المختلفة، كذلك كانت التربية -عند المثالية والمسيحية- تعني الترقي العقلي لمعرفة الإله، فبتر ديوي هذا الترقي العقلي عن معرفة الإله، وجعله وحده هدفا في حد ذاته. كذلك طور -ديوي- مفهوم المثالية عن الذكاء، وجعله مفهوم -حل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 المشكلات1. وأخيرًا جعل ديوي الهدف الأخير لكل هذه الأهداف هو التركيز على الإنتاج وتمجيد العمل، وتركيز النشاط في الحياة المحسوسة. وبالرغم من النجاح الذي حققه ديوي خاصة الحماس الذي حققته آراؤه حول العمل ومنهج النشاط إلا أن أشكالا من النقد والمعارضة بدأت تتصاعد بوجه هذه الآراء وتطبيقاتها. ومن ذلك ما قام به -ألسدير ماكنتاير- عام 1964 حيث قدم بحثه حول أهداف التربية بعنوان: "ضد الفلسفة البراجماتية" وفي هذا البحث فند -ماكنتاير- آراء ديوي وخطورة حصر الأهداف التربوية في الوسائل دون الغايابت، وأخذ على ديوي اقتصار التربية عنده على الإعداد للوظيفة، وزيادة الإنتاج الصناعي، وزيادة استهلاك المنتجات، والخدمات التي ستضاعف الإنتاج وهكذا. وأضاف أن التربية حين تقتصر على الوسائل دون الغايات العليا للحياة، فإنها تفرز مجتمعا عديم العقل مجردا من الإنسانية. وانطلاقا من هذا النقد لخص -ماكنتاير- أهداف التربية -كما يراها- فلخصها في مساعدة الفرد على اكتشاف قدراته المعرفية والعقلية مع ملاحظة امتداد هذه المعرفة الناقدة لتشمل الفن والعلم والفلسفة، وعدم اقتصارها على الخبرات النظرية الضيقة. ومع إن آراء -ماكنتاير- هذه وجدت صدى واسعا إلا أنه فشل في بلورة آرائه حين خلط بين نظريتين الأولى تدعو إلى عدم اقتصار التربية على تطوير "الأهداف الوسائل"، بل تعمل على تطوير أهداف جديدة يكون من ثمرتها تنشئة الطلبة على مساعدة بعضهم بعضًا لتحقيق أهداف نبيلة سامية. بينما تتناقض النظرية الثانية مع الأولى حين تدعو إلى أن تركز التربية على تدريب الطلبة على الأنشطة العملية المنتجة للوسائل دون مراعاة لانتفاع الآخرين من هذه الأنشطة، أو تضررهم2.   1 John White, The Aims of Education, "London: Routledge & Kegan Paul, 1982" PP. 9-22. 2 Ibid, PP. 14-16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ثم تصاعد الخلاف وتفرع حول ماهية الأهداف التربوية، وما يجب أن تكون عليه هذه الأهداف. ولقد استعرض -رونالد كوروين- Ronald Corwin- تفاصيل هذا الخلاف فذكر أن بعض علماء التربية والاجتماع وأولياء الأمور والسياسيين، يرون أن أهداف التربية هي مجرد التحصيل الذهني. ويرى آخرون أن التربية يجب أن تركز على الارتباط بين فاعلية التربية والنجاح الوظيفي. ويرى فريق ثالث أن هدف التربية الرئيسي هو التأثير في تصور الطالب عن نفسه، وتقديره لذاته والثقة بها، واكتشاف قدراته العقلية. ويرى فريق رابع أن الوظيفة الرئيسية للتربية هي تطوير اتجاهات سياسية سليمة ومواطنة صالحة، وتدريب الناشئة على حسن استغلال أوقات الفراغ والترويح عن النفس. ويرى فريق خامس أن وظيفة التربية هي تطوير قيم واتجاهات حسنة مثل: استقلال الشخصية، والدقة في العمل، وضبط النفس، والتقيد بالقوانين العامة، والتكيف مع متطلبات التغير التكنولوجي، والبراجماتية النفعية، وكل ما يؤدي إلى النجاح1. ويدور المظهر الثاني للخلاف في ميدان أهداف التربية حول ضرورة اتصال الأهداف التربوية بالغايات الرئيسية للحياة، أم تكون أهدافا سلوكية عملية تنحصر في موضوع دراسي محدد، أو موقف تعليمي خاص؟ والخلاف حول هذا الموضوع ما زال قائمًا حتى الوقت الحاضر. ففريق يعترض على الأهداف العامة Aims مثل: النمو، والسعادة، وصالح المجتمع؛ لأنها -حسب رأي هذا الفريق- صيغ عامة غائمة لا ترشد إلى ما يجب عمله في المواقف العملية. ولذلك من الأفضل أن يحل محلها أهداف تعليمية سلوكية Objective يمكن تحديدها وقياسها. كأن يحدد ما يجب أن يتعلمه الطالب ويعمله في درس اللغة. ولقد كان لهذا الرأي أثره في التطبيقات التربوية الحديثة. وما تصنيف الأهداف الذي أعده -بلوم Bloom- وزملاؤه إلا تطبيق لهذا الاتجاه.   1 Ronald G. Corwin. Education in Crisis, "New york: John Wiley & Sons Inc. 1974" P. 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 والاعتراض الذي ثار أمام هذا الرأي هو أن الأهداف السلوكية Objectives لا تغني عن -الأهداف التربوية العامة- Aims؛ لأن الأهداف السلوكية مقاييس صغيرة تحتاج إلى تبرير منطقي حتى لا تبدو عشوائية مفروضة دون وعي ولا فهم. وهذا التبرير العقلاني لا يتم إلا من خلال الأهداف التربوية العامة. وأما عن الاتجاه الثالث الذي لا يرى ضرورة للأهداف التربوية، فقد تباينت آراؤه كذلك. فأناس يرون الاقتصار على ترسيخ الآداب العامة وأشكال السلوك العام أكثر من الأهداف التربوية، ويقدمون أمثلة للآداب العامة المقترحة مثل: تنمية احترام العقلانية، وحب الخير، والتسامح. ويضيفون أن هذه ليست مهارات تمارس، وإنما هي قيم يستطيع المعلم أن يغرسها في تلاميذه من خلال طرائقه، وأساليبه المستعملة. وأناس آخرون من أمثال -برسي ت. نون Percy T. Nunn- لا يرون داعيا للأهداف التربوية مطلقا؛ لأنه يساء فهمها ويختلف في تفسيرها طبقا لاختلاف الأفراد إزاء المثل العليا للحياة. فالهدف الذي ينص على وجوب: "إعداد الفرد للحياة الكاملة" قد يكون نافعا من وجهة نظر الشخص "أ" وضارا سخيفا من وجهة نظر الشخص "ب". ولذلك يجب أن تعمل التربية على مساعدة كل فرد على انفراد ليطور أهدافه الخاصة التي تساعده على النمو. وانطلاقًا من هذا الرأي ظهرت الآراء التي تدعو إلى عدم التدخل في نمو الطفل والاكتفاء بتوفير البيئة المناسبة له لينمو نموا مستقلا. ولكن يعترض البعض على هذا الاتجاه بالقول أن المعلم لا يستطيع أن يؤثر في الطلبة ويغرس بهم احترام العقلانية، والخير وما شابه ذلك إلا إذا كان واعيا بالأهداف التربوية العامة، التي يحتاج أن يتمثلها في سلوكه وطرائقه1.   1 John White, OP. Cit, PP.6-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ولو نظرنا في كل من الاتجاهات الثلاثة التي مرت لوجدنا أن جوهر الخلاف حول تحديد الأهداف يتركز في أمور ثلاثة هي: الأول، إن الصعوبة الشديدة في الاتفاق على أهداف عامة للتربية سببها عدم الاتفاق على -فلسفة تربوية- محددة تنبثق منها أهداف محددة كذلك. فإذا لم تحدد فلسفة التربية لا يمكن استنباط الأهداف. وفلسفة التربية تحتاج أن تنبثق من فلفسة كلية للحياة، والإنسان، والكون، والمنشأ، والمصير. وهنا تكمن أزمة التربية الحديثة التي ناقشنا بعض مظاهرها في الكتاب الأول من هذه السلسلة -كتاب فلسفة التربية الإسلامية. والأمر الثاني، إن الذين يرون عدم الاشتغال بتحديد أهداف التربية هم أناس سئموا الخلاف المزمن حول هذا الموضوع وسئموا من عقم البحث فيه. والذين يصرون على استمرار البحث فيه هم أناس ترعبهم نتائج العملية التربوية في ميادين الحياة الاجتماعية، والعلاقات الإنسانية، وما يرونه من إخراج التربية الحديثة لنماذج إنسانية آلية لا أهداف عليا لها في الحياة إلا الإنتاج والاستهلاك، أو نماذج إنسانية منقسمة على أنفسها، أو مغتربة من الحياة كلها. والأمر الثالث، إن الذين يدعون إلى الاكتفاء بتحديد أهداف سلوكية عملية مشتقة بشكل مباشر عن موضوعات التعليم -كأن تكون هناك أهداف للحساب، وأخرى للجبر، وأخرى للجغرافية وهكذا- هم أناس سئموا عدم التوصل إلى تحقيق الانسجام بين الأهداف التربوية العامة، والأهداف التعليمية الخاصة. والذين يصرون على عدم الاكتفاء بالأهداف التعليمية الخاصة "السلوكية" هم أناس يضيقون بهذا النوع من الأهداف، التي تحصر الإنسان في اتقان مهارات العمل، والإنتاج ولا تتسع للقيم العليا، والتطلعات الإنسانية الرفيعة. فالمشكلة إذن هي كيفية صياغة كل من الأهداف التربوية العامة، والأهداف العليمية السلوكية بطريقة تحقق التوافق المنطقي بينهما لتشكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 جميعها قائمة الأهداف التي تبدأ بالفرد، وتنتهي بالإنسانية وتتسع لتشمل المهارات العملية والأخلاق الفردية، ولا تضيق بالأخلاق الاجماعية والقيم والتطلعات العليا للإنسان. وإبراز مثل هذه الأهداف يحتاج إلى أصول محددة تتمثل في فلسفة تربوية شاملة واضحة، تنبثق عن فلسفة كلية للإنسان والكون، والحياة والمنشأ والمصير. إن عجز التربية الحديثة عن توفير هذه الأصول والمقومات جعل -جون وايت- يقول: إن فلاسفة التربية منذ قرون يعملون للوصول إلى تعريف محدد شامل للتربية وأهدافها. ولكنهم لم يصلوا بعد إلى شيء. والسبب أن البحث في تحديد -معنى التربية- يتضمن كذلك البحث في أهدافها، والبحث في أهداف التربية يتضمن البحث في معناها1. وبسبب هذا الخلاف حول تحديد الأهداف التربوية، وتصنيفها تنوعت هذه الأهداف إلى ما لا نهاية من الآراء. فهناك من يقول: إن أهداف التربية يجب أن تتركز حول نمو الفرد معرفيًّا وعقليًّا. بينما يرى آخرون أن أهداف التربية يجب أن تركز على مساعدة المتعلم على تطوير قدراته إلى أقصى مدى. وفريق ثالث يرى أن الهدف الرئيسي للتربية هو إيجاد التوازن في شخصية المتعلم، وفريق رابع يرى أن التربية يجب أن تهدف إلى تحقيق التوازن بين المعارف النظرية والتطبيقات العملية، بين الفنون والآداب وبين العلوم، ويرى فريق خامس التركيز على التفوق في ميادين التخصص. ويرى آخرون أن الأهداف هي تلبية حاجات المجتمع من خلال إيجاد طبقة عاملة مدربة تتمتع بمستوى مناسب من التعليم، أو من خلال توفير الجو الملائم للديموقراطية أو الفن أو الثقافة والأخلاق وهكذا2.   1 John White, OP.Cit, PP. 4-5. 2 Ibid, PP. 1-3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وحينما شرعت -لجنة الإشراف وتطوير المناهج- عام 1980 في تطوير أهداف تربوية تكون أساسًا للتربية في الولايات المتحدة الأميركية واجهت نفس المشكلة -مشكلة تحديد أهداف التربية العامة. ولقد لخصت اللجنة العقبات التي واجهتها في هذا الشأن في التقرير الذي أنجزته بالقول: "ما هي أنماط السلوك العقلي، والاجتماعي والشخصي المرغوبة في الأفراد الذين يجتازون مراحل العملية التربوية بنجاح منذ مرحلة رياض الأطفال، حتى نهاية العام الدراسي الثاني عشر؟ ما هي ثمرات التعلم ذي القيمة التي لها طابع إنساني؟ هل إن بعض أهداف التربية التي ترغب الأنظمة المدرسية في تحقيقها تتناقض فطريا مع مبادئ التربية الإنسانية؟ كيف نحدد ما هو إنساني، وما هو غير إنساني من أهداف التربية؟ هل تتصف أية قائمة أهداف تربوية بالشمول والطابع الإنساني؟ هذه هي الأسئلة التي شكلت المثيرات التي دفعتنا، ووجهتنا للعمل عندما بدأنا في تحديد التعلم ذي القيمة الذي يعكس الطبيعة الإنسانية النبيلة في أبعادها العقلية، والعاطفية، والجسدية". وتمضي اللجنة لتقول: إنها تصلت بجميع المؤسسات التعليمية والمعاهد التربوية وطلبت الأهداف التربوية المعتمدة من قبلها، ثم اتصلت بالأفراد، والهيئات المختصة والمهتمة بالبحث في الأهداف، وبدوائر القياس والتقويم وتطوير المناهج، وكانت نتيجة هذه الاتصالات أن تجمع لدى اللجنة كمية هائلة من قوائم الأهداف التربوية، ثم قامت بدراستها وتحليلها، وخلصت إلى النتائج التالية: 1- تكرار كثير من الأهداف عند المؤسسات والهيئات. 2- تركزت الأهداف على الجوانب العقلية وحدها. 3- إن الإشارات التي وردت عن التربية الإنسانية لم تتعد التعميمات الفضفاضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 4- لم تتصف الأهداف المدونة بالتكامل العقلي، والعاطفي، والنفسي. 5- ركز غالب القوائم على أهداف سياسية يصعب قياسها. وأخيرا -تذكر اللجنة: "إن أكثر هذه القوائم أثرا في عملنا هي قائمة بنسلفانيا -التي اتخذناها أساسا لعملنا الذي اشتققنا منه قائمة أهدافنا"1. لقد ركزت -أهداف التربية- في عشرة أهداف عامة، ثم أدرجت تحت كل هدف العناصر الفرعية التي رأت أن هذا الهدف يتكون منها. ولعل الأمانة العلمية تقتضي إيراد القائمة حرفيا، كما وضعتها اللجنة، ولكن طولها يجعل من المناسب الاكتفاء بتقديم الأهداف العشرة الرئيسية دون إخلال بالصورة الواقعية لهذه الأهداف. تتلخص أهداف التربية التي تضمنتها قائمة لجنة البحث، والتنظير المشار إليها بالأهداف العشرة الرئيسية التالية: الهدف الأول: المهارات الأساسية. الهدف الثاني: تحديد مفهوم ذات الفرد. الهدف الثالث: فهم الآخرين. الهدف الرابع: استعمال المعلومات المتجمعة لتفسير ما يجري في العالم. الهدف الخامس: التعلم المستمر. الهدف السادس: السعادة العقلية والنفسية. الهدف السابع: المشاركة في عالم الاقتصاد. الهدف الثامن: العضوية الاجتماعية المسئولة.   1 The ASCD Commitee on Research and Theory, OP. Cit,PP. 4-5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الهدف التاسع: الإبداع. الهدف العاشر: التعايش مع التطور. وقبل المضي في تحليل قائمة الأهداف المذكورة أود أن أشيد بروح المثابرة، والجد التي تتصف بها الهيئات التربوية العاملة في أمريكا، وأوربا وأن أغبط المختصين على الروح الجماعية، والشعف العلمي اللذين يتصف بهما البحث التربوي هناك، وأن أقدر للمجتمعات هناك المكانة التي أعطتها للتربية والمربين. ولكن هذه الجهود المتواصلة والتضحيات الجسيمة لا تمنع من القول أن البحث التربوي لم يصل بعد إلى حل جذري لأزمة الأهداف التربوية، وإن مضاعفات هذه الأمة ما زالت تتفاعل على أماكن التطبيق التربوي، والمجتمعات الفسيحة. والسبب هو الأزمة القائمة في ميدان فلسفة التربية الأم المباشرة المولدة للأهداف التربوية، وهي أزمة نابغة من الفراغ العقائدي عامة. إن النظر في قائمة الأهداف التربوية، التي توصلت إليها -لجنة البحث والتنظير- الأميركية يكشف عن أن القائمة لم تنج من النواقص والعيوب التي نسبتها اللجنة إلى القوائم السابقة التي راجعتها واعتمدت عليها. فهي أيضا ركزت على المهارات الجسدية، والعقلية ولم تورد عن التربية الإنسانية إلا تعميمات فضفاضة. كذلك لم تتصف القائمة بالتكامل العقلي، والعاطفي والنفسي، كما أنها تجاهلت تماما ما يتعلق بنشأة الإنسان ومصيره، وعلاقة الإنسان بالإنسان في قرية الكرة الأرضية. ولو أننا اعتمدنا المقياس الذي طرحه -جون وايت- في الصفحات التي مرت حول اعتبار أهداف التربية كامنة في النفس، وإن الذين يستطيعون كشف هذه الأهداف هم الخبراء بهذه النفس لوضعنا أيدينا على جذور الأزمة، وهي أن المرجع الأول لمعرفة النفس الإنسانية هو -خالق النفس- الذي أودع بها قدراتها وخصائصها، وإلى هذا المنهج يوجه القرآن في أول آية ابتدأ بها الوحي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 صحيح إن لعلم النفس دورا أساسيا في البحث عن أهداف التربية في النفس الإنسانية، ولكن علم النفس نفسه وصل أخيرا إلى القول الراسخ، وهو إدراك الأثر العميق لفعل الله في النفس الإنسانية، وضرورة الاسترشاد بالوحي الصحيح في توجيه النفس وإرشادها. ولقد اعترفت اللجنة المذكورة نفسها التي ضمت مشاهير المربين، واستفادت من خبرات جمهور المربين في القارة الأمريكية كلها أن القائمة السابقة للأهداف التربوية لا تمثل كل الأهداف، التي يجب أن تعمل التربية من أجلها، ولكنها تشكل فقط مرشدا لمن يحاول أن يضع أهدافا تربوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الفصل الثالث: حاجة النظم والمؤسسات التربوية في الأقطار العربية، والإسلامية إلى أهداف تربوية إسلامية والسبب الثالث الذي يجعل البحث في أهداف التربية الإسلامية أمرا هامًّا هو أن هناك ضرورة ملحة إلى بلورة أهداف تربوية محددة تتصف بالأصالة والمعاصرة سواء. فما زالت النظم والمؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية تعاني في هذا المجال من أمرين اثنين: الأمر الأول: إن النظم والمؤسسات التربوية التي أنشئت في هذه الأقطار على النمط الأوربي والأمريكي ما زالت مغتربة ثقافيا وتربويا في هاتين القارتين. وهي في هذا الاغتراب، والتقليد تحتفظ دائما بفجوة تربوية واسعة بينها، وبين النظم التي تقلدها. وهذا أمر كامن في طبيعة التقليد نفسه إذ لا يمكن للمقلد أن يلحق بمن يقلده، أو يتساوى معه ماديًّا ونفسيًّا وعقليًّا. ففي الوقت الحاضر -مثلًا- تراجع الدوائر التربوية في أمريكا وأوربا تراث أمثال ديوي وسكنر وفرويد مراجعة جذرية شجاعة -كما يفعل المراجعون Revisionists، ولكن المؤسسات التربوية في الأقطار العربية والإسلامية ما زالت تعتمد على الترجمات، التي نقلت عن هذا التراث قبل عشرين سنة أو ثلاثين أو أكثر بكثير. ولعل المثال التالي يقدم نموذجا واضحا للفجوة التربوية المشار إليها بين كلا النوعين من المؤسسات. ففي عام 1958 وضع فيليب هـ. فينكس كتابه -فلسفة التربية- متأثرًا بالمثالية القديمة، وفي عام 1982 نشرت ترجمته دار النهضة العربية بالقاهرة بعد أن قدمت له بأنه عمل تربوي جديد يلبي حاجة الطلبات المتزايدة من الباحثين، والدراسين ويسد ثغرة تربوية هامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 والإحساس بهذه الفجوة المعرفية دفع بعض الجامعات العربية إلى استعمال اللغات الأجنبية مباشرة في التدريس رغم ما في ذلك من أخطار الانصهار الثقافي، والاضطراب الاجتماعي. ويرتبط الأمر الثاني بالأول ارتباطا وثيقا، وهو أن المؤسسات والإدارات التربوية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية تلقن هذه الأهداف التربوية المستوردة تلقينا يشبه تلقين النصوص المقدسة، ويتجاهل الظروف الاجتماعية والعلمية والمرحلة الحضارية، التي صاحبت هذه الأهداف في مواطن نشأتها. وهي تهمل تحليل الدوافع التي رافقت استيراد هذه الأهداف، والنتائج التي تولدت عن هذا الاستيراد، ولا تدري شيئًا عن المراجعات الجارية لهذه الأهداف عند أهلها وواضعيها. ومن الطريف أن الذين يقومون بمهمة النقد، والتحليل للآثار المترتبة على استيراد الأهداف المذكورة هم من خارج الأقطار العربية والإسلامية، ومن خارج العالم الثالث كله، بل هم من المختصين التربويين في أوربا وأمريكا. ومثال ذلك البحث المدهش الذي قام به -مارتن كارنوي- عام 1974 بعنوان: Education as Cultural Imperialism أي: "التربية كأداة للاستعمار الثقافي". ومثله الكتاب الذي أخرجه عام 1982 -ربروت ف. آرنوف- بعنوان: Philanthropy and Cultral Imperialism أي: "المساعدات الخيرية والاستعمار الثقافي". وكذلك الكتاب الذي أخرجه -إدوارد هـ. برمان- عام 1983 عنوان: The Influence of the Carnegie, Ford and Rockefeller Foundations on the American Policy: the Ideology of Philanthropy. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 أي: "تأثير مؤسسة كارينجي، ومؤسسة فورد، ومؤسسة روكفلر على السياسة الأمريكية: أيديولوجية المساعدات". ولعل استعراض محتويات التفاصيل، التي وردت في الكتاب الأول يعطي صورة واضحة عن أثر التربية المستوردة لأقطار العالم الثالث، ومنه الأقطار العربية والإسلامية. إن خلاصة النتائج التي انتهى إليها -مارتن كارنوي- هي إن نظم التربية الغربية الرسمية، جاءت إلى معظم أقطار العالم الثالث -ومنها الأقطار العربية والإسلامية- كجزء من السيطرة الاستعمارية، وأنها كانت منسجمة مع أهداف الاستعمار الاقتصادي، والهيمنة السياسية من خلال الفئة المثقفة والحاكمة في هذه الأقطار. لقد حاولت القوى الاستعمارية من خلال المدارس تدريب المستعمرين -بفتح الميم- على القيام بالأدوار، التي تناسب المستعمر -بكسر الميم1. وحين انحسر الاستعمار، وتحللت ظاهرة الأمبراطوريات بعد الحرب العالمية الثانية ظلت الأنظمة التربوية في الأقطار، التي تخلصت من الاستعمار كما كانت عليه إلى حد كبير، ولم يصبها التغيير بعد الاستقلال. فالمنهاج ولغة التعليم وفي بعض الأحوال جنسية المعلمين أنفسهم، ظلت كما كانت في عهد الاستعمار. كما أن العلاقات الثقافية بين المستعمر -بكسر الميم- والمستعمر -بفتح الميم- هي من جوانب كثيرة أقوى مما كانت عليه خلال الإدارة الاستعمارية2. ويضيف -كارنوي Carnoy- إنه منذ عام 1949 تحدد دور المدارس في الأقطار التي تحررت من الاستعمار العسكري كأدوات لتحديد الأدوار   1 Martin Carnoy. Education as Cultural Imperialism, "New york & London: Longman Inc. 1974" P3. 2 Ibid, P. 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الاجتماعية لأبناء هذه الأقطار. فمع أن التعليم انتشر على أثر الاستقلال من السيطرة الاستعمارية، إلا أنه سار على نفس النمط السابق، وصارت أهدافه تركز على إيجاد متعلمين ذوي مهارات عالية لخدمة مصالح الأقطار الصناعية المتقدمة من خلال التأكيد على التدريب العلمي، والمهني في العلوم الاجتماعية وإدارة الأعمال، وبناء نظم التعليم؛ ليخدم ذلك كله أهداف الشركات الدولية في الأقطار المتقدمة، التي أرادت الأقطار النامية أسواقا لمصنوعاتها، ومصدرا للمواد الخام اللازمة لهذه الصناعات. ويضيف -كارنوي- إن الجهود التي بذلت لتطوير التعليم في أقطار العالم الثالث لم تمنح هذه الأقطار القدرة على التحول إلى الطور الصناعي، والرأسمالي وإنما أفرزت نتائج وثمرات أهمها: 1- انتشار البطالة بين الخريجين -بما فيهم خريجي الجامعات- وعدم قدرتهم على ممارسة أي عمل إذا لم يتيسر لهم عملا في الأدوار التي حددها لهم التعليم الجديد. 2- أصبح المحور الأساسي للحياة الاجتماعية في الأقطار النامية، هو الاغتراب الثقافي. ويتمثل هذا الاغتراب في استعارة هذه الأقطار للقيم، وأنماط الحياة السائدة في الدول الصناعية المتقدمة بدل تطوير القيم المحلية وأنماط الحياة الأصلية1. 3- ازدواج شخصية الفرد الذي يذهب للدراسة في الأكاديميات الأوربية والأمريكية، ازدواجية في اللغات، وازدواجية في الثقافة لا يستطيع التخلص منها طوال حياته، وتنتهي به إلى الدمار الثقافي. 4- تشويه شخصية الشعوب في الأقطار النامية، وإبقاؤها ضحية الاغتراب الثقافي والتمزق الاجتماعي، وإشاعة قيم المستعمرين ولغاتهم على حساب القيم المحلية واللغة المحلية، وإهمال الثقافة القومية إلا ما يدعم   1 Ibid, P. 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الأقلية الحاكمة التي تقوم بدور الوسيط بين الشعوب المحلية والأقطار الصناعية1. 5- أفرزت نظم التعليم التي تأثرت بالدول الاستعمارية نخبة حاكمة تقوم بدور الوكلاء، والوسطاء بين هذه الدول، وبين الشعوب المحكومة من قبل هذه النخبة وتسهل التعامل بين الطرفين، وتبقى شعوبها في حالة اعتماد مستمر من الناحية الاقتصادية، والثقافية على الدول المذكورة2. والواقع أنه لا يجوز التسليم بتقريرات أمثال -مارتن كارنوي- هذه حول -التربية والاستعمار الثقافي- على علاتها بحيث يفهم منها وجوب الانغلاق التربوي والثقافي. وإنما يجب تناولها بوعي وعلى أساس اعتبارها إحدى المعلومات المساعدة على كيفية التفاعل الثقافي مع الآخرين. إن شهود التيارات الثقافية من خلال الاطلاع على ثقافات العالم، ودراسة اللغات الأجنبية هو أمر لا بد منه للمشاركة في الحضارة العالمية، وحمل الرسالة ومقتضيات التنمية والتقدم. ولكن موضع الحساسية في هذا التفاعل الثقافي يتمثل في أمور ثلاثة، هي فيمن يتم اختيارهم للقيام بهذا الشهود الثقافي، وفي أي مرحلة من العمر يوجهون للقيام بهذه الوظيفة، وفي أي مكان يتم إعدادهم للقيام بهذا الشهود. أما عن الأمر الأول وهو اصطفاء الذين يوجهون لشهود ما يجري في العالم في ميادين الفكر التربية والعلم، فلا بد أن يجري هذا الاختيار طبقًا لمقاييس علمية دقيقة تقيس الذكاء والقدرات العالية، وأن يتم الاختيار من أولئك الذين لهم إحساس عميق بما يجري في العالم، ولهم انتماء قوي، وشغف بالبحث والاطلاع، ولهم قدرة قوية على هضم ما يشهدونه وعلى   1 Ibid, PP. 69-72. 2 Ibid, P. 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 تحليله وتقييمه، وكيفية التعامل معه والاستفادة منه. ولا بد -بعد أن يجري إعدادهم- أن يهيأ لهم مؤسسات العمل الجماعي، وفرص التواصل مع من لهم علاقة. ولكن الذي حدث -وما زال يحدث- هو إرسال عناصر لا قدرات عالية لديها، وإنما يجري اختيارهم -أو الأغلبية الساحقة منهم- طبقًا لمقاييس ذاتية من الانتماءات المحلية، والعائلية، والعلاقات الشخصية. وحين يذهبون هناك يعجزون عن القيام بما يتطلبه البحث والدراسة، ويفشلون في هضم الظواهر العلمية، والاجتماعية الجارية حولهم، ولذلك فإما أن ينغمسوا في أماكن اللهو والمتعة، والتسوق ثم يعودون بهالة زائفة من التعالم والغرور الثقافي، والتباهي بالألقاب العلمية وإشاعة الاغتراب الثقافي، والاجتماعي كما أشار إليه -مارتن كارنوي، وإما -إن كانوا من العناصر التي تم إقفالها مسبقا بعوامل التعصب والجمود- أن لا يشهدوا من الغرب إلا العينات التي ترسبت من المؤسسات العلمية، والاجتماعية إلى أماكن نفيات المجتمع من البارات، وأماكن الانحراف بعد أن استنفذت قدراتها، ثم يعودون ليصوروا المجتمعات الغربية كسمتودعات للانهيارات الأخلاقية، والأزمات الاجتماعية، والأمراض النفسية والعقلية، وليمنوا شعوبهم بقرب انهيار الحضارة الغربية القائمة كمقدمة للتخلص من النفوذ الغربي. وأما عن الأمر الثاني وهو العمر الذي يتم خلاله إعداد من يجري اختيارهم لشهود التيارات العالمية في ميادين التربية والعلم والثقافة، فلعل المناسب أن يكون ذلك في مرحلة ما بعد الخامسة والعشرين أو الثلاثين، أي في مرحلة الدراسات العليا، وبعد أن تظهر على الدارس شارات النضج الفكري والاجتماعي والقدرة على التفاعل مع الثقافات الأخرى باستقلال وانفتاح. وأما عن الأمر الثالث وهو المكان الذي يجري فيه عملية الإعداد، فلا بد أن يكون -أساسا- في البلد الأصلي الذي ينتمي إليه الدارس لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 خارجه شريطة أن يصحب ذلك فترات من السير في الأرض لينظر كيف بدأ خلق الظواهر الحضارية التي يقوم بدراستها والتخصص بها. إن الأمة الواعية تستطيع استيراد الخبراء والخبرات من خارج وتدفع لها الثمن مهما غلا، ثم تهضمها داخل إطارها الثقافي والاجتماعي بدل أن تقذف بأبنائها بسن مبكرة جدا ليتم هضمهم في معاهد التربية الأجنبية داخل الإطارات الثقافية والاجتماعية هناك. ولو أننا نظرنا في الخارطة الثقافية والتربوية للكرة الأرضية، لوجدنا أن كل أمة تتولى تربية أبنائها، وإعدادهم علميًّا داخل إطارها الثقافي والاجتماعي، وتستورد لهم كل ما يجري من نشاطات ثقافية وعلمية، حتى إذا نضجوا واشتدت أعوادهم لم تخش عليهم أن يتفاعلوا مع الآخرين في كل مكان على الأرض. ولكن العالم الثالث -ومنه الأقطار العربية والإسلامية- هو وحده الذي يقذف بأبنائه، أو يسمح بنهبهم تحت ستار المساعدات الثقافية، ليجري تشكيل شخصياتهم في بيئات غريبة بعيدة، وليعانوا فيما بعد من الاغتراب الثقافي والاجتماعي!! ويلحق بهذه الملاحظات أن الأمة يجب أن تتولى تخطيط نظم التربية فيها، وتحديد فلسفتها وأهدافها، لا أن تتركها إلى أقلية من البيروقراطية التربوية التي تتلاعب بتشكيل أجيال الأمة طبقًا للأهواء الحزبية، والمصالح الشخصية والولاءات الثقافية المغترفة المضطربة. ولعله من المفيد أن نلاحظ أنه لم يكن في الولايات المتحدة الأميركية وزارة للتربية، والتعليم إلا في السنوات الأخيرة حيث ينحصر عملها تقريبا في رعاية التكنولوجيا والعلم أمام ضغط التنافس الدولي في هذا الميدان. أما الجانب الاجتماعي والإنساني، فإن الإمريكيين أنفسهم يخططون لمستقبل أجيالهم من خلال مجالس التربية، ومؤسساتها المنتخبة في الولايات المختلفة، والتي تتولى الإشراف المباشر على تنفيذ البرامج ومراقبة البيروقراطية التربوية خطوة بخطوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وأما عن الأمر الثاني الذي يبرز الحاجة إلى أهداف تربوية محددة للنظم والمؤسسات التربوية في الأقطار العربية والإسلامية، فهو إن النظم والمؤسسات التربوية التي انحدرت عن الطراز الإسلامي القديم ما زالت غائبة كلية عن مفهوم الأهداف التربوية، وعن علاقته بالعمل التربوي، ومناهجه، وتطبيقاته، ونتائجه. وكل ما في الأمر أن لديها -هدفًا واحدًا- غير مكتوب يكمن في منطقة الشعور ولما يصعد إلى منطقة الوعي ليناقش ويحلل. وخلاصة هذا الهدف أن وظيفة التربية هي نقل تراث الآباء إلى الأبناء دونما تطوير، أو تبديل أو مراعاة لحاجات المستقبل الذي سيعيشونه، أو الحاجات المتجددة والظروف المتطورة، يصدق عليهم قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 1. وبسبب هذا المفهوم ظلت موضوعات الدراسة المقدمة للناشئة تقتصر في محتوياتها على "فقه" القدماء دون تمييز بين حاجات هؤلاء القدماء، وبين حاجات الناشئة المعاصرين، ودون مقارنة بين المشكلات التي واجهها القدماء والمجتمعات التي عاشوا فيها، وبين المشكلات التي يواجهها الناشئة المعاصرون والمجتمعات التي يعيشون بها، وهي لا تدرس باعتبارها منجزات تاريخية شكلت الماضي ولها أثرها في الحاضر، وإنما باعتبارها معجزات حضارية لبت حاجات الماضين وما زالت تلبي حاجات المعاصرين، وتوفر لهم عوامل التفوق والغلبة والتمييز على الآخرين من معاصريهم في الأمم الأخرى. ولا شك أن تخلف المفاهيم التربوية في المعاهد، والمؤسسات الإسلامية وغياب مفاهيم الأهداف والمناهج، وغيرها من تنظيماتها وأنشطتها، هما المسئولان عن استمرار الازدواجية في نظم التربية القائمة، وعن استمرار النتائج السلبية التي تحدث عنها -مارتن كارنوي- فيما سبق.   1 سور الزخرف: الآية 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الباب الثاني: تربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح مدخل ... الباب الثاني: تربية الفرد المسلم أو "الإنسان الصالح" تبدأ أهداف التربية الإسلامية بإخراج الفرد المسلم. والفرد المسلم هو الإنسان العامل الذي يقوم بـ"العمل الصالح"؛ لأن العمل الصالح المتقن هو علة الخلق والإيجاد، وهو مادة الابتلاء والاختبار في قاعة الحياة الدنيا، وهو مقياس النجاح في الآخرة. {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2] . ولذلك قال الحسن، وقتادة في تفسير قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} : لا يقبل الله قولًا إلا بعمل: من قال وأحسن العمل قبل الله منه1. و"العمل" يتكون من حلقات خمس: الأولى: حلقة الخاطرة التي تولد نتيجة تفاعل الإنسان مع عناصر البيئة المحيطة في لحظة معينة تفاعلا إيجابيا أو سلبيا، ثم يتلتف التفكير هذه الخاطرة ليولد الحلقة الثانية -حلقة الفكرة- التي تولد نتيجة قيام قدرة العقل بتحليل الخاطرة، وتركيبها وتقييمها إلى أن يبلور مخططا كاملا لموضوعها وطرائق تنفيذها، وأدواته وزمنه ومكانه وغير ذلك، ثم يصوغ ذلك كله فإنه نسيخ لغوي يمثل الحلقة الثالثة -حلقة التعبير- ثم تتحرك الحلقة الرابعة -حلقة الإرادة- لتنقل العمل إلى الأعضاء الجسدية لينتهي في -الحلقة الخامسة- حلقة الممارسة   1 الطبري، التفسير، جـ2، ص121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 والتنفيذ. ويشير القرآن الكريم إلى هذه الحلقات الخمس عند قوله تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} ، حيث يشير كلمة "سركم" إلى الحلقات الثلاث الأولى -الخاطرة والفكرة والإرادة- التي تحدث داخل سر الإنسان، وتشير كلمة "نجواكم" إلى الحلقة الرابعة -حلقة التعبير اللغوي، وكلمة "ما تكسبون" إلى الحلقة الخامسة -حلقة الممارسة العملية. والإنسان لا يتوقف لحظة من لحظات عمره عن العمل. ولكن يتفاوت نضج حلقات العمل التي يتم إنجازها. فبعض الأعمال يتوقف عند الحلقة الأولى: حلقة الإرادة فيظل العمل أمينة. وبعضها يتوقف عند الحلقة الثانية: حلقة الفكر فيظل العمل فكرة. وبعضها يستمر حتى الحلقة الأخيرة: حلقة "الممارسة" الحسية فيصبح العمل إنجازا، ويستحق أن يوصف بأنه "عمل". والذي يقرر فاعلية كل حلقة من حلقات العمل الخمس هو درجة الكفاءة -أو الحكمة حسب تعبير القرآن- التي تنجز كل حلقة. وهذه الكفارة هي ثمرة التربية التي تتعهد هذه الحلقات بالتنمية والرعاية. والنجاح في حلقتي الخاطرة والإرادة -ثمرته "الإخلاص" في العمل، أما النجاح في حلقة الفكرة فثمرته "الصواب" في العمل، وأما النجاح في حلقة الممارسة ثمرته "إنجاز" العمل. واجتماع الثمرات الثلاث وتكاملها يجعل العمل يتصف بصفة "الفلاح". وإلى هذه الصفة كانت الإشارة في القرآن الكريم عند أمثال قوله تعالى: {الْمُفْلِحِينَ} ، و {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ومشتقاتها. والفلاح -كما عرفه الرازي- معناه: الظفر بالمطلوب، والمفلح هو الظافر بالمطلوب1. وفي الغالب يتقرر مسار العمل نحو الصلاح أو السوء من خلال الحلقة الأولى: حلقة الإرادة فإن كانت إرادة إيجابية صالحة امتدت صفة الصلاح إلى حلقتي الفكر والممارسة، وإن كانت سيئة امتدت صفة السوء   1 الرازي، التفسير "البقرة-3"، جـ1، ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 إلى الحلقتين المذكورتين. ولذلك أطلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- اسم -النية- على الحلقة الأولى عند قوله: "إنما الأعمال بالنيات وأن لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" 1. والذي يقرر صلاح النية، أو فسادها هو خير -الخبرات الاجتماعية- أو شرها. أما الذي يقرر صلاح -الفكرة- أو سوئها فهو صواب -الخبرات الكونية والاجتماعية- أو خطؤها. وأما الذي يقرر صلاح -الممارسة- أو فسادها فهو درجة "إحكام" السنن والقوانين التي توجه الإرادات والأفكار والممارسات إحكاما عقليا وفعليا. وانطلاقا من تكوين العمل ونموه بالشكل الذي مر أعلاه توجهت التربية الإسلامية محاضن حلقات العمل الخمس: أي تربية النفس، والعقل والجسم. و"العمل" الناتج عن الحلقات الخمس يتفرع، ويتسع ليغطي جميع ميادين الحياة ومظاهرها: أي هو يتناول المظهر الديني، والمظهر الاجتماعي، والمظهر الكوني. وحين يتم إحكام غايات العمل ووسائله وأدواته يطلق عليه اسم "العمل الصالح-المصلح". ولكن مفهوم "العمل الصالح" لم يبق على أصالته وشموله. وإنما تعرض -خلال عصور التعصب المذهبي والجمود والاستبداد- للتجزئة، وتضييق المعنى وتشويه المحتوى حتى حصرته الاستعمالات الجارية في الوعظ والتأليف، والتدريس الديني، وآداء الشعائر والصدقات والأخلاق الفردية، ثم كانت محصلة هذه التشويه تشويه صورة -الشخصية المسلمة- أو تشويه صورة -الإنسان الصالح. ذلك لا بد من إعادة تأصيل معنى "العمل الصالح" ليعود فهمه، وممارسته أصيلا كما ورد في مصادر الإسلام الأساسية المتمثلة بالقرآن والسنة.   1 البخاري، الصحيح، كتاب الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الفصل الرابع: معنى "العمل الصالح" في التربية الإسلامية 1 ورد لفظ -العمل- في القرآن الكريم في "359" موضعًا. أما في الحديث الشريف فيصعب حصر عدد المواضع التي ورد لفظ العمل فيها. وفي جميع المواضع المشار إليها يلحق بـ"العمل" إحدى صفتين اثنتين: إما صفة الصلاح أو صفة السوء. فيوصف العمل بأنه "عمل صالح" أو"عمل سوء". و"العمل الصالح" هو الترجمة العملية والتطبيق الكامل للعلاقات التي حددتها فلسفة التربية الإسلامية بين إنسان التربية الإسلامية من ناحية، وبين كل من الخالق والكون، والإنسان والحياة، والآخرة من ناحية أخرى2. ويقدم القرآن الكريم نماذج وأمثلة للعمل نذكر منها: - العمل العلمي والثقافي: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] . - السياسات الظالمة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] .   1 لقد كان لما كتبه الأستاذ جودت سعيد في كتابه -العمل- أثر كبير في رسم الإطار العام لهذا الباب وإبراز مكوناته. 2 للوقوف على تفاصيل كل علاقة من العلاقات الخمس المذكورة، راجع كتاب -فلسفة التربية الإسلامية- الطبعة الثانية، للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] . {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] . - العمل الديني: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 138-139] . - العمل السياسي الشامل: فقد تحدثت الآيات الأخيرة من سورة الأنفال عن سياسات الأمة المسلمة الداخلية، وعلاقاتها الخارجية ووصفتها بأنها عمل يبصر الله ظاهره وباطنه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72] . - والعمل الزراعي: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يونس: 35] . - والعمل المهني: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] . - والعمل الصناعي: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ: 11] . - والعمل الوظيفي: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] . - والعمل الفكري والتربوي: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] . - والعمل الاقتصادي: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 كَفَّارٍ أَثِيمٍ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 276-277] . - العمل القضائي: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283] . - العمل الاجتماعي: فقد تحدثت الآيات "230-236" من سورة البقرة -مثلا- عن علاقات الرجل والمرأة وتنظيم الأسرة ومسئولياتها، ثم ختمت الحديث بأمثال قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [233] ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [234] . - والعمل العسكري: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] . - والعمل الديني والأخلاقي والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا. وأخيرا الديني بجميع مظاهره على المستويين الفردي والجماعي مثل: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60] . {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] . ويمكن تصنيف جميع أشكال العمل المشار إليها في ثلاثة مظاهر هي: عمل ديني، وعمل اجتماعي، وعمل كوني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وتعريف "العمل" بهذا الشكل يقودنا إلى مبادئ خمسة تتصل بالعمل نفسه وهي: المبدأ الأول، تكامل مظاهر العمل وعدم فاعلية أي منها دون الآخر؛ لأن العمل الديني يتضمن أهداف الحياة ومقاصدها، بيما يتضمن العمل الاجتماعي، والعمل الكوني الوسائل المناسبة لتحقيق هذه الأهداف والمقاصد. ولذلك إذا وجدت الوسائل، ولم توجد الأهداف فإنه لا فائدة من الوسائل، وكذلك إذا وجد العمل الاجتماعي، والعمل الكوني ولم يوجد العمل الديني فإن العمل غير نافع ولا مريح، ولذا فهو غير مقبول ولا معتبر. وكذلك إذا وجد العمل الديني، ولم يوجد العمل الاجتماعي والعمل الكوني، فإن العمل عقيم؛ لأن الأهداف التي لا وسائل لها يستحيل تحقيقها والوصول إليها. لذلك كله لا يتصور هناك مسلم -أو إنسان صالح- بدون عمل. فصورة المؤمن المستسلم العاجز صورة غير إسلامية، وهي بعض رواسب تراث الكهانة التي سبقت الإسلام، ولذلك أيضًا لم يكن الزهد والورع والتقوى انقطاعًا عن العمل، وإنما هي بعض مواصفات -العمل الصالح- تكسبه طابعه وتميزه عن -العمل السوء. والحديث النبوي يقرر أن الزهد ليس بتحريم الحلال وإضاعة المال، وإنما الزهد أن يكون الإنسان أوثق بما في يد الله منه مما في يده، فيهون عليه البذل ولا يتردد في التضحية. والمبدأ الثاني، إن -العمل الصالح- لا يقتصر على جلب الخير النافع، وإنما يتعداه إلى محاربة الشر الضار. فالعمل الصالح إذن من حيث أثره ينقسم إلى قسمين: عمل هدفه جلب النافع للإنسان والمرضي لله، وعمل هدفه دفع الضار بالإنسان والمغضب لله، والإنسان الذي يمارس القسمين من العمل يطلق عليه اسم "الصالح-المصلح"، والذي يقتصر على القسم الأول يطلق عليه اسم " الصالح" فقط. والقيام بأحد القسمين لا يغني عن الآخر؛ لأن القسم الأول يفيد في النماء والتقدم. بينما يفيد القسم الثاني في منع أسباب الفساد والتخلف، والانحطاط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 والإنسان الصالح -المصلح هو النموذج الذي تسعى التربية الإسلامية إلى إخراجه. ولذلك جاء في القرآن الكريم أن الخراب لا يلحق بالأمم التي تتكون من أفراد وجماعات صالحين -مصلحين: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] . ولكن الخراب ينزل بالأمة التي تضم أفرادا وجماعات صالحين غير مصلحين. {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] . ويقدم الحديث النبوي تفصيلات واسعة ودقيقة عن ماضي الأمم، الذين اكتفوا بالصلاح وواكلوا غير الصالحين ورضوا بأفعالهم، فكان ذلك سببا في شمول الجميع بالعذاب، كذلك يقدم الحديث النبوي تحذيرات صارمة للمسلمين ليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويقفوا بوجه الظالم، ويتصدوا للمفسدين، وإلا سيذيقهم الله ألوانا من العذاب السياسي والاجتماعي والعسكري، والاقتصادي في الدنيا إضافة ما ينتظرهم في الآخرة. والمبدأ الثالث، إن "العمل الصالح" من حيث صفته ينقسم إلى قسمين: عمل أخلاقي وعمل ناجح. واجتماع الصفتين أمر ضروري في التربية الإسلامية؛ لأن العمل إذا كان أخلاقيا ولكن غير ناجح لا يجلب منفعة ولا يدفع ضررا، وإذا كان ناجحا ولكن غير أخلاقي، فإنه لا يجلب سعادة ولا أمنا. فإذا اجتمعت الصفتان فيه كان نافعا غير ضار، جالبا للسعادة والاستقرار. وإلى صفة النجاح أشار علماء الإسلام باسم -الصواب- وأطلقوا على صفة -الأخلاق- اسم -الإخلاص، واشترطوا أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 العمل صائبا مخلصا، فإذا كان صائبا غير مخلص لم يقبل، وإذا كان مخلصا غير صائب لم يثمر1. لذلك لا يتصور أن يكون هناك "عمل صالح" غير ناجح. والذين يؤولون حديث: "إنما الأعمال بالنيات" تأويلًا يفصل بين العمل ونتيجة هم أناس يتأولون الحديث على غير معناه. والذين يبررون الأخطاء والارتجال والقصور بأمثال القول: ليس ضروريا النجاح وتحقيق الأهداف، وإنما المهم هو العمل هم أنس لا يرسخون في مفهوم العمل ولا يحيطون بقوانينه. المبدأ الرابع، مبدأ النفعية، أي إن العمل مقصود به منفعة العامل. فالتربية الإسلامية لا تتنكر لمبدأ النفعية أبدًا بل هل تشدد عليه، وتكرر هذا التشديد. وتتكرر الإشارة إلى مصطلح "النفعية"، ومشتقاته في القرآن الكريم إيجابا وسلبا في "50" خمسين موضعا. من ذلك قوله تعالى: - {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164] . - {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] . - {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 7] . أما في الحديث النبوي فيتكرر مصطلح "النفع"، ومشتقاته في مئات المواضع من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع" 2. والذين فصلوا بين العمل والمنفعة هم إما أناس مغالون في المثاليات، التي يصعب على الإنسان أن يعيشها، أو أناس متأثرون بمفاهيم تعذيب النفس وإيرادها المشقات التي احتوت عليها الأديان، والفلسفات السابقة على   1 دكتور ماجد عرسان الكيلاني، تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية، "المدينة المنورة: دار التراث، 1405-1985"، ص207. 2 صحيح مسلم "شرح النووي"، جـ17، كتاب الذكر، ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الإسلام، أو أناس قصدوا أن يجردوا العمل الإسلامي من الدوافع التي تدفع إليه وترغب به، أو مترفون قصدوا تخدير الكادحين وجعلهم يسكتون على الاستغلال والاحتكار. ولكن النفعية التي توجه إليها التربية الإسلامية نفعية أكثر اتصالا بطبيعة الإنسان وفطرته، وهي أشمل تلبية لحاجاته المادية، والنفسية والاجتماعية، وهي مرافقة له خلال الأطوار التي يمر بها خلال رحلته عبر محطات النشأة والحياة والمصير. وهي جامعة لصفتي العمل الصالح: أي النجاح والسعادة، ولذلك كله فهي خالية من المضاعفات السلبية التي تفرزها نفعية الفلسفات الأخرى كالبراجماتية الأمريكية التي توفر النفعية في ميادين، وتفرز الضرر في ميادين أخرى من حياة الإنسان، أو تؤدي إلى النجاح، ولكنها لا توفر السعادة. وبالتالي فالنفعية التي توجه إليها التربية الإسلامية لا تقتصر على فرد أو جماعة، ثم تلحق الضرر بفرد آخر أو جماعة أخرى، ولا تقتصر على مرحلة الحياة أو بعض محطاتها، وإنما تشمل مرحلتي الحياة والمصير. ويقدم القرآن الكريم أمثلة عديدة لمنافع "العمل الصالح" فيذكر منها: الأمن، والتمكين في الأرض، والحياة الطيبة، ووفرة الخير والبركة، والدرجات العالية، والجزاء الحسن، والتمتع بنعم الله، والصحة النفسية والجسدية، والاطمئنان الاجتماعي، واليقين، ودخول الجنة، وغير ذلك. وفي المقابل يقدم القرآن أمثلة عديدة لمضار "العمل السوء" فيذكر منها: المعيشة الضنك، والإجلاء من الأرض، وتمزيق المجتمعات والأمم، وسقوط المنزلة، والانهيار الاقتصادي، والدمار الاجتماعي، والسقوط الحضاري، والاضطراب النفسي والفكري، والشقاق والفرقة، والأمراض النفسية والجسدية، ودخول جهنم وغير ذلك. والأمثلة لكل من منافع العمل الصالح ومضار العمل السوء أكثر من أن تحصى، منها قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: 21] . والمبدأ الخامس، هو ضرورة الإعداد والتربية والتدريب على "العمل الصالح" وتوفير بيئاته ومؤسساته وأساليبه وخبراته. إذ لا يتصور أن يترك بروز "العمل الصالح" لجهود الأفراد وحدهم، أو للمحاولات التلقائية، والخبرات السطحية الساذجة، أو للمؤسسات التقليدية، والجماعة والآبائية، والطرق، والزوايا وأمثالها. ولذلك ورد "العمل الصالح" في القرآن والحديث مقرونا بالإيمان والعلم والحكمة، والجهد المتواصل والتعاون الجماعي على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم، والعدوان بينما اقترن "العمل السوء" بالجهل والكسل، وما يفرزانه من كفر ونفاق وترف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الفصل الخامس: عناصر الإنسان الصالح المولدة للعمل الصالح ... الفصل الخامس: عناصر الإنسان الصالح المولدة لـ"العمل الصالح" والسؤال الذي نطرحه: كيف تعمل التربية الإسلامية على إخراج الإنسان الذي يقوم بـ"العمل الصالح" بكفاءة كاملة؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من أمرين: الأول: تعريف العمل. والثاني: كيف يتولد العمل. أما عن الأمر الأول، فإنه التربية الإسلامية تطلق اسم "العمل" على كل حركة مقرونة بهدف: "إنما الأعمال بالنيات" 1، ولما كان الهدف خاصا بالإنسان فإن القرآن أطلق اسم -العمل- على حركات الإنسان الهادفة لجلب الخير ودفع الشر أو العكس، أما الحركات غير الهادفة -كحركة الشمس والقمر والرياح- فقد سماها جريانا. فالعمل إذن هو: حركة وهدف. والقرآن يسمي الحركة المتوجهة نحو الهدف "إرادة". وتوصف الإرادة بـ"العزم والإخلاص" إذا تحركت إلى الدرجة التي تحقق الهدف. ويوصف الهدف بـ"الصواب" إذا اتفق مع سنن الخلق وقوانينه، ويوصف بـ"الخطأ" إذا خالفها، ويسمى مقترفه "خاطئ" وثمرته "خطيئة". ويقدم القرآن شخصيات الأنبياء، والرسل كنماذج يتحقق في أعمالها عزم الإرادة وصواب الهدف. ومن أمثال ذلك قوله تعالى: - {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35] .   1 حديث شريف في مطلع صحيح البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 - {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] . ولقد خلص مفسرو جيل الصحابة والتابعين من أمثال ابن عباس، ومجاهد والسدي وقتادة إلى أن -أولي الأيدي- هم أولوا القوة في طاعة الله. أما أولو الأبصار فهم أولو العقول التي تصيب الحق، والفقه في الدين1. والقوة هي ثمرة -الإرادة، أما الإبصار فهو ثمرة -القدرة. أي إن العمل هو: قدرة وإرادة، فإذا وجدت القدرة ووجد إلى جانبها الإرادة يتولد العمل. وهنا ينهض سؤال آخر هو: ما هي القدرة؟ وما هي الإرادة؟ وكيف يمكن تنمية كل منهما كمقدمة لتزاوجهما بغية توليد "العمل"؟ الجواب: القدرة نوعان: قدرة بمعنى الطاقة، وهذه يشترك بها الإنسان والحيوان والجماد. وقدرة تسخيرية، وهي القدرة على تسخير طاقات المخلوقات المحسوسة في الكون طبقا للقوانين التي تنظم وجود هذه المخلوقات، ولما تمليه حاجات الإنسان في البقاء والرقي. وهذه خاصة بالإنسان وهي التي يجري عليها التركيز في التربية الإسلامية؛ لأن إتقان هذه القدرة يهيئ للإنسان المسلم أن يستيقن من قدرة الله، ومظاهر صنعه ونعمته، وأن يسجد مكانته كخليفة في الأرض، وأن يستثمر قوانين الموجودات والأحداث من حوله لما فيه بقاؤه ورقيه. والقدرة التسخيرية هي ثمرة تزاوج القدرات العقلية الناضجة مع الخبرات الدينية، والاجتماعية، والكونية المربية. أي أن القدرة التسخيرية تولد من خلال النظر العقلي السليم في تاريخ الأفكار، والأشخاص، والأحداث، والأشياء، والإحاطة بنشأتها ثم تطورها وواقعها.   1 الطبري، التفسير، جـ23، ص169-170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أما الإرادة، فهي توجه رغبات الفرد نحو هدف معين. وهي أيضا مما يميز الإنسان عن المخلوقات الأخرى. وتكون الإرادة سليمة حين تتوجه رغبات الفرد نحو حاجاته الأساسية والعليا بالقدر، والأسلوب اللذين يجلبان له النفع ويدفعان عنه الضرر في حياته ومصيره. وتطلق مصادر التربية الإسلامية -في القرآن والسنة- على نماذج الحاجات الجالبة للإنسان ما ينفعه، والدافعة عنه ما يضره في حياته، وآخرته اسم "المثل الأعلى". والإرادة هي ثمرة التزواج بين القدرات العقلية، والمثل الأعلى المشار إليه. أي أن -الإرادة- تولد من خلال النظر السليم في مستويات المثل الأعلى التي تتضمن نماذج الحاجات، التي تجلب للإنسان النفع وتدفع عنه الضرر وتأخذ بيده في مدارج البقاء والرقي1. من ذلك كله يمكن القول أن "العمل الصالح" الذي هو سمة الفرد الصالح هو ثمرة عدد معين من العمليات التربوية، التي تتكامل حسب نسق معين يمكن أن نوجزة في المعادلات التالية: العمل الصالح = القدرة التسخيرية + الإرادة العازمة. الإرادة العازمة = القدرات العقلية الناضجة + المثل الأعلى. القدرة التسخيرية = القدرات العقلية الناضجة + الخبرات الدينية والاجتماعية والكونية المربية. وجميع هذه العناصر التي تشتمل عليها المعادلات المذكورة أعلاه تنمو، وتنضج بالتربية والإعداد الخاص، وإحكام تنميتها ثم المزواجة بينها طبقا   1 البقاء والرقي: هما المقاصد النهائية للتربية. والمقصود بالبقاء: البقاء الآمن المعافى في الدنيا والآخرة. أما الرقي ماديا ومعنويا، ويبلغ قمته في تحقيق العبودية لله وحده، والتحرر من عبودية الأشخاص والأشياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 لقواعد معينة لتوجد المركبين الآخرين وهما: الإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية باعتبارها جميعها حين تنضج تربيتها تنتهي إلى إنجاب "العمل الصالح"، الذي هو الهدف الأخير للعملية التربوية. وإحكام تنمية مكونات العمل الصالح وتنسيقها، وإحكام التفاعل والمزاوجة بينها لإنجاب مركب -العمل الصالح- هو بعض مظاهر -طريقة الحكمة- في التربية الإسلامية التي وجه القرآن إلى ضرورة تكاملها مع كل من طريقة الوعظ الحسن، وطريقة الجدال الأحسن. ويصور الشكل التالي "رقم5" تفاصيل هذه العمليات، والمزاوجة بين العناصر المشار إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الفصل السادس: إحكام تربية القدرات العقلية "وظيفة العقل" في الإنسان قدرات عقلية كامنة -كالقدرات الجسدية، يستطيع من خلالها التعرف على البيئة القائمة من حوله بمكوناتها وأحداثها، ثم خزن تلك المعارف وتمييزها واسترجاعها وتوظيفها في الوقت المناسب طبقًا للمواقف والمشكلات التي يمر بها خلال مسيرة الحياة. وتعبر القدرات العقلية عن نفسها في السلوك الظاهري من خلال -القدرة على التدبير: أي تدبير أمور المعاش في حياة الأفراد والجماعات. وتتخذ قدرة التدبير هذه حالات ثلاث: الحالة الأولى، تدبير لجلب ما هو نافع صائب، ولدفع ما هو ضار خاطئ، ويسمى صاحب هذه القدرة -عاقلًا حكيمًا. والحالة الثانية، ضعف في قوة التدبير عن جلب ما هو نافع صائب، وعن دفع ما هو نافع صائب، وعن دفع ما هو ضار خاطئ. ويسمى صاحب هذه الحالة -أبلها سفيها. والحالة الثالثة، طغيان في قوة التدبير لتعمل على جلب الضار الخاطئ، وإعاقة ما هو نافع صائب، ويسمى صاحب هذه الحالة -مخادعًا وماكرا سيئا. والذي تهدف إليه التربية الإسلامية هي تنمية الحالة الأولى إلى درجة النضج، وتزكية الأفراد والجماعات من الحالتين الثانية، والثالثة. وتتفاوت القدرات العقلية قوة وضعفا من شخص إلى آخر، أو عند الشخص الواحد خلال مراحل حياته -تماما كالقدرات الجسدية. فقد تقوى حتى تخترق بيئة الكون الكبير، فتتعرف على مكوناته وتقف على أسرار قوانينه، وتسخر هذه المكونات، والقوانين حسب الأهداف، والحاجات التي يتوجه إليها صاحب هذه القدرات. وقد تضعف هذه القدرات العقلية حتى يعجز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الإنسان عن فهم ما يجري في بيئته البيتية، والإقليمية المحدودة فيسخره الكون وتتقاذفه الأحداث والأهواء. وقد تنطفئ هذه القدرات العقلية حتى لا يعود الإنسان يعرف من أمره شيئًا. والإشارة التي وردت في القرآن الكريم إلى القدرات العقلية إنما جاءت بصيغة -الفعل وليس الاسم- وباعتبارها وظيفة من وظائف القلب، وفعل من أفعاله التي تجري داخل الإنسان قبل أن تتحول إلى ممارسات حسية على أعضائه الخارجية: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ} [الحج: 46] . فالعقل -إذن- إشارة إلى وظيفة، وليس إلى شيء قائم بنفسه، مثله مثل وظائف الفهم والأكل والشرب والهضم، والنوم والقيام والقعود والركض والقفز، وإنه يعتريه نفس الأحوال التي تعتري هذه الوظائف من نشاط وعجز وهكذا. والإنسان يولد مزودا بهذه القدرات العقلية -كبقية القدرات التي أشرنا إليها- ولكنها تكون في حاجة للتنمية، وإلى تدريب الإنسان على حسب استعمالها ورعايتها. وتتقرر درجات نموها ونشاطها وصحتها ومرضها حسب نوع التربية التي يتلقاها الإنسان، وطبقا لوعي القائمين على تربية هذه القدرات وخبراتهم، وطبقًا للوسائل التي تستعمل لتنميتها واستعمالها، وللبيئة الاجتماعية والثقافية التي تعمل التربية خلالها. ونجاح التربية في هذه المهمة يحقق صفة "الصواب" في العمل التي هي أحد الشرطين الرئيسين لبروز العمل الصالح -المصلح. ولذلك تتسبب التربية الخاطئة، والبيات غير السليمة في إضعاف هذه القدرات أو تحطمها، أو تحيلها إلى معوقات للإنسان وسببا من أسباب تخلفه وشقائه. والإشارات التي وردت في القرآن تدل على أن القدرات العقلية درجات متفاوتة وأن لكل درجة وظيفتها، وأثرها في سلوك الإنسان، ومواقفه من الخبرات التي يمر بها، وأن هذه القدرات يجب أن تستعمل طبقا لمنهج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 معين هو ما نسميه بـ"منهج التفكير" الذي يتضمن ثلاثة أقسام رئيسة هي: خطوات التفكير، وأشكال التفكير، وأنماط التفكير، وأن هذه القدرات يجب أن تنمى بكيفية معينة ومن خلال أدوات ووسائل خاصة. ولذلك كله لا بد للتربية الإسلامية، وهي تعمل على تربية وظيفة العقل أن تركز على أربعة أمور رئيسة هي: الأول: تصنيف القدرات العقلية. والثاني: بلورة منهج التفكير السليم الذي تستعمل طبقا له القدرات العقلية. والثالث: كيفية تنمية القدرات العقلية ومنهج التفكير السليم. والرابع: توفير البيئة اللازمة لتنمية القدرات العقلية، والتفكير السليم. وفيما يلي تفصيل لهذه الأمور الأربعة الرئيسة: أولًا: تصنيف القدرات العقلية وتحديدها: القدرات التي يشير إليها القرآن هي: قدرة العقل، وقدرة التأويل، وقدرة التدبر، وقدرة الفقه، وقدرة التفكر، وقدرة التذكر، وقدرة النظر، وقدرة الشهود، وقدرة الإبصار، وقدرة الحكمة. وليس هناك -في القرآن- ما يصنف لنا هذه القدرات حسب درجاتها، وعلاقاتها في سلم العمليات العقلية. فهذه أمور متروكة للبحث والدراسة التي يطلب إلى الإنسان القيام بها. ولكن القرائن التي ارتبطت بهذه القدرات عند الإشارة إليها تعطينا إيضاحات لمراد القرآن عند ذكر كل قدرة من هذه القدرات المشار إليها. فـ"قدرة العقل" تشير قرائنها إلى أنها القدرة على خزن المعلومات، واسترجاعها وتوظيفها عند الحاجة إليها، وهي شاملة لكل القدرات. أما "قدرة التأويل" فقد اقترنت في القرآن بالقدرة على إدراك التطبيقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 العملية التي تقابل التقريرات النظرية أو بالعكس. ومن أمثلتها قدرة يوسف عليه السلام على تقديم التفسيرات، والمقترحات التي تقابل الأفكار والرؤى التي عرضت عليه، أو قدرة الخضر على تفسير ما عمله خلال رحلته مع موسى عليه السلام. وأما "قدرة التدبر"، فقد اقترنت الإشارة إليها بالقدرة على الربط بين المقدمات، والنتائج واكتشاف الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: - {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . - {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 22-24] . وأما "التفكر" فهو قدرة تشير إلى استعمال المهارات العقلية كلها للوصول إلى الحقيقة. ولقد تكررت الإشارة إلى "التفكر" في تسعة عشر "19" موضعا من القرآن الكريم. أما "التذكر" فهو قدرة عقلية تشير إلى القدرة على استرجاع الخبرة، ورؤية جانب الصواب فيها. وأما -النظر- فهو قدرة عقلية يشترك معها قدرات السمع، والبصر للكشف عن المجهول. ولقد عرف ابن تيمية -قدرة النظر- فقال: " ... والنظر جنس تحته حق وباطل، ومحمود ومذموم"1. أي ليس من الضروري أن تكون حصيلة النظر دائما صائبة، بل هي تصيب وتخطئ تبعا للطريقة التي تستعمل بها.   1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب السلوك، جـ10، ص486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ولقد تكرر ذكر -قدرة النظر- في القرآن عند الدعوة إلى النظر في مظاهر الكون عامة ومفصلة، وفي تكوين الإنسان ونشأته ومصيره. وأما -الشهود- فهو قدرة عقلية تشترك معها القوى الحسية كذلك، ولكنها تختلف عن قدرة النظر في أن ثمراتها صائبة صحيحة. وأما -الإبصار- فهو قدرة عقلية نافذة تساعد على دقة الفهم، والتعمق في تحليل الظاهرة وكوامنها. وأما -الحكمة- فهي قدرة عقلية على فهم العلاقات النظرية ومهارة عقلية- حسية على تحويل العلاقات المذكورة إلى تطبيقات عملية، وتصويبها ورعايتها وهي تقابل الخبرة المتخصصة، والحكيم يقابل الخبير المتمكن في مصطلحاتنا المعاصرة وبالإجمال يمكن أن نمثل للقدرات العقلية -كما وردت الإشارات إليها في القرآن الكريم- بالرسم التالي. ونحن وإن قدمنا هذه الأمثلة القرآنية للقدرات العقلية، فلا يعني ذلك أن المنهج الملائم للكشف عن هذه القدرات، والوقوف على دقائقها ووظائفها هو من خلال البحث النظري في القرآن، أو من خلال الاشتقاقات اللغوي، كما كان -ولم يزل- شأن الكثيرين من المفسرين والأصوليين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والفقهاء والمتصوفين، وإنما نسترشد بالإشارات القرآنية العامة، كمقدمة توجه إلى ضرورة قيام المختصين بالتجارب العملية التي تهدف إلى الوقوف على القدرات العقلية، ووسائل تنميتها والتدريب على استعمالها. فهذا هو الذي يتفق مع -منهج المعرفة الإسلامي- الذي قدمنا تفاصيله في كتاب -فلسفة التربية الإسلامية- حين ذكر أن الوحي يقدم -الخبر الصادق- تماما كما يقدم المنهج العلمي الحديث -فرضية البحث- وأن الخطوة التي تلي هي اختبار صدق هذا الخبر في ميدان الآفاق، والأنفس -للاطمئنان إلى صدقه- كما قال إبراهيم عليه السلام -وليحصل العلم الموصل إلى الإيمان واليقين. ثانيا: منهج التفكير السليم يتضمن منهج التفكير الذي تتطلع إليه التربية الإسلامية ثلاثة مكونات رئيسية هي: خطوات التفكير، وأشكال التفكير، وأنما التفكير، وفيما يلي تفصيل لكل من هذه المكونات الثلاثة: أ- خطوات التفكير: تبدأ خطوات التفكير السليم بالإحساس بالظاهرة، ثم الانتقال إلى خطوة الوعي بهذه الظاهرة وتحديد إطارها وميدانها، ثم الانتقال إلى خطوة التعرف على تفاصيل الظاهرة من خلال تحري المعلومات المتعلقة بها وجمعها، ثم الانتقال إلى مرحلة تحليل هذه المعلومات وتدبرها، وتصنيفها واكتشاف العلائق بينها، ثم الانتقال إلى خطوة اكتشاف الحكمة الكامنة وراء الظاهرة. ومن الإنصاف أن نقول: إن خطوات التفكير العلمي التي أفرزتها التربية الحديثة تتطابق مع هذه الخطوات، بل إنها كانت مثيرا قويا في لفت الانتباه إلى خطوات التفكير، التي يشير إليها القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 والقرآن يجعل هذه الخطوات من التفكير صفة أساسية من صفات المؤمن، وينهي عن مخالفتها ويتوعد بالمحاسبة عليها: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] . بل إن القرآن ينتقد بشدة لاذعة الذين يقفزون عند السماع الأولى للمشكلة إلى إصدار الأحكام، وإشاعتها دون السماح لها بالمرور بمنطقة السماح الداخلي الذي يشترك به مع القدرات العقلية، ويتبادل معهما التحليل والتأليف والاستنتاج. ويصف القرآن هذا الأسلوب المتسرع بأنه تلقيا للمعلومات الأولية باللسان دون الصبر عليها حتى تمر بالأذن، وتصل إلى منطقة الوعي. ويتهدد القرآن الفاعلين لذلك بالعقوبة الإلهية لما يترتب على هذا الأسلوب من أخطاء في الحكم، وعدوان على الأبرياء: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 15-17] . وحين تتعقد المواقف والمشكلات -خاصة تلك التي تتعلق بأمور السلم، أو أمور الحرب والأخطار -وتحتاج إلى درجات عالية من القدرات العقلية والخبرات العميقة، ومناهج التفكير الحكيم، فإن القرآن يعيب على أولئك الذين يتلقونها باللغط، والإشاعة ويوجه إلى وجه إقامة هيئة متخصصة يكون عملها تحليل هذه المواقف، والمشكلات واستنباط أسبابها، والحلول اللازمة لمواجهتها: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ومن الطبيعي أن العاملين في هذه الهيئة يحتاجون إلى إعداد متميز في مجال تربية القدرات العقلية، ومنهج التفكير الحكيم لمساعدتهم على استنباط الأمور وعلمها. ومن الطبيعي أن يجري انتقاء الذين تجري تربيتهم للعمل في مثل هذه الاختصاصات من بين "أولي الألباب" المتفوقين من ذوي القدرات العقلية العالية: ب- أشكال التفكير: وأما عن القسم الثاني لمنهج التفكير السليم، وهو -أشكال التفكير- فهذه تشمل ما يلي: 1- تدريب المتعلم على النقد الذاتي بدل التفكير التبريري: نعني بالنقد الذاتي ذلك الأسلوب من التفكير، الذي يحمل صاحبه المسئولية في جميع ما يصيبه من مشكلات ونوازل، وأما ما ينتهي إليه من فشل. ونعني بالتفكير التبريري ذلك التفكير الذي يفترض الكمال بصاحبه، وإذا أخطأ برأه من المسئولية، وراح يبحث عن مبررات خارجية، وينسب أسباب الأخطاء، أو القصور والفشل إلى الآخرين. والقرآن -في جميع توجيهاته- يقرر النقد الذاتي قاعدة أساسية في جميع النواقص، والأخطاء الفردية أو الاجتماعية. ومن توجيهاته في هذا المجال قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] . {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] . وفي قصة آدم وإبليس توجيهات واضحة لممارسة النقد الذاتي، وإدانة للتفكير التبريري وإلقاء المسئولية على الآخرين. فمع إن أحداث القصة تذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بصراحة دور إبليس في إغواء آدم وزوجه، وسعيه الجاد لدفعهما ليأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها إلا أن آدم، وزوجه حملا نفسيهما مسئولية المعصية التي حدثت، ولم ينسبا ذلك إلى الشيطان الذي أغواهما بذلك وحسنه لهما. وفي ذلك توجيه لذرية آدم وحواء، ليتخذوا من النقد الذاتي منهجا في تقويم الآثار السلبية التي تنتج عن الممارسات الخاطئة: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ، قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 22-23] . كذلك توجه القصة إلى أن التفكير التبريري ونسبة الأخطاء إلى الغير هما منهج تفكير إبليسي رائده إبليس نفسه، حين نسب الإغواء إلى الله -مع إن شيئا من ذلك لم يحدث- وإنما كان سبب معصية إبليس ما اتصف به من حسد لآدم، واعتزاز بالأصل وتفاخر في المنشأ. والواقع أن التحليل الدقئق للأخطاء التي تقع أو المصائب التي تنزل بوضح إن هذه الأخطاء، والمصائب هي مسئولية من تنزل به؛ لأن المصيبة هي وليد يولد من تزاوج قوة مع ضعف كما يولود الطفل من تزواج ذكر مع أنثى. ولا يمكن بحال أن تولد مصيبة من التقاء قوة بقوة. فالمصائب التي تنزل سببها تزواج ضعف من نزلت به مع قوة من تسبب بها. ولو أن من نزلت به المصيبة كان مبرأ من الضعف لأوقفت قوته قوة المسبب وأبطلت فاعليتها. ولذلك يحاسب الله الضعفاء والمستضعفين كما يحاسب الأقوياء المعتدين، ويعتبر كلا منهما ظالما: هذا ظالم لنفسه إذ لم يسلحها بالقوة، ويستعمل طاقاتها وإمكاناتها لدفع العدوان الذي نزل بها، وذلك ظالم للناس إذ استعمل قوته للعدوان، ونصرة الباطل بدل أن يستعملها لنصرة الحق. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] . وفي المقابل يمدح الله الأقوياء الذين إذا نزل بهم العدوان والبغي قابلوه بالقوة ودفعوه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] . وبالإجمال فإن النقد الذاتي يتخذ في القرآن الكريم، والسنة الشريفة شكل المبادئ الثابتة والموازين الدائمة التي توجه الإنسان؛ لأن يتحرى دوره هو نفسه في كل ما يصيبه في أي زمان، أو مكان ولا يبحث عن مبررات من خارجه. 2- تدريب المتعلم على التفكير الشامل بدل التفكير الجزئي: المقصود بالتفكير الشامل هو ذلك الأسلوب من التفكير الذي يتناول الظاهرة من جميع جوانبها، ويتحرى جميع أجزائها وما يتعلق بها. أما التفكير الجزئي فهو يركز على جزء من الظاهرة، ثم يعمم أحكامه على بقية الأجزاء. والقرآن الكريم يربط مستوى العلم بمستوى التفكير، فيسمي -ظاهر العلم- والإحاطة بالعلم- والرسوخ في العلم. أما ظاهر العلم فهو العلم السطحي الذي يقف عند الظواهر المرئية، وهو ثمرة التفكير الجزئي. أما الإحاطة بالعلم فمعناها العلم بحاضر موضوعات العلم، ومكوناتها الرئيسية وتفاصيلها الدقيقة التي انتهى العلم إليها في الوقت الحاضر. وأما الرسوخ في العلم، فمعناه العلم بماضي العلم، وبالمكونات الرئيسية لموضوعاته والتفصيلات والعلاقات القائمة بين هذه التفصيلات التي انحدرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 خلال التاريخ ثم القدرة على تركيبها كلها -أي حاضر العلم وماضيه- في كل واحد. والإحاطة بالعلم والرسوخ في العلم هو ثمرة التفكير الشامل. والإحاطة بالعلم تؤدي إلى التصديق، ولكنها لا تؤدي إلى اليقين بينما عدم الإحاطة بالعلم يؤدي حتما إلى التكذيب والاختلاف: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] . والرسوخ في العلم يؤدي إلى الإيمان كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] . وفي الغالب يرتبط التفكير الشامل بأوقات الاجتهاد والازدهار العلمي، ويكون العمق في البحث والاستقصار والمثابرة, ويكون للعلماء من التأني والصبر على مشاق البحث ما يصلون به إلى درجة الرسوخ والابتكار. ويرتبط التفكير الشامل كذلك بدراسة ما يعجب وما لا يعجب، بل إن دراسة ما لا يعجب إن كان باطلًا -خاصة في ميدان العقائد- هو مقدمة لرفض الباطل وتقبل ما هو حق. والقرآن يشير إلى أن معرفة الطاغوت مقدمة للكفر به، والرسوخ في الإيمان: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] . أما التفكير الجزئي فهو يرتبط -غائبًا- بأوقات الجمود والتقليد، وضعف القوي العقلية، والميل مع الهوى. وخطورة التفكير الجزئي أنه تفكير انتقائي ينتهي إلى الأحكام الخاطئة المضللة، ويقود إلى تمزيق وحدة الموضوع، وتجزئة الميادين المعرفية والظواهر العلمية مما ينعكس أثره على تجزئة الظواهر الاجتماعية، وتمزق وحدة الجماعات. وإلى أمثال ذلك يشير قوله تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ويشير القرآن إلى أن تجزئه التفكير والفهم -خاصة في الدين- يؤدي إلى الشرك؛ لأن التفكير والفهم الجزئيين يتركان فراغا تملأوه الأوهام، والأفكار الخاطئة: - {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31-32] . - {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] . وهكذا سواء أكان موضوع الفهم والتفكير هو الدين أم غير الدين، فإن التفكير الجزئي يؤدي إلى تعدد وجهات النظر وتباعدها، وتنافرها وينتهي في النهاية إلى تفتيت الجهود، والفشل في الوصول إلى الحقيقة، أو الثمرات المنشودة. 3- تدريب المتعلم على التفكير التجديدي بدل التفكير التقليدي: والتجديد الذي عناه القرآن هو التفكير الذي يتحرر من عوامل الألفة، والآبائية والتقليد، وينظر في الأفكار الجديدة نظرة وفي الواقع نظرة أخرى، ثم يقارن الفكر بالواقع ويتحرى الملائمة والصواب. ولذلك ربط القرآن النظر في آيات الكتاب -حيث الأفكار الجديدة- بالنظر في آيات الآفاق والأنفس -حيث الواقع والأحداث الجارية- ووجه التفكير الإنساني لاكتشاف نتائج هذا الربط التي تصدق آيات الكتاب. أما التفكير التقليدي فهو عدم استعمال القدرات العقلية، واللجوء إلى المحاكاة أو الآبائية والاكتفاء بالمألوف القائم. ولا فرق أن يدور التقليد حول نماذج قديمة جدًّا وأخرى جديدة جدًّا. فكلا النوعين تعطيل للقوى العقلية، وإن اختلفت ميادينهما وأدواتهما. {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ويستنكر القرآن جمود المقلدين، وهو يهتف بهم إلى التحرر من وأهام التقليد: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] . ويحذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكون الفرد عديم الفكرة مسلوب الإرادة. "لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت ... ". ويقول كذلك: "كونوا للعلم وعاة، ولا تكونوا رواة" [كنز العمال، جـ10، رقم 29335] . وفي سبيل ذلك يوجه الإسلام الإنسان إلى البحث في أسرار الكون، وعلائق الاجتماع وقوانين الوجود القائم سواء ما يتعلق بالإنسان، أو الحيوان أو الجماد. والآيات التي تدعو إلى النظر في الوجود المحيط هي آيات كثيرة جدا في القرآن الكريم. 4- تدريب المتعلم على التفكير العلمي بدل الظن والهوى: في القرآن توجيهات متكررة للحث على التفكير العلمي والتدرب عليه. فهو يدعو إلى عدم التسرع في إصدار الأحكام قبل استكمال المعلومات اللازمة، والتعرف على الحقيقة كاملة: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 1، وهو يحث على طلب الدليل في كل اعتقاد. والتوجيهات في ذلك كثيرة منها: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} 2. كذلك يدعو إلى التثبت في كل أمر قبل الحكم عليه بالقبول، أو الرفض وينهي عن تبديد الطاقات السمعية والبصرية، والعقلية في أمور لم   1 سورة الحجرات: الآية 6. 2 سورة الكهف: الآية 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 تتوفر لها الأدلة العلمية الكافية: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 1. وفي المقابل ينهى القرآن عن اتباع الظن ويندد بأهله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} 2، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 3. وفي الحديث: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" 4. والتفكير العلمي -في التربية الإسلامية- لا يقتصر على أماكن الدرس ومختبرات البحث، وإنما هو صفة لازمة للإنسان في الحياة اليومية، والعلاقات الشخصية والعامة والمواقف الودية والعدائية. والواقع إن مما يميز الفكر المتقدم، والمجتمعات المتقدمة عن الفكر المتخلف، والمجتمعات المتخلفة هو أن التفكير العلمي صفة أساسية في الأولى بينما التفكير القائم على الظن، والهوى صفة ملازمة للثانية. ولقد أدركت المؤسسات التربوية الدولية ضرورة التفكير العلمي للإنسان المعاصر، الذي يتطلع للتغلب على التحديات التي أفرزها التطور الهائل في التكنولوجيا، وانهيار الحدود الثقافية والاجتماعية بين المجموعات البشرية في -قرية الكرة الأرضية- ولقد ورد في تقرير اللجنة الدولية، التي كونتها منظمة التربية والثقافة، والعلوم "اليونسكو" لدراسة أوضاع التربية في العالم، وتقديم التوصيات بشأن تربية المستقبل أن الإنسان العلمي، الذي يستعمل التفكير في كل مكان، وفي كل موقف دون التأثر بإفرازات العرقية، أو الطائفية أو القبلية أصبح ضرورة كضرورات الحياة المادية ولوازم المعيشة اليومية5.   1 سورة الإسراء: الآية 36. 2 سورة النجم: الآية 23. 3 سورة النجم: الآية 28. 4 البخاري، جـ8، باب الأدب، ص23. 5 إدجار فور وزملاؤه، تعلم لتكون "اليونسكو، 1972" ص146، 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 5- تدريب المتعلم على التفكير الجماعي بدل التفكير الفردي: في القرآن الكريم والسنة الشريفة توجيهات، وتطبيقات متكررة هدفها تدريب الإنسان على التفكير الجماعي الذي يربط مصير الفرد بالجماعة، ومصير الجماعة بالفرد، ويجعل تبادل الرعاية بين الطرفين صفة لازمة للمجتمع الراقي. والتوجيها المتعلقة بهذا الشأن كثيرة جدًّا من ذلك قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 1 وقوله -صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" 2 و "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 3. ويلحق بذلك تظافر التفكير الجماعي ليتجسد في مبدأ الشورى، ومثال القوم الذين ركبوا في سفينة، وإن جميعا مسئولون عن سلامتها، وتوفير حاجات بعضهم بعضا من الماء وغير ذلك. 6- تدريب المتعلم على التفكير السنني بدل التفكير الخرافي، أو التفكير الخوارقي: التفكير السنني الذي يشدد عليه القرآن، ويكرر لفت الانتباه إليه هو التفكير الذي يعتبر أن الكون، والاجتماع البشري تسيره سنن -أي قوانين- إلهية معينة وأن التعايش مع عناصر الكون، والنجاح في مجرى الاجتماع البشري إنما يعتمدان على مواقفة هذه السنن، والقوانين في ميادين الحياة المختلفة. وبمقدار ما ينجح الإنسان في الكشف عن هذا السنن، والقوانين وفي حسن استخدامها والتوافق معها بمقدار ما يستطيع تسخير الكون   1 سورة الأنفال: الآية 25. 2 البخاري: الصحيح، جـ2، كتاب الجمعة، ص6. 3 مسلم، الصحيح، جـ16، باب البر، ص140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 والاجتماع البشري لتحيق المقصدين النهائيين للتربية الإسلامية وهما: بقاء النوع البشري، ورقيه خلال أطوار والحياة والمصير. أما التفكير الخرافي الذي اتسمت به أطوار الطفولة البشرية، والذي كان يتوهم الهيمنة والفاعلية في قوى موهومة، وأرواح مخترعة جسدها التصور البشري آنذاك بأشكال الصنمية، والوثنية ورموزهما المختلفة، فهذه لا بد للتربية الإسلامية أن تكون دائما على حذر من آثارها، ومظاهرها في اغتصاب القدرات العقلية، وآثارها المدمرة في السلوك والاجتماع. كذلك يوجه القرآن والحديث إلى ضرورة التحرر من التفكير الخوارقي الذي يعفي الإنسان من مسئولياته في التغيير، والعمل وينتظر حدوث -الخوارق والمعجزات الإلهية- في تحقيق حاجاته وحل مشكلاته. فهذه الخوارق -وإن حدثت في عهود سابقة، وفي مواقف محدودة- إلا أنها ظواهر تاريخية مضت وختمت بختم النبوة والرسالة، وانتقال البشرية إلى طور الرشد الذي حددت بداياته وملامحه ختم الرسالة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- والذي قام جهاده -أساسًا- على الجهود البشرية العادية وإحكام تعبئة المقدرات البشرية المألوفة، ومراعاة السنن والقوانين الإلهية في جميع الشئون: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43] . {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] . جـ- أنواع التفكير: أما عن القسم الثالث لمنهج التفكير السليم، وهو -أنواع التفكير- فهذه تتضمن ما يلي: 1- التفكير المنطقي أو التحليلي: وهو يختص بالنظر في معاني الرموز التي تدور حول العلائق، والأسباب، والنتائج مثل التفكير الرياضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 والتفكير الفلسفي، ويمارس عمله في ضوء مجموعة من القوانين والنظريات. 2- التفكير التجريبي، وهو يختص بالموضوعات التي تدور حول الحقائق المتعلقة بعناصر الكون المحسوس مثل التفكير الفيزيائي والكيميائي، ويقوم بإصدار الأحكام في ضوء الخبرات البشرية المحسوسة بعناصر الكون ومحتوياته. 3- التفكير الأخلاقي، وهو يهتم بالتقريرات التي تفاضل بين المواقف والأعمال وتقومها. ويصدر أحكامه إزاءها من حيث صلاحها أو سوئها، وخيرها أو شرها في ضوء عقائد ومبادئ معينة. 4- التفكير الجمالي، وهو يهتم بالتقريرات التي تفاضل بين الأشياء، والمواقف والأعمال والمنتجات، ويقومها ويصدر أحكامه إزاءها من حيث جمالها، أو قبحها في ضوء معايير جمالية معينة. والأزمة التي تعاني منها نظم التربية المعاصرة هي الانشقاق القائم بين أنماط التفكير المشار إليها، وعدم تكاملها مما ينعكس آثاره على نتاج هذه الأنماط من التفكير في ميادين الأعمال، وفي المواقف الحياتية المختلفة. فالذين يغلب عليهم التفكير المنطقي يكون صوابهم واضحًا -مثلا- في ميادين الرياضيات والفلسفة، والقانون ولكن خطأهم يكون أوضح حين يجنحون إلى ميادين الذوق، والعلاقات الإنسانية الرفيعة والأخلاق، ومثلهم أصحاب التفكير التجريبي، والجمالي يكون صوابهم واضحا في ميادين الاعتقاد والأخلاق. وتعاني المؤسسات الإسلامية التربوية التقليدية من هيمنة التفكير الأخلاقي على جميع الميادين. ومع أن الصواب والنفع واضحان في ميدان الأخلاق، إلا أن سلبيات هذا التفكير تكون فادحة حين يتخطى ميدانه إلى الميادين الأخرى. ولذلك يشيع في الحياة الإسلامية المعاصرة نقص واضح فيما يتعلق بميادين التفكير التحليلي، والجمالي من حيث تعشق المعرفة وحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 النظام وتقدير قيمة النظافة، وجمال العلاقات الاجتماعية العامة وحسن تحليل المشكلات. ثالثا: كيفية تنمية القدرات العقلية ومنهج التفكير السليم المحور الرئيسي في المنهج اللازم لتنمية القدرات العقلية والتفكير السليم هو التفاعل مع عناصر الكون القائم والأحداث الجارية فيه. فالقدرات العقلية تنمو وتنضح من خلال دراسة هذا الكون، وعناصره المتناثرة في الكرة الأرضية وغيرها من الكواكب. ولذلك كانت التوجيهات الإسلامية للسير في الأرض، والبحث في نشأة عناصر الوجود وتطور هذه العناصر وتركيبها. أما التفاعل مع الأحداث الجارية، فلا بد أن يتم هذا التفاعل في بعدين رئيسين: البعد المكاني والبعد الزماني، أو نقول بعد الجغرافيا وبعد التاريخ، وإلى البعد المكاني كانت التوجيهات القرآنية للبحث في آثار المجتمعات الماضية، ونشاطات المجتمعات القائمة، وذلك بقصد الوقوف على قوانين الله في انهيار المجتمعات الماضية، ثم النظر في بدء هذه المجتمعات، والتطورات التي اعترتها أو تعتريها خلال مسيرتها الطويلة، وكذلك النظر في المجتمعات المعاصرة، وتحليل عوامل قيامها ونشاطها الجاري. أما البعد الزماني فقد تعددت الإشارات، والتوجيهات القرآنية إليه من خلال الدعوة للنظر في أحداث التاريخ، وتطور الحضارات والمجتمعات، والظواهر الاجتماعية والدينية، والثقافية التي رافقت العصور والأزمان المتتالية. وكلما اتسعت رحلة القدرات العقلية، وعملية التفكير خلال بعدي الوجود الزماني، والمكاني المشار إليهما كلما نمت هذه القدرات، وأحكمت عملية التفكير، وتمكن الإنسان من مواجهة المشكلات القائمة بثقة، وقدرات عقلية مناسبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ولا بد من الانتباه إلى أن تنمية القدرات العقلية تحتاج إلى مراعاة عدد من الأمور هي: 1- إن القدرات العقلية تولد كامنة في الإنسان، وهي تنمو وتشتد بالرعاية والتربية، وتضعف أو تموت بالإهمال أو سوء الاستعمال، أو سوء التربية أو سوء السلوك والتطبيقات الخاطئة، أو أجواء القهر والتسلط. والإشارات القرآنية إلى أمثال ذلك كثيرة ومتعددة تجتمع الإشارة إليها جميعا في مثل قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] . 2- إنه لا نهاية للقدرات العقلية بل هي متنوعة، ومتدرجة بتنوع الموجودات وظواهر الكون ومواقف الحياة، وإن في الإنسان قدرات عقلية هائلة ما زال القسم الأكبر منها لم يستعمل. ويشير القرآن إلى أن في الإنسان قدرات عقلية تمكنه من معرفة المخلوقات كافة، والوقوف على نشأتها وتكوينها وما يتعلق بها، ثم تلخيص ذلك كله في أسماء جامعة مانعة. وإلى هذه القدرات يشير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] . 3- إن مجموع العمليات العقلية والتفكيرية التي يقوم بها الإنسان في مواجهة موقف معين هو عملية العقل كعملية الهضم، أو الشرب أو النوم. والعاقل هو من كانت لديه القدرات العقلية التي يتطلبها الموقف، ويستطيع القيام بالخطوات التفكيرية بالترتيب الذي ذكرناه. والتمرس بهذه القدرات والمهارات حتى درجة الإحاطة بالموقف، ومعالجته إلى الدرجة التي تحلل المشكلة وتفرز الحلول المطلوبة هو الحكمة، التي تعجل صاحبها حكيما بسلوكه خبيرا بموضوعه. 4- إن الفشل في تربية القدرات العقلية، ومنهج التفكير يفرز آثارا خطيرة جدا في حياة الفرد والمجتمعات سواء. فالفرد الذي لا تنضج قدراته العقلية ومنهج التفكير فيه حين يحس بمشكلة ما أو يواجه موقفا معينا فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 يصاب بالحيرة، ويظل يدور في دوامة الإحساس بالمشكلة ولذع الجهل بها حتى ينتهي الأمر به إلى أحد موقفين: إما أن ينفعل ويركب التعسف، والتخبط وإما أن يلفه الدوار ويستسلم للموقف المشكل ثم يئول إلى الانهيار. وكلا الموقفين مظهر من مظاهر القصور العقلي والفشل في مواجهة المشكلة أو الموقف. وقد يكون لدى الفرد القدرة العقلية الأولى -القدرة على الحفظ، أو القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها. ولكن لا يكون لديه القدرات التالية كالفهم والتحليل والتقييم، والتطبيق وقد يكون مضطرب التفكير كأن يقفز من الخطوة الأولى، وهي الإحساس بالمشكلة إلى الخطوة الأخيرة، وهي طرح الحل واستعماله. وقد ينظر للمؤلف نظرة جزئية فيتعلق بالمعلومات الناقصة، ويصدر الحكم. وهذه الحالات هي ثمرة التربية العقلية الناقصة، أو الخاطئة وفي جميع هذه الحالات لا يصل صاحب هذا النوع من العقل، والتفكير إلى الحل أو الحكم الصحيح، وتنعكس آثار هذا النقص سلبيا عليه وعلى من حوله، ويسمى غير عاقل. والفرد الذي يعاني من هذا النقص لا ينتفع بالموجودات المحيطة به ولا يسهم بتسخيرها. والمجتمع الذي لا يهيئ لأفراده البيئات التربوية الحرة لتنمية القدرات العقلية ومهارات التفكير، ولا المناهج والمؤسسات والوسائل اللازمة لذلك يظل مجتمعا متخلفا غائبا عما حوله ويعش كلا على غيره، ولا ينتفع بالموجودات المحيطة به ولا يسخرها، ولا ينتفع بالأحداث والتيارات التي جرت في الماضي أو تجري في الحاضر، وتنقلب مصادره البشرية والمادية شئوما عليه. وإلى هذا العجز يشير القرآن الكريم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] . 5- لا بد من ملاحظة أن المنهج الذي يكشف عن القدرات العقلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ويرعى تنميتها هو منهج علمي يتخذ مختبره من ميدان الآفاق، والنفس البشرية وأنماط الحياة الاجتماعية، وآثار القدرات العقلية نفسها في عالم الواقع وفي ميادين الكون. وليست الاستشهادات التي سقناها من القرآن والسنة إلا إشارات توجيهية لدخول المختبر المشار إليه. أما المنهج اللغوي أو التأملي الذي استعمله الماضون، فهو منهج أوقعهم في كثير من الأخطاء، وقاد إلى نكسات هائلة في ميادين العلم والفكر والاجتماع. 6- إن إتقان منهج التفكير وأشكاله والتدرب على مهاراته، وكذلك نمو القدرات العقلية شرطان أساسيان في الفهم والسلوك. فالقرآن يذكر بوضوح أن الذكري فيه هي لأولى الألباب، وأن الذين يتقنون مهارات العلم والتعلم هم الذين يعلمون مراميه ومقاصده، بينما يفتقر المعرضون عنه إلى المهارات الأولية في التعلم، وهي حسن الاستماع الذي أقر المعرضون بآثار فقدانه حين اعترفوا بعدم الفهم، وقالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 3-5] . رابعا: توفير بيئة الحرية اللازمة لتنمية القدرات العقلية والتفكير السليم تحرص التربية الإسلامية على توفير البيئة المناسبة لنمو القدرات العقلية نموا سليما. وأبرز سمات هذه البيئة أمران: الأول، الحرية. والثاني، الممارسة والتدريب على التفكير الحر. أما عن السمة الأولى وهي -الحرية- فلأن القدرات العقلية -كالنبات- تنمو وتزدهر في أجواء الحرية. وهي تموت أو تتشوه في أجواء الكبت الفكري والقهر الإرادي، وحين تموت القدرات العقلية أو تعاق عن النمو وتتشوه لا يكون هناك شهود للمثل الأعلى، ولا إدراك لبراهين صدقه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولذلك لا يكون هناك إيمان حقيقي به، وإنما تسليم وتقليد أعمى، أو آبائية ونكران، أو مراءاة ونفاق، وبالتالي لا تتولد -الإرادة العازمة- التي هي الزوج الأول لتوليد "العمل الصالح". كذلك لا يكون هناك شهود للخبرات الكونية، ولذلك لا تتولد -القدرة التسخيرية- التي هي الزوج الثاني لتوليد العمل الصالح. لذلك يمكن القول -جزما وتأكيدا- أن الحرية في الأمة المسلمة هي فرض عين، وعلى الجميع القيام بها وممارستها وتوفيرها، وحمايتها من الطغيان الداخلي ومن العدوان الخارجي. وإذا غابت الحرية وقع الإثم على الجميع وذلك لسببين: الأول، إن الحرية سبب رئيسي لنمو القدرات العقلية التي يفهم القرآن بواسطتها، وتفهم آيات الله في الآفاق والأنفس، فإذا لم توجد هذه القدرات العقلية اقتصر الإنسان على تلاوة آيات الله في القرآن، وحفظ آيات الله في الآفاق والأنفس دون فهم لمقاصدها النهائية، وتحول كالحمار يحمل أسفارا. والثاني، أن غياب الحرية يؤدي إلى ضعف القدرات العقلية وضمورها -إن كانت موجودة- مما يمهد لعودة الصنمية والوثنية والتخلف. فالحرية هي مظهر التوحيد، والتوحيد في جوهره حرية؛ لأنه تحرر من عبودية الأشخاص والأشياء، والأفكار الخاطئة أو الخرافية. فالحرية -إذن- تعني الاختيار المستنير، العارف، الواعي، أي هي العمل الذي تتضح منطلقاته وأهدافه، ويصدر عن ذات الشخص وعن قواه العقلية، والنفسية الناضجة المتكاملة، ويبطل فيه تأثير الحاجة، والعادة، وترديد مقولات الآخرين وتأثيراتهم وإيحاءاتهم، خلال الأحكام الأساسية عن الخير والشر1. والحرية بهذا المفهوم تختلف عن الحرية السائدة في المجتمعات   1 يتحقق هذا المفهوم لـ -الحرية- بالإيمان حسب مفهومه الإسلامي؛ لأنه يقوم على التحرر من الصنمية بمختلف رموزها. ولذلك لا يكون العوام والجهلة، وأصحاب التقليد المذهبي وأولي العصبيات أحرارا، وليسوا مؤهلين لممارسة الحرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الغربية الحديثة وامتدادها حيث تعني استجابة الإنسان لخواطره، أو غرائزه ودوافعه العفوية دون تزكية نفسية أو تربية عقلية. وتحقق الحرية في واقع الحياة حين لا يقيدها إرادة مخلوق أو تأثيره، ولا تخرج عن سنن الخالق وقوانينه في الوجود. ولذلك تحدث أزمة الحرية حين تقيدها إرادات المخلوقات أو آثارها، أو حين تخرج عن توجيهات الخالق، فتصطدم بقوانين الخلق وسنن الحياة في مواقع كثيرة من شبكة العلاقات التي تنظم علاقات -إنسان التربية الإسلامية- بالخالق والكون والحياة، والإنسان والمصير. والحرية -في المفهوم الغربي ثلاثة أنواع: حرية التفكير، وحرية الاختيار، وحرية العمل. أما في المفهوم الإسلامي فهي أنواع أربعة تضم الأنواع الثلاثة التي يشتمل عليها المفهوم الغربي مضافا إليها نوع رابع هو -حرية عرض المثل الأعلى- التي يشير إليها القرآن عند قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} . وأهمية النوع الرابع من الحرية أن الأنواع الثلاثة الأولى لا معنى لها دون الرابع؛ لأنها إطار والرابع محتوى، ولذلك ربما أدت إلى نتائج سلبية إذا لم يوجد النوع الرابع -أي المثل الأعلى- إذ تصبح المشكلة هي: يفكر الإنسان بماذا، ويختار ماذا، ويعمل ماذا؟ إن جواب هذا الـ"ماذا" هو نموذج المثل الأعلى -أي النموذج المثالي للحياة. وهو ما يسميه القرآن الكريم- شرعة ومنهاجا. فالشرعة تعني -مبتدأ أو منطلقًا- يبدأ الإنسان منها عمليات التفكير والاختيار والعمل. والتفكير الفلسفي المنقطع عن الوحي يسميها -مسلمات يتخيلها الفيلسوف، أو المفكر ويبني منها -نموذج المثل الأعلى- الذي يطرحه للناس، وفي الغالب يشترك الناس في التخيل وطرح نماذج المثل الأعلى طبقا لدوافعهم وحاجاتهم الآنية العفوية غير المنظفة. والمثل الأعلى لا بد أن يكون -نموذج تشغيل الجهاز أو الآلة- من مصممها، ومهندسها، والمشرف على صناعتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 والسؤال الذي نطرحه هنا: ما هي الأداة التي يمارس الإنسان بواسطتها هذه الأنواع من الحرية، هل هي الدوافع أم العقل؟ في الحضارة الحديثة يغلب استعمال -الدوافع- كأداة لاختيار نوع الحرية. والدوافع أدوات عمياء غير مبصرة لا تختار إلا الحاجات الأساسية السفلى. أما في التربية الإسلامية فالعقل هو أداة هذا الاختيار شريطة أن تكون القدرات العقلية ناضجة مكتملة، وهي ما يشير إليها القرآن باسم -الألباب. ولقد انتبه إلى هذا الأمر -بول هـ. هيرست- حيث كتب يقول: "إن مبدأ -حرية إقرار الأفعال- أساسي في القيم الأخلاقية. ولكن يوجد إلى جانبه مبادئ أخرى. فالحرية لا تؤدي قراراتها إلى نفع أخلاقي ما لم تتم هذه القرارات في الحدود التي يقررها العقل"1. ويرتبط بالأمر المذكور أعلاه الانتباه إلى مؤهلات المربي الذي يدرب الناشئة على الحرية، ويقدم لهم قدوة ممارساتها. وفي ذلك يقول الفيلسوف -فرتز شوماخر: "إن المربي كالجنائي الماهر الذي يعمل على تطوير تربة خصبة مناسبة حيث يغرس فيها النبات الغض وينمو بجذور وأغصان قوية. وخلال هذا النمو يجد جميع عناصر الغذاء التي يحتاجها. والنبات الغض سوف ينمو طبقا لقوانين النمو التي هي دقيقة ونافعة إلى درجة لا نستطيع تصورها. والنبات سوف ينمو بشكل أفضل حينما يعطى أقصى درجات الحرية ليختار عناصر الغذاء التي تناسبه. أي أن الحرية تشكل عاملا أساسيا في التربية"2. وهنا تبدو درجة الخطر الذي تتسبب به الأمة حين تسلم معاهد التعليم   1 paul H. Hirst, Moral Educatin in Secular Society,"London: University of London Press, 1974" P.61. 2 E. Fritz. Schumacher, A. Guide For the Perplexed. "New york: Harper & Pubishers, 1977" P.122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ومنابر الإعلام والصحافة والتلفزيون، والسينما لمرتزقة المعلمين وقاصري العقول، ومتوسطي الذكاء من المعلقين الصحفيين والإعلاميين وبائعي المتع والشهوات ليشوهوا معنى الحرية وتطبيقاتها. وأما عن -السمة الثانية- وهي الممارسة العملية للحرية، والتدرب على التفكير الحر فيمكن القول أن الأصول الإسلامية تطلقها كاملة حين تجعل للصواب من ثمرات التفكير أجرين، بينما تجعل للخطأ أجرا واحدًا، مع ملاحظة أنها لم تخصص أجرا للخطأ إلا في ميدان التفكير والاجتهاد العقلي. ومعنى هذا أن من لا يري الله أثر نعمته عليه في العقل، والتفكير لا ينال من الله أجرًا، وأن من يخطئ في استعمال هذه النعمة هو أفضل من المعطل لها العاجز عن استعمالها، المستسلم للإبائية والتقليد. ولتكون الحرية كاملة تعمد التربية الإسلامية إلى تطهير البيئة من جميع الضغوط، والقيود التي تحول دون هذه الحرية، فتزكيها من الصنمية والخرافة اللتين تحولان دون حرية التفكير، ومن الطغيان الذي يحول دون حرية الاختيار، ومن الخوف والجمود اللذين يحولان دون حرية العمل، ومن الظلم الذي يحول دون حرية عرض المثل الأعلى. أزمة الحرية في التربية المعاصرة: تتباين أزمة الحرية في التربية المعاصرة في كل من المجتمعات التي توصف بالتقدم، والمجتمعات التي توصف بالنمو أو التخلف. ويمكن التعرف على طبيعة هذه الأزمة من خلال أمرين: الأول، فحص القيم التربوية والعلمية السائدة في النوعين من المجتمعات. والثاني، تتبع تطور حرية الإنسان في كل من البيئتين المذكورتين. أما عن الأمر الأول، أي القيم التربوية والعلمية فيلاحظ أنه في المجتمعات التي توصف بالتقدم تنبع قيم حرية التفكير والتعبير، والعمل والاختيار من المؤسسات التربوية ابتداء حيث يعطي المربون حرية التفكير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 والتعبير والعمل، والاختيار كاملة لتلاميذهم وطلابهم، ويتعاملون بها مع أقرانهم في مجالس المعلمين، ومجالس الكليات والجامعات وعلى صفحات الكتب والمجلات، وفي المؤتمرات والندوات. أما في مجتمعات العالم الثالث -ومنه المجتمعات العربية والإسلامية. فجميع شرور الإرهاب الفكري وكبت الحريات تنبع -ابتداء- من المؤسسات التربوية. وجميع المربين ذاق ويعرف أساليب القسر البيروقراطي والإلزام السلطوي، والأسلوب الواحد المفروض في التفكير والتلقي، والاستظهار والتعبير والامتحان الذي يمارسه المعلمون إزاء المتعلمين ابتداء من المستوى الابتدائي حتى المستوى الجامعي. والكل خبر -وما زال يخبر- المشاحنات والعداء، والبغضاء والطعن بالتعبير الشفوي، والكتابي الذي يقع به الزملاء والنظراء من المعلمين والدكاترة إزاء ملائهم إذا خالفوا مقولاتهم في مجالس المعلمين، أو مجالس الأقسام والكليات والجامعات، أو مناقشات أطروحات الماجستير والدكتوراه. وأما عن الأمر الثاني، وهو تتبع تطور حرية الإنسان في كل من البيئتين فيلاحظ أن المؤسسات التربوية، والموروثات الثقافية والقيم الاجتماعية ومؤسسات الإعلام، والأمن والإرادة تتظافر كلها -في العالم الثالث- لسلب الإنسان حرية التفكير وحرية الاختيار سواء. لذلك تظل القدرات العقلية معطلة عن النمو معوقة عن الاستعمال. ففي الشرق العربي وما حوله -مثلًا- تبدأ المؤسسة التربوية الأولى -أي الأسرة- في كبت الحرية وتطويع إرادة الصغير للكبير والضعيف للقوي. منذ الساعات الأولى لولادة الإنسان، حيث تسلب حرية المولود في الحركة من خلال ما يسمى بـ"التقميط والتلفيع" أي لفه بالقماش الذي يكبل يديه ورجليه، ويحيله إلى أشبه بالجثة المكفنة. كذلك يمنع من البكاء الذي يشكل المقدمة الأولى لحرية التعبير، ويمنع من اليقظة ويجبر على الاستسلام والنوم بالتخدير المادي والمعنوي. وحين يبدأ المولود رحلته في محطات الشهور يمنع من لمس مواد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 البيئة المحيطة وإذا حاول التعرف على تفاصيل محتوياتها تعرض للعقاب، والتأنيب ووجهت إليه تهم الشيطنة والتخريب. وحين نقل الشرق ظاهرة لعب الأطفال صارت اللعب تشترى باسم الصغار ليلعب بها الكبار ويستأثرون بها بحجة الحفاظ عليها من تخريب الأطفال وإفسادهم. وحين يبدأ الطفل رحلته في محطات السنين تبدأ قولبة عقله، ومشاعره وسلوكه بقوالب الآبائية والعصبية، والتقاليد والقيم المتفرعة عنهما بأساليب قسرية ملزمة. وحين ينتقل الطفل إلى الروضة ثم إلى المدرسة يتابع المعلم دوره في كبت حريات الطفل الأربع: حرية الحركة، وحرية الكلام، وحرية التفكير، وحرية الاختيار. ويبدأ في تدريبه على تسمير جسده في المقعد والتلقي دون تفكير أو ممارسة، وينتصب المعلم أمامه آمرا ناهيا معصوما من الخطأ مبرءًا من النقص. وبذلك يعده ليرى كل مسئول يعلوه في المستقبل بنفس الصورة فلا يناقش ولا يشارك بل يتلقى وينفذ. ولا تختلف تقاليد الجامعة في الشرق ومناهجها عن تقاليد، ومناهج المدرسة كثيرًا. ويكمل عمل البيت والمدرسة والجامعة مؤسسات الإعلام، والصحابة والوعظ فجميعها تمارس الإلقاء بدون نقاش، والقولبة بدون تمحيص، والاتباع بدون تفكير. وهكذا تتظافر المؤسسات التربوية ابتداء من البيت حتى الجامعة، والبيئة المحيطة لخنق القدرات العقلية عند الناشئ، ولتخريج إنسان يحفظ ذهنه ولا يعقل، وتقع عيناه على آيات الله في الآفاق، والأنفس إذا مر بها ولا يبصر، وتطرق أذنيه الأقوال ولا يسمح. وتكون محصلة العمل التربوي قولبة مواطن متدرب على أن يسمع فيطيع، ويتلقى فلا يناقش، ويؤمر فيعمل دون تفكير بالنتائج. أما في المجتمعات المتقدمة، فإن المولود يترك منذ الساعات الأولى للولادة طليق الحركة وينظر إلى بكائه كظاهرة صحية لازمة لتوسيع أجهزة التنفس، وتمرين أوتار الصوت، وتهيئتها للقيام بحرية التعبير في الحياة المقبلة. وحين يمضي في محطات الشهور يعتبر لمس الطفل لمواد البيئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 المحيطة شارة لبدء عمل القدرات العقلية ونموها للتعرف على مكونات البيئة وقوانينها. ولذلك نشأت من أجله صناعة ألعاب الأطفال لتسهم في نمو قدراته العقلية، وتشبع استعداداته في دراسة ما حوله. وحين يمضي الطفل في محطات السنين يعطي الحرية كاملة -في البيت والمدرسة والجامعة- لفحص ما يرى، ومناقشة ما يسمع، والتعبير عما يشعر، وتطبيق ما يفكر، والمشاركة في النشاطات الدائرة والتدرب على أدوار الحياة المقبلة والإسهام في مواجهة تحدياتها، ومعالجة مشكلاتها. هكذا تتظافر المؤسسات التربوية -ابتداء من البيت حتى الجامعة والبيئة المحيطة- لرعاية القدرات العقلية عند الناشئ، ولتوفر لها فرص النمو وأسبابه وبيئته، وليستمتع بالحرية طفلا في البيت، وتلميذا في المدرسة، وطالبا في الجامعة، وبذلك يتذوق قيمة الحرية مواطنًا في أمة، ويرعاها ربا في أسرة، ويذود عنها ممثلا في البرلمان أو جنديا في الميدان، أو عضوا في المجتمع، ويمنحها للآخرين حاكما في دولة أو وزيرا في وزارة، أو مديرا في دائرة، وهكذا في بقية مواقع المسئولية التي ترعى العلاقات الاجتماعية وتنظمها. وهنا قد ينهض سؤال وهو: لماذا انتهت الحرية في المجتمعات المتقدمة -خاصة في المجتمعات الغربية- إلى ما نراه من فوضى أخلاقية في علاقات الجنسين، وتناول المسكرات والمخدرات وانهيار الأسر؟ والجواب أنه ليست الحرية هي السبب في هذه الفوضى الأخلاقية، وإنما السبب هو سوء "المثل الأعلى" -أي نموذج الحياة- الذي تعرضه مؤسسات التربية والإعلام، والتوجيه والإدارة أمام القدرات العقلية لإنسان المجتمعات المذكورة. فهذا "المثل السوء" يعرض للحرية مفهومًا يتصف أحيانا بضعف الإرادة وأحيانا بطغيانها مما يفرز إرادة جازمة، ولكن غير نبيلة. فالإنسان الغربي -مثلا- لا يضيره -بل يسره- أن تصحب نساؤه الأصدقاء وتحضرهم إلى غرف النوم. ولكن ثائرته تثور ولا تهدأ، وثائرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 كل ما يسمع أو يرى إذا تعرضت المرأة -أية امرأة- للاغتصاب أو التحرش. فـ"المثل الأعلى" السيئ -هنا- لا يدفع الرجل للثورة من أجل عفة المغتصبة وحريتها سواء، وإنما يبالغ في الدفاع عن حرية الاختيار، ويضعف إلى درجة الصفر عن نصرة العفة. ومثاله ما تطالعنا به الصحف المحلية هناك عن شكاوى بعض الزوجات إلى المحاكم؛ لأن الأزواج دنوا من فرشهن رغمًا عنهن. فالعامل الأساسي -إذن- في الانحرافات الأخلاقية هو -المثل السوء- المعروض أمام القدرات العقلية وليست الحرية، فهو ينتصر للحرية وحدها دون الفضيلة، تماما كالعربي أو المسلم التقليدي الحاضر الذي ينتصر للفضيلة دون الحرية. والغربي حين يبدل "المثل السوء" بـ"مثل أعلى" عال كأن يبدل "المثل المسيحية واليهودية، وفلسفة عصر النهضة" بـ"المثل الأعلى الإسلامي" وتشاهد قدراته العقلية "المثل الأعلى الإسلامي"، وتتفاعل معه فإنه لا يتضرر أبدا بأجواء الحرية من حوله بل إنها تصبح دعما لإبداعاته الإسلامية، وعاملا مسهلا لنشاطاته. مسئولية التربية الإسلامية إزاء الحرية: وفي ضوء ما مر تتجدد مسئولية التربية الإسلامية، ومؤسساتها المنشودة إزاء قضية الحرية فيما يلي: أولا، مراجعة الموروثات الثقافية، والقيم الاجتماعية لتعود -للحرية- مكانتها في قلب نظام القيم السائدة في المجتمعات الإسلامية، ولترفع المؤسسات التربوية درجة غيرة الإنسان المسلم على حريته إلى درجة غيرته على نسائه، بل أشد، وليتحاشى الاعتداء على حريات الآخرين أو هتكها، أو اغتصابها كما يتحاشى الاعتداء على أعراضهم ونسائهم. فالتربية الإسلامية في عصر النبوة وضعت الحرية في محور الحياة الاجتماعية، وأنجبت -جبل عمر بن الخطاب- الذي ثارت ثائرته على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 عمرو بن العاص حين هتك ولده حرية القبطي في مصر، فانفجرت قداسة الحرية على لسان عمر وقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!! في الوقت الذي أعمل سوطه تأديبا لابن عمرو، ودفع السوط إلى القبطي ليجيله على صلعة عمرو، والذي بعزته تطاول ابنه على حرية القبطي. وحين هجرت مؤسسات التربية الإسلامية رعاية الحرية دخلت الأمة كلها في نفق مظلم، اغتصبت الحريات فيه لقرون دون حس أو شعور. ثانيًا، دخول ميدان التربية العالمية لطرح نموذج "المثل الأعلى الإسلامي" المتعلق بالحرية الإنسانية طرحًا يرقى إلى مستوى "الجدال الأحسن" أسلوب ومحتوى، خلال التفاعل الحضاري، والتربوي والثقافي الذي تزجيه الحضارة الحديثة إلى جميع "حارات قرية الكرة الأرضية". ولن تستطيع التربية الإسلامية، ومؤسساتها القيام بهذا الواجب العالمي إلا إذا نجحت في بيئاتها الخاصة في رعاية -قيمة الحرية- ورفعها إلى المكان اللائق بها في نظام القيم السائدة. فهذا النجاح سوف يوفر للمتعلم المسلم التفاعل مع نموذج "المثل الأعلى" الإسلامي، ويقدم الأفراد المسلمين والمجتمعات الإسلامية كنماذج حية ملموسة للذين يعانون من غياب المثل الأعلى في الحضارة الحديثة، فيتأسون بأهلها ويتوجهون لمصادرها. خامسا: تربية القدرات العقلية عند المؤسسات التربوية الإسلامية قديماوحديثا: في المصادر الإسلامية التاريخية إشارات على أن المشتغلين بالتعليم في القرون الأولى، انتبهوا للقدرات العقلية واشتغلوا بتصنيفها. وأولى الإشارات المباشرة هي تصنيف سفيان الثوري المتوفى عام 148هـ. وهذا التصنيف كما يلي: الإنصات، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم العمل، ثم النشر. وتابعه في التصنيف تليمذه المباشر عبد الله بن المبارك حيث قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 "أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر". ويلاحظ على التصنيفين إنهما يمزجان القدرات العقلية، والمهارت الحسية المرافقة. ولقد جمع أحمد رزوق "المتوفى عام 899هـ" مختلف التصنيفات في قاعدة عامة هذا نصها: "لكل شيء وجه. فطالب العلم في بدايته، شرطه الاستماع والقبول، ثم التصور والتفهم، ثم التعليل والاستدلال، ثم العمل والنشر. ومتى قدم رتبة عن محلها حرم الوصول لحقيقة العلم من وجهها. فعالم بغير تحصيل ضحكة، ومحصل دون تصور لا عبرة به، وصورة لا يحصنها الفهم لا يفيدها غيره، وعلم عري عن الحجة لا ينشرح به الصدر، وما لم ينتج فهو عقيم. والمذاكرة حياته لكن بشرط الإنصاف والتواضع. وهو قبول الحق لحسن الخلق. ومتى كثر العدد انتفيا، فاقتصر ولا تنتصر واطلب ولا تقصر وبالله التوفيق"1. ويمكن أن نمثل لخلاصة هذه التصنيفات بالشكل التالي: كذلك ظهرت بعض التصنيفات التي حاولت التعريف بالعقل ومظاهره   1 ماجد عرسان الكيلاني، تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية، ص96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 مثل كتاب "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" -لابن حبان، وكتاب "المسائل في أعمال القلوب والجوارح، والمكاسب والعقل" للمحاسبي. ومما قال فيه: "العقل له ثلاث معانٍ: الأول، غريزة يعرف بها الإنسان ما ينفعه وما يضره، والثاني: الفهم والبيان. والثالث: البصيرة والمعرفة بقدر الأشياء النافعة والضارة في الدنيا والآخرة"1. أما -الرازي- فقد قسم القدرات العقلية إلى ثلاثين قدرة عرف كلا منها في كلام طويل مفصل. أما هذه القدرات فهي: الإدراك، الشعور، التصور، الحفظ -التذكر، الذكر، المعرفة، الفهم، الفقه، العقل، الدراسة، الحكمة، اليقين "علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين"، الذهن، الفكر، الحدس، الذكاء، الفطنة، الخاطر، الوهم، الخيال البديهة، والأوليات أو البديهيات، الروية، الكياسة، الخبرة، الرأي، الفراسة وهي نوعان: نوع يحدث بالإلهام، ونوع بالاستدلال2. ولقد تفرع الحديث حول العقل، ومظاهره وعلاقته بالوحي عند مدارس الفقه، وعلم الكلام والتصوف والفلسفة. إلا أن هذه الدراسات والمجادلات اتصف بأمرين: الأول، أنها لم تعتمد المنهج العلمي التجريبي -كما هي حال علم النفس المعاصر- وإنما اعتمدت على الاشتقاقات اللغوية، والتأملات الفلسفية. والأمر الثاني، إن هذه الدراسات والمجادلات لم تصل إلى نتائج حاسمة حول ماهية العقل وآثاره. فقد ظلت الأكثرية تعتبر العقل جوهرا مستقلا. وتعكس كتابات أمثال ابن مسكويه والغزالي، وعلماء المعتزلة، والأشاعرة والفلاسفة وغيرهم هذا التصور. ولقد انعكست هذه الاختلافات -حول العقل- على طريقة فهم القرآن   1 المحاسبي، المسائل في أعمال القلوب والجوارح والمكاسب والعقل. "القاهرة: عالم الكتب، 1969"، ص241. 2 الرازي، التفسير الكبير، جـ2، ص203-208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وتكوين العقيدة وظهور اتجاهات الزندقة. فكان لذلك آثار سلبية أهمها توقف البحث في القدرات العقلية وتنميتها، ثم انحسار أجواء الحرية العقلية، واضطهاد الخائفين في هذا الميدان. وأخيرًا انتهت تربية القدرات العقلية، ومهارات التفكير إلى حالتين: الأولى، الوقوف عند العناية بالقدرة على الحفظ كما هو الحال في مؤسسات التربية العاملة في ميدان الفقه والعلوم الدينية. والثانية، تقليل قيمة القدرات العقلية وإهمالها إهمالا كاملا كما هو واضح عند الصوفية وفرق الشيعة المتطرفة، حيث حصرت الأولى منهج المعرفة بما أسمته الإلهام، وحصرته الثانية في شخص الإمام. ويمكن أن نمثل لما انتهت إليه حالة القدرات العقلية عند الفئات المشار إليها بالشكل التالي: وهذان الشكلان الأخيران من تربية القدرات العقلية، ورثتهما مؤسسات التربية الإسلامية في العصر الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ومن الإنصاف أن نقول: أن -مؤسسات التربية الحديثة- التي أقيمت على النمط الأوربي -رغم حديثها عن القدرات العقلية- إلا أنها من الناحية العملية تهمل القدرات العقلية ولا تنمي إلا "القدرة على الحفظ"، وذلك بسبب عاملين: الأول، النشأة الأولى للعاملين بها في محاضن البيئة العربية، والإسلامية التقليدية التي اعتادت على إهمال القدرات العقلية المبدعة، والاقتصار على قدرة الحفظ. والثاني، أزمة الحرية الفكرية التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة في البيئات المذكورة. فالمؤسسات التربوية التقليدية، والحديثة يتشابهان في إهمال القدرات العقلية المبدعة، ولا يهتمان إلا بالقدرة على الحفظ والاستظهار. ويتضح ذلك من أمرين: الأول، اقتصار العناية على السرد والرواية من المدرس والحفظ من الطالب. وما يسرده المدرس هو من خارج واقع المجتمع الحاضر وبعيدا عن مشكلاته. ففي مؤسسات التربية الحديثة "يقص" المعلم أو الدكتور على الطلبة سير العلماء، والرواد الغربيين ومنجزاتهم في ميادين العلم والتربية والاجتماع. وفي المؤسسات التربوية الإسلامية يقص "الشيخ" أو"الشيخ الدكتور" على الطلبة سير الآباء ومنجزاتهم. والأمر الثاني، أن الطلبة في كلا النظامين يقومون بدور المستمعين الذين يسلخون من أعمارهم حوالي ربع قرن، أو ثلثه أو نصفه وهم يعيدون ويكررون ما يروى لهم من الأساتذة، ولا يطلب منهم إلا استظهار ما يسمعونه، ولا يتهيأ لهم فرص التطبيق والتحليل أو التفكر والتدبر والفقه. ووقوف مؤسسات التربية المذكورة -في تربية القدرات العقلية- عند القدرة على الحفظ أو الاستظهار وقصورها عن العمليات العقلية العليا يفرز آثارا سلبية أهمها: 1- عجز الإنسان الذي تخرجه هذه المؤسسات عن "التفاعل" مع أبناء مجتمعه، والإسهام في حشد الطاقات لصالح الجميع. ولذلك فهو عاجز عن التفاهم والحوار المتبادل، وتقتصر قدراته التواصلية عند الحديث من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 طرف واحد -هو نفسه، فهو يستطيع أن يروي ويخطب، ولكنه لا يستطيع أن يسمع أو يناقش، أو يحلل أو يطبق ويتوصل إلى حال؛ لأن الرواية والخطبة ترتبطان بالقدرة العقلية الأولى -أي القدرة على الحفظ، أما النقاش والتحليل والتطبيق فهو يتطلب قدرات عقلية عليا من الفهم والتحليل، والتأليف والتطبيق، ويتطلب مهارة في الاستماع بحيث يسمع غيره بدقة لا أن يفكر بما سيتحدث حين يبدو أنه يستمع لغيره. وينعكس هذا العجز على علاقات الأفراد ومواقفهم. فالخطيب أو المتحدث يريد في جميع أحواله أناسًا يستمعون له ويصفقون لا أناسا يناقشون ويعارضون. والسامعون يريدون متحدثا يكرر على أسماعهم ما يحفظون، ويعزز ما يعتقدون، لا ناقدًا ينثر محفوظاتهم ويعيد نقدها وترتيبها وتقويمها، ولذلك تنفجر الانفعالات وتثور الخلافات وينفجر التعسف المخرب، ومواقف الرفض وتطبع العلاقات والممارسات السياسية، والاجتماعية بطابع الحقد والتوتر والخلافات المدمرة. 