الكتاب: سياست نامه أو سير الملوك المؤلف: الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، أبو علي، الملقب بقوام الدين، نظام الملك (المتوفى: 485هـ) المحقق: يوسف حسين بكار الناشر: دار الثقافة - قطر الطبعة: الثانية، 1407 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- سياست نامه = سير الملوك نظام الملك الكتاب: سياست نامه أو سير الملوك المؤلف: الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، أبو علي، الملقب بقوام الدين، نظام الملك (المتوفى: 485هـ) المحقق: يوسف حسين بكار الناشر: دار الثقافة - قطر الطبعة: الثانية، 1407 عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم مُقَدّمَة مؤلف الْكتاب رب يسر وَلَا تعسر الْحَمد الله عز وَجل فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض رَازِق الْعباد عَالم السِّرّ والجهر وغفار الذُّنُوب وَالسَّلَام على خير الْبَريَّة مُحَمَّد بن عبد الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أعظم الْأَنْبِيَاء وَرَسُول الله بالفرقان للنَّاس كَافَّة وعَلى أَصْحَابه وعترته أَجْمَعِينَ يَقُول العَبْد الْفَقِير حُسَيْن الطوسي أَنه لما صدر الْأَمر الملكي العالي من لدن معز الدُّنْيَا وَالدّين أبي الْفَتْح ملكشاه بن مُحَمَّد يَمِين أَمِير الْمُؤمنِينَ أعز الله أنصاره وضاعف اقتداره إِلَيّ والى آخَرين غَيْرِي عَام 479 هـ بِأَن ليقلب كل مِنْكُم صفحات فكره ويتأمل أيوجد ثمَّة شَيْء غير مَحْمُود على عهدنا أَو أَنه جرى على غير شَرطه أَو غام عَن أَعيننَا وخفي علينا تنفيذه سَوَاء فِي البلاط أم الدِّيوَان أم الْقصر أم الْمجْلس هَل من أَمر سَار فِيهِ الْمُلُوك قبلنَا سيرا صَحِيحا وفاتنا ذَلِك أنعموا النّظر فِي كل شَيْء من أنظمة الْملك وقواعده وعادات الْمُلُوك فِي عهد مُلُوك السلاجقة السالفين تأملوها جيدا وقيدوها بجلاء ثمَّ أعرضوها علينا كَيْمَا نَنْظُر فِيهَا ونأمر بِأَن تطبق الْأُمُور الدِّينِيَّة والدنيوية بعد هَذَا وفْق أُصُولهَا وقواعدها ونعرف مَا يُمكن تلافيه ونجري كل أَمر على شَرطه وقاعدته ونقضي بتنفيذ أوَامِر الله تَعَالَى وتطبيقها ونتلافى مَا نستطيع كل مَا مضى من عمل سيئ لِأَن الله تَعَالَى وهبنا الدُّنْيَا وملكها وأسبغ علينا نعْمَة كَامِلَة وقهر أعداءنا يَنْبَغِي أَلا يظل أَي شَيْء بعد الْآن فِي مملكتنا نَاقِصا أَو متزلزلا أَو أَن الْأُمُور فِيهَا تسير بِخِلَاف الشَّرْع وأوامر الله تَعَالَى لذا عَمَدت أَي نظام الْملك إِلَى درج وَشرح كل مَا كنت أعرفهُ أَو رَأَيْته أَو خبرته من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 تجارب فِي حَياتِي أَو تعلمته من أساتذتي فِي الْمَوْضُوع فِي هَذَا الْكتاب فِي خمسين فصلا ينْطق فهرسها بموضوعات كل مِنْهَا وأوردت فِي كل فصل مَا يَلِيق بِهِ من أَخْبَار وحكايات من أَقْوَال العظماء الَّتِي لَا تبْعَث على الْملَل عِنْد الْقِرَاءَة بل تكون ألصق بالطبع وَأقرب إِن فِي هَذَا الْكتاب فَوَائِد كَثِيرَة فَمن يقرأه وَيعْمل بِمُقْتَضَاهُ ينل ثَوَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَقَد ألفته لخزانة كتب السُّلْطَان المعمورة عمرها الله وقدمته إِلَيْهِ راجيا أَن يحظى بقبوله وتأييده إِن شَاءَ الله لَيْسَ لأي ملك أَو حَاكم مندوحة من اقتناء هَذَا الْكتاب وَمَعْرِفَة مَا فِيهِ خَاصَّة فِي هَذِه الْأَيَّام فَكلما قرأوه أَكثر ازدادت درايتهم بِأُمُور الدّين وَالدُّنْيَا واتسعت رُؤْيَتهمْ فِي معرفَة أَحْوَال الصّديق والعدو وانفتحت أمامهم سبل تصريف الْأُمُور وإدارتها واتضحت لَهُم قَوَاعِد تَدْبِير شؤون البلاط وَالْقصر والديوان والمجلس والميدان وَالْأَمْوَال والمعاملات والعسكر والرعية بِحَيْثُ لَا يظل فِي أرجاء المملكة شَيْء خافيا صَغِيرا كَانَ أم كَبِيرا قَرِيبا أم بَعيدا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي البدء ألف نظام الْملك نور الله قَبره هَذَا الْكتاب بديهة من تِسْعَة وَثَلَاثِينَ فصلا مُخْتَصرا وَقدمه غير أَنه أعَاد النّظر فِيهِ بعد ذَلِك فأضاف إِلَيْهِ لما كَانَ يعتمل فِي صَدره من ضغن على مخالفي هَذِه الدولة أحد عشر فصلا أُخْرَى وَزَاد على كل فصل مَا يَلِيق بِهِ ثمَّ أعطانيه عِنْد خُرُوجه للسَّفر لكنني لم أجرؤ على إِظْهَاره على النَّاس للحادث الَّذِي وَقع لَهُ أَي نظام الْملك على طَرِيق بَغْدَاد وَخُرُوج الباطنية وإلحاقهم الْأَذَى بِالنَّاسِ إِلَّا فِي الْوَقْت الَّذِي قويت فِيهِ شَوْكَة الْعدْل والأنصاف وَالْإِسْلَام فِي ظلّ سيد الْعَالم خلد الله ملكه أدام الله تَعَالَى بِحَق مُحَمَّد وَآله هَذِه الدولة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الْفَصْل الأول فِي أَحْوَال النَّاس وتقلب الْأَيَّام ومدح سُلْطَان الْعَالم خلد الله ملكه يتَخَيَّر الله تَعَالَى فِي كل عصر وزمان وَاحِدًا من بَين خلقه فيضفي عَلَيْهِ فَضَائِل الْملك ويزينه بهَا ويكل إِلَيْهِ مصَالح الْبِلَاد وراحة الْعباد ويوصد بِهِ أَبْوَاب الْفساد وَالِاضْطِرَاب والفتنة ويبث هيبته ووقاره فِي أعين الورى وأفئدتهم ليقضي النَّاس أيامهم فِي ظلّ عدله ويعيشوا آمِنين متمنين دوَام ملكه فَإِذا مَا بدا وَالْعِيَاذ بِاللَّه من الْعباد عصيان واستخفاف بالشريعة أَو تَقْصِير فِي طَاعَة الله تَعَالَى وَاتِّبَاع أوامره وَأَرَادَ أَن يعاقبهم ويجازيهم بأعمالهم لَا أرانا الله مثل هَذِه الْأَيَّام وجنبنا هَذَا الإدبار فَإِنَّهُ تَعَالَى يصب عَلَيْهِم جَام غَضَبه وخذلانه بِأَن يحرمهم من ملك صَالح يختطفه من بَينهم فتشب الْفِتَن وتشرع السيوف وتهرق الدِّمَاء وَيفْعل الأقوياء مَا يشاؤون إِلَى أَن يهْلك المجرمون والعاصون جَمِيعًا فِي أتون تِلْكَ الْفِتَن ونزيف الدَّم ويخلو الْعَالم مِنْهُم ويصفو وَلَا مناص من أَن يهْلك وَالْحَال هَذِه عدد من الأبرياء بجريرة المذنبين فحين تشتعل النَّار فِي المقصبة فَإِنَّهَا تلتهم الْيَابِس كُله وقسما كَبِيرا من الْأَخْضَر أَيْضا بالمجاورة وَمن ثمَّ فَإِن الله بقدرته الربانية يخْتَص أحد عبَادَة بالسعادة وَالْملك ويمنحه مَا هُوَ أَهله من ثروة ونعمه ويهبه عقلا وعلما وَحِكْمَة يرْعَى بهَا من هم فِي إمرته ويسيرهم كل بِمَا يسْتَحق ثمَّ يضع كلا مِنْهُم فِي الْمحل وَالْمَكَان وَالْعَمَل الَّذِي يَلِيق بِهِ وَيصْلح لَهُ أما الوزراء والأكفاء من الرِّجَال فيختارهم من وسط الرّعية ويحلهم الدَّرَجَات والمنازل الرفيعة ويعتمد عَلَيْهِم فِي المهام الدِّينِيَّة والدنيوية ليجنب الرّعية الَّتِي سلكت سَبِيل الطَّاعَة وانصرفت إِلَى شؤونها وأعمالها الْخَاصَّة المتاعب والآلام ليقضوا حياتهم فِي رَاحَة وطمأنينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فِي ظلّ عدله وَإِذا مَا ظهر من أحد الوزراء والعمال تَقْصِير وتطاول فارتدع بعد تأديبه ونصحه ومجازاته وَسدر عَن غيه وصحا من غفوته فَلَا بَأْس فِي الْإِبْقَاء عَلَيْهِ وَألا تجب تنحيته واستبداله بآخر لَائِق وَإِذا لم يقدر فريق من الرّعية النِّعْمَة والأمن والراحة والاستقرار حق قدرهَا فسولت لَهُم نُفُوسهم بالخيانة والتمرد وتجاوزوا حدودهم وأقدارهم فتنبغي مؤاخذتهم وتقريعهم بِقدر ذنوبهم ومجازاتهم ومعاقبتهم بِقدر جرمهم ثمَّ الْعَفو عَنْهُم وغض الطّرف عَمَّا حدث أما فِيمَا يتَّصل بالعمران فَيجب شقّ القناوات وإيجاد الجداول الجيدة النافعة وإنشاء القناطر والجسور على الْأَنْهَار الْكَبِيرَة الْعَظِيمَة وإحياء الْقرى والمزارع وإعمارها وَإِقَامَة الأسوار وتشييد المدن الجديدة وتأسيس الْأَبْنِيَة الشامخة والمجالس البديعة وَإِقَامَة الرَّبْط على الطّرق الرئيسة وَبِنَاء الْمدَارِس لطلاب الْعلم فَبِهَذَا كُله تخلد الْأَسْمَاء إِلَى الْأَبَد وينال ثَوَاب الْآخِرَة ويتوالى دُعَاء الْخَيْر وَبِمَا أَن الله تَعَالَى قضى أَن يكون هَذَا الْعَهْد مِثَالا لتواريخ العهود السالفة وزينة أَعمال الْمُلُوك الماضين وَأَن يهب الْخَلَائق سَعَادَة لم تكن لغَيرهم من قبل فقد أظهر سُلْطَان الْعَالم وَالْملك الْأَعْظَم من أصلين باسقين جمعا بِالْملكِ والسيادة كَابِرًا عَن كَابر إِلَى أفراسياب الْكَبِير وأنعم عَلَيْهِ بمكارم وجلائل لم تكن لأحد قبله من مُلُوك الأَرْض وأسبغ عَلَيْهِ تَعَالَى كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُلُوك من حسن الطلعة والخلق الْحسن وَالْعدْل والرجولة والشجاعة والفروسية وَالْعلم والتمرس بأنواع السِّلَاح وَالْأَخْذ بِكُل الْفُنُون والشفقة وَالرَّحْمَة بعباد الله عز وَجل وَالْوَفَاء بالنذور والوعود والتمسك بِالدّينِ الصَّحِيح والاعتقاد السَّلِيم والتفاني فِي طَاعَة الله تَعَالَى وتأدية الْفَضَائِل من مثل قيام اللَّيْل وَالصِّيَام تقربا واحترام عُلَمَاء الدّين وإكرام الزهاد والمتقين واستمالة الْعلمَاء والحكماء وبذل الصَّدقَات فِي اسْتِمْرَار وَالْإِحْسَان إِلَى الْفُقَرَاء والدراويش ومعاملة خدمه وعماله وَمن هم تَحت سلطته بِالْحُسْنَى وسجن الظَّالِمين من الرّعية وَلَا جرم فِي أَن الله تَعَالَى وهبه الْملك وَالسُّلْطَان جَزَاء وفَاقا لكفاءته وَحسن اعْتِقَاده وسخر لَهُ الدُّنْيَا وَبث هيبته وسلطته فِي شَتَّى الأقاليم حَتَّى يُؤَدِّي النَّاس كلهم لَهُ الْخراج ويأمنوا سطوته بتقربهم إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وَفِي حِين أَن عهود بعض الْخُلَفَاء مِمَّن رزقوا بسطة فِي الْملك وَالسُّلْطَان لم تخل فِي أَي وَقت من قلق وتخوف من خُرُوج الخارجين والمنشقين فَلَيْسَ فِي هَذَا الْعَهْد الْمُبَارك من أحد سَوَّلت لَهُ نَفسه بعصيان وتمرد أَو شقّ عَصا الطَّاعَة أدام الله هَذِه الدولة إِلَى يَوْم الدّين وجنبها حسد الحساد ليقضي النَّاس عمرهم فِي ظلّ عدل السُّلْطَان وَحكمه داعين لَهُ بِالْخَيرِ تمشيا مَعَ حَال الدولة الَّتِي أسلفنا فقد كَانَ لَهَا من الْعُلُوم والرسوم والآداب الحميدة مَا يُنَاسِبهَا وَبِمَا أَن الْعلم كالشمعة تنبثق مِنْهُ الْأَنْوَار من كل جَانب فقد خرج النَّاس بِنور الْعلم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَلم يحْتَج السُّلْطَان إِلَى أَي مشير أَو دَلِيل لكنه فكر وَقدر وَأَرَادَ أَن يمْتَحن النَّاس وَيعرف مَا هم فِيهِ من عقل وَعلم وَلما كَانَ السُّلْطَان أَمرنِي بتقييد بعض الْخلال الحميدة الَّتِي لَا غنى للملوك عَنْهَا وكل مَا كَانَ عَلَيْهِم الْقيام بِهِ وَلم ينجزوه وَمَا هُوَ مَقْبُول وَغير مَقْبُول فقد قُمْت امتثالا بِالْأَمر الْأَعْلَى بِجمع كل مَا رَأَيْته وسمعته وعرفته وقرأته ثمَّ كتبت هَذِه الْفُصُول الَّتِي يضم كل مِنْهَا مَا يُنَاسِبه بإيجاز وَعبارَة وَاضِحَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الْفَصْل الثَّانِي فِي معرفَة الْمُلُوك قدر نعْمَة الله تَعَالَى إِن معرفَة قدر نعْمَة الله تَعَالَى تديم رِضَاهُ عز اسْمه الَّذِي يكون فِي الْإِحْسَان الى الْخلق وَنشر الْعدْل بَينهم فَفِي دُعَاء النَّاس بِالْخَيرِ تثبيت للْملك وازدهاره ومدعاة لتمتع الْملك بلسطانه وَملكه فيكسب بِهَذَا السمعة الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا والفوز فِي الْآخِرَة وَيكون حسابه يَسِيرا وَقد قَالَ عُلَمَاء الدّين الْملك يبْقى مَعَ الْكفْر وَلَا يبْقى مَعَ الظُّلم جَاءَ فِي الْأَخْبَار أَنه لما لَاقَى سيدنَا يُوسُف (عَلَيْهِ السَّلَام) وَجه ربه وَأَرَادُوا نَقله الى مقَام سيدنَا إِبْرَاهِيم (عَلَيْهِ السَّلَام) لدفنه فِي جوَار آبَائِهِ هُنَاكَ هَبَط جِبْرَائِيل (عَلَيْهِ السَّلَام) وَقَالَ ادفنوه هُنَا فَلَيْسَ مَكَانَهُ هُنَاكَ لِأَنَّهُ يجب أَن يسئل يَوْم الْقِيَامَة عَن الْملك الَّذِي كَانَ يديره إِن تكن هَذِه حَال يُوسُف النَّبِي فَمَا بالك بالآخرين وَورد فِي الْأَثر عَن النَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَنه سيؤتى يَوْم الْقِيَامَة بِكُل من كَانَت لَهُ على النَّاس حُكُومَة وسلطة مغلول الْيَدَيْنِ فَإِن كَانَ عادلا فعدله هُوَ الَّذِي يفك قَيده ويدخله الْجنَّة وَإِن كَانَ ظَالِما فجوره هُوَ الَّذِي يبقيه مكبلا ويلقي بِهِ فِي النَّار وَورد عَنهُ (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَيْضا إِن كل من وكل فِي الدُّنْيَا بِأحد سَوَاء من النَّاس أم من أهل بَيته أم من هم من تَحت إمرته سيسئل عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة مِثْلَمَا يسئل الرَّاعِي عَن غنمه يُقَال أَن عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا سَأَلَ أَبَاهُ وَهُوَ يحتضر يَا أَبَت مَتى أَرَاك فَأجَاب فِي الدَّار الْآخِرَة فَقَالَ عبد الله أُرِيد قبل هَذَا قَالَ عمر ستراني فِي الْمَنَام اللَّيْلَة الأولى أَو الثَّانِيَة أَو الثَّالِثَة وَمَرَّتْ اثْنَتَا عشرَة سنة دون أَن يرَاهُ وَلما رَآهُ بعد ذَلِك قَالَ لَهُ يَا أَبَت ألم تقل أنني سأراك بعد ثَلَاث لَيَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قَالَ عمر وَكنت مَشْغُولًا إِذْ كَانَت قنطرة قد انهارت فِي سَواد بَغْدَاد فتوانى أولو الْأَمر فِي إِعَادَة بنائها وَلما كَانَ قطيع من الْغنم يمر من عَلَيْهَا علقت رجل شَاة فِي أحد جحورها فَانْكَسَرت ومنذ ذَلِك الْوَقْت إِلَى الْآن وَأَنا أُجِيب عَن ذَلِك وَفِي الْحَقِيقَة أَن سُلْطَان الْعَالم يدْرك أَنه سَوف يسئل فِي ذَلِك الْيَوْم الْعَظِيم عَمَّن هم تَحت أَمرته وَأَنه لن يسمع مِنْهُ إِذا مَا أحَال الْأَمر على شخص آخر فَمَا دَامَ الْأَمر كَذَلِك يَنْبَغِي عدم الْعَهْد بِهَذِهِ المهمة لأحد وَعدم الْغَفْلَة عَن شؤون الْخلق بل يجب الاستفسار عَن أَحْوَالهم فِي اسْتِمْرَار سرا وَعَلَانِيَة بِقدر المستطاع وَالْقَضَاء على التطاول وإنفاذ المظلومين من الظَّالِمين حَتَّى تؤتي هَذِه الْأَفْعَال أكلهَا فِي عَهده وتترى أدعية الْخَيْر لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الْفَصْل الثَّالِث فِي جُلُوس الْملك للمظالم والتحلي بالخصال الحميدة لَا بُد للْملك من الْجُلُوس للمظالم يَوْمَيْنِ فِي الْأُسْبُوع لاستلال الْعدْل من الظَّالِمين وأنصاف الرّعية وَالِاسْتِمَاع إِلَى مطالبها والبت فِي أهم الشكاوى الَّتِي تعرض عَلَيْهِ وإصدار حكمه فِيهَا فَمَا إِن يشيع فِي المملكة بِأَن الْملك يَسْتَدْعِي إِلَيْهِ المتظلمين وطلاب الْعدْل يَوْمَيْنِ أسبوعيا ليستمع إِلَى مطالبهم وتظلماتهم حَتَّى يخَاف الظَّالِمُونَ فيكفوا أَيْديهم عَن النَّاس وَلَا يَجْرُؤ أحد على الظُّلم والتمادي خشيَة الْعقَاب حِكَايَة فِي هَذَا الْمَعْنى قَرَأت فِي كتب الْمُتَقَدِّمين أَن أَكثر مُلُوك الْعَجم كَانُوا يُقِيمُونَ دكة مُرْتَفعَة فِي العراء ويقفون عَلَيْهَا ممتطين الْجِيَاد ليتمكنوا من رُؤْيَة جَمِيع المتظلمين الَّذين كَانُوا يَجْتَمعُونَ هُنَاكَ لإنصافهم وَكَانَ سَبَب هَذَا أَن الْملك كَانَ يجلس فِي مَكَان موصدة أبوابه وَهُوَ البلاط حَيْثُ الدهاليز والحجب والحجاب مِمَّا يُمكن ذَوي الْأَهْوَاء والظالمين من الْحَيْلُولَة دون وُصُول المتظلم إِلَيْهِ حِكَايَة أُخْرَى وَسمعت أَن أحد الْمُلُوك كَانَ ثقيل السّمع فَكَانَ يظنّ أَن النقلَة والحجاب لَا ينقلون إِلَيْهِ شكاوى المتظلمين فِي صدق ودقة مِمَّا كَانَ يحملهُ على إصدار أَحْكَامه وأوامره بِخِلَاف مقتضيات الْأُمُور لذا أَمر بِوُجُوب ارتداء المتظلمين ثيابًا حَمْرَاء على أَن لَا يرتدي غَيرهم مثلهَا حَتَّى يعرفهُمْ ثمَّ كَانَ يجلس على فيل فِي الصَّحرَاء وينادي كل من يرَاهُ بِثَوْبِهِ الْأَحْمَر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الى أَن يجمعهُمْ كلهم وَمن ثمَّ يجلس وحيدا ويستدعيهم وَاحِدًا وَاحِدًا مستفسرا عَن أَحْوَالهم بِصَوْت عَال وَيَقْضِي بأنصافهم لقد اتَّخذُوا كل هَذِه الاحتياطات ابْتِغَاء الدَّار الْآخِرَة وَحَتَّى لَا يظل شَيْء خافيا عَلَيْهِم يَعْقُوب بن اللَّيْث وَخَلِيفَة بَغْدَاد كَانَ من جملَة السامانيين أَمِير يدعى إِسْمَاعِيل بن أَحْمد الَّذِي كَانَ عادلا جدا وَصَاحب خِصَال حميدة مِنْهَا الِاعْتِقَاد الْخَالِص بِاللَّه عز وَجل وَالْإِحْسَان إِلَى الْفُقَرَاء وَكَانَ إِسْمَاعِيل هَذَا أَمِيرا على بُخَارى وَكَانَت خُرَاسَان وَالْعراق وَمَا وَرَاء النَّهر كلهَا فِي حوزة آبَائِهِ وَمن مَدِينَة سجستان خرج يَعْقُوب بن اللَّيْث وَاسْتولى على كل سجستان ثمَّ مضى إِلَى خُرَاسَان وَاسْتولى عَلَيْهَا وَتوجه مِنْهَا إِلَى الْعرَاق وَاسْتولى عَلَيْهَا جملَة وَيُقَال أَن الدعاة خدعوه فَبَايع الإسماعيلية سرا وضغن على الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد ثمَّ جمع عَسَاكِر خُرَاسَان وَالْعراق وَتوجه إِلَى بَغْدَاد للْقَضَاء على الْخَلِيفَة وتقويض أَرْكَان الْبَيْت العباسي لما بلغ الْخَلِيفَة خبر توجه يَعْقُوب إِلَى بَغْدَاد أرسل إِلَيْهِ يَقُول لَا شَأْن لَك بِبَغْدَاد فَمن الصَّوَاب أَن تحتفظ بمناطق الْعرَاق الجبلية وخراسان وتتصرف بهَا حَتَّى لَا تنشب الْفِتَن والاضطرابات فلتعد لكنه لم يصدع لِلْأَمْرِ وَقَالَ لن أَعُود مَا لم أحقق أملا يراودني وَهُوَ الْقدوم إِلَى البلاط والمثول بَين يديكم وتجديد الْعَهْد لكم وعَلى الرغم من كَثْرَة رسل الْخَلِيفَة إِلَى يَعْقُوب فَإِنَّهُ لم يجد عَن جَوَابه الأول بل جمع العساكر واتجه صوب بَغْدَاد وَظن الْخَلِيفَة بِهِ ظن السوء واستدعى عُظَمَاء العاصمة بَغْدَاد وَقَالَ أرى أَن يَعْقُوب بن اللَّيْث شقّ عَصا الطَّاعَة وَهُوَ إِنَّمَا يَجِيء إِلَيْنَا فِي خِيَانَة لأننا لم نستدعه انه يتَقَدَّم وَأَنا أمره بالعودة لكنه لَا يعود إِنَّه يضمر خِيَانَة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أَيَّة حَال وأحسب أَنه بَايع الباطنية لكنه لن يظْهر هَذَا قبل وُصُوله إِلَى هُنَا علينا أَلا نَكُون فِي غَفلَة من اتِّخَاذ الحيطة والحذر فَمَاذَا أَنْتُم قَائِلُونَ فاتفقوا على أَن يخرج الْخَلِيفَة من الْمَدِينَة إِلَى الصَّحرَاء وَمَعَهُ خاصته وَجَمِيع حشمه وأعيان بَغْدَاد ويعسكر فِيهَا فَإِن كَانَ يَعْقُوب يضمر الْعِصْيَان فَلَنْ يُوَافقهُ جمع أَعْيَان خُرَاسَان وَالْعراق وقادة جيوشهما أَو يرْضوا عَمَّا يُرَاوِد فكره وَإِذا مَا أعلن الْعِصْيَان فَلَا مندوحة لنا من حِيلَة نستميل بهَا جَيْشه ألينا فَإِذا فشلنا فِي هَذَا وعجزنا عَن الصمود فِي قِتَاله فستكون الطَّرِيق أمامنا ممهدة نستطيع أَن نمضي مَعهَا إِلَى الْجِهَة الَّتِي نُرِيد لآننا لن نَكُون أسرى مَحْصُورين بَين أَرْبَعَة جدران وأعجبت أَمِير الْمُؤمنِينَ الخطة فنفذوها وَكَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُعْتَمد على الله أَحْمد لما وصل يَعْقُوب نزل قبالة معسكر الْخَلِيفَة وعسكر هُنَاكَ فاختلط العسكران مَعًا وَفِي الْيَوْم نَفسه أعلن الْعِصْيَان وَأرْسل إِلَى الْخَلِيفَة يَقُول سلم بَغْدَاد وامض إِلَى حَيْثُ تشَاء فاستمهله الْخَلِيفَة شَهْرَيْن فَأبى وَلما أرْخى اللَّيْل ستوره بعث الْخَلِيفَة رَسُولا إِلَى جَمِيع قادة جَيش يَعْقُوب يَقُول لقد أعلن يَعْقُوب عصيانه وانضم إِلَى الشِّيعَة وَمَا جَاءَ إِلَى هُنَا إِلَّا لتقويض أَرْكَان ملكنا وَالْقَضَاء علينا وإحلال أَعْدَائِنَا ومخالفينا محلنا أتقرونه على هَذَا أم لَا فَقَالَ فريق أَنه مصدر رزقنا وكل مَا نَحن فِيهِ من جاه ونعمة وعظمة سنفعل مَا هُوَ فَاعل وَقَالَ الغالبية لَا علم لنا بِمَا يَقُول أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمَا كُنَّا نحسب أَن يَعْقُوب سيخالفه أبدا أما وَقد فعل فَلَنْ نوافقه بأية حَال وَعند اللِّقَاء فَنحْن مَعَك لَا مَعَه سنقاتل إِلَى جَانِبك وننصرك وَكَانَ هَؤُلَاءِ أُمَرَاء خُرَاسَان سر الْخَلِيفَة لما سمع جَوَاب قادة يَعْقُوب على هَذَا النَّحْو فَأرْسل إِلَيْهِ فِي الْيَوْم التَّالِي برباطة جأش يَقُول الْآن أبديت كفران النِّعْمَة فخالفتنا وانحزت إِلَى مخالفينا السَّيْف بيني وَبَيْنك لَا تخيفني قلَّة جندي وَكَثْرَة عسكرك فَالله عز وَجل نَاصِر الْحق معي وَذَاكَ الْجَيْش الَّذِي تملك جيشي ثمَّ أَمر جَيْشه بارتداء السِّلَاح فتهيأوا لِلْقِتَالِ وأعلنوا النفير وَخَرجُوا من معسكرهم وَاصْطَفُّوا فِي الصَّحرَاء لما سمع يَعْقُوب رِسَالَة الْخَلِيفَة على ذَلِك النَّحْو قَالَ الْآن أدْركْت بغيتي ثمَّ أَمر هُوَ بإعلان النفير أَيْضا وامتطى عسكره خيولهم ومضوا إِلَى الصَّحرَاء مجهزين وَاصْطَفُّوا إزاء جَيش الْخَلِيفَة وَجَاء الْخَلِيفَة من الْجَانِب الآخر وتمركز فِي الْقلب فِي حِين كَانَ يَعْقُوب فِي الْجَانِب الْمُقَابل ثمَّ أَمر الْخَلِيفَة رجلا قوي الصَّوْت أَن يقف بَين الصفين وَيَقُول بِأَعْلَى صَوته يَا معشر الْمُسلمين اعلموا أَن يَعْقُوب بن اللَّيْث أعلن الْعِصْيَان وَأَن غَرَضه من الْمَجِيء إِلَى هُنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الْقَضَاء على بني الْعَبَّاس والمجيء بمخالفيهم مكانهم ثمَّ تنحية أهل السّنة جانبا وَإِظْهَار الْبِدْعَة ان من يُخَالف الْخَلِيفَة إِنَّمَا يُخَالف رَسُول الله عز وَجل وان من يخرج عَن طَاعَة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا يخرج عَن طَاعَة الله وَعَن حوزة الْمُسلمين وَالله عز وَجل يَقُول فِي مُحكم كِتَابه الْعَزِيز {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} والآن من ذَا الَّذِي يُؤثر مِنْكُم الْجنَّة على النَّار وينصر الْحق ويدير للباطل ظَهره فَيكون مَعنا لَا مَعَ مخالفنا لما سمع عَسْكَر يَعْقُوب بن اللَّيْث هَذَا الْكَلَام خرج أُمَرَاء خُرَاسَان دفْعَة وَاحِدَة واتجهوا صوب الْخَلِيفَة وَقَالُوا ظننا أَنه إِنَّمَا كَانَ يَجِيء للمثول بَين يديكم امتثالا للْحكم وَالْأَمر وَالطَّاعَة أما وَقد أظهر التمرد والعصيان الْآن فَنحْن مَعَك نحارب إِلَى جَانِبك حَتَّى الرمق الْأَخير ولإحساس الْخَلِيفَة بقوته أَمر الْجند بِأَن يحملوا جملَة فَكسر يَعْقُوب من أول حَملَة وَانْهَزَمَ باتجاه خوزستان وَاسْتولى جَيش الْخَلِيفَة على معداته ومعسكره ونهبوها فأثروا بِمَا غنموا وَلما وصل يَعْقُوب إِلَى خوزستان بعث رسلًا إِلَى كل النواحي والأطراف فِي طلب العساكر والعمال يَأْمُرهُم بإحضار مَا فِي خَزَائِن خُرَاسَان وَالْعراق من أَمْوَال وَمن فضَّة وَذهب وَلما بلغ الْخَلِيفَة خبر مقَام يَعْقُوب بخوزستان أرسل إِلَيْهِ فِي الْحَال رَسُولا برسالة تَقول تبين لنا انك رجل طيب الْقلب غير أَنَّك خدعت بأقوال الْمُخَالفين دون أَن تفكر فِي عواقب الْأُمُور أَو لم تَرَ أَن الله تَعَالَى فعل فعلته فهزمك وجندك وصان آل بيتنا وحماهم إِن مَا حدث لم يكن سوى سَهْو خَفِي عَلَيْك أنني لعلى يَقِين بأنك قد صحوت الْآن من غفوتك وندمت على فعلتك لَيْسَ ثمَّة من هُوَ أجد مِنْك بإمارة الْعرَاق وخراسان وَلنْ نقدم عَلَيْك أحدا لما لَك علينا من حق خدمات كَثِيرَة تغْفر لَك مَا ارتكبته من خطأ فبمَا أننا غضضنا الطّرف عَن فعلتك وَكَأن شَيْئا لم يكن فَمَا عَلَيْك إِلَّا أَن تنسى الْمَوْضُوع وتمضي فِي أسْرع وَقت إِلَى الْعرَاق وخراسان وتتسلم أُمُور الْولَايَة هُنَاكَ وسأرسل إِلَيْك الْعَهْد واللواء والخلعة فِي أثر هَذِه الرسَالَة حَتَّى لَا يكون ثمَّة أَي اضْطِرَاب أَو فتْنَة لما قَرَأَ يَعْقُوب الرسَالَة لم يلن قلبه أبدا وَلم ينْدَم على فعلته لكنه أَمر بإحضار شَيْء من كراث وسمك وبصل على طبق من خشب ثمَّ بِإِدْخَال رَسُول الْخَلِيفَة وإجلاسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَبعد ذَلِك الْتفت نَحوه وَقَالَ إذهب وَقل للخليفة أَنا ابْن صفار تعلمت الصفارة عَن أبي كَانَ طَعَامي خبز الشّعير والسمك والبصل والكراث أما الْملك والكنوز والثروة فنلتها بجدي وجهدي وشجاعتي لَا إِرْثا عَن أبي وَلَا هبة مِنْك إِنَّه لن يقر لي قَرَار مَا لم أبْعث برأسك إِلَى المهدية وأقض على آلك فإمَّا أَن أنفذ مَا قلت وَإِمَّا أَن أبقى على مَا أَنا فِيهِ من أكل خبز الشّعير والسمك والبصل لقد فتحت الْكُنُوز واستدعيت الجيوش وهأنذا قادم فِي أثر هَذَا الرَّسُول وَهَذِه الرسَالَة وَبعث برَسُول الْخَلِيفَة وعَلى الرغم من كَثْرَة مَا أرسل الْخَلِيفَة من رسائل إِلَى يَعْقُوب فَإِنَّهُ لم ينثن عَن عزمه أَو يتراجع عَن مطلبه إِنَّمَا جمع الجيوش واتجه بهَا من خوزستان إِلَى بَغْدَاد وَلم يكد يقطع من الطَّرِيق سوى مراحل ثَلَاث حَتَّى أَصَابَهُ مغص أوصله إِلَى حَال أَيقَن مَعهَا أَن لَا خلاص لَهُ فِيهَا من الْأَلَم فعهد بِولَايَة الْعَهْد إِلَى أَخِيه عَمْرو بن اللَّيْث وَسلمهُ ثَبت الْكُنُوز ثمَّ أسلم الرّوح وَعَاد عَمْرو من هُنَاكَ متجها صوب مناطق الْعرَاق الجبلية وَمكث فِيهَا مُدَّة ثمَّ مضى مِنْهَا إِلَى خُرَاسَان وملكها جَمِيعًا بَاقِيا على طَاعَة الْخَلِيفَة كَانَ الْجَيْش والرعية يحبونَ عمرا أَكثر من يَعْقُوب لِأَنَّهُ كَانَ عالي الهمة معطاء وسياسيا يقظا وَقد بلغت مروءته وسخاوته حدا أَن مُؤَن مطبخه كَانَت تحْتَاج إِلَى أَرْبَعمِائَة بعير لحملها وَقس على هَذَا أما الْخَلِيفَة فَكَانَ يخْشَى أَن ينهج عَمْرو نهج أَخِيه وَيفْعل مَا فعل وَمَعَ أَن عمرا لم يكن يَدُور بخلده شَيْء من هَذَا الْقَبِيل إِلَّا أَن الْمَوْضُوع كَانَ يشغل تفكير الْخَلِيفَة الدَّائِم فَكَانَ يُرْسل إِلَى إِسْمَاعِيل بن أَحْمد ببخارى فِي اسْتِمْرَار أَن أخرج واحمل بجيشك على عَمْرو بن اللَّيْث وخلص الْملك مِنْهُ إِنَّك أَحَق بإمارة خُرَاسَان وَالْعراق اللَّذين كَانَا ملك آبَائِك سنوات عديدة بعد أَن استولوا عَلَيْهِمَا عنْوَة وَإنَّك صَاحب الْحق أَولا وخصالك حميدة ثَانِيًا وَأَنا أَدْعُو لَك ثَالِثا وَلست أَشك لهَذِهِ الْأَسْبَاب الثَّلَاثَة فِي أَن الله تَعَالَى سينصرك عَلَيْهِ لَا تنظر إِلَى قلَّة عددك وجيشك بل أنظر إِلَى قَوْله عز وَجل {كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين} وَأثر كَلَام الْخَلِيفَة فِي نفس إِسْمَاعِيل بن أَحْمد فعقد الْعَزْم على الانتفاض على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 عَمْرو بن اللَّيْث ثمَّ جمع مَا كَانَ لَدَيْهِ من جيوش وَعبر بِهِ نهر جيحون لهَذَا الْغَرَض وَأخذ يعد الْجند بِطرف سَوْطه فبلغوا عشرَة آلَاف كَانَت ركائب أَكْثَرهم خشبية حَتَّى أَنه لم يكن ثمَّة ترس وَاحِد مَعَ كل عشرَة مِنْهُم وَلَا درع وَاحِدَة مَعَ كل عشْرين وَلَا سهم وَاحِد مَعَ كل خمسين أما من كَانَ مِنْهُم بِغَيْر مَطِيَّة فَكَانَ يرْبط درعه بِحَلقَة سرج حصان آخر ثمَّ مضى بهم من مَدِينَة آموي إِلَى بَلخ لما اخبر عَمْرو بن اللَّيْث الَّذِي كَانَ آنذاك بنيسابور بعبور إِسْمَاعِيل بن أَحْمد جيحون ووصوله إِلَى بَلخ فِي طلب الْملك وبفرار شحنة سرخس ومرو جهز سبعين ألف رجل بكامل أسلحتهم وعددهم وَمضى بهم إِلَى بَلخ وَلما تقَابل الجيشان واشتبكا مَعًا هزم عَمْرو بن اللَّيْث عِنْد مشارف بَلخ وفر جُنُوده جَمِيعهم دون أَن يجرح أحد مِنْهُم أَو يؤسر أما عَمْرو نَفسه فَوَقع فِي قَبْضَة خصومه الَّذين مَا إِن اقتادوه إِلَى إِسْمَاعِيل حَتَّى عهد بِهِ إِلَى الحرس وَهَذَا النَّصْر من عجائب الدُّنْيَا حِين كَانَ أحد فِرَاشِي عَمْرو بن اللَّيْث السَّابِقين يتجول فِي المعسكر عصرا وَقعت عينه عَلَيْهِ فتألم وَتقدم نَحوه فَقَالَ لَهُ عَمْرو لقد تركت وحيدا فابق معي اللَّيْلَة وَقَالَ انني جَائِع فَهَل لَك أَن تهيئ لي شَيْئا آكله إِذْ لَا غنى للْإنْسَان عَن الطَّعَام مَا دَامَ حَيا واستطاع الْفراش أَن يحصل على من من اللَّحْم ثمَّ اسْتعَار مقلاة حديدية من الْجنُود وَأخذ يَدُور فِي كل جَانب إِلَى أَن جمع كمية قَليلَة من رَوْث الْحَيَوَانَات الجاف ثمَّ نصب ثَلَاث أثافي وَوضع عَلَيْهِ المقلاة ليقلي اللَّحْم وَتركهَا وَمضى فِي طلب شَيْء من الْملح وَكَانَ النَّهَار فِي أخرياته فَإِذا بكلب يَسْطُو على المقلاة لانتشال مَا فِيهَا فلذعت فَمه وَلما رفع رَأسه علقت حَلقَة المقلاة بعنقه ففر بهَا من شدَّة الْأَلَم لما رأى عَمْرو بن اللَّيْث هَذَا المنظر الْتفت نَحْو الْجند والحراس وَقَالَ لتعتبروا فَأَنا الَّذِي كَانَ يحمل مُؤَن مطبخي أَرْبَعمِائَة بعير كل صباح صرت إِلَى حَال ينهب فِيهَا كلب مَا لدي فِي لَحْظَة لَيْلًا وَقَالَ أَصبَحت أَمِيرا وأمسيت أَسِيرًا وَهَذِه من عجائب الدُّنْيَا أَيْضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 قصَّة عَمْرو بن اللَّيْث وأعجب من هَذَا الْحَال أَيْضا مَا كَانَ من أَمر الْأَمِير إِسْمَاعِيل وَعَمْرو بن اللَّيْث التَّالِي فَلَمَّا أسر عَمْرو الْتفت إِسْمَاعِيل نَحْو العظماء وَقَالَ ان الله عز وَجل هُوَ الَّذِي وهبني هَذَا النَّصْر وَلَيْسَ لأحد سواهُ عز اسْمه من فضل عَليّ فِي هَذِه النِّعْمَة وَقَالَ أَيْضا اعلموا أَن عَمْرو بن اللَّيْث كَانَ رجلا عالي الهمة معطاء كثير السِّلَاح وَالْعدة صَاحب رَأْي وتدبير يقظا فِي كل شَيْء وكريما عَارِف للحق إِنَّنِي أرى أَن أسعى جاهدا لإنقاذ حَيَاته وفكاكه من الْأسر فَقَالُوا الرَّأْي مَا يرَاهُ الْأَمِير يقْضِي بِمَا يرَاهُ مناسبا فَأرْسل إِسْمَاعِيل إِلَى عَمْرو بن اللَّيْث يَقُول ليهدأ بالك فأنني بصدد الشَّفَاعَة لَك لَدَى الْخَلِيفَة لإنقاذ حياتك وَلنْ أُبَالِي فِي أَن أنْفق كل مَا فِي خزينتي فِي هَذَا السَّبِيل لِتَقضي بَقِيَّة عمرك سالما لما سمع عَمْرو بن اللَّيْث هَذَا الْكَلَام قَالَ أنني أعلم ان لَا خلاص لي من هَذَا الْأسر أبدا وَأَنه لم يبْق من الْعُمر إِلَّا أَقَله وَأَن الْخَلِيفَة لن يرضى بِغَيْر موتِي بديلا وَلَكِن أرسل أَنْت يَا إِسْمَاعِيل شخصا ثِقَة أفضي إِلَيْهِ بِمَا لدي من كَلَام على أَن ينْقل إِلَيْك مَا يسمع مني فَعَاد رَسُول الْأَمِير اسماعيل وَأخْبرهُ بِكُل مَا قيل فَأرْسل إِسْمَاعِيل إِلَى عَمْرو بن اللَّيْث شخصا مُعْتَمدًا فِي الْحَال فَقَالَ لَهُ عَمْرو قل لإسماعيل إِنَّك لم تهزمني بل إِن تدينك واعتقادك وَحسن سيرتك وَعدم رضى أَمِير الْمُؤمنِينَ عني هِيَ الَّتِي هزمتني إِن الله عز وَجل هُوَ الَّذِي سلبني الْملك من جَدِيد ووهبك إِيَّاه وَأَنت بِهَذِهِ الْهِبَة وَالنعْمَة والخيرات جدير أما أَنا فقد قبلت قَضَاء الله عز وَجل وَحكمه وَلَا أبغي لَك سوى الْخَيْر لقد صرت الْآن إِلَى ملك جَدِيد دون أَن تكون لَك خَزَائِن وثروة فِي حِين أَن لي ولأخي كنوزا ودفائن كَثِيرَة معي ثَبت بهَا جَمِيعهَا وَقد وَهبتك إِيَّاهَا كلهَا لتَكون لَك ثروة تقَوِّي بهَا نَفسك وتهيئ مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من عدَّة وعتاد وتملأ خزانتك ثمَّ أخرج الثبت من كمه وناوله الرَّسُول ليعطيه إِسْمَاعِيل فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُول إِلَى إِسْمَاعِيل وَأعَاد على مسامعه كل مَا سمع وَوضع الثبت أَمَامه الْتفت إِسْمَاعِيل نَحْو وجهاء الْقَوْم وَقَالَ إِن عَمْرو بن اللَّيْث يُرِيد بحنكته وذكائه أَن يحرز قصب السَّبق على الأذكياء فيوقعهم فِي الفخ ويبتليهم بمحنة أبدية ثمَّ تنَاول الثبت وَألقى بِهِ أَمَام الرَّسُول وَقَالَ أعده إِلَيْهِ وَقل لَهُ إِنَّك تُرِيدُ بِمَا أَنْت فِيهِ من جلد وذكاء أَن تحرز قصب السَّبق على الْجَمِيع أَنى لَك ولأخيك هَذِه الْكُنُوز فوالدكما كَانَ صفارا وَقد ثقفتما هَذِه المهنة عَنهُ أما الْملك فَشَاءَتْ الأقدار أَن تصلوا إِلَيْهِ عنْوَة وتفقدوه تهورا وَأما كنوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الذَّهَب وَالْفِضَّة فَلَيْسَتْ سوى مَا سلبتموه من النَّاس ظلما وَدون حق إِنَّهَا من أَثمَان مَا يغزل الشُّيُوخ والأرامل من النِّسَاء وَمن أقوات الغرباء والمسافرين وأموال الْيَتَامَى والضعفاء وسوف تسئلان غَدا أَمَام الله عز وَجل عَن كل صَغِيرَة مِنْهَا وتتحملان وحدكما عِقَاب الله وعذابه إِنَّك تُرِيدُ الْآن بذكائك ومكرك أَن تلقي على كاهلنا بِكُل هاتيك الْمَظَالِم حَتَّى إِذا مَا جاءكما الْخُصُوم يَوْم الْقِيَامَة يسْأَلُون مَا أَخذ مِنْهُم غصبا تقولان لَهُم أعطينا إِسْمَاعِيل كل مَا غصبنا مِنْكُم فَاسْأَلُوهُ عَنهُ فتحيلانهم عَليّ جَمِيعًا وَلَا طَاقَة لي آنذاك على جوابهم وعَلى غضب الله عز وَجل وسؤاله ورد الثبت إِلَيْهِ خشيَة من الله تَعَالَى وَلما كَانَ عَلَيْهِ من تدين وَلم تغره الدُّنْيَا الغرورة فَأَيْنَ من هَذَا صَنِيع وُلَاة هَذَا الزَّمَان الَّذين لَا يَخْشونَ لدينار حرَام وَاحِد من أَن يحلوا عشرَة محارم ويجعلوا عشرَة حُقُوق بَاطِلا دون النّظر فِي العواقب عدل إِسْمَاعِيل الساماني كَانَ من عَادَة إِسْمَاعِيل بن أَحْمد أَن يركب وحيدا فِي الْيَوْم الْبَارِد جدا الَّذِي تتساقط فِيهِ الثلوج بِكَثْرَة ويمضي إِلَى الميدان ويظل ممتطيا صهوة جَوَاده إِلَى صَلَاة الظّهْر وَكَانَ يَقُول رب متظلم لَا سكن لَهُ أَو نفقات يرغب فِي الْمَجِيء إِلَى الْقصر فِي حَاجَة لَهُ لكنه لَا يَسْتَطِيع الْوُصُول ألينا بِسَبَب الْبرد والثلج فينثني عَن الْمَجِيء وَيبقى حَيْثُ هُوَ وَإِذا مَا جَاءَ فَإِنَّهُ يتكبد مشاق كَثِيرَة أما إِذا مَا علم بوقوفنا هُنَا فسيجيء لَا محَالة فتقضى لَهُ حَاجته وَيعود بالسلامة وثمة حكايات كَثِيرَة من هَذَا الْقَبِيل لم يذكر إِلَّا قليلها وَلم يكن الحذر والحيطة فِيهَا إِلَّا خشيَة جَوَاب سُؤال الدَّار الْآخِرَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الْفَصْل الرَّابِع فِي عُمَّال الْخراج والتقصي الدَّائِم لأحوالهم وأحوال الوزراء يجب أَن يُوصي عُمَّال الْخراج بِأَن يحسنوا مُعَاملَة خلق الله تَعَالَى وَألا يحصلوا مِنْهُم سوى مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِم من أَمْوَال حَتَّى هَذِه تجب الْمُطَالبَة بهَا بِرِفْق وأدب وَألا تُؤْخَذ مِنْهُم قبل جني المحاصيل وَالثِّمَار لَان فِي تَحْصِيلهَا قبل الأوان إرهاقا للزراع وتضييقا عَلَيْهِم يضطرهم إِلَى بيع محصولاتهم قبل أَوَان نضجها بِنصْف الثّمن وَفِي هَذَا من الظُّلم والجور مافيه وعَلى عُمَّال الْخراج أَن يقرضوا كل من يحْتَاج من النَّاس إِلَى البذار والأبقار مَالا يسد بِهِ حَاجته وَيَقْضِي بِهِ عوزه ليظل فِي حبور وطمأنينة وَيبقى فِي أرضه ووطنه لَا يغترب عَنْهُمَا حِكَايَة فِي هَذَا الْمَعْنى سَمِعت أَنه لما حل الْقَحْط الَّذِي دَامَ سبع سنوات فِي عهد الْملك قباذ وانقطعت خيرات السَّمَاء أَمر عماله بِبيع مَا كَانَ لديهم من غلات وَالتَّصَدُّق بِبَعْضِهَا ومساعدة الْفُقَرَاء من الخزينة وَبَيت المَال حَتَّى إِن شخصا وَاحِدًا لم يمت جوعا فِي أرجاء مَمْلَكَته فِي تِلْكَ الْمدَّة وَعلة هَذَا تحريه لعماله ومتابعته لَهُم وتوجيههم وتقريعهم وَيَنْبَغِي الاستفسار الدَّائِم عَن كل عَامل وتقصي أخباره فَإِن كَانَ يسير على النَّحْو الَّذِي ذكرنَا فليحتفظ بِهِ وَإِلَّا فليستبدل بآخر مُنَاسِب وَأَن كَانَ غصب النَّاس شَيْئا دون حق يجب اسْتِرْدَاده مِنْهُ ورده الى من غصبه مِنْهُم ثمَّ مصادرة مَا يتبقى لَدَيْهِ من مَال وتحويله إِلَى الخزينة وعزله بعد ذَلِك على أَلا يسند اليه أَي عمل الْبَتَّةَ ليَكُون عِبْرَة للآخرين من المتطاولين واللصوص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَيجب الاستفسار عَن أَحْوَال الوزراء سرا لمعْرِفَة مَا إِذا كَانُوا يَسِيرُونَ الامور على النَّحْو الصَّحِيح أم لَا لَان صَلَاح الْملك والمملكة أَو فسادهما منوطة بهم فباستقامة الْوَزير وَحسن مسلكه إعمار للمملكة وتقدمها وإسعاد للرعية والجيش ورفاههما وراحة الْملك واطمئنانه وبانحراف الْوَزير يتسرب التصدع الَّذِي لَا يُمكن رأبه الى المملكة فتظل فِي اضْطِرَاب دَائِم ويظل الْملك حيران مضطربا بهْرَام جور والوزير الخائن يُقَال انه كَانَ لبهرام جور وَزِير يدعى راست روشن اعْتمد عَلَيْهِ وَسلمهُ كل مقاليد المملكة وَلم يكن يلْتَفت لكَلَام أحد فِيهِ أما هُوَ نَفسه فَكَانَ يجْرِي ليل نَهَار وَرَاء ملذاته من تنزه وصيد وشراب وَحدث أَن قَالَ راست روشن لوكيل بهْرَام جور مرّة ان الرّعية أخذُوا لِكَثْرَة عدلنا يتجرأون علينا ويتمادون فَإِذا لم يعاقبوا فإنني أخْشَى وَالْملك فِي شغل بِالشرابِ وَالصَّيْد عَن شؤون الرّعية أَن يحدث مَالا تحمد عقباه فلتعاقبهم أَنْت إِذن قبل أَن يفسدوا وعقابهم إِنَّمَا يكون بِأحد امرين أَحدهمَا التَّخَلُّص من الأشرار وَالْآخر غصب أَمْوَال الأخيار والفضلاء ولتقبض على من أُشير عَلَيْك بِهِ وَأخذ راست روشن كلما قبض وَكيل بهْرَام على أحد وحبسه يتدخل شخصيا وَيَأْخُذ مِنْهُ رشوة وَيَقُول للْوَكِيل أطلق سراح هَذَا إِلَى أَن نهبوا كل مَا كَانَ لَدَى النَّاس من أَمْوَال وخيول وغلمان وَجوَار وأملاك وضياع فأفقرت الرّعية وشتت الْفُضَلَاء والمشاهير وَلم يعد يدْخل الخزانة من شَيْء بعد مُضِيّ فَتْرَة على هَذَا طلع لبهرام جور أحد أعدائه فَأَرَادَ أَن يصل جَيْشه بصلات وهبات ويقويه ثمَّ يوجهه لمقابلة عدوه لكنه لما صَار الى الخزانه لم يجد فِيهَا شَيْئا وَلما سَأَلَ مشاهير الْمَدِينَة ورستاق الْبِلَاد ورؤسائهما قَالُوا لقد ترك فلَان وَفُلَان ممتلكاتهم وثروتهم مُنْذُ سنوات ومضوا إِلَى الْولَايَة الْفُلَانِيَّة فَقَالَ لماذا قَالُوا لَا نَدْرِي وَلم يَجْرُؤ أحد على أَن يَقُول لَهُ الْحَقِيقَة خوفًا من الْوَزير وَقضى بهْرَام جور يَوْمه وَلَيْلَته تِلْكَ يفكر فِي الْأَمر لكنه لم يسْتَطع الاهتداء إِلَى مَوَاطِن الْخلَل فَركب فِي الْيَوْم التَّالِي لقلقه واضطرابه إِلَى الصَّحرَاء وحيدا وَرَاح يقطعهَا بالتفكير حَتَّى أَنه لم يدر كَيفَ أَن الشَّمْس توسطت كبد السَّمَاء وَكَيف أَنه قطع سِتَّة أَو سَبْعَة فراسخ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحر وغلبه الْعَطش فَاحْتَاجَ إِلَى جرعة مَاء وَلما مد بَصَره فِي الصَّحرَاء رأى دخانا يتصاعد من بعيد فَقَالَ لَا بُد من وجود أنَاس هُنَاكَ واتجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 نَحوه فَلَمَّا دنا من الْمَكَان وَرَأى قطيعا هاجعا من الْغنم وخيمة مَضْرُوبَة وكلبا مُعَلّقا تملكه الْعجب واقترب من الْخَيْمَة فَخرج مِنْهَا رجل سلم عَلَيْهِ وحياه وأنزله من على فرسه وَقدم إِلَيْهِ مَا كَانَ يحضرهُ من طَعَام دون أَن يعرف أَنه بهْرَام فَقَالَ بهْرَام أَخْبرنِي عَن أَمر هَذَا الْكَلْب قبل أَن أتناول الطَّعَام لاكون على بَيِّنَة مِنْهُ فَقَالَ الشَّاب كَانَ هَذَا الْكَلْب أميني على غنمي وَكنت اعْلَم أَنه يَسْتَطِيع لقدرته أَن يصاول عشرَة رجال ويتغلب عَلَيْهِم وَأَن أَي ذِئْب لم يكن يَجْرُؤ أَن يحوم حول القطيع خوفًا مِنْهُ حَتَّى إِنَّنِي كنت أذهب إِلَى الْمَدِينَة مَرَّات عديدة فِي شغل لي وأعود فِي الْيَوْم التَّالِي وَكَانَ هُوَ يرْعَى الْغنم وَيعود بهَا سَالِمَة وَمَضَت على هَذِه الْحَال مُدَّة فَلَمَّا عددت الْغنم يَوْمًا وَجدتهَا نَاقِصَة ثمَّ تبين لي أَن عَددهَا أَخذ يتناقص تدريجيا كل عدَّة أَيَّام وَلم أستطع أَن أفهم عِلّة هَذَا مَعَ أَنه لَا وجود للصوص هُنَا لقد وصلت الْحَال بالقطيع فِي تناقصه إِلَى حد أَن عَامل الضرائب جَاءَنِي وَأَرَادَ مِثْلَمَا هِيَ الْعَادة ضَرَائِب القطيع كُله فَدفعت كل مَا تبقى مِنْهُ ضَرَائِب والان أَنا رَاع لذَلِك الْعَامِل مَا حدث أَن الْكَلْب صَادِق ذئبة ثمَّ تزَوجهَا وَكنت فِي غَفلَة من أمره وَذَات يَوْم خرجت للاحتطاب وسلكت فِي عودتي طَرِيقا خلف مُرْتَفع كَانَ يطلّ على القطيع فرأيته يرْعَى وَإِذا بذئبة تعدو نَحوه حِينَئِذٍ اختفيت خلف أجمة شوك فَلَمَّا رأى الْكَلْب الذِّئْب هرع إِلَيْهَا وهز ذَنبه فوقفت فِي هدوء ووثب على ظهرهها وَقضى مِنْهَا وطره ثمَّ انتحى جانبا ونام فِي حِين راحت هِيَ تصول وتجول فِي الْغنم فقبضت على شَاة وافترستها دون أَن ينبح الْكَلْب أَو يُبْدِي حراكا لما رَأَيْت موقفه من الذئبة أدْركْت أَن مصدر بلائي لم يكن سوى تواطؤ الْكَلْب وانحرافه فقبضت عَلَيْهِ وعلقته بخيانته عجب بهْرَام جور لهَذَا الحَدِيث وَقطع طَرِيق عودته يفكر فِي الْأَمر فَانْتهى بِهِ تفكيره الى أَن رعيتنا هِيَ قطيعنا ووزيرنا هُوَ أميننا انني لأرى أُمُور المملكة فِي اضْطِرَاب وأحوال الرّعية فِي اختلال وانني كلما أسأَل أحدا لَا يصدقني القَوْل ويخفي عني الْحَقِيقَة والحل أَن أحقق فِي أَحْوَال الرّعية وراست روشن وَلما عَاد إِلَى مقره كَانَ أول مَا فعله أَن طلب لوائح المسجونين اليومية فَكَانَت كلهَا من فجائع راست روشن وجرائمه فأيقن آنذاك أَن الرجل لم يسس النَّاس بِالْحَقِّ بل سامهم ظلما وخسفا ثمَّ قَالَ هُوَ لَيْسَ راست روشن انه كذب وظلمة وَقَالَ مستشهدا بِأحد الْأَمْثَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الْحق مَا قَالَت الْحُكَمَاء من أَن الْجُوع مصير كل من تخدعه شهرته ويركب غروره بهَا والعدم مصير كل من يخون الْخبز الَّذِي يَأْكُلهُ مَعَ الآخرين أَنا الَّذِي شددت أزر هَذَا الْوَزير حَتَّى يرَاهُ النَّاس بِهَذَا الجاه وَالْعَظَمَة لكِنهمْ لَا يجرؤون ألآن على أَن يفضوا إِلَيّ بِمَا فِي نُفُوسهم خوفًا مِنْهُ لَا بُد من أَن أَقبض عَلَيْهِ حِين يَأْتِي إِلَى الْقصر غَدا فأبدد حرمته وجلاله على مرأى وجهاء الْبِلَاد وعظمائها وامر بغله فِي الاغلال الثَّقِيلَة ثمَّ أستدعي السجناء وأسألهم عَن أَحْوَالهم وامر من يُنَادي فِي النَّاس لقد نحينا راست روشن عَن الوزارة وقبضنا عَلَيْهِ وحبسناه وَلم نعيده إِلَى الْعَمَل فعلى كل من ألحق بِهِ أَذَى أَو لَدَيْهِ شكاية ضِدّه أَن يَأْتِ إِلَيْنَا ويطلعنا على حَاله بِنَفسِهِ لننصفه مِنْهُ وَلَا بُد أَن النَّاس سيخبروننا بِكُل شَيْء بعد سَماع هَذَا فَإِن يكن سلوكه مَعَ النَّاس حسنا حميدا وَلم يغصب مِنْهُم مَالا بل شكروه وأثنوا عَلَيْهِ سأحسن مُعَامَلَته وأعيده إِلَى منصبه وَإِلَّا فسأعاقبه وأقتص مِنْهُ وَفِي الْيَوْم التَّالِي جلس بهْرَام جور للنَّاس وَجلسَ العظماء فِي الْمُقدمَة وَدخل الْوَزير وَاتخذ مَكَانَهُ فَالْتَفت بهْرَام جور نَحوه وَقَالَ مَا هَذَا الِاضْطِرَاب الَّذِي أوجدته فِي المملكة فقد أبقيت الْجَيْش دون سلَاح ومؤونة وأفقرت الرّعية لقد أمرناك أَن توصل أرزاق النَّاس إِلَيْهِم فِي أَوْقَاتهَا وَألا تغفل عَن إعمار الْبِلَاد وَألا تحصل من النَّاس إِلَّا مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِم من خراج وَأَن تملا الخزانة لكننا الان لَا نرى سوى خزينة خَالِيَة وجيش دون عتاد ومؤونه وأنقاض رعية لقد ظَنَنْت أنني شغلت بِالشرابِ وَالصَّيْد وأهملت شؤون المملكة وأحوال الرّعية وَأمر بتنحيته دون أَن تراعى لَهُ حُرْمَة فاقتيد إِلَى حجرَة وَوضعت الأغلال فِي قَدَمَيْهِ وَوضع على بَاب الْقصر مناديا يَقُول إِن الْملك عزل راست روشن عَن الوزارة وَغَضب عَلَيْهِ وَلنْ يوليه أَي عمل بعد فَمن كَانَ قد أوذي مِنْهُ أَو أَن لَدَيْهِ شكوى ضِدّه فليأت إِلَى الْقصر دونما خوفًا أَو وَجل للإفصاح عَن حَاله بِنَفسِهِ ختى ينصفه الْملك ثمَّ أَمر بِفَتْح أَبْوَاب السجْن حَالا وَجِيء إِلَيْهِ بالسجناء وَاحِدًا وَاحِدًا وَكَانَ يسألهم بِمَ سجنت قَالَ أحدهم كَانَ لي أَخ ثري وَكَانَت لَهُ أَمْوَال وخيرات جمة قبض عَلَيْهِ راست روشن وسلبه كل أَمْوَاله وعذبه إِلَى أَن مَاتَ وَلما سَأَلُوهُ لماذا قتلت هَذَا الرجل قَالَ كَانَت لَهُ مَعَ أَعدَاء الْملك مراسلات ثمَّ حَبَسَنِي حَتَّى لَا أشكوه وأتظلم مِنْهُ وَحَتَّى تظل هَذِه الْمَسْأَلَة طي الكتمان وَقَالَ اخر كَانَت لي مزرعة جميلَة جدا ورثتها عَن وَالِدي وَكَانَت لراست روشن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ضَيْعَة بجوارها وَلما دخل مزرعتي يَوْمًا راقت لَهُ فَأَرَادَ أَن يَشْتَرِيهَا لكنني لم أبعه فَقبض عَليّ وحبسني بِحجَّة إِنَّك تحب ابْنة فلَان فثبتت عَلَيْك الْخِيَانَة تخل عَن هَذِه المزرعة وأكتب بِنَفْسِك إِقْرَارا ينص على أَنه لَا حق لي فِي هَذِه المزرعة وَهِي ملك راست روشن غير أَنِّي لم أفعل وَالْيَوْم تمر خمس سنوات على سجني وَقَالَ اخر انني تَاجر كنت أجوب الافاق برا وبحرا وَكنت أَشْتَرِي بِمَا لدي من مَال مَا أَجِدهُ فِي أَيَّة مَدِينَة من نَوَادِر الْأَشْيَاء وأبيعه فِي مَدِينَة أخرة قانعا بِرِبْح قَلِيل وَاتفقَ أَن وَقعت على عقد لُؤْلُؤ عرضته للْبيع لما جِئْت هَذِه الْمَدِينَة فَلَمَّا بلغ الْوَزير الْخَبَر ارسل إِلَيّ يطلبني فَاشْترى العقد مني وأرسله إِلَى خزانته دون أَن يدْفع ثمنه وترددت عَلَيْهِ مَرَّات للسلام فَلم يبد مِنْهُ مَا يدل على أَنه يرغب فِي دفع ثمن العقد ونفد صبري وَكنت على أَبْوَاب سفر فَذَهَبت إِلَيْهِ يَوْمًا وَقلت إِن يكن العقد مناسبا فأرجو الايعاز بِدفع ثمنه وَإِلَّا فبرده فإنني عزمت على الْمسير فَلم يجيني وعدت إِلَى دَاري فَإِذا ب سرهنك وَأَرْبَعَة جنود راجلين فَقَالُوا لي هيا بِنَا فالوزير يطلبك فَفَرِحت وَقلت سيدفع ثمن العقد فَنَهَضت وَذَهَبت مَعَهم لكِنهمْ مضوا بِي إِلَى السجْن اللُّصُوص وَقَالُوا للسجان اسجن هَذَا الرجل وكبله بالأغلال الثَّقِيلَة ومنذ سنة وَنصف وَأَنا فِي السجْن وَقَالَ اخر أَنا رَئِيس النَّاحِيَة الْفُلَانِيَّة كَانَ بَيْتِي مَفْتُوحًا دَائِما فِي وَجه الضيوف والغرباء وَأهل الْعلم وَكنت أواسي النَّاس والمعوزين وأوزع الصَّدقَات والخيرات على الْمُسْتَحقّين باستمرار أُسْوَة بابائي من قبل وَكنت أنْفق مَا يَتَأَتَّى من أملاكي وضياعي الموروثة فِي سبل الْخَيْر والضيافة قبض عَليّ الْوَزير بِحجَّة أنني عثرت على كنز فعذبني وصادر أَمْوَالِي وأودعني السجْن وَكنت أبيع ملكي وضياعي للضَّرُورَة بِنصْف ثمنهَا وأعطيه إِيَّاهَا وَهَا هِيَ ذِي أَربع سنوات تمر على سجني وتكبيلي بالقيود وَلَا ألوي على شَيْء وَقَالَ اخر أَنا ابْن الزعيم فلَان صادر الْوَزير أَمْلَاك أبي وَقَتله بِشدَّة التعذيب ثمَّ حَبَسَنِي ومنذ سبع سنوات وَأَنا أعاني من عَذَاب السجْن وَقَالَ اخر أَنا عسكري خدمت وَالِد الْملك سنوات عديدة ورافقته فِي عدد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أَسْفَاره وَكنت وَمَا أَزَال فِي خدمَة الْملك مُنْذُ سنوات وأتقاضى راتبي من الدُّيُون غير أَن شَيْئا مِنْهُ لم يصل إِلَيّ السّنة الْمَاضِيَة وقابلت الْوَزير هَذَا الْعَام وَقلت لَهُ انني صَاحب عِيَال لم يصل إِلَيّ راتبي فِي الْعَام المنصرم فادفعوه هَذِه السّنة لاسدد بِبَعْضِه مَا عَليّ من دُيُون وأعيش بِالْبَاقِي فَقَالَ لَيْسَ فِي نِيَّة الْملك أَن يحارب أحدا حَتَّى تكون لَهُ فِي الْجَيْش حَاجَة لذا ان وجودك وَوُجُود أمثالك وَعَدَمه فِي الْخدمَة سَوَاء إِن أردْت أَن تكسب عيشك فَعَلَيْك بالطيانة قلت لن أشتغل بالطيانة لَان لي على الدولة حقوقا أما أَنْت فَعَلَيْك ان تتعلم كَيْفيَّة تسيير شؤون الْملك انني فِي الضَّرْب بِالسَّيْفِ أمهر مِنْك فِي تنَاول الْقَلَم وأنني أفتدي الْملك بنفسي وَقت النزال وَلَا أعصي أوامره أما أَنْت فتقطع أرزاقنا من الدِّيوَان وَلَا تنفذ أوَامِر الْملك وَلست تَدْرِي أننا نَحن الِاثْنَيْنِ خدم لَهُ أَنْت فِي وزارتك وَأَنا فِي عَمَلي غير أَن الْفرق بَيْننَا هُوَ أنني أطيع الاوامر وأنفذها وَأَنت تعصاها وتنبذها ظهريا إِن يكن الْملك لَيْسَ فِي حَاجَة إِلَى أمثالي فَهُوَ لَا يحْتَاج إِلَى أمثالك أَيْضا وان يَأْمر بِإِخْرَاج مثلي فَهُوَ لَا شكّ فَاعل بأمثالك أَيْضا إِن يكن لديك مرسوم ملكي بِحَذْف اسْمِي من الدِّيوَان فأرنيه وَإِلَّا فادفع مَا قدر الْملك لي من راتب فَقَالَ اخْرُج فَأَنا الَّذِي أحميك وأحمي الْملك ولولاي لكنتم طعمة للنسور مُنْذُ زمن بعيد وَفِي الْيَوْم نَفسه أودعني السجْن الَّذِي مرت عَليّ فِيهِ أَرْبَعَة شهور لقد كَانُوا أَكثر من سَبْعمِائة وَكَانَ أقل من عشْرين مِنْهُم سفاحين ولصوصا ومجرمين أما الْبَاقُونَ فَأُولَئِك هم الَّذين زج بهم الْوَزير بالسجن ظلما وعدوانا طَمَعا بِالْمَالِ وَمَا إِن سمع النَّاس فِي المدن والنواحي بِخَبَر مُنَادِي الْملك حَتَّى هرعت جموع المظلمين الغفيرة إِلَى الْقصر لما رأى بهْرَام جور حَال النَّاس وَمَا ألحقهُ بهم الْوَزير من ظلم وعنت وإجحاف قَالَ فِي نَفسه إِن فَسَاد الرجل فِي المملكة أَكثر مِمَّا أرى انه يفوق الْوَصْف ان جرأته على الله تَعَالَى وعَلى عباده وَعلي بلغت حدا أكبر مِمَّا كنت أَظن يجب التَّأَمُّل فِي المسالة بعمق أَكثر ثمَّ أَمر بالذهاب إِلَى سراي راست روشن وإحضار جَمِيع دفاتره وإغلاق أَبْوَاب السراي جَمِيعهَا وشمعها وَذهب رجال الْملك المعتمدون فنفذوا الْأَمر واحضروا الدفاتر وَفِي حِين كَانُوا ينظرُونَ فِيهَا وجدوا أَحدهَا يغص برسائل بعث بهَا أحد الْمُلُوك إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 راست روشن يُخبرهُ بِخُرُوجِهِ على بهْرَام جور والتوجه نَحوه ووجدوا رِسَالَة بِخَط راست روشن مُرْسلَة إِلَيْهِ فِيهَا مَا هَذَا التباطؤ فقد قَالَت الْحُكَمَاء الْغَفْلَة تدمر الدولة لقد عملت لهواي مَعَك وطاعتي إياك كل مَا بوسعي فكسبت فلَانا وَفُلَانًا وَفُلَانًا من قادة الْجَيْش إِلَى جَانِبي وَأخذت لَك الْبيعَة مِنْهُم وَجعلت أَكثر الْجَيْش دون مؤونة وعتاد وَأرْسلت بعضه إِلَى أَمَاكِن ونقاط أُخْرَى فِي مهام لَا طائل من وَرَائِهَا أما الرّعية فجوعتها وأضعفتها وَفرقت شملها وشتت الكثيرين مِنْهَا وَأما مَا اسْتَطَعْت جمعه فِي هَذِه الْمدَّة من أَمْوَال فَهُوَ لَك ولخزانتك الَّتِي لَا قبل لأي ملك بهَا وأعددت لَك تاجا ومنطقة وجبة مرصعة لم ير أحد مثلهَا إِن حَياتِي مهدده بالخطر من هَذَا الرجل الْملك بهْرَام الميدان خَال والخصم لاه فاغتنم الفرصة وسارع بالمجيء قبل أَن يصحو الرجل من غفوته لما رأى بهْرَام جور الرسائل قَالَ اه إِنَّه هُوَ الَّذِي ألب علينا هَذَا الْخصم الَّذِي يتَقَدَّم الان بعد أَن غرر بِهِ وَلَيْسَ ثمَّة من شكّ فِي خبث معدنه وعداوته ومخالفته لنا وَأمر بتحويل ثروته كلهَا إِلَى الخزانة والاستيلاء على عبيده ومواشيه اما مَا أَخذه من النَّاس رشوة فَأمر بِأَن تبَاع أملاكه وضياعه ليسترد النَّاس أسلابهم مِنْهَا وَأما قصره ومتاعه فدكت دكا ثمَّ أَمر انذاك بِإِقَامَة مشنقة عالية على بَاب قصره وَثَلَاثِينَ أُخْرَى خلفهَا وَكَانَ راست روشن أول من علق عَلَيْهَا تَمامًا مِثْلَمَا علق ذَلِك الرجل الَّذِي تقدم خَبره كَلْبه وَمن ثمَّ علق أَتْبَاعه وَمن دخلُوا فِي بيعَته وَأمر الْملك مناديا يُنَادي لمُدَّة سَبْعَة أَيَّام هَذَا جَزَاء من يَحِيق بِالْملكِ سوءا وينحاز إِلَى أعدائه ويوافقهم ويؤثر الْخِيَانَة على الْأَمَانَة وَيظْلم الْعباد ويتجرأ على الله وعَلى أسياده بعد هَذَا الْجَزَاء الرادع خَافَ المفسدون الْملك بهْرَام الَّذِي عزل كل من عينهم راست روشن أَو ولاهم شغلا وَلم يولهم أَي عمل بعد وَأعَاد كل من نحاهم عَن مراكزهم إِلَيْهَا وَبدل جَمِيع الْكتاب وحكام الولايات وَلما وصل الْخَبَر إِلَى الْملك الَّذِي كَانَ قد خرج على بهْرَام جور وَتوجه إِلَيْهِ عَاد من حَيْثُ وصل نَادِما على فعلته ثمَّ أرسل الْأَمْوَال والهدايا الثمينة إِلَى الْملك بهْرَام ملتمسا الْعذر مُعْلنا الطَّاعَة وَقَالَ ان عصيان الْملك لم يخْطر لي ببال قطّ بل ان وزيركم هُوَ الَّذِي جعلني أسلك هَذِه الطَّرِيق لِكَثْرَة مَا كَانَ يكْتب من رسائل وَيُرْسل من رسل وَفِي ظَنِّي أَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 لم يكن سوى مجرم يبْحَث لَهُ عَن ملْجأ وَقبل الْملك بهْرَام عذره وَصرف النّظر عَن الْمَسْأَلَة ثمَّ قلد الوزارة رجلا حسن الِاعْتِقَاد يخْشَى الله فانتظمت شؤون الْجَيْش والرعية واستقامت الْأَعْمَال وَصَارَت الْبِلَاد إِلَى الْعمرَان وتخلص النَّاس من الْجور وَالظُّلم اما عَن الرجل الَّذِي علق كَلْبه فَكَانَ الْملك بهْرَام حِين خرج من خيمته يُرِيد العودة أخرج من كِنَانَته سَهْما أَلْقَاهُ أَمَامه وَقَالَ أكلت طَعَامك وَعرفت مَا نزل بك من أَذَى وأصابك من ضَرَر فَإِن لَك عَليّ لَحقا إعلم أنني أحد حجاب الْملك بهْرَام جور وان كل كبار رجال قصره وحجابه أصدقائي وهم يعرفونني جيدا عَلَيْك أَن تذْهب إِلَى قصر الْملك بهْرَام بِهَذَا السهْم فَإِن كل من سيراه مَعَك سَيَأْتِي بك إِلَيّ لكَي أَقْْضِي لَك بِشَيْء يعوض عَلَيْك شَيْئا مِمَّا لحق بك من ضَرَر وَعَكَفَ رَاجعا بعد أَيَّام قَالَت زوج ذَلِك الرجل لَهُ أنهض وامض إِلَى الْمَدِينَة وَخذ السهْم مَعَك فَلَا إخال ذَلِك الْفَارِس بطلعته تِلْكَ إِلَّا رجل ثريا ووجيها حَتَّى لَو أَعْطَاك شَيْئا قَلِيلا فَإِنَّهُ كثير علينا فِي هَذِه الْأَيَّام إذهب وَلَا تتوان فَكَلَام الرجل لم يكن جزَافا فَنَهَضَ الرجل وَمضى إِلَى الْمَدِينَة ونام ليلته تِلْكَ ثمَّ ذهب فِي صباح الْيَوْم التَّالِي إِلَى قصر الْملك بهْرَام الَّذِي كَانَ أوصى حجاب قصره وَمن فِيهِ إِذا مَا أم الْقصر رجل باوصاف كَذَا وَكَذَا ورأيتم سهمي بِيَدِهِ فأتوني بِهِ حَالا لما راى الْحجاب الرجل والسهم مَعَه نادوا عَلَيْهِ وَقَالُوا أَيْن أَنْت أَيهَا الرجل الْحر فَنحْن فِي انتظارك مُنْذُ أَيَّام استرح هُنَا إِلَى أَن نأخذك إِلَى صَاحب هَذَا السهْم وَمَضَت فَتْرَة خرج بعْدهَا بهْرَام جور وَجلسَ على سَرِيره وَعقد الْمجْلس فَأخذ الْحجاب بيد الرجل وأدخلوه إِلَى الْمجْلس فَوَقَعت عينه على الْملك وعرفه وَقَالَ اه لقد كَانَ الْملك بهْرَام ذَلِك الْفَارِس وَلم أقِم بِالْوَاجِبِ الْمَطْلُوب نَحوه فضلا عَن أنني كنت أحدثه بجسارة لَعَلَّه أَلا يكون قد ضغن عَليّ وَلما قربه الْحجاب من سَرِير الْملك وَقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ الْتفت بهْرَام جور نَحْو العظماء وَقَالَ لقد كَانَ هَذَا الرجل سَبَب تنبهي لأحوال المملكة وقص عَلَيْهِم قصَّة الْكَلْب والذئبة ثمَّ قَالَ وتفاءلت بِهَذَا الرجل ثمَّ أَمر لَهُ بخلعة وَسَبْعمائة شَاة كَبِيرَة ينتخبها هُوَ بِنَفسِهِ وَلَا يدْفع عَنْهَا ضريبة طوال حَيَاة بهْرَام جور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 لقد هزم الاسكندر دَارا لِأَن وَزِير الْأَخير تحالف سرا مَعَ الأول قلبا وقالبا وَلما قتل دَارا قَالَ الْإِسْكَنْدَر قد انهار الْملك بغفلة الْأَمِير وخيانة الْوَزير على الْملك أَي ملك أَلا يغْفل عَن أَحْوَال عماله فِي أَي وَقت وَعَلِيهِ أَن يتقصى تصرفاتهم وسلوكهم وسيرهم دَائِما ويتحراها وَإِذا مَا بَدَت مِنْهُم خِيَانَة أَو انحراف تجب تنحيتهم وعزله ومعاقبة كل مِنْهُم بِقدر ذَنبه وجرمه ليكونوا عِبْرَة للأخرين وَحَتَّى لَا تسول لأحد نَفسه بِالْملكِ سوءا خوفًا من الْعقُوبَة أما أَصْحَاب المناصب الهامة الرفيعة فَيجب أَن يعين عَلَيْهِم من يراقبهم سرا دون أَن يعلمُوا ليكونوا على اطلَاع دَائِم بأعمالهم وأحوالهم فقد قَالَ أرسطو طاليس للإسكندر الْملك لَا تسند أَي منصب لأهل الْقَلَم فِي مملكتك بعد إيذائهم لأَنهم سيتواطئون مَعَ أعدائك ويتحالفون سرا ويعملون على هلاكك وَقَالَ أبرويز الْملك على الْملك أَلا يعْفُو عَن ذنُوب أَرْبَعَة من النَّاس الطامع فِي ملكه والطامع فِي حرمه وَالَّذِي يذيع أسراره وَلَا يكتمها وَمن هُوَ مَعَه بِلِسَانِهِ وَمَعَ أعدائه بِقَلْبِه يكيد لَهُ سرا إِن فعل الْمَرْء يدل على سره وَالْملك اليقظ لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء أَو يفوتهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الْفَصْل الْخَامِس فِي المستقعطين والتحقق من معاملتهم الرّعية ليعلم المستقطعون أَن لَا شان لَهُم على الرعايا سوى تَحْصِيل الْأَمْوَال الْمُسْتَحقَّة عَلَيْهِم بِالْحُسْنَى على أَن يَكُونُوا بعد ذَلِك امنين على أنفسهم واموالهم وَنِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وضياعهم وَمَا يملكُونَ دون ان يكون لأَصْحَاب الإقطاعات عَلَيْهِم من سَبِيل أَو أَن يمنعوهم من الذّهاب إِلَى الْقصر لبسط أَحْوَالهم بانفسهم إِذا مَا رَغِبُوا فِي ذَلِك أما من لَا يلْتَزم بِهَذَا أَو يتَقَيَّد بِهِ فَيَنْبَغِي الضَّرْب على يَده وَنزع إقطاعاته مِنْهُ ومجازاته ليَكُون عِبْرَة للأخرين على أَصْحَاب الإقطاعات أَن يعلمُوا أَيْضا أَن الْملك والرعية جَمِيعًا فِي حَقِيقَة الْأَمر للسُّلْطَان وَعَلَيْهِم وعَلى الْوُلَاة وهم رُؤَسَاء ومسؤولون أَن يعاملوا النَّاس مُعَاملَة الْملك للرعية ليحظوا بتأييده وقبوله ويسلموا من عِقَابه وينجوا من عَذَاب الأخرة حِكَايَة الْملك الْعَادِل أنوشروان يُقَال انه لما توفّي قباذ الْملك تولى ابْنه أنوشروان الْعَادِل الْملك من بعده وعمره ثَمَانِي عشرَة سنة لقد كَانَ الْعدْل متأصلا فِيهِ مُنْذُ نعومة أَظْفَاره فَكَانَ يُقَابل الإساءه بالإساءة وَالْإِحْسَان بِالْإِحْسَانِ وَكَانَ يَقُول إِن وَالِدي ضَعِيف رَأْيه طيب قلبه يخدع بِسُرْعَة سلم مقاليد المملكة لعمال وولاة يَفْعَلُونَ مَا يشاؤون فخربت الْبِلَاد ونفذت خزائنها الَّتِي نهبوا مَا فِيهَا من أَمْوَال اما هُوَ فَلم يعلق بِهِ ويبق لَهُ سوى الظُّلم والسمعة السَّيئَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 لقد خدع مرَّتَيْنِ الأولى باقوال مزدك ذِي الِاعْتِقَاد السيىء وَالْمذهب الْخَبيث وحيله وَالْأُخْرَى بيد الْعَامِل فلَان والوالي فلَان اللَّذين دمرا الْولَايَة بِمَا فرضاه عَلَيْهَا من ضَرَائِب بَاطِلَة أفقرت الرّعية وضيقت عَلَيْهَا الخناق لقد خدعاه لحبه المَال ببدرة ذهب أحضراها إِلَيْهِ ففرح بهَا كثيرا دون أَن يفكر بكثرتها أَو يسال الْوَالِي مثلا أَنْت أَمِير تِلْكَ الْولَايَة وواليها وَقد أنفذت إِلَيْك مبالغ من المَال رواتب ونفقات لَك لمن مَعَك أرى أَنَّك غصبتهم أعطياتهم وَإِلَّا فانى لَك هَذِه الْأَمْوَال الَّتِي أحضرتها إِلَيّ وَهَذَا النَّعيم والثروة الطارئة الَّتِي لَا عهد لَك بهَا من قبل أوليست هِيَ الْأَمْوَال الَّتِي استوليت عَلَيْهَا من النَّاس ظلما وعدوانا أَو وَأَن يَقُول لِلْعَامِلِ ان أَمْوَال الْولَايَة على أَقسَام بَعْضهَا مَا أنفقته فِي سبل الْخَيْر والاخر مَا دفعت بِهِ إِلَى خزينة الدولة فَمن أَيْن لَك هَذِه المبالغ الَّتِي أَرَاهَا مَعَك أليست الْأَمْوَال الَّتِي أَخَذتهَا دون حق إِن وَالِدي نَفسه لم يكن يتحَرَّى الْأُمُور أَو يدقق فِيهَا حَتَّى يَسْتَقِيم الاخرون فِي أَعْمَالهم وَمَرَّتْ ثَلَاث أَو أَربع سِنِين على حكم أنوشروان وَأَصْحَاب الإقطاعات والولاة والحكام ماضون فِي تجاوزهم وتماديهم وجموع المتظلمين تترى على الْقصر تَشْكُو وتصرخ وتتظلم وَذَات يَوْم جلس أنوشروان الْعَادِل للمظالم فَحَضَرَ جَمِيع رجالات المملكة وأعيانها ثمَّ اسْتَوَى الْملك على سَرِيره فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ اعلموا أَن الله عز وَجل هُوَ الَّذِي وهبني الْملك أَولا وانني ورثته عَن وَالِدي ثَانِيًا وَأَن عمي خرج عَليّ فحاربته واسترجعت الْملك مِنْهُ بِالسَّيْفِ ثَالِثا وَلما ملكني الله الْملك جعلت لكم فِيهِ نَصِيبا فوليت كلا مِنْكُم ولَايَة وَلم أغمط أحدا فِي هَذِه الدولة حَقه بل كَانَ لكل نصيب وأبقيت الْكِبَار والمعروفين مِمَّن كَانَت لَهُم الْولَايَة والمقامات الرفيعة فِي عهد وَالِدي فِي مناصبهم وَلم أبخسهم أَرْزَاقهم وأشياءهم لقد أوصيتكم وَمَا أَزَال بِالنَّاسِ خيرا فِي الْمُعَامَلَة وَحسن التَّصَرُّف وَعدم تَحْصِيل الْأَمْوَال من ضَرَائِب وخراج إِلَّا بِالْحَقِّ أحفظ لكم حرماتكم وأصونها وَلَا تصونون بل تعرضون عَن كَلَامي لَا تخشون الله وَلَا تستحون من الْعباد إِنَّنِي أَخَاف عِقَاب الله وعذابه واخشى أَن تكون عَاقِبَة ظلمكم وبالا على عهدي إِن الْعَالم صَاف من الْأَعْدَاء والمخالفين وَأَنْتُم فِي رَاحَة وكفاف عَيْش والانصراف إِلَى شكر الله وحمده على نعمه الَّتِي وهبنا جَمِيعًا هُوَ البديل الوحيد وَالْأَفْضَل للظلم وكفران النِّعْمَة وجحودها فالظلم يقوض الْملك وكفران النِّعْمَة يمحقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 عَلَيْكُم مُنْذُ الان أَن تحسنوا مُعَاملَة خلق الله عز وَجل وتخففوا الْوَطْء على الرّعية وَألا تُؤْذُوا الضُّعَفَاء وَأَن ترعوا للْعُلَمَاء والحكماء حرماتهم وتخالطوا الأخيار وتجالسوهم وتتجنبوا الأشرار وعشراء السوء وَألا تسيئوا إِلَى الْمُتَّقِينَ والزهاد وَأشْهد الله وَمَلَائِكَته على نَفسِي بانني سأنحيي كل من لايسير على هَذَا النهج وَلنْ أبقيه فَقَالُوا جَمِيعًا سمعا وَطَاعَة سننفذ هَذَا بحذافيره وَبعد أَيَّام عَاد الْجَمِيع إِلَى أَعْمَالهم واستمروا فِي ديدنهم السَّابِق ظلما ونهبا غير ابهين بأنوشروان الَّذِي مَا انفكوا يعدونه طفْلا وَكَانَ كل وَاحِد من أُولَئِكَ العصاة يظنّ أَنه هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى الْعَرْش وَأَن بَقَاءَهُ ملكا أَو عَدمه رهن إِرَادَته وَلزِمَ أنوشروان الصمت وَسكت عَنْهُم سنوات على مضض كَانَ لأنوشروان قَائِد كَبِير هُوَ وَالِي أذربيجان الَّذِي لم يكن فِي المملكة كلهَا أَمِير أَو قَائِد أقوى مِنْهُ أَو أَكثر نعْمَة وَلم يكن لأحد مَا كَانَ لَهُ من الات وَعدد وجند وممتلكات وَكَانَ مِمَّا يُرَاوِد نفس ذَلِك الْقَائِد أَن يُقيم لنَفسِهِ مقرا وبستانا فِي ضواحي الْمَدِينَة الَّتِي كَانَ فِيهَا لقد كَانَت فِي تِلْكَ الْبقْعَة قِطْعَة أَرض لإمرأة عَجُوز لَا يتَجَاوَز نتاجها السنوي حِصَّة الْملك وزارعها وشيئا ضئيلا يبْقى لَهَا هُوَ عبارَة عَن أَرْبَعَة أرغفة من خبز الشّعير يوميا على مدَار السّنة كلهَا فَكَانَت الْعَجُوز تشتري بأحدها طَعَاما وباخر زيتا لسراجها وتحتفظ بالثالث لفطورها وَالرَّابِع والأخير لعشائها وَكَانَ النَّاس يتصدقون عَلَيْهَا بملابسها وثيابها وَلم تكن المسكينة تَبْرَح بَيتهَا وَكَانَت تقضي عمرها فِي مشقة وفاقة وعوز وَرَأى الْقَائِد أَنه من الْمُنَاسب أَن يضم قِطْعَة الأَرْض تِلْكَ لتصبح فِي جملَة بستانه وقصره فَأرْسل إِلَى الْعَجُوز شخصا يَقُول لَهَا بيعيني قِطْعَة أَرْضك فإنني فِي حَاجَة إِلَيْهَا قَالَت لَا أبيعها فإنني أحْوج إِلَيْهَا لأنني لَا أملك من الدُّنْيَا سواهَا وَمِنْهَا أعيش وَالْإِنْسَان لَا يَبِيع مصدر رزقه قَالَ ادْفَعْ إِلَيْك ثمنهَا أَو أعوضك بهَا قِطْعَة أُخْرَى تعدلها محصولا قَالَت الْعَجُوز إِن أرضي هَذِه حَلَال ورثته عَن وَالِدي وَهِي قريبَة من مصدر الْمِيَاه وانني على وفَاق مَعَ جيراني الَّذين يحترمونني ويحبونني وَلَيْسَت لأرضك هَذِه الميزات فَكف عَن أرضي غير أَن الْقَائِد لم يعر اهتماما لكلامها بل استولى على الأَرْض ظلما وعنوة وسحب عَلَيْهَا سور بستانه وَضمّهَا إِلَيْهِ فأسقط فِي يَد الْمَرْأَة ورضخت لقبُول ثمن الأَرْض أَو ابدلها وَأَلْقَتْ بِنَفسِهَا امامة قائلة الثّمن أَو البديل فَلم يصغ إِلَيْهَا أَو يُكَلف نَفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 النّظر فِيهَا وَلم يأبه بهَا وَخرجت من عِنْده قانطة وَلم يعد يسمح لَهَا بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ لَكِنَّهَا ظلت تجْلِس لَهُ فِي الطَّرِيق كلما ركب للتنزه وَالصَّيْد وتصرخ فِي وَجهه حِين يقترب مُطَالبَة بِثمن الأَرْض فَكَانَ يمر عَنْهَا دون أَن يُجيب بِشَيْء وَإِذا مَا طلبت إِلَى خاصته وندمائه وحجابه أَن ينقلوا إِلَيْهِ طلبَهَا قَالُوا نعم سنقول لَكِن أحدا لم يكن يَقُول لَهُ شَيْئا وَمَضَت على هَذَا الْمَوْضُوع سنتَانِ واملقت الْعَجُوز وَلم تَجِد من ينصفها ونفضت يَدهَا مِنْهُ وَقَالَت فِي نَفسهَا إِنَّنِي أضْرب فِي حَدِيد بَارِد مَا من يَد إِلَّا وَجعل الله يدا فَوْقهَا وأخيرا أَمَام جبروت خَادِم أنوشروان الْعَادِل وَعَبده والحل أَن أتحمل مشاق السّفر وأذهب إِلَى الْمَدَائِن وادخل إِلَى أنوشروان وأعلمه حَقِيقَة حَالي فقد أجد عِنْده إنصافا وَدون ان تخبر احدا مَضَت فَجْأَة من أذربيجان إِلَى الْمَدَائِن متحملة الْمَشَقَّة والتعب فَلَمَّا رات قصر أنوشروان قَالَت فِي نَفسهَا من ذَا الَّذِي سيتيح لي الدُّخُول إِلَى هُنَا إِنَّه لم يكن يسمح لي بِدُخُول سراي وَالِي أذربيجان وَهُوَ خَادِم الْملك فَكيف يُمكن أَن يسمح لي بِالدُّخُولِ إِلَى قصر الْملك نَفسه والمثول بَين يَدَيْهِ وَهُوَ سيد الدُّنْيَا باسرها إِن من الْأَفْضَل ان آوي إِلَى مَكَان قريب هُنَا وأكتم أَمْرِي فَرُبمَا أَسْتَطِيع أَن أظفر بلقاء الْملك وَهُوَ خَارج وأقص عَلَيْهِ قصتي وَحدث أَن جَاءَ الْقَائِد الَّذِي سلبها أرْضهَا إِلَى الْقصر وعزم أنوشروان على الْخُرُوج للصَّيْد ولقفت الْعَجُوز خبر خُرُوج الْملك للصَّيْد إِلَى الْمَكَان الْفُلَانِيّ فِي يَوْم كَذَا فمضت واخذت تسْأَل هُنَا وَهُنَاكَ إِلَى أَن وصلت إِلَى ذَلِك الْمَكَان بِمَشَقَّة وَجهد وَأَلْقَتْ بِنَفسِهَا خلف دمنة هُنَاكَ ونامت لَيْلَتهَا تِلْكَ وَفِي الْيَوْم التَّالِي وصل أنوشروان وتفرق من كَانَ مَعَه من كبار القادة فِي طلب الصَّيْد وَبَقِي هُوَ يتجول قي الْمَكَان وَمَعَهُ أحد الموكلين بِالسِّلَاحِ فَقَط اغتنمت الْعَجُوز الفرصة ونهضت من مكمنها وأسرعت نَحْو الْملك وأخرجت شكواها وَهِي تَقول أَيهَا الْملك إِن تكن مَالك الدُّنْيَا فأنصف هَذِه الْعَجُوز الضعيفة واقرأ شكواها وتعرف على حَالهَا لما رأى أنوشروان الْعَجُوز وَسمع مَا تَقول أَيقَن أَنَّهَا لم تأت إِلَى هُنَا لَو لم تكن ثمَّة ضَرُورَة قصوى فاتجه بفرسه نَحْوهَا وَأخذ شكواها وَقرأَهَا واستمع إِلَى حَدِيثهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فترقرقت الدُّمُوع فِي عَيْنَيْهِ وَقَالَ لَهَا ليهدأ بالك فقد كَانَ الْمَوْضُوع يخصك وَحدك أما وَقد علمناه الان فَهُوَ مَنُوط بِنَا نَحن وعلينا عبئه سأوصلك إِلَى بغيتك وحقك أَولا ثمَّ أرسلك بعد ذَلِك إِلَى مدينتك لتستريحي عندنَا أَيَّامًا فقد قطعت طَرِيقا طَوِيلَة ثمَّ تلفت حواليه فَرَأى أحد فراشيه اتيا على بغله الموكبي فَقَالَ لَهُ أنزل وأركب هَذِه الْمَرْأَة وامض بهَا إِلَى إِحْدَى الْقرى وَسلمهَا إِلَى كبيرها ثمَّ عد وَحين نرْجِع من الصَّيْد خُذْهَا من الْقرْيَة إِلَى الْمَدِينَة واسكنها فِي بَيْتك وَاجعَل لَهَا من خزانتنا منوي خبز وَمن لحم يوميا وَخَمْسَة دَنَانِير ذهب شهريا إِلَى أَن نطلبها مِنْك فنفذ الْفراش مَا أَمر بِهِ وَلما عَاد أنوشروان من الصَّيْد أمضى سَحَابَة يَوْمه يفكر فِيمَا يجب فعله لمعْرِفَة حَقِيقَة الْمَوْضُوع دون أَن يشْعر بِهِ أحد من كبار الدولة فَفِي قيلولة أحد الْأَيَّام وَالنَّاس نيام وَالْقصر خَال قَالَ الْملك لأحد خدمه اذْهَبْ إِلَى الْحُجْرَة الْفُلَانِيَّة وجيئني بالغلام فلَان فَذهب الْخَادِم واحضر الْغُلَام فَقَالَ لَهُ الْملك يَا غُلَام أَنْت تعلم أَن غلماننا اللائقين كَثِيرُونَ لكنني اخْتَرْتُك من بَينهم جَمِيعًا واعتمدت عَلَيْك فِي أَمر خُذ نفقات سفرك من الخزانة وامض إِلَى أذربيجان وَأنزل بِالْمَدِينَةِ الْفُلَانِيَّة فِي الْمحلة الْفُلَانِيَّة واقم هُنَاكَ عشْرين يَوْمًا ولتتظاهر أَمَام النَّاس إِنَّك جِئْت فِي طلب غُلَام فار وحيثما اسْتَطَعْت أَن تجالسهم وتعاشرهم وتختلط بهم وتتحدث إِلَيْهِم فِي سكر وصحو اسألهم لقد كَانَت فِي محلتكم هَذِه عَجُوز اسْمهَا فُلَانَة أَيْن ذهبت فَلَيْسَ من خبر عَنْهَا وماذا فعلت بارضها الَّتِي كَانَت تَملكهَا اضغ إِلَى كل مَا يَقُولُونَ واحفظه ثمَّ عد إِلَيّ بِحَقِيقَة الْأَمر إِنِّي مرسلك فِي هَذِه المهمة لكنني ساطلبك إِلَى البلاط غَدا وَأَقُول لَك فِي صَوت عَال يسمعهُ الْجَمِيع إذهب وَخذ نفقاتك من الخزانة وامض إِلَى أذربيجان فَكلما وصلت إِلَى مَدِينَة أَو نَاحيَة سل عَن غلات هَذَا الْعَام وفواكهه أنزلت بهَا الافات أم لَا كَذَلِك المراعي وأماكن الصَّيْد ثمَّ عد بِسُرْعَة وأطلعنا على مَا وجدت الْأُمُور عَلَيْهِ كل هَذَا حَتَّى لَا يعرف أحد بِالْأَمر الَّذِي ارسلك من اجله فَقَالَ الْغُلَام سمعا وَطَاعَة وَفِي الْيَوْم التَّالِي نفذ أنوشروان مَا قَالَ وَمضى الْغُلَام فوصل إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَة وَأقَام فِيهَا عشْرين يَوْمًا كَانَ يسْأَل كل من جلس إِلَيْهِ عَن أَحْوَال الْمَرْأَة الْعَجُوز فَكَانَ جوابهم جَمِيعًا لقد كَانَت إمرأة مستورة وأصيلة كُنَّا نرها فِي نعْمَة مَعَ زَوجهَا وَأَوْلَادهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لَكِن زَوجهَا وَأَوْلَادهَا مَاتُوا جَمِيعهم فَبَقيت وحيدة والت نعمتها إِلَى زَوَال وَلم يبْق لَهَا سوى قِطْعَة أَرض عهِدت بهَا إِلَى زارع يَزْرَعهَا فَكَانَ نتاجها عبارَة عَمَّا تَدْفَعهُ من خراج وَنصِيب الزَّارِع وَمَا يتبقى حصَّتهَا إِلَى الْمَوْسِم القادم وَهُوَ أَرْبَعَة أرغفة يوميا كَانَت كل رزقها أَحدهَا لطعامها وَالثَّانِي لزيت سراجها وَالثَّالِث لفطورها والأخير لعشائها وَلما أَرَادَ الْوَالِي أَن ينشىء لنَفسِهِ متنزها وبستانا استولى على أرْضهَا عنْوَة وَضمّهَا إِلَى أرضه دون أَن يدْفع لَهَا ثمنهَا أَو يعوضها مِنْهَا وظلت المسكينة طوال سنتَيْن تَتَرَدَّد على قصره تصرخ وتستغيث مُطَالبَة الثّمن غير أَن أحدا لم يلْتَفت إِلَيْهَا ومنذ مُدَّة لم يرهَا أحد فِي هَذِه الْمَدِينَة ولسنا نَدْرِي أَيْن ذهبت أميتة هِيَ أم حَيَّة وَعَاد الْغُلَام وَمضى إِلَى الْقصر وَجلسَ أنوشروان الْعَادِل للنَّاس فَمثل الْغُلَام وَقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ فَقَالَ أنوشروان لَهُ قل كَيفَ وجدت الْأُمُور فَقَالَ الْغُلَام يَا مولَايَ إِن المحاصيل جَيِّدَة السّنة فِي شَتَّى أرجاء مملكتكم إِذْ لم تصب بأية افة والمراعي مخضرة وأمكنة الصَّيْد عامرة قَالَ أنوشروان الْحَمد لله يَا لَهُ من خبر سَار وَلما انفض الْمجْلس وخلا الْقصر من غير أَهله أَمر أنوشروان بأستدعاء الْغُلَام ثمَّ سَأَلَهُ عَن الْأَحْوَال هُنَاكَ فَنقل إِلَيْهِ الْغُلَام كل مَا سمع فَثَبت لأنوشروان أَن كل مَا قالته الْمَرْأَة كَانَ صَحِيحا وَلم ينم يَوْمه وَلَيْلَته تِلْكَ لِكَثْرَة تفكيره وَشدَّة أسفه وَفِي صَبِيحَة الْيَوْم التَّالِي الباكر استدعى حَاجِبه الْكَبِير وَقَالَ لَهُ عِنْدَمَا يبْدَأ العظماء بالحضور وَيَأْتِي فلَان احجزه فِي الدهليز إِلَى أَن أخْبرك بِمَا يَنْبَغِي عمله لما حضر العظماء والموبذون إِلَى البلاط خرج أنوشروان وَجلسَ إِلَيْهِم ثمَّ الْتفت نحوهم وَقَالَ إِنِّي سَائِلكُمْ شَيْئا فاجيبوا بِصدق عَمَّا تعرقون وَلَو حدسا وتخمينا قَالُوا سمعا وَطَاعَة قَالَ بِمَ تقدرون ثروة فلَان أَمِير أذربيجان ذَهَبا نَقْدا قَالُوا فِي حُدُود مِائَتي ألف ألف دِينَار مكدسة لَا حَاجَة لَهُ بهَا قَالَ وَمن وَسَائِل الْجُلُوس والأثاث قَالُوا خَمْسمِائَة ألف دِينَار من الذَّهَب وَالْفِضَّة قَالَ وَمن الْجَوَاهِر قَالُوا سِتّمائَة ألف دِينَار قَالَ وَمن السَّجَّاد ووسائل الزِّينَة قَالُوا ثَلَاثمِائَة ألف دِينَار قَالَ وَمن الْأَمْلَاك والمستغلات والضياع وَالْعَقار قَالُوا مَا من مَدِينَة وناحية فِي خُرَاسَان وَالْعراق وَفَارِس وأذربيجان إِلَّا وَله فِيهَا عشر أَو سبع أَو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ثَمَان من الْقرى والأملاك والقصور ومنازل القوافل والحمامات والمطاحن قَالَ وَمن الْخَيل وَالْبِغَال قَالُوا ثَلَاثُونَ ألفا قَالَ وَمن الأغنام قَالُوا حوالي مِائَتي ألف قَالَ وَمن الْجمال قَالُوا عشرُون ألفا قَالَ وَمن الرَّقِيق قَالُوا ألف وَسَبْعمائة غُلَام تركي ورومي وَحبشِي وَأَرْبَعمِائَة جَارِيَة حسناء قَالَ فَكيف يعتدي من عِنْده هَذِه النعم وَمن يَأْكُل عشْرين ضربا من اللحوم والأطعمة والمقالي والشحوم والحلوى يوميا على ادمية مثله من عباد الله عز وَجل الْمُتَّقِينَ ضَعِيفَة لَا حول لَهَا وَلَا قُوَّة وَلَيْسَ لَهَا من حطام الدُّنْيَا سوى رغيفين جافين أَحدهمَا لنهارها والاخر لليلها ثمَّ يَأْتِي هُوَ فيسلبها رغيفيها ظلما ويحرمها إيَّاهُمَا فَمَا جَزَاؤُهُ قَالُوا جَمِيعًا إِنَّه يسْتَحق كل عُقُوبَة وَإِن كل مَا يتَّخذ من عقوبات فِي حَقه لقَلِيل قَالَ أنوشروان أريدكم أَن تسلخوا جلده عَن جِسْمه وتطعموا الْكلاب لَحْمه وتحشوا جلده تبنا وتعلقوه على مدْخل الْقصر وَأَن يُنَادى بِالنَّاسِ لمُدَّة سَبْعَة أَيَّام بِأَن من يظلم أحد بعد الْيَوْم أَو ياخذ مِنْهُ حَتَّى مخلاة تبن أَو دجَاجَة أَو قَبْضَة كراث ظلما أَو أَن يؤم الْقصر متظلم فسيكون مصير المعتدي والظالم مصير هَذَا الرجل وَنفذ مَا أَمر بِهِ ثمَّ قَالَ أنوشروان لذَلِك الْفراش أحضر الْمَرْأَة الْعَجُوز وَلما جيئ بهَا قَالَ أنوشروان لعلية الْقَوْم وكبار دولته هَذِه هِيَ المظلومة وَذَلِكَ هُوَ الظَّالِم الَّذِي لَقِي جزاءه ثمَّ قَالَ للغلام الَّذِي كَانَ قد أرسل إِلَى أذربيجان يَا غُلَام لم أرسلتك إِلَى أذربيجان وَكَانَ حَاضرا فِي الْمجْلس قَالَ لأتقصى أَحْوَال هَذِه الْعَجُوز وأتبين مَا نزل بهَا من ظلم وأعود إِلَى مولَايَ بِحَقِيقَة الْأَمر فَقَالَ أنوشروان للحاضرين لِتَعْلَمُوا أنني لم أجَازه جزَافا وأنني لن أكلم الظَّالِمين بعد الْيَوْم بِغَيْر السَّيْف وسأحمي الشَّاة وَالْحمل من الذئاب وأضرب على الْأَيْدِي الباغية المتطاولة وأخلص الأَرْض من المفسدين وأملؤها حَقًا وعدلا وَأمنا فَمن أجل هَذَا خلقت لَو أتيح للنَّاس أَن يَفْعَلُوا مَا يشاؤون لما أظهر الله عز وَجل الْمُلُوك من بَينهم ووكل إِلَيْهِم أَمرهم إيَّاكُمْ أَن تَفعلُوا مَا تستحقون عَلَيْهِ مَا لقِيه هَذَا الظَّالِم الَّذِي لَا يخْشَى الله فهاب كل من كَانَ فِي الْمجْلس وتلاشت جرأته بِإِزَاءِ هَيْبَة أنوشروان وعقابه الصارم وَقَالَ أنوشروان للْمَرْأَة لقد جازيت من ظلمك ووهبتك الْقصر والبستان اللَّذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فِي أَرْضك وَأمرت لَك بمواش وَنَفَقَة لتعودي بعهدتي سَالِمَة إِلَى مدينتك وأرضك ثَانِيَة وتذكريني بِدُعَاء الْخَيْر ثمَّ قَالَ لماذا يفتح بَاب قَصرنَا للظالمين ويوصد فِي وَجه المظلومين فالجيش والرعية كِلَاهُمَا عمالنا وَتَحْت إمرتنا بل الرّعية هِيَ الَّتِي تُعْطِي والجيش هُوَ الَّذِي يَأْخُذ فَمن الأولى أَن تفتح الْأَبْوَاب فِي وَجه المعطين أَكثر من الاخذين ان من أَمْثِلَة ممارستهم الْبَاطِل وارتكابهم الظُّلم وعبثهم بالقوانين وَعدم الاكتراث بهَا أَنه مَا جَاءَ الْقصر متظلم حالوا بَينه وَبَين الدُّخُول إِلَيّ للإدلاء بأَمْره بِنَفسِهِ فَلَو وجدت هَذِه الْمَرْأَة طريقها إِلَيّ لما كَانَت فِي حَاجَة إِلَى الذّهاب إِلَى المصطاد ثمَّ أَمر بِإِقَامَة سلسة تعلق فِيهَا أَجْرَاس تصل إِلَيْهَا حَتَّى يَد الطِّفْل ابْن سبع سنوات حَتَّى لَا تكون لأي متظلم يؤم الْقصر ثمَّة حَاجَة للحاجب فَمَا أَن تهتز السلسة وتقرع الْأَجْرَاس فَيسمع أنوشروان صَوتهَا يَسْتَدْعِي الطارق المظلم ليسمع مِنْهُ وينصفه وَنفذ هَذَا الْأَمر ايضا وَلما خرج كبار رجال الدولة من عِنْده وعادوا إِلَى مَنَازِلهمْ وقصورهم استدعوا وكلاءهم وفرسانهم وَمن هم تَحت إمرتهم فِي الْحَال وَقَالُوا لَهُم لتنظروا فِي كل من سلبتموه شَيْئا دون حق أَو عذبتموه أَو اذيتموه فِي صحو أَو سكر فِي عشر السنوات الْأَخِيرَة علينا جَمِيعًا نَحن وَأَنْتُم أَن نهتم بِالْأَمر ونرضي الْخُصُوم كلهم قبل أَن يذهبوا إِلَى الْقصر يتظلمون منا فهبوا جَمِيعًا وَأخذُوا يستدعون الْخُصُوم بامثل وَجه ويذهبون إِلَى مَنَازِلهمْ ويسترضونهم بالأعذار وَالْأَمْوَال ثمَّ يَأْخُذُونَ على كل وَاحِد مِنْهُم إِقْرَارا بِخَط يَده بِأَن فلَانا رَضِي عَن فلَان وَلَيْسَ ثمَّة بَينهمَا خُصُومَة أَو نزاع بِهَذِهِ السياسة الَّتِي سنّهَا أنوشروان بِالْحَقِّ استقامت شؤون مَمْلَكَته كلهَا وَضرب على أَيدي المتطاولين واللصوص وارتاح النَّاس أَجْمَعِينَ حَتَّى أَن سبع سنوات مرت دون أَن يؤم أحد الْقصر متظلما أنوشروان وسلسلة الْعَدَالَة فِي ظهيرة أحد الْأَيَّام بعد سبع سنوات وَفِي الْوَقْت الَّذِي ذهب فِيهِ الْجَمِيع ونام الخفر ارْتَفع صَوت الْأَجْرَاس فَسَمعهُ أنوشروان الَّذِي أرسل خادمين فَوْرًا وَقَالَ لَهما انْظُر من ذَا الَّذِي جَاءَ يتظلم فَلَمَّا وصلا إِلَى مدْخل الْقصر إِذا بِحِمَار هرم ضَعِيف اجرب قد مر من هُنَاكَ وحك ظَهره بالسلسلة فارتفع صَوت الْأَجْرَاس وَعَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الخادمان وَقَالا لم يَأْتِ أحد متظلما غير ان حمارا ضَعِيفا خرما أجرب مر بمدخل الْقصر وَلما لامس ظَهره السلسلة راقه ذَلِك فَأخذ لجربه يحكه بهَا فَقَالَ أنوشروان أَيهَا الأحمقان مَا أجهلكما لَيْسَ الْأَمر فِيمَا تظنان إِن تنعما النّظر يَتَّضِح لَكمَا أَن هَذَا الْحمار أَيْضا جَاءَ يطْلب عدلا أريدكما أَن تسوقاه إِلَى وسط الْمَدِينَة وتسألا النَّاس عَن أمره ثمَّ تعودا إِلَيّ بِالْحَقِيقَةِ فَانْصَرف الخادمان وذهبا بالحمار إِلَى السُّوق فِي وسط الْمَدِينَة وطفقا يسألان النَّاس أفيكم من يعرف هَذَا الْحمار فَكَانَ جوابهم جَمِيعًا أَي وَالله قلَّة هم الَّذين لَا يعرفونه قَالَ الخادمان مَا تعرفُون عَنهُ قُولُوا فَقَالُوا إِن صَاحبه فلَان الغسال ومنذ حوالي عشْرين سنة وَنحن نرَاهُ ينْقل عَلَيْهِ ملابس النَّاس إِلَى مغسله يوميا وَيعود بهَا مسَاء كَانَ يعلفه فِي صغره إِلَى الْوَقْت الَّذِي يُؤَدِّي فِيهِ عمله لكنه بعد أَن هرم وَعجز عَن الْعَمَل أطلقهُ على رَأسه وطرده من بَيته فِيمَا تريان والان تمر سنة على طرده وتجوله فِي الحارات والأزقة والأسواق وَالنَّاس يقدمُونَ لَهُ الْعلف وَالْمَاء والعشب ابْتِغَاء ثَوَاب الله تَعَالَى وَيُقَال إِنَّه هام على وَجهه مُنْذُ يَوْمَيْنِ لِأَنَّهُ لم يجد علفا وَمَاء وَلما كَانَت أَقْوَال النَّاس وَاحِدَة عَاد الخادمان بِسُرْعَة واخبرا الْملك أنوشروان فَقَالَ ألم أقل لَكمَا إِن هَذَا الْحمار جَاءَ يطْلب عدلا أَيْضا اعتنيا بِهِ اللَّيْلَة جيدا وَعلي بالغسال وَأَرْبَعَة من كيار محلته وَالْحمار غَدا لأقضي بالعقاب الْمُنَاسب وَفِي الْيَوْم التَّالِي نفذ الخادمان الْأَمر فاحضرا الْحمار والغسال ورجالا أَرْبَعَة إِلَى أنوشران إبان انْعِقَاد الْمجْلس فَقَالَ أنوشروان للغسال لما كَانَ هَذَا الْحمار صَغِيرا يُؤَدِّي لَك أعمالك كنت تقدم لَهُ الْعلف وتعتني بِهِ وَلما أضحى هرما لَا طَاقَة لَهُ على الْعَمَل فبدلا من تَنْفِيذ الْوَاجِب الَّذِي يقْضِي عَلَيْك بِتَقْدِيم الْعلف إِلَيْهِ جعلت تطلقه وتخرجه من مَأْوَاه أَيْن هُوَ حق أتعابه وَعَمله عشْرين سنة وَأمر بضربه أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَقَالَ أريدك مَا دَامَ الْحمار حَيا أَن تقدم لَهُ على مرأى من هَؤُلَاءِ الرِّجَال الْأَرْبَعَة مَا يسْتَطع أكله من التِّبْن وَالشعِير وَالْمَاء كل يَوْم وَلَيْلَة وَإِن بَلغنِي عَنْك أَي تَقْصِير فِي هَذَا فسامر بعقابك عقَابا أَشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ولتعلم أَن الْمُلُوك كَانُوا يفكرون فِي حُقُوق الضُّعَفَاء دَائِما وكانو يحتاطون فِي أُمُور المسؤولين والمستقطعين والعمال ويرقبون أَعْمَالهم ليكسبوا السمعة الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا ويفوزوا بِثَوَاب الاخرة يَنْبَغِي استبدال الْعمَّال والمستقطعين كل سنتَيْن أَو ثَلَاث قبل أَن يثبتوا أَقْدَامهم ويحصنوا أنفسهم أَو يصبحوا مبعث قلق وَحَتَّى يحسنوا مُعَاملَة النَّاس وتظل الْولَايَة عامرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الْفَصْل السَّادِس فِي الْقُضَاة والخطباء والمحتسبين ورونق أَعْمَالهم وأهميتها الْقُضَاة يَنْبَغِي التعرف على أَحْوَال قُضَاة المملكة وَاحِدًا وَاحِدًا والإبقاء على الْعلمَاء والزهاد والأمناء مِنْهُم وعزل كل من لَا يَتَّصِف بِهَذِهِ الصِّفَات وَتَعْيِين اخر صَالح مَكَانَهُ وَيجب أَن يكون للْقَاضِي راتب شَهْري يَكْفِيهِ أُمُور معاشه حَتَّى لَا تكون بِهِ حَاجَة إِلَى الْخِيَانَة إِن هَذَا الْعَمَل هام ودقيق لِأَن دِمَاء الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ بيد الْقُضَاة فَإِذا مَا حكم أحدهم حكما عَن جهل وطمع وَعمد فعلى الْقُضَاة الاخرين عدم تَنْفِيذ الحكم وإجرئه وإخبار الْملك بِهِ لعزل ذَلِك الشَّخْص ومعاقبته وعَلى وُلَاة الْأَمر وَالْحَاكِم أَن يشدوا من أزر الْقُضَاة ويحفظوا للعدالة هيبتها ورونقها فَإِذا مَا امْتنع شخص أَو تَأَخّر عَن الْحُضُور فَيجب إِحْضَاره عنْوَة وقسرا إِن يكن من المزهوين بعظمتهم وحشمتهم فَلَقَد كَانَ صحابة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتولون الْقَضَاء بانفسهم وَلم يعهدوا بِهِ لأحد لكَي لَا يسود غير الْعدْل وَالْحق وَلَا يَسْتَطِيع اُحْدُ أَن يفر من ساحة الْعَدَالَة ومنذ عهد ادم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْيَوْم والممالك كلهَا تقيم الْعدْل وتحكم بِهِ وتحق الْحق وتخلصه للمظلومين فبه دَامَ الْملك وَالسُّلْطَان فِي أسراتهم سنوات كَثِيرَة عدل مُلُوك الْعَجم يُقَال أَنه كَانَ من عَادَة مُلُوك الْعَجم أَن يجلس الْملك مِنْهُم لعامة النَّاس فِي يومي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 المهرجان والنيروز لَا يمْنَع من ذَلِك أحد وَكَانَ يامر مناديا يُنَادي فِي النَّاس قبل أَيَّام من حُلُول كل من الْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورين ليعدوا أنفسهم لَهُ حَتَّى يتَمَكَّن كل شخص من أَن يهييء أمره وَيكْتب شكواه بِنَفسِهِ يشْرَح فِيهَا حَاله ويعرض حَاجته ويسلمها بِيَدِهِ هُوَ وَحَتَّى يتدبر الْخُصُوم أَمرهم أَيْضا وَفِي الْيَوْم الْمَوْعُود يُنَادي الْمُنَادِي خَارج الْقصر إِن الْملك بَرِيء من دم كل من يمْنَع أحدا من عرض حَاجته فِي هَذَا الْيَوْم ثمَّ يجمع الْملك شكاوى النَّاس جَمِيعهَا ويضعها أَمَامه وَينظر فِيهَا وَاحِدَة تلو أُخْرَى فَإِذا مَا كَانَ بَينهَا وَاحِدَة ضد الْملك نَفسه فَإِنَّهُ ينزل عَن سَرِيره ثمَّ يجثو على رُكْبَتَيْهِ أَمَام موبذ الموبذين أَي قَاضِي الْقُضَاة بلغتهم الَّذِي كَانَ يجلس من عَن يَمِينه عَادَة وَيَقُول لَهُ انصف هَذَا الرجل مني دون ميل أَو مُحَابَاة قبل أَن تنظر فِي أَيَّة قَضِيَّة أُخْرَى وَحِينَئِذٍ يَأْمر الْمُنَادِي بَان يُنَادي على من لَهُم شكاية ضد الْملك أَن ينتظموا صفا وَاحِدًا للفصل فِي قضاياهم أَولا ثمَّ يَقُول الْملك للموبذ لَيْسَ ثمَّة ذَنْب أعظم من ذنُوب الْمُلُوك عِنْد الله تَعَالَى إِن معرفَة حق نعْمَة الله على الْمُلُوك إِنَّمَا تكون فِي الْمُحَافظَة على الرّعية وإنصافها وكف أَيدي الظَّالِمين عَنْهَا وَإِذا مَا جَار الْملك وظلم فسيضحي الْجَيْش كُله ظالمين ينسون الله تَعَالَى ويكفرون النِّعْمَة فَيصب الله عَلَيْهِم غَضَبه وخذلانه وَلنْ يمْضِي طَوِيل وَقت على اضْطِرَاب الْملك وخرابه فَيقْتل الكثيرون لفساد الْمُجْرمين وعبثهم ويتحول الْملك من أسرة لأخرى والان أَيهَا الموبذ اتَّقِ الله وَإِيَّاك أَن تؤثرني على نَفسك لأنني سأسألك عَن كل شَيْء يسألني الله تَعَالَى عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة وَأُلْقِي بتبعته عَلَيْك ويشرع الموبذ ينظر فِي القضايا فَإِذا مَا ثَبت لأحد على الْملك حق أنصفه إنصافا تَاما وَإِذا مَا اتَّضَح بطلَان دَعْوَى اخر ضِدّه وَلم تكن لَدَيْهِ حجَّة دامغة أنزل بِهِ أقْصَى الْعُقُوبَات وَأمر مناديا يُنَادي هَذَا جَزَاء من يترصد الْعُيُوب على الْملك والمملكة ويفتري عَلَيْهِمَا الْكَذِب بِهَذِهِ الجسارة والجرأة وَبعد انْتِهَاء الْحُكُومَة كَانَ الْملك يعود إِلَى سَرِيره وَيَضَع التَّاج ثمَّ يلْتَفت نَحْو رِجَاله وكبار دولته وَيَقُول إِنَّمَا بدأت بنفسي أَولا لتقطعوا عَنْكُم دابر الطمع فِي ظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الاخرين إِن على كل من لَهُ خصم مِنْكُم أَن يسترضيه الان وَفِي ذَلِك الْيَوْم كَانَ أقرب النَّاس إِلَيْهِ أبعدهم مِنْهُ وَأَقْوَاهُمْ أضعفهم ومنذ عهد اردشير إِلَى أَيَّام يزدجرد الأثيم يزدجرد الأول والملوك يَسِيرُونَ على ذَلِك المنوال إِلَّا أَن يزدجرد استبدل سنَن ابائه باخرى سَيِّئَة وَجعل الظُّلم شَرِيعَة فِي الأَرْض فسيم النَّاس الْخَسْف وَمنعُوا النّصْف وراحت أدعية الشَّرّ تترى عَلَيْهِ من كل حدب وَصوب وَحدث أَن دخل إِلَى قصر يزدجرد فرس معرى فَجْأَة أقرّ كل من كَانَ حَاضرا من عُظَمَاء الدولة بِحسن شياته وعبثا حاولوا إيقافه إِلَى أَن انْتهى إِلَى يزدجرد نَفسه ووقف امامه بِجَانِب الإيوان هادئا فَقَالَ يزدجرد قفوا بَعيدا فَمَا هَذِه إِلَّا هَدِيَّة بعث بهَا الله تَعَالَى إِلَيّ وَتقدم مِنْهُ رويدا رويدا واستلم عنانه وَأخذ يربت على وَجهه وظهره ثمَّ امتطى صهوته فَلم يبد حراكا وظل هادئا كَمَا كَانَ وَطلب يزدجرد لجاما وسرجا فألجمه وأسرجه وَأحكم حزمه وَلما هم بِوَضْع المذيلة رفسه الْفرس على رَأس قلبه فَجْأَة فَقتله وَمضى خَارِجا دون ان يعْتَرض سَبيله أحد وَلم يسْتَطع أحد أَن يعرف من أَيْن جَاءَ وَإِلَى أَيْن ذهب وَأجْمع النَّاس على أَن الْفرس لم يكن سوى ملك من ملائك الله تَعَالَى ارسله لتخليصنا من هَذَا الظَّالِم همة عالية قيل أَن عمَارَة بن حَمْزَة كَانَ فِي مجْلِس الدوانيقي يَوْم الْمَظَالِم إِذْ نَهَضَ أحد المظلومين فَشَكَاهُ مُدعيًا أَنه غصبه ضيعته فَقَالَ الدوانيقي لعمارة قُم واجلس قبالة الْخصم وادل بحجتك قَالَ عمَارَة لست خَصمه إِن تكن الضَّيْعَة من أملاكي فقد وهبته إِيَّاهَا على أَن أقوم من الْمَكَان الَّذِي خصني بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ وأجلسني فِيهِ أَو ان أفرط بجاهي ومكانتي فِي ضَيْعَة فأعجب الْحَاضِرُونَ من كبار رجال الدولة بهمته الْعَالِيَة وليعلم أَن الْملك يَنْبَغِي أَن يتَوَلَّى الْقَضَاء بِنَفسِهِ وَأَن يسمع حجج الْخُصُوم بأذنيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 هُوَ فَإِن يكن تركيا أَو فارسيا اَوْ مِمَّن لَا يعْرفُونَ الْعَرَبيَّة وَلم يقْرَأ أَحْكَام الشَّرِيعَة فَهُوَ فِي حَاجَة إِلَى نَائِب يتَوَلَّى الأمرعنه والقضاة كلهم نواب للْملك الَّذِي يجب عَلَيْهِ أَن يشد أزرهم ويسندهم ويحفظ لَهُم حرماتهم ومنازلهم كَامِلَة فهم نوابه الَّذين ينفذون دستوره ووكلاؤه الَّذين يصرفون أَعماله الخطباء كَذَلِك يَنْبَغِي اختبار الخطباء الَّذين يصلونَ بِالنَّاسِ فِي الْمَسَاجِد الجامعة للتأكد من تقواهم وحفظهم الْقرَان فَالصَّلَاة من الْأُمُور الدقيقة وَصَلَاة النَّاس مَرْهُونَة بالأمام فَإِذا مَا اختلت صلَاته اختلت صلَاتهم أَيْضا المحتسبون وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي تعْيين محتسب فِي كل مَدِينَة تكون مهمته مراقبة الأوزان والأسعار وَمَعْرِفَة المبيعات والمشتريات للسير بموجبها والتقيد بهَا ومراقبة البضائع الَّتِي يُؤْتى بهَا من الْأَطْرَاف لتباع فِي الْأَسْوَاق من أَن يغشوها اَوْ يقسطوا فِيهَا وليأمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر إِن من وَاجِب الْملك وولاته مؤازرة الْمُحْتَسب وَالْأَخْذ بِيَدِهِ فمهمته ركيزة من ركائز المملكة وَهِي نتيجة الْعدْل فِي الْوَقْت نَفسه وَإِلَّا فسيضيق على الْفُقَرَاء وَيَشْتَرِي التُّجَّار وَمن يتعاطون البيع وَالشِّرَاء فِي الْأَسْوَاق ويبيعون على هواهم ويقسطون فِي الْمِيزَان فَيعم الْفساد وتعطل أَحْكَام الشَّرِيعَة وَقد جرت الْعَادة دَائِما فِي إِسْنَاد هَذَا الْعَمَل إِلَى أحد خَاصَّة الْملك أَو خدمه أَو إِلَى تركي عَجُوز مِمَّن لَا يحابون أبدا وَمِمَّنْ يهابهم الْخَاص وَالْعَام هَكَذَا كَانَت الْأُمُور تصرف بِالْعَدْلِ وقواعد الْإِسْلَام تطبق بإحكام فِيمَا جَاءَت بِهِ الْقَصَص والحكايات عَليّ بن نوشتكين والمحتسب يُقَال أَن السُّلْطَان مَحْمُودًا كَانَ قد شرب الْخمر مرّة مَعَ خاصته وندمائه طوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 اللَّيْل وَكَذَلِكَ الصبوح وَكَانَ عَليّ بن نوشتكين وَمُحَمّد الْعَرَبِيّ مِمَّن حَضَرُوا الْمجْلس وَمِمَّنْ ظلوا يسهرون وَيَشْرَبُونَ مَعَ مَحْمُود اللَّيْلَة بكاملها وَمَعَ إشراقة الصَّباح أُصِيب عَليّ بدوار وبدا عَلَيْهِ أثر إرهاق السهر والإفراط فِي الشَّرَاب فَاسْتَأْذن السُّلْطَان بالذهاب إِلَى منزله فَقَالَ لَهُ مَحْمُود لَيْسَ صَوَابا أَن تذْهب فِي وضح النَّهَار وَأَنت سَكرَان هَكَذَا إبق هُنَا واسترح فِي إِحْدَى الحجرات حَتَّى الْعَصْر ثمَّ اذْهَبْ انذاك وَأَنت صَاح فإنني أخْشَى إِذا مَا ذهبت الان بِهَذِهِ الْحَال أَن يراك الْمُحْتَسب فِي السُّوق فيأخذك وَيُقِيم عَلَيْك الْحَد فيراق مَاء وَجهك وينتابني الْغم دون أَن أَسْتَطِيع التفوه بِشَيْء غير أَن عَليّ بن نوشتكين الَّذِي كَانَ قائدا لخمسين ألف فَارس وصنديد زَمَانه وَالَّذِي كَانَ يعد بِأَلف رجل لم يخْطر لَهُ على بَال أَن الْمُحْتَسب سيجرؤ حَتَّى على مُجَرّد التفكير فِي الْأَمر فَلم ينثن عَن عزمه بل أصر على أَن لَا بُد من الذّهاب فَقَالَ مَحْمُود الرَّأْي رَأْيك دَعوه يذهب وَركب عَليّ بن نوشتكين فِي موكب عَظِيم من فرسانه وغلمانه وخدمه قَاصِدا منزله وشاءت الصدفة أَن يكون الْمُحْتَسب مَعَ مئة من رِجَاله بَين خيال وراجل فِي وسط السُّوق فَلَمَّا رأى عليا سَكرَان أَمر بإنزاله عَن فرسه وَنزل هُوَ أَيْضا ثمَّ أَمر بَان يجلس رجل على رَأسه واخر على رجلَيْهِ وَجلده بِيَدِهِ دون أدنى مُحَابَاة أَرْبَعِينَ جلده حَتَّى التهم الأَرْض بِأَسْنَانِهِ وحاشيته وَعَسْكَره ينظرُونَ دون أَن يَجْرُؤ أَي مِنْهُم على أَن يتفوه بِكَلِمَة وَاحِدَة كَانَ ذَلِك الْمُحْتَسب تركيا عجوزا مُحْتَرما وَكَانَت لَهُ حُقُوق خدمات كَثِيرَة فَلَمَّا مضى لشأنه نقل عليا رِجَاله إِلَى بَيته وَهُوَ يردد فِي طول الطَّرِيق كل من لَا يُطِيع أَمر السُّلْطَان سيلقى مَا لقِيت وَلما مثل عَليّ بَين يَدي السُّلْطَان فِي الْيَوْم التَّالِي وساله وماذا عَن الْمُحْتَسب كشف عَن ظَهره وَأرى مَحْمُودًا اثار الجلدات عَلَيْهِ وَاحِدَة وَاحِدَة فَضَحِك مَحْمُود وَقَالَ لتتب وَإِلَى الْأَبَد ان تخرج من الْبَيْت وَأَنت سَكرَان وَبِمَا أَنه أحكم أساس الْملك وقواعد السياسة فقد كَانَ الْعدْل يطبق على النَّحْو الَّذِي ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 خباز غزنين سَمِعت أَن الخبازين فِي غزنين أغلقوا أَبْوَاب مخابزهم فعز الْخبز وَأسْقط فِي يَد الْفُقَرَاء والغرباء فَذَهَبُوا إِلَى الْقصر يتظلمون وَأخذُوا يَشكونَ الخبازين بحسرة أَمَام السُّلْطَان إِبْرَاهِيم فَأمر إِبْرَاهِيم بجلب الخبازين جَمِيعًا وَقَالَ لَهُم لماذا ضننتم بالخبز قَالُوا لقد كَانَ خبازك يَشْتَرِي كل مَا كَانَ يرد إِلَى هَذِه الْمَدِينَة من قَمح ودقيق ويضعه فِي المخازن وَيَقُول هَكَذَا أمرت وَلم يدعنا نشتري وَلَو منا وَاحِدًا فَأمر السُّلْطَان بإحضار خبازه الْخَاص وإلقائه تَحت أَقْدَام الْفِيل وَلما مَاتَ أَمر بتعليقه فِي خرطوم الْفِيل والدوران بِهِ فِي الْمَدِينَة وعَلى ظَهره مُنَاد يَقُول هَذَا مَا سنفعله بِكُل خباز لَا يفتح مخبزه ثمَّ وزع مَا كَانَ فِي مخزنه وَلما حَان وَقت صَلَاة الْعشَاء كَانَ يرى على بَاب كل مخبز خَمْسُونَ من خبز لم يشترها أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الْفَصْل السَّابِع فِي تحري أَحْوَال الْعَامِل وَالْقَاضِي والشحنة والرئيس وشروط معاقبتهم ليبحث فِي كل مَدِينَة عَمَّن لَهُ شَفَقَة على أُمُور الدّين وَيخَاف الله تَعَالَى وَلَيْسَ بِصَاحِب غَرَض ثمَّ يُقَال لَهُ إننا نضع هَذِه الْمَدِينَة والناحية أَمَانه فِي عُنُقك نَسْأَلك عَمَّا يَسْأَلك الله تَعَالَى عَنهُ عَلَيْك أَن تحيط بِكُل شَيْء من أَمر الْعَامِل وَالْقَاضِي والشحنة والمحتسب وَالنَّاس وكل صَغِيرَة وكبيرة تتحراها جَمِيعًا ثمَّ تحيطنا علما بِالْحَقِيقَةِ سرا أَو عَلَانيَة لكَي نأمر باتخاذ التدابير اللَّازِمَة وَإِذا مَا امْتنع من تتوفر فِيهِ تِلْكَ الصِّفَات عَن قبُول هَذِه الْأَمَانَة يجب إِلْزَامه بقبولها وإجباره على تحملهَا نهج عبد الله بن طَاهِر يُقَال ان عبد الله بن طَاهِر كَانَ أَمِيرا عادلا قَبره بنيسابور رايناه وزرناه وَالنَّاس يذهبون لزيارته باستمرار ويسألونه قَضَاء حاجاتهم فيستجيب الله تَعَالَى دعاءهم كَانَ عبد الله لايسند الْأَعْمَال الديوانية إِلَّا إِلَى الْمُتَّقِينَ والزهاد وَإِلَى من هم فِي غنى عَن مَال الدُّنْيَا وَالَّذين لَا يشغلون أنفسهم بأعراضها الزائلة كَيْمَا تحصل الْأَمْوَال الْمُسْتَحقَّة على النَّاس فَقَط بِالْحَقِّ وَحَتَّى لَا يثقل كاهلهم ويساموا الشَّقَاء وَكيلا يشقى هُوَ نَفسه أَيْضا نصيحة أبي عَليّ الدقاق لأبي عَليّ الياس دخل أَبُو عَليّ الدقاق يَوْمًا على الْأَمِير أبي عَليّ الياس الَّذِي كَانَ واليا على خُرَاسَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وقائد جيشها وَكَانَ الرجل على مَا كَانَ لَهُ من جلال وعظمة فَاضلا جدا وَلما جلس أَبُو عَليّ الدقاق على رُكْبَتَيْهِ أَمَامه قَالَ أَبُو عَليّ الياس عظني فَقَالَ الدقاق أَيهَا الْأَمِير أتجيبني بِصدق إِن سَأَلتك أمرا قَالَ بلَى فَقَالَ الدقاق أَيهمَا أحب إِلَيْك الذَّهَب أم الْخصم فَقَالَ الذَّهَب فَقَالَ الدقاق كَيفَ إِذن تخلف كل هَذَا الَّذِي تحب أَكثر هُنَا وتصحب الْخصم الَّذِي لَا تحب إِلَى الدَّار الاخره فترقرقت الدُّمُوع فِي عَيْني أبي عَليّ الياس وَقَالَ مَا أجمل مَا نصحتني بِهِ فَلَقَد أيقظتني من سباتي إِن لفي كلامك لي خير الدُّنْيَا والاخرة نصيحة شمس الكفاة للسُّلْطَان مَحْمُود يحْكى أَن السُّلْطَان مَحْمُودًا الْغَازِي لم يكن وسيم الصُّورَة بل كَانَ طَوِيل الْوَجْه جافه أصفر السحنة أملس طَوِيل الْعُنُق كَبِير الْأنف لما مَاتَ وَالِده سبكتكين نولى الْملك بعده وخلص الْهِنْد وَفِي صباح ذَات يَوْم بَيْنَمَا كَانَ يُؤَدِّي الصَّلَاة فِي حجرَة خَاصَّة وأمامه مراة ومشط وَيقف حوله اثْنَان من خَواص غلمانه دخل وزيره شمس الكفاة أَحْمد بن الْحسن فَسلم فأوما مَحْمُود إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ أَن اجْلِسْ فَجَلَسَ قبالة السُّلْطَان وَلما فرغ مَحْمُود من قِرَاءَة الْأَدْعِيَة ارتدى قباءه وَلبس عمَامَته وانتعل حذاءه وَنظر فِي المراة فَلَمَّا رأى وَجهه ابتسم وَقَالَ للوزير أَتَدْرِي مَا يَدُور ببالي هَذِه الْأَيَّام قَالَ مولَايَ أدرى فَقَالَ مَحْمُود أخْشَى إِلَّا يحبني النَّاس لدمامتي فقد اعتادوا أَن يُحِبُّوا السُّلْطَان الوسيم قَالَ الْوَزير مولَايَ السُّلْطَان إفعل مَا سيحبك النَّاس من أَجله أَكثر من نِسَائِهِم وَأَبْنَائِهِمْ وانفسهم الَّتِي سيلقون بهَا فِي المَاء وَالنَّار تَلْبِيَة لَك فَقَالَ السُّلْطَان مَاذَا أفعل قَالَ الْوَزير اتخذ الذَّهَب عدوا يحبك النَّاس فسر مَحْمُود وَقَالَ فِي طيات هَذَا القَوْل ألف معنى وَفَائِدَة وَشرع مَحْمُود فِي بذل العطايا وَفتح بَاب الْخيرَات فَأَحبهُ النَّاس وَأخذُوا فِي مدحه وَالثنَاء عَلَيْهِ وعَلى يَدَيْهِ تمت الْأَعْمَال الجليلة والفتوحات الْعَظِيمَة فَلَقَد دخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 سومنات وَكسر مَنَاة وَحمله مَعَه ثمَّ توجه إِلَى سَمَرْقَنْد وَالْعراق قَالَ لوزيره الميمندي ذَات يَوْم لما نفضت يَدي من الذَّهَب كسبت الدُّنْيَا والاخرة وَلما احتقرت الدِّينَار نلْت عز الدَّاريْنِ لم يكن للقب السُّلْطَان وجود قبل عهد مَحْمُود فَهُوَ أول من تلقب بِهِ فِي الْإِسْلَام وَصَارَ سنة بعده لقد كَانَ مَحْمُود عادلا يخَاف الله وَكَانَ محبا للْعلم شهما يقظا قوي الرَّأْي نقي الدّيانَة وغازيا إِن أحسن العصور ذَلِك الَّذِي يُوجد فِيهِ ملك عَادل جَاءَ فِي الْخَبَر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْعدْل عز الدّين وَقُوَّة السُّلْطَان وَفِيه صَلَاح الْخَاصَّة والعامة وَقَالَ الله تَعَالَى {وَالسَّمَاء رَفعهَا وَوضع الْمِيزَان} وَقَالَ {الله الَّذِي أنزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان} إِن الْملك الْحق هُوَ الَّذِي يكون قلبه موئل الْعدْل وقصره مأوى المتدينين والعقلاء وَالَّذِي يكون ندماؤه وعماله منصفين ومسلمين حَقًا قَالَ فُضَيْل بن عِيَاض ان يستجب دعائي فَلَا أَدْعُو إِلَّا للسُّلْطَان الْعَادِل فَفِي صَلَاحه صَلَاح الْعباد وَعمْرَان الْبِلَاد وَعَن الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام أَنه قَالَ المقسطون لله عز وَجل فِي الدُّنْيَا على مَنَابِر اللُّؤْلُؤ يَوْم الْقِيَامَة وَكَانَ الْمُلُوك يولون أُمُور المملكة لِلْمُتقين وَلمن يخَافُونَ الله مِمَّن لَيست لَهُم مارب خَاصَّة تطلبا للعدل وحرصا على مصَالح الْعباد ولكي ينقلوا إِلَيْهِ حَقِيقَة الْأَحْوَال فِي كل وَقت وَهَذَا مَا فعله أَمِير الْمُؤمنِينَ المعتصم بِبَغْدَاد قصَّة أَمِير التّرْك وعقوبة المعتصم لم يكن لأحد من خلفاء بني الْعَبَّاس مَا كَانَ للمعتصم من سياسة وهيبة والة وَعدد وَلم يملك أحد مَا ملك من الغلمان التّرْك الَّذين يُقَال إِن عَددهمْ كَانَ سبعين الْفَا وَلَقَد رقى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 كثيرين مِنْهُم فأوصلهم إِلَى الْإِمَارَة وَكَانَ يردد دَائِما أَن لَيْسَ ثمَّة من هم فِي مستوى الأتراك من حَيْثُ الْخدمَة يُقَال إِن أحد الْأُمَرَاء استدعى إِلَيْهِ وَكيله وَقَالَ لَهُ أتعرف أحد من سكان بَغْدَاد وتجارها يقرضني خَمْسمِائَة دِينَار أَنا فِي حَاجَة إِلَيْهَا على أَن أردهَا إِلَيْهِ فِي الْمَوْسِم وَتَأمل الْوَكِيل قَلِيلا فَتذكر اُحْدُ معارفه مِمَّن يتعاطون البيع وَالشِّرَاء بِرِبْح قَلِيل وَكَانَ لَدَيْهِ سِتّمائَة دِينَار من الذَّهَب الخليفتي كَانَ قد جمعهَا بمرور الزَّمن وَقَالَ للأمير إِنَّنِي أعرف رجلا لَهُ دكان فِي سوق كَذَا أتردد عَلَيْهِ بَين الْحِين والحين وأتعامل مَعَه إِنَّه يملك سِتّمائَة دِينَار خليفتي ان ترسل فِي طلبه شخصا يستدعيه وتحسن استقباله تلاطفه وَتَدْعُوهُ إِلَى الطَّعَام فِي أَوَانه ثمَّ تطرح حَدِيث الْمُعَامَلَة فلربما يخجل مِنْك وَلَا يرد طلبتك احتراما لَك فَفعل الْأَمِير وارسل إِلَى الرجل شخصا يَقُول لَهُ أَلا تكلّف نَفسك عناء الْحُضُور إِلَيّ فإنني أريدك فِي أَمر ضَرُورِيّ وَذهب الرجل إِلَى قصر الْأَمِير دون أَن تكون لَهُ بِهِ معرفَة سَابِقَة فَدخل عَلَيْهِ وَسلم فَرد عَلَيْهِ الْأَمِير السَّلَام والتفت نَحْو رِجَاله وَقَالَ أَهَذا هُوَ فلَان قَالُوا بلَى فَقَامَ الْأَمِير فِي وَجهه وَأمر بإجلاسه فِي مَكَان لَائِق ثمَّ قَالَ أَيهَا الخواجة لقد سَمِعت من النَّاس كثيرا عَن شهامتك وَحسن سيرتك وأمانتك وتدينك فاعجبت بك دون أَن أَرَاك وَيَقُولُونَ إِنَّه لَيْسَ ثمَّة أحد فِي سوق بَغْدَاد كُله مثل هَذَا الخواجة مُرُوءَة وَحسن مُعَاملَة ثمَّ قَالَ لَهُ أَيْضا فَلم لَا تعاشرنا إِذن وتكلفنا بِقَضَاء مَا تحْتَاج أليه من أَمر تعد بيتنا بَيْتا لَك وتصادقنا وتؤاخينا وَكَانَ الرجل يوحي بِقبُول كل مَا كَانَ يَقُول الْأَمِير وَالْوَكِيل يردد كَذَا وَمِائَة كَذَا وَمَضَت فَتْرَة فأحضر خوان الطَّعَام وأجلس الْأَمِير الرجل بِالْقربِ مِنْهُ وَجعل يتَنَاوَل أَشْيَاء من الطَّعَام ويضعها أَمَامه باستمرار ويلاطفه ويكرمه كثيرا وَلما رفع الطَّعَام وَغسل الْحَاضِرُونَ أَيْديهم وَانْصَرفُوا وَلم يبْق سوى الْخَاصَّة الْتفت الْأَمِير نَحْو الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وَقَالَ إعلم أَن لي فِي هَذِه الْمَدِينَة أصدقاء كثيرين يستجيبون لي بمحض الْإِشَارَة وَلَو أطلب إِلَيْهِم خَمْسَة أَو عشرَة الاف دِينَار لقدموها إِلَيّ حَالا عَن طيب خاطر لأَنهم كَانُوا يفيدون كثيرا من التَّعَامُل معي وَأَنه لم يلْحق بأحدهم أدني ضَرَر نتيجة لذَلِك إِنَّنِي لامل فِي أَن تتوثق عرى الصداقة والود بَيْننَا على الرغم من كَثْرَة الَّذين هم على استعداد لقرضي فإنني فِي حَاجَة إِلَى عشرَة الاف دِينَار أَرْجُو أَن تمدني بهَا على ان اعيدها إِلَيْك إبان الْمَوْسِم بعد أَرْبَعَة أَو خَمْسَة شهور وَمَعَهَا خلعة إِنَّنِي لعلى ثِقَة من أَنَّك تملك الْمبلغ بل أضعافه وَأَنَّك لن ترد طلبي فَقَالَ الرجل من فرط خجله وَحسن اسْتِقْبَال الْأَمِير لَهُ الْحق مَا يَقُول الْأَمِير غير أنني من أَصْحَاب الدكاكين الَّتِي بِقدر بِأَلف أَو أَلفَيْنِ وَيَنْبَغِي أَلا يُقَال للعظماء سوى الْحَقِيقَة ان كَا مَا أقدر عَلَيْهِ سِتّمائَة ألف دِينَار جمعتها بِمَشَقَّة على مر الزَّمن وَهِي مَا أبيع بِهِ وأشتري فِي السُّوق الان فَقَالَ الْأَمِير فِي خزانتي كثير من الذَّهَب الدرستي لكنه لَا يُنَاسب الْأَمر الَّذِي أُرِيد مَا الْفَائِدَة الَّتِي تجنيها من بيعك وشرائك الْقَلِيل هَذَا أَعْطِنِي الستمائة دِينَار وَخذ عَليّ سندا بسبعمائة دِينَار بِشَهَادَة شُهُود عدُول على أَن أردهَا إِلَيْك فِي الْمَوْسِم القادم وَمَعَهَا خلعة جميلَة وَقَالَ الْوَكِيل إِنَّك لَا تعرف أميرنا إِلَى الان فَلَيْسَ فِي أَرْكَان الدولة من هُوَ أصدق مُعَاملَة مِنْهُ فَقَالَ الرجل الْحق مَا يَقُول الْأَمِير إِن هَذَا الْقدر الَّذِي أملك من الذَّهَب لَا يَدْعُو إِلَى الرَّفْض والتردد ثمَّ أعطَاهُ الْمبلغ وَأخذ عَلَيْهِ سندا وأزف الْموعد وَبعد عشرَة أَيَّام مِنْهُ ذهب الرجل للسلام على الْأَمِير وَلم ينبس ببنت شفة لِأَنَّهُ قَالَ فِي نَفسه سَيعْلَمُ الْأَمِير حِين يراني أنني جِئْت أطلب ذهبي وَاسْتمرّ على هَذَا المنوال فانقضى على الْمدَّة شَهْرَان رأى الرجل الْأَمِير فِيهَا أَكثر من عشر مَرَّات لكنه كَانَ يتجاهل أَن الرجل إِنَّمَا كَانَ يَجِيء فِي طلب مَاله أَو أَن عَلَيْهِ هُوَ أَن يدْفع إِلَيْهِ شَيْئا لما رأى الرجل تجاهل الْأَمِير كتب رِسَالَة سلمهَا بِيَدِهِ إِلَى الْأَمِير نَفسه فَقَالَ إِنَّنِي فِي حَاجَة إِلَى ذهبي الحقير لقد مضى على الْأَجَل شَهْرَان الا يتفضل الْأَمِير بالإيعاز إِلَى الْوَكِيل برده هَذَا الْخَادِم فَقَالَ الْأَمِير إِنَّك تظن أنني فِي غَفلَة من أَمرك لتهدأ بَالا وتصبر بضعَة أَيَّام فإنني فِي صدد تهيئة مَالك الَّذِي سأرسله إِلَيْك فِي مغلف مختوم بيد أحد أشخاصي المعتمدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وصبر الرجل شَهْرَيْن اخرين دون أَن يرى لِلذَّهَبِ أثرا وعاود الكرة فَذهب إِلَى قصر الْأَمِير وَكتب إِلَيْهِ رِسَالَة أُخْرَى وَكَلمه تكليما أَيْضا فواعده الْأَمِير مَرَّات كذبا وظل الرجل يذهب مرّة كل يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة مطالبا وَلَكِن دون جدوى إِلَى أَن مضى على الْأَجَل ثَمَانِيَة أشهر وأعوز الرجل فشفع أهل الْمَدِينَة وَمضى إِلَى القَاضِي وَنَاشَدَهُ باسم الشَّرْع وَلم يبْق أحد من العظماء إِلَّا وكلم الْأَمِير فِي أمره وَتشفع لَهُ عِنْده لَكِن دون جدوى أَيْضا وَانْقَضَت سنة وَنصف وَهُوَ لَا يُطِيع أوَامِر الْقَضَاء وَالشَّرْع وَلَا يستمع لما كَانَ يَقُول وجهاء الْمَدِينَة وأكابرها وَعجز الرجل وَرَضي بالتنازل عَن الْفَائِدَة وَعَن مائَة دِينَار من أصل الْمبلغ أَيْضا وَلَكِن لَا حَيَاة لمن تنادي وفقد الأمل فِي وساطة كل العظماء وأعياه التَّرَدُّد هُنَا وَهُنَاكَ وَأسلم أمره لله عز وَجل وَمضى إِلَى مَسْجِد فضلومند وَصلى عدَّة رَكْعَات وشكا أمره إِلَى الله تَعَالَى فِي بكاء ونشيج وَهُوَ يَقُول يَا رب أَنْت المغيث فأوصلني إِلَى حَقي وأنصفني من هَذَا الظَّالِم وَاتفقَ أَن كَانَ فِي الْمَسْجِد درويش يسمع بكاء الرجل وتضرعه فرق لَهُ قلبه وَلما انْتهى من تضرعه قَالَ الدرويش لَهُ يَا شيخ مَا الَّذِي دهاك حَتَّى تتأوه بِهَذَا الشكل أَخْبرنِي فَقَالَ لقد وصلت بِي الْحَال حدا لَا يُفِيد مَعَه القَوْل إِلَى أَي مَخْلُوق إِلَّا أَن يستجيب الله تَعَالَى لي فَقَالَ الدرويش قل لي فَلَا بُد أَن تكون ثمَّة أَسبَاب فَقَالَ الرجل يَا أَيهَا الدرويش إِن الْخَلِيفَة هُوَ الوحيد الَّذِي لم أخبرهُ بِالْأَمر لقد أخْبرت كل أُمَرَاء الْمَدِينَة وعظمائها وولجت بَاب القَاضِي لَكِن دون جدوى فَمَا الْفَائِدَة من أَن أَقُول لَك قَالَ انني مِمَّن يُقَال لَهُم ان لم يفدك قَوْلك لي فَإِنَّهُ لن يَضرك ألم تسمع قَول الْحُكَمَاء عَليّ كل ذِي ألم أَن يبوح للاخرين بألمه فلربما وجد العلاج عِنْد أقلهم شَأْنًا ان تقص عَليّ أَمرك فقد تَجِد لَهُ مخرجا وَإِلَّا فَلَنْ تصير حالك إِلَى أَسْوَأ مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ فَقَالَ الرجل فِي نَفسه صَحِيح مَا يَقُول وقص عَلَيْهِ قصَّته لما سمع الدرويش قصَّة حَال الرجل قَالَ أَيهَا الرجل الشهم لقد وجدت مخرجا لما أَنْت فِيهِ من بلَاء مَا إِن قلت لي لِيَطمَئِن قَلْبك ان تنفذ مَا أقوله تسترد ذهبك الْيَوْم قَالَ الرجل مَا أفعل قَالَ الدرويش إمض الان إِلَى الْمَسْجِد ذِي المئذنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فِي الْمَكَان الْفُلَانِيّ إِن بِجَانِب الْمَسْجِد بوابة بعْدهَا دكان حَيْثُ يجلس هُنَاكَ رجل عَجُوز فِي ملابس رثَّة مرقعة يخيط الكرابيس وَعِنْده صبيان أجيران يعاونانه فِي ذَلِك إذهب إِلَى الدّكان وَسلم على الرجل واجلس عِنْده ثمَّ قصّ عَلَيْهِ قصتك وعندما تظفر بحقك ادْع لي بِالْخَيرِ وَإِيَّاك ان تتوانى فِي تَنْفِيذ مَا قلت لَك وَخرج الرجل من الْمَسْجِد وَهُوَ يفكر فِي نَفسه يَا للعجب لقد شفعت كل العظماء والأمراء فتولوا قضيتي وَتَكَلَّمُوا فِي أَمْرِي ووقفوا إِلَى جَانِبي دون جدوى والان يرشدني هَذَا الدرويش إِلَى رجل عَجُوز وَيَقُول ستصل بِهِ إِلَى حَقك إِنَّه كذب وباطل وَلَكِن مَا الْعَمَل لأذهب وَليكن مَا يكون إِن لم تكن ثمَّة فَائِدَة فَلَنْ تصير الْأُمُور إِلَى أَسْوَأ مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ وَمضى إِلَى بَاب الْمَسْجِد فالدكان وَدخل فَسلم على الشَّيْخ وَجلسَ عِنْده وَمَضَت مُدَّة وَالشَّيْخ منهمك فِي خياطته الَّتِي تَركهَا جانبا بعد ذَلِك وَقَالَ للرجل مَا بك فَقص عَلَيْهِ قصَّته من أَولهَا إِلَى اخرها وَأخْبرهُ بِدُخُولِهِ الْمَسْجِد وتضرعه هُنَاكَ وسؤال الدرويش لَهُ وإرشاده إِلَيْهِ لما سمع الْخياط الْعَجُوز الْقِصَّة قَالَ ان الله عز وَجل هُوَ الَّذِي يدبر أُمُور الْعباد أما نَحن فَلَا نملك سوى الْكَلَام ساكلم خصمك فِي أَمرك وأسأل الله تَعَالَى أَن يدبر لَك أَمرك ويوصلك إِلَى حَقك أسْند ظهرك إِلَى الْحَائِط واسترح قَلِيلا ثمَّ قَالَ لأحد الصَّبِيَّيْنِ ضع الإبرة جانبا واذهب إِلَى سراي الْأَمِير فلَان واجلس فِي الْحُجْرَة الْخَاصَّة ثمَّ قل لمن يدْخل إِلَيْهَا أَو يخرج مِنْهَا أَن يخبر الْأَمِير بِأَن أجِير الْخياط فلَان هُنَا وَهُوَ يحمل إِلَيْك خَبرا فحين يطلبك وتراه سلم عَلَيْهِ وَقل لَهُ ان سَيِّدي يسلم عَلَيْك وَيَقُول جَاءَنِي رجل يتظلم مِنْك وَمَعَهُ سَنَد بمبلغ سَبْعمِائة دِينَار بإقرارك أَنْت وَقد مضى على أَجله عَام وَنصف أريدك أَن تعيد إِلَيْهِ الان مَاله كَامِلا دونما توان أَو تَقْصِير ثمَّ عد لي بجوابه حَالا ونهض الصَّبِي وَمضى مسرعا إِلَى قصر الْأَمِير اما أَنا فقد تملكني الْعجب لِأَنَّهُ مَا من ملك يُرْسل حَتَّى إِلَى أقل عُبَيْدَة مَا حمل الْخياط الصَّبِي من كَلَام إِلَى الْأَمِير وَإِن هِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 إِلَّا مُدَّة وَعَاد الصَّبِي فَقَالَ لسَيِّده لقد نفذت مَا أَمرتنِي بِهِ قابلت الْأَمِير ونقلت إِلَيْهِ مَا كلفتني بِهِ فَنَهَضَ من مَكَانَهُ وَقَالَ أبلغ سيدك سلامي وشكري وَقل لَهُ إِنِّي منفذ مَا أمرت بِهِ السَّاعَة أجيء وَمَعِي الذَّهَب الَّذِي سأعطيه صَاحبه بحضورك وأعتذر عَن التَّأَخُّر وَالتَّقْصِير وَلم تكد تمر سَاعَة فَإِذا الْأَمِير وَمَعَهُ الْقَائِم على الركائب وخادمان فَنزل عَن فرسه وَدخل الدّكان وَسلم وَقبل يَد الْخياط وَجلسَ أَمَامه ثمَّ تنَاول صرة ذهب من الْخَادِم وَقَالَ هَذَا هُوَ الذَّهَب حَتَّى لَا تظن أنني كنت أَرغب فِي أكل أَمْوَال هَذَا الرجل الشهم بِالْبَاطِلِ لم أكن السَّبَب فِيمَا بدا من تَقْصِير بل الوكلاء ثمَّ اعتذر كثيرا وَقَالَ لأحد الخادمين إذهب وإيت من هَذِه السُّوق بصراف مَعَه ميزَان فَذهب الْخَادِم وأحضر صرافا نقد الصراف الذَّهَب ووزنه فَكَانَ خَمْسمِائَة دِينَار خليفتي قَالَ الْأَمِير ليَأْخُذ هَذِه الْخَمْسمِائَةِ دِينَار مني الْيَوْم وسادعوه بعد عودتي من البلاط غَدا وأعطيه الْمِائَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ راجيا عَفوه وطالبا رِضَاهُ سأعمل مَا يصل بِهِ إِلَيْك الثَّنَاء عَليّ غَدا قبل صَلَاة الظّهْر فَقَالَ الْخياط ضع الْخَمْسمِائَةِ دِينَار إِلَى جَانب صَاحبهَا وَنفذ مَا قلت وَلَا تتراجع عَنهُ فَقَالَ هَذَا مَا سافعله ثمَّ وضع الذَّهَب بجانبي وَقبل يَد الْخياط وَمضى لشأنه أما أَنا فَلم أكن أَدْرِي مَا الْحَال الَّتِي كنت فِيهَا لعجبي وفرحتي وَمَا كَانَ مني إِلَّا أَن مددت يَدي وتناولت الْمِيزَان فوزنت مائَة دِينَار ووضعتها أَمَام الْخياط الْعَجُوز فَقَالَ مَا هَذَا قلت لقد رضيت أَن أسترد مَالِي نَاقِصا مائَة دِينَار لكنني سأسترد الْمبلغ كَامِلا نتيجة تدخلك وسعيك الحميد إِن هَذِه الْمِائَة دِينَار لَيست سوى تَقْدِير لجهدك وَقد بذلتها لَك عَن طيب خاطر مني فَالْتَفت الرجل حانقا عَابِسا وَقَالَ إِنَّنِي لفي غِبْطَة الان لأنني اسْتَطَعْت بكلامي أَن أخْلص مُسلما مِمَّا هُوَ فِيهِ من خزن وضيق وبلاء إِنَّنِي لَو أستحل لنَفْسي درهما وَاحِدًا من مَالك أكون أظلم لَك من هَذَا التركي إنهض وامض بِمَا أخذت من ذهب بسلامة الله أما إِذا لم يعطك الْأَمِير المائتي دِينَار الْأُخْرَى فَأَخْبرنِي ولتعرف بعد الان من هم الْأَشْخَاص الَّذين تتعامل مَعَهم وَبعد أَن بذلت أقْصَى جهدي لإقناعه بِالْقبُولِ وَهُوَ يرفض قُمْت من عِنْده وانصرفت إِلَى منزلي فَرحا مَسْرُورا ونمت لَيْلَتي تِلْكَ قرير الْعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وَفِي ضحى الْيَوْم التَّالِي إِذْ كنت جَالِسا فِي بَيْتِي جَاءَ رَسُول الْأَمِير فِي طلبي وَقَالَ يَقُول الْأَمِير أَرْجُو أَن تكلّف نَفسك عناء الْحُضُور إِلَى قصري فمضيت وَلما دخلت عَلَيْهِ قَامَ فِي وَجْهي وأجلسني فِي مَكَان أثير وَأخذ يشْتم وكلاءه ويلعنهم وينحي باللائمة عَلَيْهِم قَائِلا إِنَّهُم هم الَّذين قصروا أما أَنا فَكنت مَشْغُولًا بِخِدْمَة الْملك وَقَضَاء أَعماله ثمَّ قَالَ للْمُوكل بالخزانة إِلَيّ بكيس ذهب وميزان وَوزن مِائَتي دِينَار وناولينها فَشَكَرت لَهُ ونهضت لأنصرف لكنه قَالَ اجْلِسْ قَلِيلا وأحضر الطَّعَام وَبعد أَن أكلنَا وغسلنا أَيْدِينَا هَمس فِي أذن أحد الخدم شَيْئا فَذهب الْخَادِم وأحضر خلعة فِي الْحَال وَقَالَ الْأَمِير ألبسهُ فألبست جُبَّة ثمينة وعمامة مقصبة ثمَّ قَالَ الْأَمِير لي هَل رضيت عني بقلب سليم قلت أجل قَالَ أعد إِلَيّ سندي واذهب الان إِلَى الْخياط الْعَجُوز وَقل لَهُ لقد استرددت حَقي كَامِلا وانني عَن فلَان لراض قلت سافعل لِأَنَّهُ هُوَ نَفسه طلب إِلَيّ أَن أخبرهُ غَدا ومضيت من قصر الْأَمِير إِلَى الْخياط وَقلت لَهُ لقد استدعاني الْأَمِير وأكرمني وَدفع إِلَيّ بَقِيَّة ذهبي ووصلني بِهَذِهِ الْجُبَّة وَهَذِه الْعِمَامَة وَلَيْسَ هَذَا فِي رَأْيِي إِلَّا من بركَة كلامك فَمَاذَا يحدث لَو قبلت مني مِائَتي دِينَار لكنه على الرغم من كَثْرَة مَا حاولت لم يقبل ثمَّ نهضت وعدت إِلَى دكاني فَرحا مَسْرُورا وَفِي الْيَوْم التَّالِي اعددت حملا وعددا من الدَّجَاج المقلي وَذَهَبت بهَا إِلَى الْخياط وَمَعِي طبق حلوى وكعك أَيْضا وَقلت يَا شيخ إِنَّك لَا تقبل ذَهَبا فأرجو لكَي يدْخل السرُور على قلبِي أَن تقبل مني هَذَا الْقدر من المأكولات تبركا فَهُوَ من كسبي الْحَلَال فَقَالَ قبلت وَمد يَده وَشرع يَأْكُل من طَعَامي ويناول أجيريه ثمَّ قلت لَهُ ان لي عنْدك حَاجَة إِن تقضها أقل قَالَ قلت لقد كلم كل أَشْرَاف بَغْدَاد وأمرائها الْأَمِير فِي أَمْرِي فَلم يستمع لأحد وَلَقَد عجز القَاضِي عَنهُ أَيْضا فَلم اسْتَجَابَ لكلامك وَنفذ كل مَا قلت حَالا ورد أَلِي ذهبي مَا سَبَب حرمتك هَذِه عِنْده قل لي لأعرفه قَالَ أَو مَا تَدْرِي خبري مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ قلت لَا قَالَ أصغ إِلَيّ وهاك مَا أَقُول قَالَ اعْلَم أنني أؤذن على مئذنة هَذَا الْمَسْجِد مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة وأكسب رِزْقِي من الْخياطَة لم أشْرب الْخمْرَة وَلم أرتكب الزِّنَا أَو اللواط أَو أقترف الْأَعْمَال القبيحة قطّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ومنذ ذَلِك الْوَقْت وَأَنا أسكن هُنَا فِي حَيّ أحد الْأُمَرَاء وَذَات يَوْم صليت الْعَصْر وَخرجت من الْمَسْجِد متجها إِلَى الدّكان فَإِذا ذَلِك الْأَمِير سَكرَان مُمْسك بعباءة إمرأة شَابة يَدْفَعهَا عنْوَة وَهِي تصرخ وَتقول أَيهَا الْمُسلمُونَ اغيثوني فلست من هَذَا الصِّنْف من النِّسَاء إِنَّنِي إبنة فلَان وَزوج فلَان وبيتنا فِي الْمَكَان الْفُلَانِيّ وَالنَّاس كلهم يعرفونني بالستر وَالصَّلَاح إِن هَذَا التركي يجرني عنْوَة لقَضَاء ماربه الدنيئة لقد أقسم زَوجي أَنه سيطلقني إِن تغيبت عَن الْمنزل لَيْلَة لقد كَانَت تبْكي وتستغيث دون أَن يهب لنجدتها اُحْدُ لِأَن هَذَا التركي كَانَ عَظِيما ومهيمنا وَكَانَ لَهُ عشرَة الاف فَارس وَلم يكن أحد يَجْرُؤ على أَن يكلمهُ حرفا غير أنني صرخت لمُدَّة قَصِيرَة لَكِن دون جدوى إِذْ مضى بِالْمَرْأَةِ إِلَى قصره وثارت فِي نَفسِي لذَلِك التَّعَدِّي وَالظُّلم الحمية الدِّينِيَّة وَعيلَ صبري فَذَهَبت وجمعت شُيُوخ الْحَيّ ثمَّ مضينا جَمِيعًا إِلَى قصره فاعترضنا وصرخنا باعلى أصواتنا ألم يبْق بَغْدَاد مُسلم حَتَّى تساق فِيهَا إمراة من الشَّارِع كرها على سمع الْخَلِيفَة وبصره لارتكاب الْفَاحِشَة مَعهَا ان تتْرك الْمَرْأَة فبها ونعمت وَإِلَّا فها نَحن أولاء ماضون إِلَى بلاط المعتصم نشكوك إِلَيْهِ وَلما سمع الْأَمِير صراخنا خرج إِلَيْنَا مَعَ غلمانه فأوجعونا ضربا وكسروا أَيْدِينَا وأرجلنا وَلما رَأينَا الْأَمر على هَذِه الْحَال لذنا بالفرار وتفرقنا وَكَانَ الْوَقْت عشَاء فاديت الصَّلَاة وَبعد مُدَّة ارتديت ثِيَاب نومي واضطجعت على الأَرْض لكنه لم تغمض لي عين لشدَّة مَا كنت فِيهِ من إعياء وغيرة واستغرقت فِي تفكير عميق إِلَى أَن مضى من اللَّيْل نصفه وَقلت فِي نَفسِي إِن كَانَ يُرِيد فَسَادًا فقد حقق بغيته الْأَمر الَّذِي لَا يُمكن تلافيه وَهَذَا أَسْوَأ من قسم زوج الْمَرْأَة عَلَيْهَا بِالطَّلَاق إِن هِيَ تغيبت عَن الْبَيْت لَيْلًا لكنني سَمِعت أَن المدمنين ينامون حِين ياخذ مِنْهُم السكر مأخذه وَأَنَّهُمْ حِين يفيقون لَا يدركون كم مضى من اللَّيْل حِينَئِذٍ صممت على أَن أصعد إِلَى المئذنة وأؤذن للصَّلَاة فلربما يظنّ التركي حِين سَماع الاذان أَن النَّهَار قد وضح فيطلق سراح الْمَرْأَة ويخرجها من قصره وَلَا بُد لَهَا بعد ذَلِك أَن تمر بِالْقربِ من بَاب الْمَسْجِد أما أَنا فسأنزل بعد الْأَذَان حَالا وأقف بِالْبَابِ فِي انتظارها لأوصلها إِلَى بَيت زَوجهَا حَتَّى لاتدقع المسكينة طَلاقهَا وخراب بَيتهَا ثمنا لما حدث ونفذت مَا فَكرت بِهِ فَصَعدت المئذنه وأذنت للصَّلَاة وأمير الْمُؤمنِينَ المعتصم لما ينم فَلَمَّا سمع الاذان فِي غير وقته غضب غَضبا شَدِيدا وَقَالَ ان من يُؤذن فِي نصف اللَّيْل لمفسد لِأَن كل من يسمع الاذان يظنّ أَن الْفجْر قد طلع فَإِذا مَا خرج من بَيته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 يَبْتَلِيه العسس وَأمر أحد خدمه أَن أذهب وَقل لحاجب الْبَاب إِنَّنِي أَي المعتصم اريدك أَن تذْهب الان وتحضر الْمُؤَذّن الَّذِي رفع الاذان فِي نصف اللَّيْل لأعاقبه عقَابا شَدِيدا حَتَّى لَا يرفع أَي مُؤذن الاذان فِي غير موعده بعد ذَلِك وعَلى حِين كنت وَاقِفًا بِبَاب الْمَسْجِد انْتظر الْمَرْأَة إِذا الْحَاجِب يتهادى وَبِيَدِهِ سراج فَلَمَّا راني قَالَ أَأَنْت الَّذِي أَذِنت للصَّلَاة قلت بلَى قَالَ لماذا أَذِنت فِي غير وَقت لقد استنكره الْخَلِيفَة جدا وَهُوَ لهَذَا ساخط عَلَيْك كثيرا فأرسلني فِي طَلَبك لتأديبك قلت الحكم مَا يرَاهُ الْخَلِيفَة إِلَّا أَن شخصا سيىء الْخلق حَملَنِي على ان أرفع الْأَذَان فِي غير وقته قَالَ فَمن يكون هَذَا قلت هُوَ الَّذِي لَا يخْشَى الله وَلَا يخَاف الْخَلِيفَة قَالَ وَمن ذَا الَّذِي كَانَت لَهُ الجراة على ذَلِك قلت هَذَا أَمر لَا ابوح بِهِ لغير أَمِير الْمُؤمنِينَ اما ان كنت أَذِنت مُتَعَمدا لشَيْء فِي نَفسِي فَإِن اية عُقُوبَة يقْضِي بهَا الْخَلِيفَة سَتَكُون قَليلَة بحقي قَالَ بِسم الله هيا بِنَا إِلَى الْخَلِيفَة وَلما وصلنا إِلَى مدْخل الْقصر كَانَ الْخَادِم فِي انتظارنا فَقَالَ الْحَاجِب للخادم كل مَا قلته لَهُ وهرع الْخَادِم إِلَى المعتصم وَأخْبرهُ فَقَالَ لَهُ إذهب واحضره وأخذني الْخَادِم إِلَى المعتصم فَقَالَ لي لماذا رفعت الْأَذَان فِي غير أَوَانه وسردت عَلَيْهِ قصَّة التركي مَعَ الْمَرْأَة من أَولهَا إِلَى اخرها فَلَمَّا سَمعهَا طَار صَوَابه وَقَالَ للخادم قل لحاجب الْبَاب امْضِ الان بِمِائَة فَارس إِلَى قصر الْأَمِير فلَان وَقل لَهُ الْخَلِيفَة يستدعيك وَحين تقبض عَلَيْهِ أخرج الْمَرْأَة الَّتِي كَانَ سَاقهَا أمس عنْوَة إِلَى قصره وخذها إِلَى بَيتهَا ثمَّ ادْع زَوجهَا إِلَى الْبَاب وَقل لَهُ ان المعتصم يقرؤك السَّلَام ويتشفع لديك فِي أَمر هَذِه الْمَرْأَة وَيَقُول لم يكن لَهَا أَي ذَنْب فِيمَا حدث فَعَلَيْك أَن تحسن معاملتها الان أَكثر من أَي وَقت مضى ثمَّ عد إِلَيّ بالأمير بِسُرْعَة اما أَن الشَّيْخ فَقَالَ لي إبق هُنَا قَلِيلا وَبعد فَتْرَة جِيءَ بالأمير إِلَى المعتصم الَّذِي مَا إِن وَقعت عينه عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ يَا كَذَا وَكَذَا مَا الَّذِي رَأَيْت من عدم حميتي وغيرتي على الدّين الإسلامي أَو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ظلمي النَّاس وَأي خلل طَرَأَ على الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين فِي عهدي أَلَسْت أَنا الَّذِي خرج من أجل مُسلم وَقع أَسِيرًا بايدي الرّوم من بَغْدَاد إِلَى بِلَادهمْ فَكسرت جيوشهم وهزمت قيصرهم ودمرت بِلَادهمْ على مدى سِتّ سنوات أَو لست أَنا الَّذِي هدم الْقُسْطَنْطِينِيَّة وأحرقها وَبنى فِيهَا الْمَسْجِد الْجَامِع وَلم يعد قبل أَن يخلص ذَلِك الرجل من قبضتهم إِن الذِّئْب وَالشَّاة يشربان فِي هَذِه الْأَيَّام من مورد وَاحِد لعدلي وَالْخَوْف مني فَكيف تجرؤ على سوق إمرأة بِبَغْدَاد إِلَى قصرك عنْوَة وترتكب مَعهَا الْفَاحِشَة وتعتدي على من نهوك وأمروك بِالْمَعْرُوفِ ضربا ثمَّ أَمر أَن أحضروا جولقا وضعوه أَي الْأَمِير التركي فِيهِ ثمَّ أحكموا ربطه فَفَعَلُوا بعد ذَلِك أَمر بمدقين مِمَّا يفتت بِهِ الجص وَقَالَ ليقف وَاحِد فِي هَذَا الطّرف وَوَاحِد فِي الطّرف الاخر ثمَّ اضرباه إِلَى أَن يصير إربا إربا وَشرع الرّجلَانِ يَضْرِبَانِهِ فَوْرًا إِلَى أَن فتتاه تفتيتا وَقَالا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن عِظَامه دقَّتْ دقا فَأمر بَان يحملا الجولق مِثْلَمَا هُوَ ويلقياه فِي نهر دجلة بعد ذَلِك قَالَ المعتصم لي يَا شيخ إعلم أَن من لَا يخَاف الله لَا يخافني أَيْضا فِي حِين أَن من يخافه عز وَجل لَا يقدم على عمل يُعَاقب بِهِ فِي الدُّنْيَا والاخرة أما هَذَا الرجل فقد لَاقَى جزاءه لِأَنَّهُ فعل مَا لَا يفعل وَأما أَنْت فإنني امرك من الان بِأَن ترفع الْأَذَان فِي غير وقته كلما علمت بظُلْم شخص لاخر أَو أيذائه إِيَّاه دونما حق أَو لاستخفاف يَبْدُو مِنْهُ بِالشَّرْعِ لأطلبك حِين سَمَاعه وأستفسر عَن الْأَمر وأعاقب المذنب بِمثل مَا عَاقَبت بِهِ هَذَا الْكَلْب وَإِن يكن ابْني أَو أخي ثمَّ أَمر لي بصلَة وصرفني إِن الْأَشْرَاف والعظماء والخاصة لعلى علم جيد بِهَذِهِ الْحَادِثَة وان الْأَمِير لم يعد إِلَيْك ذهبك احتراما لي بل خوفًا من الجولق والمدق ودجلة وَلَو توانى لصعدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 إِلَى المئذنه وَرفعت الاذان فِي غير موعده ولكان مصيره مصير ذَلِك التركي وَمثل هَذِه الْحِكَايَة كثير لكنني أكتفي بِمَا ذكرت ليعلم سيد الْعَالم مَا كَانَ عَلَيْهِ الْخُلَفَاء والملوك وَكَيف أَنهم كَانُوا يحْمُونَ الشَّاة من الذِّئْب ويعاقبون الْعمَّال وولاة الْأُمُور ويحذرون المفسدين ويقفون لَهُم بالمرصاد ثمَّ كَيفَ أَنهم حفظوا للدّين الإسلامي قوته وعزه وصانوه وأرسوا دعائمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الْفَصْل الثَّامِن فِي التَّحْقِيق والتحري فِي أُمُور الدّين والشريعة وَمَا إِلَيْهِمَا على الْملك تحري امور الدّين وَإِقَامَة الْفَرَائِض وَالسّنَن وأوامر الله تَعَالَى وَحفظ حُرْمَة عُلَمَاء الدّين وتأمين أَرْزَاقهم من بَيت المَال وإكرام الزهاد والمتقين وتقديرهم وَعَلِيهِ أَن يَدْعُو إِلَيْهِ عُلَمَاء الدّين مرّة أَو مرَّتَيْنِ أسبوعيا ويستمع مِنْهُم إِلَى أوَامِر الْحق تَعَالَى وَتَفْسِير الْقرَان الْكَرِيم وأخبار الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وسير الْمُلُوك الْعُدُول وقصص الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَفِي هَذِه الْأَثْنَاء يَنْبَغِي أَلا يشغل نَفسه بالتفكير فِي أَي أَمر من أُمُور الدُّنْيَا بل يجب أَن يسخر ذهنه وسَمعه للإصغاء إِلَيْهِم ثمَّ يطْلب مِنْهُم أَن يَتَحَوَّلُوا إِلَى فريقين يتناظران فِيمَا بَينهم وَعَلِيهِ أَن يستوضح عَمَّا يغمض عَلَيْهِ فيعرفه ويحفظه فاذا مَا تكَرر مِنْهُ هَذَا تصبح لَهُ سجية وَعَادَة وَلنْ يمْضِي طَوِيل وَقت حَتَّى يُحِيط باكثر أَحْكَام الشَّرِيعَة وَتَفْسِير الْقرَان وأخبار الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ويحفظه فتتسع امامه بذلك سبل الْمعرفَة بالأمور الدِّينِيَّة والدنيوية بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع اي مُبْتَدع أَو صَاحب اعْتِقَاد خَبِيث ان يحرفه عَن مسيره إِنَّمَا يقوى رَأْيه ويعم عدله وتمحي من مَمْلَكَته الْبدع والأهواء وتتم على يَدَيْهِ الْأَعْمَال الجليلة وتستأصل بِهِ جذور الشَّرّ وَالْفساد والفتنة فينقرض المفسدون ويزداد أهل الصّلاح بَأْسا فيكسب السمعة الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا وينجو من عِقَاب الاخرة بل يتبوأ أَعلَى الدَّرَجَات فِيهَا ويثاب ثَوابًا كَبِيرا ثمَّ يزْدَاد إقبال النَّاس فِي عَهده على الْعلم أَكثر فاكثر روى ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ أعدت للعادلين وأهليهم وَمن هم فِي رعايتهم قُصُور من نور فِي الْجنَّة ان الاسْتقَامَة فِي الدّين لأجمل مَا يَنْبَغِي أَن يَتَّصِف بِهِ الْملك لِأَن الْملك وَالدّين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 صنْوَان فَأَي اضْطِرَاب فِي المملكة لَا بُد أَن يرافقه اختلال فِي امور الدّين فَيظْهر وَالْحَال هَذِه المفسدون وَأَصْحَاب الْمذَاهب والمعتقدات الخبيثة وَكلما تتضعضع أُمُور الدّين يتسرب الوهن إِلَى المملكة فتقوى شَوْكَة المفسدين الَّذين يتسببون فِي إقلاق رَاحَة الْملك وَزَوَال هيبته فبظهر الْبِدْعَة ويزداد الخارجون والعابثون قُوَّة وبأسا أَقْوَال فِي الْمَوْضُوع يَقُول سُفْيَان الثَّوْريّ أفضل السلاطين أُولَئِكَ الَّذين يجالسون أهل الْعلم ويخالطونهم وأسوأ الْعلمَاء أُولَئِكَ الَّذين يجالسون السُّلْطَان ويعاشرونه وَيَقُول أردشير إِن السُّلْطَان الَّذِي لَيست لَهُ الْقُدْرَة على إصْلَاح خاصته لَا يَسْتَطِيع أبدا ان يصلح الْعَامَّة والرعية وَفِي هَذَا يَقُول الْحق تَعَالَى {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} وَيَقُول أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لَيْسَ ثمَّة شَيْء أدعى لخراب المملكة وفنائها وهلاك الرّعية من طول الستارة بَين الْملك وَالنَّاس وَلَيْسَ ثمَّة شَيْء أجدى وأهيب فِي قُلُوب النَّاس من قصر ستارة الْملك وسهولة الْوُصُول إِلَيْهِ خَاصَّة فِي أَفْئِدَة الْوُلَاة والعمال فهم إِذا مَا علمُوا أَن لَا حجاب بَين الْملك ورعيته لَا يقدمُونَ على ظلمها وَأخذ أَمْوَال النَّاس بِغَيْر حق وَقَالَ لُقْمَان الْحَكِيم لَا صديق أفضل للمرء فِي الدُّنْيَا من الْعلم فَهُوَ أحسن من الْكَنْز لِأَنَّك أَنْت الَّذِي تَحْمِي الْكَنْز فِي حِين أَن الْعلم هُوَ الَّذِي يحميك وَيَقُول الْحسن الْبَصْرِيّ رَحْمَة الله عَلَيْهِ لَيْسَ الْعَالم من يعرف الْعَرَبيَّة أَكثر أَو الأقدر على أَلْفَاظ الْعَرَب ولغتها بل هُوَ الْمُحِيط بِكُل علم باللغة الَّتِي يجيدها فَإِذا مَا عرف امْرُؤ كل أَحْكَام الشَّرِيعَة وَتَفْسِير الْقرَان بالتركية والفارسية أَو الرومية وَلَا يعرف الْعَرَبيَّة فَهُوَ عَالم وَلَو عرف الْعَرَبيَّة لَكَانَ أفضل لِأَن الله تَعَالَى نزل الْقرَان بِالْعَرَبِيَّةِ وَأَن مُحَمَّدًا الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ عَرَبِيّ اللِّسَان وَحين يشع سنا الْإِشْرَاق الإلهي على الْملك وَتَكون لَهُ مملكة دعائمها الْعلم فَإِنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 يفوز بسعادة الدُّنْيَا والاخرة لِأَنَّهُ وَالْحَال هَذِه لَا يقدم على أَي عمل دون دراية بِهِ وَلَا يرضى عَن الْجَهْل أَلا ترى أَن شهرة من كَانُوا مسؤولين وملوكا حكماء طبقت الافاق لِأَن مَا شادوه من جلائل الْأَعْمَال سيظل يخْفق باسمائهم عالية إِلَى يَوْم الدّين من هَؤُلَاءِ على سَبِيل الْمِثَال أفريدون والإسكندر وأردشير وأنوشروان الْعَادِل وَعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَعمر بن عبد الْعَزِيز نور الله مضجعه وَهَارُون الرشيد والمأمون والمعتصم وَإِسْمَاعِيل بن أَحْمد الساماني وَالسُّلْطَان مَحْمُود الغزنوي رَحْمَة الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ إِن أَعماله جليلة للعيان وَهِي مسطورة فِي بطُون الْكتب والتواريخ يقْرؤهَا النَّاس فتلهج ألسنتهم بِالدُّعَاءِ لَهُم وَالثنَاء عَلَيْهِم إِحْسَان عمر بن عبد الْعَزِيز يُقَال أَنه لما حل الْقَحْط بِالنَّاسِ على عهد عمر بن عبد الْعَزِيز وَضَاقَتْ بهم السبل قَصده فريق من الْعَرَب شاكين إِلَيْهِ فَقَالُوا يَا امير الْمُؤمنِينَ إِنَّا نَأْكُل فِي هَذَا الْقَحْط لحومنا وَنَشْرَب دماءنا اي أَصَابَنَا الهزال واصفرت وُجُوهنَا لقلَّة الطَّعَام إِن مَا نحتاج أليه فِي بَيت مَالك وَهَذَا المَال إِمَّا لَك وَإِمَّا لله تَعَالَى وَإِمَّا لِعِبَادِهِ فَإِن يكن لعباد الله فَنحْن مِنْهُم وَإِن يكن لله فَلَا حَاجَة لله بِهِ وَإِن يكن من أموالك وَتصدق علينا ان الله يَجْزِي المتصدقين وَإِن يكن من أَمْوَالنَا فهبنا إِيَّاه لننجو من هَذَا الضّيق فَلَقَد يَبِسَتْ جلودنا على أجسامنا فرق عمر بن عبد