2- عجز الإنسان الذي تخرجه هذه المؤسسات عن "تحديد هويته" بين بني الإنسان. ولذلك ما زال المتسلط، أو المستعمر الخارجي يحدد له "هوية أو جنسية" إقليمية أو قبلية، أو طائفية أو قومية انطلاقا من أهداف هذا الخارجي في السيطرة والهيمنة والتصرف بالمقدرات. ومع إن الإنسان العربي أو المسلم قد عانى طويلًا -وما زال يعاني- من هذه "الجنسيات" المفروضة عليه من قوى خارجية لا تريد به خيرًا إلا أنه ما زال يواليها، ويدافع عنها ويموت في سبيلها، ولما يظهر بعد أنه قادر على إعادة النظر في هذه "الجنسية" المفروضة عليه واستبدالها بـ"جنسية" مؤصلة لها جذورها في تاريخه ومبرراتها في حاضره. 3- عجز الإنسان الذي تخرجه هذه المؤسسات عن "تحديد منهاج حياته" في ضوء المتغيرات المعاصرة التي تؤثر في واقعة. فهو ما زال يستورد "مناهج الحياة" كما يستورد أدوات الحياة ووسائلها ومؤنتها. فتارة هو يستورد "الرأسمالية" بتطبيقاتها الإدارية، والتربوية، والاقتصادية، والأمنية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وتارة يستورد "الاشتراكية" بتطبيقاتها كذلك. وحين تتغير هذه "المستوردات" في مواطنها الأصلية يقع ضحية الحيرة والاضطراب، والتشنج كما حدث حين حدثت التغييرات العقدية، والسياسية في المعسكر الشيوعي على أثر "بروستورايكا" جورباشيف ورفاقه. 4- عجز الإنسان الذي تخرجه المؤسسات التربوية المذكورة عن "التفاعل مع ماضيه وتراثه" -أي دراسته وهضمه وتطوير ما كان إيجابيا مفيدا في حاضره، واتقاء ما كان سلبيا معوقا لحركته- وإنما يقوم الآخرون بربطه، ووصله بهذا التراث ربطا ووصلًا. ويعتمد نوع "الربط" هذا على -الرابط والمربوط به- أي على الأستاذ الذي يربطه، ونوع الماضي أو التراث الذي يتم ربطه به. فإذا ربطه "الشيخ" أو"الآباء المحافظون" بالجزء الإيجابي من التراث قدس هذا التراث جملة، ونفى عنه كل نقص وصار -إبائيا- مغتربا في ماضيه غافلا عن حاضره. وإذا ربطه "البروفسور" أو"الغرباء المستشرقون" بالجزء السلبي من التراث انقلب على هذا التراث جملة، ونفى عنه كل مزية إيجابية وصار "مغتربا" عن حاضره غافلا عن أصوله. 5- عجز الإنسان الذي تخرجه المؤسسات التربوية عن "التفاعل مع بيئته الطبيعية"، واستخراج كنوزها وتسخير مواردها لصنع "الوسائل" التي يحتاجها في حاضره والطور الذي يعاصره. وإنما يستقدم "الآخرين" ليقوموا نيابة عنه بالتفاعل مع هذه البيئة، ومقاسمته مصادرها وثرواتها، أو حفر قنوات لها لتصب في خزائن أقوامهم الذين جاءوا من عندهم وهكذا. 6- قلنا: إن الإرادة السليمة هي ثمرة "وظيفة العقل + المثل الأعلى". أي هي ثمرة القدرات العقلية، ومنهج التفكير السليم + المثل الأعلى. ولكن الذي يحدث في المؤسسات التربوية المعاصرة أن المعادلة تتشكل في الواقع كما يلي: قدرة على الحفظ + مثل أعلى = إرادة متهورة "تعصب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ولذلك فالتربية المعاصرة -في أحسن أحوالها- تفرز شعورا دينيا أو شعورا وطنيا ولا تفرز "فقها دينا" أو"فقها وطينا". أي أنها تؤدي إلى -العقم الإرادي- والاغتراب في مثل الماضي والحاضر والإحصاص بالنقص إزاءهما. 7- قلنا: إن -القدرة التسخيرية- هي ثمرة: "وظيفة العقل + الخبرات". ولكن الذي يحدث في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة هي أن المعادلة تتشكل كما يلي: قدرة على الحفاظ + الخبرات = قدرة غير تسخيرية. أي أنها تؤدي إلى ظاهرة "العقم العقلي"، وعدم الاستفادة من الخبرات العلمية والدينية والاجتماعية. سادسًا: تقدم البحث في القدرات العقلية في التربية الحديثة: من الإنصاف أن نقول: إن علم النفس الحديث الذي نشأ على أيدي الغربيين قد خطا خطوات هائلة في ميدان البحث المتعلق بالقدرات العقلية، وطرق تنميتها وتصنيفها وقياسها، حيث برزت مئات الأبحاث، والمؤلفات التي أفرزها البحث في هذا المجال. وتركز البحوث العلمية الحاضرة على المخ البشري، وفي مجال العلوم البيوكيماوية حيث تمكن العلماء من إدراك آليات الذكاء، وفهم عملية التعلم. ولقد تمخضت هذه الاكتشافات عن نتائج مدهشة منها أن نسبة كبيرة من إمكانيات المخ غير مستعملة، حتى إن بعض العلماء يقدرونها على وجه التقريب بحوالي 90%1. وتقديرًا للأهمية القصوى التي يعلقها المختصون بعلوم الذكاء، والقوى العقلية فإن المراكز المختصة في الجامعات في كل من أمريكا والاتحاد   1 إيدجار فور وزملاؤه، تعلم لتكون، ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 السوفياتي قد تخطت عوامل الصراع السياسي -خلال فترة الحرب الباردة- وأقامت علاقات تعاونية في ميدان البحث المتعلق بالذكاء، والقوى العقلية. ويقدر بعض علماء النفس السوفيات أنه لو أتيح للإنسان استعمال 50% "خمسين بالمائة" من قدراته العقلية لاستطاع أن يتعلم "40" أربعين لغة وأن يدرس في فصل واحد مسافات دراسية في عشرات الكليات1. والهدف الأخير الذي تعمل من أجله هذه الجهود المتكاملة هو رفع مستوى القدرات العقلية عند المتعلم إلى درجة تمكنه من الاستفادة من الإمكانيات العقلية غير المستعملة، وبالتالي رفع درجة التعلم وسرعته، وتطوير أساليب التربية ووسائلها بما يتناسب مع الانفجار المعرفي، والثورة العلمية المتسارعة، وتأهيله في السياسات الدولية الجديدة والعلاقات العالمية المعقدة. والواقع إن المستوى العالي للقدرات العقلية الناجمة عن العناية التي توليها مؤسسات التربية، والبحث العلمي في الغرب لهذه القدرات، مضافًا لأجواء الحرية التي توفر النمو السليم لهذه القدرات، جعلت الإنسان الغربي -في كثير من التنظيمات الاجتماعية والسياسية- قادرًا على رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس وعلى استثمارها في شئون الإدارة، والسياسات الداخلية والخارجية، والذين يتحررون منهم من "الأغلال" الاجتماعية و"الآصار" الثقافية يبصرون "المثل الأعلى" في آيات الوحي حين تعرض عليهم هذه الآيات، فيعتنقون الإسلام، بينما نرى الإنسان في العالم الإسلامي التقليدي يعاني من عمى كامل عن رؤية آيات الله في الوحي، وعن رؤيتها في الآفاق والأنفس بسبب ما يعانيه من آثار البيئة الخانقة للحرية المانعة لنمو القدرات العقلية. والذين أحسوا بهذه الظاهرة -من أمثال الشيخ محمد عبده- عبروا عن إحساسهم هذا بأمثال القول: وجدنا في الغرب مسلمين بلا إسلام، وفي الشرق إسلام بلا مسلمين.   1 Frank Globe the Third Force, "New york: Pocket Books, 1970", P.159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الفصل السابع: تربية الفرد على تعشق المثل الأعلى أولا: معنى المثل الأعلى : المثل الأعلى -في التربية الإسلامية- يعني نموذج الحياة المعنوية، والمادية التي يراد للإنسان المسلم أن يحياها، وللأمة المسلمة أن تعيش طبقا لها في ضوء علاقات كل منهما بالخالق، والكون والإنسان والحياة والآخرة1. ومثل -المثل الأعلى- مثل النموذج أو المخطط الذي يصممه مهندس البناء، أو مهندس الآلات ثم يدفعه لمن يحوله إلى واقع ملموس طبقا لقوانين البناء، أو قوانين الآلات. ويقرر القرآن الكريم إن الله وحده هو الخبير الحقيقي بتخطيط -المثل الأعلى- أو نموذج الإنسان الصالح -المصلح؛ لأنه هو وحده خالق الإنسان ومصوره ومصممه، ولذلك لا يمكن أن يشاركه تعالى أحد في تحديد -المثل الأعلى-المتعلق بحقائق الوجود وتطبيقاتها العملية: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] . وحين يتنكر البشر المخلوق للمثل الأعلى الذي جاءت به الرسالة   1 راجع كتاب فلسفة التربية الإسلامية "للمؤلف" من أجل الوقوف على تفاصيل العلاقات الخمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ويحاولون أن يضعوا للحياة البشرية "مثلا أعلى" للمعرفة والسلوك، فإنهم يضعون نماذج سيئة ضارة أو"مثل سوء": {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60] . والفارق الرئيس بين "المثل الأعلى" الإلهي، وبين "المثل السوء" الذي يطرحه غير المؤمنين هو أن الأول يستند إلى وعي كامل بقوانين الخلق، وسنن الوجود وغاياته العليا بينما يتخبط الثاني في مجالات الظن، والتصورات الجزئية أو الباطلة، ويصطدم مع قوانين الخلق وحقائق الحياة ومقاصدها العليا: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد: 3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ثانيا: أهمية المثل الأعلى : يمد المثل الأعلى الفرد بالأهداف التي يعيش من أجلها ويعمل لتحقيقها. وهو -أيضًا- يمد الأمة بالرسالة التي تجاهد من أجلها، وتمنح وجودها المبرر والمكانة، وهو يعطي الحياة معناها، وقيمتها ويمدها بأسباب الحركة والنمو والتقدم المستمر. وتتقرر قيمة "المثل الأعلى" بمقدار ما تشهد له ثمرات التطبيق العملي وحقائق العلم وقوانين الاجتماع، ومقدار انسجامه مع طبيعة الإنسان والإسهام في بقائه ورقيه المادي والمعنوي. وإلى جميع ثمرات التطبيق العملي المذكور يشير القرآن الكريم بمصطلح "العاقبة"، ومشتقاته التي يتكرر ذكرها في "38" موضعًا عند أمثال قوله تعالى: - {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11] . - {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] . - {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] . - {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ثالثا مستويات المثل الأعلى: ينقسم المثل الأعلى إلى مستويات ثلاثة هي: المستوى الأعلى، وهو "مثل أعلى" هدفه الارتقاء بالنوع الإنساني. والمستوى الأوسط، وهو "مثل أعلى" هدفه استمرار بقاء النوع البشري. والمستوى الأدنى، وهو "مثل أعلى" هدفه تلبية حاجات الجسد البشري. ولكل من المستويات الثلاثة دوائر تتسع وتضيق -حسب سعة الفقه البشري الذي يفرزها، فقد تتسع هذه الدوائر حتى تشمل النوع البشري، وقد تضيق حتى تقتصر على جنس معين أو قومية معينة، وقد تضيق أكثر حتى تقتصر على شعب معين أو قبيلة معينة، وقد تنحسر حتى تكتفي بالفرد الواحد نفسه. كذلك قد تضيق -مكانيا- حتى تقتصر على إقليم معين وقد تتسع حتى تشمل الكرة الأرضية كلها. وقد تضيق -زمنيًّا- حتى تقتصر على الحياة الدنيا وحدها، وقد تتسع لتشمل مراحل النشأة والحياة، والمصير. ويكون "المثل الأعلى" في أحسن مظاهره حين تبلغ دوائره -البشرية والمكانية والزمانية- أقصى سعتها، فتشتمل على المستويات الثلاثة، وتتناسق هذه المستويات فتكمل بعضها بعضا، ويدعم بعضها بعضًا. ولكن الخلل قد يتسرب إلى "المثل الأعلى" حين يقع التنافر والاضطراب بين المستويات الثلاثة، أو حين يقف عند المستوى الأوسط. وتسوء حالة "المثل الأعلى" حين يهبط إلى المستوى الأدنى: مستوى تلبية حاجات الجسد البشري ولا يتعدها. وتزيد مضاعفات هذا السوء حسب الضيق الذي يعتري دوائره البشرية والمكانية، والزمنية المشار إليها أعلاه. والمثل الأعلى الذي تطرحه التربية الإسلامية يشتمل على المستويات الثلاثة، وتتسع دوائره البشرية والمكانية والزمانية حتى تبلغ أقصاها؛ لأن هدف هذا المثل الأعلى الإسلامي هو تحقيق الحفاظ على النوع البشري كله ثم الارتقاء بهذا النوع في الأرض كلها، حتى تصبح سمته المميزة هي الإصلاح وعدم الإفساد في الأرض، واحترام حرمات الإنسان وعدم سفك الدماء وتأهيل النوع البشري كله للخلود في مراحل النشأة والحياة والمصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 رابعا: أنواع المثل الأعلى : تقسم نماذج المثل الأعلى إلى أربعة أنواع هي: أ- مثل أعلى حق وتطبيق حق: وهذا النموذج يعطي نتائج إيجابية في حياة الإنسان. ومثاله نموذج المثل الأعلى الذي اعتمدته التربية النبوية. إذا استطاع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمثل الأعلى الذي حمله وبالتطبيق الصائب لهذا المثل أن يرفع إرادة الفرد المسلم إلى درجة بذل النفس، والمال في سبيل خدمة الرسالة التي جاء بها -صلى الله عليه وسلم. كذلك شهدت ثمار التطبيق العملي، وحقائق العلم لقيمة هذا المثل الأعلى وانسجامه مع طبيعة الإنسان، وإسهامه في رقي النوع الإنساني. ب- مثل أعلى حق وجهل في التطبيق: وهذا يعطي نتائج أقل من سابقه. والنتائج الإيجابية التي يعطيها لا ترجع إلى مهارة تربوية في توليد الإرادة، وإنما ترجع إلى ما في المثل الأعلى من قوة ذاتية وإلى الاستمرارية المتحدرة من فترة التطبيق الحق "أ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وهذا ما حصل للأمة الإسلامية خلا عصور التحول من -"الخلافة الراشدة"- إلى "الملك الجبري"، ثم إلى عصر "الملك العضوض" حتى انتهت إلى ما هو قائم في واقع المسلمين المعاصرين الذين حفظهم الإسلام، وليسوا هم الذين حفظوه. وقد يساء فهم هذه الظاهرة -ظاهرة تخلف المسلمين- فلا ينسب هذا التخلف إلى عجز نظم التربية والتوجيه، والإدارة القائمة في العالم الإسلامي عن بلورة "المثل الأعلى" الحق وتطبيقه، ولا ينسب -كذلك- إلى نوع المشتغلين بهذه المسئوليات، بل يظن أن السبب هو الإسلام نفسه. ومثل هذا الظن يوقع في البلبلة الفكرية والتخبط، ويدفع كثيرًا من أبناء المجتمعات الإسلامية إلى البحث عن "مثل أعلى" آخر بين المذاهب الفكرية، والفلسفات الأخرى خاصة إذا كانت هذه المذاهب من النوع الثالث الذي سيتلو شرحه أي: مثل أعلى باطل وتطبيق جيد. جـ- مثل أعلى باطل وتطبيق جيد: وهذا يعطي نسبة عالية من النتائج. ومن أمثلته -المثل الأعلى- الذي طرحته بعض الفرق المتطرفة في التاريخ الإسلامي كالباطنية والحشاشين الذين استطاعوا إقامة الفاطمية، وتحديها للخلافة العباسية لقرون. ومثله خارج إطار الحضارة الإسلامية ما حصل في العصر الحديث في أقطار كاليابان، وألمانيا وروسيا قبل الحرب العالمية الثانية. فقد استطاعت نظم التربية ومؤسسات التوجيه فيها بالتطبيق الجيد أن ترفع إرادة شعوبها إلى درجة بذل النفس، والمال في سبيل خدمة مثلها الأعلى والذي دار محتواه حول رفعة جنس بشري معين، أو طبقة معينة واستعلائها على الأجناس الأخرى. وكما حصل في الصين بعد الحرب العالمية الثانية. وكما هو قائم في الأقطار المعاصرة التي توصف بالتقدم والتفوق في القارتين الأوربية والأمريكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 د- مثل أعلى باطل وتطبيق باطل: وهذا النوع من "المثل الأعلى" لا يأتي بنتائج قليلة أو كثيرة. ويمثل هذا النموذج كثير من المفاهيم الخاطئة للإسلام كالمذهبيات الضيقة، والتصوف المنحرف والدروشة، وقيم العصبيات القبلية والإقليمية. ويقابلها كثير من قيم الدكتاتورية المتخلفة في بعض أقطار العالم الثالث. ولذلك تلجأ الدول الكبرى المستعمرة -بناء على توصية الخبراء في ثكناتها الفكرية المسماة Think Tanks- إلى تصدير نماذج باطلة من "المثل الأعلى" إلى العالم الثالث أو بعث الحياة في نماذج باطلة قديمة من تراث الماضي -كالفرعونية والأشورية والشيوعية- ثم توجيه أبناء هذا العالم إلى تطبيق هذه النماذج تطبيقًا باطلا قائما على الارتجال والحمية، وانتقاص الإنسان، لتكون ثمرة هذا التطبيق أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم، وتبرز الانتماءات الطبقية والعصبيات الضيقة والحزبيات، والإقليميات المتصارعة والفتن الداخلية، وشيوع العجز والكسل المؤديين إلى الفقر، والمرض في الداخل وغلبة الدين وقهر الرجال في الخارج، وغير ذلك مما يناسب مصالح الدول الكبرى في الهيمنة والاستغلال. ويمكن أن تنشأ عن كل من الأنواع الأربعة للمثل الأعلى حركات تاريخية مختلفة. فالأول يكتسح العالم بسرعة ويفرز حضارة راقية الغايات والوسائل، وهذه هي حال المثل الأعلى الذي حمله المد الإسلامي الأول. والثاني يبقي ما في المثل الأعلى من صلابة، ولكن دون استفادة حضارية منه، وهذه هي حالة الإسلام في العالم الإسلامي المعاصر. وهذه الحالة الثانية هي التي تقبل المراجعة، والتغيير ثم العودة بإصلاح الإنسان، وهو ما يدور حوله الكفاح والصارع في العالم الإسلامي بين الذين يرون الحاجة إلى تطوير المثل الأعلى، ويختلفون كثيرا في معنى التطوير. ففي حين يود أناس يريدون تغير المثل الأعلى، فإنه يوجد آخرون يريدون إعادة فهمه، وتطبيقه على وجهه الصحيح، بينما هناك فريق ثالث يريدون الإبقاء على -المثل الأعلى- كما فهمه الآباء دونما حاجة إلى تطوير1. والثالث، ينجح في إفراز حضارة متقدمة الوسائل متخلفة الغايات. وهذه هي حال المثل الأعلى الذي ترفعه الحضارة الغربية المعاصرة.   1 جودت سعيد، العمل، ص155-157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 خامسًا: تجديد المثل الأعلى يحتاج كل جيل أن يتبين نموذج المثل الأعلى الذي يبني مستقبله طبقا له في ضوء الأصول التي يتضمنها القرآن والسنة، وفي ضوء حاجات العصر والتحديات القائمة. فالمثل الأعلى نتاج فقه بشري، وإن كانت أصوله إلهية؛ لأنه هو فهم القائمين على التربية لنموذج الحياة التي يراد بناؤها للجيل الناشئ. وهذا الفهم قد يكون صحيحًا، وقد يكون صحيحا جزئيا، أو قد يكون خاطئا تمامًا. وهو فهم محدود بحدود الزمان والمكان. وفي نظم التربية غير الإسلامية، يكون محرومًا من الأصول الإلهية، مقتصرا على ما تتوصل إليه القدرات العقلية خلال النظر في الخبرات البشرية وحدها. لذلك لا بد -عند تطوير نموذج المثل الأعلى الإسلامي- من مراعاة الأمور التالية: أولا، بلورة المحتوى الفكري للمثل الأعلى، ثم ترجمة هذا المحتوى إلى تطبيقات عملية. وخلال هذه العملية تجري الاستنارة بالنصوص الإلهية، والاتصال بها اتصالًا اجتهاديًّا مباشرًا. ثانيا، عرض المحتوى المذكور على الناس الذين سوف يعيشونه عرضا "مبينًا"، مع تهيئة المواقف، والوسائل اللازمة للممارسة التطبيقات الممثلة له. ثالثا، عدم إسباغ العصمة أو القداسة على فهم الأسلاف لنماذج المثل الأعلى التي طوروها، وإنما دراسة ثمرات ذلك الفهم دراسة تحليلية ناقدة في ضوء "العاقبة" أو العواقب التي خلفتها تلك النماذج لتساعد على الإحاطة بحاجات الأجيال الحاضرة. رابعا، الوقوف على تجارب البشرية الأخرى في ميدان تطوير نماذج المثل الأعلى، مهما كان نوع هذه النماذج للاستفادة من خبراتها سلبًا وإيجابًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 سادسًا: مستوى المثل الأعلى، وقيم المعلمين والمتعلمين تتوازى قيم المعلمين والمتعلمين مع المستوى الذي ينتهي عنده المثل الأعلى. فإذا كان -المثل الأعلى- المطروح أو المعروض من النوع الشامل الذي ينتهي عند المستوى الأعلى: مستوى رقي النوع البشري، فإن المعلمين والمتعلمين يتصفون بالعمل الجاد، والنمو المستمر والتوسع في الدراسة ومتابعة البحث في كل ما يتعلق بجوانب المعرفة، ولا تكون مقررات الدراسة إلا دليلا من خلاله أبواب التعلم المستمر، والمعرفة الراسخة المحيطة. أما على المستوى الاجتماعي، فإن المجتمع الذي يهيمن عليه مثل أعلى ينتهي عند مستواه الثالث -أي المستوى الأعلى- فإنه تسود فيه روح التكافل الاجتماعي الواسع، والاهتمام بإشاعة المثل الأعلى بين الآخرين والاستعداد للقيام بتكاليف هذا كله. كذلك تسوده روح البحث العلمي والنظر الكوني لابتكار الوسائل، والأدوات التي تهيئ لانتشار المثل الأعلى ونجاحه في واقع الحياة. ويكون انتماء الأفراد لعالم الأفكار، ويدور محور الولاءات حولها وعليها تقوم صلاتهم، وتبني معاملاتهم. وإذا كان المثل الأعلى ينتهي عند المستوى الأوسط الذي يستهدف المحافظة على النوع البشري، وبقائه فإن محور الاهتمامات يتركز حول الوسائل دون الغايات، أي يجري التركيز على الميادين العلمية، والصناعية دون البحث في غايات الحياة ومقاصدها العليا، فتحتل العلوم الطبيعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 والصناعية المكانة الأولى، وتتراجع علوم الإنسان إلى المكانة الأدنى، ويكون انتماء المعلمين والمتعلمين للمهنة أكثر من انتمائهم للفكرة والقيم. أما على المستوى الاجتماعي، فيكون محور الولاء عندهم للمصالح الطبقية والعصبيات القومية، وعليها تدور اهتماماتهم وتقام علاقاتهم. أما إذا وقف المثل الأعلى عند المستوى الأدنى، الذي يقتصر على تلبية حاجات الجسد البشري، فإن قيم المعلمين والمتعلمين تتركز حول حاجات الحسية الآنية، فتكون لدى المعلم الحصول على دخل مادي مناسب، ووظيفة مناسبة يوفران الرفاهية أدواتها. وعند المتعلمين تقف فيمهم التربوية عند الحصول على العلامة العالية، والدرجة العلمية الموصلة لأهداف الرفاهية المادية، والمكانة الاجتماعية، ويكتفون بالكتب المقررة، ويحاورون في حذف الفصول عند الامتحانات، ويلقون بالكتب بعيدًا بعد النجاح والتخرج، ويتوقفون عن البحث والدرس. أما على المستوى الاجتماعي فتدور محاور الولاء حول المصالح الأنانية، وتتقر انتماءات الأفراد، وعلاقاتهم حسب مواطن شهواتهم، فيرحلون إلى حيث ترحل وينزلون حيث تنزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الفصل الثامن: تنمية الخبرات الدينية والاجتماعية، والكونية عند الفرد أولًا: معنى الخبرة وأهميتها الخبرة عمل وأثر. ويمكن أن نفهم معنى الخبرة إذا لاحظنا أنها تتألف من عنصرين اثنين. الأول، هو العمل الذي يقوم به الإنسان. والثاني، هو الأثر الذي يتركه العمل في نفس الإنسان وحياته. ولا بد من تكامل العنصرين وحصولهما، فإذا حصل الأول ولم يحصل الثاني لا تسمى خبرة. ولذلك فجميع الأعمال التي نمارسها، والأحداث التي تمر بنا ولا تترك أثرا في أنفسنا وفي حياتنا الاجتماعية، وفي مستقبل الأجيال بعدنا لا تسمى خبرات. ومثل ذلك الآثار -المؤلمة أو السارة- التي تصيبنا دون عمل مسبق، ومخطط له هي أيضًا ليست خبرات؛ لأننا لا نفهم مقدماتها ولا نستطيع التعرف على ما يتلوها. والعمل- له مكونان: عنصر عقلي، وعنصر مادي. والفصل بين العنصرين يشوه معنى العمل ويعطل فاعليته وأثره. ولذلك كانت الخبرة الحقيقية هي التي يشتمل العمل فيها على العلم والممارسة سواء. وهذا يعني أن نظم التربية التي تقتصر على تقديم المعلومات النظرية دون أن تصحبها تطبيقات، وممارسات يشترك فيها العقل والجسد سواء. أو دون أن تعمل على الإعداد العقلي والجسدي، فإن مثل هذه النظم لا تقدم خبرات مربية نافعة. ومثلها كذلك الطرق والأساليب التربوية، التي تعتمد على تلقين المعلومات والتعليمات الصارمة التي تمنع الحركة، وتعيق النشاط وتكرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الانضباط والسكون، وتعاقب الطالب إذا قام بأية حركة تحت ستار الزعم أن هذه فوضى، ولهو يفسدان الخبرات العقلية. ولعلنا نلاحظ الثمرات الشاذة لهذه الصرامة، وما يصحبها من تواترات نفسية وعصبية عند المعلم والطالب سواء1. والطالب حين يتعلم درسا فإنه يستعمل عقله، ويوظف حواسه -خاصة العين والأذن- كبوابات للمعرفة التي يتلقاها ولأخذ ما في الكتاب، أو ما على الخارطة والسبورة وشرح المعلم. وكما أنه يستعمل فاه ويديه وأعضاء الصوت فيه للكتابة والكلام. واستعمال هذه الأدوات بشكل جيد يتطلب تدريبا خاصا وهو جزء من "عمل" الخبرة المربية؛ لأنه يسهل التعلم ويعمقه. أما حين لا يحسن المتعلم استعمال قدراته العقلية، ولا يجيد توظيف حواسه -خاصة العين والأذن- فإن العمل لا يولد أثرًا، وبالتالي لا يكون الخبرة مربية نافعة. ولعلنا -هنا- ندرك الحكمة من وصف الله تعالى للذين لا ينتج لتفكيرهم ونظرهم، وسمعهم آثار مستقبلية تؤثر في حياة صاحبها، وفيمن حوله بالبلاهة والعمى، والصمم، والضلال، والغفلة: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] . أما العنصر الثاني من عناصر الخبرة، وهو -الأثر- فله مستويان: مستوى مادي: وهو ما يحدث في حياة الإنسان من تقدم حضاري في أدوات الحياة ومعارفها، ومستوى معنوي: وهو ما يتكون لدى الإنسان من وعي بمقاصد الحياة وغاياتها. وفي القرآن يندرج المستوى الأول من الأثر تحت اسم -النعمة - وذلك عن أمثال قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] .   1 John Dewey, Democracy and Education. "New york: Macmillan Co. 1944" PP. 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ويندرج المستوى الثاني من الأثر تحت اسم "اليقين" المفضي إلى شكر الله وعبادته: أي طاعة أوامره واجتناب نواهيه. ولكن المتعلم لا يصل إلى هذا المستوى الثاني من -الأثر- إلا إذا تفاعل الجزء الأول من الخبرة -وهو العمل- مع توجيه الوحي الإلهي، الذي يرشد إلى الغايات والمقاصد النهائية. ويطلق القرآن على هذا التوجيه اسم -الذكر- لأنه يذكر بالغايات النهائية للخبرات الإنسانية. وتتكرر صفة "الذكر" هذه في مواضع عديدة من القرآن الكريم عند أمثال قوله تعالى: - {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] . - {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القرم: 17] . وهذا يعني أن الخبرة المربية النافعة مهما كانت متواضعة هي التي تسهم في توليد أفكار، وتطبيقات جديدة تشارك في تقدم الحضارة المادية وحل المشكلات الاجتماعية، ورقي السلوك المؤدي إلى حفظ النوع البشري، ورقيه وخلوده. أما الخبرات التي لا تسهم في جلاء الحقائق ولا كشف القوانين ورقي السلوك الإنساني، فتتحول إلى مجرد كلام منمق يجعل التفكير معه مستحيلا وغير ضروري. والسؤال الذي يطرح هنا: ما هي السمات التي تجعل الخبرة مربية نافعة؟ التفكير هو -أول- سمات الخبرة المربية؛ لأنه إدراك العلاقات بين العمل الذي نقوم به -أي العنصر الأول للخبرة- وبين الأثر الناتج عن هذا العمل -أي العنصر الثاني للخبرة. وسمة التفكير الصحيح أن يكون تكفيرًا مستمرا لا يتوقف ولا يكمل، وإنما هو في تساؤل دائم عما يجب القيام به من أعمال، وما سينتج عن هذه الأعمال من آثار جديدة. أما أن نملأ رؤوسنا بالأفكار وكأنها أشرطة تسجيل أو ملف قصاصات، ورقية مما تم عمله وإنجازه فهذا ليس بتفكير ولا بخبرة. فالتفكير إذن هو استمرارية الاهتمام بمصائرنا الحاضرة والمستقبلية خلال مجرى الأحداث، والمواقف المبهمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والمعقدة في نهر التطور الكبير للحياة، ويكون دور التفكير خلال ذلك هو المساعدة في الوصول إلى حل المشكلات القائمة، أو تقديم مشروع للانتفاع بالأحداث الجارية، وتجنب السلبيات المرافقة على أساس الخبرات التي تقدمت قبله1. فالتفكير إذن عملية تعرف وبحث في الأشياء، وتنقيب في مكونات الحياة الجارية بغية الوقوف على القوانين التي تحكم أحداثها، والاستفادة منها في التطبيقات والمواقف المختلفة. وهو كما قلنا -عملية ربط مستمر بين العمل الذي نحاول القيام به، وبين الأثر الذي سيترتب على هذا العمل. وإلى هذا النمط من التفكير يشير قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190-191] . والسمة الثانية للخبرة المربية أنها تظل حية في الخبرات التي تتلوها، فيكون لها تأثير مستقبلي على الخبرات التابعة، وهو ما نسميه -استمرارية الخبرة. وهذا التأثير المستقبلي نوعان: تأثير مادي مثل خبرة نيوتن حين جلوسه تحت شجرة التفاح -إن صحت الرواية. فحين سقطت عليه تفاحة راح يتفكر في أسباب سقوطها، ولماذا سقطت إلى الأسفل ولم تنطلق إلى الأعلى أوالجوانب، ثم انتهى به التفكير إلى اكتشاف قوانين الجاذبية. فهذه خبرة ما زالت تفرز خبرات أخرى، وما زالت تتفاعل مع التقدم العلمي فتؤثر به وتتأثر. والنوع الثاني تأثير اجتماعي مثل خبرات الرسل عليهم السلام، التي ما زالت تتفاعل مع مسيرة الاجتماع الإنساني، وتسهم في إرشاده وحل مشكلاته. ترى كم أولئك الذين سقطت عليهم ثمرة ما فلم يزد واحدهم عن مسحها، والتهامها دون أن يسهم بشيء في ميدان العلم، وكم   1 John Dewey, Democracy and Education, P. 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 من مدع للتقوى والتدين التهم، ولم ير فيها قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] . إن الخبرات المربية التي ظلت تؤثر في المستقبل هي خبرات كثيرة أسهم بها علماء ومفكرون وفلاسفة فقهاء كثيرون. ولكن يوجد إلى جانب هذه الخبرات أكداس من الخبرات الفكرية، والاجتماعية التي لا تزيد عن كونها أحمال تثقل كاهل الإنسان، وتشكل بعض الأغلال والآصار التي تكبل تفكيره وترهقه، وتعطل نشاطاته وتقوم سدودا منيعة بين يديه، ومن خلفه وتحول بينه وبين إبصار مظاهر الخلق الجديد والخبرات المتجددة المستمرة. ومثل هذه الخبرات المكبلة للتفكير المرهقة للقدرات العقلية، وإن صنفت في قوائم التراث العلمي، والاجتماعي هي خبرات غير مربية، وهي معيقة لنمو خبرات أخرى؛ لأنها تنتج نقصا بالحساسية والاستجابة، أو تكون مخدرة غير حافظة للنظر، والبحث في العلاقات القائمة بين العمل والنتائج، أو تكون خبرات غير مترابطة ومجزأة1. أو تكون خبرات لأطوار مضت ولا علاقة لها بالحاضر أو المستقبل. ولعلنا -هنا- ندرك الحكمة من تنزل الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليقصص عليه بعض الخبرات التي مر بها الرسل السابقون، وإن الوحي لم يقصص خبرات رسل آخرين مضوا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] . والذين تحشى رءوسهم بهذه الخبرات المكبلة المعيقة لا يستفيدون من الأحداث والظواهر، والوقائع والأفكار والرسالات التي يمرون بها. وإلى أمثالهم يشير القرآن الكريم عند قوله تعالى:   1 John Dewey, Experience and Education, Tenth Education, "New york: Collier Books, 1969" PP. 25-26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] . والتربية التقليدية أو المقلدة يكرسان الخبرات غير المربية؛ لأنهما يحلان الحفظ والاستظهار محل التفكر ويصنعان من رءوس المتعلمين مستودعان لقصاصات الماضي أو حاضر مجتمع غريب غير المجتمع القائم، فلا يسهمان في تنمية خبرات جديدة لها أثرها في الواقع القائم، ولها استمرارها في الخبرات التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ثانيا: الخبرات الكونية، والاجتماعية، والدينية لعله من المناسب أن نقسم الخبرة من حيث ميادينها إلى أقسام ثلاثة: خبرات كونية، وخبرات اجتماعية، وخبرات دينية، وإن كانت الاجتماعية والدينية تمتزجان إلى درجة تجعل منهما قسما واحدا. وفيما يلي تفصيل لكل قسم من الأقسام الثلاثة: 1- الخبرات الكونية: العلاقة الجارية بين الإنسان والكون علاقة متبادلة وفاعلة ومستمرة. والذين يتفاعلون مع الكون بوعي وكفاءة، يفرزون خبرات هائلة تترك آثارها العميقة في مسيرة الحياة. أما الذين يمرون على آيات الكون دون أن يحسنوا استعمال طاقاتهم السمعية والبصرية، والعقلية فإنهم يبقون ضحايا الغفلة، والجهل كأن لم يسمعوا أو يبصروا. والخبرات الكونية المربية هي التي مكنت الإنسان من اكتشاف قوانين الكون، وتسخير خبراته وكنوزه الهائلة الكاشفة عن قدرات الله ونعمه. ومن هنا كانت التوجيهات القرآنية المتكررة التي تأمر بالتوجه إلى الكون، والتفاعل مع مكوناته، من ذلك قوله تعالى: - {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 182] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 - {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] . - {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99] . - {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] . والتفاعل مع عناصر الكون طبقا لمواصفات الخبرة المربية ثمرته الرئيسية تحرير الإنسان من الخرافة التي يصنعها الجهل بهذا الكون، ونشأته وتكوينه، والقوانين التي تحكمه. كذلك يمد هذا التفاعل الإنسان بالوسائل الفعالة لتسخير عناصر الكون، والاستفادة من خزائنه وثرواته. ويتفرع عن هذه الخبرات الكونية علوم طبيعة متجددة بتجدد المعرفة وتراكم المكتشفات الكونية. ولكن التفاعل مع الكون يحتاج إلى كمال أدوات المعرفة وتكاملها. أي هو يحتاج إلى اشتراك كل من -الوحي والعقل والحواس- وتكاملها. وكل نقص في هذه الأدوات، أو خلل في تكاملها يؤدي إلى نتائج خطيرة مدمرة. فنقص -الوحي- يقود إلى أخطاء في تفسير المقاصد الكبرى للوجود الكوني، كما هي حال العلوم الحديثة التي أفرزت مسلمات خاطئة مثل مسلمات: الصراع مع الطبيعة، ونظرية النشوء والارتقاء، ونظرية البقاء للأقوى، وبعض نظرياتس التحليل النفسي الفرويدي. ونقص -العقل- يقود إلى الجمود والتفكير الخوارقي، وإلى اختفاء التفكير السنني -القانوني، وإلى إلغاء دور الإنسان في عملية التغيير التي يقسمها القرآن إلى قسمين: تغيير يقوم به "القوم" من الناس أولًا، وتغيير يقوم به "الله" ثانيًا. ونقص -الحواس- يقود إلى العجز والكسل، وإلى عدم اكتساب المهارات العملية اللازمة لتيسير حياة الإنسان، وحسن الانتفاع بالتطبيقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 التكنولوجية الناتجة عن الخبرات الكونية، ثم تكون ثمرة هذا النقص مضاعفات الفقر والمرض، والهزيمة التي تعوذ منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم. والنقص -في الوحي والعقل- والاقتصار على الحواس يرتد بالإنسان إلى الوقوع في أسر الخراقة، والوهم والردة إلى الصنمية والوثنية، والنكوص على عصور الكهوف والأدوات الحجرية. ب- الخبرات الاجتماعية: الاجتماع الإنساني هو تؤأم الكون في مسيرة الوجود المتجدد الخلق، المنظمة التفاعل. وأحداث هذا الاجتماع هي السلسلة الموازية لتجدد خلق الكون1. وحلقات هذه السلسلة حلقات فاعلة، ومنفعلة يتأثر كلها منها بما سبقه ويؤثر فميا يتلوه. والإنسان هو محور المسيرة الإنسانية وقلبها. وهو حين يتفاعل مع الوجود المشار إليه على أساس من الخبرات المربية، فإنه يقف على قواني هذه المسيرة وآثارها، ويستفيد من ذلك كله في النمو النضج المادي والرشد الحضاري. أما حين يتفاعل مع مسيرة الوجود على أساس من الجهل، والخبرات غير المربية فإنه يصاب بالجمود والوهن الثقافي، والمادي ويؤول إلى الضلال الاجتماعي والحضاري. ولذلك تتكرر التوجيهات القرآنية للخبرات المربية القائمة على النظر في وقائع الاجتماع البشري، وفي قيام المجتمعات وموتها ونشأة الحضارات وانهيارها، ثم الاستفادة من القوانين والسنن التي تؤثر في ذلك كله، والنتائج التي تنتج عن عمل هذه القوانين إيجابا وسلبا. ومن أمثلة هذه التوجيهات ما يلي:   1 الفكر الحديث الذي أفرزته الحضارة الحديثة، يطلق على عملية -التجدد في الخلق- اسم "التطور"؛ لأنه لا يريد الاعتراف بفكرة -الخالق والخلق- ويعاني من عقدة نفسية في هذا الشأن سببها خبراته المؤلمة مع الكنيسة!! وليس البحث العلمي، ونتائج العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 - {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف: 109] . - {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم: 9] . - {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} [غافر: 82] . - {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [محمد: 10] . لذلك كان من مهمات التربية الإسلامية أن توجه -إنسانها- إلى النظر في وقائع الاجتماع البشري في الماضي، والحاضر، والمستقبل، وإلى أن يجوب الأرض بحثا عن المواقع التي جرت فيها الوقائع الماضية، فينقب في آثارها لدراستها، وتحليلها واستخلاص الخبرات المربية التي تؤثر في الخبرات التي تتلوها. وعلى التربية الإسلامية، ومؤسساتها أن توجه المتعلم، وتدربه على تحليل وقائع الحاضر لشهود أثر السنن الاجتماعية، وقوانينها وتجنب الاصطدام بها، والتوافق معها لعبور المستقبل واستشرافه. وتجاهل هذه الوقائع والخبرات كلها له نتائجه المدمرة. فالذين يتجاهلون خبرات الماضي يرتدون إلى كهوف العصر الحجري، والذين يقفون عبد خبرات الماضي يتوقفون عن التعايش مع الخلق الجديد -المتجدد، والزمن ويعرضون أنفسهم للفناء والدفن في الماضي. والذين يعبثون بخبرات الحاضر- من مداحي أرباب القوة أرباب القوة، وسحرة أرباب الجاه والثراء1. ويقدمونهم كقوى تحرك التاريخ والاجتماع يصرفون العقول عن   1 في مناسبة الحديث النبوي القائل: "إن من البيان لسحرً" ا، ذم لسحر البيان ونهي عنه، وليس مدحا له كما هو شائع. وهو يتضمن أيضا توجيها هاما جدا: وهو أن -المترفين- الذين يقاومون رسالات الإصلاح في كل عصر، وقطر إنما يجندون لهذه المقاومة -سحرة- يزيفون الحقائق ويصرفون الأبصار والأسماع والعقول عنها، وإن السحرة في الماضي كانوا يسحرون -الحواس- بسحر حسي؛ لأن معجزات الرسل كانت حسية. أما وقد جاءت معجزة الرسالة الإسلامية معجزة فكرية -هي القرآن- فإن السحر الذي سيحاول تزييف حقائقها، وصرف العقول والأبصار والأسماع عنها هو -سحر البيان- الذي يمارسه جيوش من الكتاب والصحفيين، والإعلاميين والمفتين، والفنانين وفقهاء الملوك والرؤساء وأمثالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 قوانين الاجتماع البشري ويفسدون أثر الخبرات الاجتماعية المربية، ويحولونها إلى خبرات غير مربية، وينكصون بالإنسان إلى عهد الصنمية والوثنية، وما ينجم عن ذلك من مضاعفات الضعف والتخلف؛ لأن بعض ما تعنيه -الصنمية والوثنية- أن تصرف العقول والأذهان عن فاعلية قوانين الله في الخلق -التي يسميها القرآن السنن- وإسناد هذه الفاعلية إلى مخلوقات من الأشخاص والأشياء. أما التفاعل الصحيح مع خبرات الماضي والحاضر، والمستقبل فثمرته اهتداء الإنسان إلى قوانين الاجتماع البشري، والاستفادة منها في تسخير القدرات والطاقات الإنسانية لتقويم المسيرة البشرية، ولبناء الحضارات التي ترتقي بالنوع الإنساني، وتجنيبه العثرات والسقوط. جـ- الخبرات الدينية: مع أن الخبرات الدينية هي بعض نماذج الخبرات الاجتماعية، إلا أن إفرادها في هذا البحث سببه المكانة العالية، التي تحتلها الخبرات الدينية في سلم الخبرات الاجتماعية. فالخبرات الدينية تحتل مكانة التوجيه، والإرشاد لمسيرة الاجتماع البشري، والتفاعل الإيجابي مع هذه الخبرات يؤدي إلى تكامل الوحي، والعقل والحواس، وإلى رقي الإنسان ونشأة الحضارة، كما أن التفاعل السلبي يؤدي إلى الانشقاق بين الوحي والعقل، والحواس وإلى انحطاط الإنسان، وانهيار الحضارة كما مر في الجزء الأول من هذه السلسلة. ولعل أهيمة هذا الدور الذي تقوم به الخبرات الدينية هي التي جعلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 -ماسوا- يصنف الخبرات الدينية في خبرات القمة، أو ما أسماه -Peak Experience- ثم مضى ينتقد مناهج العلم، والمعرفة المعاصرة لتجاهلها هذه الخبرات1. والقرآن فيه دعوة متكررة للتفاعل مع حركة الرسالات الإلهية، والخبرات الدينية بما يشبه دراسة تاريخ الأديان، ومقارنة الأديان، والسير في الأرض لتأسيس علم الآثار الديني لتكون ثمرة ذلك كله الوقوف على حركة التطور الديني التي رافقت تطور الاجتماع البشري، ثم انتهت وبلغت كمالها في الرسالة الإسلامية. وثمرة هذا المنهج هو تحرير الإنسان من هيمنة -الكهانة والكهان- واكتشاف المسار الحقيقي للخبرة الإنسانية في هذا المجال الحساس، ثم الاستفادة من ذلك كله في استنباط التوجيهات، والإرشادات الدينية اللازمة لعبور المستقبل. ولذلك فإن الخبرات الدينية التي لا تفيد في هذه الثمرات لا تكون خبرات مربية، وإنما هي من جنس حشو الرءوس بالقصاصات التي تتضمن أخبار الماضين في ميدان الخبرات الدينية. والخبرات الدينية نوعان: خبرة دينية أصيلة صادرة عن خالق الكون الواحد الأحد، وأبرز خصائصها أن محور القيم فيها هو "الشريعة فوق القوة"، وبالتالي يكون العلماء، والمفكرون هم -أولو الأمر- في المجتمعات التي توجهها الخبرات الدينية الأصيلة. وخبرة دينية مقلدة أو -ساحرة- أو غير أصيلة أساسها التأويلات الخاطئة لنصوص الدين الأصيلة أو ابتداع نصوص، أو إخفاء نصوص.   1 دكتور ماجد عرسان الكيلاني، فلسفة التربية الإسلامية، ص49-58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وأبرز صفاتها أن محور القيم فيها هو "القوة فوق الشريعة"، وبالتالي يكون أصحاب القوة هم -أولو الأمر- في المجتمعات التي توجهها الخبرات الدينية الساحرة. وإنما أطلقنا على هذه الخبرات صفة -الساحرة- لأن سدنتها أو حملتها يقومون بسحر عقول الناس بالأساليب البيانية، والبلاغة اللغوية وتلبيس الحق بالباطل ليبرروا هيمنة -أصحاب القوة- ويسبغوا على ممارساتهم لباس الشرعية الدينية. والقرآن الكريم قد بين في استعراضه لتاريخ الأديان السابقة دور السحرة في محاولة تلبيس معجزات الرسل الأصلية بألاعيب سحرية لتضاهي المعجزات الحقيقية. والرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بين أن من البيان اللغوي ما فيه قوة السحر وتأثيره. وفي جميع الخبرات الكونية والاجتماعية، والدينية تعتمد التربية الإسلامية في تفاعل الفرد مع هذه الخبرات كلها على أمور منها: الأول، تحديد ميادين هذا التفاعل في الكون وأحداث التاريخ، ووقائع المجتمع البشري القائم وتطوره نحو المستقبل. والثاني، اعتبار ما يجري في الواقع القائم والوجود المحسوس هو المحك الحقيقي لصوابية هذه الخبرات وصدقها. والثالث، هو المراجعة المستمرة للخبرات الموروثة بغية تنقيتها من آثار طاغوت العصر وصنمية العصر، وما أفرزاه من الخرافة والأساطير وألوان السحر البياني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ثالثا: حدود الخبرة ودوائرها قلنا: إن الخبرة المربية تقسم إلى أنواع ثلاثة: الخبرات الكونية، والخبرات الاجتماعية، ثم الخبرات الدينية. ونضيف هنا إن كل نوع من هذه الأنواع الثلاثة يضم في داخله دوائر بعضها أوسع من بعض. فمثلا تبدأ -الخبرة الكونية- بدائرة الحي ثم تتلوها دائرة القرية، ثم دائرة المدينة ثم دائرة الإقليم ثم دائرة القطر، ثم دائرة القارة ثم دائرة الكرة الأرضية، ثم تخرج خارج الكرة الأرضية في دوائر آفاق الكون المتتالية. ومثلها -الخبرة الاجتماعية- التي تبدأ بدائرة الأسرة ثم دائرة الجماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 المحلية كالعشيرة أو الطائفة، ثم دائرة مجتمع القرية ثم دائرة مجتمع المدنية، ثم خبرات الاجتماع في القطر أو الأمة، ثم دائرة خبرات الأمم الأخرى. ومثلها -الخبرة الدينية- التي تبدأ بدائرة التدين الفردي، ثم دائرة تدين الجماعة ثم دائرة القطر أو الأمة، ثم خبرات الأديان الأخرى. ولكل من -الخبرات الثلاث- الرئيسة بعدان اثنان: بعد أفقي ميدانه الحاضر وبعد رأسي ميدانه تاريخ الخبرة ابتداء من نشأتها، ومرورا بتطوراتها حتى حاضر مستقبلها المنظور. ولا بد أن يكتمل في كل دائرة جميع شروط الخبرة المربية، أي أن تكون عملا وأثرا. ويتفاوت الأفراد في خبراتهم في الدوائر المذكورة، فبعضهم يقف في الدوائر الأولى، وبعضهم يخطو في الدوائر ذات السعة الأوسع طبقا للأونظمة والمؤسسات التربوية، والبيئات الاجتماعية التي تتولى تنشئتهم وتوجيههم في هذا المجال، وطبقا لاستعداداتهم الشخصية. وكلما اتسعت دائرة خبرة الفرد، كلما استنار، وأحاط بالظواهر الكونية والاجتماعية والدينية، وصار قادرا على رؤية البدائل المختلفة. وكلما ضاقت دائرة الخبرة المربية أصبح الفرد ضيق الأفق، محدود التفكير عاجزًا عن رؤية البدائل السلوكية. ومما يساعد على نمو الخبرة واتساع دوائرها أمور ثلاثة: الأول، الممارسة، فممارسة الخبرة تساعد على وضوحها وبلورتها، وتمييز الخبرات الصحيحة من الخاطئة. والثاني، السير في الأرض والرحلات الهادفة؛ لأنهما يساعدان على التحقيق من تنوع الخبرات مكانا وزمانا، ويساعدان على شهود آثارها المتنوعة. والثالث، شهود الخبرة وذلك بالتنقيب عنها وتمحيصها إن كانت من الخبرات الماضية، أو تحليليها ودراستها، والوقوف على تفاصيلها إن كانت من الخبرات الحاضرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 رابعًا: الخبرات الكونية، والاجتماعية في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة أدرك المسلمون في عصور الازدهار، والفتوحات العلمية أهمية الخبرات الكونية والاجتماعية في تفاعلها مع العقل، وإفراز القدرات التسخيرية. ولذلك قاموا بـ"العمل" الذي يشكل العنصر الأول من الخبرة، فابتكروا مناهج البحث العلمي وأدواته، وميادينه في العلوم الطبيعية والفلكية، والاجتماعية وقاموا بالرحلات، ونقبوا في التراث الإنساني كله وفي تاريخ الملل والنحل، وقاموا بترجمة الخبرات الماضية، وخططوا للتفاعل مع الحاضر، وتحديد معالم المستقبل. وحين دخلت التربية الإسلامية عصور التقليد والجمود توقف القسم الأول من الخبرة -وهو العمل- أو البحث العلمي، واقتصرت الخبرات التربوية على التلقين النظري، وانتهت مؤسسات التربية إلى الاقتصار على مدرس "يروي" آيات "الذكر" وآخر "يقص" نصوص "الأثر" المحتدر من علوم الآباء، وطلبة "يستمعون" و"يحفظون" دون أن يصاحب ذلك شيء من "الممارسة" في الخبرات الكونية والاجتماعية، ولذلك لم يولد في أجيال الخلف "اليقين" الذي امتاز به السلف. وهذا المنهج المتخلف هو الذي ورثته مؤسسات التربية الإسلامية التقليدية حتى مطلع العصر الحديث، وما زالت عليه في مناهجها ومؤسساتها، وكأن وظيفتها الأساسية هي ملء الرءوس بالأفكار، وكأن الرءوس أشرطة تسجيل، أو ملفات قصاصات ورقية يحفظ فيها أشعار "الآباء" ومأثوراتهم ومقولاتهم، أو نظريات "الغرباء" المعاصرين وتقريراتهم. لذلك فهي خالية من -التفكير العلمي والمنهج العلمي- اللذين هما سمة الخبرات المربية النافعة، وهي لا تسهم في تقديم مشروع أو حلول مشكلات، ولا ينتج عنها تطبيقات، وليس لها تأثير مستقبلي على الخبرات التالية: والصفة الغالبة على هذه المؤسسات أنها لا تتطور وتسقط عوامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الزمن والبيئة وتجدد الخلق من جميع الخبرات التي ترويها أو نقصها. فهي ما زالت مناهجها تنافح عن العقيدة الإسلامية بمنازلة أشباح المعتزلة، والمرجئة وأحيانا الأشاعرة علما بأن القضايا التي أثارها أولئك الموتى لم يعد لها أثر في الحاضر. هذا في الوقت الذي تتجاهل المتغيرات الجديدة الكاسحة في العالم من حولها، وتتعامى عن الردة المذهلة في مجتمعات المسلمين إلى "ثقافة" العصبيات القبلية والإقليمية. فهذه المؤسسات تخاف من التطور، بل تجفل من ذكره وتحسبه خطرا على العقيدة والأخلاق، مع أنه من صلب المبادئ الإسلامية وميزة من مزايا الدين الإسلامي. فالتطور في القرآن معناه استمرارية الخلق. أي أن الله سبحانه ما زال يخلق هذا الكون: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] . وفي سورة أخرى: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] . وهذا هو واقع مؤسسات التربية التقليدية، فهي في لبس من خلق جديد، وخلال حالة اللبس والذهول، والتخبط تخاف وتخشى أن تتحرك، ولو خطوة واحدة من واقع الحيرة الذي تتيه فيه. ولقد أحسن الأستاذ جودت سعيد، وهو يصف عجز المؤسسات التربوية الإسلامية التقليدية في ميدان الخبرات الكونية، والاجتماعية حين قال: "إن الثقافة التي نتثقف بها والدراسات التي نعيش معها إلا تثبت فينا اكتساب ملكة البحث والدرس، وكشف السنن والقوانين. ولا يشعرنا الذي نقرأ له أن بحثه ليس كافيًا، وأن على الباحثين بعده أن يوضحوا الموضوع أكثر منه. كما لا يوحي إلينا أن العلم قابل للزيادة، فلا يحثنا على طلب المزيد منه، ولا يعتذر عن ضآلة ما يقدمه، ليس بالكلمات وإنما بالأسلوب نفسه الذي يستطيع به أن يدل على بث روح الدأب لكشف السنن وتوضيح القوانين. ثقافتنا توحي بأن العلم خلق كاملا فلا يمكن المزيد عليه، وكأن البحوث انتهت مع الأولين الذين لم يتركوا شاردة، ولا واردة إلا بحثوها، وفهموها وحصلوا الذروة والنهائية، وليس عليه هو إلا أن يتملق بحوثهم ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ثم يضيف: "كذلك العلاقة بين التلميذ والمعلم، حيث يوحي المعلم بأنه يعلم كل شيء، ويأخذ الأطفال الصغار هذا إلى أن يكشفوا جهل المعلم في بعض الأمور. إلا أن هذا الكشف لا يأتي بشكل إيجابي لا من المعلم ولا من التلميذ. وإنما بشكل سلبي من كليهما. فالمعلم لا يقابل ما يجهل بسوية، بل كثيرًا ما يكون بمواربة وخداع ... والتلميذ المسكين يتقمص هذا الموقف الذي ينتج سوء العلاقة المشبعة بالاحتكار"1.   1 جودت سعيد، العمل، ص183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 خامسًا: الخبرات في التربية الحديثة المعاصرة من الموضوعية أن نقول أن التربية الغربية المعاصرة هي تربية غنية بالخبرات الكونية، والاجتماعية، وإن القائمين على هذه التربية يعون إلى درجة عالية أثر الخبرة المربية في تكوين شخصية المتعلم، كما يعون أثر عوامل التطور في الخبرة المشار إليها. ولذلك يراعون مبدأ الاستمرارية تمام المراعاة. وليس أدل على ذلك من الجهود التي تدور حاليا لتطوير نظم التربية استعدادا لإيجاد مواطن القرن الواحد والعشرين، الذي سيكون مواطنا عالميا يعيش في "قرية الكرة الأرضية". والإنسان الغربي -بشكل عام- يبدأ منذ الطفولة في التدريب على التفاعل مع الكون المحيط، وعلى تحليل الخبرات الكونية والاجتماعية وتطويرها. كذلك يتم التركيز على الخبرة، وإعطاؤها حقها في المناهج التعليمية بما يتناسب والدور الذي تعلبه في حياة الفرد، ونمو قدراته ومهاراته. ويكفي أن نشير إلى ما أعطاه مرب واحد هو -جون ديوي- من عناية للخبرة في مجال البحث النظري والتطبيق العملي. والغربي ما زال منذ أيام النهضة الأولى يعطي الخبرة ما تستحقه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الجهد والتكاليف التي تتمثل في الرحلات والاكتشافات الجغرافية في البر والبحر ثم أخيرا في الرحلات والاكتشافات الفضائية، ومثلها الخبرات الاجتماعية وما يصاحبها من بحث في الثقافات المختلفة، والآثار العمرانية والمخطوطات والمواد الأثرية المختلفة. والمدرسة الغربية -ابتداء من المرحلة الابتدائية، ورياض الأطفال حتى الدراسات الجامعية- ما زالت تعطي الخبرة المربية أهمية خاصة في برامجها وأنشطتها، وتوفر لها شروطها وبيئتها التي تساعد على نضوجها. ولكن مشكلة التربية الغربية تقع في ميدانين: الأول، في العنصر الثاني من الخبرة -أي عنصر الأثر- حيث يقتصر على المستوى الأول: مستوى الأثر المادي الذي يسهم في تقدم -الحضارة المادية، أو وسائل الحياة وأدواتها، ومعارفها، ولا يرتقي إلى المستوى الثاني: مستوى "اليقين" المفضي إلى شكر الله وعبادته. والسبب هو افتقار الخبرة في التربية الحديثة إلى "الذكر" الإلهي الصحيح الذي يرشد المسيرة التربوية إلى مقاصد الحياة وغاياتها. ويتجسد هذا النقص في الأزمة الروحية التي يعاني منها الإنسان الغربي بشكل عام، وفي شبكة العلاقات الاجتماعية التي تنظم علاقات الإنسان بالإنسان داخل المجتمعات الغربية وخارجها. صحيح إن دراسات مقارنة الأديان قد أخذت تتطور هناك بشكل يرقى عن مثيلاتها في الأقطار الأخرى، ولكن المشكلة في هذه الدراسات تتمثل في أمرين: الأول، في أشخاص القائمين عليها وفي الباحثين الذين ينتمون في الغالب للكنيسة والمؤسسات، والكليات المسيحية واليهودية. وهؤلاء يحملون وجهة نظر مسبقة عن غير ديانتهم -خاصة الإسلام- ويتصفون بالتحزب المسبق، لذلك تقوم مناهجهم في البحث على انتقاء حسنات ما عندهم والتركيز على سلبيات ما عند غيرهم، الأمر الذي يحول دون البحث الموضوعي، والرؤيا الصحيحة ويجعل الخبرات المتكونة خبرات غير مربية، ولا نافعة. صحيح أن هناك نفر قليل حاول التزام العدل والموضوعية، ولكنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 يظل نفرًا نادرًا لا يسمح له أن ينتشر ويشيع. هناك بحث موضوعي ظهر في دائرة المعارف البريطانية Encyclopedea Britanica طبعة عام 1910/ 1911 تحت عنوان -الكتاب المقدس The Bible. ولقد كان كاتبه عميقًا في بحثه واضح الأدلة في تنقيبه، ومقارناته التاريخية بحيث انتهى إلى نتائج تفيد الإنسان الغربي في مراجعة معتقداته وقيمه بشكل جذري. ولكن البحث حذف من الطبعات التي تلت حتى الوقت الحاضر. والمشكلة الثانية في الدراسات الغربية المقارنة هي أن منهج البحث الذي يتناول الموضوعات الدينية، لا يعالجها باعتبارها خبرات رفيعة مهمتها الإسهام في رقي الإنسان، وتصويب مسيرته عبر الحياة نحو المصير، وإنما باعتبارها معرفة من أجل القوة والسيطرة. فالدراسات الإسلامية -مثلًا- تعالج على أساس أنها دراسات استراتيجية رافدة للسياسات الخارجية من أجل السيطرة، والهيمنة على "مزق" الأمة الإسلامية المعاصرة. ومن هنا تأتي الأهمية القصوى لاقتراح -أبراهام ماسلو- وهو نقل الدراسات الدينية إلى ميدان العلم بدل بقائها حبيسة في دوائر الكهانة، ليتعيش بها الكهان أو في دوائر السياسة ليستغلها الساسة. وهذا الدور يحتاج إلى مفكر من نوع جديد: نوع يرقى إلى المستوى العالمي في تفكيره وانتمائه. وطرحه للموضوعات والخبرات الدينية دون حساسية سلبية مما تركته خبرات قرون النهضة أيام الصراع، الذي دار بين ممثلي الفهم الديني الخاطئ، وبين ممثلي العلم المنشق عن الدين، ودون حساسية مما تركته خبرات الحروب الصليبية التي ما زالت تلون النظر الغربي في كل بحث في أصول الإسلام، ومصادره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الفصل التاسع: تربية الإرادة عند الفرد أولا: معنى الإرادة ووظيفتها ... الفصل التاسع: تربية الإرادة عند الفرد مر -فيما مضى- إن الإرادة هي المركب الأول للعمل، وأنها ثمرة تفاعل القدرات العقلية مع -المثل الأعلى. وليتضح دور الإرادة في تربية الفرد المسلم لا بد من التعرف على معنى الإرادة ووظيفتها ومستوياتها، ثم كيف تنمو الإرادة وتنضج، وكيف تضعف وتفقد وغير ذلك مما يرد تفصيله فيما يلي: أولًا: معنى الإرادة ووظيفتها الإرادة هي قوة الرغبة والاختيار التي توجه الإنسان نحو قصد معين. وهي قوة باعثة يتولد منها الميل إلى الشيء أو النفور منه. والإرادة هي الوظيفة الثانية من وظائف القلب. فحين يفرغ القلب من الوظيفة الأولى -أي عقل الأفكار والأشخاص والأشياء، والمواقف والظواهر التي تجسد المثل الأعلى ثم تحليلها وتقييمها -يأتي دور الوظيفة الثانية، وهي تقبل هذه الأفكار والظواهر، أو رفضها كليا أو جزئيا. وتتجسد -الإرادة- في السلوك الظاهري من خلال قوتين اثنتين: قوة الغضب، وقوة الشهوة. وتتخذ هاتان القوتان حالات ثلاث: الحالة الأولى، غضب يتحرك إلى المدى الذي يدفع العدوان عن النوع البشري، وشهوة تتحرك إلى المدى الذي يحافظ على استمرار بقاء النوع البشري. والحالة الثانية، غضب ضعيف لا ينمو إلى الحد الذي يدفع العدوان عن النوع البشري، وشهوة ضعيفة لا تتحرك إلى المدى الذي يحقق الاستمرار للأفراد والجماعات. والحالة الثالثة، غضب مفرط طاغي يتحرك إلى درجة العدوان على الأفراد والجماعات، وشهوة مفرطة طاغية تتحرك إلى الدرجة التي تهدد بقاء الأفراد والجماعات. والذي تهدف إليه التربية الإسلامية هو تنمية الحالة الأولى إلى درجة النضج، وتزكية الأفراد والجماعات من الحالتين الثانية والثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ثانيا: مستويات الإرادة والإرادة مستويات تتطابق مع مستويات المثل الأعلى. وهذه المستويات قسمان: بعضها أساسية وبعضها فرعية. أما المستويات الأساسية فهي: إرادة الإنسان للغذاء لبقاء الجسم البشري. وإرادة الإنسان للنكاح لاستمرار النوع الإنساني. وإرادة العقيدة والقيم ليرتقي الإنسان بنوعه. والذي تهدف إليه التربية الإسلامية أن تنمو هذه المستويات الثلاثة، وأن تتخذ مواقعها حسب نسق معين تحتل فيه -إرادة العقيد والقيم- منزلة التوجيه والإرشاد بينما تتوجه الإرادتان الأخريتان نحو مقاصدها في ضوء التوجيهات، والإرشادات المشار إليها توجها واعيا قائما على الاقتناع والقبول. وبذلك تعطي الإنسان منزلته العليا، وتخرجه عن إرادات الحيوان الذي يتوقف عند إرادة الغذاء والنكاح. ولا يعني ذلك الحط من قيمة الاقتصاد، والتمتع بنعم الله، وإنما معناه أن الاقتصاد يكتسب قيمته من أثره الأخلاقي، ومدى إسهامه في رفع قيمة النوع البشري لا مجرد الوقوف عند بقاء النوع البشري. فإرادة العقيدة والقيم هي الهدف بينما يكون دور كل من الإرادتين الأخريتين هو دور الوسيلة المساعدة للوصول إلى هذا الهدف. فالمسلم يريد الطعام والنكاح، ولو ترك الطعام فمات لكان منتحرا، ولو ترك النكاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 لكان خارجًا عن المنهج المستقيم. ولو حرم غيره من الطعام لكان قاتلا، ولو حرم غيره من النكاح لكان مفسدًا. ولكن لا يجوز أن يجعل الطعام والنكاح مثله الأعلى بل يطلبهما طلب الوسيلة الموصلة إلى المثل الأعلى. والإنسان فيه ميل طبيعي إلى تعشق المثل الأعلى، الذي يرتقي بنوعه ولا يقف عند الإسهام في بقائه الجسدي. وحين تثبت التربية إرادته عند إرادة الطعام، والنكاح ينتابه القلق وعدم الاستقرار والإحساس بالغربة حتى يبلغ مستوى العقيدة والقيم، أو ما يقابل تحقيق الذات التي هي حاجة تعلو على الحاجات الفسيولوجية كما يقرر -ماسلو- في سلم حاجته الشهير. وحين تنمو الإرادات الأساسية التي مر ذكرها، وتتكامل حسب النسق الذي عرضناه، فإن عددا من الإرادات الفرعية ذات الأثر الإيجابي يتفرع عنها إطارًا عامًّا. ويرسم القرآن إطارًا عاما لهذه الإرادات الفرعية منها: إرادة الإحسان: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] . وإرادة الإصلاح: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88] . وإرادة الهدى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء: 81] . وإرادة النصح: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} [هود: 34] . وإرادة التيسير: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص: 27] . وإرادة التواضع والصلاح: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 83] . وإرادة الآخرة: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] . ومثلها إرادة التعلم، وإرادة الفضائل والأخلاق، وإرادة الحلال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 المأكل والملبس والجنس والنفور من الإرادات السيئة، والمحرمة التي تقابل الإرادات الفاضلة والمباحة. ومحور هذه الإرادات كلها الذي تتوحد فيه، وتتفرع عنه هو -إرادة الله سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] . {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 39] . وإرادة الله يكون من ثمراتها تفجر جميع الإرادات النبيلة، التي تتوجه للارتقاء الحياة وطهرها وشيوع الحق، والعدل فيها وسهولتها، ويسرها: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] . {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7] . {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] . أما إذا انحسرت إرادة العقيدة والقيم، وهيمنت إرادة الطعام، وإرادة النكاح فصارتا هما الهدف، وما يقابلهما في سلم "مثل السوء" هو المثل الأعلى، فإن التربية تكون قد خرجت عن مسارها السليم. ولذلك فإن نظم التربية التي تجعل الرفاهية المادية، وزيادة الدخل وثقافة الاستهلاك أسمى درجات المثل الأعلى الذي تتحرك نحوه إرادة المتعلم لا تعتبر -في الواقع- هي النموذج لنظم التربية؛ لأنها تهمل إنسانية الإنسان. إن التربية التي تجعل مثلها الأعلى هو الرفاهية المادية، وثقافة الاستهلاك تفرز عددا كبيرا من الإرادات الفرعية الفاسدة ذات الآثار السلبية مثل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 إرادة الدنيا: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران: 152] . {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29] . وإرادة الفحشاء: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79] . وإرادة العدوان: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} [الإسراء: 103] . وإرادة طمس الحق: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف: 8] . وإراد الإفساد: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44] . وإراد الخيانة: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} [الأنفال: 71] . وإرادة النفاق والمداهنة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 91] . وإرادة الجبن: {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] . وإرادة التزييف: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] . وإرادة الكيد والمكر: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70] . وإرادة الجاه: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: 24] . ومثلها إرادات العصبية للقبيلة أو القوم، أو الجنس أو الوطن، وإرادة الحرام من المال والمطعم والجنس، وإرادة السلطان والتجبر، وإرادة اللهو، وإرادة المتعة والترف، وإرادة الرذيلة وغيرها من الإرادات السيئة والمحرمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فهذه كلها إرادات يريدها الإنسان الذي تقف إرادته الرئيسية عند إرادة الطعام وإرادة النكاح، وهي كلها تؤدي إلى هبوط النوع الإنساني. ولذلك جعلها الإسلام إرادات فاسدة كالروائح النتنة. ولهذا لما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعض أتباعه "يريدون" الولاء للعصبية ويصيحون: يا لآل فلاون! قال لهم: "دعوها فإنها منتنة" 1. وإيراد هذه الأمثلة والنماذج القرآنية للإرادات لا يعني أن نقف عند ما ورد في القرآن والحديث، وإنما معناه أن نسترشد بهذا الإطار العام لمفهوم الإرادة، ثم نمضي قدما في تصنيف تفاصيل الإرادات الفرعية في ضوء الخبرات، والحالجات القائمة. أي أن المطلوب أن يبرز "فقه تربوي" في كل زمان ومكان، تكون مهمته بلورة نماذج الإرادات التي يراد من التربية والمؤسسات التربوية أن تنميها في ضوء التوجيهات الإلهية في آيات الكتاب، وفي ضوء التطور الجاري والحاجات المتجددة، والتحديات القائمة في ميادين الآفاق والأنفس. ونجاح التربية في هذه المهمة يحقق صفة "الإخلاص" في العمل التي هي أحد الشرطين الرئيسين لبروز العمل الصالح. ومن الطبيعي أن بلورة مثل هذه النماذج من الإرادات يجب أن يسبقها بلورة نماذج مطابقة من المثل الأعلى، الذي يمثل حاجات المرحلة والمكان كذلك. وحين تنجح التربية في ذلك كله وتشيعه، وترسخه تكون قد عملت على إيجاد ما يسمى بـ"روح الأمة"!!   1 صحيح مسلم، كتاب البر، ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ثالثًا: مستوى الإرادة ونضجها تنمو -الإرادة- عند الفرد حين يعرض عليه -المثل الأعلى- الذي يجد فيه الأدلة، والشواهد التي تقنعه بصحة هذا المثل الأعلى وتمثيله لتطلعاته وآماله. وتبلغ الإرادة درجة النضج حين يصبح الفرد مستعدا لبذل النفس، والمال في سبيل المثل الأعلى. ويشير القرآن إلى هذه الحالة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الاستعداد في مواضع كثيرة جدا، كذلك تدل وقائع التربية النبوية على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يشترطها ويجعلها شارة الإيمان وصدقه. والإنسان عنده ميل فطري إلى أن يضحي بنفسه، وماله في سبيل المثل الأعلى، بل إن هذه التضحية هي أمر راسخ في فطرة الإنسان وجزء من وجوده، وما تعظيم الشجاعة عند البشر إلا تقدير لقيمة التضحية في سبيل المثل الأعلى، ولذلك جعل الجهاد أفضل الأعمال. والتربية الإسلامية لا تجيز هذه التضحية في سبيل -مثل سوء- يحط بالنوع الإنساني ويثقل ميزان الشر. ومن هنا كان التنديد بالقتال في سبيل مثل الجاهلية، وميتات العصبية والانتحار. ومثله التنديد بالذين يفقدون إرادة التضحية في سبيل المثل الأعلى، ويحرصون على أية حياة ولو كانت حياة الهوان والاستضعاف. ولكن نمو الإرادة ونضجها يحتاجان إلى شروط معينة. وأي خلل في هذه الشروط ينعكس آثاره سلبيا على الإرادة التي يراد تنميتها. أما هذه الشروط فهي: أولا: أن تنمو لدى الفرد القدرات العقلية، وتزكو أساليب التفكير وخطواته التي عرضت في تربية وظيفة والعقل. ثانيا: توفير البيئة التي تسهل للفرد أن يعيش تطبيقات المثل الأعلى ويمارسها. ثالثا: الاستمرار في عرض المثل الأعلى على الفرد حتى درجة الرسوخ، والإحاطة بالكليات والجزئيات. رابعًا: اقتناع الفرد بحاجته إلى المثل الأعلى المعروف، وبأضرار "مثل السوء" الذي يعارضه ويتنافى معه. خامسا: تحرير الفرد من الموروثات الاجتماعية والثقافية التي تخالف المثل الأعلى المعروض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 رابعا: مستوى الإرادة ومستوى المثل الأعلى يتحدد مستوى الإرادة طبقا لمستوى المثل الأعلى المعروض على القدرات العقلية. ويختلف مستوى الإرادة عن نموها في أن مستوى الإرادة، هو انتقال طولي من مستوى إرادة بقاء الجسد -مثلا- إلى مستوى إرادة بقاء النوع، أو من هذا الثاني إلى مستوى إرادة الارتقاء بالنوع البشري. أما نمو الإرادة فهو امتداد أفقي باتجاه نموذج المثل الأعلى، الذي يقابل مفردات الإرادة، كأن تنمو إرادة الإحسان وتتوجه نحوه بعد عرض المثل الأعلى لقيمة الإحسان، وأن تنمو إرادة العمل، وتتوجه نحوه بعد عرض المثل الأعلى لقيمة العمل. وأن تنمو إرادة التنظيم، وتتوجه نحوه بعد عرض المثل الأعلى لقيمة التنظيم وهكذا. إذن فالمستوى الذي يعرض من المثل الأعلى هو الذي يقرر مستوى الإرادة الحاصل، فيرفعها -إن شاء- حتى تبلغ إرادة الارتقاء بالنوع الإنساني، ويحبسها إن شاء عند مستويات إرادات الطعام، والنكاح. أي إن العلاقة بين المثل الأعلى، وبين الإرادة علاقة طردية. فالإرادة ترتفع بارتفاع مستوى المثل الأعلى المعروض، وتهبط بهبوط مستوى المثل الأعلى المعروض. وهذا قانون له آثاره الخطيرة في مجال التطبيق ومواقف الحياة. فالخطباء والشعراء والمغنون لا يستطيعون إثارة إرادة التضحية عند الشعب، إلا إذا كانت المؤسسات التربوية قد نمت مفردات هذه الإرادة، ورفعت مستواها قبل ذلك، ولذلك تحددت عمليات التربية الإرادية في التربية الإسلامية طبقا لهذا المبدأ، فالفقهاء والمربون ينمون الإرادات، ويرفعون مستواها بالإعداد النظري والتطبيق العملي الذي يمتد لسنين طويلة، والوعاظ والخطباء يستثيرون الإرادات الكامنة خلال دقائق فقط، ولكنهم لا يستطيعون عمل شيء في هذا الشأن، إذا كانت الإرادات ضعيفة أو ميتة. وهذا المبدأ من الأسباب الرئيسية التي تدفع السياسات الاستعمارية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 والأنظمة السياسية التي تمثل الفئات المستغلة إلى الهيمنة على المؤسسات، والنظم التربوية والإعلامية، واستغلالها لعرض مثل سوء أو تشويه المثل الأعلى إذا كان موجودا في الأصل، أو حجبه بغية توليد إرادات ضعيفة أو فاسدة، بينما تترك الحرية للخطباء والوعاظ لينفخوا في إرادات ميتة أو غائبة. وهو نفس السبب الذي يجعل الدين الإسلامي هدفا لعداوات المستعمرين، والمترفين والمتسلطين في كل زمان ومكان. ويمكن أن نمثل للعلاقة بين مستوى المثل الأعلى، ومستوى الإرادة ونموها بالشكل التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 خامسًا: فقدان الإرادة وضعفها كما إن الإرادة تنمو وتنضج، فإنها تضعف وتموت. لذلك لا تقف التوجيهات الواردة في القرآن والسنة عند الإشارة إلى أهمية الإرادة، ووظائفها وإنما أيضا إلى النظر في أساب ضعفها وموتها للحذر من هذه الأسباب، وتجنب آثارها وتحديد أساليب معالجتها. ويتم فقدان الإرادة الجازمة النبيلة في ثلاث حالات هي: الحالة الأولى، عند فقدان القدرات العقلية. وفي حالة هذا الفقدان لا يتفاعل الفرد مع المثل الأعلى إذا عرض عليه، ويكون مثله مثل الذي فقد حاسة الشم، فإذا وجدت الرائحة لا يحدث الإحساس بها رغم وجودها. وهذه الحالة ليست مدار بحثنا؛ لأنها حالة مرضية ميدانها الصحة الجسدية والعلاج البدني. والحالة الثانية، أن توجد القدرات العقلية ويوجد المثل الأعلى، ولكن تكون القدرات العقلية مكبلة بـ"مثل سوء" تسرب إليها خلال الموروثات الاجتماعية، والثقافية التي يرثها الفرد من بيئته الأسرية والاجتماعية. ولأهمية هذه الموروثات نتناولها بشيء من التفصيل فتقول: كما إن الطفل يولد على الفطرة في سمعه وبصره وشمه وذوقه، كذلك هو في إرادته للخير ونفوره من الشر. فإذا عرضت الأفكار، والأعمال على الإنسان الفطري -خالي الذهن من الخبرات الاجتماعية والثقافية- فإن له القدرة على اختيار أفضلها وأن تتوجه إرادته إلى محبتها، حتى تصل إلى درجة التضحية بالمال والنفس. ولكن الطفل يرث مثله الأعلى -في العادة- من المجتمع الذي ينشأ فيه كما أشار إلى ذلك -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "ما من مولد إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه ويمجسانه وينصرانه" 1. ولذلك كان واجبا على التربية أن   1 البخاري، كتاب الجنائز. مسلم، كتاب القدر. الترمذي، كتاب القدر، الموطأ، جنائز. مسند أحمد، جـ2، جـ3، جـ4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 تقوم بمراجعة وتقويم ما ورثه الطفل من بيئة "الآباء" الخاصة، والعامة في ضوء نماذج المثل الأعلى التي تود التربية أن تنشئ الطفل على إرادتها. ولنتحقق من أثر الموروثات الاجتماعية في موقف الإنسان من المثل الأعلى، يمكن أن نلاحظ أن الإنسان يبصر ويسمع، ويفهم بخلفيته الثقافية وبمواريثه الاجتماعية. فالناس الذين يمشون يلاحظ أحدهم الأماكن التي تباع فيها التحف القديمة، ويلاحظ آخر المكتبات التي تبيع الكتب والصحف، ويلاحظ ثالث الملاهي، ويلاحظ رابع المساجد، ويلاحظ خامس سمك الفسيح، ويلاحظ سادس مطاعم الهامبرجر. وهكذا كل يلاحظ بحسب الإرادات التي نمتها فيه الموروثات الاجتماعية -خاصة في عهد الطفولة. إن عيونهم التي في وجوههم تلتقط مثل آلات التصوير كل المشاهد، ولكن الذي يحضر الأفلام في الداخل ينتقي مشاهد معينة فقط1. وهذا يعني إن وراء عيوننا الحسية عيونا أخرى اجتماعية تقوم بعملية الانتقاء. وهذه العيون هي التي يتحدث عنها الله تعالى حين يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] . والناس الذين تطرق آذانهم أصوات متعددة تنقل إليهم موضوعات، وأفكارًا عبر أجهزة الأعلام، وفي الندوات والمحاضرات. ولكن بعضهم يسمع ويعي الأشعار -أو أشعارًا معينة بالذات، وبعضهم يعي الفقرات الدينية، وبعضهم يعي وينجذب للأغاني، وبعضهم يعي وينجذب للنكات المسرحية، وبعضهم يعي وينجذب للتعليقات السياسية، وبعضهم يعي وينجذب للأحاديث الاقتصادية، وبعضهم يعي وينجذب لأخبار العلم والتكنولوجيا. إن آذانهم التي في رءوسهم تتلقى جميع الأصوات، ولكن أجهزة التسجيل والوعي التي في الداخل تسجل وتذيع مقطوعات معينة، أو موضوعات معينة فقط.   1 جودت سعيد، العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 والناس يقرأون كتابا واحدا ينقل إليهم عبر مقاعد الدرس أو التدريس أو النشر، ولكن بعضهم يفهمه بما هو في خير الإنسان ولنصرة الحق والفضيلة، وبعضهم يفهمه بما هو ضد الإنسان وضد الحق والخير والفضيلة. إن عيونهم التي في رءوسهم تنقل نفس الكلمات وتصور نفس الحروف، ولكن المترجم أو الشارح الذي في داخلهم يبتنى شروحات وتأويلات متباينة. والذي يحدد جميع هذه الأشكال من السمع والبصر، والفهم هو المواريث الثقافية والاجتماعية التي تلقاها الفرد خلال التنشئة من بيئته الخاصة والعامة. فإذا كانت هذه الموروثات تناقض المثل الأعلى الذي تحمله هذه المرئيات والمسموعات، والمقروءات، فإن هذه الموروثات تقيم سدودا حاجزة وتغلق الأبواب أمام المثل الأعلى المرئي أو المسموع، أو المقروء. ولقد أطلق القرآن الكريم على هذه الحواجز أسماء "الغشاوة" و"الوقر" و"الران"، وأطلق على الموروثات الاجتماعية والثقافية التي أقامت هذه الحواجز اسم "الأغلال" واسم "الآصار". وأكثر ما تقوم هذه الحواجز في أوساط البيئات التي تحمل أكداسا وركاما تاريخيا من الفلسفات والعقائد، والثقافات المختلطة والقيم والعادات والتقاليد المتباينة. ومن هنا يمكن أن نفهم قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1. فاختيار الرسول -صلى الله عليه وسلم- كفرد، والعرب المعاصرين له كمجتمع، يحمل الرسالة مبني على أن فطرتهم كانت أكثر تحررًا من الموروثات الاجتماعية، والثقافية حيث كانت المعلقات الشعرية أسمى إنتاجهم في هذا المجال، وهي ذات موضوعات بسيطة تدور حول أشياء العربي البسيطة آنذاك ولا تحتوي على فلسفة أو عقائد. ولذلك كانت فطرتهم أسلم من المجتمعات المعاصرة لهم من الفرس، والروم الذين كانوا يعانون من أخلاط   1 سورة الأنعام، الآية 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 مضطربة من العقائد والفلسفات والمذاهب والثقافات. فكانوا في ذلك الوقت الأنموذج الذي وصفه الله بقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83] . ومن هنا كذلك يمكن أن نفهم مواقف المجتمعات الإسلامية فيما بعد، من دعوات التجديد والإصلاح بعد أن تجمعت عندهم أخلاط من المذهبيات والفرق المتباينة والتأويلات المختلفة التي انحدرت إليهم من الآباء خلال القرون. وبسبب هذه الآثار السلبية للموروثات الثقافية، والاجتماعية الفاسدة، كانت شكوى نوح عليه السلام من المجتمع الذي عاصره عندما قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26-27] . فهو لم يعن إن الأطفال يولدون مزودين بإرادات الكفر والفجور، فهذا يتعارض مع المبدأ الذي يقرر أن الإنسان يولد مفطورًا على تعشق المثل الأعلى وإرادة الهدى، والفضيلة. وإنما أراد تصوير هيمنة الموروثات الثقافية والاجتماعية التي كانت -منذ وقت مبكر- تفسد بذرة -الإرادة النبيلة- في نفوس الناشئة، بحيث يستحيل أن تنمو هذه البذرة فيما بعد، وإن استمرار مثل هذه الموروثات سوف يؤدي إلى إفساد الإرادات عند العباد كلهم، ودفعهم في طرق الضلال. والخلاصة إن مثل الأفراد الذين يعانون من هيمنة الموروثات الثقافية، والاجتماعية المناقضة للمثل الأعلى مثل الذي تعرض عليه الروائح الزكية، ولكن حاسة الشم عنده مصابة بمرض الزكام. وهؤلاء يطلب إليهم العلاج فإذا رفضوه وظلوا يتعللون بعدم القدرة على الشم لم يعذروا، واحتاجوا إلى الحجر الصحي والحمية -بكسر الحاء وسكون الميم- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 والعلاج القسري حتى لا تنتقل عدوى أمراضهم إلى الأصحاء كلهم. وهذا هو -منهج التربية الإسلامية- في معالجة البيئات التي تنتشر فيها مثل هذه الحالات، ثم تستعصي على الشفاء من الإرادات الفاسدة. فقد كان الجهاد عمليات جراحية لاستئصال الأعضاء البشرية الفاسدة، حتى لا ينتشر فساد إرادتها إلى بقية البشر، وحتى تكسر الحواجز أمام المثل الأعلى الذي تريد هذه التربية أن تعرضه على عقول الأفراد الذين لم يروه. والحالة الثالثة، أن توجد القدرات العقلية، ولا يوجد المثل الأعلى فيكون مثل هذه الحالة مثل الذي لديه حاسة الشم، ولكن لا توجد الرائحة الزكية. لذلك لا يحدث الإحساس بها. وهذه حال المجتمعات التي افتقرت المؤسسات التربوية فيها منذ زمن طويل إلى "المثل الأعلى". ومثلها نظم التربية الحديثة التي فصلت بين العلوم الإنسانية، وعلوم الدين وبين العلوم الطبيعية، ثم أهملت الأولى أو قللت من شأنها بينهما سجعت الثانية، ورعتها ورفعت من مكانة المتخصصين فيها. ومثلها أيضا النظم التربوية التي قامت -وتقوم- في ظل الاحتلال والاستعمار أو تلك التي تقوم في ظل التسلط، وكبت الحريات والطبقية والتمييز العنصري. فجميع هذه النظم تلجأ في العادة إلى بناء نظم تربوية تستبعد المثل الأعلى الذي ينمي إرادات العقيدة، والقيم العليا والأخلاق الرفيعة وتستبد له بـ"مثل سوء" يدور حول إرادات الطعام، والنكاح وما يتفرع عنها من إرادات المتعة واللهو، ويصاحب ذلك كبت الحريات الذي يحول دون نمو القدرات العقلية ونضجها. ثم تكون نتيجة ذلك كله إخراج إنسان ضعيف الإرادة، أو فاقدها فيسهل التحكم به، وتسخيره دون أن تتحرك فيه إرادة التحرر أو المساواة، والعدالة الاجتماعية. ومثل هؤلاء الأفراد يعذرون ويعرض عليهم المثل الأعلى، والذين يرفضونه بعد العرض لا يعذرون، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الفصل العاشر: إحكام تنمية القدرة التسخيرية أولا: معنى القدرة التسخيرية القدرة التسخيرية هي المركب الثاني لـ"العمل الصالح" الذي هو صفة الفرد الذي تستهدف التربية الإسلامية إخراجه. وهي تعني القدرة على اكتشاف قوانين الخلق في الكون، والنفس واستثمارها في تطبيقات نافعة لبقاء النوع البشري ورقيه. وهذه القدرة هي ثمرة: تفاعل القدرات العقلية مع الخبرات الكونية، والنفسية اللتين استعرضناهما فيما مضى. والقدرة التسخيرية التي توجه إليها مصادر التربية الإسلامية -خاصة القرآن الكريم- نوعان: قدرة تسخيرية في ميادين الكون، وهي القدرة على اكتشاف قوانين عناصر الكون، ثم تحويل هذه القوانين إلى تطبيقات وممارسات صائبة. وقدرة تسخيرية في ميدان النفس، وهي القدرة على اكتشاف قوانين السلوك الإنساني، وتفاعلاته في حياة الفرد أو ممارسات الجماعة، عبر الرحلة البشرية على الأرض، ثم الاستفادة من هذه القوانين في تعبئة طاقات الأفراد والجماعات لتحسين حياة الإنسان، والرقي بالنوع البشري وتأمين سلامته، حسب المنطلقات والمبادئ التي تتفق مع قوانين الخلق، وتوجيهات الوحي. والقرآن يطلق على هذه القوانين اسم -السنن- ويحث الإنسان إلى البحث عنها، واكتشافها والتفكر بعملها، وتتبع آثارها في الوجود الكبير كله. ولقد استطاع الإنسان -حتى الوقت الحاضر- أن يقطع أشواطًا كبيرة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 تحقيق القدرة التسخيرية في ميادين الأشياء الكونية. إذ بواسطة هذا الإنجاز كشف الكثير من قوانين الكون، وطور التكنولوجيا وسخر الكثير من مخلوقات الأرض، وكنوزها وخاض عباب المحيطات، وجاب الفضاء، ونزل على سطح القمر، وتقدم في فهم الصحة والمرض وغير ذلك. كذلك استطاع الإنسان الوقوف على جانب غير قليل من قوانين النفس والسلوك، فاستطاع من خلال ذلك تسخير إمكانات النفس البشرية، وطاقاتها للتأثير في الأداء الإداري، والتنظيمي والعسكري، وتوجيه الرأي العام والتأثير في المعتقدات والاتجاهات. ويشير القرآن الكريم إلى أن القدرات التسخيرية في ميدان النفس، والاجتماع، سوف تتطور وتتقدم حتى تستخرج قدرات الإنسان الأخلاقية، والإيمانية، ثم تنيمها وتمكنها من توجيه السلوك البشري، والمنجزات والممارسات بالشكل الذي يبرز علم الله في الإنسان إلى عالم الواقع، فلا يعود يسفك الدماء، أو يفسد في الأرض. وفي التاريخ شواهد محسوسة على أن الرسل، والأنبياء الذين أحكموا القدرات الأخلاقية في ميدان النفس، استطاعوا الارتقاء بنماذج من البشر إلى الدرجة التي يتطلع إليها الإنسان في الكمال والمثالية. والتوسع في ذلك يحتاج إلى مزيد من القدرات التسخيرية في ميدان النفس، والاجتماع، ويحتاج إلى تطوير مفاهيم جديدة للعلم والتربية، وهو الأمر الذي توجه إليه أصول التربية الإسلامية. لقد استطاع الإنسان من خلال اكتشاف قوانين المحسوس، وتسخير هذه القوانين أن يعرف كيف يتعامل مع مكونات هذا الكون، وتسخيرها لتحسين حياته والارتقاء بوجوده المادي، والتغلب على كثير من الأخطاء والمصاعب التي تواجهه. فالإنسان حين سخر قوانين الهواء والفضاء -كالجاذبية مثلا- صار يعرف كيف يصنع المركبات، ويجوب الفضاء ويدور حول الأرض في ساعات. ولكنه إلى جانب ذلك صار يعرف بالبداهة أن القفز من مراكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الفضاء والطائرات دون مراعاة للقوانين، التي تسيرها لا بد وأن يؤدي به إلى الحتف المؤكد. ولذلك هو لا يأتيه أبدًا إلا بما يتفق وهذه القوانين كاستعمال مظلات القفز المعروفة باسم -الباراشوت- وأمثالها. ولكن جهل الإنسان -أو عدم إحاطته- بالقدرات الأخلاقية، وبقوانين النفس والسلوك، ما زال يضعه في موضع العاجز عن توجيه عربة السلوك الأخلاقي والاجتماعي. بل إنه في كثير من الأحيان ليقفز من هذه العربة قفزة الجاهل البدائي، فيتحطم وتتناصر أشلاؤه، ولا يعتبر بالنتائج المدمرة التي تعقب هذا القفز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ثانيا: درجة القدرة التسخيرية، وحدود الخبرة المربية قلنا: إن -القدرة التسخيرية- هي ثمرة تزاوج القدرات العقلية مع الخبرات الكونية والاجتماعية، وإن هذه الخبرات دوائر بعضها أوسع من بعض. ونضيف هنا أن درجة القدرة تتناسب مع سعة الخبرة المربية. فالفرد يكون لديه قدرة تسخيرية في ميادين الكون، والاجتماع والنفس التي بلغت خبرته فيها مستوى الخبرة المربية، فإذا خرج خارج دائرة خبراته المربية فقد القدرة على تسخير الظواهر التي يواجهها في الدوائر الجديدة. ولذلك تتحدد الخبرات المربية عند ابن الريف داخل حدود الريف، فيكون مستقل التفكير والسلوك قادرا على اتخاذ القرارات، ولكنه حين يخرج إلى المدينة تتعطل قدراته التسخيرية، ويفقد القدرة على اتخاذ القرار المستقل، حتى إنه إذا أراد شراء قطعة من القماش، فإنه يلجأ إلى بعض معارفه أو أصدقائه من أبناء المدينة لشراء القماش الذي يراه ملائما، ولو أنه كذلك دخل مطعما لم يجرؤ على اختيار ما يأكله، ويشربه ويفوض الآخرين ليختاروا له، أو يقلدهم فيما يأكلون ويشربون1، ولو أنه أيضًا أراد الزواج من المدينة فإنه يقع على   1 إذا أجبر على الاختيار ما كان يشربه في الريف كأن يطلب "الشاي" أو"القهوة" أو ما يأكله في الريف كأن يطلب "شوربة العدس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 أول فتاة تصادفه ولو كانت من سقط المتاع، وتظل هذه حالته حتى تتعمق خبراته، وتبلغ درجة الخبرات المربية. ومثل ابن الريف، الزعيم السياسي أو القائد العسكري أو المدير الإداري الذي ينتمي إلى قطر من الأقطار، التي لم تدخل عصر التكنولوجيا المتقدمة بعد، أي أنها ما زالت تستوردها ولا تنتجها. فمثل هؤلاء الأنماط الثلاثة من الزعماء والقادة والمديرين يتخذون قرارتهم، ويقومون بممارساتهم داخل بلادهم باستقلال وتفكير، ولكنهم حين يخرجون خارج دائرة خبراتهم المربية التي اكتسبوها من بيئاتهم، فإنهم يفقدون القدرة على اتخاذ القرار المستقل، والمعالجات المستقلة، ويلجئون إلى الأصدقاء والحلفاء من أبناء الدول المتقدمة المنتجة للتكنولوجيا، ليمدوهم بالخبراء الذين يتخذون لهم القرار، ويضعوا خطط التنفيذ، وكثيرا ما يستغل الخبراء مكانتهم هذه ليتخذوا قرارات وليمارسوا تطبيقات تخدم مصالح أقطارهم، وتضر بالمسئولين المحللين وبلادهم. ومثل النوعين معا المثقف، أو المربي الذي ينتمي إلى بلد من البلدان، التي لم تدخل عصر تفجر المعرفة والذي لم يتدرب على التفاعل مع الكون المحيط والوجود القائم. فمثل هذا المثقف أو المربي يكون مستقل النظر، والقرار داخل حدود خبراته المربية التي كونها داخل بيته وثقافته. ولكنه حين يخرج خارج دوائر خبراته الثقافية والتربوية، فإنه يتبنى ما يتلى عليه أو ما يقرأه دون تحليل أو تقويم، ويتلقاه تلقي الوحي المعصوم، ويظل يكرره ويجتره حتى يغيره أهله الذين أنتجوه ثم يمدونه بأفكار غيرها، وهكذا. لذلك كان واجب التربية أن تتوسع في تكوين الخبرات المربية عند المتعلمين حتى تدخلهم دائرة خبرات العصر والمستقبل المنظور. وبذلك يتكون عند الناشئة القدرات التسخيرية، التي تمكنهم من تلبية حاجاتهم القائمة والمستقبلية، ومواجهة المشكلات الموجودة والمحتملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ثالثا: مستويات القدرة التسخيرية تتفاوت مستويات القدرة التسخيرية عند الأفراد. وطبقا لتفاوت هذه المستويات يجري تصنيف المتعلمين إلى: أولي ألباب محسنين، ومؤمنين متبعين، ومسلمين مقلدين. وتتكامل هذه المستويات طبقات لعلاقة المسئولية، والدرجية التي تم استعراضها في الكتاب الأول من هذه السلسلة -كتاب فلسفة التربية الإسلامية. أما عن تفاصيل مستويات القدرة التسخيرية، فهي كما يلي: المستوى الأول، وهو القدرة على التفاعل العلمي مع الكون المحيط كله، بحيث يصبح عقل الفرد دائر التفكر في خلق السماوات والأرض، وما فيهما من كائنات دون أن يتوقف عن التساؤل: كيف؟ ولماذا؟ لحظة واحدة. وأصحاب هذه القدرة يديمون النظر، والبحث عن الإجابات الصحيحة للتساؤلات المتكررة في أذهانهم، وهم دائموا الاكتشاف لقوانين الموجودات وقوانين الاجتماع، والنفس ثم يبلورون هذه القوانين، ويثرون بها المعرفة وتطبيقاتها. والمستوى الثاني، هو القدرة على فهم القوانين والسنن المكتشفة من قبل أصحاب المستوى الأول ثم تحويلها إلى تطبيقات عملية تساهم في سعادة الإنسان، وتنظيم حياته ورقيها. وأما المستوى الثالث، فهو القدرة على فهم التطبيقات العلمية، وكيفية عملها وتركيبها ثم استعمالها والإفادة منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 رابعا: أهمية تنمية القدرات التسخيرية ... رابعا: أهمية تنمية القدرات التسخرية لم يعد باستطاعة الإنسان العيش في طور التكنولوجيا العلمية إلا إذا احتل -على الأقل- المستوى الثالث من مستويات القدرة التسخيرية التي مر ذكرها. إذ لم تعد قيمة للقدرات العضلية، والطاقات الجسدية إذا لم تتوثق معرفة الفرد بالقدرات التسخيرية، والتفكير العلمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وتضيف التربية الإسلامية عاملا آخر لأهمية تنمية القدرات التسخيرية، وإخراج الإنسان العلمي والمجتمع العلمي والبشرية العلمية. وهذه الأهمية هدفها أن يصبح العلم زادا شعبيا يتزود به العامة، والخاصة لبلوغ درجة اليقين الإيماني. فالعلم والتفكير العلمي هما دعامتا الإيمان وبرهانه الساطع. وحين يشيع العلم وينتشر تتكشف المعجزات الإيمانية في الآفاق، والأنفس كما وعد الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] . بل إن الإشارة واضحة إلى أن المقصود بالعلماء، الذين يخشون الله هم العلماء المختصون بالعلوم الطبيعية كعلم النبات والجيولوجيا والطب، وعلم الإحياء والسلالات والعلوم الاجتماعية، الذين يديمون البحث والنظر في عناصر الكون وظواهر الاجتماع وحركة التاريخ. فالآية التي أثبتت صفة الخشية للعلماء جاءت بعد تقديم لمظاهر الكون، وعناصر الوجود الحي القائم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27، 28] . فالرسالة الإسلامية جاءت لتطور معجزات الرسالات بما يناسب الطور الجديد الذي دخلته البشرية. فلم تعد معجزة الرسالة الإلهية ناقة تولد من صخرة، أو عصا تنقلب إلى حية تسعى، أو أكمه تبرئه مسحة يد، وما يشبه ذلك من المعجزات الصغيرة المفردة، المحدودة بحياة الرسول الذي يجيء بها، المحسوسة التي توافق الطفولة والمراهقة الفكرية للإنسانية، وإنما صارت المعجزة رسوخا في العلم بنشأة عوالم الكون، والحياة وتكوينها وتطورها، وصار حجمها يملأ الكون القائم، وتخطت حدود الزمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 والمكان، وتجاوزت مرحلة الطفولة والمراهقة الفكرية إلى النضج الفكري الذي وقف الإنسان على أعتابه، وصارت تبرز من خلال العقل البشري دون أن تنحصر في نبي أو رسول. إن آيات الآفاق والأنفس هي هذه المعجزة المستمرة التي لا تتوقف لحظة واحدة، عن لفت العقول والأبصار، والأسماع إلى العلاقة المتبادلة المستمرة، وإلى التطابق الكامل بين آيات الكتاب التي جاء بها الوحي، وآيات الآفاق، والأنفس التي يكتشفها العلم في كل يوم. والقرآن لا تخلو صفحة من صفحاته من الحث على تتبع مظاهر هذه المعجزة العلمية في السموات، وفي الأرض، وفي النفس الإنسانية، وفي مفردات الخلق كلها. والقرآن لا يوجه العقل إلى تأمل غيب لا يقع تحت أسماعنا، وأبصارنا وعقولنا، ولكن الغيب الذي يوجه الإسلام إليه هو كائن موجود لم يأتنا تأويله بعد، وحين يأتي تأويله -أي بروزه إلى عالم الحس- فسوف نراه ونعايشه، وما الكهرباء والجاذبية، والطاقة الذرية والطاقة الهيدروجينية وتطبيقات البث التلفزيوني والاتصالات عبر القارات، والتلكس والكمبيوتر، وأمثالها إلا محسوسات كانت في عالم الغيب، وسوف يتوالى انتقال المغيبات إلى عالم الحس حتى يرى الإنسان كل ما وعد به الرسول، وجاءت به الرسالة: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] . لقد شرعت التربية الإسلامية في عصور الازدهار في تنمية القدرات التسخيرية اللازمة للنظر في آيات الكتاب أولًا، ثم النظر في آيات الآفاق والأنفس ثانيا. وكان من ثمار هذا الشروع أن ارتقى المفكرون إلى المستوى الأعلى من مستوى القدرات العقلية -مستوى تبني المواقف العلمية من الكون المحيط. وبسبب هذه المواقف ارتقوا إلى رتبة الاجتهاد المطلق، وأطلقوا العنان لعقولهم للنظر في آيات الكتاب والسنة، فسبروا أغوارها في ضوء الواقع الذي يعيشونه. وكان من ثمار إخراج تلك الثروة الفقهية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 والعقائدية التي قامت عليها مدارس الأصول والفقه والتربية، وكن من ثماره أيضا تلك التطبيقات الاجتماعية التي ارتقت بالمجتمع الإسلامي إلى تسلم القيادة الحضارية في الأرض كلها. كذلك ارتقى الناظرون في آيات الآفاق إلى مستوى التفاعل، والحوار المستمر مع الكون المحيط باحثين عن شواهد صدق آيات الكتاب في آيات الكون. وبسبب هذا الموقف العلمي انفتحوا على تراث الحضارات السابقة، وأخضعوه للمراجعة والبحث. وكان من ثمار ذلك تلك الثروة العلمية التي كانت أساسا هاما في أسس النهضة الإنسانية كلها، وكان من ثماره أيضًا تلك التطبيقات التي جعلت العالم الإسلامي آنذاك مصدر التكنولوجيا إلى غيره من الأقطار. ولكن المسيرة لم تستمر لتصل مداها، فمنذ القرن الرابع الهجري، أخذت مؤسسات التربية الإسلامية تهمل المستوى الأعلى من تنمية القدرات العقلية، واكتفت بتنمية المستوى الأوسط، ونتيجة لذلك جاء جيل من المفكرين انحدر في قدراته العقلية عن مستوى -المواقف العلمية- التي تؤهل للكشف، والابتكار إلى مستوى الوقوف عند فهم القوانين والمبادئ والنظريات دون قدرة على ابتكار جديد مثلها، وهو ما أسموه بـ"الاتباع". فكان من ثمار ذلك تلك التطبيقات الفقهية، والعلمية التي مثلتها مؤلفات المذاهب، والمدارس التربوية المختلفة. ومع النزول إلى هذا المستوى من القدرات التسخيرية بذرت بذور تقديس الآباء وتقليدهم؛ لأن الوقوف عند الأصول، والنظريات التي ابتكرها الآباء هو افتراض الكمال، والاستمرارية في علومهم وقصر الابتكار عليهم. ثم تلا هذا الجيل جيل ثالث بدأ منذ القرن الثامن الهجري، واستمر حتى مطلع العصور الحديثة، وهو جيل نزل في تفكيره إلى منزلة النظر في مؤلفات المذاهب والمدارس العلمية، والوقوف عندها. أو ما عرف بـ"التقليد" وأهمل جانب النظر في آيات الآفاق والأنفس -أي الجانب العلمي- إهمالًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 كاملا، بل راح يستعدي عليه الحكام ويقلل من شأنه، ويصنفه في قائمة العلم الذي لا ينفع. وكان من ثمار ذلك ظهور الشروح والحواشي والتقارير وتوقف الفقه عن الابتكار، والتطبيق في ميدان العلوم الدينية ثم إغلاق مختبرات البحث، وأكاديميات العلوم وانحسارها إلى مرتبة الاهتمامات الفردية دون النشاطات الاجتماعية. وهذا المستوى الأخير هو الواقع الذي ورثته المؤسسات التربوية الإسلامية القائمة في العالم الإسلامي المعاصر. وهو واقع ما زال قائمًا تقريبًا وإن أجريت عليه ما سمي -بالإصلاحات التعليمية- فهذه إصلاحات وقفت عند تبديل ألقاب المدرسين، وأسماء الشهادات وأشكال الإدارة والأبنية والأدوات، ولكن جوهر المشكلة ظل قائمًا، وهو أن هذه المؤسسات ما زالت تخرج فردا فاقدا للقدرات التسخيرية الإبداعية -أي عاجزًا عن النظر في آيات الآفاق والأنفس، وعاجزا عن النظر في الكتاب والسنة نظرا اجتهاديا. أي هو عاجز عن إبراز معجزة الرسالة. وتزداد خطورة المشكلة التي تعانيها هذه المؤسسات حين نرى أن جمهرة العاملين فيها، والخريجين منها لا يتوقفون عن مهاجمة العلم القائم، والحضارة القائمة كوسيلة لنصرة الرسالة، أي أنهم يدافعون عن رسالة الإسلام بمهاجمة معجزة هذه الرسالة، ويرددون ما أفرزه العقل الأوربي حول التناقض التاريخي الذي قام بين العلم والدين في أوربا وامتدادها. إن العلم لا يكون -أبدًا- ضد الرسالة الإسلامية؛ لأنه معجزتها كما أسلفنا في السطور التي مضت، وينبغي أن لا يميل بنا الهوى لإدانة من يخاصموننا باسم العلم إلى إدانة العلم نفسه. فالعلم لا يكون سببا للضلال، وإنما سبب الضلال هو نقص العلم، وإدراج الظنون في قائمة العلم. ولذلك بدل أن نهاجم العلم يجب أن نسعى إن كشف العلم الناقص، والظن المدرج تحت اسم العلم ونظهرهما على حقيقتهما. والقيام بهذا الواجب يحتاج إلى تخريد علماء راسخين، يحاورون الفكر العالمي بأحسن مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 عنده. ويحتاج كذلك أن نعيد النظر في مفهوم العلم، وتصنيف المتعلمين فلا نسمح بالدخول في حرم العلم، إلا لأولي الألباب من الأذكياء الموهوبين؛ لأنهم وحدهم القادرون على التسخير، وإبراز معجزة الرسالة في ميدان العلم. كذلك الحضارة لا تكون -أبدًا- ضد الرسالة، وإن من أهداف الرسالة أن تنقل الإنسان من التخلف إلى الحضارة. بل إن الحضارة مقدمة ممهدة لمجيء المثل الأعلى -أي المبدأ الديني- وذلك ما يراه المؤرخ البريطاني توينبي Toynbee حين ذكر أن الحضارة الرومانية بأمنها، وطرق مواصلاتها ورقي مؤسساتها كانت مقدمة سارت عليها الفكرة المسيحية التي حملها المبشرون على الطرق الرومانية الآمنة، حتى جعلوا روما نفسها مركز الكنيسة. فإذا كان العلم معجزة الرسالة في الآفاق، والأنفس فإن الحضارة تقدم وسائل الاتصال والتبليغ الملائمة للوصول إلى المجتمع البشري المعاصر للرسالة. وإن العلاقة بين القدرات العلمية التي تفرز الحضارة، وبين إرادة المثل الأعلى سببية طردية. فالقدرات العلمية هي التي ترفع درجة إرادة المثل الأعلى عند الإنسان، ثم تعود الإرادة إلى طلب مزيد من القدرة العلمية، ثم تحدث القدرة مزيدا من الإرادة. وهكذا يستمر التأثير المتبادل بين الاثنين، ويكون من ذلك تقدم العلم الذي هو العامل الرئيسي في تقدم الإرادات والمجتمعات. وإن التقهقر في الحضارات لا يحدث حين ينتشر العلم، ويتمتع الناس بثماره -كما يشاع بين بعض المؤرخين الذين ينظرون في المضاعفات، ويغفلون عن الأسباب الحقيقية. بل يحدث التقهقر حين تفشل نظم التربية في تنشئة أجيال لا يكون واضحا لديها أمر العلاقة بين القدرات التسخيرية، وبين إرادة المثل الأعلى -أو المبدأ الديني- فيزهدون في العلم ويعبثون بثماره أو يقتصرون على جانب منه، فتبقى الإرادة عزلى عن قدرتها وتبدأ في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الضمور. وهكذا يقل العلم فتقل إرادة المثل الأعلى، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد. ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوساء جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" 1. إن أساس الخطأ الذي يقع فيه بعض مؤرخي الحضارات حين يربطون بين التقدم العلمي وبين تقهقر الحضارات والمجتمعات أمران: الأول، أنهم يخلطون بين العلم والأدب العلمي، وبين الظن وأدب الأهواء والشهوات، والإرادات الهابطة. ومثال ذلك ما يقوم به بعض المؤرخين حين يربطون بين عصر الإمارات الضعيفة في الأندلس، وبين ما يسمونه بازدهار الآداب والثقافة التي لم ترتفع عن مستوى الإرادات الضعيفة، والأهواء والشهوات السائدة، وكأن التعبير عنها أو تشجيع هذا التعبير بأشكاله المختلفة هو ازدهار في حد ذاته. والأمر الثاني، هو الخلط بين العلوم وبين التطبيقات المادية، أو الصناعية للعلوم. فحين يتوقف التقدم العلمي تستمر تطبيقاته المادية زمنا بعده، بل إنها تشيع وتنتشر بسبب الإقبال على حياة الترف والشهوات. إن ما تحتاجه الرسالة الإسلامية هو قيام مؤسسات تربوية تفرز نماذج جديدة من العلماء، الذين يحسنون إبراز معجزة الرسالة في ميدان العلم، وتكون لهم الكفاءة العلمية، والتفكير العلمي اللذان يؤهلانهم لاعتلاء المنابر الجديدة، التي أفرزها العلم في مسجد "قرية الكرة الأرضية" الطهور الذي خص الله به رسوله2 -منابر التلفزة ومحطات الإرسال الفضائية، والطباعة   1 البخاري، كتاب العلم. 2 إشارة إلى حديث: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة". البخاري -كتاب التيمم- كتاب الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 العالمية، ويخاطبون الإنسانية بأحسن مما عندها علما وفكرا وأدبا. تحتاج الرسالة الإسلامية إلى مؤسسات تربوية ومفاهيم، وتطبيقات تربوية جديدة تتعايش مع المفاهيم الجديدة للعلم التي تحكم على الأشياء بنتائجها المحسوسة وثمراتها العلمية. ومفهوم العلم هذا هو المناسب للإسلام، بل نحن نجد أدلة محسوسة لما يعطيه الإيمان للناس المؤمنين من الطمأنينة، والتخفيف من الشقاء، والعذاب الذي يعاني منه من لا يؤمن بالله واليوم الآخر. بل إن العلم بالآخرة صار في قوة العلم التجريبي -كما يقول الأستاذ جودت سعيد- وصار مجاله أوسع، فبدل أن يكون هذا المجال هو غرفة المختبر الذي تستخدم فيه الأنابيب، والقناني تحول إلى مختبر الكون الفسيح، وأحداثه التاريخية والاجتماعية. وهذا ما يلائم المنهج الإسلامي الذي يطلب إلى العالم أن يسير في الأرض، ويتبع التطور الذي يعتري الكائنات والظواهر والأحداث ابتداء من خلقها، وتكوينها حتى واقعها، واحتمالات تطورها الأخرى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] . فالذي تهدف إليه التربية الإسلامية -إذن- هو أن يقدم الإيمان إلى الناس بالصورة التي يقدم بها علم الجغرافيا، أو الفلك أو الكيمياء أو الفيزياء، وبذلك يصير الإيمان علما. {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] . ولكن التعليم الذي تقدمه المؤسسات التربوية في العالم الإسلامي لا يبث في الفرد اكتساب ملكة البحث، وكشف القوانين. وهي لا توحي للدارس أن العلم قابل للزيادة، ولا تحثه على طلب المزيد منه. بل إنها توحي أنها ورثت العلم كاملا فلا يمكن المزيد عليه، وأن البحث انتهى مع "الآباء" الذين لم يتركوا شيئًا إلا بحثوه وفهموه، وليس على الدارس إلا أن يتملق علمهم ويتغنى بإطرائهم. وبذلك تعكس هذه المؤسسات معنى قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] . وتعكس معنى قوله: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] . وقوله أيضا: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الفصل الحادي عشر: إحكام توازن الإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية في تربية الفرد من الضروري أن تتوازن الإرادات النبيلة العازمة مع القدرات التسخيرية في تربية الفرد، ومن خلال هذا التوازن يتولد "العمل الصالح" بالصورة التي مر عرضها في هذا البحث. ومعنى هذا أن تعمل التربية على تنمية الإرادات العازمة حتى درجة التضحية بالمال، والنفس ثم تعمل بنفس القدر من الجهد، والكفاءة لتنمية القدرات التسخيرية حتى درجة التسخير الكامل للإمكانات المادية، والبشرية المتوفرة. ومن الخطورة البالغة أن تقصر تنمية إحدى الاثنتين عن الأخرى، فتركز التربية -مثلا- على تنمية الإرادات دون القدرات أو العكس، فلذلك آثاره المدمرة في حياة الأفراد والأمم، ولتوضيح ذلك نستعرض آثار القصور في تنمية القدرات التسخيرية، وآثار القصور في تنمية الإرادات النبيلة الجازمة كما هو حاصل في تطبيقات التربية المعاصرة في الشرق والغرب. حين تغفل التربية -أو تجهل تنمية القدرات التسخيرية عند المتعلمين إلى المستوى اللازم، الذي تستدعيه حاجات العصر وخبراته في الوقت الذي تجد وتنجح في تنمية الإرادات العازمة النبيلة إلى درجة التضحية بالمال والنفس، فإن الأفراد في كل عمل يمارسونه ينتهون إلى الفشل والإحباط. وهذه هي حالة الأفراد الذين تخرجهم مؤسسات التربية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية ومثلها المؤسسات التربوية الموازية كالأحزاب، والجماعات والمساجد وبرامج الإعلام الديني والوطني. فجميع هذه المؤسسات تفصل تفصيلا كافيا في عرض محتويات المثل الأعلى -الديني والوطني، وتنمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 إرادات الأفراد إلى درجة التضحية بالمال والنفس. ولكنها تهمل -إهمالًا يكاد يكون كليا- الخبرات المربية والقدرات العقلية، اللذين ينتج عن تفاعلهما القدرات التسخيرية. ويكون من نتيجة هذا الإهمال قصور القدرات التسخيرية عن الإرادات العازمة، فيحدث الاضطراب في التفكير والعواطف، والمشاعر والسلوك وينشأ التخبط في إصدار الأحكام، واتخاذ القرارات وتنفيذها، وتتكرر مواقف الفشل والإحباط. وتكرار الفشل هذا له نتائج سلبية مدمرة تنعكس اتجاهات الأفراد والجماعات سواء. فهو -أولًا- يؤدي إلى فقدان الثقة بالمثل الأعلى، فتضعف الإرادة العازمة النبيلة، وتقصر عن مستوى التضحية بالمال، والنفس ويتراجع الفرد إلى إرادات الحفاظ على الجسد أو النوع، ويقعد عن العمل العام، ويتوقف عن المشاركة في الجهاد. وهذه حال كثير من الأفراد والشعوب في الأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة. فكثير من الأفراد المشتغلين في المبادئ والقضايا الوطنية، والإسلامية انتهى بهم تكرار الفشل، والإحباط إلى التخلي عن هذه المبادئ والقضايا والانسحاب الجزئي أو الانسحاب الكلي، الانسحاب الجزئي للاشتغال بإرادات الطعام، والحفاظ على الجسد والذرية، أو الانسحاب الكلي من المجتمعات العربية، والإسلامية للانضمام إلى مجتمعات غير عربية ولا إسلامية. وهذه -أيضًا- حال كثير من الشعوب العربية والإسلامية التي عجزت قدراتها التسخيرية عن تلبية الحاجات الداخلية، ومواجهة التحديات الخارجية، وانتهت إلى تكرار الفشل والإحباط والهزيمة، فإنها -أيضا- انسحبت انسحابات جزئية لتنكفئ على أمورها الخاصة أو انسحابات كلية لتقطع انتماءاتها، أو تتخلى عن مسئولياتها إزاء القضايا المشتركة ثم تبحث عن انتماءات أخرى تشاركها إرادات البحث عن الطعام، والحفاظ على النوع. والأثر -الثاني- هو أن كثيرا من الأفراد والجماعات ممن نمت إرادتهم، وقصرت عنها قدراتهم التسخيرية إذا واجهوا المشكلات، فإنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 يعالجونها بما يشبه التهلكة والانتحار حيث لا يعرفون لمواجهة الأزمات، وحل المشكلات إلا طريقا واحدا هو طريق العنف الانتحاري بالقول والعمل، ويقترفون الحماقة ويجانبون الحكمة. وهذه هي الصفة الغالبة على الأفراد والجماعات، والهيئات الرسمية والشعبية والمنظمات الوطنية العاملة في ميادين البناء الداخلي، أو المقاومة للاحتلال الخارجي. أما عن آثار القصور في ميادين الإرادات النبيلة العازمة، فإن الظاهرة البارزة لآثار هذا القصور هو فقدان الإنسان للسعادة، وفقدان لذة الاستمتاع بثمرات النجاح الذي توصله إليه القدرات التسخيرية. وهذه هي حال التربية في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار المتقدمة خاصة في أوربا وأمريكا. فلا شك أن هذه المؤسسات قد حققت نجاحات هائلة في ميادين الخبرات المربية، والقدرات العقلية التي تزاوجت لإنجاب أفراد ذوي قدرات تسخيرية عالية في ميادين الكشف، والاختراع وتطوير التكنولوجيا والإدارة والسياسة وغيرها. ولكن المشكلة التي أفرزتها المؤسسات التربوية هناك هي الأزمة في الإرادات النبيلة العازمة. فهذه المؤسسات تعاني من قصور شديد في مجال تربية الإرادة، حيث تقف مستويات هذه الإرادة التي تنميها المؤسسات التربوية المذكورة عند مستوى إرادات الطعام، وإرادات الحفاظ على النوع ولا تتخطاها إلى مستوى إرادة الارتقاء بالجنس البشري، والسبب في ذلك هو غياب -المثل الأعلى- وقصور مستويات -المثل السوء- الذي تعرضه الفلسفات التربوية الموجودة هناك. مما أفرز -وما زال يفرز- سلاسل متلاحقة من الأزمات الأخلاقية، والاجتماعية. وتكرار هذه الأزمات له نتائجه السلبية المدمرة في اتجاهات الأفراد والجماعات سواء. فهو -أولًا- يؤدي إلى فقدان الثقة بالعلم، وخيبة الآمال التي ترتبت عليه -كما يقول إدجار فور، وزملاؤه في تقريرهم التربوي. ذلك إن التفاوت الهائل بين التكنولوجيا المتقدمة التي أفرزها العلم، وبين القيم الإنسانية المتخلفة بسبب غياب المثل الأعلى قد قلب ثمرات العلم والتقدم إلى عكس الغايات التي نشأ العلم بسببها. فالإنسان أصبح يعاني -أكثر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 قبل- من حالات الاضطراب النفسي والقلق الفردي والجماعي. والأثر -الثاني- هو ظهور ظاهرة -الاغتراب alienatiom- التي يعاني منها الإنسان المعاصر، وشدة الحاجة إلى معرفة الذات الإنسانية، وهوية الإنسان ومكانته، وعلاقاته بنفسه وبالآخرين من حوله. والأثر -الثالث- هو إحساس إنسان التربية الحديثة -بالعجز Powerlessnss. وحقيقة هذا المرض هو شعور الإنسان المعاصر بالعجز عن التأثير في مجريات حياته. فبرز رق الآلة ورق مكان العمل، ورق وسائل الإعلام، الأمر الذي أفقد الإنسان حريته في الاختيار والتفكير، وانتهى به إلى الاستسلام لعوامل البيئة المحيطة في تلبية الحاجات، ومواجهة المشكلات. ولقد ناقش هذا المرض النفسي مربون وعلماء اجتماع، وعلم نفس من أمثال: ثيودور روزاك وديفيد مارتن، ومايكل لبرنر وسماه الأخير -فائض العجز1. والأثر -الرابع- هو شعور إنسان التربية الحديثة بانتقاص الذات بسبب انحسار المثل الأعلى عند التربية الحديثة إلى مستوى الحفاظ على الجسد البشري، الذي ابتكرت له الشعارات من أمثال: "الكفاح من أجل المعيشة" و"البقاء للأقوى". وخلال الكفاح من أجل البقاء أفرزت أمراض الطغيان والاستضعاف، وجملت الرذيلة والفساد، وقبحت الفضيلة والصلاح، والجري المتواصل وراء الغرائز والشهوات. والأثر -الخامس- هو فقدان إنسان التربية الحديثة الانتماء affilation، وصار الإنسان رقمًا في ركام البشر المتدفق في شوارع المدن الكبرى حيث يعيش الناس سجناء في سجون مساكنهم، وشققهم وراء أبواب مصفدة بالأقفال والأزراد والخوف من الجريمة والاغتصاب. فصارت مساكن الناس المتجاورة ماديا متباعدة نفسيا واجتماعيا، وكأنهم يعيشون في حديقة حيوانات!! تتطلع الضارية منها لافتراس الضعيفة.   1 Michael Lerner, Surplus Powlerlessness, New Jersey: Humanities Press, 1991. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الفصل الثاني عشر: مشكلة تربية الفرد في أهداف التربية الحديثة أولا: تضييق مفهوم العمل الصالح وحصره بالإنتاج المادي ... الفصل الثاني عشر: مشكلة تربية الفرد في أهداف التربية الحديثة بالرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها مؤسسات التربية في الأقطار المتقدمة لبلورة أهداف تربية الفرد، فما زالت التربية الحديثة تعاني من قصور خطير في هذا الميدان. أما مظاهر هذا القصور فتتمثل فيما يلي: أولا: تضييق مفهوم "العمل الصالح" وحصره بالإنتاج المادي إذا كانت التربية الإسلامية قد جعلت "العمل الصالح" سمة الفرد الذي تستهدف إخراجه، فإنها في تفسيرها لمفهوم الصالح قد انتهت إلى أن العمل الصالح يتجسد في "الفرد الصالح-المصلح" بالمفهوم الواسع الذي مر عرضه. أما التربية الحديثة التي انتشرت في أرجاء الأرض بانتشار الحضارة الغربية فقد حصرت مفهوم "العمل الصالح" في الإنتاج المادي، وإيجاد "الفرد المنتج-المستهلك". ولذلك يلاحظ أن المؤسسات التربوية الحديثة كالمدرسة، والمعهد والجامعة تركز على إعداد الفرد ليكون "منتجًا" بينما تركز المؤسسات الموازية كالإعلام، والصحافة والتلفزيون على إعداد الفرد ليكون "مستهلكا". ولقد ناقش العديد من الباحثين الصفة الأولى -وهي إعداد الفرد ليكون منتجًا فذكروا أن المدارس المعاصرة تهيئ الناشئة -بالدرجة الأولى- لحياة العمل الإنتاجي وذلك بوسلتين: الأولى: أنها تعلمهم مهارات محددة ذات علاقة بالعمل. والثانية: إنها تنمي فيهم الاتجاهات والعادات الضرورية للآداء الوظيفي الفعال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ويضيف هؤلاء إن الأمر لا يحتاج إلى عميق نظر لملاحظة التوازي بين تربية الطفل "كعامل" ووظيفة المعلم "كرئيس عمال" أو"مشرف عمال" وإنه يجري التركيز على هاتين الصفتين في جميع مستويات التعليم. ذلك أن جميع المهن تحتاج في الغالب إلى عمال، وموظفين لهم معرفة بالوقت ودقة في أوقات الحضور ومثابرة مستمرة بالعمل حتى تنطلق صفارة التوقف. وهذا النوع من اليقظة والدقة هو ما تدرب المدارس الطلبة عليه من خلال التأكيد على عمل الواجبات المدرسية، وأهمية الحضور وعدم التأخير الذي يتسبب في خصم بعض العلامات، ودق الجرس في وقت محدد، وإدارة فصول الدراسة بالطريقة التي تدار بها المصانع والمعامل، وإشاعة الاتجاهات والقيم والعادات المطلوبة في دنيا العمل. ويسمي -جون جارولمك- هذه التعليمات والنظم كلها بـ"منهاج المدرسة الخفي" الذي يندر أن تبرز نصوصه واضحة في المنهاج رغم أنها جزء رئيسي من عمل المعلم. فأصحاب العمل يميلون عادة لتعليم العمال الواجبات الدقيقة، وأن يجري إنجازها بسرعة وطاعة، وحيوية وعلى مستوى عال من الإنجاز. وهم يتوقعون من المدارس أن تطور هذه الصفات قبل دخول الناشئ دنيا العمل. ومن أبعاد هذا "المنهاج الخفي" تدريب الناشئ على التعاون مع الآخرين، والعمل كفريق من ناحية، ولكن تدريبهم على التنافس الذي يحتاجه عالم العمل من ناحية أخرى. وهذا من شأنه أن يخلق نوعًا من التناقض في شخصية الفرد، ويهيئ لأسباب الصراع الذي يدور في العادة في أماكن العمل في صفوات العمال والموظفين؛ لأن الفرد لا يستطيع أن يكون متعاونًا ومنافسًا في آن واحد. ومن أبعاد هذا "المنهاج الخفي" أن المدرسة تركز على المهارات الأساسية اللازمة لدنيا العمل كالقراءة، والكتابة والحساب وحسن الحديث، كذلك يجري التركيز على المقررات العلمية والمهنية، وإعطاء المكانة الأولى لها بينما يقلل من قيمة الدراسات المتعلقة بإنسانية الإنسان، ورفعته وأخلاقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وتهمل الدراسات الدينية إهمالا يكاد يكون تاما1. أما عن الصفة الثانية وهي -إعداد الفرد ليكون مستهلكا- فهذا واضح في الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام والصحافة، والسينما والتلفزيون والمعارض وغيرها. وإذا كانت الإعلانات التجارية تمارس التربية الاستهلاكية بصورة مباشرة، فإن تنمية الاتجاهات الاستهلاكية تجري بأساليب غير مباشرة في السينما والتلفزيون، والتركيز على قصص الحب ومسلسلات الغرام، وما يتفرع عنها وخلالها من المناظرة، والمواقف ليس هدفا في ذاته، وإنما هو وسيلة لعرض ما يتخلل هذه المواقف والمناظر من مظاهر الحفلات واللباس، والزينة والهدايا والسيارات والتنزه والرحلات وكل ما يتطلبه التسويق التجاري، ورفع شيهة "الاستهلاك"، وتوجيه المشاهدين إلى ذلك كله. ونحن نعلم الأثر الذي يحدثه أمثال ألفيس برسلي، أو جيمس بوند، أو ممثل السيارة المسحورة، أو ممثلات الإغراء في نشر بنطلون الجينز، وسيارات الجاكور والمسجلات الموسيقية، والأزياء والموديلات وإيجاد "الفرد المستهلك"، الذي يستهلك أكثر مما يحصل عليه من الأجر. ولا يقتصر هذا الفرق في التوجيه على الأفراد، وإنما يمتد إلى المجتمع، ففي حين تسهم التربية الإسلامية في إفراز ما يمكن أن نسميه "ثقافة القيم" حيث تقاس الأنشطة، والظواهر الاجتماعية بمقاييس القيم والمثل الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، فإن التربية الحديثة تسهم في إفراز ما يمكن أن نسميه بـ"ثقافة العمل والاستهلاك"، وقياس الأنشطة والظواهر الاجتماعية بمقدار ما يستهلكه الفرد والجماعة. كذلك يمتد هذا الأثر إلى العادات والتقاليد، وغير ذلك من مظاهر الحياة الاجتماعية القائمة. والواقع أن إفراز "ثقافة العمل والاستهلاك" في المجتمعات الحديثة قد   1 John Jarolimek, the School in Contemporary Society, "New york: Macmilan Publishing Co. Inc. 1981" PP. 127-129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أدى إلى ظاهرتين إحداهما إيجابية والأخرى سلبية. أما الظاهرة الإيجابية فهي تحديد مكانة كل فرد بمقدار ما ينتجه، فأدى ذلك إلى تقدم الصناعة ووفرة الإنتاج. ولكن الظاهرة السلبية هي إن مكانة الفرد تحددت بمقدار ما يستهلكه في ميادين الحياة المادية، وبذلك اشتغل التنافس بين الأفراد والجماعات، وشاعت المقاييس المادية وحلت محل المقاييس الأخلاقية والعلمية، وانقطع التواصل وانهار الاجتماع، وأصبحت النفعية المادية تحكم العلاقات وتوجهها. وليس صحيحا أن النفعية شاعت؛ لأن فلسفة تربوية معينة -كالبراجماتية- أو فيلسوفًا خاصا -مثل جون ديوي- قال بها وتبناها، وإنما البراجماتية جاءت ثمرة "ثقافة الاستهلاك"، ولم يزد جون ديوي وأمثاله عن دور تبرير ما شاع وانتشر ثم صياغته صياغة تربوية علمية كما هو منهج التفكير الغربي، الذي يستمد مبادئه مما يشيع في الواقع، ويعترف به المجتمع. ولكن أخطر مظاهر هذا الأثر السلبي إن التربية الحديثة، قضت على الجانب الإنساني الأخلاقي في شخصية الفرد المعاصر؛ لأن هذه النظم فصلت بين العلوم الطبيعية، وبين العلوم الإنسانية والدينية ثم حصرت الثانية، والثالثة في تخصصات معزولة عن تيار الحياة الجاري، وجعلت مهمتها -في أحسن الظروف- المشاركة في الترويح، وتخفيف التوترات النفسية والاجتماعية التي تفرزها بيئة العمل والاستهلاك. في حين هيأت جميع الوسائل لتفجر المعرفة الطبيعية، وتطبيقاتها التكنولوجية واستعمالاتها الاجتماعية دون إرشاد أو توجيه. فأدى ذلك إلى انهيارات في توازن المجتمعات، وإلى بروز طبقتين من الناس: طبقة أقلية تملك ثمار هذه المعارف، والتطبيقات التكنولوجية وتتحكم بالمصائر، وطبقة تنتج هذه التطبيقات، وتنال أقل من أثمان المواد التي يجري تشجيعها على استهلاكها. وكانت المحصلة لذلك كله عودة "الصنمية" إلى وجدان الفرد المعاصر، حيث انغرس في نفسه نوع من -الاقتران الإشراطي- بقدرة الإنسان على رزق أخيه الإنسان أو حرمانه، وقدرته على منح الحياة أو سلبها، فأدى ذلك كله إلى عودة الرق في شكل يناسب العصر كما يشير إلى ذلك الدراسات التي أفرزتها منظمات العمل الدولية، والمعاهد المتخصصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ثانيًا: تدني مستوى "المثل الأعلى" إلى مستوى -تلبية حاجات الجسد البشري مرت مشكلة "المثل الأعلى" في التربية الحديثة بفترات مضطربة انتهت به إلى التمحور حول "إشباع رغبات الفرد" أي المستوى الثالث: مستوى تلبية حاجات الجسد البشري. ولقد مرت هذه المشكلة في مراحل تاريخية تنزلت بمستويات المثل الأعلى حتى حصرته في المستوى المشار إليه. ففي المرحلة الأولى كانت التربية الحديثة تستمد نموذج المثل الأعلى من المصادر المسيحية، الذي كان يفترض به أنه يمثل المستوى الأول، مستوى الارتقاء بالنوع الإنساني. ولكن التطبيقات الاجتماعية لهذا النموذج شاهدت صدامات خطيرة مع الطبيعة الإنسانية ووقائع الحياة، كذلك اصطدم هذا النموذج بحقائق العلم الذي جاءت بها النهضة الحديثة، وكانت حصيلة هذا الصدام هي تمرد الإنسان الغربي على المثل الأعلى المذكور، ثم التوجه إلى المصادر الفلسفية خاصة خلال القرن الماضي، ومطلع القرن الحالي. وهذا التوجه حدد المرحلة الثانية للتصورات التي مرت بها مشكلة المثل الأعلى في التربية الحديثة. ففي المرحلة الثانية تبنت التربية المثل الأعلى الذي أفرزته تأملات الفلاسفة بالقدر الذي وصلت إليه قدراتهم العقلية، وحددته خبراتهم الشبرية في البيئات التي سمحت لهم مهاراتهم اللغوية، والفكرية وتفاعلاتهم الثقافية والاجتماعية. وكانت حصيلة هذه المرحلة هي النزول بالمثل الأعلى من المستوى الأول -مستوى الرقي بالنوع الإنساني- إلى المستوى الثاني: مستوى المحافظة على النوع البشري، بل إن هذه الفلسفات استهدفت المحافظ على نوع معين من الأجناس البشرية، وهو -الجنس الأبيض- باعتباره هو الممثل الحقيقي للإنسان. ونتيجة النوع من -المثل الأعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 - برزت أيديولوجيات و"مثل سوء" متطرفة مثل "النازية" و"الفاشستية" و"سمو الرجل الأبيض"، التي تسببت في المآسي وألوان الدمار والتخريب التي ما زال الإنسان يعاني منها حتى الوقت الحاضر. ولقد هيأ هذا الفشل -بالإضافة إلى ظهور نظريات التطور البيولوجي- إلى انتقال التربية الحديثة للبحث عن نموذج آخر من -المثل الأعلى- في مصادر علم النفس الحديث. وهذا التوجه حدد المرحلة الثالثة، أو المرحلة الحالية التي انتهت إليها مشكلة -المثل الأعلى. وأبرز خصائص -المثل الأعلى- في المرحلة الحالية هو إنه نموذج يمثل المستوى الثالث: مستوى تلبية حاجات الجسد البشري، وإشباع شهواته وهو ما تطلق عليه التربية في الوقت الحاضر "إشباع رغبات الفرد". أي عكست ترتيب مستويات المثل الأعلى، فجعلت الأداة هي الهدف، ثم تنزلت بالهدف وأحالته في عداد الأدوات أو ضمن "روافع القوة Leverages of Power" كما هو عند -مارجنثوا- رائد مدرسة العلوم السياسية الواقعية في الوقت الحاضر الذي أدرج -الدين- و"القومية"، وكل نماذج المثل الأعلى السابقة في عداد الأدوات، التي تستغل لإشباع رغبات الفرد. ونتيجة لهذا التطور أصبح "المثل الأعلى" في التربية الحديثة هو "إشباع رغبات الفرد، وإعداده للحصول على ما فيه مصلحته". ويختلف المختصون في شرح ما تعنيه "مصلحة الفرد" اختلافا كبيرا. فأناس يفسرون "مصلحة الفرد" بأنها الحصول وظيفة رفيعة ومكانة عالية، وأناس يرونها في توفر فرص الحياة المادية الرغيدة، وآخرون يرونها في إمداد الفرد بالقدرات، والمهارات التي تعده للحياة. ولقد لخص -جوان وايت- مختلف الآراء التي ناقشت "إشباع رغبات الفرد وتحقيق مصالحه" في قسمين رئيسين: القسم الأول، مصالح أساسية: وهذه تقع بين مستويين اثنين: مستوى أدنى من الغذاء والكساء، والمأوى والرعاية الصحية التي توفر البقاء على قيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الحياة. ومستوى أعلى يوفر للفرد مستوى عال من الطعام المغذي، والمأوى المريح والصحة الجيدة، وهو لا يقنع الفرد في الأقطار المتقدمة إلا به. ويلحق بهذه الحاجات الأساسية حاجات فسيولوجية، ونفسية كالحاجة للجنس والقدر المناسب من الحرية والأمن، والدخل المادي والعمل المريح. وهذه وإن يجري الاتفاق على ضرورتها، إلا أن الاختلاف يقع حول درجة إشباعها. والقسم الثاني، مصالح جوهرية: وخلاصتها أن مصلحة الفرد في توفير السعادة. وتتشعب الآراء في تفسير هذه السعادة، فأناس يرون إن سعادة الفرد في إشباع رغباته التي يتمركز حولها اهتمامه، وفي قدرته على الحصول على الوسائل التي تحقق هذه الرغبات. وخطورة هذا الراي، عند -جون وايت، أنه يثير مشكلات خطيرة حين تتمركز رغبات الفرد حول رغبة شاذة، وتصبح وظيفة التربية التركيز على هذه الرغبة الشاذة كذلك، رغم مزية الاختيار الحر الذي يوفرها هذا الرأي، وأناس يقرنون سعادة الفرد بسعادة الحواس والمشاعر. وخطورة هذا الرأي -عند وايت- إنه يقتل المسئولية في الفرد؛ لأن معناه أن لا يتعلم الإنسان شيئا، ولا يمارسه إلا إذا سعدت به حواسه ومشاعره. فالطبيب إذا لم يسعد بعلاج المرض فلا داعي للقيام بذلك، والمرأة إذا لم تسعد برعاية أطفالها، فلا داعي لذلك أيضا وهكذا1. وهناك رأي ثالث يخالف الآراء السابقة مخالفة كلية. فهو يرى أن "مصلحة الفرد" تكمن في "الإبداع النفسي- لأن المتعلم كالفنان، وليس كالباحث عن الحقيقة. فهو يرى حياته في التعبير عن أعمق مشاعره وحدسه. والخير لا يأتيه من خارج وإنما يخلقه هو نفسه؛ لأنه يعيش في عالم ليس فيه قيم متأصلة، وإنما الإنسان يشكل نفسه ويعطيها نوعا من   1 John White, OP. Cit, PP. 23-44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الكمال والتوازن. ومعنى ذلك أن التربية يجب أن تتمركز حول التلميذ، ولا شيء سوى ذلك. ويعلق -جون وايت- على هذه الآراء مجتمعة بقوله: إن المشكلة في هذه التفسيرات كلها أنها تجرد "مصلحة الفرد" من القيم وتفرغها من الفضائل والتعقل، وتبقي الفرد شبيها بالحيوان الذي يتصرف طبقا لغرائزه دون أن يكون لديه ما يوجه أعماله وعلاقاته مع الآخرين، كما يحرمه من النظرات المستقبلية1. وثمة مظهر آخر لإهمال "المثل الأعلى" يتمثل في الجدل الدائر حول قيمة الفضائل الأخلاقية، التي يجب أن تتضمنها أهداف تربية الفرد. وخلاصة هذا الجدال أنه يصعب تجاهل الأهداف الأخلاقية بسبب الحاجة إلى ضوابط، ومقاييس تنظم العلاقات بين الأفراد. ولكن يصعب أيضًا تحديد مفهوم محدد واضح للفضائل الأخلاقية بحيث لا يتناقض هذا المفهوم مع الهدف الأساسي، وهو "إشباع الفرد" الذي مر شرحه. لقد تناولت الفلسفات التربوية هذه المشكلة، وعرفتها تعريفات متعددة. فبعضها -كالفلسفة البراجماتية- قالت: إن رغبات الفرد هي فضائل في حد ذاتها، وبعضها قال بتوفير الفرصة للفرد ليفهم الأخلاق، ثم تترك له الحرية ليمارس منها ما يشاء، فبينما رأت مدارس أخرى أن الفضيلة هي إبداعات عقلية تترك للفرد نفسه. ولكن المشكلة التي تشترك بها جميع الفلسفات التربوية هي الافتقار إلى حل التناقض بين "إشباع رغبات الفرد"، وأهداف التربية الأخلاقية. وإزاء العجز عن تحديد العلاقة بين "إشباع رغبات الفرد"، وبين التربية الأخلاقية برز رأي يقول باقتصار التربية على ما فيه -المصلحة العامة.   1 Ibid, PP 44-46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ولكن المشكلة التي برزت هي كيفية تحديد مفهوم -المصلحة العامة- والفرق بينها وبين المصلحة الخاصة، وأين هو حد التوافق بين المصلحتين1. ونتيجة لذلك كله برز رأي آخر دعا إلى صياغة أهداف التربية الأخلاقية طبقا لما أسماه بـ -نظرية الاكتفاء بالحد الأدنى من الأخلاق- وتسمى بالإنجليزية 2The Minimalist View. وحجة أصحاب هذا الرأي أن الحد الأدنى يوفر للأفراد أن يعيشوا حياتهم الخاصة دون خوف من الأذى الجسدي، أو الغش أو الخداع أو العدوان والإهانة. فإذا تم ذلك قام المجتمع المثالي. والمجتمع المثالي هو الذي لا يحتاج فيه أحد إلى أحد، وإنما يقف كل فرد فيه مستقلا بأموره. ويعلق -جون وايت- على هذه النظرية فيقول: "والحد الأدنى للأخلاق مقياس واقعي؛ لأنه يراعي اهتمام الفرد برغباته الخاصة، فالمسيحية ومثلها الفلسفات التي تنادي بالحب العام تتجاهل الطبيعة الإنسانية، إذ ليس بمقدور الإنسان العادي أن يؤثر غيره على نفسه. والقديسون هم نادرو الوجود ولا قياس عليهم. والتربية تستطيع من حيث المبدأ أن تجعل منا قديسين، ولكن ثمن ذلك هو العبث بالطبيعة الإنسانية التي نعرفها. ويمكن أن يجري غسل أدمغتنا لنؤثر غيرنا على أنفسنا، ولكن ما هو المقابل لذلك؟ وما حق الغاسلين في تغيير طبائعنا؟ فالحد الأدنى للأخلاق -إذن- هو المقياس الملائم للمجتمع الرأسمالي الذي ينشد الربح الخاص. وهو الذي يتلاءم مع أهداف التربية التي تجعل رغبات الفرد محور اهتماماتها. وهو مقياس مرن يسمح للناس أن يتعاملوا مع بعضهم البعض كما يرغبون"3.   1 John White, OP. Cit. P. 72. 2 Ibid, P. 78. 3 John White, OP. Cit. P. 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ولكن السؤال الذي يواجهه المختصون هو كيف يمكن تحديد "الحد الأدنى" للأخلاق؟ يجيب -وايت- على هذا السؤال بالقول إن رأي الأكثرية هو أن يترك ذلك للفرد نفسه ليقرر مستوى الأخلاق التي سيمارسها. فإذا نوى الوفاء بالوعد، وعدم الأذى وقول الصدق، وفعل الخير وإعطاء الصدقة فله ذلك. وإن أراد أن لا يفعل شيئًا من ذلك فلا ضير عليه ولا لوم. وإذا تعارض مقياس "الحد الأدنى للأخلاق" مع مصلحة الفرد، فله أن يهبط بالحد الأدنى إلى درجة الصفر ولا يفعل فضيلة على الإطلاق. وله أن يخلف وعده، وأن يؤذي غيره، ولا يقول الصدق إذا كان ذلك يخدم مصلحته، ولكن إن كان ذلك يلحق الضرر بسمعته، فله أن يلتزم هذه الفضائل، وإن استطاع النجاة من سوء السمعة، والأذى فله الخيار في ممارسة الأخلاق أو عدم الممارسة. ويضيف -وايت- إن هذه هي النظرية الشائعة في الوقت الحاضر، ويمكن أن تشكل أهداف التربية الأخلاقية في المستقبل عند قطاع كبير من سكان الأرض"1. وهناك رأي آخر يربط بين هدف "إشباع رغبات الفرد"، وبين الأهداف الأخلاقية بما يسميه -الأخلاق الخلاصية Universalistic Morality وهي أن يعيش الفرد من أجل خلاص الآخرين، وهو ما بشرت به المسيحية. ويذكر -جون وايت- إن التربية الشيوعية -هي من هذا النوع مع اختلاف بالطابع. فبدل أن تطبع الأخلاق الخلاصية بالطابع الديني، فإنها تطبعها بطابع مادي غير ديني حيث يصلب الفرد في الدنيا من أجل الجماعة كما تصلب المسيحية المسيح من أجل المجموع، وهذه تربية غير واقعية. وهناك رأي آخر يربط بين "إشباع رغبات الفرد"، وبين التربية الأخلاقية بما يسميه -الأخلاق المحلية المحدودة Concrete Morality حيث يتحلى   1 Ibid, PP. 80-86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الفرد بالأخلاق ضمن مجموعة محدودة كالأسرة، أو الطائفة أو الحي أو الدائرة؛ لأنه لا فكاك له من حسن التعامل معهم. ولكن لا ضرورة لوجود قاعدة أخلاقية للتعامل مع من هم خارج المجموعات المحلية المحدودة1. ولقد كانت ثمار هذه الآراء المتعلقة بتربية الفرد، وتحديد العلاقة بين رغباته وأخلاقه أن صارت المؤسسات التربوية الحديثة تفرز إنسانا لا يتصف بأية ضوابط أخلاقية، ولا مقاييس اجتماعية. وهو -في أحسن أحواله- يكون محايدا أخلاقيا Amoralist أي لا هو إلى جانب الأخلاق، ولا هو ضدها وإنما يتصرف طبقا لما تمليه عليه رغباته، ومصالحه المتلونة الموقوتة، وانطلاقا من هذه المصالح والرغبات قد يكون في موقف مع الأخلاق، وضدها في موقف آخر.   1 John White, OP. Cit. P. 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ثالثًا: حصر الإرادة في مستوى الرغبات والشهوات قلنا: إن مستويات الإرادة تتوازى مع مستويات المثل الأعلى المعروض على القدرات العقلية. وحين نطبق هذه القاعدة على التربية الحديثة نجد أن الإرادة فيها تقتصر على مستويين اثنين من المستويات الثلاثة التي أشرنا إليها. أي أن التربية الحديثة تقتصر على تنمية: إرادة الإنسان للغذاء لبقاء الجسم. وإرادة الإنسان للنكاح لبقاء النوع الإنساني. ومن الطبيعي -كما قلنا- أن يتفرع عن هاتين الإرادتين إرادات فرعية كثيرة. ولما كان المستوى الثالث مستوى: - إرادة الإنسان للعقيدة والقيم ليرتقي الإنسان بنوعه -غير موجودة في التربية الحديثة، فإن الإرادات المتفرعة عن هذا المستوى لا تنمو كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 رابعًا: حصر الخبرات بالكونية، والاجتماعية دون الدينية والأخلاقية من الإنصاف أن نقول: أن التربية المعاصرة قد أبدعت في ميدان الخبرات الكونية، وما تفرع عن ذلك من تقدم هائل في ميادين المعرفة الطبيعية، والتطبيقات التكنولوجية. بل إنها في هذا الميدان قد فاقت كل ما تقدم من عصور المعرفة كلها. وهي تتقدم الآن في ميدان الخبرات الاجتماعية، وتنعكس آثار هذا التقدم في علوم الإدارة وعلوم السياسة، وعلم النفس وأمثالها من العلوم الاجتماعية. ولكن اقتصار هذه الخبرات على الميادين الكونية، والاجتماعية قد أفسد ثمراتها وأحالها إلى أدوات شقاء عند قطاعات كبيرة جدا؛ لأن هذا الاقتصار المشار إليه قد فصل الوسائل عن الغايات، التي توفرها الخبرات الدينية والأخلاقية وما يتفرع عنها في حياة الأفراد، والجماعات. ولا يمنع أن نقول: إن الانتباه بدأ يتحول نحو ميدان الخبرات الدينية التي يسميها -ماسلو- بخبرات القمة أو Peak-Experience، وهي يوم ترسخ جذورها وتمتد فروعا سوف تستخرج عناصر الفطرة الطيبة في الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 خامسا: حصر القدرات بالعقلية والجسدية دون الأخلاقية ومن الإنصاف كذلك أن نقول: أن التربية الحديثة تقدمت تقدما ممتازا في ميدان دراسة القدرات العقلية وتصنيفها، والدراسات المتعلقة بالدماغ والجهاز العصبي، والمجالات التي يمكن توظيف هذه القدرات العقلية فيها بما يناسب الثورة العلمية، والتفجر المعرفي القائم. ومثله أيضا القدرات الجسدية والتعمق في فهمها وتوظيفها، وما يتفرع عن ذلك في ميادين التربية الصحية. ولكن الأزمة ما زالت قائمة في ميدان القدرات الأخلاقية. ونحن نسميها قدرات؛ لأننا نؤمن أن بذور الأخلاق، والقيم موجودة كامنة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الإنسان كالقدرات العقلية، والقدرات العضلية وأنها بعض مكونات -الوسع- الذي جعل الله التكليف على أساسه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وهي يوم يجري الانتباه عليها ويقوم البحث العلمي، والتربوي في أصولها ووظائفها وأساليب تنيمتها وتوفير بيئاتها. وأهم شروط هذه البيئة هي توفر العدل والحرية ستبرز فضائل الإنسان، وتتكامل مع بقية مزاياه التي تفرد بها المخلوقات، والتي قرر الله سبحانه أنه يعلم عن وفرتها وسموها ما لا تعلمه الملائكة، الذين لم يروا في الإنسان إلا جانب التخلف، وما ينتج عنه من إفساد في الأرض وسفك للدماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الفصل الثالث عشر: أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية لا يمثل الفرد الذي تخرجه المؤسسات التربوية الإسلامية النموذج الإسلامي الذي استعرضنا مواصفاته التي مرت. كذلك لا يمثل الفرد -الذي تخرجه المؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار العربية، والإسلامية- النموذج الذي تخرجه مثيلاتها في الأقطار الأوربية والأمريكية. وهذا يعني أن هناك مشكلة قائمة في كلا النوعين من المؤسسات التربوية. أما مظاهر هذه المشكلة فهي كما يلي: أ- مظاهر الأزمة في المؤسسات التربوية الإسلامية التقليدية: من الواضح أن ثمرة التطبيقات التربوية الجارية في المؤسسات التربوية الإسلامية التقليدية -فيما يتعلق بتربية الفرد- تقصر كثيرًا عن المستوى الذي كانت تخرجه مثيلاتها في عصور الازدهار. كذلك ليس لدى هذه المؤسسات صورة واضحة عن -نموذج الإنسان- الذي يجب إخراجه في ضوء المواصفات التي مر شرحها عن شخصية "الفرد الصالح-المصلح". ويمكن القول أن الأزمة المذكورة تتركز في ما يلي: 1- انحسار مفهوم "العمل الصالح"، وحصره في ميادين العبادة، والأخلاق الفردية: صحيح إن هذا الانحسار قد حدث منذ قرون، وهو بعض نتائج الانشقاق الذي حدث بين العلوم الدينية، وبين العلوم الطبيعية والاجتماعية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الحضارة الإسلامية1. ولكن المؤسسات التربوية الحاضرة تسلمت هذا المفهوم دون مراجعة أو تقويم، وأقامت عليه مناهجها، ونشاطاتها الأمر الذي أفرز عدة نتائج سلبية أهمها: النتيجة الأولى، إخراج إنسان فاقد المهارات اللازمة للحياة الحديثة عاجزا عن المشاركة فيها إلا ما كان من الوظائف الدينية كالوعظ، والإمامة والتدريس. وحين أحس بهذا العجز وصار جزءا من ثقافته نسبه إلى الإرادة الإلهية مما تسبب في شيوع الجبرية، والكسل وما ينتج عنهما من مضاعفات. والنتيجة الثانية، حصر المثل العيا في السلوك الفردي دون الجماعي، ولذلك صار الفرد المسلم المعاصر لا يستجيب للنظام، ولا يهتم بشئون الآخرين في الدائرة والشارع وقيادة السيارة، وركوب وسائل المواصلات وغير ذلك. وهو يعيش هذا التناقض بين السلوك الفردي، والعلاقات الاجتماعية وهو يمارس الشعائر الدينية كالصلاة والحج، إذ تراه في الوقت الذي يندفع لممارسة الشعار، فإنه لا يتورع عن مزاحمة الضعفاء، وكبار السن والنساء وإيذائهم. وهذه ظاهرة انسحبت على حياة المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وجعلت منها نموذجا غير صالح للإسلام عند من يتعامل مع هذه المجتمعات من غير المسلمين. والنتيجة الثالثة، العناية بـ"الأهداف العامة" وإهمال "الأهداف التعليمية"، أو نقول العناية بـ"الغايات" وإهمال "الوسائل". وبذلك صارت الأهداف مثاليات غير قابلة للتطبيق. والنتيجة الرابعة، تشويه معاني المصطلحات المتعلقة بمظاهر "العمل الصالح" وإخراجها من ميادين الحياة الاجتماعية وعن مدلولاتها الأصلية. فمثلا انقلب معنى "الصبر"، فصار صبرا على المرض والجهل والفقر والظلم   1 راجع تفاصيل هذا الانشقاق في كتاب -تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية- للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 والهزيمة والتخلف، بعدا أن كان صبرا على مواجهة التحديثات ومقارعة الشر ورد العدوان، وإرهاق العمل وعلاج الأمراض المختلفة. وانقلب معنى "الزهد" فصار عجزا عن العمل وقعودا عنه، ورضى بالفقر والضعف والهوان بعد أن كان زهد الأغنياء والأقوياء بالثروة والجاه في سبيل المثل الأعلى. وانقلب معنى "التوكل" فصار تبريرا للارتجالية، والفوضى وعدم الإعداد وإضاعة الوقت والمقدرات، بعد أن كان ثباتا وإصرارا بعد استكمال الاستعداد والتخطيط. وانقلب معنى "التسليم للمشيئة الإلهية"، فصار تبريرا للتراخي وعدم الإنجاز، بعد أن كان تصميما على مواجهة المصاعب واستهانة بكافة العقبات ما عدا مشيئة الله. والنتيجة الخامسة، أن حصر مفهوم "العمل الصالح" في الميادين الدينية أدى إلى إهمال المؤسسات التربوية للقدرات التسخيرية، والخبرات المربية مما أفرز أفرادا يفتقرون إلى القدرات، والمهارات التي يتطلبها العصر. 2- غموض نموذج "المثل الأعلى": لا تقدم المؤسسات والنظم التربوية الإسلامية التقليدية نموذج المثل الأعلى الذي يتفق مع الأصول الأولى في القرآن، والسنة ويلائم حاجات الحاضر وتحدياته. ولكنها تكتفي بعرض صور منتقاة من "المثل العليا" التي أفرزها "فقه الآباء" في العصور المختلفة، وأحيانا تكتفي بمدح هذه النماذج دون عرض لتفاصيلها أو إيصال الدارس بمصادرها. ويصاحب هذا العرض انتقاص مما تراه وتعتبره "مثل سوء" تقوم خارج المنطقة الإسلامية في الحاضر. وتكون النتيجة لذلك عزل المتعلم عن الحاضر، وإحساسه بالنقص إزاء الماضي مما يورثه العجز والاغتراب. ويزيد في حدة المشكلة المشار إليها أن البيئات المحلية الخانقة للحرية المثقلة بـ"آصار" الموروثات الاجتماعية والآبائية الثقافية، المكبلة بـ"أغلال" القيم السياسية والإدارية السلطوية تفرز قدرات عقلية قاصرة، مشوهة التكوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ويعزز هذه الآثار السلبية أساليب التربية القائمة على إلقاء التعميمات النظرية من وجهة نظر واحدة يقتصر إلقاء المعلومات، وتلقين المعتقدات المختلفة من وجهة نظرة واحدة قائمة -على التعضية والانتفاء والتبرير والإلزام- دون أن يسهم المتعلم بشيء من التحليل أو المناقشة1. لذلك كله يكون نمط الشخصية التي تخرجها هذه المؤسسات هي -الشخصية المقبولة، أي التي تصب في قالب جامد م التفكير والسلوك، ولا تخرج عن هذا القالب إلا في حالات نادرة يكون سببها تعرض صاحبها لتأثيرات ثقافية تهزه هزا عنيفا، وحين يكون لديه القدرات العقلية العالية التي تمكنه من تحطيم قوالب الجمود والآبائية. ب- مظاهر الأزمة في المؤسسات التربوية الحديثة: تعاني المؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار العربية، والإسلامية من نفس المشكلة التي تعاني منها المؤسسات الإسلامية التقليدية، ولكن مع اختلاف في الأعراض والمضاعفات، ويمكن القول أن الأزمة المذكورة تتركز فيما يلي: 1- حصر مفهوم "العمل الصالح" في القدرات والمهارات المادية: قامت المؤسسات التربوية الحديثة -في الأصل- لتعالج النقص الذي تعاني منه المؤسسات الإسلامية التقليدية، وهو العجز في ميدان -القدرات التسخيرية، غير أن قيامها بهذا الشكل لم تصحبه دراسات تشخيصية لعلاج الوضع التربوي برمته، وإنما كان قيامها رد فعل انفعاليا أحدثه الإحساس   1 التعضية: مشتقة من قوله تعالى: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} . قال ابن عباس: أي قسموه أجزاء كأعضاء الجزور. وهو أسلوب يقوم على تجزئة العبارات، وتشويه الجمل بغية اختراع المثالب وطمس المعاني الصحيحة وإلصاق الشبهات، وبرهنة الاتهامات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بالنقص في ميدان العلوم الطبيعية والإدارية والعسكرية. لذلك قفزت هذه المؤسسات إلى الطرف المقابل للمؤسسات الإسلامية واعتنت بـ -القدرات التسخيرية- عناية أهملت بسببها -الإرادة العازمة النبيلة- التي تتولد من تزاوج القدرات العقلية مع المثل الأعلى. فإذا كانت المؤسسات الإسلامية التقليدية قد حصرت مفهوم -العمل الصالح- في الأخلاق الفردية، فإن مؤسسات التربية الحديثة قد حصرته بـ -القدرات والمهارات- المادية. ولذلك جاء الطابع العام لشخصية الخريج من هذه المؤسسات نموا في جانب القدرات، والمهارات وعجزا في الجانب الإرادي أي بعكس ما هو قائم في المؤسسات التربوية الإسلامية. ولقد ترتب على هذه الجزئية في مفهوم "العمل الصالح" عدة نتائج سلبية أهمها: النتيجة الأولى، إن حصر "العمل الصالح" في المؤسسات الحديثة بالقدرات، والمهارات وانحساره من ميادين الإرادة العازمة النبيلة أدى إلى انفلات الخريجين الأخلاق ومعايير القيم، وما ينتج عن ذلك من مضاعفات. والنتيجة الثانية، إن حصر "العمل الصالح" -وهو هنا "العمل الناجح" في المهارات والقدرات المادية، وانحساره من ميادين الأخلاق والقيم والعقيدة أدى إلى ضعف انتماء الخريج الحديث لتاريخه وحضارته. وصار يبحث عن "مثل أعلى" من خارج أصوله وثقافته. ولقد فتح هذا البحث الباب لنماذج عديدة من "المثل السوء"، التي كانت تشيع في عقود مختلفة في الساحة الأوربية من أمثال القومية، والوطنية والشيوعية وغيرها. والنتيجة الثالثة، إن حصر "العمل الصالح" في القدرات والمهارات المادية أدى إلى العناية "بالأهداف التعليمية" وإهمال "الأهداف العامة". أو نقول أدى إلى العناية "بالوسائل" وإهمال "الغايات"ز وبذلك صارت الوسائل بدون غايات إلا ما تمليه الأهواء الموقوتة، والعصبيات المحلية والأيديولوجيات الوافدة، ونماذج القدوة المستوردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 2- اضطراب مفهوم "المثل الأعلى": لا يوجد للمؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار العربية والإسلامية مصدر محدد للمثل الأعلى. ومعنى المصدر المحدد أنها ليس لها التزام واضح واع بالعقيدة الإسلامية، ولا بمدرسة فكرية عميقة التصور للحياة المعاصرة. وإنما هي تقلد في هذا المجال طبقا لأماكن دراسة العاملين فيها، أو طبقا للتيار العام الذي تزجيه -في فترات مختلفة- الأنظمة السياسية والمؤسسات الإعلامية على المستوى المحلي والعالمي. ففي فترة ما بشرت بـ"القومية" و"الوطنية" وفي فترة أخرى بشرت بـ"التقدمية" و"الاشتراكية" مع خليط مضطرب من "مثل" الجاهلية العربية القديمة، ومثل "الإقليمية" و"إشباع رغبات الفرد". وغير ذلك. وساعد على هذا الاضطراب المذكور إن المؤثرات الاجتماعية، والثقافية في البيئة الحاضرة تؤثر نفس التاثير الذي ذكرناه عن المؤسسات الإسلامية التقليدية، كما إن الأساليب القائمة على الإلقاء، والإلزام هي نفس الأساليب التي أشرنا إليها كذلك، والتي تحول دون حرية الفكر وتعدد الخبرات. لذلك يكون نمط الشخصية التي تخرجها هذه المؤسسات هي مزيج من "الشخصية البوهيمية" و"الشخصية المقولبة" التي تعاني من العجز وفقدان الهوية. ويقوم إلى جانب النظم والمؤسسات التربوية التقليدية، والحديثة مؤسسات وجماعات، وفئات تمارس أدوارًا من التربية الموازية كالسينما والتلفزيون والصحافة، والأحزاب والجمعيات، والمساجد والزوايا الصوفية والأسر والعائلات العشائرية، وهي تعاني من نفس المشكلات التي مر ذكرها، وتزيد في الارتجالية والعشوائية والآبائية، والتربية فيها تقدم نماذج مفككة غير مترابطة، مختلفة غير متجانسة. ولقد أفرز هذا الوضع التربوي المختلط اختلاطا في اتجاهات الأجيال، وأفرز مضاعفات الانقسام، والاضطراب الذي يميز الحياة المعاصرة في الأقطار العربية والإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الباب الثالث: إخراج الأمة المسلمة مقدمة : إخراج الأمة المسلمة هو الهدف الثاني من أهداف التربية الإسلامية. وما لم توجه العناية إلى بلورة هذا الهدف، وتربية -إنسان التربية الإسلامية- عليه فإن الجهود التي تبذل لتحقيق الهدف الأول: هدف تربية الفرد المسلم لن تكون ذات قيمة؛ لأن الأفراد الصالحين -المصلحين هم عنصر واحد من عناصر تتفاعل لتجسد -الأمة المسلمة- في بناء اجتماعي واقعي يلبي الحاجات والتحديات القائمة. وإلى هذا البناء كانت الإشارة في الحديث النبوي القائل: "المؤمن للؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا" 1. و"المؤمنون في توادهم وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى" 2. وكما أن البنيان المرصوص ليس كومة من الحجارة، وإنما هو جدر متينة من الحجارة المصقولة المشدودة بعضها إلى بعض بالإسمنت، والحديد حسب قوانين هندسة البناء، وعدد الأعمدة، والجسور والعقود، وعمق الأساس، وسمك الجدار، ومقدار الارتفاع، وظروف المناخ المحيط. وكما أن الجسد لا يتداعى أعضاؤه بالسهر، والحمى للعضو المصاب   1 البخاري، الصحيح، كتاب المظالم. 2 مسلم، الصحيح، كتاب البر، جـ16، ص140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 إلا إذا كان يغذي الجسد قلب نابض بالحياة، ويدبر أموره دماغ سليم، وأجهزة معافاة للهضم والتنفس، وشبكة نشطة من الشرايين والأوردة والأعصاب، ويغذيه دم نقي متوازن التركيب والعناصر. فكذلك الأمة ليست أكواما بشرية -صالحة أو غير صالحة- وإنما هي نسيج اجتماعي تحكمه سنن الله، وقوانينه في بناء الأمم وصحتها ومرضها ووفاتها، وتتلاحم فيه مكونات الأمة، وتعمل متكاملة بحيث يكون حصيلة هذا كله إخراج الأمة المسلمة، وقيامها بوظائفها طبقا لحاجات الزمان والمكان. وتتكامل المرحلتان -مرحلة تربية الفرد المسلم، ومرحلة إخراج الأمة المسلمة- بحيث تكون الأولى مقدمة للثانية، ولا تغني واحدة دون الأخرى. ولذلك كان التركيز في المرحلة المكية على تربية الفرد المسلم، أن الإنسان الصالح -المصلح، بينما كان إخراج الأمة المسلمة هو محور العملية التربوية في المرحلة المدنية. غير أن البحث في المصادر الإسلامية يكشف أن لـ"الأمة" في التاريخ الإسلامي مفهومين: مفهوم نظري في القرآن والسنة، وهو مفهوم يقدم النموذج الذي يجب أن تكون عليه الأمة، وقد اخترت في هذا البحث أن أطلق عليه اسم "الأمة المسلمة". ومفهوم عملي يمثله كيان "الأمة" الذي برز عبر العصور الإسلامية ابتداء من عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى الوقت الحاضر، وقد اخترت أن أطلق عليه اسم "الأمة الإسلامية". وتبين وقائع التاريخ أن المفهوم العملي للأمة قد تطابق مع المفهوم النظري لزمن معين -هو عصر الرسول، وعصر الخليفتين أبي بكر وعمر- ثم أخذ في الابتعاد تدريجيا، حتى انتهى إلى مخالفته تماما مثبتا بذلك ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 - "تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، وأن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما" 1. - "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". "قال عمران راوي الحديث: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة"، "ثم إن بعد قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن" 2. وهذا يعني -بشهادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن "الأمة الإسلامية" لم تكن طوال التاريخ "أمة مسلمة" راشدة، وإنما أخذت -منذ وقت مبكر- بالانحراف عن نموذج الأمة في القرآن والسنة حتى خالفته تماما، وإن مؤسسات التربية الإسلامية في العصور التي تلت عصر النبوة، والخلافة الراشدة تركت -أو أجبرت على ترك- "فقه" إخراج الأمة المسلمة، وما يتطلبه هذا الإخراج من نظم وتشريعات ومؤسسات تقي الأمة من التسلط، وتحميها من عوامل المرض وأخطاء الوفاة. ثم نسيت هذا الهدف، ثم انحسرت لتقتصر على تربية الفرد الصالح -غير المصلح الذي يهيأ منذ الطفولة للانتقال إلى الآخرة دون التدرب على عبور محطة الدنيا. وهذا النموذج في التربية هو الذي ورثته مؤسسات التربية الإسلامية في العصور الحديثة، حيث ما زالت هذه المؤسسات تعمل على أساس أنه: "إذا صلح الفرد صلحت الأمة"، وما زالت مؤسسات التربية الإسلامية التقليدية، والحركات العاملة في ميدان العمل الإسلامي تتقبل هذه المقولة، وتتعامل معها وكأنها آية من آيات الكتاب، وليس كفرضية من الفرضيات البشرية التي قد تثبت، أو لا تثبت بالاختبار والتجريب في مختبر الآفاق والأنفس. فكانت النتيجة العملية لهذه الممارسات التربوية الخاطئة هي تكدس الأفراد المسلمين في أكوان بشرية ليس لديها علوم محددة عن "فقه" بناء الأمم   1 سنن أبي داود، جـ4، ص98 رقم 4254. مسند أحمد، جـ1، ص290، 292. 2 صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وتنسيق المقدرات البشرية والمادية. ولذلك أصبحت لعبة سهلة بأيدي قوى الاحتلال الخارجي، التي ما زالت تصنع من شظايا الأمة المسلمة المتوفاة مزقًا من الكيانات المهيضة التي تطلق عليها اسم -الأمم الإسلامية- وتحدد لها "جنسياتها" و"ثقافاتها" ومحاور "الولاء" فيها طبقا لنظريات عصبية مختلفة، وتصمم لها تطبيقاتها الخاوية الضعيفة في شئون السياسة، والإدارة والاجتماع. والمحصلة النهائية لجهل المؤسسات التربوية الإسلامية بإخراج الأمة المسلمة هي أن هذه المؤسسات ما زالت تعمل على إعداد أفراد صالحين -غير مصلحين لتقذف بهم إلى بيئات غير صالحة حيث تدخل فضائلهم الفردية في صراع مع علاقات اجتماعية غير فاضلة، إلى أن ينتهي بهم الأمر إلى الازدواجية في السلوك وإلى التلاؤم، والتآكل ثم الوقوع ضحية والانفعالات، والانفجارات التلقائية، والجهاد المرتجل أو المصطنع الذي كثيرا ما ينتهي إلى الانتحار الاجتماعي1، أو السحق تحت ضغط الإحباطات والنكسات دون أن ينتبه أحد إلى أن المطلوب هو "فقه" جديد -أو علم جديد- يتكامل فيه علم إخراج الأمة المسلمة، وعوامل صحتها ومرضها وموتها، وبعثها إلى آخر ما يتعلق بها. لكل ذلك أصبحت الحاجة ماسة وشديدة إلى استكشاف -فقه إخراج الأمة المسلمة- وبلورة أصوله، وتنبيه الباحثين الإسلاميين إلى دخول ميدانه في ضوء الغايات العليا التي ترشد إليها توجيهات القرآن الكريم، والسنة الشريفة والشئون المتجددة في الآفاق والأنفس. وهذا ما هدفت إلى الإسهام فيه الفصول التالية من هذا الباب.   1 حين يفشل الفرد في الغرب ينتحر جسديا. أما في العالم الإسلامي، فالفرد الفاشل ينتحر اجتماعيا حيث ينسحب من الحياة، وتتعطل فاعليته الاجتماعية بانتظار الموت والعدل الأخروي. ثم تكون من ثمرات هذا الانتحار أن تزخر المجتمعات الإسلامية بالأفواج المنتحرة العاجزة عن مجابهة التحديات الداخلية، ومقاومة العدوان الخارجي، وتتحول إلى "غثاء" ينخر به الوهن، والعجز وكراهية التضحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الفصل الرابع عشر: مفهوم الأمة المسلمة 1- معنى الأمة: الأمة مصطلح من المصلحات التي ولدت بميلاد الرسالة الإسلامية مثل مصطلح "الصلاة" و"الزكاة" و"الإيمان" و"الإسلام" و"الكفر" و"النفاق" وهكذا. والأمة تعني -لغويًّا- الجماعة من الناس التي تؤم جهة معينة1. وأما المعنى -الاصطلاحي، فقد تكررت الإشارة إليه في القرآن، والحديث ليدل على معان عديدة أهمها: المعنى الأول، ورد مصطلح "الأمة" ليدل أن الأمة هي: إنسان + رسالة. و"الرسالة" هنا هي مثل أعلى يقدم النموذج الأمثل للجوانب الخيرة في سلوك الفرد، والجماعة ليأتم به الناس ويسعدوا، ويقدم الصورة الشاملة للجوانب الشريرة ليتجنبها الناس ويسلموا من آثارها. ويشير القرآن الكريم إلى هذه -الرسالة في مواضع عديدة باسم- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما عن "الإنسان" فقد يكون فردا واحدا مثل الإشارة إلى إبراهيم عليه السلام عند قوله تعالى:   1 القرطبي، التفسير، جـ2، ص127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النمل: 120] . ومثل قوله -صلى الله عليه وسلم- في زيد بن عمرو بن نفيل: "يبعث أمة وحده"؛ لأنه لم يشرك في دينه شيئا1. ومثل قول عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه فروة الأشجعي حين قال: كنت جالسا مع ابن مسعود فقال: إن معاذًا كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين. فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} . فأعاد قوله: إن معاذا. فلما رأيته أعاد عرفت أنه تعمد الأمر فسكت. فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟ قلت: الله أعلم! قال: الأمة الذي يعلم الخير ويؤتم به ويقتدى. والقانت: المطيع لله. وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه معلما للخير مطيعا لله ورسوله2. وقد يكون -الإنسان- جماعة من العلماء الدعاة الذين يحملون رسالة إصلاحية مثل قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] . وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 104] . وقد يكون -الإنسان- طائفة أو قبيلة لها معتقدها، ونهجها مثل قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف: 160] .   1 القرطبي، التفسير، جـ2، 127. 2 الطبري، التفسير، جـ14، ص190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وقوله أيضا: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168] . وقد يكون -الإنسان- جيلا له فكر واحد ولون حضاري واحد مثل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134، 141] . وقوله -صلى الله عليه وسلم- في جيل الصحابة الذي رباه: "إن لكل أمة أجلًا، وإن لأمتي مائة سنة، فإذا مرت على أمتي مائة سنة أتاها ما وعدها الله"1. وقد يكون -الإنسان- مجموعة متميزة بالتزامها مثل الرسالة ومبادئها. مثل قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110] . وبسبب هذا التميز قال عمر بن الخطاب عند ذكر هذه الآية: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا! وفي تفسيرها قال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة2! وقد يتسع مفهوم -الإنسان- حتى يشمل الإنسانية كلها إذا اجتمعت على فكرة واحدة ومنهاج واحد. مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19] . {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] . والمعنى الثاني، فقد ورد مصطلح "أمة" ليعني -منهاج حياة- وما يتضمنه هذا المنهاج من معتقدات، وقيم وممارسات وتقاليد مثل قوله تعالى:   1 كنز العمال، جـ14، ص193 نقلا عن الطبراني في الكبير. 2 الطبري، التفسير، جـ4، ص43-44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] . والمعنى الثالث، فقد ورد مصطلح "أمة" ليعني -فترة زمنية- مثل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] . {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8] . والمعنى الرابع، حيث ورد مصطلح "أمة" ليعني مجموعة من الناس لها مهنة واحدة. مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23] . والمعنى الخامس، حيث ورد مصطلح "أمة" ليشير إلى المخلوقات الأخرى من الحيوانات والطيور، والحشرات التي تنتمي إلى جنس واحد. مثل قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] . ولقد كشف علم الحيوان إن لكل نوع منه لغة تخاطب، وتقاليد في العمل والقيادة، ونمطا في الاجتماع وأسلوبا في الحياة. ولقد تكرر شرح مصلح "الأمة" عند بعض المفسرين ليشير إلى المعاني التي مرت. فهو عند الطبري: "الجماعة والقرن من الناس"1. وهو "دين وملة"2. وهو "الناس كانوا على دين واحد فاختلفوا" وهو "الإمام يقتدى به في الخير"3. وهو "الأجل المحدود أو مجيء أمة وانقراض أخرى"4. وهو "الطريقة: أي كنتم خير أهل طريقة"5. مما مر كله يمكن الخروج بالملاحظات التالية حول مفهوم "الأمة"   1 الطبري، جامع البيان، جـ1، ط3 "القاهرة: مكتبة الحلبي، بلا" ص563. 2 الطبري، نفس المصدر، جـ25، ص60، 61. 3 الطبري، نفس المصدر، جـ2، ص334-336. 4 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، جـ2، تفسير آية 128 من سورة البقرة، ص127. 5 الطبري، التفسير، جـ4، ص46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ومعناه: الملاحظة الأولى، إن المعنى الاصطلاحي المتكامل لـ"الأمة" يتضمن عناصر أربعة: الأول، العنصر البشري، والثاني، العنصر الفكري. والثالث، العنصر الاجتماعي. والرابع، العنصر الزمني. فالأمة مجموعة من الناس تحمل رسالة حضارية نافعة للإنسانية، وتعيش طبقا لمبادئ هذه الرسالة. وتظل تحمل صفة -الأمة- ما دامت تحمل هذه الصفات. أما حين تفقدها فقد يطلق عليها اسم "الأمة"، ولكنها لن تكون النموذج الإسلامي للأمة تماما، كما يطلق اسم "دين" على أن دين، ولكن الدين المقبول عند الله هو الإسلام. والملاحظة الثانية، إن العنصر الرئيسي في مفهوم الأمة هو عنصر -الرسالة- أي العطاء الذي تقدمه جماعة من الناس إلى بقية مجموعات الإنسانية ليساعد على بقاء النوع البشري ورقيه. والملاحظة الثالثة، لا يشترط في العنصر البشري -أو المكون الأول للأمة- الروابط الدموية، أو الجغرافية، ولا الكم العددي. فقد يكون هذا العنصر فردًا واحدًا، وقد يكون فئة أو جماعة أو جيلا، أو أجيالا أو الإنسانية كلها ما دامت تحمل رسالة، ويوحدها فقه شامل لهذه الرسالة وتطبيقات فاعلة تنتج عنها نظم، وتطبيقات حضارية في ميادين الحياة المختلفة تسهم في بقاء النوع البشري ورقيه. والملاحظة الرابعة، إن الأمة تتدرج في نشأتها، ونموها كتدرج نمو الجسد الإنساني فكما يبدأ الجسد نطفة، ثم علقة ثم يولد طفلا ثم يصبح صبيا، ثم يقوى شابا ثم يبلغ رجلا ثم يعود شيخا، وكما إن الإنسان الكامل هو الذي يبلغ النضج الجسدي والنفسي، والعقلي ويقوم بوظائفه كاملة. فكذلك الأمة تبدأ فردا واحدا، ثم تصير مجموعة صغيرة ثم قوما ثم شعبا حتى تنتهي بالدائرة الإنسانية كلها. والأمة الراشدة هي التي تبلغ درجة الرشد الحضاري والنوعي، وأبرز شارات هذا النضج هو حمل رسالة الدعوة للخير بمعناه الواسع وإشاعته، والنهي عن المنكر بمعناه الواسع ومحاربته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 والملاحظة الخامسة، إن الأمة الراشدة لا ينال من وحدتها تنوع الشعوب، والقبائل فيها ولا اختلاف الألوان والمهن والأماكن ما دامت هذه التنوعات لا تخرج عن وظيفتها في تسهيل التعارف، وما دامت ولاءاتها تدور في فلك الرسالة وحده، ولا تدور في فلك الأشخاص والأشياء، وما دام يعمل هذا التنوع كما يعمل التنظيم الإداري القائم على الوحدة في الغاية، والتنوع في الاختصاصات والوسائل. والملاحظة السادسة، إن الأمة كيان صناعي يمكن بناؤه وهدمه. فهي تخرج إخراجا للقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا الإخراج يقتضي منها بذل الجهد، والمقدرات لتطوير المؤسسات التربوية والإدارية للقيام بالدراسة والتخطيط المستمر لإحكام تطوير الأمة، وإخراجها بما تتطلبه وظيفتها حسب حاجات الزمان والمكان. وإلى إخراج هذه المؤسسات كان التوجيه الإلهي، مثل قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] . والملاحظة السابعة، إن استمرار الأمة في الحياة مرهون باستمرار حملها للرسالة، وما يتفرع عنها من تطبيقات في مجالات الحياة المختلفة. فإذا ضعفت عن حمل هذه الرسالة، أو توقفت فاعليتها أو تقلصت تطبيقاتها انتهى وجود الأمة وحل محلها أمة أخرى لا علاقة لها بسابقتها، وإن ربطتها بها روابط الدم والأرض واللغة والثقافة، وهذا ما فهمه كبار الصحابة الذين عايشوا بدء الرسالة وتطبيقاتها من قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . ولقد كان الخليفة عمر حريصا على تأكيد هذا الفهم، والتصور عن الأمة المسلمة حين قال في شرح الآية المذكورة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 "لو شاء الله لقال: أنتم، فكنا كلنا. ولكن قال: "كنتم" في خاصة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وفي مناسبة أخرى قال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا. وفي حجة حجها قرأ هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها. وعن ابن عباس في تفسير الذين هم خير أمة أخرجت للناس، قال: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وعن أبي هريرة في تفسير الآية المذكورة: كنتم خير الناس للناس تجيئون بهم في السلاسل تدخلونهم في الإسلام1. ليدخلوا الجنة. والملاحظة الثامنة، إن سعة دائرة الأمرة يحددها -مدى التواصل والاتصال- الذي تحدده تكنولوجيا العصر. فحين كان الإنسان يسير على قدميه، ويتواصل مشافهة مع بني جنسه تحددت دائرة الأمة بالحدود الجغرافية، التي أمكنه التحرك داخلها. وحين ركب الحمير، والخيل اتسعت الدائرة لتشمل أكثر من قريته، وحين اكتشف العربات التي تجرها الخيول ورموز الكلمات والكتابة ازدادت سعة دائرة الأمة لتشمل القارة حتى إذا وقف على عتبة ركوب الفضاء، والتواصل بالتلكس والتلفون والفاكس رسمت الرسالة الإسلامية للأمة دائرة تتسع للإنسانية كلها. ويرتبط بهذا التطور الجغرافي لسعة رقعة الأمة تطور اجتماعي مواز يوسع دائرة القيم في كل طور فينقلها من القيم الأسرية إلى القبلية ثم   1 الطبري، التفسير، جـ4، ص43، 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 القومية ثم العرقية ثم العالمية. وإلى هذا التدرج في الاتساع كانت الإشارة النبوية في أن كل رسول بعث إلى قومه، وأنه -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الناس كافة. ولكن المشكلة في التطور المشار إليه أن البشرية كانت -وما زالت- تعجز عن مواكبته فتقع في خطأين اثنين: الأول، إن فئات كثيرة من البشر كانت، وما زالت تمارس الرفس والحران، فترفض الانتقال من قيم طور انتهى أمده إلى قيم طور حل زمنه. والثاني، إن نوازع الهوى المرتبط بمصالح أهل المال والسلطان كانت، وما زالت تشوه مفهوم الأمة فتنتقل -الرسالة أو الفكرة- من المحور إلى الهامش، وتحل محلها روابط الدم أو الوطن أو المصالح المادية، وبذلك يطلق مصطلح "الأمة" على من لا ينطبق عليه مواصفات الأمة كما حددها القرآن والحديث. لذلك كان من أبرز مسئوليات المؤسسات التربوية الإسلامية أن تقوم في كل جيل بمراجعة المفاهيم المتحدرة من الآباء عن معنى -الأمة- ومكوناتها وروابطها بغية تجديد -المفاهيم- الصائبة، وتزكية المفاهيم المتداولة مما علق بها من نقص أو تشويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الفصل الخامس عشر: بدء ظاهرة "الأمة المسلمة" ونشأتها بدأ الإعداد لظاهرة "الأمة المسلمة" برسالة إبراهيم الذي وصفه القرآن الكريم {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] . ولقد جاء مفهوم "الأمة الإسلامية" كحلقة في سلسلة الرسالات السماوية التي توازت مع تطور المجتمعات البشرية. فحين بدأ الاجتماع البشري بطور الأسرة جاءت الرسالة أسرية كرسالة آدم عليه السلام. وحين انتقل الناس إلى طور القبيلة والقرية جاءت الرسالات قبلية وقروية كرسالات صالح وهود. وحين انتقلت المجتمعات إلى طور -القوم- جاءت الرسلات قومية كرسالة نوح عليه السلام. ومفهوم "القوم" هذا يقابله في اللغة الإنكليزية مصطلح People، وهو مفهوم دموي يستمد محتواه من روابط الدم حين بدأ الإنسان ينتقل من حياة التجوال الفردي إلى طور التجوال الأسري، والقبلي وتكونت نتيجة لذلك ظاهرة "القوم" في الطور الرعوي للبشرية. أما مفهوم "الشعب" فيقابله في اللغة الإنكليزية مصطلح Natiom. وهو مفهوم جغرافي يستمد محتواه من الروابط الجغرافية حين بدأت القبائل، والأقوام تنتقل من طور الرعي إلى طور الزراعة، والاستقرار في رقعة الأرض التي تحددها قوة الأقوام المتجمعة. وانتقال المجتمعات البشري من طور إلى طور كان يتسم لفترات طويلة جدا بالتناقض والاضطراب، والتمزق بين قيم ومفاهيم الطور السابق المنحدرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 من "الآباء" وبين قيم ومفاهيم الطور الجديد الذي يدلف إليه "الأبناء". ولذلك كان عمل الرسالات هو القضاء على التناقض والاضطراب، والتمزق المذكور ثم تسهيل الانتقال إلى الطور الجديد وتنظيمه. ثم جاء طور "الأمة" حينما بدأت الحدود الإقليمية تتهدم، وبدأ انسياح الأقوام والشعوب بعضهم على بعض. ولكنه انسياح سلبي مدمر اتخذ طابع الغزو والعدوان على الأبدان والنفوس، والعقول والممتلكات كما تمثل في الفراعنة والأشوريين، والكلدانيين وغيرهم. فجاءت الرسالات الموازية لهذا الطور ابتداء من -إبراهيم الكلداني- بمفهوم "الأمة"، وهو مفهوم فكري -نفسي يستمد محتواه من روابط الفكر والعقيدة، ويتخطى روابط الدم والأرض السابقة. ولقد سبق اختيار إبراهيم عليه السلام للبدء بالإعداد لإخراج الأمة المسلمة اختبار لقدرته على القيام بهذه المهمة، ومدى استعداده لتقديم تكاليفها ومتطلباتها. وإلى هذا الاختبار يشير القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] . والكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام هي الحوادث التي اختبره الله بواسطتها وهي: أولا، استعداده للتضحية بنفسه. والثانية، استعداده للهجرة والتخلي عن روابط الأسرة والدم والوطن. والثالثة: استعداده لمحاربة العقائد القائمة ورموز الثقافة المعاصرة المتخلفة. والرابعة، استعداده للتضحية بولده وأسرته. وتشير الآيات القرآنية إلى أن إبراهيم عليه السلام اجتاز هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الاختبارات بنجاح وأنه استحق رتبة الإمامة للناس، وأنه سألها لذريته من بعده، فجاءه الجواب بالموافقة مع الاشتراط إلى أن هذه الإمامة عهد لا يناله الظالمون المقصرون من ذريته الذين لا يقومون بتكاليفها، ويفشلون باختباراتها. ثم مضى إبراهيم مصحوبا بأبنائه وأسرته في التمهيد لإخراج "الأمة المسلمة"، فابتدأ بتحديد مواطنها، ومؤسساتها حيث اختار لها موطنا منطقة وسطا تقع في ملتقى المواصلات العالمية، وتفاعل الحضارات وهي منطقة تمتد من بلاد الشام عبر دلتا مصر والحجاز. كذلك أقام مؤسستين تربويتين: الأولى، للتربية والتزكية وهي الكعبة والمسجد الحرام، والثانية، للدعوة والنشر وهي المسجد الأقصى. ثم انقسمت الأسرة إلى جوار المسجدين ليقوم كل فريق بالإشراف على المهمة الموكلة إليه في منطقته، وإعداد الأجواء لفكرة "الأمة" الجديدة. وإلى هذا الإعداد الإبراهيمي كانت الإشارة القرآنية التالية: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] . ثم كانت الانطلاقة الأولى لإخراج "أمة الرسالة" برسالة موسى التي جرى التمهيد لها برحيل يوسف، وأسرة يعقوب إلى مصر وإشاعة جو من الثقافة الملائمة للأمة التي يراد إخراجها. وكان الخروج -أو الهجرة- بالمؤمنين بالرسالة الجديدة مرورا بشمالي منطقة المسجد الحرام، والتوجه إلى منطقة المسجد الأقصى لتطهير أرض "أمة الرسالة" التي رسم حدودها إبراهيم، ولبدء الدعوة والنشر فيها. وكانت جماعة المهاجرين هذه تحمل في تشكليها صفة العالمية وتعدد الأجناس. وليس صحيحًا أنها اقتصرت على جنس واحد هو سلالة إسرائيل الدموية. فالقرآن يشير إلى أن أتباع موسى كان فيهم "رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه"، وأنه قال في اجتماع يرأسه فرعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} ، وأن فرعون رد على هذا الرجل: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 27-29] ويروي القرآن كذلك قصة السحرة -أو الإعلاميين عند فرعون- الذين، حين رأوا الآيات البينات، تحدوا فرعون حين هددهم بالصلب وتقطيع الأعضاء وقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] . ويذكر القرآن أيضًا أن دعوة موسى دخلت دوائر القصر الفرعوني حتى ضمت زوجة فرعون، التي ضحت بنعيم القصر ودعت الله أن يعوضها قصرًا بدله في الجنة. وفي المقابل يروي القرآن الكريم إن عصابة فرعون التي عارضت دعوة موسى قد ضمت في قيادتها مترفا عاتيا من قوم موسى، ومن سلالة إسرائيل الدموية هي قارون الذي وقف مع فرعون وهامان صفا واحدا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر: 23، 24] . ويضيف القرآن تفاصيل دقيقة عن قارون هذا فيقول: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} وإن كان لديه {مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} وإن قومه قالوا له حين أظهر البطر والطغيان: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} . فرد عليهم بصفاقة وصلف: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أي خبرة بأعمال التجارة والاستثمار، وأنه استمر في طغيانه حتى نزل به عقاب الله وخسفه، فدمرت قصوره وهلكت نفسه [القصص: 76-82] . وإذا كان القرآن يسمي الخارجين مع موسى بني إسرائيل؛ فلأن المدلول القرآني لـ"بنو" و"آل" يعني أتباع المعتقد لا سلالة الدم كما ذكر ذلك الطبري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 في تفسيره نقلا عن الصحابة والتابعين الذين قالوا: إن آل الرجل هم أتباعه، وقومه هم من على دينه. ونقل الطبري عن ابن عباس إنه قال: في الآية هم المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران وآل ياسين وآل محمد. يقول الله عز وجل: "إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه"1. ولقد ذكر القرآن الكريم المنهج الذي زود الله به المهاجرين مع موسى، ليعيشوا طبقا لتوجياته في -منطقة الأمة المسلمة. من ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58] . والدخول سجدا إشارة إلى الثقافة والممارسات، ونمط العيش الذي يجب أن يكونوا عليه في أرض "أمة الرسالة" -أرض ما حول الأقصى، وهي أن تكون الممارسات كلها مستوحاة من معاني السجود. وهو هنا طاعة الله والتواضع للخلق. أما {وَقُولُوا حِطَّةٌ} فهو إشارة إلى الثقافة، والقيم المتجددة التي تتميز بالنقد الذاتي -أو التوبة حسب التعبير القرآني- والاستعداد الدائم؛ لأن "تحط" الأمة عنها أغلال الموروثات الاجتماعية، وأصارها التي تعيق التكيف مع الشئون المتجددة، والخلق الجديد الذي تبرزه المشيئة الإلهية باستمرار. ولذلك قال الطبري في تفسيره - {وَقُولُوا حِطَّةٌ} - أي: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم وهو قول: لا إله إلا الله وتطبيقاتها. ومعنى {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} لا نؤاخذ الذين يجنبون طريق السجود إذا استغفروا. {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} : أي نزيد الذين يحسنون القيام بوظيفة -أمة الرسالة- نعمة واستقرارا. ولكن آثار البيئة التي نشأ فيها أتباع موسى -بيئة الثقافة الفرعونية- فعلت فعلها في هذه الانطلاقة الأولى لأمة الرسالة. ومن هذه الآثار أن أتباع موسى حين كانوا في طريقهم لأرض أمة الرسالة تأثروا بالتراث الديني   1 الطبري، التفسيرن جـ2، ص234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الفرعوني الذي كان يقوم على عبادة العجل "أبيس"1. كذلك تأثروا بأخلاق أهل الزراعة فحنوا إلى الراحة، وإلى تقاليد الطعام المصري من البقل والقثاء والبصل والثوم والعدس. وظهرت فيهم أيضا آثار بيئة الاستبداد الفرعوني، وما تفرزه في أخلاق المحكومين من ضعف الإرادة ونكوص عن التضحية وضجر من المسئولية. ولكن أخطر هذه الآثار التي ظلوا يعانون منها حتى الوقت الحاضر هي تأثرهم بـ"العنصرية" الفرعونية وتطوير "عنصرية" خاصة بهم، وقفت حائلا بينهم وبين الخروج إلى روابط أخوة الرسالة التي يقتضيها الطور الجديد، ثم أبقتهم حبيسي روابط الدم التي تعود إلى الأطوار الماضية بعد أن طلوها بطلاء ديني تحت اسم جديد هو "شعب الله المختار"، ولقد نتج عن ذلك إغلاق باب الانتماء إلى الأمة الجديدة أمام غير ذرياتهم، وتعطيل وظيفة المؤسسات التربوية في الأرض المباركة. ثم جاء عيسى عليه السلام لإصلاح ما أصاب نواة الأمة الوليدة، ولإخراجها من مفهوم "القوم People" إلى مفهوم "عالمية أمة الرسالة" فاستخلص نفر من الحواريين الذين تخلوا عن مفهوم "شعب الله المختار"، ومضوا في الدعوة إلى -العالمية- بشكل أفراد لا بشكل "أمة". أما بقية الجماعات الإسرائيلية فقد ظلت حبيسة الأغلال، والآثار الاجتماعية والفكرية التي ورثتها عن بيئة الفراعنة وطورها الأحبار الإسرائيليون بعد أن البسوها لباسا توارثيا. ولذلك ناصبوا دعوة عيسى عليه السلام العداء، وتسببوا في مزيد من تمزيق "الأمة" الوليد وانقسامها إلى قسمين رئيسيين أطلقوا عليهما اسم "اليهود"، واسم "النصارى". وكما فعلت آثار البيئة الفرعونية فعلها في دعوة موسى، كذلك فعلت   1 د. أحمد فخري، مصر الفرعونية، ط3 "القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1971"، ص433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 آثار البيئة الرومانية فعلها في -النصرانية. وأخطر هذه الآثار ما قام به مترفو المجتمعات الرومانية من تحويل محور الدعوة الجديدة من الولاء لـ"الرسالة" إلى الولاء لـ"شخص" الذي جاء بالرسالة بعد أن أسبغوا عليه الصفات التي كان الرومان يسبغونها على آلهتهم التثليثية، وبذلك أخرجوا الدعوة الجديدة من ميدان الاجتماع البشري ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى هامش تصورات غيبية لا صلة لها بالوجود القائم. أما الفرع الثاني من أسرة إبراهيم -فرع إسماعيل- فقد عملت بهم أيضا عوامل البيئة المحلية القاحلة، فتحولوا من "أمة رسالة وتربية" تضحي بالنفس والمال لتربية الوافدين، وتزكيتهم إلى "أمة سدنة" حولت الرسالة إلى نوع من الاستثمار السياحي الذي يدر عليهم المال، ويوفر لهم الجاه. ثم كانت الانطلاقة العملية الثانية التي قادها محمد -صلى الله عليه وسلم- في الفرع الثاني من أسرة إبراهيم، والمقيمة في منطقة المسجد الحرام. فبلورت مفهوم "الأمة"، وأصبح الشعار المميز لرسالتها، ولما يزل مصطلحا متميزا لا يقابله في اللغات الأخرى مصطلح مواز. كذلك أصبح اسم "الأمة" مصدرا اشتقت منه أسماء مؤسسات الرسالة الجديدة، والعاملين فيها والممارسات الجارية مثل: "الإمامة" و"الإمام" للصلاة أو الحكم، و"آمين البيت الحرام" أي الحج. و"آمين" أي مقتدين. لذلك كانت ترجمة هذا المصطلح تشويها لمحتواه ومن الواجب أن يبقى كما هو في أصله العربي في أية ترجمة كانت. ولقد كان جوهر هذه الانطلاقة الجديدة تصحيح الاعوجاج الذي لحق بالمنهج الذي مهد له إبراهيم وبدأه موسى وعيسى، ثم استئناف المسيرة المستقيمة لهذا المنهج نحو غاياته العليا. ولذلك ركزت توجيهات الرسالة الجديدة على ما يلي: 1- إصلاح ما انحرف من منهاج إبراهيم عليه السلام. وذلك بدعوة فرع ذرية إسماعيل من قريش، وفروعها إلى التخلص من طابع "أمة السدنة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ونوزاع التكسب بالمقدسات، وأما أدخلته حمية العصبيات القبلية من مظاهر الشرك والوثنية. ثم دعوة فرع ذرية إسحاق من اليهود، والنصارى للتخلص من طابع "شعب الله المختار"، وما رافقه من تشويهات لأصول العقيدة والرسالة لصالح المترفين، وأرباب الجاه والسلطان والكهانة. ثم دعوة الفريقين للاجتماع في صفوف "أمة الرسالة" الجديدة لاستئناف المهمة الأساسية مهمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله بين الناس كافة. 2- القضاء على الانشقاقات التي حدثت في ذرية إبراهيم، وتسببت في تقسيم نواة "الأمة المسلمة" إلى يهود ونصارى، وما تلا هذا الانشقاق من انشقاقات أخرى تتنافى مع الغاية الكبرى التي بدأها -إبراهيم- لإخراج "أمة الرسالة" التي تعمل على جمع البشرية كلها على منهاج واحد في الفكر والاجتماع فتتوثق روابطها، ويرقى نوعها وتعود إلى سابق عهدها أمة واحدة وربا واحدا. ولتحقيق هذا الهدف تكررت الدعوة في القرآن إلى أهل الكتاب للإقبال إلى -كلمة سواء- أي منهج موحد مستقيم أساسه "ملة إبراهيم الحنيف": {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 64-68] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ، قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 135-141] . 3- اتخاذ الخطوات العملية التي تسهل هذه الوحدة المنشودة بين الانشقاقات التي أصابت مفهوم الرسالة بعد إبراهيم عليه السلام. ومن أجل هذه الوحدة كانت قبلة الصلاة نحو أول بيت بناه إبراهيم، وكان الحج إليه ليكون مؤسسة للتربية العالمية، وكانت حادثة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لإعادة الربط بين رسالة المسجدين، وتكامل دورهما في التربية والدعوة والتعليم. ولترسيخ هذه المعاني كان الحديث عن تجربة قوم موسى في منطقة المسجد الأقصى -في مطلع سورة الإسراء- ليكون هذا الحديث تحذيرا لـ"أمة الرسالة" الجديدة، لئلا تقترف ما اقترفته سابقتها من -أمة موسى- التي أغفلت عن الوظيفة الأساسية للمقيمين حول المسجد الأقصى، وانحرفت لاستغلال بركات المنطقة الجغرافية والطبيعية في الترف، والشهوات والمفاسد والصراعات، وبذلك استحقوا أن يبعث الله عليهم عبادا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار ودمروا مؤسسات اللهو الدنيوي التي ألهتهم عن وظيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الدعوة وتبليغ الرسالة. وهذا ما فهمه أبو بكر الصديق حين حذر جيوش الفتح الإسلامي، التي وجهها إلى منطقة ما حول الأقصى من الانحراف عن أهداف الرسالة الإسلامية فقال: "إنكم تقدمون الشام وهي أرض شبيعة، وإن الله ممكنكم حتى تتخذوا فيها مساجد، فلا يعلم أنكم إنما تأتونها تلهيا، وإياكم والأشر"1. 4- تقديم التفاصيل الكاملة لما يجب أن يكون عليه تنظيم -أمة الرسالة- ومؤسساتها، وقيمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ونشاطاتها المختلفة في الداخل، ثم تنظيم علاقاتها بالجماعات البشرية في الخارج. أثر ثقافة العصبية العربية في تشويه مفهوم -الأمة- بعد العصر الراشدي: من الإنصاف أن نقول: أنه كما كان للبيئة المصرية أثرها في انطلاقة موسى عليه السلام، فإن كان للبيئة العربية أثرها في انطلاقة محمد -صلى الله عليه وسلم. وهو أثر له جانبان: جانب إيجابي، وآخر سلبي. أما عن الجانب الإيجابي، فإن البيئة العربية سهلت نجاح الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تربية الإنسان المسلم على تعشق المثل الأعلى، والتضحية في سبيله. ذلك أنها خلت من كثير مما كان في البيئة المصرية من ركام العقائد والثقافة، والقيم التي كبلت أفهام أتباع موسى عليه السلام، ولم يكن في الجزيرة العربية استقرار زراعي، وازدهار اقتصادي مما يفرز حياة الترف والتثقاقل إلى الأرض، وإنما فرضت البيئة الصحراوية القاسية نوعا من حياة الطوارئ والاستعداد الدائم للتحضية أمام الصعوبات، والأخطار الطبيعية والبشرية القائمة.   1 عبد الله بن المبارك المروزي، كتاب الزهد والرقائق، تحقيق عبد الرحمن الأعظمي، "بيروت: مؤسسة الرسالة، بلا تاريخ" ص141. شبيعة: مشبعة بالخيرات. الأشر: البطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أما عن الجانب السلبي، فإن قيم العصبية العربية ومحاور الولاء التي تفرزها لم تكن تصلح بحال للانتقال مع المسلم الجديد إلى المجتمع العالمي الجديد؛ لأن هذه القيم والولاءات لا تسمح أبدًا بتوسيع شبكة العلاقات الاجتماعية إلى ما وراء دائرة الولاء القبلي، وتعتبر أولئك الذين يقيمون خارج الدائرة القبلية "أجانب" لا وراء يربطهم بمجتمع القبيلة. ولذلك شكلت هذه القيم، والولاءات العصبية عقبات ضخمة أمام تطبيق روابط الدائرة العالمية، التي اتصف بها المجتمع الإسلامي الجديد، وأثرت تأثيرا سلبيًّا في مستقبل الأمة المسلمة، وحالت دون تطورها ونضج مؤسساتها. وحين كانت قيم العصبية القبلية هذه تضطر إلى التعايش مع قيم الإسلام العالمية كانت تركز على "الأشكال" دون "الأعمال"، وعلى الشعائر الفردية دون المظهر الاجتماعي للعبادة، و"تنفق" القيم الإسلامية لدعم ولاءاتها العصبية. ولذلك وصف القرآن الكريم أصحاب هذه القيم العصبية بأنه: {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، أي هم غير مؤهلين لـ"فقه" القيم التي أنزلها الله، وإفراز النظم اللازمة للطور العالمي الذي وقفت البشرية على أعتابه، وجاءت قيم الإسلام لترشدهم إلى عبوره. ولذلك كان التحدي الأكبر الذي واجهه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته إلى المدينة، وشروعه في بناء أمة عالمية يتعايش فيها مختلف الأجناس، والأعراق هو -قيم العصبية القبلية- ولقد اتخذت جهوده لمجابهة هذا التحدي مظاهر عدة منها: المظهر الأول، هو تزكية أعضاء الأمة المسلمة الجديدة من قيم العصبية القبلية باعتبارها قيما نتنة بالية لا تصلح لهم بحال، وتنظيم علاقاتهم طبقا لقيم التقوى الملائمة لطور العالمية الجديد. والثاني، هو الجهاد ضد رءوس العصبية القبلية، وحماة ثقافتها ورموزها الصنمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 والثالث، هو التحذير من الردة إلى قيم العصبية القبلية، وإدراج هذه الردة في قائمة الكبائر المخلدة في النار1. والرابع، التنبيه إلى دور قيم العصبية في فن المستقبل وما ستجره على الأمة المسلمة من كوارث ومذابح ودمار، وهو ما تقدم تفصيلاته الأحاديث النبوية الواردة تحت -كتاب الفتن- في مصنفات الحديث المختلفة. ولذلك كانت تزكية المجتمع المدني من قيم العصبية القبلية، والانتقال به إلى -قيم التقوى- العالمية محورا أساسيا من محاور التربية في صدر الإسلام. ولقد ظل التحذير من قيم العصبية أحد العناصر الرئيسية في منهاج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أن لخص جهاده ضد الجاهلية العربية في خطبة فتح مكة فقال: "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب" 2. ولكن "ثقافة" العصبية وقيمها عادت الإمساك بدفة المجتمع بعد الخلافة الراشدة: أي بعد انقضاء جيل الصحابة الذي رباه الرسول، الأمر الذي أدى إلى ظهور التناقض بين المبادئ الإسلامية الداعية إلى مساواة الشعوب والأجناس، وبين التطبيقات السياسية، والاجتماعية التي قسمت المسلمين إلى عرب وموالي، وفتحت باب الانقسامات في الأمة المسلمة   1 صحيح البخاري، باب الفتن. صحيح مسلم، باب الإمارة. مسند أحمد، جـ1، ص409، 430. سنن النسائي، كتاب البيعة، وكتاب الزينة. راجع ص237 للاطلاع على نص الحديث الذي ورد فيه أن الكبائر سبع آخرها: "التعرب بعد الهجرة". وعند النسائي: "آكل الربا، وموكله، وكاتبه وشاهداه، -إذا علموا ذلك- والواشمة، والموشومة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد يوم القيامة". الجامع الصغير للسيوطي، رقم 13. 2 ابن هشام، السيرة، جـ4 "القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، بلا تاريخ"، ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 بنسبة التراجع الذي توالى من القيم الإسلامية العالمية إلى القيم الشعوبية والقبلية. ولقد ابتدأت هذه الردة العصبية في الثقافة، والقيم ابتداء من إمساك الأمويين بقيادة الدولة الإسلامية، وحلول الملك محل الخلافة -كما يرى ابن تيمية1. ثم تولت مضاعفات هذه الردة حتى أفرغت مفهوم "الأمة" من محتواه الإسلامي وأحلت محله محتوى العصبيات القبلية، والشعوبية مما نال من وحدة الأمة المسلمة، وفتح أمامها أبواب الفتن والانقسامات المتتالية. كذلك حالت هذه الردة للثقافة القبلية، والقيم العصبية دون تطور المؤسسات السياسية والإدارية، والتشريعية الملائمة لطور العالمية، فحالت دون رسوخ قيم الشورى، والقيادة الجماعية ومسئولية الحاكم أمام المحكومين، وأنعشت الحكم المطلق والملكية الاقتصادية المطلقة، والفردية والارتجال ولونت أشكال الإعلام، والممارسات السياسية على جميع المستويات. ولقد كان لهذه الردة العصبية آثارها في الشكل الذي اتخذته مؤسسات التربية الإسلامية، إذ انحرفت هذه المؤسسات عن هدف "إخراج الأمة المسلمة" وتطويرها، والارتقاء بمفهومها، ومؤسساتها طبقات للحاجات والتحديات، وحل محل ذلك ظاهرتان: الأولى، عدم توجه مؤسسات التربية الإسلامية لتوليد العلوم، والمعارف اللازمة لتنظيم شبكة العلاقات الاجتماعية، وتطوير مؤسساتها بما يتفق مع الأصول الإسلامية في القرآن والسنة. وإنما زاغت بتأثير قيم العصبيات القبلية لتركز في مناهجها على "ثقافة" القبلية التي توجه للدوران في فلك "الأشخاص" الأقوياء، وتبرير ممارساتهم والإشادة بالمنجزات المنسوبة إليهم. والظاهرة الثانية، تقلص وظيفة المؤسسات التربوية التي لا تدور في فلك الدولة لتقتصر على "تربية" فرد معطل الفاعلية ينسحب من تيار الحياة   1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب قتال أهل البغي، جـ35، ص19، 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الجارية، ويجسد صورة "الناسك السلبي" الذي يقف موقفا سلبيا من وقائع الاجتماع البشري الجارية حوله، ويظل طوال عمره يعاني من الظلم، والفاقة منتظرا الرحيل إلى العدل والنعيم الأخرويين!! وكانت المحصلة لذلك كله هي حصر عمل المؤسسات التربوية، والعلمية في "فقه العبادات"، وتكرار نسخه واستظهاره جيلا بعد جيل مما أفرز آلاف المجلدات في "فقه الطهارة"، والحيض والنفاس والطلاق، والعدة بينما لم يزد "الفقه" المتعلق بـ"العلوم السياسية" و"فقه الاجتماع البشري" و"النظم الإدارية والتشريعية"، و"صلات الحاكم بالمحكوم" و"توزيع الثروات العامة" و"العمل الجماعي" عن أصابع اليدين. ومن أمثلتها -الأحكام السلطانية- للماوردي مع ما فيه من المآخذ، والانتقادات المتعلقة بمحتوياتها التي تبرر إطلاق أيدي أصحاب السلطان، وتعدد القيادات، والاستيلاء على القيادة والمراكز بالقوة وغير القوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الفصل السادس عشر: أهمية إخراج الأمة المسلمة الإطار العام الذي يحدد أهمية إخراج الأمة المسلمة، ويحدد مكوناتها هو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 72-75] . هكذا يبدو واضحا من الآية الأولى "رقم 72" أن التربية الإسلامية لا تتوقف عند إعداد "الأفراد المؤمنين"، وإنما تتخذ من هذا الإعداد وسيلة لهدف آخر هو إخراج "أمة المؤمنين" التي يتلاحم أفرادها عبر شبكة من الروابط الاجتماعية، التي تندرج تحت أسماء: الهجرة، والجهاد، والإيواء، والنصرة، والتي تكون محصلتها النهائية هي -الولاية- أي أن يتولى كل عضو رعاية شئون الأعضاء الآخرين. أما الأفراد المؤمنون الذين يبقون خارج -مهجر- الأمة المؤمنة، فهؤلاء لا فاعلية لإيمانهم ولا روابط ولا ولاية بينهم، وبين "أمة المؤمنين". ومع أن الآيات المذكورة أعلاه تتضمن -كما قلنا- أهمية إخراج الأمة المسلمة، وتتضمن المكونات الرئيسية لهذه الأمة، إلا أن الحديث في هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الفصل سوف يقتصر على أهمية إخراج الأمة المسلمة بينما يؤجل الحديث عن مكوناتها إلى الباب الذي يليه. أما مظاهر هذه الأهمية كما يلي: الأهمية الأولى، هي ما تنبه إليه الثانية -آية 73 من السورة- حول الأضرار التي تنجم عن عدم إخراج الأمة المسلمة. وتتمثل هذه الأضرار في ثلاثة أضرار رئيسة هي: الضرر الأول، هيمنة -قيم الكفر- في الأرض، وإخراج "أمة الكفر" حيث لا يقتصر الكافرون على ممارسة كفرهم كأفراد متناثرين، وإنما يتجمعون في أمة يوالي بعضها بعضًا. فإذا لم تقم "أمة الإيمان" فسوف تتولى "أمة الكفر" القيادة في الأرض، وتهيمن على مقاليد التوجيه والتخطيط، والتنفيذ في كل ما يتعلق بشئون السلم والحرب سواء. والضرر الثاني، إن انتقال القيادة العالمية إلى "أمة الكافرين" سوف يؤدي إلى هيمنة "الفتنة" في حياة الناس. ولهذه الفتنة مظاهر عديدة منها: -الفتن السياسية- المتمثلة فيشيوع الظلم، وانتشار الحروب والصراعات الداخلية، أو الإقليمية أو العالمية. ومنها -الفتن الاجتماعية- كانهيار الأخلاق وشيوع التحلل، والفواحش وانتفاء الأمن وتقطيع الروابط الإنسانية. ومنها -الفتن الفكرية- كانتشار الفلسفات، والأفكار الهدامة ومضاعفاتها في الممارسات والعلاقات. ومنها -الفتن الاقتصادية- المتمثلة في "اقتصاد السحت" الذي يتورع عن الاتجار بما يهلك النفس والنسل، والاحتكار وأكل الحقوق شيوع الشح والجشع في جانب، وشيوع الفقر والحقد في جانب آخر. والضرر الثالث: أن انتقال القيادة العالمية إلى "أمم الكفر" سوف يؤدي إلى شيوع "الفساد الكبير" في الأرض. ولهذا الفساد مظاهر متنوعة متجددة منها: الإسراف في الإنتاج الذي يبدد الموارد، والإسراف في الاستهلاك الذي يهدم العافية، ويجلب الأمراض التي لم تعرف قبل ذلك. ومنها: تخريب البيئة والتسبب باضطراب التوازن بين مكوناتها، وعناصرها ومضاعفات ذلك في تخريج المناخ والتربة، وإفساد الماء والهواء، وتدمير مقومات الحياة لعوالم الإنسان، والحيوان، والنبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ولو نظرنا في أحداث التاريخ -الذي هو بعض مظاهر آيات الله في الأنفس -لوجدنا براهين بينة ناصعة لهذا التقرير الذي ساقته الآية عن نتائج إخراج "أمة المؤمنين" أو هيمنة "أمة الكافرين". فحين أخرجت "الأمة المسلمة"، وأحكمت روابط "الولاية" فيها كانت نتيجة ذلك هزيمة "أمم الكفر" التي مثلتها آنذاك أمثال فارس والروم. أما حين انحسرت التربية الإسلامية لتقتصر على إعداد "الأفراد المسلمين" الذي يعتزلون الدنيا، وينتظرون الرحيل إلى العدل الأخروي، فقد نسي المسلمون أنفسهم -مفهوم الأمة المسلمة- واختفت مكوناتها من مناهج التربية وأنشطتها، وتفككت الأمة المسلمة القائمة، واحتلت مكانها أمم غير مؤمنة تسلمت القيادة العالمية، وملأت الأرض بالفتنة والفساد الكبير، وصار المسلم يشد الرحال إلى "أمم الكفر" ليتعلم في مؤسساتها كيفية إخراج الأمم، وبناء المجتمعات على النمط الذي تحدده له هذه المؤسسات، وأهدافها في التبيعية والاستعمار، وإشاعة الفتنة والفساد الكبير. والأهمية الثانية، لقيام "أمة المؤمنين" هي ما توجه إليه الآية الثالثة -آية 74 من السورة- حول الفوائد والمنافع التي تترتب على إخراج "الأمة المسلمة"، وهي ثلاث فوائد: الفائدة الأولى، تجسيد الإيمان في "جنسية" مميزة و"هوية" خاصة، وفي حضارة إسلامية لها ثقافاتها ونظمها الاجتماعية، وتطبيقاتها في ميادين السلوك والقيم والعادات، والتقاليد الممتدة عبر الزمان والمكان. ولذلك وصفت الآية بأن أفراد "الأمة المسلمة" المجاهدين المتآوين المتناصرين في مهجر واحد "هم المؤمنون حقًّا". أما الأقليات الإسلامية المبعثرة هنا، وهناك فهذه لا تدخل في وصف "المؤمنون حقا"؛ لأنها لا تتمكن من أن تعيش إيمانها في "جنسية متميزة" وتطبيقات اجتماعية لها ثقافتها، ولغتها ونظمها الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، ولها قيمها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها. وبالتالي لا تفرز حضارة متميزة تنحدر عبر التاريخ، وتشد إليها الرحال ليتعلم الناس في مؤسساتها التربوية، والإدارية كيفية الحفاظ على النوع البشري ورقيه. وإنما تذهب جهود هذه الأقليات هدرا في روافد "أمة غير مسلمة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ثم تذوب وتختفي بعد جيل أو جيلين. ولذلك لن يكون قبول حياة "الأقلية" إلا ضرورة مؤقتة حتى ينجح العمل الإسلامي الصائب في إيجاد مهجر تقوم فيه "أمة المؤمنين"، فإذا قامت صارت حياة الأقلية رضي بالاستضعاف في الأرض، وظلمًا للأنفس ووضعها في بيئات مرهقة للإيمان تهدد بذهابه، والانتهاء بأصحابه إلى عقوبة الله. ولذلك حدد القسم الثاني من الآية الأولى العلاقة بين "الأمة المسلمة" و"الأقليات المسلمة" المتناثرة خارج -دار الهجرة- بأن أفرغ هذه العلاقة من -الولاء والولاية- أي عدم المسئولية عن الأقليات إلا ما كان من نصرتها إذا تعرضت لاضطهاد ديني من قبل أمم لا تربطها بالأمة المسلمة من مواثيق، ولا معاهدات. وإن الباحث ليلمح في هذه العلاقة السلبية بين "الأمة المسلمة" و"الأقليات المسلمة" خلق نوع من الأوضاع القلقة غير المريحة التي تجبر الأقليات المذكورة على الهجرة إلى مهجر "أمة المؤمنين". والفائدة الثانية، هي الاستقرار الاجتماعي، والاستقرار السياسي المشار إليهما بـ"لهم مغفرة". فالمغفرة هي تجنيب الأمة المسلمة عقوبات أخطاء الأمم. وعقوبات الأمم في القرآن الكريم متنوعة منها ثوران الأحقاد الداخلية، أو إشاعة الفتن والحروب في الداخل، أو تسليط الغزاة من خارج: - {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] . - {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} [الإسراء: 5] . والفائدة الثالثة، هي الازدهار الاقتصادي المصحوب بالتماسك الاجتماعي، والعلاقات الكريمة بين طبقات الأمة وأفرادها، والمحافظة على كرامة الأمة وعلى قيمها وأخلاقها في الداخل، وسمعتها التاريخية في الخارج. فـ"الأمة المؤمنة" رزقها "رزق كريم" يحفظ كرامات الأفراد رجالًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ونساء فلا تضطرهم لقمة العيش إلى التفريض بكراماتهم، وحرماتهم ولا إلى تجارة الفواحش والمنكر. وهو "رزق كريم" يحفظ كرامة الأمة التاريخية، فلا يلطخ سمعتها ويصمها بعار الغزو والاستعمار والتسلط والاحتلال، وهو يحفظ كرامتها الحضارية، فلا يضطرها إلى ممارسة الفضائح ونقض المواثيق، والتآمر على الأصداء وإيثار المنافع المادية على علاقات الرقي الحضاري. وهو "رزق كريم" يحفظ كرامة الأمة الاجتماعية، فلا تحتاج إلى تقدمة أعراضها ونسائها كراقصات، ومغنيات وغوان في أماكن اللهو والفاحشة لتجلب السائحين، وطالبي المتع المحرمة الضارة! وأخيرًا هو "رزق كريم" يحفظ للأمة المسلمة كرامتها عند الله، ويمنحها كرامة الدرجات العلى في الآخرة سواء في المنزلة أو المأوى. والأهمية الثالثة لقيام "أمة المؤمنين" هي ما توجه إليه الآية الرابعة -آية 75 من السورة- من خلال الإشارة إلى أن -الأمة المسلمة- هي مجتمع مفتوح غير مغلق. فباب الهجرة إليه مفتوح، والانضمام إليه له شرط واحد فقط هو الإيمان والمشاركة في حمل الرسالة، مع مراعاة روابط الأرحام بين المهاجرين في جميع الأزمان حتى لا يؤدي اختلاط المهاجرين بدون ضوابط إلى التفكك الاجتماعي. فالله عليم بقوانين الاجتماع السليم، وغير السليم وبالنتائج الحسنة أو السيئة. وبسبب هذه الأهمية -لإخراج الأمة المسلمة- أدرك رجالات الأمة الإسلامية الأوائل أهمية إخراج "الأمة المسلمة"، ومتطلبات العضوية فيها. من ذلك ما قاله عمر بن الخطاب حين قرأ قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: "يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة، فليؤد شرط الله فيها"1.   1 الطبري، التفسير، جـ4، ص43، 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 والأهمية الرابعة، لمفهوم "الأمة" الذي تطرحه التربية الإسلامية هي أهمية كبرى بالنسبة للتربية الحديثة، وللعاملين في ميادين التطوير التربوي في المجالين الإقليمي والدولي. والغفلة عن هذه الأهمية سوف تكون هدرا كبيرا لمصدر أساسي من مصادر -التربية الدولية Global Education- التي تتطلع المؤسسات التربوية العالمية إلى بنائها وإشاعتها. ذلك إن مفهوم "الأمة" يلائم المرحلة الجديدة التي وقفت البشرية على أبوابها ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم أصبحت معالم هذه المرحلة واضحة جلية في زمننا -زمن سرعة المواصلات والاتصال، والتكنولوجيا- حيث انهارت مفاهيم "القوم People" و"الشعب Nation"، وأخذت الحدود بين المواطن تتهدم، والروابط الدموية تتمزق، واختلطت البشرية اختلاطا شديدا من خلال الأسفار العالمية، والتجارة العالمية، والتبادل الثقافي العالمي، والزواج العالمي، ووجدت المجتمعات الحديثة نفسها بلا روابط دموية، ولا روابط جغرافية، ولا روابط ثقافية واجتماعية. بل إنه لتعاد خلخلة المجتمع الواحد، والمدينة الواحدة، والحي الواحد، والمؤسسة الواحدة، والبناية الواحدة ثم تشكيل كل منها مرة كل يوم، أو كل أسبوع من حيث الجنسيات والتجمعات البشرية حيث يرحل أناس ويحل آخرون. في هذه الظروف الجديدة يجد الإنسان نفسه بحاجة إلى "أخوة" جديدة بدل أخوة الأسر، والقبائل والأقوام التي تمزقت، وتناثر أعضاؤها في أطراف الأرض، وإلى بديل عن الروابط التقليدية التي تعود إلى أطوار الرعي والاستقرار الزراعي عندما كانت التحركات، والعلاقات محدودة بحدود القوم والإقليم. ومن الطبيعي أن انتهاء فاعلية الروابط التقليدية أدى إلى انتهاء فاعلية القيم، والمقاييس والأخلاق التي انبثقت عن هذه الروابط، ووضع البشرية أمام نوعين من الروابط والقيم والمقاييس لا ثالث لهما: فإما العودة إلى علاقات الغابة وطور الكهوف، وإما روابط "الأمة" الواحدة التي تعيش في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 "قرية الكرة الأرضية" الواحدة في ظل عقيدة واحدة وثقافة واحدة. وفي هذه الحال لا تجد البشرية نموذجا لهذا لنوع الثاني من الروابط إلا رباط "الأمة المسلمة" بمحتوياته الفكرية -النفسية وتطبيقاته الاجتماعية التي تتجاوز روابط الدم والأرض، والمصالح المادية وتتجاوب كليا مع حاجات الطور العالمي الذي دلفت إليه البشرية المعاصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الباب الرابع: مكونات الأمة المسلمة مدخل ... الباب الرابع: مكونات الأمة المسلمة الإطار العام الذي يحدد المكونات الرئيسية لنموذج الأمة المسلمة هو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] . هذه هي مكونات الأمة المسلمة: أفراد مؤمنون، وهجرة ومهجر، وجهاد ورسالة، وإيواء، ونصرة، وولاية1. ويمكن أن نمثل لهذه المكونات بالمعادلة الرياضية التالية: أفراد مؤمنون + هجرة وتجمع في مهجر واحد + رسالة وجهاد + إيواء +نصرة = أمة مسلمة ذات ولاء متبادل. ويمكن أن نمثل لهذه المعادلة بالشكل التالي:   1 لقد تكرر ذكر هذه المكونات الست في مواضع أخرى من القرآن الكريم وبصيغ أخرى. من ذلك قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة ... الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون لا يهدف البحث هنا إلى استعراض -الأفراد المؤمنين- كفئة تحمل "معتقدات" معينة عن الخالق والمنشأ، والحياة والمصير كما هو في مقررات العقيدة في المعاهد والكليات الشرعية. وإنما الهدف هو تقديم الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة المسلمة الملائمة للطور الحاضر: طور العالمية الذي جاءت الرسالة الإسلامية على أبوابه لتزود أهله بالقيم، وشبكة العلاقات الاجتماعية التي تساعد على بقاء النوع البشري ورقيه. وانطلاقا من هذا الهدف يركز البحث على ثلاثة موضوعات: الأول، أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة. والثاني، أهمية "الهوية" و"الجنسية" و"الثقافة" الإيمانية في العالم المعاصر. والثالث، دور التربية في بلورة محتوى الثقافة الإيمانية وتنشئة إنسان التربية الإسلامية عليها. أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة تبدو أهمية -الأفراد المؤمنين- في أن هذا النوع من البشر هو الذي يحقق للأمة التوازن الاجتماعي والصحة النفسية. ذلك إن طبيعة الإنسان -كما يعرضها القرآن الكريم، ويثبت ذلك ممارسات الإنسان على الأرض- تشير إلى تكوينه النفسي شبيه بتكوينه الجسدي، أي يتكون من عناصر تتحد حسب نسب معينة، وتفرز تركيبا معينا يمثل حالة الصحة، فإذا اضطربت نسب هذا التركيب ارتفاعا أو هبوطا دخل حالة المرض. والحالات التي يمر بها التكوين النفسي للإنسان هي حالات: الوسطية، والطغيان، والهوان، وتمثل الحالة الأولى مظهر الصحة الذي يضمن للإنسان السلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بينما تمثل الحالتان الثانية والثالثة مظهر المرض الذي يهدد سلامة الإنسان نفسه. وإلى هذه القابلية المرضية يشير قوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] . والإيمان بالله -بمفهومه الإسلامي- هو العامل الحاسم في تقرير حالات الصحة أو المرض المشار إليها. إذ إن إحساس الإنسان بالمسئولية أمام الله يبقيه في منزلة -الوسطية- فيمنعه من "الطغيان"، وتجاوز الحدود والاعتداء على وجود الآخرين إذا كان في حالة القوة والغنى، ويقيه من "الهوان" والسكوت على استباحة الطاغين لحرماته إذا كان في حالة الضعف والفقر. فإذا غاب -الإيمان بالله- من وجود الإنسان تذبذب بين مرضي الطغيان والهوان، وتراءى له -عند المرض الأول- أنه مستغن بنفسه لا حاجة له لغيره، وأنه قادر على الإمساك بسنن الوجود وأحداثه وضربه الفرح، والفخر والبطر وادعى القدرة والعلم. أما في حالة -المرض الثاني- فإن الإنسان يصاب بالكفر واليأس والهبوط عن المنزلة الإنسانية بين المخلوقات. ويتكرر الحديث الإلهي عن حالات المرض هذه ومضاعفاتها، من ذلك قوله تعالى: - {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9، 10] . - {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] . - {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا} [الإسراء: 83] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 - {فَإِذَا مَسَّ الْإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49] . - {كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7] . - {قُتِلَ الْإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] . - {إِنَّ الْإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] . ولقد أثبت تاريخ الإنسان على الأرض هذه التقريرات القرآنية، فالأمم التي تكونت من أفراد ينقصهم عنصر الإيمان ضربتها المضاعفات المرضية المشار إليها. ففي حالة القوة والغنى انتشر بينها سرطان الطغيان وأفرز مضاعفات: عنصرية الدم الأزرق الملوكي، والرجل الأبيض، وشعب الله المختار، والطبقية الهندية، والعالم المتقدم، والارستقراطية، والسادة، والنازية، والفاشستية، والدارونية الاجتماعية، والاستعمار. أما في حالة الضعف والفقر، فقد انتشر سرطان الاستضعاف والهوان، وأفرز مضاعفات: البرابرة، والعالم المتخلف، والبروليتاريا العمالية، والعبيد والرقيق، والرجل الملون، والشودرا المنبوذين، والعائلة الوضيعة، ... وهكذا. وظهرت لكل حالة مؤسساتها ونواديها، وثقافاتها المزودجة المتناقضة، والإنسان في كل الحالتين خاسر مهدد البقاء، محروم الحب والاطمئنان، إلا في الفترات التي تسلح -خلالها- بالإيمان بالله، وعمل بهذا الإيمان، وتواصى بالحفاظ عليه، والصبر على تكاليفه، ومجابهة الأخطار التي تهدده. وإلى هذه الفترات يشير قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ولكن الإيمان بالله لا يمد الإنسان بعافية "الوسطية"، ويقيه من مرضي "الطغيان" و"الهوان" إلا إذا استمد محتواه من الاجتماع البشري، وتجسدت تطبيقاته في قلب الاجتماع الإنساني. وأبرز هذه التطبيقات هي: بلورة "هوية" الإنسان الحقيقية. ومنحه "جنسية" إيمانية واحدة. وتزويده بـ"ثقافة" واحدة ذات مؤسسات واحدة. أما عن بلورة "هوية" الإنسان الأصلية فإن -آيات الله في الكتاب- تمد العاملين في مجال التربية بإطار عام لهذه الهوية يبين أن الإنسان مفطور على الصلاح والخير. ولكن فطرته هذه رقيقة ضعيفة يضربها المرض فيفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكن التربية الإيمانية تحصنه من قابلية المرض ومضاعفاته في الإفساد والشر. ولقد عانى علم النفس الحديث كثيرًا حتى استشرف هذه الحقيقة عن طبيعة الإنسان، وهو استشراف ما زال في مراحل الحديث النظري، ولما يأخذ طريقة إلى ميادين التطبيق العملي في التربية والسياسة، والاجتماع والاقتصاد. ولقد قام -أبراهام ماسلو Abraham Maslow- رائد علم النفس الإنساني بأبحاث واسعة في ميدان البحث في الطبيعة الإنسانية، وخلص إلى تعديلات كبيرة في معارف علم النفس عن الإنسان، وانتهى إلى الإطار الذي يرسمه القرآن في هذا المجال. ومما قاله في هذا الشأن: "إن غلطة فرويد Frued الكبيرة، والتي نحاول تصحيحها الآن، هي إنه اعتقد أن العقل الباطن مجرد شر غير مرغوب به. ولكن العقل الباطني يحمل معه أيضا جذور الإبداع ومتع السعادة، والخير، وقواعد الأخلاق، والقيم الإنسانية، فنحن الآن نعلم أن هناك عقلًا باطنيا صحيحا وسليما مثلما إن هناك عقلا باطني سيئا وسقيما. وتقوم مدارس علم النفس الحديثة بدراسة هذا بطريقة كاملة، كما إن المعالجين النفسيين بدأوا يضعون هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 المفهوم موضع التطبيق ... "1. ويحدد -ماسلو- الإطار الحديث الذي توصل إليه علم النفس عن الطبيعة الإنسانية في الخطوط العريضة التالية: - في داخل كل فرد طبيعة بيولوجية أساسية هي إلى درجة معينة طبيعية وجوهرية، وهي غير قابلة للتغير. - كل طبيعة داخلية هي جزء متميز في كل فرد من ناحية، ومن ناحية أخرى هي مشتركة في الجنس الإنساني كله. - يمكن دراسة هذه الطبيعة علميا، واكتشافها والتعرف عليها. - لا تبدو هذه الطبيعة الإنسانية شريرة بالأصل، وإنما الحاجات الأساسية لها والعواطف الإنسانية الأساسية، والطاقات الإنسانية الأساسية هي بالأصل محايدة وإيجابية وخيرة. أما النزعة للتخريب و"السادية" والقسوة والحقد وأمثال ذلك، فيبدو أنها ليست أساسية، وإنما هي ردود فعل عنيفة ضد الإحباطات والفشل في تحقيق الحاجات الأساسية. - بما إن هذه الطبيعة الإنسانية الداخلية محايدة، وخيرة فمن الأفضل استخراجها وتشجيعها أكثر من كبتها والضغط عليها، وإذا سمح لها أن توجه حياتنا فسوف نعيش أصحاء ومنتجين وسعداء. - وإذا تعرض جوهر الإنسان هذا للضغط أو الرفض فسوف يعتريه المرض بطريقة واضحة أحيانا، وبطرق ملتوية أحيانا أخرى، وأحيانا في الحال، وأحيانا فيما بعد. - هذه الطبيعة الإنسانية ليست قوية وصلبة، وليست معصومة من الخطأ وإنما هي ضعيفة ورقيقة، ومن السهل أن تتغلب عليها العادة والضغط الثقافي والاتجاهات الخاطئة2.   1 Abraham Maslow, The Farther Reaches of Human Nature, P. 167. 2 Abraham Maslow, Toward a Psychology of Being, PP. 3-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ولقد أثبت تاريخ الإنسان على الأرض إن هذه الطبيعة الخيرة في الإنسان لا يستخرجها إلا الإيمان بالله، وما يقتضيه هذا الإيمان من أعمال وتطبيقات. وأما عن "الجنسية" فالقرآن واضح وصريح في اشتقاق جنسية الإنسان من "الأفكار" التي يدور في فلكها. فالدين يدورون في فلك -الأفكار- الرسالة الإسلامية أسماهم "المؤمنين"، والذين يكفرون -أي يحجبون، ويخفون- أفكار الرسالة ويقفون عند "أفكار" خاطئة تقتصر على معالجة الرغبات العاجلة في محطة -الحياة الدنيا- يطلق عليهم اسم "الكافرين"، والذين ينفقون "الأفكار" من أجل تعزيز ولاءاتهم لـ"الأشخاص" و"الأشياء" يطلق عليهم اسم "المنافقين". والنموذج الأول -نموذج المؤمنين- هو الذي تشتق "جنسية" الإنسان المسلم منه، وتتطلع التربية الإسلامية إلى تنشئته. ويشدد القرآن الكريم على هذه الجنسية، ويربط بينها وبين الغاية من إخراج الأمة المسلمة والوظيفة التي أخرجت من أجلها. من ذلك قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] . ويلحق بـ"جنسية" الإنسان المؤمن "طبقته" داخل الأمة المسلمة. وتقرر هذه الطبقة طبقا لدرجة -اتقائه- من الإصابة بمرض الطغيان أو الهوان، وإلى هذا المقياس يشير قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . وبهذا المقياس تحددت في مجتمع النبوة طبقات الأمة المسلمة، فظهرت طبقة "المهاجرين" و"طبقة الأنصار" و"طبقة الطلقاء" و"طبقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 المنافقين". وهذا مقياس لا اعتبار فيه لعامل القوة الذي يدور في فلك "الأشخاص"، ولا لعامل الثروة الذي يدور في فلك "الأشياء"، وإنما يقوم على أساس اتقاء مرضي الطغيان، والهوان الذي يدور في فلك "أفكار" الرسالة الإسلامية". ولقد أثبت تاريخ الحضارة الإسلامية أنه طالما ظلت "جنسية" الإنسان المسلم تستمد من "هو سماكم المسلمين"، فإن الأمة المسلمة ظلت تعيش لحمل الرسالة إلى الناس في الخارج، وظلت "الطبقة العليا" مفتوحة لكل من "اتقى" مرضي الطغيان، والهوان مهما كان أصله ولونه وغناه أو فقره. وحين تحولت لتشتق "الجنسية" من الولاء لـ"أشخاص" الحاكمين و"أشيائهم" و"أقاليمهم" توقفت عن حمل الرسالة، واشتغلت بغيرها من أشياء الدنيا، ومالكي هذه الأشياء وظهر فيها الأشراف والموالي والسادة، والمستخدمين والممالك. وأما عن "ثقافة" الإنسان المؤمن فهي تعني -هنا: القيم ونظم الحياة، والإدارة والعادات والتقاليد، والأخلاق، والفنون التي تجسد الإيمان في تطبيقات عملية تميز حياة المؤمنين عما سواها، وتحتل التفصيلات المتعلقة بهذه الثقافة جزءا كبيرا من القرآن الكريم. من ذلك قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1-11] . ومنها قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 سَلامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 63-76] . الحديث النبوي وتطبيقاته السنة يحددان للثقافة، والقيم الإسلامية قوائم سلوكية تصل إلى بضع وستين شعبة أو بضع وسبعين تتكون منها مجتمعة "ثقافة" إيمانية فعالة توجه النشاطات، والممارسات وتقيم شبكة علاقات اجتماعية تبلغ بالأمة المسلمة مرتبة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى1. كذلك قام لهذه "الثقافة" الإيمانية حدود مميزة منعتها من التداخل مع "الجنسيات"، و"الثقافات" المستمدة من الانتماءات العرقية والإقليمية والمصالح المادية. والتوجيهات القرآنية في هذا الشأن كثيرة صارمة منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا   1 للاطلاع على شعب الإيمان راجع كتاب -شعب الإيمان- للبيهقي. أو كتاب -الإيمان- لابن مندة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 23، 24] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ثانيا: أهمية الهوية والجنسية والثقافة الإيمانية في العالم المعاصر ... ثانيا: أهمية "الهوية" و"الجنسية" و"الثقافة" الإيمانية في العالم المعاصر: في الماضي أدت نظريات "هوية" الإنسان مثل "الدارونية الاجتماعية" و"التقسيمات العرقية" و"الأديان القائلة بطبقية الخلق" إلى ظهور سياسات الصراع والبقاء للأقوى، والغزو، والاستعمار، وظهور ممارسات التسلط الطبقي، وعدم المساواة، والرق، والاستئثار بمصادر العيش. وجميع هذه التطبيقات ما زالت تهيمن على السلوك البشري، والعلاقات بين الأفراد والجماعات والشعوب وتملأ حياتهم بالقلق والاضطراب، والشقاء والمآسي. كذلك أدت صعوبة المواصلات، وقصر مسافات السفر وضيق دائرة الحركة -في الماضي- إلى ظهور الحدود الإقليمية والقومية. فكان الإنسان لا يتحرك في الغالب إلا داخل حدود الإقليم، وكان الفرد يجد في المجتمع القائم على انتماءات الدم، والعصبيات القبلية والإقليمية، والقومية ما يشبع حاجته في الانتماء. ولذلك كانت هذه الانتماءات هي المصادر الوحيدة لتحديد "الجنسية" وبلورة "الثقافة". كانت الإقامة الدائمة والتواصل الدائم يوفران نوعا من القيم المحلية التي يمكن أن نسميها "قيم المصانعة"، وهي قيم تقوم على خجل الناس بعضهم من بعض، ومراعاة شئون بعضهم بعضًا، والتردد عن الإساءة لبعضهم بعضا، فإذا اشتدت الخلافات، وانفجرت الخصومات كان للقيم المذكورة دورها في إصلاح العلاقات وترميمها. وهكذا تطور نوع من الثقافة والعادات، والتقاليد التي تسهم في انسجام الأذواق محليا، وبذر بذور الخلاف عالميا. ثم جاء العصر الحاضر -عصر التكنولوجيا، وقرية الكرية الأرضية- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فأفرز ظاهرتين فريدتين: الأولى، تزويد الإنسان بأدوات فاعلة يمكن استعمالها للدفاع عن الإنسان وبناء حياته، أو لفناء الإنسان، وتدمير مقومات حياته. وافيمان بالله هوالعامل الحاسم في أحد الاستعمالين. والظاهرة الثانية، هي انهيار الحدود بين الأقطار والقوميات والثقافات، وتفتت القبائل والعائلات، ووهنت روابط الدم والإقليم إلا في أماكن معزولة، ومواقف هشة متسارعة الانهيار والانحسار، ودخلت المجتمعات البشرية في طور جديد تتميز الحياة فيه بالإقامة الموقوتة والجوار الموقوت، وانقلب التجانس الثقافي إلى "خلطة" مضطربة من الثقافات والتقاليد، والعادات والقيم في المدينة الواحدة، وأحيانا في البناية الواحدة، مما ساعد على تمزق الروابط القائمة، وتنافر الأذواق والتوتر في العلاقات في المواقف المختلفة، ووجد الإنسان المعاصر نفسه يعيش في تجمعات، وأكوام بشرية مجردة من الروابط والانتماءات، إلا ما كان من روابط المصالح المتذبذبة والشهوات الآنية الموقوتة. ولقد أفرزت هذه التغيرات المضطربة أزمات ثلاث: الأولى، عدم ملاءمة "الهوية" الشائعة عن الإنسان. والثانية، عدم ملاءمة "الجنسية" المحلية التقليدية. والثالثة، انهيار نظم "الثقافة والقيم" المحلية القديمة. أما عن الأزمة الأولى، فإن "الهوية" التي طرحتها -وما زالت تطرحها- الدارونية الاجتماعية للإنسان، والقائمة على أن البقاء للأقوى، قد بررت عمليات القتل والجريمة سواء بين الفراد، والطبقات داخل كل مجتمع أو بين المجتمعات والمجتمعات الأخرى. ولا تقتصر مضاعفات هذه "الهوية" على شعوب العالم الثالث المتخلف تكنولوجيا، وإنما تشمل العالم المتقدم تكنولوجيا الذي يتفوق في أدوات القتل والدمار. فالأفراد "الأمريكيون والأروبيون" الذين يحاربون "الآسيويين والأفارقة" في جيوش تستولي على مصادر الثروة، والطاقة هم أنفسهم الذين يعودون إلى بلادهم ليقتل بعضهم بعضا من أجل ما في جيوبهم من جنيهات ودولارات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وأما عن الأزمة الثانية، فقد تحولت -الجنسية- المحلية إلى قيد خانق لحرية الفرد في التعبير والاختيار في الداخل، وحريته في التنقل والعمل والإقامة في الخارج. ففي الداخل قامت علاقات "الجنسيات" المستمدة من العصبيات العائلية والإقليمية، والقومية على أساس هيمنة عصبية معينة على بقية العصبيات والاستئثار بالجاه، والتملك مما تسبب في ظهور علاقات الريبة، وعدم الثقة والخوف والتآمر وقيام المؤسسات البوليسية، ودوائر التجسس والمخابرات لتقصي نشاطات خصوم العصبيات الحاكمة ومجابهتها. وفي الخارج اشتعلت الصراعات الدولية، وقامت علاقات الدول على المخادعة والتجسس، والتآمر ثم الانتهاء إلى الصراع المكشوف والانفجارات العسكرية المدمرة. وفي المجال الاقتصادي أشاعت "الجنسيات" المستمدة من العصبيات العائلية والإقليمية والقومية، الاحتكار والترف في ناحية والحرمان، والفقر في ناحية أخرى. وتسبيت بظواهر الاستعمار والعدوان، ونهب ثروات الشعوب في الوقت الذي تضع الدول المستعمرة -بكسر الميم- الحواجز والعراقيل وقوانين السفر، والإقامة التي تمنع أصحاب "الجنسيات" المستعمرة -بفتح الميم- والمغايرة من المساواة في فرص الإقامة، ومصادر العيش الكريم. لهذا كله صارت المجتمعات المعاصرة بحاجة إلى مفهوم جديد في "الجنسية"، مفهوم لا تتحكم به عصبيات عرقية، أو إقليمية أو مصالح مادية. ومن الإنصاف أن نقول: أن شعوب أوربا وأمريكا قد نزعت عن "الجنسيات" فيها قيود السفر، والعمل والإقامة وأحالتها إلى مجرد أدوات لـ"التعارف" تماما كما يوجه إليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] ، بينما يستمر "فقهاء الملوك والرؤساء" يسهمون في تعزيز سجون "الجنسيات" العصبية وقيودها، ومضاعفاتها التي أدت إلى وفاة الأم الإسلامية ومزقتها في الأرض كل ممزق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وأما عن الأزمة الثانية، أي انهيار نظم "الثقافة والقيم" المحلية القديمة فقد صار الإنسان المعاصر يعاني مما يسميه علماء الاجتماع، وعلماء النفس الإحباط وخيبة الأمل Frusttration والإحساس بالاغتراب Alienation والشعور بالضعف Powerlessness والمعاناة من عدم الانسجام، ومظاهر الشذوذ في الحياة والسلوك Normlessness. ولقد حل محل القيم المحلية المنهارة قيم جديدة يمكن أن نسميها -قيم المصلحة- وهي قيم تشبه مناديل الورق التي يستعملها الإنسان للحظات أو دقائق، ثم يلقي بها في سلة النفايات وبراميل القاذورات. لذلك أصبح المجتمع المعاصر يعاني من مظاهر التفكك، والانحلال واللامبالاة وانهيار الصداقات والعلاقات دون أن يحسب الناس لبعضهم بعضا كبير حساب. لهذا كله صارت المجتمعات المعاصرة بحاجة إلى مفهوم جديد في "الثقافة والقيم" التي توفر للإنسان حاجاته في الانتماء، والتقدير أينما حل وأقام، وتوفر الأمن والاستقرار أينما سافر وعمل. ولكن الحلول التي يطرحها المختصون لأزمة "الثقافة والقيم" ما زالت حلولًا متخلفة قاصرة، بل إن بعضها ليزيد الطين بلات والويل ويلات. ومثال ذلك ما يقترحه -ألفن توفلر Alvin Toffier أحد مشاهير المفكرين المستقبليين Futurists في كتبه المختلفة مثل كتاب -صدمة المستقبل Future Shock الذي طبع في سنة واحدة تسع طبقات بلغ عددها 27 مليون نسخة، كما ترجم إلى عدة لغات، وما زال يطبع ويترجم بنفس الكثافة والانتشار. لقد عالج -توفلر- التغيرات الكاسحة التي تحدثها التكنولوجيا في شبكة العلاقات الاجتماعية على المستويات المحلية والعالمية، واجتهد أن يضع شبكة علاقات جديدة لمجتمعات المستقبل. ولقد كان في تشخيصه دقيقًا عميق الحس، فهو مثلا يذكر أن التكنولوجيا الحديثة حولت المجتمعات الحديثة إلى من أسماهم -البدو الجدد The New Nomads- الذين يركبون الطائرات بدل الجمال، وينزلون في المطارات بدل المضارب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وينامون في الفنادق بدل الخيام، ويحملون الحقائق بدل -الأخراج والأكياس- وكذا ... وكذا ... ولكن معالجاته وحلوله جاءت بالطامات الكبرى، فهو -مثلًا- يقترح "النسبية المطلقة" في القيم والأخلاق والسلوك، ويدعو إلى تبرير جميع ألوان الشذوذ والانحراف، وتدمير الأسر، والروابط الاجتماعية، وإلى إيجاد مؤسسات الأمومة، وتفريخ الأطفال بالجملة، والزواج المؤقت، واستئجار الأرحام، وبيع النطف، والسماح بالأسر التي يكونها ذوو الشذوذ الجنسي، وبالصداقات الموقوتة، على أن يكون المحور الذي تدور في فلكه كل هذه الظواهر المقترحة هو توفير الطاقات العاملة لمراكز الإنتاج والعمل1. ولو تعدينا -ألفن توفلر- إلى غيره من مشاهير المفكرين من أمثال: ثيودور روزاك، ودانيال بل، وفوتز شوماخر، وديفيد بربل، ورنيه دوبو، لوجدنا أيضًا أن إبداعاتهم تقف عند تشخيص الأزمة القائمة في "الثقافة والقيم" أما المعالجة والحلول، فلا تتعدى صيحات التحذير واستنفار المختصين، والدعوة إلى تظافر الجهود للبحث عن شبكة علاقات اجتماعية جديدة مع مراعاة الانفتاح على ثقافات العالم كله، والاستعداد لتقبل البديل المنفذ المناسب2. وهناك فريق ثالث يحمل اسم -الواقعيين، وهؤلاء يبررون الصراعات الداخلية والحروب الخارجية على أساس أن الحياة تنظمها قوانين البقاء للأقوى، أو ما يسمى بـ"الدارونية الاجتماعية". وهذه فلسفات تبرر عمليات الصراع، والقتل والتدمير، وترك الإنسان المهزوم لمصيره في الهلاك إن نزلت به الكوارث العسكرية، والطبيعية والأزمات الاقتصادية3.   1 Alvin Toffier, Future Shock, PP. 262-95. 2 راجع -فلسفة التربية الإسلامية- للمؤلف. 3 راجع -أهداف التربية الإسلامية- للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وحين نمعن النظر في الخارطة الفكرية للعالم المعاصر: عالم قرية الكرة الأرضية الذي استحالت فيه القارات إلى حارات، والأجناس إلى عائلات، والأقطار إلى بيوت، لا نجد منقذا إلا أن تتوجه البشرية إلى عنصر الإيمان بمفهومه الإسلامي لتستمد منه "هويتها" و"جنسيتها" و"ثقافتها"، وليمدها بقيم التقوى التي تلازم -البدو الجدد حسب تسمية ألفن توفلر- أينما رحلوا وأينما حلوا، وتشدهم إلى قوة أعلى هي معهم أينما كانوا، تراقبهم ويراقبونها، ويحسبون حسابها أينما كانوا، قوة الله القائل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] . {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ثالثا: دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين وتنمية تطبيقات الإيمان في الهوية والجنسية والثقافة ... ثالثا: دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين، وتنمية تطبيقات الإيمان في "الهوية" و"الجنسية" و"الثقافة" لا تكفي الوسائل التقليدية في إخراج الأفراد المؤمنين، بل لا بد من مؤسسات تربوية جديدة تعمل على أساس من المعرفة العلمية الراسخة بأصول التربية الإسلامية، وميادينها، ومناهجها، المحيطة بالحاجات والتحديات التي يفرضها التطور في الزمان والمكان. ويراعى في عمل المؤسسات التربوية المقترحة أن تركز على ما يلي: 1- إعادة تأصيل مفهوم الإيمان لتتمركز تطبيقاته الفكرية، والعملية في واقع الاجتماع الإنساني على الأرض بدل نفيه في مقولات عيبية بعيدا عن رحلة الإنسان عبر الحياة والمصير. 