الْعَزِيز لحالهم وسالت الدُّمُوع من عَيْنَيْهِ وَقَالَ إِنَّنِي فَاعل مِمَّا قُلْتُمْ وَأمر فِي الْحَال بِقَضَاء طَلَبهمْ وتلبية حَاجتهم وَلما هموا بالإنصراف قَالَ لَهُم عمر رَحْمَة الله عَلَيْهِ أيه أَيهَا النَّاس ايْنَ أَنْتُم ذاهبون أَلا تعرضون أَمْرِي على الله تَعَالَى مِثْلَمَا عرضتم أَمركُم وَأمر عباد الله عَليّ أَي اذكروني بِالْخَيرِ فاتجه النَّاس نَحْو السَّمَاء وَرفعُوا أَيْديهم قائلين يارب بعزتك وجلالك عَامل عمر بن عبد الْعَزِيز مَا عَامل بِهِ عِبَادك وَمَا إِن فرغوا من دُعَائِهِمْ حَتَّى غامت السَّمَاء فَنزل الْمَطَر مدرارا وَسَقَطت بردة على اجْرِ قصر عمر فانشقت نِصْفَيْنِ وَإِذا ورقة تخرج مِنْهَا فَلَمَّا نظرُوا فِيهَا وجدوا الْعبارَة التاليه هَذَا بَرَاءَة من الله الْعَزِيز إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز من النَّار وَفِي هَذَا الْمَوْضُوع حكايات كَثِيرَة حَسبنَا مِنْهَا فِي هَذَا الْفَصْل مَا ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الْفَصْل التَّاسِع فِي مشرفي الدولة وكفافهم يَنْبَغِي إِسْنَاد الإشراف إِلَى من يعْتَمد عَلَيْهِ اعْتِمَادًا تَاما ليتَمَكَّن من الْإِحَاطَة بِكُل مَا يجْرِي فِي البلاط والإجابة عَن كل شَيْء فِي أَي وَقت يطْلب إِلَيْهِ ذَلِك وعَلى المشرف نَفسه أَن يعين لَهُ نَائِبا أَمينا قَوِيا فِي كل نَاحيَة ومدينة لمراقبة الْأَعْمَال والإشراف على تَحْصِيل الْخراج ومعرف كل كَبِيرَة وصغيرة تقع هُنَاكَ وعَلى هَؤُلَاءِ إِلَّا يشغلوا أنفسهم بِجمع المَال لفائدتهم الشخصية وكفافهم فَيَكُونُوا عبئا على الرّعية يرهقها من جَدِيد لذا يجب أَن يُؤمن لَهُم كل مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من بَيت المَال حَتَّى لَا تكون لَهُم ثمَّة حَاجَة لخيانة ورشوة وستكون ثَمَرَة استقامتهم فِي أَعْمَالهم عشرَة أَمْثَال بل مائَة مثل لما يعطوه من أَمْوَال فِي حينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الْفَصْل الْعَاشِر فِي أَصْحَاب الْبَرِيد وَنهي الْأَخْبَار وتدبير شؤون المملكة على الْمُلُوك أَن يتحروا أَحْوَال الرّعية والجيش وكل بعيد وَقَرِيب وَأَن يعرفوا كل كَبِيرَة وصغيرة فِي المملكة فَإِن لم يَفْعَلُوا فسيكون ذَا عَيْبا ومأخذا يَأْخُذهُ النَّاس عَلَيْهِم ويحملونه محمل الْغَفْلَة والتهاون وَالظُّلم وَيَقُولُونَ إِمَّا أَن الْملك يعلم بِأَمْر الْفساد وَالسَّرِقَة والنهب المتفشي فِي المملكة وَإِمَّا أَنه لَا يعلم فَإِن يكن على علم بِهِ وَلَا يمنعهُ أَو يقف فِي وَجهه فَلِأَنَّهُ ظَالِم وَعَن الظُّلم رَاض وَإِلَّا فَهُوَ غافل قَلِيل الدِّرَايَة والاطلاع وكلا الْأَمريْنِ غير مَحْمُود وَلَا بُد من صَاحب الْبَرِيد لقد كَانَ للملوك فِي كل الأحقاب فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام أَصْحَاب بريد فِي كل المدن لم يكن يفوتهُمْ الْعلم بِمَا يحدث من خير وَشر حَتَّى إِذا مَا غصب شخص اخر دجَاجَة أَو مخلاة تبن على مرمى خَمْسمِائَة فَرسَخ فَإِن الْملك كَانَ يُعلمهُ وَيَأْمُر بتأديبه ومعاقبته ليعرف الاخرون أَنه يقظ وَأَن لَهُ مخبرين فِي كل مَكَان وَأَنه يضْرب على أَيدي الظَّالِمين فَكَانَ النَّاس يَنْصَرِفُونَ إِلَى الْكسْب والإعمار وَالْبناء فِي ظلّ الْأَمْن وَالْعدْل إِن هَذِه المهمة دقيقة وشاقة يجب أَن يعْهَد بهَا لمن لَا يساء الظَّن بهم وبألسنتهم وأقلامهم وَلَا يجرونَ وَرَاء أغراضهم ومصالحهم الْخَاصَّة لِأَن صَلَاح المملكة وفسادها مَرْهُون بهم وَيَنْبَغِي أَن يعين هَؤُلَاءِ من لدن الْملك نَفسه وَأَن تدفع لَهُم أُجُورهم ورواتبهم من الخزانة كي يقومُوا بواجباتهم على النَّحْو الْأَفْضَل وهم مطمئنو البال وَيجب أَلا يعرف أحد غير الْملك بالمهام الَّتِي يؤدونها حَتَّى إِذا مَا أخبر بِأَمْر جَدِيد يقْضِي بِمَا يرَاهُ مناسبا فينال كل شخص مَا يسْتَحق من عِقَاب وَجَزَاء أَو مكافئة وَهبة وَتَقْدِير بَغْتَة وَدون أَن يدْرِي وَإِذا مَا سَارَتْ الْأُمُور على هَذَا النَّحْو فسيحرص النَّاس على طَاعَة الْملك وَالْخَوْف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 عِقَابه دَائِما وَلنْ يَجْرُؤ أحد على عصيانه وَالْخُرُوج عَلَيْهِ أَو حَتَّى مُجَرّد التفكير فِي ذَلِك إِن وجود مهمة صَاحب الْبَرِيد ومنهي الْأَخْبَار لدَلِيل على عدل الْملك ويقظته وَقُوَّة رَأْيه وعَلى إعمار الدولة أَيْضا حِكَايَة لصوص كوج وبلوج يُقَال أَنه لما استولى السُّلْطَان مَحْمُود على الْعرَاق سرق لصوص من كوج وبلوج الَّتِي كَانَت تَابِعَة لولاية كرمان بضَاعَة إمرأة كَانَت فِي إِحْدَى القوافل النَّازِلَة بدير الجص فمضت الْمَرْأَة إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود تَشْكُو إِلَيْهِ قائلة لقد سرق اللُّصُوص مَا بحوزتي من بضَاعَة بدير الجص فإمَّا أَن تستردها وَإِمَّا أَن تعوضني بهَا فَقَالَ مَحْمُود أَيْن يَقع دير الجص قَالَت الْمَرْأَة خُذ من الولايات مَا تَسْتَطِيع أَن تعرف مَا يَدُور فِيهَا وتوفيها حَقّهَا وتحفظها فَقَالَ حق مَا تَقُولِينَ وَلَكِن أَتَدْرِينَ من أَي قوم كَانَ أُولَئِكَ اللُّصُوص وَمن أَيْن أَتَوا قَالَت من كوج وبلوج وَقد جَاءُوا من قرب كرمان قَالَ مَحْمُود ذَلِك الْمَكَان بعيد عَن متناول الْيَد وَهُوَ خَارج عَن نطاق ولايتي وَلَا حكم لي على لصوصه فَقَالَت الْمَرْأَة أَي سُلْطَان أَنْت وَلَا تَسْتَطِيع أَن تدبر ولايتك وَأي رَاع أَنْت وَلَا تَسْتَطِيع أَن تَحْمِي الشَّاة من الذِّئْب شتان بيني وَبَيْنك أَنا فِي ضعْفي وانفرادي وَأَنت فِي قوتك وجيشك فترقرقت فِي عَيْني مَحْمُود الدُّمُوع وَقَالَ حق مَا تَقُولِينَ مَا أَنا فَاعله الان هُوَ أَن أعوضك عَن بضاعتك أما اللُّصُوص فسأعمل على التَّصَرُّف بشأنهم مَا وسعني جهدي وَأمر بتعويض الْمَرْأَة عَن بضاعتها من الخزانة ثمَّ كتب إِلَى أبي عَليّ الياس أَمِير كرمان وتيز الرسَالَة التالية لم يكن غرضي من الْقدوم إِلَى الْعرَاق الِاسْتِيلَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 عَلَيْهَا فقد كنت فِي غَزْو وَجِهَاد مُسْتَمر بِالْهِنْدِ لكنني أتيتها لِكَثْرَة الرسائل المتعاقبة الَّتِي كَانَت تصل إِلَيّ من الْمُسلمين وَكلهَا تَتَحَدَّث عَن فَسَاد الديالمة وظلمهم بالعراق وإظهارهم الْبِدْعَة والجهر بهَا ونصبهم الكمائن على ملتقى الطّرق ومعابرها فَكلما مرت امْرَأَة أَو غُلَام طرير وسيم ينقضون عَلَيْهِم ويأخذونهم عنْوَة ويرتكنون الْفَاحِشَة مَعَهم ثمَّ انهم يخضبون أَيدي المرد وأرجلهم بِالْحِنَّاءِ ويحتفظون بهم إِلَى الْمدَّة الَّتِي يشاؤون ويطلقونهم بعد ذَلِك كَمَا أَنهم يلعنون صحابة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَانيَة ويقذفون عَائِشَة الصديقة رَضِي الله عَنْهُمَا وَهِي أم الْمُؤمنِينَ بِالزِّنَا ثمَّ أَن المستقطعين يحصلون الْخراج من الزراع مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فِي السّنة ويفعلون مَا يحلو لَهُم أما الْملك الَّذِي يلقبونه مجد الدولة فاقتنع بَان يخلعوا عَلَيْهِ لقب ملك الْمُلُوك وَله من الْأزْوَاج تسع دخل بِهن شرعا أما الرّعية فأنهم يظهرون مَذْهَب الزَّنَادِقَة والباطنية عَلَانيَة فِي كل مَكَان بالمدن والأطراف ويسفهون الله وَالرَّسُول ويشتمونهما وينفون الْخَالِق على الْمَلأ وَيُنْكِرُونَ الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَالزَّكَاة فَلَا المستقطعون يزجرونهم عَن أَقْوَال الْكفْر هَذِه وَلَا هم يَقُولُونَ للمستقطعين لم تسبون صحابة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتعيثون فِي النَّاس ظلما وَفَسَادًا إِن كلا الْفَرِيقَيْنِ يؤازر الاخر فَلَمَّا أخْبرت بِحَقِيقَة الْحَال اثرت هَذَا الْأَمر على غَزْو الْهِنْد واتجهت نَحْو الْعرَاق وسلطت جَيش التّرْك الَّذين هم حنفيون وأنقى الْمُسلمين على رِقَاب الديالمة والزنادقة والباطنبة لأستأصل جذورهم فَمنهمْ من قتل بسيوفهم وَمِنْهُم من كبل بالأغلال وزج بِهِ فِي السجْن وَمِنْهُم من تشَتت فِي الافاق ثمَّ أسندت كل الْأَعْمَال والمهام إِلَى سادة خُرَاسَان وولاتها وحكامها فهم من الْحَنَفِيَّة أَو الشَّافِعِيَّة الْأَطْهَار إِن هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ أَعدَاء للرافضة والباطنية وكل الخارجين على الدّين وعَلى وئام مَعَ الأتراك ثمَّ نحيت كل الكتبة الْعِرَاقِيّين لعلمي أَن أَكْثَرهم من تِلْكَ الفئات الباغية وَأَنَّهُمْ يفسدون على التّرْك أَعْمَالهم كل هَذَا لكَي أصفي الْعرَاق من أَصْحَاب الْمذَاهب الخبيثة والمعتقدات السَّيئَة فِي مُدَّة قَليلَة بعون الله عز وَجل فَالله تَعَالَى خلقنَا لهَذَا وولانا الْخلق لنمحو المفسدين من على وَجه المعمورة ونحمي أهل الصّلاح ونملأ الأَرْض عدلا وسخاء وَرَحْمَة وَفِي غُضُون هَذَا بلغنَا أَن جمَاعَة من مفسدي كوج وبلوج سطوا على استراحة دير الجص وسرقوا مِنْهَا مَالا اريدك أَن تقبض عَلَيْهِم وتسترد الْأَمْوَال مِنْهُم ثمَّ تشنقهم جَمِيعًا أَو ترسلهم بِمَا سرقوا مكبلي الْأَيْدِي إِلَى الرّيّ فَأَنِّي لَهُم الجرأة على تجَاوز كرمان إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ولايتى وَقطع الطّرق فِيهَا وَإِلَّا فَلَيْسَتْ كرمان أبعد من سومنات سأدفع بالجيوش إِلَيْهَا وأبتليها بِالْحَرْبِ والدمار لما أوصل الرَّسُول الرسَالَة خَافَ أَبُو عَليّ الياس كثيرا وَأكْرم وفادته حَالا وَحمله بشتى أَنْوَاع الْجَوَاهِر واللالىء البحرية النادرة وَبدر الذَّهَب وَالْفِضَّة هَدَايَا إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود وَكتب إِلَيْهِ يَقُول إِنَّنِي مَوْلَاك ومطيع أوامرك أَلا يعلم مولَايَ جيدا حَال مَوْلَاهُ وَولَايَة كرمان وَإِلَّا فإنني لَا أرْضى بِالْفَسَادِ أبدا إِن أهل كرمان كلهم سنيون وَأهل خير وَصَلَاح أما سلسلة جبال كوج وبلوج فاقتطعت عَن كرمان وَهِي ذَات جبال ومعابر حَصِينَة وطرقات وعرة إِنَّنِي عَاجز عَنْهُم فأغلبهم لصوص ومفسدون وقطاع طرق وهم يهددون أَمن طَرِيق تمتد إِلَى مِائَتي فَرسَخ بالنهب وَالسَّرِقَة إِنَّهُم خلق كثير لَا حول لي عَلَيْهِم وَلَا قُوَّة ان السُّلْطَان لأقدر مني وَفِي استطاعته الْيَوْم التصدي لَهُم فِي شَتَّى أنحاء الأَرْض وانني لأضع نَفسِي رهن إِشَارَته لما وصلت إِلَى مَحْمُود رِسَالَة أبي عَليّ وهداياه تبين لَهُ صدق كل مَا يَقُول فَأَعَادَ رَسُوله إِلَيْهِ بخلعة خَاصَّة وَقَالَ لَهُ قل لأبي عَليّ عَلَيْك أَن تجمع جَيش كرمان وَتَطوف بِهِ فِي الْولَايَة كلهَا وَفِي شهر كَذَا تقدم سرا إِلَى حُدُود كرمان فِي الْجَانِب الَّذِي فِيهِ كوج وبلوج وَأنزل هُنَاكَ وَحين يصل إِلَيْك رَسُولنَا بِإِشَارَة كَذَا تحرّك فَوْرًا وأحمل على ولَايَة كوج وبلوج واقتل من تَجدهُ من فتيانهم وَلَا تؤمنهم أبدا وأسلب من شيوخهم وَنِسَائِهِمْ أَمْوَالًا وأرسلها إِلَيّ حَتَّى أوزعها على من يدعونَ هُنَا أَنهم سلبوهم أَمْوَالهم ثمَّ اعقد مَعَهم عهدا وميثاقا محكما وعد بعد ذَلِك وَبعد أَن سير السُّلْطَان رَسُول أبي عَليّ أَمر مناديا يُنَادي على التُّجَّار المتوجهين إِلَى تيز عَن طَرِيق كرمان أَن يهيئوا أنفسهم ويعدوا احمالهم فإنني مُرْسل مَعَهم حامية تحميهم وَلكم عَليّ عهد ان أعوضكم عَن بضائعكم من الخزانة إِذا مَا استولى عَلَيْهَا لصوص كوج وبلوج فَمَا إِن شاع هَذَا الْخَبَر فِي النَّاس حَتَّى توارد عدد كَبِير من التُّجَّار على الرّيّ من الْأَطْرَاف فسيرهم السُّلْطَان مَحْمُود فِي وَقت معِين يرافقهم أَمِير على رَأس حامية قوامها مائَة وَخَمْسُونَ فَارِسًا وَقَالَ لَهُم تثبيتا لعزائمهم لتهدأوا بَالا فإنني مُرْسل فِي أثركم جَيْشًا وعَلى حِين كَانَ يسير الحامية استدعى إِلَيْهِ أميرها سرا وَأَعْطَاهُ زجاجة سم قَاتل وَقَالَ لَهُ عِنْدَمَا تصل إِلَى أصفهان توقف بهَا إِلَى أَن يعد تجارها أنفسهم وينضموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 إِلَيْكُم وَعَلَيْك أَن تشتري فِي هَذِه الْأَثْنَاء عشرَة أحمال من أَجود تفاح أصفهان وتحملها على عشرَة جمال تبثها بَين جمال التُّجَّار حِين تتركون الْمَدِينَة ثمَّ تمْضِي بالقافلة إِلَى أَن تصل إِلَى مَكَان سيصل إِلَيْهِ اللُّصُوص فِي الْيَوْم التَّالِي لوصولكم إِلَيْهِ وَعَلَيْك فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أَن تضع الْأَحْمَال فِي خيمة وتبعثر تفاحها وتثقب كل تفاحة بمسلة ثمَّ تعد عيدانا خشبية أكبر من الإبرة بِقَلِيل وتغط كل وَاحِد مِنْهَا فِي السم ثمَّ تولجه فِي ثقب التفاحة إِلَى أَن تسمم التفاح جَمِيعه بِهَذِهِ الطَّرِيقَة وَبعد ذَلِك نضد التفاح فِي أقفاص يتخللها الْقطن وَفِي الْيَوْم التَّالِي بَث جمالك الْعشْرَة بَين الْجمال الْأُخْرَى وواصل مسيرك وعندما يظْهر اللُّصُوص ويستولون على الْقَافِلَة لَا تتصدى لقتالهم الْبَتَّةَ فهم كثر وَأَنْتُم قلَّة وَمَا عَلَيْك إِلَّا أَن تتراجع حَالا بِمن مَعَك من حَملَة السِّلَاح خيالة وراجلين إِلَى مَا يقرب من نصف فَرسَخ أَو أَكثر ثمَّ تنْتَظر مُدَّة تتقدم بعْدهَا نَحْو اللُّصُوص الَّذين لَا أَشك فِي هَلَاك أَكْثَرهم حِينَئِذٍ لأكلهم من التفاح عندئذ أشرع فيهم السيوف واقتل بَقِيَّتهمْ وطارد فلولهم مَا اسْتَطَعْت واهلكهم وَلما تَنْتَهِي من الْقَضَاء عَلَيْهِم أرسل عشرَة من خيرة الفرسان بخاتمي إِلَى أبي عَليّ الياس فَوْرًا وَأخْبرهُ بِمَا فعلنَا بلصوص كوج وبلوج وَقل لَهُ لتحمل أَنْت الان بجيشك على ولايتهم فَهِيَ خلو من الشَّبَاب والأقوياء والغوغائيين من مثيري الْفِتْنَة والشغب ثمَّ نفذ مَا أمرناك بِهِ أما أَنْت فَامْضِ بالقافلة إِلَى كرمان وَإِذا مَا التحقت انذاك بِأبي عَليّ فَلَا ضير قَالَ الْأَمِير سمعا وَطَاعَة سأنفذ مَا أَمرتنِي بِهِ إِن قلبِي يحدثني بِأَن هَذَا الْأَمر سيتحقق لدولة مولَايَ وان تِلْكَ الطَّرِيق ستفتح فِي وَجه الْمُسلمين إِلَى يَوْم يبعثون وَانْصَرف من عِنْد السُّلْطَان وقاد الْقَافِلَة إِلَى اصفهان حَيْثُ اشْترى خَمْسَة أحمال تفاحا ثمَّ وَاصل سيره إِلَى كرمان وَكَانَ اللُّصُوص قد أرْسلُوا عيونهم إِلَى أصفهان فانموا إِلَيْهِم أَن ثمَّة قافلة بالاف الدَّوَابّ محملة بنعم وخيرات لَا يعلم مقدارها إِلَّا الله عز وَجل وَإنَّهُ لم ير لهَذِهِ الفافلة الَّتِي تحميها حامية من مائَة وَخمسين فَارِسًا تركيا نَظِير مُنْذُ ألف سنة ففرح اللُّصُوص اشد الْفَرح حَتَّى انه لم يبْق فِي شَتَّى أنحاء كوج وبلوج عيار وشاطر وحامل سلَاح إِلَّا أَخْبرُوهُ واستدعوه إِلَى أَن احتشد مِنْهُم على الطَّرِيق أَرْبَعَة الاف رجل بكامل أسلحتهم فِي انْتِظَار الْقَافِلَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 لما وصل الْأَمِير بالقافلة إِلَى منزل من منَازِل الطَّرِيق أخبرهُ القاطنون ثمَّة بَان الاف اللُّصُوص قد استلموا طريقكم وهم فِي انتظاركم مُنْذُ أَيَّام فَسَأَلَهُمْ الْأَمِير كم فرسخا يبعد الْمَكَان الَّذِي هم فِيهِ قَالُوا خَمْسَة فراسخ وَلما سمع من فِي الْقَافِلَة هَذَا أَصَابَهُم الْفَزع وَاسْتولى عَلَيْهِم الذعر فحطوا هُنَاكَ الرّحال وَمَعَ صَلَاة الْعَصْر استدعى الْأَمِير جَمِيع خفر البضائع وحامية الْقَافِلَة ورجالها وشجعهم ثمَّ قَالَ أخبروني أَيهمَا أعز النَّفس أَو المَال قَالُوا جَمِيعهم النَّفس قَالَ إِن الْأَمْوَال أَمْوَالكُم أما نَحن فسنرخص أَرْوَاحنَا فدَاء لكم دونما حزن أَو أَسف فَلم تتجرعون الأحزان إِذن على ثروة وأموال ستعوضون عَنْهَا إِن مَحْمُودًا لَيْسَ بغاضب عَلَيْكُم أَو عَليّ حَتَّى يدْفع بِنَا إِلَى الْهَلَاك بل انه سيرنا فِي مهمة يسْتَردّ بهَا الْأَمْوَال الَّتِي سلبها اللُّصُوص من الْمَرْأَة بدير الجص فَمَاذَا تظنون أتحسبون أَنه يرغب فِي أَن يستولي اللُّصُوص على أَمْوَالكُم لتهدأوا بَالا فَهُوَ لَيْسَ فِي غَفلَة عَنَّا لقد أَخْبرنِي شَيْئا هُوَ أَن مدده سيلحق بِنَا غَدا مَعَ شروق الشَّمْس وستكون الْأُمُور فِي صالحنا إِن شَاءَ الله أما أَنْتُم فَمَا عَلَيْكُم إِلَّا أَن تنفذوا مَا أَقُول فَفِيهِ نفعكم وصالحكم لما سمع الْقَوْم كَلَامه فرحوا ودبت الشجَاعَة وَالْقُوَّة فِي قُلُوبهم وَقَالُوا سننفذ كل مَا تَأْمُرنَا بِهِ قَالَ لِيَتَقَدَّم مني كل من لَدَيْهِ مِنْكُم سلَاح يقوى على اسْتِعْمَاله فَتقدم مِنْهُ عدد فَلَمَّا عدهم كَانُوا ثَلَاثمِائَة وَسبعين فَتى بَين خيال وراجل وَفِيهِمْ رِجَاله هُوَ أَي أَفْرَاد حاميته ثمَّ قَالَ لَهُم بِمَا أننا سنتقدم اللَّيْلَة فعلى الخيالة أَن يبقوا معي فِي مُقَدّمَة الْقَافِلَة والراجلين فِي مؤخرتها فَمن عَادَة هَؤُلَاءِ اللُّصُوص أَنهم ينهبون الْأَمْوَال دون أَن يقتلُوا أحدا إِلَّا من يتَصَدَّى لَهُم ويشتبك مَعَهم سنصل إِلَيْهِم غَدا وَالشَّمْس على ارْتِفَاع رُمْحَيْنِ وَحين يحملون على الْقَافِلَة لوذوا بالفرار فانا الَّذِي سألجأ إِلَى الْكر والفر مَعَهم إِلَى أَن تتواروا إِلَى مَسَافَة فَرسَخ وحينذاك أكر رَاجعا إِلَيْكُم وألتحق بكم وَنَصْبِر ثمَّة مُدَّة نعود جميعنا بعْدهَا ونحمل عَلَيْهِم وسترون الْعَجَائِب كَذَا أمرت وانني أعرف شَيْئا فِي الْمَوْضُوع لَا تعرفونه لكنكم ستعرفونه غَدا فيبين لكم انذاك صدق قولي وهمة السُّلْطَان مَحْمُود فَقَالُوا بِصَوْت وَاحِد إننا لفاعلون وعادوا وَلما أرْخى اللَّيْل سدوله فض الْأَمِير أحمال التفاح ودس السم فِيهَا جَمِيعًا ثمَّ أَعَادَهَا ثَانِيَة وَندب خَمْسَة من رِجَاله للجمال الْعشْرَة الَّتِي تحمل التفاح وَقَالَ لَهُم حِين ننهزم وَيَقَع اللُّصُوص فِي الْقَافِلَة وَيَأْخُذُونَ فِي فض الْأَحْمَال عَلَيْكُم بِدفع أحمال التفاح وَفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الأقفاص وقلبها رَأْسا على عقب والابتعاد بعد ذَلِك وَبعد منتصف اللَّيْل أَمرهم بالتقدم فتقدموا على نَحْو مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ إِلَى أَن وضح النَّهَار وَلما ارْتَفَعت الشَّمْس فِي الْأُفق طلع اللُّصُوص عَلَيْهِم من ثَلَاثَة جَوَانِب وحملوا على الْقَافِلَة وَسُيُوفهمْ مَشْرُوعَة فكر الْأَمِير عَلَيْهِم مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَرَمَاهُمْ ببضعة سِهَام ثمَّ أطلق سَاقيه للريح أما الراجلون فَفرُّوا حِين رَأَوْا اللُّصُوص وَلحق الْأَمِير بهم على بعد نصف فَرسَخ حَيْثُ جمعهم فِي مَكَان وَاحِد هُنَاكَ لما رأى اللُّصُوص قلَّة عدد أَفْرَاد الحامية وفرارهم وانهزام أَفْرَاد الْقَافِلَة أخذتهم الْغِبْطَة فَجعلُوا يفتحون الْأَحْمَال باطمئنان تَامّ ويعبثون بالبضائع فَلَمَّا وصلوا إِلَى التفاح أخذُوا يتساقطون عَلَيْهِ ويغيرون ويأكلون بنهم وشره ويناولون كل من لَا يَسْتَطِيع الْوُصُول إِلَيْهِ وَقلة أُولَئِكَ الَّذين لم يَأْكُلُوا مِنْهُ وَبعد سَاعَة بدأوا يتساقطون وَاحِدًا تلو الاخر ويموتون وَبعد مُضِيّ ساعتين وقف الْأَمِير على نشز من الأَرْض وحيدا ينظر إِلَى الْقَافِلَة واللصوص فَإِذا الادميون يملأون الصَّحرَاء بعد أَن تساقطوا فَنزل والفرحة تغمره وَقَالَ يَا قوم أبشركم بوصول مدد السُّلْطَان مَحْمُود وقتلهم اللُّصُوص الَّذين لم يبْق مِنْهُم أحد هيا بِنَا أَيهَا الليوث ننقض عَلَيْهِم لنقتل بَقِيَّتهمْ واتجه بِرِجَالِهِ نَحْو الْقَافِلَة وتبعهم الراجلون بِسُرْعَة فَلَمَّا وصلوا إِلَى مَكَان الْقَافِلَة وجدوا الصَّحرَاء تغص بالموتى الَّذين ألقوا باسلحتهم من تروس وسيوف وسهام وقسي أما من ظلوا أَحيَاء مِنْهُم فَلَمَّا رَأَوْا الْعَسْكَر لاذوا بالفرار لَكِن الْأَمِير وَمَعَهُ الراجلون مضوا فِي أَثَرهم وظلوا يطاردونهم على مدى فرسخين وَلم يعودوا إِلَّا بعد ان أفنوهم جَمِيعًا بِحَيْثُ لم ينج من بَينهم أحد ينْقل إِلَى ولايتهم أَخْبَار مَا حدث ثمَّ أَمر الْأَمِير بِجمع أسلحة اللُّصُوص الَّتِي بلغت عدَّة أحمال وَتقدم بالقافلة مرحلة أُخْرَى دون أَن يلْحق أدنى ضَرَر بِأحد من أفرادها بل كَادُوا لفرحهم يخرجُون من جُلُودهمْ وَكَانَ بَينهم وَبَين أبي عَليّ الياس اثْنَا عشر فرسخا فَقَط فَأرْسل إِلَيْهِ الْأَمِير الغلمان الْعشْرَة بِخَاتم السُّلْطَان مَحْمُود على جنَاح السرعة لإخباره بِمَا حدث وَلما وصل الْخَاتم إِلَى أبي عَليّ توجه فَوْرًا بجيشه الَّذِي كَانَ على أهبة الاستعداد إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ولَايَة كوج وبلوج وانضم إِلَيْهِ الْأَمِير فشرعوا السيوف وَقتلُوا مَا يزِيد على عشرَة الاف رجل من أَهلهَا واستولوا على الاف الدَّنَانِير وغنموا ثروات طائلة وَنِعما وأسلحة ومواشي لَا تحد أرسلها أَبُو عَليّ كلهَا إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود مَعَ الْأَمِير حِينَئِذٍ أَمر السُّلْطَان بَان يُنَادى فِي النَّاس على من سلبهم لصوص كوج وبلوج شَيْئا مُنْذُ جِئْت الْعرَاق أَن يَأْتُوا إِلَيّ لأعوضهم عَنْهَا فأمه المدعون جَمِيعهم وعادوا فرحين وَانْقَضَت خَمْسُونَ سنة دون أَن يَبْدُو من الكوجيين والبلوجيين أَي سوء أَو تعد ومنذ ذَلِك الْوَقْت بَث السُّلْطَان مَحْمُود أَصْحَاب الْبَرِيد ومنهي الْأَخْبَار فِي كل مَكَان حَتَّى أَنه كَانَ يعرف وَهُوَ بِالريِّ مَا إِذا غصب شخص اخر دجَاجَة ف غزنين أَو صفعه على وَجهه دون حق فيأمر بمجازاته وَقد درج الْمُلُوك على هَذَا مُنْذُ الْقدَم إِلَّا ال سلجوق الَّذين لم يأبهوا لهَذَا الْأَمر ألب أرسلان وَصَاحب الْبَرِيد لما قَالَ أَبُو الْفضل السجسْتانِي للسُّلْطَان الشَّهِيد ألب أرسلان أنار الله برهانه لم لَا يُوجد لَك صَاحب بريد أَجَابَهُ أَتُرِيدُ ان تذرو ملكي الرِّيَاح وتفرق عني أَنْصَارِي قَالَ لماذا قَالَ السُّلْطَان إِذا مَا اتَّخذت صَاحب بريد فَإِن محبي والمقربين مني لن يأبهوا لَهُ أَو يدفعوا إِلَيْهِ رشوة لصداقتهم لنا وقربهم منا أما أعدائي فسيصادقونه ويغدقون عَلَيْهِ الْأَمْوَال وَمَا دَامَ الْأَمر كَذَلِك فَإِن صَاحب الْبَرِيد لَا يُنْهِي إِلَيْنَا سوى الْأَخْبَار السَّيئَة عَن الأصدقاء وَالْأَخْبَار الْحَسَنَة عَن الْأَعْدَاء وَمَا الْأَخْبَار السَّيئَة والحسنة إِلَّا كرمايتك عددا من السِّهَام الَّتِي لَا بُد أَن يُصِيب أَحدهَا الهدف فِي النِّهَايَة وَهَذَا مدعاة لِأَن يزِيد فِي حقدنا على الأصدقاء والمخلصين يَوْمًا عَن يَوْم فننبذهم وَنحل الْأَعْدَاء محلهم وَحين نتلفت حوالينا نجد أَن جَمِيع الأصدقاء والمحبين قد ابتعدوا عَنَّا فِي مُدَّة يسيرَة وَأَن الْأَعْدَاء والحاقدين أخذُوا أمكنتهم وحلوا فِيهَا وَحِينَئِذٍ تختل الْأُمُور اختلالا يصعب تلافيه وَلَكِن من الأولى اتِّخَاذ صَاحب بريد فَهَذَا الْأَمر قَاعِدَة من قَوَاعِد الْملك فَإِذا مَا كَانَ صَاحب لبريد ثِقَة على النَّحْو الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكون فَإِن الْملك لَا يشغل باله فِي أَي أَمر من الْأُمُور الَّتِي ذكرنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الْفَصْل الْحَادِي عشر فِي تَعْظِيم الْأَوَامِر السامية والمراسيم الصادرة عَن البلاط الرسائل الَّتِي تصدر عَن البلاط كَثِيرَة وَكلما كثرت فقدت حرمتهَا فَإِذا لم يكن ثمَّة أَمر هام يَنْبَغِي أَلا يصدر عَن الدِّيوَان العالي أَمر خطي الْبَتَّةَ وَإِذا مَا صدر شَيْء يجب أَن تكون لَهُ حرمته إِلَى حد لَا يَجْرُؤ مَعَه أحد على وَضعه من يَده قبل ان يُطِيع كل مَا فِيهِ من أوَامِر ويلبيها وَإِذا مَا وجد من ينظر إِلَيْهِ بِعَين الاحتقار أَو ينبذه ظهريا فَيَنْبَغِي أَن يُعَاقب عقَابا شَدِيدا وَلَو كَانَ من المقربين فَالْفرق بَين الْملك وَغَيره من المستقطعين وَالنَّاس هُوَ تَنْفِيذ أوامره وإجراء أَحْكَامه حِكَايَة فِي هَذَا الْمَعْنى السُّلْطَان مَحْمُود وعامل نيسابور العَاصِي قيل ذهبت امْرَأَة من نيسابور إِلَى غزنين وَدخلت على السُّلْطَان مَحْمُود فشكت إِلَيْهِ قائلة إِن عَامل نيسابور استولى على ضياعي وَضمّهَا إِلَيْهِ فاعطاها السُّلْطَان رِسَالَة إِلَيْهِ تَقول رد إِلَيْهَا ضياعها فَقَالَ الْعَامِل الَّذِي كَانَ مَعَه سَنَد بالضياع ان الضّيَاع ضياعي وسأعرض أمرهَا على البلاط فَعَادَت الْمَرْأَة إِلَى غزنين متظلمة من جَدِيد فَأرْسل مَحْمُود هَذِه الْمرة إِلَى الْعَامِل غُلَاما أحضرهُ من نيسابور إِلَى غزنين وَأمر بجلده ألف جلدَة عِنْد مدْخل الْقصر لقد حاول دون جدوى التشفع بشرَاء تِلْكَ الجلدات بِعشْرين ألف دِينَار نيسابوري لَكِن السُّلْطَان قَالَ لَهُ مَا دَامَت الضّيَاع ملكك فَلم لم تصدع لِلْأَمْرِ أَولا ثمَّ تعرض الْمَسْأَلَة لنأمر مَا نرَاهُ حَقًا فِيهَا فَمَا ان سمع النَّاس الْخَبَر لم يتجرأ أحد على عصيان أوَامِر الْملك أَو التواني فِي نتفيذها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَهَكَذَا فِي كل أَمر يخص الْملك وَحده فَإِن تنفيذه أَو الْأَمر بتنفيذه مَنُوط بِهِ هُوَ فَقَط وَمن هَذَا الْقَبِيل إِنْزَال الْعقُوبَة وَضرب الْعُنُق وبتر الْيَد أَو الرجل وَخصي الخدم وَغَيرهَا من الْعُقُوبَات الْأُخْرَى فَإِذا مَا قَامَ أحد بتنفيذ أَي من هَذِه الْأُمُور دون إِذن الْملك وَأمره حَتَّى فِي خدمه وعبيده فعلى الْملك أَلا يقره عَلَيْهِ بل يجب أَن يُعَاقِبهُ ليعرف الاخرون أقدار أنفسهم ويلتزموا حدودهم وَتَكون لَهُم فِيهِ عِبْرَة حِكَايَة أبرويز وبهران جوبين يُقَال أَن ابرويز كَانَ يعز بهْرَام جوبين ويكرمه أول الْأَمر حَتَّى أَنه لم يكن يُفَارِقهُ سَاعَة وَاحِدَة أَو يركب إِلَى صيد وَيجْلس إِلَى شراب وينفرد فِي خلْوَة دونه وَكَانَ بهْرَام هَذَا فَارِسًا فَذا ومبارزا عديم النظير وَذَات يَوْم جِيءَ إِلَى الْملك أبرويز بثلاثمائة بعير حمر النعم من عُمَّال هراة وسرخس محملة بالبضائع والأمتعة الْمُخْتَلفَة فَأمر بتحويلها فِيمَا هِيَ عَلَيْهِ إِلَى قصر بهْرَام جوبين لتوسع عَلَيْهِ فِي مطبخه وَفِي الْيَوْم التَّالِي أخبر أبرويز بِأَن بهْرَام جوبين ألْقى فِي تِلْكَ اللَّيْلَة باحد غلمانه أَرضًا وَجلده عشْرين جلدَة فَغَضب أبرويز وَأمر بإحضار بهْرَام فَلَمَّا حضر أَمر الْملك بإحضار خَمْسمِائَة سيف من دَار الأسلحة وَقَالَ يَا بهْرَام اختر أحْسنهَا فاختارها جَمِيعًا فَقَالَ الْملك اختر من هَذِه أحْسنهَا أَيْضا فَاسْتحْسن بهْرَام عشرَة سيوف مِنْهَا فَقَالَ أبرويز اختر من الْعشْرَة اثْنَيْنِ فَفعل فَقَالَ أبرويز والان مرهم أَن يضعوا هذَيْن السيفين فِي غمد وَاحِد قَالَ بهْرَام يَا مولَايَ ان الغمد لَا يَتَّسِع لسيفين فَقَالَ أبرويز فَكيف يحكم حاكمان بَلَدا وَاحِدًا إِذن ففهم بهْرَام مَا قصد إِلَيْهِ الْملك حَالا وَأدْركَ خطأه فَقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ وَالْتمس عَفوه فَقَالَ أبرويز لَو لم يكن لَك عَليّ حق خدمَة وَلَا أُرِيد أَن أحط من عل من رفعته بنفسي لما عَفَوْت عَنْك فَالله عز وَجل ملكنا نَحن الأَرْض لَا أَنْت إِن كل مَا يحْتَاج إِلَى حكم وَقَضَاء يجب أَن يُحَال إِلَيْنَا لنقضي بِهِ بِالْحَقِّ فَإِذا مَا بدا بعد الان من خدمك وعبيدك ذَنْب يجب أَن تخبرنا أَولا لنأمر بِمَا يسْتَحق المذنب من جَزَاء حَتَّى لَا يمس أحد بأذى دون حق لقد عَفَوْنَا عَنْك هَذِه الْمرة هَكَذَا خَاطب أبرويز بهْرَام جوبين وَقد كَانَ قَائِد جَيْشه فَمَا بالك بِغَيْرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الْفَصْل الثَّانِي عشر فِي إرْسَال الغلمان فِي الْمُهِمَّات من البلاط كثيرا مَا يُرْسل الغلمان فِي مهام من البلاط بَعضهم بامر وَأَكْثَرهم دون أَمر وَفِي هَذَا إرهاق للنَّاس واسنتزاف لأموالهم مِثَال ذَلِك أَنه قد يكون الْمبلغ الْمَطْلُوب تَحْصِيله مئتي دِينَار لَكِن حِين يذهب الْغُلَام يطْلب خَمْسمِائَة وَهَكَذَا يستنزف النَّاس ويصيرون فُقَرَاء يَنْبَغِي إِلَّا يُرْسل أَي غُلَام مَا لم تكن ثمَّة مهمة وَألا يكون إرْسَاله دون أَمر وَأَن يُنَبه عَلَيْهِ بَان الْمبلغ الْمَطْلُوب تَحْصِيله كَذَا فَلَا تَأْخُذ أَكثر من هَذَا أجرا لتجري الْأُمُور فِي نصابها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الْفَصْل الثَّالِث عشر فِي إرْسَال الجواسيس وتسخيرهم لصلاح المملكة والرعية يجب بَث الْعُيُون فِي كل الْأَطْرَاف دَائِما فِي زِيّ تجار وسياح ومتصوفة وبائعي أدوية ودراويش لنقل كل مَا يسمعُونَ من أَخْبَار حَتَّى لَا يظل ثمَّة شَيْء خافيا وَحَتَّى يُمكن تلافي أَي طارىء جَدِيد فِي حِينه فَمَا أَكثر مَا كَانَ الْوُلَاة والمستقطعون والعمال والأمراء يضمرون للْملك خلافًا وعصيانا ويتربصون بِهِ الدَّوَائِر سرا لَكِن الجواسيس كَانُوا يكتشفون ذَلِك ويخبرون الْملك بِهِ فيركب من وقته وينقض عَلَيْهِم بَغْتَة فيحيق بهم ويحبط ماربهم ومقاصدهم وَكَانُوا إِذا مَا عرفُوا بَان ملكا مَا أَو جَيْشًا أَجْنَبِيّا يَنْوِي الهجوم على المملكة يخبرون الْملك فَيَأْخُذ لِلْأَمْرِ أهبته ويدفعه وَكَانُوا ينهون أَخْبَار الرّعية خَيرهَا وشرها فيتعهدها الْمُلُوك بدورهم مِثْلَمَا كَانَ يفعل عضد الدولة عضد الدولة وَالْقَاضِي الخائن لم يكن من بَين مُلُوك الديالمة من هُوَ أعظم وَأكْثر يقظة وَأبْعد نظرا من عضد الدولة إِذْ كَانَ سياسيا عالي الهمة محبا للإصلاح والعمران كتب إِلَيْهِ اُحْدُ عيونه يَوْمًا مَا ان ابتعدت مِائَتي خطْوَة عَن مدْخل الْمَدِينَة فِي طريقي إِلَى المهمة الَّتِي بعثت من أجلهَا فَإِذا شَاب أصفر اللَّوْن على وَجهه وعنقه اثار جروح يقف على حافة الطَّرِيق لما راني حياني فَرددت عَلَيْهِ تحيته وَسَأَلته لماذا أَنْت وَاقِف قَالَ أنْشد رَفِيقًا أَصْحَبهُ إِلَى مَدِينَة فِيهَا ملك عَادل وقاض منصف فَقلت لَهُ أتعي مَا تَقول أتنشد ملكا أعدل من عضد الدولة وقاضيا أعلم من قَاضِي مدينتنا قَالَ لَو كَانَ الْملك عادلا يقظا لَكَانَ القَاضِي أَمينا فَلَقَد أدْركْت غَفلَة الْملك من خيانه القَاضِي قلت مَا بدا لَك من غَفلَة الْملك وانحراف القَاضِي قَالَ إِن قصتي طَوِيلَة لَكِنَّهَا قصرت برحيلي عَن هَذِه الْمَدِينَة قلت بإمكانك أَن تطلعني عَلَيْهَا طبعا قَالَ هيا بِنَا نقطع بِالْحَدِيثِ طريقنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَلما أَخذنَا فِي الْمسير قَالَ اعْلَم أنني ابْن فلَان التَّاجِر الَّذِي يَقع قصره فِي مَكَان كَذَا من هَذِه الْمَدِينَة وَالنَّاس كلهم يعْرفُونَ أَي رجل كَانَ وَالِدي وَمَا كَانَ لَهُ من مَال وثروة وخلاصة الْأَمر أَنه لما انْتقل وَالِدي إِلَى جوَار ربه أطلقت لهواي الْعَنَان وسمت سرح اللَّهْو وعاقرت ابْنة الْكَرم سنوات فابتليت بِمَرَض عضال فقدت مَعَه كل أمل بالشفاء ونذرت نذرا لله تَعَالَى أنني سأحج وأغزو إِذا مَا شفيت من مرضِي وَمن الله تَعَالَى بالشفاء عَليّ وَقمت من الْمَرَض سالما وعقدت العزن على الْحَج وَمن ثمَّ الْغَزْو وأعتقت جواري وغلماني جَمِيعًا ووهبتهم مَالا وبيوتا وضياعا وألفت بيهم بالزواج ثمَّ بِعْت مَا كَانَ لي من أَسبَاب وضياع ومستغلات بِخَمْسِينَ ألف دِينَار ذَهَبا وفكرت فِي نَفسِي بأنني مقدم على سفرين محفوفين بالمخاطر فَلَيْسَ صَوَابا أَن أحمل الذَّهَب كُله معي وَرَأَيْت أَن أحمل ثَلَاثِينَ الْفَا وأبقي الْعشْرين الْأُخْرَى فاشتريت إبريقي نُحَاس وَوضعت فِي كل مِنْهُمَا عشرَة الاف دِينَار وَقلت والان عِنْد من أودعها وَلم يدلني ضميري إِلَّا على قَاضِي الْقُضَاة من الْمَدِينَة كلهَا وَقلت فِي نَفسِي إِنَّه رجل عَالم وقاض وَقد اعْتَمدهُ الْملك ووكل إِلَيْهِ دِمَاء الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ انه لن يخونني على أَيَّة حَال فمضيت إِلَيْهِ وكلمته بِالْأَمر سرا فَقبل هُوَ وسررت أَنا ونهضت سحرًا وحملت الإبريقين إِلَى بَيته ووضعتهما عِنْده وَدِيعَة ثمَّ مضيت فِي سبيلي فأديت فَرِيضَة الْحَج وتوجهت من مَكَّة وَالْمَدينَة إِلَى بِلَاد الرّوم والتحقت بالغزاة وقضيت سنوات أجاهد فِي سَبِيل الله وَفِي إِحْدَى المعارك مَعَ الْكفَّار أصبت بجروح فِي مَوَاطِن من وَجْهي وعنقي وركبتي وفخذي وَوَقعت أَسِيرًا بيد الرّوم وأمضيت أَربع سنوات فِي أغلالهم وسجنهم إِلَى الْوَقْت الَّذِي ابْتُلِيَ فِيهِ القيصر بِمَرَض فَأطلق سراح جَمِيع الأسرى وَبعد فكاكي من الْأسر التحقت بالمطوعة وخدمت فِي صفوفهم وَلما هيأت نفقات طَرِيق العودة قفلت رَاجعا على أمل أنني كنت قد أودعت قَاضِي بَغْدَاد عشْرين ألف دِينَار وَبعد عشر سنوات عدت إِلَى بَغْدَاد صفر الْيَدَيْنِ رث الملابس هزيل الْجِسْم لشدَّة مَا قاسيت من مشاق السّفر والام ضنك الْعَيْش فِي تِلْكَ الْمدَّة وَذَهَبت إِلَى القَاضِي فَسلمت عَلَيْهِ وَجَلَست عِنْده وانصرفت وترددت عَلَيْهِ على هَذِه الْحَال يَوْمَيْنِ وَلما لم يقل لي شَيْئا ذهبت إِلَيْهِ فِي الْيَوْم الثَّالِث وَجَلَست طَويلا فَلَمَّا لم يبْق أحد اقْتَرَبت مِنْهُ وَقلت لَهُ بهدوء وبطء أَنا فلَان ابْن فلَان قد حججْت وغزوت وعانيت المتاعب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 والآلام وانفقت كل مَا أخذت معي من مَال وعدت بِالْحَال الَّتِي تراني عَلَيْهَا لَا ألوي على شَيْء إِنَّنِي فِي حَاجَة الان إِلَى أبريقي الذَّهَب اللَّذين أدخرتهما عنْدك لمثل هَذِه الْأَيَّام العصيبة وَلم يجب القَاضِي بِقَلِيل أَو كثير حَتَّى أَنه لم يُكَلف نَفسه أَن يسألني مَا تَقول أَنْت وَمَعَ من ونهض إِلَى حجرته وَتَرَكَنِي فعدت كسير الْفُؤَاد وَكنت أخجل لما كنت فِيهِ من حَال سَيِّئَة وعري ان أذهب إِلَى منزل أحد أصدقائي وَذَوي قرباي بل كنت أَنَام فِي الْمَسْجِد لَيْلًا وأتوارى فِي إِحْدَى الزوايا نَهَارا وَلم أطيل عَلَيْك الْقِصَّة لقد طرقت مَعَه الْمَوْضُوع مرَّتَيْنِ لكنه لم يجب بِشَيْء وَفِي الْيَوْم السَّابِع كَلمته بحدة وَشدَّة فَقَالَ لي إِنَّك مصاب بالهوس وَإِن عقلك قد تبلد من تَعب الطَّرِيق وغبارها فَأخذت تهذي كثيرا لست أعرفك وَلَيْسَ لدي خبر مِمَّا تَقول أما الرجل الَّذِي تذكر اسْمه فَكَانَ شَابًّا وسيم الْوَجْه ممتلىء الْجِسْم بهي الطلعة جميل الملبس قلت أَيهَا القَاضِي أَنا نَفسِي ذَلِك الشَّاب لَكِن سَبَب هزالي وصفرتي مَا قَضيته من عَيْش سيىء فِي تِلْكَ الْمدَّة أما قبح وَجْهي وصفرة لَونه فَلَيْسَ إِلَّا بِمَا أصبت بِهِ من جروح قَالَ إنهض وَلَا تصدع رَأْسِي إنهض وامض بالسلامة قلت أَيهَا القَاضِي لَا تفعل هَذَا اتَّقِ الله فَبعد هَذِه الدَّار دَار أُخْرَى وَلكُل عمل ثَوَاب وعقاب قَالَ لَا تتعبني قلت لَك من الذَّهَب حصتان ولي خمس فَلَنْ يجب قلت أَيهَا القَاضِي لَك أحد الإبريقين حَلَالا طيبا فَرد لي الاخر فإنني فِي عوز شَدِيد وَمَعَ هَذَا أوقع لَك بَرَاءَة تَامَّة بِشَهَادَة شُهُود عدُول بِأَن لَيْسَ بذمتك شَيْء قَالَ القَاضِي لقد أضناك الْجُنُون وَهَا أَنْت ذَا تَدور فِي فلكه حَتَّى لأستطيع أَن أحكم بجنونك وامر بإدخالك المستشفى ووضعك بالسلاسل والقيود بِحَيْثُ تبقى ثمَّة مَا دمت حَيا فَخفت وأيقنت أَن الرجل صمم على غصبي ذهبي وان النَّاس سيجرون على كل مَا يحكم بِهِ ونهضت بِرِفْق وَخرجت من عِنْده وَأَنا أردد الْمثل الْقَائِل بالملح يدرء فَسَاد اللَّحْم فَبِمَ يدرء فَسَاد الْملح ان القَاضِي مصدر كل الْأَحْكَام فَمن ذَا يسل الْعدْل مِنْهُ إِذا ظام فَلَو كَانَ عضد الدولة عادلا لما كَانَت عشْرين الْألف دِينَار بيد القَاضِي وَلما وصلت إِلَى مَا أَنا فِيهِ من جوع أَو تخليت عَن طمعي بِمَالي وملكي ومرتع صباي لما سمع الْمنْهِي من الرجل حِكَايَة حَاله تألم لَهُ ورق لحاله وَقَالَ أَيهَا الْفَتى الشهم إِنَّمَا تَأتي الامال بعد الْيَأْس وكل أَمرك إِلَى الله فَهُوَ عز وَجل الَّذِي يدبر أُمُور الْعباد ثمَّ قَالَ لَهُ لي فِي هَذِه الْقرْيَة صديق شهم مضياف وَأَنا ذَاهِب لزيارته فَهَل لَك وَقد راقتني رفقتك أَن نقضي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فِي بَيته وننتظر مَا يَجِيء بِهِ غَد وَمضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 بِهِ إِلَى منزل صديقه وَبعد أَن أكلُوا مَا تيَسّر لَهُم دخل الْمنْهِي إِحْدَى الغرف فشرح حَال الرجل فِي رِسَالَة وَأَعْطَاهَا اُحْدُ الْقرَوِيين وَقَالَ لَهُ إذهب إِلَى قصر عضد الدولة واطلب الْخَادِم فلَانا وَسلمهُ الرسَالَة وَقل لَهُ انها من فلَان يجب أَن توصلها حَالا وَتَأْتِي بِالْجَوَابِ وَمضى الرَّسُول وَأعْطى الرسَالَة الْخَادِم فأوصلها إِلَى عضد الدولة حَالا فَلَمَّا قَرَأَهَا عضد الدولة عض على إصبعه وَأرْسل شخصا قي الْحَال وَقَالَ أُرِيد أَن تحضر إِلَيّ الرجل عِنْد صَلَاة الْعشَاء فَقَالَ الْمنْهِي للشاب هيا بِنَا إِلَى الْمَدِينَة فَإِن عضد الدولة بعث فِي طلبنا نَحن الِاثْنَيْنِ وَهَذَا الرَّسُول رَسُوله فَقَالَ خير قَالَ الْمنْهِي لَا شَيْء سوى الْخَيْر رُبمَا تناهى إِلَى سَمعه كل مَا كنت تَقول لي فِي الطَّرِيق إِنَّنِي لامل أَن تصل الان إِلَى حَقك فتستريح مِمَّا أَنْت فِيهِ من شقاء فَنَهَضَ وَمضى بِالرجلِ إِلَى عضد الدولة وأخلى عضد الدولة الْمَكَان وَسَأَلَ الشَّاب عَن أمره من جَدِيد فَقص عَلَيْهِ الْقِصَّة كَمَا كَانَت من أَولهَا إِلَى اخرها فتأثر عضد الدولة لحاله وَقَالَ ان هَذَا الْأَمر مَنُوط بِنَا الان لَا بك فَالْقَاضِي عَامِلِي ومعالجة الْأَمر من واجبي فَالله عز وَجل وهبني الْملك لأحفظ الْحُدُود وأحميها وَلَا أدع شخصا يلْحق ضيما أَو ضَرَرا باخر بله القَاضِي الَّذِي وليته أُمُور الْمُسلمين ووكلت إِلَيْهِ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ وفرضت لَهُ أجرا شهريا كَيْمَا يسير أُمُور النَّاس بِالْحَقِّ وَيحكم بِالشَّرْعِ لَا يمِيل وَلَا يحابى وَلَا يرتشى أيقع هَذَا فِي عَاصِمَة ملكي من رجل عَالم فَتَأمل إِذن مَا يرتكبه الْعمَّال والحكام الشبَّان والمتهورون من خيانات فِي النواحي الْأُخْرَى لقد كَانَ هَذَا القَاضِي فِي بداية أمره فَقِيرا وَذَا عِيَال وان مَا فرضت لَهُ من أجر شَهْري لم يكن أَكثر مِمَّا يَكْفِيهِ كفاف عيشه لكنه يملك الْيَوْم فِي بَغْدَاد ونواحيها عددا من الضّيَاع والعقارات والحدائق والبساتين والمستغلات والقصور أما الة منزله وأدوات زينته وتجمله فَلَا حد لَهَا فَمن الْمُؤَكّد انه لم يكن فِي وَسعه أَن يمتلك كل هَذَا من أجره الشهري ذَاك بل أَقَامَهَا بأموال الْمُسلمين ثمَّ الْتفت نَحْو الرجل وَقَالَ لن أستمرأ الطَّعَام وألتذ النّوم قبل أَن أرد إِلَيْك حَقك إذهب وَخذ نفقاتك من خزينتنا ثمَّ اترك هَذِه الْمَدِينَة إِلَى أصفهان وأقم بهَا عِنْد فلَان وسنكتب إِلَيْهِ ليكرم وفادتك إِلَى ان نطلبك مِنْهُ فَأعْطَاهُ مِائَتي دِينَار ذَهَبا وَخَمْسَة أَثوَاب ثمَّ أنفذ إِلَى أصفهان فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أما عضد الدولة فَقضى ليلته كلهَا يفكر فِي الْحِيلَة الَّتِي يسْتَردّ بهَا المَال من القَاضِي قَالَ فِي نَفسه ان أَقبض على القَاضِي عنْوَة وأعذبه فَلَنْ يعْتَرف اَوْ يقر أَو يلبس نَفسه تُهْمَة الْخِيَانَة باية حَال من الْأَحْوَال فَيذْهب المَال سدى وتلوكني أَلْسِنَة النَّاس الَّذين لن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 يكون لَهُم من حَدِيث سوى أَن عضد الدولة يعذب رجلا كَبِيرا عَالما قَاضِيا دون حق فتشيع هَذِه السمعة السَّيئَة فِي الأرجاء عَليّ أَن أفكر فِي حل يثبت خِيَانَة القَاضِي وَيُعِيد إِلَى الرجل مَاله وَلما مضى على هَذَا الحَدِيث شهر أَو اثْنَان وَلم ير القَاضِي لصَاحب الذَّهَب من أثر قَالَ لقد كسبت عشْرين ألف دِينَار لَكِن لأصبر سنة أُخْرَى فقد يُنْهِي إِلَيّ أحد خبر موت الرجل لِأَن حَاله الَّتِي رَأَيْته عَلَيْهَا تنم عَن أَنه سيقضي قَرِيبا وَبعد مُضِيّ شَهْرَيْن على الْأَمر أرسل عضد الدولة فِي ظهيرة أحد الْأَيَّام وَقت القيلولة إِلَى القَاضِي من يستدعيه فاختلى بِهِ وَقَالَ أَيهَا القَاضِي أَتَدْرِي لماذا جشمتك عناء الْمَجِيء قَالَ الْملك أدرى قَالَ عضد الدولة اعْلَم أنني فِي تفكير دَائِم بالعاقبة والمصير وَلَقَد حرمت فِي هَذَا التفكير وَهَذِه السوداوية نعْمَة النّوم لَا معول على الدُّنْيَا ومملكتها وَلَا اعْتِمَاد على الْحَيَاة فالعاقبة لن تعدو أَمريْن فإمَّا أَن ينْقض علينا طَالب ملك وينتزع المملكة منا مِثْلَمَا انتزعناها نَحن من أَيدي الاخرين وَتَأمل مَا قاسيته حَتَّى اسْتَطَعْت الْوُصُول إِلَى الْملك مرّة وَاحِدَة وَإِمَّا أَن يَجِيء الْأَجَل بَغْتَة فَيُفَرق بَيْننَا وَبَين الْملك وَالسُّلْطَان قبل أَن تتَحَقَّق أمالنا ان كل نفس ذائقة الْمَوْت وَمَا الْعُمر إِلَّا صحيفَة أَعمالنَا فَإِن نَكُنْ صالحين نحسن إِلَى عباد الله سيظل النَّاس يذكروننا بِالْخَيرِ ويكيلون لنا الثَّنَاء مَا بقيت الدُّنْيَا وسننال ثَوَاب الاخرة وَإِلَى الْجنَّة وَنعم الْمصير وَإِن نَكُنْ أشرارا نسيء إِلَى الْعباد سيظلون يذكروننا بِالشَّرِّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأَنَّهُمْ كلما ذكرونا يلعنوننا وَيدعونَ علينا وَلنْ نجد يَوْم الْقِيَامَة غير الويل وَالْعَذَاب وَإِلَى جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير إِن كل مَا يُمكن فعله أَن نجهد فِي الطَّاعَة وإنصاف الْخلق وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَمَا أقصده من حَدِيثي إِلَيْك هُوَ أَن فِي قصري عددا من الْأَطْفَال وَالنِّسَاء خَاصَّة وَأمر الذُّكُور ايسر لأَنهم كالطيور يَسْتَطِيعُونَ الِانْتِقَال من إقليم إِلَى اخر إِن خطب هَؤُلَاءِ المخدرات أَسْوَأ فهن ضعيفات لَا حول لَهُنَّ وَلَا قُوَّة إِنَّنِي لقادر الْيَوْم على التفكير فِي أمرهن لكنه قد يدركني الْأَجَل غَدا أَو يفلت الْملك مني فَلَا أَسْتَطِيع أَن أقوم لَهُنَّ بِشَيْء لقد فَكرت فِي الْأَمر مَلِيًّا فَلم أجد فِي كل أرجاء المملكة الْيَوْم من هُوَ أتقى وَأكْثر أَمَانَة وتدينا وخوفا من الله وأقصر يدا مِنْك إِنَّنِي أَرغب فِي أَن أَضَع عنْدك مِائَتي ألف ألف دِينَار ذَهَبا نَقْدا وجواهر وَدِيعَة لَا يعلمهَا سوى الله عز وَجل وَنحن الِاثْنَيْنِ فَإِذا مَا جَاءَنِي أَجلي ووصلت بِهن الْحَال إِلَى حد لَا يقدرن مَعَه على كسب قوتهن اليومي ادعهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 سرا وَدون أَن يحس أحد وَقسم المَال بَينهُنَّ ثمَّ زوجهن سترا لَهُنَّ وَكيلا يحتجن أحد من النَّاس إِن هَذَا الْأَمر يَقْتَضِي أَن تخْتَار إِحْدَى حجرات بَيْتك الداخلية وتنشىء فِيهَا سردابا مُحصنا من الاجر المشوي ثمَّ تُخبرنِي بعد الِانْتِهَاء من بنائِهِ لامر فِي لَيْلَة مَا بإحضار عشْرين مجرما من السجناء الْمَحْكُوم عَلَيْهِم بِالْمَوْتِ لحمل المَال على كواهلهم إِلَى بَيْتك وَوَضعه فِي السرداب وإحكام سَده وتغطيته وَبعد عودتهم امْر بِقطع أَعْنَاقهم جَمِيعًا ليظل الْأَمر طي الكتمان قَالَ القَاضِي سمعا وَطَاعَة ساعمل مَا بوسعي لتنفيذ هَذَا الْأَمر ثمَّ هَمس فِي أذن أحد الخدم أَن اذْهَبْ إِلَى الخزينة وضع مِائَتي دِينَار من الذَّهَب المغربي فِي كيس وعد بهَا بِسُرْعَة وَلما أحضر الذَّهَب تنَاوله عضد الدولة وَوَضعه أَمَام القَاضِي وَقَالَ مِائَتَا الدِّينَار هَذِه لبِنَاء السرداب فَإِن لَا تَكْفِي أرسل إِلَيْك غَيرهَا قَالَ القَاضِي الله الله أَيهَا الْملك إِنَّنِي حَتَّى لَو بنيته بِمَالي الْخَاص لَا أكون فعلت شَيْئا قَالَ عضد الدولة بِشَرْط أَلا تنْفق من مَالك على شؤوني الْخَاصَّة فذهبك حلالك أَنْت وَحدك وَلَا تعلق لَهُ بِهَذَا الشان إِن تقم بالمهمة الَّتِي وَقع اختيارنا واعتمادنا عَلَيْك فِيهَا فقد أدّيت كل شَيْء قَالَ القَاضِي الْأَمر أَمرك يَا مولَايَ وَوضع القَاضِي مِائَتي الدِّينَار فِي كمه وَانْصَرف من عِنْد الْملك فِي حَال كَاد يخرج فِيهَا من جلده فَرحا وَقَالَ فِي نَفسه لقد حالفني الْحَظ والجاه فِي شيخوختي ستمتلك ذريتي الذَّهَب الَّذِي سيصير كُله إِلَيّ يَوْمًا إِذا مَا حَان اجل الْملك فَلَيْسَ لأحد سَنَد عَليّ سيصبح الذَّهَب كُله من نَصِيبي وَنصِيب أَوْلَادِي إِن صَاحب الإبريقين لم يسْتَطع وَهُوَ حَيّ ان يسْتَردّ مني دانقا وَاحِدًا من الْعشْرين ألفا فَمن سيقدر على الْحُصُول مني على شَيْء إِذا مَا مَاتَ الْملك أَو قتل وأسرع فِي بِنَاء السرداب الَّذِي فرغ مِنْهُ على أحكم حَال وأحسنها فِي شهر وَاحِد ثمَّ مضى إِلَى قصر عضد الدولة عِنْد صَلَاة الْعشَاء لَيْلَة فاستدعاه عضد الدولة إِلَيْهِ وحيدا وَقَالَ مَا الَّذِي أَتَى بك السَّاعَة قَالَ أردْت أَن أنهِي إِلَى الْملك أَن السرداب الَّذِي أَمر بإنشائه قد تمّ قَالَ عضد الدولة حسن جدا لقد كنت أعرف جديتك فِي الْأُمُور الْحَمد لله الَّذِي لم يخيب ظَنِّي فِيك فَإنَّك أرحت بالي من هَذَا الْأَمر الَّذِي لم أكف لَحْظَة عَن التفكير فِيهِ لقد أَعدَدْت من الْمبلغ الْمَذْكُور ألف ألف وَخَمْسمِائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ألف دِينَار من الذَّهَب والجواهر وَمَا أَزَال فِي حَاجَة إِلَى خَمْسمِائَة الْألف الْأُخْرَى الَّتِي أفردت لَهَا عددا من الْخلْع ومقادير من الْعود والعنبر والمسك والكافور وكل شَيْء وإنني فِي انْتِظَار باعة الذَّهَب بَين الفينة والفينة وَأَرْجُو أَن يتم بيعهَا فِي خلال هَذَا الْأُسْبُوع وحينذاك تحمل إِلَيْك الْأَمْوَال كلهَا دفْعَة وَاحِدَة لكنني ساجيء إِلَى بَيْتك لَيْلَة غَد بَغْتَة لإلقاء نظرة على السرداب وبنائه غير أنني لَا أريدك أَن تكلّف نَفسك شَيْئا لأنني سأعود حَالا ثمَّ صرف القَاضِي وَأرْسل رَسُولا إِلَى أصفهان فِي الْحَال لإحضار صَاحب الذَّهَب وَفِي منتصف اللَّيْلَة التالية ذهب عضد الدولة إِلَى منزل القَاضِي فَرَأى السرداب وَاسْتَحْسنهُ ثمَّ قَالَ للْقَاضِي يَنْبَغِي أَن تَأتي إِلَيّ يَوْم الثُّلَاثَاء لترى مَا أَعدَدْت من المَال فَقَالَ سمعا وَطَاعَة وَلما عَاد من منزل القَاضِي أَمر الْمُوكل بالخزينة أَن يضع مائَة وَأَرْبَعين إبريقا مَمْلُوءَة ذَهَبا فِي إِحْدَى الغرف وَأَن يضيف إِلَيْهَا ثَلَاث قَوَارِير مَمْلُوءَة لؤلؤا وكأسا ذهبية مَمْلُوءَة ياقوتا وثانية من لَعَلَّ وَأُخْرَى من فَيْرُوز لما فرغ الْمُوكل بالخزينة من ذَلِك وصل صَاحب إبريقي الذَّهَب يَوْم السبت واستدعى عضد الدولة القَاضِي وَأمْسك بِيَدِهِ وَأَخذه إِلَى الغرفة الَّتِى وضع فِيهَا المَال وبهت القَاضِي لما رأى الْأَمْوَال والجواهر وهاله ذَلِك فَقَالَ لَهُ عضد الدولة ترقب وُصُول كل هَذِه الْأَمْوَال فِي منتصف إِحْدَى اللَّيَالِي ثمَّ تركا الغرفة وَعَاد القَاضِي وفؤاده يخْفق فَرحا وَفِي الْيَوْم التَّالِي قَالَ عضد الدولة لصَاحب الذَّهَب أريدك أَن تذْهب الان الى القَاضِي وَتقول لَهُ لقد صبرت مُدَّة وراعيت لَك حرمتك لن أحتمل أَكثر من هَذَا فَأهل الْمَدِينَة كلهم يعرفونني ويعرفون مَا كَانَ لوالدي من مَال ونعمة وهم يشْهدُونَ على قولي ويصدقونه فِي كل مَكَان إِن ترد لي مَالِي فبها ونعمت وَإِلَّا اذْهَبْ الان إِلَى عضد الدولة شاكيا متظلما وَأجر عَلَيْك الخزي والعار لتَكون فِيك للنَّاس عِبْرَة ثمَّ انْتظر جَوَابه فَإِن أعَاد إِلَيْك ذهبك أحضرهُ إِلَيّ كَمَا هُوَ وَإِلَّا أَخْبرنِي بِمَا جرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَذهب الشَّاب إِلَى القَاضِي وَجلسَ بِالْقربِ مِنْهُ وَقَالَ لَهُ مَا أمره بِهِ عضد الدولة ففكر القَاضِي فِي نَفسه أَنه إِذا مَا شنع هَذَا الرجل عَليّ وَذهب إِلَى عضد الدولة فسيرتاب فِي أَمْرِي وَلَا يُرْسل تِلْكَ الْأَمْوَال إِلَى بَيْتِي من الأصوب ان أُعِيد للرجل مَاله لِأَن مائَة وَخمسين إبريقا مَمْلُوءَة ذَهَبا وعددا من الْجَوَاهِر أحسم على أَيَّة حَال فِي نِهَايَة الْأَمر من إبريقي ذهب اثْنَيْنِ وَقَالَ للشاب اصبر قَلِيلا فقد كنت أبحث عَنْك فِي شَتَّى أرجاء الدُّنْيَا وَبعد قَلِيل نَهَضَ القَاضِي وَدخل حجرَة ثمَّ نَادَى على الشَّاب ووقف إِلَى جَانِبه وَقَالَ أَنْت صديقي وَابْن صديقي وَأَنت مني بِمَنْزِلَة ابْني مَا فعلت ذَلِك مَعَك إِلَّا احْتِيَاطًا ومنذ ذَلِك الْوَقْت وَأَنا فِي طَلَبك الْحَمد لله أنني رَأَيْتُك ثَانِيَة لأتخلص من عبء أمانتك فذهبك مَا زَالَ كَمَا هُوَ فِي مَكَانَهُ ونهض القَاضِي فأحضر الإبريقين وَقَالَ أَهَذا ذهبك قَالَ الشَّاب أجل قَالَ اذْهَبْ الان إِلَى أَي مَكَان تشَاء فَخرج الشَّاب وأتى بحمالين إِلَى منزل القَاضِي وحملهما الإبريقين وَمضى بهما إِلَى قصر عضد الدولة وَكَانَ عضد الدولة فِي مجْلِس فِيهِ جَمِيع كبار الدولة لما دخل الرجل عَلَيْهِ بالإبريقين وَسلم فوضعهما أَمَام عضد الدولة الَّذِي استغرق فِي الضحك وَقَالَ الْحَمد لله أَنَّك توصلت إِلَى حَقك وَأَن خِيَانَة القَاضِي قد ثبتَتْ أَتَدْرِي مَا التدابير الَّتِي اتخذناها والسبل الَّتِي اتبعناها حَتَّى توصلت إِلَى ذهبك وتساءل الْحَاضِرُونَ عَن الْأَمر فسرد عصد الدولة عَلَيْهِم حِكَايَة الشَّاب والسبل الَّتِي سلكها هُوَ فِي ذَلِك فتملكهم الْعجب جَمِيعًا ثمَّ أَمر عضد الدولة حَاجِبه الْأَكْبَر ان اذْهَبْ وجئني بقاضي الْمَدِينَة حاسر الرَّأْس وعمامته ملفوفة حول عُنُقه وَلما أحضر القَاضِي إِلَى عضد الدولة بِهَذِهِ الْهَيْئَة وَنظر فَرَأى الشَّاب وَاقِفًا ثمَّة وَرَأى الإبريقين أَمَام عضد الدولة قَالَ واحسرتاه لقد قضي عَليّ وَأدْركَ ان كل مَا قَالَه لَهُ عضد الدولة وأظهره عَلَيْهِ لم يكن إِلَّا لأجل هذَيْن الإبريقين وَقَالَ لَهُ عضد الدولة أَن ترتكب أَنْت خِيَانَة وتضيع الْأَمَانَة وَأَنت رجل مسن وعالم وقاض فَكيف بالاخرين إِذن لقد بَان الان أَن كل مَا تملك وَمَا أنشأت لَيْسَ إِلَّا من أَمْوَال الْمُسلمين والرشوة إِنَّنِي مجازيك بِمَا تسْتَحقّ فِي الدُّنْيَا لَكِن الله هُوَ الَّذِي يعاقبك فِي الاخرة وإنني أهبك حياتك لسنك وعلمك أما أموالك وأملاكك فللخزينة كلهَا وصادر مَا كَانَ لَدَيْهِ من اموال وممتلكات وَلم يوله الْقَضَاء أَو أَي عمل اخر بعد ذَلِك ثمَّ أعْطى الشَّاب إبريقي ذهبه كَمَا هما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 السُّلْطَان مَحْمُود وَالْقَاضِي الخائن وَوَقع للسُّلْطَان مَحْمُود مثل هَذَا فقد نَاوَلَهُ رجل فِي الطَّرِيق شكوى فِيهَا وضعت عِنْد قَاضِي الْمَدِينَة ألفي دِينَار فِي كيس ديباج أَخْضَر مربوطا بإحكام ومختوما وَدِيعَة وَذَهَبت فِي سفر غير أَن اللُّصُوص على طَرِيق الْهِنْد سلبوني كل مَا كنت حملت معي فعدت واستعدت من القَاضِي وديعتي لكنني لما وصلت إِلَى الْبَيْت وَفتحت الْكيس فَإِذا مَا بِهِ دَنَانِير نحاسية فَرَجَعت إِلَى القَاضِي وَقلت لَهُ لقد أودعتك كيسا مليئا بِالذَّهَب لَكِن مَا فِيهِ الان نُحَاس فَأنى يكون هَذَا قَالَ أأريتني الذَّهَب أَو وزنته أَو عددته لما أودعتنيه لقد أودعتني كيسا مربوطا بإحكام ومختوما وَهَكَذَا استعدته وحينذاك سَأَلتك أَهَذا هُوَ كيسك والختم ختمك قلت هُوَ عينه وأخذته وانصرفت بالسلامة والان تَأتي بِهَذَا الزَّعْم الْبَاطِل الله الله أَيهَا الْملك الْعَادِل أَغِثْنِي فإنني لَا أقدر على رغيف خبز وَاحِد فتألم السُّلْطَان مَحْمُود لحاله وَقَالَ لتهدأ بَالا فسأتولى أَمرك بنفسي إذهب وأحضر الْكيس فَذهب الرجل وأحضره إِلَى مَحْمُود فقلبه وعاينه بدقة من كل أَطْرَافه لكنه لم يهتد إِلَى مَا يوحي بفتحه فَقَالَ للرجل اتركه عِنْدِي وَقد جعلت لَك ثَلَاثَة منوات خبز وَمن لحم يوميا وَعشرَة دَنَانِير شهريا من وكيلنا إِلَى أَن أتدبر أَمر ذهبك وَحَتَّى لَا تبقى دون مؤونة وَفِي ظهيرة أحد الْأَيَّام وَقت القيلولة وضع السُّلْطَان مَحْمُود الْكيس أَمَامه وَجعل يفكر كَيفَ اسْتَطَاعَ ذَلِك وهداه تفكيره أخيرا إِلَى أَنه رُبمَا فتح الْكيس وَأخرج ذهبه ثمَّ رفي ثَانِيَة وَكَانَ لمحمود غطاء مَذْهَب جميل مَوضِع على أحد المفارش وَفِي منتصف إِحْدَى اللَّيَالِي نَهَضَ مَحْمُود وَهَبَطَ من سطح الْبَيْت وَتَنَاول سكينا قد بهَا الغطاء مِقْدَار ذِرَاع ثمَّ عَاد إِلَى مَكَانَهُ واستيقظ فِي الصَّباح الباكر وَهَبَطَ من على السّقف أَيْضا وَخرج إِلَى الصَّيْد لثَلَاثَة أَيَّام وَكَانَ للمكان الَّذِي فِيهِ الغطاء فرَاش خَاص يقوم على تنظيفه فَلَمَّا ذهب إِلَيْهِ فِي الصَّباح وجده مشقوقا بِمِقْدَار ذِرَاع من وَسطه فخاف وغلبه الْبكاء خوفًا فَلَمَّا رَاه فرَاش اخر كَانَ فِي بَيت الْفراش يبكي هَكَذَا سَأَلَهُ مَاذَا حدث قَالَ كَانَ لأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 عِنْدِي ثارا فقد دلف شخص إِلَى صفة السُّلْطَان وَقد غطاءه ذِرَاعا إِن تقع عينه عَلَيْهِ فسيقتلني لَا محَالة فَقَالَ لَهُ الْفراش هَل رَاه أحد غَيْرك قَالَ لَا قَالَ لَا تقلق حل الْأَمر عِنْدِي فاسمع مَا أَقُول لقد خرج السُّلْطَان للصَّيْد لمُدَّة ثَلَاثَة أَيَّام وَفِي هَذِه الْمَدِينَة رفاء كهل اسْمه أَحْمد دكانه فِي نَاحيَة كَذَا انه ماهر فِي الرفو وكل رفائي الْمَدِينَة تلاميذ لَهُ خُذ الغطاء إِلَيْهِ وأعطه مَا يطْلب من أجر فسيرفوه رفوا لن تَسْتَطِيع حَتَّى الصفوة المختارة من أساتذة هَذَا الْفَنّ معرفَة مَكَان الشق ولف الْفراش الغطاء فِي إِزَار حَالا وَمضى بِهِ إِلَى دكان أَحْمد الرفاء وَقَالَ كم تُرِيدُ من أجر على رفو هَذَا الغطاء بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يعرف مَكَان شقَّه قَالَ نصف دِينَار فَقَالَ الْفراش ليكن دِينَارا على أَن لَا تألو فِيهِ من حذقك ومهارتك شَيْئا قَالَ الرقاء أشكرك ولتهدأ بَالا فَأعْطَاهُ دِينَارا وَقَالَ أريده بِسُرْعَة قَالَ تعال غَدا مَعَ صَلَاة الْعَصْر وخذه وَفِي الْيَوْم التَّالِي ذهب الْفراش فِي الْموعد الْمَضْرُوب فَوضع الرفاء الغطاء أَمَامه فَلم يسْتَطع أَن يعرف الْمَكَان الَّذِي شقّ مِنْهُ فسر جدا وَعَاد إِلَى الْقصر وَأَعَادَهُ إِلَى مَكَانَهُ الأول وَلم عَاد مَحْمُود من الصَّيْد ذهب إِلَى صفته ظهرا لينام رأى الغطاء سالما فَقَالَ إِلَيّ بالفراش فَلَمَّا حضر الْفراش قَالَ مَحْمُود لقد كَانَ الغطاء مشقوقا فَمن ذَا الَّذِي رتقه قَالَ يَا مولَايَ إِنَّه لم يشق قطّ هم يكذبُون قَالَ مَحْمُود يَا أَحمَق لَا تخف فَأَنا الَّذِي شققته وَكنت أهدف من وَرَاء هَذَا شَيْئا أصدقني القَوْل من ذَا الَّذِي رفاه لقد أتقنه حَقًا قَالَ يَا مولَايَ الرفاء فلَان قَالَ أريدك أَن تحضره إِلَيّ حَالا قل لَهُ ان السُّلْطَان يُرِيدُكَ وَحَتَّى لَا تذْهب بِهِ الظنون كل مَذْهَب قل لَهُ أَنهم يريدونك فِي الْقصر لأمر بسيط فتفضل وعندما يصل أدخلهُ عَليّ وَمضى الْفراش مسرعا وأحضر الرفاء بَين يَدي مَحْمُود فخاف لما رأى السُّلْطَان جَالِسا وَحده وَلما وَقعت عين مَحْمُود عَلَيْهِ قَالَ تقدم يَا هَذَا ثمَّ قَالَ لَهُ أَأَنْت الَّذِي رفوت الغطاء قَالَ أجل قَالَ السُّلْطَان لقد أتقنته جيدا قَالَ بحقك با مولَايَ انني قد أتقنته جيدا قَالَ مَحْمُود أيوجد فِي الْمَدِينَة أمهر مِنْك قَالَ لَا قَالَ السُّلْطَان أتصدقني القَوْل إِن سَأَلتك شَيْئا قَالَ لَيْسَ ثمَّة شيىء أجدى من الصدْق مَعَ الْمُلُوك قَالَ السُّلْطَان هَل رفوت فِي بَيت أحد الأثرياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 كيس ديباج أَخْضَر فِي سِتّ أَو سبع السنوات الْأَخِيرَة قَالَ أجل قَالَ السُّلْطَان أَيْن قَالَ فِي بَيت قَاضِي الْمَدِينَة وَقد أَعْطَانِي دينارين أجرا قَالَ السُّلْطَان أتعرف الْكيس الَّذِي رفوته إِن تره قَالَ أجل وَمد السُّلْطَان يَده تَحت المفرش فَتَنَاول الْكيس وَأَعْطَاهُ الرفاء وَقَالَ أَهَذا هُوَ ذَلِك الْكيس قَالَ هُوَ نَفسه فَقَالَ السُّلْطَان أَيْن الْمَكَان الَّذِي رفوته فِيهِ أرنية وَوضع الرفاء إصبعه عَلَيْهِ فَعجب السُّلْطَان لمهارته فِي دقة رفوه وَقَالَ أَتَشهد على القَاضِي إِن دعت الْحَاجة لذَلِك قَالَ وَلم لَا فَأرْسل مَحْمُود إِلَى القَاضِي رَسُولا يستدعيه وَقَالَ لاخر ادْع لي صَاحب الْكيس فَلَمَّا حضر القَاضِي سلم وَجلسَ كالعادة فَالْتَفت مَحْمُود نَحوه وَقَالَ أَنْت رجل عَالم وعجوز عهِدت إِلَيْك بِالْقضَاءِ ووليتك أَمْوَال الْمُسلمين ودماءهم واعتمدت عَلَيْك فِي حِين أَن فِي هَذِه الْمَدِينَة خَاصَّة ومملكتي عَامَّة ألفي رجل عاطلين وهم أعلم مِنْك أفصحيح أَن تخون الْأَمَانَة وتأكل كل مَال امرىء مُسلم ظلما وعدوانا وتتركه محروما لَا يلوي على شَيْء قَالَ القَاضِي يَا مولَايَ مَا هَذَا الْكَلَام وَمن ذَا الَّذِي يَقُوله إِنَّنِي لم أفعل من ذَلِك شَيْئا فَقَالَ مَحْمُود أَيهَا الْمُنَافِق الْكَلْب أَنْت فعلت ذَلِك وانا الَّذِي أَقُول هَذَا وَأرَاهُ الْكيس وَقَالَ هَذَا هُوَ الْكيس الَّذِي فَتحته وأخرجت الذَّهَب مِنْهُ وبدلته بنحاس ثمَّ أمرت برفوه وَبعد ذَلِك قلت لصَاحبه لقد أحضرته مربوطا مَخْتُومًا وَهَكَذَا استعدته أوزنت عَليّ شَيْئا اَوْ أريتنيه أهذه هِيَ سيرتك ومسلكك فِي أُمُور الدّين قَالَ القَاضِي إِنَّنِي لم أر هَذَا الْكيس قطّ وَلَا علم لي بِمَا تَقول فَقَالَ مَحْمُود إِلَيّ بِالرجلَيْنِ فَذهب أحد الخدم وأحضر صَاحب الْكيس والرفاء وأدخلهما على مَحْمُود فَقَالَ يَا كَذَّاب هَذَا صَاحب الذَّهَب وَهَذَا الَّذِي رفى الْكيس من هُنَا فَخَجِلَ القَاضِي واصفر وَجهه وَأخذ يرتجف خوفًا وَلم يسْتَطع التفوه بِشَيْء فَقَالَ مَحْمُود خذوه وتولوا أمره وأريده أَن يُعِيد للرجل ذهبه الان وَإِلَّا أمرت بِضَرْب عُنُقه وسامر بعد ذَلِك بِمَا يجب فعله فَأخْرج القَاضِي من عِنْد مَحْمُود وَوضع فِي دَار الخفراء حَيْثُ قيل لَهُ سلم الذَّهَب فَطلب القَاضِي وَكيله ودله على مَكَان الذَّهَب فَذهب الْوَكِيل وأحضر الألفي دِينَار وَهِي من الذَّهَب النَّيْسَابُورِي وَأَعْطَاهَا صَاحبهَا وَفِي الْيَوْم التَّالِي جلس مَحْمُود لمظالم وأعلن بِحُضُور الكبراء خِيَانَة القَاضِي على الْمَلأ ثمَّ أَمر بإحضاره وتعليقه منكس الرَّأْس من على شرفات الْقصر لَكِن الكبراء تشفعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 لَهُ بِحجَّة أَنه رجل مسن وعالم على أَن يفْدي نَفسه بِخَمْسِينَ ألف دِينَار فَأنْزل بعد ذَلِك وَأخذ الْمبلغ مِنْهُ وَلم يوله مَحْمُود الْقَضَاء بعد تِلْكَ الْحَادِثَة الْبَتَّةَ إِن قصَص الْمُلُوك من هَذَا الْقَبِيل كَثِيرَة ذكرت هَذَا الْقدر مِنْهَا ليعلم سيد الْعَالم خلد الله ملكه كَيفَ كَانَ الْمُلُوك عدلا وإنصافا وَكَيف كَانُوا يفكرون فِي سَبِيل إِيصَال المظلومين إِلَى حُقُوقهم وردهَا إِلَيْهِم وَمَا السبل الَّتِي سلكوها فِي إِزَالَة المفسدين ومحوهم من على وَجه الْمَعْمُور وَأَن الْملك ذَا الرَّأْي الْقوي الصائب أجدى من الْجَيْش الْقوي وَأحمد الله أَن هذَيْن الْأَمريْنِ متوافران فِي مولى الْعَالم هَذَا الْفَصْل وقف على الجواسيس والعيون ان عَمَلهم يَنْبَغِي ان يولاه المعتمدون فَقَط فقد كَانَ الْمُلُوك كلما عثروا على أَمْثَال هَؤُلَاءِ يرسلونهم فِي المهام إِلَى شَتَّى الأنحاء والأطراف فِي اسْتِمْرَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الْفَصْل الرَّابِع عشر فِي الرُّسُل والسعاة يَنْبَغِي وضع السعاة على الطّرق الْمَعْرُوفَة دَائِما وَتَخْصِيص أجور شهرية ومكافئات لَهُم فَبِهَذَا يهتمون بِنَقْل مَا يَقع من أَحْدَاث واخبار ليل نَهَار من على بعد خمسين فرسخا وكما جرت بِهِ الْعَادة من قبل يجب تعْيين نقباء لمراقبتهم والاشراف عَلَيْهِم حَتَّى لَا يتوانوا فِي أَدَاء واجباتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الْفَصْل الْخَامِس عشر فِي الحيطة فِي إصدار الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة قي السكر والصحو إِن مَا يصل ألى الدِّيوَان والخزينة فِي مَا يتَعَلَّق بالمهمات والولايات والأقطاع والصلات من أوَامِر وَأَحْكَام قد يصدر بَعْضهَا فِي حَال انتشاء وغبطة ولدقة هَذَا الْأَمر تنبغي الحيطة التَّامَّة فِيهِ وَيَنْبَغِي لما قد يَقع من تفَاوت فِيهَا بَين النقلَة أَو أَنهم لَا يسمعونها كَمَا هِيَ أَن تناط بشخص وَاحِد فَقَط ينقلها بِنَفسِهِ لَا ينيب عَنهُ أحدا وَيشْتَرط عدم تَنْفِيذ هَذِه الْأَوَامِر وَالْعَمَل بهَا قبل أَن يعرضهَا الدِّيوَان على الأعتاب الملكية مرّة أُخْرَى وَإِن تعدد ناقلوها وموصلوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الْفَصْل السَّادِس عشر فِي الْوَكِيل الْخَاص وشروط عمله وأهميته لقد غَدا هَذَا الْعَمَل الَّذِي كَانَ لَا يوله إِلَّا شخص مَعْرُوف ومحترم مهملا مَهْجُورًا فِي هَذِه الْأَيَّام على من يتَوَلَّى الْأَشْرَاف على شؤون تموين الْملك ومطبخه وإصطبله وقصوره الْخَاصَّة وَولده وحاشيته وخدمه أَن يوطن نَفسه للمثول بَين يَدَيْهِ شهريا بل يوميا وَفِي أَي وَقت ليعرض الْأَحْوَال وَهُوَ الْعَارِف بِكُل مَا فِي الْمجْلس العالي ويستطلع رَأْي السُّلْطَان ويطلعه على كل مَا يجْرِي وكل مَا يُعْطِيهِ وَيَأْخُذهُ وَيجب أَن يكون للْوَكِيل الاحترام التَّام ليتَمَكَّن من الْقيام بِعَمَلِهِ بدقة ونظام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الْفَصْل السَّابِع عشر فِي ندماء الْملك ومقربيه وتنظيم أُمُورهم لَا مندوحة للْملك من اتِّخَاذ الندماء الْأَكفاء مِمَّن ينْطَلق مَعَهم على سجيته ويطارحهم مَا يُرِيد دونما حرج ذَلِك أَن مجالسة الْمُلُوك الكبراء وحكام الْأَطْرَاف وقادة الْجَيْش كثيرا تُؤثر فِي هيبتهم وعظمتهم وتقديرهم وتزيد من جسارة أُولَئِكَ مَعَهم وَجُمْلَة القَوْل أَن على الْمُلُوك أَلا يتخذوا ندماءهم مِمَّن أسندوا إِلَيْهِم مناصب ومقامات وأعمالا وَألا يسندوا للنداماء أَي عمل أبدا لأَنهم بِمَا لَهُم فِي رحاب الْملك من حظوة قد يتطاولون ويتسببون فِي إِيذَاء النَّاس وإرهاقهم الْعَامِل يَنْبَغِي أَن يهاب الْملك دَائِما أما النديم فجراته وجسارته مَعَه مرغوبة وَإِلَّا فَإِن الْملك لَا يَسْتَطِيب منادمته وَلَا يهش لَهَا فطبع الْملك ينبسط بالندامى وللندماء اوقات مَعْلُومَة فَبعد انفضاض اجْتِمَاع الْملك بالكبراء وإنصرافهم من عِنْده يبْدَأ دور الندامى وللنديم فَوَائِد عدَّة أَولهَا إيناس الْملك وَثَانِيها أَن النديم بِحكم وجوده مَعَ الْملك ليل نَهَار يكون بِمَثَابَة الحامي لَهُ والذائد عَنهُ والمحافظ عَلَيْهِ فَإِذا مَا حاق بِهِ وَالْعِيَاذ بِاللَّه خطر مَا فَإِن النديم لَا يخْشَى أَن يَجْعَل من نَفسه درعا يدرؤه بهَا وَثَالِثهَا أَنه يُمكن للْملك تقليب الحَدِيث بجده وهزله مَعَ النديم فِي حِين يتَعَذَّر مثل هَذَا مَعَ الوزراء والكبراء لأَنهم أَصْحَاب مناصب ومقامات وعمال الْملك وَرَابِعهَا واخرها أَنه بِحكم جرْأَة الندامى وجسارتهم يُمكن الِاسْتِمَاع مِنْهُم إِلَى أَشْيَاء كَثِيرَة وَمَعْرِفَة أُمُور وأحوال عديدة من خير وَشر فِي صحو وسكر مِمَّا لَا يَخْلُو من الْفَائِدَة والصالح الْعَام لَكِن يَنْبَغِي أَن يكون النديم كريم الْمَعْدن فَاضلا وسيما نقي الْمَذْهَب حَافِظًا للسر نظيف الملبس عَارِفًا بِكَثْرَة للأسمار والقصص والنوادر هزليها وجديها حسن الرِّوَايَة يعرف لكل مقَام مقاله مجيدا للعب النَّرْد وَالشطْرَنْج وحبذا لَو أَنه يجيد الْغناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَالضَّرْب على الالات الموسيقية وَيَنْبَغِي أَن يكون مُوَافقا للموك دَائِما يردد بخ وأحسنت مَا إِن ينْطق الْملك شَيْئا أَو يَفْعَله وَألا ينصب من نَفسه معلما يَقُول افْعَل هَذَا وَلَا تفعل ذَلِك ولماذا فعلت ذَلِك وَيجب أَلا تفغل هَذَا فَهَذِهِ أُمُور يصعب على الْمُلُوك قبُولهَا وتحملها وَهِي تجر إِلَى الْكَرَاهِيَة أما فِيمَا يتَعَلَّق بالمعاشرة والتنزه ومجالس الْأنس وَالشرَاب وَالصَّيْد واللعب بالطبطابة وَالْميسر وَغَيرهَا فَمن الْأَفْضَل أَن يتدبرها الْمُلُوك مَعَ الندماء لأَنهم إِنَّمَا أعدُّوا لمثل هَذَا وَأما مَا يخْتَص بشؤون المملكة والعمران وَالْحَرب والهجوم والعقوبات والذخائر والصلات وَالسّفر وَالْإِقَامَة والجيش والرعية وأمثال هَذَا فَمن الأولى تدبره مَعَ الوزراء وكبراء الدولى والمسنين من ذَوي التجارب والخبرات والأسفار فهم فِي هَذِه الْأُمُور أخبر وأدرى وأدهى وَهَكَذَا يوضع كل أَمر فِي نصابه لقد اتخذ بعض الْمُلُوك ندمائهم من الْأَطِبَّاء والمنجمين وَقَالُوا الطَّبِيب يبين مَنَافِع كل مَأْكُول ومضاره وَينْصَح الْملك بِمَا يُوَافقهُ وَلَا يُوَافقهُ ويحفظ لَهُ سَلامَة مزاجه أما المنجم فيرقب الْوَقْت ويعلن عَن أَوْقَات السعد والنحس ويختار وَقت كل مَا يَنْوِي الْملك الْقيام بِهِ من أَعمال فِي حِين عدهما بعض الْمُلُوك عبئا قَالُوا إِن الطَّبِيب وَلَا مرض يحول بَيْننَا وَبَين الْأَطْعِمَة الشهية دَائِما ويصف لنا الْأَدْوِيَة ويفصدنا دون تَعب أَو ألم أما المنجم فيمنعنا من مزاولة الْأَعْمَال وَأَدَاء الْوَاجِبَات والمهام وَحين تنعم النّظر تَجِد أَنَّهُمَا يحولان دَائِما بَيْننَا وَبَين تَحْقِيق أهدافنا فضلا عَن لذائذ الدُّنْيَا وشهواتها وينغصان علينا عيشنا وَهَذَا مَا يتطلب استدعاؤهما وَقت الْحَاجة فَقَط ويفضل ان يكون الندماء من ذَوي التجارب والأسفار وَمِمَّنْ خدموا العظماء والأكابر فَإِذا مَا أَرَادَ النَّاس التعرف على أَخْلَاق الْملك وعاداته فَإِنَّهُم يقيسونه بندمائه فَإِن يَكُونُوا ذَوي أَخْلَاق حميدة وطباع رحبة صبرا وَذَوي شهامة وظرف يدركوا انئذ أَن الْملك حسن الْخلق والطباع مَحْمُود السِّيرَة حُلْو الشَّمَائِل والعادات وَإِن يَكُونُوا مقطبي الْوُجُوه متعجرفين مستخفين متكبرين بخلاء رعناء وَمِمَّنْ يطْلبُونَ الْمحَال فَإِن النَّاس يستدلون على أَن الْملك سيء الطَّبْع والخلق والسيرة مُمْسك شرير متهور وَلكُل نديم رُتْبَة ومقام إِذْ خصصت أَمَاكِن لجُلُوس بَعضهم وأماكن لوقوف بَعضهم الاخر فِيمَا كَانَت الْعَادة قَدِيما فِي مجَالِس الْمُلُوك وَالْخُلَفَاء وَمَا زَالَ هَذَا الرَّسْم ساريا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الأسرات العريقة إِلَى الْيَوْم فللخليفة من الندماء مَا كَانَ لابائه من قبل أما سُلْطَان غزنين فَكَانَ لَهُ عشرُون نديما عشرَة جُلُوس وَعشرَة قيام وَقد حذا حَذْو السامانيين فِي هَذَا وَيَنْبَغِي أَن تكون لندامى الْملك رواتب لعيشهم وَحُرْمَة تَامَّة بَين حشمه أما هم فَعَلَيْهِم أَن يَكُونُوا متحفظين مهذبين وللملك محبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الْفَصْل الثَّامِن عشر فِي استشارة الْملك للحكماء والمسنين فِي الْأُمُور الْمُشَاورَة فِي الْأُمُور من قُوَّة رَأْي الْمَرْء وَكَمَال عقله وَبعد نظره فَلِكُل امرىء علم وَالنَّاس متفاوتون فِيمَا يعْرفُونَ فثمة كثير الْعلم والدراية واخر قليلهما وَمِنْهُم ذُو الْعلم الَّذِي لم يزاوله وَلم تعركه التجارب واخر عَالم خَبِير مجرب فَالَّذِي قَرَأَ علاج الالام والأدواء وَحفظ أَسمَاء الْأَدْوِيَة جَمِيعهَا من بطُون الْكتب حسب لَا يُمكن بأية حَال أَن يقف على قدم الْمُسَاوَاة مَعَ من عالج الْأَمْرَاض والعلل مَرَّات كَثِيرَة وَعرف الْأَدْوِيَة عَن خبْرَة وتجربة وَلَا يُمكن كَذَلِك مُسَاوَاة من سَافر كثيرا وطوف فِي الافاق وذاق حرهَا وبردها عَرك الْأَعْمَال بِنَفسِهِ بِمن لم يُسَافر وَلم يجب الْبلدَانِ ويقتحم ميدان الْعَمَل أَو يخض غمار الْأُمُور قطّ قيل فِي هَذَا الْمَعْنى يَنْبَغِي تدبر الْأُمُور باستشارة الْحُكَمَاء والمسنين وَذَوي التجارب والأسفار وَمن النَّاس أَيْضا من هُوَ متوقد الذِّهْن يتَبَيَّن الْأُمُور بِسُرْعَة وَمن هُوَ بطيء الْفَهم قَالَت الْحُكَمَاء إِن تَدْبِير رجل وَاحِد بِقُوَّة رجل وَاحِد وتدبير اثْنَيْنِ بِقُوَّة اثْنَيْنِ وتدبير عشرَة بِقُوَّة عشرَة وعَلى أَيَّة حَال فطاقة عشرَة رجال أَكثر من طَاقَة رجل وَاحِد وَأقوى وخطة عشرَة أشخاص أقوى من خطة شَخْصَيْنِ أَو ثَلَاثَة أَو خَمْسَة وَالنَّاس قاطبة متفقون على أَنه لم يكن فِي الْبشر أعلم وَأحكم من نَبينَا مُحَمَّد الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقد اجْتمعت لَهُ الْعُلُوم كلهَا وَكَانَ يعرف الْمُسْتَقْبل مَعْرفَته الْمَاضِي وَقد اطلع على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجنَّة وَالنَّار واللوح والقلم وَالْعرش والكرسي وَمَا بَين كل اثْنَيْنِ مِنْهَا وَكَانَ جِبْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام يهْبط عَلَيْهِ دَائِما ويوحي إِلَيْهِ بِمَا كَانَ وَبِمَا لم يكن وَمَعَ مَا كَانَ لَهُ من فَضَائِل ومعجزات فقد خاطبه الله تَعَالَى بقوله {وشاورهم فِي الْأَمر} وَمَعَ أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يكن فِي حَاجَة إِلَى المشورة فَليعلم أَن لَيْسَ ثمَّة مَخْلُوق يُمكن أَن يكون فِي غنى عَنْهَا فعلى الْملك إِذن إِذا مَا هم الْقيام بِعَمَل مَا أَو اعْتَرَضَهُ أَمر ان يستشير مسني مَمْلَكَته المحنكيين ومؤيديها وأولي الْأَمر فِيهَا ليدلي كل مِنْهُم بِمَا يعن لَهُ من رَأْي فِي الْمَوْضُوع ثمَّ تقَابل اراؤهم بِمَا يرَاهُ الْملك فَبعد أَن يظْهر كل مِنْهُم رايه وَيسمع أَقْوَال الاخرين واراءهم لَا بُد من بروز الرَّأْي الصَّوَاب من بَينهَا جَمِيعًا والرأي الصائب هُوَ الَّذِي تجمع عَلَيْهِ الْعُقُول المتكافئة بِأَن هَذَا هُوَ الَّذِي يجب فعله أما عدم المشورة فِي الْأُمُور فَمن ضعف الرَّأْي ويدعى الشَّخْص من هَذَا الصِّنْف بالمتشبث أَو المستبد برايه وكما أَنه لَا يتسنى الْقيام بِأَيّ عمل بِغَيْر أَهله فَإِن أَي أَمر لَا يَسْتَقِيم جيدا دون مشورة أما سيد الْعَالم خلد الله ملكه فقد اجْتمع لَهُ وَالْحَمْد لله الرَّأْي الْقوي وَأهل الْعَمَل والمشورة وَمَا هَذَا الْقدر الَّذِي ذكر هُنَا إِلَّا مُرَاعَاة لشرط الْكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الْفَصْل التَّاسِع عشر فِي المختارين وأسلحتهم ومعداتهم وزينتهم يَنْبَغِي أَن يكون فِي الْقصر مِائَتَا رجل من المختارين الَّذين يختارون عَادَة من حَيْثُ الْمظهر الْحسن والطول الفارع والرجولة والشجاعة التامتين وَيَنْبَغِي أَن يكون مائَة مِنْهُم من خُرَاسَان وَالْمِائَة الْأُخْرَى من الديالمة ليقوموا جَمِيع بملازمة الْملك وخدمته فِي حلّه وترحاله وَيجب أَن يظلوا بألبسة جميلَة فِي الْقصر دَائِما وَيجب ان تعد لَهُم مِائَتَا قِطْعَة سلَاح تسلم إِلَيْهِم وتسترد مِنْهُم فِي أَوْقَات مَعْلُومَة على أَن يكون من بَين هَذِه الأسلحة عشرُون ترسا وحمالة سيف من ذهب وَمِائَة وَثَمَانُونَ ترسا وحمالة ورمحا خطيا من فضَّة كَمَا يَنْبَغِي أَن يظهروا فِي ألبسة ثمينة وَأَن تجرى عَلَيْهِم رواتب دائمة وَيجب أَن يكون لكل خمسين مِنْهُم نقيب يتَوَلَّى شؤونهم والإشراف عَلَيْهِم وإصدار الْأَوَامِر وَإسْنَاد المهام إِلَيْهِم وَيَنْبَغِي أَن يَكُونُوا جَمِيعهم خيالة مجهزين بِكُل الْوَسَائِل والمعدات حَتَّى لَا يعْجزُوا عَن أَدَاء الْوَاجِبَات المنوطة بهم حِين الملمات وَيَنْبَغِي أَن تسجل فِي الدِّيوَان باستمرار اسماء أَرْبَعَة الاف راجل من كل الْأَجْنَاس احْتِيَاطًا ألف للْملك خَاصَّة وَثَلَاثَة الاف لأفواج الْأُمَرَاء وقادة الْجَيْش للاستعانه بهم فِي الملمات وَحين الْحَاجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الْفَصْل الْعشْرُونَ فِي اعداد الأسلحة المرصعة وزينة الْقصر يَنْبَغِي إعداد عشْرين قِطْعَة سلَاح خَاصَّة مرصعة بالجواهر وَغَيرهَا ووضعها فِي الخزينة فَفِي كل وَقت تُقَام فِيهِ الاحتفالات أَو يصل الرُّسُل من أرجاء الأَرْض يتقلد هَذِه الأسلحة عشرُون غُلَاما بألبستهم الجميلة ويقفون بهَا حول سَرِير الْملك وَمَعَ أَن الْملك بِحَمْد الله تَعَالَى بلغ مرتبَة تَجْعَلهُ فِي غنى عَن مثل هَذَا إِلَّا أَنه تجب مُرَاعَاة زِينَة الْملك والمملكة والحفاظ عَلَيْهِمَا والاهتمام بهما فزينة كل ملك وعدته يَنْبَغِي أَن تَكُونَا على قدر همته وَملكه وَلَيْسَ فِي هَذِه الْأَيَّام ملك فِي الْعَالم أعظم من مولى الْعَالم خلد الله ملكه أَو أوسع مِنْهُ مملكة فَمن الْوَاجِب إِذن أَن يكون لَهُ عشر أَضْعَاف مَا للملوك الاخرين فِي كل شَيْء وَمِائَة مثل إِن يكن فهم عشرَة لتوافر كل مَا يَنْبَغِي توافره من همة والة وعدة ومروءة وعظمة وَملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الْفَصْل الْحَادِي وَالْعشْرُونَ فِي أَحْوَال الرُّسُل وأساليبهم وتنظيم مهامهم حِين يفد الرُّسُل من الْبلدَانِ الْمُجَاورَة والممالك الْمُخْتَلفَة وَلَا يدْرِي بهم أحد إِلَّا عِنْد وصولهم أَو أَن أحدا لَا يتعهدهم وَلَا يقدم لَهُم شَيْئا فِي مجيئهم وورودهم فَإِنَّهُم يحملون هَذَا محمل الْغَفْلَة والتهاون فِي الْأُمُور يَنْبَغِي أَن يُنَبه على عُمَّال الْحُدُود بِأَن يرسلوا حَال قدوم أَي شخص خيالا فَوْرًا يخبر عَمَّن هُوَ القادم وَعَن عدد خيالته وراجليه ومعداته وخدمه وحشمه والمهمة الَّتِي هُوَ أت من اجلها كَمَا يجب أَن ينتدبوا شخصا مِمَّن يوثق بهم ويعتمد عَلَيْهِم لمرافقتهم وإيصالهم إِلَى إِحْدَى المدن الْمَعْرُوفَة ثمَّ تحويلهم إِلَى وُلَاة الْأَمر فِيهَا الَّذين يَنْبَغِي عَلَيْهِم أَيْضا أَن يقومُوا بالدور نَفسه فيأخذوهم إِلَى مَدِينَة أُخْرَى وَهَكَذَا دواليك إِلَى أَن ينْتَهوا إِلَى الْقصر وَيَنْبَغِي الإيعاز إِلَى الْعمَّال والمستقطعين فِي كل الْأَمَاكِن العامرة الاهلة الَّتِي يصل إِلَيْهَا الوافدون وَيحلونَ بهَا أَن يكرموا وفادتهم ويحسنوا معاملتهم ويقدموا لَهُم أحسن مَا عِنْدهم من طَعَام وَغَيره وَأَن يصرفوهم راضين فرحين فِي ذهابهم وأيابهم لِأَن مَا يعاملون بِهِ من إِحْسَان أَو إساءة لَيْسَ فِي وَاقع الْأَمر إِلَّا مُعَاملَة للْملك الَّذِي أوفدوا من لَدنه والملوك دَائِما يحفظون حُرْمَة بَعضهم بَعْضًا ويكرمون رسلهم إِلَى حد يرفع من أقدارهم وجاههم لَا يقلل مِنْهَا حَتَّى فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَت تنشب فِيهِ الخلافات ويستفحل الْخطر بَين الْمُلُوك كَانَ الرُّسُل يَغْدُونَ وَيَرُوحُونَ فيؤدون الرسائل على النَّحْو الَّذِي كلفوا بِهِ دون أَن يمسهم ضرّ أَو يقل الاحتفاء بهم عَمَّا جرت بِهِ الْعَادة لِأَن أَي تصرف غير هَذَا يكون شينا على صَاحبه فَالله عز وَجل يَقُول فِي مُحكم كِتَابه الْكَرِيم {وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 مآرب أُخْرَى من وَرَاء إيفاد الرُّسُل وَمِمَّا تجب مَعْرفَته أَيْضا أَن بغية الْمُلُوك من إيفاد رسلهم إِلَى بَعضهم لَا تَنْحَصِر فِي إِيصَال رسائلهم وأخبارهم وإظهارها على الْمَلأ حسب إِنَّمَا تمتد ماربهم وأهدافهم السّريَّة إِلَى أَكثر من هَذَا انهم يرْمونَ إِلَى استطلاع وضع الطّرق والشعاب ومياه الْأَنْهَار أيستطيع الْجَيْش أَن يتخطاها أم لَا ثمَّ إِلَى تبين المواطن الَّتِي يتوافر فِيهَا الْعلف وينعدم وَإِلَى معرفَة الْعمَّال وأولي الْأَمر فِي كل نَاحيَة وَصوب وَمن ماربهم أَيْضا معرفَة عدد جَيش ذَلِك الْملك وَمَا يملك من الات وَعدد واستطلاع خوانه ومجلسه وترتيب قصره وبلاطه وَكَيْفِيَّة مُجَالَسَته ومعاشرته ومنادمته وصيده ولعبه بالطباطبة وخلقه وَسيرَته وهباته وَكَرمه وسعيه وجده ومظهره وأعماله أظالم أم عَادل أعجوز أم شَاب أعامرة ولَايَته أم خربة أراض جَيْشه أم متظلم أغنية رَعيته أم فقيرة أشحيح أم بخيل أعاقل فِي تصريف الْأُمُور أم غافل عَنْهَا أَو وزيره أهل ومتدين وَحسن السِّيرَة أم لَا أقادة جَيْشه متمرسون وذوو بَاعَ فِي أُمُور الْحَرْب أم لَا أندماؤه ظرفاء لائقون أم لَا مَا يحب وَمَا يكره أهوَ منبسط الطَّبْع حسنه فِي الشَّرَاب أم لَا أمتين فِي أُمُور الدّين وَرَحِيم أم ضَعِيف وجاهل أيميل إِلَى الْهزْل أَكثر أم إِلَى الْجد أيرغب فِي الغلمان أَكثر أم فِي النِّسَاء كل هَذَا ليكونوا على بَيِّنَة من أمره إِذا مَا رَغِبُوا فِي محالفته أَو مُخَالفَته وتصيد عيوبه وليأخذوا لِلْأَمْرِ أهبته إِن خيرا فَخير وَإِن شرا فشر ثمَّ يتخذوا مَا يرونه مناسبا مِثْلَمَا حدث لي فِي عهد السُّلْطَان الشَّهِيد ألب أرسلان أنار الله برهانه الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة لَيْسَ فِي الْعَالم كُله أفضل وأقوم من مذهبي أبي حنييفة وَالشَّافِعِيّ رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا أما الْمذَاهب الْأُخْرَى فبدع وَأَهْوَاء وشبهات مَا كَانَ أَصْلَب السُّلْطَان الشَّهِيد رَحمَه الله وأقومه فِي مذْهبه فقد جَاءَ على لِسَانه مَرَّات وَا أسفاه لَيْت وزيري لم يكن شافعيا وَقد كَانَ سياسيا محنكا ومهيبا جدا وَلَقَد كنت أخشاه وأهابه وأحسب لَهُ حسابا دَائِما لاعْتِقَاده الشَّديد بمذهبه وجديته فِيهِ وانتقاصه مَذْهَب الشَّافِعِي الخواجة نظام الْملك وَرَسُول شمس الْملك لما عقد السُّلْطَان الشَّهِيد الْعَزْم على التَّوَجُّه إِلَى مَا وَرَاء النَّهر وسمرقند لشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 خَان سَمَرْقَنْد شمس الْملك عَصا الطَّاعَة عَلَيْهِ استدعى الْجَيْش وأوفد إِلَى شمس الْملك نصر بن إِبْرَاهِيم رَسُولا أوفدت أَنا دانشمند الأشتر أَو الْفَقِيه الأشتر مَعَ رَسُول السُّلْطَان ليطلعني على مَا سيجري ويأتيني بِخَبَرِهِ وَبلغ رَسُول السُّلْطَان رسَالَته إِلَى شمس الْملك فَأرْسل رَسُوله مَعَ رَسُول سلطاننا إِلَيْهِ وَمِمَّا جرى بِهِ الْعرف أَن يمثل الرَّسُول بَين يَدي السُّلْطَان وَيسلم الرسَالَة وينقل مَا كلف بنقله من أَخْبَار ثمَّ ينزل بِالْمَكَانِ الَّذِي أعد لَهُ وَجَرت الْعَادة أَيْضا أَن الرُّسُل كَانُوا يدْخلُونَ على الْوَزير بَين الْحِين والحين يَلْتَمِسُونَ إِلَيْهِ أَن ينْقل إِلَى السُّلْطَان قبل عودتهم مَا لم يتمكنوا من نَقله إِلَيْهِ مشافهة وَحدث أنني كنت فِي منزلي أَلعَب الشطرنج مَعَ نفر من جلسائي فتغلبت على أحدهم وَأخذت خَاتمه رهينة وَلما كَانَ الْخَاتم أوسع من أَصَابِع يَدي الْيُسْرَى وَضعته فِي إِحْدَى أَصَابِع يَدي الْيُمْنَى وَفِي تِلْكَ الْأَثْنَاء قيل لي رَسُول أَمِير سَمَرْقَنْد بِالْبَابِ قلت أدخلوه وَأمرت بِرَفْع الشطرنج فَلَمَّا دخل وَجلسَ وَشرع فِي عرض مَا كَانَ يُرِيد قَوْله وَأَنا أعبث بالخاتم وأتنقل بِهِ فِي إصبعي وَقعت عَيناهُ على الْخَاتم وإصبعي مَعًا وَلما أنهى حَدِيثه نَهَضَ وَانْصَرف ثمَّ أَمر السُّلْطَان بِإِعَادَة رَسُول الْأَمِير وإيفاد رَسُول اخر من لَدنه يَأْتِيهِ بِالْجَوَابِ وَأرْسلت دانشمند الأشتر وَكَانَ ذكيا مَعَ رَسُول السُّلْطَان هَذِه الْمرة أَيْضا لما وصل الرسولان إِلَى سَمَرْقَنْد ومثلا بَين يَدي شمس الْملك سَأَلَ رَسُوله كَيفَ ألفيت السُّلْطَان ألب أرسلان رَأيا ومظهرا وَعَملا وَكم عدد جَيْشه ومعداته وأسلحته ووسائله وَكَيف وجدت تَرْتِيب الْقصر والبلاط والديوان وَقَاعِدَة المملكة قَالَ الرَّسُول إِن السُّلْطَان لَا ينقصهُ شَيْء من حَيْثُ اللياقة والمنظر والرجولة والسياسة والهيبة وإنفاذ الحكم وَالْأَمر فَأَما جَيْشه فَلَا يعلم عدده سوى الله وَحده أما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 عدده وآلاته وأسلحته فَحدث وَلَا حرج وَأما تنظيم الْقصر والديوان والمجلس والبلاد فعلى أحسن شكل وأجمله إِن مَمْلَكَته لَيست فِي حَاجَة إِلَى أَي شَيْء اللَّهُمَّ إِلَّا أَن فِيهَا عَيْبا وَاحِدًا لولاه لكَانَتْ كَامِلَة فِي كل شَيْء قَالَ شمس الْملك وَمَا ذَلِك الْعَيْب قَالَ الرَّسُول ان وَزِير السُّلْطَان رَافِضِي قَالَ شمس الْملك وَكَيف عرفت أَنه رَافِضِي قَالَ لقد ذهبت إِلَى منزله عِنْد صَلَاة الظّهْر يَوْمًا لأقول لَهُ شَيْئا فرأيته يعبث بِخَاتم فِي اصبع يَده الْيُمْنَى وَهُوَ يحدثني فَكتب إِلَيّ دانشمند الأشتر توا اعْلَم أَنه قيل عَنْك كَذَا وَكَذَا أَمَام شمس الْملك على لِسَان رَسُوله فذعرت جدا خوفًا من السُّلْطَان وَقلت الشَّافِعِيَّة عَار فِي رَأْي السُّلْطَان وَهُوَ يؤنبني على هَذَا ويلومني فِي كل حِين ان يتناهى إِلَى سَمعه مَا جرى من حَدِيث عني أَمَام أَمِير سَمَرْقَنْد وَهُوَ أَن الجكليين نسبوني إِلَى الرافضة فسيضع خَاتِمَة لحياتي وَكَانَ من هَذَا أَن أنفقت دونما ذَنْب ثَلَاثِينَ ألف دِينَار طَوْعًا وبذلت هَدَايَا وهبات وأعطيات كَثِيرَة حَتَّى لَا يصل هَذَا الْكَلَام إِلَى سمع السُّلْطَان لقد ذكرت هَذَا لأبين أَن أَكثر الرُّسُل متسقطو عُيُوب يركزون على مَا فِي بلاط الْملك ومملكته من عُيُوب وفضائل ليفيدوا مِنْهَا وينفذوا من خلالها إِلَى الطعْن على الْمُلُوك وتثريبهم فِي فرص أُخْرَى لهَذَا السَّبَب وجدنَا الْمُلُوك الأذكياء اليقظين يهتمون بتهذيب أنفسهم ويتحلون بالأخلاق الْحَسَنَة ويسيرون فِي النَّاس سيرة حميدة وَيُوَلُّونَ المناصب والأعمال للأكفاء واللائقين والمتدينين لِئَلَّا يكون لأحد عَلَيْهِم أَي عيب أَو مطْعن وَيَنْبَغِي أَن يكون الرَّسُول مِمَّن خدموا الْمُلُوك وَمن الشجعان فِي القَوْل وَمِمَّنْ سافروا كثيرا وطوفوا فِي الْبلدَانِ والاخذين من كل علم بِطرف وَذَوي الحافظة وَبعد النّظر وَأَصْحَاب القامات والأشكال الجميلة ويفضل من كَانَ كَبِير السن عَالما وَإِذا مَا أسندت هَذِه المهمة إِلَى أحد الندماء فَإِن الِاعْتِمَاد يكون أَكثر وَمن الصَّوَاب جدا أَن يكون الرَّسُول تَامّ الرجولة شجاعا عَارِفًا باداب السِّلَاح والفروسية والطعان ليبرهن للمرسل إِلَيْهِم أَن رجالنا كلهم من هَذَا الضَّرْب ويفضل أَيْضا أَن يكون الرَّسُول من الْأَشْرَاف ليحترمه الاخرون كثيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ويتجنبوا الْإِسَاءَة إِلَيْهِ وَألا يكون من معاقري الْخمر والمزاحين والمقامرين والثرثارين والمغمورين ومنذ زمن بعيد والملوك يوفدون الرُّسُل محملين بالهدايا والنفائس الْكَثِيرَة يطْلبُونَ صلحا أَو يظهرون عَجزا وضعفا ولينا ومكرا واحتيالا ثمَّ يرسلون الجيوش المجهزة والمحاربين فِي أَثَرهم فيحملون على الْخُصُوم وينتصرون عَلَيْهِم إِن سيرة الرَّسُول وحكمته وفصاحة رَأْيه لدَلِيل على سيرة الْملك وحكمته ورأيه وعظمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الْفَصْل الثَّانِي وَالْعشْرُونَ فِي تهيئة الأعلاف فِي الْمنَازل والمراحل حِين يرتحل ركب السُّلْطَان فِي سفر فَلَيْسَ سهلا توفر الْعلف والنزل فِي كل مرحلة ينزل بهَا مِمَّا يُؤَدِّي إِمَّا إِلَى الْحُصُول على الْعلف اليومي بِجهْد ومشقة وَإِمَّا إِلَى أَخذه بتقسيمه على الأهالي وَلَيْسَ هَذَا صَحِيحا يَنْبَغِي أَن يضم إقطاع كل قَرْيَة وضواحيها مِمَّا فِيهَا منَازِل وَاقعَة على الطَّرِيق الَّتِي سيمر مِنْهَا الركب إِلَى الْأَمْلَاك السُّلْطَانِيَّة الْخَاصَّة كَمَا ينببغي وضع الْيَد على أقرب قَرْيَة للمكان الَّذِي فِيهِ رِبَاط وَلَا قَرْيَة فِيهِ لجمع كل غلاتها الَّتِي يجب أَن تنْفق إِن يكن ثمَّة دَاع لذَلِك وَإِلَّا فبيعها وإرسال أثمانها كَغَيْرِهَا من الْأَمْوَال الْأُخْرَى إِلَى الخزينة كل هَذَا لتجنب إرهاق الرّعية وَالتَّقْصِير فِي توفير الْعلف فبه يُمكن النجاح فِي المهمة الَّتِي عقد الْعَزْم عَلَيْهَا وَعدم الفشل فِي تحقيقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الْفَصْل الثَّالِث وَالْعشْرُونَ فِي تعْيين أطماع الْجَيْش يجب أَن يعين للجيش أطماع نقدية ثَابِتَة ومنتظمة أما اصحاب الإقطاعات مِنْهُم فَيجب أَن تطلق ايديهم فِيهَا وَلَكِن بنظام مَعْلُوم وَأما الغلمان الَّذين لَا إقطاع لَهُم فَيجب إِظْهَار أطماعهم وتعيينها فَإِذا مَا عرفت أعدادهم يجب إعداد جراياتهم وتهيئتها جَمِيعهَا وَدفعهَا إِلَيْهِم فِي أَوْقَاتهَا أَو أَن يستدعيهم الْملك إِلَيْهِ مرَّتَيْنِ سنويا وَيَأْمُر بتسليمهم أطماعهم المقررة لَا أَن يحالوا إِلَى الخزينة لاستلامها دون أَن يراهم الْملك فَمَا أحسن أَن سلمهَا الْملك إِلَيْهِم بِنَفسِهِ لِأَن هَذَا يبْعَث على غرس روح الْمَوَدَّة والألفة والاتحاد بَينهم وَبَينه ويفضي بهم إِلَى بذل أقْصَى الجهود فِي الْخدمَة والثبات فِي الْقِتَال لقد كَانَ من عَادَة الْمُلُوك القدماء أَلا يقطعوا الْجَيْش شَيْئا بل يدفعوا لكل مِنْهُم بِحَسب دَرَجَته طمعه من الخزينة نَقْدا أَربع مَرَّات فِي السّنة فَكَانَ الْجند فِي يسر ورخاء دَائِما وَكَانَ إِذا مَا طَرَأَ أَمر هام يركب لَهُ أَلفَانِ أَو عشرُون ألفا حَالا أما عُمَّال الْخراج فَكَانُوا يجمعونه ويحملونه إِلَى خزينة الْملك وَمِنْهَا تصرف أطماعا للغلمان والجيش مرّة كل ثَلَاثَة أشهر وَهُوَ مَا أطْلقُوا عَلَيْهِ حِسَاب العشرينية وَمَا زَالَ هَذَا الْعرف قَائِما فِي ال مَحْمُود ولينبه على أَصْحَاب الإقطاع فِي حَال غياب أحد الْجند لمَوْته أَو لأي سَبَب اخر ان يعلنوا ذَلِك وَلَا يخفوه أما القادة فلينبه عَلَيْهِم وَقد صرفت لَهُم مرتباتهم أَن يعدوا الْجَيْش كُله ويهيئوه لأي مهمة وحادث فَإِذا مَا تخلف أحد فَعَلَيْهِم إبلاغ ذَلِك حَالا ليَكُون تخلفه بِإِذن السُّلْطَان وَإِن لم يَفْعَلُوا فتنبغي معاتبتهم ولومهم وتغريمهم أَي القادة أطماع الْجند المتخلفين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الْفَصْل الرَّابِع وَالْعشْرُونَ فِي اتِّخَاذ الْجَيْش من كل الْأَجْنَاس إِن اتِّخَاذ الْجَيْش من جنس وَاحِد مدعاة لظُهُور الأخطار والتخريب وَالْفساد وَعدم الجدية وَالْبَلَاء فِي الْحَرْب يَنْبَغِي أَن يؤسس الْجَيْش من كل جنس وملة وَأَن يرابط بِالْقصرِ ألفا رجل من الديلم وخراسان يحْتَفظ بالموجود مِنْهُم الان ثمَّ يهيأ الْبَاقِي بعد ذَلِك وَلَا ضير فِي أَن يكون بعض هَؤُلَاءِ من الكرجيين وشبانكاريي فَارس لأَنهم قوم طيبون لَا غُبَار عَلَيْهِم جَيش السُّلْطَان مَحْمُود درج السُّلْطَان مَحْمُود على أَن يؤسس جَيْشه من عدَّة اجناس من التّرْك والخراسانيين وَالْعرب والهنود والغوريين والديالمة وَكَانَ يضع فِي اثناء السّفر ثلة من كل جنس للحراسة فِي مَكَان خَاص بِحَيْثُ لم يكن أَي فريق مِنْهُم يَجْرُؤ على ترك مَكَانَهُ خوفًا من الْفرق الْأُخْرَى بل كَانُوا يَحْرُسُونَ إِلَى جَانب بَعضهم حَتَّى الصَّباح دون أَن تغمض لَهُم أجفان وَكَانَ كل جنس مِنْهُم يُقَاتل فِي المعارك والحروب ببسالة ومضاء حفاظا على سمعته وَخَوف الْعَار والهزيمة وَكيلا يَقُول أحد بِأَن الْجنُود من الْجِنْس الْفُلَانِيّ وهنوا فِي الْقِتَال وتقاعسوا وَكَانَ كل فريق يبلي فِي الْقِتَال بلَاء حسنا ويبذل غَايَة جهده إِظْهَارًا لقدرته وتفوقه على الاخرين وَلِأَن قَاعِدَة اخْتِيَار الْمُحَاربين كَانَت تتمّ على ذَلِك النَّحْو فقد كَانُوا جَمِيعهم جادين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 مستبسلين وطلاب سمعة وشهرة وَلَا جرم أَنهم إِذا مَا هرعوا إِلَى السِّلَاح لم يَكُونُوا يتراجعون قبل أَن يهزموا الْجَيْش المعادي وينتصروا عَلَيْهِ وَحين ينتصر جَيش مَا مرّة أَو مرَّتَيْنِ وَيكْتب لَهُ الظفر على الْأَعْدَاء فَإِن مائَة مِنْهُ بعد ذَلِك تغلب ألفا من جَيش الْعَدو وَأَن أَي جَيش اخر لن يقوى على التصدي لَهُ ومقاومته كَمَا أَن جيوش الْبلدَانِ الْمُجَاورَة والمحاذية تهاب هَذَا الْملك وتخافه فتضع لَهُ عَصا الطَّاعَة وَالْوَلَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الْفَصْل الْخَامِس وَالْعشْرُونَ فِي الرهائن وإيداعهم فِي البلاط على كل وَاحِد من أُمَرَاء الْعَرَب والأكراد والديالمة وَالروم وَغَيرهم من حَدِيثي الْعَهْد بِالدُّخُولِ فِي طَاعَة السُّلْطَان أَن يودع إبنا أَو أَخا رهينة فِي البلاط بِحَيْثُ لَا يقل عدد الرهائن باية حَال عَن خَمْسمِائَة إِن لم يكن ألفا وَبعد عَام يستبدلون باخرين غَيرهم على أَن لَا يُعَاد الْأَولونَ قبل وُصُول البدلاء حَتَّى لَا يَسْتَطِيع أحد بِسَبَب الرهائن أَن يَعْصِي الْملك ويتمرد عَلَيْهِ وَيجب كَذَلِك أَن يقدم الديالمة والقوهستانيون وَأهل طبرستان وشبانكاره وأمثالهم مِمَّن لَهُم إقطاعات وجرايات وأرزاق خَمْسمِائَة رجل مِنْهُم ليقيموا فِي البلاط لِئَلَّا يَخْلُو من الرِّجَال القادرين العاملين حِين الْحَاجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الْفَصْل السَّادِس وَالْعشْرُونَ فِي اسْتِخْدَام التركمان على الرغم من النفرة والملالة من التركمان وَكَثْرَة عَددهمْ فَإِن لَهُم حَقًا ثَابتا على الدولة إِذْ أسهموا فِي خدمتها إبان قِيَامهَا وتحملوا فِي سَبِيلهَا المتاعب والمشاق فضلا عَن أَنهم من ذَوي الْقُرْبَى يَنْبَغِي اخْتِيَار ألف من أبنائهم وتربيتهم وتنشأتهم على سَبِيل غلْمَان من غلْمَان الْقصر لأَنهم فِي عَمَلهم المستمر فِيهِ يتعلمون اداب السِّلَاح والخدمة ويختلطون بِالنَّاسِ فتلين قُلُوبهم ويخدمون كغلمان وتزول من نُفُوسهم وطباعهم مَا وقر فِيهَا من نفرة وَكلما دعت الْحَاجة يركب خَمْسَة أَو عشرَة الاف مِنْهُم بلباس الغلمان وأسلحتهم لأَدَاء المهمة الَّتِي يندبون لَهَا كل هَذَا لِئَلَّا يظلوا دون نصيب فِي هَذِه الدولة وليكونوا سعداء فرحين فِيهَا وليكسب الْحَمد وَالثنَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الْفَصْل السَّابِع وَالْعشْرُونَ فِي عدم ازدحام العبيد فِي أثْنَاء الْخدمَة وتنظيم أَعْمَالهم يَنْبَغِي لإزدحام العبيد كثيرا فِي أثْنَاء الْخدمَة إسدال الستارة مَا دعت الْحَاجة إِلَى هَذَا وكما يتفرقون حَالا يجب أَن يجيئوا فِي وَقت معِين وَحين تكون الْأَوَامِر صارمة بِهَذَا ويلقنون مرّة أَو مرَّتَيْنِ كَيفَ يتصرفون فَإِنَّهُم سيستمرون على هَذَا المنوال وَلنْ تعود ثمَّة حَاجَة إِلَى الستارة حِين تصدر الْأَوَامِر بِأَن يمثل فِي حَضْرَة السُّلْطَان يوميا عدد مَعْلُوم من الغلمان الموكلين بِالْمَاءِ وَالسِّلَاح وَالشرَاب واللباس وأمثالهم وَمن الغلمان الَّذين بلغُوا إِلَى مقَام أَمِير حجاب وأمير وعظيم ليتَمَكَّن من المثول بَين يَدَيْهِ مناوبة مثل هَذَا الْعدَد من عنابر الغلمان الملحقة بالسراي وَمن الْخَواص أَيْضا دون ازدحام كل يَوْم وَقد اتبع فِي الْأَزْمِنَة الْقَدِيمَة فِي تربية الغلمان وتصنيفهم مُنْذُ الْيَوْم الَّذِي كَانُوا يبتاعون فِيهِ إِلَى أَن يترعرعوا ويتبوأوا المقامات الرفيعة لكنه لم يعد مُتبعا فِي هَذِه الْأَيَّام وهأنذا تمشيا مَعَ شَرط الْكتاب أذكر شَيْئا مِنْهُ لاستطلاع الرَّأْي السَّامِي تَرْتِيب غلْمَان السراي إِن هَذَا النظام مَا زَالَ فِي ظلّ السامانيين الَّذين يرفعون من مرتبَة الْغُلَام تدريجيا وفقا لخدماته وكفايته ولياقته فهم حِين يشْتَرونَ الْغُلَام يضعونه فِي خدمَة الركاب العالي رَاجِلا بقباء زندنجي وموزج سنة كَامِلَة لَا يسمح لَهُ فِيهَا بركوب الْخَيل سرا أَو عَلَانيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَإِذا مَا فعل يُعَاقب وَحين تَنْقَضِي السّنة يكلم رَئِيس عنبره الْحَاجِب فِي أمره فيخبر الْحَاجِب الْملك فيأمر لَهُ حِينَئِذٍ بِمهْر تركي بسرج غير مدبوغ ولجام جلدي عادي وَبعد خدمَة سنة بِمهْر وسوط فَقَط يُعْطي فِي السّنة الثَّالِثَة سَيْفا معقوفا يشده على وَسطه وَيُعْطى فِي الرَّابِعَة جعبة وكنانة سِهَام يرتديهما عِنْدَمَا يمتطي جَوَاده اما فِي الْخَامِسَة فَيعْطى سرجا أحسن ولجاما مكوكبا وقباء ودبوسا وَفِي السَّادِسَة يُولى السِّقَايَة ويوكل بِالْمَاءِ فيعلق فِي وَسطه قدحا وَفِي السَّابِعَة يُوكل باللباس وَفِي الثَّامِنَة يعْطى خيمة من عَمُود وَاحِد فِي سِتَّة عشر وتدا ويضاف إِلَى فَوجه ثَلَاثَة غلْمَان صغَار مِمَّن اشْتَروا حَدِيثا ويلبس قلنسوة لباد سَوْدَاء محلاة بخيوط فضية وقباء جنزيا وَهَكَذَا يظل يُزَاد فِي ألبسته والاته وعدده وَعدد أَفْرَاده ومقامه سنويا إِلَى أَن يصبح قَائِد فَوْج وَهَكَذَا دواليك إِلَى أَن يصير حاجبا وَحين تبدو كفائته وجدارته وشجاعته للْجَمِيع وتتم على يَدَيْهِ الْأَعْمَال الْعَظِيمَة ثمَّ يصبح محط أنظار صَحبه ومحبا لمَوْلَاهُ يَنْبَغِي أَلا يُولى الْإِمَارَة أَو الْولَايَة مَا لم يبلغ الْخَامِسَة وَالثَّلَاثِينَ أَو الْأَرْبَعين من عمره علو منزلَة سبكتكين كَانَ البتكين مولى للسامانيين وربيبا ولي قيادة جَيش خُرَاسَان الْعليا فِي الْخَامِسَة وَالثَّلَاثِينَ من عمره كَانَ صَادِق الْعَهْد وفيا وشجاعا جدا وَكَانَ تركيا شهما محبوبا لَدَى النَّاس محبا لجيشه جوادا معطاء يخَاف الله ويتقيه وَلَقَد جمع كل خِصَال السامانيين وسيرهم الحميدة وَكَانَت أَمْوَال خُرَاسَان وَالْعراق تَحت تصرفه كَمَا كَانَ لَهُ ألف وَسَبْعمائة عبد وَغُلَام تركي وَاشْترى البتكين يَوْمًا ثَلَاثِينَ غُلَام تركيا كَانَ سبكتكين وَالِد السُّلْطَان مَحْمُود أحدهم فَكَانَ أول طالع سعد سبكتكين أَنه اشْترى لإلبتكين وَبعد ثَلَاثَة أَيَّام من شِرَائِهِ وعَلى حِين كَانَ يقف وَفِي وسط الغلمان أَمَام البتكين تقدم الْحَاجِب وَقَالَ لألبتكين لقد قضى الْغُلَام فلَان الَّذِي كَانَ رَئِيسا لأحد العنابر فألى أَي غُلَام تامر بعنبره ولباسه وفوجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ومنصبه فَوَقَعت عين البتكين على سبكتكين وَجرى على لِسَانه وهبتها هَذَا الْغُلَام الصَّغِير فَقَالَ الْحَاجِب يَا مولَايَ لم تمض ثَلَاثَة أَيَّام بعد على شرائك هَذَا الْغُلَام الصَّغِير الَّذِي يَنْبَغِي أَن يمْضِي سبع سنوات فِي الْخدمَة حَتَّى يصل إِلَى هَذِه الْمرتبَة فَأنى تمنح لَهُ قَالَ البتكين لقد قلت وَسمع الْغُلَام فَانْحنى شاكرا وإنني لأمنحه هَذِه الْمنزلَة هبة وأعطية أما الاخرون غيرَة فَيَنْبَغِي أَن تطبق عَلَيْهِم الْأُصُول المرعية سَابِقًا ثمَّ سلم العنبر فآلت إِلَيْهِ كل خدمَة سبع أَو ثَمَانِي سنوات وفكر البتكين فِي نَفسه مَا السِّرّ فِي بُلُوغ غُلَام غرير اشْترِي حَدِيثا منزلَة خدمَة سبع السنوات قد يكون تحدره من أسرة كَرِيمَة بتركستان أَو أَن الْحَظ سيبتسم لَهُ ويصل بِهِ إِلَى أَعلَى الدَّرَجَات وَشرع فِي تدريبه واختباره وإرساله بالأخبار إِلَى هَذَا وَذَاكَ وَكَانَ يَقُول لَهُ البتكين اذْهَبْ واتني بِالْجَوَابِ فَكَانَ يذهب وَيعود بِالْجَوَابِ على نَحْو أفضل من نَقله الْخَبَر وَلما ثَبت لَهُ بالإختبار أَن الْغُلَام يُبْدِي تقدما يَوْمًا بعد يَوْم وقرت محبته فِي قلبه فَوكل إِلَيْهِ أَمر السِّقَايَة ثمَّ أمره بالإنقطاع إِلَى خدمته هُوَ فَقَط وَخَصه بفوج من عشرَة غلْمَان صغَار وَأخذ يزِيد فِي مَنْزِلَته يوميا وَمَا أَن بلغ سبكتكين الثَّامِنَة عشرَة إِلَّا وَله فَوْج من مِائَتي غُلَام شُجَاع وَقد تقف كل خِصَال البتكين وعاداته الحميدة فِي الْجُلُوس وَالْقِيَام والْحَدِيث وَالطَّعَام وَالشرَاب والمجلس وَالصَّيْد والرماية واللعب بالطبطابة ومداراة النَّاس ومراعاتهم والعيش مَعَ الْجند عَيْش الْإِخْوَة حَتَّى أَنه لَو حصل على تفاحة لَا يأكلها إِلَّا مَعَ عشرَة اخرين لقد أحبه النَّاس قاطبة لطيبته وأخلاقه الْحَسَنَة وَسيرَته الحميدة لياقة سبكتكين وجدارته وَحدث أَن اخْتَار البتكين يَوْمًا مِائَتي غُلَام وأنفذهم إِلَى خلج والتركمان لتَحْصِيل الْأَمْوَال الْمُسْتَحقَّة عَلَيْهِم وَكَانَ سبكتكين فِي جُمْلَتهمْ فَلَمَّا وصلوا إِلَى هُنَاكَ امْتنعت الطائفتان عَن دفع الْأَمْوَال كَامِلَة فَغَضب الغلمان وشهروا أسلحتهم لحربهم وانتزاع المَال مِنْهُم عنْوَة فَقَالَ سبكتكين لَا أُحَارب مَعكُمْ بل أنفصل عَنْكُم فِي هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الْأَمر قَالَ لَهُ صَحبه وَلم قَالَ إِن مَوْلَانَا لم يرسلنا للحرب بل قَالَ اذْهَبُوا وأحضروا تِلْكَ الْأَمْوَال والأنعام ان نحاربهم الان فيتغلبوا علينا ويهزمونا فَفِي هَذَا شين وعار عظيمان علينا وإضرار كَبِير بحشمة مَوْلَانَا وجاهه هَذَا شَيْء وَشَيْء اخر أَن مَوْلَانَا سَيَقُولُ مَتى أَمرتكُم بِالْحَرْبِ وَلنْ نجد مَا حيينا منفذا أَو حجَّة لملامته وعتابه الَّذِي لَا طَاقَة لنا بِهِ وَلما فرغ سبكتكين من قَوْله هَذَا قَالَ اكثر الغلمان الصَّوَاب مَا يَقُول سبكتكين ودب الْخلاف بَينهم وانْتهى الْأَمر بِعَدَمِ الْقِتَال وعودتهم وَلما مثلُوا أَمَام البتكين وَقَالُوا لم نحصل الْأَمْوَال مِنْهُم عنْوَة مَعَ أَنهم عصوا وامتنعوا عَن دَفعهَا قَالَ لماذا لم تشهروا السِّلَاح وتحصلوا الْأَمْوَال بأية وَسِيلَة كَانَت قَالَ الغلمان لقد شهرنا الأسلحة وأردنا قِتَالهمْ لَكِن سبكتكين خَالَفنَا واعترضنا فانقسم الغلمان إِلَى فريقين وَلما صَار الْأَمر إِلَى هَذِه الْحَال عدنا فَقَالَ البتكين لسبكتكين لماذا لم تحارب أَو تَدعهُمْ يُحَاربُونَ قَالَ سبكتكين لِأَن مَوْلَانَا لم يكن أمرنَا بِالْقِتَالِ فَلَو قاتلنا دون أمره لَكَانَ كل منا مولى لَا عبدا ان من إمارات الطَّاعَة تَنْفِيذ مَا يَأْمر بِهِ مَوْلَانَا وَلَو كَانَت الْهَزِيمَة حليفنا فَلَا بُد من أَن يَقُول من الَّذِي أَمركُم بِالْقِتَالِ فَمن ذَا الَّذِي لَهُ الطَّاقَة على هَذَا الْعقَاب أما لَو غلبناهم نَحن فَلَا بُد من أَن يقتل كَثِيرُونَ وَلَا يكون ثمَّة شكر وَتَقْدِير فضلا عَمَّا مَا سنلقاه من ملامة وعتاب ان تَأْمُرنَا الان بِالْحَرْبِ نتوجه إِلَيْهِم فإمَّا أَن نحصل الْأَمْوَال وَإِمَّا أَن نقدم أَرْوَاحنَا فديَة فأعجب البتكين بجوابه وَقَالَ حق مَا تَقول ثمَّ أَخذ فِي ترقيته حَتَّى بلغ منزلَة وصل فِيهِ فَوجه إِلَى ثَلَاثمِائَة غُلَام وَلما مَاتَ أَمِير خُرَاسَان نوح بن نصر ببخارى وَكَانَ البتكين بنيسابور كتب إِلَيْهِ خَاصَّة أمرائه من بُخَارى العاصمة لقد حدث كَذَا وَكَذَا وَتُوفِّي أَمِير خُرَاسَان مخلفا وَرَاءه أَخا فِي الثَّلَاثِينَ من عمره وابنا فِي السَّادِسَة عشرَة فَإلَى أَيهمَا تعهد بِالْملكِ فَأمر هَذِه الملكة مَنُوط بك فسير البتكين رَسُوله على وَجه السرعة برسالة تَقول كِلَاهُمَا أهل للْملك وهما أميران من ولد مَوْلَانَا أما أَخُو الْأَمِير فَرجل ناضج مجرب تجرع مر الْحَيَاة وذاق أفاويقها وَهُوَ يعرف النَّاس جيدا ويحفظ لكل قدره ومنزلته وَخير من يحترمهم وَيعرف لَهُم حرماتهم وَأما ابْن الْأَمِير فطفل لم ير فِي حَيَاته شَيْئا إِنَّنِي أخْشَى أَلا يَسْتَطِيع أَن يسوس النَّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ويرعاهم وَألا يقوى على إصدار الْأَوَامِر اللَّازِمَة فِي كل مَسْأَلَة وامر قد يكون من الأصوب تنصيب أخي الْأَمِير ثمَّ اتبع الرسَالَة بِأُخْرَى فِي الْمَوْضُوع عينه فِي الْيَوْم التَّالِي غير أَنه وصل بعد خَمْسَة أَيَّام رَسُول بِبِشَارَة تَقول لقد تمّ تنصيب ابْن الْأَمِير فاعترى البتكين الخجل لرسالتيه اللَّتَيْنِ كَانَ أرسلهما قَالَ فلماذا استشارني أُولَئِكَ الأوغاد اللئام إِذن وَقد أَرَادوا الاستئثار بِالْأَمر وحدهم إِن الِاثْنَيْنِ كليهمَا مني بِمَنْزِلَة النُّور من الْعين لكنني أخْشَى أَن تسوء الابْن رسالتي حِين وصولها فيظن أَن هواي كَانَ مَعَ عَمه للَّذي أَشرت إِلَيْهِ فِيهَا فَيَقَع فِي قلبه شَيْء مني ويغضب عَليّ ويحقد حِينَئِذٍ يستغل الْأَمر ذَوُو الأطماع الدنيئة الَّذين سيجدون المجال متاحا أمامهم لِأَن يلوكوني بألسنتهم وتأليب الصَّبِي عَليّ وَأرْسل البتكين فِي الْحَال خَمْسَة رجال كل مِنْهُم على جماز فِي إِثْر الرسولين وَقَالَ لَهُم حاولوا مَا وسعكم الْجهد أَن تلحقوا بهما قبل أَن يعبرا نهر جيحون وتعيدوهما وَانْطَلق المجمزون فِي سرعَة فأدركوا أحد الرسولين فِي صحراء اموي فِي حِين كَانَ الاخر قد عبر جيحون وَلما وصلت رِسَالَة البتكين إِلَى بُخَارى استاء ابْن الْأَمِير واتباعه الَّذين قَالُوا لم يحسن البتكين صنعا حِين أَشَارَ بتنصيب أخي الْأَمِير أما درى أَن مِيرَاث الْأَب يصير إِلَى الابْن لَا إِلَى الْأَخ وظلوا يرددون هَذَا النغم وضغن الصَّبِي على البتكين يتزايد يوميا وَالْتمس البتكين الْأَعْذَار الْكَثِيرَة وَبعث بالهدايا الجمة غير أَن هَذَا لم يجد فتيلا فِي نفض غُبَار الحقد وَالْغَضَب عَن قلب ابْن الْأَمِير وظل المفسدون وذوو الأطماع الْخَاصَّة فِي يوغرون صدر الْأَمِير الصَّغِير الَّذِي اضطرمت نَار حقده وغضبه ونقمته وَكَانَ أَحْمد بن اسماعيل فِي أخريات حَيَاته اشْترى البتكين الَّذِي خدم نصر بن أَحْمد عدَّة سنوات وَلما مَاتَ نصر خدم نوح بن نصر وتقلد على عَهده القيادة الْعليا لجيش خُرَاسَان وَلما مَاتَ نوح خَلفه ابْنه مَنْصُور وَانْقَضَت سِتّ سِنِين من عهد مَنْصُور والبتكين ينقده الْأَمْوَال وَيسْعَى مَا أمكنه الْجهد لوضع الْأُمُور فِي نصابها دون أَن يَسْتَطِيع المغرضون أَن ينالوا مِنْهُ شَيْئا لَدَى مَنْصُور بن نوح أَو يوغروا عَلَيْهِ قلبه وَكَانَ وكلاء البلاط يَكْتُبُونَ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 البتكين عَن كل مَا يَدُور فِي بُخَارى العاصمة لَكِن المفسدين لم يتْركُوا مَنْصُور بن نوح بل أوحوا إِلَيْهِ بِأَنَّهُ لن تكون أَمِيرا وحاكما حَقِيقِيًّا مَا لم تقتل البتكين إِنَّه يحكم خُرَاسَان من ثَلَاث وَخمسين سنة ويكدس الْأَمْوَال والثروات وَإِن الْجَيْش كُله يأتمر بامره ويطيعه ان تقبض عَلَيْهِ تفرغ مِنْهُ بَالا وتملأ الخزينة من أَمْوَاله وَلَيْسَ من حِيلَة لهَذَا سوى أَن تستدعيه إِلَى البلاط وَتظهر لَهُ انك مذ تولينا الْإِمَارَة لم تأت إِلَى البلاط وَلم تجدّد الْعَهْد وَالْوَلَاء إِنَّك محط امالنا وَقد اتخذناك بِمَثَابَة الْأَب إِن قَوَاعِد ملكنا راسخة بك فَأَنت مدَار مَا وَرَاء النَّهر وخراسان أما مَا يَدُور على الألسن من قيل وَقَالَ فَلَيْسَ إِلَّا لِأَنَّك لم تأت إِلَيْنَا قطّ عَلَيْك الْحُضُور إِلَى البلاط بأسرع وَقت مُمكن لإعادة كل مَا خرج عَن قَاعِدَته وأصوله فِي بلاطنا وقصرنا سيرته الأولى لِيَزْدَادَ اعتمادنا عَلَيْك وثقتنا بك وتخرس أَلْسِنَة ذَوي المارب الخبيثة وتكف عَن الْكَلَام وَحين يَأْتِي إِلَى هُنَا ادْعُه وحيدا وَمر بِضَرْب عُنُقه وَنفذ الْأَمِير السديد مَنْصُور هَذَا واستدعى البتكين إِلَى البلاط لَكِن منهو الْأَخْبَار كتبُوا إِلَى البتكين يخبرونه بِالَّذِي يُريدهُ مَنْصُور من أَجله فأعلن النفير وَأمر رِجَاله بِأَن يستعدوا للتوجه إِلَى بُخَارى ثمَّ توجه وَمَعَهُ حوالي ثَلَاثِينَ ألف خيال من نيسابور إِلَى سرخس وَبعد ثَلَاثَة أَيَّام من نُزُوله بهَا دَعَا إِلَيْهِ أُمَرَاء الْجند وَقَالَ لَهُم أود أَن أَقُول لكم شَيْئا واريدكم أَن تجيبوا عَنهُ بِمَا تَرَوْنَهُ صَوَابا وَفِيه فائدتنا ونفعنا جَمِيعًا قَالُوا سمعا وَطَاعَة قَالَ أَتَدْرُونَ السَّبَب الَّذِي يطلبنا أَمِير خُرَاسَان من أَجله أم لَا قَالُوا يُرِيد أَن يراك لتجديد الْعَهْد لِأَنَّك بِمَثَابَة الْأَب لَهُ ولابائه من قبل قَالَ لَيْسَ الْأَمر على مَا تظمون ان الْأَمِير يستدعيني لقتلي وَفصل راسي عَن جَسَدِي فَهُوَ طِفْل لَا يعرف أقدار الرِّجَال إِنَّكُم تعلمُونَ أنني أَنا الَّذِي حفظت للسامانيين ملكهم سنوات عديدة وَمَا أَزَال وَلَقَد هزمت أُمَرَاء تركستان مِمَّن كَانُوا يطمعون فِي ملكهم مَرَّات كَمَا قهرت الخارجين عَلَيْهِم من كل صوب وَلم أعصهم قطّ وَلَو طرفَة عين لقد حافظت على هَذَا الْملك لجده وَأَبِيهِ وَله وَمَا أَزَال لكنه يُرِيد أَن يكافئني فِي النِّهَايَة بِقطع رَأْسِي دون أَن يدْرك أَن ملكه جَسَد أَنا رَأسه فَهَل من بَقَاء للجسد بعد الرَّأْس والان مَا الَّذِي تَرَوْنَهُ صَوَابا مَا الْحِيلَة إِلَى دفع هَذَا الْبلَاء قَالَ الْأُمَرَاء جَمِيعًا حيلته السَّيْف مَاذَا نَنْتَظِر مِنْهُ مَا دَامَ يكن لَك هَذَا وَيُرِيد أَن يكافئك بأعمالك هَذِه المكافئة لَو كَانَ ثمَّة شخص غَيْرك لنزع الْملك من أَيْديهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 مُنْذُ خمسين سنة نَحن جَمِيعًا نعرفك أَنْت وَلَا نعترف بِهِ وبأبيه ان مَا نملك نَحن وكل الرِّجَال فِي دولة السامانيين من عَيْش وجاه وحشمة ونعمة وَولَايَة وزينة لَيْسَ إِلَّا مِنْك أَنْت فِيك وَحدك صرنا رجَالًا نَحن مَعَك وَمِمَّا لَا شكّ فِيهِ أَن خُرَاسَان وخوارزم ونيمروز مَعَك أَيْضا ادْع إِلَى خلع مَنْصُور بن نوح ثمَّ نصب نَفسك أَمِيرا وهبه بُخَارى وسمرقند إِن شِئْت والا ضمهما إِلَيْك أَيْضا وَلِأَن الْأُمَرَاء قَالُوا هَذَا الْكَلَام عَن رَغْبَة أكيدة وتامة قَالَ البتكين عَفا الله عَنْكُم لقد كَانَ كلامكم عَن إِيمَان واتحاد وَهَذَا مَا أتوقعه مِنْكُم جزاكم الله عني خير الْجَزَاء دَائِما انصرفوا الْيَوْم حَتَّى نرى مَا يحمل إِلَيْنَا غَد لقد كَانَ مَعَ البتكين فِي هَذَا الْوَقْت ثَلَاثُونَ ألف فَارس وَكَانَ فِي استطاعته تجهيز مائَة ألف وَفِي الْيَوْم التَّالِي جَاءَ الْأُمَرَاء للقاء البتكين فَخرج إِلَيْهِم وَاتخذ مَكَانَهُ وَبعد مُدَّة وجيزة الْتفت نحوهم وَقَالَ لقد أردْت من حَدِيثي مَعكُمْ أمس أَن أختبركم لأرى فِيمَا إِذا كُنْتُم تؤازرونني وتقفون معي وتحمون ظَهْري إِذا مَا وَقع لي شَيْء أم لَا إِن مَا سمعته مِنْكُم جَمِيعًا لدَلِيل على أصالتكم ونقائكم وَحسن عهدكم ووفائكم ورعايتكم حق نعمتي إِنَّنِي لراض عَنْكُم لَكِن اعلموا أنني لَا أَسْتَطِيع بعد مَا حدث أَن أكف شَرّ مَنْصُور وأذاه عني بِغَيْر السَّيْف فَهُوَ طِفْل لَا يعرف لأحد حَقًا بل يلقِي أذنا صاغية إِلَى ثلة من الأشرار الأوباش الأرذال دون أَن يعرف مَا يضرّهُ مِمَّا يَنْفَعهُ انه يعدني وَأَنا الَّذِي أحمي سلالته عدوا وَيطْلب عنقِي فِي حِين أَنه يعد من لَا يَبْغُونَ سوى فَسَاد المملكة ودمارها وَمن لَا يَسْتَطِيعُونَ رأب أقل صدع فِيهَا أصدقاء إِنَّنِي لقادر على نزع الْملك مِنْهُ وتنصيب عَمه مَكَانَهُ أَو الِاسْتِيلَاء عَلَيْهِ بنفسي لكنني أخْشَى أَن تَقول الدُّنْيَا كلهَا ان البتكين الَّذِي حمى للسامانيين ملكهم سِتِّينَ سنة يخرج عَلَيْهِم فِي النِّهَايَة وَقد بلغ الثَّمَانِينَ وَينْزع الْملك مِنْهُم بِالسَّيْفِ ويتربع على عرش أسياده كَافِرًا نعمتهم جاحدا لَهَا اعلموا أنني قضيت عمري كُله حسن السمعة والفعال فعلي أَلا أفعل مَا يشوه سمعتي ويسييء إِلَيّ وَأَنا على شفا حُفْرَة من الْقَبْر على الرغم من أَن منصورا هُوَ الاثم المذنب وَالنَّاس لَا يعلمُونَ هَذَا فَإِن بَعضهم سَيَقُولُ لقد كَانَ مَنْصُور هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 المخطىء وسيقول اخرون لَا لقد كَانَ الذَّنب كُله ذَنْب البتكين وَمَعَ أنني لَا طمع لي فِي ملك مَنْصُور وَلَا رَغْبَة فِي إِلْحَاق الضَّرَر بِهِ فَأن قالة السوء فِي خُرَاسَان لن تَنْقَطِع مَا دمت فِيهَا وَأَن المغرضين سيؤججون عَدَاوَة الصَّبِي وحقده عَليّ يَوْمًا بعد يَوْم لكنه لن يبْقى لَهُم مَا يَقُولُونَ إِذا مَا تركت خُرَاسَان وَخرجت من حوزة هَذَا الصَّبِي هَذِه وَاحِدَة وَالْأُخْرَى أَنه إِن كَانَ لَا بُد من شرع السيوف من أجل لقْمَة الْعَيْش وَقَضَاء مَا تبقى من الْعُمر فَمن الْأَفْضَل أَن تشرع فِي وَجه الْكفَّار ابْتِغَاء ثَوَاب الاخرة لِتَعْلَمُوا الان يَا أُمَرَاء جَيش خُرَاسَان وخوارزم ونيمروز أَن منصورا هُوَ أَمِير خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر وَأَنْتُم جميعكم جَيْشه وقادته وَبِه كُنْتُم تَحت لِوَائِي انهضوا وامضوا إِلَى بلاطه وقابلوه وجددوا لَهُ الْعَهْد وابقوا على مَا انتم فِيهِ من مَرَاتِب فِي الْخدمَة فإنني قد عقدت الْعَزْم على الْمُضِيّ إِلَى الْهِنْد للغزو وَالْجهَاد إِن أقتل تكْتب لي الشَّهَادَة وَإِن يحالفني التَّوْفِيق والنجاح فِي نصْرَة الْإِسْلَام وعزته فسأرد الْقَوْم الْكَافرين إِلَى حَظِيرَة الْإِسْلَام أملا فِي الْجنَّة ورضى الله وَرَسُوله ثمَّ إِن أَمِير خُرَاسَان سيرتاح مني وتنقطع قالة السوء عني حسنا كنت أم سَيِّئًا وعندئذ تكون خُرَاسَان وجيشها وَأَهْلهَا فِي عُهْدَة مَنْصُور وَحده وَلما أنهى كَلمه نَهَضَ وَقَالَ لأمراء الْجَيْش تقدمُوا إِلَيّ وَاحِدًا وَاحِدًا لأودعكم وعبثا حاول الْأُمَرَاء ثنيه عَن عزمه فَأخذُوا بالبكاء وتقدموا مِنْهُ وعيونهم تترغرغ بالدموع وَجعلُوا يعانقونه الْوَاحِد تلو الاخر إِلَى أَن ودعهم جَمِيعًا وَلما انصرفوا كلهم دخل خيمته الْخَاصَّة فِي حِين أَن أحدا لم يصدق أَن البتكين سيترك خُرَاسَان إِلَى الْهِنْد لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي مملكة السامانيين خَمْسمِائَة ضَيْعَة فِي خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر وَلم تكن ثمَّة مَدِينَة إِلَّا وَكَانَ لَهُ فِيهَا قصر وبساتين ومحطات قوافل وحمامات ومستغلات كَثِيرَة فضلا عَن مائَة مائَة ألف رَأس غنم وَمِائَة ألف حصان وبغل وجمل وَفِي الْيَوْم التَّالِي سمع الْأُمَرَاء صَوت النفير فَتحَرك البتكين وَمَعَهُ غلمانه وحاشيته إِلَى بَلخ تَارِكًا وَرَاءه تِلْكَ النعم جَمِيعهَا أما أُمَرَاء خُرَاسَان فصاروا جَمِيعًا إِلَى بُخَارى لما وصل البتكين إِلَى بَلخ قرر أَن يمْكث بهَا شهرا أَو شَهْرَيْن ليمكن الَّذين يُرِيدُونَ الْغَزْو من وَرَاء النَّهر وختلان وطخارستان وأطراف بَلخ من تجميع أنفسهم وَمن ثمَّ تقدم نَحْو الْهِنْد غازيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 غير ان المفسدين والمغرضين أوحوا إِلَى مَنْصُور بن نوح أَمِير خُرَاسَان بِأَن البتكين ذِئْب عَجُوز لن تكون فِي أَمن مِنْهُ وَسَلام مَا لم تقض عَلَيْهِ يَنْبَغِي إرْسَال جَيش فِي إثره للقبض عَلَيْهِ وإتيانك بِهِ فَأرْسل مَنْصُور فِي إثره أَمِيرا بِسِتَّة عشر ألف فَارس إِلَى بَلخ فَلَمَّا وصل هَذَا الْجَيْش إِلَى ترمذ وَعبر جيحون كَانَ البتكين قد أتجه من بَلخ إِلَى خلم وَكَانَ يَقع على بعد أَرْبَعَة فراسخ بَين بَلخ وخلم وَاد ضيق محاط بالوديان والقرى من عَن يَمِينه وشماله يعرف ب مضيق خلم نزل بِهِ البتكين وَوضع فِي أَعْلَاهُ مِائَتي خيال من غلمانه للمراقبة والاستطلاع وَكَانَ يملك فِي هَذَا الْوَقْت أَلفَيْنِ ومائتي مولي تركي من أفضل الرِّجَال فضلا عَن ثَمَانمِائَة ألف فَارس غاز كَانُوا قد التحقوا بِهِ من شَتَّى النواحي وَلما وصل جَيش أَمِير خُرَاسَان عَسْكَر فِي الصَّحرَاء أَمَام الْمضيق لعدم تمكنه من الْوُصُول إِلَى الْمضيق نَفسه وظل على هَذِه الْحَال شَهْرَيْن وَبعد مُضِيّ الشَّهْرَيْنِ جَاءَ دور سبكتكين فِي المراقبة والاستطلاع فَلَمَّا وصل إِلَى قمة الْمضيق وَرَأى الْجَيْش منتشرا فِي الصَّحرَاء وطلائعه متحفزة متوثبة فكر فِي نَفسه لقد ترك مَوْلَانَا خُرَاسَان وَمَا لَهُ فِيهَا من نعم وثروة وَمضى غازيا فطمع هَؤُلَاءِ بِرُوحِهِ وأرواحنا جَمِيعًا انني أخْشَى لشدَّة وَفَاء مولائي بعهوده ومراعاته لَهُم أَن يلقِي بِنَفسِهِ وأنفسنا الى التَّهْلُكَة لَا مندوحة لهَذَا الْأَمر من السَّيْف لِأَن جَيش مَنْصُور لن يكف عَن ملاحقتنا مَا دمنا صامتين هَكَذَا كَانَ الله تَعَالَى فِي عون ذَلِك الرجل الَّذِي ألْحقُوا بِهِ الظُّلم فهم الظَّالِمُونَ وَنحن المظلومون ثمَّ الْتفت نَحْو الغلمان الَّذين كَانُوا مَعَه وَقَالَ إِن عبء هَذَا الْأَمر يَقع علينا نَحن إِن يظفروا بِنَا فَلَنْ يبقوا منا على قيد الْحَيَاة أحدا ساحمل عَلَيْهِم الْيَوْم لأرى مَا سَيكون سَوَاء لآقى الْأَمر قبولا لَدَى مَوْلَانَا أم لَا وَليكن مَا يكون قَالَ هَذَا ثمَّ ألْقى بِنَفسِهِ وَمَعَهُ ثَلَاثمِائَة فَارس من الغلمان على طَلِيعَة جَيش خُرَاسَان فكسرهم حَالا ودلف إِلَى معسكرهم وَمَا إِن تمكنوا من استلام السِّلَاح وامتطاء الْجِيَاد كَانَ سبكتكين ورهطه قد قتلوا أَكثر من ألف مِنْهُم وعادوا فِي سرعَة إِلَى مكانهم على قمة الْمضيق وَلما أخبر البتكين بِمَا فعل سبكتكين وَقَتله كثيرا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الْأَعْدَاء استدعاه وَقَالَ لماذا تسرعت كَانَ يَنْبَغِي أَن تتحلى بِالصبرِ قَالَ البتكين يَا مولَايَ إلام نصبر لقد عيل صَبرنَا علينا أَن نسعى لإنقاذ أَرْوَاحنَا وَلَا سَبِيل إِلَى هَذَا إِلَّا بِالسَّيْفِ لَا الصَّبْر سنحارب من أجل مَوْلَانَا حَتَّى اخر رَمق إِلَى أَن يجد فِي الْأَمر شَيْء قَالَ البتكين أما وَقد أثرت ثائرة الْعَدو فَمن الْوَاجِب اتِّخَاذ خطة أنجع ضِدّه قل لرجالنا أَن يقوضوا الْخيام ويحزموا الْأَمْتِعَة اسْتِعْدَادًا للرحيل والتحرك بعد صَلَاة الْعشَاء وَإِخْرَاج الْأَمْتِعَة والمؤن من الْمضيق على أَن يسير طغان بِأَلف غُلَام سرا إِلَى النَّاحِيَة الْيُمْنَى من وَادي كَذَا وتمضي أَنْت بالف غُلَام أَيْضا إِلَى الْجَانِب الْأَيْسَر من وَادي كَذَا وَأخرج أَنا وَمَعِي ألف فَارس بالمؤن من الْمضيق إِلَى الصَّحرَاء ونحط الرّحال هُنَا فسيقول الْأَعْدَاء حِين لَا يرَوْنَ أحد على قمة الْمضيق فِي الْيَوْم التَّالِي بَان البتكين قد فر فيركبون ويسرعون للحاق بِنَا مارين بالمضيق وَحين يخرج أَكثر من نصفهم مِنْهُ ويرونني فِي الصَّحرَاء اطبقوا عَلَيْهِم بسيوفكم من مكامنكم من الْيَمين واليسار وَحين يدق ناقوس الْقِتَال سيتراجع الْقسم الْمُقَابل لي من جيشهم الَّذِي خرج من الْمضيق للإنضمام إِلَى الَّذين مَا زَالُوا فِيهِ ليفروا جَمِيعهم مَعًا وسيبتلى قسم مِنْهُم بشر سُيُوفكُمْ سأحمل من الْأَمَام وتخرجون انتم من الْمضيق فنحاصر الخارجين مِنْهُ مِنْهُم ونعمل فيهم السَّيْف ونستمر فِي ضَربهمْ مَا قاوموا وَإِذا مَا ولوا الأدبار نفسح لَهُم مجَال الْهَرَب ونوسع عَلَيْهِم أَبْوَاب الْهَزِيمَة حِينَئِذٍ نعود وَنخرج من الْمضيق ونقع على معسكرهم للغنائم فنفذوا هَذَا وَتركُوا الْمضيق وَفِي صباح الْيَوْم التَّالِي الباكر كَانَ جَيش أَمِير خُرَاسَان يقف بسلاحه على أهبة الاستعداد للحرب وَلما لم يرَوا على قمة الْمضيق أحدا توغلوا فِيهِ فرسخا وَاحِدًا فَرَأَوْا اثار معسكر البتكين صَحَّ يقينهم بفراره انذاك نُودي على الْجَيْش ان أَسْرعُوا فِي إثرهم فَبعد أَن يعبر الْمضيق وَنخرج مِنْهُ سنطبق عَلَيْهِم فِي الصَّحرَاء بِمدَّة وجيزة ونقبض على البتكين فَتقدم الْجَيْش فِي سرعَة تتقدمه الصفوة الممتازة وَلما أطلوا من الْمضيق رَأَوْا البتكين وَمَعَهُ ثَلَاثَة الاف من الخيالة وَعدد من المشاة فِي السهل الممتد هُنَاكَ وَلما خرج نصف الْجَيْش المعادي من الْمضيق انقض عَلَيْهِ طغان بِأَلف غُلَام من الْجَانِب الْأَيْسَر للوادي وعاثوا فيهم بسيوفهم وردوا من كَانُوا خَرجُوا من الْمضيق على أَعْقَابهم وَقتلُوا مِنْهُم خلقا كثيرا أما سبكتكين فانقض عَلَيْهِم بِأَلف غُلَام من الْجَانِب الْأَيْمن وأعمل فيهم السَّيْف ثمَّ التقى بطغان وأخذا يلاحقانهم مَعًا وَأما البتكين فَحمل عَلَيْهِم من الْأَمَام واستطاعوا بِمدَّة يسيرَة أَن يجندلوا عددا كَبِيرا مِنْهُم أما أَمِير جيشهم فاصيب بطعنة رمح فِي ظَهره خرجت من صَدره فَخر على الأَرْض وَانْهَزَمَ الْجَيْش الَّذِي لَاذَ أَفْرَاده بالفرار إِلَى كل نَاحيَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وجدوا إِلَيْهَا منفذا لَهُم ومهربا بعد ذَلِك عبر غلْمَان البتكين الْمضيق إِلَى معسكر الْجَيْش المنهزم فغنموا مَا عثروا عَلَيْهِ من جِيَاد وبغال وَفِضة وَذهب وديباج فَقَط أما الْخيام والسجاد وَمَا إِلَيْهِمَا من أَمْتعَة ومؤن ووسائل أُخْرَى فتركوها وقفلوا رَاجِعين حَتَّى إِن أهالي قرى بَلخ ظلوا يغنمون مِنْهَا شهرا كَامِلا وَلما احصي عدد الْقَتْلَى كَانُوا أَرْبَعَة الاف وَسَبْعمائة وَخمسين من غير الْجَرْحى ثمَّ سَار البتكين من خلم إِلَى باميان حَيْثُ تصدى أميرها لقتاله فَقبض عَلَيْهِ لبتكين وأسره لكنه عذره لفعلته تِلْكَ وَعَفا عَنهُ وخلع عَلَيْهِ خلعة وَدعَاهُ ابْنه وَكَانَ هَذَا الْأَمِير هُوَ الَّذِي لقب من أُمَرَاء باميان ب شيرباربك وَمن هُنَاكَ توجه البتكين إِلَى كابل وَهزمَ أميرها وَأخذ ابْنه أَيْضا لكنه أحسن مُعَامَلَته ورده إِلَى أَبِيه ثمَّ مضى إِلَى غزنين ففر ابْن أَمِير كابل لَا بُد أَنه كَانَ فِي غزنين انذاك الَّذِي كَانَ صهر لوبك أَمِير غزنين إِلَى سرخس وَلما وصل البتكين إِلَى مشارف غزنين خرج إِلَيْهِ لوبك واشتبك فِي قتال مَعَه فَأسر ابْن أَمِير كابل ثَانِيَة وَهزمَ لويك وحوصرت الْمَدِينَة وَأقَام البتكين على مشارف الْمَدِينَة ضَارِبًا عَلَيْهَا نطاقا من الْحصار فخافه أهل زابل لكنه أَمر مناديا يُنَادي فِي أَتْبَاعه أَن يجب أَلا يَأْخُذ أحدكُم من أَي شخص شَيْئا دون أَن ينقده ثمنه وكل من يُخَالف هَذَا يُعَاقب وَذَات يَوْم وَقعت عين البتكين على غُلَام تركي من غلمانه كَانَ قادما وَهُوَ يعلق مخلاة تبن ودجاجة على طوق سرج حصانه فَقَالَ إِلَيّ بذلك الْغُلَام فَأتى بِهِ وَسَأَلَهُ البتكين أَنى لَك مخلاة التِّبْن هَذِه والدجاجة قَالَ أخذتهما من فلاح قروي قَالَ البتكين هلا تتقاضى راتبا شهريا قَالَ الْغُلَام أجل قَالَ البتكين فَلم لم تشترهما بنقود إِذن فإنني أدفَع لَك أجرا شهريا لِئَلَّا تَأْخُذ من فَقير شَيْئا دونما حق فضلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 عَن أنني أمرت مناديا يُنَادي عَلَيْكُم بِهَذَا وَأمر فِي الْحَال بشق الْغُلَام نِصْفَيْنِ وتعليقه والمخلاة مَعَه على قَارِعَة الطَّرِيق ثمَّ أَمر بِأَن يُنَادى ثَلَاثَة أَيَّام إِذا مَا بلغنَا أَن أحدا أَخذ من شخص شَيْئا سنجازيه بِمَا جازينا بِهِ هَذَا الْغُلَام من خَواص غلماننا فخاف الْجَيْش وَأمن النَّاس وَأخذت النعم والخيرات الَّتِي لَا يعلم مقدارها سوى الله عز وَجل تترى على المعسكر يوميا لتباع ثمَّة وَلم يدع البتكين أحدا من الغلمان يَأْتِي وَلَو بتفاحة وَاحِدَة من الْمَدِينَة لما رأى أهل غزنين مَا هم عَلَيْهِ من أَمن وَعدل ونعمة قَالُوا إننا فِي حَاجَة إِلَى ملك عَادل نَكُون فِي ظله امنين على أَرْوَاحنَا وَأَمْوَالنَا وأبنائنا تركيا كَانَ أم فارسيا واخترقوا بوابة الْمَدِينَة ومضوا إِلَى البتكين وَلما رأى لويك هَذَا فر إِلَى القلعة لكنه خرج مِنْهَا بعد عشْرين يَوْمًا وَصَارَ إِلَى البتكين الَّذِي أظهر لَهُ رزقا وأملاكا يعِيش مِنْهَا وَلم يلْحق أَذَى بِأحد وعد غزنين موطنا لَهُ وَمن هُنَاكَ قصد الْهِنْد وَكَانَت الْمسَافَة بَين غزنين وديار الْكفْر مسيرَة يَوْمَيْنِ فاصاب غَنَائِم وفيرة وشاعت الْأَخْبَار فِي خُرَاسَان ونيمروز وَمَا وَرَاء النَّهر بِأَن البتكين اقتحم أَبْوَاب الْهِنْد وأغار عَلَيْهَا وظفر بغنائم كَثِيرَة من الذَّهَب وَالْفِضَّة والأنعام وَالْعَبِيد والتحف الطريفة النادرة الَّتِي لَا يعلم مقدارها سوى الله وَحده وانضم إِلَيْهِ النَّاس من شَتَّى الْأَطْرَاف حَتَّى وصل عدد أَتْبَاعه إِلَى سِتَّة الاف خيال وَاسْتولى البتكين على عدد من الولايات وأخضعها إِلَى برشاوور وتصدى لَهُ ملك الْهِنْد بِمِائَة ألف خيال وَخمسين ألف راجل وَألف وَخَمْسمِائة فيل لإخراجه مِنْهَا وَمن الطّرف الاخر أرسل أَمِير خُرَاسَان شخصا يدعى أَبَا جَعْفَر بِخَمْسَة وَعشْرين ألف فَارس لِحَرْب البتكين أَيْضا وليثأر لهزيمة جَيْشه النكراء وقتلاه على مشارف بَلخ وَفِي مضيق خلم وَترك البتكين أَبَا جَعْفَر يتَقَدَّم بجيشه حَتَّى صَار على بعد منزلَة وَاحِدَة من غزنين فَخرج حينذاك بِرِجَالِهِ السِّتَّة الاف من غزنين وأطبق على جَيش أبي جَعْفَر واستطاع أَن يتغلب على الْخَمْسَة وَالْعِشْرين ألفا فِي مُدَّة قَليلَة ويهزمهم هزيمَة شنعاء أَسْوَأ ألف مرّة مِمَّا مني بِهِ الْجَيْش السَّابِق على مشارف خلم أما أَبُو جَعْفَر فولى الأدبار وحيدا بعد أَن وجد نَفسه دون رجال غير أَن الْقرَوِيين قبضوا عَلَيْهِ وَلم يعرفوه فسلبوه جَوَاده وكل مَا كَانَ مَعَه وأطلقوه فَمضى إِلَى بَلخ رَاجِلا متواريا ودخلها متنكرا أما انعامهم وعددهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وغنائمهم فالت إِلَى البتكين جَمِيعًا وَلم يعد أَمِير خُرَاسَان بعد هَذِه الْمرة إِلَى التصدي لالبتكين أَو التَّعَرُّض لَهُ لِأَن ضعف السامانيين بعد البتكين بلغ مداه إِذْ صَارا هدف أُمَرَاء تركستان ونهبأ لحملاتهم وَلما فرغ البتكين من قتال أبي جَعْفَر تفرغ لملك الْهِنْد فَبعث برسائل إِلَى خُرَاسَان وشتى الأنحاء يطْلب مدَدا فَجَاءَتْهُ أعداد غفيرة طَمَعا فِي الْغَنَائِم وطلبا للغزو وصل عَددهمْ إِلَى أحد عشر ألفا وَخَمْسمِائة خيال وراجل كلهم من الشَّبَاب المدججين بكامل أسلحتهم وَتقدم بهم نَحْو ملك الْهِنْد ثمَّ حمل على طلائع جَيْشه بغته فَقتل أَكثر من عشرَة الاف هندي وَلم يلته بالغنائم بل خف منسحبا إِلَى الْخلف فَلَمَّا حمل عَلَيْهِ جَيش الْملك لم يجده لقد كَانَ ثمَّة جبل شَاهِق وَشعب كَانَت طَرِيق جَيش ملك الْهِنْد مِنْهُ فَمَا كَانَ من البتكين إِلَّا أَن تمركز فِي أول الشّعب وَاسْتولى عَلَيْهِ وَلما وصل الْملك إِلَى هُنَاكَ لم يسْتَطع أَن يمر مِنْهُ بل عَسْكَر حَيْثُ وقف بِهِ الْمسير وَأقَام على تِلْكَ الْحَال شَهْرَيْن فِي حِين كَانَ البتكين يُغير عَلَيْهِم ليل نَهَار بَغْتَة باستمرار وَيقتل مِنْهُم وَقد أبلى سبكتكين فِي هَذِه الْحَرْب بلَاء حسنا وتمت على يَدَيْهِ أَعمال جليلة كَثِيرَة أما ملك الْهِنْد فَبَقيَ على مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذْ لم يسْتَطع أَن يتَقَدَّم إِلَى الْأَمَام أَكثر وَلم يكن فِي استطاعته أَن يعود دون بُلُوغ الهدف وَتَحْقِيق الِاسْتِقْرَار وَفِي نِهَايَة الْأَمر اقترح ملك الْهِنْد على البتكين لقد جِئْت من خُرَاسَان طلبا للرزق فَمَا بالك فِي أَن أهبك من الْأَرَاضِي مَا تعيش مِنْهَا على أَن تنظم بِمن مَعَك إِلَى جيشي وتصبحوا جَزَاء مِنْهُ تَأْكُلُونَ وتقيمون بِسَلام امنين فَرضِي البتكين بِهَذَا وَقَبله وَأَعْطَاهُ الْملك عددا من المدن والنواحي وَخمْس قلاع ثمَّ عَاد لَكِن الْملك كَانَ قد أوعز إِلَى حامية القلاع سرا لَا تسلموه القلاع بعد عودتي وَلما عَاد امْتَنعُوا عَن تَسْلِيمهَا لَهُ فَقَالَ لقد نقضوا الان عَهدهم وأغار من جَدِيد فَفتح الْمَدّ وَاسْتولى على القلاع عنْوَة لكنه توفّي فِي هَذِه الْأَثْنَاء فَوَقع جَيْشه وغلمانه فِي حيرة من أَمرهم لِأَن الهنود وَالْكفَّار كَانُوا يحيطون بهم من كل جَانب وجلسوا يتداولون الْأَمر ويتدبرونه فَقَالُوا لم يتْرك البتكين ولدا نجعله خَليفَة لَهُ ونسوده علينا أما نخن فقد حزنا فِي الْهِنْد كثيرا من الاحترام والرفعة والشرف وَلنَا فِي قُلُوب الهنود هَيْبَة جد عَظِيمَة ان نشغل أَنْفُسنَا بِأَن يَقُول أَحَدنَا أَنا أَكثر احتراما وحشمة وَيَقُول اخر أَنا الأول ويعصى كل شخص وَيُخَالف من جَانِبه فسيتبدد كل مالنا من رفْعَة وهيبة ويتغلب أعداؤنا علينا وَإِذا مَا دب الْخلاف بَيْننَا فَإِن السيوف الَّتِي نحارب الْكفَّار بهَا سنصوبها إِلَى نحورنا وتفلت من أَيْدِينَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 هَذِه الْولَايَة الَّتِي استولينا عَلَيْهَا لَا حِيلَة لنا سوى أَن نَخْتَار من بَيْننَا أليقنا واكفأنا ونجعله أَمِيرا علينا نأتمر بأَمْره على أَنه البتكين فَقَالُوا جَمِيعًا لَا علاج لأمرنا سوى هَذَا ثمَّ أخذُوا يستعرضون الغلمان المقدمين مبينين مَا على كل مِنْهُم من مَأْخَذ وعيوب إِلَى أَن وصلوا إِلَى سبكتكين فَوَجَمَ الْجَمِيع حِين ذكر اسْمه لكنه نَهَضَ من بَينهم من قَالَ لَا عيب فِي سبكتكين سوى أَن فِي الغلمان الاخرين من اشْترِي قبله وَأكْثر مِنْهُ خدمَة وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا ينقصهُ شَيْء من حَيْثُ الفطنة والذكاء والنزال والشجاعة والمروءة والسخاء والبذل ومراعاة النَّاس وَحسن الصُّحْبَة وَالْعشرَة والدماثة وَالْخَوْف من الله وَالْوَفَاء بالعهد والصدق والاستقامة لقد رباه مَوْلَانَا البتكين فَكَانَت أَفعاله تلقى من لَدنه كل رضى وَقبُول دَائِما ثمَّ إِنَّه يجمع سيرة مَوْلَانَا وخصاله جَمِيعهَا وَيعرف لكل منا قدره ومكانته جيدا هَذَا مَا أعرفهُ عَنهُ والرأي مَا تَرَوْنَهُ وتشعبوا فِي حَدِيثهمْ ثمَّ اتَّفقُوا أخيرا على تنصيب سبكتكين أَمِيرا عَلَيْهِم ورد سبكتكين تنصيبهم لَهُ لكِنهمْ أجبروه على ذَلِك وَحِينَئِذٍ قَالَ إِن لم يكن ثمَّة مناص فإنني أقبل هَذَا العبء على أَن تهبوا معي هبة رجل وَاحِد على كل من يخالفني أَو يشق عَصا طَاعَتي أَو ينْبذ أوامري ظهريا ويتوانى فِي تنفيذها مِنْكُم وتقتلوه فعاهدوه أوثق عهد وأقسموا على ذَلِك ثمَّ أَخَذُوهُ وأجلسوه مَكَان البتكين وسلموا عَلَيْهِ بِسَلام الْأَمِير ونثروا الذَّهَب وَالْفِضَّة من حوله وتكللت كل تدابير سبكتكين وحملاته بالسداد والنجاح ثمَّ تزوج من إبنة رَئِيس زابل زابلستان الَّتِي ولدت لَهُ مَحْمُودًا وَلِهَذَا قيل لَهُ مَحْمُود الزابلي وَلما كبر مَحْمُود شَارك وَالِده فِي حملات وأسفار كَثِيرَة وأنعم خَليفَة بَغْدَاد بلقب نَاصِر الدّين على سبكتكين لما قَامَ بِهِ من أَعمال جليلة وأحرز من انتصارات عَظِيمَة فِي ديار الْهِنْد وَلما توفّي سبكتكين خَلفه ابْنه السُّلْطَان مَحْمُود الَّذِي كَانَ قد ثقف عَن وَالِده تَدْبِير شؤون الْملك وإدارتها وَكَانَ مَحْمُود كَاتبا وقارئا يهوى الاصغاء إِلَى أَخْبَار الْمُلُوك دَائِما وَلَقَد حَاز كل الصِّفَات وَالسير الحميدة وَمضى مَحْمُود فِي طَرِيق الْفَتْح فَفتح ولَايَة نيمروز وَاسْتولى على خُرَاسَان أما الْهِنْد فتوغل فِيهَا كثيرا وَاسْتولى على سومنات وجلب مَنَاة وتغلب على مُلُوكهَا وَهَزَمَهُمْ وَوصل أمره إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ لقد هدفت من وَرَاء هَذِه الْحِكَايَة أَن يعلم سيد الْعَالم خلد الله ملكه كَيفَ يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 العَبْد الْجيد الَّذِي إِذا مَا قَامَ بخدمات نافعة مَقْبُولَة وَلم تبدر مِنْهُ أَيَّة خِيَانَة أَو ينْكث عهدا قطّ بل كَانَ الْملك بِهِ ثَابت الأساس مستحكما فَكَانَ بركَة على المملكة ونفعا لَهَا فَيَنْبَغِي أَلا يكلم فِي فُؤَاده أَو يصغى إِلَى أقاويل النَّاس المغرضة فِيهِ بل يجب الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ كثيرا فالأسرات الحاكمة والمدن والممالك فِي حَاجَة إِلَى رجال تستند إِلَيْهِم وتعتمد عَلَيْهِم دَائِما فَإِذا مَا نحي أحدهم عَن مَكَانَهُ أَو أطيح بِهِ تنقرض تِلْكَ الأسرة ويمحي ملكهَا وتؤول مدنها إِلَى دمار مِثَال هَذَا ان البتكين كَانَ غُلَاما جيدا وَبِه استحكم ملك السامانيين الَّذين لم يعرفوا لَهُ قدره بل تألبوا عَلَيْهِ فدالت بذهابه من خُرَاسَان دولة السامانيين والت بفضله هُوَ إِلَى أسرته من بعده يَنْبَغِي الْحفاظ على العبيد والغلمان الَّذين يربون مُنْذُ صغرهم ويترعرعون وَيُكَبِّرُونَ لِأَنَّهُ قَلما يجود زمَان بِغُلَام لَائِق متمرس فقد قَالَت الْحُكَمَاء الْخَادِم وَالْعَبْد الْكُفْء المتمرس خير من الابْن وَفِي الْمَعْنى نَفسه يَقُول الشَّاعِر عبد وَاحِد مطواع خير من ثَلَاثمِائَة ولد لِأَن هَؤُلَاءِ يَبْغُونَ موت الْأَب وَالْعَبْد ينشد عزه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الْفَصْل الثَّامِن وَالْعشْرُونَ فِي تنظيم المقابلات الْخَاصَّة والعامة لَا بُد للمقابلات السامية من نظام معِين بِحَيْثُ يدْخل ذَوُو الْقُرْبَى أَولا فالمعروفون من الحشم فَالنَّاس من الطَّبَقَات الْأُخْرَى كَافَّة وعندما يَجْتَمعُونَ فِي مَكَان وَاحِد هُوَ القضر لَا يكون ثمَّة فرق بَين شريفهم والوضيع من إمارات الْمُقَابلَة رفع الستارة أما إسدالها فيعني أَنه لَا يسمح لأحد بِالدُّخُولِ مالم يستدع وَمَا كَانَ هَذَا إِلَّا عَلامَة