2- إعادة تأصيل "هوية" الإنسان على أساس من المعرفة العلمية بالنفس الإنسانية، وتطوير مناهج علم النفس ووسائله حتى يقوم بدوره في استخراج فطرة الإنسان الخيرة، وإبراز آيات الله في الأنفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 3- إبراز خطورة الفصل بين عناصر: "الهوية" و"الجنسية" و"الثقافة" في حياة الأفراد المؤمنين؛ لأن الأمة التي تتحد فيها "هوية" الإنسان و"جنسيته" على أساس الإيمان بالله هي وحدها التي تكون "ثقافتها" -أي قيمها ونظمها وأخلاقها وعادتها وتقاليدها، وفنونها وشبكة العلاقات الاجتماعية- مستمدة من الإيمان وذات مضامين إيمانية. أما الأمة التي تتحدد "الجنسيات" فيها طبقًا لعصبيات العائلة أو القبيلة أو الإقليم أو القومية، فلا تكون "ثقافتها" إلا مثلها. وهذا ما يفسر التناقضات القائمة بين الانتماء الإسلامي للأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة وبين ممارساتها الاجتماعية والسياسية، وسائر شبة العلاقات الإنسانية فيها. 4- تفنيد "الجنسيات" و"الثقافات" الإقليمية القائمة في ديار المسلمين، وما ينتج عنها من مضاعفات سلبية في العلاقات السياسية، وقضايا الحدود وشئون الإدارة والهجرة، والإقامة والسفر والعمل والتملك باعتبارها -كبائر- مخالفة لـ"الجنسية" و"الثقافة" الإيمانيتين، وعوائق مانعة لـ"الماعون" الذي يجسد الأخوة الإيمانية ويهيئ للمسلمين أن يعيشوا إسلامهم عمليا في الداخل، وينهضوا برسالتهم في الخارج. وخلال تفنيد هذه -الكبائر- السياسية، والثقافية لا بد من توضيح أشكال التخريب الذي مارسته النظم التربوية، والمؤسسات الإعلامية ودور النشر والصحابة في العالم الإسلامي منذ قرن، أو أكثر من أجل ترسيخ "الجنسيات" و"الثقافات" التي استمدها المستعمر -بكسر الميم- غير المسلم من عصبيات القبيلة، والإقليم والقومية وأحلها محل "جنسية" الإيمان و"ثقافة" الإسلام، ثم أوقف الإنسان المسلم تحت راياتها ينشد باسمها الأناشيد الوطنية، ويقاتل في سبيلها أخاه المسلم، وهو يحسب أنه يقاتل في سبيل الله. ولا بد كذلك من تبيان آثار هذه "الجنسيات" و"الثقافات" العصبية في تعطيل فاعلية "جنسية" الإيمان، و"ثقافته" ودحرهما من ميدان الحياة الاجتماعية، والتطبيقات الإدارية والسياسية، والولاءات العملية إلى مخزون الانتماء النظري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 لتستثمر عند الحاجة لها من أجل نصرة "جنسيات" و"ثقافات" العصبيات العائلية والقبلية، والطائفية والإقليمية والقومية. فإذا أحاط -إنسان التربية الإسلامية- بهذا كله أمكنه الوقوف على الحكمة من التوجيهات النبوية التي تدرج الارتداد إلى هذه "الثقافات" و"الجنسيات" العصبية في قائمة الكبائر الملقية في النار1. 5- بلورة المعادلات العملية لكل من "الهوية"، و"الجنسية" و"الثقافة" الإيمانية ثم تربية -إنسان التربية الإسلامية- على الولاء لها، وتدريبه على ترجمتها إلى قيم ونظم سياسية، وإدارية واقتصادية واجتماعية وعسكرية، وثقافية وعلى إقامة المؤسسات، وتوفير الأدوات اللازمة لتطبيق النظم المذكورة. وأي قصور في هذه المجهودات المطلوبة سوف يقود إلى قصور في التطبيقات العملية، والاقتصار على التلقين النظري، وسوف تكون آثار هذا القصور مثل آثار تجربة السلوكيين على الكلب الذي اعتاد على أكل الدجاج الحي، حين علقوا بعنقه دجاجة ميتة لا يستطيع الوصول إليها، ولا التخلص من نتنها، فكانت النتيجة أن رائحة النتن انتهت بالكلب إلى كراهية الدجاج، والهروب من رؤيته حيا وميتا. وهكذا التربية التي تقتصر على التلقين دون التطبيق، فإنها تنتهي بالإنسان إلى اليأس والإحباط، وعدم تصديق الدعاوى المنادية بالقيم الخيرة، والأعمال الإيمانية الصالحة. وهنا تبدو حكمة الله تعالى في تخصيص أكبر مقته للذين يقولون ما لا يفعلون. 6- إعادة تأصيل طرق وأساليب إخراج الفرد المؤمن بحيث تتفاعل   1 الطبري، التفسير، جـ5، ص37، 38. راجع نص الحديث على صفحة 237. وعند النسائي: "آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهده -إذا علموا بذلك- والواشمة، والموشومة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد الهجرة ملعونون على لسان محمد يوم القيامة". الجامع الصغير، للسيوطي، رقم 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 في نفسه آيات الوحي في الكتاب مع آيات الله في الآفاق، والأنفس في مختبرات العلم، ويتظافر القسمان لاستخراج معجزات العصر، وبذلك يولد اليقين وتتجسد صلاحية القرآن لكل زمان ومكان. ولعل من متطلبات التأصيل المقترح أن تقوم المؤسسات التربوية المنشودة بمراجعة شاملة جريئة للأساليب التربوية الموروثة، إذ يشير النظر في تاريخ التربية الإسلامية إلى أن هذا التاريخ شاهد طريقتين لإخراج الأفراد المؤمنين، الأولى: طريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وامتداداتها على أيد أصحابه في العصر الراشدي، والتي كان من ثمارها إخراج أمة مسلمة حملت رسالة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والإيمان بالله. والثانية: طريقة القولبة المذهبية التي كان من ثمارها انقسام الأمة الإسلامية القائمة إلى الفرق، ومذاهب تتجادل وتتناحر، وكل يدعي احتكار الإيمان، ويتبادل مع الآخرين قذائف التفسيق والتكفير. وتقوم -الطريقة الأولى- على تدبر أفعال الله وسننه وقوانينه في الخبرات الفعلية التي كان الرسول، والذين معه يمرون بها يوميا في قلب الاجتماع الإنساني، وشبكة العلاقات الاجتماعية القائمة في ميادين الفكر والثقافة والاجتماع والسياسة، والاقتصاد وشئون الحرب والسلم وغيرها في ضوء توجيهات الوحي المتدرجة المتتابعة. أي أن هذه الطريقة كانت تتكامل فيها التوجيهات التربوية مع التطبيقات العملية، وتهيئ لآيات الوحي أن تتفاعل في نفس المتعلم مع آيات الآفاق، والأنفس في تجارب عملية يكون من ثمراتها حصول "اليقين" ثم "الإيمان". وفي إطار هذا التوجه تنزل مفهوم الإيمان وتحددت محتوياته، ومعادلاته العملية في حياة الأفراد المؤمنين. فـ"الإيمان بالله" جاء ليعرف -إنسان التربية الإسلامية- بانفراد الله في تربية العوالم كلها، وإرشاد هذا الإنسان إلى سننها وعلاقاتها، والتعامل معها لما فيه بقاء الإنسان ورقيه. وبناء على ذلك طالب المؤمنين بالتزكي من صنمية العصر التي تمركزت في -صنمية الأنداد- الذين يزعمون القدرة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 التأثير بمصائر العوالم، ويدعون الحق في تحديد "جنسيات" الجماعات الإنسانية و"طبقاتها" و"ثقافاتها" طبقا لمصالح عائلاتهم أو طبقاتهم، أو أقاليمهم أو قبائلهم أو قومياتهم أو أعراقهم في التملك والجاه والهيمنة. و"الإيمان بالملائكة" جاء لإنضاج الوعي عند -إنسان التربية الإسلامية- بفاعلية ملائكة الله في تنفيذ أوامر، ورقابتهم للبشر وتدوين أعمالهم خلال الحياة اليومية الجارية، ليكون هذا الإيمان سببا في الاستهانة بأحكام البشر ورقابة أعوان الظلمة، والأصنام الأنداد الذين يعملون بقوة السلاح، وسحر الكلمة على تجريد الناس من التفكير والإرادة، ثم تحويلهم إلى مخلوقات بشرية لا عمل لها إلا طاعة الجبابرة، والتسبيح بحمدهم والدعاء لهم بطول العمر، ودوام السلطان. و"الإيمان بالكتب الإلهية" استهدف استيقان المؤمنين بأهمية الاستنارة بهذه الكتب في ميادين الحياة المختلفة، وتحصينهم من سحرة الفكر، والثقافة الذين يزيفون الحق ويزينون الباطل في النشاطات اليومية الجارية. و"الإيمان بالرسل" استهدفت تنيمة اليقين عند -إنسان التربية الإسلامية- بأهمية الاستجابة لرسالاتهم وأهمية الاقتداء بهم، وأثر هذا في حفظ النوع البشري ورقيه، وصيانة المؤمنين من ضلالات شياطين الإنس الذين ينتهون بالناس إلى الكفر، والفسوق والتخلف، والانحلال والهلاك. و"الإيمان بالآخرة" استهدف إيقاظ -إنسان التربية الإسلامية- لمصير المسيرة الإنسانية عبر الحياة إلى ما بعدها، والوعي بالأمانة الموكلة للإنسان خلال المسيرة المذكورة. و"الإيمان بالقدر خيره وشره" استهدف إنضاج الوعي عند إنسان التربية الإسلامية بأهمية "التفكير السنني -القانوني- الذي يتحقق بأن كل شيء خلقه الله بقدر -أي بقانون- وأن السلوك الخير والسياسات الخيرة، بناء على هذه الأقدار، يثمران اجتماعا إنسانيا راقيا وحضارة متقدمة، وأن السلوك الشرير والسياسات الشريرة ثمرتها الانحطاط الاجتماعي، والتخلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الحضاري. وفي المقابل فإن جميع المزاعم والمقولات التي يشيعها سحرة الكلمة والبيان من الشعراء الغاوين، ومن الأدباء والإعلاميين، والفنانين عن إرادات أصحاب النفوذ والجاه، فإنها حين تصطدم بأقدار الله -أي قوانينه وسننه- فإنها لا يكون من ثمارها إلا ضنك العيش وخسران المصير. ثم تكون المحصلة النهائية للإيمان بالقدر خيره، وشره هي الالتزام بالتفكير العلمي، والموضوعية في جميع السياسات وأنماط السلوك. أما -الطريقة التربوية الثانية- التي شاهدها تاريخ التربية الإسلامية فهي -طريقة القولبة المذهبية- التي نشأت حين هيمن رجال القوة على رجال الشريعة، والفكر ودحروهم من قلب الاجتماع الإنساني إلى عالم الغيب المتعلق بـ"ذات الله"، وعالم "الفرد" الخاص المتعلق بالهيئة وشعائر العبادة وقضايا الطهارة، وعلاقات الزوجين ومعاملات الأسواق، تاركين قضايا الحياة الرئيسة، -خاصة شئون الحكم والمال العام- لـ"ثقافة" العصبيات القبلية بتقاليدها وأعرافها الصنمية القائمة على "طغيان" القوي و"استضعاف" الضعيف. فمنذ ذلك التحول قام عمل المؤسسات التربوية فيما يخص "الإيمان"، وإخراج الأفراد المؤمنين على التلهي بالجدل حول قضايا الاستواء والنزول، والتجسيد والتشبيه ومحاكمة الماضين الأموات، والعزل الأحياء بالنسبة لهذه القضايا، وعلى تلقين المتعلمين "فهم" إنسان معين أو فرقة معينة دون أن يصاحب هذا التلقين تجارب عملية في مختبر الآفاق والأنفس، فكان من ثمار هذا التلقين المجرد تكوين "اعتقاد" مقولب يفرز سلوكا جامدا لا يتغير ولا يتبدل. ثم تطورت ونمت هذه الأساليب، وأفرزت مناهج دراسية عرفت باسم "مباحث العقيدة". والعقيدة -كدلالة على الإيمان الصحيح أو الخاطئ- مصطلح لم يرد في القرآن والسنة، وإنما لذي ورد هو "اليقين"، ومشتقاته التي تكررت في "28" موضعا من سور القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 - {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] . - {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] . - {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] . وهناك فرق كبير بين "العقيدة أو الاعتقاد" وبين "اليقين". فالاعتقاد مجرد تقبل وتسليم باعثه "الميل" أو "الكره"، وثمرته إخراج إنسان يختزن في رأسه أفكارًا معينة دون برهان أو دليل، و"يعقد" عليها عقدة -أو ختما حسب تعبير القرآن- لا تسمح بالتبديل أو التعديل، و"يعصب" عينيه وأذنيه عن كل ما يخالف هذا "الاعتقاد" أو لا يرضيه، ولذلك فمن الطبيعي أن يتخذ الحوار بين أصحاب "العقيدة" شكل المصادمات المذهبية. والواقع أن هذا الأسلوب في "الاعتقاد" هو شكل متطور للعصبيات، والولاءات القبلية بعد أن تكيفت للبيئة الإسلامية، وطلت نفسها بطلاء إسلامي، وصاحب "الاعتقاد" المذهبي هو شخص متطور عن الشاعر الجاهلي الذي، قال: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد وما زالت الأقاليم الإسلامية توالي -الإمام أو الفقيه- الذي خرج أو يخرج منها، وتشايعه دون فهم أو إطلاع، وتضفي عليه لقب "شيخ الإسلام" تيمنا بـ"شيخ القبيلة" ولا تعترف بهذه المشيخة لغيره إلا لمن أوصى به هذا "الشيخ" أو زكاة!! وما زالت -العصبيات القبلية- تتكيف لتلائم موجات الرأسمالية والاشتراكية، والديموقراطية والتنظيمات الإدارية، ومؤسسات الحكم التي تفد من بلاد الرأسمالية والاشتراكية حيث تقتبس ألقابها، ومصطلحاتها وتتزي بأزيائها وتحتفل باحتفالات ومراسمها، ولكنها تبقى في مضمونها، وجوهرها نظما قبلية -تستمد روحها من "ثقافة" عصبيات ما قبل الإسلام. أما "اليقين" فهو قناعة ورضى راسخان. وهو ثمرة تجربة محسوسة يتزاوج فيها خبر الوحي مع برهان محسوس من ميدان الآفاق والأنفس -أي ميدان الاجتماع الإنساني والكون الطبيعي- أي هو ثمرة تحرير الفرد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 "خبرة مربية" يكون من نتائجها مشاهدة معجزة كونية، أو اجتماعية أو نفسية تدعم الآية القرآنية، وتكشف عن صدقها. ثم تكون المحصلة النهائية لـ"اليقين" هي إخراج أفراد مؤمنين "يوقنون" بما يؤمنون به، ولهم القدرة على التعايش مع الشئون الإلهية المتجددة في مختلف الأزمنة والأمكنة، وإخراج أمة مسلمة متحدة الكلمة راقية الرسالة!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الفصل الثامن عشر: العنصر الثاني الهجرة والمهجر معنى الهجرة ... الفصل الثامن عشر: العنصر الثاني: الهجرة والمهجر والعنصر الثاني من عناصر الأمة المسلمة هو -الهجرة- التي توفر للأفراد المؤمنين أن يعيشوا نموذج -المثل الأعلى- للحياة الإسلامية، وأن يتحرروا من كافة الأغلال والآصار الثقافية، والاجتماعية والمعنوية والمادية التي تحول دون هذا العيش. معنى الهجرة: الهجرة معناها الانتقال، وهي نوعان: انتقال حسي، وانتقال نفسي. والانتقال الحسي معناه الانتقال من مجتمعات الكفر، والشرك إلى مجتمع الإيمان. أما الانتقال النفسي، فهو يعني الانتقال من ثقافة مجتمعات غير المؤمنين بنظمها، وعقائدها وأخلاقها وقيمها وعائدتها، وتقاليدها وتطبيقاتها المختلفة إلى ثقافة الإيمان بمظاهره وتطبيقاته ومؤسساته، وإلى هذا النوع من الهجرة النفسية كانت التوجيهات الإلهية عند قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] . {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10] . {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] . وإلى النوعين مجتمعين من الهجرة كانت الإجابات النبوية عن معنى الهجرة وأشكالها. فلقد سأله أعرابي بقوله: يا رسول الله أخبرنا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الهجرة؟ إليك أينما كنت أو لقوم خاصة أم إلى أرض معلومة، أم إذا مت انقطعت؟ فسكت عنه يسيرًا ثم قال: "أين السائل؟ قال: ها هو ذا يا رسول الله! قال: الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر، وإن مت بالحضر"1. وفي موقف آخر قال -صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر السوء فاجتنبه" 2. وفي موقف آخر قال -صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تطلع الشمس من مغربها" 3. وفي موقف آخر سأل رجل فقال: يا رسول الله أي الهجرة أفضل؟ قال: "أن تهجر ما كره ربك! وهما هجرتان: هجرة البادي، وهجرة الحاضر، فهي أشدها وأعظمها بلية" 4. وممن ناقش رابطة الهجرة -الرازي- فقال: "الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان. وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفر إلى أعمال المسلمين. قال -صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه". وقال المحققون: الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن ترك مأموراته وفعل منهياته ... وبذلك يدخل فيه مهاجرة دار الكفر ومهاجرة شعار الكفر. ثم لم يقتصر تعالى عن ذكر الهجرة بل قيده بكونه في سبيل الله. فإنه ربما كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار   1 مسند أحمد، جـ2 "تحقيق الساعاتي" ص224. 2 نفس المصدر والجزء، ص206. 3 نفس المصدر، جـ4، ص99. سنن الدارمي، باب السير. 4 مسند أحمد، جـ4، ص199. النسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الإسلام. ومن شعار الكفر إلى شعار الإسلام لغرض من أغراض الدنيا. إنما المعتبر وقوع الهجرة لأجل أمر الله"1. ولقد نقل -القرطبي- عن ابن العربي أنه قسم الهجرة إلى ستة أقسام: الأول: الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضا في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كان، فإن بقي في دار الحرب عصى ويختلف في حاله. والثاني: الخروج من أرض البدعة. قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف، والمنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه، فقد قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] . والثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام؛ لأن طلب الحلال فرض على كل مسلم. والرابع: الفرار من الأذية في البدن، وذلك رخصة إلهية، وأول من فعلها إبراهيم عليه السلام، فإنه لما خاف من قومه قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: 26] ، وقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] وقال مخبرا عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] . والخامس: خوف المرض في البلاد الموبوءة والخروج منها إلى الأرض المعافاة، وهو ما أذن به الرسول -صلى الله عليه وسلم- للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح، فيكونوا فيه حتى يصحوا. والسادس: الفرار خوف الأذية في المال؛ لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله وأوكد2. والخلاصة إن التعاريف النبوية للهجرة، وتفسيرات الباحثين الإسلاميين تشير بوضوح تام إلى أن الهجرة قسمان: هجرة جسدية وهجرة نفسية، وأن الهجرتين متكاملتان متبادلاتا الفاعلية والتأثير. ذلك أن -الأفراد المؤمنين-   1 الرازي، التفسير الكبير، جـ10، ص221، 222. 2 القرطبي، التفسير، جـ5 "سورة النساء: آية 101" ص224، 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الذين يتناثرون في بيئات غير إسلامية لا يستطيعون العيش حسب نماذج -المثل الأعلى- الإسلامي للحياة، ولا يستطيعون النجاة بناشئتهم من الضغوط الأخلاقية والاجتماعية، والثقافية المحيطة، إلا إذا قاموا بهجرة جسدية إلى -مهجر- إسلامي تتوفر فيه أسباب الحياة الإسلامية، والهجرة النفسية من آثار الثقافات اللاإسلامية وتطبيقاتها في المشاعر والعقول والسلوك. ويستمر التلازم بين الهجرتين ما دام المؤمنون لم يمسكوا بزمام القيادة الدولية، فإذا تم لهم هذا الإمساك توقفت الهجرة الحسية، واستمرت الهجرة النفسية -على مستوى العالم كله- وهو ما أشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد فتح مكة، وإمساك المسلمين لزمام الأمر في الجزيرة كلها فقال: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" 1. ويلاحظ على الهجرة بمفهومها المعنوي أنها تقابل "التزكية" أو -"تغيير" ما بالأنفس- اللذين يشدد عليهما القرآن الكريم. وغاية هذا التغيير هو -هجر- الثقافة الخاطئة أو الآبائية التي انقضى زمنها. ولقد كان أبرز مظاهر الهجرة المعنوية هو الانتقال من -ثقافة العصبية القبلية- بكل قيمها، وتطبيقاتها الصنمية إلى ثقافة الإسلام بكل قيمها وتقاليدها التوحيدية. ولذلك نبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أن العودة إلى ثقافة الطور القبلي ومفاهيم القبلية، وتطبيقاتها هو مظهر من مظاهر الردة، وكبيرة من الكبائر المخلدة في النار. فعن عبد الله قال: آكل الربا، وموكله وكاتبه إذا علموا بذلك، والواشمة والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد الهجرة، ملعونون على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة2.   1 صحيح البخاري، كتاب الجهاد، كتاب مناقب الأنصار، كتاب المغازي. صحيح مسلم، كتاب الإمارة. ورواه الترمذي، والنسائي والدارمي وابن حنبل. 2 مسند أحمد "تحقيق أحمد شاكر"، جـ5، رقم 3881، 4090. سنن النسائي، كتاب الزينة، ص25. سنن البيهقي، جـ9، ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وفي تفسير الطبري لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] ، أن علي بن أبي طالب قال في مسجد الكوفة: يا أيها الناس إن الكبائر سبع! فأصاخ الناس. فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: ألا تسألوني عنها؟ قالوا: يا أمير المؤمنين ما هي؟ قال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرف بعد الهجرة. فقلت لأبي: يا أبت التعرب بعد الهجرة، كيف لحق ههنا؟ فقال يا بني: وما أعظم من أن يهاجر الرجل حتى إذا وقع سهمه في الفيء، ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيا كما كان! وعن عبيدة بن عمير قال: الكبائر سبع ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله ... إلى أن قال: والتعرب بعد الهجرة: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} 1. ولعل الحكمة من اعتبار -العودة إلى العصبية القبلية، أو التعرب بعد الهجرة -ردة وكبيرة من الكبائر هو أن هذه العودة نكسة في نظام القيم الإسلامية حيث تعود "القوة فوق الشريعة" أو فوق القانون، ويعود الولاء للقبيلة بدل الأمة، أي تعود "قوة" رأس القبيلة، وإرادته لتحل محل "الشريعة" وإرادة الله. فهي إذن عودة لجوهر الصنمية، وما يرافقها من عودة إلى الارتجال والفردية والفوضى بدل الإعداد وروح الجماعة والنظام. وذلك وصف الله -المتعربين- بقوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2 ولذلك أيضا عرف الرسول -صلى الله عليه وسلم- هجرة البدوي   1 الطبري، التفسير، جـ5، ص37، 38، الطبراني، المعجم الكبير، جـ6، ص24، رقم 636. 2 سورة التوبة: الآية 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بقوله: هجرة البادي الطاعة1. أي طاعة الشريعة والانقياد للنظام2.   1 الطبري، المصدر السابق، نفس الصفحات. 2 يبدو أن هذا الفهم لـ"التعرب بعد الهجرة" كان واضحا عند المهاجرين والأنصار، وغير واضح عند -طلقاء مكة- وذرياتهم. ففي صحيح البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع أنه دخل على الحجاج فقال: يا ابن الأكوع. ارتدت على عقبيك تعربت؟ قال: لا! ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أذن لي في البدو. يلاحظ -هنا- أن الحجاج فهم معنى -الردة إلى التعرب. فهما مكانيا وسياسيا؛ لأن الأكوع اعتزل الفتنة وسكن البادية، لكن الأكوع صحح للحجاج فهمه بأن أعاده إلى محتواه الفكري الذي يدور حول القيم العصبية والثقافة القبلية. صحيح البخاري، كتاب الفتن. صحيح مسلم، جـ14، كتاب الإمارة "شرح النووي"، ص6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 أهمية الهجرة : الهجرة عنصر أساسي من عناصر الأمة المسلمة، ولها أهميتها في استمرار عافيتها، والحفاظ عليها من عوامل المرض والوفاة. وتتمثل هذه الأهمية فيما يلي: الأهمية الأولى، تخليص المؤمنين من العوز وعدم الأمن ثم إطلاق قدراتهم الدفاعية، والإنتاجية في أيام السلم والحرب سواء. وإلى هذه النتائج الهامة كانت الإشارة الإلهية عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] . والمراغم هو المنعة والقوة، أو ما يرغم به المؤمنون المهاجرون ظالميهم على مسالمتهم ويردعونهم عن العدوان عليهم. والسعة هي الغنى وسعة العيش. ويتكرر الحديث عن أهمية الهجرة في توفير المنعة، والإنجاز الحضاري في مواضع عديدة من القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ونظرا لأهمية الهجرة في توفير المنعة، وإطلاق القدرات وتوفير الإنجازات أدان الله سبحانه المتقاعسين عن الهجرة، وتوعدهم بالعذاب. من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] . ويروي المفسرون عن عبد الله بن عباس أن ناسا من المسلمين لم يهاجروا فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت الآية1. ولقد استمرت الهجرة عاملا أساسيا في قوة حركات الإصلاح التي نجحت في إخراج العالم الإسلامي من ضعفه -في فترات متقطعة، وفي أماكن مختلفة- مثل الحركة التي أخرجت جيل صلاح الدين في المشرق، والحركة التي أخرجت جيل المرابطين في المغرب. فقد هجرت الأولى "فقه" السلاطين، و"ثقافة" النفاق اللذين ضربا مجتمع الخلافة في بغداد ثم انسحبت إلى المهجر الذي نما، وامتد حتى شمل المنطقة الواقعة ما بين الموصل وشمال سوريا في الشمال، وبين مصر والحجاز في الجنوب. كذلك اتخذت الثانية لها مهجرا في غرب أفريقيا، ثم خرجت قوة ردت العافية للمغرب والأندلس لقرون2. والأهمية الثانية، هي إن الهجرة -بمعناها النفسي والحسي- تنسجم مع حقيقة من الحقائق الكبرى التي يطرحها الإسلام عن الوجود. وهذه   1 ابن كثير، التفسير، نقلًا عن صحيح البخاري. 2 للاطلاع على تفاصيل الحركة الأولى راجع كتاب -هكذا ظهر جيل صلاح الدين- للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الحقيقة هي -استمرارية الخلق- أي أن هذا الكون ما زال يخلق: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] . واستمرارية الخلق هذه ترفد الحياة دائما بالجديد من الأفكار والأشخاص والأشياء. والكائنات الجديدة تفرز -علاقات جديدة. والعلاقات الجديدة تتطلب -قيما جديدة- تترجم إلى نظم ومؤسسات، وسياسات جديدة: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] . والذين لا يعون استمرارية الخلق وما ينتج عنها من تجدد في الشئون، والعلاقات والقيم والتطبيقات لا يفقهون مضمون الهجرة المطلوبة، ويقلعون في الاتجاه المعاكس للتاريخ فيرتدون إلى الآبائية ويسقطون في التخلف، ويلفهم اللبس والحيرة والاضطراب، وينتهون إلى البوار: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] . والأهمية الثالثة، هي أن الهجرة بمعناها الشامل حركة تجديد مستمر، وعامل من عوامل قوة الأمة الفكرية والمادية؛ لأنها تجتذب حول "المثل الأعلى" الذي تطرحه الرسالة الإسلامية العناصر الصالحة المتفوقة من كل جيل من البشرية كلها لتلتقي حول أسمى الغايات، وتتعاون لإنجاز أرقى الحضارات. ومن المحزن أن لا يبرز "فقه وفقهاء للجنسية والمواطنة" القائمة على مفهوم الهجرة هذا في الوقت الذي نشاهد أثر قوانين الهجرة -التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية- في تجميع العناصر ذات الكفاءات العالية من أقطار الأرض كلها، ثم إطلاق قدراتها وإرادتها لما فيه قوة الولايات المتحدة، واحتلالها مكان الصدارة في العالم كله. ومن الموضوعية أن نقول: أنه في الوقت الذي يعجز العقل الإسلامي المعاصر عن شهود مراد الوحي في -العلاقة بين استمرارية الخلق، والهجرة وتجدد عافية الأمم- فإن الفكر الغربي المعاصر قد شهد هذه الحقيقة ونظم حياته طبقا لها، وإن كانت العلاقات السلبية التي قامت بين المفكرين، وبين الكنيسة جعلتهم -على المستوى العقائدي- يتنكرون لفكرة الخلق ويستدلونها بفكرة "النشوء والارتقاء والتطور" أي الاعتقاد بأن الكون ينشأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ويرتقي ويتطور من نفسه دون اعتبار لقوة الله المسيرة للنشأة والترقي والتطور، وهكذا ظهر عند الغربيين ما يسمى بنظرية التطور evolution، ونظرية الخلق Creationism. ولكن من الإنصاف أن نقول أن العقل الإسلامي في الماضي لم يكن غائبا دائما عن أهمية الهجرة واستمراريتها. فهذا ابن تيمية يعلق على الآية التي قدمناها كإطار لعناصر الأمة المسلمة، ويذكر أن المؤمنين الذين ذكرتهم الآية صنفان: المهاجرون الذين هاجروا إلى المدينة من بلادهم، والأنصار الذين استقبلوهم. ومن لم يهاجر من الأعراب لهم حكم آخر. وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم. فكل هذه الأنواع حكمهم باق إلى يوم القيامة في أشباههم ونظائرهم. وأضاف أن معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} هو إشارة إلى من تبع هذا المنهاج إلى يوم القيامة1. ولكن الآبائية التي تستمد جذورها من ثقافة العصبية القبلية كانت دائما تطلي حرانها بطلاء إسلامي فترفض الهجرة والتجدد، وتشن إرهابا فكريا على العقول المجددة، وتغري الحاكمين بأصحابها، فتجهز عليهم وتحرم الأمة من ثمرات اجتهادهم. والأهمية الرابعة، هي أن الهجرة النفسية والفكرية ضرورة من ضرورات وحدة الجبهة الداخلية في الأمة المسلمة. إذ يقوم جوهر هذه الهجرة على هجر -الأفراد المؤمنين- لمعتقداتهم وثقافاتهم، وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم السابقة المتناقضة المفرقة ليحل محلها عقيدة واحدة، وثقافة واحدة، ونظام قيم واحد تتفرع عنه عادات، وتقاليد وممارسات واحدة يكون من ثمارها رص الصفوف وتجانس السلوك، واتفاق الكلمة وتنسيق المقدرات.   1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب التصوف، جـ11، ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ولقد أدركت الدول المتقدمة في العصر الحديث -خاصة الولايات المتحدة- أهمية هذه الهجرة النفسية في بناء الجبهة الداخلية. ولذلك جعلتها من الأصول التي يقوم عليها نظام التربية فيها، وأطلقت عليها اسم -البوتقة الصاهرة- Melting Pot -وحشدت لها- وما زالت تحشد- ما تتطلبه من قدرات ومؤسسات بغية صهر ثقافات أفواج المهاجرين القادمين إلى الولايات المتحدة في بوتقة الثقافة الأمريكية الموحدة. وفي المقابل تبدو خطورة -الردة الثقافية- التي مارستها نظم التربية ومؤسسات الثقافة والإرشاد والإعلام في "الدول الإقليمية" القائمة في "مزق" الأمة الإسلامية المتوفاة، وهي تركز جهودها على تطوير ثقافات إقليمية، وقيم إقليمية، وفولكلور إقليمي، وفنون إقليمية، وآداب إقليمية، وأعياد إقليمية، وآثار إقليمية استمدتها جميعا من ثقافات العصبيات الجاهلية التي هجرها "الأجداد المؤمنون" في الماضي الأمر الذي رسخ التمزق، وكرس الفرقة والاختلاف، وأقام حواجز صلدة عنيدة أمام حركات الإصلاح، ومحاولات الوحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 دور التربية في بلورة عنصر الهجرة : لا تتحقق الهجرة -خاصة الهجرة النفسية- إلا بعمل تربوي منظم تديره مؤسسات تربوية متخصصة واعية الفلسفة والأهداف والتطبيقات، محيطة بقوانين التغيير والتجديد في حياة الأفراد والجماعات. كذلك لا بد من توفير العوامل المساعدة على نجاح الهجرة المشار إليها، وأبرز هذه العوامل اثنان: الأول، توفر العدد المناسب من التربويين المجددين الخبراء بتغيير ما في الأنفس -من أفكار ومعقتدات، وتغيير تطبيقات هذه الأفكار في نظم الحياة، والقيم والاتجاهات والممارسات. ويتناسب انتشار الهجرة الفكرية والثقافية في أوساط الأمة مع عدد الخبراء التربويين المجددين المشتغلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بتغيير ما في الأنفس كتناسب كمية الخميرة اللازمة لتخمير كمية معينة من العجين. واهتزاز هذه النسبة في العالم الإسلامي أمر بارز الوضوح إذ لم يظهر فيه طوال القرون التسعة الأخيرة إلا عدد محدود من المجددين ابتداء من أيام ابن تيمية ومرورا بابن عبد الوهاب في الجزيرة والشوكاني في اليمن، والسرهندي في الهند ثم الأفغاني ومحمد عبده حتى جيل حسن البنا، والمودودي ومالك بن نبي في الوقت الحاضر، مع اعتبار المعاناة الشديدة التي واجهتها تلك القلة المصلحة من الكثرة المتمسكة بالآبائية والجمود. بينما يوجد في بلد -كالولايات المتحدة مثلًا- من المفكرين الأحياء المعادلين لمنزلة "المجتهد" ما يزيد عن ثلاثة ملايين، ومع ذلك فهي توفر لهم كل أسباب الإبداع ولا تتوقف عن البحث عن المتفوقين الأذكياء في الداخل، واستقدامهم من الخارج. والثاني، توفير البيئة الصالحة لنجاح الهجرة المنشودة بمظاهرها النفسية والحسية. والحرية هي التجسيد العملي للبيئة المطلوبة؛ لأن الهجرة هي حرية التفكير والاختيار. والذين اتصفوا بحرية التفكير والاختيار من معاصري الرسالة الإسلامية، هم الذين هاجروا من حياة الجاهلية إلى الإسلام. أما الذين لم يتصفوا بهذه الحرية، فقد ظلوا يمارسون الحران والرفس جامدين على ما انحدر إليهم من آبائهم من معتقدات، ونظم وثقافة وممارسات، وقيم انتهت بهم إلى الهلاك والبوار. فالهجرة لا تصل مداها المشار إليه إلا إذا حررت التربية نفوس المتعلمين من داخل، وهيأت التطبيقات والسياسات الإدارية لتسود الحرية حياة الأمة من خارج. ذلك أن الحرية عامل أساسي في تحقيق أمرين: الأول، نمو القدرات العقلية اللازمة للمعرفة والعلم. والثاني، إطلاق الإرادات العازمة اللازمة لمناصرة الحق والتقدم، ومناهضة الباطل والتخلف. وحين تختفي الحرية تتعطل القدرات العقلية، وتتقلص الإرادات العازمة وتتوقف الأمة عن الإبداع، والإنجاز وتسير في طريق الضعف المفضي إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الاستضعاف في الدنيا والعقوبة في الآخرة. لذلك لا بد أن تكون التربية الإسلامية قادرة على تحقيق ثلاثة أمور هي: الأول، فرز الأذكياء الموهوبين -أو أولي الألباب حسب المصطلح القرآني- في الداخل واستقدامهم من خارجٍ ثم إعداد هؤلاء لقيادة عمليات التغيير، والتجديد في الأمة المسلمة، مع الحذر من تسرب "الأغبياء" الذين تنصبهم ولاءات العصبيات الأسرية والقبلية، والإقليمية "أصناما ثقافية" و"معوقات حاسدة" مهلكة تضطهد الأذكياء وتتحكم بمصائرها، وتدفعهم إلى الهجرات والهجمات المعاكسة. والثاني، تدريب -إنسان التربية الإسلامية- على مراجعة الموروثات الثقافية، والاجتماعية المتحدرة من كل جيل، واكتشاف الجوانب التي عدا عليها الخطأ، أو الإفساد في الفهم والتطبيق، أو تلك التي مضى زمنها وبطل مفعولها، ثم القدرة على التخلص منها ومن آثارها، والهجرة من تطبيقاتها في ميادين السياسة والاجتماع، والاقتصاد وسائر مظاهر الثقافة السائدة في القيم والتقاليد، والعادات والأخلاق والفنون، والنظم وشبكة العلاقات الاجتماعية. فالهجرة -هنا- توبة من الثقافة الخاطئة أو التي بطل مفعولها، ومما يتفرع عنها من نظم وتطبيقات ومؤسسات، وممارسات ووظائف خاطئة أو متخلفة. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يربط بصراحة بين الهجرة والتوبة فيقول: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" 1. فالهجرة توبة، والتوبة هجرة. وكلاهما انتقال من الخطأ والجمود والتخلف، وانتقال من البيئات التي ترعى هذه السلبيات الموقفة للارتقاء، الخانقة للعيش، المانعة للحياة.   1 سنن الدارمي، جـ2 "دار إحياء السنة النبوية"، ص240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 والثالث، تدريب المتعلمين على "فقه" نموذج -المثل الأعلى- اللازم لزمنهم، ثم تنشئتهم على استيعاب تفاصيل المثل الأعلى الجديد، وبذلك تعدهم لزمن غير زمن آبائهم -كما يوصي علي بن أبي طالب- وتتكون لديهم القدرات والمؤهلات اللازمة للغد الذي سيعبرونه، ولن يصابوا بالمفاجآت والصدمات من تطورات المستقبل كما يصاب الذين يشير إليهم قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الفصل التاسع عشر: العنصر الثالث عنصر الجهاد والرسالة معنى الجهاد ... الفصل التاسع عشر: العنصر الثالث عنصر الجهاد والرسالة الجهاد والرسالة هما العنصر الثالث من عناصر الأمة المسلمة. والجمع بينهما في عنصر واحد سببه اقترانهما -في القرآن والسنة- اقتران الوسيلة بالهدف. فالرسالة بدون جهاد مفضية إلى مقت الله وغضبه، والجهاد بدون رسالة نصرة للعصبيات، وخدمة للشهوات موجبًا لعقوبة الله وعذابه. أما عن تفاصيل هذا العنصر فهي كما يلي: معنى الجهاد: الجهاد معناه -لغويًّا- بذل أقصى الجهد. أما اصطلاحًا فهي يعني استفراغ الطاقة لتحقيق الأهداف التي توجه إليها الرسالة الإسلامية في ميادين الحياة الفكرية، والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، والعسكرية وغيرها في أوقات السلم والحرب سواء. وهذا ما يوجه إليه القرآن الكريم في مواضع كثيرة جدًّا من ذلك قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] أي أن الجهاد الذي اختاركم الله من أجله لا ضيق فيه، ولا عنت وإنما هو يتناسب مع الوسع، والطاقة التي أودعها في خلقكم وتكوينكم1. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يرسم الإطار الواسع للجهاد من خلال أمرين: الأول، طرح معادلات الجهاد العملية في ميدان العمل الإيجابي. والثاني، التحذير مما يخالفه في ميدان العمل، والتعوذ مما يعيق عن القيام به من العجز   1 الطبري، التفسير، جـ17، 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 والكسل والمرض وغلبة الديون وقهر الرجال1. فالجهاد إذن هو -تكنولوجيا الإسلام- التي توفر العمل، والإنتاج في أوقات السلم، والمنعة في أوقات العدوان. ولكن ليس بقصد توفير الرخاء الاقتصادي، والمنعة السياسية لجنس معين من البشر، أو تحقيق تفوق لقوم على بقية الأقوام، أو توفير امتياز لطائفة دينية على بقية الطوائف، وإنما لغاية أخرى هي تأهيل كتلة بشرية لحمل رسالة الإسلام إلى العالم. ولذلك فالذي تقوم به الأقطار المتقدمة صناعيا، وعلميا وإداريا -في الحاضر- هو جهاد لكنه بدون رسالة. وبذلك تكون أزمة العالم الحديث هو أن هناك مجتمعات تقوم بالمظهر المادي للجهاد لكن بدون رسالة، بينما -ترقد في سبات- إلى جانبها مجتمعات تخزن الرسالة في أسفارها، وتستظهر نصوصها في مؤسساتها التربوية، ولكن بدون جهاد لحملها ونشرها. ولا بد من الانتباه إلى -المعنى الحضاري للجهاد. فالجهاد يعكس مفهوم -الأمن الإسلامي- الذي يركز على إيصال الرسالة، وتبليغها إلى الآخرين بغية توفير الأمن الفكري والمادي، والنفسي لبقاء النوع البشري ورقيه. ذلك إن مصدر الخطر على بقاء النوع البشري ورقيه -حسب التصور الإسلامي- يكمن في "القيم" التي تكفر -أي تحجب وتخفي- قوانين الخلق في النشأة والمصير، وتقتصر على نوازع التمتع بالحياة وشهواتها، ومن هذا -الكفر- تتشوه جميع أشكال الاعتقاد والشعور، والممارسات في ميادين السلوك والاجتماع والعلاقات حتى إذا ظهر أهل الكفر في الأرض أشاعوا الفتن، والمظالم السياسية والمفاسد الاجتماعية، وردوا شبكة العلاقات الاجتماعية إلى عهود الغاب والهمجية والتخلف. ولذلك كان طلب بذل النفس لمحاربة قيم الكفر ومؤسساته وممثليه، وبذل المال لنشر قيم الرسالة الإسلامية، وإقامة مؤسساتها والإنفاق على العاملين   1 صحيح البخاري، كتاب الجهاد، صحيح مسلم، كتاب الذكر، سنن الترمذي، كتاب الدعوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 والدارسين فيها حتى يتحقق التفوق للقيم الإسلامية، فيشيع السلام ويكون الدين كله لله. وهذا المفهوم الإسلامي للأمن، والسلام يختلف تمام الاختلاف عن مفهوم الأمن القومي الذي ترفع لواءه المجتمعات المعاصرة، وتتخذه ذريعة للممارسة مختلف أشكال العدوان ضد بعضها البعض. وتعريف -الجهاد- بالشكل المذكور أعلاه، يجعل ترجمة هذا -المصطلح- إلى اللغات الأخرى أمرا صعبا وضارا. فهو صعب؛ لأنه لا يوجد ما يقابله في اللغات الأخرى، وهو ضار؛ لأن الترجمة تشوه معناه كما حدث لترجمته إلى اللغة الإنكليزية التي أطلقت عليه اسم -الحرب المقدسة Holy War- حيث عممت مظهرا واحدا من مظاهر الجهاد، وطمست بقية المظاهر. ولا بد هنا من الإشارة إلى أثر تراث ما قبل الإسلام في تطبيقات الجهاد عند الشعوب الإسلامية. فالعربي فهم المظهر المرادف لثقافة الغزو الذي كانت القبائل العربية تمارسه قبل الإسلام. والمسلم الباكستاني جذبه المظهر النفسي المشابه لثقافة التقشف الهندوسي، التي كان عليها في جاهليته. وهذا كله من سوء التأويل الذي تتسبب به الموروثات الثقافية السابقة، إذا لم تقم التربية بدورها في الجهاد التربوي الذي يستهدف تزكية مناهج الفهم والتطبيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 مظاهر الجهاد : لا يكون الجهاد أصيلا شاملا ما لم تقم التربية بتأصيل معناه، وتبيان مظاهره حسب متطلبات الزمان والمكان. والذي يحدد عمل التربية في هذا المجال ثلاثة عوامل: الأول، درجة تطور البشرية. والثاني، نوع التحديات القائمة في الداخل والخارج. والثالث، نسخ المظهر الجهادي أو رفع النسخ عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وانطلاقًا من هذه العوامل الثلاثة تنقسم مظاهر الجهاد إلى ثلاثة مظاهر رئيسه يندرج تحت كل منها تطبيقات عملية لا حصر لها ولا نهاية. وتتجدد بتجدد الخلق، وما يتطلبه الخلق الجديد من تجديد في القيم والوسائل، والعلاقات والمؤسسات. أما هذه المظاهر الرئيسة فهي: 1- الجهاد التربوي، يستهدف الجهاد التربوي تحقيق أمرين: الأول، تزكية مكونات العمل الصالح عند الفرد، أي تزكية "القدرات العقلية" من أسر الهوى والجمود، وتزكية "المثل الأعلى" من سجن الحاجات الجسدية، وتزكية "الخبرات" من سلطان الآبائية والتقليد والخرافة، وتزكية "الإرادات" من الخوف والشهوات، وتزكية "القدرات" من العجز والكسل1. والثاني، تزكية "الثقافة" السائدة المتعلقة بعناصر الأمة، أي عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية. وذلك بتفريغها من محتوى "الولاءات العصبية" ثم ملؤها بـ"الولاء للأفكار" الإسلامية كما سنعالج ذلك في هذا البحث. والجهاد بالمفهوم المذكور عمل يجب أن يعتمد على التخطيط العلمي، ويجب أن يكون له مؤسساته وخبراؤه وميادينه، وطرقه ووسائله والمربون العاملون في مجالاته. وهذا ما وجه إليه القرآن الكريم والسنة الشريفة، ولأهميته كانت المساواة بين مداد العلماء ودماء الشهداء2. ولابد من الإشارة -هنا- إلى التشويه الذي أصاب مفهوم الجهاد التربوي في عهود التقليد، والجمود وتجزئة نظرية التربية الإسلامية، فقد أدى هذا التشويه إلى اعتبار الجهاد التربوي -جهادا نفسيًّا- يقع على عاتق الفرد المسلم وحده حيث يدخل في صراع عصبي مع دوافه وشهواته في مواقف   1 للوقوف على تفاصيل مكونات العمل الصالح الخمسة، راجع باب -تربية الفرد المسلم- في هذا الكتاب. 2 المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، جـ6، "القاهرة: دار الفكر، 1391/ 1972"، ص466، رقم 10026. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الحياة المختلفة حتى انتهى به هذا التصور إلى أحد مصيرين: إما الانفلات من تعالم الدين، وإما تلبس شخصية الدرويش، والمتزهد اللذين يقدمان بؤس الحياة وصرامتها بدل تنظيمها وجمالها. 2- الجهاد التنظيمي، وغاية هذا الجهاد هو تنظيم "وسع" الأفراد المؤمنين الذين يتم تزكيتهم في مرحلة الجهاد التربوي، أي تنظيم قدراتهم المعنوية والمادية والبشرية بما يكفل حشدها، وتكاملها دون هدر أو نقص لتكون محصلة هذا التنظيم هو "إخراج الأمة المسلمة". ويوجه القرآن الكريم إلى أن "أمة المؤمنين" حين "تفقه" هذا الجهاد التنظيم وتتقنه، وتصبر على تكاليفه النفسية والمادية، فإن ما تحتاجه من -الأفراد المؤمنين- في هذا الجهاد ستكون نسبة عددهم 1-10 مقارنة بما تحشده "أمة الكافرين". والسبب في ذلك هو انسجام "فقه" المؤمنين مع قوانين الخلق الخلق، و"جهل" الكافرين بهذه القوانين واصطدامهم بها مما يجعلها تعمل لصالح "معكسر" المؤمنين، وهزيمة معكسر الكافرين: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] . أي لا يفقهون نظم الحشد والإعداد النفسي والاجتماعي، والمادي وأساليب التعبئة وتخطيط الاستراتيجيات، وأهمية الهدف الذي يتم من أجله الحشد والجهاد. والجهاد التنظيمي بهذا المفهوم لا يكون عملا فرديا، وإنما هو مظهر استراتيجي يقتضي من الأمة أن تقيم له مؤسساته التربوية، والعلمية والتطبيقة، ومراكز البحث ووسائله ولوازمه، ولا بد من تجدد علومه والارتقاء بمؤهلات العاملين فيه، وتوفير التكاليف التي يحتاجها والممارسات التي يتطلبها. 3- الجهاد العسكري، وغاية هذا الجهاد هو توجيه "أمة المؤمنين" لإزالة العوائق التي تحول دون إيصال "الرسالة الإسلامية" التي تستهدف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الحفاظ على بقاء النوع البشري ورقيه الإنساني. ويتجلى اقتران هذا النوع من الجهاد بالرسالة الإسلامية من خلال الضوابط العقدية، والأخلاقية التي تحكمه وتوجهه بحيث لا يخرج لحظة واحدة عن غايات الرسالة وأهدافها. وحين يتحقق هدف من أهداف الرسالة دون قتال يتوقف الجهاد القتالي، ويصير ممنوعا. والأمثلة على ذلك واضحة في التطبيقات النبوية. فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: "بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة. فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم. فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: - "يا أسامة أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله!!؟ " - قلت: كان متعوذًا. "أي يتظاهر بقولها ليعوذ بها من القتل". فما زال "النبي" يكرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم"1. وعن المقداد بن عمرو الكندي، وكان ممن شهد معركة بدر قال: قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله! ". قلت: يا رسول الله إنه قطع يدي ثم قال ذلك بعدما قطعها!؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" 2.   1 البخاري، تجريد الصحيح، جـ2، غزوة مؤتة، ص83. 2 مسند أحمد، "شرح الساعاتي"، جـ1، رقم 70، ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وتذهب التوجيهات التي توجب دوران الجهاد في فلك الرسالة مدى أبعد فتحث الأمة المسلمة على العفو والامتناع عن الثأر، أو استرجاع ما صودر من ممتلكاتها حين تظهر على عدوها، ويتحقق لها النصر حتى تفتح بصائر الخصوم على نبالة الغاية الأساسية من الجهاد. قدم شريح بن ضبيعة الكندي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من اليمامة. وحين وصل ترك خيله خارج المدينة، ثم دخل على النبي وحده وسأله: - إلام تدعو الناس؟ قال: "إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة". فقال شريح: حسن! إلا أن لي أمراء لا أقطع دونهم رأينا ولعلهم يسلمون ويأتون معي فلما خرج قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: - "لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم". فمر شريح بماشية سارحة لأهل المدينة فساقها وطلبه المسلمون فعجزوا عن اللحاق به. فلما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية، فإذا بشريح هذا وأصحابه ومعهم الماشية التي نهبوها جاء يهديها إلى الكعبة. فقال لهم الرسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هذا شريح دونكم إياه". فلما توجه المسلمون لطلبه أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2] . فلم يملك الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا الامتثال لأمر الله، والتوقف عن التعرض لشريح. ولقد كانت بقية مواقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الخصوم نماذج حية للعفو، والامتثال للتوجيهات الإلهية التي تقرن الجهاد بالرسالة. فقد ناله -صلى الله عليه وسلم- القسط الأكبر من الأذى، ومع ذلك فقد كان يضبط أحزانه، ويتناسى آلامه وثأره ممن أبلغ الجرح فيه فها هو يعفو عن وحشي قاتل عمه حمزة في أحد، ويعفو عن ابن أبي سرح الذي ابتدع أبشع الأكاذيب عليه، ويعفو عن هند زوجة أبي سفيان المتآمرة الأولى على اغتيال حمزة، وآكلة كبده بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 استشهاده، ويمنع أصحابه بعد فتح مكة من استرجاع دورهم، وممتلكاتهم التي صادرتها قريش عند هجرتهم إلى المدينة المنورة. ومثل هذا وذاك كثير. وتحتاج التربية الإسلامية أن تحكم "فقه" كل مظهر من مظاهر الجهاد الثلاثة خاصة فيما يتعلق بنسخه أو رفع النسخ عنه1. فالمظهر القتالي للجهاد يصبح مبررا، ومعمولا به حين تشيع قيم الكفر وتنتشر "ثقافة العدوان" و"اقتصاد السحت" اللذان يهددان بقاء النوع البشري ورقيه، وتكون الأمة الإسلامية قادرة عليه مهيأة له عدة وعددا. ولكن بروز اتجاهات الحوار بني المجتمعات الإنسانية "ينسخ" مظهر الجهاد القتالي، ويفرض على مؤسسات التربية الإسلامية أن تهيئ مفكرين مؤهلين، قادرين أن "يجادلوا" قادة الفكر العالمي بمناهج "أحسن" محتوى، و"أحسن" رسوخا وإحاطة بحقائق الوجود، وخبرات الحياة الإنسانية. وارتداد الأمة إلى محاور الولاء "القبلي" و"الإقليمي" و"القومي" يقتضي من المؤسسات التربوية أن تبذل أقصى "وسعها" للجهاد التنظيمي، والاستراتيجي لبلورة شبكة علاقات جديدة تحديد الأطر، والاستراتيجيات التي تنظم "وسع" الأمة الإسلامية، ومقدراتها كلها وتهيؤها لعبور طور العالمية الذي يشكل محور التربية الإسلامية في إخراج الأمة الإسلامية، وتقيها من نسيان سنن الله في الاجتماع الإنساني، لئلا ينسيها الله منافع أنفسها في الدنيا والآخرة. فالنسخ أو رفعه يطبقان على مظاهر الجهاد الثلاثة حسب الظروف، والمناسبات مع الانتباه إلى أن المظاهر السلمية للجهاد تحتل منزلة الأولية في كل سياق قرآني حسب تدرج معين يشمل الجهاد بالمال، فإذا لم يكف   1 لابن تيمية "فقه" خاص في الناسخ والمنسوخ، وخلاصته أن النسخ أو رفعه أمر موقوت ودوري. وهما يتعاقبان بتغير الأحوال والظروف. ففي وقت معين ينسخ حكم ما، فإذا أعقبته ظروف تستدعي رفع النسخ، وعودة العمل بما كان منسوخا رفع النسخ عنه. والمؤلف هنا يتبنى هذا اللون من "الفقه"؛ لأنه يتفق مع صلاحية آيات الكتاب لكل زمان ومكان. [راجع كتاب -مقدمة في التفسير لابن تيمية] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 دعمته مقدرات النفس العقلية والتنظيمية، ومقدرات العمل والإنتاج، وأخيرًا المقدرات القتالية مع بقاء الباب مفتوحا لأية بادرة تجنح للسلم، وتوقف سفك الدماء. وتتضح أهمية -الجهاد القتالي- في حياة الإنسانية كلها حين نرى أن الأفكار، والثقافات التي توجه سياسات غير المسلمين -خاصة في الغرب- لم تتخل بعد عن حب العدوان والسيطرة في الخارج، والطبقية والاستغلال في الداخل تطبيقات لمسلمة -الصراع والبقاء للأقوى- التي يتقبلها العقل الغربي دون مناقشة، ولا مراجعة وينطلق منها في ممارساته الإدارية والسياسية1. فالغرب يعتبر القتال الخارجي، والصراع الداخلي أداتين حيويتين من أدوات الصراع وبقاء الأقوى. وهو ينظر للقتال كضرورة بيولوجية لبتر العناصر الضعيفة لصالح العناصر القوية. ومن هنا اشتدت عناية الغرب بالحياة العسكرية، وإنتاج الأسلحة وتطويرها. وهذه فلسفة بعيدة الغور في تاريخ الفكر الغربي بدأت بعرقية اليونان والرومان وانتهت بـ"الدارونية الاجتماعية". والأفكار التي تناولت قتال الأقويا لإبادة الضعفاء عديدة، وكثيرة شاعت منذ مطلع القرن العشرين، وما زالت تنمو وتتوسع وتنتشر، وتوجه الممارسات السياسية والعسكرية2.   1 محور المسلمات الفكرية عند الغرب المعاصر هي فكرة "الصراع والبقاء للأقوى" التي نظرها في فلسفة "الدارونية الاجتماعية"، وانبثقت عنها جميع الأفكار والأعمال. وليست الديانات السماوية والأخلاق، والمثل العليا إلا -روافع قوى كما يسميها علماء السياسة الغريبون- لخدمة المسلمة المذكورة. وشيوع هذا اللون من الفكر أدى إلى سوء استعمال -علم النفس- وغيره من العلوم بهدف تسخير الأفراد والجماعات، والشعوب لصالح المترفين في الغرب وحلفائهم في العالم. ويحتاج العمل الإسلامي المستنير فهم العقل الغربي، وقيمه ومسلماته الفكرية وأساليب تفكيره بغية حل الإشكالية التاريخية الناجمة عن إفرازات هذا العقل في علاقات الغرب الاجتماعية كحاجته للبترول العربي، أو أشد. والغرب المعاصر من أفضل الخامات البشرية لحمل رسالة الإسلام العالمية. 2 راجع تفاصيل هذه الآراء، ونماذج من القائلين بها في كتاب -فلسفة التربية الإسلامية -الطبعة الثانية، ص156-159، وكتاب -أهداف التربية الإسلامية، للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وإلى أن "تتزكى" -العقليات غير المسلمة- من هذه الفلسفات العدوانية سيظل الجهاد الإسلامي حاجة إنسانية ماسة لردع العناصر المترفة الخربة، وإبطال سياساتها في الفتنة والفساد الكبير، ومن أجل إعادة التوازن والعافية للاجتماع البشري كلما اضطربت قيم العدل والمساواة، والحرية في التملك والعلاقات الإنسانية. لذلك لا يكون الجهاد إسلاميا إلا إذا اقترن بالرسالة الإسلامية، ووضع نفسه في خدمة أهدافها. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يبين بوضوح: "أن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل غضبا وحمية عصبية، والرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل رياء، فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" 1. وكلمة -في سبيل الله- هي الرسالة الإسلامية، وهي العطاء الحضاري الذي يقدمه المسلم للإنسان ليسهم في بقاء النوع البشري ورقيه. وهي بعض تطبيقات المظهر الاجتماعي للعبادة. ومن هذه الرسالة تكتسب الحضارة الإسلامية أهم صفاتها المميزة. أما تفاصيل هذه الرسالة فهي كما يلي:   1 مسلم، الصحيح، "شرح النووي"، جـ13، كتاب الإمارة، ص49، 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 معنى الرسالة : يتكرر ذكر الرسالة والرسول -صلى الله عليه وسلم- في مئات المواضع من سور القرآن. أما في الآية التي حددت الإطار العام لعناصر الأمة المسلمة، فقد وردت الإشارة إلى الرسالة عند قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وتقسم محتويات الرسالة إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 1- الأمر بالمعروف، ومحوره الدعوة إلى التوافق مع سنن الله، وأقداره -أي قوانينه- في الوجود القائم؛ لأن في هذا التوافق بقاء الإنسان ورقيه. 2- النهي عن المنكر، ومحوره تزكية الثقافة الإنسانية من عوامل الاصطدام بسنن الله، وأقداره في الوجود القائم؛ لأن في هذا الاصطدام تدميرا لبقاء الإنسان وسقوطه في الدنيا والآخرة. 3- الإيمان بالله، ومحوره إقامة الحياة الإنسانية على أساس الإيقان بقدرة الله، وهيمنته وتصرفه بالوجود وملكه له. وثمرة هذا الإيمان حفظ الإنسان في حالة "الوسطية" في الفكر والسلوك، ووقاية له من مرض "الطغيان" في حالة القوة، ومرض "الاستضعاف" في حالة الضعف. وفي ذلك سلامة الفرد من الانحراف والخسران، والمجتمع من الاضطراب، والتخلف، والانهيار. وهذه العناصر الثلاثة الرئيسة المكونة للرسالة متضمنة في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] . وتتطابق استراتيجية الفتح الإسلامي، التي تنفي الإكراه في الدين، مع ترتتيب أقسام الرسالة في الآية، فتبدأ بتزكية المجتمعات بالمعروف ومحوره العدل والفضيلة، وتثني بالنهي عن المنكر محوره تجفيف مصادر الظلم والرذيلة، وتنتهي بالدعوة إلى الإيمان بالله من خلال البلاغ الذي يبين الرشد من الغي. ولقد شرح الصحابي الجليل، أبو هريرة هذه الآية فقال: "كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة، يبذل المسلمون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فهم خير الأمم للخلق، والخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله"1. والمعروف الذي تشير إليه الآية اسم جامع لكل ما ينفع الجنس البشري، ويرتقي بسلوكهم والعلاقات المتبادلة بينهم. ولذلك حين سأل رجل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن المعروف أجابه: "لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم. ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق. وإن سبك رجل بشيء يعلمه فيك، وأنت تعلم نحوه فلا تسبه، فيكون أجره لك ووزره عليه. وما سر أذنك أن تسمعه فاعمل به، وما ساء أذنك أن تسمعه فاجتنبه" 2. ومن الواضح أن التعريف النبوي لـ -المعروف- في الحديث المذكور، لم يتناول المعروف كله، وإنما راعى مستوى السائل وبيئته وجه انتباهه إلى ما يشيع في تلك البيئة. ولكن البحث الشامل في ما يوجه إليه القرآن، والحديث يظهر أن "المعروف" و"المنكر" يشملان شبكة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والشعوب والأمم، وإن كل ما ينفع الإنسان، ويورث الانسجام مع سنن الله وقوانينه في الخلق يندرج في قائمة "المعروف"، وما يضر البشر، ويصطدم مع هذه السنن والقوانين يندرج في قائمة "المنكر". وتعريف الرسالة -بهذا الشكل يخالف التصور الذي يطرحه البعض حين يدعون إلى الإسلام كرافعة قوة ووسيلة للنهوض بالمسلمين سياسيا، وعسكريا واقتصاديا، فهم يحلون الوسيلة محل الهدف، والهدف محل الوسيلة. فالنهوض بالمسلمين يندرج في قائمة الوسائل والنتائج، أما الهدف   1 ابن تيمية، الفتاوى، علم السلوك، جـ10، ص59. 2 مسند أحمد، جـ19، "تصنيف الساعاتي"، ص201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فهو حمل الرسالة الإسلامية إلى الناس، وإن كان من نتائج هذا الحمل كرامة المسلمين، وتمكينهم في الأرض وسهولة العيش. وهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] . والرسول -صلى الله عليه وسلم- يحذر من هذا الانتكاس في التصور، والفهم الذي يضع الوسائل في موضع الأهداف حين يقول: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أدخل الله عليهم ذلا لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم" 1. ويقول كذلك: "بعثت مرحمة وملحمة، ولم أبعث تاجرًا ولا زارعًا. ألا إن شرار الأمة التجار، والمزارعون إلا من شح على دينه" 2. ومن الطبيعي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يقلل من قيمة الاقتصاد، ولا يحقر المهن التجارية والزراعية، وإنما أراد التنبيه إلى خطورة تحول الأمة الإسلامية من "أمة رسالة" تضحي بالمال والأنفس إلى "أمة سدنة" تتكسب بالرسالة لجمع المال ومتعة النفس؛ لأن حمل الرسالة هو الفارق الرئيس بين "أمة المؤمنين" و"أمة المنافقين". وفي ذلك يقول القرطبي: "وفي التنزيل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] ثم قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] . فجعل تعالى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن   1 مسند أحمد، جـ2، ص84. 2 كنز العمال، جـ2، ص282 نقلًا عن أبي نعيم في الحلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه"1.   1 القرطبي، التفسير، جـ4، سورة آل عمران، آية 21، ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أهمية الرسالة في وجود الأمة : للرسالة أهمية رئيسة في نشأة الأمم وتكوينها ومصيرها. وتبدو هذه الأمية في الأمور التالية: الأمر الأول، تتقرر مكانة الأمة بين الأمم على المستوى العالمي بمقدار ما تقدمه من عطاء حضاري للآخرين. وهذا العطاء هو الرسالة التي تحملها الأمة بين الأمة الأخرى، وتضع في خدمتها كافة إمكاناتها البشرية والمادية والمعنوية، وهو ما يسميه المؤرخ البريطاني -توينبي Toynbee- الأناقة الحضارية. والأمر الثاني، إن هذا العطاء الحضاري هو الضامن لبقاء الأمم واستمرارها. ذلك أن الأمة التي تتوقف عن العطاء تبدأ بالأخذ. والأخذ الذي لا يرافقه عطاء متبادل سبب من أسباب الذوبان وفناء الأمم، ولكنه فناء بطيء لا يراه إلا العارفون بقوانين الاجتماع البشري وسنن التاريخ؛ ولأنه يتم على مراحل تستغرق كل مرحلة منها جيلين أو ثلاثة. ففي المرحلة الأولى تأخذ الأمة الأشياء المادية كالمنتجات الصناعية والحربية. وفي المرحلة الثانية تأخذ الأمة العادات المادية كأشكال اللباس، والأثاث وأشكال الطعام. وفي المرحلة الثالثة تأخذ الأمة المظاهر الثقافية كاللغات، ونظم الإدارة والنظم الدبلوماسية والعلاقات الاجتماعية، والفنون وأشكال الترويح. وفي المرحلة الرابعة تأخذ الأمة القيم والمقاييس الاجتماعية، والأخلاقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وفي المرحلة الخامسة تأخذ العقائد. وعند هذه المرحلة تنهار جميع الحواجز ويبدأ الذوبان الكامل. والأمم التي تعي قوانين هذا الذوبان تحاول أن تتجنبه من خلال تجديد دورها في العطاء الحضاري، واستئناف العطاء ليتوفر لها البقاء، والتميز في الداخل، والاحترام وفي الخارج. من ذلك ما لجأت إليه اليابان من خلال تصدير فلسفة زن Zen ورياضة الجيدو، والكاراتيه وصبغ الصناعية اليابانية بأشكال الفن الياباني، ومن خلال المحافظة على القيم والتقاليد اليابانية بما فيها خروج مجلس الوزراء إلى المعبد الرئيسي للبوذية، لتقديم اليمن الدستورية هناك. والأمر الثالث الذي يمثل أهمية الرسالة في حياة الأمة هو أن الرسالة حاجة نفسية -اجتماعية. والأمم التي تحمل رسالة تحفظ وحدتها، وتجنب مجتمعها من الانقسام والتفتت، والحزبية والطائفية، والتصارع من أجل المصالح والعصبيات المحدودة. وتتناب الظاهرتان بشكل كامل بحيث أن غياب إحداهما يؤدي إلى بروز الثانية. ذلك أن الرسالة توحد أفراد الأمة، وجماعاتها حول هدف أسمى يستهلك طاقاتهم، ونشاطاتهم فتختفي الانقسامات والفتن. أما حين تغيب الرسالة فإن الناس تتقاسمهم أهداف فردية، ومصالح عصبية وبذلك تبرز الحزبية والعصبيات وتشيع الفتن، وتتفرق الأمة إلى فئات متنابذة متصارعة. وإلى هذا يشير قوله تعالى: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39] . ولقد علق ابن تيمية على هذه الآية فقال: "قد يكون العذاب من عنده، وقد يكون بأيد العباد. فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله، فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو في الواقع. فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم، وألف بينهم، وجعل بأسهم على عدوهم وعدو الله. وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 لم ينفروا في سبيل الله عذبهم بأن يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض"1. وفي موضع آخر يحذر الله من نتائج التخلي عن حمل الرسالة، وتكاليفها في الإنفاق والجهاد فيقول: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . ولعل مناسبة الآية تلقي ضوءا ساطعا على الأثر المنيع للرسالة، والجهاد في الحفاظ على وحدة الأمة ونجاتها. فحين كان المسلمون على أبواب القسطنطينية، واصطفوا للقتال حمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيه، ثم خرج مقبلا فصاح الناس: سبحان الله ألقى بيديه إلى التهلكة!! فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على غير التأويل. وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. إنا لما أعز الله تعالى دينه، وكثر ناصريه قلنا بعض لبعض سرا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت فلو أننا قمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله تعالى في كتابه يرد علينا ما هممنا به فقال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا فنصلحها. فأمر بالغزو"، فمال زال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله عز وجل"2.   1 ابن تيمية، الفتاوى، التفسير، مجلد 15، ص44، 45. 2 الواحدي، أسباب النزول، ص37، 38. السيوطي، لباب النقول، ص37، نقلًا عن الترمذي وأبي داود وابن حبان والحاكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 دور التربية في تعزيز الرسالة : تتحمل التربية الإسلامية مسئولية كبيرة إزاء بلورة هدف الرسالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ووسائل حملها وغرس الولاء لها. ويمكن القول إن هذه المسئولية تتمثل في أمور أربعة هي: الأول؛ أن تبلور مضمون "رسالة العصر" التي يجب على الأمة حملها. إذ لا يكفي لبلورة الرسالة تلك الصيحات الخطابية التي تتوالى في الكتب والمجلات والصحف، والندوات وفوق المنابر: عودوا إلى الإسلام! وإنما لا بد من هيئات ومؤسسات تربوية، وفكرية ومراكز بحوث جامعية وغير جامعية متخصصة وظيفتها بلورة علوم سياسية، وإدارية ونفسية إسلامية يكون على رأسها كيفية إخراج الأمة المسلمة، وصيانتها من الضعف والتفكك، وتطويرها حسب متطلبات العصور والأجيال. ويتبلور مضمون الرسالة من خلال النظر في خمسة مصادر هي: أ- النظر في حاجات العصر الحاضر. وهو حاضر يشمل قرية الكرة الأرضية كلها. ب- النظر في مصادر قيم الرسالة، والسنة نظرا متحررا من قيود الآبائية والتقليد. جـ- النظر في "تاريخ فقه" الأسلاف المسلمين، وفي "خبرات" غير المسلمين، وما أنجزوه من مظاهر حكمة بناء الأمم نقدا وتحليلا، وإيجابا وسلبا. د- النظر في تاريخ المجتمعات البشرية، وكيف عملت قوانين الخلق -وما زالت تعمل- في تطورها إيجابا وسلبا. هـ- البحث الدائم في الطبيعة الإنسانية، وأساليب تفاعلها مع البيئة المحيطة إيجابا وسلبا. وفي جميع هذه الدراسات والميادين لا بد من -التقويم والمراجعة- المستمرين لنتائج النظر، والبحث المشار إليهما، وتطوير استراتيجيات بناء الأمة وتجديدها في ضوء نتائج المراجعة، والتقويم المشار إليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ومن الطبيعي أن يلحق بمحتوى الرسالة العناية بـ"اللغة" التي تحمل هذا المحتوى وتنقل معانيه إلى الآخرين. وتنفرد الرسالة الإسلامية في هذا المجال في أن شيوع اللغة العربية، والارتقاء بدراستها بين -المؤمنين- بهذه الرسالة أمر ترتقي ضرورته إلى مستوى الرسالة نفسها؛ لأن اتقان اللغة العربية هو وحده الذي يمكن المؤمنين في أي مكان، وزمان من قراءة -اللغة الإلهية- في القرآن الكريم، وقراءة النصوص الأصلية للحديث النبوي، واستخراج حاجات العصر بما يحقق المعاصرة والواقعية والأصالة. ولن تغني الترجمات عن العربية بحال من الأحوال -إلا على سبيل الضرورة المؤقتة- لأن المترجم مهما ارتقى فكره وآداؤه اللغوي -إنما يقدم لقارئيه- فهمه للإسلام -وليس الإسلام نفسه. وكذلك "الفقيه" يقدم لقارئيه فهمه للإسلام، وليس الإسلام نفسه. والوقوف عند فهم الآخرين أمر له خطورته في الفصل بين المسلم، وبين القرآن وفي جمود الحضارة والاجتماع. ويقدم لنا التاريخ الإسلامي الأدلة الوافرة الكافية على أن انتشار اللغة العربية في الأقطار المفتوحة قد أسهم إلى حد كبير في فقه الرسالة نفسها، وتطوير "ثقافة" إسلامية مشتركة شكل إحدى روابط الأمة الفرعية، ودعمت العناصر الرئيسية للأمة وقوتها، وشدتها بعضها إلى بعض وحين انحسرت اللغة العربية من أقطار الإسلام -الواقعة خارج المنطقة العربية- انقطعت شعوب هذه الأقطار عن الاتصال المباشر بالقرآن والسنة، وانحسرت الثقافة الإسلامية المشتركة، وفتح الطريق لعودة "الثقافات" المحلية القديمة غير الإسلامية بقيمها وتقاليدها، وتطبيقاتها المختلفة. والأمر الثاني، أن تعمق التربية الإسلامية في نفوس -المتعلمين- الشعور بالمسئولية إزاء الرسالة، وأهمية العمل الجماعي وعدم الاكتفاء بالتدين الفردي، وأن تنمي فيهم القدرات العقلية، والمهارات العملية اللازمة لحمل هذه الرسالة وتحويلها إلى ممارسات وتطبيقات ناجحة. ولا بد هنا من الانتباه إلى التراث التربوي الذي انحدر من التاريخ الإسلامي وتسلمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 مؤسسات التربية الإسلامية التقليدية، ومضت في تطبيقه دون مراجعة أو تقويم. إذ يكشف النظر في هذا التراث على أنه ينقسم إلى قسمين: التراث الذي انحذر من عصور الازدهار، وفيه نرى العناية بتنمية العمل الجماعي وتنمية الولاء للرسالة، وتراث انحدر من عصور الركود، والجمود وفيه انحسرت التربية من حياة الجماعة لتركز على -إعداد الفرد، -الموالي للمذهب أو الطريقة، ويتهيأ منذ سنوات الولادة للانتقال إلى الآخرة، وكأنه لا يمر بالدنيا. ولذلك اتسمت مؤلفات هذه الحقبة الراكدة بالتوجه إلى -الفرد المسلم لا إلى الأمة المسلمة- وعدم الاشتغال بالمهارات اللازمة للحياة الدنيا. والأمر الثالث، أن تقوم التربية الإسلامية بتجديد المهارات الجهادية، ونوع الجهاد اللازم للزمان والمكان، وأشكال التنظيم، والتخطيط اللازمين لتعبئة القدرات، والمهارات التي تقوم بتنميتها، وأن تهيئ لتوزيع الأدوار بين أفراد أمة الرسالة على أساس الجدارة، والاعتبارات التي تمليها متطلبات حمل الرسالة. والأمر الرابع، تحديد سعة دائرة المسئولية التي يجب إعداد متعلمي الزمان والمكان للعمل داخلها؛ لأن الدائرة النهائية لهذه المسئولية تشمل الإنسانية كلها -كما يذكر الإمام الرازي- فهو يرى أنه ما من شخص إلا ويكون من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم: فإن كان مؤمنًا فهو من أمة الاتباع، وإن كان كافرا فهو من أمة الدعوة، وإن هذا معنى قوله: بعثت إلى الأحمر والأسود1. ومثل الرازي -ابن تيمية- الذي ذكر أن الله ختم الرسل بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأخرج أمته لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وأقام علماءها مقام الأنبياء في تبليغ الرسالة"2.   1 الرازي، التفسير، جـ8، ص146. 2 ابن تيمية، الفتاوى، توحيد الألوهية، جـ1، ص2، 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الفصل العشرون: العنصر الرابع الإيواء معنى الإيواء ... الفصل العشرون: العنصر الرابع الإيواء الإيواء هو العنصر الرابع من العناصر التي تتكون منها الأمة. وللوقوف على تفاصيله لا بد من النظر في أمرين: الأول، معنى الإيواء في القرآن والحديث. والثاني، التطبيقات العملية للإيواء في مجتمع المدينة المنورة زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- باعتبار ذلك المجتمع نموذج التطبيقات المطلوبة في بناء الأمة المسلمة وإخراجها. معنى الإيواء: - أما عن معاني الإيواء في القرآن والحديث فهي كما يلي: - الإيواء بمعنى الوطن، ومكان الإقامة الدائمة. مثل قوله تعالى: {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 19] . - الإيواء بمعنى حسن الاستقبال والتكريم. مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] . {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [يوسف: 99] . - الإيواء بمعنى الرعاية والعناية. مثل قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6] . {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] . {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 - الإيواء بمعنى الاستقرار النفسي والاجتماعي. مثل قوله تعالى: - {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] . وفي الحديث: "ألك امرأة تأوي إليها" مسلم -باب الزهد- 37. - الإيواء بمعنى طلب الأمن والنجاة. مثل قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكف: 10] . {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43] . - الإيواء بمعنى السند والدعم والملجأ والحماية. مثل قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] . {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 26] . - الإيواء بمعنى الراحة والاسترخاء. مثل قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63] . وفي الحديث الشريف: "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي" صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، كتاب فضائل القرآن. وأما عن التطبيقات العملية للإيواء في مجتمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، فهي تتألف من أمرين اثنين كذلك: الأول، ما قدمه الأنصار للمهاجرين من استقبال كريم، وإقامة آمنة مريحة، ومؤاخاة عملية قامت على المشاركة الكاملة في الحياة والعمل والمئونة والمصير. والثاني، ما قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من تنظيم للعلاقات الاجتماعية بين مختلف الجماعات التي سكنت المدينة في زمنه مستهدفا تجسيد -الإيواء- في واقع عملي ينعم الجميع فيه بمقومات العيش الكريم، ويكون -مثلًا أعلى- تقتدي به أجيال الأمة المسلمة من بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 مظاهر الإيواء : تحتاج التربية الإسلامية إلى تعميق الإحاطة بمظاهر -الإيواء- حسب متطلبات الزمان، والمكان في ضوءس الخطوط العريضة التي يوجه إليها القرآن الكريم. وأهم هذه الخطوط ما يلي: أولا: تقدير قيمة الأرض واستعمارها بالطرق التي وجه الله إليها يتكرر التوجيه الإلهي في القرآن الكريم إلى أن الأرض من أعظم نعم الله على الإنسان. والقاعدة الأساسية في الاستفادة من هذه النعمة أن يجد كل إنسان فيها -الإيواء- بمعانيه الشاملة التي مرت، وأن يعطي الجمع الفرصة لاستعمار الأرض والانتفاع بها، وأن لا يجري احتكارها من قبل فئة، أو طبقة أو شعب أو عرق معين. وكل تنظيم للانتفاع بالأرض، ومقدراتها يجب أن ينطلق من هذه القاعدة التي تسعى لتأمين -الإيواء- في الأرض للإنسانية كلها: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10] . {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] . وليتضح -مفهوم الإيواء- وتبين تطبيقاته واضحة جلية، فقد قضت الحكمة الإلهية أن يخرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- جماعة من البشر يدربهم على تطبيق هذا الإيواء، ثم يقدمهم نموذجا محسوسا للإنسانية كلها، وهذه الجماعة المشار إليها هي -الأمة الإسلامية. ويتكرر ذكر الأرض في القرآن الكريم في 466 موضعًا. أما في الحديث الشريف، فقد احتل ذكرها حيزًا يصعب إحصاء عدده. ويمكن تصنيف التوجيهات القرآنية، والنبوية المتعلقة بالأرض إلى أربعة: التوجيه الأول، هو حسن الانتفاع بالأرض كمكان للإيواء والسكن والاستقرار. والثاني، هو حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش والغذاء. والثالث، اشتراك الإنسانية كلها للانتفاع بموارد الأرض وخيراتها. والرابع، حسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الانتفاع بالأرض كمختبر من مختبرات المعرفة الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى. أما تفاصيل هذه التوجيهات فهي كما يلي: 1- حسن الانتفاع بالأرض كمكان للإيواء والاستقرار: الأساس في -الإيواء- أن يتوفر لكل إنسان، مهما كان لونه أو جنسه أو عرقه أو دينه، حاجاته في الاستقرار المادي، والنفسي بغية التفرغ لتحقيق حاجة أعلى هي الحاجة لتحقيق الذات المتمثلة في معرفة الخالق، والإيقان بقدرته وطاعته ومحبته، ثم معرفة الحكمة من النشأة والحياة والمصير. ولتحقيق هذا الهدف خلق الله الأرض للأنام، ووضع في تكوينها كل المقومات والصفات التي تسهم في الوصول إلى هذا الهدف وتحقيقه. ولتحقيق أسباب الاستقرار المادي أحسن الله خلق تضاريس الأرض، وجملها ووفر فيها جميع أسباب الرخاء والراحة، حتى صارت بسهولها وجبالها، ومائها وخضرتها وأجوائها والنباتات والحيوانات، والطيور التي تزينها وتجعل الحياة فيها فراشا ومهدا: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22] . {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف: 10] . {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48] . ولتحقيق أسباب الاستقرار النفسي أرسل الله رسله بالتوجيهات التي ترسخ مقومات هذا الاستقرار وتشيعه. وهذه التوجيهات قسمان: الأول، قيم رئيسة كبرى يتفرع عنها قيم فرعية كثيرة غايتها إشاعة التوافق مع سنن الخلق، وقوانينه لتكون ثمرة هذا التوافق هي الصلاح، والإصلاح المفضيين إلى الاستقرار وتجسيد -الإيواء- في الأرض. وهذه القيم الرئيسة الكبرى هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 1- إشاعة العدل وجعله محور العلاقات البشرية؛ لأن العدل سبب في إرسال الله تعالى للرسل سلام الله عليهم، ومن أجله خلق الله الحديد ليصنع منه السلاح الذي ينصر العدل. وهذا ما يوجه إليه قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] . وأهمية العدل هي أن النفوس الإنسانية -في بيئة العدل- تتصف بالاتزان والموضوعية، وحسن النظر المفضي إلى شهود براهين الإيمان وتعشقه، بعكس الظلم الذي يثير النفور والإحباط، والتطرف والحمية المفضية إلى الكفر. 2- التواضع في الأرض واتخاذه أساسا لشبكة العلاقات الاجتماعية. وأساسه أمثال قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] . والهون هو التواضع ولين الجانب، والمشي هو أسلوب الحياة ومناهجها. 3- التوسط في "إنتاج" موارد الأرض و"استهلاكها". وأساس ذلك أمثال قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] . والأصل الذي تنبع منه هذه القيم الثلاث الرئيسة، وفروعها الثانوية هو -معرفة- الله -وتوحيده في العبادة أي في المحبة والطاعة. أما عن -القسم الثاني- من التوجيهات الإلهية فهي التحذير من -منكرات رئيسة كبرى- تقابل القيم الرئيسة الفاضلة التي مر ذكرها. ومن هذه المنكرات تنبع جميع أشكال الإفساد في الأرض، ويهدم استقرار الإنسان. وهذه المنكرات الرئيسة هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 1- شيوع الظلم في الأرض وسريانه في العلاقات الإنسانية. ويتكرر التحذير من الظلم وآثاره المدمرة للاستقرار النفسي، والمادي في مواضع كثيرة من القرآن والحديث. ويتفرع عن الظلم مضاعفات ضارة لا حصر لها. 2- التكبر والعلو في الأرض وما يتفرع عن ذلك من مضاعفات العصبية والعدوان والبطر. ولذلك يتكرر الحديث عن آثار "العلو" في الأرض، وما جره من دمار على الذين اقترفوه. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: 4] . - {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: 45، 46] . - {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] . - {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] . - {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37] . - {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] . 3- الإسراف في "إنتاج" موارد الأرض و"استهلاك" خيراتها، وما يتفرع عن هذا الإسراف من تخريب، وإفساد والبيئة ومصادر نعم الله وإحسانه، ويتكرر التنديد بالإسراف والتبذير ويرد مقترنا بالعلو في الأرض، ويضع أهله في مصاف الشياطين الذين يتركز فيهم غضب الله ومقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 والمصدر الرئيسي لهذه المنكرات الثلاثة -أو أم المنكر وأشكاله- هو الكفر بالله أو الشرك به، ومعصيته والتنكر لهديه. ويتكرر التحذير في القرآن الكريم من مغبة الإفساد في الأرض، ومن محاربة رسالات الله التي تهدف إلى إشاعة الصلاح في الأرض، وتوفير مقومات -الإيواء- فيها. وحتى لا تكون التوجيهات الإلهية مجرد توجيهات نظرية كان إخراج الأمة المسلمة كطليعة بشرية تتعهد نشر الإصلاح، ومحاربة الإفساد في الأرض، وتهيئة الأرض كمكان للإيواء بمظاهره المختلفة، وتجسيدا للاسقترار النفسي والمادي الموصل إلى الهدف الكبير -هدف معرفة الله ومحبته وطاعته. وخلال عمليات -إخراج الأمة المسلمة- والتوجيه إلى عناصرها، ومقوماتها والغاية من إخراجها يحذر الله سبحانه من عواقب التهاون في هذا الإخراج، وإلى أن القصور فيه، أو الانحراف عن أهدافه سيؤدي إلى شيوع الفتن في الأرض، والفساد الكبير أي هدم مقومات الاستقرار ومظاهر الإيواء. {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] . 2- حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش والغذاء: الأرض أعظم مصادر العيش والحياة بدون منازع. ويعتمد مستقل أية أمة إلى حد كبير على الطريقة التي تستعمل بها الأرض. وحين كان الإنسان يحسن التعايش مع الأرض كانت الحضارات تقوم، وحين يسيء هذا التعايش تنهار الحضارة، وترحل إلى مكان آخر يحسن فيه إنسان آخر التعامل مع الأرض. وهذه قاعدة تنطبق على أكثر من ثلاثين حضارة شاهدتها الأرض1.   1 E.Frtz Schumacher, Small is Beautiful. "New York: Harper & Inc. 1973" PP. 102-103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 والأساس في حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش قاعدتان: الأولى، الإقامة في الأرض حيث تتوفر الحرية -خاصة حرية العبادة: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] . أي هاجروا واستقروا حيث تستطيعون عبادتي عبادلة شاملة غير مجزأة، وعبادة متحررة من الضغوط المادية والنفسية والاجتماعية والفكرية. والثانية، حرية السفر في مناكب الأرض كلها للتجارة والعمل. وإلى هذه الحرية الثانية يشير القرآن بتعابير "الضرب في الأرض" و"السعي في مناكبها". وتتكرر هذه الإشارة في كل من سور البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والمزمل. ولا يجوز أن يحول بين الناس، وبين الضرب في الأرض والسعي في مناكبها والأكل من رزق الله عوائق التقسيمات الجغفراية، والجنسيات العصبية وأيدولوجيات العلو والاستكبار، وأخلاق الجشع والإسراف: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] . ولا يجوز -أيضا- أن تقف المعتقدات الدينية حواجز مادية مانعة أمام الانتفاع بمصادر العيش في الأرض. ولذلك حين دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يخص "المؤمنين" من ساكني البلد الحرام بالأمن، والثمرات -أي بنعمة الإيواء الأمني والمعيشي- جاءه الجواب الإلهي أن هذا -الإيواء- سوف يتمتع به "الكافرون" أيضا في فترة الحياة الدنيا القليلة، ثم يجزون على كفرهم في نار الآخرة: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126] . قال ابن عباس في تفسير هذه الآية1: كان إبراهيم عليه السلام   1 الطبراني، المعجم الكبير، جـ12، ص30، 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 احتجرها دون الناس، فأنزل الله عز وجل ومن كفر أيضا، فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقا لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى النار. ثم قرأ ابن عباس: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} ... ومن نفس المنطلق نزل الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- يأمر أبا بكر أن لا يوقف نفقته على من قذف ابنته عائشة أم المؤمنين، ويأمر الأنصار أن لا يوقفوا إنفاقهم على القربى والأنسباء من اليهود الذين لم يستجيبوا للرسالة -كما مر في صفحة سابقة- لأن توفير -الإيواء- للكافر يهيئ له أنه يتفرغ للتأمل في آيات الله، وبراهين قدرته في الآفاق والأنفس. وتتكرر التوجيهات الإلهية أن يقوم الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش على ما تسميه -أكل الحلال والطليب- والتحذير من أساليب الشيطان التي توجه إلى ما تسميه -الحرام الخبيث: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] . - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] . وللانتفاع بخيرات الأرض منهجان لا ثالث لهما: فإما منهج الله في "الحلال الطيب" الذي يفرز مفاهيم في الاقتصاد تهيئ لجميع الناس الانتفاع الجسدي والنفسي والعقلي، وتشيع التعاون والتكافل بينهم، وتوفر للجميع التمتع بـ"الطيب" من الغذاء المؤدي إلى العافية والكرامة، وإما منهج الشيطان في "الحرام الخبيث" الذي يفرز نظريات في -الإنتاج والاستهلاك- تصيب البشر كلهم بالضنك النفسي والجسدي والعقلي، وتشيع الاستغلال والاحتكار، والابتزاز ونهب مقدرات الأفراد والشعوب لصالح أقليات مترفة تاركة للأكثرية الرديء -أو الخبيث- من الغذاء الجالب للأسقام، ومضاعفات المجاعات، والفتن في الأرض والفساد الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ويوجز الرسول -صلى الله عليه وسلم- الآثار المتبادلة للمنهجين بقوله: "ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث" 1. ويفصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- التوجيهات القرآنية المتفرعة عن منهج "الحلال الطيب"، وتطبيقاتها العملية في أحاديث كثيرة جدا يصعب حصرها منها ما يلي: - "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" 2. - "ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغراس" 3. - "إذا قامت القيامة، وبيدك غرسة فاغرسها" 4. كذلك يوجه -صلى الله عليه وسلم- إلى وجوب إزالة المعوقات التي تحول دون استثمار الأرض وزراعتها. وأهم هذه المعوقات احتكارها ممن لا يزرعون ولا يعملون. - "من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها، فيلمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه" 5. - "من كانت له أرض فليزعها أو فليحرثها أخاه، وإلا فليدعها" 6. - "وعن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ"7.   1 صحيح البخاري، كتاب الأشربة. 2 صحيح البخاري، كتاب الحرث. ومثله: صحيح مسلم، كتاب المساقاة والمزارعة. 3 مسند أحمد، جـ5، ص415. 4 مسند أحمد، جـ3، ص184، 191. 5 صحيح مسلم "شرح النووي"، جـ10، باب كراء الأرض، ص197. 6 نفس المصدر، ص199. 7 صحيح مسلم، جـ10، باب كراء الأرض، ص197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وعن نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه، فبلغه أن رافع بن خديج يحدث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك، فدخل عليه وسأله فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن كراء المزارع فتركها ابن عمر بعد1. ويلحق بالمعوقات التي تحول دون الانتفاع بالأرض الاستيلاء عليها ظلما، وعدم تمكين الآخرين من الاستفادة منها. والتحذيرات النبوية في هذا صارمة وحازمة. منها قوله -صلى الله عليه وسلم: - "من اقتطع أرضا ظالما لقي الله وهو عليه غضبان" 2. - "من أخذ من الأرض شيئا ظلما جاء يوم القيامة يحمل ترابها إلى المحشر" 3. - "من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين" 4. وأبشع أنواع الظلم المعاصر هو استغلال النفوذ للاستيلاء على الأرض، وتحويلها إلى سلعة تجارية باهظة الثمن، لا يقدر على دفعه إلا من أفنى عمره بالكد القاسي في أرداء الأرض كلها من أجل الحصول على مأوى لا يتعدى المائة متر مربع. ويرتبط بهذه التوجيهات ضرورة قيام التربية الإسلامية بإعادة النظر في مفاهيم التملك المطلق، التي أشاعتها عصور الملك العضوض، والقوانين التي بررت استيلاء أصحاب القوة والسلطان على الأرض رغم أنهم لا يعملون. والتربية -هنا- ملزمة أن تبني أصولها على نصوص القرآن والحديث، وتطبيقات السنة وعصر الراشدين. وكل فهم يستبدل فتاوى "علماء السلاطين   1 مسلم، الصحيح، "شرح النووي"، جـ10، باب كراء الأرض، ص202. 2 مسلم، الصحيح "شرح النووي"، جـ2، كتاب الإيمان. 3 الطبراني، المعجم الكبير، جـ22، ص269، رقم 690. 4 البخاري، الصحيح، كتاب المظالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 والخلفاء" في الماضي، أو "علماء الملوك والرؤساء" في الحاضر بنصوص الوحي والسنة الصريحة في عدلها وإرشادها، فإنما يندرج تحت قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} . وحينما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن معنى ربوبية الأحبار والرهبان أجاب أنهم أحلوا الحرام، وحرموا الحلال1. 3- اشتراك الأمة كلها للانتفاع بمصادر الثروة العامة، وعدم احتكارها من قبل فئة أو عائلة أو طبقة: وهي ما يوجه إليه قوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 2. وفي تفسير الطبري أن الحكمة من قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 3. إشارة إلى أن المال للأمة مجتمعة، وليس للبعض دون البعض الآخر. فـ"الباطل" هو أن يحتكره البعض دون البعض الآخر، أو يستأثر بوافره دون الآخرين؛ لأن الأصل في مفهوم الأمة المسلمة أنها كالجسد الواحد، وأن الغاية هي توفير أمنها مجتمعة، فإذا ظهر التفاوت، وصار المال دولة بين الأغنياء وحدهم انعكست آثار ذلك على الجميع، ولم ينج من الأمة أحد، وإنما الأمر يختلف بتوقيت الهلاك حيث يهلك المحرومون أولا ثم يتبعهم المحتكرون. فالأصل في المال أنه لله وأن الأمة كلها مستخلفة عليه، ولها مجتمعة حق الانتفاع به شريطة أن لا يخرج مفهوم المال عن كونه "ماعونًا" يعين الناس على إقامة أمور دينهم ودنياهم. وفي تفسير الصحابة لقوله تعالى:   1 الطبري، التفسير، جـ10 "تفسير آية 31 من سورة التوبة"، ص114، 115. 2 سورة الحشر: الآية 7. 3 سورة البقرة: الآية 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] . هناك تفاسير متنوعة تتكامل جميعها لتقرر وجوب انتفاع الأمة كلها بمصادر الثروة، وعدم احتكارها من قبل فئات أو عائلات أو طبقات معينة. ففريق على رأسه -علي بن أبي طالب- يرون أن الكنز هو كل ما زاد عن أربعة آلاف درهم أوديت فيه الزكاة أم لم تؤد. وفريق على رأسه -أبو ذر الغفاري، وسالم بن الجعد -يرون أن كل ما زاد من المال عن حاجة صاحبه فهو كنز. وفريق على رأسه -عبد الله بن عمر- يرون أن -الكنز- هو كل مال وجبت فيه الزكاة ولم تؤد زكاته1، 2. ولقد قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأشعريين نموذجا يجسد -الإيواء- ويمثل التطبيق الأمثل لمبدأ المشاركة العامة بالثروة. والأشعريون هم جماعة من المسلمين ينسب إليهم الصحابي أبو موسى الأشعري. ولقد كان من "فقههم" لـ"الإيواء" والمشاركة العامة في الثروة أنهم لا يكنزون شيئا دون بعضهم البعض. فإذا انتابهم قحط في أيام السلم أو حلت بهم ضائقة اقتصادية في أيام الحرب جمعوا ما عندهم من الماء والغذاء، ثم اقتسموه بالتساوي.   1 الطبري، تفسير البيان، جـ10، ص117-121. يلاحظ أن مطلع الآية التي تندد بالذين يكنزون الذهب والفضة ابتدأ بتحذير المسلمين من اقتفاء نهج الأحبار والرهبان في هذا الشأن، ثم نددت باللذين يكنزون عامة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] . 2 والرأسمالية -التي هي تجسد عملي- لكنز الذهب والفضة والاحتكار نشأت في أحضان المسيحية، وقيمها الاقتصادية ثم امتدت إلى أرجاء العالم كما أشار لذلك باحثون على رأسهم عالم الاجتماع الألماني ماكس وبر Max Weber. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ولقد وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عملهم هذا بقوله: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم" 1، 2. أي هم على سنتي وهم النموذج الذي يمثل هذه السنة. ولا شك أن كلا من الآية والحديث المذكورين يشير إلى أن الأصل في الاقتصاد الإسلامي هو ضمان حاجات الأمة مجتمعة. ولذلك يتوجب على التربية الإسلامية أن تضع في محور القيم الاقتصادية التي تميها وجوب الاقتداء بأمثال "فقه الأشعريين" و"فقه علي بن أبي طالب" و"فقه أبي ذر وسالم بن الجعد" من الصحابة بهدف بلورة -علم اقتصاد إسلامي ونظم اقتصادية إسلامية قادرة على إعادة التوازن في حاجات الأمة، كلما نزلت بالأمة أزمات اقتصادية أو حدثت في صفوفها فروق طبقية، وهو الأمر الذي عزم الخليفة عمر بن الخطاب على فعله حينما قال: عزمت على أخذ فضول أموال أغنيائهم ورها إلى فقرائهم. والواقع أن تربية الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمجتمع الذي بناه قامت على جعل هذا التوازن الاقتصادي محور الحياة الاجتماعية؛ لأنه يجسد المظهر الاجتماعي للعبادة. وهذا المظهر هو محور صدق العبادة كما تم تفصيل ذلك في كتاب -فلسفة التربية الإسلامية- والأمثلة لهذه السياسة النبوية كثيرا جدًّا. ومن أمثلتها قوله -صلى الله عليه وسلم:   1 صحيح مسلم "شرح النووي" جـ16، كتاب فضائل الصحابة. صحيح البخاري، كتاب المغازي. 2 لا بد للتربية الإسلامية وهي تعمل على رسوخ القيم الاقتصادية العادلة أن تراعي ظروف الزمان، والمكان فيما يخص تطبيق هذه القيم. فإذا كانت وسيلة الأشعريين في التطبيق قد ناسبت مجتمع المدينة الصغير، فإنه تعقيد العلاقات، واتساع المجتمعات يستدعي وسائل مناسبة شريطة الحفاظ على روح المبدأ المشار إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار" 1، 2. والإشارة إلى الموارد الثلاث بالأسماء الواردة في الحديث، إنما هي إشارة إلى مقومات الحياة الرئيسية في تلك البيئة الصحراوية في تلك المرحلة من تاريخ المجتمع الإسلامي. فإذا تبدلت البيئة، وتطورت المرحلة انسحبت حكم الشراكة على -مقومات الحياة الرئيسية- للعيش فيها أيضا. إذ الأساس في -الإيواء- هو توفير الأمن الاقتصادي والاجتماعي المفضي إلى الأمن الديني في مهجر الأمة. وكل ملكية فردية تزول وتتحول إلى الأمة إذا قامت الحاجة لذلك. ومن توجيهات الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك: - "كل شيء سوى جلف هذا الطعام، والماء العذب، أو بيت يظله فضل ليس لابن آدم فيه حق" 3. - "ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتد عليه مئونة الناس، فمن لم يحتمل تلك المئونة للناس، فقد عرض تلك النعمة للزوال" 4. - "إن لله أقواما يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها إلى غيرهم. فإذا منعوهم نزعها منهم فحولها إلى غيرهم" 5.   1 مسند أحمد "تحقيق الساعاتي"، جـ15، ص132، رقم 23. 2 لقد حض الرسول -صلى الله عليه وسلم- على عدم بيع الماء، ونهى عن حجب الزائد منه في عدة أحاديث، ولقد أورد البخاري في كتاب الحرث، ومسلم في كتاب المساقاة، والمزارعة مثل هذه التوجيهات، منها قول جابر: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ضراب الجمل، وعن بيع الماء، والأرض لتحرث. أي تؤجر لتزرع. وفي حديث آخر: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم. رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب. ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم. ورجل منه فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت ما لم تعمل يداك". 3 كنز العمال، جـ3، ص398 نقلًا عن الطبراني في الكبير. 4 كنز العمال، جـ6، ص347 نقلا عن البيهقي في شعب الإيمان. 5 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ6، ص350 نقلا عن الطبراني في الكبير، والحلية لأبي نعيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 - "إن إبليس يبعث أشد أصحابه، وأقوى أصحابه إلى من يصنع المعروف في ماله" 1. 4- حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للمعرفة الموصلة إلى الله تعالى: إن مظاهر الانتفاع بالأرض التي مرت في البنود "1، 2، 3" ليست أهدافا نهائية في ذاتها، وإنما هي أهداف خاصة تفضي إلى هدف عام أكبر وهو -حسن الانتفاع بالأرض باعتبارها أحد مختبرات الآفاق، والأنفس التي يشاهد الإنسان فيها معجزات الله في خلقه وشواهد ربوبيته، وبراهين توحيده في الطاعة والمحبة والولاية. وإلى هذا الهدف العام الكبير يوجه أمثال قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3] . {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] . وتتنوع مظاهر المعرفة التي يوجه القرآن إلى ميادينها في الأرض: فهناك توجيهات إلى علوم "أصل الأنواع" ونشأة المخلوقات. والطريقة التي يرشد إليه القرآن في هذا الميدان هي السير في الأرض، ودراسة ما على سطحها من كائنات ومخلوقات: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20] . وهذا المنهج طبقه -دارون- حين سار في الأرض مبتدأ من جنوب أمريكا الجنوبية، ولكنه -بسبب منهج المعرفة الذي يفصل بين الوحي والعقل والحواس- ضل الفهم وأخطأ تفسير ظواهر الخلق التي درسها، واليوم يكتشف العلماء الكثير من أخطاء دارون، ومنهجه في البحث، ولكن يبدو أنه اكتشاف متأخر؛ لأن آثار أخطار دارون قد ترسخت في تطبيقات أفكاره في   1 المصدر نفسه، ص349 نقلا عن الطبراني في الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية والأخلاق والقيم، وأفرزت آثارا مدمرة في حياة الفرد وعلاقات الجماعات. وهناك توجيهات إلى مختلف العلوم الطبيعية المتعلقة بالأرض، والكواكب وما على الأرض من كائنات حية وجامدة. ومن أمثال هذه التوجيهات: - {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] . ولقد اكتشف البشرية بعض أدوات هذا الإمساك المتمثلة في الجاذبية وقوانينها، ولكن افتقارها لتوجيهات الوحي أعمالًا عن -الحق- في هذا الاكتشاف. - {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5] . - {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] . وهناك توجيهات إلى علوم الاجتماع البشري الذي جرى على الأرض، ودعوة للتنقيب في آثار المجتمعات السابقة، واكتشاف الأسباب التي أدت إلى انهيارها، وعمل سنن الله فيها: - {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وخلال هذه التوجيه يلفت القرآن الكريم الانتباه إلى أن كثيرًا من الأجيال السابقة قد عمرت الأرض، وجعلت العلوم التي ساعدتها على التمكين في الأرض غاية بذاتها، وفرحت بها وتكبرت وبطرت وانصرفت عن الغاية الكبرى -وهي طاعة الله وتجسيد هذه الطاعة في- الإصلاح في الأرض -فكان مصيرها أن نزل بها ما كانت تستهزئ بالآخرين منه من ضعف، وتخلف وانهيار. وهذا هو الخطر الذي يتهدد الحضارة الحديثة التي فتنها التقدم العلمي والتكنولوجي فراحت تحارب الله ورسله في كل الميادين، وترتكب نفس الخطأ في الفرع بالعلم، والوقوف عند ثمراته المادية دون الانتقال إلى غاياته الإيمانية. - {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 82، 83] . وتتكرر الدعوة إلى السير في الأرض شريطة أن تكون غايات هذا السير استعمال أدوات المعرفة من العقل والسمع، والبصر للبحث عن مظاهر الحق خلق الأرض لا سير الغافلين عما يرون ويسمعون، الباحثين عن المتع الدنسة، والشهوات الهابطة: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] . والمحصلة النهائية لهذا السير في الأرض والبحث في خلقها، وما عليها والأحداث التي جرت فوقها هي تخريج نوع من البشر يبقون في -قراءة- دائمة لآيات الآفاق والأنفس، وذكر دائم جوهره: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ثانيًا: تقدير قيمة العمل اليدوي، وتربية المسلم عليه وتدريبه على مهاراته: لا بد للتربية الإسلامية أن تجتهد في تنمية حب العمل -خاصة اليدوي منه- وجعله من محاور القيم في الأمة، واعتباره الوسيلة الكريمة للعيش الكريم حتى لا يفسح المجال للوسائل غير الكريمة، التي تنال من عنصر -الإيواء- وتفسده. ولا بد للتربية الإسلامية أن تنفر من العجز والكسل اللذين عززهما قيم العصبية القبلية التي تجيز الغزو، وتحتقر العمل وتجعله من مهام الخدم، والعبيد والمستضعفين. فالعجز مبغوض من الله ورسوله. ومن أمثال ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل ليلوم على العجز، قابل من نفسك الجهد، فإن غلبت فقل: توكلت على الله وحسبي الله ونعم الوكيل" 1. وقوله أيضا: "خير الكسب كسب يدي العامل إذا نصح" 2. وقوله كذلك: "إن الله يحب المؤمن المحترف" 3. وسئل -صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أزكى؟ قال: "كسب المرء بيده" 4. وعن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فشكا إليه الفاقة. ثم رجع فقال يا رسول الله: لقد جئتك من عند أهل بيت ما أراني أرجع إليهم حتى يموت بعضهم! قال فقال له: - "انطلق هل تجد من شيء"!   1 الطبراني، المعجم الكبير، جـ8، ص112، رقم 7475. 2 البيهقي، الجامع لشعب الإيمان، جـ3، ص434. 3 البيهقي، نفس المصدر والصفحة. 4 البيهقي، نفس المصدر، جـ3، ص437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 قال: فانطلق فجاء بحلس وقدح، فقال: يا رسول الله هذا الحلس كانوا يفترشون بعضه ويكتسون بعضه، وهذا القدح كانوا يشربون فيه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: - "من يأخذهما مني بدرهم"! فقال رجل: أنا يا رسول الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: - "من يزيد على درهم"! فقال رجل: أنا آخذهما باثنين. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: - "هما لك"! فدعا الرجل فقال له: - "اشتر بدرهم فأسا وبدرهم طعاما لأهلك"! قال: ففعل، ثم رجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: - "انطلق إلى هذا الواي فلا تدع حاجا، ولا شوكا ولا حطبا، ولا تأتيني خمسة عشر يومًا! "الحاج: نوع من الشوك". قال: فانطلق فأصاب عشرة دراهم. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: - "فانطلق فاشتر بخمسة طعام لأهلك، وبخمسة كسوة لأهلك"! فقال: يا رسول الله بارك الله في فيما أمرتني. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: - "هذا خير من أن تجيء يوم القيامة وفي وجهك نكتة المسألة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي دم موجع، أو عزم مفظع، أو فقر مدقع" 1! ولا بد للتربية الإسلامية أن تزكي القيم الاجتماعية من المفاهيم   1 البيهقي، الجامع لشعب الإيمان، جـ3، ص404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 الخاطئة للزهد التي عززت الرضى بالفقر، وجعلته من سمات الصلاح والصالحين. فالمؤمنون مدعوون -في القرآن- للسعي في مناكب الأرض -أي مراكز الثقل الاقتصادي فيها- لجمع المال، فإذا جمعوه بالأساليب المشروعة الكريمة زهدوا به فأنفقوه وانتفعوا به، ونفعوا غيرهم بالأساليب المشروعة التي تحفظ الكرامات، ولا توقع تحت ضغوط الفاقة والحاجة. فهذا هو مفهوم الزهد الذي وجه إليه -صلى الله عليه وسلم- حين علم أصحابه أن الزهد ليس بإضاعة المال، وتحريم الحلال وإنما الزهد أن يكون المؤمن أوثقف بما في يد الله مما في يده، فيعتدل في جمعه ويسهل عليه إنفاقه1. وتتكرر التوجيهات النبوية في هذا المجال حتى لا تدع مجالا للغموض أو اللبس. من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: - "خيركم من لم يترك آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كلا على الناس". - "من استطاع منكم أن يقي دينه وعرضه بماله فليفعل". - "إن الفاقة لأصحابي سعادة، وإن الغنى للمؤمنين في آخر الزمان سعادة". - "يا جابر لا عليك أن تمسك عليك ما لك فإن لهذا الأمر مدة" 2. - "يأتي على الناس زمان من لم يكن معه أصفر ولا أبيض لم يتهن للعيش". - "إذا كان آخر الزمان لا بد للناس فيها من الدراهم، والدنانير يقيم الرجل بها دينه ودنياه" 3.   1 الترمذي، السننن كتاب الزهد، ابن ماجه، السنن، كتاب الزهد. 2 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ3، ص238-240. 3 الطبراني، المعجم الكبير، جـ20، ص278، 279، رقم 659، 660. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ولقد وعى فقهاء الصحابة هذه التوجيهات، فعملوا على إشاعتها وتدريب الرعية عليها. أتى عمر بن الخطاب على قوم فقال: ما أنتم؟ فقالوا: نحن المتوكلون، فقال: بل أنتم المتكلون "أي المتكلون على أموال الناس". ألا أخبركم بالمتوكلين؟ رجل ألقى حبه في بطن الأرض ثم توكل على ربه1! وعن عمر أيضا أنه قال: يا معشر القراء! ارفعوا رءوسكم فقد اتضح الطريق، استبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالًا على المسلمين2. وعن نافع قال: دخل شاب قوي المسجد، وفي يده مشاقص "نصل سهم" وهو يقول: من يعينني في سبيل الله؟ قال: فدعا به عمر فأتي به فقال: من يستأجر مني هذا يعمل في أرضه؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا أمير المؤمنين! قال: بكم تأجره كل شهر؟ قال: بكذا وكذا. قال عمر: خذه فانطلق به. فعمل في أرض الرجال أشهرا، ثم قال عمر للرجل: ما فعل أجيرنا؟ قال: صالح يا أمير المؤمنين. قال: ائتني به وبما اجتمع له من الأجر! فجاء به وبصرة من دراهم. فقال عمر للشاب: خذه هذه فإن شئت الآن فاغز، وإن شئت فاجلس3! كذلك وعى هذه المفاهيم بعوث المسلمين الثقافية، وعلموها للشعوب التي خرجوا إليها. من ذلك ما وجه إليه معاذ بن جبل معلم الشام، واليمن حين قال: "يا ابن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمها   1 البيهقي، الجامع لشعب الإيمان، جـ3، ص417، 418. 2 البيهقي، نفس المصدر والجزء، ص418. 3 البيهقي، نفس المصدر والجزء، ص419. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 انتظامًا، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة، وأنت من الدنيا على خطر"1. ومثله ما وجه إليه علي بن عتام حين قال: "ما أحب إلي أن يكون المسلم محترفا. فإن المسلم إذا احتاج أول ما يبذل دينه"2. والواقع إن القعود عن العمل وجمع المال والسيطرة على موارده من قبل غير المؤمنين أضر بالإسلام والمسلمين، والناس أجمعين في الداخل والخارج. ففي الداخل أخرس ألسنة العلماء عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وعن مواجهة الظالم بظلمه، بل تحول الكثير منهم إلى أدوات تبرر الظلم وتسوغه. أما في الخارج فإن حاجة الشعوب والأمم إلى المال أجبرتها في كثير من المواقف، والسياسات إلى التنازل عن كراماتها واستقلال، وقيمها في الفضائل الإنسانية. والمترفون عادة يجزئون مفهوم الدين -من خلال علمائهم أو سحرتهم- فيفصلون بين المظهر الديني للعبادة، وبين المظهر الاجتماعي، ويفرغون المصطلحات الدينية من محتوياتها الاجتماعية، ثم يؤولونها بمعان غيبية لا علاقة لها بالواقع، ويصرفون الأفهام عن "الأعمال" إلى "الأشكال"، ويجعلون الزهد رضا بالفقر والفاقة وانتظارا لنعيم الآخرة وعدلها، والمخدوعون لا يفطنون إلى أن سد هذه الحاجات الدنيوية يهدم هذا الجسر، فيسقط في جهنم الدنيا والآخرة سواء. ولذلك دعا إبراهيم عليه السلام أن يرزق الله ذريته التي أسكنها بواد غير ذي زرع من الثمرات، لعلهم يشكرون ويصلون ويسبحون.   1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب الجهاد، جـ28، ص396. 2 البيهقي، الجامع لشعب الإيمان، جـ3، ص437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ولا بد للتربية أن تتوسع في تشخيص -المشورات المدمرة- التي قدمها خبراء التربية الغربيين للأقطار الإسلامية في العصر الحديث، وكان من ثمارها تنظيم المناهج وبناء آلاف المدارس، والجامعات التي تخرج الآلاف من المختصين بتحليل شعر بعر الآرام، ووصف المواقد ومرابض الجمال، والغزل والمدح والتشبيب، وتاريخ الغزوات القبلية، والفتن بينما لم يؤسسوا إلا مدرسة زراعية أو صناعية واحدة تقام في زاوية معزولة من زوايا القطر النائية، ثم لا يجد خريجوها العمل ولا الاحترام، ويكونون عينة مرعبة لما سيكون عليه المتخصص في الزراعة أو الصناعة. ومثلها مشورات خبراء الإدارة التي كدست آلاف الموظفين في الدوائر الحكومية، ليتقاسموا أعمالًا روتينية يمكن أن تقوم بها حفنة قليلة منهم. ومثلها مشورات الخبراء العسكريين التي كدست مئات الألوف من أبناء القرى، والبادية في المعسكرات ولا عمل لهم إلا طوابير الصباح والتفيش على الأحذية الملمعة، والذوقون المحلوقة الناعمة والقبات المكوية. وتظل جميع هذه الفئات فريسة العجز، والكسل بانتظار آخر الشهر لاستلام رواتب ورقية لم يعرقوا من أجلها قطرة من عرق. فكانت نتائج تلك المشورات كلها اقتلاع المسلم المعاصر من الأرض، ثم تحويله -في أحسن أحواله- إلى رقيق متجول في الأقطار بحثا عن رزق "الوظيفة" المحدود. أما الأغلبية الساحقة من أقطار المسلمين، فقد تحولت إلى مستودعات تعج بالجائعين الذين ينتظرون قوافل الإعانات الدولية، وهيئات الإغاثة والجمعيات التبشيرية. ثالثا: والمظهر الثالث لعنصر "الإيواء" هو تنمية قيم الاستقرار والزواج، وتكوين الأسر، وما يتفرع عن ذلك من توفير للسكن، ووسائل المواصلات واعتبار الموجود منها في عداد الملكية العامة إذا اقتضت الظروف ذلك: وتقدم التوجيهات النبوية أصولًا لمثل هذه القيم من ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عنه -صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 "من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له. ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له" ... قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل"1. وفي موقف أخرى يحذر -صلى الله عليه وسلم- من مستقبل الاحتكار في وسائل النقل وفي المسكن. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تكون إبل للشيطان، وبيوت للشياطين. فأما إبل الشياطين فقد رأيتها. يخرج أحدكم بجنيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيرا منها، ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله. وأما بيوت الشياطين فلم أرها" 2. والإشارة إلى الإبل رمز لوسائل المواصلات، وهي تتغير بتغير العصور وتقدم التكنولوجيا ومثلها الإشارة إلى البيوت. ومعنى -لم أرها- أي لم توجد زمن الرسول، وإنما ستأتي في أزمان بعده حين يحتكر المأوى، ويمتلك أناس عشرات المنازل الفارغة، والمباني الشاهقة بينما ملايين المسلمين يأوون إلى الخرائب، ويفترشون الطرقات، وتكون هجراتهم في الأرض في سيبل المأوى والغذاء. غير أن بناء المساكن وإقامة المباني في القيم الإسلامية محدودة بحدود الغايات الكبرى من -الإيواء. فالبناء يكون في قمة الأعمال الصالحة إذا كان الهدف منه إيواء المحتاجين للمأوى، وجمع قلوب الأمة على الصلاح والعدل والتعاون. ومن هذا المنطلق كان الترغيب في بناء المساجد، والبنايات التي يأوي إليها المحتاجون والتوجيهات النبوية في ذلك كثيرة ومتنوعة. من ذلك قوله: - "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتًا في الجنة" 3.   1 مسلم، الصحيح، "شرح النووي"، جـ12، ص33. 2 أبو داود، السنن، جـ3، باب الجهاد، ص39. 3 صحيح مسلم، فضل بناء المساجد، باب الزهد. صحيح البخاري، باب الصلاة، باب التطوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 - "وإن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما ينشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحق من بعد موته" 1. أما أن تكون المساكن والأبنية إظهارا للعلو في الأرض، وتجسيدًا للطبقية والترف، وتمييزا للأغنياء عن الفقراء، وتعطيلًا لمساحات واسعة من الأرض عن الزراعة والغرس، فذلك عبث ولهو طائش من يقترفه خارج عن تقوى الله وطاعته. {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 128-131] . ولقد فسر ابن عباس وتلميذه مجاهد: الريع، بأنه كل مكان مشرف من الأرض مرتفع. والآية: البنيان. والعبث، البناء لمجرد التفاخر. والمصانع: القصور المشيدة2. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يجرد من الأجر كل إنفاق على البناء الذي لا حاجة له، أو يستهدف الزينة والمباهاة. من ذلك قوله: - "النفقة كلها في سبيل الله إلا البناء، فلا خير فيه" 3. وعن قيس بن أبي حازم، قال: إنهم دخلوا على الصحابي -خباب- وهو يبني حائطا فقال: إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب4. ولذلك ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه حين يذهب العلم ويفشو الجهل، فإن   1 سنن ابن ماجه، المقدمة. 2 الطبري، التفسير، جـ19، ص94، 95. تفسير ابن كثير: تفسير سورة الشعراء. 3 الترمذي، السنن، باب القيامة. 4 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، الترمذي، السنن، كتاب القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الناس يتنافسون في تشييد البناء تفاخرا ولهوا، حتى إن سكان الخيام في البادية يشاركون في هذه المنافسة. من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: - "من أشراط الساعة إذا تطاول رعاء البهم في البنيان" 1. - "وإذا رأيت الحفاة العراة، الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها، وإذا رأيت رعاء البهم يتطاولون في البنيان فذاك من أشراطها" 2. رابعا: والمظهر الرابع لـ"الإيواء" هو حرمة إقامة الإنسان وعدم طرده أو نفيه من مكان -إيوائه: فالقرآن الكريم يشدد على -حرمة الإيواء- وعدم إخراج الإنسان من سكنه، وموضع استقراره بسبب الخصومات التي تثيرها اختلافات الرأي، أو الولاءات العصبية والانتماءات الحزبية أو المصالح المختلفة. من ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 84، 85] . ولقد استعرض الطبري تفاسير الصحابة، وتلاميذهم لهذه الآية فذكر إن قتل الرجل رجلًا آخر مثل قتل الرجل نفسه. وإن إخراج الرجل رجلا آخر من مكان إيوائه كإخراجه لنفسه؛ لأن الأمة بمنزلة رجل واحد كما قال عليه الصلاة والسلام، وإنهم في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. ويضيف الطبري نقلا عن قتادة قوله في الآية: أي لا يقتل بعضكم بعضا، {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} . ونفسك يا ابن آدم أهل ملتك -   1 صحيح البخاري، كتاب الاستئذان. وكرره في كتاب الفتن، وكتاب الإيمان. 2 صحيح مسلم، كتاب الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 أي أمتك. وعن أبي العالية في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} أي لا يقتل بعضكم بعضا، {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار1. وتتضاعف خطورة نفي الإنسان، وإخراجه من مكان إيوائه إذا كان المنفيون من الرسل والدعاة ورجال الفكر، والعلم الذين يكرسون جهودهم لإصلاح ما أفسد الناس. وإلى هذه الخطورة كانت الإشارة في قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 76، 77] . هذه هي سنة الله التي مضت في جميع الرسالات من قبل، وهي سنة ماضية مستمرة، فحين تخرج الأمم رسلها ودعاتها، وتنفيهم ينزل بها العذاب المدمر، ولن تجد لسنة الله هذه تحويلًا. وعن ابن عباس: إنها نزلت في أهل مكة حين أخرجوا الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه، فعذبهم الله بعد قليل من إخراجه بقتلهم يوم بدر2. خامسا: والمظهر الخامس لـ"الإيواء" هو الربط بين الأمن المعيشي، والأمن الديني يقترن الأمن المعيشي بالأمن الديني اقتران الوسيلة بالهدف. فإذا انهدمت الوسيلة، وتعطلت فاعليتها صعب تحقيق الهدف. ولذلك يوجه القرآن الكريم -في دعاء إبراهيم عليه السلام- إلى أن توفر الأمن المعيشي، والأمن الاجتماعي سبب في عبادة الله وشكره: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا   1 الطبري، التفسير، جـ1، ص394. 2 الطبري، التفسير، تفسير سورة الإسراء "آية 76، 77"، جـ15، ص133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] . وتتكرر توجيهات الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى العلاقة بين العبادة والأمن المعيشي من ذلك ما يرويه أبو واقد الليثي حيث قال: "كنا نأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل علينا فيحدثنا. فقال لنا ذات يوم: "إن الله عز وجل قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون إليه ثان. ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ثم يتوب الله على من تاب" 1. وعند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} . قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعا لم يفرق بينهما -وقرأ الآية- وأبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه! وعن عبد الله بن مسعود قال: أمرتم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له2! فالصلاة -إذن- لا تقوم معانيها في واقع الحياة إلا إذا اقترنت بإيتاء الزكاة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يربط -أيضًا- بين الأمن المعيشي وبني شفاء الإنسان من الجريمة، والشح، والانحراف. وكأن الأمة المسلمة مسئولة عن توفير الوسائل والمأوى اللذين يوفران للمجرمين، والمنحرفين الشفاء من أمراضهم وانحرافاتهم من خلال تلبية حاجتهم التي أدت بهم إلى الانحراف. فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال رجل: لأتصدقن بصدقة. فخرج   1 مسند أحمد "شرح الساعاتي"، جـ5، ص219، الاتحافات السنية بالأحاديث القدسية، نقلا عن أحمد والطبراني في الكبير. 2 الطبري، التفسير، جـ10، ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 بصدقته فوضعها في يد سارق. فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق. قال: اللهم لك الحمد لأتصدقن بصدقة! فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية. فأصبحوا يتحدثون تصدق على زانية. فقال: اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقة فوضعها في يد غني. فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني، فأتي فقيل له: أما صدقتك عن سارق، فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله" 1. سادسًا: والمظهر السادس لـ"الإيواء" هو الربط بين الإيواء، والفاعلية السياسية والإدارية: وحتى يصبح -الإيواء- حقيقة قائمة في الحياة الاجتماعية لا بد من توفير الضمانات الكافية له، وعلى رأسها الوسائل الإدارية، والسياسية التي تضمن للإيواء تحققه واستمراره، ولقد اعتمد تنفيذه في صدر الإسلام على تقوى الحاكم ورسوخه في علمه. من ذلك ما قام به أبو بكر الصديق من رفض حازم لعرض المرتدين لآداء الصلاة دون الزكاة حتى لا تتعطل فاعلية الصلاة في حياة الناس، وتتحول تحت ضغط الحاجات المادية إلى طقوس، وحركات شكلية. ومثله عمر بن الخطاب الذي حرص على أن لا يتميز الخلفاء، والولادة عن غيرهم في مظاهر العيش. من ذلك كتابه إلى أبي موسى الأشعري الذي جاء فيه: "إنما أنت رجل منهم " أي من المسلمين". غير إن الله جعلك أثقلهم حملًا. وقد بلغني أنه نشأ لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك، ومطعمك ومركبك، ليس للمسلمين مثلها. فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصب فلم يكن لها هم إلا التسمن، وإنما حتفها في السمن،   1 صحيح البخاري، باب الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 واعلم إن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شقيت به رعيته"1. وحين كتب إليه عمرو بن العاص من مصر: "إنا قد خططنا لك دارًا عند المسجد الجامع! ". رد عليه الخليفة عمر قائلًا: "أنى لرجل من الحجاز تكون له دار بمصر؟ " وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين"2. ثم حدد صلاحية الحاكم بالنسبة لمال الأمة بقوله: "إني أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت"3. وفي رواية أخرى: "يحل لولي الأمر ما يحل لولي اليتيم، من كان غنيا فليستعف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"4. ومثله ما فقهه علي بن أبي طالب حين قال: "إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، وإن جاعوا وعروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه"5. ولكن التاريخ أثبت إن هذا الحرص الذي التزمه أبو بكر، والاستعفاف   1 كنز العمال، جـ5، ص696 نقلا عن الدينوري. 2 كنز العمال، جـ5، ص687 نقلا عن تاريخ مصر لابن عبد الحكم. 3 الطبري، التفسير، جـ4، ص255. 4 الطبري، نفس المصدر والجزء، ص258. 5 كنز العمال، جـ6، ص528 نقلا عن سنن البيهقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الذي تحلى به الخليفة عمر، والحس الاجتماعي العادل المرهف الذي أوتيه علي رضي الله عنهم لم يتصف به إلا أبو بكر وعمر، وعلي ونفر لم يتعد أصابع اليد. لذلك لا يجوز أن يترك مصير "الإيواء" المعيشي والاجتماعي لتقوى الحاكمين ومشيئتهم، وإنما لا بد أن توجه التربية إلى صون هذا الإيواء وحمايته بالتشريعات، والمؤسسات التي تقيد يد الحاكم، وتجعله عرضة للاستجواب والاستفسار والمحاكمة إن أتى ما يخرق هذا الحرص والاستعفاف والتشريع. كذلك لا يجوز أن تترك صدقات الفقراء لمشيئة الأغنياء، ليبذلوا الفضلات والفتات والدراهم، والقروش التي لا تسد حاجة ولا توقف عوزا، وإنما لا بد من التشريعات، وضرائب الضمان الاجتماعي التي توفر حاجة الأمة في "الإيواء" بالأساليب الكريمة، التي لا تناول من كرامات الناس، ولا تعرضهم للمن والأذى إذا لم تكف الزكاة لذلك1. سابعًا: والمظهر السابع للإيواء هو تكامل أقاليم الأرض التي تقطنها الأمة المسلمة -سواء بالوحدة أو الاتحاد وأهمية هذا التكامل أنه بدونه يستحيل تحقيق الإيواء، وتجسيد تطبيقاته في الأمن المعيشي والأمن الديني، ويستحيل بناء الحضارة الإسلامية، ونجاح مشروعات التنمية. والسبب إن الحضارة -أية حضارة- لا تقوم ولا تزدهر إلا على رقعات الأرض الكبيرة الواسعة. ويقدم التاريخ في الماضي   1 من الموضوعية أن نقول: أن التربية في دول الغرب والشرق -غير المسلمة- قد نجحت في رفع درجة الغيرة على "الإيواء"، وحمايته من تطاول الأقوياء وأصحاب السلطان. في حين روضت مؤسسات التربية والإعلام في العالم الإسلامي -الإنسان- للرضى بقيم العصبية القبلية التي تطلق أيدي الملوك، والرؤساء في مال الأمة فتنفقه كيف تشاء، وتهب من تشاء، وتحرم من تشاء، وإذا راموا بالقليل لأهل الحاجة أشادت مؤسسات التربية، والإعلام بهذه "المكرمات" الملكية والرئاسية، وأطلقت حناجر الشعراء والمفتين والإعلاميين والمغنين والناشئة، واليافعين بالأناشيد والثناء على هذه "المكرمات" والإشادة بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 والحاضر البراهين الساطعة لذلك. ففي الماضي مهدت الفتوحات اليونانية والرومانية، ومن قبلها إلى قيام حضارات هذه الأمم، كذلك مهد الفتح الإسلامي -الذي وحد رقعة واسعة امتدت من شرق آسيا حتى غرب أفريقا وجنوب أوربا- إلى قيام الحضارة الإسلامية وازدهارها. وحين عملت معاول العصبيات القبلية، والعرقية، والطائفية عملها، وجزأت العالم الإسلامي إلى دول متناحرة وأقاليم مراقبة الأبواب والحدود توقف المد الحضاري، ثم انحسر ثم جمد ثم انهار. وفي الحاضر يقدم تاريخ الأقطار الإسلامية الحديثة براهين مماثلة كذلك. فهذه الأقطار التي حرصت -وما زالت تحرص- على تكريس التجزئة، واختراع الكثير من قوانين السفر، والإقامة والعمل التي توفر لهذه التجزئة الدوام والفاعلية، وقعت جميعها تحت غوائل الضعف السياسي، والديون الاقتصادية والاضطراب الاجتماعي رغم ضخامة مصادرها البشرية وثرواتها الطبيعية، وظلت حبيسة التخلف رغم محاولاتها المتكررة للتقدم، والتي مر عليها أكثر من قرنين حتى الآن. كما أن النظر في حاضر الأمم الحديثة الأخرى يقدم الشواهد البينة للعلاقة المتلازمة بين اتساع الوحدات الجغرافية، وقيام الحضارات وازدهارها. فالأقطار التي توحدت أو اتحدت -كما هو الحال في أمريكا وأوربا، والصين واليابان- وفرت "الإيواء" لشعوبها بمختلف مظاهره وأشكاله. فقد وفرت "الإيواء الفكري والعلمي" لعلمائها وطلابها، ووفرت "الإيواء الاقتصادي" لرساميلها وصناعاتها وتجاراتها وثرواتها، ووفرت "الإيواء المعيشي والأمني" لشعوبها. بل إن توفير هذا الإيواء كان عاملا قويا في جذب العلماء، والمبدعين في جميع الكفاءات والمؤهلات من الأقطار الأخرى. وكان من ثمار ذلك كله أن يسرت للحضارة فيها أن تنشأ وتزدهر، وأن تنتشر في الخارج، وصار إنسان هذه الأقطار يتمتع بـ"الإيواء" المحترم والأمن المعيشي، والاعتقادي وحرية السفر، وكرامة الإقامة والعمل في بقاع الأرض كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أما الأقطار التي ظلت حبيسة العصبيات الإقليمية والتجزئة السياسية -كما هو الحال في الأقطار العربية، والإسلامية ونظائرها في أفريقيا وأمريكا اللاتينية- فقد انتفى منها "الإيواء الإنساني"، واضطر علماؤها وطلابها، وشعوبها إلى الهجرة طلبًا للخبز والأمان. وانتفى منها "الإيواء الأمني"، فانهزمت أمام التحديات العسكرية التي طرقتها من خارج، واضطرت قياداتها والعناصر المؤهلة فيها إلى الهروب، واللجوء الساسي بسبب نزاعاتها، وفتنها التي نشبت في الداخل، وانتفى "الإيواء الاقتصادي"، فهاجرت الأموال ورحلت الصناعات، والتجارات والأعمال، وانتفى "الإيواء الوظيفي"، فتمزقت كفاءاتها في الأقطار المتقدمة. وبالتالي انتهت جميع محاولاتها في البناء الحضاري إلى العجز والإعياء، والسقوط قبل أن تصل إلى غاياتها المطلوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 أهمية الإيواء : واستنادًا إلى معاني -الإيواء- ومظاهره التي مرت يتضح دور الإيواء، وأهميته في الأمة التي يوجهها روح هذا العنصر. وتتجلى هذه الأهمية فيما يلي: أولًا: الأمة التي يوجه الحياة فيها عنصر -الإيواء- أمة مفتوحة الأبواب للمؤمنين من جميع الأجناس. فليس هناك حواجز مادية، ولا عوائق قانونية مما تفرزه روابط الدم والإقليم. بل تكون جنسية المسلم هي عقيدته. وبها -فقط- تتحدد مكانته الاجتماعية، وتتيسر إقامته ونشاطاته. ثانيًا: الأمة التي يوجه الحياة فيها عنصر -الإيواء- يتكامل اقتصادها، وتتوحد مواردها. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يجعل هذه الوحدة إحدى العلامات المميزة للأمة المسلمة فيقول: "ليس منا من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم" 1. وإذا كانت تطبيقات الحديث قد تركزت في مجتمع المدينة النبوي على علاقات الجوار الفردي والأسري، فإن هذه التطبيقات تتسع -بعد   1 مسند أحمد، جـ1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 انتشار الإسلام وتعدد أقطار الأمة وشعوبها -لتفرض الوحدة الاقتصادية على جميع أقاليم الأمة، وشعوبها بعد أن أثبت واقع التجزئية أنه انتهى بالأقاليم الغنية، والفقيرة إلى الفقر والديون والأزمات الاقتصادية والاجتماعية. ثالثا: الأمة التي يوجه علاقاتها -الإيواء- تتمحور قيمها حول -المظهر الاجتماعي- للعبادة. وتتوفر فيها فرص الاستقرار النفسي، والأسري والاجتماعي، وتتوفر فيها الخدمات العامة كالتعليم والعلاج، وفرص العمل وكل ما يحمي الإنسان من الجهل، والفقر والمرض وآثار الشيخوخة والنوازل المختلفة. رابعا: حين تسود قيم -الإيواء- في الأمة تتمحور قيمها الإدارية حول "الإعداد والتخطيط" بدل "الارتجال والتفريط" وتعد للمستقبل عدته، وبذلك تحفظ مجتمعها من الأزمات وحضارتها من الانحطاط والانهيارات. خامسًا: حين يشكل -الإيواء- بعض مكونات الأمة، ويغذي مماراساتها لا تسمح بارتفاع الأسعار ارتفاعا ينسف الاستقرار والأمن المعيشي، ويطرد الأفراد في هجرات معاكسة إلى الخارج. فلا سماح أبدًا بزيادة النفقات عن الدخول، ولا مجال للاحتكار، والاستغلال اللذين يهزان أركان الأمة، ويضعفان تماسكها وروابطها. سادسًا: حين يشكل -الإيواء- بعض مكونات الأمة يجري حشد الطاقات البشرية، والمادية ويحسن استخدامها، ويدب الاجتهاد والنشاط في ميادين العلم، والمعرفة المتعلقان بتطوير الاقتصاد وازدهاره، ويترجمان إلى أعمال، ومشروعات لاستثمار ثروات الأرض الزراعية والحيوانية، والمعدنية والطبيعية في ضوء التوجيهات التي توجه إليها مفاهيم "الإيواء" الواسعة المنتشرة في القرآن والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 مسئولية التربية إزاء عنصر الإيواء : تنجلى مسئولية التربية الإسلامية إزاء عنصر -الإيواء- في الأمور التالية: الأول: بلورة مضامين مظاهر الإيواء التي مرت في البحث حسب مقتضيات التطور الاجتماعي، الذي تمر به الأمة زمانا، ومكانا ثم ترجمتها إلى تطبيقات عملية حسب الحاجات والتحديات. والثاني: إفراز المؤسسات العلمية التي تطور مضامين -الإيواء- إلى علوم متخصصة تنمو، وتتشكل حسب حاجات الزمان والمكان. والثالث: اقتراح المؤسسات الإدارية والتنفيذية التي تضمن تجسيد عنصر -الإيواء- في شبكة علاقات اجتماعية تهتدي بالأصول الإسلامية، وتستفيد من تجارب الآخرين وحكمتهم. والرابع: تعميق الولاء لعنصر "الإيواء"، ومؤسساته وتطبيقاته والغيرة عليها من عدان المتسلطين، أو المحتكرين إلى درجة الغيرة على الأعراض والحرمات؛ لأن في غياب الإيواء ومؤسساته، وتطبيقاته تعريض الأعراض للامتهان، والحرمات للتدنيس. والخامس: تطوير مفهوم إسلامي للعمل يحتقر العجز والكسل، ويحارب الجشع والاحتيال ويشيع التعاون والتكافل، ويثمر السعادة بالعيش، والاستمتاع بالعلاقات والمعاملات. والسادس: تطوير -علم اقتصاد إسلامي- تتطابق مفاهيمه، وتطبيقاته مع أصول الإيواء في القرآن، والسنة وتشيع التراحم والمودة والموالاة، وتكريم الإنسان. ولا بد من التوسع في تبيان مضار "اقتصاد السحت" الذي يشير إليه القرآن في ثلاثة مواضع من سورة المائدة: الأول عند قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 43] . والثاني والثالث عند قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 62، 63] . والسحت -في اللغة- معناه: الاستئصال. يقال: أسحت الرجل: استأصل ما عنده. وسحت رأسه: استأصله حلقا. وأسحت ماله: استأصله وأفسده. وفي تفسيره قوله تعالى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61] : أي يستأصلكم بعذاب1. ومسحوت المعدة: إذا كان أكولا لا يلقى إلى جائعا2. وفي الاصطلاح: السحت هو ما خبث من المكاسب وحرم؛ لأنه يسحت البركة أي يذهبها3. والنظر في تفاسير السلف يدل على أنهم فهموا "السحت" في ضوء خبراتهم الاقتصادية التي عرفوها في أزمنتهم وأمكنتهم. وفقد فسره عمر بن الخطاب فقال: ما كان من السحت: الرشا، ومهر الزانية. وفسره أبو هريرة بقوله: مهر البغي سحت، وعسب الفحل سحت4، وكسب الحجام سحت، وثمن الكلب سحت، وفسره ابن مسعود فقال: من شفع شفاعة ليرد بها حقا أو يرفع بها ظلما، فأهدي له فقبل فهو سحت. وفسره علي بن أبي طالب فقال: "في كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب، والاستعجال في القضية، وحلوان الكاهن، وعسب الفحل، والرشوة في الحكم، وثمن الميتة من السحت"5.   1 ابن منظور، لسان العرب، جـ2، باب التاء. 2 الطبري، التفسير، جـ6 "تفسير آية 42 من سورة المائدة". 3 ابن منظور، المرجع السابق. 4 عسب الفحل: الثمن الذي يؤخذ مقابل تلقيح فحل الحيوان من الخيل، والجمال للإناث منها. 5 الطبري، التفسير، جـ6، ص239-241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أما الرازي فقد قال في تفسير الآيتين الأخيرتين: "المسارعة الشروع بسرعة، والإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداه إلى غيرهم، وأما أكل السحت، فهو أخذ الرشوة. والأصل في لفظ المسارعة أنه يستعمل في القرآن في الخير مثل: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ، و {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} . فهم يقدمون على هذه المنكرات، وكأنها خير يحق لهم أن يسارعوا فيه. والربانيون هم العلماء القائمون على تربية الأمة وإدارة شئونها، والأحبار هم العلماء القائمون على توجيهها وتعليمها1. ولقد ذم الله الفريقين؛ لأنهم تركوا النهي عن اقتراف الشرور الثلاثة التي مر ذكرها ثقافة وعلما، ونكصوا عن محاربتها فعلا وإدارة، واستعمل في الأولى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وفي الأحبار والربانيين التاركين للنهي عن المنكر: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ؛ لأن الصنع أقوى من العمل. فالعمل إذا صار مستقرا راسخا متمكنا يسمى صناعة. فهم ساعدوا -بصمتهم- على رسوخ هذه المنكرات. ولذلك قال ابن عباس عن هذه الآية: هي أشد آية في القرآن. وعن الضحاك: ما في القرآن أخوف عندي منها2. وحين ننظر -نحن أهل القرن العشرين- في الآيات الثلاث في ضوء خبرات زماننا نجد أن الآيات المذكورة توجه التربية الإسلامية إلى التمركز في قلب الاجتماع الإنساني، والعمل على تجسيد "الإيواء" في واقع نظيف من "اقتصاد السحت" و"ثقافة الإثم والعدوان" المؤديين إلى حرمان الإنسان من طمأنينة العيش و"ماعون" العبادة. ولتقوم التربية بهذه الوظيفة لا بد أن تقوم بما يلي:   1 هكذا فسر معني الربانيين، والأحبار كل ما من الطبري والقرطبي "آل عمران: 79"، وابن كثير، والشوكاني. 2 الرازي، التفسير، جـ12، ص39. الطبري، التفسير، "سورة المائدة: آية 44". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 1- إبراز خطورة "ثقافة الإثم" وتطبيقاتها في النظم ومضاعفاتها في التقاليد والعادات، والممارسات التي يسقط عنها مفكروا الحضارة الحديثة، ووسائل الإعلام صفات افثم ويحيلونها -بسحر الكلمة والصورة- إلى فضائل ومظاهر تقدم وتحرر. 2- إبراز خطورة "اقتصاد السحت" الذي يسحت -أي يستأصل- مصادر العيش المادية والفضائل، والروابط الإنسانية بوسائله وأدواته الكثيرة المتعددة مثل: أشكال الربا المركب، وإشاعة الجشع، والاحتكار ومضاعفاتها في الصراع والطبقية والترف، والفقر والاغتراب النفسي، وتجارة الحروب، والمضاربات المؤدية إلى الإفلاس والديون و"سحت" موارد الأمم وإشاعة الأزمات الاقتصادية العالمية. ومثلها تجارة الفواحش في السينما، والسياحة وما يشتملان عليه من تسويق للجنس المحرم، واللهو الماجن في الفنادق، ودور الرقص والتمثيل، ومثلها أيضا تجارة السجائر والخمور، والمخدرات التي يروج لها في محطات الإذاعة والتلفزيون ومثلها تجارة أشرطة الفيديو، والكاسيت وأنماط الدعاية والإعلان والتأليف، والصحافة التي تزين ذلك كله، وتغري الناشئة باقترافه وممارسته. 3- إبراز خطورة "العدوان" الذي يجسده -في الداخل- الظلم والتطفيف والاحتكار وأكل الحقوق، والمصادرات والضراب الباهظة. وفي الخارج يجسده شن الهجمات العداونية على الجماعات، والشعوب والقارات الأخرى لـ"سحت" اقتصادها، واستئصال موارد عيشها وتخريب بيئاتها. 4- إبراز خطورة سكوت -العلماء ورجال الفكر- عن نقد نظريات "الإثم" في الثقافة، والتربية وتطبيقات "السحت" في الاقتصاد و"العدوان" في السياسة والإدارة. وغني عن القول أن التحذير الموجه إلى -الأحبار، والربانيين من أهل الإنجيل وأهل التوراة إنما يمتد إلى -فقهاء وعلماء أهل القرآن- الذين يتجاهلون المظهر الاجتماعي للعبادة الناهي عن "ثقافة الإثم" و"اقتصاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 السحت" و"سياسة العدوان"، والداعي إلى تمركز الدعوة في قلب الاجتماع البشري، وإلى توجيه "الأعمال"، وشبكة العلاقات الاجتماعية بدل إلهاء الناس بالحديث عن "الأشكال" في الهيئة واللباس والطقوس، والغيبيات التي لا أثر لها، وتبرير ممارسات السلطة الظالمة، وتمنية المظلومين بالعدل الأخروي، وجوائزه في الصبر على المظالم، والمرض، والجهل، والفقر. وحين تقوم التربية الإسلامية بمسئولياتها التي مر ذكرها، فسوف تبرز اجتهادات وتطبيقات تجسد "الإيواء"، وتحققه في عالم الواقع بدل أن يبقى مجرد شعارات نظرية يتباهى "الخطباء" بوجودها في كتب "الإسلام" وأسفاره، وتفتقر مجتمعات "المسلمين" إلى تطبيقاتها وممارساتها. وسوف يبرز كثير من التطبيقات الحديثة الموازية للتطبيقات، التي مثل لها أمثال عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود: فاعتبار "كسب الحجام" مظهرًا من مظاهر "السحت" في الماضي يؤدي بالضرورة إلى -مجانبة الطب- في الحاضر، ومثله اعتبار ثمن "الشفاعة التي ترد الحق وترفع الظلم" مظهرًا من مظاهر "السحت" في الماضي يؤدي إلى -مجانية المحاماة- في الحاضر. واعتبار "مهر البغي" مظهرا من مظاهر "السحت" في الماضي سوف يؤدي إلى إعادة النظر في صناعة السينما والسياحة، والفيديو والكاسيت في الحاضر، وتنظيفها وتحليتها بما يوفر الرزق الكريم والترويح البريء العفيف في الحاضر، وهكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الفصل الحادي والعشرون: العنصر الخامس النصرة معنى النصرة ... الفصل الحادي والعشرون: العنصر الخامس النصرة النصرة هي العنصر الخامس من العناصر المكونة للأمة المسلمة. وللوقوف على مضمون هذا العنصر لا بد من النظر في أمرين: الأول، معنى النصرة في القرآن والحديث. والثاني، المناسبات التي اقترنت بالتوجيهات التي عالجت هذا العنصر، والتطبيقات التي جسدته في مجتمع النبوة والخلفاء الراشدين. معنى النصرة: يتردد ذكر مصطلح -النصرة- ومشتقاته في القرآن، والحديث لتعني ما يلي: - النصرة بمعنى اتباع دين الله والجهاد في سبيله، وطاعة أوامره واجتناب معاصيه. مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] . - النصرة بمعنى التأييد والمساعدة على التفوق والغلبة. مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] . {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] . - النصرة بمعنى المؤازرة. مثل قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وفي الحديث: "النساء ينصر بعضهن بعضا". البخاري -كتاب اللباس. "من نصر قومه على غير حق فهو كالبعير". أبو داود -السنن، كتاب الأدب، 82. - النصرة بمعنى الحماية. مثل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} [هود: 30] . {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] . - النصرة بمعنى مساندة الحق وإشاعة العدل. مثل قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25] . - النصرة بمعنى الثأر ودفع العدوان. مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] . {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] . وفي الحديث: "دونك فانتصري" 1. "من دعا على من ظلمه فقد انتصر" 2. - النصرة بمعنى منع الظلم ودفعه إذا وقع. مثل قوله -صلى الله عليه وسلم: "أمرنا بعيادة المريض ونصرة المظلوم" 3. "من أذل عنده مؤمن فلم ينصره، وهو يقدر على نصره أذله الله على رءوس الأشهاد يوم القيامة" 4.   1 مسند أحمد، وسنن ابن ماجه، باب النكاح. 2 سنن الترمذي، كتاب الدعوات. 3 سنن النسائي، كتاب الجنائز. 4 مسند أحمد "شرح الساعاتي"، جـ19، ص69، رقم 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 "يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوما فقدر على أن ينصره فلم ينصره" 1. أما عن المناسبات التي اقترنت بالتوجيهات القرآنية، والنبوية التي عالجت عنصر النصرة وأدرجته في العناصر المكونة للأمة الإسلامية فهي -أولًا- ذلك الالتزام الكامل الذي قام به الأنصار قولا، وعملا لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونصرة المهاجرين معه، ومن أجل ذلك أطلق عليهم اسم -الأنصار، وهي -ثانيًا- تلك التضحية الكاملة التي قدمها المهاجرين حين اقتلعوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي، وثقافته اقتلاعا كاملا ثم أوقفوا هذه الأنفس لنصرة دين الله سبحانه وتعالى، وهي -ثالثا- إقامة الفريقين مجتمعين لمعاني الإسلام في واقع حياتهم في المجتمع النبوي والراشدي، ثم الخروج إلى العالم كله لإقامة هذه المعاني في حياة الآخرين.   1 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ3، ص505 نقلا عن الطبراني في المعجم الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 مظاهر النصرة : يتحقق عنصر -النصرة- في حياة الأمة المسلمة من خلال المظاهر التالية: 1- نصرة "الأفكار" الرسالة الإسلامية في مواجهة طغيان "الأشخاص"، وزخرف "الأشياء": وتفصيل ذلك كالتالي: يتكون كل مجتمع من ثلاثة عناصر رئيسية هي: الأفكار والأشخاص والأشياء. وتكون الأمة في أعلى درجات الصحة حين تكون "نصرة" الأفكار هي المحور الذي يدور في فلكه "الأشخاص والأشياء". ففي هذه الحالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 يخلف "أشخاص" المؤمنين الرسول في نصرة أفكار الرسالة، فتظهر -الخلافة- وتتحدد مواقع الأفراد، ووظائفهم طبقا لمقياسين: الأول، مدى القدرة على حمل الرسالة أي فقهها وتطبيقها. والثاني، مدى الإخلاص في هذا الحمل. والقرآن يطلق على كل من القدرة والإخلاص اصطلاحي: القوة، والأمانة. وذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} . وفي آية أخرى يسميهما: التمكين، والأمانة. وذلك عند قوله تعالى: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} . والقوة هنا تعني -الجدارة- وهي شاملة ذات مظاهر عديدة. فهي في ميدان الحكم تدور حول العلم بالعدل كما دل عليه القرآن والسنة، وحول القدرة على تنفيذ الأحكام. والقوة في ميدان العسكرية تدور حول شجاعة القلب والخبرة العسكرية. وهكذا في بقية ميادين الحياة كالتربية والإدارة، والاقتصاد والصناعة وغيرها. أما -الأمانة- فتدور حول الولاء الذي من أجله تبذل القدرة. أهو لـ"أفكار" الرسالة أم لـ"الأشخاص" أم لـ"الأشياء"1!!؟ ويتسرب الخلل إلى عنصر -النصرة- حين تطغى نصرة "الأشخاص" على نصرة "الأفكار". والتطبيقات العملية لهذا الطغيان تتمثل في -امتلاك- أصحاب العصبيات الأسرية أو القبلية أن الطائفية، أو العرقية أو الإقليمية لـ"الأفكار والأشياء"، ثم توظيفهما معا لدعم مكانة "أشخاص" العصبيات ونفوذهم. فيظهر -الملك- بدل -الخلافة- وتتحدد مراكز الأفراد ووظائفهم طبقات لمدى استعمالهم لصفتي: القوة، والأمانة في خدمة هذه العصبيات. وهذا ما حذر أبو بكر الصديق منه يزيد بن أبي سفيان كما روى ذلك يزيد نفسه فقال:   1 مشكلة التربية الحديثة إنها تفصل بين علوم -القوة أو التمكين- أو المهارات كالعلوم الطبيعية، والإدارية والسياسية والإدارية، وبين علوم -الأمانة- أو الاتجاهات كعلوم الدين والأخلاق. ثم تكون ثمرة هذا الفصل -في أحسن الحالات- إخراج: فئة أولي قوة وتمكين بدون أمانة. وأولي أمانة بدون قوة وتمكين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 "قال أبو بكر لما بعثني إلى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسى أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكبر ما أخاف عليك. فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ولي من أمور المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة له بغير حق، فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا، ولا عدلا حتى يدخله جهنم. ومن أعطى أحدا من مال محاباة فعليه لعنة الله". أو قال: "برئت منه ذمة الله. إن الله دعا الناس أن يؤمنوا فيكونوا حمى الله. فمن انتهك في حمى الله شيئا بغير حق فعليه لعنة الله. أو قال: برئت منه ذمة الله عز وجل" 1. ومن هذا الهدي النبوي -الراشدي استوحى ابن تيمية آراءه في هذا الشأن فقال: "فإن عدل "ولي الأمر" عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة، أو صداقة، أو مرافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس: كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، فيما نهى الله عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ثم قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته"2. ولما كانت "الأشياء" وما تجسده من مال وزخارف الحياة المادية هي الوسيلة الرئيسية التي يستعملها "أشخاص" العصبيات للحصول على النصرة، فإنه سرعان ما تصبح نصرة "الأشياء" هي المحور الذي تدور في فلكه "الأفكار والأشخاص"، وتصبح الهيمنة في الأمة لأرباب المال، والتجارات وصانعي الشهوات، وتسود ثقافة الاستهلاك والترف، وتتمزق شبكة العلاقات   1 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ5، ص665 نقلًا عن مسند أحمد، وعن ابن شعبة البغدادي. 2 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب الجهاد، جـ28، ص248، 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الاجتماعية وتصبح الأفكار، والقيم بعض سلع التجارة ومواد الاستهلاك والدعايات السياسية والاقتصادية، ويتوقف التفكير الموضوعي ويحل محله الهوى، وتتحدد ميادين التربية بحدود هذه الثقافة الاستهلاكية، وينشغل الناس بأشيائهم وحاجاتهم اليومية ويعودون كالجاهلية همة أحدهم لا تتعدى بطنه وفرجه، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرًا. وتكون المحصلة النهائية لهذا التحول هو السعي -لامتلاك- "الأشياء"، فتظهر ظاهرة -الملك القسري- أي الذي يتوصل إليه بالقسر والعنف، والانقلابات الدموية والفتن ويلخص الحديث النبوية هذا التطور السلبي من -نصرة- "أفكار" الرسالة حتى "نصرة الأشياء" عند قوله -صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكًا عضوضًا، ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلون الحرير والفروج، ويرزقون على ذلك وينصرون" 1. والمجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الصحيحة تتفوق على تلك التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، كما كانت حال الأمة المسلمة في صدر الإسلام، وتفوقها على مجتمعات الرومان وفارس وغيرها. ولكن المجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، أو التي يختلط فيها الصحيح والخاطئ، فهذه تتفوق على المجتمعات التي تدور في فلك الأشخاص والأشياء، وتهزمها كما هو الحال -الآن- في تفوق المجتمعات الغربية على مجتمعات العالم الثالث -ومنه العالم الغربي والإسلامي الحديث. والشكل الذي تنتظم طبقا له عناصر الأفكار والأشخاص، والأشياء يحدد نوع التربية وتطبيقاته في الثقافة والعلوم، ونظم الحياة المختلفة. فعندما تكون "الأفكار" هي المحور الذي يدور في فلكه "الأشخاص والأشياء"، فإن   1 ابن كثير، البداية والنهاية، جـ8، ص20 نقلًا عن الطبراني بإسناد جيد، ومثله عند ابن تيمية، الفتاوى، جـ35، ص19 نقلًا عن مسلم، ومسند أحمد، جـ4، ص273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 التربية تتخذ -مثلها الأعلى- وخبراتها التي تضمنتها مناهجها، وتطبيقاتها من ميدان الأفكار ودرجة التزام الأشخاص بها، وتجسيد الأشياء لها في الماضي والحاضر والمستقبل، ويكون من ثمار التربية بناء حضارة تدور حول تطبيقات الأفكار، وتجسيدها في مسيرة الاجتماع البشري. أما حين يحتل "الأشخاص" مركز المحور الذي تدور في فلكه "الأفكار والأشياء"، فإن التربية تتخذ -مثلها الأعلى- وخبراتها التي تضمنها مناهجها وتطبيقاتها من ميدان "الأشخاص"، ومدى فاعلية قوتهم في الماضي والحاضر والمستقبل، واستعمال الأشياء لتنفيذ إراداتهم. وأما حين تكون "الأشياء" هي المحور الذي تدور في فلكه "الأفكار والأشخاص"، فإن التربية تتخذ -مثلها الأعلى- وتنتقي -خبراتها المنهجية، وتطبيقاتها العملية من ميدان الأشياء وتاريخها وحاضرها ومستقبلها، ومدى تأثيرها في عالم الأفكار، والأشخاص على المستوى المحلي والعالمي، ويكون من ثمار التربية بناء حضارة مادية تدور حول تطبيقات الأشياء، وتجسيدها في مسيرة الاجتماع البشري. وهذه هي حال التربية الحديثة التي يدور محور "النصرة" فيها حول "الأشياء" كما إن العلوم والثقافات والآداب، والفنون التي أفرزتها -وتفرزها- هي أيضا تتخذ -مثلها الأعلى- وتنتقي -خبراتها- من الدوران في فلك "الأشياء" في حين يدور كل من "الأفكار"، و"الأشخاص" في فلك "الأشياء"، ويستثمرون من أجل توفير الأشياء وتحسينها. والتجسيد العملي لهذا كله هو حضارة "الإنتاج والاستهلاك" التي يقودها الغرب المعاصر وتؤثر في العالم كله. 2- نصرة العدل في مجابهة الطغيان، والتسلط، والظلم: ويمثل هذا المظهر محور عنصر النصرة، بل هو جوهره وغايته؛ لأن العدل "غاية" من الغايات الرئيسة التي من أجلها كان إرسال الرسل وتتابع الرسالات، وكان خلق مادة الحديد لصنع السلاح و"نصرة" العدل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] . فالعدل في حقيقته تجسيد لـ"أفكار" الرسالة ومثلها الأعلى، وبقاؤها المحور الذي يدور في فلكه "الأشخاص والأشياء". أما الظلم فحقيقته أن يهيمن "الأشخاص" الأقوياء على محور الاجتماع البشري، ويديرون "الأفكار والأشياء" في فلكهم لبقاء سلطانهم ودوام تملكهم. فالعدل -إذن- هو روح شبكة العلاقات الاجتماعية الذي يمنحها الحياة والبقاء، وغياب العدل يلغي مبرر وجود الأمم، ولذلك قال أبو الحسن الخزرجي: الملك مع العدل والكفر يدوم، ولكن الملك مع الإسلام والظلم لا يدوم. وجيوش الفتح الإسلامي حين خرجت إلى العالم، إنما خرجت لرفع الظلم عن الشعوب، أما اعتناق الإسلام فقد تركته لاختيار الشعوب المحررة للتبين وحدها الرشد من الغي دون إكراه في الدين، ولتختار واحدا من اثنين: إما الإسلام وإما الجزية التي تسوي غير المسلم بالمسلم الذي يدفع الزكاة، ويخدم في الجيش لحماية الجميع من الظلم. وأساس هذه الاستراتيجية التي وجهت الفتوحات الإسلامية هي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . ولقد أورد الطبري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسر "الوسط" بالعدل، وأن معنى "أمة وسطا" أمة عدول، وأن ابن عباس، وتلامذته أخذوا بهذا التفسير وعلموه1. ويتكرر الطلب إلى -أمة المؤمنين- بأن يكونوا "قوامين بالعدل" أي كثيري القيام بالعدل في نظم حياتهم، وإداراتهم وممارساتهم وقيمهم، وعاداتهم إلى الدرجة التي يصبح -العدل- هو السمة المميزة لمجتمعهم وحضارتهم، وأن لا يحول دون تجسيد هذه الصفة في واقعهم صلة رحم، أو حمية قرابة أو شنآن كراهية:   1 الطبري، التفسير، جـ2 "تفسير آية 143 من سورة البقرة"، ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 - {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل: 90] . - {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] . - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] . - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] . ولا بد لصفة العدل هذه أن تنتشر لينعم بها جميع الناس دون فرق في دين أو جنس: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] . وفي الحديث النبوي يحتل الإمام العادل المركز الأول بين سبعة أصناف من البشر، يقفون تحت المظلة الإلهية يوم القيامة بينما يغرق الناس في عرقهم، ويتضورون في حر شمس الآخر التي تعلوهم باعا أو ذراعا: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" 1. وأما عن الظلم فإن آيات الله في القرآن صريحة واضحة في التحريض على القتال لاستنقاذ المظلومين من الرجال والنساء، والأولاد الذين لا يجدون حيلة للتحرر من الاستغلال والاستبعاد:   ــ 1 صحيح البخاري، باب الزكاة، ص16، باب المحاربين، ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75] . وآيات الله في القرآن تسوي بين مصير المظلومين الذين يسكتون على الظلم، وبين الظالمين الذي ينزلون الظلم بالناس: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] . وفي المقابل يشيد القرآن بالذين يتناصرون لمقاومة الظلم، ويستنهض هممهم لمنازلته: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 39-42] . والرسول -صلى الله عليه وسلم- يجعل خنوع الأمة، وعدم تناصرها لمقاومة الظلم من العلامات الدالة على موتها، وانتهاء مبررات وجودها: "إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت الظالم فقد تودع منها" 1. ويقول أيضا: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تكون العامة تستطيع تغير   1 مسند أحمد "تصنيف الساعاتي"، جـ19، ص175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 على الخاصة. فإم لم تغير العامة على الخاصة عذب الله العامة والخاصة" 1. ويؤكد -صلى الله عليه وسلم- أن موالاة الظلمة تخرج من الإسلام في الدنيا، وتحرم من شفاعته في الآخرة: "سيكون من بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض. ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض" 2. وكان من ثمار هذه التربية النبوية أن قامت روابط النصرة في مجتمع الراشدين على تعشق العدل والتضحية في سبيله، وصارت طاعة الحاكم مرهونة بدرجة تقيده بالعدل واحترام الحريات. كان عمر بن الخطاب في مجلس وحوله المهاجرون والأنصار فقال: "أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا. فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا. فقال بشر بن سعد: لو رفعت ذلك قومناك تقويم القداح -أي السهم. فقال عمر: أنتم إذا! أنتم إذا"3. "أي أنتم إذن الممثلون للأمة المسلمة الحقة". وجميع مواقف عمر كانت من جنس هذا الموقف؛ لأن عمر كان حاكما مربيا يرسي تقاليد ثقافة جديدة في السياسة والاجتماع، والاقتصاد ويريد هذه الثقافة أن تتحدر في تاريخ الأمة، وأن يصبح العدل والحرية محور هذه الثقافة والسمة المميزة لنظمها، وقيمها وأعرافها. 3- نصرة الحرية في مجابهة الاستبعاد: وهذا المظهر من مظاهر النصرة يمثل عقيدة التوحيد، ويجسدها في واقع اجتماعي يصهر الفروق بين الأفراد والجماعات. وذلك كان غياب   1 مسند أحمد، جـ4، ص193. 2 صحيح ابن حبان، جـ1، ص440، رقم 282، 283. 3 كنز العمال، جـ5، ص687، 688. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الحرية في حقيقته هو غياب التوحيد؛ لأن حقيقة التوحيد أن لا يخشى الإنسان الموجد إلا الله. وغياب الحرية معناه خشية غير الله. ولقد فسر الطبري قوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} أن معنى لا يشركون بي شيئا هو أنهم لا يخافون غيري من جبابرة السلاطين والأشخاص"1. وهذا يضع على التربية الإسلامية مسئولية كبيرة في تنمية تعشق -الحرية- ونصرتها والغيرة عليها والدفاع عنها إذا انتهكت كالغيرة على الأعراض والحرمات. ويتفرع عن ذلك تنمية الوعي بقيمة التعبير عن الرأي؛ لأن الأمة التي يوجهها عنصر -النصرة- أمة تدرك قيمة النقد الذاتي -أو التوبة حسب التعبير الإسلامي- وأثره في دوام صحتها وعافيتها، فلا تتراكم آثار الممارسات الخاطئة حتى تنفجر في فتن مدمرة تأتي على كيان الأمة دفعة واحدة. ولا بد للتربية الإسلامية أن تدرب متعلميها على ممارسة كلا من حرية الرأي، والنقد الذاتي بحيث تنطبق عليها المواصفات التي توجه إليها أمثاله قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} و {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} و {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} 2 وبذلك لا يتحول النقد أو التعبير إلى سباب، ومهاترات تزرع الأحقاد وتبذر الفتن، وإنما تقوم على تشخيص الظواهر الاجتماعية وتحليل مقدماتها، ونتائجها بغية التعرف على الممارسات والمسارات الخاطئة للتوبة منها، واكتشاف الصحيحة للرجوع إليها. ونحن نلمح في طريقة نزول الوحي ما يشجع على ظاهر -التعبير عن الرأي الرفيع- والتساؤل البناء، فحينما تساءلت نسيبة بنت كعب المشهورة بأم عمارة، وصاحبة المواقف البطولية في أحد وحروب الردة، فقالت: يا نبي الله! ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ   1 الطبري، التفسير، جـ18، ص158، 159، سورة النور: آية 55. 2 سورة البقرة: الآية 83. سورة النحل: الآية 125. سورة النساء: الآية 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] . ومع اعتقادنا الراسخ بكمال العلم الإلهي، إلا أننا نرى في مناسبة الآية واستجابة الوحي لطلب -نسيبة- وأخواتها بعض مظاهر الحكمة الإلهية التي شكلت الأحداث لتعلم جيل الصحابة -والأمة المسلمة درسا في التعبير عن الرأي، وأهميته ولو كان الذي يعبر عن رأيه امرأة، ولو كان الموضوع الذي يدور حوله التساؤل هو أسلوب الوحي!! فإذا كان الأمر كذلك، فليس هناك من بني البشر من هو التساؤل والنقد الإيجابيين!! وعلى هذا المنهج سارت الحياة في المجتمع النبوي والعهد الراشدي. فحين تولى عمر بن الخطاب الخلافة -مثلًا- كتب إليه أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل من الشام رسالة مشتركة يذكرانه بالمسئولية التي عهدت إليه ويحذرانه مغبة القصور عنها. ومما جاء فيها: "أصبحت وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكلٍّ حصته من العدل، فأنت كيف أنت عند ذلك يا عمر! فإنا نحذرك يوما تعيى فيه الوجوه، وتجف فيه القلوب، وتقطع فيه الحجج، يملك قهرهم بجبروته، والخلق داخرون له، يرجون رحمته ويخافون عقابه". وتلقى عمر الكتاب فلم تأخذه عزة السلطان، وإنما شكر لهما النصيحة والتواصي، وكتب يطمئنهما إلى ما أوصيا به ثم أضاف: "كتبتما به نصيحة تعظاني بالله أن أنزل كتابكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما. فإنكما تكتبان به وقد صدقتما فلا تدعا الكتاب إلي، فإني لا غنى بي عنكما والسلام عليكما"1.   1 الطبراني، المعجم الكبير، جـ20، ص32، 33 رقم 45. علي المتقي الهندي، كنز العمال، جـ16، ص160، 161 نقلا عن ابن أبي شيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وكما أسلفنا فإن أمثال عمر لم يتعدوا أصابع اليد في تاريخ المسلمين. لذلك فإن من ضمانات مبادئ الحرية، والعدل التي أراد عمر إرساءها واستمرار "نصرتهما" أن لا تترك هذه المبادئ إلى ورع الحاكم، وأخلاقه بل تحرس بالتشريع وبالمؤسسات، وأن لا يكون هناك حكم دائم مدى الحياة، ولا سلطة فردية مطلقة؛ لأن دوام الحكم وفردية التصرف معناه العصمة من الخطأ، والعصمة معناها عدم النقد بل تحريمه وتجريم فاعله، وعدم النقد معناه تشجيع الحاكم على الطغيان، وبقاء الطغيان والظلم مدى الحياة معناه أحد مصيرين: إما أن تمضي الأمة في أطوار المرض حتى الوفاة، وإما أن لا تجد الأمة سبيلًا للتخلص من الطاغية إلا بالانقلابات، والثورات الدموية والفتن المدمرة!! التي تنتهي إلى مرض الأمة وموتها. ولتجنب هذه السلسلة من السلبيات، والمضاعفات المهلكة لا بد للتربية الإسلامية أن ترفع انتخاب الحاكم، وجماعية القيادة وتقنين القيم السياسية، وتحديد فترة الحكم إلى مرتبة فروض الدين؛ لأن هذا ما توجه إليه روح الشورى التي يوجه إليها القرآن الكريم وتطبيقات السنة، وهذا ما فهمه عمر بن الخطاب حين قال: "لا خلافة إلا عن مشورة"1. والواقع إن النظام الرئاسي وما يرافقه من المؤسسات، والتشريعات الذي تطبقه أمم غير مسلمة -كالولايات المتحدة الأمريكية- هو أقرب إلى روح الإسلام من أنظمة الحكم القائمة في العالم الإسلامي؛ لأن هذه الأنظمة في حقيقتها ردة إلى تقاليد العصبية القبلية التي تمنح شيخ القبيلة هيمنة مطلقة في السلطان، والتملك وتوريث ذلك للأبناء والأحفاد من بعده. وثمة مظهر آخر من مظاهر نصرة الحرية في مواجهة الاستبعاد هو أن   1 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ5، ص648، رقم 14136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 تعمل التربية على التحرر من الآبائية، وعلى اتخاذ موقف علمي من التراث المتحدر من الماضي. واتخاذ هذا الموقف يتطلب من العقل المسلم أن يتحرر من المقولة المتلبسة لباس الورع والولاء الإسلامي: مقولة عدم الخوض فيما اختلف عليه السلف، وترك خلافاتهم إلى الله تعالى ثم الزعم أن هذه المقولة هي منهج أهل السنة والجماعة إزاء القضايا، التي اختلف حولها السلف في ميادين السياسة والفكر خاصة فيما يتعلق بالتحول المصيري، الذي أحدثته سياسات طلقاء مكة، والأمويين في مستقبل الأمة الإسلامية. فهذه المقولة تخلط -أو تشيع المغالطة- بين أمرين اثنين هما: "اللعن" و"النقد الإيجابي". فالذي نهى عنه أهل السنة والجماعة هو "اللعن"؛ لأنه لا يليق بالعالم، ولا هو من أخلاق المسلم، بل إن الله نهى عنه سب الكافر نفسه. ولكن "النقد الإيجابي" الذي يتناول الظواهر السلبية بالتحليل، والتقويم بغية الوضوح ودفع مسيرة الهدى والبناء هو أمر مطلوب؛ لأنه "توبة" فكرية، وتوبة الفكر مقدمة لتوبة الأعمال؛ لأن الفكر أصل العمل وأولى حلقاته. والواقع أن مقولة -عدم الخوض فيما اختلف عليه السلف- ليست مقولة أهل السنة والجماعة، وإنما هي مقولة -فقهاء الخلفاء والسلاطين- الذين برزوا على مسرح الحياة الإسلامية بعد العصر الراشدي، وأوقفوا أنفسهم طوال التاريخ الإسلامي لإصدار الفتاوى، التي تبرز إرادات أصحاب الملك، والقوة وتبرر السكوت على الأوضاع القائمة الزاخرة بالمخالفات الخارجة على الشريعة، زاعمين إن هذا هو منهج أهل السنة، والجماعة الذين يتجنبون الفتنة، ويحاربون الفرقة. لذلك كان إطلاق اسم -أهل السنة والجماعة- على أولئك الفقهاء خطأ، ومغالطة تاريخية تحتاج إلى تصويب. فأهل السنة والجماعة الأصلاء انتهوا -كتيار فكري اجتماعي- بانتهاء أمثال سعيد بن جبير، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، ممن جاهدوا لجعل "محور السنة" في ميدان "الأعمال"، والتطبيقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وجعل "الشريعة فوق القوة" وتصدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 لعدوان قيم العصبية القبلية على القيم الإسلامية في ميادين السياسة، والاقتصاد والإرادة، وأعلنوا أن محور سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدور حول "زهد" الحاكم بالجاه لـ"نصرة" العدل، وزهده بالمال لـ"إيواء" جماهير الأمة، وزهده بالحياة لقيادة الجيوش و"نصرة" الرسالة. ولكن ممثلي ثقافة العصبيات الأسرية، والقبلية بقيادة طلقاء مكة استطاعوا التغلب على هذا التيار السني، والبطش بقياداته ابتداء من جيل الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير حتى جيل سعيد بن جبير وسفيان الثوري، واستطاعوا نقل محور السنة إلى ميدان "الأشكال"، ومستحبات السنن في الأخلاق الفردية، والشهوات والشعائر مما أدى إلى كبت الحريات، وانحسار الفقه الإسلامي إلى ميادين العبادات، وفقه الطهارة والحيض، والنفاس والمعاملات الفردية، وتجنب البحث في فقه إخراج الأمة المسلمة، وشبكة العلاقات السياسية والاقتصادية والإدارية. ولقد نما هذا اللون من الفقه، وصار له امتدادات ومذاهب انحدرت في التاريخ الإسلامي تحت اسم -أهل السنة والجماعة- ومارس مختلف أشكال الآبائية، والحجر على التفكير. ولكن أهل السنة والجماعة الأصلاء لا يمنعون الحرية الفكرية، والنقد الذاتي بل يحضون عليهما ويدعون لهما. فقد جاء عن عبد الرحمن بن مهدي أحد شيوخ الشافعي وغيره قولهم: "أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم"1. وروي عن أحمد بن حنبل قوله: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا"2.   1 ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، "بيروت: دار المعرفة"، ص7. 2 ابن القيم، إعلام الموقعين، جـ2 "بيروت: دار الجيل"، ص201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ولقد انتبه إلى الفرق بين "اللعن" و"النقد" شيخ الإسلام ابن تيمية، وفصل في ذلك في بحوثه المودعة في سلسلة فتاويه خاصة المجلد 35 الذي يحمل عنوان: كتاب قتال أهل البغي. كذلك قام بتقييم سياسة الخلفاء الراشدين، وخلص إلى وجوب الاقتداء بسنة أبي بكر وعمر. أما ما فعله عثمان وعلي، ونتج عنه افتراق الأمة فلا يؤمر بالاقتداء به. وعلل ذلك بالقول: إن أبا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة، وسلما من التأويل في الدماء والأموال. أما عثمان فقد غلب الرغبة وتأول في الأموال. وعلي غلب الرهبة وتأول في الدماء. كما أن أبا بكر وعمر كمل زهدهما في المال والرياسة. أما عثمان فقد كمل زهده في الرياسة فقط، وعلي كمل زهده في المال1. كذلك قام ابن تيمية بتقييم مواقف -طلقاء مكة- الذين أسلموا بعد الفتح فلم يجز لعنهم، ولكنه انتقد بإسهاب وصراحة كلا من معاوية، وعمرو بن العاص واعتبرهما الفئة الباغية2. وأضاف أن معاوية لم يكن كفؤا لعلي بن أبي طالب3 وأن معاوية كان أول الملوك الذين بدلوا الخلافة إلى الملك الذي لا يجوز في أصل الشريعة، ويتضمن ترك بعض الدين الواجب، ثم علق على ذلك قائلًا: "وإن مصير أمر المسلمين إلى -الملوك- ونوابهم من الولاة والقضاة، والأمراء ليس لنقص فيهم فقط، بل لنقص في الراعي والرعية جميعًا، فإنه كما تكونوا يول عليكم. وقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} 4.   1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب قتال أهل البغي، جـ35، ص22، 23. 2 ابن تيمية، المصدر نفسه، ص58، 76، 77. 3 ابن تيمية، المصدر السابق، ص73. 4 ابن تيمية، المصدر السابق، ص19-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 4- "نصرة" مؤسسات الإدارة والأمن، والجيش لـ"الإنسان المسلم" في مواجهة "أشخاص" الحاكمين المتسلطين، و"أشياء" المترفين: وحتى تتجسد أفكار "النصرة" في واقع اجتماعي يعيشه الناس لا بد للتربية الإسلامية أن تركز عملها لتخريج عناصر تعمل في مؤسسات الإدارة، والأمن والجيش للحفاظ على إنسانية الإنسان وصيانة حرماته، وتمكين "الإنسان المسلم" من تحقيق ذاته في الداخل، وحمل رسالة الإسلام إلى الخارج. ويؤكد القرآن الكريم بصراحة، وقوة على عدم النيل من إنسانية الإنسان أو التجسس عليه أو اضطهاده، أو نفيه أو غيبته أو امتهان كرامته، وتهديد من يرتكب مثل هذه الجرائم بأشد أنواع العذاب في الدنيا والآخرة. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يؤكد ذلك بنفس الحجم والكم تقريبًا. فهو يجعل التجسس على الناس سببا في إفسادهم: "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم" 1. وعن معاوية أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت تفسدهم" 2. ويتكرر التحذير من الاعتداء على الإنسان بالضرب والإهانة، من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: - "إن الله تعالى يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا" 3. ويقول كذلك: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ... " 4.   1 سنن أبي داود، جـ4، باب الأدب، ص272. 2 الطبراني، المعجم الكبير، جـ19، ص379 رقم 890. 3 صحيح مسلم، كتاب البر. مسند أحمد، جـ3، ص403. 4 صحيح مسلم "شرح النووي"، جـ17، كتاب الجنة، ص190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ويقول أيضا: "أول من يدخل من هذه الأمة النار السواطون" 1. والسواطون هم رجال الشرطة، والمخابرات الذين يجلدون الناس بالأسواط. وعن أبي هريرة أنه قال: قد رأينا من كل شيء قاله لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم. غير أنه قال: - "يقال لرجال يوم القيامة: اطرحوا سياطكم وادخلوا جهنم" 2. وقال -صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة أشدهم عذابا للناس في الدنيا" 3. وقال أيضا: "يوشك إن طالت بك مدة أن ترى أقواما في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله" 4. وقال أيضا: "يكون في آخر الزمان شرط يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله، فإياك أن تكون منهم" 5. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "يكون أمراء يعذبونكم ويعذبهم الله" 6. وحين يقترف الإنسان مخالفات توجب القصاص والعقوبة، فلا مجال للحقد الشخصي والقسوة اللذين ينالان من كرامة الإنسان وإنسانيته. والأمثلة على ذلك كثيرة منها:   1 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ5، ص798 نقلا عن ابن أبي شيبة. 2 المستدرك للحاكم، جـ4، ص562، رقم 8577. 3 مسند أحمد، جـ3، ص403، جـ4، ص90. المستدرك للحاكم، جـ4، ص482، رقم 8344. 4 صحيح مسلم "شرح النووي"، جـ17، كتاب الجنة، ص190. 5 مسند أحمد "تصنيف الساعاتي"، جـ19، ص324. المستدرك للحاكم، جـ4، ص483، رقم 8347. 6 الحاكم، المستدرك، جـ4، ص482، رقم 8342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله" 1. والسجن الإسلامي يختلف عن السجن غير الإسلامي بحيث يتطابق مع احترام الإسلام لإنسانية الإنسان، ويحافظ على كرامته. وفي ذلك يقول ابن تيمية: "الحبس الشرعي ليس السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه، ولذلك سماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسيرا"2. ولقد برزت آثار التوجيهات التي عمقتها التربية الإسلامية في جيل الصحابة والراشدين، فاتخذوها دستورا في مؤسسات الإدارة والشرطة، والجيش الموكلة بالحفاظ على "النصرة" في الداخل والخارج. فقد كان عمر بن الخطاب إذا بعث عماله شرط عليهم أن يعيشوا معيشة الناس، وأن يركبوا ما يركبه عامة الناس، وأن يلبسوا ما يلبسه عامة الناس ثم يشيعهم. فإذا أراد أن يرجع قال: "إني لم أسلطكم على دماء المسلمين، ولا على أعراضهم ولا على أموالهم. ولكني بعثتكم لتقيموا الصلاة وتقسموا فيهم فيئهم، وتحكموا بالعدل. فإذا أشكل عليكم شيء فارفعوه إلي. ألا فلا تضربوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها فتفتنوها، ولا تعتلوا عليها فتحرموها، جردوا القرآن"3.   1 البخاري ومسلم، وأحمد، والترمذي، وأبو داود. 2 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب قتال أهل البغي، جـ35، ص398. 3 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ5، ص688 نقلا عن البيهقي في شعب الإيمان. تجمروها: تجمير الجيش جمعه في الثغور وحبسهم عن العود إلى أهلهم. جردوا القرآن: لا تقرنوا به شيئا ليكون وحده منفردا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ولقد خطب الخليفة عمر رضي الله عنه يوما في الناس فقال: "ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم. ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنتكم. فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي. فوالذي نفسي بيده إذا لأقصنه منه"! فوثب عمرو بن العاص فقال: "يا أمير المؤمنين أو رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته أئنك لمقصنه منه"؟ فقال الخليفة: "أي والذي نفس عمر بيده إذا لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوا حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوا الغياض فتضيعوهم"1. واعتماد هذه المبادئ الإسلامية في تشكيل عمل مؤسسات النصرة التي مر ذكرها يتطلب أمرين اثنين: الأول، أن يتم تأسيس التربية العسكرية على الأصول الإسلامية التي تعد العسكري المسلم ليدور ولاؤه في فلك "أفكار" الرسالة، وتحريره من صنمية الولاء الأعمى لـ"أشخاص" الحاكمين و"أشياء" المترفين، وهو ما تفعله المؤسسات البوليسية، والعسكرية التي توجهها التربية العسكرية الحديثة -خاصة في أقطار العالم الثالث- ولا يكون من ثمارها إلا الرهق، والإرهاب للأمم والمجتمعات في الداخل، والعجز المذل أمام العدوان النازل بها من خارج. والثاني، أن تختلف الإجراءات التي تمارسها المؤسسات العسكرية، والعقوبات التي تطبقها لإمضاء قوانين النصرة، وتشريعاتها عن نظائرها من   1 مسند أحمد، "تصنيف الساعاتي"، جـ3، ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 المؤسسات غير المسلمة. إذ لا يجوز أبدا تقليد المؤسسات غير الإسلامية واستيراد أساليبها أو التدرب في معاهدها على نظم البوليس، وأساليب المخابرات وإجراءات التحقيق والعقوبات؛ لأن المؤسسات غير الإسلامية تتعامل مع الإنسان انطلاقا من فلسفة "الدارونية الاجتماعية" التي تقرر أن البقاء للأقوى، واستنادا إلى نظريا علم النفس المشتقة من التجارب على الحيوان كنظرية بافلوف، ونظريات التعلم الإشراطي لسكنر التي تستعملها الكثير من دوائر الشرطة، والمخابرات في غسل الأدمغة وانتزاع الاعترافات. وأهمية هذه التربية لا يمكن -هنا- الخوض في تفاصيلها، وإنما يمكن تصورها من المثل الذي لم يحدث له نظير في تاريخ الجندية، حينما أنزلت رتبة عسكري كخالد بن الوليد من "قائد عام للجيش" إلى "جندي نفر"، ثم استمر في آداء واجبه قائلا: أنا لا أقاتل من أجل عمر!! ويرتبط بهذا المظهر للنصرة تنمية الوعي بـ"سيادة الشريعة فوق القوة"، وإقامة المؤسسات المتخصصة بمراقبة الحاكمين، والإداريين بحيث لا يكون أحد كائنا من كان فوق الشريعة أو القانون، بهما يضبط سلوكهم وتوجه إرادتهم. وحين يحاول أحد أن يرتفع -فوق القانون- يقوم تقويم القداح -حسب قول بشر بن سعد للخليفة عمر، وإذا لم يقوم فإن ذلك يعني إن الصنمية عادت برموز جديدة، والرضى بها من مظاهر الشرك والخضوع لغير الله. وتحتاج التربية الإسلامية -من أجل تعميق الولاء لاتجاهات النصرة- إلى نقد الممارسات التاريخية، التي أطلقت أيد الخلفاء والسلاطين، والولاة -بعد عصر الراشدين- في شئون الحكم والمال والإدارة، فصاروا يعزون من يشاءون في أعلى المناصب، ويذلون من يشاءون بالعزل والاضطهاد، ويحيون من يشاءون بالعفو المزاجي، ويميتون من يشاءون بالإرادات الطاغية، وبذلك شاركوا الله في صفاته، وأفعاله وجسدوا صنمية الأنداد! وتحتاج التربية الإسلامية كذلك إلى نقد قيم العصبيات القبلية وثقافاتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 التي تصطدم بـ"النصرة" فتجعل "القوة فوق القانون"، وتحيل "حقوق" الناس الممنوحة لهم من الله "مكرمات" يمن بها عليهم الرؤساء والملوك الأنداد، وتطلق أيد المتنفذين ليستعبدوا الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وليتحكموا بمصائرهم وأرزاقهم، ومقدارتهم دون رقابة من مؤسسة أو مسئولية أمام تشريع. ولا شك أن نقد التربية لهذه الثقافة العصبية المتخلفة هو واجب ديني، والتخلي عن هذا الواجب، أو القصور فيه والسماح لهذه الثقافة أن تشيع في مناهج التربية، وبرامج الإعلام هو كبيرة من الكبائر المخلدة في النار كما ذكر ذلك صراحة في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أورد الكبائر السبع، وذكر أن سابعتها "وأن ترتد أعرابيا بعد الهجرة"1. 5- نصرة الأمة المسلمة في مواجهة طغيان الفرد أو الأقلية: وأساس هذا المظهر أن الأمة التي توجهها روح النصرة لا تسمح للفرد، أو الأقلية أن تغلب مصالحها الخاصة على الصالح العام. ولتحقيق هذا المظهر لا بد للتربية الإسلامية أن تركز على رسوخ ثلاثة اتجاهات رئيسية هي: الأول، تنمية الوعي بقيمة وحدة الأمة المسلمة، والمحافظة عليها بكل الوسائل. ويتفرع عن وحدة الأمة القيادة ومحاربة نزعات السلطان المستمدة من الولاء الفردي والعصبيات العائلية والقبلية والإقليمية والمذهبية، والقومية وكل ما يعرض كيان الأمة للفتن والانقسامات. وهذا ما فهمه أبو بكر الصديق حين قال: "وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران. فإنه مهما يكون ذلك   1 الطبري، التفسير، جـ18، ص158، 159 تفسير سورة النور: آية 55. السيوطي، الجامع الصغير، رقم 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 يختلف أمرهم وأحكامهم، وتتفرق كلمتهم وجماعتهم، ويتنازعون فيما بينهم، هناك تترك السنة وتظهر البدعة، وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح"1. وحين اقترح أحد الأنصار في سقيفة بني ساعدة أن يكون للمسلمين خليفتان في آن واحد وقال للمهاجرين: منا رجل ومنكم رجل، أجابه عمر بن الخطاب: "سيفان في غمد واحد إذا لا يصلحان"2. والثاني، تنمية الوعي بأهمية العمل الجماعي، وسيادة مبدأ الشورى؛ لأن في الشورى تجسيدا لإرادة الأمة، وإشراكًا لجميع أفرادها وهيآتها في حمل المسئولية. وهو ما طبقه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسار عليه الخلفاء الراشدون. فقد كان أبو بكر وعمر إذا ما ورد على أحدهما أمر نظر في الكتاب والسنة، ثم شاور العلماء وأولي الرأي3. والثالث، تكافؤ الفرص وعدم محاباة الأقارب والأصدقاء، وتوزيع الوظائف والأعمال طبقا لمقاييس الإخلاص والكفاءة. وهذا ما وجه إليه أبو بكر الصديق. فعن يزيد بن أبي سفيان: قال أبو بكر لما بعثني إلى الشام، يا يزيد إن لك قرابة عسى أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكبر ما أخاف عليك، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ولي من أمور المسلمين شيئا فأمر عليهم أحد محاباة له بغير حق، فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم. ومن أعطى أحدا من مال أخيه محاباة له، فعليه لعنة الله" أو قال: "برئت منه ذمة الله. إن الله دعا الناس أن يؤمنوا فيكونوا حمى الله! فمن انتهك في حمى الله شيئا بغير حق فعليه لعنة الله". أو قال: "برئت منه ذمة الله عز وجل" 4.   1 البيهقي، السنن الكبرى، جـ8 "بيروت: دار صادر، 1354" ص145. 2 البيهقي، نفس المصدر والصفحة. 3 الدارمي، السنن، جـ1، باب الفتيا "دار إحياء السنة النبوية" ص58. 4 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ5، ص665 نقلا عن مسند أحمد، وابن أبي شيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 6- نصرة رجال الفكر وجمهور الأمة في مواجهة القوة والسلطان: يرتبط هذا المظهر بنصرة "أفكار" الرسالة ارتباطا وثيقا. وهو من أهم ميزات الأصول السياسية للتربية الإسلامية. فالقرآن الكريم يحدد دور رجال الفكر، ورجال القوة في أكثر من موضع، من ذلك قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . ولقد قدم الرازي وابن تيمية عرضا مطولا لتفاسير علماء الصحابة، وتلامذتهم لمعنى "أولي الأمر" وخلصا إلى أن هذه التفاسير تنقسم إلى قسمين: قسم جعل "أولي الأمر" هم العلماء والأمراء وهو رأي الأقلية، وقسم جعلهم العلماء وحدهم وهو رأي الأكثرية1. وعلى كل حال فالعلماء، أو رجال الفكر، موجودون في تعريف كلا الطرفين ولهم الصدارة والأولوية، وهذا هو الذي ينسجم مع "نصرة الرسالة" وضرورة دوران "الأشخاص والأشياء" في فلك "الأفكار" كما مر. كذلك يقدم القرآن الكريم أمثلة لما يجب أن يكون عليه مكانة رجال الفكر وجمهور الأمة. ولقد ناقش ابن تيمية هذه المكانة وذكر إنها مما يوجه إليه قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} . {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} . {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} . وفي التشهد:   1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب السلوك، جـ10، ص354. الرازي، التفسير الكبير، جـ10، ص144-150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 "التحيات لله والصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين". فالإشارة هنا -لله ورسوله- إشارة إلى القائمين على فقه الكتاب والسنة والتربية عليهما، والإشارة إلى -الذين آمنوا- إشارة إلى جمهور الأمة المسلمة. ويضيف ابن تيمية أن هذه الأصول هي التي أمر بها عمر بن الخطاب شريح حيث قال: "اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة الله، فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس، وفي رواية فبما قضى به الصالحون. وكذلك ابن مسعود: "من سئل عن شيء فليفت بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس. وكذلك روى نحوه ابن عباس وغيره. ولذلك قال العلماء: الكتاب والسنة والإجماع1، 2. كذلك يقدم القرآن الكريم أمثلة لما يجب أن تكون عليه معادلة العلاقة بين رجال الفكر، وجماهير الأمة ورجال القوة، وتحديد أدوار كل فريق منهم. من ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . هكذا تتوزع الأدوار إذا واجهت الأمة قضية من قضايا الأمن، أو الخوف أو شأن من شئون الحرب أو السلم، فالحسن الجماهيري هو الأداء   1 ابن تيمية، الفتاوى، أصول الفقه، جـ20، ص498. 2 التربية في العالم الإسلامي الحديث أهملت المصادر الثلاثة كاملة، وأحلت محلها الإرادة المطلقة للحاكم الفرد. أما التربية في الغرب -غير المسلم- فقد أهملت الاثنين الأوليين، وأبقت على الثالث -أي ما اجتمع عليه الناس. ولذلك يتفوق الغرب على الأكداس البشرية في الأقطار الإسلامية بهذه الدرجة من التفوق التربوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 القادر على استشعار القضايا أو المشكلات؛ لأن الجماهير هي التي تتفاعل على مسرح الحياة الاجتماعية، ولها حق التعبير والإعلان عنها، ولكن ليس باللغو وإذاعة الإشاعات، وإنما بآداء دورها في دائرة فاعلة دائمة الجريان حيث تبدأ الجماهير برد القضايا، والمشكلات إلى أولي الأمر من العلماء -الأمراء "وهم هنا خلفاء الرسول" ليردوها بدورهم إلى المختصصين القادرين على عملها، واستنباط معالجتها. ويمكن أن نمثل لهذه الدائرة الفاعلة في معالجة المشكلات والقضايا بالشكل التالي: ولقد أدرك ابن تيمية هذه العلاقة التي تنظم أدوار رجال الفكر، ورجال القوة وأسهب في وصف تطبيقاتها، وتطوراتها في الأمة الإسلامية. ومما قاله في هذا الشأن: "قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1 فقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} . ودين الإسلام: أن يكون السيف تابعا للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة، وكان السيف تابعا لذلك كان أمر الإسلام قائما ... وأما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب، وتارة يخالفه، كان دين من هو كذلك بحسب ذلك"2.   1 سورة الحديد: الآية 25. 2 ابن تيمية، الفتاوى، أصول الفقه، جـ20، ص393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فابن تيمية يرمز لرجال القوة بـ"السيف" تمشيا مع وسائل تكنولوجيا القوة في عصره، بينما يشير القرآن لها بـ"الحديد" المادة الأساسية لتكنولوجيا القوة في كل عصر. ولقد كان عصر النبوة والخلافة الراشدة تطبيقا للمعادلة القرآنية بين رجال الفكر، وجمهور الأمة ورجال القوة. فقد كان "فقهاء الرسالة" يتصدرون مواقع الإمامة في الأمة ابتداء من إمامة الصلاة، حتى إمامة المجتمع كله. ومن المعروف جيدا أن الخلفاء الراشدين كانوا أعظم فقهاء الرسالة بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأنهم لولا انشغالهم بشئون السياسة، وتسيير جيوش الفتح الإسلامي لتركوا مجلدات مبتكرة في أصول الفكر الإسلامي بميادينه المختلفة. كذلك تحددت منازل الأفراد طبقا لدرجة دورانهم في فلك "أفكار" الرسالة الإسلامية. ففي المجتمع النبوي، والراشدي ترقى أشخاص من منازل "رعاة صغار الغنم في شعاب مكة"، و"الخدم في بيوت مترفيها" ليصبحوا "فقهاء الرسالة" ورجال التربية، وقادة الجيوش، وولاة الأقاليم والناطقين الإعلاميين كما حدث لأمثال عبد الله بن مسعود، وزيد بن حارثة، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، بينما هوت "أشخاص" أشراف رفضوا الدوران في فلك "أفكار" الرسالة إلى مدافن النفايات البشرية كما حدث لأمثال عمرو بن هشام، وأبي بن خلف في بدر، وتراجعت منازل "أشخاص" زعماء تأخروا عن الدوران في فلك الرسالة حتى فتح مكة ليصبحوا أشخاصا عاديين كما حصل لأمثال أبي سفيان. ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- دائم التحذير من اختلال المعادلة التي أرساها بين رجال العلم، وجمهور الأمة ورجال القوة، ومن خطورة هذا الاختلال في مستقبل الأمة المسلمة من ذلك قوله: "خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة في الدين فلا تأخذوه، ولستم بتاركيه، يمنعكم الفقر والحاجة. ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم. قالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: "كما صنع أصحاب عيسى بن مريم، نشروا بالمناشير، وحملوا على الخشب. موت في طاعة خير من حياة في معصية الله" 1. ومن الموضوعية أن نقول: أنه بعد مجتمع الخلفاء الراشدين اضطربت معادلة العلاقة بين رجال الفكر والتربية، وبين رجال القوة ودخل الطرفان في صراع طويل انتهى بتغلب رجال القوة والسلطان. ولكن الحديث في تفاصيل هذا الموضوع يقع في دائرة البحث في تاريخ التربية الإسلامية، وهو موضوع خارج عن نطاق هذا البحث. وفي العصر الحديث تدرب مؤسسات التربية في العالم الإسلامي الحديث على أن شخصا واحدا هو شخص المعلم -الذي يتقمص فيما بعد شخص الحاكم من أولي القوة- هو القادر على استشعار المشكلات، والقضايا كلها وعلى إصدار الحلول الفاصلة القاطعة التي لا مراء فيها. فالدائرة الاجتماعية -هنا- مقطوعة ممنوعة، والتنسيق بين رجال الفكر، وجمهور الأمة ورجال القوة غير قائم. وحملة الشهادات وذوي الاختصاص ودور العلم، والجامعات مجرد زينة و"ديكور" وطني يتباهى به رجال القوة ذوي الهيمنة المطلقة أمام الأقطار الأخرى تماما كالمكتبات في بيوت العالم الإسلامي تزين بها البيوت كقطع الأثاث، وأدوات الزينة دون أن يقرأ منها صاحبها صفحة واحدة. وفي المقابل نجد إن نظم التربية في الغرب -غير المسلم- قد نسقت أدوار كل من رجال الفكر، ورجال القوة وهيئات المجتمع بما يتطابق مع   1 الطبراني، المعجم الكبير، جـ20 "بغداد: وزارة الأوقاف والشئون الدينية، 1982"، ص90، رقم 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 التوجيهات القرآنية التي مرت. فالمشكلات وقضايا الأمن أو الخوف تبدأ في الساحة الجماهيرية، ولكنها لا تترك للغو والإشاعات وإنما تنقل لأولي الأمر بالاستفتاءات، وجمع المعلومات والبيانات والمقابلات ثم ترد إلى مراكز البحوث المتخصصة حيث ينكب عليها المؤهلون القادرون على تحليلها واستنباط الحلول لها، ثم يردونها إلى أولي الأمر من صانعي القرار ثم إلى أجهزة التنفيذ ثم تقوم بمتابعتها أجهزة القياس، والتقويم لجمع ثمرات التطبيق، وتقويم النتائج وتبدأ الدائرة من جديد. 7- نصرة الأمة المسلمة في مواجهة العدوان الخارجي: وأساس هذا المظهر أن الأمة التي يوجهها روح النصرة لا تسمح للعدو الخارجي أن ينال منها، أو من أفرادها ومقدراتها. ولتحقيق هذا المظهر لا بد للتربية الإسلامية أن تركز على خمسة اتجاهات رئيسية هي: الأول، تربية الأمة على الروح العسكرية وتعشق الجهاد. والتوجيهات النبوية حازمة وراسخة في هذا الاتجاه. فهي تحث على تدريب الناشئة مبكرًا على الحاملات الحربية، وأدوات القتال التي رمزت لها بأدوات عصر النبوة المتمثلة في ركوب الخيل ورمي النبال، واستعمال السيف وفنون الفروسية مع مراعاة الاستمرار في هذه الأهلية وتعشق الجهاد. ولكن لا بد من الانتباه الشديد إلى أن تربية الأمة على الروح العسكرية يجب أن يضبطها ضابط الرسالة الإسلامية التي استعرضنا تفاصيلها في فصل -الجهاد والرسالة- حتى لا تطغى الروح العسكرية على الغايات التي هي وسيلة لتحقيقها. ومعنى ذلك إن الفكرة يجب أن توجه القوة، أو نقول: إن القوة في خدمة الشريعة. وهذا من الفوارق الرئيسية بين الحضارات الإنسانية الراقية، والحضارات الاستعمارية المتخلفة. فالحضارة الإنسانية التي تستهدف إشاعة الأمن والسلام هي التي تلجم القوة بالشريعة، أو القانون وتجعلها وسيلة لنصرة المبادئ، والأفكار بينما تعكس حضارات العدوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 والاستعمار المعادلة فتجعل الأفكار أداة لتبرير طغيان القوة، وممسحة لتنظيف قاذوراتها وآثار همجيتها في الأرض. والثاني، إقامة الصناعات الحربية وتطوير العلوم العسكرية بما يكفل للأمة الإسلامية التفوق الرادع للأعداء، والرهبة والهيبة أمام الخصوم، وتحقيق النصرة أمام التحديات والأخطار. وهذا مما يوجه إليه -بصراحة- قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60] . والثالث، إقامة مراكز الدراسات المتخصصة -أو مراكز شهود العالم حسب التعبير القرآني- وذلك لتحقيق الأهداف التالية: الهدف الأول هو دراسة ما يجري في العالم من تيارات وأحداث في صالح الأمة المسلمة أو ضدها؛ وذلك لتحديد سياسات التعامل مع هذا العالم وإيصال الرسالة إليه. وهذا مما يوجه إليه قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8، 9] . وهو أيضا ما يرشد إليه قوله -صلى الله عليه وسلم: "رحم الله من حفظ لسانه، وعرف زمانه، فاستقامت طريقته" 1. والرسول كان يشهد الأحداث الجارية بوسائل المعرفة الثلاثة: الوحي والعقل والحس. أما وقع انقطع الوحي فإن على -مراكز البحوث والدراسات- أن تضاعف من عمل أداتي العقل والحس في شهود ما يجري   1 السيوطي، الجامع الصغير، جـ2 "بيروت: دار الفكر"، ص13 رقم 4440. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 في العالم، وبدون ذلك لا تكون هناك استراتيجيات صائبة، ولا سياسات حكيمة1. والهدف الثاني هو تشخيص الشئون المتجددة، والنظر في وسائل التكيف معها، ومجابهة التحديات التي ترافقها. والهدف الثالث هو دراسة المجتمعات غير الإسلامة للتعرف على أصولها الاجتماعية، والثقافية الموجهة لسياساتها وعلاقاتها، وتحديد أساليب التعامل معها. ويقدم القرآن توجيهات واسعة لـ"قراءة عقول غير المؤمنين" و"إرادتهم" مما يشكل أصولا لتطوير علوم سياسية إسلامية، وعلم اجتماع إسلامي، وعلم إنسان إسلامي "أنثروبولوجيا"، وعلوم تتطلب الحاجات المتجددة ابتكارها إذ بدون العلم لا يمكن تحقيق أي مظهر من مظاهر -النصرة- التي قدمنا نماذج لها. والهدف الرابع هو بلورة أصول العلاقات الخارجية مع المجتمعات غير الإسلامية، وتحديد الميادين التي يباح فيها التعاون، والصداقة مع هذه المجتمعات، والمدى الذي يصلان إليه وينتهيان عنده. 8- أهمية النصرة: النصرة عامل هام وحاسم في توفير البيئة الصحية التي تنمو فيها الفضائل، والصفات التي تجسد رقي الأمة وعافيتها، وتوفير المناعة الواقعة من الرذائل الاجتماعية، والأمراض الفكرية التي تسهم في مرض الأمة أو وفاتها. ويمكن القول أن أهمية النصرة تتجسد فيما يلي:   1 تحتاج -مراكز شهود العالم- المقترحة إلى تركيز النظر في -استراتيجيات الغربيين في أوربا وأمريكا- بغية حل الإشكالية القائمة بين هذه المجتمعات وبين العمل الإسلامي، حيث أثبتت أحداث الماضي، والحاضر أن الغرب أشد الناس على المسلمين. وهذا ما يوجه إليه قوله -صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عليكم الروم، وإنما هلكتهم مع الساعة". مسند أحمد "تصنيف الساعاتي" جـ24، رقم 158، ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الأهمية الأولى، إن "نصرة الإنسان" واحترام إنسانيته يشيعان في الأمة روح العزة، والإرادات النبيلة العازمة، ويهيئان لنمو فضائل الصراحة والاستقامة واحترام العهود والمواثيق، ولتوفير المناعة ضد أمراض النفاق والخيانة والذل. وهذا ما وجه إليه الخليفة عمر حين كان يوصي عماله: "ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم"!! والأهمية الثانية، إن "نصرة العدل" تشيع في الأمة الإيمان بالله وتطبيقاته، وتهيئ لتذوق "المثل الأعلى" وتقبله، وتوفر المناعة ضد أمراض الكفر والزندقة والجريمة، والانحلال. وهذا أيضا ما وجه إليه الخليفة عمر حين أضاف: " ... ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم"!! والأهمية الثالثة، إن اجتهاد مؤسسات الإدارة والأمن، والجيش لـ"نصرة الأمة" في مواجهة طغيان "أشخاص" الحاكمين أو تسلط المترفين أو الأقليات الأسرية والقبلية والطائفية، يشيع في -الأمة روح المسئولية العامة، والوحدة، وفضائل البذل والموالاة للصالح العام، ويوفر المناعة ضد أمراض الأنانية، والتحلل من المسئولية العامة، والفتن ومضاعفاتها في الشح والبخل والاغتراب، والجبن والنكوص أمام التحديات. والأهمية الرابعة، أن الأمة التي توجه علاقاتها "نصرة الحرية" تشيع فيها اتجاهات العمل الجماعي، وتنمو فيها القدرات العقلية العليا، وتشيع الحكمة والإبداعات العلمية والإنجازات الحضارية. والأهمية الخامسة، أن "نصرة أفكار الرسالة" في مواجهة طغيان "الأشخاص" وزخرف "الأشياء" تشيع في الأمة والرقي الثقافي، والعطاء الإنساني وتزين الحياة فيها قيم المثابرة، والجد والتسامح مع الغير والانفتاح على الآخرين. والأهمية السادسة، أن الأمة التي توجهها روح "النصرة أمام العدوان الخارجي" يشيع فيها فضائل الشجاعة، والإقدام والتضحية والطموح، والثقة بالنفس في مجابهة التحديات، والقدرة على تحقيق الانتصارات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 4- التربية ورباط النصرة: تتحمل التربية مسئولية كبيرة في تربية الناشئة، والمتعلمين على مظاهر النصرة التي مر ذكرها. ويمكن القول أن هذه المسئولية تتمثل في ما يلي: المسئولية الأولى، هي بلورة مضامين النصرة، ومظاهرها التي يتطلبها تطور الحياة في المكان والزمان، ثم تطوير هذه المضامين والمظاهر إلى علوم، ومناهج دراسية وقيم اجتماعية، وثقافية وإدارية يؤمن بها المتعلم ويعيها، ويدرك منافع وجودها ومضار غيابها. والمسئولية الثانية، هي إفراز الأنشطة التربوية، والاجتماعية التي يتدرب الناشئة والمتعلمون -من خلالها- على ممارسة تطبيقات النصرة المراد إشاعتها، وتهيئتهم للمشاركة المستقبلية في مؤسساتها. وهذا هو محور التربية النبوية خلال الوقائع، والأحداث في أوقات السلم والحرب سواء. والمسئولية الثالثة، هي صبغ العلاقات التربوية والاجتماعية بالاتجاهات، والقيم التي توجه إليها مظاهر النصرة المشار إليها، وتعميق الغيرة عليها، واحترامها والاستعداد للدفاع عنها في الداخل والخارج. ولعله من الموضوعية أن نقول: إن المؤسسات التربوية -من المدارس والجامعات والأندية، والأحزاب والجمعيا- في أمريكا وأوربا الغربية قد نجحت نجاحا كبيرا في تنمية الولاء للديموقراطية -العنصر المقابل لعنصر "النصرة"- ونجحت في بلورة مضامينها، وإخراج مؤسساتها وإدارتها التي تقتضيها تطورات الزمان والمكان. كذلك نجحت في تضمينها مناهجها، وتدريب الناشئة والمتعلمين على ممارساتها، وعلى صبغ العلاقات القائمة بين المؤسسات والجماعات باتجاهاتها، الأمر الذي جعل هذه الديموقراطية صفة تميز تلك المجتمعات، ومظاهر الحياة فيها، في حين وقفت مؤسسات التربية الإسلامية عند الوعظ بالفضائل التي تفرزها "النصرة" بينما غفلت إداراتها، وأساليبها عن توفير بيئة النصرة التي تساعد على نمو الفضائل المشار إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وما زالت هذه المؤسسات لا تعي أن بذور الفضائل موجودة -أصلا- في فطرة الإنسان، وما تحتاجه التربية هي تزكية البيئة من "أغلال" و"آصار" العصبيات، التي تحول دون نمو هذه الفضائل وينعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 الفصل الثاني والعشرون: العنصر السادس الولاية والولاء معنى الولاية ... الفصل الثاني والعشرون: العنصر السادس الولاية والولاء الولاية هي المحصلة النهائية لتفاعل العناصر المكونة للأمة المسلمة: أي عناصر الإيمان والهجرة والجهاد والرسالة، والإيواء والنصرة. كما أن وجود الولاية في واقع الأمة وسريانها في جميع ممارساتها وعلاقاتها شاهد على أن عناصرها المشار إليها هي حية فاعلة في سلوك الأفراد ونشاط الجماعات، كما دل على ذلك أسلوب الإشارة إلى الولاية في آخر الآية، التي وجهت إلى عناصر الأمة الخمسة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] . معنى الولاية: و"الولاية" مصطلح قرآني تردد في مئات المواضع من القرآن والحديث، ومعناه: القيام بأمور الآخرين كلها. و"الولي" هو القائم بأمور غيره من الأمة المسلمة في الميادين المتفرعة عن عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء والنصرة بالطريقة التي أمر الله. أي إن -الولاية- مصطلح اجتماعي يعني ولاء الفرد المسلم للأفكار، التي جاءت بها الرسالة الإسلامية أكثر من ولائه لنفسه. وهو يجسد هذا الولاء من خلال الإسهام -مع المسلمين الآخرين- في تحويل الأفكار المذكورة إلى تطبيقات عملية تتمثل في عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة بين الأفراد الذين يشتركون في الإيمان بالأفكار الإسلامية المشار إليها. فالولاية -إذن- هي هيمنة روح الشعور بالمسئولية في السلوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 والعلاقات والحاجات وقيام الأفراد والمؤسسات، والجماعات برعاية شئون بعضهم بعضا في ميادين الاجتماع، والسياسة والاقتصاد والزراعة، والصناعة والفكر والثقافة والتوجيه، والتعليم والحرب والسلام والأمن والخطر، وغير ذلك. ومن هذه الولاية والرعاية اشتقت مصطلحات: "أولي الأمر" و"الولاة". والذين يحسنون هذه الولاية والرعاية -كل في ميدانه- ويلتزمون في ولايتهم ورعايتهم -في ظل القيم والتوجيهات التي جاءت بها الرسالة الإسلامية- لشئون غيرهم أوامر الله توجيهاته حق الالتزام دون أن تفتنهم المغريات هم -أولياء الله. وبذلك يكون -ولي الله- هو من يلتزم أوامر الله حق الالتزام في ميادين الاجتماع والسياسة، والإدارة والعسكرية والاقتصاد والتربية، والفكر والثقافة والتوجيه والجهاد والأمن وغير ذلك. وبهذا المعنى كان أبو بكر وعمر بن الخطاب، وليين لله في ميدان الحكم والسياسة، وكان خالد بن الوليد ولي الله في ميدان العسكرية، وكان معاذ بن جبل ولي الله في ميدان التربية والتعليم، وكان عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان وليين لله في ميدان التجارة والأعمال، وكان هناك ولي الله الزارع، وولي الله الصانع، وولي الله البوليس، وولي الله الإداري، وهكذا ما دام الكل يعملون حسب أوامر الله نواهيه، ويتقونه حق تقاته. ولعله من الواجب -هنا- أن نشير إلى أمرين: الأول، التشويه الخطير الذي أصاب مصطلح -الولاية- في التربية الإسلامية حين أخرجت -الولاية- من محتواها الاجتماعي، وصار -ولي الله- هو الدرويش الأهبل المنسحب من الحياة، الفاقد للإحساس بها، العاجز عن العمل، الخانع أمام الأعداء، القانع بالذل والفاقة والعجز والقذارة، وإذا أهلكه الجوع والمرض والجهل أقيم له النصب، والأضرحة وصار صنما تذبح عنده القرابين، وتلوذ به الجماهير التي تعاني من الظلم والفاقة والقهر والاستغلال. وفي الأصل كان وراء هذا التشويه لمعنى الولاية عقليات ماكرة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 سلالات المترفين الذين سلبهم الإسلام نفوذهم على الناس، وتحكمهم بمقدرات الحياة، فعملوا على استرجاع ما فقدوه من امتيازات بوسائل التشويه الثقافي والتربوي، وتشويه المصطلحات والمبادئ وأنماط المعتقدات، والسلوك بعد أن عجزوا عن استرجاع امتيازاتهم بالوسائل العسكرية، ثم استحسن هذه السياسة الظلمة من السلاطين، والحكام لصرف الأنظار عن احتكاراتهم وسياستهم الجائزة. ولعل ما كتبه المقريزي في -الخطط- عن ساسية سلاطين المماليك في بناء الأضرحة، وتشجيع طرق الدروشة. ومواقف ابن تيمية وكتاباته ضد هذه السياسات مثلا واضحا وشواهد لهذه السياسات الجائرة المشار إليها. ولقد حذت حذو هذه السياسة واستثمرت التراث السلبي الممثل لها دوائر الاحتلال الاستعماري في المغرب العربي، وأفريقيا والهند وغيرها. والثاني، موقع الولاية -حسب المفهوم الإسلامي- في سلم محاور الولاء وضرورتها في المجتمعات المعاصرة. لقد تطور مفهوم الولاية -أو الولاء- بتطور المجتمعات البشرية. فحين كان المجتمع الإنساني يتمثل في العائلة تحدد إطار -الولاء- بالعائلة. وحينما أصبح المجتمع البشري هو -القبيلة- تحدد إطار الولاء بحدود القبيلة. وحينما أصبح المجتمع البشري هو القوم تحدد إطار الولاء بحدود القومية. وحينما تهدمت الحدود الجغرافية، والثقافية بين المجتمعات البشرية جاءت الرسالة الإسلامية برباط -الولاية- الواسع الذي يفتح الباب لكل عضو في الإنسانية للانضواء في عقده. ولعل مما تفرضه مبادئ النقد الذاتي أن نقول: أن جيل الصحابة قد جسد -رباط الولاية- بأوسع دوائر الولاء حيث "آمنوا" قولا وعملا بما نزل على نبيهم، و"هاجروا" من أجل دينهم و"جاهدوا" بأموالهم وأنفسهم و"تآووا" و"تناصروا" لتبليغ الرسالة وإخراج الناس إلى عدل الإسلام، وسعة الدنيا والآخرة. ثم تلتهم أجيال اكتفت بـ"الانتماء" الإسلامي وارتدت إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 محاور -الولاء- القومي أو الشعوبي، ثم إلى محاور الولاء الإقليمي ثم إلى محاور الولاء القبلي. فالإنسان الحاضر في الأقطار الإسلامية يتحدد محور ولائه بحدود قبيلته، وليس لديه مفهوم واضح عما يعنيه الولاء للأمة المسلمة الواحدة. ولا بد هنا من الانتباه إلى الفرق بين "الولاية" و"الانتماء"، وهو ما أدركت ضرورته حينما خلط البعض بين العلاقتين بعد صدور الطبقة القطرية من هذا الكتاب حينما عمد الأستاذ عمر عبيد حسنة المشرف على طباعة -كتاب الأمة- إلى تغيير العبارة المذكورة أعلاه، عبارة: "فالإنسان الحاضر في بلاد الإسلام يتحدد محور ولائه بحدود قبيلته" فجعلها: " ... يتحدد محور ولائه بحدوده الإقليمية". فـ"الولاية" تتحقق حين يبلغ المستوى الذي تصل إليه حركة إرادة الإنسان درجة النفير الاختياري خفافا وثقالًا، وبدافع من "إيمان" الفرد أو الجماعة لـ"هجرة" ما هو خطأ وممارسة ما هو صواب، و"الجهاد" من أجل ما هو حق، و"إيواء" و"نصرة" من يشاركونهم هذا الإيمان. أما "الانتماء" فهو حركة لا تبلغ فيها الإرادة إلى درجة النفير الاختياري، ولا "يجاهد" صاحبها أو أصحابها بالمال والنفس، ولا "يتآوون" و"يتناصرون" بل تصبح مصائب بعضهم فوائد للبعض الآخر. ولذلك لا يمكن تسمية زحف الجيوش المحترفة نفيرا اختياريا يعبر عن "ولاء" للأمة؛ لأنها تساق إلى الموت رغما عنها، وبسبب ما يدفع لها من رواتب مادية وأعطيات عينية. ولكنا نرى عناصر هذه الجيوش المحترفة إذا تعرضت قبائلها للخطر، فإنها "تنفر" نفيرا اختياريا و"تقاتل حمية" دون رواتب تتقاضاها و"تؤوي" و"تنصر" من يشاركونها القرابة الدموية القبلية. وإذا رفعت شعارات "القومية" أو "الأخوة الإسلامية"، فإنما هو استثمار لهذه الشعارات و"إنفاق" لهذه المحتويات كدعامات مساندة لتعزيز فاعلية "الولاء" للقبيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 درجات الولاية الإيمانية : والولاية في القرآن والحديث درجات متسلسلة كما يلي: الدرجة الأولى، ولاية الله للمؤمنين: وإلى هذه الولاية كانت الإشارة بأمثال قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257] . فالله يتولى شئون المؤمنين بإخراجهم من ظلمات الجهل، ومزالق الانحراف إلى مناهج الحياة الصائبة الفاضلة، والمؤمنون يتولون القيام بعبادته تعالى، ونشر دعوته والجهاد في سبيلها بالمال والنفس. وولاية الله هي الأصل الذي تتفرع عنه بقية درجات الولاية. فمن لم يحقق هذه الولاية بينه، وبين الله لا تنفعه موالاة سواه: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] . ولذلك يجري التأكيد وتكرار التذكير بتحقيق هذه الولاية، وتتكرر الإشادة والبشارة للذين يحققون هذه الولاية في عشرات المواضع من القرآن الكريم والسنة الشريفة. والدرجة الثانية، ولاية الرسل والمؤمنين: وإلى هذه الدرجة من الولاية كانت الإشارة بأمثال قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 68] . {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] . فالرسل يتولون المؤمنين بالتربية والتوجيه والإرشاد. والمؤمنون يتولون الرسل بالاستجابة والاتباع والإيواء والنصرة. والدرجة الثالثة، ولاية المؤمنين للمؤمنين: وإلى هذه الدرجة كانت الإشارة بأمثال قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] . فالمؤمنون والمؤمنات يتولون إيواء بعضهم بعضا، ونصرة بعضهم بعضا، ويأمن بعضهم بعضا في ميادين الحياة المختلفة ابتداء من الأسرة، ومرورا بالجوار في الحي والتعايش في المهجر، والجهاد في الدائرة الإنسانية الكبرى. ومن هذه الموالاة تتحدد -كما مر- مفاهيم الولاية ابتداء من ولاة الأسر، ومرورا بولاة الأقاليم وأولي الأمر من العلماء والرؤساء والخلفاء، وولاة العمل إلى جميع المسئوليات والوظائف والمهن كبرت أم صغرت. والدرجة الرابعة، ولاية أولي الأرحام من المؤمنين: وإلى هذه الدرجة كانت الإشارة بأمثال قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6] . فأولوا الأرحام وذوي القربى في "أمة" المؤمنين يقومون بتولي أمور بعضهم بعضا في شئون الحياة كلها. وتقدم مصادر التربية الإسلامية -في القرآن والسنة- تفاصيل دقيقة لأشكال -الولاية والولاء- الواجب تطبيقها في كل درجة من الدرجات الأربع المشار إليها بحيث تشمل جميع مظاهر السلوك، وتطبعها بطابعها. ففي درجتي ولاية الله للمؤمنين، وولاية الرسل والمؤمنين تتميز أشكال الولاية بسلوك المحبة، والإخلاص والإحسان والصدق، وفي درجة ولاية المؤمنين للمؤمنين تتميز أشكال السلوك بالإيثار والأخوة، وفي درجة ولاية أولي الرحم من المؤمنين تتميز أشكال السلوك بالمودة والتراحم. وبذلك تتجسد عناصر الأمة الخمسة من الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة في واقع اجتماعي حي يشكل في مجموعة الأمة المسلمة. وتتحمل التربية الإسلامية مسئولية كبيرة في تنظيم مناهجها، وطرائقها لتجسيد هذه الدرجات من الولاية في أنشطة، وممارسات تربوية حسب دوائر التفاعل الإنساني في هذه الدرجات، وبذلك يتهيأ الفرد المسلم والجماعة المسلمة لممارسة هذه الولاية المميزة للأمة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 درجات ولاية غير المؤمنين : والذين لا يكون لهم مكان في ولاية المؤمنين تكون ولايتهم في الطرف المقابل من الولاية الفاسدة القائمة على نصرة الباطل، والدعوة إليه والالتفاف حوله. وهذه الولاية الفاسدة درجتان: الدرجة الأولى، ولاية الشياطين للكافرين والمنافقين والعصاة: أي يتولونهم بالإضلال والإفساد، والاصطدام مع أوامر الله وسننه في الحياة. وإلى هذه الدرجة كانت الإشارة بأمثال قوله تعالى: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 63] . {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27] . وتحسن الإشارة -هنا- إلى الاستعمالات الخاطئة المضللة لمصطلح -الشيطان- بحيث لم يعد بمقدور المسلم العادي أن يتخذ موقفا واقعيا محسوسا من الشياطين وأضاليلهم، وصار محرجا للمسلم المثقف أن يتطرق لمناقشة عمل الشياطين، وآثارها لما يرى في ذلك من إمكانية الوقوع في شرك الخرافة، أو الاتهام بالتفكير الخرافي. فالقرآن والحديث يطلقان مصطلح -الشيطان- ليدل على المنشطن: أي المنحرف الضال من قصد وإصرار1. والشيطان -في القرآن والحديث- قسمان: الأول، هو الشيطان الجني الذي لا يرى ولا يسمع من البشر العاديين. والقرآن يذكر هذا النوع في معرض تعريفه بعناصر الوجود المحيط وتفاعل الإنسان معها، ويخبر أن هذا الشيطان الجني ضعيف الكيد والتدبير، وإن عمله -في الغالب- بين بني جنسه. والنوع الثاني، هو الشيطان الإنساني الذي ينشطن -أن ينحرف عن قصد وإصرار- عن منهج الله ويتبنى منهاجا مضادا في الفكر والسلوك،   1 الطبري، التفسير، جـ1، ص49. ابن كثير، تفسير سورة البقرة: آية 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ويجعل من الانحراف والضلال فكرا صائبا، وعملا صالحا وإنجازا حضاريا متقدما، ثم يكرس حياته وجهوده للدعوة إلى هذا الانحراف والضلال وإشاعتهما. ففي معنى قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] . يذكر الطبري في تفسره أن الشياطين المشار إليهم في هذه الآية هم شياطين فارس من المجوس، وأن أولياءهم هم المتمردون من مشركي قريش. فقد أرسلت فارس إلى أوليائها من قريش أن جادلوا محمدا وأصحابه، حول أكل الميتة، وكانوا يسمونها قتل الله. فقالوا: ما قتل الله لا تأكلونه وما قتلتم تأكلون؟ وفي رواية قال المشركون للرسول -صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: "الله قتلها". قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} . وفي رواية أخرى، قالوا: أما قتل الصقر والكلب فتأكلونه، وأما قتل الله فلا تأكلونه؟ فوقع في نفوس بعض المسلمين شيء، فأنزل الله الآية، ونزلت أيضًا آية: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112-121] 1. ورواية الطبري عن مناسبة الآية تبين بوضوح إن ظاهرة شياطين الفكر من المستعمرين الذين يثيرون الشبهات حول الإسلام، وظاهرة أوليائهم من العرب -أو العملاء حسب لغة العصر الحديث- الذين يشيعون هذه الشبهات هذه ظاهرة قديمة -حديثة. فالعرب كانوا وما زالوا يتلقون القضايا الفكرية من شياطين الخارج. ففي الماضي كانوا يتلقون المعتقدات والشبهات من فارس والروم، واليوم يتلقونها من الغرب والشرق، ولا عاصم لهم إلا الإسلام. والحديث النبوي يركز على التحذير من شياطين الإنس. من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ " قالت قلت: يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟ قال: "نعم شر من شياطين الجن" 2.   1 الطبري، التفسير، جـ8، ص16، 17. 2 الطبري، نفس المصدر، ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وبهذا التصور الذي يقدمه القرآن والحديث يكون هناك شيطان الفكر، وشيطان التربية، وشيطان الثقافة، وشيطان الآداب، وشيطان الفنون، وشيطان الإعلام، وشيطان الإباحية، وشيطان الأزياء. ومن أحب أحدا من هؤلاء الشياطين أو قلده فهو ولي له، وهم أولياء له باعتبار أن لكل هؤلاء اهتمامات مشتركة تعمل في الاتجاه المضاد لصحة الأمة المسلمة، وسلامة عناصرها في الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة إن كانت قائمة، أو يعمل على إعاقة إخراجها إن كانت في مرحلة التكوين أو النشأة والنمو. وهكذا تتمركز -ولاية الشيطان- في قلب الاجتماع البشري، وتمثل سلوكا بشريا متخلفا وضارا لا بد من دراسته ومعالجته. ولكن مؤسسات التربية الإسلامية -حين خشيت في عصور الجمود والاستبداد شياطين السياسة والترف من الإنس- انحرفت للغوص في الغيبات بحثا عن شياطين الجن، التي لا ترى ولا يحس لها أثر، وأشغلت تفكير الناس بذلك حتى انتهت بكثير منهم إلى الوسوسة والجنون. لذلك لا بد للتربية الإسلامية أن ترد لمصطلح الشيطان، وولاية الشيطان محتواهما الاجتماعي المتمركز في قلب الاجتماع البشري، ولا بد لها أن تفتح ميادين جديدة في علم النفس للتعرف على عوامل، والمؤثرات التي تنتهي بالإنسان الذكي إلى الشيطنة الفكرية والسياسية، والاقتصادية والأخلاقية والتعرف على مضاعفاتها، وأساليب معالجتها وطرق الوقاية منها. فذلك هو الذي تدعو إليه الضرورات وتتطلبه التحديات، ويركز عليه القرآن الكريم حين يتحدث عن شياطين البشر من القيادات الفكرية، والسياسية وآثارهم المدمرة في الجماهير التي تستجيب لشيطنتهم وتقتفي أعمالهم، من ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] . ولقد نقل الطبري في تفسيره عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما أن المراد بـ"الشياطين" في هذه الآية كبار اليهود ورءوس الكفر، وأن الآية تشير إلى سلوك المنافقين في المدينة المنورة الذين كانوا يتظاهرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 بالإيمان إذا أصاب المسلمون رخاء وخيرا، ولكنهم إذا رجعوا إلى "شياطينهم" من كبار اليهود ورؤساء الكفر قالوا لهم: إنا لسنا جادين في إظهار الإيمان، وإنما نحن مستهزئون بمحمد وأصحابه1. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الحكمة من اعتبار شياطين الإنس شر من شياطين الجن -كما يقرر الحديث النبوي الذي مر ذكره؟ الجواب: هو ما يوجه إليه قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98-100] . فالشيطان الجني مخلوق خفي لا فاعلية له إلا في بيئات الظلم، والفساد والفاحشة التي تسهل عمله على إيقاع البشر في المعاصي، تماما كما لا تعمل الجراثيم، والفايروسات إلا في بيئات التلوث والقذارة التي تيسر لها التكاثر والفتك بالأصحاء. لذلك لا سلطان للشيطان في بيئات الإيمان بالله، وتطبيقاته النظيفة، وإنما سلطانه حين "يتولاه" المنشطنون من البشر و"يشركون" به و"يؤمنون" بالضلال الذي يريده، و"يهاجرون" إلى تطبيقات هذا الضلال، و"يجاهدون" لتلويث البيئة العامة بهذه الفواحش، و"يؤون" روادها ويسبغون عليهم المال والجاه والمكانة الوظيفية، ويجتهدون في "نصرتها" وحراستها. لذلك تبدو خطورة المكر الذي تمارسه الأنظمة السياسية التي تفصل بين الدين، والحياة وتجعل الدين قضية فردية، ثم "تتولى" شياطين الفن والثقافة، والتعليم والإعلام والاقتصاد والإدارة بالإيواء والنصرة، وتطلق لهم الحرية كاملة ليلوثوا البيئة العامة بالإلحاد والفاحشة، والترف والاحتكار والظلم والمحسوبية، وغلاء الأسعار الأمر الذي يجعل اجتناب المعاصي أمرا صعبا للغاية عند غالبية الذين يعيشون في هذه البيئة مهما انتشرت الخطابة   1 الطبري، التفسير، جـ1، ص129، 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 والمواعظ وكثرت المساجد وشعائر العبادة؛ لأن السلوك هو محصلة التفاعل بين الفرد والبيئة في لحظة معينة. لذلك لا يولد العمل الصالح من صلاح الفرد وحده، وإنما من صلاح الفرد والبيئة سواء. يضاف إلى ذلك أن تكرار السقوط في مزالق المعصية، ومصارعة معزياتها في البيئة الملوثة يشيع الاعتقاد بصعوبة التدين، ويجعل العصاة وضعاف النفوس يصدقون مقولات -شياطين العلم- التي تقرر أن الضوابط الأخلاقية قيود نفسية، تنتهي بأصحابها إلى العقد النفسية، والمشكلات الاجتماعية والأمراض الجسدية. والدرجة الثانية، ولاية الكافرين والمنافقين والعصاة بعضهم لبعض: وإلى هذه الدرجة هذه الدرجة كانت الإشارة بأمثال قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية: 19] . {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] . فالكافرون والمنافقون والعصاة من الموجهين والقادة يتولون الأتباع بالتوجيه، والتدريب على الممارسة والتطبيق، بينما يتولى الأتباع القادة والموجهين بالاستجابة، والاتباع والإيواء والنصرة. وهم جميعا يتعاونون لإقامة -أمة الكفر- والهيمنة في الأرض لنشر الفتنة والفساد الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 التربية ورباط الولاية : ينبه القرآن الكريم إلى ضرورة العلم بالنوعين من -الولاية- وقيام التربية بالتمييز بينهما بغية اتقاء التداخل، أو الاختلاط بين الأفكار والتطبيقات والروابط، والولاء مما يضعف -ولاية الأمة المسلمة- ويبطل فاعليتها. وأبرز الظواهر التي تختلط فيها مفاهيم الولاية، والرعاية هي -روابط العصبية والدم والمصالح الاقتصادية، ولذلك أخضعتها التربية الإسلامية لتوجيهاتها، وسمحت بها ما دامت -صلة رحم- تدور في فلك -ولاية الإيمان- وتقتصر وظيفتها على التواصل الاجتماعي بعيدا عن مكاسب السياسة والإدارة. أما إذا انقلبت عصبية جاهلية، واصطدمت بولاية المؤمنين فعند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ذلك لا مكان لها في "أمة المؤمنين". وإلى ذلك يشير أمثال قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 23، 24] . والرسول -صلى الله عليه وسلم- يخرج من بقي مواليا لروابط العصبية من دائرة الانتماء لـ"الأمة المسلمة"، وأنه ليس من هذه الأمة من دعا إلى عصبية أو قاتل على عصبية أو مات على عصبية1. وتبدو الحكمة من المفهوم الإسلامي لـ"الولاية" حين ننظر في العلاقة بين فاعلية الولاية وسعة دائرتها. فالأمة التي تمتد حدود -الولاية- فيها إلى الدائرة الإيمانية التي تتسع للإنسانية كلها تتفوق على الأمة التي ينتهي رباط الولاية فيها عند "الدائرة القومية". والأمة التي ينتهي رباط الولاية فيها عند "القوم" تتفوق على الأمة التي ينتهي فيها رباط الولاية عند دوائر "القبيلة". والسبب إنه كلما اتسعت دائرة الولاء تطلبت إلى قدر أكبر من العمل الجماعي، ومحتويات أوسع وأعمق لروابط الإيمان والهجرة والجهاد والرسالة، والإيواء والنصرة، وإلى قدر أكبر من الوسائل وتكنولوجيا التنظيم. وهذا ما يفسر تخلف مجتمعات العالم الثالث، وتفوق مجتمعات أمريكا وأوربا واليابان، ذلك أن ولاء الفرد والجماعات في المجتمعات المتفوقة يمتد حتى دائرة "القوم" بينما ينتهي ولاء الفرد في المجتمعات العالم الثالث -ومنه العالم الإسلامي- عند دائرة "القبيلة" أو "الطائفة"، ولذلك تتحدد جهوده ونشاطاته، واهتماماته بحدود الدوائر القبلية والطائفية، وبما يكفي احتياجاتها المحدودة مما يجعل أهدافه أصغر وطموحاته أدنى، ونشاطاته ووسائله في المعرفة، والعمل والإنتاج أقل.   1 صحيح مسلم، كتاب الإمارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الفصل الثالث والعشرون: عناصر الأمة المسلمة ونظرية الحاجات في علم النفس الحديث سلم الحاجات بين الأصول الإسلامية وعلم النفس الإنساني ... الفصل الثالث والعشرون: عناصر الأمة المسلمة، ونظرية الحاجات في علم النفس الحديث إن تجسيد عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة في حياة مجموعة من الناس يلبي حاجات فطرية في الإنسان، ويفجر طاقاته في العمل ويؤدي إلى ميلاد أمة وقيام حضارة. والعبث بهذه العناصر في أمة قائمة أو تسرب الخلل إليها يحرم الإنسان من حاجاته الفطرية، فتموت فاعليته وينتهي إلى العجز والكسل مما يؤدي إلى ضعف الأمة القائمة، وانحلالها وموتها. ولقد أولى علم النفس الحديث -ظاهرة الحاجات الإنسانية- عنايته وتناولتها علوم الإدارة والسياسة والتربية بالتطبيق. ومن المصادر المعتمدة في هذا المجال -نظرية سلم الحاجات عند أبراهام ماسلو Abraham Maslow رائد مدرسة علم النفس الإنساني Humanistic Psychology التي تقول بتفرد الإنسان، وترفض المقررات التي تسوي بينه وبين الحيوان. ولعله من المناسب استعراض التوازي القائم بين هذه النظرية، وبين عناصر الأمة المسلمة وتطبيقاتها التي مر ذكرها. 1- سلم الحاجات بين الأصول الإسلامية، وعلم النفس الإنساني: للإنسان دوافع أو حاجات كثيرة تتزاحم لتوجيه سلوكه، وتتخذ أوضاعا متغيرة في حياته حيث تقوى أحيانا وتضعف أخرى. وأقوى هذه الحاجات في لحظة معينة تقود إلى النشاط، وتوجيه السلوك كما هو في الشكل التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 في الشكل "أ" تقع الحاجات الفسيولوجية في أعلى السلم، وتبدو أقوى الحاجات؛ لأنها حاجات أساسية ضرورية للحياة نفسها مثل الحاجة للطعام، والحاجة للباس، والحاجة للمأوى، والحاجة للزواج، وما لم تشبع هذه الحاجات الأساسية إلى درجة تضمن حياة الجسم، والقيام بوظائفه فإن غالبية اهتمامات الإنسان، ونشاطاته سوف تتركز حول هذه الدرجة من سلم الحاجات بينما تنال بقية المستويات قليلا من الدافعية. ب- الشكل الثاني: حاجات الأمن: وإذا بدأت الحاجات الفسيولوجية بالاكتفاء تصبح الحاجات التالية في السلم وهي -حاجات الأمن Safety أو Security أكثر هيمنة، وتسيطر على الاهتمامات، وتوجه النشاطات كما يتضح من الشكل التالي: في الشكل الثاني تبدو حاجات الأمن في أعلى السلم أي أنها أقوى الحاجات. وحاجات الأمن تعني التحرر من الخوف، أو الإيذاء الجسدي أو الحرمان من الحاجات الأساسية أي أنها تعني حفظ النفس، وصيانة ثروة الفرد ووظيفته حتى يستطيع توفير الغذاء والمأوى لغده وما بعد. فإذا كان أمن الإنسان في خطر فإن بقية الحاجات تصبح غير مهمة عنده، ويتركز اهتمامه ونشاطه وسلوكه لتوفير الأمن الذي ينشده، واتقاء الخطر الذي يتهدده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 والكثير من الناس يحتاجون إلى تقدير عال لأنفسهم يتمثل في الثقفة بالنفس، والهيبة والقوة والهيمنة وشعور الفرد بأنه مفيد، وله بعض التأثير في بيئته. وإذا لم يستطع -هذا النوع من الأفراد- إشباع حاجته للتقدير من خلال السلوك البناء، فإنه قد يلجأ إلى السلوك التدميري، والنشاطات المشوشة غير الناضجة. فالطفل -مثلا- قد ينفجر في نوبة غضب ليلفت انتباه من حوله. والموظف قد يدخل في جدل مع زملائه أو رئيسه، ويصبح مشاكسا في دائرته، والمعارضة قد تدخل في شغب مع الحكومة، وانتقاد حاد أو هدام لأعمالها والتظاهر ضدها، وإثارة أعمال الشغب في وجهها. ويتعلق بـ -حاجة التقدير- دافعان: المكانة Prestige والقوة Power. أما المكانة فقد تولد مع الفرد إذا ولد في عائلة أو بيئة لها مكانتها. والناس يبحثون عن المكانة بطرق عديدة، ويكتفي الكثير بالبحث عن مظاهرها المادية بينما يجاهد آخرون لنيلها بالإنجاز الشخصي وتحقيق الذات. وكثير من الأشخاص يعملون بجد للحصول على مكانة معينة، فإذا حصلوا عليها ضعفت أو انطفت هذه الحاجة وصارت مهمتهم المحافظة عليها لا التقدم. ولذلك تكون دافعية المكانة قوية في الشباب الذين يميلون لتحسين مكانتهم بينما يقنع الكبار بما وصلوا إليه، وتكون النتيجة أنهم لا يعملون كثيرا لتحسين مراكزهم. أما عن القوة فهي نوعان: قوة المركز، وقوة الشخصية. وهناك أناس لا قوة لهم على الإطلاق. هـ- الشكل الخامس: الحاجة لتحقيق الذات عندما تبدأ الحاجة إلى التقدير بالإشباع بشكل مقبول، فإن الفرد يبدأ في التطلع إلى ما يثبت هذا التقدير ويخلده. ولذلك تصبح -الحاجة لتحقيق الذات- أقوى دوافع السلوك، وتتمركز في أعلى قمة السلم كما هو واضح في الشكل التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وحاجة تحقيق الذات تستدعي مضاعفة إنتاج الفرد، وبلوغ أقصى ما يستطيعه من الإبداع. فالمفكر يحتاج أن يكتب ويفرز أحسن ما يستطيعه من الأفكار، والقائد يحتاج أن يحقق أروع الانتصارات ويكسب المعارك، والسياسي يحتاج أن ينجز أعظم الأعمال. وهكذا فإن تحقيق الذات هو الرغبة في أن يصبح المرء ما في قدرته أن يكون. ويشبع الأفراد هذه الحاجة بطرق مختلفة. فقد يعبر عنها الإنسان ليصبح مديرًا ناجحًا. وقد يعبر عنها بالبروز في الرياضة، وآخر قد يعبر عنها في التفوق الدراسي، وقد تعبر عنها الأم لتصبح أما مثالية، وفي القتال قد يخاطر الجندي بحياته، ويهاجم وحدة سلاح لتدميرها وهو يعلم تمام العلم إن فرض نجاته قليلة جدا، وهو لا يفعل ذلك لحاجته للانتماء أو التقدير، وإنما لما يظنه مهما. وتتنوع أساليب إشباع -الحاجة لتحقيق الذات- ويمكن تغييرها في مدار العمر. فالرياضي مثلًا قد يبحث عن ميادين أخرى يضاعف فيها احتمالات تفوقه طبقات لتغير عطائه الجسدي أو لاتساع آفاقه1.   