يسْتَدلّ بهَا رسل كبراء الدولة وقادة الْجَيْش على وجود مُقَابلَة فِي ذَلِك الْيَوْم أم لَا فَإِن يكن مثولهم بَين يَدي السُّلْطَان وَاجِبا يذهبوا وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ لَيْسَ أَشد وَطْأَة عَلَيْهِم من حضورهم إِلَى الْقصر وعودتهم دون أَن يرَوا السُّلْطَان فَأن يتَكَرَّر الْأَمر بِأَن يحضروا مَرَّات ويعودوا وَلم يقابلوه فَإِنَّهُم سيظنون بِهِ الظنون ويشرعون فِي التَّدْبِير لَهُ وَالْمَكْر بِهِ ان تضيق النطاق على النَّاس فِي الْوُصُول إِلَى الْملك ومقابلته يُؤَدِّي إِلَى تردي أَحْوَالهم وبقائها خافية عَلَيْهِ ثمَّ إِلَى تفاقم أَمر المفسدين وتماديهم وَسُوء حَال الْجَيْش ومعاناته وشقاء الرّعية لَيْسَ ثمَّة أفضل من أَن يُوسع الْملك نطاق مقابلاته وَيفتح أبوابه على مصاريعها وَفِي أثْنَاء جُلُوسه للمقابلة على وُلَاة الثغور والأمراء والسادات وَالْأَئِمَّة بعد دُخُولهمْ ومثولهم بَين يَدَيْهِ أَن يعودوا وَمن مَعَهم حَالا وَإِذا مَا بَقِي الْخَاصَّة هُنَاكَ فعلى غلمانهم الَّذين جَاءُوا مَعَهم للمثول بَين يَدي السُّلْطَان ان يعودوا أما الغلمان الَّذين لَا يسْتَغْنى عَنْهُم من مثل الموكلين بِالسِّلَاحِ والسقاية وذوق الطَّعَام وامثالهم فَلَا بُد من بقائهم مَا أَقَامَ الْخَاصَّة وَإِذا مَا تكَرر الْأَمر على هَذَا النَّحْو مَرَّات عدَّة يصير عَادَة تؤول إِلَى قَاعِدَة تتبع فتتلاشى هَذِه المشاق والمتاعب وَلنْ تعود ثمَّة حَاجَة إِلَى رفع الستارة وإسدالها إِن أَي تَرْتِيب لَا يتمشى مَعَ هَذَا لن يلقى رضى وقبولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الْفَصْل التَّاسِع وَالْعشْرُونَ فِي تنظيم مجْلِس الشَّرَاب وشروط ذَلِك يَنْبَغِي تَخْصِيص يَوْم أَو يَوْمَيْنِ أسبوعيا للمقابلات الْعَامَّة بِحَيْثُ يكون الْملك فيهمَا فِي أوج انبساطه ونشاطه ليتَمَكَّن من حُضُورهَا كل من اعْتَادَ ذَلِك وَلَا يمْنَع مِنْهَا أحد وَيجب أَن يخبر الْعَامَّة بَان هَذَا الْيَوْم يومهم وَأَن لَا يَأْتُوا فِي الْأَيَّام الَّتِي تكون المقابلات فِيهَا للخاصة فَقَط لِئَلَّا تكون ثمَّة حَاجَة فِي أَن يُؤذن لشخص وَيرد اخر وَيَنْبَغِي أَن تكون أَسمَاء من هم أهل لحضور الْمجَالِس الْخَاصَّة مَعْرُوفَة وعددهم معينا وَيشْتَرط أَن يكون برفقة كل مِنْهُم غُلَام وَاحِد فَقَط وَلَيْسَ من اللياقة أَن ياتوا بِالْخمرِ وسقاتهم مَعَهم لِأَن الْعَادة لم تجر قطّ بِشَيْء من هَذَا الْعَمَل غير المقبول بل جرت الْعَادة فِي كل الْأَعْصَار أَن تحمل الأغذية وَالنَّقْل والأشربة من قُصُور الْمُلُوك إِلَى بيُوت الاخرين وَلَيْسَ الْعَكْس فالسلطان هُوَ سيد الْبِلَاد وَالنَّاس كلهم عِيَال عَلَيْهِ فَلَيْسَ صَحِيحا إِذن أَن يحمل الطَّعَام وَالشرَاب من بيُوت من يعولهم السُّلْطَان ويؤمن لَهُم أَرْزَاقهم إِلَى قصره ومجالسه وَمن الْمُسلم بِهِ أَن تَدْبِير شؤون السُّلْطَان المنزلية وتجهيزاتها أَكثر وَأحسن وأجمل وأنظف مِمَّا لكل أكَابِر الدولة وعظمائها إِن تكن عِلّة إحضارهم الشَّرَاب أَن الْمُوكل الْخَاص بِهِ يقدم ضربا رديئا تجب معاقبته لِأَن كل الاشربه الَّتِي يُوكل بهَا من الْأَصْنَاف الجيدة فلماذا يقدم شرابًا رديئا فبذا يبتفي عذرهمْ وَيَقْضِي على جسارتهم فِي إِحْضَار الشَّرَاب إِلَى مجْلِس الْملك وَلَا مندوحة للْملك من ندامى لائقين لَان مُجَالَسَته للعبيد والخدم بِكَثْرَة تزيد من جرأتهم عَلَيْهِ وتسيء إِلَى عَظمته وجلاله وتنال من حرمته وتصدع أَرْكَانهَا وَتُؤَدِّي إِلَى ركة فِي طبعه فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا يليقون للْخدمَة حسب أما معاشرة الْملك لكبراء الدولة وقادة الْجَيْش ورؤساء الْقَوْم العظماء المحترمين ومخالطته لَهُم كثيرا أَيْضا فتسىء إِلَى أبهته وجلاله من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 حَيْثُ تُؤدِّي بهم الى التواني والتقاعس عَن إطاعة أوامره وتنفيذها فيتجرأون عَلَيْهِ ويضربون بالخوف والرهبة مِنْهُ عرض الْحَائِط إِن من وَاجِب الْملك أَن يبْحَث مَعَ الْوَزير فِي الْأُمُور الْخَاصَّة بالولايات والجيش وعائدات أَمْلَاك الدولة وأراضيها والنفقات والعمران والتدابير اللَّازِمَة لصد الْخُصُوم وَغير هَذَا من شؤون المملكة كل هَذِه هِيَ الَّتِي تبْعَث على الملالة وَزِيَادَة التفكير وَعَذَاب النَّفس لِأَن الْعقل وَالنَّفس لَا يبيحان المزاح والانفتاح مَعَ تِلْكَ الفئات حرصا على مصلحَة الْملك ان طبع الْملك لَا ينْفَرد إِلَّا بالنديم فَإِذا مَا أَرَادَ أَن ينبسط أَكثر فِي عيشه وحياته بِأَن يخلط الْهزْل بالمزاح ويتبادل الحكايات المضحكة والنوادر مَعَ الندماء فَإِن هَذَا لَا يضير عَظمته فِي شَيْء لِأَنَّهُ إِنَّمَا يدخرهم لمثل هَذِه الْأُمُور وَقد تكلمنا على هَذَا المضوع فِي فصل سَابق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الْفَصْل الثَّلَاثُونَ فِي تَرْتِيب وقُوف العبيد والخدم يَنْبَغِي تنظيم وقُوف الكبراء وَغير الكبراء وَالْعَبِيد والخدم وَتَعْيِين مَكَان كل مِنْهُم لِأَن الْوُقُوف وَالْجُلُوس بَين يَدي الْمُلُوك سَوَاء وَيجب ان يُرَاعى نظام الْوُقُوف مِثْلَمَا هُوَ الْأَمر فِي الْجُلُوس فيقف خَاصَّة الْملك من مثل حَملَة السِّلَاح والسقاة واضرابهم بِالْقربِ من سَرِير الْملك ويلتفون حوله فاذا مَا أَرَادَ شخص أَن يندس بَينهم أبعده حَاجِب البلاط وَإِذا مَا دلف شخص غَرِيب وسط أَي جمَاعَة مِنْهُم يصْرخ فِي وَجهه وَيمْنَع من ذَلِك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الْفَصْل الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ فِي احتياجات الْجَيْش ومطالبه إِن تكن للجند حَاجَة مَا يَنْبَغِي أَن تطلب بألسنة قادتهم وَرُؤَسَائِهِمْ لأَنهم ان أجِيبُوا إِلَى ذَلِك إِجَابَة حَسَنَة يَكُونُوا توصلوا إِلَى احتياجاتهم بِأَنْفسِهِم ويكسبوا احترام أفرادهم لأَنهم طلبُوا مَا يَحْتَاجُونَ بِأَنْفسِهِم فنالوه دون مَا حَاجَة إِلَى وساطة تذْهب باحترامهم لَو لجأوا إِلَيْهَا وَإِذا مَا تطاول جندي على قائده وَلم يحترمه أَو يرع حرمته بل تجَاوز حَده يجب أَن يُعَاقب كَيْمَا يمتاز الرئيس عَن المرؤوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الْفَصْل الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ فِي معرفَة قدر الجاه وَالسِّلَاح ومعدات الْحَرْب وَالسّفر يَنْبَغِي حث العظماء والمشهورين مِمَّن يمتلكون الألبسة الْقيمَة الثمينة على امتلاك الأسلحة والات الْحَرْب وَشِرَاء الغلمان لِأَن مظَاهر أبهتهم وعظمتهم إِنَّمَا تكون بِهَذِهِ الْأَشْيَاء لَا بزينة مَنَازِلهمْ وأثاثها ووسائل تجملها ان من تتوفر لَهُ إمكانات أَكثر فِي هَذَا المجال يكون أقرب حظوة لَدَى الْملك واكثر عَظمَة وهيبة وجلالة بَين أقرانه وأمام الْجَيْش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الْفَصْل الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ فِي عتاب المقربين وَذَوي المقامات الرفيعة حِين ارْتِكَاب الأخطاء والذنُوب على من ينشدون العظمة الْوُصُول إِلَى المقامات الْعَالِيَة الرفيعة أَن يتحملوا الصعاب ويتجملوا بِالصبرِ فِي أزمانهم فَإِذا مَا بَدَت من هَؤُلَاءِ هَنَات وأخطاء وعوتبوا جهارا فَإِن مَاء وُجُوههم يراق وَلَا يرد لَهُم اعتبارهم وحرمتهم إِلَّا بِقدر كَبِير من الاحسان والمكافئة وَالتَّقْدِير إِنَّه لمن الأولى إِذا مَا ارْتكب أحدهم خطأ أَن يغض الطّرف عَنهُ فِي حِينه ثمَّ يستدعى سرا وَيُقَال لَهُ لقد فعلت كَذَا وكذ لكننا رَغْبَة منا فِي عدم الاطاحة بِمن قربناهم واوصلناهم إِلَى هَذِه الْمنزلَة قد تجاوزنا عَن ذَلِك عَلَيْهِ أَن يتَجَنَّب الْوُقُوع فِي الْخَطَأ وَألا يَجْرُؤ على ارْتِكَاب شَيْء من هَذَا الْقَبِيل فِيمَا بعد لكنه إِذا مَا أعَاد الكرة فسيخرج من كنفنا وخدمتنا وحشمنا فَيكون حِينَئِذٍ هُوَ الَّذِي اخْتَار هَذَا لَا نَحن سُئِلَ أَمِير الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنهُ أَي الرِّجَال أَشْجَع فَأجَاب من يَتَمَالَك نَفسه عِنْد الْغَضَب وَلَا ياتي بِعَمَل ينْدَم على فعله بعد أَن يسكن غَضَبه فلات سَاعَة مندم ان كَمَال عقل الْمَرْء فِي أَلا يغْضب فَأن غضب يجب أَن تكون الْغَلَبَة لعقله على غَضَبه وَلَيْسَ الْعَكْس إِن من يستولي هوى نَفسه على على عقله فَإِن غَضَبه حِين يثور يطغى على عقله فيتصرف تصرف المجانين فِي أَقْوَاله وأفعاله لَكِن من يكبح عقله جماح نَفسه إبان عضبها فَإِن عقله يَسْتَطِيع طرد أهواء نَفسه وميولها والانتصار عَلَيْهَا فَتلقى أَقْوَاله وأعماله قبولا لَدَى الْعُقَلَاء وَلَا يدْرِي النَّاس أغاضب هُوَ أم لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 حلم الْحُسَيْن بن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام جلس الْحُسَيْن بن عَليّ رضوَان الله عَلَيْهِمَا يَوْمًا وَمَعَهُ جمَاعَة من الصَّحَابَة ووجهاء الْعَرَب إِلَى الخوان يَأْكُلُون الطَّعَام وَكَانَ يرتدي جُبَّة جَدِيدَة ثمينة من الديباج الرُّومِي وعمامة فِي غَايَة الْحسن وَلما أَرَادَ الْغُلَام الَّذِي كَانَ يقف على رَأسه أَن يضع انية طَعَام أُمَامَة شَاءَ الْقدر أَن تسْقط من يَده على راس الْحُسَيْن وكتفه فتتلطخ عمَامَته وجبته بِالطَّعَامِ فثارت ثائرة الْحُسَيْن واحمرت وجنتاه خجلا فَرفع رَأسه وَنظر فِي الْغُلَام لما راى الْغُلَام الْأَمر على هَذِه الْحَال خشِي أَن يَأْمر الْحُسَيْن بتأديبه فَقَالَ {والكاظمين الغيظ وَالْعَافِينَ عَن النَّاس} فَالْتَفت الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ إِلَيْهِ مبتهجا وَقَالَ يَا غُلَام لقد عَفَوْت عَنْك لتَكون فِي أَمَان تَامّ من غَضَبي وعقوبتي فَعجب الْحَاضِرُونَ من حلم الْحُسَيْن وعلو همته فِي حَال كتلك وأكبروهما حلم مُعَاوِيَة يُقَال ان مُعَاوِيَة كَانَ وَاسع الصَّدْر وحليما جدا فَفِي حِين كَانَ يجلس للنَّاس يَوْمًا والعظماء جُلُوس امامه ووقوف دخل عَلَيْهِ شَاب فِي ثِيَاب رثَّة فَسلم وَجلسَ قبالته بِكُل جسارة وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قصدتك الْيَوْم فِي حَاجَة لَا أذكرها مَا لم تعد بتلبيتها فَقَالَ مُعَاوِيَة سألبي مَا يُمكن تلبيته قَالَ الشَّاب اعْلَم أنني رجل عزب لَا زوج لي وَأَن والدتك دون بعل أَيْضا فزوجنيها ليُصبح لكل منا زوج وتثاب أَنْت على صنيعك قَالَ مُعَاوِيَة أَنْت شَاب وَهِي عَجُوز لَا سنّ فِي فمها فَمَا الَّذِي يرغبك فِيهَا قَالَ لقد سَمِعت أَنَّهَا ذَات أرداف عَظِيمَة وَهُوَ مَا أميل إِلَيْهِ قَالَ مُعَاوِيَة وَالله ان وَالِدي تزَوجهَا لهَذَا السَّبَب لَيْسَ إِلَّا لكنني مَعَ هَذَا سأتحدث إِلَيْهَا فِي الْأَمر فَإِن رغبت فِيهِ فَلَيْسَ من هُوَ أولى مني بِالْقيامِ بِهَذِهِ المهمة وَلم يبد عَلَيْهِ أَي تغير أَو أَنه تحول من مَكَانَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فَأدْرك النَّاس أَن أحدا لن يَسْتَطِيع أَن يكون أحلم مِنْهُ وَقَالَت الْحُكَمَاء الصَّبْر جميل لكنه عِنْد الْمقدرَة أجمل وَالْعلم جميل لكنه مَعَ المهارة والتفنن أجمل وَالنعْمَة جميلَة لَكِنَّهَا بالشكر والسعادة أجمل وَالطَّاعَة جميلَة لَكِنَّهَا بِالْعلمِ وخشية الله أجمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الْفَصْل الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ فِي الحرس والخفر والبوابين تجب الحيطة التَّامَّة فِيمَا يتَعَلَّق بالحرس والخفر والبوابين الخاصين وعَلى الموكلين بهم معرفتهم جَمِيعًا والاستفسار عَن أَحْوَالهم سرا وَعَلَانِيَة لأَنهم أفقر وأطمع وأسرع انخداعا بِالْمَالِ والاغراء وَإِذا مَا شوهد بَينهم غَرِيب فَيَنْبَغِي السُّؤَال عَنهُ والتأكد مِنْهُ وَيجب ان يراقبوا ويتأكد مِنْهُم ويوضعوا تَحت الاشراف الْمُبَاشر كل لَيْلَة عِنْدَمَا يتسلمون واجباتهم وَيَنْبَغِي عدم إغفال هَذَا الْأَمر لَيْلًا أَو نَهَارا لِأَنَّهُ دَقِيق جدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الْفَصْل الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ فِي إعداد الخوان وتنظيمه جيدا كَانَ الْمُلُوك دَائِما يعيرون إهتماما كَبِيرا لإعداد الخوان فِي الصَّباح الباكر ليجد من يمثلون بَين أَيْديهم مَا يَأْكُلُون هُنَاكَ وَلَا تَثْرِيب على الْخَاصَّة إِذا لم يتناولوا الطَّعَام فِي هَذَا الْوَقْت بل تناولوه قي وقته الْمَضْرُوب غير أَنه لم تكن مندوحة من تهيئة الخوان بكرَة كَانَ السُّلْطَان طغرل رَحمَه الله يحرص على اعداد الخوان جيدا ويامر بتهيئة ضروب الطَّعَام الْمُخْتَلفَة على أكمل وَجه حَتَّى حِين كَانَ يركب مبكرا طلبا للتنزة أَو الصَّيْد كَانَ يحمل فِي موكبه عشرُون وسْقا من الْأَطْعِمَة لزاده فِي الصَّحرَاء وَقد كَانَت كثرتها تثير عجب الْأُمَرَاء والأتراك فِي أثْنَاء تناولهم الطَّعَام ثمَّة وَكَانَ من عَادَة خانات تركستان توفير الْأَطْعِمَة لخدمهم وَفِي مطابخهم فَلَمَّا ذَهَبْنَا إِلَى سَمَرْقَنْد وأوزكند سمعنَا مَا كَانَ يَدُور على أَلْسِنَة الفضوليين من أَن الجكليين وسكان مَا وَرَاء النَّهر كَانُوا يَقُولُونَ دَائِما إننا لم نَأْكُل لقْمَة وَاحِدَة على خوان السُّلْطَان فِي الْمدَّة الطَّوِيلَة الَّتِي كَانَ يتَرَدَّد فِيهَا إِن همة كل شخص ومروءته بِقدر عَظمته وسيادته وَلِأَن السُّلْطَان سيد الْعَالم كُله والملوك جَمِيعًا منصاعون إِلَيْهِ يَنْبَغِي أَن تكون عَظمته وهمته ومروءته وخوانه وَصلَاته منتاسبة مَعَ قدره وجلاله وَأفضل من سَائِر الْمُلُوك وَأكْثر وَفِي الْخَبَر أَن إغداق الْخبز وَالطَّعَام على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 خلق الله عز وَجل يزِيد فِي دوَام الْعُمر وَالْملك والدولة قصَّة مُوسَى وَفرْعَوْن جَاءَ فِي تواريخ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أرسل إِلَى فِرْعَوْن بالمعجزات والكرامات والمنازل الرفيعة لقد كَانَ قوام خوان فِرْعَوْن أَرْبَعَة الاف خروف وَأَرْبَعمِائَة بقرة ومئتي بعير يوميا مَعَ مَا يُنَاسِبهَا من الدَّجَاج والسمك والمشهيات والمقالي والحلوى وَغَيرهَا وَكَانَ أهل مصر وجيشها يتناولون الطَّعَام على خوانه كل يَوْم وظل يَدعِي الألوهية وَيُقِيم الخوان أَرْبَعمِائَة سنة وَلما دَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَا رب أهلك فِرْعَوْن اسْتَجَابَ الله عز وَجل لدعائه وَقَالَ سَوف أهلكه فِي المَاء يَوْمًا فأجعل ثروته وجيشه رزقا لَك ولقومك وَمَضَت على هَذَا الْوَعْد سنوات وَفرْعَوْن يرتع فِي ضلاله ويطوي الْأَيَّام بِتِلْكَ العظمة والجلاله أما مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَأخذ يتمن على الله عز وَجل أَن يعجل فِي هَلَاك فِرْعَوْن ونفد صَبر مُوسَى وَصَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ مضى إِلَى الطّور وناجى الله عز وَجل قَائِلا يَا رب لقد وعدت أَن تهْلك فِرْعَوْن انه لم يُخَفف من غلوائه ودعواه وكفره شَيْئا فَمَتَى ستودي بِهِ فَجَاءَهُ نِدَاء الْحق تَعَالَى يَا مُوسَى إِنَّك تريدني أَن أهلك فِرْعَوْن فِي أقرب وَقت فِي حِين أَن مائَة مائَة ألف من عبَادي لَا يُرِيدُونَ ذَلِك لأَنهم يَأْكُلُون من نعمه يوميا وينعمون يالراحة فِي عَهده وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أهلكه مَا أَسْبغ على النَّاس نعْمَته وَطَعَامه تامين قَالَ مُوسَى فَمَتَى تنجز وَعدك إِذن قَالَ تَعَالَى سأنفذ وعدي مَتى أمسك عَن إطْعَام النَّاس فَإِذا مَا بَدَأَ فِي تقليل طَعَامه فَاعْلَم أَن أَجله أَخذ يدنو من نهايته وَحدث أَن قَالَ فِرْعَوْن لهامان يَوْمًا لقد جمع مُوسَى بني إِسْرَائِيل حوله وَهُوَ يعْمل على إيذائنا لست أَدْرِي إلام ستنتهي عَاقِبَة أمره مَعنا علينا أَن نملأ خزائننا لِئَلَّا نقعد دون ثروة أبدا وَأَن نقلل النَّفَقَات اليومية إِلَى النّصْف يجب أَن يقل عدد الذَّبَائِح ألف خروف ومئتي بقرة وَمِائَة بعير حبا فِي الادخار وَهَكَذَا أخذت تقل تدريجيا كل يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يعلم أَن وعد الْحق تَعَالَى اخذ فِي الاقتراب وان زِيَادَة التوفير لم تكن سوى عَلامَة الزَّوَال والشؤم وَيَقُول الاخباريون إِنَّه لم يذبح فِي مطبخ فِرْعَوْن فِي الْيَوْم الَّذِي غرق فِيهِ سوى شَاتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 لقد امتدح الله تَعَالَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لاطعامه الطَّعَام وحبه الضَّيْف وَحرم عز وَجل النَّار على بدن حَاتِم الطَّائِي لسخاءه وَحسن ضيافته وسيظل النَّاس يذكرُونَ كرمه ومروءته مدى الْحَيَاة وَذكر الله تَعَالَى الامام عليا رَضِي الله عَنهُ فِي الْقرَان الْكَرِيم وَأثْنى عَلَيْهِ غير مرّة لاعطائه فِي الصَّلَاة سَائِلًا خَاتمًا سد بِهِ رَمق عدد من الجياع وسوف يظل النَّاس يلهجون بشجاعته وعلو همته وشهامته إِلَى يَوْم الدّين لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أفضل من الشهامة والاحسان وإطعام الطَّعَام فَهُوَ رَأس كل المروءات يَقُول العنصري الْكَرم أجل الاعمال إِنَّه من شمائل النَّبِي الدُّنْيَا والأخرة للكريم فَكُن كَرِيمًا تفز بهما فَإِن تكن لأحد نعْمَة ابْتغى أَن تكون لَهُ دون عهد من الْملك بذلك العظمة والسيادة وان يتواضع لَهُ النَّاس ويحترموه ويقدروه ويلقبوه سيدا وعظيما فَقل لَهُ أَن أبسط سفرتك يوميا فَإِن شهرة أَكثر من اشتهرت أَسمَاؤُهُم فِي الورى لم تكن إِلَّا بإطعام الطَّعَام أما البخلاء والممسكون فمذممون فِي الدُّنْيَا والأخرة جَاءَ فِي الْأَخْبَار الْبَخِيل لَا يدْخل الْجنَّة وَلم تكن فِي كل أعصار الْكفْر والاسلام خصْلَة أحسن من إطْعَام الطَّعَام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الْفَصْل السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ فِي معرفَة حق الخدم وَالْعَبِيد الْأَكفاء تجب مُكَافَأَة كل من يقوم من الخدم بِعَمَل مرض حَالا ليجني ثمار مَا قدمت يَدَاهُ أما من يرتكب مِنْهُم خطأ فِي عمله سَهوا ودونما قصد فتنبغي معاقبته بِقدر ذَنبه لتقوى رَغْبَة العبيد فِي الْخدمَة وَيكثر إقبالهم عَلَيْهَا وتزداد خشيَة المذنبين وتستقيم الْأُمُور عُقُوبَة الذَّنب عربد فَتى هاشمي لسكره على فريق من النَّاس فَمَضَوْا إِلَى وَالِده وَشَكوا إِلَيْهِ ابْنه وَلما هم الْأَب قَالَ لَهُ يَا أَبَت لقد أذنبت وانا فَاقِد وعيي فَلَا تعاقبني وَأَنت تملك صوابك فسر الْأَب لقَوْله وَأَعْجَبهُ فَعَفَا عَنهُ كسْرَى أبرويز وباربد قَالَ ابْن خرداذبة غضب أبرويز على أحد خاصته فحبسه وَلم يَجْرُؤ أحد على الدنو مِنْهُ سوى باربد الْمُغنِي الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِ بِالطَّعَامِ وَالشرَاب يوميا فَلَمَّا أخبر الْملك أبرويز بذلك قَالَ لباربد كَيفَ تجرؤ على الاعتناء بشخص فِي حبسنا ومساعدته هلا علمت أَنه لَا يجوز الإهتمام بِمن نغضب عَلَيْهِ ونسجنه قَالَ باربد يَا مولَايَ إِن مَا وهبته أَنْت إِيَّاه أهم مِمَّا أَفعلهُ من أَجله قَالَ أبرويز وماذا وهبته قَالَ حَيَاته فَهِيَ أحسن مِمَّا كنت أرْسلهُ إِلَيْهِ قَالَ الْملك أَحْسَنت لقد قلت شَيْئا حسنا اذْهَبْ فإنني عَفَوْت عَنهُ إِكْرَاما لَك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أنو شرْوَان والعجوز الَّذِي كَانَ يغْرس جوزا كَانَ من عَادَة سلالة الساسانيين إِذا مَا فَاه أحد أمامهم بِكَلَام جميل يروقهم أَو أبدى مهارة مَا أَن تَنْطَلِق ألسنتهم بِلَفْظَة أَحْسَنت وعندئذ يُعْطي الْمُوكل بالخزانة ذَلِك الشَّخْص ألف دِينَار حَالا وَكَانَ مُلُوك الأكاسرة وانوشروان الْعَادِل خَاصَّة أَكثر من غَيرهم من الْمُلُوك الاخرين عدلا وهمة ومروءة حينما كَانَ أنوشروان خَارِجا للصَّيْد يَوْمًا وخاصته مَعَه مر بأطراف قَرْيَة فَرَأى عجوزا فِي التسعين من عمره يغْرس جوزا فتملكه الْعجب لِأَن هَذِه الْغِرَاس لَا تؤتي أكلهَا قبل عشر سنوات أَو عشْرين قَالَ أنوشروان لَهُ يَا شيخ اتغرس جوزا قَالَ أجل يَا مولَايَ قَالَ أنوشروان أفستعيش حَتَّى تَأْكُل من ثماره قَالَ غرسوا فأكلنا ونغرس فَيَأْكُلُونَ فسر أنوشروان لجوابه وَقَالَ أحسننت فناول الْمُوكل بالخزانة الْعَجُوز ألف دِينَار حَالا فَقَالَ الشَّيْخ يَا مولَايَ لم يسبقني أحد إِلَى جني ثمار هَذَا الشّجر قَالَ أنوشروان كَيفَ قَالَ الشَّيْخ لَو لم أكن أغرس جوزا وَلم يمر مولَايَ من هُنَا فيسألني مَا سَأَلَ واجبه بِمَا أجبْت فَأنى لي هَذِه الْألف دِينَار فَقَالَ أنوشروان أَحْسَنت أَحْسَنت فَأعْطى الْمُوكل بالخزانة الرجل أَلفَيْنِ اخرين لجَرَيَان أَحْسَنت على لِسَان أنوشروان مرَّتَيْنِ إِحْسَان الْمَأْمُون كَانَ الْمَأْمُون يجلس للمظالم يَوْمًا فَسلمت إِلَيْهِ رسالى فِي حَاجَة مَا فناولها إِلَى الْفضل بن سهل وزيره وَقَالَ لَهُ اقْضِ حَاجَة هَذَا الرجل بِسُرْعَة فعجلة الزَّمن أسْرع من أَن تثبت على حَال وَهَذِه الدُّنْيَا تمْضِي سرَاعًا بِحَيْثُ لَا تمكن الْمَرْء من الْوَفَاء لصديقة نستطيع أَن نَفْعل الْيَوْم خيرا لَكِن رُبمَا ياتي يَوْم لَا نستطيع مَعَه لعجزنا فعل الْخَيْر لأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الْفَصْل السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ فِي الحيطة فِي إقطاع الإقطاعيين وأحوال الرّعية إِذا مَا انهيت أَخْبَار تنبىء عَن الخراب والدمار فِي نَاحيَة مَا وَعَن بروز الْفرْقَة بَين أَهلهَا وَظن فِي أَن لِلْقَائِلين مارب خَاصَّة فَلَا بُد من ندب أحد الْخَاصَّة وإرساله إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة دون أَن يدْرِي أحد بالمهمة الْمُرْسل بهَا ليقيم شهرا ثمَّة يستطلع فِيهِ أَحْوَال الْمَدِينَة والريف وَيرى مظَاهر الْعمرَان والخراب ويستمع إِلَى مَا يَقُول النَّاس فِي المقطع وَالْعَامِل ثمَّ يعود بِالْحَقِيقَةِ لِأَن لَيْسَ لأولي الْأَمر هُنَاكَ من عذر وَحجَّة سوى لنا خصوم يَنْبَغِي عدم الإصغاء إِلَى كَلَامهم لِئَلَّا يتمادوا فِي التجرؤ فيفعلوا ويقولوا مَا يشاؤون وَقد يمْتَنع المخبرون والمعتمدون عَن قَول الْحَقِيقَة ونقلها لكيلا يتَطَرَّق إِلَى ذهن الْملك واصحاب الإقطاع أَنهم من ذَوي الْأَغْرَاض والمآرب أَيْضا فتؤول المملكة الى دمار والرعية إِلَى فقر وشتات وَتُؤْخَذ الْأَمْوَال بِالْبَاطِلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الْفَصْل الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ فِي التريث فِي الْأُمُور يَنْبَغِي عدم التسرع فِي الْأُمُور فَإِذا مَا سمع خبر مَا أَو طَرَأَ شَيْء فَيجب تدبره بتأن وهدوء إِلَى أَن تنجلي حَقِيقَته ويتبين الْكَذِب من الصدْق فالتسرع من شَأْن الضُّعَفَاء لَا الأقوياء وَإِذا مَا تحاج خصمان بَين يَدي الْملك فَيَنْبَغِي عدم إشعارهما بالجانب الَّذِي يُؤَيّدهُ الْملك ويميل إِلَيْهِ لِئَلَّا يخَاف صَاحب الْحق انذاك فَلَا يَسْتَطِيع بَيَان حجَّته ويزداد الَّذِي على الْبَاطِل جرْأَة فيوغل فِي كذبه وافترائه يَقُول الْحق تَعَالَى فِي مُحكم كِتَابه الْعَزِيز {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} فراسة ألب أرسلان كَانَ فِي مَدِينَة هراة عَالم مَعْرُوف هُوَ ذَلِك الشَّيْخ الَّذِي قدم لمولانا مرّة وَحدث أَن ذهب السُّلْطَان الشَّهِيد أنار الله برهانه إِلَى هراة وَأقَام فِيهَا مُدَّة وَفِي هَذِه الْأَثْنَاء نزل عبد الرَّحْمَن الْخَال فِي سراي ذَلِك الشَّيْخ الْعَالم وَذَات يَوْم قَالَ عبد الرَّحْمَن أَمَام السُّلْطَان على الشَّرَاب لهَذَا الشَّيْخ حجرَة يأوي إِلَيْهَا لَيْلًا وَيُقَال إِنَّه يُصَلِّي فِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 اللَّيْل كُله لكنني رَأَيْت الْيَوْم وَأَنا أفتح بَاب الْحُجْرَة زق خمر وصنما نحاسيا ان الرجل يقْضِي ليله فِي الشَّرَاب وَعبادَة الصَّنَم وَكَانَ عبد الرَّحْمَن الَّذِي أحضر الزق والصنم مَعَه يدْرك أَنه حينما يطلع السُّلْطَان على هَذَا الْأَمر سيأمر بقتل الشَّيْخ حَالا وَأرْسل السُّلْطَان غُلَاما وشخصا فِي طلب الشَّيْخ كَمَا أرسل إِلَيّ من يَقُول ابْعَثْ شخصا فِي طلب ذَلِك الشَّيْخ دون أَن أَدْرِي عِلّة استدعائه ثمَّ جَاءَ فِي الْوَقْت نَفسه شخص اخر وَقَالَ لَا ترسل أحدا وَلَا تستدع الشَّيْخ وَفِي الْيَوْم التَّالِي سَأَلت السُّلْطَان مَاذَا كَانَ سَبَب استدعاء الشَّيْخ الْعَالم أمس والعزوف عَنهُ بعد ذَلِك أجَاب جسارة عبد الرَّحْمَن الْخَال وصفاقته وقص عَليّ الْحِكَايَة ثمَّ قَالَ قلت لعبد الرَّحْمَن الْخَال على الرغم مِمَّا قلت وَمن إحضارك الزق والصنم فَلَنْ امْر بِشَيْء ضد الشَّيْخ الْعَالم قبل أَن أتثبت من حَقِيقَة أمره عَلَيْك بيَدي وَأقسم بحياتي ورأسي أصدق مَا تَقول أم كذب فَقَالَ عبد الرَّحْمَن كذب قلت يَا نذل فَلم افتريت على الشَّيْخ الْعَالم الْكَذِب إِذن وَأَرَدْت هدر دَمه قَالَ لِأَن لَهُ بَيْتا جميلا هُوَ الَّذِي أنزل فِيهِ الان وَقد ظَنَنْت أَنَّك ستهبني إِيَّاه بعد أَن تقتله قَالَ عُلَمَاء الدّين العجلة من الشَّيْطَان والتأني من الرَّحْمَن من الْمُمكن الْقيام بِعَمَل لم يقم بِهِ بعد وَلَكِن لَيْسَ بالإمكان فعل أَي شَيْء فِيمَا تمّ إنجازه يَقُول بزرجمهر العجلة من التهور والطيش والعجول الَّذِي لَا يعرف التأني يظل حَزينًا ندمان دَائِما والمتهورون مبتذلون فِي أعين النَّاس لقد رَأَيْت كثيرا من الْمسَائِل والأمور على وَشك أَن تنجز بِنَحْوِ حسن غير أَن التسرع أفسدها واحبطها العجول فِي صراع دَائِم مَعَ نَفسه يقْضِي عمره فِي التَّوْبَة والاعتذار وتلقي اللوم وَالْغُرْم يَقُول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ التأني مَحْمُود فِي كل شَيْء إِلَّا فِي فعل الْخَيْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الْفَصْل التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ فِي أَمِير الحرس وَحَملَة الدبابيس كَانَت إِمَارَة الحرس فِيمَا تقدم من أهم الْوَظَائِف والمناصب وأجلها فِي كل الْأَعْصَار إِذْ لم يكن فِي البلاظ أعظم وَأكْثر أبهة بعد الْأَمِير الْحَاجِب الْعَظِيم من أَمِير الحرس لِأَن عمله مُخْتَصّ بالعقوبات والجميع يَخْشونَ غضب الْملك وعقابه فَإِذا مَا غضب الْملك على شخص مَا فَإِنَّهُ يَأْمر أَمِير الحرس بِأحد الْأَشْيَاء التالية ضرب الْعُنُق قطع الْيَد وَالرجل الشنق الْجلد الزج فِي السجْن الْإِلْقَاء فِي الْبِئْر وَلم يكن النَّاس يَتَرَدَّدُونَ فِي افتداء أنفسهم وأرواحهم بِالْمَالِ لقد كَانَ اللِّوَاء والطبل والدف لأمير الحرس دَائِما وَكَانَ النَّاس يخافونه أَكثر من الْملك غير أَن هَذَا المنصب أضحى خلقا بَالِيًا فِي هَذِه الْأَيَّام وَلم يعد لَهُ بهاء ورونق يَنْبَغِي أَن يكن فِي البلاط دَائِما خَمْسُونَ فِي الْأَقَل من حَملَة الدبابيس عشرُون بدبابيس ذهبية الرَّأْس وَمثلهمْ بدبابيس فضية الرَّأْس وَالْعشرَة الاخرون بدبابيس كَبِيرَة وَأَن تكون لأمير الحرس أحسن الْوَسَائِل وأدوات الزِّينَة والتجمل وأبهاها وَأتم احترام وأكمله فَإِن يَسْتَطِيع أَن يوطن نَفسه على كل هَذَا فبها وَإِلَّا فليستبدل باخر الْمَأْمُون وتسيير دفة الْأُمُور فِي حِين كَانَ الْخَلِيفَة الْمَأْمُون يُجَالس ندمائه يَوْمًا قَالَ لي أَمِيرا حرس لَا عمل لَهما من الصَّباح الباكر إِلَى اللَّيْل سوى ضرب الرّقاب والشنق وَقطع الْأَيْدِي والأرجل وَالْجَلد والزج فِي السجْن النَّاس يمتدحون أَحدهمَا ويثنون عَلَيْهِ ويعرفون لَهُ حَقه باستمرار وهم عَنهُ راضون وَبِه مسرورون فِي حِين انهم يسبون الآخر ويذكرونه بِالشَّرِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَالسوء وهم دائمو الشكوى والتذمر مِنْهُ يلعنونه وَيدعونَ عَلَيْهِ مَا ذكر اسْمه وَلست ادري سببأ لهَذَا لَيْت احدأ يَسْتَطِيع ان يتَبَيَّن لي حَقِيقَة الْآمِر ان عمل الرجلَيْن وَاحِد فَلم يثني النَّاس على احدهما ويتذمرون من الآخر قَالَ اُحْدُ الندماء ان يتفضل مولَايَ بندبي لهَذَا الامر وامهالي ثَلَاثَة ايام آته بحقيقته قَالَ الْمَأْمُون لَك هَذَا وَمضى النديم إِلَى منزله وَقَالَ لأحد خدمه الْأَكفاء لقد ندبتك للمهمة التالية فِي بَغْدَاد فِي هَذِه الْأَيَّام أَمِيرا حرس أَحدهمَا مسن والاخر كهل عَلَيْك أَن تنهض صباح غَد الباكر وتمضي إِلَى بَيت الأول فحين يخرج من حجرته إِلَى السراي راقب سلوكه كَيْفيَّة جُلُوسه وأقواله وأعماله وأنعم النّظر فِي تصرفه واوامره حِين يدْخل النَّاس عَلَيْهِ ويساق المجرمون إِلَيْهِ انتبه لكل هَذِه الْأَشْيَاء وأحط بهَا جيدا ثمَّ أطلعني عَلَيْهَا وَبعد غَد امْضِ باكرا إِلَى سراي الْأَمِير الاخر وراقب كل مَا يجْرِي هُنَاكَ من أَحَادِيثه وتصرفاته من أَولهَا إِلَى اخرها ثمَّ عد لي بخبرها أَيْضا فَقَالَ الْخَادِم سمعا وَطَاعَة وَفِي الْيَوْم التَّالِي نَهَضَ الْخَادِم باكرا وَمضى إِلَى سراي أَمِير الحرس المسن وَجلسَ وَمَا هِيَ إِلَّا فَتْرَة حَتَّى جَاءَ فرَاش وَوضع شمعا على الصّفة وفرش الْمُصَلِّي وَوضع عَلَيْهِ بضعَة مصاحف وأدعية وسبحات وَحِينَئِذٍ ظهر رجل مسن فصلى عدَّة رَكْعَات ثمَّ أقبل النَّاس جَمِيعًا وَجَاء الإِمَام فاقام الصَّلَاة وَصليت الْجَمَاعَة وَقَرَأَ الرجل مَا تيَسّر لَهُ من الْقرَان الْكَرِيم والأدعية وَلما فرغ من أوراده تنَاول السبحة وَأخذ يسبح ويهلل وَالنَّاس يتواردون ويلقون السَّلَام بَعضهم يذهب وَبَعْضهمْ يجلس إِلَى بعيد شروق الشَّمْس عندئذ سَأَلَ الْأَمِير هَل من مذنب فَأُجِيب فَتى ارْتكب جريمة قتل قَالَ امن أحد يشْهد عَلَيْهِ فَقيل لَهُ لَا هُوَ نَفسه مقرّ بجرمه قَالَ لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم أدخلوه لأراه فَأدْخل الشَّاب وَلما وَقعت عين الامير عَلَيْهِ قَالَ أَهَذا هُوَ قيل لَهُ أجل قَالَ لَا تبدو على هَذَا الْفَتى سِيمَا الْمُجْرمين بل إِن نور الْإِسْلَام والأصالة والإنسانية يشع مِنْهُ إِنَّه لَيْسَ مِمَّن يرتكبون مثل هَذَا الاثم أَحسب أَنهم يكذبُون لن أستمع الى قَول أحد فِيهِ مَا هَذَا الْكَلَام ان هَذَا الجرم لَا يصدر عَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 هَذَا الْفَتى انْظُرُوا كَيفَ ان سيماه وملامحه تشهد لَهُ وَفِي حِين كَانَ الْفَتى ينصت مصغيا قَالَ أحدهم أَيهَا الْأَمِير إِنَّه هُوَ نَفسه مقرّ بجرمه فصاح بِهِ الْأَمِير اخرس فَمن ذَا الَّذِي يَسْأَلك أَلا تخَاف الله اتحمل نَفسك وزر دم فَتى مُسلم عَبَثا إِن هَذَا الْفَتى أَعقل من أَن يفعل أَو يَقُول شَيْئا يكون فِيهِ هَلَاكه وحتفه وَكَانَ هدف الْأَمِير من ذَلِك أَن يُنكر الْفَتى أَقْوَاله ويتراجع عَنْهَا ثمَّ الْتفت الْأَمِير نَحْو الْفَتى مَا تَقول قَالَ الْفَتى لقد شَاءَ قَضَاء الله وَقدره أَن يتم الْأَمر على يَدي خطأ إِن بعد هَذِه الدَّار دَار أُخْرَى لَا طَاقَة لي فِيهَا على عَذَاب الله عز وَجل نفذ حكم الله فِي غير أَن أَمِير الحرس تصامم والتقت نَحْو النَّاس وَقَالَ إِنَّنِي لَا أسمع مَا يَقُول أيقر هُوَ أم لَا قَالُوا أجل انه يعْتَرف قَالَ الْأَمِير يَا بني لَا تبدو عَلَيْك سِيمَا الْمُجْرمين فلربما أَن خصما لَك مِمَّن يَبْغُونَ هلاكك حملك على أَن تَقول هَذَا فكر جيدا قَالَ الْفَتى أَيهَا الْأَمِير لم يحملني على هَذَا أحد إِنَّنِي مذنب فنفذ حكم الله فِي لما أَيقَن أَمِير الحرس ان الْفَتى لن يتراجع عَن قَوْله وَأَن لَا جدوى لتلقينه إِيَّاه وَإنَّهُ إِنَّمَا يعرض نَفسه للْمَوْت قَالَ لَهُ أَحَق مَا تَقول قَالَ أجل قَالَ الْأَمِير أأنفذ فِيك حكم الله قَالَ نفذه والتفت الْأَمِير إِلَى النَّاس وَقَالَ أَرَأَيْتُم فِي حَيَاتكُم فَتى يخَاف الله مُسلما بَصيرًا بالعواقب من مثل هَذَا الْفَتى إِنَّنِي لم أر قطّ ان نور السَّعَادَة وَالْإِسْلَام وإمارات الْأَصَالَة تشع مِنْهُ مِثْلَمَا ينبعث الضياء من الشَّمْس إِنَّه يعْتَرف خوفًا من الله وَيعلم أَنه يجب أَن يَمُوت إِنَّه يرغب فِي أَن يمْضِي إِلَى الله عز وَجل نقيا شَهِيدا فَلم يبْق بَينه وَبَين الْجنَّة حَيْثُ الْحور والقصور إِلَّا خطوَات هَؤُلَاءِ هم أهل السَّعَادَة وَالْمَغْفِرَة وَالْجنَّة ثمَّ قَالَ للفتى اذْهَبْ واغتسل ثمَّ عد وصل رَكْعَتَيْنِ وسل الله عز وَجل وَتب إِلَيْهِ وَاسْتَغْفرهُ كي أنفذ فِيك حكمه وقضاءه فَذهب الْفَتى واغتسل ثمَّ عَاد وامر الْأَمِير بمصلى فصلى الْفَتى رَكْعَتَيْنِ وَتَابَ إِلَى الله وَاسْتَغْفرهُ ثمَّ عَاد ووقف بَين يَدي الْأَمِير الَّذِي قَالَ كأنني أرى الان أَن هَذَا الْفَتى سيرى الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجنَّة وسيكون مَعَ الشُّهَدَاء من مثل حَمْزَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن وأمثالهم وَهَكَذَا جعل الْأَمِير يُدْلِي بِأَحَادِيث الْمَوْت بِهَذِهِ الْحَلَاوَة والعذوبة فِي قلب الْفَتى حَتَّى حبب إِلَيْهِ الْإِسْرَاع فِي قَتله ثمَّ أَمر بتعريته وتعصيب عَيْنَيْهِ وَهُوَ مَاض فِي أَحَادِيثه عَن الْمَوْت على النَّحْو نَفسه وَجِيء بسياف ماهر سَيْفه هُوَ المَاء فِي صفاءه ووقف على راس الْفَتى دون أَن يشْعر بِهِ وَأَشَارَ الْأَمِير بِعَيْنِه بَغْتَة فَضرب السياف عنق الْفَتى فِي سرعَة خاطفة وَقطع رَأسه بضربة وَاحِدَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ثمَّ أَمر الْأَمِير بإيداع اخرين قبض عَلَيْهِم بجرائم مُخْتَلفَة السجْن للبت فِي أُمُورهم والتثبت مِنْهَا ونهض وَمضى إِلَى حجرته ثمَّ تفرق النَّاس وَعَاد الْخَادِم إِلَى النديم وحدثه بِكُل مَا رأى وَفِي صباح الْيَوْم التَّالِي الباكر مضى الْخَادِم إِلَى سراي أَمِير الحرس الكهل وَجلسَ ينْتَظر فَأخذ النَّاس وأعوانه يتوافدون وَاحِدًا تلو اخر حَتَّى غص السراي بهم وَلما طلعت الشَّمْس وَارْتَفَعت فِي السَّمَاء خرج الْأَمِير من حجرته وَجلسَ للنَّاس مقطب الحاجبين متهدل الْعَينَيْنِ وَكَأَنَّهُ كَانَ يقتل ملاكا طوال ليله ووقف أعوانه امامه وَلم يكن يرد التَّحِيَّة على من يحييه وَإِذا مَا اتّفق ورد على أحدهم فَكَأَنَّهُ فِي حنق عَلَيْهِ وَانْقَضَت فَتْرَة ثمَّ سَأَلَ أأحضر أحد فَقيل لَهُ فَتى قبض عَلَيْهِ سَكرَان فَاقِد الوعي لَيْلَة أمس قَالَ إِلَيّ بِهِ فَأتي بِهِ وَلما وَقعت عَيناهُ عَلَيْهِ قَالَ أَهَذا هُوَ قَالُوا أجل قَالَ كنت أبحث عَنهُ مُنْذُ مُدَّة طَوِيلَة انه ابْن حرَام مُفسد شرير لص قَاطع طَرِيق عربيد لَا يخْشَى الله مثير للفتنة وَلَا مثيل لَهُ بِبَغْدَاد يَنْبَغِي أَلا يَكْتَفِي بِإِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ إِنَّمَا يجب ضرب عُنُقه لم يكن لَهُ من عمل ليل نَهَار سوى مطاردة ابناء النَّاس يسيء إِلَى سمعة الصّبيان حينا ويلطخ سمعة النِّسَاء حينا اخر وَلم يكن يمر يَوْم دون أَن يَأْتِي إِلَيّ عشرَة مِنْهُم يشكونه ويتذمرون من شَره إِنَّنِي لفي طلبه مُنْذُ وَقت طَوِيل لقد قَالَ الْأَمِير كثيرا من هَذَا حَتَّى ان القتى رغب فِي أَن يضْربُوا عُنُقه تخلصا من كام لِسَانه ثمَّ أَمر الْأَمِير بإحضار بضعَة سياط جَيِّدَة وَقَالَ ألقوه على الأَرْض وأجلسوا على رَأسه وَرجلَيْهِ واجلدوه أَرْبَعِينَ سَوْطًا بِنَحْوِ يعَض فِيهِ الأَرْض باسنانه وَلما كَانُوا يرغبون فِي إِيدَاع الْفَتى السجْن بعد جلده حضر مَا يَرْبُو على خمسين رجلا من الوجهاء المعروفين فَشَهِدُوا لَهُ بالصلاح والستر والمروءة وكرم الضِّيَافَة وَحسن السِّيرَة والاعتقاد وتشفعوا لَهُ بالإفراج عَنهُ بعد جلده على أَن يقدم هَدِيَّة أَيْضا تغير أَن الْأَمِير لم يحفظ لَهُم حُرْمَة وَلم يعرهم اهتماما وأودعه السجْن فعادوا وهم عَلَيْهِ ساخطون حاقدون وَالنَّاس يدعونَ عَلَيْهِ ويلعنونه ونهض وَصَارَ إِلَى حجرته وَعَاد الْخَادِم النديم فَأطلع سَيّده على كل مَا جرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وَفِي الْيَوْم الثَّالِث مضى النديم إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون وتلا عَلَيْهِ مَا سمع من سيرة أَمِيري الحرس وسلوكهما فتملك الْمَأْمُون الْعجب وَقَالَ عَفا الله عَن هَذَا الشَّيْخ المسن وعَلى ذَلِك الْكَلْب اللَّعْنَة فَلَقَد ارْتكب سفاهة بِحَق رجل شرِيف سَكرَان فَمَا ترَاهُ وَالْعِيَاذ بِاللَّه يفعل بالقاتل وَأمر بتنحيته عَن إِمَارَة الحرس وعزله مِنْهَا وَإِخْرَاج الْفَتى من السجْن أما الْأَمِير المسن فأبقاه فِي منصبه وخلع عَلَيْهِ خلعة من جَدِيد وارتاح باله من شَتَّى الْوُجُوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الْفَصْل الْأَرْبَعُونَ فِي ترفق الْملك بِخلق الله عز وَجل ورد كل مَا يحيد من الْأُمُور وَالْقَوَاعِد عَن نصابه إِلَيْهِ إِن المملكة أَيَّة مملكة معرضة للابتلاء فِي اي وَقت بنازلة سَمَاوِيَّة وطالع سوء ونحس كَأَن يتَحَوَّل الحكم فِيهَا من اسرة الى اخرى اَوْ تضطرب امورها فتشتعل نَار الْفِتَن والاضطرابات وتسل السيوف فيكثر الْقَتْل والحرق والغارة وَالظُّلم وَفِي اوقات الْفِتَن وَالِاضْطِرَاب هَذِه يُعَاقب الشرفاء وينحون ويتولى الارذال مقاليد الْأُمُور فَيعْمل الْقوي مِنْهُم مَا يحلو لَهُ وتسوء حَال المصلحين ويضعف امرهم وتقوى شوكتة المفسدين ويصل الأدنون الى الامارة ويسود المنحطون والسفلة وينحى الاصلاء والفضلاء ويحرمون وَلَا يتورع الاذلاء من ان يطلقوا على انفسهم القاب الْملك والوزير فيتقلب الاتراك بالخواجات وَهَؤُلَاء بِالتّرْكِ ويتخذ التّرْك وَالْفرس مَعًا ألقاب الْعلمَاء وَالْأَئِمَّة وتتصدى نسَاء البلاط للْحكم والسلطة وتضعف أُمُور الشَّرْع وَيُصْبِح النَّاس فوضى ويتطاول الْجند ويمحى التمايز بَين النَّاس فَلَا يبْقى للأمور من يتداركها فَلَيْسَ بَعيدا أَن يتَّخذ التركي عشرَة موَالٍ وَلَيْسَ عَيْبا أَن يكون للفارسي عشرَة موَالٍ من التّرْك والأمراء بذا تخرج أُمُور المملكة عَن أنظمتها وقواعدها وتنهار أما الْملك فَلَا تتاح لَهُ لقلقه وتحيره وانشغاله بالحروب فرْصَة التفرغ لتِلْك الْأُمُور أَو التفكير فِيهَا وَمَعَ أول طالع سعد سماوي وأفول أَيَّام النحس والتعاسة وإقبال زمن الْأَمْن والرخاء يظْهر الله تَعَالَى فِي النَّاس ملكا عادلا عَاقِلا مَا أحفاد الْمُلُوك ويهبه ملكا يُمكنهُ من قهر الْخُصُوم وإذلالهم جَمِيعًا ويمنحه علما وعقلا للتمييز بَين الْأُمُور والاستفسار والتحري عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ تقاليد الْمُلُوك السالفين وقواعدهم فِي شَتَّى الْأُمُور والموضوعات ولاستنطاق الْكتب والأسفار ومطالعتها وَلنْ يمر طَوِيل وَقت حَتَّى يُعِيد نظام الْملك وقواعدة إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ وَيظْهر للنَّاس أقدارهم فَينزل ذَوي الجدارة مَنَازِلهمْ الْحَقِيقَة بهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وَيحد من سلطة اللائقين والمتسللين ويحيلهم إِلَى أَعْمَالهم وحرفهم ويمحو كفرة النعم من على وَجه الأَرْض ويؤازر أنصار الدّين وأعداء الظُّلم ويقمع الْبدع والأهواء بِإِذن الله وَحسن توفيقه وتذكر الان نماذج لغيض من فيض مَا قد يَقع من أَحْدَاث لتَكون أَدِلَّة على خُرُوج الْأُمُور عَن أُصُولهَا وقواعدها وليتأملها سُلْطَان الْعَالم خلد الله ملكه فِي كل مايصدر من أوَامِر وَأَحْكَام إِن شَاءَ الله فَمن الْأُمُور الَّتِي أبقى عَلَيْهَا الْمُلُوك فِي مُخْتَلف الأعصر إكرام أَبنَاء الْمُلُوك وَعدم تَركهم نهبا للضياع والحرمان إِذْ جعلُوا لَهُم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لكفاف عيشهم حَتَّى تظل بيوتاتهم على مَا كنت عَلَيْهِ من قبل وَجعلُوا للسادة والعظماء والمستحقين وَالْعُلَمَاء والعلويين والمصلحين والمستورين والغزاة والمرابطين فِي الثغور وَأهل الْقرَان نَصِيبا من بَيت المَال حَتَّى إِن أحدا لم يبْق محروما على عَهدهم فكسبوا بذلك دُعَاء النَّاس لَهُم بِالْخَيرِ وثواب الدُّنْيَا والاخرة أَفعَال خير الرشيد وزبيدة يُقَال أَن جمَاعَة من الْمُسْتَحقّين رفعوا إِلَى هَارُون الرشيد مظْلمَة فِيهَا نَحن عباد الله وَأَبْنَاء هَذَا الْعَصْر بَعْضنَا أهل قرَان وَعلم وبعضنا أهل شرف ورفعة وبعضنا من لاباءهم حُقُوق على هَذِه الدولة لما قدموه لَهَا من خدمات حميدة نافعة وَقد عنينا نَحن المشاق والأتعاب ايضا إننا مُسلمُونَ أنقياء لنا نصيب فِي بَيت المَال الَّذِي فِي حوزتك لِأَنَّك خَليفَة الأَرْض وأمير الْمُؤمنِينَ ان يكن المَال للعباد فأتفق علينا مِنْهُ فَنحْن مُؤمنُونَ ومستحقون أما أَنْت حَافِظًا لِلْمَالِ وَخَلِيفَة فَلَا يصيبك مِنْهُ أَكثر من عشر وَفِي هَذَا كفافك فِي حِين أَنَّك تنْفق الالاف يوميا على الشَّهَوَات والأرزاق والأطعمة وَنحن لَا نجد الْخبز وَمن عجب انه يظنّ أَي الرشيد أَن مَا فِي بَيت المَال مَاله ان يستقطع لنا نصيبنا فبها وَإِلَّا فسنلوذ بِهِ إِلَى الله متظلمين وملتمسين نزع بَيت المَال مِنْهُ وَوَضعه فِي يَد ذِي شَفَقَة وَرَحْمَة على الْمُسلمين مِمَّن يدخرون الذَّهَب وَالنعَم من أجل الْعباد لَا الْعباد من أجلهَا لما قَرَأَ الرشيد الرسَالَة تغير لَونه وَلم يجب عَنْهَا فِي يَوْمه ذَاك وَعَاد من البلاط إِلَى قصره الْخَاص قلقا مضطربا وَلَا رَأَتْ زبيدة الرشيد على غير عَادَته وطبعه سَأَلته مَاذَا جرى لأمير المؤنين فَقَالَ لَهَا لقد كتبُوا إِلَيّ كَذَا وَكَذَا لَو لم يخوفوني بِاللَّه لعاقبتهم قَالَ زبيدة لقد أَحْسَنت فِي عدم إيذائك إيَّاهُم فقد ورثت الْخلَافَة كَابِرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 عَن كَابر وورثت مَعهَا سيرهم وشمائلهم وطباعهم وأفعالهم أَيْضا انْظُر مَا فعل الْخُلَفَاء قبلك مَعَ عباد الله عز وَجل وانح نحوهم فالسيادة وَالْعَظَمَة وَالْملك لَا تزهو بِغَيْر الْعدْل والبذل فَذا يجْرِي فِي مُسْتَقر ذَاك لَيْسَ من شكّ فِي أَن مَا فِي بَيت المَال للْمُسلمين وَأَنت تنْفق مِنْهُ شَيْئا كثيرا أنْفق من أَمْوَال الْمُسلمين بِالْقدرِ الَّذِي تريدهم أَن ينفقوا من أموالك وَإِلَّا فهم معذورون فِي تضجرهم وتشكيهم مِنْك وَحدث ان رأى كل مِنْهُمَا فِي منامة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أَن السَّاعَة قَامَت وأحضر الْخَلَائق يساقون وَاحِدًا وَاحِدًا لِلْحسابِ والمصطفى صلى الله عَلَيْهِ واله يتشفع لَهُم فيمضون إِلَى الْجنَّة وامسك أحد الملائك بيديهما الرشيد وزبيدة ليأخذهما إِلَى مَكَان الْحساب فاعترضه ملك اخر وَقَالَ إِلَى أَيْن أَنْت مَاض بهما لقد أَرْسلنِي الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ واله وَقَالَ لَا تدعهما يتقدمان مَا دمت حَاضرا لِئَلَّا يَعْتَرِينِي فيهمَا الخجل وَلَا استطيع ان أَقُول بشانهما شَيْئا لِأَنَّهُمَا حسبا أَن أَمْوَال الْمُسلمين أموالهما فحرما الْمُسْتَحقّين ونصبا نفسيهما مَكَاني وأفاقا من نومهما حيرانين ذاهلين فَقَالَ هَارُون لزبيدة مَا دهاك قَالَت رَأَيْت فِي مَنَامِي كَذَا وَكَذَا فاعتراني الْفَزع قَالَ هَارُون وَرَأَيْت مثل هَذَا فِي الْمَنَام أَيْضا ثمَّ شكر الله تَعَالَى على أَن الْبَعْث كَانَ رُؤْيا لَا حَقِيقَة وَفِي الْيَوْم التَّالِي فتحا بَاب الخزانة وأمرا مناديا يُنَادي فِي النَّاس على الْمُسْتَحقّين أَن يحضروا لنعطي كلا من بَيت المَال نصيبة ونوفيه حَاجته وَمرَاده فتدافع النَّاس بِكَثْرَة حَتَّى بلغ مَا قسم الرشيد من أعطيات وجرايات ثَلَاثَة الاف ألف دِينَار ثمَّ قَالَت زبيدة للرشيد إِن بَيت المَال فِي حوزتك وَأَنت الَّذِي سَوف تسئل عَنهُ فِي الاخرة لَا أَنا اعْلَم أَنَّك بإزاحة عبء بعض الْأُمُور عَن كاهلك وَالْخُرُوج من عهدتها قد أصبت تَوْفِيقًا فِي هَذَا الْأَمر ان مَا أَعْطيته الْمُسلمين لم يكن إِلَّا من أَمْوَال الْمُسلمين أما أَنا فسأعطي النَّاس من اموالي الْخَاصَّة ابْتِغَاء رضى الله وثواب الدَّار الاخرة إِنَّنِي أعلم علم الْيَقِين أَن لَا بُد من الرحيل عَن هَذَا الْعَالم وَترك النِّعْمَة والثروة وَعلي أَن أقدم بنفسي زادا من دنياي لاخرتي وأخرجت زبيدة مَا يُسَاوِي بضعَة الاف ألف دِينَار من الْجَوَاهِر وَالْفِضَّة وَالثيَاب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 خزائنها وَقَالَت يجب أَن ينْفق هَذَا كُله فِي سبل الْخَيْر ليظل أَثَره وَدُعَاء النَّاس بِالْخَيرِ يترى إِلَى يَوْم الدّين وَأمرت زبيدة بِحَفر الابار الْكَبِيرَة الواسعة وَإِقَامَة الأحواض وصهاريج المَاء فِي كل مرحلة من المراحل الممتدة على طَرِيق الْحَج من الْكُوفَة إِلَى مَكَّة وَالْمَدينَة على أَن تبنى جَمِيعهَا من قمتها إِلَى قاعها بِالْحجرِ والاجر المشوي والجص والملاط لتوفير الْمِيَاه للحجيج فِي الصَّحرَاء الَّتِي كَانَ يَمُوت فِيهَا سنويا الاف الْحجَّاج عطشا وخفرت الابار وأقيمت الأحواض والصهاريج وَزَاد مَعَ ذَلِك كثير من المَال فامرت زبيدة بتحصين الثغور والقلاع وَشِرَاء الأسلحة وَالْخَيْل والسهام للغزاة وَعدد من الضّيَاع والأملاك ليَكُون فِي كل حصن وقلعة من الطَّعَام والعلف والخيول مَا يَكْفِي عِنْد الضَّرُورَة ألف غاز أَو أَلفَيْنِ سنة كَامِلَة وزادت ثمَّة أَمْوَال ايضا بنيت بهَا بامر زبيدة مَدِينَة مسورة بسور منيع من جهاتها الْأَرْبَع على حُدُود كاشغر وبلور وشنكان أطلق عَلَيْهَا اسْم بذخشان مَا زَالَت قَائِمَة وعامرة إِلَى الْيَوْم وأقيم حصن اخر قبالة راشت وفامر على حُدُود ختلان باسم واشجرد مَا زَالَ قَائِما عَامِرًا أَيْضا وَمَا زَالَت خيوله ومخازن أسلحته بَاقِيَة على حَالهَا وانشىء على هَذَا النَّحْو رِبَاط بمساحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 مَدِينَة حَصِينَة فِي أسفيجاب مَا زَالَ قَائِما عَامِرًا وَمن الْحُصُون الَّتِي بنيت أَيْضا حصن على طَرِيق خوارزم باسم فراوة وثان فِي دربند واخر فِي الاسكندرية وَعشرَة أُخْرَى كل وَاحِد مِنْهَا كالمدينة وعَلى الرغم من كل هَذَا الْعمرَان فقد زَادَت أَمْوَال أُخْرَى أمرت زبيدة بتوزيعها على الْمَسَاكِين والمجاورين فِي مَكَّة وَالْمَدينَة وَبَيت الْمُقَدّس عمر بن الْخطاب وَالْمَرْأَة الفقيرة قَالَ زيد بن أسلم كنت مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب إِذْ خرج لَيْلَة يعس أَحْوَال الرّعية بِنَفسِهِ فَلَمَّا تخطينا الْمَدِينَة إِذا بحائط خرب تنبعث مِنْهُ نَار فَقَالَ لي عمر يَا زيد هَلُمَّ بِنَا إِلَى ذَلِك الْمَكَان لنرى من ذَا الَّذِي يُوقد نَارا فِي منصف اللَّيْل فاتجهنا صَوبه وَلما اقتربنا مِنْهُ إِذا امْرَأَة قد وضعت قديرة على النَّار وأمامها طفلان نائمان وَهِي تَقول تعاليت يَا رب أنصفني من عمر فَهُوَ شبعان وَنحن جِيَاع لما سمع عمر مِنْهَا ذَلِك قَالَ لي يَا زيد لقد وكلتني هَذِه الْمَرْأَة إِلَى الله من بَين كل خلقه ابق أَنْت هُنَا حَتَّى أقترب مِنْهَا وأستفسر عَن حَالهَا فاقترب مِنْهَا وَقَالَ مَاذَا تعدين من طَعَام فِي الْخَلَاء فِي منتصف اللَّيْل قَالَت إِنَّنِي امْرَأَة فقيرة لَيْسَ لي فِي الْمَدِينَة بَيت أملكهُ وَلَا ألوي على شَيْء أتيت إِلَى هَذَا الْمَكَان أمس خجلا من بكاء طفلي وصراخهما جوعا لأنني لَا أملك مَا أقوتهم بِهِ وَلِئَلَّا يعرف الْجِيرَان أَنَّهُمَا يَبْكِيَانِ جوعا لقد أسقط بيَدي فَكلما جعلا يَبْكِيَانِ جوعا ويطلبان طَعَاما أَضَع هَذِه القديرة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 النَّار وَأَقُول لَهما نَامَا واستريحا إِلَى أَن ينضج الطَّعَام فَأدْخل على قلبيهما السرُور وعَلى هَذَا الأمل ينامان وَحين يستيقظان وَلَا يجدان شَيْئا يعاودان الصُّرَاخ والبكاء وَلَقَد أنمتهم السَّاعَة بالتعلة نَفسهَا إننا لم نَأْكُل فِي هذَيْن الْيَوْمَيْنِ شَيْئا أما هَذِه الْقدر فَلَيْسَ فِيهَا سوى المَاء فتألم عمر وَقَالَ انه لحق أَن تَدعِي على عمر وتكليه إِلَى الله تَعَالَى وَقَالَ لَهَا وَلم تعرفه اصْبِرِي قَلِيلا وابق هُنَا حَتَّى أَعُود اليك وَتركهَا وَعَاد فَلَمَّا وصل الي قَالَ هيا بِنَا إِلَى بَيْتِي وَلما وصلنا إِلَى بَاب بَيته وقفت عِنْده وَدخل هُوَ ثمَّ خرج يحمل جرابين على كَتفيهِ فَقَالَ لي لنعد ثَانِيَة إِلَى تِلْكَ المستورة فَقلت إِن يكن لَا بُد من الذّهاب إِلَى هُنَاكَ فَدَعْنِي أحمل الجرابين لأتكفل هَذَا العبء قَالَ عمر يَا زيد إِن تتعهد هَذَا العبء فَمن يتَوَلَّى عبء الذُّنُوب عَن عنق عمر وَقطع عمر الطَّرِيق كلهَا بِحمْلِهِ إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَة فَانْزِل الجرابين من على ظَهره وَوَضعهمَا امامها وَكَانَ فِي أَحدهمَا دَقِيق وَفِي الاخر أرز وحمص ودهن وأليه ثمَّ قَالَ لي يَا زيد اجْمَعْ مَا تَجِد هُنَا من سيح وقيصوم وأتني بِهِ بِسُرْعَة ورحت أسعى فِي طلب الْحَطب وَجمعه فِي حِين تنَاول عمر الْإِنَاء وأحضر مَاء وَغسل الْأرز والحمص وَوَضعهمَا فِي الْقدر وأضاف إِلَيْهِمَا دهنا وأليه ثمَّ صنع من الطحين كماجة كَبِيرَة وأتيته بالحطب فأعد الطَّعَام بِنَفسِهِ وصنع الكماجة على الْجَمْر لما نضج الْخبز وَالطَّعَام مَلأ عمر الْوِعَاء طَعَاما وفت الْخبز فِيهِ وَلما برد قَالَ للْمَرْأَة أيقظي الطفلين ليأكلا فأيقظتهما وَوضع الطَّعَام أمامهما وابتعد عَنْهُم ثمَّ بسط سجادته وَشرع يُصَلِّي وَلما نظر عمر إِلَيْهِم بعد مُضِيّ وَقت فَرَأى أَنهم قد شَبِعُوا جَمِيعًا أَن الطفلين يلاعبان الْأُم نَهَضَ من حَيْثُ هُوَ وَقَالَ أيتها الْمَرْأَة عَلَيْك بالطفلين وَأَنا بالجرابين وَزيد بِالْقدرِ والوعاء وهيا بِنَا إِلَى مَنْزِلك فَفَعَلُوا ومضوا لما عَادَتْ الْمَرْأَة وأطفالها إِلَى الْبَيْت وَوضع عمر الجرابين ثمَّ هم بالعودة قَالَ للمراة ترفقي بعمر وارحميه وَلَا تكليه إِلَى الله بعد فَلَيْسَ لَهُ طَاقَة على عَذَابه وعتابه عز وَجل إِنَّه لَا يعلم الْغَيْب حَتَّى يعرف حَال كل فَرد كلي أَنْت وطفلاك مِمَّا أحضرت وأخبريني حَال نفاده لاتيك بِغَيْرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام والرفق بِالْحَيَوَانِ يُقَال لما كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام يرْعَى الْغنم يَوْمًا أَيَّام كَانَ رَاعيا للنَّبِي شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام وَلما ياته الْوَحْي انْفَرَدت شَاة عَن القطيع فَأَرَادَ أَن يُعِيدهَا إِلَيْهِ غير أَن الشَّاة فرت وَمَضَت فِي الصَّحرَاء وَلما لم تَرَ القطيع استمرت فِي جريها من شدَّة الذعر وتبعها مُوسَى إِلَى فرسخين أَو ثَلَاثَة حَيْثُ أعياها الْجهد فَسَقَطت من الإعياء ألى حد لم تقو مَعَه على النهوض لما أدْركهَا مُوسَى رق لحالها وَقَالَ أيتها المسكينة لم كنت تهربين ومم كنت تَخَافِينَ وَلما رأى أَن لَا طَاقَة لَهَا على السّير أَهْوى إِلَيْهَا وَحملهَا إِلَى مقربة من القطيع فَمَا أَن وَقعت عَلَيْهِ عَيناهَا حَتَّى هش لَهُ قَلبهَا وعادت إِلَيْهَا قوتها وحيويتها فانزلها مُوسَى من على عُنُقه وهرعت الشَّاة إِلَى القطيع وانضمت إِلَيْهِ حينذاك نَادَى الْحق تَعَالَى ملائك السَّمَوَات وَقَالَ أرايتم ترفق عَبدِي بِتِلْكَ الشَّاة البكماء وَكَيف أَنه على مَا تكبده من جهد وتعب لم يؤذها بل واساها واحسن إِلَيْهَا وَعِزَّتِي لأرفعه ولأتخذه كليمي واجعله نَبيا وَأنزل عَلَيْهِ الْكتاب لظل النَّاس يتحدثون عَنهُ مدى الْحَيَاة ثمَّ وهبه كل هَذِه الكرامات الْحَاج الْمَرْوذِيّ وَالْكَلب الأجرب كَانَ فِي مَدِينَة مرو الروذ رجل يدعى الْحَاج الرئيس وَكَانَ محتشما مَشْهُورا وَذَا نعْمَة وضياع ومستغلات كَثِيرَة وَلم يكن بخراسان فِي زَمَانه من هُوَ أشهر مِنْهُ وأقدر خدم السلطانين مَحْمُودًا ومسعودا وَقد كُنَّا رايناه لقد زاول فِي فتوته وشبابه ضروب الاستبداد والوحشية والتعذيب والشدة فِي تَحْصِيل الْأَمْوَال وابتزاها والمطالبة بهَا وتشتيت شَمل العائلات فَلم يكن ثمَّة أقسى وَأكْثر طيشا واستخفافا مِنْهُ غير أَنه صَحا من سباته فِي نِهَايَة الْأَمر فَكف عَن التسلط على النَّاس وإيذائهم وتحول إِلَى فعل الْخَيْر من مثل مواساة الْفُقَرَاء وإنشاء القناطر ومحطات الإستراحة على الطرقات ثمَّ حرر كثيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 من العبيد وسدد دُيُون المفلسين والمعدمين وكسا الْيَتَامَى واعان الْحجَّاج والغزاة وبتى مَسْجِدا جَامعا فِي مدينته كَمَا أنشأ مَسْجِدا جَامعا عَظِيما بنيسابور وَبعد أَن قدم كثيرا من أَعمال الْخَيْر مضى لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج فِي أَيَّام الْأَمِير جغري رَحمَه الله وَلما وصل إِلَى بَغْدَاد أَقَامَ بهَا حوالي شهر وَفِي تِلْكَ الْأَثْنَاء خرج من الْمنزل يَوْمًا فَرَأى فِي ممر بِالسوقِ كَلْبا شَدِيد الجرب وَقد تساقط شعره كُله عَن جِسْمه وأعياه الْأَلَم وَأَقْعَدَهُ تألم الرجل لحَال الْكَلْب وَقَالَ إِنَّه ذُو روح أَيْضا وَمن مخلوقات الله عز وَجل ثمَّ قَالَ لخادم لَهُ اذْهَبْ وأحضر منوي خبز ورسنا ووقف فِي مَكَانَهُ إِلَى أَن جَاءَهُ الْخَادِم بِمَا أَرَادَ فَأخذ يفتت الْخبز بِيَدِهِ ويلقي بِهِ أَمَام الْكَلْب إِلَى أَن أشبعه وأمنه وانذاك وضع الرسن فِي عُنُقه وَسلمهُ إِلَى الْخَادِم وَقَالَ خُذْهُ إِلَى الْبَيْت الَّذِي ننزل فِيهِ وَعَاد من السُّوق فَوْرًا وَلما وصل ألى الْبَيْت أَمر بشرَاء ثَلَاثَة منوات دهن وإذابتها على النَّار وإتيانه بهَا حَالا ثمَّ تنَاول قَضِيبًا خشبيا لف على رَأسه قِطْعَة قماش قديمَة وصوفا ونهض من مَكَانَهُ واقترب من الْكَلْب وَأخذ يغط الْقَضِيب بالوعاء الَّذِي فِيهِ الدّهن الْمُذَاب ويدهن جلد الْكَلْب بِيَدِهِ إِلَى أَن أَتَى عَلَيْهِ كُله ثمَّ قَالَ لخادم لَهُ لست باكثر وقار مني لَيْسَ بعائبي مَا قُمْت بِهِ وَيَنْبَغِي إِلَّا يعيبك وَأَنت خادمي أَيْضا أريدك أَن تدق مسمارا فِي الْحَائِط ترْبط بِهِ الْكَلْب وَأَن تقدم لَهُ منوي خبز يوميا الأول صباحا والاخر مسَاء وَأَن تدهن جلده بالدهن الْمُذَاب الْحَار مرَّتَيْنِ فِي الْيَوْم وتطعمه مَا يتبقى على السفرة من الْعظم وفتات الْخبز إِلَى أَن تتحسن حَاله وَشرع الْخَادِم بتنفيذ مَا أمره بِهِ سَيّده وَبعد أسبوعين إِذا الْكَلْب يَنْسَلِخ عَنهُ الجرب وينبت الشّعْر فِي جلده ويسمن جيدا وتتحسن حَاله بِحَيْثُ لم يعد سهلا إِخْرَاجه حَتَّى بالعصا من ذَلِك الْبَيْت وَمضى الْحَاج الرئيس بالقافلة فَأدى فَرِيضَة الْحَج وَأنْفق فِي تِلْكَ الطَّرِيق مَالا كثيرا ثمَّ عَاد إِلَى مرو الروذ الَّتِي توفّي فِيهَا بعد سنوات وَبعد انْقِضَاء مُدَّة على وَفَاته رَاه اُحْدُ الزهاد فِي الْمَنَام على براق والحور الغلمان من خَلفه وامامه وَمن على يَمِينه ويساره يسوقونه ببطء فرحين ضاحكين فِي رَوْضَة من رياض الْجنَّة فهرع نَحوه وَسلم عَلَيْهِ فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا ان شدّ إِلَيْهِ عنَاق الْبراق ورد على الزَّاهِد السَّلَام فَسَأَلَهُ الزَّاهِد يَا فلَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 لقد كنت فِي بَدْء حياتك رجلا مُؤْذِيًا للنَّاس غير رَحِيم بهم متطولا عَلَيْهِم لكنك لما أَفَقْت من سباتك كَفَفْت عَن إيذائهم وَعدلت عَن سيرتك الأولى حَتَّى ان مَا قُمْت بِهِ من عمل الْخَيْر وبذل الصَّدقَات وإنفاق الْأَمْوَال على الْمُسْتَحقّين لم يقم بِهِ أحد فضلا عَن أدائك فَرِيضَة الْحَج قل لي بِأَيّ عمل بلغت الدرجَة الَّتِي أَنْت فِيهَا الان فَقَالَ أَيهَا الزَّاهِد لقد عجبت فِي أَمر الله تَعَالَى وَمن الْأَفْضَل أَن تعْتَبر أَنْت ايضا وَلَا تتكىء على الطَّاعَة وتغتر بِالْعبَادَة كثيرا اعْلَم أَن مَكَاني كَانَ معدا فِي جَهَنَّم للمعاصي الَّتِي كنت أرتكبها فِي شَبَابِي وَأَن لم تكن ثمَّة فَائِدَة لما قدمت من طَاعَة وأنفقت من خيرات بعد ذَلِك وان كل صَلَاتي وصومي قد رميت فِي وَجْهي وَأَنا فِي النزع الْأَخير وان الطَّاعَات وَالصَّدقَات والخيرات والمساجد والماوي والجسور وَأَدَاء فَرِيضَة الْحَج ذهبت كلهَا هباء منثورا وَأَن الياس بلغ بِي حدا قطعت مَعَه الأمل فِي الْجنَّة وايقنت أَن لَا بُد من عَذَاب النَّار والأصوات تتهادى إِلَى سَمْعِي ان لقد كنت كَلْبا من كلاب الدُّنْيَا لكننا غفرنا لَك ومحونا عَنْك جَمِيع مَعَاصِيك فأدخلناك الْجنَّة وحرمنا عَلَيْك النَّار بإحسانك إِلَى كلب خلعت لَهُ عَنْك رِدَاء الْكبر وَرَحمته وترفقت بِهِ ثمَّ رَأَيْت ملائك الرَّحْمَة اتين مُسْرِعين كالبرق فخلصوني من ايدي مَلَائِكَة الْعَذَاب ومضوا بِي إِلَى الْجنَّة ان ذَلِك الْعَمَل هُوَ الوحيد الَّذِي انتشلني من بَين طاعاتي كلهَا من حَال الشَّقَاء تِلْكَ لقد ذكرت هَذِه الْحِكَايَة ليعلم سيد الْعَالم خلد الله ملكه أَن الْإِحْسَان خصْلَة جَيِّدَة حميدة فَفِي إِحْسَان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الشَّاة والحاج الرئيس إِلَى الْكَلْب نالا مَا نالا من دَرَجَات فِي الدُّنْيَا والاخرة من هُنَا يعرف إِذن ثَوَاب الله عز وَجل لمن يحسن إِلَى مُسلم معوز وَيَأْخُذ بِيَدِهِ ولخشية ملك الزَّمَان ربه وتقديرة عواقب الْأُمُور فَمَا كَانَ إِلَّا عادلا فِي كل حَال وَمَا كَانَ الْعَادِل إِلَّا محسنا وكريما وَإِن يكن الْملك على هَذَا النَّحْو فَإِن جَمِيع عماله وأفراد جَيْشه يتبعُون منواله ويقتدرون بِهِ وَلَا جرم من أَن ينعم خلق الله ويجنوا ثَمَرَات هَذَا فِي الدُّنْيَا والاخرة إِن شَاءَ الله تَعَالَى كَانَ من عَادَة الْمُلُوك اليقظين أَن يرعوا حُرْمَة المسنين المجربين جَوَاب الافاق وَأَن يتعهدوا الماهرين فِي الْأَعْمَال والعارفين بشؤون الْحَرْب بِأَن يجْعَلُوا لكل مِنْهُم مقَاما ومنزلة أثيرة لديهم لقد كَانُوا يتدبرون مَعَ الْحُكَمَاء والمسنين الَّذين طوفوا الافاق الْأُمُور الَّتِي ترتبط بشؤون المملكة ومصالحها وعمرانها وأبنيتها الرفيعة والأمور الَّتِي تتصل بترقية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 هَذَا وتنحية ذَاك وَإِقَامَة علاقات مَعَ الاخرين والتعرف إِلَى أَحْوَال المملكة والتحقق من أُمُور الدّين وأمثالها وَكَانُوا إِذا مَا جد طارىء عدواني وحربي يتخذون التدابير كلهَا مَعَ من مارسوا الحروب وَلَهُم فِيهَا خبرات وتجارب كَثِيرَة فَيَأْتِي الْأَمر وفَاقا للهدف المرسوم وَكَانُوا إِذا مَا نشبت الْحَرْب يرسلون إِلَيْهَا من خَاضَ غمار المعارك الْكَثِيرَة وَهزمَ الجيوش العديدة واحتل القلاع وذاع اسْمه فِي الْعَالم باسم الرجل الشجاع وَكَانُوا على الرغم من كل هَذَا يرسلون شخصا مسنا مِمَّن جابوا الْبِلَاد وَمن ذَوي الخبرات لتجنب الْوُقُوع فِي الْخَطَأ لَكِن من يحدث الان انه إِذا مَا طَرَأَ طارىء ينْدب لَهُ من لَا خبْرَة لَهُم من الْأَطْفَال والسباب المبتدئين وَمن هُنَا يبرز الْخَطَأ أَنه لمن الصَّوَاب درءا للأخطار أَن تتَّخذ الاحتياطات والمحاذير الكافية فِي هَذَا الْمَوْضُوع دَائِما فصل فِي الألقاب فكثرت الألقاب كَثْرَة هائلة وَكلما كثرت ذهب بهاؤها وَقلت أهميتها كَانَ الْمُلُوك وَالْخُلَفَاء يضنون دَائِما فِي المخاطبة بِالْأَلْقَابِ ومنحها لِأَن الْحفاظ على ألقاب الْأَشْخَاص ومراتبهم وأقدارهم جُزْء من شرف المملكة فَإِذا مَا كَانَ لقب تَاجر مَا أَو زارع ولقب رجل أخر وجيه مَعْرُوف وَاحِد لَا يكون ثمَّة فرق بَين الْإِثْنَيْنِ وَيُصْبِح مقَام الْمَعْرُوف والمغمور وَاحِدًا إِذن واذا مَا كَانَ لقب أَي إِمَام أَو عَالم أَو قَاض معِين الدولة ولقب أَي غُلَام أَو رَئِيس تركي مِمَّن لَا يَدْرُونَ من الْعلم والشريعة شَيْئا وَلَا يعْرفُونَ الْقِرَاءَة وَالْكِتَابَة معِين الدولة أَيْضا فَأَي فرق يبْقى إِذن بَين الْعَالم وَالْجَاهِل وَبَين الْقُضَاة وغلمان التّرْك فِي الْمنزلَة فلقبهم وَاحِد وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيح كَانَت القاب امراء التّرْك دَائِما من مثل حسام الدولة وَسيف الدولة وَيَمِين الدولة وشمس الدولة وامثالها أما ألقاب الخواجات والعمداء والمتصرفين فَكَانَت من مثل عميد الْملك وظهير الْملك وقوام الْملك ونظام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الْملك وَكَمَال الْملك غير أَن هذاالتفاوت قد زَالَ الان فالأتراك يتلقبون بألقاب الْفرس وَالْفرس يتلقبون بألقاب التّرْك دون أَن يرَوا فِي هَذَا غَضَاضَة لقد كَانَ اللقب عَزِيزًا دَائِما السُّلْطَان مَحْمُود وَطَلَبه الألقاب من الْخَلِيفَة لما تولى السُّلْطَان مَحْمُود السلطنة طلب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَادِر بِاللَّه أَن يمنحه لقبا فمنحه لقب يَمِين الدولة وَبعد أَن استولى مَحْمُود على ولايتي نيمروز وخراسان وعَلى مدن وولايات لَا حد لَهَا فِي الْهِنْد اذ وصل إِلَى سومنات وجلب مَعَه مَنَاة كَمَا استولى على سَمَرْقَنْد وخوارزم ثمَّ مضى ألى قوستان الْعرَاق ثمَّ استولى على الرّيّ وأصفهان وهمدان وطبرستان بعد كل هَذَا أرسل إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ رَسُولا محملًا بالهدايا والتحف الْكَثِيرَة يطْلب إِلَيْهِ مزيدا من الألقاب لَكِن الْخَلِيفَة لم يجبهُ إِلَى طلبه وَيُقَال أَنه أَي مَحْمُود بعث رَسُوله بالهدايا إِلَيْهِ أَكثر من عشرات مَرَّات دون جدوى لَكِن الْخَلِيفَة منح خاقَان سَمَرْقَنْد ثَلَاثَة ألقاب ظهير الدولة ومعين خَليفَة الله وَملك الشرق والصين فغبطه مَحْمُود عَلَيْهِ وأخذته الْغيرَة فَأرْسل رَسُوله إِلَى الْخَلِيفَة مرّة أُخْرَى وَقَالَ لقد فتحت فِي بِلَاد الْكفْر الْفتُوح ووطدت عز الْإِسْلَام فِي الْهِنْد وخرسان وَالْعراق واستوليت على مَا وَرَاء النَّهر وَكنت أُحَارب بِالسَّيْفِ بِاسْمِك ان الخاقان وَهُوَ الان من مطيعي وعمالي يمنح ثَلَاثَة ألقاب فِي حِين أمنح أَنا لقبا وَاحِدًا بعد كثير من الْهَدَايَا والالتماسات فَأَجَابَهُ الْخَلِيفَة اللقب تشريف للرجل يزْدَاد بِهِ شرفا ويعرفه بِهِ الْمَلأ أَيْضا اعْلَم أَن للنَّاس أَسمَاء وَضعهَا لَهُم اباؤهم وأمهاتهم وكنى وضعوها هم لانفسهم وألقابا يمنحها الْملك إيَّاهُم وَأَن مَا زَاد على هَذِه الثَّلَاثَة حَشْو وباطل وَكذب والعاقل لَا ينطلي عَلَيْهِ الْبَاطِل والمحال ان النَّاس يدعونَ الْإِنْسَان باسمه فِي صغرة وَهَذَا مَا يُرْضِي وَالِديهِ لِأَنَّهُمَا هما اللَّذَان اختارا لَهُ هَذَا الِاسْم لكنه مَا أَن يصير رجلا يُمَيّز الْحسن من الْقَبِيح جيدا حَتَّى يخْتَار بِوَحْي عقله وفكره وَعلمه كنية لنَفسِهِ وكما قيل الكنى بالمنى وَمن ثمَّ يَدعُوهُ النَّاس تَعْظِيمًا لَهُ بالكنية الَّتِي اخْتَارَهَا ليفرح بِهَذَا وَيسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فَإِذا مَا أبدى امْرُؤ لياقة ومهارة فِي المملكة وَالْأمة فَإِن الْملك يمنحه لقبا على سَبِيل التشريف على قدره يظهره على أقرانه وَيجْعَل لَهُ فضلا عَلَيْهِم فَيكون من يمنحه الْملك أَو الْخَلِيفَة لقبا أفضل مِمَّا منحه إِيَّاه وَالِده وَمِمَّا اخْتَار هُوَ لنَفسِهِ وَمن ثمَّ يَدعُوهُ النَّاس بِمَا خلعه عَلَيْهِ الْملك وَذَلِكَ هُوَ اللقب إِن كل مَا يتخطى هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة من ألقاب لَيْسَ سوى لقب حسب ان الخاقان لقَلِيل علمه وَهُوَ تركي من أُمَرَاء الْأَطْرَاف وَلَقَد أجبناه لطلبته لقلَّة علمه ورعاية لشرفه أما أَنْت فلعلى معرفَة بِكُل علم وَمنا قريب إِن رَأينَا فِيك وثقتنا بك واعتمادنا عَلَيْك وتيقننا من تدينك لأَفْضَل وَأَرْفَع وَأكْثر من أَن تطلب إِلَيْنَا لقبا يحري على أَلْسِنَة النَّاس ويسطر فِي كتاب أَو أَن تتَوَقَّع مَا يتوقعه قليلو الْمعرفَة وَالْعلم وَأسْقط بيد مَحْمُود لما سمع هَذَا الْجَواب غير انه كَانَ ثمَّة امراة تركية الأَصْل تقْرَأ تكْتب تعرف اللُّغَة حلوة الحَدِيث وَكَانَت هَذِه الْمَرْأَة تؤم قصر مَحْمُود دَائِما تَتَحَدَّث إِلَيْهِ وتطايبه وتمازحه وتعاشره وتقرأ بَين يَدَيْهِ كتبا وحكايات فارسية وَكَانَت جريئة مَعَه إِلَى أبعد مدى فَفِي حِين كَانَت تجالسه يَوْمًا وتطايبه قَالَ لَهَا لقد جهدت كثيرا فِي أَن يزِيد الْخَلِيفَة فِي لقبي لكنه لم يفعل على حِين ان للخاقان وَهُوَ من مسخري عدَّة ألقاب وَلَيْسَ لي سوى لقب وَاحِد لَو أَن شخصا يَسْتَطِيع سَرقَة عهد الْخَلِيفَة إِلَى الخاقان أَو الْحُصُول عَلَيْهِ بطريقة من الطّرق ويأتيني بِهِ لأعطيته مَا يُرِيد قَالَت الْمَرْأَة يَا مولَايَ أَنا الَّذِي سأذهب وأحضر الْعَهْد على أَن تُعْطِينِي مَا أُرِيد قَالَ مَحْمُود لَك هَذَا قَالَت الْمَرْأَة لَيْسَ لدي من المَال مَا أفديه لتحقييق رَغْبَة مولَايَ ان تجْعَل لي مدَدا من الخزينة فإمَّا أَن أضحي بروحي فِي سَبِيل هَذَا الْأَمر وأقضي دونه وَإِمَّا أَن أحقق مُرَاد مولَايَ قَالَ اطلبي مَا تشائين ثمَّ أَعْطَاهَا مَا طلبت من المَال والثروة والجواهر والملابس والأنعام والتحف والهدايا ومؤونة الطَّرِيق واصطحبت الْمَرْأَة ابْنهَا الَّذِي كَانَ فِي الرَّابِعَة عشرَة من عمره وَالَّذِي كَانَت عهِدت بِهِ إِلَى مؤدب لتأديبه وتعليمه وَمَضَت من غزنين إِلَى كاشغر حَيْثُ اشترت عددا من الغلمان التّرْك والجواري وَأَشْيَاء كَثِيرَة من التحف والمسك وَالْحَرِير والطرقو وامثالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 مِمَّا كَانَ يُؤْتى بِهِ من خطا والصين ثمَّ مَضَت فِي صُحْبَة التُّجَّار إِلَى أوزجند وَمِنْهَا إِلَى سَمَرْقَنْد وَبعد ثَلَاثَة أَيَّام ذهبت للسلام على الخاتون جَارِيَة تركية اية فِي الْجمال تحمل إِلَيْهَا أَشْيَاء كَثِيرَة من تحف الصين وخطا ثمَّ قَالَت لَهَا كَانَ لي زوج تَاجر يجوب الْعَالم ويصحبني مَعَه وَلَقَد كَانَ يَنْوِي الذّهاب إِلَى خطا لكنه لما وصل إِلَى ختن أسلم فِيهَا الرّوح حِينَئِذٍ عدت من هُنَاكَ وَجئْت إِلَى كاشغر وحملت معي هَدِيَّة إِلَى خانها أميرها فقابلت خاتونه زوجه وَقلت لَهَا كَانَ زَوجي اُحْدُ خدم الخاقان الْأَجَل وَكنت أَنا جَارِيَة خاتون خاقاني لكنهما أعتقاني وزوجاني من ذَلِك الرجل الَّذِي أنجبت مِنْهُ هَذَا الصَّبِي وَزَوْجي مُقيم المثوى فِي ختن حَيْثُ الْتحق بالرفيق الْأَعْلَى ان هَذَا الْقدر الَّذِي خَلفه بعده لَيْسَ سوى مَا وهبه إِيَّاه الخاقان الْأَجَل والخاتون أما الان فإنني لأتطلع إِلَى عدل الخاقان الْأَجَل وعلو همته بِأَن يشملني وَهَذَا الْيَتِيم بعطفه ورعايته فيأمر بإرسالنا مَعَ دَلِيل جيد إِلَى جَانب أوزجند وسمرقند وسوف نظل نلهج بمدحكم وَالثنَاء عَلَيْكُم وَالدُّعَاء لكم مَا حيينا لقد قَالَ لنا خَان كاشغر وَزَوْجَة قولا كَرِيمًا واكرما وفادتنا وودعانا وكتبا رِسَالَة إِلَى خَان أوزجند ليحسن معاملتنا ويرسلنا فِي صُحْبَة حميدة إِلَى سَمَرْقَنْد وَهَا نَحن أَولا نحل عقد رحالنا الان بسمرقند فِي ظلّ دولتكم ومنعتكم حَيْثُ لَا عدل الْيَوْم مثل عدلكم فِي الْعَالم كُله وَلَا إنصاف مثل إنصافكم فَلَقَد كَانَ زَوجي يَقُول دَائِما إِن ييتح لي الْوُصُول إِلَى سَمَرْقَنْد فَلَنْ أبرحها أبدا لقد جَاءَ بِي اسمكم وشهرتكم إِلَى هُنَا فَإِن تروا أَن فِي مصلحتكم قبولي وإحاطتي بعنايتكم وعطفكم أحط الرّحال هُنَا ثمَّ أبيع مَا لدي من اشياء وأشتري بهَا منزلا وضيعة بِالْقدرِ الَّذِي يُؤمن لنا قوتنا وأقوم على خدمتكم واربي هَذَا الصَّبِي الَّذِي امل أَن يَهبهُ الله عز وَجل ببركاتكم السَّعَادَة والتوفيق فَقَالَت الخاتون لَهَا لَا تقلقي فَلَنْ الو جهدا فِي إكرامك وَالْإِحْسَان إِلَيْك والاحتفاظ بك ساجعل لَك منزلا وَرِزْقًا على النَّحْو الَّذِي ترغبين وَلنْ أدعك تعزبين عني لَحْظَة وساطلب إِلَى الخاقان أَن يقْضِي لَك كل مَا تطلبين تحتاجين إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وَقبلت السيدة الأَرْض بَين يَدي الخاتون وَقَالَت أَنْت الان مولاتي وَلَا أعرف أحدا سواك أَرْجُو أَن تسعي لي لَدَى الخاقان الْأَجَل وتقدميني إِلَيْهِ لأطلعه على حَالي فَأَسْمع رَأْي مولَايَ الخاقان ايضا قَالَت الخاتون ساقدمك إِلَيْهِ فِي أَي وَقت ترغبين فَقَالَ الْمَرْأَة أود المثول بَين يَدَيْهِ غَدا قَالَت الخاتون وَهُوَ كَذَلِك وَفِي الْيَوْم التَّالِي مَضَت الْمَرْأَة إِلَى قصر الخاتون وَلما عَاد الخاقان من البلاط وَعرضت عَلَيْهِ الخاتون حَال الْمَرْأَة أَمر بإحضارها إِلَيْهِ وجييء بهَا فَقبلت الأَرْض بَين يَدَيْهِ وقدمت إِلَيْهِ غُلَاما تركيا وجوادا جميلا وَأَشْيَاء من تحف محتلفة هَدِيَّة وَقَالَت لقد عرضت على الخاتون بعض حَالي وباختصار فَإِنَّهُ لما مَاتَ زَوجي أَطَالَ الله بَقَاء مولَايَ قَالَ لي شَرِيكه بشأن مَا كُنَّا نحمله من بضائع إِلَى خطا يَنْبَغِي إِلَّا نعيده وَمضى بِهِ إِلَيْهَا أما مَا تبقى فَأخذ خَان الصين بعضه وأعطينا خَان كاشغر بعضه وأنفقنا نَحن قسما فِي الطَّرِيق ومجمل القَوْل أَنه لم يبْق لي من كل ذَلِك سوى بضع تحف وأنعام مَعْدُودَة وَهَذَا الْيَتِيم أَلا يقبلني الخاقان الْأَجَل جَارِيَة لَهُ مِثْلَمَا قبلتني الخاتون الْعَظِيمَة لأقضي بَاقِي عمري فِي هَذِه الْخدمَة الجليلة فخاطبها الخاقان بأدب جم ورد عَلَيْهَا ردا جميلا وَأجَاب طلبتها وَأخذت الْمَرْأَة بعد ذَلِك تهدي الخاتون كلما ذهبت إِلَيْهَا كل يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة خاتمين من لَعَلَّ أَو فيروزج أَو مقنعة مقصبة أَو تحفة ثمينة قيمَة وتقص عَلَيْهَا حكايات وأساطير شيقة حَتَّى أَن الخاقان والخاتون لم يعودا يحتملان يَوْمًا وَاحِدًا دونهَا لقد أخجلتهما برفضها مَا عرضاه عَلَيْهَا من قَرْيَة وضيعة خَاصَّة وَكَانَت الْمَرْأَة تركب كل بضعَة أَيَّام من السراي الَّذِي أنزلاها فِيهِ وتمضي إِلَى الْقرى الْمُجَاورَة الَّتِي تبعد ثَلَاثَة أَو اربعة أَو خَمْسَة فراسخ عَن الْمَدِينَة بِحجَّة إِنَّنِي أَشْتَرِي ضَيْعَة وتقيم هُنَاكَ ثَلَاثَة أَو اربعة أَيَّام ثمَّ تعود إِلَى الْمَدِينَة دون أَن تشتري عائبة الضَّيْعَة مصطنعة الْأَعْذَار وَلما أرسل الخاقان فِي طلبَهَا يستفسران لماذا قاطعتنا وَلم تأت إِلَيْنَا فأجيبا بِأَنَّهَا ذهبت مُنْذُ يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة لشراء ملك فِي الْقرْيَة كَذَا فَرحا جدا وَقَالا لقد أَلْقَت عَصا الترحال هُنَا وقضت سِتَّة أشهر فِي خدمتهما على هَذَا النَّحْو أخْبرتهَا الخاتون فِي خلالها عدَّة مَرَّات ان الخاقان يَقُول لي دَائِما انه ليعتريني الخجل حِين أَرَاهَا أَي أَنْت فقد أدَّت لنا خدمات جلى وَكَانَت تَأْتِينَا بالتحف والهدايا كل بضعَة أَيَّام فِي حِين أَنَّهَا لم تقبل شَيْئا مِمَّا عرضنَا عَلَيْهَا انني لم أر امْرَأَة بِهَذِهِ الطّيبَة قطّ مَا الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 يَنْبَغِي أَن نفعله نَحْوهَا أما أَنا فَأكْثر خجلا مِنْهُ بِأَلف مرّة أما الْمَرْأَة فَكَانَت تَقول لَيْسَ ثمَّة نعْمَة أحسن عِنْدِي من رُؤْيَة مولَايَ ومولاتي اللَّذين جعل الله عز وَجل رِزْقِي عَلَيْهِمَا إِنَّنِي لن أتردد فِي طلب أَي شَيْء إِذا مَا احتجت إِلَيْهِ وراحت تعلف الْخُيُول جيدا لتسمينها واعطت سرا مَا كَانَ لَدَيْهَا من ذهب وجواهر ومفروشات وألبسة تَاجِرًا كَانَ يتَرَدَّد بَين غزنين وسمرقند فِي تِجَارَة لَهُ ثمَّ أرْسلت خَمْسَة خيالة على خَمْسَة جِيَاد اصيلة باتجاه طَرِيق بَلخ وترمذ وَقَالَت لَهُم أُرِيد من كل وَاحِد مِنْكُم أَن يتَوَقَّف بجواده فِي منزل من منَازِل الطَّرِيق إِلَى أَن أصل إِلَيْهِ ثمَّ مَضَت إِلَى الخاتون وَقد كَانَ الخاقان يجلس مَعهَا فَبعد أَن أطرتهما وأثنت عَلَيْهِمَا مَعًا قَالَت جِئْت الْيَوْم فِي حَاجَة لَا أَدْرِي أأقولها وأطلبها أم لَا قَالَت الخاتون يَا لَهُ من عجب هَذَا الَّذِي أسمعهُ مِنْك كَانَ يَنْبَغِي أَن نَكُون قد قضينا لَك مائَة حَاجَة إِلَى الْيَوْم انْطِقِي بحاجتك قَالَت الْمَرْأَة تعلمان أنني لَا أملك فِي الدِّينَا سوى ابْن هُوَ محط امالي انني لمهتمة بتربيته جدا فقد ختم الْقُرْآن ووكلته إِلَى مؤدب أحسن تأديبه وتعليمه إِذْ قَرَأَ عَلَيْهِ كتبا ورسائل بِالْعَرَبِيَّةِ والفارسية واملي كَبِير فِي أَن يتاح لَهُ حَظّ حسن فِي عهد مولَايَ ومولاتي لَيْسَ ثمَّة وَثِيقَة على وَجه الْمَعْمُور بعد كتاب الله تَعَالَى وَحَدِيث رَسُوله الأكرم أعظم من عهد أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى الْمُلُوك لِأَن كَاتب عهود أَمِير الْمُؤمنِينَ أفضل من جَمِيع الْكتاب وألفاظ العهود ومعانيها أحسن الْكَلَام وأعذبه أَلا يتفضل مولَايَ ومولاتي إِن يريَا ذَلِك عَليّ بالرسالة الَّتِي تعرف عهد أَمِير الْمُؤمنِينَ مُدَّة ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة أَيَّام لِيَقْرَأهَا ابْني على مؤدبه بضع مَرَّات انه لكثير جدا أَن يتَعَلَّم مِنْهَا خَمْسَة أَلْفَاظ فَهِيَ كفيلة بَان تمنحه ببركاتها السَّعَادَة وَحسن الْحَظ فَقَالَا لَهَا أَي حَاجَة هَذِه الَّتِي تريدين منا لم تطلبي مَدِينَة أَو نَاحيَة لنهبك إِيَّاهَا إِنَّك لم تطلبي فِي خلال هَذِه الْمدَّة شَيْئا وتجيئين الان لتطلبي شَيْئا ملقى كخمسين مثله فِي خزانتنا وَقد تراكم عَلَيْهِ الْغُبَار وَالتُّرَاب مَا قيمَة قِطْعَة من الْوَرق إِن تريدي نمنحك الرسائل كلهَا قَالَت الْمَرْأَة بحسبي الرسَالَة الَّتِي أرسلها الْخَلِيفَة وَأمر الخاقان والخاتون أحد الخدم أَن يصحبها إِلَى الخزانة ويعطيها أَيَّة رِسَالَة تُرِيدُ وَذَهَبت الْمَرْأَة إِلَى الخزانة فَأخذت عهد الْخَلِيفَة وَمَضَت بِهِ إِلَى منزلهَا وَفِي الْيَوْم التَّالِي أمرت بِأَن تسرج الْخُيُول وَتحمل البغال وأعلنت انني مَاضِيَة إِلَى الْقرْيَة كَذَا لشراء أَمْلَاك وسأبقى هُنَاكَ أسبوعا وَاحِدًا وغادرت توا وَنزلت بِتِلْكَ الْقرْيَة وَكَانَت الْمَرْأَة قد حصلت من قبل على وَثِيقَة مَفْتُوحَة فِيهَا يجب احترام هَذِه الْمَرْأَة وَمن مَعهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وإكرام وفادتهم فِي كل مَكَان يحلونَ بِهِ ويقيمون فِيهِ فِي ولايتي سَمَرْقَنْد وبخارى ويشترون هُنَاكَ الْأَمْلَاك ويؤسسون الضّيَاع وعَلى الْوُلَاة والعمال والرؤساء أَلا يتوانوا فِي بذل أَي عون مُمكن لَهُم وتوفير كل مَا يطْلبُونَ وَتَقْدِيم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الْأَطْعِمَة وَفِي منتصف احدى اللَّيَالِي تركت الْمَرْأَة الْقرْيَة إِلَى ترمذ مارة بِمَدِينَة كش على بعد ثَلَاثَة فراسخ من سَمَرْقَنْد فوصلت إِلَيْهَا بعد خَمْسَة أَيَّام وَكَانَت تعرض الْوَثِيقَة الْمَفْتُوحَة أَيْنَمَا احْتَاجَت إِلَيْهَا ثمَّ تمتطي جيادها قريرة الْعين أما الخاقان فَلم يستطلع خبر ذهابها إِلَّا بعد أَن عبرت جيحون ووصلت إِلَى بَلخ وَلم يراوده أَي شكّ حول عهد الْخَلِيفَة قطّ وَمَضَت الْمَرْأَة من بَلخ إِلَى غزنين تحمل الْعَهْد إِلَى السُّلْطَان مَحْمُود فَمَا كَانَ من مَحْمُود إِلَّا أَن أرْسلهُ بيد أحد الْعلمَاء من ذَوي الْقُدْرَة على المناظرة والجدل وَحمله عددا من الْهَدَايَا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ الْقَادِر بِاللَّه ورسالة تَقول فِي حِين كَانَ أحد خدمي يتجول فِي سوق سَمَرْقَنْد مر بِمَسْجِد فِيهِ مؤدب بِيَدِهِ كتاب يعلم مِنْهُ الصّبيان فَوَقَعت عينه على عهد أَمِير الْمُؤمنِينَ بَين أَيدي أَطْفَال صغَار يعبثون بِهِ فَذا يشده إِلَى طرف وَذَلِكَ إِلَى طرف اخر ويمرغونه فِي التُّرَاب لما عرف الْخَادِم الْعَهْد أَخَذته عَلَيْهِ الْغيرَة فأحضر قدرا من الزَّبِيب أعطَاهُ الْأَطْفَال وَحصل عَلَيْهِ مِنْهُم بِثمن بخس لَا يُسَاوِي الْوَرق الرُّخص ثمَّ حمله إِلَى غزنين وَقدمه إِلَيّ وهأنذا ابْعَثْ بِهِ إِلَى مولى الْعَالم ان يتفضل أَمِير الْمُؤمنِينَ بِتَقْدِير هواي مَعَه وخدماتي لَهُ فيمنحني مزيدا من الألقاب فإنني سأعتز بهَا أَكثر من اعتزازي بناظري وَاجْعَلْهَا تَاج رَأْسِي واحتفظ بهَا فِي أعز مَكَان فِي بَيْتِي لقد حجب مولَايَ الألقاب عني على الرغم من طاعاتي وخدماتي وتوقعاتي ومنحها من لم يعرفوا لأوامره وخلعه وعهوده قدرهَا بل استخفوا بهَا استخفاف خاقَان سَمَرْقَنْد وأهانوا الألقاب الَّتِي منحوها لما وصل الْعَالم إِلَى بَغْدَاد وأوصل الْهَدَايَا وَسلم الرسَالَة تملك الْخَلِيفَة الْعجب فامر بِكِتَابَة رِسَالَة عتاب إِلَى الخاقان وَمكث رَسُول مَحْمُود سِتَّة أشهر فِي قصر الْخَلِيفَة ظلّ يوافي الْقصر فِي خلالها برسائل يطْلب فِيهَا ألقابا لمحمود دون أَن يتلَقَّى جَوَابا شافيا إِلَى أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 كتب يَوْمًا يستفتي إِذا مَا ظهر فِي طرف من أَطْرَاف الدُّنْيَا ملك يشهر سَيْفه من أجل عزة الْإِسْلَام ويحارب الْكفَّار وَالْمُشْرِكين أَعدَاء الله تَعَالَى وَرَسُوله الأكرم ويحول بيُوت الْأَوْثَان إِلَى مَسَاجِد وَيجْعَل ديار الْكفْر ديار إِسْلَام وأمير الْمُؤمنِينَ بعيد عَنهُ تفصل بَينهمَا الأمواه الْعَظِيمَة وَالْجِبَال الشاهقة والصحارى المخوفة بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع أَن يعرض كل مَا قد يحدث لَهُ على الْخَلِيفَة فِي كل حِين وَلَا يتَمَكَّن من تَنْفِيذ مطالبه وأوامره أَيْضا أفيحق لَهُ وَالْحَال هَذِه أَن ينيب عَن الْخَلِيفَة أحد الْأَشْرَاف ليرْجع إِلَيْهِ فِي الْأُمُور أم لَا ثمَّ أعْطى فتواه هَذِه شخصا يُسَلِّمهَا إِلَى قَاضِي قُضَاة بَغْدَاد يدا بيد فَبعد أَن قَرَأَهَا القَاضِي من ألفها إِلَى يائها قَالَ يحِق لَهُ ذَلِك وَأخذ الْعَالم الْمَذْكُور نُسْخَة من فَتْوَى قَاضِي قُضَاة بَغْدَاد ووضعها مَعَ رِسَالَة كتب فِيهَا فقد طَالَتْ إقامتي بِبَغْدَاد إِن سيد الْعَالم يمْتَنع عَن منح مَحْمُود مَا يتطلع إِلَيْهِ من ألقاب على الرغم من خدماته وطاعاته الْكَثِيرَة جدا وَلَا يُحَقّق للسُّلْطَان الْغَازِي مَا يصبو إِلَيْهِ من امال بل يضايقه إِلَى هَذَا الْحَد ان يسر مَحْمُود بعد الان بِمُقْتَضى هَذِه الْفَتْوَى وَحكم الشَّرْع بِخَط قَاضِي قُضَاة بَغْدَاد نَفسه فَلَا جنَاح عَلَيْهِ فَمَا أَن قَرَأَ الْخَلِيفَة الْفَتْوَى والرسالة حَتَّى بعث إِلَى وزيره بحاجب الْحجاب حَالا بَان أدع إِلَيْك الان رَسُول مَحْمُود وأكرمه وهدىء من روعه ثمَّ أعْطه مَا أمرنَا بِهِ من خلعة ولواء ولقب اصرفه رَاضِيا مَسْرُورا وَهَكَذَا أضيف إِلَى مَحْمُود بعد كل خدماته المرضية ومساعيه المتواصلة وهواه وذكاء رَسُوله الْعَالم لقب أَمِين الْملَّة الَّذِي ظلّ يلقب بِهِ ويلقب يَمِين الدولة طوال حَيَاته أما الْيَوْم فَإِذا لم يكْتب لأَقل النَّاس شَأْنًا سَبْعَة أَو عشرَة ألقاب يغْضب ويسخط غير أَنه لم يكن للسامانيين الَّذين كَانُوا مُلُوك زمانهم لسنوات طَوِيلَة وحكموا بِلَاد وَرَاء النَّهر من أطرافها إِلَى أطرافها وخراسان وَالْعراق وخوارزم ونيمروز وغزنين سوى لقب وَاحِد إِذْ أطلق لقب ملك الْمُلُوك على نوح ولقب الْأَمِير السديد على وَالِده مَنْصُور والأمير الحميد على نوح وَالِد مَنْصُور والأمير الرشيد على نصر وَالِد نوح والأمير الْعَادِل على إِسْمَاعِيل بن أَحْمد والأمير الْمَاضِي فِي التواريخ وَأطلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 على أَحْمد الْأَمِير السعيد وَهَكَذَا دواليك يجب أَن يكون اللقب مناسبا لصَاحبه كَأَن تكون ألقاب الْقُضَاة وَالْأَئِمَّة وعلماء دين الْمُصْطَفى عَلَيْهِ السَّلَام مثل مجد الدّين وَشرف الْإِسْلَام وَسيف السّنة وزين الشَّرِيعَة وفخر الْعلمَاء وأشباهها لِأَن الدّين وَالْإِسْلَام والشريعة وَالسّنة وَالْعلم منوطة بالعلماء وَالْأمة وعَلى الْمُلُوك وَذَوي الدِّرَايَة والمعرفة بِالْحَقِّ وَالْبَاطِل أَلا يجيزوا لمن لَيْسُوا بعلماء أَن يتلقبوا بِهَذِهِ الألقاب بل عَلَيْهِم ردع من يقدم على هَذَا ومعاقبته ليعرف كل شخص قدره ومرتبته وَكَانَ قادة الْجَيْش والأمراء والمستقطعون والعمال يلقبون بألقاب أضيفت إِلَيْهَا لَفْظَة الدولة من مثل سيف الدولة وحسام الدولة وظهير الدولة وجمال الدولة وشمس الدولة وأمثالها أما العمداء والعمال والمتصرفون الأخيار فَكَانُوا يلقبون بألقاب أضيفت إِلَيْهَا لَفْظَة الْملك من مثل عميد الْملك ونظام الْملك وَكَمَال الْملك وَشرف الْملك وشمس الْملك وأمثالها وَلم تجر الْعَادة قطّ فِي أَن يخلع أُمَرَاء الأتراك على أنفسهم لقب خواجة لقد كَانَت الألقاب الَّتِي تُضَاف إِلَى الدّين وَالْإِسْلَام خَاصَّة بالعلماء وَالَّتِي تُضَاف ألى الدولة خَاصَّة بالأمراء وَالَّتِي تُضَاف إِلَى الْملك خَاصَّة بالخواجات أما مَا عدا هَذَا فَلم يكن يسمح لأحد بِأَن يتَّخذ لنَفسِهِ لقبا مِمَّا يتَّصل بِالدّينِ وَالْإِسْلَام بل كَانَ يُعَاقب لتَكون فِيهِ عِبْرَة لمن يعْتَبر أَكثر مَا يكون الْغَرَض من اللقب أَن يعرف بِهِ صَاحبه هَب أَن مائَة شخص فِي مجْلِس أَو جمع مَا من بَينهم عشرَة باسم مُحَمَّد ثمَّ نُودي يَا مُحَمَّد فَإِن المحمدين جَمِيعهم يردون لبيْك لظن كل مِنْهُم أَنه هُوَ المعني لكنه إِذا مَا كَانَ لقب أحدهم الْمُخْتَص ولقب الثَّانِي الْمُوفق ولقب الثَّالِث الْكَافِي ولقب اخر الرشيد وأمثالها وَنُودِيَ من وسط المحفل يَا أَيهَا الْكَامِل أَو الْمُوفق فَإِن مُحَمَّدًا صَاحب هَذَا اللقب يعرف حَالا أَنه هُوَ الْمَقْصُود يَنْبَغِي أَلا يحمل لقب فلَان الْملك أحد غير الْوَزير والطغرائي والمستوفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وعارض السُّلْطَان وعميد بَغْدَاد وعميد خُرَاسَان وعميد خوارزم أما غير هَؤُلَاءِ فَلهم أَن يتلقبوا بألقاب غير مُضَافَة إِلَى لَفْظَة الْملك من مثل الخواجة السديد الخواجة الرشيد الخواجة الْمُخْتَص والأستاذ الْأَمِير والأستاذ الخطير والأستاذ المكين وأمثالها لتتضح دَرَجَة الْعَظِيم ومرتبته عَمَّا دونه ويمتاز الصَّغِير من الْكَبِير وَالْخَاص من الْعَام وليظل للديوان رونقه وبهاؤه فَإِذا مَا استقامت أُمُور المملكة وَكَانَ الْملك عادلا يقظا يعير أَعمال المملكة اهتمامه ويتابعها بِنَفسِهِ ويستقري عادات الأسلاف ويفيد مِنْهَا وَإِذا مَا قيض الله لَهُ وزيرا فطنا فَاضلا عَالما عَارِفًا بالعادات والتقاليد فَإِنَّهُ يَسْتَطِيع أَن يدبر الْأُمُور تدبيرا حسنا وَيجْرِي الألقاب مجْراهَا الْحَقِيقِيّ ويدحر الْعَادَات المبتدعة بِالرَّأْيِ الصائب وَالْحكم السديد وَالسيف الْحَدِيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الْفَصْل الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ فِي عدم إِسْنَاد عملين لشخص وَاحِد وَفِي تشغيل العاطلين وَعدم حرمانهم وَإسْنَاد المناصب والأعمال إِلَى المتدينين الحفيفيين والأصلاء وحرمان ذَوي الْمذَاهب السَّيئَة والمعتقدات الخبيثة وإبعادهم لم يسند أحد من الْمُلُوك الأيقاظ والوزراء الاذكياء فِي أَي عصر من العصور عملين إِلَى شخص وَاحِد أَو عملا وَاحِدًا إِلَى شَخْصَيْنِ قطّ فَكَانَت شؤونهم لهَذَا منظمة ذَات بهاء ورونق لِأَنَّهُ إِذا مَا أنيط عملان بشخص وَاحِد فَلَا مناص من أَن يتسرب الْخلَل إِلَى أَحدهمَا أَو يتوانى فِيهِ على حِسَاب الاخر إِذْ أَن المتصدي إِذا أَرَادَ الْقيام بواجبه نَحْو أَحدهمَا خير قيام وتعهده والاهتمام بِهِ بجد فَلَا مندوحة من تسرب الاختلال وَالتَّقْصِير إِلَى الاخر وَبِالْعَكْسِ وَإِذا أنعمنا النّظر جيدا نلاحظ أَن ثمَّة خللا وتقصيرا فِي عَمَلي متصدي العملين كليهمَا وَأَن الشَّخْص نَفسه منَاط تَقْصِير وملامة دَائِما وان موليه إيَّاهُمَا فِي تشك وتذمر دائمين أما إِذا ولي شخصان عملا وَاحِدًا فَإِن هَذَا الْعَمَل يظل دون إنجاز لتواكل أَحدهمَا على الاخر قيل فِي الْأَمْثَال إِن وجود سيدتين فِي الْمنزل مدعاة لقذارته وَوُجُود مشرفين عَلَيْهِ مدعاة لدماره لِأَن كلا من الشخصين لَا بُد أَن يَقُول فِي نَفسه دَائِما بانه إِذا مَا أرهقت نَفسِي فِي الْقيام بواجبي فِي هَذَا الْعَمَل وحافظت عَلَيْهِ وَلَا أدع الْخلَل يَأْخُذ إِلَيْهِ طَرِيقه فَإِن رئيسنا سيظن أَن هَذَا لَيْسَ إِلَّا من كِفَايَة رفيقي ومهارته لَا نتيجة اهتمامي وجدي وتفاني وجلدي وَهَكَذَا الْأَمر بِالنِّسْبَةِ للاخر أَيْضا لكنه إِذا دققنا النّظر نجد أَن ذَلِك الْعَمَل فِي اختلال دَائِم حَتَّى إِذا مَا سَالَ رئيسهما لماذا لم ينجز هَذَا الْعَمَل بل قصر فِيهِ يَقُول أَحدهمَا انه تَقْصِير رفيقي ويحمله مغبة ذَلِك وَيَقُول الاخر ان رفيقي سَبَب التَّقْصِير كُله ويلقي التبعة والجرم كُله عَلَيْهِ لَكِن إِذا مَا عدنا إِلَى الْأُصُول وَالْعقل يتَبَيَّن لنا أَن لَيْسَ الجرم جرم هَذَا وَلَا ذَاك بل الجرم كُله على من ولاهما عملا وَاحِدًا فَمن دَلَائِل غَفلَة الْملك وَعجز وزيره تَوْلِيَة أحد عُمَّال الدِّيوَان عملين أَو ثَلَاثَة أَو خَمْسَة أَو سَبْعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أما فِي هَذِه الْأَيَّام فثمة من يتسنم سدة عشرَة مناصب دون أَن تكون فِيهِ أَيَّة كِفَايَة وَإِذا مَا جد منصب جَدِيد فَإِنَّهُ لَا يألو جهدا فِي اتِّخَاذه لنَفسِهِ وَلَو أدّى بِهِ الْأَمر إِلَى دفع المَال مُقَابل ذَلِك فيولاه دون أَن يحْسب مولوه حسابا لما إِذا كَانَ هَذَا الشَّخْص أَهلا لهَذَا الْعَمَل أم لَا ضليعا فِي الْكِتَابَة وَالتَّصَرُّف فِي الْأُمُور وإدارتها أم لَا وأخيرا أيستطيع أَن يثبت جدارته وَيقوم بِمَا وكل إِلَيْهِ من أَعمال أم لَا فِي حِين يحرم عدد كَبِير من الْأَكفاء واللائقين وَذَوي الْجلد والمجربين والمعتمدين مِمَّن لزموا بُيُوتهم عاطلين دون أَن يخْطر ببال أحد أَن يسْأَل نَفْيه لماذا يعْهَد بعدة مناصب واعمال إِلَى المغمورين مِمَّن لَا كِفَايَة وَلَا لياقة وَلَا أصل وَلَا فضل لَهُم وَيحرم الأصلاء والمعتمدون خَاصَّة أَصْحَاب الْحق على الدولة مِمَّن قدمُوا لَهَا خدمات جليلة وأظهروا فِيهَا كِفَايَة ولياقة فائقتين حَتَّى من عمل وَاحِد ويظلون عاطلين هَكَذَا وينتابني أعجب من هَذَا وَهُوَ أَن مولي الْأَعْمَال فِي كل العهود كَانُوا يندبون لَهَا من هم على مذاهبهم وشركائهم فِي العقيدة من الأصلاء والمتقين حَتَّى إِذا مَا رفض أحدهم وَأبْدى تمنعا وَلم يُحِبهُمْ الى ذَلِك كَانُوا يجبرونه ويسندون الْعَمَل اليه قسرا وَلَا جرم فِي أَن المَال لم يكن يذهب سدى وَأَن الرعايا كَانُوا فِي رَاحَة واطمئنان وَكَانَ المستقطعون يتمتعون بسمعة حَسَنَة ويعيشون عيشة هادئة وَكَانَ الْملك يقْضِي أَيَّامه ناعم البال رخي الْحَال لَكِن لَا وجود لهَذَا الْيَوْم لِأَنَّهُ يسمح لِلْيَهُودِيِّ والزرادشتي والرافضي يتولي الْكِتَابَة للأتراك السلاجفة وإدارة شؤونهم لقد استولت عَلَيْهِم الْغَفْلَة فَلَيْسَتْ فيهم حمية على الدّين وَلَا شَفَقَة على المَال وَلَا رَحْمَة بالرعية فالدولة وصلت إِلَى أوج كمالها وإنني لأخشى عَلَيْهَا الْعين وَلست أَدْرِي إلام ستؤول الْأُمُور إِذْ لم تكن لأي زرادشتي ومسيحي ورافضي الجراة حَتَّى على إِظْهَار نَفسه فِي عهد مَحْمُود ومسعود وطغرل وألب أرسلان أَو على الْقدوم إِلَى أَي تركي فقد كَانَ كل كتبة التّرْك والقائمين على شؤونهم والمتنفذين فِيهَا من خُرَاسَان وَمن الْحَنَفِيَّة أَو الشَّافِعِيَّة الْأَطْهَار وَلم يكن التّرْك ليفسحوا المجال أَمَام كتبة الْعرَاق وعمال خراجها من ذَوي الْمذَاهب السَّيئَة بل لم يَكُونُوا ليجيزوا استخدامهم أَو توليتهم أَي عمل وَكَانُوا يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ على مَذْهَب الديالمة وَمن أتباعهم فَإِن يوطدوا أَقْدَامهم يلْحقُوا بالأتراك الضَّرَر ويحيقوا بِالنَّاسِ الْأَذَى إِنَّه لمن الْخَيْر إِلَّا يكون للأعداء وجود بَين ظهرانينا وَلَا جرم فِي أَنهم كَانُوا يعيشون فِي منأى عَن المصائب ولامتاعب والافات لَكِن الْأُمُور وصلت الان إِلَى حد انبثوا فِيهِ فِي البلاط والديوان بِكَثْرَة حَتَّى أَنه ليجري وَرَاء كل تركي مِائَتَان مِنْهُم لقد تدبروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 امرهم بَينهم على إِلَّا يسمحوا لأي خراساني أَن تطَأ قدماه الْقصر والديوان أَو يتسنى لَهُ الْحُصُول على لقْمَة الْعَيْش وَسَيَأْتِي يَوْم يصحو فِيهِ التّرْك على فَسَاد تِلْكَ الطَّبَقَة فيتذكرون قولي مِمَّن أَن الدِّيوَان قد خلا من الْكتاب والمتصرفين الخراسانيين لقد كَانَ الأتراك إِذا مِمَّا قدم عَلَيْهِم من يسألهم عمل كَاتب أَو فرَاش أَو ركابدار يسألونه من أَيَّة مَدِينَة أَنْت وَمن أَيَّة ولَايَة فَإِن قَالَ حَنَفِيّ أَو شَافِعِيّ من خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر أَو من مَدِينَة سنية قبلوه وَأَن قَالَ شيعي من قُم وكاشان وابة والري ردُّوهُ قائلين إنصرف فَنحْن نقْتل الأفعى وَلَا نربيها إِنَّهُم لم يَكُونُوا ليقبلوا أحدا وَلَو بذل الْأَمْوَال النعم الوفيرة بل كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ اذْهَبْ مصحوبا بالسلامة ووفر مَا تُرِيدُ أَن تعطيه لنا على نَفسك واجلس فِي بَيْتك وأنفقه على طَعَامك وشرابك وَكَانَ السُّلْطَان طغرل وَالسُّلْطَان ألب أرسلان إِذا مَا تنناهى إِلَى أسماعهما أدنى شَيْء بِأَن أَمِيرا أَو تركيا مَا مهد سَبِيل أَي رَافِضِي إِلَيْهِ يغضبان عَلَيْهِ ويعاتبانه ألب أرسلان وأردم الرافضي نقل إِلَى السُّلْطَان الشَّهِيد ألب أرسلان يَوْمًا أَن أردم إتخذ يحيى كَبِير إِحْدَى الْقرى كَاتبا لَهُ فساءه ذَلِك لما كَانَ يُقَال أَن كَبِير الْقرْيَة باطني وَقَالَ لأردم فِي مَجْلِسه أَنْت عدوي وخصم مملكتي فَخر أردم على الأَرْض وَقَالَ يَا مولَايَ الْكَلَام إِنَّنِي أقل عبيدك شَأْنًا أَي قُصُور بدا مني فِي رضوخي وموالاتي إِلَى الان قَالَ السُّلْطَان إِن لم تكن عدوي فَلم تسْتَعْمل خصمي فِي خدمتك قَالَ اردم فَمن ذَاك قَالَ السُّلْطَان كَبِير الْقرْيَة الحقير كاتبك قَالَ وَمن يكون هُوَ فِي الْعَالم هَب أَنه سم كُله فَمَا الَّذِي يَسْتَطِيع فعله فِي الدولة فَقَالَ السُّلْطَان لبَعض رِجَاله اذْهَبُوا وأحضروا ذَاك الرجيل فَذهب من أحضرهُ فِي الْحَال فَقَالَ السُّلْطَان لَهُ يَا رجيل انت باطنى تَقول بِبُطْلَان حق خَليفَة الله قَالَ الرجل يَا مولَايَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 لست بباطني بل شيعي أَمَامِي يَعْنِي رَافِضِي قَالَ السُّلْطَان مَا أحسن الرافضية مذهبا حَتَّى اتخذتها ترسا تدرا بِهِ عَنْك الباطنية وَأمر الْحجاب بجلده ثمَّ أخرج من الْقصر نصف ميت ثمَّ الْتفت السُّلْطَان إِلَى زعماء الْقَوْم وَقَالَ لَيْسَ الذَّنب ذَنْب هَذَا الرجيل بل ذَنْب أردم الَّذِي اسْتعْمل كَافِرًا فِي خدمته لقد قلت لكم مرّة ومرتين وَمِائَة مرّة أَنْتُم الأتراك جَيش خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر إِنَّكُم لغرباء فِي هَذِه الديار لقد أحرزنا هَذِه الْولَايَة بِالسَّيْفِ وَالْقُوَّة وكلنَا مُسلمُونَ أنقياء إِن أغلب أهل الديلم وَالْعراق منم ذَوي الْمذَاهب والعقائد والأديان الخبيثة السَّيئَة وَإِن بَين الأتراك والديالمة خلافات وإحنا لَيست بنت الْيَوْم بل متمادية فِي الْقدَم لقد أعز الله عز وَجل التّرْك الْيَوْم وسلطهم على رِقَاب الديالمة لأَنهم مُسلمُونَ خلص أطهار لَا يعْرفُونَ الْبدع والأهواء أما الديالمة فهم منشأ الْبدع والمذاهب الْفَاسِدَة وخصومنا إِنَّهُم سيظلون يدينون لنا بِالطَّاعَةِ وَالْوَلَاء مَا داموا عاجزين لكنه إِذا مَا اشْتَدَّ ساعدهم فليلا وانسوا من جانبنا ضعفا فَإِنَّهُم لن يبقوا انذاك على وَجه الآرض تركيا من حَيْثُ الْمَذْهَب وَمن حَيْثُ الْولَايَة فَأُولَئِك قوم أدنى من الْحمير وَالْبَقر لَا يعْرفُونَ عدوهم من صديقهم ثمَّ أَمر بإحضار مِائَتي دِرْهَم من شعر الْخَيل وسل شَعْرَة مِنْهَا وَقَالَ لأردم اقْطَعْ هَذِه فَتَنَاولهَا اردم وقطعها فَنَاوَلَهُ السُّلْطَان خمس شعيرات غَيرهَا فقطعها ايضا فَنَاوَلَهُ عشرا أُخْرَى فقطعها بسهولة وَيسر كَذَلِك ثمَّ نَادَى السُّلْطَان أحد الفراشين وَقَالَ لَهُ اجدل هَذَا الشّعْر رسنا فَمضى وجدله رسنا من ثَلَاثَة أَذْرع وأتى بِهِ إِلَى السُّلْطَان فَأعْطَاهُ أردم ليقطعه فَلم يسْتَطع على مَا بذل من جهد وَقُوَّة حِينَئِذٍ قَالَ السُّلْطَان لَهُ إِن الْأَعْدَاء كَهَذا الشّعْر يسهل قمعهم وَاحِدًا وَاحِدًا واثنين اثْنَيْنِ وَخَمْسَة خَمْسَة لَكِن تصعب زحزحتهم إِذا تكاثر عَددهمْ وتفاقم أَمرهم وشدوا أزر بَعضهم وعندئذ يُصْبِحُونَ شغلنا الشاغل بِمَا يقومُونَ بِهِ من أَعمال الشغب والفتنة ان هَذَا إِلَّا جَوَاب قَوْلك حَتَّى لَو كَانَ هَذَا الرجيل سما كُله فَمَا الَّذِي يَسْتَطِيع فعله فِي الدولة إِنَّهُم إِذا مَا أخذُوا يتسربون إِلَى صُفُوف التّرْك وَاحِدًا فِي إِثْر اخر ويتسنمون لَهُم الْأَعْمَال وَالْكِتَابَة ويقفون على أَحْوَالهم من كثب فَلَنْ يمْضِي طَوِيل وَقت حَتَّى يظْهر التمرد وَالْخُرُوج والفتنة فِي الْعرَاق أَو على إغارة الديالمة على المملكة فهم جَمِيعهم متكاتفون سرا وَعَلَانِيَة يسعون فِيمَا بَينهم إِلَى هَلَاك التّرْك أما وَأَنت تركي فَيَنْبَغِي أَن يكون جيشك خراسانيا وان يكون عمالك وكتبتك وأعوانك ومتصدو شؤونك خراسانيين أَيْضا وَهَكَذَا الْأَمر بِالنِّسْبَةِ للترك جَمِيعًا لِئَلَّا يجد الْخلَل لَهُ طَرِيقا إِلَى شؤونهم وأمورهم إِن تمدد يدك إِلَى مخالفي الْملك وأعدائه فَإنَّك ترتكب خِيَانَة بِحقِّهِ وبحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 نَفسك اما إِن كنت ترى أَنَّك محق فِيمَا تقوم بِهِ تجاه نَفسك من أَعمال فالملك لَا يرى أَن من الْمُنَاسب وَالْحكمَة كف يَد الحزم وتجنب الحيطة والأبقاء على الخونة أَنا الْمُكَلف برعايتك وحمايتك وَلست أَنْت الْمُوكل بحمايتي وحفظي فَالله عز وَجل ملكني عَلَيْكُم وَلم يملكم عَليّ هلا علمت أَن من يصادق خصوم الْملك يعد احدا مِنْهُم وَأَن من يصاحب اللُّصُوص لص مثلهم وَفِي حِين كَانَ الْكَلَام ينساب من على لِسَان السُّلْطَان كَانَ الخواجة الإِمَام المشطب وَالْقَاضِي لوكر حاضرين فَالْتَفت إِلَيْهِمَا وَقَالَ مَا تقولان فِيمَا أَقُول قَالَا ان مَا يَقُول مولى الْعَالم هُوَ قَول الله عز وَجل وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرافضة وَأهل الْبدع والباطنية وَأهل الذِّمَّة ثمَّ قَالَ المشطب يروي عبد الله بن عَبَّاس أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعَلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ يَوْمًا إِن أدْركْت قوما لَهُم نبز يُقَال لَهُم الرافضة يلفظون الأسلام فاقتلهم فَإِنَّهُم مشركون وَقَالَ القَاضِي لوكر يروي أَبُو أُمَامَة أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ تظهر فِي أخر الزَّمَان فِئَة يُقَال لَهُم الرافضة فَإِذا لقيتموهم فاقتلوهم ثمَّ قَالَ المشطب لقد كفر سُفْيَان بن عُيَيْنَة الرافضة محتجا بقوله تَعَالَى {ليغيظ بهم الْكفَّار} وَقَوله {أشداء على الْكفَّار} ثمَّ قَالَ ان من يقْدَح فِي أحد صحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَافِر بِحكم الاية الْمَذْكُورَة وَيَقُول الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام ان الله تبَارك وَتَعَالَى جعل لي أصحابا ووزراء وأصهارا فَمن سبهم فَعَلَيهِ لعنة الله وَالنَّاس أَجْمَعِينَ لَا يقبل الله لَهُم عدلا وَلَا صرفا وَيَقُول الله عز وَجل فِي ابي بكر رَضِي الله عَنهُ ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا وَقَالَ القَاضِي لوكر يرْوى أَن عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو كَانَ بعدِي نَبِي لَكَانَ عمر بن الْخطاب قَالَ المشطب روى جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ أَتَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِجنَازَة فَلم يصل عَلَيْهَا قَالُوا يَا رَسُول الله مَا رَأَيْنَاك تركت الصَّلَاة على أحد إِلَّا على هَذَا قَالَ إِنَّه كَانَ يبغض عُثْمَان أبغضه الله وَقَالَ القَاضِي لوكر يروي أَبُو الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ فِي حق عَليّ بن أبي طَالب رضوَان الله عَلَيْهِ الْخَوَارِج كلاب النَّار قَالَ المشطب يروي عبد الله بن عَبَّاس وَعبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ للقدرية وَلَا للرافضة فِي الْإِسْلَام نصيب وَقَالَ القَاضِي لوكر يروي سهل بن سعد رَضِي الله عَنهُ أَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ الْقَدَرِيَّة مجوس هَذِه الْأمة إِن مرضوا فَلَا تعودوهم وَإِن مَاتُوا فَلَا تشهدوهم والرافضة كلهم قدريو الْمَذْهَب وَقَالَ المشطب تروي أم سَلمَة عَن رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام عِنْدِي يَوْمًا إِذْ أَتَاهُ عَليّ وَفَاطِمَة مَعًا ليرياه ويسألاه فَرفع عَلَيْهِ السَّلَام رَأسه وَقَالَ يَا عَليّ أُبَشِّرك ورهطك بِالْجنَّةِ لكنه يخرج بعْدك قوم يدعونَ حبك وَالْإِخْلَاص إِلَيْك ويجرون الشَّهَادَة على ألسنتهم ويقرأون الْقرَان هَؤُلَاءِ هم الرافضة فَإِذا مَا أدركتهم فَجَاهد فيهم لأَنهم مشركون كفرة قَالَ عَليّ يَا رَسُول الله مَا علامتهم قَالَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يُقِيمُونَ صَلَاة الْجَمَاعَة وَلَا يحْضرُون صَلَاة الْجُمُعَة وَلَا يؤدون صَلَاة الْجِنَازَة ويطعنون فِي السّلف وَفِي هَذَا الْمَوْضُوع أَخْبَار وَأَحَادِيث وآيات كَثِيرَة إِن أذكرها جَمِيعهَا فَإِنَّهَا تحْتَاج إِلَى كتاب وَحدهَا تلكم هِيَ حَال الرافضة فَمَا ترى حَال الباطنية وَهِي أَسْوَأ من الرافضة بِكَثِير انه لَيْسَ ثمَّة فرض أولى على أَي ملك يظْهر هَؤُلَاءِ على عَهده من محوهم من على وَجه الْمَعْمُور وتخليص مَمْلَكَته من شرهم وتصفيتها مِنْهُم ليهنأ فِي ملكه ودولته ويعيش عيشة راضية وَهَكَذَا ينْهَى عَن إِسْنَاد الْأَعْمَال والمناصب إِلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَعَن توليتهم شؤون الْمُسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَالْكَاتِب النَّصْرَانِي كَانَ امير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يجلس فِي الْمَسْجِد بِالْمَدِينَةِ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ مَعَه بعض عَلَيْهِ حِسَاب أصفهان مهيئا بدقة ومكتوبا بِخَط جميل يعجب النظار وينال رضاهم وَسَأَلَ عمر أَبَا مُوسَى خطّ من هَذَا فَقَالَ خطّ كاتبي قَالَ عمر أبْعث فِي طلبه لأراه قَالَ أَبُو مُوسَى لَا يَسْتَطِيع دُخُول الْمَسْجِد قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنهُ أبه جَنَابَة قَالَ أَبُو مُوسَى لَا إِنَّه نَصْرَانِيّ فَغَضب عمر وَضرب أَبَا مُوسَى على فَخذه بِشدَّة حَتَّى قَالَ أَبُو مُوسَى احسب أَن فَخذي قد كسرت قَالَ عمر ألم تقْرَأ قَول رب الْعِزَّة وَأمره حَيْثُ يَقُول سُبْحَانَهُ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} قَالَ أَبُو مُوسَى لقد عزلته السَّاعَة وَأمرت بعودته إِلَى بِلَاد الْعَجم وَلَقَد ضرب الْحَكِيم مثلا بديعا فِي هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ شعرًا مَا اجمل أَن يحذر الْمَرْء أَعدَاء صديقه وان يصاحب أصدقاءه لَا تأمن لطائفتين من النَّاس أصدقاء عَدوك وأعداء صديقك وَيُقَال أَن السُّلْطَان ألب أرسلان لم يكلم أردم بعد هَذَا شهرا كَامِلا وأشاح بِوَجْهِهِ عَنهُ إِلَى أَن تشفع لَهُ كبار الْقَوْم لَدَى السُّلْطَان فِي أَوْقَات انبساطه وَتَكَلَّمُوا مَعَه فِي أمره كثيرا حَتَّى لَان لَهُ قلبه وَرَضي عَنهُ وتغاضى عَن الْأَمر ولنعد الان إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ من حَدِيث فَنَقُول إِنَّه حِين يُولى المغمورون والطغام أَعمال الدولة وشؤونها وَيتْرك الأصلاء وأولو الْفضل والمشهورون المعروفون عاطلين مهملين وتسند إِلَى أحد الْأَشْخَاص خَمْسَة مناصب وَيحرم أخر حَتَّى من عمل وَاحِد فَإِن هَذَا لاية على جهل الْوَزير وَعدم كِفَايَته ولياقته فَإِن لم يكن الْوَزير كُفؤًا وعالما حكيما فإمارة هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أَنه يَبْغِي زَوَال الْملك والدولة وإفساد شؤونها فَيكون أَلد الْخُصُوم وأسواهم وَحين يُولى شخص عشرَة أَعمال وَيحرم تِسْعَة من أَي عمل يزِيد وَالْحَال هَذِه عدد العاطلين المحرومين من رعايا تِلْكَ المملكة على عدد العاملين فِيهَا وَحين تؤول الْأُمُور إِلَى هَذَا الْوَضع فَإِن العاطلين يشدون أزر بَعضهم بَعْضًا وَلَا يدْرِي انذاك أيمكن تلافي مَا يحدث وتداركه أم لَا من هَذَا الْقَبِيل أَن أحدهم كَانَ يسْعَى إِلَى تدمير الْملك يَوْمًا بإدعائه التوفير وزعمه لسلطان الدُّنْيَا وسيدها ان الْعَالم صَاف وَأَن لَيْسَ فِيهِ مُخَالف أَو عَدو يَسْتَطِيع المقاومة لقد ادّعى لهَذَا أَن لَا حَاجَة لأربعمائة ألف رجل لَهُم رواتب فِي الدولة وَأَنه يجب أَن يكْتَفى بسبعين ألف فَارس يدخرون لما قد يطْرَأ من أَحْدَاث ومهام فَبِهَذَا تسترد الدولة جرايات الْجند الاخرين غير السّبْعين ألفا ورواتبهم فتؤمن لخزانة الدولة فِي كل سنة بضعَة ألف ألف دِينَار فتمتلىء بِالذَّهَب وَالْمَال فِي مُدَّة يسيرَة وَلما أطلعني سيد الدُّنْيَا على هَذَا الْكَلَام عرفت من هُوَ صَاحبه وايقنت أَنه لَا يَبْغِي بِهِ سوى فَسَاد المملكة فأجبت مولَايَ الْأَمر مَا ترَاهُ يَا مولَايَ لكنه إِن يكن لديك أَرْبَعمِائَة ألف رجل فَلَيْسَ من شكّ فِي أَن تستحوذ على خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر إِلَى حُدُود كاشغر وعَلى بلاساغون وخوارزم ونيمروز وَالْعراق والعراقيين وَفَارِس وَولَايَة مازمدران وطبرستان وارمينيا وأران وبلاد الشَّام إِلَى أنطاكية وَبَيت الْمُقَدّس لقد كنت أطمح أَن يكون لَك سَبْعمِائة ألف رجل بَدَلا من هَذِه الاربعمائة ألف فَلَو كَانَ رجالك أَكثر لحزت غزنين والسند والهند وكل تركستان والصين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 والصين الْأَقْصَى واليمن والحبشة وبلاد البربر وَأَرْض النّوبَة ولكانت لَك ثمَّة أَشْيَاء فِي الْمغرب وَالشَّام والشامات والأندلس إِلَى القيروان ولحطت لَك الرّوم عَصا الطَّاعَة ان عدد ولايات كل ملك رهن بِعَدَد جَيْشه تكْثر بكثرته وتقل بقلته وَكلما قل عدد الْجَيْش تناقص عدد الولايات وَبِالْعَكْسِ انه لَا يخفى على الرَّأْي السَّامِي أَنه حِين يحْتَفظ بسبعين ألف رجل من أَرْبَعمِائَة ألف وتنسخ أَسمَاء الاخرين من الدِّيوَان ان هَذَا الْعدَد الْأَخير على كل حَال أَكثر من الْعدَد الأول ان الثلاثمائة وَالثَّلَاثِينَ ألف رجل وَكلهمْ حَملَة سيوف إِذا مَا فقدوا الأمل فِي هَذِه الدولة فإمَّا أَن يفزعوا إِلَى أَمِير أَو ملك اخر وَإِمَّا ان ينتخبوا رَئِيسا لَهُم فيجروا على الدولة من الويلات والمتاعب مَا يستنزف كل مَا تجمع فِي خزائنها لسنوات عدَّة دونما اطمئنان إِلَى عواقب الْأُمُور الممالك لَا تصان إِلَّا بِالرِّجَالِ وَالرِّجَال لَا يحفظهم إِلَّا المَال أما من يَقُول للْملك صن الذَّهَب وسرح الرِّجَال فَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَقِيقَة إِلَّا عَدو الْملك لَا يَبْغِي سوى دمار الْملك وفساده فالأموال لم تجمعها غير أَيدي الرِّجَال يَنْبَغِي أَلا يصغى إِلَى كَلَام ذَلِك الرجل أَو يلْتَفت إِلَيْهِ إِن العاطلين والمحرومين من الْعمَّال فِي مزاجهم سَوَاء فَإِذا مَا كَانَت لبَعْضهِم مناصب كَبِيرَة فِي الدولة الَّتِي أَدّوا فِيهَا أعمالا هَامة فعرفوا بهَا واشتهروا وَأصْبح لَهُم على الدولة حق الْخدمَة فَلَيْسَ صَحِيحا أَن تتجاهل حُقُوقهم وَأَن يظلوا محرومين متروكين دون أَن ينالوا نصِيبهم أَو يسند إِلَيْهِم أَي عمل وَلَيْسَ هَذَا من الْمُرُوءَة والمصلحة فِي شَيْء بل الْوَاجِب أَن يولوا اعمالا أَو يمنحوا مَا يُمكنهُم من أَن يعيشوا بِهِ عَيْش الكفاف لتقضى لَهُم بِهَذَا بعض حُقُوقهم وينالوا نصِيبهم فِي الدولة وثمة فريق من أهل الْعلم وَالْفضل والمروءة والشرف مِمَّن لَهُم فِي بَيت المَال نصيب وَمِمَّنْ يسْتَحقُّونَ الاهتمام وتولي المناصب فَلَا هم يولون عملا وَلَا هم واجدون فِي الدولة اهتماما ونفعا وَلَا حَتَّى عَيْشًا انهم إِذا مَا ظلوا محرومين لَا نصيب لَهُم فِي الدولة ودالت الْأَيَّام إِلَى عهد يصبح كل أعوان الْملك فِيهِ من الجهلة والفاسدين الَّذين لَا يطلعونه على أَحْوَال هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحقّين وَلَا يولون العاملين مِنْهُم أعمالا وَلَا يجرونَ على الشرفاء وَالْعُلَمَاء جرايات أَو يُؤمنُونَ لَهُم سبل معيشتهم فَإِنَّهُم يفقدون حِينَئِذٍ أملهم فِي الدولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ويصبحون من أعدائها والمتسقطين عيوبها فيشرعون بالمجاهرة بعيوب الْعمَّال عُمَّال الْخراج وَالْكتاب ومقربي الْملك وبثها على الْمَلأ بَعيدا عَن أسماعه ثمَّ يَأْخُذن فِي اصطناع الاراجيف واخيرا يسودون عَلَيْهِم من هُوَ أَكثر عدَّة وجيشا وثروة ويبدأون بإثارة الشغب وَيخرجُونَ على الْملك فيضرمون نَار الْفِتَن وَالِاضْطِرَاب فِي المملكة كَالَّذي فَعَلُوهُ على عهد فَخر الدولة حسن تَدْبِير فَخر الدولة يُقَال أَنه كَانَ فِي الرّيّ على عهد فَخر الدولة وَقد كَانَ الصاحب بن عباد وزيرا لَهُ مَجُوسِيّ ثري مقتدر يدعى بزرجوميد بنى مَقْبرَة لنَفسِهِ على جبل طبرك تطل على قبَّة فَخر الدولة مَا زَالَت قَائِمَة إِلَى الْيَوْم وتعرف باسم ديده سباهسالاران مطل القادة وَلَقَد عانى بزرجوميد متاعب شَتَّى وَأنْفق أَمْوَالًا طائلة فِي إِقَامَته تِلْكَ الْمقْبرَة من طبقتين على قمة ذَلِك الْجَبَل كَانَ فِي الرّيّ محتسب اسْمه باخراسان يُقَال إِنَّه صعد غلى الْمقْبرَة بحيلة من الْحِيَل فِي الْيَوْم الَّذِي انتهي فِيهِ من الْعَمَل فِيهَا وَأذن للصَّلَاة من عَلَيْهَا فانتهك قدسيتها على مَذْهَبهم وأبطل حرمتهَا فَأَصْبَحت تعرف مُنْذُ ذَلِك الْحِين بمطل القادة وَفِي أخريات عهد فَخر الدولة نقل إِلَيْهِ رجال بريده يَوْمًا وَقد كَانَ صَاحب بريد ان ثَلَاثِينَ أَو أَرْبَعِينَ شخصا يخرجُون باكرا كل يَوْم من الْمَدِينَة إِلَى مطل القادة ويظلون هُنَاكَ إِلَى أَن يلفع الإصفرار الشَّمْس حِينَئِذٍ يهبطون وينتشرون فِي الْمَدِينَة وَإِذا مَا سَأَلَهُمْ أحد لم تذهبون إِلَى المطل يوميا يَقُولُونَ للتنزه وَأمر فَخر الدولة بعض رِجَاله أَن امضوا إِلَى هُنَاكَ وإلي بأولئك النَّاس ثمَّ هاتوا كل مَا تجدونه مَعَهم فَمضى عدد من رجال الْقصر وصعدوا الْجَبَل إِلَيْهِم لكِنهمْ حِين لم يستطيعوا الْوُصُول إِلَى المطل صرخوا بِأَعْلَى أَصْوَاتهم من أَسْفَله ليسمعوا الْمَوْجُودين فِيهِ فَلَمَّا أطل أُولَئِكَ الرِّجَال وَرَأَوا حَاجِب فَخر الدولة مَعَ فريق من حَاشِيَته أنزلوا لَهُم سلما يصعدون بِهِ إِلَيْهِم فَلَمَّا صعد رجال فَخر الدولة إِلَيْهِم رَأَوْا عِنْدهم شطرنجا ممدودا ونردا ودواة وقلما وقرطاسا كاغذا وسفرة وابريقي مَاء وجرة وحصيرا مَبْسُوطا فَقَالَ الْحَاجِب أنهضوا فَإِن فَخر الدولة يستدعيكم وَمضى بهم إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وتصادف أَن الصاحب بن عباد كَانَ جَالِسا إِلَى فَخر الدولة حِين وصولهم فَسَأَلَهُمْ فَخر الدولة من أَنْتُم وَلم تذهبون إِلَى هَذَا المطل يوميا قَالُوا للتنزه قَالَ إِن التَّنَزُّه يكون فِي يَوْم أَو يَوْمَيْنِ اَوْ عشرَة لكنكم تترددون على هَذَا الْمَكَان يوميا مُنْذُ مُدَّة طَوِيلَة أصدقوني القَوْل قَالُوا لَيْسَ بخاف على الْملك وَلَا على أحد إننا لسنا لصوصا وَلَا مجرمين وَلَا نخدع نسَاء النَّاس ونغويهن أَو نختطف أطفالهم من على الطرقات ان أحدا لم يَأْتِ الْملك قطّ فِي يَوْم من الْأَيَّام يشكونا إِلَيْهِ عَن أَذَى وباطل ان يؤمنا الْملك على أَرْوَاحنَا وأنفسنا نخبره من نَحن قَالَ فَخر الدولة لقد أمنتكم على أرواحكم وَأَنْفُسكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَأقسم على ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ يعرف أَكْثَرهم لما حصلوا مِنْهُ على الْأمان وأمنوا على أَرْوَاحهم قَالُوا نَحن قوم من الْكتاب والمتصرفين الَّذين ظلوا عاطلين فِي عَهْدك ومحرومين من أَي نصيب فِي دولتك ان أحدا لم يولنا أَي منصب أَو عمل أَو حَتَّى يلْتَفت ألينا ونسمع الان بِظُهُور ملك بخراسان يُقَال لَهُ مَحْمُود يجتذب إِلَيْهِ ذَوي الْفضل والموهبة وَأهل الْعلم وَلَا يتركهم يهيمون على وُجُوههم إننا نتطلع بامالنا إِلَيْهِ بعد أَن فَقدنَا الأمل فِي هَذِه المملكة واننا نصير إِلَى المطل يوميا لنشكو إِلَى بَعْضنَا بَعْضًا الدَّهْر ونسال كل من يصل إِلَيْنَا من جَانب مَحْمُود عَن أخباره ونكتب رسائل إِلَى أصدقائنا بخراسان نطلعهم على أحوالنا ونستفسر مِنْهُم تمهيدا للتوجه إِلَى هُنَاكَ فَلَقَد أضحينا فُقَرَاء وَنحن قوم ذَوُو عِيَال إِن الضَّرُورَة لترغمنا على ترك أوطاننا ومسقط رَأْسنَا وَبُيُوتنَا واختبار الغربة سعيا وَرَاء الْعَمَل هَذِه هِيَ حَالنَا وَالْأَمر الان أَمر مَوْلَانَا لما سمع فَخر الدولة مِنْهُم هَذَا الْتفت إِلَى الصاحب بن عباد وَقَالَ مَاذَا ترى وَمَا الَّذِي يَنْبَغِي فعله قَالَ الصاحب لقد أَعْطَاهُم الْملك الْأمان وهم أهل قلم وَأَبْنَاء أنَاس أصلاء وإنني أعرف بَعضهم وَلِأَن أَمر أهل الْقَلَم مَنُوط بِي فليعهد إِلَيّ بهم لأتخذ مَا يلْزم نحوهم وسأتلو على مسامع مولَايَ الْكَرِيمَة أخبارهم غَدا فَأمر فَخر الدولة الْحَاجِب الَّذِي اتى بهم بِأَن يَأْخُذهُمْ إِلَى قصر الصاحب بن عباد وينزلهم هُنَاكَ وَمضى الْحَاجِب بهم إِلَى حَيْثُ أمره مَوْلَاهُ ووضعهم فِي قصر الصاحب وَعَاد لَكِن أُولَئِكَ الرِّجَال كَانُوا فِي حيرة واضطراب خوفًا مِمَّا سينزله الصاحب بهم من عُقُوبَة وَلما عَاد الصاحب من قصر فَخر الدولة إِلَى قصره هُوَ ألْقى عَلَيْهِم نظرة ثمَّ جَاءَهُم أحد الفراشين وَمضى بهم جَمِيعًا إِلَى حجرَة كَأَنَّهَا الْجنَّة فِي زينتها وفراشها الفاخر ومساندها المصفوفة وَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 لَهُم اجلسوا حَيْثُ تشاؤون فتوزعوا وجلسوا على المفارش وَجِيء بِالشرابِ وَلما شربوا جِيءَ بِالطَّعَامِ فاكلوا وغسلوا أَيْديهم ثمَّ أعد لَهُم مجْلِس غناء وطرب وَجِيء بالخمرة فراحوا يحتسون كؤوس الطلا ويستمعون إِلَى غناء المطربين إِذْ لم يكن ثمَّة أحد فِي مجلسهم ذَاك سوى الفراشين الثَّلَاثَة الَّذين كَانُوا يقومُونَ على خدمتهم وَلم يكن أحد يعلم شَيْئا عَن حَالهم تِلْكَ فقد كَانَت الْمَدِينَة بأسرها رجَالًا وَنسَاء فِي قلق عَلَيْهِم وَكَانَت نِسَاؤُهُم وأبناءهم يَبْكُونَ ويندبون وَبعد ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة أَيَّام جَاءَهُم أحد حجاب الصاحب بن عباد وَقَالَ ان الصاحب يَقُول اعلموا أَن قصري لَيْسَ سجنا وأنكم ضيوفي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فَلَو أُرِيد بكم سوء لما أحضرتم إِلَى قصري وَبعد أَن عَاد الصاحب من الدِّيوَان إِلَى قصره وَكَانَ منهمكا فِي أَمرهم أَمر باحضار خياط حَالا ليخيط عشْرين جُبَّة من الديباج ثمَّ أَمر بتهيئة عشْرين جوادا بسرج مزركشة وَلما انتهي من إعداد هَذَا كُله مَعَ إشراقة صباح الْيَوْم التَّالِي دَعَا الصاحب الرِّجَال جَمِيعهم إِلَيْهِ والبس كل وَاحِد منمهم جُبَّة وعمامة أعطَاهُ جوادا وغطاء مزركشا لسرجه وَعين لَهُ عمله وَجعل لبَعْضهِم جرايات دائمة ووصلهم جَمِيعًا ثمَّ صرفهم إِلَى مَنَازِلهمْ فرحين مسرورين وَفِي الْيَوْم التَّالِي حَضَرُوا عِنْد الصاحب جَمِيعًا للسلام عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُم لتقروا الان عينا فَلَا تكتبا لمحمود بعد الان وَلَا تتشكوا وَلَا تعملوا على زَوَال مملكتنا وَلما مثل الصاحب بَين يَدي فَخر الدولة سَأَلَهُ مَاذَا فعلت مَعَ تِلْكَ الْجَمَاعَة قَالَ الصاحب يَا مولَايَ أَعْطَيْت كلا مِنْهُم جوادا مطهما وخلعة وصلَة وعينت لَهُ عملا من بَين الْأَعْمَال الَّتِي انتزعتها من أَصْحَاب العملين فِي الدولة والديوان ثمَّ صرفتهم إِلَى بُيُوتهم بعد أَن عرف كل عمله فِرَاق لفخر الدولة ذَلِك وَأقرهُ ثمَّ قَالَ لَو فعلت غير هَذَا لما كَانَ فعلك صَحِيحا ليتك أقدمت على مَا أقدمت عَلَيْهِ السّنة قبل عشر سنوات فَمَا كَانُوا لِيَرْغَبُوا فِي خصومنا يجب أَلا يسند لأي شخص بعد الان سوى عمل وَاحِد لتَكون لكل المتصرفين أَعمال وليكون للأعمال جَمِيعهَا رونق وبهاء فَإِذا مَا ولي شخص وَاحِد عملين أَو ثَلَاثَة فَإِن سبل الْعَيْش تضيق على الاخرين وَإِن حكام الْأَطْرَاف ومتسقطي عُيُوب دولتنا سيقولون ألم يبْق فِي مملكتهم رجال حَتَّى يعهدوا بعملين إِلَى رجل وَاحِد ويحملوننا على عدم الْكِفَايَة والجدارة ألم تَرَ أَن الْحُكَمَاء قَالَت لكل عمل رجال ان فِي المملكة وظائف كَبِيرَة ومتوسطة وصغيرة فليعط كل عَامل ومتصرف عملا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وَاحِدًا وفقا لكفايته وفضله ولياقته والته حسب وان يكن لأحد شغل وَجَاء يطْلب اخر فَيَنْبَغِي أَلا يلبى طلبه أَو يسمح لَهُ بذلك لكَي يقْضِي على هَذَا التَّقْلِيد الْمُحدث فِي المملكة فَإِذا مَا ولي كل عَامل فِي المملكة عملا وَاحِدًا فَقَط فَأَنَّهُ يُؤَدِّي بِالضَّرُورَةِ إِلَى إعمارها إِن الْملك زينته الْعمَّال عُمَّال الْخراج وكبار الْجَيْش وان على رَأس كل الْعمَّال والمتصرفين وزيرا فحين يكون الْوَزير سَيِّئًا خائنا ظَالِما متطاولا يكون الْعمَّال جَمِيعهم كَذَلِك بل أَسْوَأ وَأكْثر خُرُوجًا على الْقَوَاعِد وَالْأُصُول المرعية وَإِذا مَا وجد ثمَّة عَامل بارع فِي إدارة دفة الْأُمُور أَو كَاتب أَو مستوف أَو خَبِير فِي أَنْوَاع الْمُعَامَلَات مِمَّن لَا نَظِير لَهُ فِي المملكة من ذَوي الْمذَاهب السَّيئَة والعقائد الْفَاسِدَة من مثل الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس واذى الْمُسلمين واستخف بهم لحجة فِي الْعَمَل أَو الْحساب فَتجب تنحيته ومعاقبته إِذا مَا تظلموا مِنْهُ واشتكوا وَلَا يغرنك قَول شفعائه انه لَا يُوجد فِي المملكة كلهَا كَاتب أَو محاسب أَو عَامل مثله ان ينح عَن عمله فَإِن أضرارا بَالِغَة ستلحق بالمعاملات جَمِيعهَا وَلَا يَسْتَطِيع أحد أَن يقوم بِهَذِهِ المهمة بعده إِنَّهُم يكذبُون وَيَنْبَغِي أَلا يصغى إِلَى كَلَامهم بل يجب استبدال ذَلِك الشَّخْص باخر مِثْلَمَا فعل عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ عمر بن الْخطاب وَالْعَامِل الْيَهُودِيّ وَهَكَذَا حدث فِي أَيَّام سعد بن ابي وَقاص إِذْ كَانَ عَامله فِي سَواد بَغْدَاد وواسط والأنبار وَتلك النواحي إِلَى تخوم خوزستان وَالْبَصْرَة يَهُودِيّا لقد كتب سكان المناطق الْمَذْكُورَة إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر يَشكونَ إِلَيْهِ الْعَامِل الْيَهُودِيّ ويتظلمون مِنْهُ فَقَالُوا إِن هَذَا الرجل يؤذينا بذريعة الْعَمَل والمعاملة دون حق ويستهزيء بِنَا ويستخف لقد عيل صَبرنَا فان يكن لَا بُد مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ بُد فَاجْعَلْ علينا عَاملا مُسلما حَتَّى لَا يعاملنا بِخِلَاف الْأُصُول وَالْقَوَاعِد وَلَا يسومنا الْأَذَى وَالْعَذَاب لأننا على دين وَاحِد وَإِذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 مَا تصرف خلافًا لهَذَا فَإِنَّهُ لأحب إِلَيْنَا أَن نتحمل وَطْأَة الْأَذَى وَالِاسْتِخْفَاف من مُسلم لَا من يَهُودِيّ وَلما قَرَأَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر الرسَالَة قَالَ أيتسنى ليهودي يعِيش على وَجه الأَرْض سالما أَن يشْعر بالتفوق وَالْفضل على الْمُسلمين وَأمر بِأَن يكْتب إِلَى سعد بن أبي وَقاص اعزل ذَلِك الْيَهُودِيّ وول عمله مُسلما وَلما قَرَأَ سعد الرسَالَة أَمر بندب خيال إِلَى الْعَامِل الْيَهُودِيّ أَنى وجد والمجيء بِهِ إِلَى الْكُوفَة ثمَّ بعث برسل اخرين إِلَى مُخْتَلف نواحي بِلَاد الْعَجم ليأتوا بالعمال الْمُسلمين من حَيْثُ يجدونهم إِلَى الْكُوفَة لما أحضر الْيَهُودِيّ والعمال الاخرون جَمِيعًا لم ير سعد فِي عُمَّال الْعَرَب والعجم من الْمُسلمين من لَهُ الْقُدْرَة والكفاية على الْقيام بِعَمَل الْيَهُودِيّ وَلم يجد فيهم من يعرف أصُول الْمُعَامَلَة مثله أَو أَن لَهُ خبرته وَقدرته على تَحْصِيل الْأَمْوَال والإعمار وَمَعْرِفَة النَّاس والإحاطة بِمَا حصل وَمَا لم يحصل من خراج فاضطر إِلَى إبقائه على رَأس عمله وَكتب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ رِسَالَة تَقول لقد امتثلت أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ فأحضرت الْيَهُودِيّ وعقدت مَجْلِسا جمعت فِيهِ كل الْعمَّال والمتصرفين فِي ديار الْعَرَب والعجم فَلم يكن فِي الْعَرَب من لَهُ دراية بأحوال الْعَجم وشؤونهم أما عُمَّال الْعَجم فتبيين لي بعد استقراء أَن لَيْسَ فيهم من لَهُ كِفَايَة الْيَهُودِيّ ومهارته فِي الْمُعَامَلَة وَحسن نصرفه وإدارته ومعرفته النَّاس لقد اضطررت إِلَى إبقائه فِي عمله حَتَّى لَا يتسرب الْخلَل إِلَى شَتَّى أَنْوَاع الْمُعَامَلَات ولكي يسْتَمر تَحْصِيل الْأَمْوَال وَإِنِّي فِي انْتِظَار أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ لما وصلت الرسَالَة الى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر وَقرأَهَا تملكه الْعجب فَقَالَ يَا للعجب يخْتَار غير مَا اخْتَرْت وَيرى غير مَا رَأَيْت وَتَنَاول الْقَلَم وَكتب فِي أَعلَى الرسَالَة نَفسهَا مَاتَ الْيَهُودِيّ ثمَّ أَعَادَهَا إِلَى سعد بن أبي وَقاص إِن مَا عناه عمر بقوله مَاتَ الْيَهُودِيّ هُوَ هَب أَن الْيَهُودِيّ قد مَاتَ وكل نفس ذائقة الْمَوْت فالموت بِمَثَابَة الْعَزْل عَن الْعَمَل وَاعْلَم أَن الْعَمَل يجب أَلا يتَوَقَّف بِمَوْت أَي عَامل أَو عَزله بل يَنْبَغِي ندب رجل اخر لَهُ فَلم تظل عَاجِزا هَكَذَا وَلما تسلم سعد الرسَالَة وَقَرَأَ توقيع عمر فِي أَعْلَاهَا عزل الْيَهُودِيّ فَوْرًا وَعين مُسلما مَكَانَهُ وتسلم الْمُسلم عمله فَتبين بعد سنة أَن مَا أنْجز على يَد الْعَامِل الْمُسلم أفضل بِكَثِير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 مِمَّا انجز على يَد الْيَهُودِيّ وَأَن شؤون الْعمرَان قد نمت وازدهرت حِينَئِذٍ قَالَ سعد بن أبي وَقاص لأمراء الْعَرَب أنعم بأمير الْمُؤمنِينَ عمر رجلا عَظِيما فقد كتبت فِي أَمر ذَلِك الْيَهُودِيّ وشؤون الْولَايَة رِسَالَة طَوِيلَة لكنه أجابني بكلمتين فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ لَا كَمَا كنت أعتقد ونجانا مِمَّا كَمَا فِيهِ ثمَّة قَولَانِ مشهوران صَدرا عَن رجلَيْنِ عظيمين كِلَاهُمَا صائب مَقْبُول وسوف يظلان مضرب الْمثل فِي الْعَرَب والعجم إِلَى يَوْم الدّين الأول قَول عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مَاتَ الْيَهُودِيّ فَأنى وجد عَامل يجيد مهنة الْكِتَابَة وَله مهارة وخبرة فِي إدارة الْأُمُور وتصريفها لكنه متطاول ظَالِم خَبِيث الْمَذْهَب وَأُرِيد لهَذَا تنحيته فيتصدى شفعاؤه وَمن يحدبون عَلَيْهِ قائلين يجب أَلا يعْزل فَهُوَ كَاتب ممتاز وعامل جلد وَلَيْسَ ثمَّة من هُوَ افضل مِنْهُ هُوَ فِي عمله وأمثال هَذَا الْكَلَام فَمَا على الْحَاكِم إِلَّا أَن يَقُول مَاتَ الْيَهُودِيّ فبهاتين الْكَلِمَتَيْنِ ترد أَقْوَالهم كلهَا وَتبطل ويعزل ذَلِك الْعَامِل أما القَوْل الاخر فَإِنَّهُ لما ودع نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّار الفانية لم يَجْرُؤ أحد من صحابته على أَن يَقُول أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قد مَاتَ سوى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَمَا إِن ولي الْخلَافَة والت إِلَيْهِ أُمُور الْمُسلمين بعد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى اعتلى الْمِنْبَر وخطب فِي النَّاس فَقَالَ مَاتَ مُحَمَّد ثمَّ قَالَ أَيهَا الْمُسلمُونَ من كَانَ يعبد مُحَمَّدًا فَإِن مُحَمَّدًا قد مَاتَ وَمن كَانَ يعبد الله فَإِن الله حَيّ لَا يَمُوت فأعجب الْمُسلمُونَ بقوله الَّذِي صَار مضرب الْمثل فِي الْعَرَب بِحَيْثُ إِذا مَا ألمت بأحدهم مُصِيبَة عظمى ودع فِيهَا عَزِيزًا اثيرا لدية وَأَرَادَ النَّاس تهوين الْأَمر وَتَخْفِيف وقعه عَلَيْهِ فَإِنَّهُم يَقُولُونَ لَهُ فِي عنفوان النَّازِلَة مَاتَ مُحَمَّد فَإِن يكن أَلا يَمُوت أحد من بني ادم فَلَيْسَ من هُوَ أولى من مُحَمَّد الْمُصْطَفى عَلَيْهِ السَّلَام لنعد الان إِلَى مَا بدأنا بِهِ كلامن قُلْنَا ان الْعمَّال وأعمالهم منوطون بالوزير وَإِن الْوَزير الصَّالح يَجْعَل سمعة مليكه وَسيرَته حسنتين فَمَا الْمُلُوك الْعِظَام الَّذين دَان لَهُم الْعَالم وَالَّذين سَوف تظل أَسمَاؤُهُم مقترنة بِذكر الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة مَا هم إِلَّا أُولَئِكَ الَّذين كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 لَهُم وزراء أخيار كَذَا كَانَ الْأَنْبِيَاء الأعاظم فَكَانَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام اصف بن برخيا ولموسى عَلَيْهِ السَّلَام أَخُوهُ هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام ولعيسى عَلَيْهِ السَّلَام شَمْعُون ولمحمد الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أما الْمُلُوك الْعِظَام فَكَانَ لكيخسرو جودرز ولمنوجهر سَام ولافراسياب بيران ويسه ولكشتاسب جاماسب ولرستم زواره ولبهرام جور خره روز ولأنوشروان الْعَادِل بزرجمهر وَكَانَ لخلفاء بني الْعَبَّاس أَمْثَال ال برمك وللسامانيين البلعميون وللسلطان مَحْمُود الغزنوي أَحْمد حسن ولفخر الدولة الصاحب بن عباد وللسلطان طغرل أَبُو نصر الكندري وبذا اضحت سنة الْأَنْبِيَاء وسيرة الْمُلُوك أنشودة يترنم بهَا ومثلا يضْرب وَمثل هَذَا كثير أما الْوَزير فَيَنْبَغِي أَن يكون نقي الدّين حسن الِاعْتِقَاد حَنَفِيّ الْمَذْهَب أَو شافعيا طَاهِرا كُفؤًا حسن التَّدْبِير والمعاملة كَرِيمًا ومحبا للْملك وَمَا أحسن أَن يكون الْوَزير من صلب وَزِير فَذا أفضل واهيب وَأكْثر بركَة فمنذ عهد أردشير بن بابكان إِلَى أَيَّام يزدجرد بن شهريار اخر مُلُوك الْعَجم لم يكن الْمُلُوك إِلَّا أَبنَاء مُلُوك وَلم يكن الوزراء إِلَّا أَبنَاء وزراء وظل الْأَمر على هَذِه الْحَال حَتَّى ظُهُور الْإِسْلَام فَلَمَّا دَال ملك مُلُوك الْعَجم أَدْبَرت الوزراء عَن الوزراء أَيْضا سُلَيْمَان بن عبد الْملك وجعفر الْبَرْمَكِي يُقَال إِنَّه لما كَانَ سُلَيْمَان بن عبد الْملك جَالِسا للنَّاس يَوْمًا وَكَانَ كبار رجال دولته وندماؤه حاضرين جرى على لِسَانه إِن لم يكن ملكي أَكثر من ملك سُلَيْمَان بن دَاوُد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 عَلَيْهِمَا السَّلَام فَلَيْسَ بِأَقَلّ مِنْهُ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنه كَانَت لَهُ حُكُومَة على الرّيح وَالشَّيَاطِين وَالْجِنّ والوحوش والطيور مِمَّا لَيْسَ لنا أما من حَيْثُ الْكُنُوز وأدوات التجمل والزينة وَالْملك والجيش ونفوذ الحكم ومنعته الَّتِي لنا فَمن ذَا الَّذِي كَانَ لَهُ مثلنَا قبلنَا فِي عرض الْعَالم وَطوله أيعوزني شَيْء من مقومات الْملك لَا أملكهُ فَقَالَ لَهُ أحد الزعماء يعوزك أهم مقومات الْملك وأفضلها مِمَّا لَا تملكه فِي حِين كَانَ للملوك من قبلك قَالَ سُلَيْمَان مَا الَّذِي كَانَ للاخرين وَلَا أملكهُ الان قَالَ الرجل لَيْسَ عنْدك الْوَزير الَّذِي يوائمك قَالَ سُلَيْمَان وَكَيف ذَلِك قَالَ الرجل أَنْت ملك ابْن ملك فَيَنْبَغِي أَن يكون وزيرك ابْن وَزِير كُفؤًا ومباركا قَالَ سُلَيْمَان أيوجد وَزِير على النَّحْو الَّذِي وصفت فِي الْعَالم كُله قَالَ الرجل أجل قَالَ سُلَيْمَان أَيْن قَالَ الرجل فب بَلخ قَالَ سُلَيْمَان من ذَاك الشَّخْص قَالَ الرجل هُوَ جَعْفَر الْبَرْمَكِي الَّذِي ورث اباؤه الوزارة كَابِرًا عَن كَابر إِلَى ايام اردشير بن بابكان وَكَانَ النوبهار وَهُوَ معبد قديم ببلخ وَقفا عَلَيْهِم وَلما أشرقت شمس الأسلام وَخرج السُّلْطَان من يَد مُلُوك الْعَجم اتخذ اباؤه بَلخ دَار مقَام لَهُم وظلوا هُنَاكَ لقد كَانَت الوزارة وراثية فيهم وهم الَّذين صنفوا كتبا فِي السّير ونظام الوزارة وَكَانُوا حِين يفرغ أبناؤهم من تعلم الْخط وَالْأَدب وَالْكِتَابَة يضعون تِلْكَ الْكتب بَين أَيْديهم ليقرأوها ويعوا مَا فِيهَا ويسيروا على هديها لقد اقْتدى الْأَبْنَاء بابائهم فِي سيرتهم اقْتِدَاء كَامِلا من شَتَّى الْوُجُوه وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا كلهَا من هُوَ أليق لوزارتك من جَعْفَر وَالْأَمر مَا يرَاهُ الْخَلِيفَة فَمَا إِن سمع سُلَيْمَان بن عبد الْملك الَّذِي لم يكن فِي بني امية وَال مَرْوَان أعظم مِنْهُ وأقدر هَذَا الْكَلَام حَتَّى وَطن الْفُؤَاد على استقدام جَعْفَر من بَلخ والعهد إِلَيْهِ بالوزارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 غير أَنه فكر فِي نَفسه لربما أَن جعفرا مَا زَالَ مجوسيا وَلكنه لما سمع بِأَنَّهُ كَانَ قد ولد مُسلما غمرته الفرحة وَأمر بِكِتَابَة رِسَالَة إِلَى وَالِي بَلخ ليرسل جعفرا إِلَى دمشق وَيُعْطِيه مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من نفقات الطَّرِيق ووسائل الزِّينَة والتجمل وَلَو ألف دِينَار وَأَن يُرْسِلهُ إِلَى العاصمة فِي أبهى ايات الإجلال وأكملها وَأرْسل الْوَالِي جعفرا إِلَى دمشق فَكَانَ كلما وصل مَدِينَة يخرج كِبَارهَا لاستقباله ويقيمون لَهُ المادب إِلَى أَن أوصل إِلَى دمشق وَلما وطأت قدماه أَرض دمشق خرج كبراء الدولة والجيش إِلَّا سُلَيْمَان بن عبد الْملك عَن بكرَة أَبِيهِم لاستقباله والترحيب بِهِ واخترقوا بِهِ الْمَدِينَة فِي أتم مظَاهر الإجلال والاحترام وأبهاها إِلَى حَيْثُ أنزلوه فِي قصر لَا يطاوله أَي قصر جمالا وروعة وَبعد ثَلَاثَة أَيَّام مضوا بِهِ إِلَى سُلَيْمَان بن عبد الْملك ليمثل بَين يَدَيْهِ فَلَمَّا دخل الْقصر وَوَقعت عينا سُلَيْمَان عَلَيْهِ راقه منظره ومراه وَلما دخل إِلَى بهو الْمجْلس صَحبه الْحجاب إِلَى الْمَكَان الَّذِي أعد لَهُ بِالْقربِ من سَرِير الْملك فَأَجْلَسُوهُ وعادوا وَبعد أَن جلس جَعْفَر أَخذ سُلَيْمَان ينظر إِلَيْهِ بدقة وإمعان وَإِذا بِهِ يقطب جَبينه وَيَقُول فِي غضب إنهض من أَمَامِي فخف الْحجاب على الْفَوْر وأخذوه وأعادوه دون أَن يدْرِي أحد عِلّة ذَلِك وَبعد أَن صلى سُلَيْمَان الظّهْر استخفه نشاط للشراب فَحَضَرَ العظماء وَجلسَ الندمان ومدت الْأَيْدِي إِلَى الصَّهْبَاء وأديرت الكؤوس مَرَّات ودب فيهم النشاط والنشوة فَلَمَّا رأى من فِي الْمجْلس انْفِرَاد طبع سُلَيْمَان وانفراج أساريره قَالَ أحد الْخَاصَّة مولَايَ الْملك لقد أمرت بإحضار جَعْفَر الْبَرْمَكِي من بَلخ بأسمى ايات الإعزاز وَالْإِكْرَام لشأن عَظِيم لَكِن مَا إِن مثل بَين يَديك وَجلسَ حَتَّى ثبطت عزيمته وأفترت همته وَأمرت بِإِخْرَاجِهِ فَمَا كَانَ سَبَب ذَلِك فالقوم فِي عجب قَالَ سُلَيْمَان لَو لم يكن جَعْفَر من أسرة عريقة وَلم يات إِلَيْنَا من مَسَافَة بعيدَة لأمرت انذاك بِضَرْب عُنُقه حَالا لِأَنَّهُ كَانَ يحمل مَعَه سما قَاتلا أَتَى