1 Abraham Maslow, Motivation and Personality, "New york: Harper & Row Publishers, 1970" PP. 35-58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 والبحوث التي تناولت تحقيق الذات -بعد ماسلو، بلورت هذه الحاجة في دافعين اثنين هما: دافع الجدارة، ودافع الإنجاز. أما الجدارة أو الكفاءة فهي تتضمن القدرة على السيطرة على عوامل البيئة الطبيعية والاجتماعية. فالناس الذين لديهم هذا الدافع لا ينتظرون حدوث الأشياء من ذاتها، وإنما يريدون أن تكون لديهم القدرة على تشكيل البيئة لحدوث الأشياء. وتعتمد قوة هذا الدافع أو ضعفه على تجارب النجاح والفشل الماضية. وتتشكل توقعات الأفراد حسب هذه الخبرات. فالذين تكون توقعاتهم سلبية تضعف عندهم روح المخاطرة والمبادرة. وهؤلاء يتركون بيئتهم تتحكم بهم أكثر من المحاولة على تغييرها. وهذا الدافع متغير غير ثابت حسب خيرات النجاح والفشل. وعلى كل هناك وقت يميل فيه دافع الكفاءة إلى الهدوء والركود. وعندما يحدث هذا فإن حس الكفاءة يتحول إلى تنبؤات نفسية عما إذا كانت خبرة معينة ستنجح أو تفشل. وبعد أن يصل الفرد إلى سن معينة، فإنه نادرا ما ينجز أكثر مما يظن أنه قادر عليه؛ لأنه يحاول إنجاز أشياء يظن أنه ليس له قدرة عليها. وأما -الإنجاز- فقد لاحظ علماء السلوك أن بعض الأفراد لديهم حاجة قوية للإنجاز، بينما آخرون، ولربما الأكثرية، لا يبدو أنهم يهتمون بالإنجاز، ولقد أثارت هذه الظاهرة البروفسور ديفيد س. ملكيلاند الذي ما زال هو وفريقه في جامعة هارفارد يدرسون الحاجة للإنجاز. والأبحاث التي أجراها مكليلاند قادته إلى الاعتقاد بأن حاجة الإنجاز هي حاجة واضحة متميزة، ويمكن تمييزها من بقية الحاجات، ويمكن عزلها وتقييمها في أية جماعة. وأبرز خصائص الأشخاص الذين لديهم حاجة عالية للإنجاز هي: أولًا، دراسة الشيء بدقة قبل البدء به. ثانيًا، اعتدال روح المخاطرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ثالثًا، الاهتمام بالإنجاز أكثر من الحوافز. رابعا، قضاء وقت أكبر في التفكير بما يجب عمله1. وليس من الضروري -حسب رأي ماسلو- أن تعمل حاجات الإنسان طبقا للنسق الذي قدمه، وليس من الضروري أن تنطبق هذه الحاجات على كل بني الإنسان. ولكنها هي النموذج الغالب الذي يعمل في غالب الأوقات. ولقد شعر -ماسلو- إن هناك نماذج من البشر تشذ عن هذا المبدأ، وضرب لذلك مثلا بالقائد الهندي غاندي الذي ضحى بحاجاته الفسيولوجية، والأمن ليشبع الحاجات الأخرى عندما كانت الهند تكافح للاستقلال من سيطرة بريطانيا2. ولا أريد الخوض في درجة النقد لـ -ماسلو- وهو ينتبه لفرد واحد مثل غاندي، ويغفل عن جيل كامل مثل جيل الصحابة في التاريخ الإسلامي الذين قدموا المثل الفريد للتضحية بالحاجات الفسيولوجية، والأمن في سبيل الارتقاء إلى حاجة تحقيق الذات. ولكنه يظل جيلا غير قابل للتكرار بنفس الحجم والزخم -حسب تقرير القرآن نفسه الذي نص بصراحة على أن بلوغ هذا الدرجة تتصف بها ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين. والواقع إن النظر الراسخ في القرآن الكريم يرشد إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يفرض هذه التضحية قاعدة مستمرة في استراتيجية العمل الإسلامي، وإنما وجه إليها رسوله -صلى الله عليه وسلم- مؤقتا في الوقت الذي وجهه، لأن يبحث عن مهجر يهاجر إليه، ويعمل على توفير كافة درجات سلم الحاجات لأتباعه فيه ابتداء من الحاجات الأساسية، ثم حاجات الأمن والاحترام والانتماء مما يهيئ لهم تحقيق ذواتهم الإنسانية، التي فطروا عليها في الجدارة   1 Paul Hersey and Ken Blanchaerd, Management of Organiztional Behavior, "Englewood Cliffs; Nj: Prentice Hall Inc. 1982- PP. 37-40. 2 Panl Hersey & Ken Blanchard, OP. Cit, P. 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 والإنجاز وهم يجاهدون لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله. وليست عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة إلا وسائل عملية فاعلة لتوفير سلم الحاجات المشار إليه. فعنصر -الإيواء- يحقق -الحاجات الأساسية- وهو يركز على وجوب انتفاع الأمة كلها بمصادر الثرورة، وتنمية قيم الاستقرار والزواج والمسكن، وتأمين المواصلات، وحسن الانتفاع بالأرض ومواردها، وتنمية حب العمل ومهاراته، وغير ذلك مما جرت مناقشته في الفصل الخاص بذلك. وعنصر -النصرة- يحقق -حاجات الأمن- وهو يركز على سيادة "الشريعة فوق القوة"، وتحصين إنسان الأمة المسلمة من الغيبة والتجسس، والاضطهاد والنفي وهو أيضا يحقق -الحاجة للتقدير- وهو يركز على حرمة الإنسان ونصرة العدل ضد الظلم، والدفاع عن حرماته أمام طغيان القوة في الداخل أو الخارج. وعنصر -الإيمان- يحقق -الحاجة للانتماء- وهو يركز على بلورة "هوية المؤمنين وجنسيتهم وثقافتهم" المتميزة عن بقية الجنسيات والثقافات. وعنصر -الجهاد والرسالة- يحقق -الحاجة لتحقيق الذات- وهو المجال الذي يفتح الباب واسعا في مسرح الكرة الأرضية كلها ليحقق المسلم ذاته من خلال إثبات "جدارته" في حمل الرسالة -رسالة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر- وبرهنة "جدارته" على "الإنجاز" من خلال تجسيد هذه الرسالة في معتقدات ونظم وتطبيقات. وعنصر -الهجرة- يرتقي بحاجة الانتماء إلى أعلى مستوياتها، ويجعل لسلم الحاجات الإنسانية ميزة خاصة، وهي قابلية الهجرة من التطبيقات الخاطئة لهذه الحاجات، أو تلك التي انقضى أمدها إلى تطبيقات تتفق مع متطلبات الزمان والمكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ويلاحظ على سلم الحاجات التي توجه إليها الأصول الإسلامية، أنها تتلاحم مع الأصول العقدية، والقيم الأخلاقية التي يوجه إليها الإسلام مما يسهل الحكم على تطبيقات هذه الحاجات، وتصنيفها إلى تطبيقات خيرة وأخرى خاطئة. وتبدو هذه السمة واضحة في الآيات القرآنية التي تتحدث عن دعاء إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 35-37] . {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126] . فالدعاء من أجل إشباع -حاجات الأمن، والثمرات، والتقدير "من أفئدة الناس" وسائل تعين ذرية إبراهيم "ليقيموا الصلاة" و"يشكرون". وإقامة الصلاة تعني إقامة معانيها في واقع الحياة، أما حقيقة الشكر فهو أن لا يعصى الله فيه نعمه. أما في علم النفس الحديث، فإن -سلم الحاجات الإنسانية- يطرح مجردا من العقائد والقيم والأخلاق مثله في ذلك مثل -العلم الطبيعي- ثم لا يكترث واضعو نظرية سلم الحاجات هذا إن جاءت تطبيقاتها لنصرة الخير، أو لتعزيز مكانة الشر. وانطلاقا من هذه الفرق اختلفت تطبيقات الحاجات المشار إليها في كلا المدرستين التربويتين، وهو ما سيعالج في الفقرة التالية من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 2- سلم الحاجات الإنسانية بين التطبيقات الإسلامية، والتطبيقات التي يوجه إليها علم النفس الحديث: أدى الاختلاف القائم بين غايات سلم الحاجات الإنسانية في أصول التربية الإسلامية، وعلم النفس الحديث إلى اختلافات في التطبيقات. وتتمثل أبرز هذه الاختلافات في ما يلي: أولا: توفير حاجات الطعام، والأمن للنوع البشري كله -في مقابل- توفيرها لجنس معين من النوع البشري: في أصول التربية الإسلامية توجه تطبيقات سلم الحاجات الإنسانية إلى توفير حاجات الطعام، والأمن لجميع بني الإنسان سواء منهم المؤمنين أو الكافرين. فحين قصر إبراهيم عليه السلام دعاءه بالأمن، والثمرات وإيواء أفئدة الناس على "من آمن" من ذريته جاءه الجواب الإلهي {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} . والقليل هنا هو فترة الحياة الدنيا، ووصف بالقلة لقصر زمنها إذا ما قورنت بالآخرة الأبدية اللامتناهية. ويستنتج من هذا عدم جواز العبث والمساس بحاجات الغذاء والإيواء، والأمن بسبب الاختلاف في المعتقدات والسلوك والمواقف. فلا نفي ولا مصادرة ولا قطع لموارد العيش، ولا إيقاف عن العمل ولا اعتداء على الحريات والكرامات. وفي القرآن الكريم أن المناسبة في نزول قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272] هي أن جماعة من المسلمين كانوا ينفقون على قوم من يهود قريظة، والنضير في المدينة تربطهم بهم روابط النسب والقربى، فأرادوا إيقاف النفقة عنهم لإجبارهم على الدخول في الإسلام، فنزل الوحي ينهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويخبر المسلمين أنه لا يرضى بالضغط الاقتصادي أن يكون وسيلة لهداية الناس1.   1 الطبري، التفسير، جـ3، ص94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ومثلها تمامًا حين أراد أبو بكر الصديق أن يوقف العون المالي الذي كان يدفعه لبعض أهل الإفك الذين أشاعوا الفحشاء عن عفاف ابنته عائشة زوجة الرسول -صلى الله عليه وسلم، فجاء الوحي يناه عن قطع هذه المعونة: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] . صحيح أن هذه التطبيقات الإسلامية لم يستمر التقيد بها تماما بعد عصر النبوة، والخلفاء الراشدين بسبب الردة إلى القيم القبلية والدوران في فلك "أشخاص" الحاكمين، إلا أن مخالفتها ظلت وما زالت ينظر إليها كمخالفة للأصول الإسلامية لا يمكن تبريرها أو القول بشرعيتها. أما في المجتمعات الحديثة التي تسترشد بنظريات علم النفس، فإن تطبيقات -سلم الحاجة الإنسانية بسبب الفلسفة اللادينية لهذا العلم- تقتصر على توفير حاجات الطعام، والأمن على جنس معين من البشر هو مواطنو هذه المجتمعات ولهدف اقتصادي هو رفع درجة الإبداع العلمي، والآداء الوظيفي بغية تحسين ظروف العمل وغزارة الإنتاج. أما خارج هذه المجتمعات فقد استغل الساسة والعسكريون، وأصحاب المصالح المالية في الاحتكار والاستعمار -سلم الحاجات عند ماسلو- لبلورة استراتيجيات، وسياسات معينة هدفها الهيمنة والتحكم بمقدرات الشعوب، والأمم الأخرى خارج أقطارهم. ويعترف الكثير من خبراء السياسة والمختصين في التربية إن قوانين ماسلو في الحاجات تطبق على كثير من شعوب العالم الثالث -ومنه العالم العربي والإسلامي- للتحكم من خلالها بمقدرات هذا العالم العقلية والنفسية، والمادية وإبقاء هذه الشعوب في دوامة العجز والفشل والإحباط بالقدر الذي تستدعيه السياسات المرسومة. أما أدوات هذا التحكم والتطبيق السلبي لقوانين ماسلو فهي التنظيمات الإدارية، والإجراءات البوليسية والسياسات الاقتصادية، والتربوية التي تنصح بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الدول المتقدمة دول العالم الثالث، والمشكلات السياسية والعسكرية التي تستدرجها للتخبط في حمأتها، وتثبيت مواردها البشرية بواسطتها في دوامة البحث عن الغذاء والكساء، والسكن والزواج أي تثبيتها عند -درجة الحاجات الأساسية- مما يجعل ارتقاءها إلى -درجة التحقيق الذاتي: درجة الجدارة والإنجاز- أمرا مستحيلا. ثانيا: تأمين الأمن والاحترام للنوع البشري كله -في مقابل- تأمين الأمن والاحترام لجنس معين من النوع البشري: في أصول التربية الإسلامية توجه تطبيقات سلم الحاجات الإنسانية إلى توفير الأمن، والتكريم لبني آدم دون نظر إلى أجناسهم، أو ألوانهم أو معتقداتهم وثقافاتهم وممتلكاتهم أو أوطانهم. والعلاقة التي تربط بني المؤمنين وغير المؤمنين في مجتمع الأمة المسلمة تجسد هذا الاحترام في الاسم، والممارسة وتذكر بعلاقة العهد ووجوب الوفاء به. وهو ما يتضمنه اصطلاح -أهل الذمة، أو الذميين. وآخر وصية للرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما حضرته الوفاة كانت مراعاة الوفاء، والمعاملة الخيرة للنساء وأهل الذمة. أما في المجتمعات الحديثة فإن تطبيق -سلم الحاجات الإنسانية- يقتصر على توفير الحاجة للاحترام على جنس معين من البشر ميزته باسم -المواطن- وألقت عليه صفة -الأكثرية- بينما ميزت من هو خارج عن دائرة هذا الجنس باسم -الأجنبي- وألقت عليه صفة -الأقلية- وتقررت درجة الاحترام طبقا لهذا الاسم وهذه الصفة. كذلك قصرت الأمن على جنس معين من البشر هم الذين يسكنون داخل هذه المجتمعات. أما خارج هذه المجتمعات -خاصة مجتمعات العالم الثالث- فقد أشاعت سوء العلاقات بين القيادات، والشعوب وأبقت الجميع حبيس الحذر، وعدم الثقة ومما ينتج عن ذلك من توتر واضطراب، ونزيف بشري بسبب الفتن الدموية، أو الهجرات إلى الخارج. ويعترف الكثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 من الخبراء والمستشارين إنهم أقاموا نظم الحكم الدكتاتورية، والتربية العسكرية، ومؤسسات البوليس والمخابرات في العالم الثالث لتكون أدوات تهدم أمن الإنسان، واحترامه مما يبقيه مثبتا عند الحاجة إلى الأمن، والاحترام عاجزا عن الصعود إلى درجة الحاجة لتحقيق الذات حيث الجدارة والإنتاج. ولقد تناول هذه الظاهرة العالم النفساني -صول و. جلبرمان- حين ذكر أن حاجات الأمن تظهر بشكل واع، أو تكون في منطقة اللاوعي. فالحاجات المدركة هي مثل السلامة من الحوادث والحروب، والاعتقال والأمراض وعدم الاستقرار الاقتصادي. ولذلك يهتم الأفراد والمؤسسات في الدول المتقدمة بتوفير الضمانات للعاملين، وتوفير الأجواء المربحة لهم لتجنب العوامل التي تعيقهم عن الإبداع، بينما تنتهي هذه السلبيات بأقطار -العالم الثالث- إلى العجز وعدم الإنتاج. ويضيف -جلبرمان- إن توفير هذه الضمانات والحاجات النفسية في الأمن، والاحترام والانتماء يجعل العاملين أكثر استجابة لما يطلب منهم أن يعملوه، وأنهم بدونها قد يكونون أكثر طاعة للأوامر، ويمكن التحكم بمستقبل تصرفاتهم، ولكن ليس من الضروري أن يصبحوا منتجين مبدعين. ثالثا: تأمين -الحاجة للانتماء- للنوع البشري كله -في مقابل- قصر حاجة الانتماء على جنس معين من النوع البشري: في أصول التربية الإسلامية يستطيع كل إنسان أن يبلور "جنسيته" و"هويته" من خلال -عنصر الإيمان- وتطبيقاته الثقافية دون نظر إلى عوامل المولد والوطن، واللون والمصالح والمقدرات الاقتصادية، والمكانة الاجتماعية1.   1 يستعمل مصطلح "الهوية" هنا لتحديد مكانة الإنسان في الوجود. أما مصطلح "الجنسية"، فيستعمل لتحديد مكانة الإنسان بين الجنس البشري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 أما في المجتمعات الحديثة -التي توصف بالتقدم التكنولوجي- قد لونت هذه الحاجة بفلسفة الدارونية وقصرت -الانتماء- على جنس معين. من البشر وضعت له أوصافا في "اللون" و"الجنس" و"التقدم الاقتصادي والتكنولوجي". فهو الجنس الأبيض، وهو المتقدم، وهو المتحضر. أما خارج هذه المجتمعات فقد تدخلت لتحديد "جنسيات" العالم الثالث و"هوياتهم" ومستوياتهم الحضارية، ومدى تطورهم التاريخي، وإصدار أحكامها فيما يتعلق بثقافتهم وتراثهم، فهم: شعوب العالم الثالث، وهم البرابرة، وهم مجتمعات التخلف، واستغلت نظم التربية والتوجيه لإشاعة ظواهر "الاغتراب الثقافي والاجتماعي" عند ناشئتهم، وعدم الانتماء عند شبابهم ومثقفيهم، ثم تركتهم فريسة الإحساس بالنقص، والظواهر المرضية في ميادين الاجتماع والأخلاق. رابعًا: تأمين -الحاجة لتحقيق الذات- للنوع البشري كله -في مقابل- قصر تحقيق الذات على جنس معين من البشر في أصول التربية الإسلامية توجه تطبيقات سلم الحاجات الإنسانية إلى توفير -الحاجة لتحقيق الذات- لبني البشر كافة من خلال إثبات "جدارتهم" وقدرتهم على "الإنجاز" الفكري والنفسي، والمادي فيما يسهم بحمل رسالة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إلى العالم كله، وتجسيد هذه الغاية في واقع الحياة يحتاج إلى "جدارات" عالية و"إنتاج ضخم" في ميادين علوم الغايات وعلوم الوسائل وتطبيقاتها. أما في المجتمعات الحديثة، فإن تطبيق -سلم الحاجات الإنسانية- يقصر الحاجة لتحقيق الذات على جنس معين، كما يقصر ميدان "الجدارة" و"الإنتاج" على عوامل الوسائل، ولا يمتد إلى "علوم الغايات". أما خارج المجتمعات المتقدمة فإن سياسات هذه المجتمعات تقوم على نهب العقول القادرة على "تحقيق الذات" بوسائل التهجير التربوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 والأمني والبوليسي، وإغراءات إشباع الحاجات التي يحرم أصحاب العقول الذكية منها في مواطنهم -مواطن العالم الثالث- تاركين خلفهم الأغلبية الساحقة يصارعون لتحقيق أدنى درجات -سلم الحاجات الإنسانية- أو الحاجات الفسيولوجية التي تدور حول الغذاء، والكساء والمأوى والزواج، والذين ينجحون في تأمين الحد الأدنى لأنفسهم، ولأسرهم من الحاجات الفسيولوجية المشار إليها يصبحون أمثلة النجاح والإنجاز، والجدارة للأفراد، والقدوة الحسنة للناشئة. وخلال الصراع المشار إليه تنهار أخلاق الأفراد وتتقطع روابط الجماعات؛ لأن الإنسان إذا لم يحصل على حاجاته في العيش، والأمن والاحترام والانتماء بالطرق الكريمة العادلة، يصاب باختلال المشاعر والفكر والسلوك، فإما أن يلجأ إلى النفاق والتزلف والغش، والمكيدة والفاحشة للحصول على الحاجات المذكورة، وإما أن يغترب نفسيا ويلجأ إلى العزلة أو الهجرة إلى الخارج، وهذا هو السبب في الاضطراب الأخلاقي والاجتماعي عند الأكثرية السكانية في أقطار العالم الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 الباب الخامس: صحة الأمة ومرضها وموتها مدخل ... الباب الخامس: صحة الأمة ومرضها وموتها الأمم كالأفراد تنتابها حالات الصحة والمرض والوفاة، ولها أعمار وآجال. وحين تمضي الأمم في مراحل الصحة والمرض والموت، فإنها تسير طبقا لقوانين محددة ومراحل مقدرة تحكمها -الأسباب والنتائج- وتصاحبها -الأعراض والمضاعفات- حتى تنتهي الأمة إلى أجلها ومصيرها المحتوم. وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] و [يونس: 49] . {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحجر: 4، 5] . والأسباب التي تؤدي إلى مرض الأمم، وتسوقها إلى آجالها هي أيضا كأسباب مرض الأفراد وآجالهم: أي هي أسباب طبيعية تتمثل في الهرم، وانتهاء زمن الابتلاء المقدر في الحياة، وأسباب مرضية تتمثل في مخالفة قواعد صحة الأمم، واقتراف أسباب المرض أو الوفاة. والأسباب الطبيعية لا سبيل إلى التحكم بها مثل انتهاء أجل الأمة، التي أخرجت على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتي أشار إلى أجلها بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 "إن لكل أمة أجلا، وإن لأمتي مائة سنة، فإذا مرت على أمتي مائة سنة أتاها ما وعد الله"1. أما الأسباب المرضية فيمكن التدخل بها إيجابا، وسلبا مثلما يمكن التدخل في أسباب صحة الأفراد وأمراضهم ووفاتهم. ويحتاج العاملون في ميادين -إخراج الأمة- ورعايتها إلى التمييز بين "أسباب" مرض الأمم، و"مراحله" و"أعراضه". "فالأسباب" المرضية تكون "فكرية" أساسها ما في الأنفس من معتقدات وقيم وثقافات. أما "الأعراض" فتكون سياسية واقتصادية واجتماعية، وأما "المراحل" فتكون "حضارية". والخلط بين الأسباب والأعراض، والمراحل يتسبب في الاضطراب والارتباك في ميادين التربية، والدعوة والمعالجة فيشتغل المعالجون بالأعراض بدل الأسباب، أو يخطئون ترتيب الأسباب والمراحل، أو يخطئون في استعمال وسائل العلاج وطرائقه، أو يخطئون في توفير المؤسسات اللازمة لذلك هكذا. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يوجه إلى أسباب مرض الأمة وموتها، وإلى أعراض هذا المرض ومراحله في أحاديث كثيرة، ومتنوعة مستهدفا تحريك -إرادات- المسلمين لاستعمال قدراتهم العقلية، والحسية للبحث في الأسباب وتشخيص الأعراض، وتحديد وسائل العلاج كما نرى ذلك في مكانه من البحث. ويتحدث -صلى الله عليه وسلم- عن مراحل صحة الأمة ومرضها، ووفاتها فيقول: "إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكا عضوضا، ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلون الحرير والفروج والخمور، ويرزقون على ذلك وينصرون حتى يلقوا الله عز وجل" 2.   1 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ14، ص193، نقلا عن الطبراني في -المعجم الكبير. 2 ابن كثير، البداية والنهاية، جـ8، ص20، نقلا عن الطبراني بإسناد جيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الفصل الرابع والعشرون: المرحلة الأولى مرحلة صحة الأمة وعافيتها مرحلة الدوران في فلك الأفكار دوران الأشخاص والأشياء في فلك أفكار الرسالة وتطبيقاتها ... الفصل الرابع والعشرون: المرحلة الأولى: مرحلة صحة الأمة وعافيتها "مرحلة الدوران في فلك الأفكار" يرمز إلى مرحلة صحة الأمة في الشكل رقم "2" بالمثلث أب جـ على صفحة 373 حيث تبدأ بميلاد الرسالة عند المحطة الزمنية أ، حتى إذا تم إخراج الأمة، وبلغت درجة النضج كانت حقيقة "المثل الأعلى" الذي يوجه الحياة في الأمة هي: دوران "الأشخاص والأشياء" في فلك "أفكار" الرسالة وتطبيقاتها: والتطبيق العملي للدوران المذكور هو أن يكون "الولاء" للرسالة هو محور الأنشطة التي تكرس خلالها طاقات الأشخاص، ومقدرات الأشياء في الأمة في سبيل تطبيق "أفكار" الرسالة في الداخل ونشرها في الخارج. وبذلك تصبح "أفكار" الرسالة هي غايات الحياة بينما يشكل جهاد الأشخاص، وبذل الأشياء في هذ الجهاد دور الوسائل العامة لتحقيق هذه الغاية. وبتعبير آخر "يخلف أشخاص الأمة" الرسول في نصرة "أفكار" الرسالة فتظهر -الخلافة- وتحدد مواقع الأفراد، ووظائفهم طبقا لدرجة قدرتهم على "خلافة" الرسول في "فقه" أفكار الرسالة، وتطبيقاتها والإخلاص في حملها. وتطابق مواقف "الخلفاء" مع نموذج الرسول في الفقه، والتطبيق يؤهل خلافتهم لتوصف بأنها خلافة راشدة. وتتفاوت سعة "الخلافة" بتفاوت مسئوليات الأفراد حيث تبدأ من مسئولية الفرد في أسرته، أو متجره أو وظيفته حتى تبلغ أقصى سعتها في -الخليفة الحاكم- الذي يدير السياسة ويصرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الأمور العامة. وهذا التجانس بين قمة الخلافة وقواعدها هو بعض ما تعنيه القاعدة الإسلامية القائلة: "كما تكونون يول عليكم"1. وفي حالة الصحة تستمد عناصر الأمة: أي عناصر الإيمان، والهجرة والمهجر، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية محتوياتها من أفكار "الرسالة" الإلهية، وتستثمر في سبيل تطبيقات الرسالة ونشرها. ويصور الشكل رقم "3" التكوين الذي تنتظم طبقات له عناصر الأمة في مرحلة الصحة المشار إليها: الشكل رقم "3" ففي الشكل "3" المذكور أعلاه تتمركز عناصر الأمة الرئيسية: أي الإيمان، والهجرة، والجهاد، والإيواء، والنصرة على دائرة أفكار الرسالة لتجسد محصلة تطبيقاتها العملية في -الولاء- للفكرة ذاتها، وللأمة التي تحمل هذه الفكرة.   1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب قتال أهل البغي، جـ35، ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ويلاحظ إن -محور الولاء- المشار إليه يمر بدوائر أخرى تقع داخل دائرة الأفكار، وهذه الدوائر هي دوائر القوم، والقبيلة والأسرة والفرد نفسه. ومعنى ذلك إن هذه الدوائر المتوالية في الصغر تتغذى من دائرة "الأفكار" الأكبر كما تتغذى السيقان، والأغصان والأوراق والزهور، والثمار من بيئة الغذاء المحيطة بالجذور التي تنقل بدورها الغذاء للسيقان، والفروع التي تليها. فالدوائر الأصغر الواقعة داخل الدائرة الكبرى تستمد محتوياتها من "أفكار الرسالة" وتصبح -محاور الولاء- المحركة لها هي أيضا جزءا متحدا مع محور الولاء لأفكار الرسالة تسترشد بتوجيهاته، وتنصهر في مجراه. ونتيجة لذلك تصبح معادلة تكوين الأمة كالتالي: الأمة = أفكار الرسالة "أفراد مؤمنون + هجرة ومهجر + جهاد + الإيواء +نصرة". = أفراد مؤمنون بالرسالة + هجرة ومهجر لأفكار الرسالة + جهاد في سبيل الرسالة + إيواء حملة الرسالة + نصرة الرسالة. والنتيجة العملية لهذا التكوين هي -الولاية أو الولاء للأمة. وهذا الولاء هو مظهر صحة الأمة وعافيتها، وتكون المظاهر والتطبيقات العملية لذلك كما يلي: أ- رقي مستوى الخبرات الاجتماعية والكونية: يرتقي مستوى -الخبرات الاجتماعية والكونية- تبعا لارتقاء مستوى "المثل الأعلى". ولما كانت النشاطات التربوية، والعلمية هي التطبيق العملي لرقي الخبرات المذكور، فإن -إنسان التربية- هنا "يقرأ باسم ربه"، ويجتهد لتوفير الأهداف والوسائل التي تحقق غايات هذه القراءة. ويكون من ثمار ذلك ثلاثة أمور: الأول، ارتقاء مستوى المعرفة إلى مستوى "العلم"، أي مستوى اكتشاف الحقائق الجديدة، والصياغة الجديدة للمعارف السابقة، والثاني، اتساع دائرة المعرفة لتشمل قضايا الوجود كله في مراحل النشأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 والحياة والمصير دون حدود عرقية أو مكانية، أو زمانية إلى أن يبرز قسمان متكاملان من العلوم: علوم الغايات التي تدور حول فقه "أفكار الرسالة" وتطبيقاتها. وعلوم الوسائل التي تدور حول "تسخير" طاقات "الأشخاص" و"الأشياء" لتوفير الأدوات اللازمة لتجسيد "غايات" الرسالة في حياة الأمة المسلمة في الداخل، ثم حملها ونشرها بين الآخرين في الخارج. والثالث، نشاط الحركة المعرفية وشيوع روح الاجتهاد، وتعشق البحث العلمي والتنقيب في الخبرات البشرية الماضية والحاضرة، وشيوع حب القراءة بين خاصة الأمة وعامتها، وازدهار التربية والعلوم ومؤسساتها، وتطبيقاتها في مجالات الحياة المختلفة، وجذب العلماء من أي قطر كانوا، وإلى أي عرق انتموا. ب- رقي مستوى التفاعل مع الرسالة "رقي شبكة العلاقات الاجتماعية": يرتقي مستوى التفاعل مع الرسالة -أي ممارسة الحياة طبقا لتوجيهاتها -ويتجسد هذا- عمليا -في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تنظم علاقات الأفراد، والجماعات في الداخل، وعلاقات الأمة مع غيرها من الأمم، حيث تتشكل هذه الشبكة كما يلي: تصبح رابطة "الإيمان" بأفكار الرسالة هي المحدد "لجنسية" الأفراد و"ثقافة" الأمة. ويصبح "المهجر" الذي يجمع المؤمنين بأفكار الرسالة هو الوطن الواحد الذي لا يتجزأ، والدار المفتوحة لأفراد المؤمنين جميعهم. ويصبح "الجهاد" لتجسيد أفكار الرسالة في الداخل، ونشرها في الخارج هو المجرى العام الذي تصب فيه روافد جهود جماعات المؤمنين وأفرادهم. ويصبح "إيواء" المؤمنين بتطبيقات الرسالة حقا لكل من يحمل "جنسية" الإيمان، ويتذوق "ثقافة" المؤمنين. وتصبح "نصرة" كل من يحمل جنسية المؤمنين، ومن توجه أفكار الرسالة إلى نصرته من غير المؤمنين مسئولية تقع على كاهل الأمة جميعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وتغير عناصر الأمة بالشكل المذكور أعلاه يؤدي إلى تغير مماثل في القيم والفضائل، والأخلاق التي توجه شبكة العلاقات الاجتماعية، فتصبح كما يلي: 1- تدور الأعمال والممارسات حول تجسيد عناصر الرسالة الثلاثة في حياة الأمة، حيث يتركز تطبيق "الأمر بالمعروف" حول التوافق مع سنن الله وأقداره وقوانينه، ويتركز تطبيق "النهي عن المنكر" حول اتقاء الاصطدام بهذه السنن والأقدار والقوانين، ويتركز تطبيق "الإيمان بالله" حول وقاية الإنسان المؤمن من مرض "الطغيان"، وادعاء الألوهية في حالة القوة والغنى، ومن مرض "الهوان"، والرضى برق "الأشخاص والأشياء" في حالات الضعف والفقر والتبعية. 2- ينتظم سلم القيم في الأمة حول محور "الفكرة توجه القوة". ويكون التجسيد العملي لذلك هو تسلم "فقهاء الرسالة وحكمائها، وخبرائها" وظيفة "أولي الأمر" الذين قرن القرآن طاعتهم بطاعة الله ورسوله. أما مؤسسات "القوة"، وما فيها من أمراء وقادة ورؤساء وحاكمين، فيشكلون -الأجهزة- التي تنفذ ما يشرعه "أولوا الأمر" العلماء والمفكرون، والمصادر الإسلامية واضحة جلية في تحديد مسئوليات "العلماء" و"الرؤساء" وتصنيفها. ففي تفسير الطبري عن ابن عباس، وغيره أن "أولي الأمر" هم: أهل الفقه في الدين والعلم والعقل1. وعند الرازي أن غالبية العلماء ترى أن "أولي الأمر" هم العلماء وآخرون يرون أنهم العلماء والأمراء2. وعند ابن تيمية: العلماء والأمراء3 أو أهل الكتاب وأهل الحديد4. ولقد تجسدت "ولاية الأمر" لأهل الفقه والعلم والدين، والعقل في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم.   1 الطبري، التفسير، جـ5، ص148، 149. 2 الرازي، التفسير الكبير، جـ10، ص144-150. 3 ابن تيمية، الفتاوى، مجمل اعتقاد السلف، جـ3، ص423. 4 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب السلوك، جـ10، 354. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 3- يتركز إنتاج "الأشياء" واستعمالها فيما يحقق غايات الرسالة، ويجسد "مثلها الأعلى" في تحقيق المنعة لأمة الرسالة، وشيوع العدل وتكافؤ الفرص وهيمنة السلام. 4- تستمد نظم الإدارة والسياسة والاقتصاد، والعسكرية محتوياتها من "أفكار الرسالة"، وتتحدد وظائف الأفراد ومسئولياتهم طبقا لدرجة ولائهم لأفكار الرسالة، ودرجة قدراتهم العلمية والجسدية، ومهاراتهم التنفيذة دون اعتبار لمقاييس النسب والمولد والقوة، والعلاقات الشخصية المختلفة. جـ- رقي مستوى القدرات العقلية: في بيئة الولاء لـ"أفكار" الرسالة تشيع حريات التفكير والتعبير، والعمل والاختيار، ويتفاعل أصحاب القدرات العقلية بعضهم مع بعض، الأمر الذي يساعد على نمو هذه القدرات، وبلوغها أقصى مداها ابتداء من القوة على الحفظ، ومرورا بقدرات الفهم والتحليل والتركيب، والتأليف والتطبيق والتقويم حتى القدرة على العمل والنشر. واستثمار جميع المقدرات الفكرية، والبشرية والثقافية، والمادية بهذا التجرد والتناسق، والتكامل يمنح الأمة الناشئة عافية وقدرات هائلة: فهو -أولًا- يرفع درجة "القدرات التسخيرية" عند الأفراد ويبعث "إرادتهم العازمة". وهو -ثانيا- يشيع في الأمة التجانس الثقافي في القيم والعادات، والأخلاق والممارسات الاجتماعية والثقافية والفنية، ونماذج التعبير والتطبيق بما يتفق مع -محور الولاء- الذي يتغذى من دائرة "أفكار" الرسالة، الأمر الذي يمنح الأمة الناشئة عافية، وقدرات يقودانها إلى نجاحات حاسمة، وانتصارات كاسحة تدفع بالمجتمعات المعاصرة لأمة الرسالة إلى فتح قلوبها لبعوث الرسالة، والإقبال على دراستها، والتفاعل معها واعتناق عقيدتها وتطبيقاتها. ويمثل هذه الظاهرة في التاريخ الإسلامي التطبيقات التي تمت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 مجتمع الرسول -صلى الله عليه وسلم، ومجتمع الراشدين في المدينة المنورة، وما حولها في الجزيرة، والانتصارات المدهشة والفتوحات الدينية، والثقافية التي حققتها جيوش الرسالة الإسلامية العسكرية، وبعوثها الفكرية خاصة زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم زمن الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الفصل الخامس والعشرون: مرحلة مرض الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشخاص مدخل ... الفصل الخامس والعشرون: مرحلة مرض الأمة "مرحلة الدوران في فلك الأشخاص" يرمز إلى مرحلة مرض الأمة في الشكل رقم "2" بالمستطيل ب جـ د هـ. على صفحة 373، وتتحول الأمة إلى هذه المرحلة حين تصبح حقيقة "المثل الأعلى" الذي يوجه الحياة فيها هي: دوران "الأفكار والأشياء" في فلك "الأشخاص": ويبدأ الدوران المذكور حين تعدو "قيم" العصبيات القوية على "أفكار" الرسالة، فتحيلها إلى "أدوات" تحقق لـ"أشخاصها" "ملكية" الجاه، والمال بعد أن كانت مسئولية" و"أمانة" "يخلف" أفراد الأمة الرسول في حملها ونشرها. والمحصلة النهائية لهذا التبدل في القيم الاجتماعية هي اختفاء "الخلافة الراشدة" وظهور ما يسميه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بـ"الملك الجبري" الذي يلغي الشورى وحرية الاختيار، ويجبر الأمة على النهج الذي يضمن مصالح "أشخاص" العصبيات في الحكم والتملك. وتتفاوت دوائر "الملك الجبري" في الأمة حيث تبدأ من الأسرة، أو المتجر أو الوظيفة إلى أن تبلغ أقصى سعتها في صلاحيات الحاكم المتربع على رأس السلطة. ولقد علق ابن تيمية على هذا التجانس بين قمة -الملك الجبري وقواعده- فقال: "إن مصير الأمر إلى الملوك ونوابهم من الولاة والقضاة والأمراء، ليس لنقص فيهم فقط، بل لنقص في الراعي والرعية جميعا، فإنه "كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 تكونون يول عليكم"، وقد قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} 1. ونجاح "أشخاص الملك الجبري" في توجيه سلم القيم في الأمة عند المحطة الزمنية "ب" في الشكل رقم "2" يهيئ إلى انحسار عناصر الأمة أي عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية من دائرة "الأفكار" إلى دائرة الولاء لـ"الأشخاص" واستبدال محتوياتها الفكرية بمحتويات "شخصية". وتكون المحصلة النهائية لتفاعلاتها هي -الولاء للأشخاص. وبذلك يتغير تكوين الأمة لتصبح معادلته كما يلي: الأمة = الولاء للأشخاص "إيمان + هجرة ومهجر + هجرة ومهجر + جهاد ورسالة + إيواء + نصرة". = إيمان بالأشخاص + هجرة للأشخاص + جهاد للأشخاص + إيواء للأشخاص + نصرة للأشخاص. والولاء لـ"الأشخاص" له دوائر بعضها أضيق من بعض. فهناك الولاء للقوم أو الولاء للإقليم، ثم الولاء للقبيلة أو الطائفة أو الحزب، ثم الولاء للأسرة ثم ولاء الفرد لنفسه.   1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب أهل البغي، جـ35، ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الطور الأول: طور الولاء للقوم حقيقة "المثل الأعلى" الموجه لحياة الأمة في هذا الطور هي: - دوران "الأفكار والأشياء" في فلك "أشخاص" القوم- واتصاف المثل الأعلى بهذه الصفة يؤدي إلى انحسار الأمة أي عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد، والإيواء، والنصرة من دائرة "الأفكار الرسالة" إلى دائرة "أشخاص القوم" واستبدال مضامينها الفكرية بمضامين قومية. وتكون المحصلة النهائية لتفاعلاتها هي -الولاء للقوم- وبذلك يتغير تكوين الأمة لتصبح معادلته كما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الأمة = الولاء للقوم "إيمان + هجرة ومهجر + جهاد ورسالة + إيواء +نصرة". = أفراد يؤمنون بالقوم + هجرة قومية + جهاد ورسالة قومية + إيواء قومي + نصرة قومية. ويمكن أن نمثل لتكوين الأمة الجديدة بالشكل التالي رقم "4": ففي الشكل رقم "4" ينحسر -محور الولاء- إلى دائرة "أشخاص القوم". أما دائرة "أفكار" الرسالة، فتتحول صلة الأمة بها إلى صلة "نفاق" لا صلة ولاء. أي تتحول إلى أفكار تراثية مخزونة "تنفق" عند الحاجة من أجل نصرة محور الولاء لـ "أشخاص القوم". ويشير القرآن إلى "صلة النفاق" هذه عند أمثال قوله تعالى: - {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33] . - {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وقد يبقى في الأمة أفراد وجماعات تدور في فلك "أفكار" الرسالة، ولكن دورانهم هذا يعضهم في "غربة" عمن حولهم ولا يخرجون في كل تفاعل اجتماعي إلا بالخبرات السلبية، ومشاعر الإحباط والأسى والعدمية. وفي هذا الطور تتعدد -محاور الولاء- تبعا لتعدد الأقوام المكونة لأمة الرسالة بدل الولاء للأمة الواحدة، وتنشأ عن ذلك مضاعفات مرضية في الخبرات الاجتماعية والكونية، ومستوى القدرات العقلية المتفاعلة في الأمة تتمثل فيما يلي: أ- مضاعفات المرض في مستوى الخبرات الاجتماعية والكونية: ينحسر مستوى التفاعل مع الخبرات الاجتماعية، والكونية في هذا الطور تبعا لانحساب "المثل الأعلى". ويكون التجسيد العملي لهذا الانحسار في ميدان التربية والعلم، فتتغير فلسفة التربية وأهدافها، إذ "يقرأ" إنسان التربية في هذا الطور "باسم قومه" أي لرفعتهم، وتمكينهم من الهيمنة والتملك. وهذا التحول في فلسفة المعرفة يؤدي إلى حلول "الفقه العرفي" محل "الفقه السنني". والفرق بين النوعين من الفقه هو أن الفقه السنني "يستبصر" بآيات الوحي لـ"يقرأ" سنن الاجتماع الإنساني، وقوانين الخلق في الآفاق والأنفس. أما "الفقه العرفي" فهو يئول آيات الكتاب في ضوء "أعراف" القوم، وخبراتهم الثقافية المتراكمة عبر العصور. و"الجماعة" في مفهوم الفقه السنني هي التي تجتمع على الحق وإن قلت. ولهذا أجاب الإمام علي بن أبي طالب من سأله عن معنى -الجماعة- فقال: " ... والجماعة -والله- مجامعة أهل الحق وإن قلوا. والفرقة مجامعة أهل الباطل وإن كثروا"1. أما في الفقه العرفي فالجماعة هي الأغلبية التي يتم "قياس" الحق طبقا لمحصلة رغباتها.   1 الكاندهلوي، حياة الصحابة، جـ2، ص100 نقلا عن كنز العمال، جـ1، ص96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 والفقه السنني يعالج سلوك الإنسان، ونشاطات المجتمعات عبر مراحل الرحلة الإنسانية أي مراحل النشأة والحياة، والمصير باعتبارها كلها وحدة واحدة لا تتجزأ. أما الفقه العرفي فهو يجزئ الظاهرة الإنسانية فيجعل هناك "فقه للحياة" كما تودها إرادات -الأقوام- و"فقه" لغيبيات "النشأة والمصير" دون مرور في محطة الحياة. وحلول "الفقه العرفي" محل "الفقه السنني" يفضي إلى مضاعفات خطيرة أهمها: 1- هبوط مستوى المعرفة وضيق دائرتها، إذ تهبط المعرفة من دائرة الأفكار إلى دائرة الأشخاص، ومن اكتشاف الحقائق الجديدة إلى ترديد معارف السلف السابقين، وتضيق من الدائرة الإنسانية التي تعالج قضايا الإنسان أنى، وأين كان إلى الدائرة القومية التي تسجن المعرفة داخل الحدود العرقية والتاريخية. 2- ينمو فقه "المظهر الشعائري" للعبادة، وينحسر فقه "المظهر الاجتماعي"؛ لأن إرادة الجالسين في مراكز القوة والجاه في كل "قوم" تتطلع للبقاء طليقة من أي فقه يقيدها في التصرف بشئون الحياة والاجتماع. وانحسار فقه "المظهر الاجتماعي" للعبادة ينعكس على كل من فقه "المظهر الديني" وفقه "المظهر الكوني". فبدل أن يكون فقه المظهر الديني نصرة للعدل الدنيوي يتحول إلى مخدر يشيع الرضى بالظلم، والقهر انتظارا للعدل الأخروي. وبدل أن يكون فقه المظهر الكوني بحثا عن آيات الله في الآفاق، والأنفس يصبح تطويرا لوسائل "دع أيتام الإنسانية" أي قهرهم والتسلط عليهم. وبدل أن يكون "تسخيرا" للمخلوقات لخدمة الإنسان يصبح "تسخيرا" للإنسان، والمخلوقات سوء لإرادات أصحاب القوم والنفوذ. ونتيجة لذلك يقع الانشقاق بين "أهداف الحياة" التي توفرها العلوم الدينية، وبين "الوسائل" التي توفرها العلوم الطبيعية. وتنقسم العملية التربوية إلى قسمين: تربية تشتغل بأهداف لا وسائل لها، وتربية تشتغل بوسائل لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 أهداف لها. وتمتد هذه الانشقاقات إلى مناهج الفهم والتطبيق، وتثور الخصومات وتعدد الفرق والجماعات. وإلى هذه الانشقاقات يشير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] . 3- يقل "فقهاء الرسالة" ويظهر "فقهاء الأقوام" المكونة للأمة الذين يؤولون آيات الكتاب ويحرفون المعاني عن مواضعها لتبرر إرادات "الأقوام" دون نظر في آيات الآفاق والأنفس. وإلى هذا التغير والزوغان يشير قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] . {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] . أي فلما زاغوا -أي تحولوا- عن الولاء لـ"أفكار" الرسالة عملت سنن الله عملها في تحويل قدرات العقل، والإرادة في قلوبهم فصارت تتحرى المتشابه من آيات القرآن لتأويلها، وتبرير الولاء لـ"أشخاص القوم" ومصالحهم. ب- مضاعفات المرض على "القدرات العقلية" و"الإرادة العازمة" و"القدرة التسخيرية": تفضي مضاعفات الدوران في فلك "الأشخاص" إلى النيل من حرية "القدرات العقلية" عند كل من -إنسان التربية والعالم- وإعاقتها عن النمو السليم مما يتسبب في ضمور القدرات العقلية العليا كالتحليل، والتركيب والتقويم، والاقتصار على قدرات الحفظ والاستظهار والفهم والتأويل. ويكون من نتائج ذلك ظاهرتان رئيستان: الأولى، نقص في "الإرادة العازمة" و"القدرة التسخيرية" وولادتهما بصورة غير عازمة ولا تسخيرية. وبالتالي لا ينجبان -العمل الصالح- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 بالدرجة التي كان عليها في مرحلة -صحة الأمة، أي أن مؤسسات التربية تتوقف عن إخراج الإنسان الصالح بالصورة التي كان عليها في مرحلة الصحة المشار إليها. والظاهرة الثانية، هبوط مستوى الحماس للمعرفة والبحث. ولذلك يبدأ التقاعس والميل إلى التقليد. ويكون من نتائج ذلك توقف المؤسسات التربوية والعلمية عن "الهجرات" العقلية والنفسية، أي تتوقف عن التجديد في الفهم والقيم، وتتخلف عن مواكبة الشئون المتجددة التي يطرحها الله في الخلق الجديد المتجدد، وتبذر بذور الآبائية، وتضعف الجاذبية الحضارية، فتتوقف -هجرات العقول الرافدة- المتشوقة للمشاركة في حمل الرسالة، أي يتوقف تجديد شباب الأمة ومواردها البشرية، ويتحول "المهجر" إلى "وطن" مغلق راكد الحركة بسوى ما يكون من تنافس "الأقوام"، وتناطحها بسبب الولاءات القومية المتباينة. جـ- اضطراب مستوى التفاعل مع الرسالة "اضطراب شبكة العلاقات الاجتماعية": في هذا الطور المرضي يصيب الخلل مستوى التفاعل مع الرسالة، أي ممارسة الحياة طبقا لنموذجها بالقدر الذي أصاب الخلل "المثل الأعلى" في الأمة. ويظهر هذا الخلل في اضطراب شبكة العلاقات الاجتماعية، والتطبيقات العملية لعناصر الأمة بمحتوياتها الجديدة. إذ تتشكل كما يلي: تصبح رابطة "الإيمان بالولاء للقوم" هي المصدر الذي يحدد "جنسيات" الأفراد و"ثقافاتهم". يتحول "المهجر" إلى "وطن" مغلق يقتصر على المؤمنين برباط الولاء للقوم. يتحول "الجهاد" إلى بذل أشكال الجهد لرفعة القوم، وتفوقهم على بقية الأقوام في الداخل والخارج. يقتصر "الإيواء" على من يدور في فلك الولاء للقوم الذين يتسلمون زمام القيادة، ويتفوقون على غيرهم من الأقوام المكونة للأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 تتحول "النصرة" إلى نخوة قومية هدفها نصرة من يدور في فلك القوم. تتحول "الولاية" من الاهتمام بشئون "أمة المؤمنين" إلى الاهتمام بشئون "القوم المهيمنين". وتغير محتويات عناصر الأمة بهذا الشكل يؤدي إلى تغير مماثل في القيم والفضائل، والأخلاق التي توجه شبكة العلاقات الاجتماعية فتصبح كما يلي: 1- في البيئة الجديدة -بيئة الدوران في فلك أشخاص القوم- تنحسر معاني الرسالة فيحذف من "الأمر بالمعروف" كل ما ينال من إطلاق أيد "أشخاص القوم" "الأقوياء - الأثرياء" ويضيق معنى "النهي عن المنكر" ليسقط منه كل ما ينال من أخطاء "أشخاص القوم" الأقوياء. ويضيق معنى "الإيمان بالله" ليقتصر على المظهر الشعائري للعبادة دون المظهر الاجتماعي الذي يسوي "أشخاص القوم" الأقوياء مع نظائرهم غير الأقوياء والضعفاء. 2- يتبدل سلم القيم في الأمة ليصبح محوره: "القوة فوق الفكرة" الأمر الذي يجعل -أولو الأمر- هم أهل القوة بدل أهل الفكر، وتصبح وظيفة "مؤسسات النصرة" تطبيق الحدود الشرعية لتنفيذ إرادات أهل القوة بدل قيم الرسالة. 3- تنقسم الأمة -من الناحية العملية- إلى عدة أمم قومية، أو شعوبية تتنافس من أجل الهيمنة والاستئثار بمظاهر "الإيواء"، وبذلك تنقسم الأمة إلى سادة يهيمنون على منافع "الإيواء"، وموالي "يجاهدون" من أجل المشاركة في هذه المنافع. 4- تبذر بذور قومية "الجنسية" و"الثقافة" بما فيها القيم والعادات واللغات والفنون، وغير ذلك مما يهيئ لظهور حركات الانفصال والنزعات الإقليمية، ويضغط على حدود "المهجر" الواحد لتفجيره إلى عدد من الأوطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 5- تتحدد مكانة الأفراد في الأمة، ومسئولياتهم طبقا لأصولهم القومية ومكانتهم الاجتماعية، ومواقعهم على دوائر الولاء للقوم أو الإقليم، أو العشيرة أو الأسرة دون اعتبار لمقاييس الفكر، والقدرات الفكرية والولاءات الإسلامية إلا بمقدار ما تمليه الضرورة في تأمين الولاء لأشخاص القيادة، واستقرار نفوذهم. 6- تهتز مكانة العدل في الأمة، وتبذر بذور الظلم، وتفقد قيم الرسالة فاعليتها وتأثيرها وتتحول إلى قيم مخزونة في مخازن التراث "ينفقها" الأقوياء لتبرير هيمنتهم واحتكاراتهم، و"ينفقها" المستضعون لاستجداء -أشيائهم، مما يمهد إلى ظهور "قيم كفر الترف" و"قيم النفاق" و"قيم كفر الحرمان" التي تفترس المظلومين من أذكياء الأمة ومحروميها1. 7- يتحول "ولاء" عامة الأمة وحبهم، وطاعتهم إلى "الأشخاص" الأقوياء الذين يحتكرون "الأشياء"، ويتحكمون بمصائر "الأشخاص" الأتباع. وبذلك يتحول الناس من تأليه الله مصدر الرسالة -أي حبه وطاعته- إلى تأليه -الأشخاص الأقوياء- وتتحرك إراداتهم إلى المدى الذي يحدده هذا التأليه. وبذلك تنتقل الأمة من صفاء التوحيد إلى شرك الصنمية: صنمية الأشخاص التي أطلق القرآن عليها اسم -صنمية الأنداد- وتبتكر رموزا جديدة للصنمية تتلاءم مع روح العصر وثقافته واتجاهاته. وبذلك تتحول الأمة من "أمة رسالة" إلى "أمة سدنة". والفرق بين النوعين من الأمة أن الأولى تضحي بالأموال، والنفوس في سبيل الرسالة بينما "تنفق" أمة السدنة أفكار الرسالة لتنال السلطان، وتجمع المال وترفه النفوس، ويتحول فيها العلماء ورجال الفكر، ومؤسسات التربية إلى التعلق برسوم العلم ومظاهره ويشتغلون بـ"فقه" الأشكال بدل "فقه" الأعمال. ولقد بدأ هذا الطور -طور الولاء للقوم- في حياة الأمة الإسلامية   1 للوقوف على تفاصيل الأنواع الثلاثة من -القيم- راجع كتاب -فلسفة التربية الإسلامية- للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 عند بدء اختلال العلاقة بين رجال الفكر وبين رجال القوة، ثم دخول الطرفين في شقاق طويل انتهى بتغلب رجال القوة، وتطويعهم لرجال الفقه والفكر. ولقد وصف ابن تيمية تطور الشقاق المذكور فقال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين"1. ويعلل ابن تيمية هذا الانشقاق فيقول: "ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال، والشرف وصاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم، رأى كثير من الناس أن الإمارة تنافي الإيمان وكمال الدين. ثم منهم من غلب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك. ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك، فأخذه معرضًا عن الدين لاعتقاده أنه مناف لذلك، وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل، لا في محل العلو والعز. وكذلك لما غلب على كثير من أهل الدين العجز عن تكميل الدين، والجزع لما قد يصيبهم من إقامته من البلاء، واستضعف طريقتهم واستذلها من رأى من لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها. وهاتان السبيلان الفاسدتان -سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال. وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب، ولم يقصد بذلك إقامة الدين، وهما سبيل المغضوب عليهم والضالين"2. ويضيف ابن تيمية أن ظاهرة الانشقاق بين رجال العلم، ورجال السياسة تفاقمت تحت قيادة العباسيين حتى انتهت إلى الانشقاق بين المؤسسات الممثلة لكلا الفريقين. وفي ذلك يقول:   1 ابن تيمية، الفتاوى، أصول الفقه، جـ20، ص393. 2 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب الجهاد، جـ28، ص394، 395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 "فلما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة، احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع. وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة. وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة. والسبب في ذلك إن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء وتؤخذ الأموال، وتستباح الحرمات والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذين يحكم بلا هوى وتحرى العدل. وكثير يحكمون بالهوى، ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك"1. وإذا كنا نقدر لابن تيمية هذا السبر العميق لتطور العلاقة بين رجال الفكر ورجال القوة، وإدراكه لخطورة الانتكاس الذي أصاب هذه العلاقة، إلا أننا لا نتفق معه على أن الانشقاق بدأ بحكم بني العباس، وإنما هو أمر بذرت بذوره بوصول "طلقاء مكة"، الذين أسلموا بعد الفتح إلى مراكز القيادة دون أن يمروا بسلسلة العمليات التربوية التي مر بها المهاجرون والأنصار2. فمنذ وصول -طلقاء مكة- إلى صفوف القيادة أخذوا ينافسون رجال الفقه، والفكر من المهاجرين والأنصار، ويحاولون الخروج على التقليد الذي أرسي في عصر النبوة، والخلافة الراشدة، وهو انقياد رجال القوة لرجال الفقه والعمل بإرشادهم وتوجيهاتهم، حتى إذا استكمل طلقاء مكة سيطرتهم.   1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب أصول الفقه، جـ20، ص392، 393. 2 "الطلقاء" اسم أطلق على زعماء الجاهلية الذين أسلموا بعد فتح مكة بعد عفو الرسول عنهم وقوله له: "ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 على زمام القوة والقيادة في الأمة الإسلامية أعادوا قيم العصبية القبلية، وتقاليدها في الرئاسة والسياسة، وسخروا مؤسسات التربية والفقه والإدارة لتطويع جماهير الأمة إليها. فالعامل الحاسم هنا في اضطراب العلاقة بين رجال الفكر، ورجال القوة هو الفارق الهائل بين التربية الإسلامية التي نالها كل من فريق المهاجرين، والأنصار وفريق طلقاء مكة. وتشير المصادر الإسلامية إلى أن محاولات -طلقاء مكة- للهيمنة على رجال الفقه، والفكر بدأت منذ أيام عمر بن الخطاب، ولكن "فقه" عمر وهيبته وسطوته كانت تقف أمام هذه المحاولات، من ذلك ما قام به معاوية زعيم طلقاء مكة، وابن زعيمهم أبي سفيان حين تسلم ولاية الشام، وأخذ يعترض على فقه قادة البعوث الثقافية من فقهاء المهاجرين والأنصار، ويحاول تطويع هذا الفقه لسياساته. إذ يروي ابن ماجه في سننه أن الصحابي النقيب عبادة بن الصامت غزا مع معاوية أرض الروم، فنظر الناس وهم يتبايعون كسر الذهب بالدينار، وكسر الفضة بالدراهم فقال: يا أيها الناس! إنكم تأكلون الربا. سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، لا زيادة بينهما ولا نظرة". فقال له معاوية: يا أبا الوليد لا أرى الربا في هذا إلا ما كان نظرة. فقال عبادة: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتحدثني عن رأيك؟ لئن أخرجني الله عز وجل لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة، فلما قفل لحق بالمدينة. فقال له عمر بن الخطاب: ما أقدمك يا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 أبا الوليد؟ فقص عليه وما قال عن مساكنته. فقال: ارجع يا أبا الوليد إلى أرضك. فقبح الله أرضًا لست فيها وأمثالك. وكتب إلى معاوية: لا إمرة لك عليه، واحمل الناس على ما قال، فإنه هو الأمر1. ويروي الطبري عن زيد بن وهب موقفا مماثلا مع الصحابي أبي ذر، قال: مررت بالربذة "مكان خارج المدينة نفى الخليفة عثمان إليه أبا ذر" فلقيت أبا ذر. فقلت: يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشام فقرأت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ... } الآية. فقال معاوية: ليست هذه الآية فينا، وإنما هذه الآية في أهل الكتاب. قال: فقلت: إنها لفينا وفيهم. قال: فارتفع في ذلك بيني وبينه القول. فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقبل إلي. قال: فأقبلت. فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني من قبل يومئذ. فشكوت ذلك إلى عثمان. فقال لي: تنح قريبا. قلت: والله لن أدع ما أقول"2. وأبو ذر هذا الذي قال عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر" 3.   1 سنن ابن ماجه، المقدمة. 2 الطبري، التفسير، جـ10، ص121. 3 سنن ابن ماجه، المقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 ثم جاءت الضربة القاصمة على أيدي بني أمية وبني العباس، إذ لم يقتصر الأمر على إخضاع رجال القوة رجال الشريعة، وإنما اختفى مصدر هائل من مصادر الفكر السياسي في الإسلام. هذا المصدر هو -خطب الرسول صلى الله عليه وسلم- التي كان يخطبها أيام الجمعة، وخطب -الصلاة جامعة- التي كان يعالج بها القضايا العامة الكبرى حين يستدعي الأمر المعالجة الحاسمة السريعة. ومثلها -خطب- الخليفة أبي بكر، وخطب الخليفة عمر. وكلها خطب تغطي حقبة زمنية طويلة تتألف من "10" عشرة سنوات أيام الرسول -صلى الله عليه وسلم، وسنتين أيام أبي بكر، وعشرة سنوات أيام عمر، أي ما يزيد على "1500" ألف وخمسمائة خطبة. وجميعها خطب كانت تنصب على شئون الاجتماع والسياسة، والاقتصاد والإدارة والعلاقات بين الحاكم والمحكوم، وبين فئات المحكومين أنفسهم، فأين هذه الخطب الجامعة؟ وهل استعصى جمعها على رجال الحديث الذين دونوا الأحاديث التي تناولت حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتفاصيل علاقاته في غرف نومه مع زوجاته وأسرته؟ لماذا لم نتسلم من هذه الخطب إلا نتفا وإشارات تاريخية؟ إن التفسير الوحيد الذي نرجحه، في ضوء مواقف معاوية مع أمثال عبادة بن الصامت وأبي ذر الغفاري، ومواقف الحجاج الثقفي مع أمثال سعيد بن جبير، وإعدامه لمئات العلماء المعترضين على السياسات المطلقة لبني أمية، ومواقف أبي جعفر المنصور، والمأمون من أمثال سفيان الثوري وأبي حنيفة والشافعي، وأحمد بن حنبل، هو أن الخلفاء الأمويين والعباسيين قد منعوا رواية هذه الخطب وتدوينها وحاربوا التحدث بها وانتشارها لما فيها من تقرير لمبادئ الشورى -وليس الاستشارة- وحكم المؤسسات ورقابة الحاكم، ومساءلته ومحاكمته وإنزال القصاص به، ولما فيها من تعريض، وتنديد بسياسات الملك العضوض في الحكم والمال والإدارة، وهو ما اتصفت به أنظمة الحكم الأموي العباسي التي استمدت مفاهيمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وتطبيقاتها من تقاليد العصبية القبلية العربية، ومزجته بما راقها من تقاليد الكسروية الفارسية والقيصرية الرومانية1. واستمر مسلسل هيمنة رجال الملك، والقوة على رجال الفقه والفكر وتعاظمت ردة القيم السياسية من الدوران في فلك "أفكار الرسالة" إلى الدوران في فلك "أشخاص" القوة وأصحاب النفوذ، فصارت "القوة فوق الشريعة" و"التسلط فوق الحرية" و"الحكم المطلق فوق الشورى" و"التملك الفردي فوق ملكية الأمة". ولقد أدى هذا التحول في اندحار "فقهاء الرسالة" إلى ظهور "فقهاء الملوك والسلاطين، وازدهار مكانة الشعراء والمداحين الذين أشاوا بانفراد "أشخاص" الحاكمين بالنفوذ والتصرف، وأسبغوا الكمال والعصمة على أفعالهم، وسياساتهم الأمر الذي بذر بذور ردود الفعل العنيفة التي تلت، وأفرزت "قيم كفر الحرمان" التي جسدتها فلسفات الزندقة، والحركات الباطنية. ولما كان تدوين التاريخ الإسلامي قد بدأ خلال هذه الفترة -فترة الدوران في فلك الأشخاص بدل الأفكار- فقد جرت كتابة هذا التاريخ على أساس أنه تاريخ عائلات وأشخاص، لا تاريخ فكرة ورسالة، وما زال قارئوا هذا التاريخ لا يتبينو عمق التشويه الذي أحدثه الدوران في فلك الأشخاص بدل الأفكار في كتابه هذا التاريخ وتصنيفه. ولعل من الإنصاف أن نقول: أن هذا التحول لم يحدث بسهولة، وإنما رافقته مقاومة شديدة من جيل الصحابة، والتابعين الذين كانوا يدورون في فلك أفكار الرسالة الإسلامية. وخلال هذه المقاومة قدم المقاومون تضحيات هائلة في الأنفس   1 ثم تدوين خطب الخليفة علي بن أبي طالب من قبل المعارضة للحكم الأموي، ولعل أهمية الخطب المشار إليها أعلاه تستحق التنقيب في المخطوطات الإسلامية المتناثرة في مكتبات العالم، والتي لم يطبع منها أكثر من 9%، فلعلنا نعثر على شيء من الخطب المذكورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 والمقدرات المادية والاجتماعية. ومثال ذلك التضحيات التي قدمها علي بن أبي طالب وولداه الحسن والحسين، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن الزبير، وفقهاء التابعين من أمثال سعيد بن جبير، وسفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك وغيرهم. ولكن عدم اكتمال -التحول النفسي- في الأقطار المفتوحة، خاصة الشام والعراق ومصر، جعل سكان هذه الأقطار يدورون في فلك "الأشخاص والأشياء" أكثر من الدوران في فلك "أفكار الرسالة"، ولذلك والوا -طلقاء مكة وثقيف- وساعدوهم في الوصول إلى قيادة الأمة الإسلامية، مكرسين بهذه المساعدة المرض الذي نزل في الأمة الإسلامية حين انتقلت من الدروان في فلك "أفكار الرسالة" إلى الدوران في فلك "الأشخاص" الذين يملكون القوة والممتلكات، وفتحوا الباب للشكل الثاني من المضاعفات، وهو الدروان في فلك أشخاص "العشيرة"، ونظرائها كالطائفة والمذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الطور الثاني: طور الولاء للقبيلة ونظرائها "كالطائفة أو الحزب أو الإقليم" وتحول الأمة إلى وحدات قومية متنافسة ينقل عدوى التنافس داخل كل قومية، أي بين قبائلها وطوائفها، الأمر الذي يؤدي إلى انحسار -محور الولاء- من دائرة القوم إلى دائرة القبيلة أو الطائفة، أو الإقليم أو المذهب أو الحزب، مما يهيئ إلى انحسار "المثل الأعلى" الموجه للحياة لتصبح حقيقته هي: - دوران "الأفكار والأشياء" في فلك "أشخاص" القبيلة أو الطائفة أو الحزب أو الإقليم أو المذهب: واتصاف -المثل الأعلى- بهذه الصفة يؤدي إلى انحسار عناصر الأمة: أي عناصر الإيمان والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة من دائرة القوم إلى دائرة القبيلة، أو نظائرها واستبدال مضامينها القومية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 بمضامين عشائرية أو طائفية أو إقليمية أو مذهبية أو حزبية. ثم تكون نتيجة هذا الانحسار هي تغير تركيب الأمة لتصبح معادلته كالتالي: الأمة = الولاء للعشيرة "إيمان + هجرة ومهجر + جهاد ورسالة + إيواء +نصرة". و= أفراد يؤمنون بالحمية القبلية + هجرة قبلية + جهاد ومصالح قبلية + إيواء قبلي + نصرة قبلية. ومثلها معادلات الطائفة أو الإقليم أو الحزب أو المذهب. ويمكن أن نمثل للتركيب الجديد للأمة بالشكل التالي رقم "5": ففي الشكل رقم "5" ينحسر -محور الولاء- من دائرة "أشخاص القوم" إلى دائرة "أشخاص القبيلة" أو الإقليم أو الطائفية أو الحزب، ويصبح الطابع العام في الأمة هو: - "دوران -الأفكار والأشياء في فلك- أشخاص القبيلة -أو الطائفة أو الإقليم أو الحزب". أما دائرة القوم فتتحول صلة الأمة بها إلى صلة "نفاق" لا صلة ولاء. أي تتحول إلى مخزون الأرصدة التراثية -مثلها مثل دائرة الأفكار- من قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 لـ"تنفق" عند الحاجة من أجل -الولاء للقبيلة. أما الأفراد الذين يبقون على ولائهم لدائرة القوم، فحين يتفاعلون مع الأحداث على دائرة القوم لا يخرجون إلا بالخبرات السلبية والإحباطات، ومشاعر الخيبة والأسى والعدمية. وفي طور الولاء للقبيلة "أو الطائفة أو الإقليم أو الحزب" تعدد محاور الولاء في الأمة طبقا لتعدد القبائل أو الطوائف، أو الأقاليم أو الأحزاب المكونة للأمة. أي إن "الأمم القومية" المتجمعة في "بالون" الأمة تمارس مزيدا من الانقسامات، فتتحول إلى أمم قبلية أو طائفية تتنافس داخل إطار "بالون أمة الرسالة"، وتضغط عليه لتمزقه. ولذلك تحدث مضاعفات مرضية في التربية، والاجتماع تتمثل ملامحها الرئيسية فيما يلي: أ- مضاعفات مرض الولاء القبلي على مستوى التفاعل مع الخبرات الاجتماعية والكونية: في طور الدوران في فلك "أشخاص" القبيلة أو الطائفية، أو الإقليم ينحسر مستوى التفاعل مع "الخبرات الاجتماعية والكونية" تبعا لانحسار "المثل الأعلى" في الأمة. ويكون التجسيد العملي لهذا الانحسار في ميادين التربية والعلم، وأوضح ما يكون في التغيرات التالية: 1- تتغير فلسفة التربية، وأهدافها "ليقرأ" إنسان هذا الطور "باسم قبيلته" أو طائفته أو إقليمية، أي لإعزازها وتفوقها على نظائرها في القوة، والتملك والمكانة. أما في ميدان العلم فتضعف دوافع البحث وينقطع التفكر الجدلي بين إنسان هذا التطور وبين "الخبرات" الاجتماعية والكونية، وإلى هذا الانقطاع يشير قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 32] . ويتكرر الحديث في القرآن عن هؤلاء "المعرضين" الذين لا يرون فيما حولهم من أحداث اجتماعية، وظواهر كونية -آيات الله- الدالة على قدرته؛ لأن الإنسان الذي ينحصر ولاؤه وتفكيره في دائرة القبيلة، ونظائرها لا يمكن أن يرقى إلى شهود قوانين الكون وسنن الحياة. 2- تحل الثقافة القبلية محل العلم والقانون والنظام، ويضيق مدلول المصطلحات لتستمد محتوياتها من دائرة العصبية القبلية ونظائرها، وتشيع -معرفة اللغو والتسلية- فتحل الأمثال والأشعار، والمقولات والأعراف القبلية والطائفية محل -أفكار الرسالة- ومعطيات العلم والمعرفة، ويسود العجز والكسل عن ابتكار الجديد، ويحل محله اجترار سير الآباء والفخر بتراث الأجداد. وإلى هذا يشير قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] . 3- يدب الضعف في "اللغة القومية" ويزداد الجهل بـ"لغة الرسالة" فتنتعش اللهجات العامية داخل القومية الواحدة، وتتمزق الثقافات القومية إلى ثقافات قبلية أو عشائرية أو طائفية؛ لأن اللغات واللهجات والثقافات تتعدد بتعدد محاور الولاء الجديدة. ب- مضاعفات المرض على القدرات العقلية، والإرادة العازمة والقدرة التسخيرية: الولاء القبلي سرطان قاتل للقدرات العقلية؛ لأنه ينحسر بها إلى قدرة "الحفظ" دون سواها. إذ المحور في القيم القبلية أن يتلقى الفرد مقولات قبيلته دون تفكير، ثم يندفع لتنفيذها بحمية وحماس. وهذا ما عبر عنه الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة بقوله: فهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 والقرآن والحديث يطلقان على هذا المستوى من التلقي العقلي، والتنفيذ العملي اسم "حمية الجاهلية"؛ لأنه يلغي أنماط التفكير الصحيح، ويمنع الإرادات من النمو إلى الدرجة التي تفرز العزم اللازم لحمل الرسالة، ويحول دون نمو القدرات التسخيرية اللازمة لبناء الحضارات والمحافظة عليها. ولذلك تسخر البيئة إنسان هذا الطور بدل أن يسخرها، ويبدأ التقهقر في مدارج الانحطاط والتخلف. جـ- مضاعفات المرض في مستوى التفاعل مع الرسالة "شبكة العلاقات الاجتماعية": في هذا الطور يستشري الخلل في مستوى التفاعل مع توجيهات الرسالة بالقدر الذي يستشري الخلل في "المثل الأعلى" للأمة. وتظهر مضاعفات هذا الخلل في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تنظم العلاقات داخل الأمة وخارجها. أما مظاهر هذا الخلل فتكون كما يلي: تصبح رابطة "الإيمان" بالقبيلة "أو نظائرها" هي الحمية المحددة لـ"جنسيات" الأفراد و"ثقافاتهم" الفعلية. ويصبح الحي أو الإقليم الذي تسكنه القبيلة "أو نظائرها" هي الشكل الفعلي للمهجر وطبقا له يختار الأفراد مواقع سكناهم، وانتماءاتهم واتجاهاتهم. ويتخذ "الجهاد" شكل المنافحة عن مصالح القبيلة والعمل في سبيلها. ويتحدد مفهوم "الإيواء" في توفير الإقامة، والاطمئنان المعيشي بحدود القبيلة أو نظائرها. ويتحدد مفهوم "النصرة" في الحمية القبلية المنافحة عن القبيلة أو نظائرها. وتغير محتويات عناصر الأمة بهذا الشكل يؤدي إلى تغير مماثل في القيم والفضائل التي توجه شبكة العلاقات الاجتماعية فتصبح كما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 1- يتبدل سلم القيم في تجمعات الأمة ليصبح محوره "الحمية القبلية فوق الفكرة والقوم"، الأمر الذي يشيع الصراعات القبلية، وتنحسر الفضائل وصلات المودة إلى داخل القبيلة دون سواها حيث تسمها سمات الرياء والمصانعة والنفاق. أما خارج القبيلة فإن الريبة والشح، والمشاحنات تصبح الطابع المميز لشبكة العلاقات الاجتماعية على المستوى الفردي والجماعي. 2- يختفي مفهوم -الولاء للأمة- وينحسر ليتحدد بحدود القبيلة أو الطائفة، أو الإقليم أو الحزب أو المذهب أو الطريقة -حسب رموز صنمية العصر. ففي عصر جاهلية ما قبل الإسلام تنافست القبائل والعشائر العربية على إقامة التماثيل والنصب الحجرية، وحرصت كل عشيرة على بناء كعبة خاصة بها حتى بلغ عدد كعبات ذلك العصر حوالي عشر، وظلت قائمة حتى هدمها الرسول -صلى الله عليه وسلم1. وفي العصر الحديث تتنافس القبائل، والطوائف والأقاليم والأحزاب في أقطار العالم العربي، والإسلامي على نصب أصنام، وتماثيل بشرية في قيادات الدول والجيوش والوزارات والدوائر، والبرلمانات ورئاسة البلديات والمجالس القروية والمخاتير، والعمد لا بهدف تطوير الأمة والنهوض بها في الداخل وتحقيق صمودها أمام الأخطار من الخارج، وإنما بقصد رفعة القبيلة أو الطائفة أو الإقليم أو الحزب، وتحقيق طموحاتها في الجاه والمكانة والثروة والنفوذ. 3- تمتد آثار عودة القيم القبائلية إلى ميدان العمل، والاقتصاد لتضعف نشاطه وتحد من فاعليته. إذ إن العمل والاشتغال بالزراعة والصناعة والحرف ممارسات تحتقرها القيم القبلية، وتجعلها من مهام الخدم والعبيد الأمر الذي يهبط بمستوى الإنتاج الزراعي، والصناعي ويقود إلى إهمال العناية بمشروعاته، كذلك لا تساعد محاور الولاء القبلية على شيوع روح التعاون   1 ابن هشام، السيرة، مجلد 1، ص83-88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وقيام الشركات التي هي من الشروط الأساسية للاقتصاد الحديث. ويكون لذلك كله مضاعفات سلبية في أشكال التعامل، وينال من قيم المساواة والعدل في الأمة وتبذر بذور التفاوت الطبقي، والاستغلال الاجتماعي وتدني مستوى التدين والأخلاق العامة. 4- تجتث القيم القبلية والطائفية، والإقليمية روح الولاء للأمة وتأتي على فضائله وثماره. فالقبلي لا يعرف مفهوم الأمة ولا يستوعبه، وينتهي ولاؤه عند حدود قبيلته، ولذلك تختفي فضائل الإحساس بالمسئولية والصالح العام، وتظهر الأنانية وعدم الإخلاص والاهتمام بالمصالح القبلية المحدودة الموقوتة. والقبلية سرطان قاتل لروح الشورى ومحاسبة الحاكم، ولذلك تفرز الاستبداد والتسلط وترسل إلى قيادة الأمة شيخان قبليا بألقاب وطقوس سياسية تناسب العصر، فيشيع التسلط الفردي والتصرف المطلق في الداخل، والعجز عن مواجهة التحديات في الخارج. والأمم التي تشيع فيها قيم العصبيات القبلية أو الطائفية تمتلئ بالتناقضات التي تهدد بتفجير الأمة على الدوام. ولذلك يسهل على الأعداء استغلال هذه التناقضاات، والنفاذ إلى الأمة من خلالها، ولعل دول الطوائف في الأندلس خير مثال على ذلك حيث كانت محاور الولاء القبلية، والطائفية من أقوى الأسلحة التي استعملها الإسبان لتدمير الوجود الإسلامي هناك. ومثلها الدول -المدن التي كانت في بلاد الشلام قبيل الغزو الصليبي، والتي عرفت باسم -الأتابكيات- وسهلت نجاح هذا الغزو وتحالفت مع قادته ضد بعضها البعض، ولم تنج بلاد الشام من أخطار هذا الغزو، وتتخلص من الاحتلال إلا بعد القضاء على قيم العصبية القبلية، واختفاء تطبيقاتها السياسية الممثلة بالدول -المدن أو "الأتابكيات" التي مثلتها. واستشراء مضاعفات المرض في الطور القبلي يفضي إلى مضاعفات أخرى تنقل الأمة إلى طور آخر هو طور -الولاء الأسري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الطور الثالث: طور الولاء للأسرة تنتقل الأمة إلى هذا الطور حين يُصاب "المثل الأعلى" الذي يوجه حياة الأمة، وعلاقاتها بمزيد من الانحسار وتصبح حقيقته هي: - دوران "الأفكار والأشياء" في فلك "أشخاص الأسرة": واتصاف المثل الأعلى بهذه الصفة يؤدي إلى انحسار محور الولاء من دائرة القبيلة، أو الطائفة إلى دائرة الأسرة مما يهيئ أيضا لانحسار عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة إلى دائرة الأسرة لتستمد مضامينها منها وتتفاعل عليها. وتكون المحصلة النهائية هي تغير محتوياتها عناصر الأمة لتصبح معادلتها كالتالي: الأمة = الولاء الأسري "إيمان + هجرة + جهاد ورسالة + إيواء + نصرة". و= أفراد يؤمنون بالعصبية الأسرية + هجرة أسرية + كد أسري + إيواء أسري + حمية أسرية. ويمكن أن نمثل للتركيب الجديد بالشكل التالي رقم "6": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ففي الشكل رقم "6" ينحسر -محور الولاء- من دائرة "أشخاص القبيلة" أو الطائفة أو الإقليم أو الحزب إلى دائرة الولاء لـ"أشخاص الأسرة"، ويصبح الطابع العام لـ"المثل الأعلى" الذي يوجه الحياة العامة هو: - دوران "الأفكار وأشياء" في فلك "أشخاص الأسرة": أما دائرة القبيلة أو الطائفة، أو الحزب أو الإقليم فتتحول إلى صلة "نفاق" ومجاملات لا صلة ولاء، أي تنضم إلى مخزون أرصدة "الأفكار والقوم" لـ"تنفق" مثلهما عند الحاجة من أجل -محور الولاء للأسرة- بينما تتحول دائرتها -أي دائرة العشيرة ونظائرها- إلى منطقة جفاف اجتماعي لا يعود الذين يبقون على الولاء لها إلا بالخبرات السلبية، والإحباطات ومشاعر الخيبة والعدمية. وفي هذا الطور تتفاعل مضاعفات مرض الأمة، وتؤدي إلى مزيد من المضاعفات المرضية في مستوى التفاعل مع الخبرات الاجتماعية والكونية، وفي القدرات العقلية، وفي مستوى التفاعل مع أفكار الرسالة. وتتمثل الملامح الرئيسية للمضاعفات المذكورة فيما يلي: أ- ازداد هبوط مستوى التفاعل مع -الخبرات الاجتماعية والكونية: يستمر انحسار مستوى التفاعل مع الخبرات الاجتماعية، والكونية في هذا الطور لانحسار مستوى المثل الأعلى في الأمة. ويكون التجسيد العملي لهذا الانحسار في ميدان التربية، والعلم حيث تتغير فلسفة التربية الواقعية لـ"يقرأ" -إنسان التربية- "باسم أسرته" أي لتأمين متطلبات حياتها المادية، والاجتماعية ويكون من نتائج هذا ما يلي: 1- مزيد من ضعف دوافع العلم والتربية يؤدي إلى الشكلية العلمية، والاشتغال بقضايا سطحية دنيوية. وإلى هذا المعنى يتوجه قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وإليه يتوجه الحديث النبوي القائل: "يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ويكثر الهرج". قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ فقال هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل"1. وحين سئل -صلى الله عليه وسلم- عن كيفية قبض العلم قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" 2. فالجهل المشار إليه في الحديث يشير إلى انحراف التربية عن الاشتغال بمقاصد الحياة العليا، وارتدادها لتقتصر على الاشتغال بالمهارات الموصلة إلى شهوات "الأشخاص" في "الأشياء" الآنية، الأمر الذي لا يحقق أمنا في الحياة، ولا رقيا في العلاقات، وإنما فتن وخصومات وحروب حتى لا يكون إلا القتل!! والقتل!! والقتل!! 2- تأخذ الأمية في الانتشار -أمية القراءة وأمية التفكير، ويصبح العلم مجرد "ديكور"، وزينة شخصية وأسرية هدفه الحصول على الشهادات والألقاب العلمية دون أن يصاحبه نشاط علمي أو بحث معرفي، وتهبط ثقافة الجماهير لتصبح ثقافة متع وغرائز، وتهبط الفنون لتصير فنون شهوات، وقبحا لا أذواق وجمال. ب- ازدياد هبوط مستوى التفاعل مع الرسالة "شبكة العلاقات الاجتماعية": في هذا الطور يتعمق الخلل في مستوى التفاعل مع الرسالة تبعا لتفاقم الخلل في "المثل الأعلى" للأمة. وتظهر مضاعفات هذا الخلل في محتويات عناصر الأمة التي تصبح كما يلي:   1 البخاري، الصحيح، جـ1، باب العلم، ص31. 2 البخاري، الصحيح، جـ1، باب العلم، ص36. مسلم، الصحيح، جـ6، "شرح النووي"، ص223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 يصبح "الإيمان" بالرباط الأسري هو المحدد الحقيقي لـ"جنسيات" الأفراد و"ثقافاتهم". ويصبح "المهجر" الفعلي للأسرة هو المكان الذي تجد فيه استقرارها، وعملها وعيشها. ويصبح الكد لتأمين حاجات الأسرة هو المظهر الذي تتلخص فيه مفاهيم "الجهاد والرسالة" وتطبيقاتهما في الحياة. ويصبح مفهوم "الإيواء" هو توفير الإقامة والسكن لأفراد الأسرة. ويتحدد مفهوم "النصرة" في المنافحة عن شئون الأسرة ومصالحها. وتغير محتويات عناصر الأمة بهذا المفهوم يؤدي إلى تغير مماثل في الفضائل، والقيم والأخلاق التي توجه شبكة العلاقات الاجتماعية فتصبح كما يلي: 1- في بيئة الدروان في فلك "أشخاص الأسرة" يتبدل سلم القيم في المجتمع ليصبح محوره "المصلحة الأسرية فوق الصالح العام في الأمة"، الأمر الذي يقطع التواصل، ويشيع التدابر وينحسر الإحساس بالمسئولية إلى داخل الأسرة دون سواها. أما خارج الأسرة فإن المسئولية تنعدم، وترخص القيم لتصبح مثل مناديل الورق التي يحمل الإنسان لفترة محدودة يمسح بها بصاقه، وأوساخه ثم يلقي بها في براميل النفايات. 2- في الداخل تضطرب الإدارة ويختل النظام، ويشيع التحلل من المسئوليات العامة، وتظهر محاباة العصبيات المختلفة، وينتشر الظلم وينحسر العدل، وتظهر الجريمة وفساد الأخلاق، فلا يعود الناس يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. أما في الخارج فإن الناس يتثاقلون أمام الأخطار الخارجية ولا يعدون لدفعها، ويصبح الدائرون في فلك "العصبية الأسرية" أدوات للقوى الأجنبية الطامعة، وبوابات للتجسس على الأمة واختراقها. ذلك إن الذي يدور في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 فلك "أشخاص الأسرة أو العشيرة" لا يفهم -مفهوم الأمة- والذين هم خارج دائرة أسرته أو عشيرته يتساوون في أنهم "أجانب"، وأقربهم إليه أكثرهم نفعا ماديا عاجلا له. 3- يتحول -الوله- أي الحب والطاعة -إلى "نفاق" موقوت لمن يساعد على توفير حاجات الأسرة، وقضاء مصالحها في المكاسب والوظيفة، وتشتد حدة التنافس على المتع والمكاسب المادية، والمراكز الوظيفية. 4- يتركز إنتاج "الأشياء"، واستعمالاتها على ما يحقق حاجات دائرة الأسرة الضيقة، ولذلك تختل مظاهر الإنتاج الزراعي والصناعي، فتنحسر من تلبية نصرة أفكار الرسالة إلى تلبية حاجات الأسرة في الاستهلاك، ويشيع الكسب الفردي السريع، ويظهر الاحتكار والكنز ويختفي التعاون الجماعي، وتكافؤ الفرص. جـ- هبوط مستوى القدرات العقلية والإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية: تنحسر القدرات العقلية بانحسار "المثل الأعلى" فترسخ الآبائية والتقليد، ويزداد ثقل الأغلال والآثار الثقافية والموروثات الاجتماعية، ويجنح الناس إلى الأهواء والاحتكام إلى الأعراف والعادات، والتقاليد بدل المقررات العقلية، وتضعف الإرادات، فتتضاءل القدرات التسخيرية ويكون من ثمار ذلك عقم في التخطيط، والتنفيذ في مجالات الحياة المختلفة. واستشراء مضاعفات الطور الأسرية ينقل الأمة إلى آخر أطوار المرض، وهو انهيار آخر مظاهر الاجتماع البشري وشيوع الفردية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الطور الرابع: طور ولاء الفرد لنفسه أبرز ملامح هذا الطور هو تدني "المثل الأعلى" الموجه للحياة في الأمة لتصبح حقيقته هي: - دوران "الأفكار والأشياء" في فلك "شخص الفرد" نفسه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 واتصاف المثل الأعلى بهذه الصفة يؤدي إلى انحسار -محور الولاء- من دائرة الأسرة إلى دائرة الفرد نفسه، مما يهيئ إلى انحسار عناصر الأمة: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، وانكماشها في بؤرة الأنانية الفردية، وتكون المحصلة النهائية لهذا الانكماش هي تغير محتويات عناصر الأمة لتصبح معادلتها كالتالي: الأمة = ولاء الفرد لنفسه "الإيمان + هجرة + جهاد ورسالة + إيواء + نصرة". = أفراد أنانيون + هجرة فردية + جهاد فردي ورسالة فردية + إيواء فردي + نصرة فردية. ويمكن أن نمثل لهذا التركيب النهائي لوجود الأمة بالشكل التالي: ففي الشكل رقم "7" ينحسر محور الولاء إلى "شخص" الفرد نفسه، ويصبح الطابع العام هو: - دوران "الأفكار والأشياء" حول "شخص" الفرد نفسه: أما دائرة الأسرة فتتحول إلى صلة "نفاق" لا صلة ولاء، أي هي تنضم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 إلى مخزون أرصدة الأفكار والقوم والقبيلة لـ"تنفق" عند الحاجة من أجل مصالح الفرد الخاصة. وفي هذا الطور تتفاعل مضاعفات المرض وتدفع بالأمة إلى حالة النزع الذي تتمثل مظاهره فيما يلي: أ- ضآلة التفاعل مع الخبرات الاجتماعية والكونية: يتفاقم انحساب التفاعل مع الخبرات الاجتماعية، والكونية تبعا لتفاقم انحسار "المثل الأعلى" في الأمة. ويكون التجسيد العملي لهذا التفاقم في ميدان التربية حيث "يقرأ الفرد باسم نفسه" دونما أية فلسفة تربوية أو أهداف، وإنما يتدرب على -المعلومات والمهارات- التي تسوقه في أي مجتمع وتحت أي لواء. ولذلك يتحول إلى مواطن مرتزق يجوب الأرض للعمل تحت أي لواء، ويمنح لكل جهة ولاء. ب- تفاقم انحسار مستوى التفاعل مع الرسالة: في هذا الطور تصبح رسالة الفرد في الحياة أن يعيش طبقا لما يقتضيه محور ولائه لنفسه، وتصبح شبكة العلاقات الاجتماعية كما يلي: يصبح محتوى "الإيمان" بشهوات الفرد وتأمينها محدد لـ"جنسيته وثقافته"، فهو يقابل للذوبان في أية جنسية وفي أية ثقافة. ويصبح المكان الذي يجد الفرد فيه قضاء مصالحه هو "المهجر" الذي يشد إليه رحاله. ويصبح العمل لتأمين المصالح المذكورة هو مظهر "الجهاد" الذي يفرغ الفرد فيه طاقاته العقلية، والنفسية، والجسدية. ويتحدد مفهوم "الإيواء" في توفير الإقامة المريحة الزاخرة بمصالح الفرد نفسه. ويتحدد مفهوم "النصرة" في منافحة الفرد عن مصالحة الخاصة دون سواها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ويتحدد مفهوم "الولاية" في الأنانية الفردية، وتقديمها على أي شيء آخر. وبلوغ الأمة -هذا الطور- معناه تمزق شبكة العلاقات الاجتماعية، وتعطل الفاعلية الاجتماعية لعناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية، وأبرز مظاهر هذا التعطل هو انفجار الأسرة آخر الوحدات الاجتماعية في الأمة، وانصراف كل عضو فيها لشئونه الخاصة دون سواه. وبروز مرض "الإنسان السرطاني" الذي يتضخم على حساب الأفراد المحيطين به، ويتعامل معهم بالكيد والتآمر للاستئثار بالمكاسب، والمنافع وفرص العمل تماما كما تتضخم الخلايا السرطانية وتدمر بعضها بعضا. وبلوغ الأمة هذه الحالة يحولها إلى أكوام من الخردة البشرية، ومعنى هذه الحالة الدخول في المرحلة الثالثة: مرحلة الوفاة!! وأخيرا لا بد من الانتباه إلى الملاحظات التالية: الملاحظة الأولى، إن سلسلة الانحسارات المتوالية التي تمر بها الأمة لا تتم بدرجة متفاوتة عند أفراد الأمة وجماعاتها، فقد يكون أناس على دائرة الولاء للأفكار في الوقت الذي يكون آخرون على دائرة الولاء للقوم، وتناثر الأكثرية على دوائر الولاء للقبيلة، والعائلة، والطائفة، والفردية. وفي هذه الحالة يعاني الذين يعيشون على الدوائر الواسعة من "الاغتراب" الفكري والاجتماعي، ولا يكون لهم أثر في الأحداث أو إيقاف السرطانات الاجتماعية التي تؤدي بالأمة إلى الوفاة!! والملاحظة الثانية، ليس حتميا أن تتولى الانحسارات حتى تنتهي بالأمة إلى الوفاة، فقد تقوم حركات مراجعة و"توبة" إصلاحية ترد للأمة قسطًا من العافية أو تمنع زيادة الانحسار لمدة، أو تنقلها من المرض إلى الصحة. والملاحظة الثالثة، يمكن المحافظة على عافية الأمة، وصحتها إذا كان هناك رقابة "وتوبة" دورية، وترميم لظواهر الاختلال أو مقدمات المرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 والقيام بهذه المهمة يحتاج إلى مؤسسات متخصصة تضم عددا كافيا من الخبراء المختصين يتناسب عددهم مع عدد الأمة. ولعله من الموضوعية أن نقول أن الأمم الغربية المعاصرة قد انتبهت إلى الملاحظة الثالثة، وأقامت المؤسسات المتخصصة التي تفحص نشاطات الأمة بمختلف الوسائل العلمية، كالبيانات الاستطلاعية، والدراسات الإحصائية والاستفتاءات، والتنقيب في ثمار الخطط وتقويم المشروعات، وفي جميع هذه الوسائل توفر لها حرية النقد والتعبير والتشخيص؛ لأنه بدون هذه الحرية لا يمكن أن يكون هناك تقويم وتصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الفصل السادس والعشرون: مرحلة وفاة الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشياء مدخل ... الفصل السادس والعشرون: مرحلة وفاة الأمة "مرحلة الدوران في فلك الأشياء" يرمز إلى هذه المرحلة في الشكل رقم "2" بالمثلث د هـ وعلى صفحة 373 حيث تبدأ بوفاة الأمة عند المحطة الزمنية "هـ"، وتنتهي عند إعلان الوفاة والقيام بالدفن عند المحطة الزمنية "و"، وتنتهي الأمة إلى حالة الوفاة حين تصبح حقيقة "المثل الأعلى" الذي يوجه الحياة فيها هي: - دوران "الأفكار والأشخاص" في فلك "الأشياء": والتجسيد العملي لهذا الدوران هو تمركز شهوات الحياة، ومتعها في محور نظام القيم السائدة، وتكريس المقدرات الفكرية والبشرية لتوفير هذه الشهوات، والمتع ونسيان ما عداها من قضايا النشأة والحياة والمصير. وإلى هذا النسيان يشير قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] . والمحصلة النهائية لهذا التبدل في القيم هي بروز "إنسان" أناني تدور اهتماماته حول "ملكية الأشياء"، والعض عليها بكل الأنياب المادية والنفسية كقوة السلاح والتآمر، والغش والظلم والاغتصاب دون اعتبار للآخرين ومصائرهم. ويطلق الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هذا النظام القيمي اسم -الملك العضوض- أي الذي يعض عليه أهله بقوة السلاح، ويغتصبونه بالقتل والفتن ويحرسونه بالإرهاب. وتتفاوت سعة دوائر شهوة -الملك العضوض- بتفاوت دوائر الممالك في الأمة. فهي تبدأ من -ملك الفرد- العادي للأشياء حتى تبلغ أقصى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 سعتها في الملكية المطلقة للحاكم الجالس على رأس المجتمع. وهذا التجانس بين قمة -الملك العضوض- والقواعد الشعبية العضوضة يندرج أيضا تحت المبدأ الإسلامي القائل، "كما تكونون يول عليكم". وتفصل الأحاديث النبوية في تشخيص هذا اللون من قيم -الملك العضوض- ومظاهره ومضاعفاته، من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: "سيأتي على الناس زمان، لا ينال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالغصب والبخل، ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان، فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضة وهو يقر على المحبة، وصبر على الذال وهو يقدر على العز، أتاه الله ثواب خمسين صديقا ممن صدق بي" 1. وفي حديث آخر: "يأتي على الناس زمان همتهم بطونهم، وشرفهم متاعهم، وقبلتهم نساؤهم ودينهم دراهمهم ودنانيرهم، أولئك شر الخلق لا خلاق لهم عند الله" 2.   1 عز الدين بليق، منهاج الصالحين، "بيروت: دار الفتح، 1398/ 1978" ص938. 2 نفس المصدر، ص937 نقلًا عن الديلمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 أولًا: أعراض الأمة الميتة تبقى الأمة الميتة -بعد حدوث الوفاة- فترة من الزمن تكون خلالها كالعمارة الضخمة المتصدعة التي تظل قائمة ما دامت لم تهب الرياح التي تقوض أركانها، أو لم تعمل فيها آلات الهدم التي تهدم حيطانها. ويقدم القرآن للأمم الميتة مثلا من جثة سليمان التي ظلت زمنا بعد وفاته تخيف العاملين تحت إمرته، فلما أكلت دابة الأرض المنسأة -أو العصاة- التي تستند إليها الجثة، وخرت إلى الأرض قال العاملون تحت إمرته من الجن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 والإنس لو كنا نعلم وفاته ما لبثنا زمنا طويلا في عذاب العمل وتنفيذ الأوامر. وكذلك أنظمة الحكم والأمة حين تموت تبقى زمنا تتكئ على منسأتها من البوليس والجيش، والمخابرات بحيث يخيل للرازحين تحت ظلمها أنها حية قائمة حتى يبعث الله عناصر انقلابية من الداخل، أو قوة غايزة من الخارج، فتأكل المنسأة وتخر الأمة وتعلن الوفاة. وحينئذ يتبين الرازحون تحت ظلمها أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا زمنا في العذاب المهين. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يحدد للأمة الميتة أعراضا مجملة رئيسية يندرج تحت كل عرض تفاصيل دقيقة يستطيع أولو الألباب من خلال هذه الأعراض التحقق من وفاة الأمة، ونظام الحكم فيها فيقون الناس مضاعفات الانهيار، ويبدأون محاولات بعث الأمة من جديد. ومن الأحاديث التي تقدم مجمل هذه الأعراض ما يلي: "إذا رأيت شحا مطاعا، وهو متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودعك من أمر العامة" 1. فالشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، كلها أعراض رئيسية للأمة الميتة يتفرع عن كلها منها عشرات المضاعفات والتفاصيل. وهذه الأعراض تبدو جلية واضحة في الفترة الواقعة بين حدوث الوفاة، وبين إعلانها، وإجراءات الدفن التي مر الحديث عنها: أما تفاصيل هذه الأعراض فهي كما يلي: 1- شيوع "الشح المطاع": والشح في اللغة معناه أشد البخل. وقيل: البخل يكون في المال، أما   1 الترمذي، السنن، جـ8 "كتاب التفسير: تفسير سورة المائدة، ص222، رقم 3060. ومثله: سنن أبي داود، جـ4، كتاب الملاحم. و: سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، جـ2، ص1331، رقم 4014. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الشح فيكون بالمال والمعروف1. وقيل: إنه الإفراط في الحرص على الشيء2. ولقد عرفه الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بأنه: أن ترى ما أنفقته تلفًا3. أي خسارة. ولقد ورد ذكر الشح في القرآن الكريم في خمسة مواضع تتكامل جميعها لتدل على أمور ثلاثة: الأول، أن من يبتلى بالشح يتصف بعدم الإنفاق في سبيل الله، والبخل بعمل الخير والسلوك الحسن، والتردد في مساعدة الناس، والنكوص عن الجهاد والجبن أمام الأعداء، وسلاطة اللسان على الأصدقاء، والغياب عند التضحية والبذل، والحضور عند الطمع والغنيمة: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا، يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 18-20] . والأمر الثاني، أن من برئ من الشح يتصف بالسخاء والبذل، وإيثار المصلحة العامة، ومساعدة الناس على الاستقرار، ومحبة القادمين الغرباء كمحبة المقيمين الأقرباء، وتيسير أمورهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ   1 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام، ص115. 2 الطبري، التفسير، جـ5، ص320 "تفسير آية 128 من سورة النساء". 3 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام، ص189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . - {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16] . والأمر الثالث، إن الشح ورد في آية أخرى ليشير إلى المرأة العجوز، أو الدميمة التي تضن بجزء من حقها لضرتها الشابة الجميلة. - {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] . وفي الآية -أيضا- إشارة إلى أن الشح يشمل التشبث بمنافع لم تعد الحاجة شديدة إليها، وعدم التفضل بها لمن هو أكثر حاجة إليها، ومن أمثلته الأثرياء الذين يشحون عن الإحسان والتبرع حين تتقدم بهم السن، وتفتك بهم علل الموت بينما يتبرع نظائرهم في المجتمعات غير الإسلامية بتأسيس دور العلم ومراكز البحوث والمستشفيات، وأمثالها من المنافع العامة. فالشح في حقيقته نقيض لعنصر الولاية في الأمة. أي إن محوره اختفاء الشعور بالصالح العام، وإبطال لفاعلية شبكة العلاقات الاجتماعية التي توفرها عناصر الأمة، أي عناصر: الإيمان، والهجرة، والرسالة والجهاد، والإيواء، والنصرة التي مرت تفاصيلها في فصول سابقة. وبذلك تكون الأمة التي تصاب بالشح كالجسد الميت الذي تتوقف فيه الدورة الدموية، فلا تزود أجهزته بالغذاء اللازم لاستمرار عافيتها وآداء وظائفها مما يمهد لتفسحها وانبعاث نتنها. ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت -الشح- يتضح أن الشح يتمثل فيما يلي: أ- الشح بيسر الحياة وشحنها بالضنك والعسر، كتضييق الحكومات على الحريات، وإثقال كاهل الرعية بالضرائب والغرامات، واستغلال رجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 الاقتصاد للأزمات وأوقات الشدة وظروف القطح، والحرب وندرة السلع لممارسة الاحتكار ورفع الأسعار، والإيجار دون اكتراث بما يسببه ذلك من عنت وإرهاق للآخرين. ب- الشح بإنجاز الواجبات وبذل الجهد وشيوع العجز، والشح بالمعاملة الحسنة وشيوع الفظاظة والغلظة في ميادين الحياة ومؤسساتها المختلفة1.   1 يظهر تجاري -أو جريان- الشح في سلوك -إنسان الأمة الميتة- بشكل عفوي وتلقائي. ولتوضيح ذلك نسوق المثل الواقعي التالي: احتجت إلى تصديق بعض الوثائق في إحدى القنصليات الأجنبية. وحين ذهبت إلى القنصلية قابلتني على -شباك المراجعة- فتاة عربية ترتدي حجابا شرعيا على رأسها، وجلبابا يستر جميع جسمها. ولم تكد تلمحني حتى بادرتني قائلة -بتجهم وفظاظة: اجلس حتى يأتي دورك!! قالت هذا -دون أن يبرز مني ما يستدعي ذلك. كظمت استيائي وجلست! وحين جاء دوري وبدأت عرض حاجتي قاطعتني بالقول: لا يوجد هنا تصديق على مثل هذه الوثيقة! وكان القنصل -الأجنبي الأصل- يقف إلى جانبها فابستم وتدخل بلطف قائلا: ما الذي يمنع من تصديقها!؟ دعني أنظر فيها!! نظر في الوثيقة قليلا ثم ابتسم قليلا: عشرة دولارات فقط رسم تصديق!! ثم طلب إلى الفتاة إجراء اللازم، فأراح أصعابي واستل سخيمتي. وتكررت زيارتي للمراجعة فلاحظت أن السلبية والشح صفتان مستمرتان في هذه الفتاة المسلمة!! المحجبة!! تعامل بها غالب المراجعين، ولا ينقذهم من "العسر" الذي تواجههم به إلا "اليسر" الذي يقدمه الموظفون، والموظفات "غير المسلمين". والنظر الدقيق في تفسير هذا السلوك الشحيح أن الفتاة العربية -وإن عرضت تدين "الأشكال"- هي بعض شظايا أمة متوفاة، وهي تحمل في ثقافتها وممارساتها جراثيم الشح، بينما يبرأ "الأجانب غير المسلمين" العاملين إلى جانبها من جراثيم هذا السرطان الاجتماعي؛ لأنهم نشأوا في بيئات سليمة منه. وتتفشى آثار هذا -الشح- وتطبيقاته، وتبدو واضحة حين نستذكر خبراتنا المؤلمة في المطارات ومراكز الحدود، ودوائر العمل الرسمية وشبكة العلاقات الاجتماعية في "مزق" وأقطار الأمة الإسلامية المتوفاة!! والإنسان الذي يخرج خارج حدود الأمة الإسلامية المتوفاة يستذكر دائما هذا "العسر" الذي يعاني منه في بلاده، ومن بني قومه ويقارنه بـ"اليسر" الذي يراه في المطارات ومراكز الحدود، وإدارات الدولة ومراكز العمل، والعلاقات التجارية والرسمية في الأقطار الأوربية والأمريكية!!، وهو لا يتوقف عن المقارنة، والتساؤل والندب والتحسر والاستفهام والاستغراب!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 حـ- الشح بالتكافل وعدم التواصل والتراحم، وعدم البذل والتبرع، وانتشار الفردية والأنانية مع الإسراف في الإنفاق على ملذات النفس وشهواتها. د- الشح بالمظهر الاجتماعي للعبادة، وشيوع الشكلية في التدين والاقتصار على تدين "الأشكال" دون "الأعمال". والتركيز على طقوس العبادات، وحركاتها دون إقامة معانيها في الحياة، والتوقف عن الزكاة والجهاد، ومنع كل "ماعون" يعين المسلم على إقامة روح الدين وفضائله. وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أي يراءون بالصلاة بينما هم يمنعون كل "ماعون" يعين الناس على يسر الحياة، وعدم الاشتغال بها اشتغالا يلهيهم عن دينهم أو يدفعهم دفعا لمخالفته، ومخالفة تعاليمه. هـ- الشح بالعدل وشيوع "التطفيف" في المعاملات. والتطفيف مشتق من قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} والتطفيف في العمل أو الوظيفة أن يرهق أصحاب العمل العمال، والموظفين بالواجبات ويثقلون عليهم في المسئوليات في الوقت الذي يدفعون لهم أجورا، أو رواتب أقل من غيرهم، ويغتنمون كل فرصة "ليخسروهم" أي يخصمون من أجورهم أو رواتبهم. أما التطفيف في التجارة فهو المبالغة في الاستيفاء عند الشراء وإنقاص الوزن، أو المكيال عند البيع. وهكذا في جميع أنواع المعاملات وعلاقات العمل والخدمة والوظيفة. و الشح بالنفس والأبناء والقدرات، والجبن أمام الأخطار الخارجية أو الأعداء الخارجين، وإيثار السلامة بالمال والنفس، مع القسوة على الأخوة أو الرعايا في الداخل. وهذا ما أشار إليه الحسن بن علي بن أبي طالب حين عرف -الجبن- بأنه: الجرأة على الصديق والنكوص عن العدو1.   1 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام، ص189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ولقد لخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- مظاهر الشح التي تقدمت عند قوله: "إياكم والشح فإنما هلك من قبلكم بالشح: أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبحلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا" 1. 2- اتباع الهوى: المحور الذي يدور حول -الهوى- هو مجانبة العدل في السلوك والتفكير والشعور، ثم الانطلاق في ذلك كله من الحمية العصبية والشهوات النفسية. ويذكر الرازي في تفسيره أن الله وضع الهوى في مقابل العدل عند قوله تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] . ثم يعلق على ذلك فيقول: "المعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بالعدل. وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك الهوى. ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر. فتقدير الآية: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} "2. ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت -الهوى الصفة الثانية للأمة الميتة -يتضح أنه يتمثل فيما يلي: أ- الظلم، فالذين يمارسون الظلم إنما يقترفونه بسبب الهوى، تلبية لحمية عصبية أو شهوة نفسية. كما إن المظلومين الذين يخنعون أمام الظالم، ويرضون بظلمه إنما يفعلون ذلك بسبب الهوى. ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت الظالم فقد تودع منها" 3. فالأمة الميتة تسكت أمام سياسات الظلم وتطبيقاته في الاجتماع   1 نفس المصدر، ص115 نقلا عن الحاكم، ومثله أبو داود، والمنذري في الترغيب والترهيب، جـ3، ص158. 2 الرازي، التفسير، جـ11، ص74 "تفسير آية 135 سورة النساء". 3 مسند أحمد، تصنيف الساعاتي"، جـ19، ص175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 والاقتصاد والسياسة والثقافة والفنون، والتربية وتتسابق لتملق الظالم طلبا لما عنده من شهوات أو لما تربطهم به من عصبيات، فالتاجر في الأمة الميتة يخشى على تجارته، والموظف يخشى على وظيفته، والعامل يخشى على عمله، وصاحب الشهوة يخشى فقدان شهوته وهكذا. ولا يعني هذا أن الأمة الميتة تخلو من العناصر الصالحة، وإنما معناه أنها تفتقر إلى العناصر "الصالحة-المصلحة" التي تقف أمام الظلم، وتحول دون انتشاره واستشراء مضاعفاته. والتمييز بين الفريقين واضح تمام الوضوح في القرآن الكريم والحديث الشريف. فالقرآن يؤكد على أن العناصر "الصالحة-المصلحة" هي الضمان الواقي للأمة من الهلاك ومن العقوبات الإلهية. من ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] . أما العناصر الصالحة غير المصلحة فهذه لا تحول دون وفاة الأمم، ولا تنجو من الدمار الذي ينزل بالأمم المعذبة: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168] . وينبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى أن مساعدة الظالم على ظلمه تخرج من الإسلام: "ألا إنه سيكون بعدي أمراء يظلمون، ويكذبون فمن صدقهم بكذبهم، ومالأم على ظلمهم فليس مني، ولا أنا منهم، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ومن لم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه" 1.   1 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام، ص23 نقلا عن مسند أحمد "رواية النعمان بن بشير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 والسكوت على الظلم ينتهي بالأمة إلى الكوارث والعقوبات الإلهية: - "إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" 1. - "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم" 2. ب- انطفاء العلم وشيوع الجهل: ولا يعني ذلك شيوع الأمية وإغلاق معاهد العلم، وإنما المقصود تعطل فاعلية العلم الناتج عن التربية، والتعليم اللذين يوجههما الهوى بحيث يصبح وجود العلم شبيها بالجهل؛ لأن أصحاب الأهواء يستثمرون العلم، والمعرفة استثمارا يجعل فقدهما أنفع من ضررهما، وهم يتخذون من العلم حلية اجتماعية يتطاولون بها على الناس، ويظلمونها بدل مساعدتهم وإنصافهم. وإلى هذا يشير قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145] . جـ- انطفاء فاعلية الحقيقة: وشيوع الهوى معناه الاحتكام إلى النزعات والحمية، والشهوات مما يبطل فاعلية الحقيقة رغم وقوف الناس عليها. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] . د- انطفاء الخير والصلاح وشيوع الشر والفساد: في الأمة الميتة التي يشيع فيها الهوى يتحول الناس إلى أكوام بشرية تتصارع من أجل الشهوات   1 سنن أبي داود، جـ4، كتاب الفتن والملاحم، ص122، رقم 4338. 2 سنن أبي داود، نفس الجزء والصفحة، رقم 4336، 4337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 والعصبيات والحصول على المنافع والمكاسب، فتذهب الأخلاق، وينعدم النظام، ويفشو الفساد في السلوك والمعاملات، وتنعدم روح المسئولية، وتدب الفوضى، ويشيع الغش والخيانة والرشوة، وألوان الخداع والكذب، وما إلى ذلك. وإلى كل هذه المضاعفات يشير قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] . هـ- شيوع الصنمية واختفاء التوحيد: ويكون من نتائج ذلك شيوع الرق النفسي والفكري، واختفاء حريات التفكير والتعبير والعمل والاختيار. وتلغى شخصية الإنسان فيصبح متقلبا حسب المواقف التي تقررها أهواؤه في الرغبة أو الرهبة، أو الخوف أو الطمع أو الحرص. وإلى هذا يشير قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 43، 44] . و شيوع الفرقة وتحطم الوحدة: وإلى ذلك يشير قوله -صلى الله عليه وسلم: "ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنين وسبعين ملة. وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة. وسيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق، ولا مفصل إلا دخله" 1. ز- في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى تشيع الدناءة والصغار، وينعدم الطموح والترفع. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176] .   1 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام، ص121، 122. نقلا عن سنن أبي داود وسنن ابن ماجه، جـ2، ص249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ح- في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى يشبع الخطأ في الأحكام، والقرارات والسياسات والمواقف. وإلى هذا يشير قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ} [القصص: 50] . ط- في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى يشيع الحمق والقصور العقلي، وقلة الحكمة وعدم الاستفادة من الخبرات الاجتماعية، والكونية التي يقرأها الناس أو يمرون بها أو تراها أعينهم أو تسمعها آذانهم. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16] . 3- إيثار الدنيا: وهذه هي الصفة الرئيسية الثالثة للأمة الميتة. ومحورها الوقوف عند العناية بنعيم الدنيا، وشهواتها دون اهتمام بأمور النشأة والمصير. فهي إذن توقف عن مسيرة الإنسان نحو الخلود والرقي. ويتكرر الحديث عن -إيثار الدنيا- في مئات المواضع في القرآن والحديث. ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت -إيثار الدنيا- يتضح أنه يتمثل فيما يلي: أ- شيوع صنمية المال: وهذه الصنمية هي محور إيثار الدنيا، إذ لما كان المال هو الوسيلة الموصلة إلى نعيم الدنيا وشهواتها، فإن الأمة الميتة تنصب من المال صنما تتقرب لمالكيه بالعبادة: أي بالطاعة الكاملة بسبب الرغبة الكاملة به والرهبة الكاملة من فقدانه. وإلى هذه الصنمية يشير قوله -صلى الله عليه وسلم: "إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال" 1.   1 الطبراني، المعجم الكبير، جـ19، ص179، رقم 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وقوله أيضًا: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي منهما رضي، وإن منع سخط" 1. فهو عبد الدينار والدرهم؛ لأن "ولاءه" يدور في فكلهما إن أعطي منهما رضي، وإن منع عنه العطاء سخط. والقطيفة هي التي يجلس عليها. أو هي رمز للأثاث، فهو عبد الأثاث؛ لأنه دائم التفكير به، مشغول بالبحث عنه سواء أكان تاجرا أو مستهلكا. والخميصة هي اللباس الذي يرتديه الإنسان، فهو عبد اللباس؛ لأنه دائم التفكير به والتفتيش عن أزيائه وأشكاله والنظر في منشورات الدعاية له، والربط بين الدينار والدرهم من ناحية والأثاث، واللباس من ناحية أخرى؛ لأنها كلها مرتبطة بعضها ببعض لا يتوصل عابدها إلى شيء منها إلا بالحصول على الأخرى. وليحصل عابدها عليها لا بد أن يطيع مالكها ومعطيها، والمتسبب بالحصول عليها طاعة كاملة، ويرهبهم رهبة كاملة، ويرغب بهم رغبة كاملة، فهي أصنام متعددة وأرباب متنوعة لكنها مترابطة يوصل بعضها إلى بعض. ولذلك قال بعض السلف: ألبس من الثياب ما يخدمك، ولا تلبس منها ما أنت تخدمه، واقتن البساط الذي تجلس عليه لا الذي يجلس عليك2. والتربية المعاصرة، والثقافة المعاصرة -تربية وثقافة الإنتاج والاستهلاك- تفرز إنسانا تجلس "الأشياء" فوق عقله وقلبه وجسده، وتنام وتصحو معه، دون أن تدع لـ"الأفكار" وشبكة العلاقات الاجتماعية متسعا، ويظل ينوء تحت الأشياء كلها آناء الليل، والنهار حتى تصبح دينه ونياه.   1 البخاري، الصحيح، كتاب الجهاد، وكتاب الرقاق. 2 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب السلوك، جـ10، ص597. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ب- فساد القيادة وانتهاك القيم والحرمات: ذلك أن الأمة الميتة التي تؤثر الدنيا على الآخرة تدفع إلى مراكز القيادة فيها العناصر المترفة -أي أهل النعمة والبطر والاستكبار1- لأنها تتوهم فيهم القدرة والخبرة للحصول على الدنيا التي تؤثرها. ولكن المترفين -بحكم إصابتهم بنفس الداء- يتحولون إلى قيادات ظالمة مستغلة تتركز سياساتها حول الاستئثار بمزيد من الدنيا، وأسباب البطر والاستكبار، فيختفي العدل ويفشو الظلم، وتنتهك الحرمات، ويتحلل من المسئوليات ويختفي الأمن والاستقرار. وإلى هذه الحالة يشير قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] . والفسق المشار إليه في الآية نوعان: فسق القيادات أي انحرافها عن المنهاج القويم في الحكم والإدارة، واستعبادها للناس وكبت الحريات. وفسق الشعوب، وهو سكوتها على انحراف القيادة المترفة وتملقها وتبرير ممارساتها. ولذلك أدان الله فرعون وقومه سواء؛ لأنهم سمحوا له أن يستخف بهم فأطاعوه، ونفذوا سياساته وشكلوا جنده وحراسه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] . جـ- الانغماس في الشهوات، وانتشار روح المنافسة والصراع: في الأمة الميتة التي تتصف بإيثار الدنيا ينحسر عنصر الجهاد، والنصرة في الصراع من أجل حطام الدنيا والانغماس في شهواتها. وإلى هذا يشير قوله -صلى الله عليه وسلم: " ... فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كانت قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم" 2.   1 الطبري، التفسير، جـ18، ص36. 2 ابن ماجه، السنن، كتاب الفتن، ص1325، رقم 3997. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وفي حديث آخر يقول: "سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطايب الدنيا وألوانها، ويركبون فره الخيل وألوانها، ويلبسون أجمل الثياب وألوانها. لهم بطون من القليل لا تشبع، وأنفس بالكثير لا تقنع، عاكفين على الدنيا، يغدون ويرحون إليها، اتخذوها إلهة من دون إلههم، وربا دون ربهم، إلى أمرها ينتهون، ولها يتبعون، فعزيمة من محمد بن عبد الله، لمن أدرك ذلك الزمان من عقب عقبكم، وخلف خلفكم أن لا يسلم عليهم، ولا يعود مرضاهم، ولا يتبع جنائزهم، ولا يوقر كبيرهم، فمن فعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام" 1. ومن الطبيعي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يحرم الطيبات التي أحل الله لعباده، ولكنه يشير إلى ظاهرة من مظاهر الأمة الميتة حين تنحسر فيها عناصر الإيمان والهجرة، والجهاد والرسالة والإيواء، والنصرة، والولاية لتدور في فلك "أشياء" الدنيا وطيباتها. د- سطحية التدين: وتتخذ هذه السطحية مظهرين: سطحية العامة حيث يتحول الدين إلى طقوس وأعياد ومناسبات، كأن يصبح رمضان شهر المطاعم والملاهي والتسويق والشراء، ويصبح الحج موسما للتجارة والنرهة والإيجار والاستئجار. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف: 51] . وسطحية العلماء والمتدينين حيث يجري التركيز على "الطقوس والأشكال" بدل "الروح والأعمال". وهذه السطحية قديمة صاحبت الإسلام منذ نشأته وأصابت   1 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام، ص236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه بأذاها فحذر من مستقبلها ونبه إلى روادها. من ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري حين قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اليمن بذهبة من أديم مقروظ لم تحصل من ترابها. قال فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة بن علاثة وأما عامر بن الطفيل. فقال رجل من أصحابه كنا أحق بهذا من هؤلاء. قال فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟ " قال فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشر الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار. فقال: يا رسول الله! "اتق الله! " فقال: "ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ " قال: ثم ولى الرجل. فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: "لا لعله أن يكون يصلي". فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم". قال: ثم نظر إليه وهو مقف فقال: "إنه يخرج من ظئظئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". قال: أظنه قال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود" 1. هذا هو رائد التدين السطحي وسنة "الأشكال": رجل "كث اللحية"، "محلوق الرأس"، "مشمر الإزار". وهو ظئظئ -أي أصل- فئات يتبعون سنته، ويتلون كتاب الله رطبا -أي سهلا لكثرة حفظهم- ولكنهم إذا لاحت لهم شهوة أو منفعة قفزوا عليها، وتجردوا من الذوق والأخلاق ومرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية. ثم شاهد التاريخ الإسلامي نماذج من هؤلاء أولوهم بأنهم -الخوارج. والحقيقة أن الظاهرة لا تقتصر على فرقة معينة في زمن معين، وإنما هي ظاهرة متكررة كلما مرضت الأمة، وانتهت   1 صحيح مسلم، "شرح النووي"، جـ7، كتاب الزكاة، ص162، 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 إلى الوفاة وأفرزت نماذج تتعلق بـ"الأشكال" وتمرق من "الأعمال". هـ- سطحية العلم والتربية: في الأمة الميتة تنحسر ميادين المعرفة، وتطبيقاتها ومناهجها التربوية من ميادين النشأة والمصير وسنن الحياة، والكون لتقتصر على البحث في ميدان "الأشياء" الدنيوية، وإعداد الناس للحصول عليها وإنتاجها ثم استلاكها. وإلى هذه الظاهرة يشير قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] . والثمرة العامة للنشاطات التربوية والعلمية هي بروز "ثقافة الاستهلاك" التي تلون أنماط الفهم والتفكير، وتحيل كل فقه -حتى فقه القرآن والحديث- إلى أداة لإنتاج "الأشياء" وتسويقها، وتمجيد القائمين على إنتاجها. أما "الأفكار" فيكون الساهد منها هو أفكار "اللغو" أي أدنى مستويات المعرفة التي يسميها القرآن -لهو الحديث- فهي عند المتدينين تدور حول الجدل عن السحر والعفاريت، وشرعية التمسح بالحجارة وزيادة القبور، واستعمال السبحة وما إلى ذلك. وعند غير المتدينين تدور حول الأشعار الغزلية، والأدب الوجداني، والقصص الجنسي، وبرامج التسلية والترفيه وما إلى ذلك. وتتصاعد مضاعفات -إيثار الدنيا- وتفرز نتائج سلبية في الفكر، والسلوك والثقافة حتى تبلغ قمتها في بروز ظاهرة -الكفر والاستخفاف بالإيمان. والكفر في جوهره مرض نفسي، وفكري سببه الجهل والحاجة: جهل المالكين للدنيا بحكمتها، وحاجة المحرومين إلى مقومات العيش فيها. وهذا ما أدركه ابن تيمية حين قال: "المحرمات جميعها من الكفر، والفسوق والعصيان إنما يفعلها العبد لجهله أو لحاجته، فإنه إذا كان عالمًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 بمضرتها، وهو غني امتنع أن يفعلها ... فأصل وقوع السيئات منه عدم العلم أو الغنى"1. وغالبا ما يتخذ الكفر مظهرين: الأول، كفر ضحايا قيم الحرمان الذين أحبوا الدنيا وفشلوا في دوامة الصراع الجاري حول المال، والتنعم بالأشياء. فيدفعهم الفشل والفقر والحرمان إلى الكفر، خاصة إذا لم يتبن علماء الدين قضاياهم، ويتصدوا للظلم النازل بهم والدعوة إلى إنصافهم والعناية بهم2. والمظهر الثاني، كفر ضحايا قيم الترف، أي الذين جهلوا حكمة الجاه والثراء فأبطرهم الانتصار في حلبة الصراع على الدنيا، وأفرجهم احتكار النعيم والثروة والقوة، واعتقدوا أن هذه النصر مرده علمهم، ومهاراتهم في الكسب والإنتاج، فيسخرون من الدين، ويتجرأون على الفساد، ويتحللون من المسئولية الأخروية، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 212] . 