بِهِ هَدِيَّة لي فِي أول مرّة يلقاني فِيهَا فَقَالَ أحد العظماء من الندامى أيامرني مولَايَ بالذهاب إِلَه لبحث الْمَوْضُوع مَعَه والبت فِيهِ فنعرف مَا يَقُول أيعترف أم يُنكر قَالَ سُلَيْمَان إذهب فَقَامَ الرجل ترك الْمجْلس إِلَى جَعْفَر وَهُنَاكَ سَأَلَهُ لقد ذهبت الْيَوْم لمقابلة سُلَيْمَان أفكنت تحمل مَعَك سما قَالَ جَعْفَر أجل وَمَا زَالَ معي إِنَّه هَذَا الَّذِي تَحت فص خَاتمِي فعلى هَذَا سَار ابائي من قبل لقد انْتهى إِلَيّ هَذَا الْخَاتم إِرْثا عَن وَالِدي لكنه لم يحدث قطّ أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 تسببت أَنا أَو أحد ابائي حَتَّى يإيذاء نملة وهلاكها فَكيف إِذا وصل الْأَمر إِلَى ادمي أجل لقد اعتدنا حمله رَغْبَة فِي تالحزم والحيطة فِي الْأُمُور فَمَا أَكثر مالاقى أبائي من لدن الاخرين خسفا وتعذيبا من جراء المَال والثروة فَفِي الْوَقْت الَّذِي استدعاني فِيهِ سُلَيْمَان بن عبد الْملك لم يطلعني أحد على حَقِيقَة الْمَوْضُوع الَّذِي كَانَ يطليني من أَجله ففكرت فِي نَفسِي بِأَنَّهُ إِذا مَا طلب إِلَيّ ثَبت الْكُنُوز أَو سَأَلَني شَيْئا لَا استطيع الْوَفَاء بِهِ أَو سامني عذَابا لَا طَاقَة لي عَلَيْهِ فَلَا بُد من أَن أَضَع فص الْخَاتم فِي فمي وأرشف سمه تخلصا من الْعَذَاب والهوان لما سمع الرجل حَدِيث جَعْفَر هَذَا عَاد توا إِلَى سُلَيْمَان وتلا على مسامعه مَا قَالَ جَعْفَر فَعجب سُلَيْمَان لذكاء جَعْفَر وَبعد نظره وفرد أسارير وَجهه وَقبل عذره ثمَّ أَمر بإحضاره إِلَى بَابه فِي موكب خَاص فَذهب العظماء جَمِيعهم إِلَى بَاب الْقصر الَّذِي كَانَ فِيهِ وَأتوا بِهِ إِلَى البلاط معززا مكرما وَكَذَلِكَ فعلوا فِي الْيَوْم التَّالِي وَلما مثل جَعْفَر بَين يَدي سُلَيْمَان مد إِلَيْهِ سُلَيْمَان يَده مصافحا وَأخذ يسْأَله عَن مشاق الطَّرِيق ويلاطفه بِكَلَام جميل ثمَّ أجلسه وَألبسهُ خلعة الوزارة فِي الْحَال وَوضع الدواة أَمَامه ليوقع جَعْفَر بضعَة تواقيع على مرأى مِنْهُ وَيُقَال إِن سُلَيْمَان لم ير قطّ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ من فَرح وابتهاج فِي ذَلِك الْيَوْم لما خرج سُلَيْمَان مِمَّن مَجْلِسه فِي الْقصر استخفه نشاط للشراب فأعد لَهُم مجْلِس زين بِالذَّهَب والجواهر وفرش بفرش موشحة بخيوط من ذهب لم ير النَّاس لَهَا نظيرا قطّ ثمَّ جَلَسُوا للشراب وعَلى حِين كَانَ سُلَيْمَان نشوان جدلا سَأَلَهُ جَعْفَر كَيفَ عرف الْملك من دون الاف النَّاس أَنه كَانَ معي سم قَالَ سُلَيْمَان ان معي شَيْئا أعز عَليّ من كل مَا أملك وكل مَا فِي الخزائن جَمِيعهَا لَا يفارقني أبدا إنَّهُمَا خرزتان كالجزع ولكنهما ليستا جزعا حَقِيقِيًّا حصلت عَلَيْهِمَا من خَزَائِن الْمُلُوك وهما مربوطتان فِي ذراعي دَائِما فَإِذا مَا أزجستا رَائِحَة السم فِي أَي مَكَان أَو مَعَ أَي شخص أَو فِي الطَّعَام وَالشرَاب فَإِنَّهُمَا تتحركان فَوْرًا وتتماسان وتظلان فِي حَرَكَة واضطرام دون أَن يقر لَهما قَرَار حِينَئِذٍ أعلم أَن ثمَّة سما فِي الْمجْلس فأحتاط لِلْأَمْرِ وأتأهب لَهُ فَلَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 تخطيت أَنْت عتبَة بهو الْمجْلس شرعت الخرزتان فِي الْحَرَكَة وَكَانَت حركتهما تزداد حِدة وهيجانا كلما كنت تتقدم إِلَى الْأَمَام أَكثر فِي الْمجْلس وَلما اسْتَقر بك الْمجْلس أَمَامِي أخذتا تتماسان تماسا لم يدع لي مجالا للشَّكّ بأنك تحمل مَعَك سما اعْلَم أَنه لَو كَانَ أحد غَيْرك لما ابقيت على حَيَاته وَلما أخرجوك أخذت الخرزتان بِالسُّكُونِ لكنهما لم تتوقفا إِلَّا بعد خُرُوجك من الْقصر وانئذ كشف سُلَيْمَان عَن ذراعة وأراها جعفرا وَقَالَ أَرَأَيْت فِي الدُّنْيَا شَيْئا أعجب من هَذَا فِي حياتك وَكَانَ العظماء جَمِيعهم ينظرُونَ إِلَى الخرزتين فِي عجب قَالَ جَعْفَر رَأَيْت فِي حَياتِي شَيْئَيْنِ عجيبين لم أر مثلهمَا قطّ الأول هَذَا الَّذِي أرَاهُ مَعَ الْملك والاخر مَا رَأَيْته مَعَ ملك طبرستان فَقَالَ سُلَيْمَان كَيفَ كَانَ ذَلِك أسمعني قَالَ جَعْفَر لما وصل إِلَى وَالِي بَلخ أَمر مولَايَ بإرسالي إِلَى دمشق أذعنت لِلْأَمْرِ وتأهبت للرحلة وأعددت للطريق عدتهَا فتوجهت من نيسابور إِلَى طبرستان لبضاعة كَانَت لي هُنَاكَ وَلما وصلت إِلَى طبرستان استقبلني ملكهَا وأنزلني فِي قصره بِمَدِينَة امل وَبعث الي الْقرى وَكُنَّا نَلْتَقِي يوميا فِي الْمجْلس وعَلى الخوان وَنَذْهَب إِلَى أمكنة مُخْتَلفَة تنزها وَذَات يَوْم قَالَ لي فِي نشوة أتنزهت فِي الْبَحْر إِلَى الان قلت لَا قَالَ أَنْت ضَيْفِي فِي نزهة بحريّة غَدا قلت سمعا وَطَاعَة ثمَّ أَمر الملاحين بِأَن يعدوا السفن ويهيؤوها للغد وَفِي الْيَوْم التَّالِي مضى بِي الْملك ألى سَاحل الْبَحْر حَيْثُ ركبنَا سفينة والمطربون يعزفون ويغنون والملاحون يقودون السَّفِينَة إِلَى أَن مضوا بِنَا ألى لجة الْبَحْر فِي حِين كَانَ السقاة يديرون ابْنة الْكَرم دون انْقِطَاع وَكُنَّا الْملك وَأَنا نجلس قريبين جدا إِذْ لم يكن بَيْننَا أحد لقد كَانَ فِي إِصْبَع الْملك خَاتم فصه من الْيَاقُوت الْأَحْمَر وَكَانَ جميلا الى أبعد حُدُود الْجمال صافيا وملونا حَتَّى أنني لم أر مثله فِي حَياتِي وَلَقَد جعلني جماله أَدِيم النّظر فِيهِ لما رأى الْملك أنني أطيل النّظر فِي الْخَاتم نَزعه من أُصْبُعه وَوَضعه أَمَامِي فانحنيت احتراما لَهُ وَقبلت الْخَاتم وَوَضَعته أَمَام الْملك من جَدِيد لكنه تنَاوله وَوَضعه امامي مرّة أُخْرَى وَقَالَ ان خَاتمًا خرج من إصبعي هَدِيَّة وَعَطَاء لَا يعود إِلَيْهَا فَقلت إِن هَذَا الْخَاتم لَا يَلِيق إِلَّا بِالْملكِ وَوَضَعته أَمَامه غير أَنه عَاد فَوَضعه أَمَامِي وَلِأَن الْخَاتم كَانَ اية فِي الإبداع وقيما قلت ان من يهب هَذَا الْخَاتم ثملا قد ينْدَم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 على فعلته صَاحِيًا فينتابه هم لذَلِك وَوضعت الْخَاتم أَمَام الْملك أَيْضا فتناوله هَذِه الْمرة ودماه فِي الْبَحْر فَقلت انذاك اه واأسفاه على هَذَا الْخَاتم لَو كنت أعلم أَن الْملك لن يُعِيدهُ إِلَى إصبعه حَقًا أَو أَنه سيلقي بِهِ فِي الْبَحْر لقبلته لأنني لم أر ياقوتا كَهَذا قطّ قَالَ الْملك لقد وَضعته امامك مَرَّات وَلما رَأَيْتُك تحدق النّظر فِيهِ كثيرا أخرجته من إصبعي ووهبتكه وعَلى الرغم مِمَّا كَانَ للخاتم ممت جمال فِي نَظَرِي فلولا أَنه لم يكن فِي عَيْنَيْك أجمل لم منحتكه لقد كَانَ الذَّنب ذَنْبك لِأَنَّك لم تقبله أما وَقد قذفت بِهِ فِي الْبَحْر فقد ذهبت نَفسك عَلَيْهِ حسرات إِلَّا أنني سافعل مَا يُعِيدهُ إِلَيْك من جَدِيد وَقَالَ لأحد غلمانه اذْهَبْ واستقل زورقا إِلَى الشاطىء ثمَّ امتط جوادا من هُنَاكَ وامض إِلَى الْقصر مسرعا وَقل للْمُوكل بالخزانة أُرِيد الصندوق الفضي الصَّغِير كَذَا خُذْهُ وهاته إِلَيّ على وَجه السرعة وَقبل أَن يُرْسل الْملك الْغُلَام قَالَ للملاح أنزل مراسي السَّفِينَة وأوقفها فِي مَكَانهَا إِلَى أَن أخْبرك بِمَا يَنْبَغِي عمله فنفذ الملاح مَا أَمر بِهِ أما نخن فاخذنا نشرب الْخمر إِلَى أَن عَاد الْغُلَام بالصندوق الصَّغِير الَّذِي أَمر بإحضاره وَوَضعه أَمَام الْملك فَحل الْملك هِمْيَانه وَأخرج مِنْهُ مفتاحا فضيا فتح بِهِ قفل الصندوق وَنزع غطاءه وَمد يَده فِيهِ فَأخْرج سَمَكَة ذهبية وَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْر وَغَارَتْ السَّمَكَة فِي المَاء وانحدرت إِلَى قَعْر الْبَحْر غَائِبَة عَن الأنظار وَمَا هِيَ إِلَّا فَتْرَة قَصِيرَة إِذا بهَا تظهر على سطح المَاء والخاتم فِي فمها فَأمر الْملك أحد الملاحين بِأَن يخف بزورق إِلَى حَيْثُ ظَهرت فَمضى الملاح والتقطها والخاتم فِي فمها وأتى بهما إِلَى الْملك الَّذِي نزع الْخَاتم من فمها وَألقى بِهِ أَمَامِي فَقبلت الأَرْض بَين يَدَيْهِ وتناولت الْخَاتم وَوَضَعته فِي إصبعي وَأعَاد الْملك تِلْكَ السَّمَكَة إِلَى الصندوق وقفله ثمَّ أعَاد الْمِفْتَاح إِلَى مَكَانَهُ أَيْضا وَكَانَ فِي إِصْبَع جَعْفَر انذاك خَاتم فَأخْرجهُ وَوَضعه أَمَام سُلَيْمَان بن عبد الْملك وَقَالَ يَا مولَايَ هَذَا هُوَ الْخَاتم فتناوله سُلَيْمَان وَنظر إِلَيْهِ ثمَّ رده إِلَى جَعْفَر وَقَالَ يَنْبَغِي أَلا يضيع تذكار رجل كَذَلِك الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 لَيْسَ غَرَض الْكتاب هَذِه الْحِكَايَة لكنني ذكرتها لِأَنَّهَا حِكَايَة عَجِيبَة وغريبة ومناسبة للمقام بل هدفي من هَذَا الْفَصْل هُوَ أَن أُشير إِلَى أَنه إِذا مَا بزغ فجر عهد مشرق خير ودال زمَان الضعْف والانحطاط فامارة ذَلِك ظُهُور ملك صَالح سديد الرَّأْي يطمس فِي عَهده المفسدون ويختار الْوَزير والعمال ومتصدو شؤون الدولة من الأصلاء والأخيار ويوكل كل عمل إِلَى من هُوَ أهل لَهُ فَلَا يسند عملان إِلَى رجل وَاحِد أَو عمل وَاحِد ألى رجلَيْنِ وَيرْفَع ذَوُو الْمذَاهب النقية الطاهرة ويسام أَصْحَاب الْمذَاهب السَّيئَة الْخَسْف وَيضْرب على أَيدي الظَّالِمين وينشر الْأَمْن على الطرقات وتبث هَيْبَة الْملك فِي نفوس الْجَيْش والرعية وَيحرم عديمو الْفضل وَالْأَصْل من أَي عمل ويتصدى للأطفال مِمَّن لَا خبْرَة لَهُم وَلَا مراس ويكبح جماحهم وتتدبر أُمُور الْملك مَعَ الكهول والشيوخ والحكماء وتوكل قيادات الْجَيْش إِلَى الكهول المجربين لَا الشبَّان الناشئين ويشرى الرِّجَال لمواهبهم لَا لأموالهم وَلَا يُبَاع الدّين بالدنيا وتعاد الْأُمُور جَمِيعهَا إِلَى اصولها وقواعدها وَتَكون منزلَة كل شخص على قدرَة ومستواه كل هَذَا لتستقيم الْأُمُور الدِّينِيَّة والدنيوية وَيكون عمل كل شخص وفقا لكفايته أما إِذا مَا خرج أَي أَمر على هَذِه الْقَاعِدَة وَسَار على خلَافهَا فان الْملك لَا يسمح بِهِ بل يُعِيد الْأُمُور إِلَى نصابها بميزان الْعدْل ويقومها بِالسَّيْفِ بِتَوْفِيق الله تَعَالَى وَحده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الْفَصْل الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ فِي النِّسَاء وَحرم الْقصر وحد المرؤوسين ومراتب قادة الْجَيْش يجب عدم تَمْكِين من هم تَحت سلطة الْملك وَفِي خدمته من أَن يكون لَهُم نُفُوذ وَقُوَّة لما ينجم عَن هَذَا من إخلال عَظِيم يذهب بجلاله وأبهته وهيبته وأخص من هَؤُلَاءِ النِّسَاء فهن محجبات مستورات ناقصات الْعُقُول الْغَايَة مِنْهُنَّ الإنجاب لحفظ بَقَاء النَّسْل إِن أفضل النِّسَاء واجدرهن بالإيثار وَالْقَبُول أحسنهن نسبا وأكثرهن لياقة وسترا وتقوى وَفِي الْوَقْت الَّذِي تمتد فِيهِ أَيدي نسَاء الْملك إِلَى السلطة ويتدخلن فِي شؤون الحكم فَإِن دورهن لَا يتَعَدَّى مَا يوحي بِهِ إلَيْهِنَّ ذَوُو المارب والأطماع الْخَاصَّة لِأَن لَيْسَ لَهُنَّ الْقُدْرَة مثل الرِّجَال على استطلاع الْأَحْوَال فِي الْخَارِج بِرَأْي الْعين مُعظم أوامرهن تصدر بوحيي من أَقْوَال متصدري أَكثر شؤونهن من مثل الحاجبة وَالْخَادِم وَلَا بُد وَالْحَال هَذِه من أَن تَأتي أغلب أحكامهن وأوامرهن مُغَايرَة للحقائق وَالْوَاقِع فينشأ الْفساد ويضار الْملك فِي جَلَاله ووقاره وحرمته ويسام النَّاس الْأَذَى والخسف ويتسرب الْخلَل إِلَى الدّين وَالْملك وتصبح أَمْوَال النَّاس وثرواتهم عرضة للنهب والزوال وَيلْحق الْأَذَى والهوان بكبار رجال الدولة إِنَّه لم ينْتج عَن تسلط زوج أَي ملك عَلَيْهِ فِي أَي عصر على مر العصور سوى الذل والعار وَالشَّر والفتنة وَالْفساد دَعْنَا نذْكر نماذج قَليلَة فِي هَذَا الْمَوْضُوع علها أَن تكشف عَن كثير من الْأُمُور وتجلوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ادم وَالْمَرْأَة كَانَ ادم عَلَيْهِ السَّلَام أول رجل أطَاع الْمَرْأَة فجر عَلَيْهِ ذَلِك الخسران وَالْعَذَاب والمحنة فَلَمَّا أطَاع حَوَّاء وَأكل الْحِنْطَة طرد من الْجنَّة السَّمَاء وظل يبكي مِائَتي سنة إِلَى أَن عَفا الله تَعَالَى عَنهُ وَقبل تَوْبَته قصَّة سياوش كَانَت سوذابه إمرأة كيكاوس مهيمنة عَلَيْهِ فَلَمَّا بعث كيكاوس رَسُولا الى رستم يطْلب إِلَيْهِ ابْنه سياوش الَّذِي كَانَ رستم قد رباه وتعهده حَتَّى سنّ الرجولة وَقَالَ أرْسلهُ لي فَإِنِّي فِي لهفة وشوق إِلَى لِقَائِه أرسل رستم سياوش إِلَى أَبِيه لقد كَانَ سياوش وسيما جدا فَلَمَّا رَأَتْهُ سوذابه من وَرَاء الْحجاب فتنت بِهِ وَقَالَت لكيكاوس مر سياوش أَن يَأْتِي إِلَى دَار الْحَرِيم لتراه أخواته فَقَالَ لَهُ كيكاوس اذْهَبْ إِلَى دَار النِّسَاء فأخواتك يرغبن فِي رؤيتك قَالَ سياوش سمعا وَطَاعَة لَكِن من الْأَفْضَل أَن يبْقين فِي مكانهن وَأبقى أَنا فِي الإيوان وَلما ذهب إِلَى هُنَاكَ أَلْقَت سوذابه بِنَفسِهَا عَلَيْهِ وضمته إِلَيْهَا راغبة فِيهِ فَغَضب سياوش وخلص نَفسه من بَين يَديهَا وَخرج من دَار الْحَرِيم وَعَاد إِلَى مَكَانَهُ فَخَشِيت سوذابة ان يخبر سياوش اباه بالموضوع وَقَالَت فِي نَفسهَا من الْأَفْضَل أَن أسبقه إِلَى ذَلِك فمضت إِلَى كيكاوس وَقَالَت لقد هجم عَليّ سياوش وَتعلق بِي رَاغِبًا فِي لكنني أفلت من يَده وامتلأ قلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 كيكاوس على سياوش وَوصل الْخَوْض والخطورة فِي الْمَوْضُوع حدا قيل فِيهِ لسياوش يَنْبَغِي أَن تخترق النَّار ليرضى عَنْك الْملك قَالَ سياوش الْأَمر مَا يرَاهُ المليك فإنني طوع أمره وَرهن إِشَارَته وكوم الْحَطب فِي الصَّحرَاء على مساحة ربع فَرسَخ مربع ثمَّ أشعلت فِيهِ النيرَان وَلما تصاعد لهيبها صعد كيكاوس إِلَى راس جبل هُنَاكَ وَقَالَ لسياوش اخترق النَّار فَذكر سياوش الَّذِي كَانَ يمتطي صهوة فرسه شبرنج اسْم ربه ثمَّ وثب بِهِ فِي النَّار وَغَابَ عَن الأنظار وَبعد مُدَّة خرج من النَّار سالما دون أَن تمس حَتَّى شَعْرَة وَاحِدَة فِيهِ أَو فِي جَوَاده بإذى بِمَشِيئَة الله عز وَجل فَعجب جَمِيع من كَانُوا هُنَاكَ لذَلِك وقبس الموبذون من تِلْكَ النَّار قبسا ومضوا بِهِ إِلَى المعبد وَمَا زَالَت تِلْكَ النَّار مشتعلة فِي مَكَانهَا لِأَنَّهَا قَضَت بِالْحَقِّ بعد هَذَا الحكم ولى كيكاوس سياوش أَمِيرا على بَلخ وأرسله إِلَيْهَا لكنه كَانَ بِسَبَب سوذابة ممتلأ الْفُؤَاد على وَالِده فَكَانَ يقْضِي حَيَاته بألم وَعَذَاب لقد أضمر فِي نَفسه أَلا يبْقى فِي ولَايَة إيران وَرَاح يفكر فِي أَن يصير إِلَى الْهِنْد أَو الصين والصين الْأَقْصَى لَكِن بيران ويسه وَزِير أفراسياب وقائد جَيْشه تمكن من معرفَة السِّرّ الَّذِي كَانَ يُرَاوِد نفس سياوش فَعرض نَفسه عَلَيْهِ وَشرع يطري أفراسياب ويثني على جميل خصاله أَمَام سياوش ويلتمس إِلَيْهِ حَتَّى قبل سياوش عرضه ورحب بِهِ وَدخل فِي عهد مَعَه ثمَّ قَالَ لَهُ بيران ويسه الْبَيْت وَاحِد والنجاد وَاحِد ان أفراسياب يعزك ويقدرك أَكثر من أبنائه فَأنى أردْت أَن تعيد حَبل الْمَوَدَّة بَيْنك وَبَين أَبِيك يتدخل فِي الْأَمر وَيَأْخُذ على كيكاوس عهدا وثيقا فترسل حِينَئِذٍ إِلَى أَبِيك بِأَلف إعزاز وإكرام وتحول سياوش من بَلخ إِلَى تركستان فَزَوجهُ أفراسياب ابْنَته وَكَانَ يُكرمهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ويعامله أحسن من بنيه وَأكْثر مِمَّا أثار حفيظة جرسيوز أخي أفراسياب وحسده عَلَيْهِ فانضم إِلَيْهِ الوشاة وقالة السوء واختلقوا الْحِيَل والدسائس إِلَى أَن ألبوا أفراسياب عَلَيْهِ فَقتل مَظْلُوما بتركستان وَعم إيران العويل لمقتله وهاج المحاربون وتأهبوا لِلْقِتَالِ وَجَاء رستم من سجستان إِلَى العاصمة وَمضى إِلَى دَار حَرِيم كيكاوس دونما اسْتِئْذَان وجر سوذابة من ناصيتها إِلَى الْبَاب وقطعها بِالسَّيْفِ إربا إربا وَلم يَجْرُؤ أحد على أَن يَقُول لَهُ خيرا فعلت أَو شرا ثمَّ شمر الْقَوْم للحرب ومضوا إِلَى تركستان انتقاما لسياوش وطلبا بثأره ودارت رحى الْحَرْب عدَّة سنوات ذهب ضحيتها بضعَة الاف من الْجَانِبَيْنِ وَكَانَت سوذابة سَبَب هَذَا كُله لِأَنَّهُ كَانَت مهيمنة على الْملك لقد اختط الْمُلُوك وأولو الْعَزْم من الرِّجَال لأَنْفُسِهِمْ طرقا وعاشوا حَيَاة لم يكن للنِّسَاء أَو وصيفاتهن فِيهَا أدنى علم بأسرارهم وقضوا حياتهم فِي منأى عَن قيودهن وأهوائهن وأوامرهن وَلم يقعوا تَحت ربقة نيرهن قطّ وَهَكَذَا فعل الاسكندر الْإِسْكَنْدَر ودارا يحدثنا التَّارِيخ أَنه لما قدم الْإِسْكَنْدَر من بِلَاد الرّوم وَهزمَ دَارا بن دَارا ملك الْعَجم الَّذِي قَتله أحد خدمه فِي أثْنَاء هزيمته وَأَنه كَانَت لدارا ابْنة جميلَة جدا فِي غَايَة الْكَمَال وَالْجمال كَذَلِك أُخْتهَا وبضع فتيات أخر كن فِي حماه وَحرمه يحدثنا أَنه قيل للإسكندر إِنَّه لمن الْمُنَاسب أَن تمر من أَمَام دَار نسَاء دَارا وَترى الأقمار وملائك الْحسن خَاصَّة إبنة دَارا الَّتِي لَا نَظِير لَهَا حسنا وجمالا لقد كَانَ غَرَض أَصْحَاب هَذَا الْكَلَام أَن الْإِسْكَنْدَر حِين يرى ابْنة دَارا متنقبة بجمالها سيتزوجها وَلَا شكّ غير أَن الاسكندر أجابهم يَنْبَغِي أَلا تهزمنا نِسَاؤُهُم بعد أَن هَزَمْنَا رِجَالهنَّ فَلم يستجب لَهُم وَلم يذهب إِلَى دَار حَرِيم دَارا خسرو وشيرين وفرهاد أما قصَّة كسْرَى وشيرين وفرهاد فمعروفة إِذْ أحب كسْرَى شيرين حبا قلدها فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 زِمَام أمره وَأطلق لهواها الْعَنَان فَكَانَ ينفذ مَا تَقول فَلَا جرم إِذن فِي أَنَّهَا تجاسرت ومالت إِلَى فرهاد مَعَ أَنَّهَا كَانَت زوج كسْرَى الْملك أَقْوَال فِي الْمَوْضُوع سُئِلَ بزرجمهر مَا السَّبَب الَّذِي كَانَ وَرَاء انهيار ملك ال ساسان مَعَ أَن مقاليد أَمرهم كَانَت بِيَدِك وانه لَا نَظِير لَك الْيَوْم فِي الْعَالم كُله رَأيا وتدبيرا وَحِكْمَة وعلما فَقَالَ كَانَ سَبَب ذَلِك شَيْئَيْنِ أَحدهمَا أَنهم قلدوا الْأَعْمَال الْعَظِيمَة الهامة للصغار الناشئين والاخر أَنهم كَانُوا خصوما للْعلم وَأَهله يجب أَن يشرى العظماء والعقلاء ويقلدوا جلائل الْأَعْمَال لقد كَانَ عَمَلي مَعَ النِّسَاء والأطفال وَهَذَانِ الصنفان لَا عقل لَهما وَلَا علم وليعلم أَنه مَتى أنيطت شؤون أَيَّة مملكة بِالنسَاء والأطفال فَإِن الْملك سيزول عَن تِلْكَ الأسرة وَيَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شاوروهن وخالفوهن فَلَو كن تامات الْعُقُول لما حض الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْعَمَل يخلاف رأيهن رَأْي النِّسَاء وعلمهن ورد فِي الْأَخْبَار أَنه لما اشتدت وَطْأَة الْمَرَض على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اخر الْعَهْد وَوصل بِهِ الضعْف إِلَى حد أَنه لما حَان وَقت صَلَاة الْفَرْض وَالصَّحَابَة بانتظاره فِي الْمَسْجِد لأدائها جمَاعَة لم تسعفه طاقته على الذّهاب وَكَانَت عَائِشَة وَحَفْصَة رَضِي الله عَنْهُمَا تجلسان انذاك عَن جَانِبي الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَت لَهُ عَائِشَة يَا رَسُول الله هَذَا أَوَان الصَّلَاة وَلَا طَاقَة لَك على الذّهاب إِلَى الْمَسْجِد فَمن تَأمر من الصَّحَابَة بَان يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَ أَبُو بكر فَقَالَت مرّة ثَانِيَة من تندب للصَّلَاة بِالنَّاسِ قَالَ أَبُو بكر فَقَالَت الثَّالِثَة من تَأمر بِأَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَ أَبُو بكر وَانْقَضَت بُرْهَة ثمَّ قَالَت عَائِشَة لحفصة بِصَوْت خفيض لقد قلت ثَلَاث مَرَّات فَقولِي لَهُ أَنْت مرّة وَاحِدَة ان أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبَا بكر رجل رَقِيق الْقلب وَهُوَ يحبك حبا جما فحين يرى مَكَانك فِي الْمِحْرَاب خَالِيا يغلبه الْبكاء وَلَا يَسْتَطِيع أَن يَتَمَالَك نَفسه فَتبْطل الصَّلَاة عَلَيْهِ وعَلى النَّاس لَكِن عمر رجل صلب قوي الْقلب فمره أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا كلمت حَفْصَة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام بِهَذَا النَّحْو قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثلكن مثل يُوسُف وكرسف لن امْر من تريدان بِأَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ بل سامر بِمَا فِيهِ الصَّوَاب وَالصَّلَاح قولا لأبي بكر أَن يتَقَدَّم وَيُصلي بِالنَّاسِ الْجَمَاعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وَمتْن الْخَبَر أنتن صواحبات يُوسُف وكرسف لقد أَمر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف مَا أَرَادَت عَائِشَة على جلالها وَعلمهَا وزهدها وتقواها فَمَا ظَنك بِرَأْي النِّسَاء الأخريات وعلمهن قصَّة يُوسُف وكرسف يُقَال كَانَ على عهد بني إِسْرَائِيل مَا ينص على أَن كل من عصم نَفسه عَن ارْتِكَاب الْكَبَائِر أَرْبَعِينَ سنة وَصَامَ وَأدّى الصَّلَوَات فِي أَوْقَاتهَا وَلم يؤذ أحدا تقضى لَهُ من لدن الله عز وَجل ثَلَاث حاجات يُجَاب فِيهَا لأي شَيْء يَطْلُبهُ وَكَانَ فِي ذَلِك الْعَهْد رجل تَقِيّ خير من بني إِسْرَائِيل اسْمه يُوسُف وَكَانَت لَهُ زوج مثله تقية مستورة اسْمهَا كُرْسُف فكر يُوسُف هَذَا الَّذِي سلخ أَرْبَعِينَ سنة من عمره على وتيرة وَاحِدَة فِي طَاعَة الله وعبادته وَقَالَ فِي نَفسه مرّة والان مَا الشَّيْء الَّذِي أسأله الله عز وَجل عَليّ أَن أتدبر الْأَمر مَعَ شخص اخر ليَكُون مَا أطلبه على أحسن مَا يرام وأجال فكره غير أَنه لم يهتد إِلَى الشَّخْص الْمُنَاسب وَلما دخل بَيته وَوَقعت عَيناهُ على زوجه قَالَ فِي نَفسه لَيْسَ أحب إِلَيّ فِي الدُّنْيَا كلهَا من زَوجي فَهِيَ نصفي الاخر وَأم أَوْلَادِي خيري خَيرهَا وَهِي أحب لي من الْخلق جَمِيعًا إِنَّه لصواب أَن أفضي إِلَيْهَا بِالْأَمر لنتدبره مَعًا ثمَّ قَالَ لامراته اعلمي أنني سلخت أَرْبَعِينَ سنة من عمري فِي الطَّاعَة تقضى لي بهَا أَي ثَلَاث حاجات أطلبها وَلَيْسَ فِي الْعَالم أجمع من هُوَ أحب خيرا لي مِنْك فَمَاذَا تَقُولِينَ مَاذَا أطلب إِلَى الله عز وَجل قَالَت الْمَرْأَة إِنَّك تعلم بِأَن لَيْسَ لي فِي هَذِه الْحَيَاة سواك وانك قُرَّة عَيْني ان النِّسَاء نزهة الرِّجَال ومغناهم فلكي ينشرح قَلْبك لرؤيتي دَائِما وتعيش سعيدا معي اسْأَل الله تَعَالَى أَن يهبني أَن زَوجك جمالا لم يَهبهُ أَيَّة امْرَأَة أُخْرَى حَتَّى إِذا مَا رَأَيْتنِي كلما دخلت عَليّ بِذَاكَ الْحسن وَالْجمال يغتبط قَلْبك ونعيش سعداء مرحين مَا حيينا وأعجب الرجل كَلَام امْرَأَته فَدَعَا الله وَقَالَ يَا رب هَب امْرَأَتي هَذِه حسنا وجمالا لما تهبه امْرَأَة غَيرهَا فَاسْتَجَاب الله تَعَالَى دُعَاء يُوسُف وأصبحت امْرَأَته فِي الْيَوْم التَّالِي غير تِلْكَ الَّتِي باتت لَيْلَة امس إِذْ غَدَتْ بضورة لم ير النَّاس لَهَا مثيلا قطّ لما راها يُوسُف على هَذِه الصُّورَة من الْجمال أَصَابَهُ ذُهُول وحيرة وَكَاد يخرج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 جلده فَرحا وَأخذت الْمَرْأَة تزداد جمالا وحسنا يَوْمًا بعد يَوْم لقد بلغ حسنها فِي أُسْبُوع وَاحِد حدا بهرت فِيهِ الناظرين إِذْ لم يسْتَطع أَي نَاظر إِلَيْهَا أَن يديم فِيهَا النّظر لقد كَانَت أحسن ألف مرّة من الشَّمْس وَالْقَمَر وأجمل من الْحور والملائك وألطف وشاع خبر جمَالهَا فِي الْعَالم فَأخذت النِّسَاء تفد من المدن والأرياف والأماكن النائية لرؤيتها وتتناقل أَخْبَارهَا بتعجب شَدِيد وَذَات يَوْم نظرت الْمَرْأَة إِلَى نَفسهَا فِي المراة وَرَأَتْ مَا هِيَ عَلَيْهِ من جمال تَامّ وراحت تسرح النّظر فِي تَصْوِير وَجههَا وشعرها وشفتيها واسنانها وعينيها وحاجبيها فانتابها عجب وكبرياء وطغت عَلَيْهَا نوبَة من غرور وَقَالَت أَنى بمثلي الْيَوْم فِي الْعَالم كُله وَمن ذَا الَّذِي لَهُ مَا لي من حسن وجمال مَاذَا ينقصني حَتَّى أكون لهَذَا الرجل الَّذِي لَا يَأْكُل سوى خبز الشّعير حَتَّى هَذَا الْخبز لَا يشْبع مِنْهُ شبعا كَامِلا وَالَّذِي لَا يلوي من نعم الدُّنْيَا على شَيْء بل يقْضِي الْعُمر فِي شغف وضنك إِنَّنِي بملوك الأَرْض وأكاسرتها أليق فهم سيأخذونني مزينة بِالذَّهَب إِذا مَا رأوني ودب الهوس فِي نفس الْمَرْأَة وَأخذت تلعب برأسها التمنيات فشرعت فِي العناد والعصيان واللجاجة والمشاجرة والنزاع وَسقط الْكَلَام وبذيئه وَسُوء التَّصَرُّف وشرعت تردد على مسامع زَوجهَا فِي كل ان أَنى لي أَن أكون لَك وَأَنت لَا تَجِد مَا يشبعك من خبز الشّعير لقد كَانَ لَهَا من يُوسُف ثَلَاثَة أَو اربعة أَطْفَال عزفت عَن الاعتناء بهم وانصرفت عَن غسلهم وإطعامهم وتنويمهم وَوصل عدم التوافق والتفاهم بَينهمَا حدا خيم فِيهِ الضجر والملل على يُوسُف وأضحى حيران عَاجِزا جدا لَا حول لَهُ وَلَا قُوَّة لكنه اتجه صوب السَّمَاء وَقَالَ يَا رب صير هَذِه الْمَرْأَة دبة فَاسْتَجَاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ وصيرها دبة فِي الْحَال نكالا بهَا وَلم يعد لَهَا من شغل يومي وَالْمَاء يسيل من عينيها سوى الطّواف حول الْبَيْت وَعدم الأبتعاد عَنهُ أما يُوسُف فقد أضنته تربية الْأَطْفَال الصغار والعناية بهم وغسلهم وإطعامهم وتنويمهم وتخلف فِي طَاعَة الله عز وَجل وعبادته إِيَّاه فَلم يعد يُؤَدِّي حَتَّى الصَّلَاة فِي أَوْقَاتهَا وأعيته الْحِيلَة وَالْعجز فاتجه إِلَى السَّمَاء مُضْطَرّا وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ يَا رب أعد هَذِه الدبة امراة كَمَا كَانَت وألهمها الْهِدَايَة بِأَن تعتني بتربية هَؤُلَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الْأَطْفَال الصغار وتهتم بهم كَمَا كَانَت عَلَيْهِ من قبل لكَي يتسنى لي أَن أتفرغ لعبادتك رَبِّي الْكَرِيم من جَدِيد وَفِي الْحَال أُعِيدَت الدبة امْرَأَة كَمَا كَانَت فَانْصَرَفت إِلَى الإهتمام بأطفالها والاعتناء بهم وَلم تتذكر هَذِه الْحَال قطّ وخيل إِلَيْهَا أَن مَا حدث لم يكن سوى رُؤْيا رأتها فِي منامها أما عبَادَة يُوسُف أَرْبَعِينَ سنة فَذَهَبت هباء منثورا وحبطت بهوى الْمَرْأَة وتدبيرها وغدت هَذِه الْحِكَايَة مثلا فِي الْعَالم لِئَلَّا يُطِيع أحد أمرا لامْرَأَة بعد رَأْي لِلْمَأْمُونِ فِي الْمَوْضُوع قَالَ الْخَلِيفَة الْمَأْمُون يَوْمًا لَا كَانَ ملكا من يَأْذَن للنِّسَاء فِي أَن تَتَحَدَّث مَعَه فِي ششؤون المملكة والجيش والخزانة والسياسة والتدخل فِيهَا أَو أَن يحمين أحدا فَإِذا مَا أتيح لَهُنَّ المجال وأصغى الْملك إلَيْهِنَّ فرقى شخصا وعاقب اخر وَولى رجلا عملا وعزل اخر فَلَا مندوحة من أَن ينهال النَّاس على بابهن مرّة وَاحِدَة ويرفعوا إلَيْهِنَّ حاجاتهم ومطالبهم لِإِمْكَان قَضَائهَا وتلبيتها لديهن بِسُرْعَة فحين يرين رَغْبَة النَّاس فِيهِنَّ ويشاهدن جموعا من الْجَيْش والرعية فِي الْقصر يندفعن فِي تَحْقِيق الْأَمَانِي الْبَاطِلَة ويتعهدن تدبر الْأَهْوَاء الْفَاسِدَة فيجد الأشرار وذوو الْمذَاهب الخبيثة طريقهم إلَيْهِنَّ بِسُرْعَة بِحَيْثُ لَا يطول الأمد على زَوَال حُرْمَة الْملك وجلاله وعَلى اندثار رونق البلاط والديوان وحرمتهما فيتلاشى قدر الْملك وعظمته وَحِينَئِذٍ ينهال عَلَيْهِ اللوم من الْأَطْرَاف وتضطرب أُمُور المملكة ويفقد الْوَزير سيطرته وهيبته وينال الْجَيْش فِي كرامته فَمَا الْحِيلَة إِذن للنجاة من هَذَا الْغم كُله على الْملك أَن ينحو مَا تعارف عَلَيْهِ النَّاس وَمَا سلكه الْمُلُوك الْعِظَام أولو الرَّأْي السديد من قبل فَالله عز وَجل يَقُول {الرِّجَال قوامون على النِّسَاء} فَلَو كَانَت لَهُنَّ الْقُدْرَة على الْقيام بشؤون أَنْفسهنَّ لما وكل الله أمرهن إِلَى الرِّجَال ان كل من يَجْعَل النِّسَاء قيمات على الرِّجَال فسيتحمل وَحده جرم أَي خطأ وانحراف لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سمح بذلك وتخطى الْعَادة المتبعة أَقْوَال أُخْرَى فِي الْمَوْضُوع قَالَ كيخسرو من أَرَادَ من الْمُلُوك إبْقَاء الْملك فِي أسرته وصيانة مَمْلَكَته من الدمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 والخراب والحفاظ على حرمته وعظمته من الإندثار من على وَجه الْمَعْمُور فَعَلَيهِ أَلا يفسح المجال لنسائه أَو يسمح لَهُنَّ بالتدخل فِي شؤون غير من هم تَحت إشرافهن وخدمهن وَألا يصدرن أمرا لغير وكلائهن وعمالهن ومتولي إقطاعاتهن فَبِهَذَا يحافظ على الْعَادة الْقَدِيمَة ويريح فكره مِمَّا قد ينتابه وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ كَلَام النِّسَاء عَورَة مِثْلهنَّ فَكَمَا يَنْبَغِي أَلا يظهرن على الْمَلأ يجب أَلا يذاع حديثهن فِي الْمَلأ أَيْضا هَذَا الْقدر الَّذِي ذكرت فِي الْمَوْضُوع كَاف وسيتجلى بوضوح فِي موارد كَثِيرَة أُخْرَى فَيعرف حِينَئِذٍ أَن السداد والنفع فِيمَا قلت فِي المرؤوسين خلق الله عز وَجل الْملك لتَكون لَهُ الْقُدْرَة والرفعة وَالْعَظَمَة على سَائِر النَّاس وليكون الْخلق تَحت امرته ورعايته يُؤمن لَهُم سبل عيشهم ويقودهم إِلَى مَا فِيهِ رفعتهم وعظمتهم على الْملك أَن يصرف الْخلق ويجعلهم فِي وضع يعْرفُونَ فِيهِ حُدُود أنفسهم وأقدارهم دَائِما فَلَا يُمكنهُم من إِلْقَاء حلق الانقياد من اذانهم وشق عَصا الطَّاعَة وَعَلِيهِ أَن يبصرهم بعيوبهم ومحاسنهم بَين الْحِين والحين لِئَلَّا يذهلوا من أنفسهم وَألا يُطِيل لَهُم القياد يَفْعَلُونَ مَا يشاؤون يَنْبَغِي أَن يعرف قدر كل مِنْهُم ومكانته وَأَن يكون على دراية باحواله والتثبت مِنْهَا باستمرار لكَي لَا تزل عَن صِرَاط الطَّاعَة أَقْدَامهم وَحَتَّى يؤدوا مَا يؤمرون بِهِ حسب مِثَال هَذَا مَا قَالَ بزرجمهر بن البختكان لأنوشروان الْعَادِل يَوْمًا ان الْولَايَة للْملك وَالْملك هُوَ الَّذِي يضع زِمَام أُمُور الْولَايَة بيد الْجَيْش لَا بيد الرّعية غير انه لَا حب للولاية فِي نفوس الْجَيْش وَلَيْسَ لَهُم شَفَقَة على أَهلهَا أَو رَحْمَة لَا هم لَهُم سوى جمع الْأَمْوَال وكنزها غير مبالين بدمار الْولَايَة وفقر ناسها واملاقهم وَمَتى كَانَت للجيش الْقُدْرَة على أَن يعيث فِي الْبِلَاد فيعذب وَيقتل ويكبل ويسجن ويغصب ويجبي ويعزل ويولي من يَشَاء فَأَي فرق يبْقى ثمَّة بَين الْملك وَبينهمْ إِن زِمَام كل هَذِه الْأُمُور لم يكن إِلَّا بيد الْمُلُوك لَا بيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الْجَيْش فهم لم يقبلُوا قطّ أَن تكون للجيش مثل هَذِه السلطة وَالْقُدْرَة ان تيجان الذَّهَب وركائب الذَّهَب والسرر وَضرب السِّكَّة لم تكن لغير الْمُلُوك فِي كل الْأَعْصَار ثمَّ قَالَ إِذا مَا اراد الْملك ان يفاخر الْمُلُوك وَيكون لَهُ الْفضل عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فليهذب أخلاقه ويصقلها قَالَ أنوشروان أَنى لي ذَلِك فَقَالَ بزرجمهر خلص نَفسك من الْخِصَال السَّيئَة وَتمسك بِالْحَسَنَة واعمل بهَا قَالَ أنوشروان وَمَا الْخِصَال السَّيئَة قَالَ بزرجمهر الْخِصَال السَّيئَة هِيَ الحقد والحسد والتكبر وَالْغَضَب والشهوة والحرص وَطول الأمل وَبعده واللجاجة وَالْكذب وَالْبخل والخلق السيىء وَالظُّلم والأنانية والتسرع وكفران النِّعْمَة والعقوق والخفة والطيش أما الْخِصَال الحميدة فَهِيَ الْحيَاء وَحسن الْخلق والحلم وَالْعَفو والتواضع والسخاء والصدق وَالصَّبْر وَالشُّكْر وَالرَّحْمَة وَالْعلم وَالْعقل وَالْعدْل ان من يتحلى بالخصال الْحَسَنَة ويطبقها يَسْتَطِيع أَن يسير الْأُمُور جَمِيعهَا دون حَاجَة لأي مستشار أَو مُدبر يرجع إِلَيْهِ فِي من هم تَحت يَده وَفِي شؤون المملكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الْفَصْل الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ فِي عرض أَحْوَال ذَوي الْمذَاهب الخبيثة أَعدَاء الْملك وَالْإِسْلَام وددت أَن اكْتُبْ بضعَة فُصُول فِي خُرُوج الخارجين ليعلم الْعَالم أجمع مدى إشفاقي على هَذِه الدولة وَشدَّة هواي وميلي لملك ال سلجوق خَاصَّة لمولاي خلد الله ملكه وأبنائه وأسرته جنب الله عَهده شَرّ الْحَسَد وَالْعين لم يخل أَي عصر من الخارجين فَلَقَد خَرجُوا فِي كل مَكَان فِي الْعَالم على الْمُلُوك والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام مُنْذُ عهد ادم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَلَيْسَ ثمَّة فرقة أَكثر شؤما وتخريبا وسوءا من هَؤُلَاءِ الْقَوْم لأَنهم يبيتُونَ الشَّرّ لهَذِهِ المملكة من وَرَاء حجاب ويسعون إِلَى إِفْسَاد الدّين كلهم اذان صاغية تنْتَظر نِدَاء الْقيام ضد الدولة وأعين ساهرة تترقب إِشَارَة الْخُرُوج عَلَيْهَا وَإِذا مَا نزلت وَالْعِيَاذ بِاللَّه بِهَذِهِ الدولة الْقَاهِرَة نازلة سَمَاوِيَّة فَإِن هَؤُلَاءِ الْكلاب يظهرون من أوكارهم ومعاقلهم وَيخرجُونَ على دولتنا بِدَعْوَى التَّشَيُّع مستمدين أَكثر قوتهم ومددهم من الرافضة والخرمية وَلنْ يالوا جهدا فِي بَث الشَّرّ وَالْفساد وَالْقَتْل والبدع انهم يدعونَ الْإِسْلَام فِي الظَّاهِر لكِنهمْ ينهجون نهج الْكفَّار فِي الْبَاطِن باطنهم خلاف ظَاهِرهمْ وَقَوْلهمْ عكس عَمَلهم وَلَيْسَ ثمَّة من هُوَ أَلد عَدَاوَة لدين مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام أَو أَكثر شؤما وويلا على ملك مَوْلَانَا مِنْهُم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وَفِي الدولة الْيَوْم مِمَّن يتسنمون المقامات الرفيعة وَلَهُم فِيهَا الة من يطلون برؤوسهم من أقبية الشِّيعَة وَلَيْسوا ممنهم بل هم فِي حَقِيقَة أَمرهم من هَؤُلَاءِ الْقَوْم الإسماعلية يدبرون شؤونهم سرا ويدعمونهم وَيدعونَ لَهُم فِي حِين أَنهم يغرون سيد الدُّنْيَا ويخدعونه بِأَنَّهُم يعْملُونَ على الإطاحة بخلافة العباسيين ان أكشف عَن الْقدر غطاءها تبن فضائحهم واعمالهم الشائنة للعيان لكنني بِمَا تظاهروا بِهِ لمولاي خلد الله ملكه وَزَعَمُوا حَتَّى ملني لَا أخوض فِي هَذَا الْمَوْضُوع هَذَا سَبَب وَسبب اخر هُوَ كَثْرَة التوفيرات الَّتِي يتظاهرون بهَا حَتَّى جعلُوا مولَايَ حَرِيصًا على المَال يتكالب عَلَيْهِ وأظهروني صَاحب غَرَض ومارب إِن نصيحتي فِي هَذِه الْحَال لَا تلقى قبولا وَلَا تجدي فتيلا سيتضح للْملك فِي الْيَوْم الَّذِي أتنحى فِيهِ جانبا فسادهم ومكرهم وَسُوء فعلهم وَسَيعْلَمُ أَيْضا مدى مَا كَانَ لي من شَفَقَة وَهوى وميل فِي دولته الْقَاهِرَة وانني لم أكن بغافل عَن أَحْوَال هَذِه الطَّائِفَة وَمَا كَانَ يَدُور فِي خلدها بل لقد كنت اعرضها على الأعتاب السامية دَائِما وَلم أتركها تفوته وتخفى عَلَيْهِ لكنني لما رَأَيْت أَن أقوالي لم تكن تلقى لَدَيْهِ قبولا وَلم يصدقها عزفت عَن تكريرها لكنني أدرجت فِي خُرُوج هَؤُلَاءِ الْقَوْم خَاصَّة بَابا موجزا فِي كتاب السّير هَذَا يشْتَمل على أهم مَا يتَعَلَّق بهم من مثل من هم الباطنية وَمَا مَذْهَبهم واعتقادهم أَيْن ظَهَرُوا بادىء ذِي بَدْء كم مرّة خَرجُوا وعَلى يَد منم قهروا وهزموا فِي كل مرّة فَمَا هَذَا إِلَّا تذكرة لأرباب الْملك وحماة الدّين لقد خرج هَؤُلَاءِ الْقَوْم الملاعين فِي أَرض الشَّام واليمن والأندلس وعاثوا فِيهَا قتلا لكنني لن أتطرق إِلَّا إِلَى مَا كَانَ من أَمرهم فِي ديار الْعَجم على سَبِيل الِاخْتِصَار وَمن يَشَأْ أَن يقف على جَمِيع احوالهم وعَلى الْمَفَاسِد الَّتِي ابتدعوها فِي الْملك وَدين مُحَمَّد الْمُصْطَفى عَلَيْهِ السَّلَام فليقرأ كتب التَّارِيخ عَن بكرَة أَبِيهَا خَاصَّة تَارِيخ أصفهان سأذكر جُزْءا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 من مائَة فَقَط مِمَّا فَعَلُوهُ فِي أَرض الْعَجم الَّتِي تشكل الْيَوْم الْقسم الرئيس من ملك مَوْلَانَا مولى الْعَالم ليَكُون على علم بأمرهم من بدايته إِلَى نهايته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الْفَصْل الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ فِي خُرُوج مزدك وماهية مذهبَة وَكَيْفِيَّة قَضَاء أنوشروان الْعَادِل عَلَيْهِ وعَلى أَتْبَاعه أول من جَاءَ بِمذهب المعطلة فِي الْعَالم كُله رجل ظهر على أَرض الْعَجم فِي عهد الْملك قباذ بن فَيْرُوز لقبه موبذ المبذين واسْمه مزدك بن بامدادان وَقد عزم أنوشروان الْعَادِل على ان يردم مَذْهَب الْمَجُوسِيَّة على رُؤُوس أَصْحَابه وَيَقْضِي عَلَيْهِ ثمَّ ينشر مذهبا جَدِيدا فِي الْعَالم كَانَ سَبَب ظُهُور مزدك انه كَانَ ذَا معرفَة حيدة بِعلم النُّجُوم فقد كَانَ يسْتَدلّ من مسيرها بَان شخصا سَيظْهر فِي هَذَا الزَّمَان بدين يبطل الدّين الزرادشتي واليهودي والمسيحي وَعبادَة الْأَوْثَان ويفرضه على رِقَاب النَّاس بالمعجزات وَالْقُوَّة ويظل قَائِما إِلَى يَوْم الدّين فَوَقع فِي روعه أَنه الْمَقْصُود بِهَذَا وَلَا أحد سواهُ وَشرع مزدك يفكر فِي الطَّرِيقَة الَّتِي يَدْعُو بهَا النَّاس ويبحث عَن سبل جَدِيدَة لذَلِك لقد تَأمل الْأَمر من جَمِيع جوانبه فَوجدَ أَن لَهُ فِي مجْلِس الْملك حُرْمَة واحتراما تامين وانه مسموع الْكَلِمَة لَدَى كل رجالات الدولة وزعمائها وَأَن لَهُ منزلَة رفيعة جدا وَأَنَّهُمْ لم يسمعوا مِنْهُ شَيْئا محالا قطّ قبل أَن يَدعِي النُّبُوَّة وَبعد أَن تدبر مزدك هَذَا أَمر خدمه بَان يشرعوا بِحَفر نفق يبْدَأ من نقطة مَا إِلَى أَن يَنْتَهِي تدريجيا بِبَيْت النَّار على أَن ينفذ الشق من وسط النَّار نَفسهَا بذا أوجد ثقبا صَغِيرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ينفذ من خلال المعبد عِنْد الْمَكَان الَّذِي كَانَت تشعل مِنْهُ النَّار تَمامًا وَلما فرغ من إنْشَاء النفق ادّعى النُّبُوَّة وَقَالَ إِنَّمَا بعثت لأبعث دين زرادشت من جَدِيد فقد نسي النَّاس معنى الزند والأوستا وهم لَا ينفذون أوَامِر الله كَمَا أَتَى بهَا زرادشت شَأْنهمْ فِي هَذَا شَأْن طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل أقلعوا عَمَّا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من أوَامِر الله عز وَجل ونواهيه فِي التَّوْرَاة فَأرْسل الله عز وَجل نَبيا بِحكم التَّوْرَاة أَيْضا ليزيل الْخلاف بَين بني إِسْرَائِيل وَيُعِيد حكم التَّوْرَاة من جَدِيد وَيهْدِي الخق إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم والان أَرْسلنِي الله تَعَالَى لأبعث الدّين الزرداشتي وأهدي النَّاس إِلَى سَبِيل الْحق وَالصَّوَاب وتناهى كَلَام مزدك هَذَا إِلَى سمع الْملك قباذ وَفِي الْيَوْم التَّالِي استدعى قباذ الموبذين والأعيان وَجلسَ للمظالم ثمَّ استدعى مزدك وَقَالَ لَهُ على رُؤُوس الأشهاد أَأَنْت تَدعِي النُّبُوَّة قَالَ أجل وَقد بعثت لتقويم الدّين الَّذِي جَاءَ بِهِ زرادشت بعد أَن أفْسدهُ مخالفونا وأدخلوا فِيهِ الشُّبُهَات ولأوضح مَعَاني الزند والأوستا الَّتِي تخبط النَّاس فِي فهمها وإدراكها فَقَالَ قباذ وَمَا معجزتك قَالَ مزدك معجزتي انني أنطق النَّار الَّتِي هُوَ قبلتك ومحرابك وأسال الله عز وَجل أَن يَأْمر النَّار لتشهد على نبوتي بِنَحْوِ يسمعهُ الْملك وكل من مَعَه فَقَالَ الْملك يَا عُظَمَاء إيران وموابذتها مَا تَقولُونَ بِمَا يَقُول مزدك قَالُوا إِنَّه يَدْعُونَا أَولا إِلَى ديننَا وَكِتَابنَا وَهُوَ لَا يُخَالف تزرادشت فِي هَذَا ثمَّ ان فِي الزند والأوستا أقوالا لكل مِنْهَا عشرَة معَان وَلكُل موبذ وَحَكِيم فِيهَا رَأْي وَتَفْسِير خَاص لَكِن قد يَأْتِي مزدك بتفاسير أحسن وعبارات ابين وَأفضل أما مَا يَدعِيهِ من أَنه ينْطق النَّار الَّتِي تعبد فشيء عَجِيب حَقًا وَلَيْسَ فِي طَاقَة ادمي والرأي مَا يرَاهُ الْملك فَقَالَ قباذ لمزدك ان تنطق النَّار أشهد لَك بِالنُّبُوَّةِ قَالَ مزدك ليضْرب الْملك موعدا يَأْتِي فِيهِ وَمَعَهُ العظماء والموبذون إِلَى المعبد ليرى أَن الله عز وَجل ينْطق النَّار بدعائي وَإِن يشا فليأت الْيَوْم وَفِي هَذِه السَّاعَة قَالَ قباذ موعدنا جَمِيعًا المعبد غَدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وَفِي الْيَوْم التَّالِي أرسل مزدك أحد غلمانه إِلَى الثقب وَقَالَ لَهُ عَلَيْك كلما سمعتني أَدْعُو الله بِصَوْت عَال أَن تتقدم وتقف تَحت الثقب وَتقول ان صَلَاح عباد الله بِأَرْض إيران بِمَا يَقُول مزدك فَفِيهِ سعادتهم فِي الدُّنْيَا والاخرة وَجَاء الْملك والموبذون إِلَى المعبد وَنُودِيَ على مزدك فَتقدم ووقف إِلَى جَانب النَّار ودعا الله بِصَوْت عَال وَعظم زرادشت ثمَّ سكت وَإِذا صَوت ينبعث من خلال النَّار بِالْجُمْلَةِ الَّتِي ذكرنَا لما سمع الْملك وَمن مَعَه ذَلِك تملكهم الْعجب ووطن قباذ نَفسه على الْإِيمَان بمزدك ثمَّ تركُوا المعبد واخذ قباذ بعد ذَلِك يقرب إِلَيْهِ مزدك أَكثر فَأكْثر يَوْمًا بعد يَوْم إِلَى أَن امن بِهِ فِي النِّهَايَة ثمَّ أَمر بصنع كرْسِي ذهبي مرصع بالجواهر لَهُ يوضع على سَده قاعة الْعَرْش فَكَانَ الْملك يجلس على سَرِير ملكه ومزدك على كرسيه فيبدو أَكثر ارتفاعا من الْملك وَشرع النَّاس يدْخلُونَ فِي مَذْهَب مزدك بَعضهم دخله عَن رَغْبَة ورضى وَبَعْضهمْ دخله إرضاء للْملك وَقسم أموا العاصمة من الولايات والأطراف ودخلوا فِي مَذْهَب مزدك سرا وَعَلَانِيَة غير ان أَكثر العظماء والرعية والجيش لم يَرْغَبُوا فِي مَذْهَب مزدك لكِنهمْ لم يجرؤوا على قَول شَيْء احتراما للْملك أما الموبذون فَلم يعتنق أحد مِنْهُم مَذْهَب مزدك وَقَالُوا لننتظر مَا سيطلع علينا بِهِ مزدك منم الزند والأوستا لما رأى مزدك أَن الْملك دخل فِي مذْهبه وَأَن النَّاس من بعيد وَقَرِيب قبلوا دَعوته طرح مَسْأَلَة الْأَمْوَال على بِسَاط الْبَحْث وَقَالَ إِن الْأَمْوَال يجب أَن توزع بَين الْخلق فكلهم عباد الله وَأَبْنَاء ادم يجب أَن ينفقوا من أَمْوَال بَعضهم على كل مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يتساوى الْجَمِيع وَحَتَّى لَا يظل ثمَّة معوز مُحْتَاج ولمما اقنع مزدك قباذ وَاتِّبَاع مذْهبه بِهَذَا وَرَضوا بأباحة الْأَمْوَال قَالَ ان نساءكم كأموالكم يجب أَن تعدوا نساءكم مثل أَمْوَالكُم فَكل من يرغب فِي أَيَّة امْرَأَة فليواصلها لَيْسَ فِي ديننَا غيرَة وحمية حَتَّى لَا يظل أحد دون نصيب من لذات الدُّنْيَا وشهواتها وَحَتَّى تفتح أَبْوَاب الامال والأماني على مصاريعها وَزَاد إقبال النَّاس والعامة خَاصَّة على مَذْهَب مزدك رَغْبَة فِي النِّسَاء ثمَّ سنّ مزدك قانونا يقْضِي بانه إِذا مَا استضاف شخص عشْرين رجل فِي بَيته وَأعد لَهُم الطَّعَام وَالْخمر وَيسر لَهُم مجْلِس غناء وطرب وكل مقتضيات الضِّيَافَة فعلى الضيوف ان ينهضوا وَاحِدًا وَاحِد ويواصلوا زوجه دونما عيب أَو حرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وَجَرت الْعَادة أَنه إِذا مَا أَرَادَ شخص أَن يدْخل منزلا ليواصل امراة أَن يضع قلنسوته على بَاب الْمنزل ثمَّ يدْخل حَتَّى إِذا مَا جَاءَ اخر للغرض نَفسه وَرَأى القلنسوة على الْبَاب يرجع أدراجه لِأَنَّهُ يدْرك أَن ثمَّة شخصا فِي شغل وَأرْسل أنوشروان رَسُولا إِلَى الموبذين سرا وَقَالَ لماذا هَذَا الصمت المطبق وَلم لَا تتكلمون شَيْئا فِي امْر مزدك وتنصحون وَالِدي فَأَي ممحال هَذَا الَّذِي ألزم بِهِ نَفسه حَتَّى صَار فريسة مكر هَذَا الوبش الطرار وغدره لقد بدد هَذَا الْكَلْب مزدك أَمْوَال النَّاس وهتك ستر حرمهم وأعراضهم وهيمن على عوامهم قُولُوا لي بِأَيّ حجَّة يفعل هَذَا وَمن ذَا الذب أمره بِهِ أَن تلوذوا بِالصَّمْتِ أَكثر فَإِنَّكُم تعرضون أَمْوَالكُم للنهب ونساءكم للهتك وملكنا للزوال هبوا جَمِيعًا واذهبوا إِلَى وَالِدي وأطلعوه على حَقِيقَة الْحَال وانصحوه ثمَّ ناظروا مزدك وانعموا النّظر فِيمَا يُورد من حجج ثمَّ بعث أَيْضا برسائل إِلَى عُظَمَاء الرِّجَال ومشهوريهم سرا تَقول لقد غلب على وَالِدي هوس فَاسد فأخل عقله حَتَّى أضحى لَا يُمَيّز مَا يَنْفَعهُ مِمَّا يضرّهُ لتسعوا جادين فِي معالجته وتقويمه ولتحذروا الإصغاء إِلَى كَلَام مزدك وَالْعَمَل بِمَا يَقُول وَلَا تنخدعوا مِثْلَمَا انخدع أبي ان هَذَا لباطل وَالْبَاطِل لَا أساس لَهُ وَلَا نفع لكم فِيهِ غَدا خشِي العظماء كَلَام أنوشروان وتهديده وتراجع لَهُ بعض من كَانُوا ينوون الدُّخُول فِي مَذْهَب مزدك وَقَالُوا لنَنْظُر إلام يصير أَمر مزدك أَنى لأنوشروان هَذَا الْكَلَام وَكَانَ عمر أنوشروان فِي هَذَا الْوَقْت ثَمَانِيَة عشر عَاما وَاتفقَ الموبذون فِيمَا بيهم وذهبوا إِلَى قباذ وَقَالُوا لَهُ اننا لم نَقْرَأ مُنْذُ عهد ادم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الان فِي أَي تَارِيخ من التواريخ وَلم نسْمع عَن أَي نَبِي مِمَّن ظَهَرُوا فِي بِلَاد الشَّام بِمثل هَذَا الَّذِي يَدعِي مزدك يَبْدُو أَنه مُنكر قَالَ قباذ خاطبوا مزدك فِي الْمَوْضُوع لنرى مِمَّا يَقُول فاستدعى الموبذون مزدك وَقَالُوا لَهُ مَا حجتك على مَا تدعيه قَالَ كَذَا أَمر زرادشت وَجَاء فِي الزند والأوستا غير أَن النَّاس لَا يعونه فَإِن كُنْتُم فِي ريب من امري فاسألوا النَّار وذهبوا إِلَى النَّار مرّة أُخْرَى وسألوها فنبعث من خلالها صَوت يَقُول الْأَمر على مَا يَقُول مزدك لَا على مَا تَقولُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أَنْتُم واعترى الموبذين الخجل مرّة أُخْرَى وعادوا أدراجهم وَفِي الْيَوْم التَّالِي قابلوا أنوشروان وشرحوا لَهُ فَقَالَ ان مزدك يلاقي نجاحا لِأَن مذْهبه هُوَ مَذْهَب الْمَجُوس عينه إِلَّا فِي أَمريْن وَبعد سنة على هَذَا الْكَلَام سَأَلَ قباذ مزدك فِي خلال حَدِيث جرى بَينهمَا فَقَالَ أَدخل النَّاس فِي هَذَا الْمَذْهَب راغبين فِيهِ قَالَ مزدك لَو قبل أنوشروان هَذَا الْمَذْهَب وَلم يتمرد عَلَيْهِ ويمنهم من دُخُوله لدخلوا فِي دفْعَة وَاحِدَة قَالَ قباذ أَو لَيْسَ هُوَ على هَذَا الْمَذْهَب قَالَ مزدك لَا قَالَ قباذ إِلَيّ بأنوشروان وَجِيء يانوشروان فَلَمَّا رَاه قباذ قَالَ لَهُ أَلَسْت على مَذْهَب مزدك قَالَ أنوشروان كلا وَالْحَمْد لله قَالَ قباذ لماذا قَالَ أنوشروان لِأَنَّهُ طرار محتال قَالَ قباذ أَي محتال ينْطق النَّار قَالَ أنوشروان ثمَّة أَرْبَعَة أَشْيَاء مضادة لَا لون لَهَا المَاء وَالنَّار وَالتُّرَاب والهواء قل لَهُ أَن ينْطق المَاء وَالتُّرَاب والهواء مِثْلَمَا أنطق النَّار لآؤمن بِهِ قَالَ قباذ إِن كل مَا يَقُوله مزدك من تَفْسِير الزند والأوستا قَالَ أنوشروان إِن الَّذِي جَاءَ بالزند والأوستا لم يدع إِلَى إِبَاحَة الْأَمْوَال وَالنِّسَاء وَلم يقل بتفسيره أحد من الْحُكَمَاء فِي السنوات المنصرمة كلهَا مَا الدّين إِلَّا لصيانه الْأَمْوَال وَالنِّسَاء فَإِذا أبيحا فَأَي فرق يبْقى ثمَّة بَين الْإِنْسَان وَالْحَيَوَان ان الْبَهَائِم هُوَ الَّتِي تتساوى فِي الرَّعْي والضراب لَا النَّاس الْعُقَلَاء قَالَ قباذ ليكن وَلَكِن كَيفَ تخالفني وَأَنا أَبوك قَالَ أنوشروان لقد تعلمت هَذَا مِنْك وَإِلَّا فَلم تكن هَذِه عادتي من قبل خالفتك بعد أَن رَأَيْتُك خَالَفت والدك أعرض عَن هَذَا لأعرض أَنا عَنهُ أَيْضا وانْتهى الْجِدَال بَين الثَّلَاثَة بِأَن قَالَ قباذ ومزدك لأنوشروان ببساطة هَات دَلِيلا ترد فِيهِ هَذَا الْمَذْهَب وَتبطل دَعْوَى مزدك أَو أيت بِمن حجَّته أقوى من حجَّة مزدك واصح وَإِلَّا ستننال جزاءك لتَكون فِيك عِبْرَة للاخرين قَالَ أنوشروان امهلاني أَرْبَعِينَ يَوْمًا أقدم بعْدهَا حجتي أَو اتي بشخص يتَصَدَّى لجواب مزدك قَالَا لَك هَذَا وَتَفَرَّقُوا على هَذَا الأساس لما عَاد أنوشروان من عِنْد أَبِيه أرسل فِي الْيَوْم ذَاته رَسُولا إِلَى مَدِينَة جول فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فَارس برسالة إِلَى موبذ حَكِيم طَاعن فِي السن كَانَ يقطن تِلْكَ الْمَدِينَة تَقول احضر بأقصى سرعَة فقد جرى بيني وَبَين الْملك ومزدك كَذَا وَكَذَا وَلما انْقَضتْ الْأَرْبَعُونَ يَوْمًا جلس قباذ للنَّاس واعتلى سَرِير الْملك وَجَاء مزدك فَمضى إِلَى سدة الْعَرْش وَجلسَ على كرسيه وَأمر الْملك بإحضار أنوشروان ثمَّ قَالَ مزدك لقباذ سَله عَمَّا أَتَى بِهِ إِلَيْنَا من جَوَاب قَالَ قباذ بِمَ أتيت ادل بِهِ قَالَ أنوشروان مَا أَزَال بصدد هَذَا قَالَ مزدك لات حِين تَدْبِير مر بمعاقبته ووجم قباذ أما مزدك فَأَشَارَ باخذ أنوشروان وَلما اقبل من أمروا باخذه نَحوه ضرب بِيَدِهِ على زَاوِيَة الإيوان وَقَالَ لِأَبِيهِ يَا لَهَا من عجلة هَذِه الَّتِي استحوذت عَلَيْك فِي الْقُضَاة على أسرتك بِنَفْسِك ان الْأَجَل الْمَضْرُوب بَيْننَا لم ينْتَه بعد قَالَ وَكَيف قَالَ أنوشروان لقد سألتكما أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَامِلَة فِيهَا هَذَا الْيَوْم فحين يَنْقَضِي تستطيعان أَن تفعلا مَا يحلو لَكمَا وَصَاح قادة الْجَيْش والموبذون قائلين حق مَا يَقُول لقد اتفقتم على أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا تسع وَثَلَاثِينَ يَوْمًا قَالَ قباذ خلوا عَنهُ الْيَوْم وَرفعت الْأَيْدِي عَن أنوشروان فنجا من براثن مزدك وَلما ترك قباذ الْمجْلس وتفرق الْحُضُور وَعَاد مزدك وَمضى أنوشروان إِلَى بَيته وصل الموبذ الَّذِي أرسل أنوشروان فِي طلبه من فَارس على بعير جماز وَقد كَانَ يسْأَل النَّاس إِلَى أَن اهْتَدَى إِلَى منزل أنوشروان وَنزل عَن بعيره فَدخل الْمنزل مسرعا ثمَّ أسر إِلَى أحد الخدم اذْهَبْ وَقل لأنوشروان لقد وصل موبذ فَارس وَهُوَ يُرِيد أَن يراك فَدخل الْخَادِم مسرعا وَأخْبر أنوشروان وَخرج أنوشروان لفرحه من الْحُجْرَة مسرعا وَعَانَقَ الموبذ وَقَالَ اعْلَم أَيهَا الموبذ انني نجوت الْيَوْم من قَبْضَة الْمَوْت ثمَّ قصّ عَلَيْهِ كل مَا جرى فَقَالَ الموبذ هون عَلَيْك فَالْأَمْر على مَا قلت أَنْت فَأَنت على الْحق ومزدك على الْبَاطِل ساتولى جَوَاب مزدك عَنْك وَاجعَل قباذ ينْدَم على مَا فعل وأعيده إِلَى سَوَاء السَّبِيل لَكِن عَلَيْك أَن تسْعَى الان وتيسر لي باية وَسِيلَة مُقَابلَة الْملك قباذ قبل أَن يعلم مزدك بقدومي قَالَ أنوشروان هَذَا مطلب يسير ساقوم بِمَا يمكنك من مُقَابلَة الْملك وحيدا اللَّيْلَة وَمَعَ صَلَاة الْعَصْر مضى أنوشروان إِلَى قصر أَبِيه وَطلب مُقَابلَته فَلَمَّا رأى أَبَاهُ أثنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 عَلَيْهِ وَقَالَ لقد وصل الموبذ الَّذِي سيتولى إِجَابَة مزدك من فَارس وَقد طلب إِلَيّ أَن ألتمس من الْملك بَان يتفضل وحيدا اللَّيْلَة بالاستماع إِلَى كَلَامه وَالنَّظَر فِي حجَّته ثمَّ يامر بِمَا يرَاهُ مناسبا فَقَالَ قباذ حسن جدا أحضرهُ وَعَاد أنوشروان وَلما جن اللَّيْل مضى بالموبذ إِلَى الْملك فَحَيَّا الموبذ قباذ وأطراه وَأثْنى على ابائه الصَّيْد وَقَالَ لَهُ لقد غلط مزدك فنبوته كاذبه وادعاؤه بَاطِل قَالَ الْملك كَيفَ قَالَ الموبذ إِنَّنِي أعرفهُ جيدا مدى علمه انه على معرفَة بِشَيْء من علم النُّجُوم لكنه أَخطَأ فِي تَقْدِيره لأحكامها وتنبؤه بهَا ان الافتران الحالي ينبىء بانه سَيظْهر رجل يَدعِي النُّبُوَّة وَيَأْتِي بِكِتَاب ومعجزات غَرِيبَة ويشق الْقَمَر نِصْفَيْنِ وَيَدْعُو النَّاس إِلَى عبَادَة الله وَيَجِيء بدين حق طَاهِر وَيبْطل الْمَجُوسِيَّة والمذاهب الْأُخْرَى كَافَّة ويبشر بِالْجنَّةِ ويتوعد بجهنم ويحمي بِحكم الشَّرْع الْأَمْوَال ويصون النِّسَاء ويحصنها ويتبرأ من الشَّيْطَان ويتلقى الْوَحْي من جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَيخرب بيُوت النَّار والأوثان ويبث دينه فِي أرجاء الأَرْض فَيبقى إِلَى يَوْم الدّين وَتشهد السَّمَوَات وَالْأَرْض على نبوته لقد منى مزدك نَفسه بذلك وخيل لَهُ أَنه ذَاك الرجل وَلَا أحد غَيره فِي حِين أَن ذَلِك الرجل أَولا وَقبل كل شئ عَرَبِيّ ومزدك أعجمي وَأَنه يُنْهِي النَّاس عَن عبَادَة النَّار وينكر زرادشت ومزدك يحذو حَذْو زرادشت وَيَدْعُو إِلَى عبَادَة النَّار أَيْضا إِن ذَلِك النَّبِي لَا يُبِيح لأحد حَتَّى النّظر إِلَى حرم الآخرين أَو أَخذ وَلَو ذرة صَغِيرَة من أَمْوَالهم بل يَأْمر بِقطع الْيَد بدرهم فضَّة بِغَيْر حق أما مزدك فقد أَبَاحَ النِّسَاء وَالْأَمْوَال إِن ذَلِك النَّبِي يتلَقَّى الْأَمر من السَّمَاء ويوحى إِلَيْهِ عَن طَرِيق جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أما مزدك فيتحدث بِوَحْي من النَّار كَمَا أَن ذَلِك سَيَأْتِي بِكِتَاب جَدِيد أما مزدك فَلَا يصدر إِلَّا عَن الزند والأوستا وخلاصة الْأَمر أَن مَذْهَب مزدك لَا أساس لَهُ سأفضحه أَمَام الْملك غَدا وَأثبت أَنه على الْبَاطِل وَأَنه لَا يهدف إِلَّا إِلَى إِزَالَة الكسروية عَن أهل بَيْتك وتبديد كنوزك ومساواتك بِأَقَلّ النَّاس شَأْنًا فأعجب قباذ بِكَلَام الموبذ وهش لَهُ قلبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وَفِي الْيَوْم التَّالِي لما جَاءَ قباذ إِلَى الْمجْلس وَجلسَ مزدك على كرسيه ووقف أنوشروان أَمَام سَرِير الْملك وَحضر الموبذون وكبار الْقَوْم قَالَ الموبذ لمزذك أتسأل أَنْت أم أسأَل أَنا قَالَ مزدك أَنا فَقَالَ الموبذ بِمَا أَنَّك سَتَكُون السَّائِل وَأَنا الْمُجيب فتعال إِذن إِلَى مَكَاني هُنَا لأتحول أَنا إِلَى مَكَانك هُنَاكَ فاعترى مزدك الخجل وَقَالَ ان الْملك هُوَ الَّذِي أجلسني هُنَا سلني أجبك قَالَ الموبذ لقد أبحت الْأَمْوَال أوليس يَبْنِي النَّاس القناطر ويقيمون الرَّبْط ويفعلون الْخَيْر ابْتِغَاء الدَّار الْآخِرَة فَأجَاب مزدك أجل قَالَ الموبذ فَإِذا مَا أبيحت الْأَمْوَال فَلِمَنْ يكون ثَوَاب أَفعَال الْخَيْر هَذِه فِي الْآخِرَة وعيي مزدك عَن رد الْجَواب فَقَالَ لَهُ الموبذ لقد أبحت النِّسَاء أَيْضا فَإِذا مَا وطىء عشرُون رجلا امْرَأَة وَاحِدَة وحملت الْمَرْأَة فَلِمَنْ يكون الْوَلِيد وَعجز مزدك عَن الْإِجَابَة أَيْضا فَأرْدف الموبذ لقد جِئْت لتبدد الْأَمْوَال وتقرض النَّسْل مرّة وَاحِدَة ان هَذَا الْملك إِنَّمَا هُوَ ملك يتربع على الْعَرْش لِأَنَّهُ ابْن الْملك فَيْرُوز وَعنهُ ورث الْملك مِثْلَمَا ورث فَيْرُوز نَفسه الْملك عَن أَبِيه أَيْضا فَإِن وطىء زوج الْملك عشرَة مثلا وأنجبت ولدا فَمَاذَا سيقال لَهُ وَابْن من يكون أَلَيْسَ هَذَا استئصال للنسل وَإِذا مَا استؤصل النَّسْل أَفلا يخرج الْملك من هَذِه الأسرة أليست تقاس الرّفْعَة والانحطاط بالغنى والفقر ان يكن الرجل فَقِيرا فَلَا مناص لَهُ لاحتياجه وعوزه من أَن يخْدم الأثرياء وَيقوم على أَمرهم وَهنا يمتاز الْعَظِيم عَمَّا دونه منزله وَإِذا مَا أبيحت الْأَمْوَال فَإِن الرّفْعَة والأنحطاط يمحيان من الْوُجُود فيتساوى أقل النَّاس شَأْنًا بالملوك بل تَنْتفِي الملوكية وَلَقَد جِئْت أَنْت لتبدد الْأَمْوَال وَالْملك عَن بيوتات مُلُوك الْعَجم وَلم يحر مزدك جَوَابا ولاذ بِالصَّمْتِ المطبق فَقَالَ لَهُ قباذ أجبه قَالَ مزدك جَوَابه أَن تَأمر الْآن بِضَرْب عُنُقه قَالَ قباذ لَا يجوز ضرب عنق أَي شخص دون دَلِيل قَالَ مزدك لأسأل النَّار مَا تَقول فإنني لَا أنطق عَن الْهوى أما النَّاس الَّذين كَانُوا فِي أَشد حالات الْحزن والألم على أنوشروان فانقلبوا فرحين مسرورين لنجاته من الْقَتْل وَتغَير قباذ على مزدك وانقلب عَلَيْهِ لِأَن مزدك قَالَ لَهُ اقْتُل الموبذ واقتل أنوشروان فَلم يقتلهما وَأما مزدك ففكر فِي نَفسه ان الْحل الوحيد وَقد كثر اتباعي من الرّعية والجيش أَن اتخلص من قباذ أَولا ثمَّ أقتل أنوشروان وَغَيره نم الْمُخَالفين وَاتَّفَقُوا على أَن يصيروا جَمِيعًا إِلَى المعبد غَدا ليروا مَا تَأمر النَّار ثمَّ انصرفوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وَلما أرْخى اللَّيْل سدوله استدعى مزدك اثْنَيْنِ من أعوانه وَأَتْبَاع مذْهبه وأغدق عَلَيْهِمَا الذَّهَب ونصحهما ووعدهما بِأَنَّهُ سيرفعهما إِلَى مرتبَة القيادة وَأخذ عَلَيْهِمَا قسما بَان لَا يبوحا بِهَذَا الْكَلَام لأحد ثمَّ أعطاهما سيفين وَقَالَ حِين يَجِيء قباذ إِلَى بَيت النَّار غَدا ويخضر العظماء والموبذون فعليكما اذا مَا أمرت النَّار بقتل قباذ أَن تسلا سيفيكما بِسُرْعَة وتقتلاه فَإِن أحدا لن ياتي بِسيف إِلَى المعبد قَالَا سمعا وَطَاعَة وَفِي الْيَوْم التَّالِي ذهب قباذ وَذهب العظماء والموبذون الى بَيت النَّار لَكِن موبذ فَارس قَالَ لأنوشروان مر عشرَة من رجالك بَان يخفوا سيوفهم تَحت البستهم ويأتوا مَعَك الى بَيت النَّار مَخَافَة ان يكون مزدك قد بَيت غدرا ومكرا فنفذ انوشروان هَذَا وَمضى الى المعبد وَكَانَ مزدك كلما اراد الذّهاب الى بَيت النَّار يلقن تِلْمِيذه مَا يَقُول من تَحت الثقب فلقنه مَا يَقُول هَذِه الْمرة ايضا وَمضى الى هُنَاكَ ثمَّ فال لموبذ فَارس سل النَّار لتتحدث اليك وعَلى الرغم من كَثْرَة سُؤال الموبذ النَّار فَإِنَّهَا لم تجبه حِينَئِذٍ خَاطب مزدك النَّار احكمي بَيْننَا واشهدي على صدق دعواي فانبعث من خلال النَّار صَوت يَقُول لقد دب الضعْف الي مذ امس اطعموني اولا من قلب قباذ وكبده لِأَزْدَادَ قُوَّة ثمَّ أَقُول لكم ماينبغي فعله مَا مزدك إِلَّا هاديكم إِلَى الرَّاحَة الأبدية الخالدة فَقَالَ مزدك قووا النَّار واطعموها فشرع ذَانك الرّجلَانِ سيفهما واتجها صوب قباذ فَقَالَ موبذ فَارس لأنوشروان حذار فَتقدم أنوشروان بِرِجَالِهِ الْعشْرَة بسيوفهم المستلة واعترضوا سَبِيل ذَيْنك الرجلَيْن وَلم يمكناهما من ان ينالا قباذ بِالسَّيْفِ فصاح مزدك إِنَّمَا تنطق النَّار بامر الله وانقسم النَّاس فريقين قَالَ أَحدهمَا ألقوا قباذ فِي النَّار حَيا اَوْ مَيتا وَقَالَ الاخر يَنْبَغِي التريث فِي الْأَمر حَتَّى نفكر فِيهِ أَكثر وَأفضل وعادوا فِي نِهَايَة ذَلِك الْيَوْم وَكَانَ قباذ يَقُول لربما أنني اقترفت ذَنبا حَتَّى تُرِيدُ أَن النَّار أَن تتقوى مني انه لأحب إِلَيّ أَن أصطلي بِنَار الدُّنْيَا على أَن أتلظى بِنَار جَهَنَّم وَاجْتمعَ موبذ فَارس بقباذ وحيدا مرّة أُخْرَى وحدثة عَن الْمُلُوك والموبذين القدامى وَأورد إدلة من كل الْمذَاهب وَعرض حجَجًا شَتَّى مؤداها لَيْسَ مزدك بِنَبِي بل خصم الأسرة المالكة وَالدَّلِيل أَنه أَرَادَ أَن يقتل أنوشروان أَولا وَلما لم يحالفه التَّوْفِيق تحول إِلَيْك مَا الَّذِي أَدخل فِي روعك أَن الصَّوْت ينبعث من النَّار أفتكلمت النَّار قبلا حَتَّى تنطق الان سأعمل جهدي لكشف هَذِه الْحِيلَة وَأبين للْملك أَهِي النَّار الَّتِي تَتَكَلَّم أم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 شخص اخر وَهَكَذَا جعل الموبذ الْملك ينْدَم على مَا فعل ثمَّ قَالَ لَهُ أَيْضا لَا تحسبن أنوشروان طفْلا ان باستطاعته أَن يحكم الْعَالم ويسوده فَإِذا مَا أردْت أَن يَدُوم الْملك فِي أسرتك فَلَا تفوت عَلَيْهِ أَي رَأْي يرَاهُ وَإِيَّاك أَن تُفْضِي إِلَى مزدك بمكنونات قَلْبك وأسراره ثمَّ قَالَ الموبذ لأنوشروان يحب أَن تسْعَى إِلَى استمالة أحد خدم مزدك وغلمانه وتغريه بِالْمَالِ فلربما أطْلعنَا على حَقِيقَة أَمر النَّار لنتمكن من اقتلاع جذور الشَّك من قلب أَبِيك دفْعَة وَاحِدَة واستطاع أنوشروان أَن يظفر بشخص تمكن من أَن يصادق أحد خدم مزدك وان يَأْخُذهُ إِلَى أنوشروان بحيلة مَا فَجَلَسَ إِلَيْهِ أنوشروان وحيدا ونثر أَمَامه ألف دِينَار وَقَالَ إِنِّي سَائِلك شَيْئا فَإِن تصدقني الْجَواب أمنحك هَذِه الْألف دِينَار حَالا وأجعلك من مقربي وأبوأك منزلَة رفيعة وَإِلَّا أفصل رَأسك عَن جسدك الان فخاف الرجل وَقَالَ إِن أصدقك القَوْل أتفي بِمَا قلت قَالَ أنوشروان أَفِي بِهِ وَأكْثر قَالَ الرجل أَقُول إِذن قَالَ أنوشروان قل لي مَا الْحِيلَة الَّتِي لَجأ إِلَيْهَا مزدك فِي إنطاقه النَّار قَالَ الرجل أَن أقل الصدْق أفتستطيع أَن تحميني وَتحفظ سري قَالَ أنوشروان أَسْتَطِيع قَالَ الرجل اعْلَم أَن بِالْقربِ من بَيت النَّار قِطْعَة أَرض اشْتَرَاهَا مزدك وأحاطها باربعة جدران عالية وَأقَام من هُنَاكَ نفقا يَمْتَد غلى مَا تَحت النَّار فِي المعبد وأوجد ثقبا صَغِيرا جدا فِي وسط النَّار وَكَانَ يُرْسل تلميذا لَهُ فِي كل مرّة ويلقنه امْضِ إِلَى تَحت النَّار وضع فمك على الثفب وَقل كَذَا وَكَذَا فَكَانَ كل من يسمع ذَلِك يظنّ أَن النَّار هِيَ الَّتِي تَتَكَلَّم لما سمع أنوشروان هَذَا الْكَلَام أَيقَن أَنه صَحِيح فغمرته الفرحة ووهب الرجل الْألف دِينَار وَلما سجى اللَّيْل مضى أنوشروان بِالرجلِ إِلَى أَبِيه ليعيد على مسامعه مَا قَالَ لَهُ فَعجب قباذ جدا لاحتيال مزدك وتجاسره ونفض عَن قلبه الشَّك دفْعَة وَاحِدَة واحضر أنوشروان الموبذ حَالا فَأثْنى عَلَيْهِ قباذ وحياه ثمَّ أطلعاه على حَقِيقَة الْحَال فَقَالَ الموبذ لقد قلت لموَالِي ان هَذَا الرجل محتال قَالَ قباذ لقد اتَّضَح هَذَا لَكِن كَيفَ السَّبِيل إِلَى إهلاكه قَالَ الموبذ يجب أَلا يعلم أَنَّك قد نَدِمت أَو أَنَّك على علم بحيلته ادْع إِلَى اجْتِمَاع اخر أناظره فِيهِ أَمَام من فِي الْمجْلس جَمِيعًا وَأُلْقِي فِي نِهَايَة المطاف ترسي وَأقر بعجزي ثمَّ أَعُود إِلَى فَارس بعد ذَلِك يَنْبَغِي أَن تنفذوا كل مَا يَقُول بِهِ أنوشروان وَيَرَاهُ صَوَابا حَتَّى يتم استئصال هَذِه الطينة الخبيثة ومحوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وَبعد عدَّة أَيَّام أَمر الْملك قباذ بِحُضُور كبار رجال مَمْلَكَته وموبذيها لمساندة موبذ فَارس ومناظرة مزدك وَتَأمل دَعوته مَلِيًّا وَفِي الْيَوْم التَّالِي حضر الْجَمِيع وَجلسَ الْملك على سَرِيره ومزدك على كرسيه وأدلى كل شخص بِمَا عِنْده أما موبذ فَارس فَقَالَ اني لأعجب مت أَمر تكلم النَّار قَالَ مزدك لَا يجوز الْعجب من قدرَة الله وَفعله ألم تَرَ ان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام جعل من عَصَاهُ حَيَّة وفجر من الْحجر اثْنَتَيْ عشرَة عينا وَقَالَ لأغرقن فِرْعَوْن وَجُنُوده فأغرق وسخر الله عز وَجل الأَرْض لَهُ فَقَالَ يَا ارْض ابلعي قَارون فَخسفَ بِهِ الله الأَرْض وألم تَرَ أَن عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ يحيي الْمَوْتَى كل هَذِه الْأُمُور لَيست فِي قدرَة بشر بل هِيَ من قدرَة الله عز وَجل وَهَكَذَا شاني فقد أَرْسلنِي الله وسخر لي النَّار فَإِن تطيعوا مَا أَقُول وَتقول النَّار وتعملوا بِهِ تنجوا فِي الدُّنْيَا والاخرة وَإِن تعصوا فترقبوا عَذَاب الله وهلاكه ونهض موبذ فَارس وَقَالَ انني لَا أقوى على جَوَاب رجل يتلَقَّى كَلَامه مِمَّن لدن الله وَالنَّار وَالنَّار مسخرة بامره وهأنذا ألقِي ترسي أَمَام شخص لم أستطع أَن أفعل مَا فعل بل وقفت أَمَامه عَاجِزا انني ذَاهِب لِأَنَّهُ لَيست لي الجراة على أَكثر من هَذَا وغادر الموبذ فَوْرًا واستلم طَرِيق فَارس وَانْصَرف قباذ من الْمجْلس اما مزدك فَمضى إِلَى المعبد ليقضي سَبْعَة أَيَّام فِي عبَادَة النَّار وَأما النَّاس فعادوا إِلَى مَنَازِلهمْ والفرحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 تغمر معتنقي مَذْهَب مزدك مِنْهُم خَاصَّة فازداد اعْتِقَادهم وَإِيمَانهمْ بِهِ رسوخا واستحكاما وَلما حل الظلام استدعى قباذ أنوشروان وَقَالَ لَهُ لقد ذهب الموبذ وأحالني عَلَيْك لِأَنَّك جدير بِالْقضَاءِ على هَذَا الْمَذْهَب فَمَا الْحِيلَة الان قَالَ أنوشروان ان يعْهَد مولَايَ إِلَيّ بِالْأَمر وَلَا يُفْضِي بِهِ إِلَى أحد سواي فإنني أتعهد بِأَن أتكفل بِهِ سرا بِنَحْوِ تمحي فِيهِ بذور مزدك والمزدكية من على وَجه الأَرْض قَالَ قباذ لن أبوح بِهَذَا السِّرّ لأحد غَيْرك وَلنْ يجاوزنا نَحن الِاثْنَيْنِ فَقَالَ أنوشروان لما أعلن الموبذ عَجزه على الْمَلأ وَعَاد إِلَى فَارس عَمت الفرحة مزدك والمزدكين وقويت قُلُوبهم فَقَالُوا سيتحقق لنا بعد الان كل مَا نفكر فِيهِ ونوطن الْعَزْم عَلَيْهِ ان قتل مزدك سهل جدا وَلَكِن أَتْبَاعه كثر فَإِن نَقْتُلهُ يفر