4- إعجاب كل ذي رأي برأيه: ومحور هذه الصفة الأخيرة من صفات الأمة الميتة هو تعطل روح الجماعة والعمل الجماعي، وتوقف تبادل الخبرات والمشورة. وينتج عن ذلك بروز ظواهر التعصب للرأي، والعجب والكبر والتعالم، وإملاء الرأي وفرضه على الآخرين في جميع دوائر الحياة الاجتماعية ابتداء من القواعد الدنيا في الأسرة، والمتجر، والمصنع، ودائرة الوظيفة حتى أعلى دوائر المجتمع في رئاسة الحكومة، وقيادة الدولة حيث زعامات الحكم المطلق، والقيادات الدكتاتورية المتنافرة المتناحرة. ويكون من نتائج ذلك بروز   1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب التفسير، جـ14، ص22، 23. 2 راجع فصل -العلاقة بين الإنسان والحياة: علاقة ابتلاء- من كتاب فلسفة التربية الإسلامية للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 مجتمعات الكراهية وفقدان الثقة، وشيوع الحسد وانعدام التعاو والوحدة، وتفرق الكلمة، والتستر على الأخطاء والنواقص والعيوب، ورفض النقد الذاتي، وتبرير الهزائم والنكسات والأزمات، وفشل اللجان والمؤتمرات، وعقم التخطيط واللقاءات، والاجتماعات، وانعدام التعاون بين الهيئات، والجماعات وغير ذلك. والمحصلة النهائية لذلك كله هي تحطم روح الجماعة والعمل الجماعي، وإغلاق الاتصال والتفاهم فلا تحل المشكلات إلا بالخصومة، والفتن والتآمر والقتل، وإلى هذا المصير يشير قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] . ولقد فسر ابن عباس قوله تعالى: {مِنْ فَوْقِكُمْ} من أمرائكم. و {مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} من سفلتكم، و {يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} الأهواء والاختلاق. و {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} يقتل بعضكم بعضًا1. والواقع أن معاني الآيات المشار إليها لا تقتصر على ما استقاه ابن عباس من خبرات زمانه، بل هي تتدفق طبقا لما يحدثه الخلق الجديد "التطور" في الأزمنة والأمكنة والتكنولوجيا. فقد يكون من مظاهر: {مِنْ فَوْقِكُمْ} الطائرات والقذائف الصاروخية الناسفة، وقد يكون من مظاهر: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} الأحزاب والمنظمات المتحاربة من أجل غايات مختلطة يحوطها اللبس والغموض، والدسائس الخفية. فمظاهر العذاب تتطور بتطور أدواته، أما القوانين والسنن فهي خالدة مترابطة، وأقدار -أي قوانين- متتالية يفضي بعضها إلى بعض، حين تفسق الأمم عن الصراط المستقيم،   1 الطبري، التفسير جـ7، ص220-221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 دون أن توقفها أهواء أو تحد من هولها، وعواصفها عصبيات ونزعات. ثم إن هذه الأعراض الأربعة الرئيسية للأمة الميتة: أعراض الشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، تتبادل التأثير السلبي، وتتظافر في إفراز مضاعفاتها الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والعسكرية في واقع الأمة الميتة, ولقد فصل الرسول صلى الله عليه وسلم في ذكر هذه المضاعفات في أحاديث كثيرة منها: "يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عددًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم" 1. وفي حدث آخر: "إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء". فقيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: "إذا كان المغنم دولًا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم الغير الدين، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه. وبر صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا أو مسخا" 2.   1 ابن ماجه، السنن جـ2 ص1332-1333، رقم 4019. 2 الترمذي، السنن، كتاب الفتن، جـ4، ص494، رقم 2210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 ثانيا: إعلان الوفاة وإجراءات الدفن وخلال الصراعات الدائرة وتفاعل الفتن، والمضاعفات السلبية في الداخل تعمد الفئات المهزومة أو تلك التي فيها بقية صلاح إلى الهجرات المعاكسة، والهروب من أرض الهرج والقتل، والفتن إلى حيث الأمن والاستقرار وسيادة القانون. أما الخردة البشرية فتستمر في أتون الصراعات الدموية، ومستنقع الانحرافات الاجتماعية إلى أن تتمزق الأمة وتتناثر مزقها: تمزق سياسي وتفسخ أخلاقي، وهزائم ونكبات، ومجاعات تصبح حديث المحافل الدولية، ووسائل الإعلام العالمية. وإلى هذا الوضع المأساوي يشير قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] . وبلوغ الأمة هذه الحالة يجعلها كالجيفة التي تنفجر أحشاؤها، وينتشر نتنها فتجذب روائحها الكريهة برابرة الشعوب، والغزاة الطامعين من خارج ليقوموا بإعلان الوفاة وإجراءات الدفن. وغالبا ما يتمثل إعلان الوفاة بالانهيار العسكري السريع أمام الغزاة. والواقع أن ما يبدو انتصارا ساحقا، وهزيمة مروعة هو في حقيقته إعلان لوفاة أمة لفظت أنفسها من قبل، ولكنها ظلت زمنا تتكئ على أجهزتها المخابراتية والأمنية، وتوهم المرعوبين من جماهيرها أنها حية قائمة كما ظلت جثة سليمان المتكئ على منسأته زمنا ترعب العاملين تحت إمرته من الإنس، والجن حتى أكلت دابة الأرض تلك المنسأة -أي العصاة- فلما خرت الجثة قال الخاضعو بعضهم لبعض: لو كنا نعلم الغيب ما لبثنا زمنا في العذاب المهين. وأما عن إجراءات الدفن، فتمثل بحل جيش النظام الظالم وبوليسه، ومخابراته وإداراته، وانهيار الثقافة التي مكنت للظلم والفساد، وتوزيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 الميراث الممثل باقتسام الغنائم ومناطق النفوذ. وإلى هذه النهاية يشير قوله -صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها". فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن"، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت" 1. والقرآن يدرج تداعي الأمم الغازية وما يرافق زحفها من إعلان لوفاة الأمة الميتة تحت اسم "الصيحة" التي تنتهي بالأمة الميتة إلى -نفس النهاية- نهاية الغثاء: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41] . و"الحق" الذي جرت الصيحة طبقا له هو إشارة إلى السنن، والأقدار التي تحدد مسارات الأمم ومصائرها. و"الغثاء" في اللغة معناه القذى والوسخ والقش. وفي الحديث هنا يشير إلى نفايات البشرية من بقايا الأمة الميتة التي تنسحب من تيار الحياة البشرية لتتكلس على ضفافه. و"نزع المهابة" من صدور الأعداء، و"قذف الوهن" في قلوب المستضعفين الأذلاء نتائج عمل سنن الله، وقوانينه في الاجتماع البشري تعبر عنها الآية المشار إليها بصيغة: {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي إبعادا لأنظمة الظلم وإداراته، ومؤسساته وقادته ورعاياه وجيوشه، وبوليسه وأجهزة مخابراته وجميع ممارساته. فالأمة التي تجبن أن تقول للظالم: يا ظالم ولا تصلح آثار الظلم يبعث الله عليها: {الصَّيْحَةُ} أو هدير الغزاة وآلاتهم الحربية ليقوموا بما وهنت الأمة عن   1 أبو داود، السنن، كتاب الملاحم. مسند أحمد، جـ5، ص278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 القيام به. إنها عمليات جراحية إلهية تستهدف فك "الأغلال" السياسية و"الآصار" الاجتماعية والثقافية التي مكنت للظلم، وسمحت للظالمين بإحكام قبضتهم إحكاما لا فكاك منه. والتاريخ مليء بأشكال "الصيحة" التي تتالت صيحة بعد صيحة كلما أحكم الظلم قبضته، وجنبت الأمة عن تحطيم قيود الظالمين وثقافة الظلم. فالطوفان كان "صيحة" أبعدت النظام الظالم، والثقافة الظالمة التي كانت تلقن الفجور، والكفر للإنسان منذ طفولته حتى يبدو، وكأنه يولد مزودا بهما: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27] . وآشور كانت "صيحة" أجهزت على النظام الظالم الذي آل إليه ورثة رسالة موسى عليه السلام في أرض الرسالات، وحول المسجد الأقصى. والمسلمون الفاتحون كانوا "صيحة" أبعدت النظم الظالمة، وقوضت الثقافات والأديان المستبدة التي كانت قائمة في ظل قيادات القياصرة والأكاسرة. والمغول كانوا "صيحة" قوضت النظام الظالم الذي انتهت إليه إدارات الخلفاء والسلاطين في بغداد. والصليبيون كانوا "صيحة" أبعدت النظام الفاطمي الظالم الذي أعاد الصنمية، والزندقة ودمر الاجتماع في مصر والشام. وجيوش الاستعمار الحديث كانت "صيحة" أبعدت الأنظمة الظالمة، وهدمت مؤسساتها وإداراتها وفككت "أغلال" سياسات الولاة والباشاوات، والسلاطين الظالمة، و"آصار" الثقافات العصبية والعرقية الداعمة للظلم وبقائه وتثبيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وسوف تظل الصيحات تتوالى "صيحة" إثر "صيحة" لتعلن وفاة الأمم التي أماتها الظلم، ولتقوم بإعلان الوفاة وإجراءات الدفن للأنظمة الظالمة التي تتكئ على منسأتها البوليسية، والمخابراتية فتوهم المظلومين بحياتها ويبقون في العذاب المهين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 الفصل السابع والعشرون: مصير الأمة المتوفاة لا تتوقف السنن والأقدار عند -إعلان وفاة الأمة ودفنها- وإنما تستمر في عملها خطوات أخرى يصفها القرآن الكريم بـ"التقطيع في الأرض" و"الابتلاء بالحسنات والسيئات" و"الرجوع" و"الاستبدال". وإلى هذه الخطوات يشير قوله تعالى: - {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] . - {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون: 42] . - {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] . أما تفاصيل هذه الخطوات وتتابعها فهي كما يلي: 1- التقطيع والتجزئة: و"التقطيع" المشار إليه هنا هو تفكيك عناصر الأمة المتوفاة، وانهيار مؤسساتها، وبعثرتها إلى دويلات وأقليات متناثرة هنا وهناك. وحقيقة هذا التقطيع أنه معالجة لـ"الصالحين" ومن هم "دون ذلك" ممن نزحوا هاربين خلال إعلان الوفاة والدفن. ذلك أن إنسان ما بعد دفن الأمة الميتة هو إنسان مثقل بـ"الأغلال" السياسة و"الآصار" الثقافية والاجتماعية التي تراكمت خلال فترات الجمود والآبائية، وأدت إلى وقوعه في أسر صنمية "الأشخاص والأشياء"، فصار يعاني من مرضين: الأول، عدم وضوح الرؤيا الفكرية ولذا يعجز عن النظر الصائب في -آيات الكتاب- أي مصادر الرسالة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ويعجز عن النظر في -آيات الآفاق والأنفس- أي أحداث الاجتماع البشري والكون، وإنما يراها ملونة بتراث مراحل الجمود والآبائية تماما كما ترى العين الفضاء الواسع، والأشياء المتناثرة فيه ملونة بلون النظارة التي تعلو العين. والمرض الثاني، موت الإرادة العازمة، والعجز عن التحرك إلا نحو الحاجات الدنيا المتمثلة في الغذاء والكساء، والجنس دون التطلع إلى الحاجات العليا المتمثلة في التقدير وتحقيق الذات. ولذلك فهو إنسان غير صالح للرسالة بحالته القائمة إلا إذا أعيد تشكيل شخصيته، وقام بنقد ذاتي جسور -أو توبة نصوحة- من آثار التقليد والآبائية والعجز. وهذا ما يوفره التحرر من أسر مجتمع الولاء لـ"الأشياء" والعيش في بيئات "التقطيع". 2- الابتلاء بالحسنات والسيئات: وهذه خطوة مكملة لسابقتها. إذ هي إعادة تشكيل لشخصية إنسان ما بعد الأمة المتوفاة من خلال تمريره في سلسلة من الخبرات السارة، والمؤلمة التي تهيؤه لمراجعة أنماط الحياة السابقة التي انتهت به إلى التمزيق، والشتات في الأرض. فالابتلاء هنا شبيه بتسليط النار الشديدة على قطع الحديد التي استشرى فيها الصدأ ثم طرقها وإعادة صقلها. وهكذا الابتلاء هو إعادة صقل بالحرمان، والمصائب ليتحرر إنسان ما بعد الأمة المتوفاة من قيود زينة الدنيا، وتعود إليه قابلية حمل الرسالة، ونصرة الحق وتذوق الخير والجمال، ومحاربة الباطل والنفور من الشر والقبح. والمرور في هذه العمليات الابتلائية يؤدي إلى إعادة النظر في الموروثات الثقافية، والاجتماعية وبلورة نموذج "مثل أعلى" جديد، ونظام تربوي جديد، وتنظيم صفوف "شظايا" الأمة، وتنمية قدراتها على تسخير إمكاناتها البشرية، والمادية لإعادة بعث الأمة واستئناف رسالتها. والنجاح في هاتين الخطوتين -التقطيع والابتلاء- يؤهل الإنسان المبتلى للقيام بعملية "الرجوع" إلى إخراج الأمة المسلمة من جديد، وهو ما يشير إليه جزء الآية القائل: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 3- فقه الرجوع إلى إخراج الأمة المسلمة من جديد: والمشلكة هنا في فقه "الرجوع" وطبيعته ومظاهره وطرقه، ووسائله وأدواته واستراتيجياته. فهو أيضا تحكمه السنن والقوانين، ويحتاج إلى فقهاء وعلماء مختصين. ويحتاج إلى مؤسسات فكرية وتربوية، ودوائر بحوث ودراسات. ويحتاج إلى ابتكار علوم جديدة ذات أصول إسلامية تعي ما يجري في قرية الكرة الأرضية وتسترشد بالتوجيهات النبوية من أمثال ما أورده المناوي في كتابه -فيض القدير- عن قوله -صلى الله عليه وسلم: "رحم من حفظ لسانه، وعرف زمانه، واستقامت طريقته" 1. فمعرفة الزمان، وتفتيق العلوم اللازمة لمعرفة الزمان وحاجاته، وتحدياته وأصول الوقائع والأحداث الجارية فيه شرط لتوجيه ظروفه، وتسخير أحداثه بدل الغرق في تيارها، وشرط لصوابية التخطيط والتنفيذ في استراتيجية "الرجوع" إلى إخراج الأمة المسلمة من جديد. ومع إن مؤسسات التربية والفكر، والدعوة تحتاج أن تفرز علوما جديدة لفهم السنن، والقوانين التي توجه إخراج الأمة والمحافظة على عافيتها، وكيفية تحويل هذه العلوم إلى تطبيقات عملية في ميادين التربية والإدارة، وفي أخلاق العاملين فيها ومؤهلاتهم وعلاقاتهم، إلا أنه يمكن القول أن الوقوف على السنن، والقوانين التي توجه "فقه الرجوع إلى الإسلام" يستدعي مراعاة الأمور التالية: أولا: انسحاب الطليعة الواعية المثقفة التي تحسن بمأساة -الأمة الميتة- من صفوف المجتمع الميت والتوقف عن الاشتغال بالقضايا العامة بغية التفرغ للقيام بـ"توبة" شاملة تبدأ في نفوس المسلمين، ويكون من ثمارها الانتقال من حالة -الحس- إلى حالة -الوعي- بأسباب الوفاة، وبالاستراتيجية اللازمة لإخراج أمة مسلمة جديدة.   1 المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، جـ4، "القاهرة: دار الفكر، 1391/ 1972" ص29، رقم 4440. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ويحدد الرسول -صلى الله عليه وسلم- زمن هذا الانسحاب وغايته فيقول: "إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودعك من أمر العامة" 1. والشح المطاع، والهوى المتبع، وإيثار الدنيا، والإعجاب بالرأي الشخصي -كما مر- كلها إشارات إلى صفات الأمة الميتة. فالشح المطاع دلالة على جفاف "المثل الأعلى"، والهوى المتبع دلالة موت "القدرات العقلية" التي تميز بين "المثل الأعلى" و"المثل السوء"، وإيثار الدنيا دلالة العجز عن حمل "الرسالة" ومتطلباتها في "الإيواء والنصرة"، والإعجاب بالرأي الشخصي دلالة الانغلاق وجفاف "الخبرات الاجتماعية والكونية"، وعدم الاستفادة منها في تسخير سنن الكون لتطوير "وسائل تحقيق المثل الأعلى. والتوقف عن الاشتغال بـ"أمر العامة" عند ظهور المضاعفات المذكورة ضرورة لها أهميتها الكبرى. فهو -أولا- يوفر للمنسحب القيام بـ"توبة" شاملة تمحو آثار المضاعفات السلبية التي ضربت "خاصة نفس" المنسحب طالما نشأ، وترعرع في بيئات الأمة الميتة وتسلم منها موروثاتها الثقافية والاجتماعية، وأنماط التفكير فيها. وثمة أهمية -ثانية- إن الانسحاب عامل أساس في تحقيق عنصري الإخلاص، والإصابة لدى العاملين في ميادين التربية والدعوة والإصلاح. فالعمل في هذه الميادين قبل الانسحاب والعودة يتحول -في الغالب- إلى استثمارات عقائدية، وسياسية هدفها مصلحة الأفراد العاملين في ميادين الإصلاح للوصول إلى الجاه، والمال والنفوذ لأنفسهم أو أسرهم وعشائرهم.   1 الترمذي، السنن، جـ8، كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة "تحقيق عزت عبيد الدعاس" ص22، رقم 3060. ومثله: سنن أبي داود، جـ4، كتاب الملاحم. و: سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، جـ2، ص1331، رقم 4014. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ويراعى خلال فترة الانسحاب أن يركز المنسحب على تشخيص نفسه لتحري الأمور التالية: أ- "محور الولاء" عنده إن كان يدور في فلك الأفكار أم الأشخاص أم الأشياء ثم العمل على تزكية هذا الولاء، وجعله يدور في فلك "أفكار" الرسالة؛ لأن حقيقة الدوران في فلك "الأفكار" توحيد، وفي فلك "الأشخاص" شرك، وفي فلك "الأشياء" وثنية. ب- تزكية "المثل الأعلى" لديه، وذلك بمراجعة عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد، والإيواء، والنصرة عنده لتستقر على دائرة "الولاء لأفكار الرسالة" وتستمد محتوياتها منها. جـ- تزكية "الخبرات الاجتماعية والكونية"، وذلك بمراجعة ما تسلمه منها من بيئته المحيطة أو انحدر إليه من تراث الآباء مراجعة تستهدف تصويب الخاطئ، واستبعاد الميت الذي مضى زمنه، والتعرف على الجديد الذي قامت الحاجة إليه، واسترجاع النافع الذي لفه النسيان. د- تزكية "القدرات العقلية"، وتحريرها من صنمية "الأشخاص" و"الأشياء" وإعدادها للنمو، وأخذها بالتدريب الحر، للعمل في فلك "أفكار" الرسالة دون خوف من "شخص" أو طمع "بشيء". هـ- تزكية "الإرادات" وذلك بتحريرها من التوجه إلى "مثل السوء"، وتوجيهها إلى "المثل العليا" لتكون نبيلة، وتنميتها إلى أقصى مراتبها لتصير "عازمة". و تزكية "القدرة التسخيرية" لتكون قادرة على شهود قوانين الله في الآفاق، والأنفس وتحويلها إلى تطبيقات فاعلة، ووسائل تسهم في تحقيق غايات الحياة ومقاصدها العليا. ولتكون هذه التزكية -أو المراجعة- فاعلة نافعة لا بد من البحث الراسخ المحيط في مصدرين اثنين: الأول، في آيات وأحاديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 الرسول -صلى الله عليه وسلم- بغية فقه الأمور الستة المذكورة أعلاه "أ-و" فقها يتصف بـ"الأصالة" أي الانسجام مع توجيهات الكتاب والسنة. والمصدر الثاني، في آيات الآفاق والأنفس بغية تحقيق صفة "المعاصرة" في فقه الأمور الستة المشار إليها أعلاه، أي فقهها فقها يتناسب مع حجم التحديات القائمة، ويلبي حاجات المرحلة المعاصرة زمانا ومكانا. ومن البحث في هذين المصدرين ومراعاة هاتين الصفتين، يبدأ المنسحبون في بناء فلسفة جديدة للتربية، وبلورة أصول متينة للاجتماع البشري، وإبراز أهداف جديدة، ومناهج جديدة، وميادين معرفية جديدة، ومربين جدد، ومؤسسات جديدة تسهم كلها في إخراج إنسان جديد، وبناء شبكة علاقات اجتماعية جديدة تحتوي على مضامين جديدة معاصرة لعناصر الأمة التي يراد إخراجها، وتعلن ميلاد أمة مسلمة جديدة. ثانيا: عودة المنسحبين إلى -المجتمع- بغية العمل على "توبة" الآخرين، وتحقيق أمرين اثنين: الأول، استبدال "المثل السوء" الذي أدى إلى مرض الأمة ووفاتها، واستبدال "الخبرات الاجتماعية والكونية" الخاطئة، وتحرير "القدرات العقلية" المكبلة بأغلال الصنمية السائدة، وآصار الآبائية المستحكمة. والأمر الثاني، إخراج الأمة المسلمة الجديدة حسب النموذج الذي "فقهه" المنسحبون -العائدون خلال فترة الانسحاب. ويراعى في إخراج الأمة الجديدة التدرج في هذا الإخراج حسب التفاصيل التي مرت عند تعريف الأمة في الفصل الأول من هذا البحث. وهذا يعني أن تعمد الجماعات، والمجموعات الإسلامية المتناثرة هنا، وهناك في حارات الكرة الأرضية إلى تكوين "أمم صغرى" في مهاجرها "الحبشية" الموقوتة تتكون كل أمة من عناصر: الأفراد المؤمنين، والهجرة، والرسالة والجهاد، والإيواء، والصنرة، والولاية حسب المفاهيم والمضامين التي مرت في هذا البحث، على أن تكون مقدمة لتجميع هذه "الأمم الصغرى" في "أمة إسلامية كبرى" يكون مهجرها النهائي الدائم هو الأرض التي رسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 حدودها إبراهيم عليه السلام والرسل من ذريته منذ موسى عليه السلام حتى محمد -صلى الله عليه وسلم- وأقاموا مؤسساتها التي صار محورها المسجد الحرام، والحرم النبوي، والمسجد الأقصى. ثالثا: توجيه "الأمة المسلمة الكبرى" لحمل -الرسالة الإسلامية- ونشر نموذج "المثل الأعلى" الإسلامي بين الأمم الأخرى، بعد أن تعيش الأمة المثل المذكور واقعا قائما، وتجعل منه "جنسية" حية، و"ثقافة" فاعلة متحركة يستطيع بنو البشر تذوقها، وتعشقها حالما تقع أبصارهم على أفراد الأمة "المجاهدين" في سبيل نشرها. وهذا المنهج -في الانسحاب والعودة- هو ما وجه إليه الله سبحانه رسوله الكريم حين انسحب من مجتمع مكة قبيل الرسالة ليتفكر، ويتحنث في -غار حراء- إلى أن عاد إلى الإنسانية بتصور جديد لوجودها، ومراجعة شاملة لموروثاتها الدينية، والاجتماعية، والكونية. ولقد اقتفى أثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الانسحاب والعودة مصلحون كثيرون، من أبرزهم حركة الإصلاح التي بدأها أبو حامد الغزالي وطبق منهجه عمليا طليعة كبيرة كان لهم الدور الأكبر في إخراج جيل صلاح الدين وعودة القدس1. ولكن أولئك المنسحبين ركزوا في "توبتهم" على "المثل الأعلى" دون الخبرات الاجتماعية والكونية"، ولذلك اقتصرت نجاحاتهم على تحقيق عنصر "الإخلاص" دون "الإصابة"، أو نقول: نجحوا في تنمية "الأمانة" دون "التمكين"2. ولذلك نجح -جيل صلاح الدين الذي أخرجوه- في ميدان الجهاد العسكري وتحرير المقدسات، ولكنه لم ينجح في تطوير النظم والمؤسسات التي تضمن استمرارية الحضارة الإسلامية وفاعليتها،   1 التعرف على كيفية إخراج جيل صلاح الدين راجع كتاب -هكذا ظهر جيل صلاح الدين، وهكذا عادت القدس -للمؤلف. 2 للوقوف على معاني: الإخلاص، والإصابة، والأمانة، والتمكين، راجع صفحات 93، 94 من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 فخلفهم خلف عادوا للموروثات الخاطئة في الإدرا والحكم، والذي وحده جيل صلاح الدين عاد -جيل أبنائه- وقسموه ميراثا بين أولئك الأبناء. وكذلك أصاب الخلل حركات الإصلاح نفسها التي ضربها الانشقاق المذهبي والآبائية، وانتهت إلى موروثات الدروشة والطرق الصوفية. هذه خطوط عريضة أولية في "فقه الرجوع إلى الإسلام"، وإذا لم تراعَ هذه الخطوط فسوف يكون "رجوعا" سطحيا، متشنجا أو خنوعا ينتهي إلى العصبية المذهبية، والحزبية أو الدروشة الطريقة. وسوف يقتصر "الرجوع" على ما يظن أنه "أشكال صالحة" بدل "الأعمال الصالحة"، أو ما يظن أنه "سنة الرسول" بينما هو "سنة الحمس"1. 4- استبدال الأمة المتوفاة: ولكن قد تخطئ الجماعات "المتقطعة" في الأرض استراتيجية "الرجوع إلى الإسلام"، وإخراج الأمة المسملة من جديد، ثم يكون من نتائج هذا الخطأ أن لا تحسن فقه "الابتلاء بالحسنات والسيئات" و"الخبرات" الإيجابية والسلبية التي تمر بها في بيئات "التقطيع"، وبالتالي ل تحسن إخراج الأمة المسملة من جديد حتى تصل إلى حالة "الغثاء" نهاية مأساوية يشير إليها قوله تعالى:   1 الحُمس: اسم أطلقته قريش على نفسها وعلى أحلافها في الجاهلية. ومعناه: أهل الحرم. وكان يحرم على الزوار الذين يفدون للجح، والعمرة أن يأكلوا من طعامهم الذي جاءوا به إلا طعام الحمس. ولا يطوفوا بالكعبة إلا في ثياب يشترونها من الحمس، فإن لم يستطيعوا شراء ثياب الحمس، أو استئجارها عليهم أن يطوفوا عراة، وفي هذه الحالة يستر النساء عوراتهن بقطعة قماش خفيفة، ثم يطفن وهن يرددن: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله الطبري، التفسير، جـ8، ص160، 161 والطبري، التفسير، جـ2، ص292-293، وسيرة ابن هشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِين، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [المؤمنون: 41-43] . فـ"الغثاء" بقايا ونفايات بشرية خاوية تعيش على هامش مجرى الاجتماع الإنساني كدويلات وأقليات متناثرة، وثقافات هامشية تراثية -آثارية. ولي سفيها قابلية البعث من جديد، والإسهام في حمل الرسالة، فلا هي مستعدة للتضحية، ولا قادرة على التحرر من رق الشهوات الفردية والولاءات العصبية، وأبرز صفاتها هو -الوهن- أي حب الدنيا وكراهية الموت، والتضحية حسب تعريف رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فهي تخاف من تكاليف الحرية، وتجبن عن مجابهة الظلم في الداخل وصد الغزاة من الخارج، بل إن هذا الجبن يصبح عند "الغثائيين" مردافا للحكمة والتعقل، ولذلك ترحل -الرسالة- لتزكية خامات بشرية جديدة ما زالت تحتفظ بفطرتها المعافاة من "الوهن". وحين تكمل تزكية هذه العناصرة الجديدة تبدأ دورة أخرى في بناء أمة جديدة تتسلم إمامة الإرشاد في الأرض، وتبدأ دورة الإصلاح من جديد بقوة، ونشاط يتطابقان مع مستوى "المثل الأعلى" الذي تطرحه المؤسسات التربوية التي أسهمت في تربية الأمة الجديدة. وإخراج هذه الأمة الجديدة، لتحل محل الأمة الميتة هو ما يشير إليه قوله تعالى: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39] . ولعله من المناسب أن نقول: أن هذه السنن والقوانين في التعذيب، والاستبدال هي التي وجهت تعاقب الأمم الإسلامية من العرب المسلمين، والفرس المسلمين، والسلاجقة والزنكيين، والأيوبيين، والمماليك، ثم الأتراك العثمانيين. فقد رحلت الرسالة الإسلامية من الأمة السابقة إلى اللاحقة، واستمرت في كل أمة من هذه الأمم ما دامت تقوم بتكاليف الرسالة حتى إذا أثاقلت إلى الأرض استبدلها الله بالتي تليها. ولعله من المناسب -هنا- أن نوضح أن هزيمة العثمانين آخر الأمم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الإسلامية المستبدلة أمام جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وإلغاء الخلافة على يد أتاتورك لم يكن إلا إعلانا للوفاة التي نزلت بالعثمانين قبل الحرب بسنين طويلة، وأن المسلمين أنفسهم كانوا يضيقون بنتن الخلافة المتوفاة، ويعبرون عن هذا الضيق من خلال أمثال جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وغيرهم ممن كرسوا جهودهم لبعث الأمة المتوفاة من جديد. ويلاحظ أن عمليات "التقطيع" أو التمزيق، والتقسيم التي نزلت بجثة الخلافة العثمانية المتوفاة، وعمليات "الابتلاء والاختبار بالحسنات والسيئات" أو التجارب السارة، والضارة التي مرت بها هذه القطع والتقسيمات لم تضع المؤسسات التربوية في العالم العربي، والإسلامي على الطريق الصحيح لإعادة "إنشاء" الأمة الإسلامية من جديد. فهي -حتى الآن- لم تحسن النظر في "آيات الكتاب" و"آيات الآفاق والأنفس" لبلورة "الحكمة" القادرة على "فقه الرجوع" الذي يشترطه الله سبحانه لإعادة إخراج الأمة الإسلامية، ولبلورة "مفهوم" الأمة الإسلامية، وبلورة المضامين المعاصرة لعناصر الأمة: عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء والنصرة، والولاية، ولتشخيص الحاجات، وتحديد التحديثات وتبيان الاستراتيجيات اللازمة لإعادة بناء الأمة الإسلامية من جديد1.   1 ما زال مفهوم -السياسة- في المجتمعات الإسلامية المعاصرة يستمد "محتواه" من -لغو- المجالس واللقاءات العابرة، و"يشتغل" به كل قادر على اللغو من الخاصة والعامة سواء، وما زالت "مصادرة" هي الصحف والإذاعات والإعلام المعادي الذي يعمل لقولبة التفكير، وتضليله بدل إعطاء الحقائق وتنوير الأفهام. أما "الحكمة السياسية" -أو العلوم السياسية الإسلامة- التي تستمد "محتوياتها" من البحث الراسخ المحيط في قوانين الاجتماع وروافع القوة، وتعتمد في "مصادرها" على النفاذ إلى "مراكز البحوث" المختصة و"مراكز صنع القرار وتنفيذه وتقويمه" وبواسطة "المختصين" الذين يستنبطونه منهم فهذه علوم ما زالت غائبة منسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وهي لم تفرز -بعد- القادرين على -الجدال الأحسن- والمراجعة الجزئية والتحليل، الصريح للأسباب، والعومل الداخلية التي عملت عملها طويلا وأدت إلى وفاة الأمة الإسلامية. فهي ما زالت بعيدة عن القاعدة التي يوجه إليها قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] . لم تقم المؤسسات التربوية الإسلامية -بعد- بشيء من هذا، وإنما اقتصرت -وما زالت تقتصر- على الوعظ والبيان الساحر لمقاومة جيوش الاحتلال التي جذبتها روائح الأمة الميتة، واكتفت بإلقاء اللوم كله على الاستعمار، والصهيونية في الوقت الذي استمرت مناهجها، وتطبيقاتها التربوية تحتضن آداب العصبية، وتاريخ العصبيات الإقليمية والقبلية والعرقية، وفقه العصبيات المذهبية، وقيم العصبيات وثقافاتها، وفنونها التي أفرزت عوامل "القابلية للاستعمار"، ومسببات مرض الأمة ووفاتها. كذلك اقتصرت المؤسسات التربوية الإسلامية، والجماعات الموازية لها في الرجوع إلى الإسلام على "الأشكال" بدل "الأعمال"، واشتغلت بالمضاعفات بدل الأمراض الأساسية، ورضيت بالعناوين والشعارات بدل تفاصيل العلم، والإنجازات ولذلك ما زالت عوامل التحلل تعمل عملها في "قطع" الأقاليم والدويلات، و"مزق" الأقليات المتناثرة في قارات الأرض كلها، وما زالت شئونها وقضاياها، ومشكلاتها "قصعة" للطامعين و"أحاديث للناس" ومادة للصحابة والإعلام في العالم كله دون أن يكون لها دور مستقل راسخ في تشخيص المشكلات وتقرير المعالجات. وإذا لم تقم المؤسسات التربوية، والفكرية بدور محيط راسخ لتشخيص عوامل الضعف الناخرة في "قطع" الأمة "ومزقها"، وإذا لم تعرف هذه المؤسسات العوامل المحركة لزمانها، وتشهد أحداثه وتعي متطلبات "الرجوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 إلى الإسلام" ومقوماته واستراتيجياته، ومؤسساته وتطبيقاته اللازمة لإخراج الأمة من جديد، فسوف تنتقل السنن، والقوانين الإلهية إلى المرحلة التالية: مرحلة يستبدل قوما غيركم ولا يكونوا أمثالكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الفصل الثامن والعشرون: ملاحظات حول الأمة ملاحظات حول مفهوم الأمة المسلمة ... الفصل الثامن والعشرون: ملاحظات حول الأمة الملاحظات التي يخلص إليها هذا البحث يمكن إجمالها فيما يلي: أ- ملاحظات حول "مفهوم" الأمة المسلمة: مفهوم الأمة المسلمة مفهوم فكري يستمد محتواه من الولاء لـ"الأفكار" الإسلامية. ويتسجد -عمليا- في عناصر: الأفراد المؤمنين، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية بالتفاصيل التي تم استعراضها في هذا البحث. وهذه هي الصفة التي تميز هذا المفهوم عن غيره من المفاهيم التي تستمد محتوياتها من الولاء لـ"الأشخاص" و"الأشياء" وتفرز تطبيقاتها تحت روابط: القوم، والوطن، والمصالح المشتركة التي تتوازي مع روابط الحيوان في القطيع، والحظيرة، والمرعى. ولكن هذه الصفة المميزة لمفهوم الأمة المسلمة لا تبرز أصيلة فاعلة إلا إذا أحسنت مؤسسات التربية الإسلامية "فقه" العناصر المكونة للأمة، وعملها والعوامل المؤثرة في صحة الأمة ومرضها، ووفاتها وبعثها -إن توفت- من جديد. وإتقان التربية لهذا "الفقه" يقتضي الوعي بالملاحظات التالية: أولا، يلاحظ أن عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة ترد في القرآن والسنة مقترنة بعضها مع بعض، ويعرضها السياق القرآني كبذل محض يبرهن الأفراد المؤمنون من خلاله ولاءهم لـ"أفكار" الرسالة الإسلامية، ولا يكون ولاؤهم لـ"الأشخاص" الذين ينتمون إليهم و"الأشياء" التي يمتلكونها، أو يتطلعون إلى امتلاكها إلا بمقدار دوران أولئك الأشخاص، وتلك الأشياء في فلك "الأفكار" الإسلامية وتطبيقاتها المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 ثانيًا، يلاحظ كذلك أن عناصر: الإيواء، والنصرة، والولاية ترد مقترنة بعضها مع بعض، وكعطاء متبادل بين الله تعالى وبين الأمة المسلمة، شريطة أن يسبق ما تقدمه الأمة ذلك الذي يقدمه الله سبحانه وتعالى. فهناك "إيواء" تقدمه الأمة المسلمة لله -أولًا- يتمثل في: إيواء عامة المؤمنين لرسلهم ودعاتهم، وإيواء أقوياء المؤمنين لضعفائهم، وإيواء أغنياء المؤمنين لفقرائهم، وإيواء علماء المؤمنين لمتعلميهم، وإيواء ولاة الأمور لرعيتهم، وإيواء رجال المؤمنين لنسائهم، وإيواء كبار المؤمنين لصغارهم، وإيواء أصحاء المؤمنين لمرضاهم ... وهكذا. أما الإيواء الذي يثبت الله به الأمة المسلمة فهو نوعان: إيواء في الدنيا، يتمثل في التمكين في الأرض، ووفرة النعيم، وتوفير الأمن والاستقرار والسعادة، وإيواء في الآخرة يتمثل في نعيم الجنة والخلود فيها. وهناك "نصرة" تقدمها الأمة المسلمة لله -أولًا- تتمثل في نصرة الأمة لرسلها ودعاتها، ونصرة أقويائها لضعفائها، ونصرة إدارتها وبوليسها لمظلوميها ضد ظالميها، ونصرة ولاتها وقضاتها وولاة الأمر فيها لذوي الحقوق فيها ... وهكذا. وأما النصرة التي يثبت الله بها الأمة المسلمة فهي نوعان: نصرة في الدنيا تتمثل في منح الأمة الغلبة، والتفوق على أمم الكفر والنفاق، ونصرة في الآخرة تتمثل في تقوية الله لحجة المؤمنين، وتثبيتهم بالقول الثابت عند المساءلة، ونجاتهم يوم الحساب وإدخالهم الجنة وزحزحتهم عن الناس. وهناك "ولاية" تقدمها الأمة المسلمة لله تتمثل في تولي شئون الرسالة، ودعاتها ومؤسساتها والاهتمام بها بالتخطيط، والتنفيذ والتقويم المستمر بكافة الإمكانات والمقدرات. وأما الولاية التي يثبت الله بها الأمة المسلمة فهي أيضا نوعان: ولاية في الدنيا تتمثل في تسديد أعمالها، وتبصيرها بنتائج هذه الأعمال والقدرة على تمييز الصواب والخير، والفضيلة والجمال، وولاية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 الآخرة تتمثل في إقالة عثراتها وستر أخطائها، ومغفرة زلاتها، ومضاعفة أعمالها الحسنة. ثالثا، تتوازى درجة ولاية الله للأمة المسلمة ونصرتها، وإيوائها مع درجة ولاية الأمة لله، أي مع درجة تطبيقها لعناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد، والرسالة، والإيواء، والنصرة. وكمال التزام الأمة بتطبيق هذه العناصرة سبب في كمال ولاية الله للمؤمنين، ويصور الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثمرات هذا التلازم القائم بين كمال ولاية الأمة، وكمال ولاية الله بالقول أنه يصل إلى درجة يصبح الله سبحانه فيها عين المؤمن التي تبصر، ويده التي تبطش، ورجله التي تسعى، ولسانه الذي يسأل فيعطى. رابعا، يلاحظ أن التوجيه إلى ولاية المؤمنين لله، ونصرته كان في الفترة المكية بينما كان التبشير بولاية الله للمؤمنين، ونصرتهم في الفترة المدنية. وهذا يعني أن تربية المؤمنين على ولاية الله ونصرته يجب أن تسبق تربيتهم على توقع ولاية الله لهم، وأن تكون شرطا مسبقا لها، ثم صيانة هذا الولاء من الانحسار إلى دائرة "الأشخاص" بأطوارها المختلفة التي مرت حتى لا تتعرض الأمة للمرض، وصيانته من الانحسار إلى دائرة "الأشياء" حتى لا تتعرض الأمة للوفاة!! خامسا، إن الامتداد الحقيقي للأمة المسلمة في التاريخ هو امتداد فكري لا مكان لعصبيات الدم فيه. وهذا ما توجه إليه الآيات التي رسمت الخطوط العريضة لهذا البحث، وذلك عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فـ"المؤمنون"، المهاجرون، المجاهدون -حسب المفاهيم التي مرت في هذا البحث- هم الامتداد الحقيقي للأمة المسلمة "من بعد" عصر النبوة، وليسوا ذرية الدم المتحللين من تكاليف "الإيمان"، الرافضين "هجرة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 قيم العصبية والآبائية، المضيعين لـ"الرسالة"، الناكصين عن "الجهاد" في سبيلها. ويلاحظ أن الآية أوردت ثلاثة من العناصر المكونة للأمة المسلمة كصفات مميزة لامتداد هذه الأمة عبر التاريخ. وهذه الصفات هي: الإيمان، والهجرة، والجهاد، ولم تذكر منها عنصري: الإيواء، والنصرة. ولعل السبب أن ذكرها قد مر في الآيات التي سبقت؛ ولأنها من مستلزمات عنصر الهجرة والمهجر وأساس شبكة العلاقات الاجتماعية التي تنظم علاقات المؤمنين في المهجر المشار إليه. ويجدر الانتباه -هنا- إلى أن ولاية -الأرحام- التي يوجه إليها نص الآية القائل: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، هي ولاية إرشاد ودعوة لا ولاية عصبية ودم، فهي ولاية مادتها "كتاب الله" أي أن المؤمنين -قبل غيرهم- مسئولون عن تعليم -أرحامهم- كتاب الله، وهذا ما يوضحه أمثال قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] . والذين يصلون -أرحامهم- بشيء من الدنيا فصلاتهم تنحصر في ممتلكاتهم الخاصة التي اكتسبوها بعمل أيديهم، أما ممتلكات الأمة، وما يتعلق بها من منصاب ومسئوليات، فليس لأحد أن يخص أقرباءه بشيء منها -كما ورد في التفاصيل التي مرت في فصول سابقة. فصلة الأرحام هنا تدور في فلك -أفكار- الرسالة وتهتدي بهديها. وحسب المؤمنين الصلة التي يقررها الله لهم؛ لأنه وحده العليم بالصلاة الفاعلة الخيرة في طور العالمية الجديد، وبالنسب الحقيقي النافع في الدنيا والآخرة. سادسا، يلاحظ في الفصول التي عالجت -صحة الأمة ومرضها ووفاتها- أنه تم التفريق والتمييز بين "الولاء" و"الانتماء" مع توضيح هذا الفارق بالرسومات البيانية. وأهمية هذا التفريق أنه كثيرا ما يختلط الولاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 بالانتماء في حياة الأفراد والجماعات، فيوجد "الانتماء" ويظن أنه "الولاء". لذلك نقول أن "الولاء" هو ما دفع صاحبه إلى ممارسة المعادلات العملية للإيمان، وممارسة الهجرة والجهاد في سبيل الرسالة، والإيواء، والنصرة مع تحمل ما يترتب على هذه الممارسة من تضحيات وتكاليف، ومحن ومشاق. أما الاقتصار على الشعور العاطفي الذي لا يرافقه ممارسات عملية لعناصر الأمة الخمسة المذكورة، فهو يشير إلى مجرد وجود علاقة "الانتماء" وليس "الولاء". سابعًا: يحتاج الدارسون إلى التفريق بين وجود "الأمة المسلمة"، وما يعتريها من صحة ومرض ووفاة، وبين وجود "الأفراد المؤمنين" المجرد. فالأمة المسلمة تكون موجودة حين يوجد الأفراد المؤمنون "وجود تنظيميا" لا "وجودا تكديسيا". والفرق بين النوعين من الوجود أن الأفراد في -الوجود التنظيمي- يعيشون في شكل "مركب اجتماعي منظم" تنتظم فيه عناصر الأمة الأخرى: أي عناصر الهجرة، والجهاد في سبيل الرسالة، والإيواء، والنصرة، تنظيمًا قائمًا على "الوعي العلمي" ببناء هذه العناصر ومحتوياتها، وتفصيلها طبقا لحاجات الزمان والمكان. وأما "الوجود التكديسي" فهو يفتقر إلى هذا الوعي، وإن كان يحس بهذه العناصر أو يعرفها معرفة نظرية، فالوجود التنظيمي يتوفر له "إخلاص" الأفراد المؤمنين بالإضافة إلى "صوابية" تنظيم عناصر الأمة الأخرى. أما الوجود التكديسي فيقتصر على "إخلاص" الأفراد المؤمنين مع الافتقار إلى الاستراتيجيات "الصائبة" التي تحكم تنظيم عناصر الأمة الخمسة المذكورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الماضي ... ب- ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لـ"مفهوم" الأمة المسلمة، وعناصرها في الماضي: لم تلتزم التطبيقات التاريخية في مؤسسات التربية الإسلامية القواعد، والمبادئ المتعلقة بعناصر الأمة المسلمة كما أشير إليها في الفقرات السابقة، وإنما حدثت تطبيقات خاطئة ما زالت كامنة في التربية الإسلامية التقليدية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وفي التراث اللذين تحدرا من عصور الركود والضعف. وتتمثل هذه الأخطاء فيما يلي: أولا: إخراج عنصر "الإيمان" من مركز الاجتماع البشري إلى ميدان المقولات الغيبية التي لا صلة لها بوقائع النشأة والحياة والمصير. وهذا ما قام به أمثال فرق القدرية والجبرية والمعتزلة، ومن استدرجوه لمحاورتهم من المذاهب والعلماء حين أداروا الجدال حول "ذات الله"، وما تفرع عن ذلك من مقولات التجسيد، والاستواء والصعود والنزول، مخالفين بذلك التوجيهات الإلهية، والنبوية التي تدعو إلى حصر التفكر والنظر في "خلق الله"؛ لأن في هذا الخلق آيات الله في الآفاق، والأنفس أي البراهين التي تصدق آيات الوحي؛ ولأنه يهيئ لاكتشاف سنن الله وقوانينه في الكون، واكتشاف هذه القوانين يؤدي إلى تسخير مخلوقات الله، وانتفاع الإنسان بها ورؤية نعم الله من خلالها. ثانيًا: حصر الفقه في "المظهر الديني" للعبادة دون "المظهر الاجتماعي والمظهر الكوني". وهو ما قام به "فقهاء التقليد المذهبي" و"فقهاء السلاطين والخلفاء" الذين سجنوا الققه، ومحتوياته في حدود -قيم العصبيات- الي هيمنت بعد عصر الخلافة الراشدة، وجعلت محورها "القوة فوق الشريعة" بعد أن كان محور القيم "الشريعة فوق القوة"، مما أدى إلى إهمال الفقه المتعلق بـ"الأمة" وعناصرها في الهجرة، والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية، وانحسار ميادين الفقه إلى ما يتعلق بـ"الفرد" وتضخيم قضايا الطهارة، والحيض والنفاس وأمثالها. ثالثًا: تشويه معنى "الولاية" وهو ما قامت به طرق التصوف السلبي المنسحب من الحياة حين شوهت معنى "الولاية"، وأخرجتك هذه -الولاية- من محتواها الاجتماعي، وجعلت -ولي الله- كل مخبول أهبل، منسحب من الحياة، عاجز عن العمل، خانع أمام الظلمة، قانع بالفاقة والقهر والاستغلال. فوجد السلاطين الظلمة في نموذج هذا "الدرويش" صورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 المسلم الذي يجب على التربية تنشئته لتسهيل مهمتهم في الهيمنة، والتملك والاستغلال. رابعًا: تشويه مصطلحات الأمة وعناصرها، وإفراغها من محتويات الرسالة الإسلامية التي تشمل المنشأ والحياة والمصير، ثم تحوليها إلى مضامين جزئية تدور في فلك "قوة" العصبيات المالكة وتبدأ بالمنشأ، وتقفز إلى المصير تاركة شئون الحياة لأصحاب القوة والجاه والتملك. ومن ذلك تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . إن التفسير الذي نقله الطبري عن علماء الصحابة، وأورده الرازي وابن تيمية وأمثالهم يذكر أن -أولي الأمر- هم العلماء ورجال الفكر. ولكن مناهج التربية التي هيمنت بإشراف "فقهاء السلاطين والخلفاء" في الماضي بدلت محتوى "أولي الأمر" ليصبح أصحاب القوة والعصبية والمال والجاه. ومثله قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] . فلقد نقل الطبري عن الصحابة والتابعين أن آل الرجل هم أتباعه، وقومه هم من على دينه، وعن ابن عباس قال: في الآية هم المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد. يقول الله عز وجل: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} 1. ولكن "فقهاء السلاطين" أفرغوا مصطلح "آل" من محتواه الفكري، وأحالوه إلى محتوى "دموي، عرقي" ليعني "عائلة" أو"ذرية" أو"سلالة"، وليبرر عمليات الوراثة والاغتصاب في الحكم والتملك.   1 الطبري، التفسير، جـ2، ص234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ومثله أيضا كلمة "سلطان" التي ترد في القرآن الكريم لتدل في أغلب المواضع على الفكر المدعوم بالبراهين الصحيحة1، مثل قوله تعالى: - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [هود: 96] . - {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71] . - {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] . - {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] . ولكنه -فقهاء الخلفاء والسلاطين، ومؤسسات التربية التربية التقليدية- أفرغوا مصطلح "السلطان" من معناه الأصلي، وقلبوه ليعني الحاكم الذي لا مؤهل هل من علم أو فقه إلا القوة المادية والعصبية. وما زالت -مؤسسات التربية والإعلام، ودوائر الإفتاء وفقهاء السلطة- تعزز هذه التشويهات، وتفرغ المزيد من المصطلحات لتملؤها بما يدعم العصبيات الحاكمة، ويضع "القوة فوق الشريعة"، ويعزز قيم الفردية في الحكم المطلق والتملك. ومثله أيضًا مصطلح "السنة" الذي يعني في الأصل النموذج الكامل لإحكام فهم القرآن والعمل به. ولذلك كان تفسير قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} بأن الحكمة هي السنة. وأساس هذه السنة أمران: الأول، هو تكامل "الأشكال" و"الأعمال" كتكامل قشرة الثمرة ولبها. فإذا انفصلت القشرة تعرض اللب للتلوث والعفن، وإذا نزع اللب فقدت القشرة قيمتها، وطرحت في أكياس النفايات وبرميل الزبالة. وينقسم كل من "الأشكال" و"الأعمال" إلى قسمين: "قيمة" معنوية، و"رمز" محسوس.   1 الطبري، التفسير، جـ21، ص44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 والقيمة ثابتة، أما الرمز فهو متغير. فـ"القيمة" -مثلا- في الزكاة أو الصدقة هي سد حاجة المعوزين لتزكية المجتمعات من أسباب الكفر، والشرك والجريمة والفاحشة. أما "الرمز" فقد يكون في عصر ما أو مكان ما قمحا أو تمرًا، وقد يكون في عصر آخر، أو مكان آخر نقدا أو ضمانًا اجتماعيًا. و"القيمة" في المسواك هي "مطهرة الفم ومرضاة الرب" -كما ورد في الحديث- أما "الرمز" فقد يكون في مكان ما، وعصر ما هو -عود نبات الأراك- وفي عصر آخر ومكان آخر هو الفرشاة ومعجون الأسنان. و"القيمة" في اللباس هي الحشمة والستر، أما "الرمز" أو القماش الذي يجسدهما فهو متغير بتغير البيئات والثقافات. وهكذا في كل "عمل" أو "شكل". والأمر الثاني: أن سنة الرسول هي سنة أمة لا سنة أفراد فحسب؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أمة قانتا لله كما كان إبراهيم عليه السلام. ولذلك تتفرع السنة، وتنتشر في أفراد الأمة وجماعاتها كل حسب موقعه ومسئولياته: فـ"العلماء" تتمحور حصتهم من السنة حول الاجتهاد، والإخلاص في العلم ونشره، وفي تصبير أنفسهم مع المقبلين عليه الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، وإن كانوا فقراء لا جاه لهم، والترفع عن التكسب به على أبواب ذوي الجاه، والمال وإن عظم نفوذهم. و"أولو الأمر" تتمحور حصتهم من السنة حول "الزهد" بالجاه والتزام العدل، ورحمة الرعية في الداخل، ثم "العزة" مع الأنداد، و"الشدة" مع الأعداء في الخارج. و"الأغنياء" تتمحور حصتهم من السنة حول "الزهد" بالمال ثم وضعه في خدمة قضايا الأمة، وتمويل مشروعاتها وتلبية حاجاتها. و"المجاهدون" تتمحور حصتهم من السنة حول تعشق الجهاد والتدرب على مهارات وتوفير عدده ومتطلباته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 و"جماهير الأمة" تتمحور حصتها من السنة حول الدروان في فلك "أفكار" الرسالة الإسلامية، وموالاتها ثم الحذر من "الفسق" للدروان في فلك "أشخاص" الأقوياء والطمع بما لديهم من "الأشياء". وهكذا في جميع أفراد الأمة وجماعاتها حتى تصبح السنة هي الطابع المميز لثقافة الأمة، ونظمها ومؤسساتها وإدارتها وممارساتها، وسائر أشكال شبكة العلاقات الإنسانية فيها. وهذا كله مما يوجه إليه أمثال قوله تعالى: - {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] . ولكن فقهاء السلاطين في الماضي، ومشايخ السلطة ومؤسسات التربية التقليدية في الحاضر نقلوا محور السنة من ميدان "الأعمال" إلى ميدان "الأشكال" حيث حصروها فيما لا ينال من هيمنة ذوي النفوذ والمال، وفيما يبرر الشهوات، وينسي التذكير بـ"المسئوليات"، فصارت السنة سنتين: "سنة للأغنياء"، ومحورها أن يتمتع القوي المترف بـ"زينة الله التي أحل لعباده"، وأن يتزوج بأكثر من واحدة مرات ومرات، و"سنة للفقراء"، ومحورها أن يزهد المستضعف المحروم بقوام حياته، وأن يرضى بجوعه ومرضه وتشرده، وأن يصبر على من ظلمه، مكرسا وقته لتطويل لحيته، وحلق رأسه وتقصير ثوبه. ولكن أخطر التشويهات التي أصابت المصطلحات الإسلامية هو التشويه الذي أصاب مصطلح "الشريعة" التي ينظر المسلمون إلى تطبيقها باعتباره الأمل الوحيد الذي يحقق العدالة الاجتماعية في حياتهم، والحصن الذي يوفر المنعة لهم، والدواء الناجع للقضاء على الفساد بمجتمعاتهم. إن الأصل في اصطلاح "الشريعة" -كما يطرحه القرآن، والحديث- أنه يتكون من عنصرين رئيسين: القيم والحدود. والقيم مقاييس وموازين تميز العدل من الظلم، والصواب من الخطأ، والحق من الباطل، والفضيلة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 الرذيلة، وما إلى ذلك. والقيم -هنا- تشمل ميادين الحياة كلها. أي هناك قيم فكرية، وقيم سياسية، وقيم اجتماعية، وقيم اقتصادية، وقيم أخلاقية، وقيم جمالية، وقيم علمية، وقيم عسكرية وهكذا. من أمثلة القيم الإيجابية: الحرية، وتكافؤ الفرص، والوحدة، والشورى، والعدل، واحترام الإنسان، وعدالة توزيع الثروة، والنظام، واحترام العمل الجماعي، وسيادة القانون، وموالاة الحق، ومحاربة الظلم وغير ذلك. والأصل أن "القيم" هي جوهر الدين ومراد الرسالة والجهاد؛ لأن التزام الإيجابية منها يحقق السعادة في الحياة والآخرة، وتجنب السلبية يقي العوالم كلها شرور الحياة ومفاسدها. أما "الحدود" فهي لحراسة "القيم" من أن يعتدى عليها أو يقصر الناس في اتباعها. و"إقامة الحدود" مشروطة بـ"تطبيق القيم"، فإذا تسرب الخلل إلى هذا التطبيق يوقف الحد الحارس حتى يتم إصلاح الخلل المذكور. وهذا مما فهمه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أوقف حد السرقة في عام المجاعة. ولكن "فقهاء السلاطين" ومشايخ السلطة، ومؤسسات التربية التقليدية -أفرغوا مصطلح الشريعة من -القيم الإسلامية- خاصة القيم السياسية والاقتصادية، ثم أبقوا على "الحدود" وحدها لتحرس "قيم العصبيات" اللاإسلامية التي تحمي الظالم، وتعاقب المظلوم حتى رسخ في عقول أجيال المسلمين أن الشريعة تقتصر على تطبيق "الحدود" دون اعتبار لـ"القيم" التي تحرسها هذه الحدود، وتجلد الناس أو تقطع أيديهم من أجلها. وبذلك صار "الخاطئ الكبير" يجلد "الجانحين الصغار" الذين تزل أقدامهم في مزالق ظلم الخاطئ المذكور وفساده، وصارت "يد" السارق الكبير الذي يجب أن يقام عليه الحد تقطع "يد" السارق الصغير الجائع الذي يجب أن يرفع عنه الحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الحاضر ... جـ- ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لـ"مفهوم" الأمة المسلمة وعناصرها في الحاضر: تدور هذه الملاحظات حول "مفهوم الأمة المسلمة" عند فريقين من الناس: فريق الجماعات والحركات الإسلامية، وفريق المشيخات الرسمية والحكومات القائمة وجماهير العامة. أما الحركات والجماعات الإسلامية فهذه يغلب عليها "الإحساس" بمفهوم الأمة المسلمة وأهمية وجودها. وهي تعبر عن هذا الإحساس من خلال شعارات فضفاضة غائمة، وعناوين عامة مختلفة مثل: "إقامة مجتمع إسلامي"، "بعث الحياة الإسلامية"، "إقامة حكم الله في الأرض". ولكن ذلك يبقى مجرد إحساس بالمشكلة لا يصل درجة "الوعي" بمفهوم الأمة وعناصرها وإخراجها، وعوامل عافيتها ومرضها وموتها وبعثها من جديد. ولذلك فهي ما زالت تعاني من الأخطاء التالية: 1- الافتقار إلى الكوادر، والمؤسسات الفكرية التي تعي مفهوم الأمة المسلمة وعناصرها، والتطبيقات التي تجسد هذه العناصر في الحياة الاجتماعية، وهي حين تعمل على تطبيق الشعارات التي أشير إليها مثل "إقامة حكم الله في الأرض" وأمثالها، فإن نموذج التطبيق الذي تتوجه إليه يتمثل في تمكين "أشخاصها" -أي أشخاص الجماعة- من الوصول إلى مناصب الدولة، والمجالس النيابية دون أن يكون لديهم "أفكار"، وبرامج محددة لما سوف يعملونه. لذلك تقتصر ممارساتهم عند تسلم المناصب حول التركيز على القضايا الأخلاقية الفردية، والأمانة والإخلاص في تنفيذ قوانين وتعليمات، وبرامج الناظم السياسي الذي كانوا يعارضونه ويصمونه بـ"الجاهلية" قبل الوصول إلى المراكز والمناصب. 2- إن "ولاء" الأعضاء في هذه الجماعات يدور -غالبا- في فلك "أشخاص" الجماعة أكثر من الدوران في فلك "أفكار"ها، فهم يحرصون على وجود "الجماعة" الشخصي، والاعتراف لها بالفضل والمكانة العليا أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 من حرصهم على "أفكار" الجماعة ونمائها وبلورتها، وانتشارها وتجددها بما يلبي الحاجات ويواجه التحديات. ولقد انسحبت هذه الصفة على التربية هؤلاء "الأعضاء" فصاروا ينشأون على الانتماء لـ"أشخاص" الجماعة أكثر من الولاء لـ"أفكارها". وصاروا يضفون على أشخاص القيادة "عصمة" غير منطوقة ولا مكتوبة، ولا يسمحون بـ"النقد الذاتي"، ويعتبرونه تجريحا وشتما وتخريبا للصف وتفريقا للجماعة. كذلك انسحبت هذه الصفة على تركيب الجماعة نفسها، فصارت -في الغالب- تتكون من صنفين من الناس: صنف يدور في فلك "الأشخاص"، وصنف يدور في فلك "الأشياء". أما الأعضاء الذين يدورون في فلك "الأفكار" فهؤلاء يمرون على الجماعة مرورا ولا يستقرون؛ لأنهم حين يبدأون طروحاتهم وتساؤلاتهم الفكرية، ويرفضون "التقاليد" القبلية في القيادة والتبعية والتطبيق يقابلون بالرفض الاجتماعي، والإرهاب الفكري ويتهمون بالخروج على "القيادة"، وتخريب الصف ويدعون دعا إلى خارج صفوف الجماعة. 3- ونتيجة للصفتين الاثنتين المذكورتين في البند رقم "1" والبند رقم "2" تم إهمال "التعليم" الفكري، وجرى التركيز على "الانتماء" الحزبي. ونتيجة لذلك وقعت هذه الجماعات في رباط العصبية، وصارت قبيلة من لا قبيلة له، ووقعت في الفهم الخاطئ لمفهوم الشريعة، فصارت -تعني لديها- تطبيق "الحدود" مع الغفلة عن "القيم" غير الإسلامية. ولذلك يمكن القول إن المفهوم الذي تطرحه الجماعات الإسلامية الحاضرة للأمة المسلمة -لو قدر له التطبيق- فسوف يفرز أمة إسلامية تكون في حالة المرض؛ لأنها ستكون في مرحلة -الدروان في فلك "أشخاص" الجماعة، أو الحزب دون "الأفكار". وأما عن الفريق الثاني -فريق المشيخات الرسمية، والحكومات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 الإقليمية وجماهير العامة- فإن مفهوم الأمة المسلمة عندها هو معدوم تمام الانعدام وغائب كل الغياب. فهي تطلق هذا المفهوم على أي ركام بشري أو إطار يحتوي على "مزقة" من "مزق" الأمة الإسلامية المتوفاة. والغالب عليه هو الدوران في فلك "أشخاص" الإقليم أو القبيلة أو الطائفة. وما زال "فقهاء الملوك والرؤساء" و"مفتو الدول" الإقليمية الذين تطوروا عن طلبة رسبوا في التوجيهية أو اجتازوها بمعدل 50% أو 60% يعززون هذا التشويه لمفهوم الأمة المسلمة، ويفتون بأن تطبيق الشريعة يتمثل في إقامة "الحدود" لحماية: الحكم المطلق، واحتكار الثروة، واغتصاب الحرية، ووراثة الحكم والوظائف، وحماية الظلم والمحسوبية، ودوام التجزئة وممالأة المحتلين، وسجن المطالبين بالشورى وتكافؤ الفرص والقيادة الجماعية وهكذا. وما زال الجهل بهذا التشويه الذي أصاب مصطلح الشريعة ينفر الأذكياء والوطنيين، والمتطلعين للإصلاح من تطبيق الشريعة، ويملأ نفوسهم بالمخاوف من هذا التطبيق. ومن الموضوعية أن نقول: أن هذه المضاعفات جرت في الوقت الذي يقف خريجو مؤسسات التربية الإسلامية التقليدية عاجزين عن فهم التحديات، وتشخيص الحاجات إلا ما كان من مواقف التشنج، وإدانة الأعراض والمضاعفات. ويلاحظ أن حركات الإصلاح وبعث الأمة من جديد ما زالت لم تتبين أهمية التربية وخطورتها. ولذلك تبدأ من -الخطوة الثانية- وهي تجنيد أشخاص تخرجوا من مؤسسات تربوية غرست في نفوسهم مسبقا -الولاء- للعصبيات المختلفة، وأمدتهم بعوامل التناقض في الفهم والتطبيق. ولذلك لا يكون لنشاطاتهم من أثر إلا مزيد من التناقض، والصراع والانتهاء بمحاولات الإصلاح إلى الفشل والإحباط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 د- ملاحظات حول مراحل صحة الأمة ومرضها ووفاتها : في الفصول التي عالجت صحة الأمة ومرضها، ووفاتها ظهر واضحا أن دوام عافية الأمة يتقرن بدوام الولاء لـ"أفكار" الرسالة الإسلامية، ودوران "الأشخاص والأشياء" في فلكها، وأن الأمة تدخل حالة المرض حين يتحول الولاء لـ"أشخاص" العصبيات القومية والإقليمية والقبلية والعائلية، وتدور كل من "الأفكار والأشياء" في فلك "الأشخاص". وتنتهي الأمة إلى حالة الوفاة حين يتحول الولاء لـ"الأشياء" ويدور في فلكها كل من "الأفكار والأشخاص". و"إحكام" الوعي بمراحل صحة الأمة ومرضها، ووفاتها شرط رئيس لبلورة استراتيجيات وممارسات التربية الإسلامية والعمل الإسلامي. ففي -مرحلة صحة الأمة- التي لا تخلو من الأخطاء والنواقص في السياسات، والإدارات تقبل وتحترم أساليب النقد الذاتي الصريح، كما حدث في مواقف المعترضين من الصحابة والصحابيات على بعض ممارسات الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. وحين تدخل الأمة مرحلة المرض، فإن "أشخاص" الحاكمين ترفض النقد، وتشيع ثقافة المدح وتقمع حركات الإصلاح كما حدث في عهود ما بعد الخلافة الراشدة. ولذلك تحتاج دعوات الإصلاح إلى إحكام الاستراتيجيات وتقديم التضحيات. أما حين تدخل الأمة مرحلة الوفاة، فإن "إنسان" الأمة المتوفاة -في الوقت الذي يتنكر فيه لجميع تطبيقات الإصلاح- يتحول إلى تاجر "ينفق" أفكار الإصلاح كلها كنوع من الاستثمارات العقائدية التي تدر المال والجاه. لذلك فإن من متطلبات الصواب في التربية الإسلامية، والعمل الإسلامي أن يكونا قادرين على تشخيص وتمييز المراحل، والدوائر التي ينتهي عندها "ولاء" إنسان التربية الإسلامية -ويتفاعل عليها: إيمانه، وهجرته، وجهاده ورسالته، وإيواؤه، ونصرته، وبين الدوائر التي تقتصر بها علاقة هذا "الإنسان" على مجرد "الانتماء" العاطفي الذي يستثمر لـ"نصرة" "محور الولاء" الفاعل الحقيقي، وأن يكونا قادرين على تطوير استراتيجيات: الجهاد التربوي، والجهاد التنظيمي للارتقاء بالجماهير المؤمنة من دوائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 "الولاء" للعصبيات المختلفة إلى دائرة "الولاء" لـ"أفكار" الرسالة الإسلامية. وتحتاج المؤسسات التربوية أن تتبين الحد الذي ينتهي عنده كل من الجهاد التربوي، والجهاد التنظيمي حتى لا يتحول عملها إلى ممارسات تربوية عقيمة، ويئول لما آلت إليه التربية الصوفية والمذاهب الفقهية التقليدية. ومراعاة هذين الأمرين السابقين تتطلب بروز علم مختص يمكن بواسطته تقدير المرحلة التي يستمر العمل خلالها في ميدان تحويل "الانتماء" إلى "ولاء" حتى يصل إلى الحد الذي تصبح فيه -الجماهير المؤمنة- كاملة الاستعداد لممارسة عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة بالمحتوى الذي توجه إليه "أفكار" الرسالة الإسلامية وغاياتها1. ومع أن هذا البحث لا يدعي تقديم -العلم المطلوب- لتنظيم العمل الإسلامي، واستراتيجيات التربية إلا أنه يرى أن تمييز -المرحلة الأولى من العمل الإسلامي- خلال فترات مرض الأمة، ووفاتها بالطابع السلمي والتفرع الكامل إلى تغيير ما بالأنفس من قيم فكرية ونفسية وخبرات ثقافية واجتماعية، وتصويب علاقات "الولاء" السائدة، وتنظيم العلاقات الخمس بين -إنسان التربية الإسلامية- من ناحية وبين كل من الخالق، والإنسان والكون والحياة والآخرة بحيث تصبح علاقات عبودية، وعدل وإحسان، وتسخير، وابتلاء، ومسئولية وجزاء2. وعلى العمل الإسلامي في هذه المرحلة أن يتجنب كل ما من شأنه أن يؤدي إلى المصادمات مع "القوم" الذين يعمل في أوساطهم، وأن يتحلى بـ"الصبر الجميل" على أذاهم، و"هجر الرجز" الخاطئ الذي يلون حياتهم،   1 للوقوف على مزيد من تفاصيل -الاستراتيجية المقترحة- راجع باب "قوانين تاريخية وتطبيقات معاصرة" -في كتاب- هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس -للمؤلف. الطبعة الثانية، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 2 للوقوف على تفاصيل -العلاقات الخمس- المذكورة راجع -فلسفة التربية الإسلامية- الطبعة الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وأن يتجنب الاشتراك في سياسات ترميم الأمة المريضة، أو المتوفاة من خلال المشاركة في المجالس النيابية والإدارات والحكومات، وأن يتجنب الاشتراك في عمليات الصراع، والمجابهة خلال فترات الفتن التي لا ينفك باعثوها، وقادتها عن استثمار شعارات "الانتماء" الديني، والقومي، والإقليمي، والقبلي، والأسري، وغيرها. ولا بد من الانتباه -هنا- إلى أهمية "فقه" أحاديث الفتن التي تزخر بها مصنفات الحديث النبوية فقها صائبا يزيل آثار الشروح الخاطئة التي تناولت هذه الأحاديث، وانتهت بأجيال المسلمين إلى العزلة السلبية، والقعود عن الإصلاح بانتظار المهدي ونزول المسيح أو قيام الساعة. والصواب أن الأحاديث المذكورة توجه إلى صيانة طاقات المؤمنين من التبديد، وإلى التزام -التربية فقط- كمنهج للإصلاح خلال الفتن التي تصاحب مرحلتي مرض الأمة ووفاتها. ولعله من المناسب هنا أن نقول: أن الأستاذ جودت سعيد قد "أحس" في كتابه -مذهب ابن آدم الأول- بأهمية التفرغ للعمل التربوي، الذي أسماه العمل السلمي، وتجنب العنف. ولكنه إحساس لم يصل إلى درجة "الوعي" الذي يميز حلقة العمل السلمي في منهاج العمل الإسلامي، ويحصرها في -الجهاد التربوي- خلال مرحلتي مرض الأمة ووفاتها، لإخراج جيل الإصلاح، ثم الانتقال إلى مرحلة -الجهاد التنظيمي- الذي يوفر بيئة المهجر الحاضنة، ويحسن تعبئة الموارد المادية والمعنوية، وإعداد ما يستطيعه مجتمع المؤمنين من قوة ورباط تؤهله للنوع الثالث من -الجهاد- الذي يرهبون به عدو الله وعدوهم، وآخرين من دونهم لا يعلمونهم من أهل الفتنة والنفاق1.   1 راجع فصل -الجهاد والرسالة- في هذا البحث للوقوف على تفاصيل أنواع الجهاد ومراحله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 إن عدم بروز علوم إسلامية توضح -مراحل العمل الإسلامي، واستراتيجياته أدى إلى تخبط مؤسسات التربية وحركات التجديد، والإصلاح سواء في تنظيماتها الداخلية أو نشاطاتها الدعوية في الخارج. فهي لم تدرك الفارق بين "الولاء" للعصبيات التي توجه سلوك -إنسان الأقطار الإسلامية- في حياته الفعلية، وبين علاقات "الانتساب والانتماء" التي يستثمرها و"ينفقها" هذا الإنسان لـ"نصرة" ولاءاته العصبية حين تتعرض الأخيرة للخطر، تماما كالسلوك الذي يصفه قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] . فكثيرا ما ظن الإسلاميون أن حماس جماهير الأمة المتوفاة لخطبائهم في المساجد وترديدها لهتافهم: "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا"! هو دلالة على استعداد هذه الجماهير لـ"الجهاد" وبذل النفس والمال لـ"نصرة" أفكار الرسالة، ثم إذا دعيت هذه الجماهير لتجسيد هذا الحماس في واقع حي تثاقلت إلى الأرض، واكتفت في أحسن حالاتها بالحوقلة والتحسر، ثم كانت مواقفها الفعلية تطبيقا كاملا للمثل الشعبي المستمد من ثقافتها القبلية القائل: "من يتزوج أمي هو عمي"1. وفي المقابل كثيرا ما انقلب بعض من أسلمتهم حركات الإصلاح، والتجديد قيادتها، أو دفعت بهم إلى "مجالس النواب" لتمثيلها ولـ"نصرة" الإسلام، و"إيواء" المؤمنين، إلى زعماء "متسوزرين" يركزون "جهادهم" لـ"إيواء" قبائلهم وأسرهم و"نصرة" عصبياتهم ومصالحهم في الجاه والتملك!!   1 مثل شعبي شائع معناه الإذعان والطاعة لكل غالب مهما كانت جنسيته، أو دينه أو أخلاقه أو سياسته، والتخلي عن طاعة المغلوب مهما كانت درجة قرابته، أو رفعة أهدافه، أو عدالة مطلبه، أو صدقه وإخلاصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 ولعله من المناسب -هنا- أن نشير إلى حكمة التخطيط، والتنفيذ التي اعتمدتها استراتيجيات الدول المستعمرة في "مزق" الأمة الإسلامية المتوفاة حيث كانت، وما زالت هذه الاستراتيجيات تستثمر -بصبر ووعي- المؤسسات التربوية والإدارية والعسكرية والإعلامية، والبعثات الدراسية والعلاقات الإقليمية وشئون السفر والإقامة، وقوانين العمل للارتداد بمحاور "الولاء" من دوائر الولاء لـ"الأفكار" الإسلامية إلى دائرة "الولاء الأسري" و"الولاء الفردي" متدرجة عبر دوائر القوم والإقليم والقبيلة، حتى إذا جاءت أجيال تتناثر "ولاءاتها" على دوائر القبيلة والأسرة والأنانية الفردية، أطلقت أزمة التناقضات وأعنة الصراعات بين العصبيات المذكورة حتى تنتهي مشروعات التنيمة إلى الإفلاس، والأمة إلى الوفاة!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الفصل التاسع والعشرون: مشكلة التناقض بين إعداد الفريد وإخراج الأمة في أهداف التربية الحديثة مدخل ... الفصل التاسع والعشرون: مشكلة التناقض بين "إعداد الفرد" و"إخراج الأمة" في أهداف التربية الحديثة تعاني التربية الحديثة من مشكلة تحديد العلاقة بين الفرد، والأمة بحيث لا يطغي أحدهما على الآخر. ولقد بدأ النظر في هذه المشكلة منذ أواخر القرن التاسع عشر، واتخذ عدة اتجاهات يمكن تقسيمها إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية طبقا لمشاهير التربويين الذين قادوا هذه الاتجاهات. الاتجاه الأول الذي يعتبر وظيفة التربية هي نقل الثقافة الاجتماعية إلى الفرد الناشئ. ورائد هذا الاتجاه هو المفكر الفرنسي -إيميل دوركايم" "1858-1917"- الذي اشتهر في ميدان علم الاجتماع. وخلاصة رأي دوركايم في هذا المجال أن المجتمع يحتل المكانة الأولى بينما يأتي الفرد في المنزلة الثانية. ولذلك تبدأ الحياة الحقيقية النافعة بقيام المجتمع وتوثيق روابطه. وحين تتحكم هذه الروابط تنعكس آثارها السيئة على الأفراد أنفسهم. وانطلاقا من ذلك فإن وظيفة التربية الرئيسة هي إيجاد التوافق بين أفراد المجتمع، وتوثيق روابطهم وتطوير الروح الجماعية عندهم. فالمجتمع هنا هو محور الأهداف التربوية وليس الفرد. وهذا يعني إن مسئولية التربية تقع على الدولة، وعليها أيضا تقع مسئولية إعداد المعلم والمدرسة للقيام بهذه الوظيفة بالشكل الذي ترغب به الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وبذلك تبدأ التربية -عند دوركايم- بالمجتمع وتنتهي بالفرد1. أما الاتجاه الثاني فهو يسير في الخط المعاكس للاتجاه الأول. ورائد هذا الاتجاه هو -كارل روجز Carl Rogers- "1902-000". وكارل روجرز هذا عالم نفس أمريكي له أثره في ميدان علم النفس والتربية. ولقد قامت نظريته في الأصل لمعالجة الاغتراب alienation الذي تعاني منه مجتمعات الحضارة المعاصرة. ففي رأي -روجز- أن العلاقات الإنسانية في هذا العصر باردة جافة مجردة من العواطف والإخلاص. ولذلك أصبح الأفراد يعانون من حساسية مفرطة إزاء أحكام الآخرين نحوهم، ويعيشون في حالة من إمكانية السقوط، وحتى يحموا أنفسهم من هذا المصير، فإنهم يتسترون خلف قناعات زائفة تخفي حقيقتهم الأساسية، وتنسيهم حقيقة -الاغتراب- الذي يسم وجودهم، وبسبب هذا الاغتراب يفقد الأفراد القدرة على التحلي بمقيمهم الكامنة فيهم، ويتلبسون القيم التي يفرضها المجتمع عليهم رغم عدم إيمانهم بها في كثير من الأحوال. ولذلك تصبح هذه القيم قاسية، جامدة. لذلك يجب إتاحة الفرصة للأفرد للعيش في عالم متحرر من ضغوط المجتمع، وليختاروا القيم التي تنبع من داخلهم. وهكذا يتضح أن الحلم الجميل عند روجرز يمثل الكابوس المخيف عند دوركايم. فروجرز يود تحرير الأفراد من القيود المدمرة التي يفرضها المجتمع بينما يود دوركايم تحرير الأفراد من فوضى الحياة الفردية. فالأخلاق عند دوركايم يفرزها وعي المجتمع وعقلانيته أما عند روجرز فهي تنبع من وجدان الفرد وعواطفه. ولذلك تتركز أهداف التربية -عند رجروز- في رد الأفراد للعيش مع عواطفهم بعيدا عن ضغوط المجتمع، وعلى التربية   1 Rodman B.Webb. Schooling and Society, "New york: Machmilan Publishing co, 1981", PP. 21-25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 أن تهيئ الفرد الأجواء المناسبة لاستعادة ثقته بنفسه، وليكتشف مشاعره الخاصة، وليتحرر من الأقنعة الاجتماعية المصطنعة. وبذلك يتعامل الأفراد مع بعضهم طبقًا لرغباتهم الفطرية المتحررة من القيود التي نسجتها اتجاهات المجتمع وقيوده. أي إن التربية -في نظر روجرز- تبدأ من الفرد وتنتهي بالمجتمع. أما الاتجاه الثالث فهو يقف في الوسط بين كل من دوركايم، وروجرز ورائد هذا الاتجاه هو -جون ديوي- "1859-1952". لقد رأى ديوي أن أبرز خصائص المجتمعات الحديثة هي انفصام العلاقة بين الفرد والمجتمع، وأن بإمكان الفلسفة معالجة هذا النقص. لقد اعتبر ديوي أن ظاهرة الاغتراب مدمرة للمجتميع والفرد سواء. وأن أساس الخطأ في رأي كل من دوركايم وروجرز هو الفصل بين الفرد والمجتمع، ووضع مصلحة كل واحد منهما ضد مصلحة الآخر، وإن أيا منهما لا يحقق وجوده إلا بالتغلب على الآخر. لذلك لم ير ديوي إن وظيفة التربية هي تحقيق هيمنة الأفراد، أو المجتمع وإنما عملها أن تستغل تبادل العلاقة بينهما إلى أقصى حد. والوسيلة لتحقيق هذا الهدف هو -الذكاء الإنساني- وهو يتضمن قوة الملاحظة التي تمكن الفرد من تحديد المشكلات وتحليلها وتقييمها ثم حلها. وهذا يتطلب تعليم الفرد بالخبرة وأن يستغل هذه الخبرة لصنع مستقبله. فبالذكاء يعيد الفرد تقييم المهارات، والعادات والتقاليد الاجتماعية ويقرر النافع منها. والعقل لا ينمو من خلال فرد يطيع المجموع طاعة عمياء، ولا من خلال مجتمع يصب الأفراد في قوالب محددة من السلوك، وإنما ينمو العقل من خلال الحوار وحرية الرأي التي تؤدي إلى إيجاد -العقل الاجتماعي. والعقل الاجتماعي يتمثل في مؤسسة اجتماعية تفكر بمصلحة الجميع وتحسين نوعية الفرد، والجو الذي تنمو فيه هذه المؤسسة هو جو الحرية الديموقراطية. والإنسان ليس فيه ذكاء فطري أو قدرات طبيعية، وإنما هو نتاج المجتمع والبيئة. لذلك كانت التربية هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الوسيلة الفعالة لتطوير الذكاء المشار إليه والخبرات المشار إليها كذلك. وعلى التربية أن توفر للفرد التدريب على حل المشكلات في جو من الحرية، وأن تعطيه الفرصة ليتعلم بنفسه ويتفهم آراء الآخرين1. وهكذا يبدو الاختلاف واسعا بين وجهات النظر المتعلقة بأهداف تربية الفرد، والمجتمع عند كل من دوركايم، ورجرز، وديوي، ولقد علق -رودمان ويب- على هذا الاختلاف بقوله: "إن نظريات كل من دوركايم، وروجرز، وديوي منشقة على بعضها بعضا أميالًا شاسعة، وإنه لمن الغريب أن نجد مثل هذا الاختلاف العميق بين علماء أذكياء حول قضايا أساسية. ويرجع هذا الاختلاف إلى اختلاف تصوراتهم عن الطبيعة الإنسانية"2. لقد وجد كل من الاتجاهات الثلاثة أنصاره الذين أدخلوه مجالات التطبيق. ولكن تركز هذا التطبيق في ميادين الاقتصاد، وإخراج الفرد المنتج -المستهلك أو المجتمع المنتج- المستهلك، وفسرها كل جماعة حسب مصالحهم وما تمليهم حاجاتهم المادية ورغباتهم في التملك والثروة. ولذلك أفرزت تناقضا خطيرًا بين هدف "تربية الفرد" وهدف "إعداد الأمة". ولقد درس المختصون في تاريخ التربية، واجتماعات التربية، وفلسفة التربية وأهدافها هذه التفسيرات، والتطبيقات لأهداف تربية الفرد والمجتمع وتناولوها بالتحليل وأوضحوا التناقض القائم فيها. ويمكن أن نصنف هذه الدراسات التربوية المشار إليهما فيما يلي:   1 Ibid, PP. 25-31. 2 Rodman B.Webb, OP, cit, p. 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 أ - أصحاب الرأي الناقد "نظرية التناقض بين الأهداف": يرى أصحاب هذا الرأي أن -أهداف إعداد الأمة المتمركزة حول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 المصالح الاقتصادية -تتناقض مع- الأهداف المتمركزة حول إعداد الفرد. ففي حين تهدف الثانية إلى جعل التلميذ سيد نفسه وحاكم قدره، فإن الأهداف التي تتمركز حول التقدم الاقتصادي للأمة تعمل على تقييد تطلعاته، وتطويعه لمتطلبات العمل في المؤسسات الصناعية. ويمكن إدارك هذا التناقض وحدته حين يتذكر المرء أن ملايين الوظائف في الأقطار الصناعية هي وظائف شاقة، وغير جذابة ومن النوع الذي لا يرغب الإنسان أن يجعلها عمله الدائم إذا كان لديه فرص اختيار عمل آخر. ومن أمثلة هذه الوظائف الشاقة: العمل في المناجم وإصلاح الطرق، وتفريغ أكياس الأسمدة. ومثلها الوظائف الروتينية المملة التي أفرزها التقسيم المفرط للتخصصات في العمل خلال التقدم التكنولوجي، كالعمل في المكاتب والأسواق، وكتابة محاضر الجلسات وأعمال السكرتارية. وبالإجمال فإن الأهداف الاقتصادية للأمة تتناقض مع أهداف تربية الفرد في التربية الحديثة في عدة جوانب هي: الجانب الأول، يتناقض الهدفان: الفردي والاقتصادي في نوع المعلومات وأسلوب الفهم الذي يتطلبه كل منهما. ففي أهداف إعداد الفرد يتطلب الأمر تزويد الفرد بالمعلومات الواسعة عن غايات الحياة ومقاصدها، ووسائل تحقيقها وهكذا. بينما تتطلب الأهداف الاقتصادية للأمة تقديم معلومات محددة عن نوع واحد من العمل أو الوظائف، بل إن بعض الوظائف لا تتطلب إلا قدرا محدودا من المعرفة، والتدريب الذي لا يتطلب إلا أياما أو أسابيع قليلة. والجانب الثاني، الذي يتناقض فيه الهدفان هو النزعة التي يشجعها كل منهما. ففي حين ينمي هدف تربية الفرد التأمل، والتفكير فإن الأهداف الاقتصادية للمجتع تتطلب تنمية الإذعان والخضوع للسلطة. فالتربية للعمل في المصانع لا تتطلب عمالا يناقشون في الصواب والخطأ، والحقوق والواجبات، ثم ينتهي بهم الأمر إلى عدم الرضى عن عملهم ووظائفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ولهذا الهدف فإن القائمين على نظم التربية يدربون التلاميذ على الإذعان مبكرا، فيجعلون علاقة المعلمين بالتلاميذ، والمدراء بالمعلمين علاقة تنفيذية قائمة على السلطة والتعليمات، وإصدار الأوامر وتنفيذ القرارات. ومثل ذلك في التربية العسكرية التي تجفف إرادة الفرد وتجعله ينفذ الأوامر دون تساؤل، أو تفكير. والجانب الثالث، أو الأهم الذي يتناقض فيه الهدفان هو أن هدف تربية الفرد يتطلب من الفرد الوعي بهذا الهدف، وتقبله بقناعة حتى يتمكن أن يخطط مستقبله باستقلال ووعي. ولكن هذا الهدف غير مطلوب في مجال الإعداد لميدان العمل، بل يكفي أن يدرب الفرد لآداء الوظيفة التي تسند إليه برضى وقبول بها. بل إن اطلاعه على هذا الهدف الثاني قد يجعله في صف المقاومين له؛ لأنه يريد أن يقوم بعمل لا معنى له وينال من حريته. فجهله بالهدف -إذن- يعطي المشرفين على إعداده فرصًا أكبر لتشكيل سلوكه وشخصيته دون وعي منه. وهنا يطرح المختصون بأهداف التربية واجتماعياتها من أصحاب هذا الاتجاه السؤال التالي: ما الذي يمكن عمله لمواجهة هذا التناقض القائم في التربية الحديثة بين أهداف إعداد الفرد للحياة، وبين أهداف إعداده للعمل في المجتمع؟ يلخص -جون وايت John White- الإجابات المطروحة عن هذا السؤال بالقول إن هناك عدة أساليب لذلك: الأسلوب الأول: اتباع أسلوب النعامة Ostrich أي دفن الرؤوس في الرمال وتجاهل هذا التناقض. والذي يبرز هذا الأسلوب هو اعتبار وظيفة التربية إعداد الفرد للحياة، بينما يترك إعداد الفرد للعمل في المجتمع لتقرره المؤسسات الاقتصادية، والعسكرية خارج ميدان التربية وليس للمربي شأن بها. ولا شك هذا التصور شبيه بتصور العلاقة بين الدين والسياسة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 المجتمعات الغربية والتسليم بالتناقض القائم بين الاثنين، ووجوب انفصال بعضهما عن بعض. والأسلوب الثاني لمواجهة التناقض المذكور هو اللجوء إلى قاعدة الحل الوسط Compromise. ويضرب -جون وايت- لذلك مثلا بالدراسات المسحية التي قام بها -آشتوت Ashton- وزملاؤه بعنوان "أهداف التربية الابتدائية: دراسة ميدانية لآراء المعلمين". ولقد خلصت هذه الدراسة إلى أن الحل الوسط يقوم على إعطاء قدر من الاهتمام للمهارات الأساسية المتعلقة بالأهداف الاقتصادية للأمة، بينما يكرس باقي الوقت لتنمية شخصية التلميذ بالمتعلقة بأهداف إعداده للحياة من خلال عدة أنشطة يختار منها ما يشاء. ومن أمثلة ذلك أن يقدم للتلميذ قراءات في الصباح وبعد الظهر بينما يقض بقية الساعات بالتدريب على حياة العمل. ويعلق -جون وايت- على هذا الحل الوسط، فيقول: إنه يفتقر إلى الربط المنطقي بين النوعين من الأهداف، وما يتعلق بهما من النشاطات المنهجية ولذلك يبقى التناقض قائما بينهما؛ لأن طلاب المرحلة الابتدائية يعيشون مرحلة بعيدة عن الأهداف الاجتماعية الاقتصادية، وتزداد حدة هذا التناقض في المرحلة الثانوية بسبب صعوبة التوفيق بين تعدد المعارف التي تتطلبها تنمية شخصية التلميذ، وبين التخصص الذي يتطلبه العمل، ويزداد الأمر تناقضا وتعقيدا بالنسبة لطلبة المرحلة الجامعية. فرغبتهم في بناء حياة يرغبونها تصطدم بحاجاتهم للعمل الذي يتطلب منهم إذعانا، وتخصصا دقيقا في حياة العبودية الصناعية. لذلك لا عجب أن نراهم حين يتبينون هذا التناقض، فإنهم يتحولون إلى مثيري شغب. ولا ينقطع أنصار أهداف تربية الفرد من أجل العمل عن التفكير، والبحث عن الوسائل والأساليب التي تروض الناشئة المشاغبين، وتوجد الانسجام بين طموحاتهم الشخصية ومتطلبات الصناعية والعمل. وهناك مدرسة تربوية تقول بتدريبهم منذ المرحلة الابتدائية على متطلبات البيئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الصناعية مع توفير الأنشطة الرياضية والفنون والدراما، والموسيقى ولكن التجارب التي تمت في هذا الميدان لم تحل المشكلة. كذلك دعا آخرون إلى ما أسموه بـ"الحل الواقعي" وهو توفير فرص التنافس بين التلاميذ في المدرسة من خلال الامتحانات كأسلوب لتدريبهم على التنافس في العمل المستقبلي، وإعطاء المتفوقين منهم جواز السفر اللازم للوظائف الجيدة، وبذلك يتم التوافق بين الأهداف المتعلقة بالعمل والصناعة. ولكن واقع التطبيق لم يحقق هذا التوافق المفترض. ويعلق -جون وايت- على هذا الواقع المستعصي، فيذكر إن أسلوب "الحل الوسط" لم يرأب الصدع القائم بين النوعين من أهداف التربية: أهداف تربية الفرد، وأهداف المجتمع الصناعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ب - أصحاب "نظرية التآمر الطبقي في التربية": يشيع هذا الرأي بين عدد غير قليل من علماء التربية، وعلم النفس المنتشرين في عدد من الجامعات الأميركية. ومن أبرزهم: صمويل بولز Samuel Bowels وهربات جنتز Herbert Gintis وجول سبرنج Joel Spring ومارتن كارنوي Maxtin Carnoy وإيفان إيللتش Ivan Illich وكريستوفر جنكس Christopher Jencks ومايكل كاتز Michael Katz ودون مارتن T. Martin Don ووليم توماس William B. Thomas. ويرى أصحاب هذه النظرية أن أهداف التربية الحديثة تنطلق من قاعدة أساسية جرى بلورتها وتركيزها بإتقان، وهي تبرير النظام الاقتصادي القائم ودعمه، واستعمال التربية لترويض الناشئة على تقبله وتنفيذ سياساته، والدفاع عنه وعدم الانتباه لنقائصه. وخلاصة هذه النظرية إن أصحاب العمل يشيعون في المصانع، والمؤسسات والمجتمع نماذج من العلاقات الاجتماعية والتنظيمات الإدارية، وعادات العمل والمهارات التقنية التي تستهدف تطويع العمال، وتجريدهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ثمرة جهودهم إلى جانب تجريدهم من النزعات السياسية، ونزع فتيلة الانفجار المحتمل في العلاقات القائمة بين أصحاب العمل والعمال. ولتحقيق هذه الأهداف كلها يجري تخطيط الأهداف التربوية، ومناهجها لتعويد الطلبة -منذ وقت مبكر- على تقبل هذه الأوضاع المذكورة، وتخليد الأحوال الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية التي يتم خلالها سلب العمال والموظفين من ثمرات عملهم المتمثلة في الزيادة الهائلة في أرباح أصحاب العمل. وتؤدي التربية هذه الوظيفة المشار إليها من خلال -مبدأ تطابق دقيق Correspondence Principle- بين العلاقات الاجتماعية والمهارات التقنية التي تحكم نظام العمل، وبين العلاقات الاجتماعية والمهارت التعليمية التي توجد النظام التربوي، خاصة علاقات السلطة، والضبط العامودية القائمة بين مدراس التربية ومدراء المدارس، وبين مدراء المدارس والمعلمين، وبين المعلمين والطلاب، وبين الطلاب والطلاب، وبين الطلاب وواجباتهم المدرسية. فهذه كلها تتطابق مع العلاقات الطبقية الفوقية التي يراد إشاعتها، وترسيخها بين أصحاب العمل ومدراء المصانع، ثم بين مدراء المصانع ومراقبي العمال، ثم بين مراقبي العمال والعمال، ثم تقسيم العمل السائد في المصنع والمؤسسة. فالسلطة منظمة عبر خطوط رأسية تبدأ من الإدارة العليا للتعليم، وتنحدر إلى مدير التربية ثم إلى الهيئة التدريسية ثم الجسم الطلابي. ويتطابق مقدار الحرية المعطى للطلاب للتعامل مع مواد المنهاج مع مقدار الحرية المعطي للعامل للتصرف بوظيفته. ونظام الدوافع المدرسية كالعلامات، والجوائز والتهديد بالسقوط وثمار النجاح يطابق الدور الذي تلعبه أنظمة العمل، ودوافعه كالأجور وشبح البطالة. والتنافس غير البناء بين الطلبة وإشاعة الحسد والخصومات بينهم يطابق العلاقات غير الحسنة الشائعة بين العمال. وتتطابق الواجبات المدرسية المرهقة، وملء فراغ الطالب بالأعمال الثقيلة مع كمية العمل التي تعطي للعامل وتشغل أوقاته. ويتطابق تقسيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 المعرفة الأكاديمية إلى تخصصات غير مترابطة مع العلاقات الهشة بين العمال والموظفين، وتقسيم الوظائف الرتيبة المملة. كما إن امتحانات الذكاء IQ وامتحانات القدرات المهنية هي وسائل مصممة لغرس القناعات النفسية الراسخة بأن المستقبل الذي يراد للطلاب في أماكن العمل هو ما يتفق مع قدراتهم العقلية، واستعداداتهم النفسية، وإنهم يتحلمون -هم أنفسهم- مسئوليات النجاح والفشل في حياتهم. ويضيف أصحاب هذه النظرية، إنه بالرغم من هذا التطابق بين الأهداف التربوية، وأهداف أصحاب العمل، إلا إن الأهداف التربوية تحمل في طياتها التناقض والاضطراب. ففي الوقت الذي تدرب المدرسة الناشئة ليكونوا في المستقبل عمالا طائعين، فإنها تغرس فيها بذور التمرد والشغب. وفي الوقت الذي تدرب الجامعة الطلبة ليكونوا بيروقراطية الإدارة والهيمنة في أماكن العمل فإنها تشيع بينهم المعارضة والنقد لأصحاب العمل. كذلك تسهم أهداف أولياء الأمور في هذا التناقض؛ لأن أهدافهم التي أرسلوا أبناءهم من أجلها إلى المدارس والجامعات إنما تدور حول تحسين أحوالهم الاجتماعية، ورفع مستواهم الاقتصادي وهذه تتناقض مع أهداف المؤسسات الاقتصادية في الهيمنة والربح الوافر1. ولو نظرنا -نظرة محايدة- في مختلف هذه الآراء مقرونة بأهداف التربية الحديث كلها لوجدنا أن التناقض يعود إلى بشرية المصدر الذي تستمد منه هذه الأهداف سواء أكان فردا أو جماعة. فالاتجاه الذي ينطلق من "تلبية رغبات الفرد وحاجاته" يجد نفسه بعد فترة أمام مجموعات من "الرغبات والحاجات". فالأفراد الذين يحققون قسطا معينا من النجاح خلال مسيرة الحياة تتركز "رغباتهم وحاجاتهم" حول ثمرات هذه النجاح وتتفق مصالحهم في التحالف للمحافظة على هذه "الثمرات"، وزيادتها التي لا تقف   1 Samuel Bowels & Herbert Gintis, Schooling in Capitalist America, "New york: Basic Books Inc. 1967" PP. 10-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 عند حد طالما إن الإنسان يتمنى واديا ثالثا من ذهب إذا كان له واديان -كما قال -صلى الله عليه وسلم- وكما أثبته واقع المليونيرات في العصور المختلفة. أما الأفراد الذين لم يحققوا هذا النجاح، ولم يحصلوا على ثمراته فتتركز "رغباتهم وحاجاتهم" في التطلع إلى ما حصل عليه الآخرون، وتتفق مصالحهم في التحالف للوصول إليه بكل الوسائل الممكنة. وهكذا تنشأ في المجتمع -طبقات- بعضها يستهدف المحافظة على التفوق والكسب والامتياز، وبعضها يستهدف الخروج من حالة الحرمان والفضل ويبدأ الصراع الطبقي. أما الاتجاه الذي ينطلق من "تلبية رغبات المجتمع وحاجاته"، فإنه في الواقع بعض صيحات -الطبقة المحرومة الفاشلة. ومعروف إن دوركايم رائد هذا الاتجاه كان من صفوف اليساريين في فرنسا. وحين ينطلق هذا الاتجاه من أعلى، فهو يمثل "حاجات ورغبات" أولئك الذين يمسكون بدفة المجتمع ويتحكمون بمصائره. أي إن رغبات المجتمع تنتهي لتكون رغبات طبقة معينة كذلك، ولكنها تغلفها بأغلفة مطاطة فضفاضة غائمة كالمصلحة العامة، ومصلحة المجتمع. ويفصل -جول سبرنج 1Joel Spring- في الكشف عن جذور الأنظمة التربوية التي رفعت شعارات، وأهداف عامة مثل "المواطن الصالح" و"الوطنية" و"القومية" و"الصالح العام"، ويتتبع تاريخها بشكل علمي يقترن بالوقائع والأسماء والتواريخ ثم يخلص ليقول: "يمكن مقارنة الوطنية بالدين. فهي لها رموزها وطقوسها ذات النكهة الصوفية. فجوهر الوطنية هو تعليم الفرد محبة مفاهيم نظرية غائمة   1 جول سبرنج Joel Spring أستاذ تاريخ التربية في جامعة سينسناتي Cincinnati ومن مشاهير مؤرخي التربية المعاصرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 ميتافيزيقية كالقومية ومصلحة الشعب. ولهذا يجري تركيز ممارسة هذا الديانة على احترام الأعلام الوطنية، والشارات والنصب التذكارية، والموسيقى الوطينة ... والالتصاق بهذه الرموز هو التصاق شعوري عاطفي، وليس التصاقا عقليا ... ولقد كانت القومية والوطنية من أعظم القوى المدمرة في الحضارة المعاصرة؛ لأن القتال لحماية -راية من الرايات، أو مفهوم "شعب" قد أدى إلى هلاك الملايين من البشر"1. ويضيق -سبرنج Spring- إنه بالرغم من هذه -المتيافيزيقا التربوية- فإن البحث في تاريخ التربية الحديثة يكشف عن أن أهدافها التي رفعتها هي أهداف الأقلية البيروقراطية الحاكمة باسم الشركات والمؤسسات الرأسمالية. فالمواطنة السياسية في التربية الحديثة تستهدف حماية المصالح الاقتصادية لطبقة الملاك، وتجنيد بقية الطبقات لحماية هذه المصالح مثلما تجندها لزيادة الإنتاج. والأنظمة السياسية هي مجموعة البيروقراطيين الذين يقومون بمهمة استثمار الطبقات العاملة لحماية الاحتكار الاقتصادي، وتوفير فرص النمو والاستثمار لهذا الاقتصاد. ويدلل -سبرنج- على خضوع التربية الحديثة للشركات، والمؤسسات الصناعية والمالية بظاهرة تربوية قائمة وهي إن البحث التربوي، وتطوير النظم التربوية يرتبط إلى حد كبير بتوجيه المؤسسات التابعة للشركات، والمؤسسات الاقتصادية الكبرى. كما إن الباحثين التربويين يركزون على الموضوعات التي تقترحها جهات التمويل المذكورة، وهم يختارون موضوعاتهم من الموضوعات التي تقترحها هذه الجهات، ويتنافسون في الحصول على المنهج والجوائز التي تقدمها هذه الجهات كذلك. وبالتالي فإن الأهداف التربوية والنظم التربوية التي يفرزها البحث   1 Joel Spring, Eduction The Worker Citizen, "New york: Longman, Inc. 1980" PP. 9-10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 التربوي تأتي ممثلة لمصالح طبقة رجال الأعمال والبيروقراطيات الحاكمة باسمها، ولا تمثل المجتمع والإنسان بشكل عام1. ويضيف -سبرنج Spring- إن من أبرز من عكسوا هذه الاتجاهات ووظفوا التربية في خدمة رجال الاقتصاد والصناعة في الغرب هو -جون ديوي. وإن خلاصة أفكار ديوي وتطبيقاتها التربوية ركزت على تلبية حاجات الصناعة المتغيرة، وإعداد المدرسة الحديثة لخدمة المؤسسات الصناعية، وتدريب الطالب على حياة العمل وعلاقات المصنع. أما في المعسكر الشرقي الشيوعي فقد قام بدور -ديوي- المفكر التربوي السوفياتي -أنطون ماكرنكو- Anton Makarenko. ومع إن النظام الاقتصادي في كل من المعسكرين الغربي والشرقي يختلف عن نظيره، إلا إن الأهداف التربوية تشابهت من حيث إعداد الفرد الإنسان لتلبية حاجات المؤسسات الصناعية الحديثة دون عناية بإنسانيته2. والخلاصة إن مشكلة تناقض الأهداف التربوية في التربية الحديث تتركز في بشرية مصدرها. ولكن لا بد من التنبيه إلى حقيقة معينة لها دلالالتها، وشواهدها في تطبيقات التربية الإسلامية قديمًا وحديثًا. إن إلهية المصدر في أهداف التربية الإسلامية يجب أن تكون مقرونة بتنمية قيم التقوى، والإحساس الشديد برقابة الله. ذلك إن التربية الإسلامية -كما مر في كتاب فلسفة التربية الإسلامية- تنمي علاقة القيام بالمسئولية الاجتماعية نحو الآخرين بدل توجيه الفرد لحقوقه وحاجاته ورغباته، فإذا لم تكن هذه المسئولية مقرونة برقابة الله، وتقواه تنقلب إلى تسلط ممزوج من الأبوة القبلية والدكتاتورية السياسية في المجتمع والمؤسسة والأسرة، ويرى الفرد إنه المسئول عن كل شيء وإن لا حق لغيره في مشاركته في شيء.   1 Joel Spring, Op. Cit, PP. 156-159. 2 Ibid, PP. 22-29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وأكثر ما تبرر آثار هذا التطرف في الميادين السياسية حيث تتعدد الرؤوس التي تمارس المسئولية، ويصعب التنازل والاتفاق. أي إن مضاعفات فساد علاقة المسئولية في المؤسسات التربوية الإسلامية هي عكس مضاعفات فساد هدف "تنمية الإحساس بالحقوق والحاجات" في المؤسسات التربوية الحديثة حين تتعدى الحقوق والحرية حدودها، وتنفلت من كل قيد اجتماعي أو أخلاقي. ولذلك حين تنحل المجتمعات الإسلامية تنحل سياسيا، وحين تنحل المجتمعات الغربية تنحل اجتماعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 الباب السادس: تنمية الإيمان بوحدة البشرية والتآلف بين بني الإنسان مدخل ... الباب السادس: تنمية الإيمان بوحدة البشرية، والتآلف بين بني الإنسان الإيمان بوحدة البشرية والعمل على تحقيقها، وإرساء قواعد التعايش السلمي بين بني البشر هو الهدف العام الثالث في أهداف التربية الإسلامية. والإيمان بهذا الهدف ثم العمل لتحقيقه لا ينبعان -فقط- من التصورات المثالية القائمة على الالتزام العقائدة، والأخلاقي عند فئة محدودة من الناس تجمعت حول رسول أو نبي مثالي، ونفر من صحبه المغرقين في تعشق المثالية وحياة القديسين. ولكن الإيمان بهذا الهدف والعمل لتحقيقه هو أمر حتمي واقعي تقتضيه طبيعة الطور الاجتماعي الذي بلغته البشرية، وجاءت الرسالة الإسلامية على أبوابه. لقد مر فيما مضى أن التفكير الديني في الإسلام قائم على أساس إن الرسالات الإلهية، تطورت في موازاة التطور الذي مرت به المجتمعات البشرية ابتداء من مرحلة المجتمع الأسري، ثم المجتمع القبلي ثم المجتمع القومي حتى المجتمع العالمي الذي اتضحت معالمه، وتبلورت أسسه في أيامنا هذه. ولقد جاءت كل رسالة على أبواب الطور التي وقفت البشرية في كل مرة أمامه، وأخذت في الاستعداد لولوج هذه الأبواب. ولقد جاءت الرسالة الإسلامية على أبواب الطور العالمي للمجتمع البشري، وهو طور تحددت أسسه وخصائصه والعوامل المؤثرة فيه، وأصبحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 الوحدة الإنسانية فيه ضرورة معيشية، ومتطلبا أمينا تفرضه دواعي السلم والاستمرار في الحياة. وفيما يلي استعراض لأسباب هذه الضرورة العالمية، ومظاهرها في الحياة المعاصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 الفصل الثلاثون: ضرورة التألف الإنساني كهدف من أهداف التربية المعاصرة أصبحت الوحدة الإنسانية ضرورة معيشية في واقع الحياة المعاصرة أكثر من أية مرت بها البشرية من قبل، وذلك للأسباب التالية: السبب الأول، لم يعد ممكنا -في العالم المعاصر- استمرار الروابط العائلية والقومية والوطنية والجنسية؛ لأن التجمعات البشرية التي قامت على هذا الرابط آخذة -اليوم- في الانهيار المتسارع. فالتقدم التكنولوجي الهائل في ميادين المواصلات والاتصالات، والأقمار الصناعية والأعلام والنشر قد قرب المسافات بين أقطار الأرض، وأدى إلى سرعة الهجرات والأسفار القارية، وإلى تشابك العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية، والاجتماعية وأحال الحياة على الأرض إلى ما يسميه -رجال الاجتماع- "قرية الكرة الأرضية". وهذا واقع مزق المؤسسات الاجتماعية القديمة- كالأسرة الكبيرة، والقبيلة، والشعب، -وبعثر أعضاء كل منها من أرجاء الأرض كلها. ولو أننا نظرنا في واقع البلدان القائمة في الوقت الحاضرة لوجدنا كل بلد -هو الآن- خليط من جميع الأجناس المهاجرة من هنا وهناك، وأن نسبة السكان الأصليين فيه لا تتعدى النصف على الأكثر، وإن أقطار العالم استحالت إلى ما يشبه -السوبر ماركت- الذي يحمل على المدخل اسما وطنيا، ولكنه في الداخل يضم مئات الأصناف المستوردة من أقطار الأرض كلها. والذين تعدوا الروابط الإقليمية والطائفية، والوطنية والعصبية العائلية أو العنصرية، ولكنهم لما يستشرفوا بعد الرابطة العالمية، يعيشون اليوم -نفسيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وشعوريًّا- في برزخ الطورين: طور الانتماءات التقليدية المنحدرة من الأطوار السابقة، وطور الانتماء الإنساني الجديد الذي تفرضه أحوال الطور الجديد وعلاقاته ونشاطاته. ولعل وقوف البشرية كلها في برزخ الطورين هو الذي يضع المجموعات البشرية المعاصرة في دوامة التذبذب، والسلوك المتناقض بين التواصل، والتنابذ في جميع سياساتها ومظاهر حياتها. ففي الوقت الذي تتوالى فيه مجموعة من الظواهر الجديدة الكاسحة التي تدفع العالم إلى طور الوحدة الإنسانية كالتفاعل الثقافي الذي يتضاعف يوميا بسبب نشاطات المؤسسات، والجمعيات العلمية والتربوية، ودور النشر في العالم كله، والتفاعل الاجتماعي الذي تتضاعف نسبته بسبب المواصلات العالمية والهجرات العالمية للعمل والدراسة، والإقامة والزواج العالمي بين الأجناس، وتشابك الاقتصاد العالمي. فإن هناك حواجز كبيرة من تراث الماضي، والرواسب التاريخية التي تضع العثرات في طريق المسيرة العالمية نحو الوحدة، ويمثل هذه الرواسب الأفكار العنصرية القديمة، والفلسفات والقيم الطبقية والتاريخ الملطخ بالأحقاد، والنعرات العصبية. ويزيد في مضاعفات هذه السلبيات التاريخية، والاجتماعية الفجوة الواسعة بين الفكر والسياسة في العالم المعاصر. ففي حين ينزوي الفكر ليجتر مثله، وقيمه في الجامعات ومعاهد البحث، فإن السياسة تشكل الواقع القائم طبقا للاتجاهات المقولبة في قوالب الأيدولوجيات القديمة، والمصالح الموقوتة الضيقة. ولقد أحس بهذه الظاهرة نفر غير قليل من رجال الفكر والتربية في العالم المعاصر. من ذلك ما يقوله البروفسور جيمس بيكر: "لقد توحد العالم إلى درجة كبيرة من الناحية الجغرافية والتكنولوجية والاقتصادية. ومع ذلك فليس لدى الإنسان خطط، ولا تصور ولا مؤسسة للحفاظ على هذه الوحدة الأساسية ودعمها. فما زالت عادات الإنسان وأفكاره، وممارساته تصطدم مع المقومات الأساسية لوجوده، وما زالت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 غرائزه وولاءاته ذات صبغة قبلية بالرغم من التطور الذي مر به خلال مئات الآلاف من السنين"1. ويستعرض صاحبا كتاب -التواصل العالمي Global Reach- مظاهر النشاطات الاقتصادية التي تجعل الوحدة بين أقطار الكرة الأرضية حقيقة ملموسة في الميدان الاقتصادية بينما تعمل نزعات السياسيين المتخلفة، وشعارتهم وممارساتهم المتناقضة على دفع العالم في دوامة التناقض والصراع2. كذلك انتقد هذا التناقض العالم الأمريكي -رينيه دوبوا- بقوله: "إن مصطلحات -العالم الواحد- و -الأخوة الإنسانية- تتردد بشكل لا يتناهى في المحادثات والمحاضرات السياسية، في الوقت الذي يطفح العالم بالحروب السياسية، والاضطرابات العنصرية"3. ويعالج هذه الظاهرة -المؤرخ البريطاني توينبي- بروح أكثر متفائلة، فيذكر إن الوحدة العالمية قادمة لا محالة، وإن الحضارة مقدمة للديانة، كما كانت الحضارة الرومانية مقدمة للمسيحية التي وجدت في طرق المواصلات الشهيرة التي بناها الرومان، والأمن الذي أشاعوه على جوانب هذه الطرق وسائل سهلت تنقل دعاتها الذين نشروها في مناطق تلك الحضارة. ويضيف توينبي بما يشبه التلميح إن هذا التقدم التكنولوجي الحاضر الذي أنجزه ورثة الرومان من الغربيين المعاصرين ينتظر ذلك الشرقي القادم ليزين جبين هذا التقدم التكنولوجي بعنصر العقيدة، والروح مثلما زين أسلافه الحضارة الرومانية. ويضيف توينبي أيضًا إن العالم أحوج ما يكون اليوم إلى   1 James Becker. Education For A Globel Society, "Indiana: Bloomingtion: The Phi Delta Kappa, 1973" P. 7. 2 Richard J. Barnet & Ronald E. Muller, Global Reach: The Power Of Multinational Corporations "New york: Simon and Schuster, 1974". 3 Rene Dobos, So Human And Animal, P.4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 فضائل الإسلام خاصة تلك الأخلاق التي تساوي البشر وتحارب المخدرات. السبب الثاني، لضرورة الطابع العالمي للبشرية المعاصرة هو إن العلم قد كشف عن أصول هذه الوحدة العالمية، وأبرز الحاجة إليها كعامل أساسي من متطلبات استمرار الحياة على الأرض، وتجنب الكوارث المدمرة. وكشف خطأ الفرضيات والفلسفات العنصرية التي قسمت بني البشر إلى مجموعات تتفاوت في الأصل، والمقومات الأسياسية للوجود الإنساني. والأبحاث في ذلك كثيرة جدا، منها ما انتهى إليه -إيرك فروم- حين قال: "إن الفروق في الذكاء والعقليات والمعارف كلها قابلة للإهمال إذا قورنت بهوية الإنسان وجوهره. ولاكتشاف هذه الهوية يجب تخطي ظاهر الإنسان إلى فطرته وجوهره؛ لأن النظر إلى ظاهرة يكشف عن فروق تباعد بين بنيه. ولكن النفاذ إلى جوهره يكشف لنا حقيقة الأخوة التي تجمع بين البشر"1. والسبب الثالث، الذي يجعل الوحدة العالمية ضرورة مباشرة هو الطابع العالمي للمشكلات والقضايا التي يواجهها العالم المعاصر. فتلوث الماء والهواء، والحاجة إلى زيادة الغذاء، وأزمات الصناعة والتضخم المائي، وسباق التسلح، والقرارات المتعلقة بالتنمية القومية كلها أصبحت تتخطى الحدود القومية، وتستدعي تكاتف الجهود العالمية.   1 Erich Fromm. "The Nature of love" in The Contemporary Scene. ed by Weiz, p. 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 الفصل الحادي والثلاثون: الوحدة الإنسانية ومفاهيم التربية الدولية المعاصرة الاتجاه الأول: المدرسة المثالية idealistic ... الفصل الحاديث والثلاثون: الوحدة الإنسانية، ومفاهيم التربية الدولية المعاصرة بدأ رجال التربية منذ أوائل الستينات بالحديث عما يعرف بـ"التربية الدولية"، ثم تزايدت الدعوة إلى تحقيق هذه العالمية التربوية من خلال مؤسسات التربية الدولية -وخاصة اليونسكو- وفي المؤتمرات التربوية ذات الطابع العالمي. ولقد اتخذت الدعوة إلى -عالمية التربية- اتجاهين رئيسين هما: اتجاه المدرسة المثالية، واتجاه المدرسة الواقعية. وفيما يلي عرض مفصل لكل من الاتجاهين المذكورين. أ- الاتجاه الأول: المدرسة المثالية Idealistic: أطلقنا هذا الاسم على هذا الاتجاه؛ لأن الممثلين له مجموعة من المثاليين الذين يريدون -من خلال التربية- بناء عالم مثالي خال من نوازع الشر والأنانية، ومفعم بدوافع الخير والإثرة والتضحية. ولقد اتخذ هذا الاتجاه -أيضا- شكلين رئيسين: الشكل الأول مثله أفراد من المفكرين المتناثرين هنا وهناك، والشكل الثاني تمثل بمؤسسة اليونسكو الدولية. ويمكن أن نختار -كمثال للشكل الأول- نفرًا من التربويين الذين أسهموا في بلورة هذا الشكل منهم المربي الأمريكي -جيمس يبكر James Becker- الذي شارك لسنوات طويلة بنشاطات اليونسكو، وأسهم في بلورة منطلقات التربوية الدولية، وعمل خبيرًا للمنظمات التربوية في الولايات المتحدة. وفي البحث المشترك الذي قدمه -بيكر- بالاشتراك مع -لي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 أندرسون Lee Anderson لخص الباحثان الأفكار الرئيسية لفكرة التربية الدولية وبواعثها ومبرراتها. ومما جاء فيه: "لقد رأى الإنسان عالمه -عالم الأرض- من مدار القمر بصورة تختلف تمامًا عن الصورة التي ألفها، وهو يجلس على الأرض نفسها. لقد رأى كوكبا هشا غير صلب، عالم ثمين جدا يوفر أسباب الحياة وسط ملايين الأميال من البرودة والفراغ. وبذلك استيقن الإنسان إن مصادر الحياة -من الهواء والماء والتراب والمعادن- هي مصادر محدودة قابلة للنفاذ السريع، وإن الصراعات التي تجري على هذه الأرض صراعات تافهة إذا قورنت بوحدة بني الإنسان، ومصلحتهم المشتركة في البقاء. ولقد قاده هذا التفكير إلى فكرة أخرى مرعبة، وهي ماذا سيكون عليه مصير الإنسان إذا لم يتعلم أن يتعايش مع هذه الحقائق الجديدة عن وحدة الأرض، وتفردها إن المدارس نادرا ما تغرس في وجدان الطلبة الإحساس بوحدة الكرة الأرضية، وما تقدمه التربية عن العالم لا يزيد عن مجموعة من قطع المعلومات المبعثرة، حيث تقدم مقررا عن الشرق الأدنى، ومقررا عن أمريكا الجنوبية، ومقررا عن الولايات المتحدة، ودرسا عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ودرسا عن الشيوعية، ودرسا عن العلاقات الدولية، ودرسا عن الثقافات الإنسانية، ودرسا عن التفكير الناقد. يرافق ذلك الصورة القديمة التي تقدمها الخرائط السياسية عن إن العالم يتكون من "130" قطعة من العقارات الأرضية. فالتربية الدولية ما زالت صورة باهتة غامضة الأهداف مفككة المناهج والمدارس القائمة هي مؤسسات فاشلة عاجزة عن تربية الأطفال، والشباب وإعدادهم ليعيشوا في عالم اليوم، وعالم المستقبل"1.   1 James M.Becker & Lee Anderson> "Riders on the Earth Together" in Education in A Dynamic Society. edited by Dorothy Westby-Gibson "Massachusetts: Addison Westby Publishing Co, 1972" P. 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 كذلك ناقش -جيمس بيكر- أهمية التربية الدولية بتفضيل أكثر في كتابه "تربية لمجتمع عالمي موحد"1، فذكر إن هناك مجموعة من العوامل المستجدة التي تجعل وحدة الكرة الأرضية ضرورة ملحة، وحاجة من حاجات الحياة إذا أريد للحياة على الأرض أن تستمر وتبقى. ومن هذه المستجدات: ثورة الاتصالات وتقلص المسافات، والانفجار السكاني في العالم، ومشكلات الطاقة، وظهور ثقافة عالمية مشتركة، وتبادل الاعتماد التاري والاقتصادي، وأخطار تلوث الماء والهواء والمحيطات، واستمرار أخطار التسلح والحروب. بالإضافة إلى ما تسببت به هذه المستجدات الجديدة من تغييرات في زيادة الإنتاج والاستهلاك، وتعرية سطح التربة، واستنزاف مصادر الوقود والمعادن والمواد الأخرى، وتلوث العناصر الضرورية لحياة الإنسان وصحته، وزيادة قدرة الإنسان على السلب والنهب، وتفوقه على بقية الكائنات الموجودة في التخريب، وزيادة تعرض المجتمعات لخطر الدمار والانحلال. ولقد أثرت هذه التغييرات كلها في التركيب السياسي القائم في المجتمعات المعاصرة. فتضاعفت القدرات الحربية في الوقت الذي لم تتقدم الثقافة والقيم. وظل الجوع والمرض يشكلان القاسم المشترك بين غالبية السكان بينما يتربع على قمة المجتمع قلة من النخبة التي تملك كل شيء وتتمتع بكل شيء. فإذا قارنا هذا الوقع الخطير بالصورة التي نقلها رواد الفضاء عن الكرة الأرضية الخضراء الهشة، السابحة في الفضاء فسوف نعي المخاطر التي تتهدد سلامة الإنسان، وسوف ندرك الحاجة إلى نظم تربوية تقدم العالم كله وحدة واحدة، وليس مجرد مجموعة من المناطق المتباعدة المعزولة.   1 James Becker, Education For A Global Society. "Bloomington: the Phi Delta Kappa Educational Foundation, 1973. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 ولكن هناك مجموعة من العقبات التي تقف سدًّا أمام إخراج هذا النوع من التربية العالمية الموحدة. وأخطر هذه العقبات -في رأي جيمس بيكر- هي العنصريات والقوميات القائمة. فالناس حين يولدون فهم يولدون بجنسية واحدة وانتماء واحد هو -أمة الإنسان- ولكنهم بعد الميلاد تلتهمهم التكتلات الإقليمية، والعرقية التي تمزق الانتماء الإنساني وتفسده، وتمنع تسوية المشكلات بالوسائل السلمية بين جماعات البشر. واليوم تعيش الدول القومية مجموعة من التناقضات الخطيرة المدمرة. وأول هذه التناقضات إن أيا من هذه الدول لا تملك ضمانات الأمن لمواطنيها وسلامتهم، وازدهارهم بمعزل عن بقية الأمم ومع ذلك فهي لا تتوقف عن إثارة المشكلات، والنفخ في الخلافات وإشعالها. وثاني هذه التناقضات إن قادة هذه الدول يمارسون عددا من الألاعيب، والمناورات مع الأنداد والخصوم تحت ستار الأمن والقومي، والنفوذ، والمكانة الدولية في الوقت الذي ينادون بتسنيق المصالح الإنسانية المشتركة، وتوازن المدفوعات، وتسهيل التجارة الدولية، وحرية الملاحة في المحيطات، والتعاون لحفظ بيئة الكرة الأرضية من التلوث. وثالث هذه التناقضات إن قادة الدول القومية يلعبون مع مواطني بلادهم مجموعة أخرى من الألاعيب السياسية، حيث يضيقون عليهم معيشتهم باسم الأمن الاجتماعي، وفرض الضرائب، والصالح العام، بينما يعدونهم بتوفير فرص التعليم، وتوفير الإسكان، والصحة العامة. ورابع هذه التناقضات إن الحكومات القومية تنشر القوات البحرية في ما وراء البحار، وتطور الأسلحة، وتذكي التسابق في التسلح وحملات الفضاء، وإنفاق الملايين في السياسات الخارجية، في الوقت الذي تقصر في نفقات التربية والصحة العامة، والإسكان وأمثالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 ولقد زادت حدة هذه التناقضات والضغوط الناتجة عنها بسبب الوعي السياسي المتزايد، وانشار فاعليته بين الطبقات المحرومة. ولكن أخطر هذه التناقضات -في رأي جيمس بيكر- هو فشل الحكومات الإقليمية، والقومية المعاصرة في إدارك التناقض بين سياساتهم المحلية الإقليمية وبين الضرورات العالمية. فالحكومات القويمة -منذ مائتي عام- تمارس سلطة مطلقة وتنفرد في تقرير المصائر على حساب الواجب الملح في تحقيق التعاون بين شعوب العالم. وما زالت التربية تصيغ الناشئة صياغة قومية، وتضعهم في خدمة التسلط الطبقي، والقومي مع إن تطور الحياة يسير في اتجاه معاكس ويتطلب آفاقا أرحب من التسامح، والتعاون لمساعدة بني الإنسان على التحرر من نزعاتهم العدوانية التي يمارسونها تحت عناوين الصالح العام والأمن القومي. ويزيد في الحاجة إلى التربية الدولية أن التطور الثقافي في العالم يسير في اتجاه يعزز أهداف هذه التربية وتوجهاتها، ويمهد لبدء حضارة عالمية واحدة أساسها المعارف العلمية، والتكنولوجية المشتركة، والتطلعات المشتركة، والمصير المشترك، والجهود المشتركة لمواجهة المشكلات القائمة، وتخطي الحدود القائمة في السياسة والثقافة والاجتماع. ويعزز ذلك انهيار الحواجز الجغرافية والثقافية وظهور المدن الكبرى التي تعيش فيها مجموعات تمثل العالم كله مثل نيويورك ولندن، وطوكيو بالرغم من التناقضات التي تسببها الحكومات القومية، والعرقيات القائمة في العالم. ويعزز هذه الوحدة الظواهر العالمية والمشاركات والممارسات العالمية كالشركات الاقتصادية العالمية، ودراسات السلام العالمي والتخطيط المشترك لمستقبل العالم. ويخلص -بيكر- من استعراضه هذا إلى القول إنه آن الأوان أن يدرك الناس أن البشري يعشون في كوكب واحد -أو بلد واحد- بين كواكب أخرى لا حياة فيها، وأنهم يواجهون مشتركة واحدة، وإنهم ما لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 يخططوا نظم التربية وتنمية الولاء المشترك للكرة الأرضية، وتوجيه الناشئة للعمل والتعاون الجماعي بعيدا عن ألاعيب السياسيين، فلن يستمروا في الحياة أبدا. ويشترك مع -بيكر- في هذا الاتجاه آخرون نختار منهم كلا من -فرانك ب. بساج، وجاك ل. نلسون -في كتابهما المشترك- أصول التربية -حيث يخلص الباحثان إلى النتائج التي خلص إليها بكر، ويشاركانه آراءه في تحليل الظواهر العالمية القائمة. ويأخذ كل من -بساج ونلسون- على المؤسسات التعليمية، ونظم التربية أنها ما زالت تؤكد على المناهج الإقليمية والقومية، وتتجاهل التطورات الكاسحة التي تجري في بيئة الكرة الأرضية1. ويضيف الباحثان إن أخطر نتائج تجاهل هذه التطورات العالمية هو الاضطراب التي تحدثه نظم تقوم على تصورات قديمة تفتت وحدة الإنسانية، وتحيلها إلى وحدات وكتل متصارعة. وأخطر هذه النظم هي الأيدولوجيات الشيوعية، والرأسمالية والقومية، والإقليمية التي تلعب دورا أساسيا في دعم المفاهيم والقيم القديمة التي تفرز الولاء للأوضاع القائمة الشاذة، وتستعمل أساليب النفي السياسي، والمقاطعة الاقتصادية والتدخل العسكري والحرمان الوظيفي بهدف الإبقاء على الوضع القائم في العالم رغم عدم مناسبته للتطورات الجارية، ورغم ما يتسبب به من مشكلات ومجاعات، وتلوث للبيئة وتعذيب لبني البشر، وسجن سياسي وإهدار للمصادر الطبيعية، وتهديد نووي للحضارة في الكرة الأرضية كلها2. ويضيف المؤلفان إنه للوقوف على هول المأسأة التي تتسبب بها النظم   1 Frank P. Besag & Jack L. Nelson. The Foundations of Education: Statie and change. "New york: Random House Inc. 1974" p. 243. 2 Ibid, P. 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 القائمة يكفي أن ننظر في حجم الخسارة، والإهدار التي تسببه نفقات التسلح بغرض الحفاظ على الأنظمة القائمة التي تخالف الطابع العالمي الجديد1. وفيما يلي بعض الأمثلة التي يقدمها الباحثان لهذا الإهدار في نفقات التسلح: 1- إن الميزانيات العسكرية في 25 دولة من أفقر الدول تفوق دخل بليونين من السكان. 2- إن الميزانية السنوية التي تنفق على الأبحاث العسكرية تفوق بمقدار "6" ست مرات الميزانية التي تنفق على الطاقة في العالم كله. 3- إن ميزانية الأبحاث العسكرية التي تجري سنويات في العالم تفوق ميزانيات الأبحاث الأخرى المتعلقة بقضايا الصحة والتربية، والزراعة وغيرها. 4- إن ما ينفق على التسلح في يومين اثنين يكفي للإنفاق على الأمم المتحدة في العالم كله. 5- إن ما ينفق لبناء غواصة واحدة يساوي ما ينفق على تعليم 16.000.000 ستة عشر مليون طالبًا سنويًّا. 6- إن ما ينفق على الجندي الواحد يزيد بمقدار "65" مرة عما ينفق على تعليم الطفل الواحد. لذلك كله يقترح الباحثان التركيز على تطوير التربية، وتنويرها لإبراز مخاطر هذه الجمود المتمثل في الظواهر المفرقة للجنس البشري، وما تفرزه من صراع دولي. وإن هذا التركيز يتوافق مع أهم أهداف التربية في تحسين الحضارة، وتنمية الفكر الناقد المتحرر. ويقترح الباحثان نموذجا لأهداف التربية الدولية المنشودة، ويصنفان هذه الأهداف في التالي: السلام.   1 Ibid, P. 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 والرخاء الاقتصادي. وتوازن البيئة. والعدل الاجتماعي والمشاركة السياسية. كذلك يقدمان لهذه الأهداف الخمسة تفريعات، وتفصيلات تستهدف التأثير في برامج التربية وتطويرها1. والشكل الثاني، من أشكال المدرسة المثالية هو المحاولات التي تقوم بها كل من اليونسكو، والأمم المتحدة لتطوير نظام تربوي عالمي يعمل على تقوية مظاهر التعاون بين شعوب العالم. أما عن دور اليونسكو فقد بدأت نشاطاتها في ميدان التربية الدولية منذ الستينات -بل لعل الفكرة نشأة أصلًا في أروقتها. ولكن أبرز أعمالها في هذا الشأن هو ما قامت به عام 1971 حين عمدت إلى تشكيل لجنة دولية لدراسة كيفية النهوض بالتربية الدولية. ولقد تألفت اللجنة برئاسة السيد إيدجار فور الرئيس السابق لمجلس الوزراء الفرنسي، والوزير السابق للتربية الوطنية وعضوية كل من: - فيليب هيريرا: أستاذ بجامعة تشيلي، والرئيس السابق لبنك الأقطار الأمريكية للتنمية. - عبد الرزاق قدورة: أستاذ الفيزياء النووية بجامعة دمشق. - هنري لويس: وزير الشئون الخارجية، والوزير السابق للتربية الوطنية في جمهورية الكنغو الشعبية. - آرثر ف. بتروفسكي: أستاذ وعضو مجمع العلوم التربوية في الاتحاد السوفياتي.   1 Ibid, PP. 248-249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 - مجيد رحنامة: الوزير السابق للتعليم العالي والعلوم في إيران. - فريدريك شامبيون وورد: المستشار في شئون التربية الدولية لدى مؤسسة فورد. ولقد لخص رئيس اللجنة في رسالته التي وجهها إلى المدير العام لليونسكو أهداف اللجنة فقال: "لقد أردنا، نزولا عند رغبتكم، أن تكون نقطة الانطلاق في عملنا هي دراسة حالة التربية عام 1972 دراسة نقدية، أي أن ننظر إلى الأمور من زاوية عالمية لكي نستخلص الخصائص المشتركة التي لا يمكن فهم الكثير منها، إلا بالرجوع إلى الماضي، مثل الاتجاهات الجديدة المنتشرة اليوم في أغلب الأقطار على اختلاف أنظمتها، ومثل العوامل التي أخذت لأول مرة في التاريخ تؤثر في تطور التربية أو ترافق تطورها. وهكذا آل بنا الأمر إلى الحديث عن "المشاكل المستعصية"، فخصصنا لها جزءًا من هذا التقرير"1. والتقرير المشار إليه هو خلاصة عمل اللجنة التي تشكلت بناء على القرار الصادر عن الجمعية العامة لليونسكو خلال دورتها السادسة عشرة عام 1970، ثم قضت عامين من العمل، وزيادة أقطار العالم واستشارة الخبراء التربويين فيه، ثم جمع المعلومات وتحليلها إلى أن صدر التقرير بشكله النهائي تحت عنوان Learning To Be الذي ترجم إلى العربية بعنوان "تعلم لتكون". وأما عن دور الأمم المتحدة، فأبرز مظاهر الدعوة إلى -عالمية التربية- هو العمل على إنشاء -جامعة الأمم المتحدة. وأساس هذا المشروع أن الشباب في العالم يشتركون في أمور كثيرة، ولهم اهتمامات وحاجات مشتركة، وإنهم يملكون إحساسًا مشتركًا بما يعني   1 إيدجار فور وزملاؤه، تعلم لتكون، ترجمة الدكتور حنفي بن عيسى "الجزائر: اليونسكو -والشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1976"، ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وجود نظام عالمي يحل السلام على الأرض. وهم أيضا سيتسلمون مسئولية المستقبل الذي سوف تتداخل فيه روابط الشعوب بشكل أعمق وأوسع. وإزاء هذه التوقعات ظهرت فكرة -جامعة الأممة المتحدة- وبناء نظام تربوي ذي طابع عالمي هدفه -كما يقول هارولد تايلور- كالتالي: "إن جامعة الأمم المتحدة مجهود يستهدف حشد الذكاء المنظم لدى الجنس البشري لحل مشكلات العالم على أساس عالمي، وذلك باستعمال قدرات الفكر، والذكاء لاستنباط حلول جديدة، وتعليم فلسفة جديدة"1. وخلاصة فكرة -جامعة الأمم المتحدة- هو اختيار عدد مناسب من الطلاب من جميع أقطار العالم ثم إعدادهم لتولي مناصب القيادة في أقطارهم بعد أن يجري توحيد اتجاهاتم، وأفكارهم بما يخدم الأهداف العالمية المشتركة. ولقد تم الاتفاق على أن لا يكون لهذه الجامعة مباني محددة، وإنما تتكون من إدارة عالمية تتخذ مركزها في -طوكيو- في اليابان، ويقوم إلى جانب هذه الإدارة مجلس للجامعة يتكون من خبراء من أقطار العالم. ثم برنامج تربوي يعتمد أساسا على المؤتمرات والزيارات، والمحاضرات والأنشطة والرحلات المشتركة للدارسين في هذه الجامعة. ولقد تحمست لهذا المشروع دول عديدة وتبرعت اليابان بـ100 مليون دولار لها إلا أن الولايات المتحدة، وروسيا والدول الغربية لم تتحمس لها إجمالا واقتصرت مشاركاتها على عدد من الأفراد والمؤسسات، وما زالت الفكرة لم تتعد الاجتماعات والمداولات2.   1 Harold Taylor, A University For the world: the United Nation Plan. "Indiana, Bloomington: Phi Delta Kappa Educational Foundation, 1975" P. 47. 2 Ibid, PP. 40-41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 ب - الاتجاه الثاني: المدرسة الواقعية Realistic: وأعضاء هذه المدرسة ينتشرون في ميادين التربية والأنثروبولوجيا، والعلوم السياسية والحضارات، وهم يفكرون من منطلق -الدارونية الاجتماعية Social Darwinism- التي تؤمن بنظرية الصراع بين الأجناس، ويطبقونها في ميدان الحياة الاجتماعية وعلاقات الطبقات والشعوب. ويؤمن -الواقعيون- بأثر المستجدات الجديدة التي أدت إلى عالمية العلاقات والنشاطات، وعالمية التأثير في ميادين الحياة المختلفة. ولكنهم حينما يفكرون بمواجهة المشكلات الناجمة عن هذه المستجدات، فإنهم لا ينطلقون في حلولهم من الفلسفات المثالية وتوجيهات الدين، وإنما ينطلقون من الواقع الدنيوي القائم، ويؤمنون بحلول وإجراءات تتناسب مع هذا الواقع دون اعتبار لمقاييس الخير والشر، والفضيلة والرذيلة والحساب والعقاب في الحياة الآخرة. وحين يتحدث هؤلاء عن -التربية الدولية- يكون مرادهم إعادة النظر في مناهج التربية وطرائقها، وأسسها في أقطار الدول المتقدمة صناعيا وعلميا التي ينتمون إليها، بحيث يكون الهدف هو إخراج جيل قادر على أمرين: الأول: رفع درجة استثمار موارد البيئة المحلية بالوسائل المناسبة للزمان والمكان، والثاني، إدارة دفة الصراع الدولي القائم في ميادين الاقتصاد والسياسة، ثم الهيمنة على موارد الكرة الأرضية ومقدراتها وسياساتها، دون اعتبار للضرر الذي سيلحق بالشعوب المهزولة؛ لأن هذه هي قوانين الصراع والبقاء للأصلح. ولذلك حين تناقش قضايا التفجر السكاني وتلوث البيئة، ومحدودية مصادر الأرض، فإن الحلول التي يطرحها أعضاء المدرسة الواقعية تدور حول التخلص من الزيادة السكانية التي غالبا ما توجد بين شعوب العالم الثالث في آسيا، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ لأنها -حسب رأيهم- شعوب تستهلك ولا تنتج، وتلوث ولا تنظف؛ ولأن نظمها وثقافاتها تندرج في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 عداد العقبات التي تواجه الباحثين عن حلول للمشكلات القائمة. فهي شعوب متوحشة تعاني من طغيان الدكتاتورية والتخلف العلمي، والفوضى الإدارية، واضطراب سلوك الفرد وتفكيره، وانعدام النظام وعدم الإنتاج والعيش معيشة الديدان الطفيلية. أما الوسائل التي تقترح للتخلص من هذه الزيادة السكانية، فتتركز حول استغلال تناقضات شعوب العالم الثالث، وجهلها ورواسب التخلف فيها مثل العصبيات القبلية والإقليمية، والطائفية والأغلال الثقافية والاجتماعية لإشعال الفتن بين أهلها، ثم تزويدهم بالسلاح ليقتل بعضهم بعضا، ويبيد بعضهم بعضا. والأفكار التي تناولت هذه القضايا عديدة متكررة. منها ما ذكره -هارولد تايلور- حيث قال معلقا على عدم مشاركة الدول الكبرى بمشروعات التربية الدولية كما تطرحها المدرسة المثالية: "من المؤكد أن الأزمات التي نتحدث عنها مثل: الزيادة الهائلة في السكان، ونقص إنتاج الغذاء في العالم، وخطر الحرب الذرية، وتصاعد التسلح، وهيمنة الدكتاتوريات العسكرية، واللجوء إلى قوة السلاح لحل النزاعات السياسية، واستنزاف مصادر الكرة الأرضية، هي مخاطر حقيقية وقائمة. وهناك احتمال قوي إذا لم تتخذ خطوات حاسمة للتغلب على هذه المخاطر، فإننا سوف نجد أنفسنا -في يوم معين- خلال القرن الآتي مضطرين لقتل وتجويع، وبتر نسبة كبيرة من سكان الكرة الأرضية حتى يتيسر للبقية أن تبقى على قيد الحياة في معسكر يعيش تحت هيمنة أولئك الذين يمتلكون أغلب الأسلحة المخزونة القوية"1.   1 Harold Taylor, OP. Cit. P. 46. الدكتور هارولد تايلور من الشخصيات التي عملت في الجامعة والسياسة. فقد عمل في جامعة برنستون، وكلية سارة لورنس. وفي عام 1973 عهد إليه تأليف وفد الولايات المتحدة إلى جامعة الأمم المتحدة. وفي عام 1974 عمل موفدا من وزارة الخارجية الأمريكية إلى كل من الهند، وماليزيا، وتايلاند، وأندونسيا، واليابان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 ويقول -باري كومنر: "الحرب ... وسيلة لحل المشكلات الاجتماعية، وإنما بعملية بيولوجية هي -الموت. وأنا أعتقد أن الوسيلة نفسها أداة صالحة لتحديد عدد السكان"1. ويناقش -جاريت هاردن- أستاذ علم البيئة في جامعة كالفورنيا في مدينة سانت باربرا، قضية مساعدة الأقطار الغنية للأقطار الفقيرة حيث يخلص إلى أن ثلث أقطار العالم أقطار غنية بينما الباقي فقراء، وإن مثال الأولى مثال ركاب في رقاب نجاة عددهم "50" خمسون والقارب يتسع لـ"ستين". بينما هناك مجموعة من الناس تقارب المائة إلى جانب القارب تتقاذفها الأمواج وتتعرض للغرق. فهل ينقذ أهل القارب منهم عشرة أفراد؟ وكيف يختارون العشرة؟ وإذا اختاروا إنقاذ الجميع فسوق يصبح ركاب القارب مائة وخمسين راكبا وينتهي أمره إلى الغرق. ولذلك فمن الأفضل ترك كل فريق لمصيره، ونتائج ما هو فيه2. ولم تر هذه الآراء وأمثالها الداعية إلى وأد ملايين البشر كحل جراحي لمشكلة زيادة السكان، بدون ردود. فقد انبرى عدد من الكتاب لتفنيد المشكلة المزعومة. من ذلك ما كتبه كل من -فرانسيس مور لابي، وجوزيف كولنز- في كتابهما المسمى -الغذاء أولًا. ولقد أورد المؤلفان كثيرًا من الشواهد والأدلة على أن المشكلة ليست في زيادة سكان الأرض، وإنما في احتكار مصادر الغذاء والإنتاج، وعدم تمكين الأكثرية الفقيرة من استعمالها، وأن مشكلة الجفاف في قارتي أفريقيا وآسيا -مثلا- سببها تآمر الشركات الدولية الاستعمارية التي احتالت على تلك الأقطار، وحولتها من   1 Barry Commoner. The Closing Circle "New york: Knoff, 1977" P.249. 2 Garrett Hardin "Lifeboat Ethice: The Case Against Helping the Poor". in, Philosophy and contemporary Issues. ed by John R. Burr & Milton Goldin Ger. "New york: Macmillan Publishing Co, 1980" PP. 197-205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 نظمها الزراعية التقليدية التي كانت توفر الغذاء للسكان المحليين، ثم استأجرت أراضيها لرزاعة منتوجات مترفة غير رئيسية كالموز والكاكاو والدخان، بالإضافة إلى قطع أشجار الغابات فيها من أجل صناعة الأخشاب العالمية، وهذا كله جلب الفقر والجفاف وأفقر التربة في القارتين المذكورتين، أضف إلى ذلك ما قامت به الدول الاستعمارية التي تنفذ سياسات الشركات الدولية من إفساد نظم التربية في العالم الثالث، وتحويل جماهيره من التربية الزراعية والمهنية إلى جماهير عاطلة مكدسة في دوائر حكومية لا حاجة لها1. ويبدو أن السياسات الدولية التي تنتهجها الدول القوية -بعد انتهاء فترة الحرب الباردة في أوائل التسعينات- أخذت تتجه لتطبيق آراء المدرسة الواقعية التي تفترض أن يد الله مغلولة، وأن الواجب هو تطبيق عمليات الوأد الجماعي خشية الفقر، والإملاق في الكرة الأرضية. والخلاصة أن برامج التربية الدولية الجارية تتعثر تعثرا كبيرا خاصة، وأن اليونسكو -التي ترعى الاتجاه المثالي- قد تعرضت منذ عقد الثمانينات بسبب هذا الاتجاه إلى هزات شديدة حيث انسحبت منها الولايات المتحدة وبريطانيا، وقطعتا عنها حصتهما في المزانية إلى أن استقال أمينها العام -آنئذ- السيد أحمد بامبو. والواقع أن أخطر نقاط الضعف في مفاهيم التربية الدولية القائمة أنها تضع الإنسان في غير مكانته، وتنطلق به من غير طبيعته. فالمدرسة المثالية تضعه في منزله أرقى من منزلته الحقيقة: منزلة العبد المخلوق الذي يحتاج إلى إرشاد الخالق وتوجيهه. فالإنسان -مهما تسامى- لا بد أن يكون لتساميه نفع مرتقب كالثواب الذي يعد به الدين، وأن يكون لسقوطه مسئولية كالعقوبات الدنيوية، والأخروية التي يهدد بها الدين كذلك. كذلك تفتقر الفلسفات المثالية إلى الأساليب، والوسائل الفعالة لتنفيذ ما تدعو إليه وتبشر   1 Francis Moor Loppe & Joseph Collins, Food First, "Boston: Houghton Kifflin Co, 1977". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 به. فالدراسات التي قامت بها اليونسكو -رغم الجهود التي بذلت من أجلها- لم يكن لها من أثر إلا تثقيف نفر من المفكرين والمثقفين. والجامعة التي اقترحتها الأمم المتحدة لا تعدو عن إفراز نخبة من الأرستقراطيين العالميين. أما المدرسة الواقعية فهي مدرسة غير واقعية؛ لأنها تتصدى لمضاعفات الأزمة دون الأسباب الحقيقية لها. فهي تعالج طبقا لمصالح الطبقة التي تسبب بالأزمة نفسها. ذلك إن النقص القائم في الاقتصاد، والاضطراب المستعر في العلاقات سببه تفشي روح الترف والجشع والاحتكار، وما ينتج عن ذلك من صراعات دولية وطبقية ونفقات حربية: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] . وروح الترف والجشع والاحتكار المعاصرة تجاوزت جميع الحدود التي عرفتها البشرية، وهي تستغل جميع العقائد والقيم والقدرات العقلية والنفسية، والمادية لمزيد من الاحتكار والترف. وحين تبرر المدرسة الواقعية ممارسات الذين يتسببون بالأزمة القائمة، وتدعو للإجهاز الكامل على ضحاياها؛ فلأن هذه المدرسة تمثل إحدى اتجاهات -الدارونية الاجتماعية Social Darwinism التي بررت عمليات القتل والإبادة لصالح الأثرياء والأقوياء، وأسهمت من إشعال الصراعات الطبقية في الداخل والعالمية في الخارج. والواقع إن المدرسة الواقعية تمثل نكسة في الفكر الإنساني وردة فعالية في العودة إلى ممارسات -الوأد، ولكنه الآن وأد الشعوب بعد أن كان مترفو الماضي وفراعنته يقتصرون على وأد الأفراد المواليد من المذكور، واستبقاء الإناث. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الحل إذن؟ للأزمة القائمة؟ لعل الجواب هو نموذج التربية الدولية -كما هو في محتواه النظري في أصول التربية الإسلامية. أقول -محتواه النظري- لأن الواقع العملي في حياة المسلمين يخالف هذا النموذج ويصطدم به، ولكنه يظل نموذجا فريدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 ومجديا طالما إن نظم التربية الدولية تتداعى للتفتيش في تراث الإنسانية كلها عن نموذج يعالج الأزمة القائمة. فالنموذج الإسلامي مزيج من المثالية والواقعية الحقيقية، فهو يعمد إلى توعية العناصر الصالحة من البشرية كلها وتربيتهم، وتوثيق شبكة العلاقات الاجتماعية بينهم من خلال صلاة الجماعة، والحج وروابط الإيمان والإيواء والنصرة التي مرت في باب الأمة المسلمة، ثم يوجه هذه الكتلة العالمية للقيام بعمليات الإصلاح اللازم، ولإجراء عمليات الجراحة البشرية لبتر الأعضاء الميتة الفاسدة من المجتمعات البشرية، ومحاربة شياطين الترف والجشع والاحتكار، والشر بمراتبهم الثلاثة التي مرت وهو ما يوفره -عنصر الرسالة والجهاد. أما تفاصيل الخطوط العريضة لتطوير النظم التربوية الدولية -حسب الأصول الإسلامية- المشار إليها، فهي موضوع الفصل التالي من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 الفصل الثاني والثلاثون: التربية الإسلامية ووحدة الجنس البشري الأصول العقدية والاجتماعي لوحدة الجنس البشري ... الفصل الثاني والثلاثون: التربية الإسلامية ووحدة الجنس البشري تعمل التربية الإسلامية للوصول إلى وحدة الجنس البشري من خلال أمرين اثنين: الأول، غرس الإيمان بوحدة الإنسانية، والتعريف بالأصول العقدية والاجتماعية لهذه الوحدة. والثاني، اتخاذ الخطوات العملية، وتوفير الأساليب التربوية التي تحول هذه الأصول النظرية إلى ممارسات عملية في واقع الإنسانية كلها. وفيما يلي عرض لكل من هذين الأمرين: 1- الأصول العقدية والاجتماعية لوحدة الجنس البشري: الأصل في الجماعات البشرية المتناثرة في الكرة الأرضية هي الوحدة. أما التنوع والاختلاف القائمان فلها هدفان: الأول، تنوع السلالات والأعراق والشعوب، والقبائل بغية التمييز بين الجماعات، وتسهيل التعارف بين أفراد الجنس البشري: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . والهدف الثاني، هو تنوع الاستعدادات والقدرات واختلاف المهن والتخصصات في ميادين الفكر، والتشريع والإدارة والمهن العسكرية والتكنولوجية، والاتجاهات العلمية والذوق الفني وهكذا. ومن الطبيعي أن يلحق بهذا التنوع، والاختلاف العوامل التي جعلها الله أسبابا لذلك مثل تنوع البيئات، والثقافات واللغات وغيرها. وإلى هذا التنوع يشير قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] . فالناس جميعا -إلا من رحم ربك- مبتلون -أي ممتحنون- فيما آتاهم الله من القدرات والاستعدادات المتباينة المختلفة، ومطلوب منهم أن يتسابقوا في استعمالها من أجل توفير الخيرات للخلق كلهم -لا للأغراض الفردية والأنانيات الشهوانية- وإن إلى الله مرجعهم وهو سينبؤهم فيما اختلفوا فيه حول استعمال هذه القدرات، وأي الاستعمالات كانت استعمالات خيرة، وأيها كانت استعمالات شريرة. والواقع أن الفهم السليم لهذا التنوع والاختلاف في الأجناس، والثقافات وفي القدرات والاستعدادات منافعه ومزاياه: إذ من خلاله يستطيع الناس أن يتعرفوا على ما لدى بعضهم بعضا من خصائص ثقافية وحضارية، وأن يفهموا تاريخهم الماضي ويقدروا إنجازاتهم في الحاضر. ومن خلاله تصبح الحياة غنية جميلة متجددة الخبرات، متنوعة العطاء والمسرات، فلا تكون -دائما- نمطا واحدا رتيبا يقابله الإنسان في كل وقت، ويطالعه أينما توجه في أرجاء الأرض كلها. ومن خلال هذا التنوع والاختلاف تثرى المعرفة الإنسانية والعلوم، والإنجازات وتزداد عملية تبادل العطاء الحضاري، والإنتاج المادي والمعنوي، وتتوفر المساواة والرضى النفسي فلا ينقسم البشر إلى قسمين: يد عليا تعطي، ويد سفلى تتلقى، وإنما يكون العطاء متبادلا كل يشبع حاجته النفسية في الإنتاج وتحقيق الذات، ويشبع حاجة الإنسان المقابل الذي يعايشه في المحبة والاحترام، وبذلك يصبح الإنسان بين حالتين: يعطي ويأخذ، فيشكر ويشكر، ويحب ويحب، فتتوثق روابط الأخوة وترسخ دعائم الوحدة الإنسانية. ولكن لا بد من ملاحظة أمر هام وهو أن التواصل والتوادد المشار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 إليهما لا يتمان إلا إذا قام الناس كلهم بأدوارهم في الإنتاج، ووازنوا بين العطاء والأخذ وتوظيف القدرات والاستعدادات. وبدون ذلك يضطرب توازن العلاقات بين البشر، فالذين يعطون ولا يأخذون يصابون بالتخمة والتعالي، والذين يأخذون ولا يعطون يضر بهم الحرمان والضعة. وبذلك ينقلب التنوع والاختلاف عن هدفهما، وتنقسم البشرية إلى نوعين من المجموعات: مجموعة متقدمة متحضرة تنتج تعطي وتمارس دور اليد العليا، ومجموعات متخلفة تأخذ، وتستهلك وتمارس دور اليد السفلى، ولذلك مضاعفات السلبية التي تلحق الأذى بالاجتماع البشري، وتحدث الاضطراب فيه. ويروي القرآن أن المجتمع البشري عاش طورًا سابقا تسوده الوحدة، ولكن خلال مراحل التطور الثقافي والاجتماعي اختلفت المستويات في الفهم والتطبيق، فكان من ثمرات ذلك خروج البعض عن المنهج الصحيح وإفراز مضاعفات الحسد، والبغي والكسل والتقاعس عن أداء الأدوار وينتج عن ذلك كله الانقسام إلى جماعات متباينة العقائد والقيم والثقافات، ومختلفة المنازل والمكانة. {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19] . {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] . والإشارات القرآنية المتعلقة بهذا التطور، وما نتج عنه من تنوع واختلاف تحمل توجيها مؤكدا ليقوم الإنسان بالبحث العلمي في تاريخ المجتمعات الإنسانية للوقوف على تفاصيل هذا التطور وآثاره الإيجابية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 والسلبية، وللوقوف من خلال هذه التفاصيل على صدق الخبر الذي يقدمه القرآن حول هذا الشأن، وتوظيف هذا الصدق في تقويم المسيرة الإنسانية، والعودة بها إلى سابق وحدتها. وانطلاقا من ذلك كله وضعت الرسالة الإسلامية في أصول منطلقاتها التربوية بذل الجهد -بما فيه جهد المال والنفس- لرد الإنسانية إلى سابق أصلها ووحدتها: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] . {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] . وفي الحديث النبوي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع قال: "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى أبلغت؟ " قالوا: بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم"1.   1 مسند أحمد، جـ12 "تحقيق الساعاتي"، ص226، رقم 427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 2- الأساليب والوسائل العملية لتحقيق الوحدة الإنسانية : لتحقيق هدف -وحدة الإنسانية- عملت التربية الإسلامية على توفير ثلاثة أمور هي: الأول، جهاز تربوي ضخم يتناسب حجمه مع حجم البشرية التي تسكن الكرة الأرضية. والثاني، مؤسسات تربوية تتسع للجهاز التربوي المشار إليه وتوفر له القيام بوظيفته بين أهل الأرض جميعًا. والثالث، أساليب تربوية لها من الشمول والواقعية، وقلة التكاليف بما يتناسب مع الهدف المذكور. أما هذه الأمور الثلاثة فهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 أولًا: الجهاز التربوي العامل لتحقيق وحدة الإنسانية -الأمة المسلمة: تطلق التربية الإسلامية على هذا الجهاز مصطلح -الأمة- وهو مصطلح -كما قلنا- ذو محتوى فكري نفسي، ويختلف عن مصطلحات "الشعب" و"القوم" ذات المحتويات الدموية والجغرافية، وهو ذلك لا يقابله مصطلح مماثل في اللغات الأخرى كما فصلنا ذلك في باب -إخراج الأمة المسلمة. ولذلك تحمل -الأمة المسلمة- مواصفات معينة لا تستيطع القيام بوظيفتها التربوية إلا إذا اتصفت بهذه المواصفات كاملة، وهي المواصفات التي استعرضناها في الباب الثالث من هذا البحث. ولقد رأينا -عند استعراض مفهوم الأمة المسلمة ومكوناتها، ووظيفتها- أن الأصول الإسلامية تشترط على الأمة المسلمة ما يشبه التفرغ لآداء وظيفتها في التربية الدولية. فالقرآن يشترط عليها بذل الجهد الدائم، ورصد المقدرات -من المال والأنفس- في سبيل هذه الوظيفة. والرسول يحذرها من -اتباع أذناب البقر- أي الانغماس في الزراعة، و -التبايع بالعينة- أي الانغماس في التجارة انغماسا ينحرف ينحرف بها إلى الحد الذي ينسيها وظيفتها التربوية، ويجعلها تضع الوسائل محل الأهداف: أي تسهو عن وضع المال والأنفس في سبيل الرسالة، وإنما تستغل الرسالة ومؤسساتها لجمع المال وترفيه النفس. والأمة المسلمة المخرجة لممارسة التربية الدولية لا تفرزها المصادر الدموية، أو العرقية وإنما هي تجميع وتركيب وإخراج مستمر لـ"أمة" لا يقتصر تكوينها على جنس من الأجناس، أو عرق من الأعراق وإنما هي أمة مفتوحة لجميع العناصر الصالحة من الإنسانية كلها، والتي ترغب المشاركة في وظيفة الأمة المسلمة، وتسهم في تكاليفها ومتطلبات البذل في سبيلها، وهذه هي وظيفة التربية المستمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 والناظر في نشأة الأمة المسلمة على يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجد أنها -منذ الأيام الأولى- حملت سمات العالمية في تكوينها. فالطليعة التي اعتنقت الإسلام، وكونت العامود الفقري في الأمة المسلمة آنذاك لا يمكن أن تنسب إلى الجنس العربي؛ لأنها كانت - بما فيها الرسول نفسه- تحمل في دمائها سمات العالمية من خلال الهجرات القديمة واختلاط العناصر. كذلك فإن دم إبراهيم الكلداني يجري إلى ولده إسماعيل مختلطا بدم المصرية هاجر، ثم يختلط دم إسماعيل هذا بدماء قبيلة جرهم اليمنية، ليكون ما عرف باسم -العرب المستعربة. وإلى جانب العرب العاربة، والعرب المستعربة -أو العرب بالتجنس- ضمت الأمة المسلمة -الوليدة الفارسي والرومي والحبشي، وجمعت بين الأحرار والعبيد، والأغنياء، والفقراء. وفي كتب التفسير والسيرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذكر للمسلمين أن العروبة ليست فيهم من أب وأم، وإنما هي اللغة، وإنه ذكر أن سلمان أول ثمار الفرس، وصهيب أول ثمار الروم، وبلال أول ثمار الحبشة1. ولقد استمرت مسيرة الحضارة الإسلامية -بعد عصر النبوة- تحمل صفة العالمية في تركيبها الاجتماعي، ونشاطاتها الحضارية حيث أسهم في بنائها العربي والفارسي والتركي، والرومي والهندي والكردي والإفريقي وغيرهم من الأجناس، والأعراق الذين تكاملت جهودهم في جميع الميادين. ولكن سياسات -التعرب بعد الهجرة كما يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسلبيات العصبية القبلية التي ارتد إليها طلقاء مكة بقيادة الأمويين ومن حذا حذوهم، ثم إفرازات الشعوبية التي صاحبتها، كدرت المسيرة العالمية للأمة المسلمة، وكانت عاملا أساسيا في تشويه بنيتها والانتهاء بها إلى المرض ثم الانهيار.   1 الطبري، التفسير، ج22، ص96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 ثانيا: المؤسسات الإسلامية للتربية العالمية هناك عدد من المؤسسات التي أقامتها التربية الإسلامية للإسهام في تحقيق التربية العالمية، وهذه المؤسسات هي: أ- الأرض المباركة: التي يشير إليها القرآن الكريم عند قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] . وتشمل هذه الأرض المنطقة التي رسمت حدودها مسيرة هجرة إبراهيم عليه السلام، ثم اتخذها هو والرسل من ذريته قاعدة لرسالاتهم وجهادهم، وتضم بلاد الشام، والهلال المحيط بها ابتداء من أرض الرافدين ومرورا بالحجاز حتى أعالي مصر. والقرآن الكريم يضفي على الرسالات المشار إليها طابعا واحدا يتلخص في العمل على إخراج "أمة الوسط" التي تبنى ثقافتها وقيمها على أساس الإيمان بالله، وتخطط استراتيجياتها على الأساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العالم كله. وبذلك تتحدد معالم الحضارة التي يجب بناؤها في الأرض المباركة، ونوع المؤسسات التربوية والفكرية العالمية التي تعدها "أمة الوسط" لنشر هذه الحضارة المؤمنة -الراشدة، وإرساء سياساتها المحلية والعالمية، وإقامة علاقاتها مع الأقطار المجاورة، وما يتلوها في الشرق والغرب والشمال والجنوب طبقا لوظيفة "أمة الوسط" المناطة بها. ب- المساجد والمراكز التربوية: وأبرز هذه المساجد -أو المحور الرئيسي فيها- هو المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم وولده إسماعيل في الطرف الجنوبي للأرض المباركة. ثم المسجد الأقصى الذي أقيم في الطرف الشمالي المقابل. والربط بين أرض المسجدين سواء في تقسيم أسرة إبراهيم بينهما، أو توجيهات موسى عبر سيناء إلى فلسطين، أو توجيهات سليمان من فلسطين إلى مملكة سبأ، إنما كان هدفه تحقيق التكامل بين المؤسستين الرئيسيتين وهما: المسجد الحرام والمسجد الأقصى. ولقد بلغ هذا التكامل الأوج في المرحلة التي انتهت برسالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 محمد -صلى الله عليه وسلم، حيث أعاد للمسجد الحرام مكانته وبنى إلى جانبه المسجد النبوي الشريف. ثم إن الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى يشير إلى ربط مركز التربية بمركز الدعوة والنشر. فإذا كان المسجد الحرام هو -المثابة- التي يتوجه إليها الناس في صلاتهم، ويؤمونه في حجهم طلبا للتزكية، والمثوبة إلى الرشد بعد الضلال، فإن المسجد الأقصى هو مركز الدعوة والتعليم الذي يقدم للغادين، والرائحين بين مشارق الأرض ومغاربها مبادئ الرسالة التي تستهدف الارتقاء بهم إلى روابط الإيمان، والوحدة والأخوة. وهذه هي الاستراتيجية التي حرص أبو بكر الصديق على تعميقها في نفوس جيوش الفتح الإسلامي التي توجهت إلى بلاد الشام، حين أوصى هذه الجيوش بقوله: "إنكم تقدمون الشام، وهي أرض شبيعة، وإن الله ممكنكم حتى تأخذوا فيها مساجد، فلا يعلم إنما تأتونها تلهيا، وإياكم والأشر"1. وهي أيضا السياسة التي اختطها -بوعي وقصد- كل من نور الدين، وصلاح الدين وجيلهما حين طهروا بلاد الشام من أوكار الفساد الفاطمي وبذلوا أنفسهم لتطهيرها من الكفر الصليبي، ثم أنفقوا أموالهم لملئها بمعاهد العلم ودور القرآن والحديث ومدارس الفقه، والعلوم والصناعات المختلفة حتى كان في القدس وحدها "80" ثمانون معهدا ومدرسة؟! والقرآن حين يربط بين المسجد الحرام، والمسجد الأقصى عند الحديث عن إسراء الرسول -صلى الله عليه وسلم- يذكر -بما يشبه التهديد، والتحذير- أنه في كل مرة ينحرف المقيمون في هذه الأرض عن وظيفة -أمة الوسط- ويستبدلون المساجد بالقصور والفلل، ومراكز بدور اللهو والتجارة   1 كنز العمال، جـ3، ص713. الأشر: البطر. شبيعة: مشبعة بالخيرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 ومتنزهات السياحة، فإن الله يرسل عليهم عبادا أولي بأس شديد ليجوسوا خلال الديار، ويدمروا مؤسسات الترف واللهو التي صرفت الأمة عن وظيفتها التربوية، وليفرغوا -ما حول الأقصى- لقدوم "أمة وسط" جديدة تلتزم هذه الوظيفة، وتقدم ما تتطلبه من تضحيات ونفقات1!! جـ- طرق وأساليب التربية الإسلامية في التربية العالمية: حددت التربية الإسلامية طرق، وأساليب عديدة لتربية البشرية، والتدرج بها نحو الوحدة العالمية. وأول هذه الطرق هو التوجه العالمي في الخطاب القرآني. ففاتحة الكتاب تبدأ بتوجيه "الحمد لله رب العالمين" أي لرب العوالم كلها: عوالم الإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد، الذي ربط بين حلقاتها ونسق وجودها وبيئاتها، وهذه بداية تستهدف إنهاء فاعلية "ثقافات" الحمد العصبية القومية والإقليمية والقبلية والطائفية، والأسرية المفرقة للعوالم المذكورة، الملوثة لبيئاتها الملحقة للأذى، والخراب في نظمها وعلاقاتها. فالأساس في إرساء أصول التربية العالمية التي توجه إليها التربية الإسلامية هو الهجرة من دوائر الولاء للعصبيات المختلفة، ثم الارتقاء بعناصر الأمة المسلمة: أي عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد، والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية، لتتفاعل على دائرة الولاء للأفكار الإسلامية   1 لعله من الموضوعية والنصح المفيد أن نقول: أن ما يدور -الآن- في منطقة ما حول الأقصى من فتن طائفية وإقليمية، وما يحل بأهلها من هجمات عدوانية سببه الرئيسي أن أهلها المعاصرين تخلوا منذ زمن عن دورهم في نشر الرسالة، والتربية العالمية وأغلقوا مؤسساتها ثم تحولوا إلى سماسرة دوليين في الاقتصاد والسياحة، واستبدلوا العلماء المربين بالمغنين والراقصين، والمساجد بدور اللهو، والمنابر بالأثاث والسرر، والعدل بالظلم، والإخوة الإيمانية بالعصبيات الإقليمية والقبلية والطائفية. وليست هذه الهجمات المتوالية التي تشن عليهم من أيام الصليبيين ومرورا بالمحتلين، والمستعمرين من الإنكليز والفرنسيين حتى الهجمة الصهيونية، ومضاعفاتها إلا تطبيق من تطبيقات التحذير الإلهي الذي ورد في مطلع سورة الإسراء، وقدم له بمثال من قوم موسى وبني إسرائيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 الموحدة للإنسانية كلها تحت "ثقافة" واحدة وعوالم الغيب غير المشهود: عوالم الملائكة والجن وأمثالها. لا تدين بالولاء إلا لرب العوالم الأربعة المحسوسة: عوالم الإنسان والحيوان، والنبات والجماد. وتتوالى بصائر الوحي التي تتضمنها سور القرآن الكريم -بعد الفاتحة- لتقدم التفصيلات المعززة للتربية العالمية، والموجهة لسلوك إنسان التربية الإسلامية وعلاقاته بالخالق والكون والإنسان والحياة والآخرة، في ميادين الحياة المختلفة متدرجة في تشكيل أفكاره واتجاهاته، وممارساته وبروز "ثقافة" عالمية إنسانية ذات نظم وقيم وتقاليد وعادات، وفنون وممارسات متناسقة يجتمع بها صفتا التنوع، والوحدة اللتين تعطيان الحياة طابع التجدد والارتقاء. ومن الموضوعية أن نقول: إن هذا التوجه القرآني العالمي لا يمكن أن يحقق غاياته، إلا إذا نهض بهذه المهمة "فكر" متقدم يقف على ثغور الفكر الإنساني، ويقتحم ميادين البحث في مجالات الحياة المختلفة، ثم يخاطب الإنسانية كلها بـ"أحسن" مما عندها. وهذا هو السبب الذي من أجله كانت "الرسالة الإسلامية"، وأخرجت "الأمة الإسلامية" لحملها والجهاد في سبيلها. وثاني هذه الطرق هي تحديد -قبلة واحدة- يتوجه إليها بنو البشر في صلاة واحدة تكون رمزا واحدا لوحدة توجهاتهم الفكرية، واتجاهاتهم النفسية وممارساتهم العملية. ويتكامل مع -تحديد القبلة- صلاة الجماعة التي هي وسيلة فعالة في التربية العالمية، وإعادة تشكيل روابط الأفراد والجماعات لما يحقق التماسك، وحسن الجوار في عصر المدن العالمية الكبرى والبداوة الجديدة الزاخرة بالهجرات العالمية بين قارات الكرة الأرضية. وثالث هذه الطرق التربوية هو -الحج- الذي يتفق معناه اللغوي، ومحتواه الاصطلاحي مع معاني "الأمة" و"إمامة الناس"، إذ يقال: حج أي أم وقصد. والذين تنتدبهم العناية الإلهية للحج -في كل عام- إنما يرشحون لوظيفة "الإمامة" بين الناس وتزكية البشرية من أمراض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 العصبيات والطبقيات المختلفة ومضاعفاتهما في "الطغيان" و"الاستضعاف" والفتن السياسية، والمفاسد الاجتماعية. وتتناسق مناسك الحج مع أهداف التربية العالمية، وتشكل رموزا بارزة لهذه الأهداف. فـ"الإحرام"، وخلع اللباس الذي يبدأ به الحاج إنما يرمز إلى الانسلاخ التام من الولاءات العصبية والأعمال التابعة لها، ثم إعلان ميلاد إيماني جديد يقوم على الولاء الكامل لله وحده. و"التلبية" التي يرددها الحاج ابتداء من "الميقات" إنما هي تزكية من الاستعمالات الخاطئة لمفاهيم "الحمد" التي تشيعها "ثقافات" الحمد لغير الله، وتسند "النعمة والملك" إلى الأصنام الممثلة لهذه الثقافات. و"الطواف حول الكعبة" رمز لما يجب أن تطوف حوله الأفكار والإرادات والأعمال، وأن تتوحد كلها حول -المثل الأعلى- الذي جاءت به الرسالة الإسلامية، ليكون نموذجا لحياة الإنسان وواقيا له من مضاعفات الطغيان والاستضعاف. و"تقبيل الحجر الأسود" رمز لما يجب أن يقتصر عليه محبة الإنسان، وطاعته واحترامه التي تحولها "ثقافات" الصنمية إلى رموزها من الأصنام المادية والبشرية. و"السعي بين الصفا والمروة" رمز لما يجب أن يكون عليه سعي الإنسان خلال العقود السبعة من العمر الفاعل في حياة الفرد بحيث يبدأ هذا السعي من الصفاء، ولا يهبط عن المروءة. و"الوقوف على جبل عرفات" رمز لتعارف الأجناس، والطبقات على الأخوة بالله والتعاون لما فيه بقاء النوع البشري ورقيه. و"الزحف نحو المزدلفة ومنى" رمز للاستعداد، وحشد الجهود عند الجماعات الإنسانية التي تعارفت على أفكار الرسالة وتطبيقاتها. و"رمي الجمرات" رمز لتوجيه الأسلحة نحو شياطين الباطل، وحماته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 طبقا لترتيب المواجهة معهم: مرتبة الشياطين الصغار الذين يمثلهم جند الباطل وبوليسه ومخابراته، ومرتبة الشياطين المتوسطين الذين يمثلهم وزراء الباطل ومديرو أجهزته وإدارته، ومرتبة الشياطين الرؤوس الذين يجسدون "الطغيان" ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف. و"تقديم الأضاحي" رمز لـ"التضحية" في سبيل الله، واستعداد لتقديم كل ما تتطلبه الرسالة من تضحيات وتكاليف. فإذا أكمل -الحجاج- هذه المناسك طافوا "طواف الإفاضة" -أي فاضوا وانتشروا- إلى مواقع مرابطتهم في مجتمعات الأرض ليحولوا ما قاموا به من "مناسك دينية" إلى "تطبيقات اجتماعية"، وليسهموا في تزكية الإنسانية من "ثقافات" الكفر والنفاق، ومضاعفاتهما في الطغيان والاستضعاف، وليبدأوا "الجهاد" ضد شياطين الشر، والباطل بمراتبهم الثلاث التي مرت الإشارة إليها. ولتجسيد المعاني التي مرت، تحتاج وفود الحج العالمية القادمة من كل فج عميق أن تنسق سياساتها، وممارساتها طبقا لهذا "الفقه" العالمي الهادف إلى تزكية المجتمعات الإنسانية من العصبيات العنصرية والقومية، والإقليمية والطائفية والقبلية ومن مضاعفاتها في الفتن السياسية والفساد الاجتماعي الكبير، وإلى تحقيق الأخوة الإنسانية تحت راية الرسالة الإسلامية الداعية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. وهذا كله بعض ما توجه إليه الآية الكريمة: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] . وهو أيضًا بعض ما يأمر به قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . ولقد علق سفيان الثوري على هذه الآية بقوله: "إتمامهما -أي إتمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 الحج والعمر- أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله تعالى: "لله! "1. ومثله القرطبي الذي قال: "وفائدة التخصيص "لله" هنا أن العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر، والتناضل والتنافر وقضاء الحاجة وحضور الأسواق، وكل ذلك ليس فيه طاعة، ولاحظ بقصد، ولا قربة بمعتقد، فأمر الله سبحانه بالقصد إليه لآداء فرضه وقضاء حقه"2. لذلك فإن من أولى واجبات التربية الإسلامية أن تجتهد لتعميق "فقه" المعاني الإلهية التي مرت حول التربية العالمية، والبلوغ بها إلى درجة الوعي والممارسة. وبدون ذلك فسوف تتحول وسائل التربية الالمية الإسلامية إلى ممارسة فارغة من "القيم" الإسلامية التي مر ذكرها، حيث تتحول الصلاة والقبلة الواحدة إلى مجرد حركات آلية، وتولية للوجوه قبل المشرق والمغرب دون أن يكون لها محتوى من "البر" الاجتماعي و"الحكمة" الكونية، وتتحول مناسك الحج إلى رحلة شاقة مرهقة، وتظاهرات من أجل العصبيات السياسية، وتتحول تطبيقات "ليشهدوا منافع لهم" إلى رحلات سياحية، وتجارة دولية يكون المستفيد الأول منها الشركات العالمية من غير المسلمين. ثم تكون محصلة ذلك كله أن تبقى التوجيهات القرآنية حبيسة النصوص والمصاحف، ولن تجد طريقها إلى التطبيق العملي الصائب، وسوف يظل مفهوم العبادة عند المسلمين محصورا في "المظهر الشعائري" دون "المظهر الاجتماعي" و"المظهر الكوني3، وبذلك يقع الانشقاق بين "القيمة التربوية" و"رمزها المحسوس"، فتطمس القيمة ويبقى الرمز وتتحول مناسك الدين، وشعائره إلى ممارسات شكلية تشبه ممارسات الأديان الطوطمية.   1 القرطبي، التفسير، جـ2 "سورة البقرة: آية 196" ص224. 2 نفس المصدر، ص246. 3 للوقوف على تفاصيل كل من المظهر الشعائري، والمظهر الاجتماعي والمظهر الكوني للعبادة، راجع كتاب -فلسفة التربية الإسلامية- الطبعة الثالثة. المؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 الفصل الثالث والثلاثون: التناقضات القائمة بين مفاهيم التربية العالمية الإسلامية والتطبيقات الإقليمية الجارية في العالم الإسلامي التناقض الأول عالمية الإسلام في مواجهة الجنسيات الإقليمية والعصبيات المحلية التي يقوم عليها المجتمعات الحديثة في العالم الإسلامي ... الفصل الثالث والثلاثون: التناقضات القائمة بين "مفاهيم التربية العالمية الإسلامية"، والتطبيقات الإقليمية الجارية في العالم الإسلامي تعاني المجتمعات الإسلامية المعاصرة من تناقضات أساسية تحد من فاعلية الحديث عن التربية الإسلامية على المستوى الإسلامي، وتشكل عائقا وفتنة أمام انتشارها على المستوى العالمي. وتتضح هذه التناقضات من أشكال المعاناة التي يعيشها الأفراد، والجماعات في العالم الإسلامي كله ويتردد صداها في الشكاوي، والممارسات الجارية في ميادين الثقافة والاجتماع، والتربية والسياسة والأمن والرعاية الاجتماعية. ويمكن القول أن أهم التناقضات الجارية تتمثل فيما يلي: التناقض الأول: عالمية الإسلام في مواجهة الجنسيات الإقليمية، والعصبيات المحلية التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة في العالم الإسلامي وتفرز آثارا مدمرة في ميادين الحياة السياسية، والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها. ومما زاد في حدة هذا التناقض إنه لم يعد في مقدور الإنسان المعاصر أن يقيم علاقاته الاجتماعية على أساس الولاء لجماعة معينة تربطه بها روابط الدم والأرض. فالتطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات، واختلاط الأجناس البشرية في كل بقعة من بقاع الأرض -قضى على نقاء القوميات والوطنيات. كما إن العلاقات البشرية تخطت حدود الجنسيات الوطنية والقومية، وصار الإنسان بحاجة إلى علاقات جديدة تنطلق من منطلقات المبادئ، والموضوعية والإنصاف، والأخوة بين بني البشر جميعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 والأقطار التي بلغ إحساسها بهذا الوضع الجديد إلى درجة الوعي المربي نهضت إلى مواجته بشجاعة وصدق مع النفس، فظهرت -مثلا- السوق الأوربية المشتركة، وأزيلت كثير من العراقيل التي كانت تفرضها قوانين السفر، والإقامة والعمل بين قارتي أوربا وأمريكا. ولكن العالم الإسلامي الذي ارتد إلى مفاهيم العصبية، وروابطها ما زال ضحية مضاعفات هذه الردة، وما زالت نظم التربية ومؤسساتها تفتقر إلى الخبرة، والشجاعة اللازمتين لمواجهة هذا التناقض وآثاره السلبية. فهي لم تع -بعد- أهمية -جنسية الإيمان- وثقافته التي تتضمنها الأصول الإسلامية للتربية وعاشتها -الأمة المسلمة- في الماضي قبل أن ترتد إلى جنسية القومية، والوطنية وروابط العصبيات المختلفة. وما لم تطرح المؤسسات التربوية رباط الإيمان، وما لم تضع المؤسسات الإدارية، والحكومية هذا الرباط موضع التنفيذ الكامل، فسوف يظل العالم الإسلامي يعاني من آثار التناقض المذكور -وقد يتضاعف مرضه، وينتهي بمجتمعاته القائمة إلى الانحسار والتمزق والاستبدال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 التناقض الثاني: الهجرة والسير في الأرض في مواجهة قيود السفر والتنقل تعيش المجتمعات الإسلامية المعاصرة هذا التناقض بشكل مستمر. ففي حين ترعى الأصول الإسلامية حق المسلم في التنقل، والهجرة أنى شاء في ديار الإسلام وتجعل رعايته فرضا، وتخصص له من أموال الزكاة قسطا تحت عنوان -ابن السبيل، فإن قوانين السفر والإقامة، وحواجز التأشيرة ونظم الإدارة المستوردة من عند غير المسلمين تفرض على الفرد المسلم أن يدفع الضريبة من ماله، وحريته وكرامته عند كل مركز من مراكز الحدود التي أقامتها الأقطار الإسلامية الحديثة طبقا للعصبيات الإقليمية. كما إن المرور بهذه المراكز، والمطارات خبرات مؤلمة لا تمحى آثارها من النفس، وهي أدوات ضارة بعلاقات المسلمين بعضهم ببعض، بل كثيرا ما يكون التعرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 لها سببا في الاغتراب النفسي، وغسل الدماغ من روابط الإيمان والأخوة، وسببا في اليأس من مستقبل الإسلام والمسلمين. ولقد زاد في حدة هذا التناقض ما يراه الإنسان المسلم من استجابة -مجتمعات غير المسلمين- للتطورات الهائلة في وسائل المواصلات، والنقل الجوري والبري والبحري التي أحالت البشر إلى ما يصفهم علماء الاجتماع المعاصرون بـ"البدو الجدد New Nomads" الذين يركبون الطائرات، والسيارات بدل الجمال، ويسكنون الفنادق بدل مضارب الخيام. ولقد أصبحت ظواهر السياحة والسفر والتبادل العلمي والتجاري، والثقافي وتيسير فرص العمل ظواهر يتخصص بها الأفراد والجماعات وتقام لتشجيعها وإداراتها المؤسسات. وتحمل نظم التربية -في مجتمعات غير المسلمين- مسئولية رئيسية في هذا المجال في الوقت الذي تشغل نظائرها في العالم الإسلامي المتعلم في استظهار الصور الفنية، التي تقدمها أشعار بدوي ما قبل الإسلام، وهو يصف بعر الجمال وأثافي المواقد، ومضارب الخيام. وليس هناك من حل لهذا التناقض إلا أن تتصدى نظم التربية الإسلامية -أولًا- ثم تتبعها نظم الإدارة -ثانيًا- لترسيخ المفاهيم التي يشتمل عليها -رباط الهجرة- الذي تم استعراضه في عناصر الأمة المسلمة مستهدفة تحويل الناس إلى مهاجرين قادمين، وأنصار مقيمين. فهذا هو نموذج العلاقات الذي يتلاءم مع المبادئ والموضوعية، والإنصاف التي مرت الإشارة إليها كضرورة من ضرورات التطور العالمي الذي خطت البشرية أولى درجات عتباته بمجيء الرسالة الإسلامية. وترسيخ مفاهيم هذا العنصر يتطلب من مفاهيم التربية الإسلامية المعاصرة أن تصنيف الخبرات، والأنشطة التي تبرز أهمية -السير في الأرض- والسفر في أنحاء المعمورة ومنافعه ومقاصده. فلا يكون اللهو والعبث، والبحث عن المتع الرخيصة والشهوات الدنسة، كما لا يجوز أن يتقوقع الإنسان في زاوية من زوايا الأرض أو حجرة من حجرات القائمة فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ويظن أنه يستطيع أن يفقه آيات الله في الكتاب دون أن يسير في الأرض لينظر آيات الله في الآفاق والأنفس. وعلى المناهج التربوية أن تعي كذلك أهمية السفر في تنمية الخبرات الاجتماعية والكونية، ومن ثم تنمية القدرات التسخيرية إلى الحد الذي يستطيع الإنسان أن يسخر عناصر الكون، وثروات الأرض لصالحه، ومتطلبات العيش في عصره. وعلى نظم التربية الإسلامية، ومؤسساتها كذلك أن تعمل على توعية أهل المناطق المستقبلة ليتصفوا بأخلاق -الأنصار- وبكيفية استقبال من هاجر إليهم، وأن يحبوه ويتعاونوا معه ويوالوه، ويعطوه صورة عالية مشرقة عن ثقافاتهم، وأخلاقهم وقيمهم وطرق الحياة التي يحيونها، وأن يسهموا في إثراء خبراته وتنمية قدراته وتعميق ثقته بالإنسان، لا أن يكونوا مجرد سماسرة يقدمون المتع الرخيصة والشهوات المبتذلة، ويقفون بأوانيهم كالحلابين المنتظرين للبقرات القادمة من مناطق الرعي. والواقع أن النموذج الإسلامي في مفهوم السفر -أو السير في الأرض كما يسميه القرآن- هو النموذج الملائم لما تحتاج أن تكون عليه علاقات المسافرين، والمستقبلين إلى طور العالمية الذي يعيشه. فهذا النموذج الذي أفرز علاقات -الهجرة والنصرة- وصنف المسافرين والمستقبلين إلى مهاجرين وأنصار، وفرض للمسافر -أو ابن السبيل- قسطا من زكاة أهل البلد الذي يدخله، هو النموذج الملائم لصبغ العادات والإدارات، والقوانين التي تنظم السفر والانتقال وعناوين اليافطات في معابر القادمين والمسافرين. أما نموذج -ثقافة الاستهلاك والربح- الذي اقتبسه المسلمون المعاصرون من "حضارة الاستهلاك"، والذي يقسم الصنفين المذكورين إلى سائحين ومستثمرين، ويضع الضرائب على -ابن السبيل- المسافر ويستغله، ويرفع الأسعار عليه فهو نموذج لا يتفق مع مكانة الإنسان، ويصطدم اصطداما كاملا مع التصور الإسلامي حول مقاصد السير في الأرض التي أرادها الله مختبرا لآياته في الآفاق والأنفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 التناقض الثالث، الأمن الإسلامي في مواجهة الصراعات الإقليمية لا ينقطع رجال التربية والفكر فوق المنابر، وفي المحافل لحظة واحدة عن الحديث عن السلام في الإسلام، والتعاون الإسلامي لحل المشكلات. ولكن رجال السياسة والحرب لا يتوقفون لحظة واحدة أيضا عن التآخر والفتنة والكيد، والإعداد لهزيمة بعضهم بعضا، وإذلال بعضهم بعضا، واقتراف ما يترتب على ذلك من تشريد، وقتل وتبديد للمقدرات البشرية والمادية. ويكاد العالم العربي، ومن ورائه العالم الإسلامي يموجان بالصراعات والفتن، وهما يمتلآن بضحايا هذه الصراعات من المشردين واللاجئين، والمنفيين والمبعدين السياسيين1. واستمرار هذا التناقض من شأنه أن ينتهي بالإنسان المسلم عامة إلى الكفر بالسلام والتعاون والأخوة، ثم الانقضاض على جميع هذه المفاهيم، والشعارات بكل ما يجلبه هذا الانقضاض من آثار مدمرة للعالم الإسلامي كله. إن الصراع غريزة في الإنسان لا سبيل إلى تجاهلها. ولكن الخطأ في التوجيه الذي يوجه هذا الصراع، والمقاصد التي تحدد ميادينه. فالغضب والانفعال -أو الانتصار حسب لغة القرآن- غريزة وضعها الله في الإنسان لدفع الظلم ومقارعة الشر الذي يمتحن به الإنسان من آن لآخر، وتترك له خيارات ثلاثة: فإما أن يستسلم للظلم والشر، وإما أن يناصر الظلم والشر، وإما أن يتناول الخير ليقارع به الشر. هذه هي -فلسفة الصراع- التي تناولناها بالتفصيل في كتاب -فلسفة التربية الإسلامية.   1 شاهد التاريخ العربي الحديث وقائع، وفتن لو دونت تحت عنوان "أيام العرب في القرن العشرين" وضمنت أمثال: يوم اليمن، ويوم تل الزعتر، ويوم أيلول، ويوم صبرا وشاتيلا، ويوم حماة، ويوم الصحراء الكبرى، ويوم تشاد، ويوم الكويت، ويوم الصومال، ... لصغرت أمامها "أيام العرب قبل الإسلام" التي ضمت أمثال يوم بعاث، ويوم حليمة، ويوم داحس والغبراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 غير أن نظم التربية ومؤسساتها في العالم الإسلامي المعاصر لم ترتق بعد إلى مستوى تدريب الناشئة، والمتعلمين على تناول الخير لمقارعة الشر، ورفض الاستسلام له والترفع عنه الإذعان له. ولذلك فإن ما يجري في العالم الإسلامي من فتن وصراعات هو ثمرة هذا التخلف التربوي الذي تعاني منه نظم التربية القائمة فيه. إن البديل للوضع الخاطئ القائم هو أن تتبنى مؤسسات التربية، ونظمها ما توجه إليه أصول التربية الإسلامية، وهو توجيه الإنسان المسلم للصراع ضد الظلم والشر، وحشد الطاقات كلها في هذا الاتجاه. وهو ما تقدمه مفاهيم -عنصر الرسالة والجهاد- التي مر استعراضها في عناصر الأمة المسلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 التناقض الرابع، الحاجة لتكافل المسلمين في مواجهة قوانين الإقامة والعمل لم يعد باستطاعة بلد من بلدان الأرض أن يكتفي بخبرات الناس الذين يعيشون فيه على أرضه. بل إن الدول -التي توصف بالتقدم نفسها- تجد نفسها في فترات كثيرة بحاجة إلى استقدام الأعداد الغفيرة من الأدمغة المفكرة، والخبرات المنتجة والأيدي العاملة الماهرة، فتسن التشريعات وتضع المغريات، والتسهيلات التي تجذب الأعداد المطلوبة. ولكن المجتمعات الإسلامية المعاصرة تمارس سياساتها -في هذا المجال- على أسس غير عادلة ولا آمنة، ولا مغرية. فهي تريد -في كثير من الأحيان-الاستفادة من الخبرات والتخلي عن التسهيلات. فحين يمتد الزمن بالخبرات والطاقات المستقدمة، وتنقطع جذور المستقدمين بأماكنهم الأولى ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا تطل قوانين الإقامة، والعمل لتهز استقرار هؤلاء المستقدمين القدامى هزا يتهدد حياتهم، ومستقبل أبنائهم وتفرز مضاعفات ذلك في العصبيات الإقليمية، والاضطرابات الأمنية، وتفسد علاقات الأقطار والدول، وتبرز الأيدولوجيات المتطرفة. ولم تجرؤ نظم التربية ومؤسساتها في العالم الإسلامي المعاصر -حتى الآن- أن تنظم لهذه المشكلات مكانا في مناهجها وبرامجها. ويبدو أنه لا حل لهذا التناقض إلا أن ترسخ نظم التربية المفهوم الإسلامي لـ -عنصر الإيواء- بتفاصيله التي مرت خلال الحديث عن عناصر الأمة المسلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 التناقض الخامس، مكانة الإنسان واحترامه في مواجهة الاعتداء على حرماته، والاستهانة بكرامته في الوقت الذي لا ينقطع الحديث وتفيض الكتابات في المساجد، والمحافل والكتب والصحافة، والإعلام عن منزلة الإنسان في الإسلام وقدسيته وصيانة حرماته، فإن التطبيقات الجارية في ميادين الإدارة الرسمية، والتعامل الشعبي ما زالت تمتهن هذه الحرمات، وتعبث بهذه القدسية. ولا يقتصر هذا التناقض على ما يجري في ميدان الصراعات السياسية، وما تفرزه من مضاعفات الاعتقال والسجن، والنفي والتجريد من الحقوق، وإنما يمتد إلى ميادين التعامل اليومي الجاري بين الأفراد والجماعات، وما يتخللها من مظاهر الانتقاص والعصبية والإقليمية، والعائلية في ميادين الحياة المختلفة. وتتحمل نظم التربية، ومؤسساتها في العالم الإسلامي المعاصر المسئولية الأولى في هذا التخلف البشري في ميدان -كرامة الإنسان وقدسيته. فما زالت هذه النظم التربوية تشيع القيم القديمة -قيم عصور ما قبل الإسلام- التي تقسم الناس إلى أقارب وأغراب، ومواطنين وأجانب، إلى غير ذلك من التقسيمات القائمة على روابط العصبية الإقليمية والعرقية والقبلية. وينتج عن ذلك كله مضاعفات خطيرة في التطبيق السلبي لما تنهى عنه الآية الكريمة: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1-3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 ومضاعفات أخطر في امتهان كرامة الإنسان وحرماته، كالاستغلال في البيع والشراء، والإيجار والتنقل، والاستضعاف، وأكل الحقوق، ووضع المقيمين في الموضع الأسمى، والقادمين "الأجانب" في الموضع الأدنى إلى غير ذلك من مضاعفات ومشكلات. ولكن النظر الدقيق في طبيعة التحديات التي يواجهها المسلمون المعاصرون، يكشف عن أنه لم يعد في صالح أحد التغاضي عن هذا التناقض السلبي المتخلف. فالمجتمعات الحديثة أصبحت تحتاج بعضها بعضًا. والعدو الطامع لا يخلق التناقضات خلقًا، وإنما يستغل ما هو قائم وموجود. والإنسان -كما قلنا: أصبح بدويا جديدا- لا يكاد يمر عليه يوم أو أيام قليلة إلا ويجد نفسه راحلا أو مقيما. وهو حين يرحل يدخل في مواقف الضعف والحاجة إلى الإيواء والنصرة، ومواقف العدل والإنصاف والموضوعية. وهو حين يقيم يدخل في مواقف القوة والدعم، والتمكن من مقدرات الآخرين. فهو دائم التردد -بشكل ليس له سابقة في التاريخ- بين حالتين اثنتين: حالة المقيم العزيز، وحالة ابن السبيل القابل للاستضعاف. وهو في كلا الحالتين يتلقى آثار الخبرات الحسنة، والمعاملة الحسنة، وما يتفرع عنها من مضاعفات الترحيب، ويسر التعامل الرسمي والشعبي، أو يتلقى آثار الخبرات السيئة، والمعاملة السيئة وما يتفرع عنهما من مضاعفات الإهانة وعسر التعامل الرسمي والشعبي، والديان لا ينسى وكما تدين تدان. وليس هناك من حل لهذا التناقض الذي يعرض كرامة الإنسان للامتهان، وينغص عليه سعادته ويفسد معيشته إلا بتصدي نظم التربية -أولًا- لمعالجة هذه السلبيات ثم التركيز على إخراج ناشئة، ومتعلمين يؤمنون بـ -عنصر الإيواء، وعنصر النصرة -بالمفهوم والمحتويات التي تطرحها أصول التربية الإسلامية في القرآن والسنة. والخلاصة، إن آيات الله في الآفاق، والأنفس التي أسهم العلم الحديث والتكنولوجيا الحديثة في إظهارها وتسهيل شهودها، تكشف بوضوح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 أهمية آيات الوحي التي توجه إلى تربية الإنسان الصالح -المصلح، وإخراج الأمة المسلمة المكونة من عناصر الإيمان، والهجرة والمهجر، والرسالة والجهاد، والإيواء، والنصرة، والولاية، وتنمية الإيمان بالوحدة الإنسانية والتربية العالمية بالمضامين التي مرت في هذا البحث، وهي توضح -بما لا يدع للشك مجالًا- أن هذه الأهداف التربوية الإسلامية أصبحت ضرورة معيشية للمسلم المعاصر، إذا أراد الخروج من دوامة التناقضات، والمشكلات الجارية. وليس من المعقول أن تستمر أجهزة الأمن ودوائر البوليس العالمي بإدانة ضحايا هذه التناقضات، ووصمهم بوصمات الإرهاب والجريمة، والانحراف دون أن تتحرك نظم التربية، والتوجيه ومؤسساتها لتصحيح المفاهيم الخاطئة التي أفرزتها الردة إلى العصبيات وكان من مضاعفاتها اقتراف العالم الإسلامي للكبيرة السابعة التي يشير الحديث النبوي عن الكبائر السبع بعبارة: "التعرب بعد الهجرة" و"المرتد أعرابيا بعد الهجرة" كما مر في صفات سابقة. وتتحمل مؤسسات التربية الوزر الأكبر في هذه الردة؛ لأنها نمتها -وما زالت تنميها، من خلال التركيز على أمثال شعر المعلقات، وتاريخ العصبيات والقوميات، والاكتفاء من الدين بفقه العبادات والطهارة، والحيض والنفاس وزكاة الجمال والبقر والماعز، دون أن تتصدى لقضايا الإنسان الكبرى في العيش والاجتماع، والتوعية بالظروف العالمية الجديدة التي تستدعي إعادة تخطيط العلاقات القائمة بين بني الإنسان في الطور الجديد -طور "قرية الكرة الأرضية The Global Villaga". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 الفصل الرابع والثلاثون: توصيات أولا: توصيات تتعلق بتربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح ... الفصل الرابع والثلاثون: توصيات السؤال يطرح نفسه كخاتمة لهذا البحث هو: كيف يمكن تحويل التصورات النظرية التي مرت إلى تطبيقات عملية تمكن مؤسسات التربية الإسلامية من تحويل الطموح المؤمل إلى واقع ملموس؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من الانتباه إلى أن الأهداف العامة الثلاثة -أو تربية الفرد المسلم، وإخراج الأمة المسلمة، وتنمية التآلف والأخوة بين بني الإنسان -التي تتطلع التربية الإسلامية إلى تحقيقها، إنما تقوم أساسًا على "الفقه التربوي" و"التطبيق التربوي" الذي يقوم به "مجتهدون تربويون" من البشر أنفسهم في ضوء التوجيهات الإلهية أو "بصائر الوحي" حسب تعبير القرآن الكريم1. ولكن هذا الاجتهاد التربوي لن يكون مثمرًا إلا إذا جرى في إطار من الإعداد المنظم، والتخطيط الفعال، وهذا يتطلب مراعاة التوصيات التالية: أولا: توصيات تتعلق بتربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح التوصية الأولى، إن البحث في مقومات الشخصية المسلمة، أو مكونات العمل الصالح، وتنميتها وتركيبها ورعايتها، يقتضي وجود "مؤسسة   1 هذا ما يرشد إليه التفكير السنني -القانوني الذي هو سمة العقل السليم. أما التفكير الارتجالي المنحدر من تراث جاهلية ما قبل الإسلام، فهو يعمل لإخراج الشخصية المسلمة دون "اجتهاد" ولا "مجتهدون" ولا "سنن ولا قوانين". وأما التفكير الخوارقي المنحدر من تراث التفكير الديني الذي سبق الإسلام، فهو يظل يرتقب حدوث المعجزة وبروز جيش الإصلاح وقادته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 تنظير أو اجتهاد تربوي" تضم مجموعات -أو وحدات- تربوية يتوازى تصنيفها، وعددها مع تصنيف وعدد عناصر العمل الصالح، التي وردت في هذا البحث. ففي هذه المؤسسة المقترحة تقوم الواحدات المشار إليها، مستقلة ومتكاملة، بمواصلة البحث التربوي لبلورة "المعادلات العملية" لكل عنصر من عناصر العمل الصالح، ولبلورة المناهج والطرق، والأساليب، والوسائل والمؤسسات اللازمة لإخراج كل عنصر من عناصر العمل الصالح، ثم تركيب هذه العناصر -حسب المعادلات التي مر ذكرها- وبالتالي إخراج الشخصية المسلمة بالمواصفات المطلوبة التي تقتضيها الأصول الفلسفية، والاجتماعية والنفسية والتكنولوجية، وحسب أطوار حياة الإنسان، ومتطلبات العصور الزمانية والبيئات المكانية. وإقامة -المؤسسة التربوية المقترحة- ضرورة لا غنى عنها ولا بديل. ذلك إن دور المفكر الفرد، أو المربى الفرد، أو المصلح الفرد، قد انتهى في عصر تفجر المعرفة، وتشابك العلاقات، وتعقيد المشكلات، عصر "قرية الكرة الأرضية" وعصر الأقمار الصناعية، والكمبيوتر، والفاكس، والتلكس، وبلغ من تعقيدات المعرفة والعلم والمشكلات، والعلاقات درجة جعلت إنسان العصر يؤمن مساء بما كفر به صباحًا، ويؤمن صباحا بما كفر به مساء. و"الفقه الجماعي" و"البحث الجماعي" و"التطبيق الجماعي" و"الإنتاج الجماعي" صار ضرورة معيشية في كل ميدان. ولهذه الحكمة جعلت الأصول الإسلامية في محور قيمها، أن يد الله مع الجماعة. ويقيني أن الفارق الضخم المتسارع في ضخامته، بين المجتمعات التي تصنف إلى مجتمعات متقدمة، ومجتمعات متخلفة، لا يتمحور حول فوارق الثراء الاقتصادي، والتقدم العلمي والتكنولوجي، والتنظيم الإداري، وإنما يتمركز هذا الفارق حول الفارق القائم بين نظمها ومؤسساتها التربوية، وطريقة كل منها في تنمية مكونات العمل، أو مقومات الشخصية، ثم تصنيف هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 الشخصيات في سلم "الحكمة" النظرية والعملية، وتدريبها على مهارات "العمل الجماعي"، والتنسيق والتكامل بين أصحاب القدرات، والمهارات المختلفة. وليست الفوارق الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، والإدارية والسياسية، إلا بعض مضاعفات الفارق القائم بين نظم التربية ومؤسساتها وطرقها في تنمية مكونات العمل أو مقومات الشخصية وتوجيهها. فالمجتمعات التي توصف بالتقدم، تتغير أحوالها السياسية والاقتصادية، والعلمية والعسكرية والإدارية بطريقة أفضل مما يقابلها في المجتمعات التي توصف بالتخلف؛ لأن مؤسسات تغيير ما بالأنفس، والمشتغلين بتغيير ما بالأنفس في الأولى، أعلى قدرات ومهارات من نظائرهم في الثانية؛ ولأن القيم العلمية السائدة فيها أرقى من نظائرها في المجتمعات التي توصف بالتخلف. ولعل مثالا واحدا يوضح لنا التقرير المشار إليه. ففي المجتمعات التي توصف بالتقدم تنبع قيم حرية التعبير والاختيار، والتفكير من المؤسسات التربوية، حيث يعطي المربون حرية التفكير والاختيار، والتعبير كاملة لتلاميذهم وطلابهم، ويتعاملون بها مع أقرانهم، أما في مجتمعات العالم الثالث -ومنه المجتمعات العربية والإسلامية- فجميع شرور القهر والتسلط، وكبت الحريات تنبع -ابتداء- من المؤسسات التربوية. وجمعينا يخبر البيروقراطية القبلية في مؤسسات التربية، وجميعنا ذاق ويعرف أساليب القهر، والإلزام السلطوي، والأسلوب المفروض في التفكير والتلقي والاستظهار، والتعبير والامتحان، الذي يمارسه المعلمون إزاء المتعلمين ابتداء من المستوى الابتدائي -بل قبل الابتدائي- حتى المستوى الجامعي. فالمؤسسات التربوية في مجتمعات العالم الثالث ما زالت نظام القيم التربوية فيها يقوم على "القوة فوق الفكرة" شأنها شأن المؤسسات الأخرى في هذه المجتمعات. والتوصية الثانية، إقامة "مختبر التطبيقات التربوية" اللازم لتجريب الأفكار، والتصورات التي يفرزها مجتهدو مؤسسة التنظير التربوي المقترحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 بغية تحويل الفكرة إلى عمل، وبغية تجريبها وتعديلها، وتطويرها في ضوء النتائج التي يكشف عنها التطبيق العملي. وهذا هو الذي وجهت إليه الرسالات السماوية حين اتخذت طريقة -الناسخ والمنسوخ- كإحدى مناهجها وأساليبها في إخراج الأمة المسلمة1، وهو ما وجه الوحي به المربي الأول -صلى الله عليه وسلم- إلى الأصل التربوي القائل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] . وهو أيضا ما تواتر نقله من أمثال الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن"2. ولا بد أن تتوارى مكونات "مختبر التطبيقات"، وأنشطته مع مراحل عمر الإنسان المسلم المراد إخراجه ابتداء من مرحلة الحضانة حتى الرشد. فتكون هناك روضة التطبيقات، ومدرسة التطبيقات، وجامعة التطبيقات. ولا بد من التخطيط، لأن تتوسع هذه التطبيقات في مرحلة لاحقة، لتشمل نماذج المؤسسات التربوية الموازية كأسرة التطبيقات، ومسجد التطبيقات، وصحيفة التطبيقات، وفيديو التطبيقات، وغير ذلك. والذين يدرسون تاريخ النظم التربوية الحديثة في الغرب والشرق، يجدون أن هذه التطبيقات كانت عنصرًا أساسيا في عمليات التنظير والتطبيق التربويين، وفي عمليات التطوير التربوي والمراجعة التربوية والتجديدات   1 جاءت بعد عصر النبوة أجيال رفضت أن ينسخ من مقولاتها شيء، وما زالت عناصر معاصرة ترفض أن تدخل بعض مدخراتها، وموروثاتها الفكرية في عداد المنسوخ وتسبغ عليها عصمة ممارسة غير منطوقة ولا معلنة. 2 ابن كثير، تفسير القرآن، المقدمة، "القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، بلا تاريخ" ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 التربوية الجارية هناك، بغض النظر عن الإيجابيات، والسلبيات الجارية في بعض المحتويات والطرائق. والتوصية الثالثة، هي توفر فرص التكامل المحكم الشامل بين كل من "مؤسسة التنظير التربوي" و"مؤسسة التطبيقات التربوية". فهذا التكامل يوفر للمؤسستين تقويم الأعمال، وتعديل الأفكار والممارسات، وتطوير البرامج والخطط، الأمر الذي يسهم في استمرار قدرة كلتا المؤسستين على القيام بمسئولياتهما، ويمكنهما من تلبية حاجات المجتمعات الإسلامية خلال ظروف الحياة المتطورة المتغيرة. وهذا هو الذي يتفق مع سنة الله وقوانينه في التطور البشري والنمو الحضاري. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن "الأذن" المسلمة المعاصرة تعاني -في الغالب- من حساسية حادة حين تسمع مصطلح التطور فتظنه زحزحة، وإبعادا عن القيم الإسلامية وتطبيقاتها. وهذه حساسية مفرطة لا بد من معالجتها والشفاء منها. فالتطور -في حقيقته- أصل من أصول التصور الإسلامي للوجود، وهو يعني أن هذا الكون ما زال يخلق، وأن مظاهر الخلق تبرز من عالم الغيب باستمرار، وأن الخالق سبحانه كل يوم هو في شأن. {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5] .. {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] ، {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] ، {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] ، {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ، {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13، 14] . ومن الطبيعي أن الخلق الجديد يفرز علاقات جديدة، والعلاقات الجديدة تحتاج إلى قيم ومهارات ومعارف جديدة، وهذه كلها تحتاج إلى مؤسسات جديدة. ومن الطبيعي -بناء على ذلك- أن الإنسان المسلم المراد إخراجه بواسطة مؤسسات التربية الإسلامية، يحتاج أن يكون قادرا على مواكبة الأطوار الجديدة، وفهم الشئون المتجددة، واكتشاف قوانينها، ثم تسخير هذه القوانين للتعايش معها، حسب ما تتطلبه المسئولية الملقاة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 عاتق الإنسان المسلم وأمة المسلمة في إشاعة المعروف الصائب الذي يضمن للنوع البشري بقاءه ودوام رقيه، وفي النهي عن المنكر الخاطئ الذي يهدد بقاء النوع الإنساني، ويوقف مسيرة رقيه. والتوصية الرابعة، هي توفير الفرصة كاملة للمؤسسات التربوية المقترحة للإطلاع على ما يجري في حارات -قرية الكرة الأرضية- من تجارب تربوية في التنظير والتطبيق، بغية الوقوف على المؤثرات المختلفة، والمتجددة التي تعمل عملها في شخصية الفرد المسلم والأمة الإسلامية، فتشكل أفكار الأول وأعماله، وتسهم في صياغة قيم الثانية ونشاطاتها. فهذا الاطلاع شرط أساسي لنجاح "مؤسستي التنظير التربوي والتطبيقات التربوية" المقترحين، وهو مظهر "الشهود" الذي جعله القرآن الكريم أول صفات الرسول المربي الذي أرسل ليضع مسيرة البشرية على أعتاب طور العالمية، والتفكير السنني والبحث العلمي في آيات الآفاق والأنفس: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] [الفتح: 8] . ومن الطبيعي أن يتوجب على ورثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتصفوا بالمؤهلات اللازمة لشهود العصر، وثقافة العصر، وتيارات العصر المتدفقة في جميع الميادين، ومخلوقات العصر الجديد البارزة عن غيب هذا العصر. فالذي لا يشهد العصر بجميع مكوناته، وميادينه والتطورات والمؤثرات المتفاعلة فيه، وبوسائل العصر اللغوية والمعرفية والتكنولوجية، لا يستطيع أن "يبشر" أهل العصر ويقنعهم بـ"المثل الأعلى" الذي تطرحه التربية الإسلامية لبقاء الجنس البشري ورقيه، ولا يستطيع أن "ينذر" أهل العصر من أخطار "المثل السوء" التي تهدد الجنس البشري بالفناء والتخلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 ثانيا: توصيات تتعلق بإخراج الأمة المسلمة : وانطلاقا من الملاحظات التي مرت عن مفهوم الأمة المسلمة يخلص البحث إلى التوصيات التالية: التوصية الأولى، توجيه -إنسان التربية الإسلامية- إلى وجوب تطبيق مبدأ الانسحاب والعودة، الذي مرت الإشارة إليه، كلما دلفت الأمة إلى مرحلة المرض أو الوفاة. وهذا المبدأ يعني التوقف مؤقتا عن الإسهام في الممارسات الإسلامية المألوفة عن المستوى الفردي والجماعي، ثم اجتماع -الحكماء- من أولي الألباب المستنيرة، والإرادات العازمة النبيلة بغية القيام بمراجعة شاملة عميقة لاستراتيجيات التربية الإسلامية بأهدافها، ومناهجها وأساليبها ومؤسساتها. ويراعى في اختيار عناصر -الحكماء- المشار إليهم أن يكونوا من العناصر الواعية بأصول الحياة الإسلامية، وبالتغيرات الجارية في قرية الكرة الأرضية، المتحررة من التقليد والآبائية، المزكاة من الولاءات العصبية، المتعالية عن الجاه والتقرب من أصحاب "السلطة والنفوذ"، وأهمية هذا التكوين العقلي والنفسي أن أمثال هذه النماذج الإنسانية هم القادرون على بلورة الطروحات الفكرية التي تخرج الحياة الإسلامية في صيغ جديدة تلبي حاجات المكان والزمان، وتنقيها من مضاعفات الأخطاء التي تسببت بها الممارسات المرتجلة، وفترات الجمود واختراقات محبي الجاه وأصحاب العصبيات. ويراعى خلال المراجعة المطلوبة أن يقوم -الحكماء الإسلاميون- بأمرين اثنين: الأول، تشخيص دقيق للأوضاع المحلية والعالمية، ثم بلورة الطروحات الفكرية التي تلبي الحاجات وتتصدى للتحديات على المستويين المحلي والعالمي. والثاني، تطوير استراتيجية عمل إسلامي تتطابق مع التوجيهات القرآنية التي تصنف فصول العمل الإسلامي إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال الأحسن. والاهتداء بهذه البصائر القرآنية الثلاث يتطلب أن يندرج تحت الحكمة شكلان من التخطيط: تخطيط تنظيري، وتخطيط عملي. وأن يندرج تحت -الموعظة الحسنة- بلورة سياسات إعلامية -دعوية تحسن تعبئة الجماهير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 المحلية والعالمية لـ"نصرة" تنفيذ التخطيط الذي تفرزه الحكمة النظرية والعملية. وأن يندرج تحت "الجدال الأحسن" يقظة فكرية قادرة على التفاعل مع قيادات ومؤسسات الفكر المحلي، والعالمي بطروحات "أحسن" محتوى"، و"أحسن" بلاغا. ولا بد لـ"الحكماء الإسلاميين" المنشودين أن يوالي بعضهم بعضا في مجلس دائم ترفده العناصر الذكية -الواعية المتعالية من كل جيل، ويقوم بمسئولياته في توجيه مؤسسات التخطيط، والتنفيذ طبقات لمتطلبات الخلق الجديد في أطوار الزمان وفي المكان. التوصية الثانية، هي توجيه -إنسان التربية الإسلامية- إلى أهمية التدرج المرحلي الواعي، المحكم، خلال العمل على إخراج الأمة المسلمة، تماما كما تدرج الوحي في التربية، وتدرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في العمل حتى اكتمل الإخراج عند خطوة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] . وخلال التدرج المطلوب لا بد من تكامل "الجهاد التربوي" مع كل من "الجهاد التنظيمي" و"الجهاد القتالي"، واستمرار إمداده لهما بالحكمة والفاعلية والتجدد، وهذه وظيفة تقتضي مراعاة أمور ثلاثة هي: الأول، تربية العدد الكافي من الخامات الإنسانية المؤهلة لتحمل مسئولية العمل الإسلامي ونشر الرسالة. ويراعى أن يتناسب عدد هذه الطليعة مع الكثافة البشرية للمجتمعات التي ستتفاعل معها كتناسب الخميرة مع كمية العجين المراد تخميره. وكل نقص في تربية هذه الطليعة، وعددها سوف ينعكس على درجة صحة الأمة الإسلامية المراد إخراجها. والثاني، تنظيم محتويات المناهج والتطبيقات التربوية، وصياغة العلوم لتدور جميعها في فلك "الأفكار" الإسلامية، كأن تعاد كتابة التاريخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 الإسلامي وغير الإسلامي ليصبح تاريخا يدور في فلك "الأفكار" بدل الدوران في فلك "الأشخاص والأشياء"، وإحلال الآداب والثقافة والفنون التي تدور في فلك "الأفكار" الإسلامية محل الآداب والثقافة، والفنون التي تدور في فلك "أشخاص" العصبيات التي أسهمت في الرد إلى الصنمية برموز وأصنام جديدة. كذلك تعاد صياغة مفهوم التطور الإنساني، وعلومه ليقاس التقدم بمدى دوران "الأشخاص والأشياء" في فلك "الأفكار"، وليس العكس كما هو قائم في مؤسسات التربية الحديثة القائمة. وخلال هذه الجهود التغييرية لا بد من مراعاة القاعدة التربوية الإسلامية التي عبر عنها أمثال -عبد الله بن مسعود، وأبي الدرداء- حين قالوا: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا"1. والأمر الثالث، الذي يجب مراعاته هو أن للتربية، والتغيير المرادين كتابا مؤجلا وأطوارا زمنية لا بد أن تمر بها الخامات التي يجري تزكيتها تزكية إسلامية. وهذه الأطور هي: الطور الأول، نقل النماذج البشرية التي يجري تغيير ما بأنفسها من حالة "الغياب" الاجتماعي الذي يبقى قدراتها العقلية، وإراداتها النفسية أسيرة لصنمية "الأشخاص"، ووثنية "الأشياء" إلى حالة "الحضور" الذي يجعلها تستشعر قيمة الإيمان، وأفكار" الإسلام. والطور الثاني، رفع درجة "الحضور" عند النماذج الإنسانية المذكورة حتى تبلغ قدراتها العقلية درجة "الوعي" المحيط بغايات الحياة وسننها، وتبلغ إراداتها درجة "الحرية" في اختياراتها. والطور الثالث، رفع كل من درجتي "الوعي" و"الحرية" حتى يبلغا   1 تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية، الطبعة الثالثة، ص57، للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 درجة "القدرة" على تحويل المدركات العقلية الصائبة، والإرادات المخلصة إلى "أعمال" صالحة -مصلحة. والقرآن الكريم يسمي عمليات التغيير المشار إليها في الأطوار الثلاثة "إحياء" بعد الموت: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 122، 123] . والإحياء الذي توجه الآية إليه هو إحياء عقلي -إرادي يكون من ثمراته حسن المشي في الناس، وحسن التمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، والحق والباطل، وحسن التعامل معها كلها. وفي المقابل تلفت الآية أنظار المؤمنين إلى السياسات المعاكسة التي يديرها "أكابر المجرمين" في كل مجتمع، الذين يمكرون -أي يقيمون سياساتهم- على أساس الهبوط بالأتباع "المستضعفين" في الاتجاه المعاكس للأطوار الثلاثة حتى تنتهي بهم إلى حالة -الإماتة الإنسانية- أي إماتة العقول والإرادات وسجنها في غيابة الخرافة، والوهم والأهواء العصبية والشهوات الجسدية إلى أن تئول حياتهم إلى ظلمات العيش، وسوء الأعمال التي يزينها لهم سحرة الفكر والنفس، فلا يستطيعون منها خروجا1.   1 في الماضي قامت سياسات الظلمة من سلاطين المماليك -مثلًا- على تغييب العقل المسلم في أمثال سيرة بني هلال، والزير سالم، و"إلهامات" الدراويش الأحياء. وتغييب إرادات الأمة في البحث عن الكرامة والعطاء، والنجاة من خلال الاستغاثة بالأولياء الأموات، وولاءات العصبيات. وفي الحاضر يجري تغييب العقل المسلم عن "شهود" الأزمات الداخلية و"حضور" التحديات الخارجية في أمثال قصص، وروايات الغرام وأشعار الحب، وكتب -وقاية الإنسان من الجن والشيطان، و -الصارم البتار في التصدي للسحرة والأشرار. ويجري تغييب إرادات المسلمين في أمثال مباريات الرياضة، ومهرجانات الفنون، وصحافة الأزياء، وإعلانات الاستهلاك، ومسلسلات التلفزيون التي تحرك الحميات البدوية، والعصبيات القروية. وفي كلا الحالتين من "التغييب" كانت النتائج هي عجز القيادات والأنظمة التي تمارسه عن حل المشكلات الداخلية، وهزيمتهم أمام الأخطار الخارجية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 ولعملية "التغيير والإحياء" سنن وقوانين لا بد من التزامها، والتوافق معها الأمر الذي يتطلب البحث في علومها ومناهجها، ومؤسساتها وصفات القائمين عليها والبيئات والأوضاع اللازمة لنجاحها. وهذا يعني العمل على إيجاد مؤسسات تربوية، ومراكز للبحث العلمي لتقوم ببلورة محتويات "الحكمة النظرية" من خلال النشاطات التالية: 1- القيام بمراجعة -أو "توبة"- تربوية جزئية مستقلة من التأثيرات الآبائية، والأجنبية هدفها تمحيص التراث المتحدر من الآباء، أو تلك الوافدة من الغرباء بغية التعرف على ما كان أصيلًا يتفق مع مفهوم الأمة المسلمة في القرآن والسنة في الحالة الأولى، وما كان متنافرًا مع القرآن والسنة في الحالة الثانية، وما كان -في الحالتين- يحمل في طياته عوامل الخطأ والضعف والجمود. والقيام بهذه المراجعة -أو التوبة- يضع الأمة على الصراط المستقيم الذي يتوافق مع سنن الحياة، وقوانين التغيير القرآنية التي تقرر أن الله لا يغير ما بقوم من أزمات سياسية أو اجتماعية، أو اقتصادية إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من محتويات فكرية وثقافية وقيم وعادات، وتقاليد وممارسات تتعلق بميادين الأزمات المذكورة. 2- ممارسة الاجتهاد الذي يؤدي إلى ظهور علوم سياسية وإدارية، واقتصادية واجتماعية تبلور مفهوم الأمة المسلمة، ومحتويات عناصرها في الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية، حسب ما توجه إليه أصولها في القرآن والسنة، وتتطلبه حاجات الأزمنة والأمكنة، والتحديات في الداخل والخارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 3- تحويل ثمار الاجتهاد المقترح إلى خطط ومناهج، وتطبيقات تربوية يستطيع -إنسان التربية الإسلامية- من خلالها أن يعيش مضامين العناصر المكونة للأمة المسلمة فكرًا وعملًا، ويكون من ثمارها تنمية الولاء للأمة المسلمة وحدها، والعمل على إخراجها من جديد، والقضاء على الولاءات العصبية التي تتعارض مع هذا الولاء وتضعفه. 4- تقويم الاجتهادات النظرية والتطبيقات العملية الخاصة بمفهوم الأمة المسلمة تقويما مستمرا في ضوء الحاجات المتجددة، والتغيرات الحاصلة في الزمان والمكان. التوصية الثالثة، أن تقوم مؤسسات التربية الإسلامية بدورها كاملا لبلورة مفاهيم "الجهاد التنظيمي" وأشكاله. ويراعى في هذه العملية تطوير المؤسسات اللازمة للقيام بمسئولية تنفيذ المشروعات المقترحة في التوصية الأولى -أي القيام بـ"الحكمة العملية". ويراعى تزويد هذه المؤسسات بأعلى المؤهلات، وأدق الأجهزة والأدوات ومتابعة جهودها بالتقويم المستمر. ويراعي تنوع هذه المؤسسات إلى أقسام تتطابق مع مسئوليات الأمة المسلمة، كأن تكون كما يلي: أ- مؤسسات تمارس الاجتهاد والنظر في آيات الوحي بغية بلورة نموذج "المثل الأعلى"، الذي تتطلبه حاجات الزمان والمكان. ب- مؤسسات تنظر في "الخبرات الاجتماعية والكونية" في العالم كله بما في ذلك دراسة الثقافات العالمية المختلفة، وأنماط التفكير السائدة فيه لبلورة "وسائل" تحقيق المثل الأعلى. جـ- مؤسسات وظيفتها رسم الاستراتيجيات اللازمة للتفاعل مع المجتمعات العالمية في ضوء معطيات "المثل الأعلى" الذي تفرزه المؤسسات رقم "أ" ونتائج شهود "الخبرات الاجتماعية والكونية" التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 تفرزها المؤسسات رقم "ب"1. والواقع إن -الأزمة الرئيسية في العمل الإسلامي، وفي الحضارة الإسلامية- خلال التاريخ الإسلامي كله هي عدم تقدير دور -المؤسسات- وعدم إعطائها ما تستحقه من عناية -خاصة في ميدان السياسة، والاقتصاد- وترك المشروعات والإدارات للجهود والمبادرات الفردية، وتوقع قيام الفرد القائد بدور النبي المرسل المؤيد بوحي السماء، ونصرته سواء على مستوى الدول أو الجماعات. لذلك كانت -وما زالت- حركات اليقظة، ومشروعات الإصلاح حركات فردية موقوتة تعتمد على كفاءات الفرد القائد، أو الفرد المصلح، وعلى قدراته الشخصية خلال حياته، وغياب الفرد عن مسرح الحياة يشكل نكسة حاسمة في اليقظات، والمشروعات قد ترد الأمة إلى نقطة الصفر أو تحولها للسير في الاتجاه المعاكس. وهذا القول ينطبق على جميع حركات الإصلاح التي قادها مصلحون دينيون، أو سياسيون في الماضي والحاضر. والتوصية الرابعة، ضرورة تكامل "التعليم ومؤسساته مع التنظيم ومؤسساته" أو نقول -تكامل عمل المدارس والجماعات مع الأحزاب، والمؤسسات والجماعات. فلقد دأبت الحركات الإسلامية العاملة للإصلاح والوحدة -منذ مطلع هذا القرن- على اعتماد الوعظ الجماهيري بدل التعليم المنظم تاركة "التعليم والتربية" للمدارس والمعاهد، والجماعات التقليدية التي انحدرت من عصور الجمود والانحطاط، أو تلك التي أنشأتها البعثات التبشيرية، أو تلك التي أنشأتها الحكومات الرسمية بتوجيه خبراء التعليم الأجانب. ولقد كان لهذه الظاهرة آثارها السلبية القاتلة إذ إن المؤسسات التربوية المشار إليها كانت -وما زالت- ترفد المجتمعات الإسلامية والحركات، والأحزاب بخليط متنافر التفكير والثقافات، كل يحمل معه   1 للوقوف على محتوى "المثل الأعلى" و"الخبرات" يراجع باب -تربية الفرد المسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 بصمات المدرسة أو المعهد أو الجامعة التي تخرج منها. ولذلك ضمت الحركات الإسلامية أفرادا يؤمنون بمثل عليا مختلفة متنافرة بينما يقفون تحت شعارات، وعموميات ضبابية غامضة دون أن يكون لديهم استراتيجيات صائبة للتعليم أو التنظيم. ولعله من الموضوعية والرجوع إلى الحق أن أنبه -هنا- إلى ما ورد في كتابي -هكذا ظهر جيل صلاح الدين، وهكذا عادات القدس- في الصفحات 288-295 من الطبعة الأولى حول اعتبار الأحزاب، والجماعات استراتيجية ضارة خاسرة. والواقع أنني بعد تحليل الظاهرة بعمق أكثر، وشمول أوفر أقرر أن الأسباب العشرة التي دللت بها على ضرر الجماعات، والأحزاب هي -في الحقيقة- أسباب لعدم التكامل بين المؤسسات التعليمية، والفكرية التي تمثلها المدارس والجامعات، والمؤسسات التنظيمية التي تمثلها الأحزاب، والجماعات ذلك أن ترك التعليم في أيد مؤسسات أجنبية ومحلية بنت فلسفاتها، وأهدافها ونظمت مناهجها، وتطبيقاتها حول قيم العصبيات القبلية والطائفية والإقليمية، أفرز أحزابا، وجماعات متأثرة بهذه القيم مما أشاع التنافر، والتباغض في علاقاتها وجعلها في ولاءاتها قبائل من لا قبيلة له وطائفة له. والتوصية الخامسة، تنظيم علاقات "الأفراد المؤمنين" الذين تخرجهم مؤسسات التعليم، وينتمون إلى مؤسسات التنظيم في شبكة علاقات اجتماعية يكون العامود الفقري فيها هو عناصر الأمة الستة، أي عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد، والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية حسب التفصيلات التي مرت في هذا البحث. ويراعى أن يتم بناء هذه الشبكة على مستويين اثنين: المستوى المحلي الذي ينظم علاقات "الأمة الصغرى" أي أفراد الجماعة أو الحزب، أو الأقلية الإسلامية. ثم المستوى العالمي الذي ينسق نشاطات الأشكال المحلية من -الأمم الصغرى- في تنظيم عالمي فعال غايته النهائية "إخراج الأمة المسلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 الكبرى" في أرض ما حول الأقصى، والمسجد الحرام التي أراداها الله قاعدة للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والإيمان بالله، والتي خطط حدودها إبراهيم عليه السلام واكتملت وظيفتها في انطلاقة محمد -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه كما مر في فصل سابق. فإذا اكتمل إخراج هذه "الأمة المسلمة الكبرى"، أصبح فرضا على "الأمم المسلمة الصغرى" الموقوتة أن تهاجر هجرتها الحسية إلى أرض "الأمة المسلمة الكبرى"، لتتلاحم وتتوالى وتتظافر لاستئناف حمل رسالة الإسلام إلى العالم كله. والتوصية السادسة، بلورة مفهوم "رسالة إسلامية عالمية" تتصدى للأزمتين المستعصيتين في مجتمعات العالم المعاصر كله. والأزمة الأولى -أزمة اجتماعية- تتمثل في فقدان المناعة الاجتماعية -أو انتشار "الإيذر الاجتماعي" في الأقطار غير الإسلامية- خاصة الأقطار الغربية المتقدمة علميا وتكنولوجيا. ولقد قوض هذا المرض أسس الحياة الاجتماعية في الأقطار المذكورة، وهيأها للانهيار من داخل. ومحور هذه الأزمة كامن في التصور الخاطئ عن "هوية الإنسان" و"موقعه في الوجود" و"المثل الأعلى" الذي يجسد هذا التصور في واقع الحياة. والسبب الرئيس في هذه الأزمة هو الانشقاق بين أدوات المعرفة الثلاث: بين الوحي من ناحية والعقل، والحواس من ناحية أخرى. إذ إن غياب بصائر الوحي الصحيح عن ثقافة هذه المجتمعات يدفع "العقل والحواس" إلى استعمال "وسائل الحياة"، التي يكتشفها العقل وتطورها الحواس، استعمالا جاهلا بـ"أهداف الحياة وغاياتها"، وينتهي بنظم التربية ومؤسساتها إلى إخراج إنسان يبدد قدراته العقلية، والنفسية والجسدية في خدمة "مثل سوء" و"هوية" حيوانية و"ثقافة" خاطئة. والأزمة الثانية -أزمة سياسية- يجسدها مرض -الإيذر السياسي- المستشري في أقطار العالم الثالث -خاصة الأقطار الإسلامية والعربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وهذا مرض أفقد هذه المجتمعات المناعة السياسية، وهيأها للانهيار والتمزق أمام التحديات الخارجية، وأفرز مضاعفات خطيرة في القيم وشبكة العلاقات الاجتماعية. ومحور هذه الأمة كامن في التصور الخاطئ لـ"مفهوم الأمة" و"المثل الأعلى" الذي يجسد هذا المفهوم في واقع الحياة، ويبقى إنسان تلك الأقطار حبيس الولاء للعصبيات الضيقة، وينتهي بنظم التربية، ومؤسساتها إلى إخراج إنسان عاجز عن التكيف مع الخلق الجديد والتطور، وعاجز عن دخول عصر العالمية الذي جاءت الرسالة الإسلامية لتسهل للبشرية تخطي أعتابه، وعبور مسالكه والسعي في مناكبه. والسبب الرئيس في هذه الأزمة هو -أيضًا- الانشقاق بين أدوات المعرفة الثلاثة -أي الوحي والعقل والحواس- مع اختلاف مظهر الانشقاق. إذ إن قيود العصبيات الدموية الضيقة تحول دون توفر الحرية -أو أوكسجين القدرات العقلية- ولذلك لا تنمو هذه القدرات ولا تنضج وظيفة العقل، فيظل إنسان تلك المناطق -خاصة الإنسان المسلم- عاجزا عن الانتفاع ببصائر الوحي المخزونة في الأسفار التي يحملها، ويتباهى بوراثتها عن آبائه، ويريد من الآخرين -بناء على هذا الإرث- أن يعترفوا له بدور "السادن" الذي يتلقى الجوائز وطقوس التبجيل. فالأزمتان مختلفتان، ولكنهما متعادلتا التأثير والمصير. وسوف تنتهي كل منهما بمجتمعاتها إلى الانهيار: انهيار الأولى من الداخل، وانهيار الثانية أمام تحديات الخارج. والخروج من هاتين الأزمتين يتطلب "فقها تربويا جديدا" يتخطى أصول الفقه التقليدية الشائعة بين الفريقين من مجتمعات العالم، ويبتكر أصولا جديدة -أو ما يسمى بالإنكليزية New Paradigms- كما يتطلب مربين جددا قادرين على النظر في المصادر الأصلية للتربية الإسلامية، وبناء نظم تربوية جديدة، وإقامة مؤسسات تربوية مجددة تتكامل فيها أدوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 المعرفة الثلاث: أي أدوات الوحي والعقل، والحواس لبلورة نموذج "مثل أعلى" جديد تتكامل فيه "غايات" الحياة مع "وسائلها". والتوصية السابعة، هي أن التربية الإسلامية المنشودة تحتاج أن تتعمق في فقه "المظهر الاجتماعي للعبادة في الإسلام"1، ثم تتمحور حول الدعوة إليه وتتوسع في تطبيقه ليشمل العالم كله دون التزام بقومية من القوميات، أو جنس من الأجناس. إن جانب القوة الذي مكن للشيوعية حوالي سبعين عاما هو تمحورها الإيدولوجي حول المظهر الاجتماعي للإصلاح، كما إن تنكرها لتطبيق هذه المظهر بعد التمكين، وقيام المعسكر الشيوعي قد أسهم في انفضاض أتباعها وانهيار مؤسساتها. وفي المقابل فإن انتباه الأقطار الرأسمالية للمظهر الاجتماعي، ومعالجته بقوانين الضمان الاجتماعي، وتشريعات العمل قد حال دون انتشار الشيوعية فيها، وأسهم في انتصارها في الحرب البادرة التي دارت بين المعسكرين. لقد أهملت كل من مؤسسات التربية الإسلامية التقليدية، وحركات الإصلاح والتجديد المظهر الاجتماعي للعبادة، فحصرت الأولى عملها في المظهر الديني، وتربية "فرد" يهيأ لعبور الآخرة منذ الولادة دون عبور بمحطة الدنيا. وتمحورت نشاطات الثانية حول إفراز "قومية دينية" سياسية تدافع عن "قابلية الاستعمار" في مزق الأمة الإسلامية المتوفاة، فكانت "عاقبة" الاثنين أن لم تنجح التربية التقليدية في الحفاظ على "أفرادها"، ولم تفلح حركات الإصلاح في تحقيق أهدافها. ولكن يجب الانتباه إلى أن التصور الشيوعي لـ"المظهر الاجتماعي" قد حمل في طياته عوامل هدمه وإفشاله، وذلك من خلال مظهري الضعف التاليين:   1 للوقوف على تفاصيل -المظهر الاجتماعي للعبادة- راجع كتاب -فلسفة التربية الإسلامية- للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 الضعف الأول، هو خطأ النظر إلى -موقع الإنسان في سلم الوجود- فالشيوعية التي أنكرت الخالق، وتبنت الإلحاد كرد فعل لوقوف الكنيسة إلى جانب معسكر "المترفين"، وليس كنتيجة من نتائج البحث العلمي والنظر الموضوعي في الوجود، وضعت الإنسان في الموقع الأول في الوجود -وليس المركز الوسط. فكان من نتائج ذلك الفهم أن الشيوعية هدمت إحساس الإنسان بمسئوليته أمام الخالق الذي يحاسبه على أعماله الخيرة والشريرة. وبذلك جعلت "إنسانها العامل" أكثر عرضة لمرض -الطغيان والاستضعاف- اللذين نهضت الشيوعية أصلا لمجابهتهما. فعندما تراءى لـ"الحزب الشيوعي" أنه استغنى، طغى وانقلب إلى طبقة أرستقراطية أبشع من أرستقراطية الرأسمالية. وهبطت تطبيقات اللينية ونظائرها بـ"العمال" إلى قطعان بشرية مسلوبة التفكير والإرادة. وبذلك تنكرت الشيوعية -من الناحية العلمية- لقيمها ومبادئها مبرهنة قوله تعالى: {إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} . والضعف الثاني، هو مفهوم الشيوعية عن "طبيعة الإنسان" الذي نقلته عن "الدارونية الاجتماعية"، والتي نقلها -دارون بطريقة غير مباشرة- عن الخطيئة الأصلية في المسيحية. فهذه الفكرة أصلت الشر في طبيعة الإنسان، وبررت نظرية الصراع الطبقي التي طرحتها الماركسية، وبذلك بذرت بذور الصراع، والتفكك بين أعتابها وفي مجتمعاتها نفسها. والخلاصة أن التربية الإسلامية المنشودة، والمرشحة لإخراج أمة إسلامية جديدة تتصدى لمعالجة أزمات حارات قرية الكرية الأرضية تحتاج أن يتمحور عملها حول المظهر الاجتماعي للعبادة مع مراعاة الاختلافات الفكرية الحاسمة التي تميز الإسلام عما سواه خاصة مفهوم الإسلام عن "هوية الإنسان" الذي يضع الإنسان في المركز الوسط من سلم الوجود، ومفهومه عن "طبيعة الإنسان" الذي يقرر أن الإنسان خير في الأصل، والشر طارئ عليه، وليس العكس كما قررت المسيحية وتطبيقاتها في الشيوعية والرأسمالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 وأهمية هذا التصور أن حركات الإصلاح، والتجديد التي تفرزها التربية الإسلامية المنشودة سوف لا تقف إلى جانب فريق من بني الإنسان ضد الفريق الآخر، وإنما سوف تعمل على إنقاذ جميع الفرقاء من مضاعفات مرض الانقطاع عن الله، والإسراف في حب الدنيا. فهذا المرض الذي ضربت مضاعفاته ميادين الحياة -خاصة الميادين الاجتماعية والاقتصادية- فأصابت "المترفين" الرأسماليين بسرطان "الطغيان" حين أبطرتهم القوة والثروة، فتخطوا حدود الوسطية، وقوضوا التوازن في الاجتماع الإنساني، وتحولوا إلى مترفين متسلطين سلبوا الآخرين حقوقهم في الحرية والعيش الكريم، وسلبوا أنفسهم محبة الله والناس من حولهم، وأحاطوها ببيئات الحقد ومجتمعات الكراهية وفقدان الأمن. كذلك أصاب المرض المذكور العمال "المستضعفين" بسرطان "الهوان" حين أيأسهم فقدان القوة، والثروة والعدل فتحولوا إلى كافرين بالخير معادين للدين والأخلاق والإنسان. ووضوح هذا التصور لإنسان التربية الإسلامية المنشودة يجعل هدف -إخراج الأمة المسلمة- أن تكون المرشد الأعظم Supreme Guide، وليس القوة العظمى Super Power، وهذا هو المنصب الذي ترمز إليه -قصة ذي القرنين- في سورة الكهف من القرآن الكريم: فإذا توجهت -الأمة المسلمة- شرفا ووجدت شعوبا معرضة لهجمات همجية يأجوجية ومأجوجية، فإنها لا تستغل ضعف هذه الشعوب، ولا تجعل منها سوقا دولية للسلاح. وإذا توجهت غربا ووجدت شعوبا جاهلة متخلفة، فإنها لا تستغل جهلها وتخلفها لابتزاز ثرواتها ومصادر عيشها، وإنما تدافع عن المعتدي عليه، وتأخذ بيد الجاهل المتخلف قائلة لكلا الطرفين إذا عرضوا عليها أجرا: "ما مكنني به الله خير!! ". وهذا النموذج لـ"الأمة المسلمة" عامل رئيس في تحديد صورة -المثل الأعلى الجديد- الذي يجب أن تطرحه مؤسسات التربية الإسلامية للعالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 كله ليكون علاجًا حاسمًا لمرضى "الطغيان" و"الاستضعاف"، ومضاعفاتهما في الاستكبار والاستعباد، وليكون واقيا من استفحال عقلية "الطغيان" التي تنسى الله الخالق، وتغفل عن سننه في الاجتماع الإنساني والتاريخ، وتضع "الإنسان المترف" في المقام الأول في الوجود، وتهبط بـ"الإنسان المستضعف" إلى أسفل سلم المخلوقات. فعقلية الطغيان هذه عقلية خطيرة مدمرة تحمل في تلافيفها تدمير الإنسان وانهيار الحضارة. فقوة الله القيوم قائمة في التاريخ، فاعلة مهيمنة في الاجتماع الإنساني، وسوف نرى عملها فلا تستعجلوه!! وعلى التربية الإسلامية الجديدة، ومؤسساتها التنفيذة أن تقنع العالم بالبينة، وسلطان البرهان والعلم أن سنن الله لا يعلو عليها "الإنسان المترف" الذي يطغى أن رآه استغنى، فإن إلى ربنا الرجعي!! والتوصية الثامنة، إن التربية الإسلامية المنشودة تحتاج أن تضع في قمة أساليبها بناء "مؤسسات القراءة"، والانطلاق -من القراءة- في كل عمل أو نشاط. والمقصود بالقراءة قراءة كل ما يتعلق بالأمم التي تسكن قرية الكرة الأرضية، ونشاطاتها وثقافاتها، وأنماط تفكيرها. ولا بد من توفير وسائل القراءة التي تبتكرها تكنولوجيا العصر، وتيسر الإحاطة بكل لغات العصر وفلسفات العصر وشئون العصر. ولا بد من توفير "القراء" المتخصصين المتفرعين الذين يتوزعون، ويتكاملون حسب موضوعات القراءة وميادينها ووسائلها؛ لأن "القراءة" المطلوبة يجب أن "تحيط" بكل ما يجري في قرية الكرة الأرضية، و"ترسخ" في التفاصيل الدقيقة قبل أن تقدم على أي تخطيط أو تنفيذ. وهذا هو اللائق بالأمة التي تنهض للعمل باسم دين بدأ الوحي فيه بكلمة "اقرأ"، ولم يبدأ بـ"صل" أو "زك" أو "حدج" أو "جاهد" أو ... أو ... لأن كل صلاة أو زكاة أو حج أو جهاد، أو عمل لا تسبقه قراءة راسخة محيطة بأهداف العمل وميادنيه ومناهجه، وطرقه ووسائله وأدواته وطبيعة عصره، وبيئته سوف يكون عملا فاشلا خاسرا. إن آفة -المسلم التقليدي- الموجود أنه يناصر، ويخاصم بدون قراءة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 وهو إن قرأ فقراءته سطحية لا تتصف بالإحاطة والرسوخ. يناصر الإسلام ولا يقرأه، أو هو يقرأ شعارات عامة وملصقات ذهنية غانمة. ويخاصم الفلسفات والأيدولوجيات -كالشيوعية أو الرأسمالية- ولا يقرأ كتبها الأصلية وأصولها الفكرية، وإنما يررد ما تنتشره الصحف، أو تبثه إذاعات المعسكرات الممثلة لها والمتنافسة لقولبة الأذهان، وتعبئة المشاعر وتشكيل الاتجاهات، ولذلك يقع المسلم التقليدي في أخطاء قاتلة، وينتهي إلى إحباطات مدمرة!! والتوصية التاسعة، أن التربية الإسلامية المنشودة تحتاج إلى شجاعة ووعي لفك الارتباط القائم بينها وبين "أزمات العصبيات القبلية والإقليمية" المتتالية في "مزق" الأمة الإسلامية. أي بحاجة أن تتخذ طابعا عالميا -إنسانيا في الطروحات الفكرية والولاءات العملية، وأن تتوجه في استراتيجيتها الكبرى إلى حشد "المؤمنين" الأقوياء من حارات قرية الكرية الأرضية، وإخراج الأمة الإسلامية الجديدة التي تملأ الفراغ في الأرض المباركة التي حدد حدودها، وأقام مؤسساتها الرسل الكرام ابتداء من إبراهيم حتى محمد صلوات الله وسلامه عليهم. وعلى التربية الإسلامية أن تحذر من الطابع القومي الذي أفرزته مناهج التربية التقليدية، والتربية المستوردة وأدت إلى وضع العمل الإسلامي في خدمة المضاعفات التي يتسبب بها "حران"1 العربي المعاصر، والباكستاني المعاصر، والإيراني المعاصر ونظائرهم، وأقرانهم في مزق الإسلامية المتوفاة عن دخول عصر التكتلات العالمية التي تلغي الحدود الإقليمية، وتطلق الولاءات العصبية، وترتقي إلى دائرة الولاء لـ"الأفكار" الإسلامية العالمية، وعناصرها المكونة للأمة المسلمة الحقة. فسرطان المسلم التقليدي الذي يهيؤه، لأن يستبدله الله بأقوام لا   1 الحران: من الفرس أو البغل الحرون. أي الذي يتوقف ويرفس، ويرفض السير أو الجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 يكونون أمثاله، هو هذا الحران العنيد الذي يصر على البقاء في طور العصبيات الإقليمية، والقبلية ويرفض الانتقال إلى طور "الأمة العالمية" الدائرة في فلك "الأفكار" الإسلامية، ويتحايل على دائرة الانتماء الإسلامي بمنظمات صورية تعمل كمقابر لمشكلات "مزق" الأمة الإسلامية المتوفاة!! الأمر الذي خرج به عن صراط الإيمان والإسلام، وأركسه في تعرجات النفاق الذي بدأ صغيرا ثم تطور إلى نفاق أكبر أركسه في الدرك الأسفل من هوان الدنيا، ويؤهله للدرك الأسفل من نار الآخرة! ولا يقتصر هذا الحران العنيد، الذي يفرض الانتقال من "ثقافة العصبية القبلية" وتطبيقاتها، على الأنظمة السياسية والإدارية القائمة في "مزق" الأمة الإسلامية، المتوفاة!! بل إن الحركات الإسلامية القائمة لم "تتزك" من ثقافة العصبية القبلية، وإنما بقيت غارقة في حمأتها حتى الأذن. فالمرشد العام للجماعة، أو المراقب العام، أو الأمين العام للجبهة أو الحزب يبقى مرشدًا "راشدا"، وأمينا "أمينا" مدى الحياة محاطا بـ"العصمة" التي تحيط بشيخ القبيلة، ولا يطوله النقد الذي طال الخليفة عمر بن الخطاب. وحين يشيخ "معاوية"، أو يموت يرثه في منصب المرشد أو المراقب، أو الأمين العام أو المجلس النيابي ولده "يزيد". والمجموعة المتعاونة معه لا يجري اختيارها طبقا لمقاييس الدوران في فلك "أفكار" الجماعة أو الحزب، وإنما طبقا للدوران في فلك "أشخاص" القربى والمصاهرة، والشراكة التجارية والصدقات الشخصية، والانتماء الإقليمي أو طبقا لمستوى امتلاكهم لـ"أشياء" الدنيا وأمثال ذلك. والدعوة ليس لها استراتيجية ولا خطط ولا مؤسسات، وإنما هي ارتجال وردود فعل لما يطرحه الإعلام المحلي والعالمي، واستجابات إشراطية منفعلة كاستجابات الحمية القبلية. وأساليب الدعوة تقتصر على -الخطابة والموعظة غير الحسنة- القائمة على الانفعال والارتجال، الجاهلة بالنفس البشرية ومفاتيحها. وليس هناك مؤسسات لإخراج من يدعو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 بـ"الحكمة" والإعداد الموازين لمتطلبات العصر. وليس هناك مؤسسات لإعداد المفكرين المختصين بـ"الجدال الأحسن" الذين يخاطبون الفكر الإنساني كله بـ"أحسن" مما عنده. وليس هناك مؤسسات لـ"شهود" ما يجري في قرية الكرة الأرضية، و"قراءته" قراءة راسخة محيطة تمهد لـ"حكمة" التخطيط والتنفيذ. ليس هناك شيء من هذه المؤسسات والاستراتيجيات، بل الأمر متروك للكر والفر الخطابي، وللجهود الفردية. فإذا أفرزت الصدقة مفكرا فردا فظهر أمره، وشاع استثمرت الجماعة أو الحزب أفكاره، ومجهوداته -ما دامت توصف بالصواب وتحظى بالقبول، وإذا تناول النقد أفكار الفرد المذكور، أو أصاب التطرف تطبيقاتها تبرت الجماعة من المفكر، وأفكاره وألقت المسئولية عليه وحده. والتوصية العاشرة الأخيرة، أن يتم التنسيق بين كافة المؤسسات المقترحة لتكون دائرة عمل فاعلة -متجددة بتحدد الحياة واستمرارها. ومثلما كان الطائر والسمكة هما النموذج الذي اهتدى به مصممو الطائرة والسفينة، فكذلك يجب أن يكون جسد الإنسان هو النموذج الذي يهتدي به تنسيق العمل الإسلامي ودائرة التنظيم المقترحة. فكما تحتل غدد الإفراز الموجهة -كالقلب والدماغ والرئتين والكلى، والبنكرياس -أحصن المواقع في الجسد وأخفاها حتى عن بصر صاحب الجسد نفسه، وتقوم بوظائف بعث الحياة في الجسد وتوجيه أنشطته وتنقيته مما يؤذيه، كذلك يجب أن يحل العمل الإسلامي -علماءه ومفكريه، أو "أولو الأمر" فيه- أحصن المواقع وأخفاها حتى عن عناصر العمل الإسلامي نفسه، ليقوموا في مواقعهم الحصينة الخفية بوظائف ثلاث: الأولى، تطوير -المثل الأعلى- اللازم لكل جيل من أجيال العاملين لإخراج الأمة المسلمة وعافيتها، والثانية، رسم الخطط والاستراتيجيات، والثالثة، التقويم والمراجعات والتزكية من المعوقات. فالعمل الإسلامي لديه الخبرة الكافية -إن كان يعقل- عن سياسات "حكماء مترفي قرية الكرة الأرضية" إزاء الرؤوس المفكرة المسلمة، وإبطال فاعلية العمل الإسلامي وإيقاف حركته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 ويمكن أن نمثل لدائرة التنظيم المقترحة بالرسم التالي: هذه بعض التوصيات التي لا تعدو أن تكون مثيرات، ومنبهات للذين سوف يرشحهم الله لإخراج -الأمة المسلمة- من جديد، فلعلها تساعدهم على آداء فرض الله في "العمل الجماعي"، وتجسيد قوله -صلى الله عليه وسلم: "يد الله مع الجماعة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 المصارد والمراجع ... المصادر والمراجع: أولا: المصادر العربية: أ- القرآن والحديث: 1- القرآن الكريم. 2- صحيح البخاري. 3- صحيح مسلم "شرح النووي". 4- سنن الترمذي. 5- سنن أبي داود. 6- سنن النسائي. 7- سنن ابن ماجه. 8- سنن الدارمي. 9- مسند أحمد "تصنيف الساعاتي". 10- المعجم الكبير/ للطبراني: بغداد: وزارة الأوقاف والشئون الدينية 1982. 11- السنن الكبرى/ للبيهقي. 12- كنز العمال/ المتقي الهندي. 13- المناوي، عبد الرءوف، فيض القدير شرح الجامع الصغير، جـ4، جـ6 القاهرة، دار الفكر، 1391/ 1972. 14- عز الدين بليق، منهاج الصالحين، بيروت: دار الفتح، 1398/ 1978. 15- عبد الله بن المبارك المروزي، كتاب الزهد والرقائق، مؤسسة الرسالة، بلا تاريخ. 16- محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام رسول الإسلام، طنطا، 1373/ 1954. 17- تفسير الطبري. 18- تفسير القرطبي. 19- تفسير ابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 20- سيرة ابن هشام، جـ4، القاهرة: مكتبات الكليات الأزهرية، بلا تاريخ. ب- المصادر والمراجع: 21- ابن تيمية، الفتاوى، توحيد الألوهية، جـ1. 22- ـ، ـ، مجمل اعتقاد السلف، جـ3. 23- ـ، ـ، كتاب السلوك، جـ10. 24- ـ، ـ، كتاب التصوف، جـ11. 25- ـ، ـ، كتاب التفسير، جـ15. 26- ـ، ـ، كتاب أصول الفقه، جـ20. 27- ـ، ـ، كتاب الجهاد، جـ28. 28- ـ، ـ، كتاب قتال أهل البغي، جـ35. كل هذه المجلدات من منشورات الرياض، عام 1398هـ. 29- السيوطي، لباب النقول. 30- ابن الواحدي، علي، أسباب نزول القرآن، دار القبلة للثقافة الإسلامية: جدة، 1404/ 1984. 31- فنسنك، معجم ألفاظ الحديث. جـ- الكتب الحديثة: 32- جودت سعيد، العمل، دمشق: دار الثقافة، 1400/ 1980. 33- فخري، أحمد، مصر الفوعونية، ط3، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1970. 34- فور، إيدجار، تعلم لتكون، ترجمة د. حنفي بن عيسى، الجزائر: اليونسكو - والشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1976. 35- فينكس، فيليب، فلسفة التربية، ترجمة د. محمد لبيب النجيجي، القاهرة: دار النهضة العربية، 1982. 36- الكيلاني، ماجد عرسان، فلسفة التربية الإسلامية، ط2، بيروت: مؤسسة الريان 1419/ 1998. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 1- Arnov, Robert, F. (ed) Philanthropy and Cultural Imperialism. Bloo- mingtan: Indiana University Press, 1982. 2- The ASCD Committee on Research and Theory, Measuring and At- taining the Goals of Education. USA, 1980. 3- Barnet, Richard J. Global Reach. New York: Simon and Schuster, 1974. 4- Becker, James. Education for A Global Society, Indiana: Blooming- ton: The Phi Delta Kappa, 1973. 5- Becker, James and Lee Anderson "Ridexs on the Earth Together" in Education in A Dynamic Society, ed. by Dorothy Westby-Gibson, Masachusettes: Addison-Westby. Publishing Co, 1972. 6- Berman, Edward H. The Infulence of the Carnegie, Ford, and Rocke- feller Foundations on the American Policy: The Ideology of Philanthropy, New york: State University Press, 1983. 7- Besag, Frank P. and Jack L. Nelson, The Foundation of Education, New york: Random House, Inc. 1984. 8- Bowels, Samuel and Herbert Ginitis, Shooling in Capitalist America. New york: Basic Books, Inc. 1976. 9- Carnoy, Martin, Education as Cultural Imperialism, New york: Long- man Inc. 1974. 10- Commoner, Barry, The Closing Circle, New york, knoff, 1977. 11- Corwin, Ronald G. Education in Crisis, New york: John Wiley and Sons Inc. 1974. 12- Dewey, John. Democracy and Education, New york: Macmillan Co. 1944. 13- Dewey, John, Experience and Education. 10th ed. New york: Collier Books, 1969. 14- Dobos, Rene, So Human An Animal, New york: Charles Scriber's Sons, 1968. 15- Fromm, Erich, "The Nature of Love" in, The Contemporary Scene. edited by Paul B.Weisz, New york: Mc Graw-Hill Book Co., 1970. 16- Globe, Frank. The Third Force, New york: Pocker Books, 1970. 17- Heresy, Paul and Ken Blanchard, Management of Organization Beha- vior, 4th edition, Engle wood Cliff: Prentice-H Inc. 1982. 18- Lappe, Francis Moor and Joseph Collins, Food First, Boston Houghton Mifflin Co., 1977. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 19- Maslow, Abraham, Motivation and Personality, New york: Harper & Row Publishers, 1970. 20- Maslow, Abraham, The Farther Reaches of Human Nature, New york: Penguin Books, 1979. 21- Maslow, Abraham, Toward a Psychology of Being, New york: D.Van Nostrand Co., 1968. 22- Schumacher, E.Fritz, Small is Beautiful, New york: Harper & Row, Inc. 1973. 23- Spring, Joel, Education the Worker Citizen, New york: Longman Inc. 1980. 24- Toffler, Alvin, Future Schock, New york: Bantam Co. 1981. 25- Webb, Rodman B. Schooling and Society, New york: Macmillan Publishing Co. 1981. 26- White, John, The Aims of Education, London: Routledge and Kegan Paul, 1982. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554