المزدكيون وينتشروا فِي بقاع الأَرْض ويبداوا فِي دَعْوَة النَّاس إِلَى مَذْهَبهم ويستولوا على الْجبَال اسْتِيلَاء محكما فيسببوا لنا ولمملكتنا المتاعب والمشكلات يجب ان نفكر فِي حل لَا ينجو مَعَه من سيوقنا وَاحِد مِنْهُم بل نهلكهم جَمِيعًا ونبدد شملهم فَقَالَ قباذ مَا الطَّرِيقَة الأفصل فِي نظرك قَالَ أنوشروان مَا أرَاهُ هُوَ أَن يرفع الْملك من منزلَة مزدك ويقدره أَكثر مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ الان بعد أَن يخرج من فَتْرَة تعبده ويمثل بَين يَدَيْهِ ثمَّ يَقُول لَهُ فِي خلال حَدِيثه مَعَه عِنْدَمَا يختلي بِهِ إِن أنوشروان قد لانت عريكته مُنْذُ ذَلِك الْيَوْم الَّذِي استسلم فِيهِ موبذ فَارس وَأقر بعجزه وَهُوَ الان يوطن عزمه على الْإِيمَان بك ويعض أَصَابِعه ندما على أَقْوَاله السالفة ولنر مَا يَقُول وَلم مثل بَين يَدي قباذ فِي ذَلِك الاسبوع أكْرمه جدا وبجله وابدى لَهُ تواضعا جما ثمَّ اخبره بِمَا قَالَ أنوشروان فَقَالَ مزدك ان أَكثر النَّاس ينظرُونَ إِلَى أَعمال أنوشروان ويصغون إِلَى أَقْوَاله فحين يعتنق هَذَا الْمَذْهَب الْمُخْتَار فسيدخله النَّاس كَافَّة وَلَقَد تشفعت إِلَى النَّار ودعوت الله تَعَالَى بِأَن يَجْعَل هَذَا الْمَذْهَب نصيبأ لأنوشروان وَرِزْقًا قَالَ قباذ أجل ان أنوشروان ولي عهدي وان الرّعية والجيش يحبونه جدا وَحين يدْخل مَذْهَبنَا لَا تبقى للنَّاس أَيَّة حجَّة وإنني لأعاهد الْملَّة على ان أقيم لَك آنذاك مَنَارَة حجرية فِي وسط دجلة على رَأسهَا جوسق ذهبي أسطع من الشَّمْس مِثْلَمَا شاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 كشتاسب لزرادشت جوسقا من ذهب على سروة كشمر فَقَالَ مزدك لقباذ انصحه أَنْت وَأَنا أَدْعُو لَهُ الله وَأَنا على يَقِين من استجابة الدُّعَاء وَلما أطبق اللَّيْل أطلع قباذ أنوشروان على كل مَا جرى فَقَالَ أنوشروان فَليدع مولَايَ مزدك بعد أُسْبُوع ويقل لَهُ لقد رأى أنوشروان رُؤْيا أفزعته لَيْلَة أمس إِذْ جَاءَنِي مَعَ تباشير الصَّباح الباكر وَقَالَ رَأَيْت فِي الْمَنَام نَارا عَظِيمَة تتقدم مني فرحت أبحث عَن ملْجأ وَإِذا شخص وسيم الصُّورَة يتَقَدَّم نحوي فَقلت لَهُ مَا تُرِيدُ النَّار مني فَقَالَ النَّار غاضبة عَلَيْك لِأَنَّك كنت تعدها كَاذِبَة قلت أَنى تعلم أَنْت هَذَا قَالَ الْوَحْي جِبْرِيل يعلم كل شَيْء وَافَقت من نومي وهأنذا مَاض الْآن إِلَى بَيت النَّار وَمضى يحمل مَعَه شَيْئا من الْمسك وَالْعود والعنبر ليلقي بهَا فِي النَّار ويتعبد عِنْدهَا ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها ويتضرع إِلَى الله وَأخْبر قباذ مزدك بِمَا قَالَ أنوشروان وَنفذ أنوشروان مَا أَخذ نَفسه بِهِ أيضأ ففرح مزدك فرحأ عظيمأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وَبعد أُسْبُوع وَاحِد على هَذَا الحَدِيث طلب أنوشروان إِلَى أَبِيه أَن يَقُول لمزدك بِأَن أنوشروان قَالَ لي لقد وضح لي بجلاء أَن هَذَا الْمَذْهَب حق وَأَن مزدك رَسُول الله ساعتنق مذْهبه وأنضم إِلَيْهِ غير أَن مَا يشغلني هُوَ أَكثر النَّاس يخالفونه إِنَّنِي أخْشَى أَن يخرجُوا ويتألبوا علينا وينتزعوا الْملك من أَيْدِينَا عنْوَة لَيْتَني أَدْرِي كم عدد أَتبَاع هَذَا الْمَذْهَب وَمن هم فَإِن يَكُونُوا على مَا تبغي من عدد وعدة فبها ونعمت وَإِلَّا فلأتريث حَتَّى يشْتَد عودهم ويقوى ساعدهم وَيكثر عَددهمْ وسأمدهم بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من مؤونة وَسلَاح وعتاد وَحِينَئِذٍ نظهر الْمَذْهَب فِي أتم قوته ونفرضه على رِقَاب النَّاس عنْوَة وبحد السَّيْف فَإِن يقل مزدك ان عددنا كثير قل لَهُ أعد جَرِيدَة بأسماء اتِّبَاع الْمَذْهَب جَمِيعًا لنعرضها عَلَيْهِ أَي أنوشروان لِيَزْدَادَ قلبه بَأْسا وجراة ولكي لَا تبقى لَهُ ثمَّة ذَرِيعَة يتذرع بهَا فَبِهَذَا نستطيع أَن نَعْرِف عدد المزدكيين وَمن هم الَّذين دخلُوا فِي مَذْهَب مزدك وَنقل قباذ هَذَا الْكَلَام إِلَى مزدك ففرح واستبشر وَقَالَ لقد اعتنق هَذَا الْمَذْهَب خلق كثير فَقَالَ قباذ أعد جَرِيدَة بِأَسْمَائِهِمْ حَتَّى لَا يبْقى كَمَا قلت لأنوشروان أَي عذر وَأعد مزدك الجريدة وَأتي بهَا إِلَى قباذ فعدهم قباذ فَإِذا هم اثْنَا عشر ألف رجل من المدن والقرى والجيش قَالَ قباذ سأدعوا أنوشروان اللَّيْلَة وَأعْرض عَلَيْهِ الجريدة وستكون عَلامَة دُخُوله الْمَذْهَب بِأَن امْر فِي الْحَال أَن ينْفخ فِي الأبواق وينقر على الطبول والدفوف وَأشيع الفرحة فِي الْخَارِج وكأنني رزقت طفْلا فَإِذا مَا سَمِعت أصوات الزمر والنقر فَاعْلَم أَن أنوشروان قد اعتنق هَذَا الْمَذْهَب وَلما رَجَعَ مزدك وجن اللَّيْل دَعَا قباذ أنوشروان واراه جَرِيدَة الْأَسْمَاء واخبره بالعلامة الَّتِي اتّفق مَعَ مزدك عَلَيْهَا فَقَالَ أنوشروان حسن جدا مر بالنفخ فِي الأبواق والنقر على الطبول وَحين ترى مزدك غَدا قل لَهُ لقد اسْتَجَابَ أنوشروان لنا وَدخل فِي مَذْهَبنَا بعد أَن رأى جَرِيدَة الْأَسْمَاء وَعرف عدد الِاتِّبَاع وَقَالَ لَو كَانَ عَددهمْ خَمْسَة الاف فَذا حَسبنَا أما وهم الان اثْنَا عشر ألفا فَلَا خوف علينا حَتَّى لَو صَار الْعَالم كُله خصمنا علينا من الان فَصَاعِدا أَن نتداول نَحن الثَّلَاثَة مولَايَ ومزدك وَأَنا كل شَيْء مَعًا ثمَّ أرسل من يستدعيني وَبعد هزيع من اللَّيْل سمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 مزدك أصوات الأبواق والطبول فَأَخَذته الفرحة وَقَالَ لقد دخل أنوشروان فِي مَذْهَبنَا وَفِي الْيَوْم التَّالِي ذهب مزدك إِلَى قاعة الْعَرْش فَجَلَسَ قباذ على السرير وَنقل إِلَيْهِ كل مَا قَالَ أنوشروان فسر مزدك جدا وَلما تركا القاعة جلسا وحيدين وبعثا من يَسْتَدْعِي أنوشروان وَحضر أنوشروان وَمَعَهُ تحف وَأَشْيَاء ذهبية هَدِيَّة إِلَى مزدك فوضعها أَمَامه ونثر الذَّهَب والدر بَين يَدَيْهِ واخذ يعْتَذر إِلَيْهِ عَمَّا مضى ثمَّ تداولوا فِي كل شَيْء وَفِي ختام حَدِيثهمْ قَالَ أنوشروان لآبيه انت مولى الْعَالم ومزدك رَسُول رب الْعَالمين فَمن الْأَفْضَل إِذن أَن تولياني قيادة هَؤُلَاءِ الْقَوْم لأجهد فِي جعل كل من لَيْسَ فِي مَذْهَبنَا وطاعتنا فِي الْعَالم يقبل عَلَيْهِ رَغْبَة وطواعية فَقَالَا لَهُ لَك مَا تُرِيدُ قَالَ أنوشروان إِن هَذَا الْأَمر فِي حَاجَة إِلَى أَن يُرْسل مزدك رسلًا إِلَى أَتْبَاعه فِي المدن والقرى والأطراف يخبرونهم بِأَن عَلَيْهِم ان يعدوا انفسهم من الان ولمدة ثَلَاثَة أشهر للمجيء إِلَى قَصرنَا جَمِيعًا من الأداني والأقاصي فِي أُسْبُوع كَذَا وَيَوْم كَذَا أما نَحن فعلينا أَن نبدأ مُنْذُ السَّاعَة وَإِلَى ذَلِك الْيَوْم بإعداد الْوَسَائِل اللَّازِمَة لَهُم من سلَاح وركائب بِحَيْثُ لَا يدْرِي أحد بِمَا نَحن فِيهِ الْبَتَّةَ وَحين يأزف ذَلِك الْيَوْم نبسط لَهُم خوانًا يَتَّسِع لَهُم جَمِيعًا بل يزِيد وَبعد أَن يتناولوا الطَّعَام يتحولون من قصر إِلَى اخر حييث مجْلِس الشَّرَاب فيشرب كل وَاحِد سَبْعَة أقداح وبعدئذ يلبسُونَ الْخلْع كل بِمَا يُنَاسِبه خمسين خمسين واربعين أَرْبَعِينَ وَثَلَاثِينَ ثَلَاثِينَ وَعشْرين عشْرين إِلَى ان يلبسوا جَمِيعًا وَمَعَ حُلُول اللَّيْل نفتح بَيت السِّلَاح على مصراعيه ونعطي من لَا أسلحة مَعَهم مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من السِّلَاح والدروع والزرود ثمَّ نخرج فِي اللَّيْلَة نَفسهَا فنؤمن كل من يدْخل فِي مَذْهَبنَا ونقتل كل من يَأْبَى ذَلِك فَقَالَ قباذ ومزدك هَل على هَذَا من مزِيد وعَلى هَذَا انصرفوا وَكتب مزدك رسائل إِلَى شَتَّى الأرجاء يخبر فِيهَا القَاضِي والداني أَن عَلَيْكُم أَن تحضروا إِلَى العاصمة فِي شهر كَذَا وَيَوْم كَذَا بكامل أسلحتكم ووسائلكم وبقلوب قَوِيَّة فَإِن الْأُمُور فِي صالحنا وَالْملك إمامنا وقائدنا وَفِي الْيَوْم الْمَوْعُود حضر الإثنا عشر ألف رجل إِلَى العاصمة وصاروا إِلَى قصر الْملك حَيْثُ رَأَوْا خوانًا مَبْسُوطا لم ير أحد مثله قطّ وَجَاء قباذ فَجَلَسَ على السرير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وَجلسَ مزدك على كرسيه أما انوشروان فَوقف مشمرا عَن ساعده وَكَأَنَّهُ يَقُول انني أَنا المضيف ومزدك يكَاد يخرج من جلده فَرحا وَأخذ أنوشروان يجلس كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى الخوان حسب مَنْزِلَته إِلَى أَن أجلسهم جَمِيعًا وَبعد أَن فرغوا من الطَّعَام تحولوا إِلَى قصر اخر فَرَأَوْا مجْلِس أنس وطرب لم يرَوا لَهُ مثيلا وَجلسَ قباذ على السرير ومزدك على الْكُرْسِيّ واجلس الْبَاقُونَ بالترتيب الَّذِي جَلَسُوا فِيهِ على الطَّعَام وَشرع المطربون يرهفون الأسماع والسقاة يديرون ابْنة الْكَرم وَبعد أَن أديرت الْخمر مرَّتَيْنِ دخل مِائَتَا غُلَام وفراش يحملون فِي ايديهم اردية ديباج ومازر قصب ووقفوا فِي أَطْرَاف الْمجْلس سَاعَة أَمرهم أنوشروان بعْدهَا أَن الْمَكَان غاص هُنَا خُذُوا الثِّيَاب إِلَى ذَلِك الْقصر ليتسنى لنا نقل الضيوف إِلَيْهِ عشْرين عشْرين وَثَلَاثِينَ ثَلَاثِينَ لارتداء خلعهم وَمن هُنَاكَ يذهبون إِلَى ميدان اللّعب بالطبطابة ويتنظرون فِيهِ إِلَى أَن يلبس الْجَمِيع ويأتوا إِلَيْهِ ثمَّ يتَوَجَّه الْملك ومزدك إِلَى الميدان لتفقده وإلقاء نظرة عَلَيْهِ ثمَّ نأمر بِفَتْح بَيت السِّلَاح وإحضار السِّلَاح غير أَن أنوشروان كَانَ قد أرسل فِي الْيَوْم السَّابِق شخصا إِلَى الْقرى يطْلب مِائَتي رجل وثلاثمائة من المرتزقة بمعاولهم ومساحيهم لتنظيف الْقُصُور والحدائق والميادين وإزلة مَا فِيهَا من أوساخ وقاذورات وفضلات وَلما جِيءَ بهم جمعهم أنوشروان جَمِيعًا فِي ميدان اللّعب بالطبطابة وَأمر بإغلاق بوابته بإحكام ثمَّ خاطبهم أريدكم أَن تحفروا فِي هَذَا الْيَوْم وَهَذِه اللَّيْلَة اثْنَتَيْ عشرَة ألف حُفْرَة عمق كل مِنْهَا ذِرَاع وَنصف وَأَن تبقوا تُرَاب كل حُفْرَة إِلَى جَانبهَا ثمَّ أَمر الحراس أَن يضعوهم فِي السراي الصَّغِير دَاخل الملعب بعد أَن ينْتَهوا من الْحفر وَألا يسمحوا لأي مِنْهُم بلإنصراف وَفِي اللَّيْل سلح أنوشروان أَرْبَعمِائَة رجل خبأهم فِي السراي الصَّغِير أَيْضا وَقَالَ لَهُم كلما بعثت بِعشْرين عشْرين مِمَّن فِي الْمجْلس إِلَى الْقصر خذوهم من الْقصر إِلَى السراي الصَّغِير وَمِنْه إِلَى الميدان ثمَّ عروهم وألقوا كل وَاحِد فِي حُفْرَة على راسه إِلَى سرته بِحَيْثُ تبقى أَرجُلهم فِي الْهَوَاء ثمَّ هيلوا عَلَيْهِم التُّرَاب وطأوهم بارجلكم حَتَّى يستقروا فِي الْحفر جيدا وَلما ذهب الموكلون بالألبسة إِلَى الْقصر الَّذِي أَمرهم أنوشروان بالذهاب إِلَيْهِ احضرت مئتا جواد بقرابيس الذَّهَب وَالْفِضَّة وأحضرت التروس وأنطقة السيوف أَيْضا فَأمر أنوشروان لتؤخذ إِلَى ذَلِك الْقصر ايضا فَأخذت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ثمَّ شرع أنوشروان يُرْسل الرِّجَال عشْرين عشْرين وَثَلَاثِينَ ثَلَاثِينَ إِلَى الْقصر الاخر حَيْثُ كَانَ يتولاهم رِجَاله فيأخذونهم إِلَى الميدان والسراي الصَّغِير فِيهِ ثمَّ يلقون بهم فِي الْحفر ويهيلون عَلَيْهِم التُّرَاب إِلَى أَن أهلكوا جَمِيعهم بعد أَن ألقوا جَمِيعهم فِي الْحفر قَالَ أنوشروان لِأَبِيهِ ومزدك لقد ألبس الرِّجَال الْخلْع جَمِيعًا ووقفوا فِي الميدان بانتظام أَلا تنهضان لإلقاء نظرة عَلَيْهِم فستريان زِينَة لم تريا أجمل مِنْهَا قطّ ونهض قباذ ومزدك كِلَاهُمَا وَصَارَ إِلَى الْقصر الاخر ثمَّ إِلَى الميدان والسراي الصَّغِير وسرح مزدك نظره فَلم ير على أَرض الملعب فِي شَتَّى أرجائه سوى أرجل تتمايل فِي الْهَوَاء حِينَئِذٍ الْتفت أنوشروان إِلَى مزدك وَقَالَ لَيست ثمَّة خلع أحسن من هَذِه نخلعها على جَيش أَنْت قائده لقد جِئْت لتبديد أَمْوَال النَّاس وثرواتهم وهتك نِسَائِهِم وَنزع الْملك من بيتنا وَلما كَانَت قد اقيمت بامر أنوشروان دكة عالية وحفرت حُفْرَة فِي مُقَدّمَة الميدان أَمر بِأَن يساق مزدك إِلَى الدكة ويلقى فِي الحفرة إِلَى صَدره وَاقِفًا على رجلَيْهِ وصدره ظَاهر وصب الجص من حوله فِي الحفرة ليظل مصلوبا منتصبا فِيهِ ثمَّ قَالَ أنوشروان انْظُر الان إِلَى ابتاعك وسرح نظرك فيهم قَالَ لِأَبِيهِ أَرَأَيْت رَأْي الْعُقَلَاء وتدبيرهم ان مصلحتك الان فِي أَن تلْزم الْقصر مُدَّة إِلَى أَن يسكن عَن الْجَيْش والرعية الْغَضَب لِأَن منشأ هَذَا الْفساد ضعف رَأْيك وتدبيرك وأجلس أنوشروان أَبَاهُ فِي الْقصر وَأمر بإخلاء سَبِيل الْقرَوِيين الَّذين أحضروا لحفر الْحفر وبفتح بوابة الميدان لتدخل جموع الْجَيْش وَالنَّاس للتفرج والمشاهدة فَأخذت الجموع تنتف لحية مزدك وشاربه إِلَى أَن فَارق الْحَيَاة ثمَّ وضع أنوشروان وَالِده فِي السلَاسِل والأغلال واستدعى إِلَيْهِ أَرْبَاب الدولة وعظمائها ثمَّ تبوأ الْعَرْش بِالْحجَّةِ وَالْحق وَأطلق يَده فِي الْعدْل والبذل وظلت هَذِه الْوَاقِعَة ذكرى من ذكرياته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الْفَصْل الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ خُرُوج سنباذ الْمَجُوسِيّ على الْمُسلمين من نيسابور إِلَى الرّيّ وفتنته ومنذ هَذِه الْأَيَّام عهد أنوشروان لم يرفع أحد من هَؤُلَاءِ الْقَوْم رَأسه إِلَّا مَا كَانَ من أَمر امْرَأَة مزدك خرمة بنت فاده الَّتِي كَانَت قد فرت مَعَ رجلَيْنِ من الْمَدَائِن إِلَى ضواحي الرّيّ واطرافها واخذت تَدْعُو النَّاس وَالرجلَانِ مَعهَا إِلَى مَذْهَب زَوجهَا سرا إِلَى أَن اعتنقه خلق كثير من الْمَجُوس وَأطلق النَّاس عَلَيْهِم لقب الخرمية لكِنهمْ كتموا أَمرهم وَلم يجرؤوا على إعلان مَذْهَبهم بل طفقوا طوال تِلْكَ الْمدَّة يفتشون عَن حجَّة يتسترون وَرَاءَهَا لِلْخُرُوجِ وَإِظْهَار مَذْهَبهم على رُؤُوس الأشهاد وَلما قتل أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور الدوانيقي أَبَا مُسلم الْخُرَاسَانِي صَاحب الدولة بِبَغْدَاد عَام 137 لهجرة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي نيسابور رَئِيس مَجُوسِيّ اسْمه سنباذ كَانَت تربطه بَابي مُسلم صُحْبَة قديمَة وَله فِي عُنُقه حق صداقة وخدمة سالفتين فَأَبُو مُسلم هُوَ الَّذِي قربه ورقاه إِلَى دَرَجَة قَائِد جَيش فَمَا كَانَ من سنباذ بعد قتل أبي مُسلم إِلَّا أَن أعلن تمرده وَخُرُوجه وَتقدم بِجَيْش من نيسابور إِلَى الرّيّ وَأخذ يَدْعُو مجوس الرّيّ وطبرستان لِأَن نصف أهل قوهستان وَالْعراق كَانُوا رافضة ومزدكية واراد أَن يظْهر الدعْوَة فَعمد أَولا إِلَى قتل أبي عُبَيْدَة الْحَنَفِيّ عَامل الْمَنْصُور على الرّيّ وَاسْتولى على الخزائن الَّتِي كَانَ وَضعهَا أَبُو مُسلم هُنَاكَ وَلما قوي أمره خرج يطْلب دم أبي مُسلم مُدعيًا أَنه رَسُوله إِلَى أهل الْعرَاق وخرسان وَزعم ان أَبَا مُسلم لم يقتل لكنه لما هم الْمَنْصُور بقتْله دَعَا اسْم ربه الْأَعْلَى عز وَجل فَصَارَ حمامة بَيْضَاء وطار من بَين يَدَيْهِ إِنَّه الان فِي حصن من نُحَاس وَالْمهْدِي ومزدك مَعَه وسيظهرون ثَلَاثَتهمْ يتقدمهم أَبُو مُسلم ومزدك وزيره وَلَقَد وصل إِلَيّ قَاصد برسالة من أبي مُسلم وَلما سَمِعت الرافضة اسْم الْمهْدي وَسمع المزدكيون اسْم مزدك التف حول سنباذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 من الرافضة والخرمية خلق كثير فَعظم شَأْنه وتفاقم أمره إِذْ وصل عدد أَتْبَاعه إِلَى أَكثر من مئة ألف شخص بَين خيال وراجل وَكَانَ كلما اختلى بالمجوس يَقُول لَهُم لقد اذنت دولة الْعَرَب بالأفول هَذَا مَا قرأته فِي أحد كتب الساسانيين لن أَعُود إِذا لم أدمر الْكَعْبَة الَّتِي اتَّخَذُوهَا بدل الشَّمْس قبْلَة لَهُم أما نَحن فسنجعل الشَّمْس قبْلَة لنا مِثْلَمَا كَانَت الْحَال عَلَيْهِ قَدِيما وَكَانَ يَقُول للخرمية ان مزدك شيعي وَهُوَ يامركم بِأَن تضعوا أَيْدِيكُم فِي أَيدي السيعة وظل سنباذ يُوقع على هَذَا النغم نَفسه للمجوس وغلاة الشِّيعَة والخرمية إِلَى أَن اسْتَطَاعَ أَن يكْسب إِلَيْهِ الْفرق الثَّلَاث ويستميلها ثمَّ اسْتَطَاعَ أَن يقتل بعض قادة الْمَنْصُور ويهزم جيوشه إِلَى أَن ندب جهور الْعجلِيّ لحربه بعد سبع سنوات وَجمع جهور جيوش خوزستان وَفَارِس وَتقدم نَحْو أصفهان حَيْثُ ضم إِلَيْهِ مرتزقتها وعرب قُم وعجليي كرج ثمَّ مضى فِي سَبيله إِلَى أَن وصل إِلَى مشارف الرّيّ حَيْثُ اشتبك مَعَ سنباذ فِي حَرْب ضارية ثَلَاثَة أَيَّام وَفِي الْيَوْم الرَّابِع قتل سنباذ بيد جهور فِي أثْنَاء نزال بَينهمَا فتفرقت جموعه وَعَاد كل مِنْهُم إِلَى مَكَانَهُ واختلطت الخرمدينية بالمجوسية والتشيع واخذ كل مِنْهُم يتَّصل بالاخر سرا ويقوى وينمو يَوْمًا عَن يَوْم إِلَى أَن أَخذ الْمُسلمُونَ وَالْمَجُوس يطلقون لقب الخرمدينية على هَذِه الطَّائِفَة وَبعد أَن قتل جهور سنباذ دخل الرّيّ وَقتل من وجد فِيهَا من الْمَجُوس وأغار على مَنَازِلهمْ ونهبها وسبى نِسَائِهِم وابناءهم واتحذهم عبيدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الْفَصْل السَّادِس والربعون خُرُوج الباطنية والقرامطة لعنهم الله وَإِظْهَار الْمَذْهَب السيء إِن سَبَب ظُهُور مَذْهَب القرامطة هُوَ أَنه كَانَ لجَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ ابْن اسْمه إِسْمَاعِيل مَاتَ قبل ابيه تَارِكًا وَرَاءه ابْنا لَهُ اسْمه مُحَمَّد لقد عَاشَ مُحَمَّد هَذَا إِلَى أَيَّام هَارُون الرشيد وَيُقَال انه لما لمح أحد الزبيريين أَمَام الرشيد بَان جعفرا الصَّادِق يبيت لِلْخُرُوجِ وَيَدْعُو النَّاس سرا وَيسْعَى للوصول الى الْخلَافَة بِغَيْر حق أَمر الرشيد بإحضار جَعْفَر من الْمَدِينَة المنورة إِلَى بَغْدَاد وسجنه فِيهَا وَمَات مُحَمَّد هَذَا فِي السجْن فَدفن فِي مَقْبرَة قُرَيْش وَكَانَ لمُحَمد بن اسماعيل مولى حجازي اسْمه مبارك كَانَ يجيد الْكِتَابَة بِخَط دَقِيق يُسمى المقرمط فاطلق عَلَيْهِ لقب قرمطوية وَكَانَ لمبارك صديق أهوازي اسْمه عبد الله بن مَيْمُون القداح يُقَال أَنه جلس يَوْمًا إِلَى مبارك وحيدا وَقَالَ لَهُ كَانَ مَوْلَاك مُحَمَّد بن اسماعيل صديقي وَقد افضى إِلَيّ باسراره الَّتِي لم يبح بهَا لَك وَلَا لغيرك فدهش مبارك لهَذَا وَرغب فِي مَعْرفَته وَأخذ عبد الله بن مَيْمُون على مبارك يَمِينا أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 لَا تفش مَا أَقُول لَك لأحد لمن هُوَ أهل لَهُ وَرَاح يعرض عَلَيْهِ أقوالا عَن رموز حُرُوف المعجم على لِسَان الْأَئِمَّة مشوبة بِشَيْء من كَلَام أهل الطبائع وألفاظ الفلاسفة وَقد أَكثر فِيهَا من ذكر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام وَالْمَلَائِكَة واللوح والقلم وَالْعرش والكرسي ثمَّ افْتَرقَا فاتجه مبارك إِلَى الْكُوفَة وَمضى عبد الله نَحْو قوهستان الْعرَاق فِي طلب أهل التَّشَيُّع لقد كَانَ مُوسَى بن جَعْفَر سجينا فِي حِين مضى مبارك فِي نشر دَعوته سرا حَتَّى نشرها فِي سَواد الْكُوفَة واطلق أهل السّنة على بعض من اسْتَجَابُوا لدعوته لقب المباركية وعَلى بَعضهم الاخر القرمطية أما عبد الله بن مَيْمُون فَكَانَ يَدْعُو النَّاس إِلَى هَذَا الْمَذْهَب فِي قوهستان الْعرَاق وَكَانَ مشعبذا بارعا وأستاذا فِي الشعبذة وإجرائها وَقد أورد مُحَمَّد ابْن زَكَرِيَّا اسْمه فِي كتاب المخاريق وعده فِي جملَة اساتيذ الشعبذة واستخلف عبد الله بن مَيْمُون رجلا اسْمه خلف وَقَالَ لَهُ امْضِ إِلَى الرّيّ وادع إِلَى الشِّيعَة فَالنَّاس فِي الرّيّ وقم وكاشان رافضة كلهم وسيستجيبون لدعوتك سَرِيعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فيعظم أَمرك ثمَّة ويعلو شانك أما هُوَ فَتوجه إِلَى الْبَصْرَة خوف البلية وَمضى خلف إِلَى الرّيّ وَأقَام فِي قَرْيَة كلين فِي نَاحيَة بشاوية وَأخذ يشْتَغل بالطرازة الَّتِي كَانَ أستاذا فِيهَا وَمكث ثمَّة مُدَّة لم يسْتَطع أَن يُفْضِي فِيهَا باسراره لأحد إِلَى أَن تمكن بعد جهد جهيد من أَن يستميل إِلَيْهِ شخصا لقنه أصُول الْمَذْهَب مُدعيًا أَنه مَذْهَب أهل الْبَيْت وَأَنه سري لكنه سيعلن على الْمَلأ بِظُهُور الْقَائِم وَإِن ظُهُوره لقريب عَلَيْك أَن تتعرف على هَذَا الْمَذْهَب حَتَّى لَا تكون جَاهِلا بِهِ حِين يظْهر الْمهْدي ثمَّ اخذ أهل الْقرْيَة يثقفون هَذَا الْمَذْهَب إِلَى أَن تصادف وَسمع كَبِير قَرْيَة كلين وَهُوَ يتجول خَارِجهَا يَوْمًا صَوتا يخرج من أنقاض مَسْجِد هُنَاكَ فاتجه نَحوه وَأخذ ينصت إِلَيْهِ فَإِذا يشْرَح مذْهبه مَذْهَب القرامطة إِلَى أحد الرِّجَال وَلما عَاد كَبِير الْقرْيَة قَالَ لأَهْلهَا أَيهَا النَّاس أفسدوا على هَذَا الرجل أباطيله وترهاته وأحبطوها وَلَا تلتفوا حوله فانني أخْشَى بِمَا سَمِعت مِنْهُ أَن يكون دمار هَذِه الْقرْيَة على يَدَيْهِ إِن خلفا هَذَا ألكن لَا يقوى على تلفظ حُرُوف الطَّاء وَالرَّاء والحاء فَلَقَد سمعته يَقُول هَذَا بَاب باتنه الرهمة وَلما علم خلف بوقوف النَّاس على حَقِيقَة أمره فر من تِلْكَ الْقرْيَة إِلَى الرّيّ وفيهَا مَاتَ وَكَانَ قد تمكن من أَن يجر بعض أهل كلين رجَالًا وَنسَاء إِلَى مذْهبه وَخَلفه بعد مَوته ابْنه أَحْمد بن خلف الَّذِي اقتفى خطى وَالِده دون ان يعلم أحد بِالريِّ بأمرهم حَتَّى اهْتَدَى أَحْمد إِلَى رجل اسْمه غياث كَانَ حاذقا جدا بالنحو وَالْأَدب فَجعله خَلِيفَته فِي الدعْوَة وَشرع غياث هَذَا يوشي أصُول مَذْهَبهم بايات من الْقرَان واخبار الرَّسُول وأمثال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الْعَرَب الشّعْر وَألف كتابا باسم الْبَيَان ذكر فِيهِ مَعَاني الصَّلَاة وَالصَّوْم وألفاظ الشَّرْع على نَحْو ألغاز ومعميات ثمَّ دخل فِي مناظرة أهل السّنة وشاع فِي قُم وكاشان وابه هَذَا الْخَبَر لقد ظهر فِي قَرْيَة كلين رجل مناظر يُقَال لَهُ غياث يبشر باخبار سارة وَيعلم النَّاس مَذْهَب أهل الْبَيْت فقصد أهل هَذِه الْمَدِينَة غياثا وَأخذُوا يتعلمون عَلَيْهِ الْمَذْهَب إِلَى أَن لقف الْفَقِيه عبد الله الزَّعْفَرَانِي الْخَبَر وَعرف أَن الْمَذْهَب بِدعَة وألب أهل الرّيّ على غياث ففر إِلَى خُرَاسَان واطلق أهل السّنة بِالريِّ على فريق مِمَّن اتبعُوا هَذَا الْمَذْهَب الخلفية وعَلى فريق اخر الباطنية وَمَعَ حُلُول عَام 200 هـ فَشَا هَذَا الْمَذْهَب وَخرج بِالشَّام فِي السّنة نَفسهَا رجل يُقَال لَهُ صَاحب الْخَال وَاسْتولى على معظمها اما غياث الَّذِي فر من الرّيّ إِلَى خُرَاسَان فاقام فِي مرو الروذ ودعا فِيهَا الْأَمِير حُسَيْن بن عَليّ المروروذي فَاسْتَجَاب لَهُ وَقَوي نُفُوذ حُسَيْن هَذَا فِي خُرَاسَان خَاصَّة فِي طالقان ومهنة وبارياب وعرشستان غور فَلَمَّا اعتنق هَذَا الْمَذْهَب دخله خلق كثير من تِلْكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 النواحي أُسْوَة بِهِ وَعين غياث خَليفَة لَهُ فِي مرو الروذ لدَعْوَة النَّاس هُنَاكَ وَمضى هُوَ إِلَى الرّيّ وَجعل يَدْعُو أَهلهَا سرا من جَدِيد وَاتخذ لَهُ فِي نَاحيَة بشاوية خَليفَة كَانَ ذَا معرفَة وَاسِعَة بالشعر الْعَرَبِيّ وَالْأَحَادِيث الغريبة وكنيته أَبُو حَاتِم ومضيا يدعوان النَّاس وَكَانَ غياث وعد النَّاس بخراسان أَن الْقَائِم الَّذِي يدعى الْمهْدي سَيظْهر فِي وَقت قريب فِي سنة كَذَا فوطن القرامطة نُفُوسهم على هَذَا أما أهل السّنة فَبَلغهُمْ خبر عودة غياث مرّة أُخْرَى وَأَنه يَدْعُو الْخلق إِلَى مَذْهَب السبعية وأزف موعد ظُهُور الْمهْدي وَلم يظْهر فَبَان كذب غياث وَأخذ السبعيون من مذْهبه عَلَيْهِ ماخذ وعيوبا ولهذين السببين غضبوا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقُوا عَنهُ أما أهل السّنة فَمَضَوْا فِي طلبه ليقتلوه لكنه توارى عَن الأنظار مُضْطَرّا وَلم يدر ايْنَ سَارَتْ ركائبه والتف السبعيون بعد ذَلِك حول سبط من أَسْبَاط خلف وقضوا مَعَه حينا من الدَّهْر وَلما شعر بدنو أَجله نصب ابْنه أَبَا جَعْفَر الْكَبِير خلفا لَهُ لَكِن ابا جَعْفَر هَذَا ابتلى بِالسَّوْدَاءِ فأناب عَنهُ رجلا كنيته أَبُو حَاتِم الكينتي وَمَا أَن شفي أَبُو جَعْفَر وتحسنت حَاله حَتَّى قوي مَرْكَز أبي حَاتِم فاستأثر بالرياسة دون أَن يعر أَنا جَعْفَر أَي أهتمام فَخرجت الرياسة من أسرة خلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وَبث أَبُو حَاتِم الدعاة فِي المدن المحيطة بِالريِّ من مثل طبرستان وجرجان وأذربيجان وأصفهان ودعا النَّاس إِلَى مذْهبه ومقالته فَاسْتَجَاب أَحْمد بن عَليّ أَمِير الرّيّ لدعوته وَصَارَ باطنيا ثمَّ تَأَلُّبُ أهل ديلمان على علويي طبرستان وَقَالُوا لَهُم أَنْتُم تدعون إِنَّمَا الْمَذْهَب هُوَ هَذَا الَّذِي نَحن عَلَيْهِ حسب غير أَن الْمُسلمين يَكْتُبُونَ إِلَيْنَا من مُخْتَلف الأرجاء بَان لَا تصغوا إِلَيْهِم أَي إِلَيْكُم فمذهبهم سيىء وهم اهل بِدعَة إِنَّكُم تحتجون بَان الْعلم قد خرج من ال بيتنا فِي حِين أَن الْعلم لَا يمْضِي مَعَ النّسَب إِن تتعلموا تعرفوا وكل من يتَعَلَّم تتاح لَهُ الْمعرفَة أَيْضا فالعلم لَا يُورث ان الله عز وَجل أرسل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّلَام للنَّاس كَافَّة وانه عَلَيْهِ السَّلَام لم يَجْعَل لَهُ فِي الدّين قوما خَاصَّة واخرين عَامَّة حَتَّى يُقَال إِنَّه قَالَ للخاصة كَذَا وللعامة كَذَا لقد تبين لنا أَنكُمْ كذابون وَلما كَانَ أَمِير طبرستان شِيعِيًّا يناصر العلويين فقد عصوه أَيْضا وَقَالُوا لَهُ ائتنا بفتوى من بَغْدَاد ومدن خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر على أَن يصحبك رَسُول منا ذَهَابًا وإيابا تشهد بِأَن مذهبكم هُوَ مَذْهَب الْمُسلمين الْأَطْهَار وان مَا تَقولُونَ وتفعلون هُوَ مَا أَمر بِهِ الله وَرَسُوله لكَي نقبلكم ونعتنق مذهبكم وَإِلَّا فالسيف بَيْننَا وَبَيْنكُم فَنحْن أَبنَاء جبال وَأهل أدغال وَأفَاد أَبُو حَاتِم من هَذِه الْحَال فتحول من الرّيّ إِلَى الديلم حَيْثُ قَابل زعيمهم سيار شيروي وردادودي وأعلن انضمامه إِلَيْهِم ثمَّ شرع ينهش لُحُوم العلويين ويلتمس لَهُم المعايب وَقرر أَن دولتهم لم تكن شَرْعِيَّة فالعلوي يَنْبَغِي أَن يكون علوي دين لَا نسب ووعد الديالمة سَيظْهر قَرِيبا إِمَام أَنا على علم بدعوته ومذهبه فَرغب أهل ديلمان وجيلان فِي إجَابَته وراجت بضاعته لديهم أَيَّام سيار شيرو وردحا من عهد مرداويج بن زييار مَسَاكِين أهل ديلمان وجيلان فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 كَانُوا كالمستجير من الرمضاء بالنَّار كَانُوا يُرِيدُونَ أهل السّنة فوقعوا فِي شباك أهل الْبِدْعَة وَمَعَ ذَلِك فقد قضوا مَعَه ردحا من الزَّمن غير أَنهم لما راوا أَن الْوَقْت الَّذِي مُنَاهُمْ بِظُهُور الْأَمَام فِيهِ قد انْقَضى قَالُوا ان هَذَا الْمَذْهَب لَا أساس لَهُ وَلَا مراء فِي أَن هَذَا الرجيل لص طرار فَانْفَضُّوا من حوله دفْعَة وَاحِدَة وصاروا إِلَى محبَّة أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالسَّلَام ومضوا فِي طلب أبي حَاتِم ليقتلوه لكنه لَاذَ بالفرار وَمَات فِي مفره فتهلهل أَمر مَذْهَب السبعية واصابه الوهن ودب فِيهِ الضعْف فتراجع عَنهُ خلق كَثِيرُونَ وَلَحِقُوا بَاهل السّنة وتابوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا أما السبعيون فهاموا على وُجُوههم حينا لكِنهمْ ظلوا بلتقون ويتفقون سرا إِلَى أَن ال أَمر الْمَذْهَب إِلَى شَخْصَيْنِ أَحدهمَا عبد الْملك الكوكبي الَّذِي كَانَ يقطن فِي كردكوه والاخر إِسْحَاق الَّذِي كَانَ يُقيم بِالريِّ فِي ظُهُور الباطنية فَفِي خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر وأغوت الباطنية أَمِير خُرَاسَان نصر بن أَحْمد وَفِي خُرَاسَان ندب حُسَيْن بن عَليّ المروروذي الَّذِي كَانَ غياث قد صيره باطنيا وَهُوَ يحتضر مُحَمَّدًا النخشبي للدعوة وعينه خلفا لَهُ ونائبا وَكَانَ النخشبي متكلما معدودا فِي فلاسفة خُرَاسَان وَأوصى حُسَيْن المروروذي النخشبي أَن يعْمل مَا بوسعه فِي أَن ينيب عَنهُ شخصا هُنَاكَ أَي فِي خُرَاسَان ويعبر جيحون إِلَى بُخَارى وسمرقند لجر أهلهما إِلَى هَذَا الْمَذْهَب ولاستمالة بعض أَعْيَان أَمِير خُرَاسَان نصر بن أَحْمد تَقْوِيَة لأَمره وَلما مَاتَ حسن المروروذي خَلفه النخشبي فَاسْتَجَاب خلق كَثِيرُونَ من أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 خراشسن بدعوته ثمَّ عين النخشبي خَليفَة لَهُ فِي مرو الروذ رجلا من زعماء الباطنية يُقَال لَهُ ابْن سوَادَة كَانَ قد فر من أَيدي سنيي الرّيّ إِلَى خُرَاسَان عِنْد حُسَيْن بن عَليّ المروروذي أما المروروذي نَفسه فَعبر جيحون إِلَى بُخَارى لكنه لما رأى أَن لَا نفع يرتجى لمذهبه هُنَاكَ وَأَنه لَا يَجْرُؤ على إِظْهَاره ترك بُخَارى إِلَى نخشب وَفِي نخشب اسْتَطَاعَ أَن يستميل إِلَيْهِ أحد ذَوي قرباه بكر النخشبي الَّذِي كَانَ نديما لأمير خُرَاسَان واستطاع بكر أَن يدْخل فِي هَذَا الْمَذْهَب صديقا لَهُ اسْمه الْأَشْعَث كَاتب الْأَمِير الْخَاص الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِمَنْزِلَة النديم وَلما دعوا أَبَا مَنْصُور الجغاني عَارض الْأَمِير وَزوج أُخْت الأشعت للدخول فِي الْمَذْهَب لبّى دعوتهم وَدخل فِي مَذْهَبهم أَيْضا ايتاش الْحَاجِب الْخَاص الَّذِي كَانَ صديقا لَهُم ثمَّ قَالَت هَذِه الثلَّة لمُحَمد النخشبي لَا دَاعِي لوجودك فِي نخشب تعال إِلَى الحضرة بخاري فستصل بدعوتك إِلَى عنان السَّمَاء فِي أقصر وَقت وندخل فِي مذهبك العظماء والأعيان وَترك النخشبي نخشب الى بُخَارى وَأخذ يُجَالس فِيهَا هُوَ وثلته الْأَعْيَان والعظماء ويدعوهم إِلَى مذهبَة وَكَانَ يَأْخُذ على كل من يستجيب لَهُ عهدا بَان لَا تبح بِشَيْء لأحد مَا لم أقل لَك وَكَانَ النخشبي يَدْعُو النَّاس إِلَى الشِّيعَة أَولا ثمَّ يجرهم تدريجيا إِلَى السبعية إِلَى أَن دخل فِي مذْهبه رَئِيس بُخَارى وَصَاحب خراجها ووجوه الْمَدِينَة وتجارها وادخل فِي مذهبَة أَيْضا حسن ملك الَّذِي كَانَ من خَاصَّة الْأَمِير ووالي إيلاق وعليا الزراد الَّذِي كَانَ الْوَكِيل الْخَاص وَلَقَد كَانَ أَكثر من ذكرنَا من مقربي الْأَمِير ومعتمديه وَبعد أَن كثر اتِّبَاع النخشبي وَجه اهتمامه إِلَى الْأَمِير نَفسه فاوعز إِلَى خاصته بِأَن يذكروه بِالْخَيرِ أَمَام نصر بن أَحْمد فِي صحوه وسكره وَذكر أُولَئِكَ مَرَّات أَمَام نصر الَّذِي أنابهم بَان ينقلوا إِلَيْهِ أَنه أَي نصر يرغب فِي رُؤْيَته ولقائه ثمَّ مضوا بِهِ إِلَى نصر وَأخذُوا يشيدون بِعِلْمِهِ ويثنون عَلَيْهِ أَمَامه حَتَّى شغف بِهِ أَمِير خُرَاسَان فقربه وأعزه وَكَانَ النخشبي يلقِي على مسامع الْأَمِير شَيْئا من مقَالَته فِي كل مرّة يجلس إِلَيْهِ وَكَانَ الندماء والمقربون مِمَّن اتبعُوا مذْهبه يكيلون لَهُ عِبَارَات الْمَدْح وَالِاسْتِحْسَان والإعجاب كلما فَاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 بِشَيْء وَيَقُولُونَ هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَأخذ بن أَحْمد يُكرمهُ ويرقع من قدره أَكثر فَأكْثر يوميا حَتَّى أَنه أضحى لَا يُطيق دونه صبرا وباختصار فقد انْتهى الْأَمر باستجابة نصر بن أَحْمد لدعوته وهيمنة النخشبي ونفوذه حَتَّى أصبح تعْيين الوزراء وتنحيتهم رهن إِرَادَته وَرَاح الْأَمِير ينفذ كل مَا يَقُول وَلما وصل أَمر النخشبي إِلَى هَذَا الْحَد جاهر بدعوته فسانده أَتْبَاعه وأظهروا مَذْهَبهم عَلَانيَة وازدادوا قُوَّة وجرأة وَصَارَ الْأَمِير يُجَالس السبعيين غير أَن التّرْك وقادة الْجَيْش لم يرق لَهُم أَن يتَحَوَّل الْأَمِير إِلَى القرمطية فقد كَانَ لقب قرمطي يُطلق فِي تِلْكَ الْأَيَّام على من يعتنق هَذَا الْمَذْهَب أما عُلَمَاء الْمَدِينَة وضواحيها وقضاتها فَجمعُوا أنفسهم ومضوا جَمِيعًا إِلَى الْقَائِد الْأَعْلَى للجيش وَقَالُوا لَهُ حذار فالإسلام فِي مَا وَرَاء النَّهر فِي محنة وضياع لقد أضلّ هَذَا النخشبي الحقير الْأَمِير وَجعله قرمطيا وحرف النَّاس عَن سَبِيل الْحق وَلَقَد ال أمره إِلَى أحد يَدْعُو فِيهِ النَّاس إِلَى مذْهبه جهارا وَعَلَانِيَة لَا نستطيع أَن نلوذ بِالصَّمْتِ أَكثر من هَذَا فَقَالَ لَهُم إِنِّي شَاكر لكم هَذَا عودا واهدأوا بَالا فَسَيَأْتِي الله تَعَالَى بِمَا فِيهِ الصّلاح إِن شَاءَ الله وَفِي الْيَوْم التَّالِي كلم قَائِد الْجَيْش نصر بن أَحْمد فِي الْأَمر دون جدوى وثارت ثائرة الْجند فَقَالُوا لن نوافق باية حَال على مَا اخْتَار الْأَمِير أَو نسهم فِيهِ اما قادة الْجَيْش فبدأوا يتبادلون الرسائل سرا بَان مَا الْحِيلَة واستطاعوا أَن يعرفوا مَا يكنه كل وَاحِد مِنْهُم وَهُوَ أَنهم لن يرْضوا بِمَا أَخذ الْأَمِير نَفسه بِهِ لقد كَانُوا كلهم من ذَوي العمائم سوى أميرين تركيين دخلا فِي هَذَا الْمَذْهَب واخيرا اتّفق قادة الْجَيْش على أَن لَا نُرِيد أَمِيرا كَافِرًا سنقتل الْأَمِير ونجعلك أَنْت يَا قَائِد الْجَيْش الْأَعْلَى أَمِيرا ونقسم لَك بأننا لن نتراجع عَن هَذَا واستجاب الْقَائِد الْأَعْلَى لَهُم تدينا وَطَمَعًا فِي الحكم وَقَالَ ان أول مَا يَنْبَغِي أَن نتدبره هُوَ أَن نَجْتَمِع نَحن قادة الْجَيْش مَعًا ونتعاهد ثمَّ نتداول فِي كَيْفيَّة الِاسْتِيلَاء على زِمَام الْأُمُور بِنَحْوِ لَا يدْرِي بِهِ الْأَمِير فَقَالَ قَائِد عَجُوز يُقَال لَهُ طلن أوكا تَدْبِير الْأَمر أَن تخبر أَنْت يَا قَائِد الْجَيْش الْأَمِير ان قادة الجيشش يطْلبُونَ إِلَيّ ان أقيم لَهُم مأدبة وَلنْ يَقُول بأية حَال لَا تفعل بل سَيَقُولُ وَلم لَا أَن تستطع حِينَئِذٍ قل لَهُ انني لست عَاجِزا من حَيْثُ الطَّعَام وَالشرَاب لكنني لَا أقدر على إعداد مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمجْلس من سجاد وفراش والة وأدوات زِينَة ذهبية وفضية وسيقول لَك خُذ مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من خزانتنا وَبَيت شرابنا وَدَار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فراشنا فَقل لَهُ انني سأقيم لَهُم مأدبة على أَن يتجهوا بعد الطَّعَام لغزو الْكفَّار فِي بلاساغون الَّتِي استولى عَلَيْهَا كفرة التّرْك وَجَاوَزَ صُرَاخ المتظلمين مداه كَيْمَا لَا يسيئ بك الظَّن ثمَّ هيىء نَفسك لإعداد مستلزمات الْوَلِيمَة وَمر الْجنُود أَن اسْتَعدوا لضنك يَوْم كَذَا ثمَّ استعر كل مَا فِي خزانَة الْملك وَبَيت شرابه وفراشه من الة ذهبية وفضية وفرش الديباج والتحف وخذها إِلَى قصرك وَفِي الْيَوْم الْمَوْعُود وَبعد أَن يَجِيء الْجند جَمِيعهم إِلَى قصرك أغلق بَابه بِدَعْوَى كَثْرَة النَّاس ثمَّ ادْع إِلَى إِحْدَى الحجرات قادة الْجَيْش لشرب الْجلاب وفاتحهم فِي الْأَمر تَوْطِئَة قتل الْأَمِير ومبايعة الْقَائِد الْأَعْلَى إننا وَنحن الأَصْل مَعَك أما الاخرون وهم الْفَرْع فَإِنَّهُم سيوافقوننا بعد أَن يسمعوا رَأينَا ايضا وينضمون إِلَيْنَا حِينَئِذٍ نعاهدك ونغلظ لَك الْأَيْمَان ونعقد لَك الْبيعَة بالإمارة ثمَّ نخرج من الْحُجْرَة ونجلس إِلَى الخوان وَبعد الطَّعَام ننتقل إِلَى مجْلِس الشَّرَاب فيشرب كل منا ثَلَاثَة أقداح ثمَّ نهب انية الْمجْلس ذهبيها وفضيها قادة الْجَيْش وَنخرج حَالا ونتوجه إِلَى قصر الْأَمِير فنقبض عَلَيْهِ ونقتله وَلَا نؤمن أحد من ندمائه وَاتِّبَاع مذْهبه بل نقتلهم جميها ثمَّ ننهب كل مَا فِي خزينته وإصطبله وقصره ونجلسك على الْعَرْش فَوْرًا بعد ذَلِك نأمر الْجَيْش بِأَن يشرعوا سيوفهم ويمضوا إِلَى الْمَدِينَة والريف ليقتلوا كل من يَجدونَ من القرامطة كَافَّة ويحرقوهم وينهبوا ثرواتهم وممتلكاتهم فَقَالَ الْقَائِد الْأَعْلَى هَذَا هُوَ التَّدْبِير وَفِي الْيَوْم التَّالِي قَالَ الْقَائِد الْأَعْلَى لنصر بن أَحْمد ان قادة الْجَيْش يريدونني أَن أقيم لَهُم وَلِيمَة ويطالبونني بهَا يوميا فَقَالَ نصر ان تستطع فَلَا تقصر قَالَ الْقَائِد الْأَعْلَى لست عَاجِزا من حَيْثُ الطَّعَام وَالشرَاب لكنه يتَعَذَّر عَليّ أَن أهيىء مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمجْلس من فرش والة وزينة ذهبية وفضية فإمَّا أَن يولم الْمَرْء وَلِيمَة جَيِّدَة وَإِلَّا فَلَا قَالَ نصر خُذ مَا تحْتَاج إِلَيْهِ لهَذَا الْغَرَض من خزانتنا وبيوت شرابنا وَبَيت فراشنا فَقبل الْقَائِد الأَرْض بَين يَدي نصر بن أَحْمد وَانْصَرف وَفِي الْيَوْم التَّالِي قَالَ للجند عَلَيْكُم أَن تجهدوا يَوْم كَذَا ثمَّ حمل كل مَا فِي خزانَة نصر بن أَحْمد وبيتي شرابه وفراشه من أطباق الذَّهَب وضروبها وَأقَام وَلِيمَة لم ير أحد مثلهَا فِي تِلْكَ الْأَيَّام فَأم قصره جَمِيع قادة الْجَيْش كل وفوجه ثمَّ أَمر الْقَائِد الْأَعْلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 بإغلاق بَاب الْقصر ودعا إِلَيْهِ كبار رجال الْجَيْش وقادته فِي حجرَة خَاصَّة فَبَايعُوهُ وَعَاهَدُوهُ ثمَّ خَرجُوا إِلَى الخوان مُبَاشرَة بيد أَن أحدهم تسلل من الْقصر عَن طَرِيق السّقف وخف إِلَى نوح بن نصر وَأخْبرهُ بِمَا حاكه قادة الْجَيْش فامتطى نوح صهوة جَوَاده حَالا وَمضى الى قصر وَالِده على جنَاح السرعة وَقَالَ لَهُ علام الحلوس وقادة الْجَيْش قد عقدوا الْبيعَة والعهد للقائد الْأَعْلَى السَّاعَة إِنَّهُم سيتحولون بعد الطَّعَام إِلَى مجْلِس الشَّرَاب فيشرب كل مِنْهُم ثَلَاثَة أقداح ثمَّ ينهبون كل مَا فِي الْمجْلس من الة الذَّهَب وَالْفِضَّة وَمَا أخذُوا من خزانتك وَيخرجُونَ إِلَى قَصرنَا فيقتلونك ويقتلونني وَيقْتلُونَ كل من يَجدونَ فِيهِ ان الْغَرَض من وَرَاء هَذِه الْوَلِيمَة هُوَ هلاكنا فَقَالَ نصر لنوح فَمَا الْحِيلَة الان قَالَ نوح أَن ترسل الان اثْنَيْنِ من خَاصَّة خدمك إِلَى الْقَائِد الْأَعْلَى وَقبل أَن ينْهض الْجمع عَن الطَّعَام إِلَى الشَّرَاب ليهمسا فِي أُذُنه يَقُول لَك الْأَمِير بَلغنِي أَنَّك تكلفت كثيرا وأقمت مأدبة فِي غَايَة الْبَهَاء وَالْعَظَمَة أما وَعِنْدنَا بضعَة كراس ذهبية مرصعة لَا قبل لأحد الْمُلُوك الْيَوْم بهَا فِي مَكَان خَارج الخزانة نسيت أَن أَقُول لَك بَان تحملهَا إِلَى مجلسك أَيْضا لتضفي عَلَيْهِ زِينَة مَا بعْدهَا زِينَة ان ثمنهَا عشرَة أَضْعَاف ألف ألف دِينَار هَلُمَّ لآسلمك إِيَّاهَا يدا بيد ايضا قبل أَن يصير الضيوف إِلَى مجْلِس الشَّرَاب وَسَيَأْتِي لَا محَالة طَمَعا بِالْمَالِ وَحين يَجِيء نقطع رَأسه ثمَّ نتداول فِيمَا يجب فعله بعد وَأرْسل نصر فِي الْحَال اثْنَيْنِ من خَاصَّة خدمه يبلغان الْقَائِد الْأَعْلَى هَذَا وَفِي حِين كَانَ المدعوون منهمكين فِي الطَّعَام قَالَ الْقَائِد لوَاحِد أَو اثْنَيْنِ مِنْهُم لأي شَيْء يستدعيني الْأَمِير السَّاعَة قَالُوا لَهُ اذْهَبْ وأحضر الكراسي أَيْضا فَكل شَيْء يَلِيق بِنَا الْيَوْم وَمضى الْقَائِد ألى قصر الْأَمِير مسرعا فاستدعى إِلَى إِحْدَى الْحجر وَأمر الْأَمِير غلمانه على الْفَوْر بفصل رَأسه عَن جسده وَوَضعه فِي مخلاة ثمَّ قَالَ نوح لِأَبِيهِ لنركب نَحن الِاثْنَيْنِ وَنَذْهَب والمخلاه مَعنا إِلَى قصر الْقَائِد الان ولتتنح أَنْت عَن الْعَرْش أَمَام قادة الْجَيْش وتجعلني وليا للْعهد لأتولى جوابهم عَنْك لكَي يظل الْملك فِي بيتنا ان الْجَيْش لن يكون على وفَاق مَعَك بعد الان وَإنَّك ستنجو بِهَذَا من قَتلهمْ وَتَمُوت موتا عاديا وركبا ومضيا إِلَى قصر الْقَائِد على وَجه السرعة والتفت قادة الْجَيْش فَإِذا الْأَمِير وَابْنه يدخلَانِ الْقصر فنهضوا جَمِيعًا وتقدموا إِلَى الْأَمَام ترحيبا بهما وَلم يكن أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 يدْرِي بِمَا جرى وَقَالا رُبمَا رغب الْأَمِير فِي حُضُور الحفل ونهض نصر بن أَحْمد وَجلسَ فِي مَكَانَهُ ووقف حَملَة السِّلَاح من خَلفه وَجلسَ نوح من عَن يَمِينه وَقَالَ اجلسوا جَمِيعًا وَأَتمُّوا طَعَامكُمْ فَجَلَسَا وعاودوا الْأكل فالتهموا مَا على الخوان فَقَالَ نصر بن أَحْمد اعلموا أنني قد أبلغت بِمَا حاكته أَيْدِيكُم وتواطأتم عَلَيْهِ فنفرت مِنْكُم لأنكم كُنْتُم تبغون قَتْلِي ان قُلُوبكُمْ مني نافرة وَأَنْتُم ضاغنون عَليّ الان وَلنْ تأمنوا بعد الْيَوْم جَانِبي أَو امن جانبكم فَإِذا مَا كنت قد حدت عَن جادة الْحق أَو اعتنقت مذهبا سَيِّئًا أَو بدا مني ذَنْب وَهُوَ مَا جعلكُمْ تتوقدون عَليّ غيظا فها هوذا ابْني نوح أفيه عيب قَالُوا لَا فَقَالَ لَسْتُم تعد الان جيشي وَلست أميركم لقد جعلت نوحًا وليا لعهدي وَهُوَ الان أميركم أما أَنا فساشغل نَفسِي سَوَاء كنت على صَوَاب أم بَاطِل باستغفار الله عز وَجل وَالتَّوْبَة إِلَيْهِ وَأما من حملكم على مَا أَنْتُم فِيهِ فقد نَالَ جزاءه وَأمر بِإِخْرَاج راس الْقَائِد من المخلاة وَوَضعه أمامهم ثمَّ نزل من على سَرِيره وَجلسَ على الْمصلى وتحول نوح إِلَى السرير وَجلسَ مَكَان أَبِيه دهش قادة الْجَيْش فَأَخَذتهم الْحيرَة لما سمعُوا وراوا وَلم يَأْتُوا بِأَيّ عذر وَحجَّة بل انحنوا لنوح وهنأوه تهنئة خَالِصَة وألصقوا الجرم كُله بالقائد الْأَعْلَى وَقَالُوا أَنْت سيدنَا وَنحن مواليك فَالْأَمْر لَك فَقَالَ نوح لِتَعْلَمُوا أنني فِي كل شَيْء نوح لَا نصر لقد فَاتَ مَا فَاتَ وحملت خطأكم هَذَا محمل مائَة صَوَاب سأحقق لكم كل رغباتكم فاصدعوا لأمري وَانْصَرفُوا إِلَى شؤونكم ومعاشكم حسب ثمَّ طلب قيدا وَأمر بِوَضْعِهِ فِي رجْلي أَبِيه وَنَقله إِلَى قهندز حَالا وحبسه فِيهَا ثمَّ قَالَ والان هيا بِنَا إِلَى الشَّرَاب وَلما جَلَسُوا إِلَى الشَّرَاب وَشرب كل مِنْهُم ثَلَاثَة أقداح قَالَ نوح كُنْتُم قد عقدتم الْعَزْم بعد أَن تشْربُوا ثَلَاثَة أقداح على أَن تنهبوا كل مَا فِي الْمجْلس انني لَا أرتضي النهب وَلَا امْر بِهِ لكنني وهبتكم كل مَا فِيهِ هبة فخذوها جَمِيعًا وتقاسموها كل حسب مرتبته حَتَّى ينَال كل وَاحِد مِنْكُم نصِيبه مِنْهَا فَأَخَذُوهَا ووضعوها فِي الجوالق فختموها وأودعوها شخصا مُعْتَمدًا ثمَّ قَالَ نوح إِن كَانَ الْقَائِد الْأَعْلَى ظن بِنَا ظن السوء فقد نَالَ عِقَابه وان كَانَ أبي قد حاد عَن طَرِيق الصَّوَاب فها هوذا الان يتلَقَّى جَزَائِهِ أما أَنْتُم فاتفقتم على أَن تصيروا بعد الطَّعَام إِلَى غَزْو بلاساغون لقِتَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 كفار التّرْك ان فِي أَرْضنَا لكفارا أولى بَان يقاتلوا هبوا إِلَى جهادهم وغزوهم واقتلوا كل من دخل فِي الْإِلْحَاد واعتنق الْمَذْهَب الذبي اعتنقه أبي فِي مَا وَرَاء النَّهر وخراسان وحلال عَلَيْكُم ثرواتهم وَأَمْوَالهمْ ونعمهم لقد وهبتكم الْيَوْم مَا كَانَ فِي الْمجْلس من أَمْوَال وَالِدي وساهبكم غَدا مَا فِي الخزانة فَإِن ثروة الباطنية جديرة بالنهب أريدكم ان تَأْتُونِي الان بِمُحَمد النخشبي وجلساء أبي وتضربوا أَعْنَاقهم ثمَّ تنتشروا فِي الْمَدِينَة والنواحي فحملوا حَالا وأحضروا مُحَمَّدًا المخشبي الَّذِي كَانَ الداعية وضربوا عُنُقه وأعناق حسن ملك وَأبي مَنْصُور الجغاني والأشعت وَعدد من الْأُمَرَاء الَّذين دخلُوا فِي الباطنية ثمَّ انبثوا فِي الْمَدِينَة وشرعوا يقتلُون كل من كَانُوا يجدونه مِنْهُم فقد كَانُوا يعرفونهم جَمِيعًا لِأَن الباطنية كَانُوا بِقُوَّة الْأَمِير وعزمه يجاهرون بمذهبهم وَيدعونَ النَّاس إِلَيْهِ عَلَانيَة وَفِي الْيَوْم نَفسه أرسل نوح أَمِيرا على رَأْي جَيش يعبر بِهِ جيحون إِلَى مرو الروذ باقصى سرعَة ليقْبض على ابْن سوَادَة وَقَتله ثمَّ يشرعون سيوفهم فيقتلون كل من يتعرفون عَلَيْهِ ويجدونه من الباطنية فِي خُرَاسَان سَوَاء كَانَ من الْجَيْش أم من الرّعية وأوصاهم بِأَن يُؤمنُوا النَّاس لِئَلَّا يقتل مُسلم خطأ وَأقسم بِأَن من يقتل مُسلما سأقتله وَلَا أقبل لَهُ عذرا وَقضى رجال نوح سَبْعَة أَيَّام بلياليها يطوفون فِي بُخَارى ونواحيها يقتلُون الباطنية وينهبون ثرواتهم حَتَّى لم يبْق مِنْهُم أحد فِي خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر سوى أُولَئِكَ الَّذين لم يجرؤوا على المجاهرة باعتناقهم الباطنية وَقضي على هَذَا الْمَذْهَب بخراسان خُرُوج الباطنية بِالشَّام وَالْمغْرب وفسادهم ونأتي إِلَى الْكَلَام على الشَّام فَنَقُول كَانَ لعبد الله بن مَيْمُون ابْن اسْمه أَحْمد فَلَمَّا مضى عبد الله إِلَى الْبَصْرَة وَأخذ يَدْعُو النَّاس فِيهَا سرا ثمَّ مَاتَ هُنَاكَ والقي بِرُوحِهِ الخبيثة فِي جَهَنَّم نَهَضَ ابْنه أَحْمد وَصَارَ إِلَى الشَّام وَمِنْهَا إِلَى الْمغرب وَلما لم يلق فِيهَا اذانا صاغية عَاد إِلَى الشَّام وَأقَام فِي مَدِينَة يُقَال لَهَا سليمَة يشْتَغل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 بالبزازة وَولد لَهُ ثمَّة ابْن اسماه مُحَمَّدًا وَأسلم أَحْمد الرّوح فمضت مسرعة إِلَى النَّار أَيْضا وَلما كَانَ ابْنه مُحَمَّد صَغِيرا خَلفه أَخُوهُ سعيد بن الْحُسَيْن الَّذِي ترك الشَّام إِلَى الْمغرب حَيْثُ غير اسْمه إِلَى عبد الله ين الْحُسَيْن ثمَّ بعث بِرَجُل من أَصْحَابه وَهُوَ أَبُو عبد الله الْمُحْتَسب نَائِبا عَنهُ إِلَى بني الْأَغْلَب وَكَانَ أَكْثَرهم بادية فِي النواحي الَّتِي كَانُوا يقطنونها ودعا أهل تِلْكَ المناطق إِلَى هَذَا الْمَذْهَب فَدخل فِيهِ مِنْهُم عدد كَبِير حِينَئِذٍ أَمرهم بَان ادعوا إِلَى الْمَذْهَب بِالسَّيْفِ واقتلوا كل من لَا تجدونه عَلَيْهِ فصدعوا لِلْأَمْرِ وَتجمع خلق كثير من بني الْأَغْلَب وشرعوا يهاجمون المدن والنواحي ويغيرون عَلَيْهَا ويدخلونها ويعيثون فِي أَهلهَا قتلا ويستولون على الْمَدّ الْوَاحِدَة تلو الأخرة إِلَى أَن دَانَتْ أَكثر بِلَاد الْمغرب لَهُم وخضعت لسيطرتهم فَمَا كَانَ من زكروية الَّذِي كَانَ يُقَال لَهُ صَاحب الْخَال وَالَّذِي كَانَ يحكم بعض مدن الشَّام إِلَّا ان ارسل عَليّ وهسودان الديلمي قَائِد جَيْشه الْأَعْلَى وَكَانَ سنيا بِجَيْش الشَّام إِلَى أبي عبد الله الْمُحْتَسب فَجْأَة ففر أَبُو عبد الله وأعمل جَيش عَليّ السَّيْف فِي بني الْأَغْلَب وَقتلُوا مِنْهُم مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِك سَبِيلا وشتتوا شملهم فِي بقاع الأَرْض أما أَبُو عبد الله فَنزل فِي مَدِينَة من مدن بني الْأَغْلَب وَألقى عَنهُ الطيلسان وَأخذ يعِيش عيشة المتعبدين الصَّالِحين وَكَانَ أهل تِلْكَ الْمَدِينَة يعاملونه مُعَاملَة حَسَنَة ويكرمزنه وَصَاحب الْخَال يُرْسل رسله إِلَيْهِم باستمرار ليبعثوا بِهِ إِلَيْهِ لكِنهمْ لم يرسلوه بل كَانُوا يَلْتَمِسُونَ لذَلِك الْأَعْذَار فِي حِين كَانَ أَبُو عبد الله يخْشَى أَن يخَاف بَنو الْأَغْلَب من صَاحب الْخَال ويسلموه اليه وَاسْتقر بِهِ الْمقَام أخيرا فِي جَزِيرَة من جزر بني الْأَغْلَب وَبنى لَهُ فِيهَا منزلا وظل بَنو الْأَغْلَب يبعثون إِلَيْهِ بزكاتهم وَلما مَاتَ خَلفه ابْنه وظلت قَاعِدَة الْمَذْهَب وأساسه هُنَاكَ أمدا طَويلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 خُرُوج الباطنبة فِي نواحي هراة وغور وهلاكهم وَفِي عَام 295 هـ لهجرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل وَالِي هراة مُحَمَّد بن هرثمة إِلَى الْأَمِير الْعَادِل إِسْمَاعِيل بن أَحْمد الساماني يَقُول ان رجلا يكنى بِأبي بِلَال خرج فِي سفوح جبال غور وغرجه مجاهرا بِمذهب القرامطة وَإِن النَّاس من كل الطَّبَقَات قد التفوا حوله لقد سمي دَاره دَار الْعدْل وهرع إِلَيْهِ خلق كثير من نواحي هراة يزِيد عَددهمْ على عشرَة الاف لمبايعته ان تتجاهل أمره أَو تهمله فسيلتف حوله أَضْعَاف هَذَا الْعدَد وَحِينَئِذٍ يَتَفَاقَم الْأَمر وتشتد البلية وَيُقَال إِن أَبَا بِلَال هُوَ أحد ندامى يَعْقُوب بن اللَّيْث وَهُوَ يَدْعُو إِلَى الْمَذْهَب نِيَابَة عَنهُ فَلَمَّا بلغ الْأَمِير إِسْمَاعِيل هَذَا قَالَ يَبْدُو أَن دم أبي بلاف هَذَا يغلي ثمَّ أَمر زكري الْحَاجِب أَن تخير خَمْسمِائَة غُلَام من بَين الغلمان جَمِيعًا كل وَاحِد مِنْهُم أجلد من الاخر وَأَشْجَع وليعطوا مَالا ثمَّ اجْعَل عَلَيْهِم تيفش قائدا فَهُوَ غُلَام ألمعي وليعط عشرَة الاف دِرْهَم وَحمل خَمْسمِائَة درع على البغال ثمَّ إيت بهم غَدا إِلَى جوي موليان كَيْمَا أَرَاهُم ولكي تذْهبُوا من أَمَامِي إِلَى هُنَاكَ وَنفذ الْحَاجِب زكري مَا أَمر بِهِ ثمَّ أَمر الْأَمِير إِسْمَاعِيل أَيْضا بِكِتَابَة رِسَالَة إِلَى أبي عَليّ المروروذي تَقول زود أعوانك بِالْمَالِ وَأخرج من الْمَدِينَة قبل ان يصل غلماني إِلَيْك ثمَّ امْضِ مَعَهم إِلَى هراة والتحقوا جَمِيعًا بِمُحَمد بن هرثمة وَكتب إِلَى مُحَمَّد بن هرثمة جهز جيشك وَأخرج من الْمَدِينَة إِلَى أَن يصل إِلَيْك تيقش وَأَبُو عَليّ وَقطع لتيقش عهدا على نَفسه فَقَالَ سأوليك ولَايَة حِين تصل إِلَيّ من مُحَمَّد بن هرثمة رِسَالَة تنبىء بَان الْفَتْح قد تمّ على يَديك أما الغلمان الاخرون فخاطبهم ان هَذِه الْحَرْب لَيست كالحرب مَعَ عَليّ بن شروين أَو عَمْرو بن اللَّيْث أَو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 مُحَمَّد بن هَارُون فقد كَانَ لنا هُنَاكَ عدد وعدة لقد اعتمدتكم وحدكم فِي مهمة وَهِي أَن خَارِجا ظهر فِي سفوح جبال هراة وَأظْهر مَذْهَب القرامطة عَلَانيَة ان مُعظم أَتْبَاعه من الرُّعَاة الزراع سأخلع عَلَيْكُم الْخلْع وأصلكم جَمِيعًا بالصلات وَأَرْفَع من مراتبكم ودرجاتكم بعد الِانْتِصَار والقتح الْكَبِير ثمَّ ندب كَاتبا ذكيا بارعا لتولي شؤونهم الديوانية لما وصل تيقش بالغلمان على مشارف مرو الروذ انْضَمَّ إِلَيْهِم أَبُو عَليّ بِرِجَالِهِ فِي الْحَال واستلم مفارق الطّرق حَتَّى لَا يلقف الخارجون أخبارهم وَلما وصلوا إِلَى هراة خرج مُحَمَّد بن هرثمة بجيشة حَالا واستولوا على مفارق الطّرق لِئَلَّا يعلم أَبُو بِلَال بأمرهم ثمَّ صَارُوا جَمِيعهم إِلَى الْجَبَل وقضوا ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها يخترقون المسالك الصعبة والمنافذ الوعرة والقرامطة فِي سبات وغفلة وشرعوا سيوفهم وأعملوها فِي القرامطة إِلَى أَن قتلوهم جَمِيعًا وقبضوا على أبي بِلَال وحمدان وتوزكارا ولى عشرَة اخرين من زعمائم ثمَّ عَادوا إِلَى بُخَارى فِي سبعين يَوْمًا واقتيد أَبُو بِلَال إِلَى سجن قهندز وظل رهينة إِلَى ان مَاتَ أما الاخرون فأرسلوا إِلَى بَلخ وسمرقند وفرغانة وخوارزم ومرو ونيسابور وَغَيرهَا من المدن الْأُخْرَى وأعدموا فِيهَا شنقا فاستؤصلت بِهَذَا جذورهم من غور وغرجه مرّة وَاحِدَة وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا مَاتَ الْأَمِير الْعَادِل إِسْمَاعِيل فَتَوَلّى مَكَانَهُ أهوه نصر بن أَحْمد الَّذِي أسلفنا الْكَلَام عَلَيْهِ وَالَّذِي كَانَ قد صَار إِلَى الباطنية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 خُرُوج الباطنية من جَدِيد بخراسان وَمَا وَرَاء النَّهر وهلاكهم لما وضع نوح بن نصر وَالِده فِي الأغلال وَألقى بِهِ فِي السجْن سقَاهُ السم هُنَاكَ ليأمن قادة الْجَيْش شَره ويرتاحوا مِنْهُ إِلَى الْأَبَد وظل نوح يُدِير دفة الحكم سنوات لما انْتقل إِلَى جوَار ربه تولى ابْنه ممنصور الحكم بعده وَسَار سيرته وَبعد مُرُور خَمْسَة عشر عَاما على عَهده أَخذ الدعاه يبثون من جَدِيد دعوتهم فِي خُرَاسَان وبخارى ويحرفون النَّاس عَن سَوَاء السَّبِيل فَكَانَ من قتل اباؤهم وأجدادهم فِي سَبِيل هَذَا الْمَذْهَب أَكثر النَّاس استجابة لَهُم وَفِي عهد الْأَمِير السديد مَنْصُور كَانَ أَبُو عَليّ البلعمي وزيره والبتكين والخواجة سبكتكين قائدي جَيش خُرَاسَان وَمَنْصُور بايقرا الْحَاجِب الْكَبِير وَأَبُو يحيى بن الْأَشْعَث واليا هلة فرغانه والسرهنك حُسَيْن واليا على اسبيجاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وَإِسْمَاعِيل واليا على الشاش وَأَبُو مَنْصُور عبد الرَّزَّاق واليا على طوس ووشمجير واليا على جرجان أما الْأُمَرَاء الَّذين كَانُوا فِي البلاط فهم ينداج وَنصر ملك وَحسن ملك وَأَبُو سعيد ملك وحيدر الجغاني وابو الْعَبَّاس الْجراح وبكتوزون وتكينك وخمارتكين وأضرابهم وباختصار فَإِن مَنْصُور بايقرا وَأَبا سعيد ملك وَأَبا الْعَبَّاس الْجراح وخمارتكين وتكينك وَأَبا عبد الله الجيهاني وجعفرا قد صَارُوا إِلَى الباطنية سرا وَكَانَ لهَذَا الْفَرِيق داعيان احدهما أَبُو الْفضل رنكرز الرديجي والاخر رجل اعور اسْمه عَتيق لقد كَانَت شؤون الْقصر والبلاط والديوان ومقاليدها بيد هَذِه الطَّائِفَة الَّتِي كَانَت تمسك على أزمة الْأُمُور فِي المملكة لقد كَانُوا يمدون يَد العون إِلَى اتِّبَاع مَذْهَبهم سرا وَكَانُوا يصرفون الْأَعْمَال بإنفسهم وَلَا يولون أحدا غَيرهم عملا مالم تزد الْأَعْمَال فِي كثرتها وتراكمها على طاقتهم وكانو يشدون أزر بَعضهم فِي الدِّيوَان وَغير الدِّيوَان ويتعاونون ويتكاتفون فَكَانُوا إِذا مَا تورط أحدهم فِي شَيْء يقفون إِلَى جَانِبه ويخرجونه من ورطته فَكَانَت النتيجة أَن قوتهم وعددهم جعل يزْدَاد يوميا لقد كَانَ مِنْهُم وَاحِد فِي كل مَكَان من خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر فاتفقوا جَمِيعًا وتمكنوا بمساعدتهم أَن يجهروا بدعوتهم وذاع أَمرهم فَظن النَّاس فِي النواحي والأطراف أَن أهل الحضرة جَمِيعًا أَصْبحُوا باطنية ثمَّ دخل ابو مَنْصُور عبد الرَّزَّاق فِي الباطنية أَيْضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وَكتب باطنية الحضرة إِلَى المبيضة فِي فرغانه وخجند وكاشان رِسَالَة تَقول لتخرجوا فمقالتنا ومقالتكم فِي أَصْلهَا سَوَاء وسنخرج نَحن أَيْضا لتكن خطتنا الْقَبْض على الْأَمِير أَولا ثمَّ ننضم إِلَى بَعْضنَا ونخضع الولايات الْوَاقِعَة على هَذَا الْجَانِب من جيحون ونستولي عَلَيْهَا وَبعد ذَلِك نتوجه إِلَى خُرَاسَان وتازروا ووحدوا مَعَ ابْن بايقرا كلمتهم ثمَّ نموا على ابي عَليّ البلعمي الْوَزير وعَلى الْأَمِير بكتوزون إِلَى الْأَمِير السديد مَنْصُور وأوغروا صَدره عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسلمين صالحين وَلِأَن الغلمان جَمِيعهم كَانُوا بإمرة بكتوزون فَمَا كَانَ إِلَّا أَن أَمر مَنْصُور بسجن الِاثْنَيْنِ فِي قهندز وَوَضعهمَا فِي السلَاسِل والأغلال فاختلت بذلك شؤون الدولة أَيّمَا اختلال لما رأى البتكين أَن أَكثر الْأُمَرَاء الْخَواص وأرباب الْقصر وَأهل الحضرة قد اعتنقوا مَذْهَب القرامطة وان هذَيْن الرجلَيْن الْمُسلمين محبي خير الْملك كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ هم أوصدا فِي الأغلال بسعاية القرامطة ترك نيسابور إِلَى بُخَارى ليطلع الْأَمِير على حَقِيقَة الْأَمر كَيْمَا يتدبر الْأُمُور ويمسك بازمتها غير أَن أَبَا مَنْصُور عبد الرَّزَّاق الَّذِي كَانَ أَمِيرا على طوس وَكَانَ ذَا نُفُوذ وَصَاحب جَيش عَرَمْرَم والات وعدة وفير سارع فِي التصدي لألبتكين ورصد لَهُ الطَّرِيق ليحول دون وُصُوله إِلَى البلاط وليشتبك فِي حَرْب مَعَه فَلَمَّا علم البتكين بِهَذَا غير طَرِيقه إِلَى طَرِيق شيرورره إِلَى أَن وصل إِلَى سَاحل جيحون وَنزل فِي اموي امل وَعَاد أَبُو مَنْصُور عبد الرَّزَّاق ثمَّ كتب ملطفة إِلَى ابْن يقرا ورهطه فِيهَا إِنَّمَا جَاءَ البتكين ليفسد عَلَيْكُم أَمركُم فتوحد الْقَوْم وزينوا للأمير ان البتكين قد عصاك لِأَنَّهُ لم يكن ليأت إِلَى الْقصر قطّ إِلَّا بعد أَن تستدعيه عدَّة مَرَّات انه إِنَّمَا يَجِيء الان عَاصِيا مُخَالفا وَلَقَد وصل إِلَى شاطىء جيحون فَجْأَة وَهُوَ يَنْوِي العبور كل هَذَا دون أَن تستدعيه فَوجه الْأَمِير بك ارسلان الْحميدِي وَحسن ملك على رَأس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 جَيش صوب جيحون فسحبوا السفن من الطّرف الاخر للنهر حَتَّى يفوتوا على البتكين فرْصَة العبور لما رأى البتكين أَنهم لن يمكنوه من العبور كتب إِلَى الْأَمِير رِسَالَة بَين فِيهَا سَبَب مَجِيئه قَالَ لقد اعتنق أَكثر خاصتك وارباب بلاطك وديوانك مَذْهَب القرامطة الَّذِي صَار إِلَيْهِ الْعَظِيم والحقير وهم يدبرون لِلْخُرُوجِ لقد كَانَ فِي دولتك كلهَا رجلَانِ مسلمان محبان خيرك ونفعك بقَوْلهمْ هم لكنك غيبتهما فِي السجْن بوشاية القرامطة إِنَّمَا جِئْت لأتدبر أَمرهم فَإِذا مَا أَعرَضت عَن كَلَامي وألقيت إِلَى القرامطة أذنا صاغية فستلقى جزاءك غَدا اللَّهُمَّ إِنِّي قد بلغت الْأَمِير وهأنذا ذَاهِب إِلَى بَلخ ثمَّ كتب رِسَالَة أُخْرَى إِلَى قَاضِي بُخَارى وعلمائها لقد اشتدت شَوْكَة القرامطة وان خُرُوجهمْ لوشيك جدا والأمير فِي غَفلَة لقد كتبت إِلَيْهِ اما أَنْتُم فَمَا عَلَيْكُم إِلَّا أَن تنصحوه كَيْمَا يظل الدّين وَالْملك ثابتين على مَا هما عَلَيْهِ وَمضى إِلَى بَلخ ووصلت الرسالتان لفد كَانَ القَاضِي ابو أَحْمد وأئمة بُخَارى على علم بِهَذِهِ الْحَال لكِنهمْ لم يجرؤوا على قَول أَي شَيْء فِي الْمَوْضُوع انذاك لِأَن أغلب خَاصَّة الْأَمِير كَانُوا من هَذِه الْفرْقَة وَقَالُوا رُبمَا لَا يصغي الْأَمِير إِلَى أقوالنا فيهم فيتحولون وَلكُل مِنْهُم ولَايَته وجيشه ونعمه وحشمته إِلَى خصوم لنا غير أَن القَاضِي أَبَا أَحْمد ذهب مَعَ صَلَاة الْعَصْر هَذِه الْمرة إِلَى قصر الْأَمِير وَالْتمس الاختلاء بِهِ فاستدعاه الْأَمِير وَجلسَ إِلَيْهِ وحيدا فَقَالَ القَاضِي النصح والإرشاد من وَاجِب الْعلمَاء لقد كَانَ أَبوك الْأَمِير الحميد نوح رَحمَه الله يُجَالس الْعلمَاء دَائِما وَلم يقم باي عمل دون أَن يتدبره مَعَهم وَلَا جرم أَن استقام بِهِ مَا كَانَ قد اعوج من الْأُمُور أَنا أَنْت فلأنك لَا تجَالس أهل الْعلم إِلَّا قَلِيلا فقد اعوج على عَهْدك مَا قومه هُوَ وَعرض عَلَيْهِ رِسَالَة البتكين ورسالة أُخْرَى موقعة من الائمة فِي هَذَا الْمَعْنى ليعلم الْأَمِير أَنه أَي القَاضِي لَا يَقُول هَذَا الْكَلَام من تِلْقَاء نَفسه ثمَّ نصحه هُوَ أَيْضا وحدثه فِي أَشْيَاء ايقظه بهَا من سباته وَفِي الْيَوْم التَّالِي وصل خبر خروخ المبيضة بفرغانه وَأَنَّهُمْ يقتلُون من يَجدونَ من الْمُسلمين وَفِي الْيَوْم التَّالِي لَهُ وصل من خُرَاسَان خبر إعلان القرامطة مَذْهَب السبعية فِي طالقان وسفوحها وانهم كَانُوا يعيثون فِيهَا فَسَادًا وقتلا فَمَا كَانَ من الْأَمِير السديد مَنْصُور إِلَّا ان عرض الوزارة على القَاضِي أبي أَحْمد لكنه ابى ذَلِك وَقَالَ ان أتربع على الوزارة فَأنى للأمير الْيَوْم من يمحضه النصح والإرشاد خَالِصا لوجه الله ثمَّ إِن ذَوي المارب والأطماع الْخَاصَّة سيقولون ان القَاضِي لم يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ذَلِك إِلَّا طَمَعا بالوزارة لَا حبا فِي الدّين والأمير فِرَاق مَنْصُور هَذَا وَقَالَ كَيفَ السَّبِيل إِذن إِلَى الْوَزير الَّذِي نُرِيد قَالَ القَاضِي ان للأمير وزيرا مُسلما كُفؤًا وَابْن وَزِير وَأهلا للوزارة أَيْضا قَالَ مَنْصُور أَيْن قَالَ القَاضِي سِجِّين فِي قهندز فَأمر مَنْصُور بإحضار أبي عَليّ البلعمي وبكتوزون من السجْن وسير إِلَيْهِمَا فِي الْيَوْم نَفسه من أَتَى بهما فأعيدا إِلَى عمليهما السَّابِقين بأتم ايات الاحترام والاعزاز وَالْقُوَّة وَفِي الْيَوْم التَّالِي اختلى الْأَمِير الْوَزير وَالْقَاضِي وبكتوزون فَاعْلَم الْأَمِير بالأحوال من قريب وَمن بعيد وَاتَّفَقُوا على التَّخَلُّص أَولا من مقنعي فرغانه والصغد الَّذين كَانُوا يعْرفُونَ بالمبيضة وَمن قرامطة الطالقان ثمَّ التفرغ إِلَى أبي مَنْصُور عبد الرَّزَّاق وأخيرا إِلَى الْخَاصَّة ومتصدي سدنة الْقصر وَفِي الْيَوْم الثَّانِي مضى الْعلمَاء إِلَى سراي الْوَزير برسائل الْعمَّال فِي الْمَدِينَة متظلمين وطلبوا إِلَيْهِ أَن يوافي الْأَمِير بِخُرُوج القرامطة غير أَن أَبَا عَليّ تباطأ عمدا حَتَّى قَالَ الْعلمَاء انه لَا يتوانى إِذا لم يكن يناصرهم ويساندهم فَأخْبر أَبُو عَليّ الْأَمِير أَمَام الْمَلأ فامره بِإِقَامَة محفل يحضرهُ زعماء القرامطة وَالْعُلَمَاء ليتناظروا فِيمَا بَينهم ثمَّ تطبق عَلَيْهِم مَا يَتَرَتَّب على ذَلِك مِمَّن أَحْكَام الشَّرِيعَة وَالْإِسْلَام وَفِي الْيَوْم التَّالِي أَقَامَ أَبُو عَليّ البلعمي محفلا فِي قصر الْأَمِير دَعَا إِلَيْهِ أَبَا أَحْمد المرغزي قَاضِي الحضرة وأئمتها وأعيانها كَافَّة وَأرْسل من أَتَى بزعماء القرامطة والمعروفين من متكلميهم وبدا من المناظرة انه لم تكن لَدَى القرامطة أَقْوَال تتفق هِيَ وأصول الشَّرْع فَكَانَ أَن جلد عَتيق الْأَعْوَر مائَة جلدَة وَأرْسل إِلَى خوارزم ليَمُوت فِي سجنها وَجلد أَبُو الْفضل رنكرز مائَة جلدَة أَيْضا وَأرْسل وزوجه وَأَوْلَاده مَعَه إِلَى اموي حَتَّى يَمُوت هُنَاكَ كَذَلِك ثمَّ أرسل بكتوزون وَأَبُو الْقَاسِم الَّذِي كَانَ وَكيلا لفارس وخوزستان بِجَيْش إِلَى طالقان وَلَقَد قبضا علاوة على من قتل على أَرْبَعمِائَة رجل معروفي مِمَّن اعْتَرَفُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 بقرمطيتهم وَغنما سِتِّينَ ألف دِينَار وَأَتيا بِمِائَة ألف دِرْهَم إِلَى بَيت المَال وَأرْسل الأسرى بامر من الْقصر إِلَى قَضَاهُ فَارس وخوزستان إِلَى الحضرة حَيْثُ أعدم قسم مِنْهُم وأودع الاخرون السجْن إِلَى أَن مَاتُوا وَلما فرغوا من أَمر طالقان ندبوا إِسْحَاق الْبَلْخِي وَبِك ارسلان إِلَى فرغانه وَأرْسل مَعَهم الْفَقِيه أَبُو مُحَمَّد لتبصيرهم بِأُمُور الشَّرْع وَبعد الْفَتْح دخلا إِسْحَاق الْبَلْخِي وَبِك أرسلان فرغانه وهزما جموع القرامطة فَقتلُوا بَعضهم وصادروا أَمْوَال اخرين فِي حِين أقرّ بَعضهم بجهلهم وخطأهم وأعلنوا تَوْبَتهمْ وَلما عرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام قبلوه ودخلوا فِيهِ وَارْتَدوا عَن ذَلِك الْمَذْهَب ثمَّ عَاد الْجَيْش إِلَى بُخَارى بالغنائم الوفيرة وَلما سُئِلَ أَبُو مُحَمَّد الْفَقِيه كَيفَ كَانَ مَذْهَب المقنعية أجَاب كَانُوا يبيحون الْفروج فِيمَا بَينهم دونما حرج وَكَانَ إِذا مَا أَرَادَ أحدهم أَن يتَزَوَّج امْرَأَة فَلَا مندوحة من أَن يدْخل بهَا رئيسهم أَولا ثمَّ زَوجهَا لقد أحلُّوا الْخمر وَلم يَكُونُوا يغتسلوا من الْجَنَابَة وَلَقَد أباحوا مُوَاصلَة الْأُم وَالْأُخْت والابنة وأنكروا الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج وَالْجهَاد وَلما فرغوا من هَؤُلَاءِ جَمِيعًا اجْتمع الْأَمِير السديد مَنْصُور والوزير وبكتوزون وَالْقَاضِي فَقَط للتداول فِي الْقَضَاء على من فِي البلاط والديوان وخواص الْأَمِير مِمَّن اعتنقوا مَذْهَب القرامطة وَالْقَضَاء على أبي مَنْصُور عبد الرَّزَّاق وتطهير خُرَاسَان وَالْعراق وَمَا وَرَاء النَّهر من القرامطة دفْعَة وَاحِدَة وَاتَّفَقُوا لخُرُوج البتكين من خُرَاسَان واقامته بغزنين وَلِأَنَّهُ لَيْسَ ثمَّة فِي خُرَاسَان الْيَوْم من هُوَ أقوى من أبي مَنْصُور عبد الرَّزَّاق أَمِير طوس على تَطْهِير الحضرة وَهِي مقرّ الْأَمِير من القرامطة أَولا ثمَّ التفرغ لأبي مَنْصُور والأماكن الاخرى ثمَّ أسندت قيادة جَيش خُرَاسَان إِلَى نَاصِر الدولة أبي الْحسن سيمجور واستدعى بِجَيْش خُرَاسَان كُله إِلَى الْقصر وَلما وصل إِلَى الحضرة اسْتَطَاعَ الْأَمِير وأعوانه أَن يقبضوا بقوته على كل من صَار إِلَى القرامطة من الْخَاصَّة والكتبة جَمِيعًا وسلبوهم أَمْوَالهم كَافَّة وقتلوهم كلهم ثمَّ بعثوا أَبَا الْحسن سيمجور بِجَيْش خُرَاسَان لقِتَال أبي مَنْصُور عبد الرازق وَالْقَبْض عَلَيْهِ وَكَتَبُوا رسائل الى أُمَرَاء الْأَطْرَاف وَإِلَى وشمجير ليَأْتِي من جرجان بِجَيْش تنصم اليه سَائِر الجيوش ثمَّ تمْضِي مَعًا لمحاصرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 طوس وَالْقَبْض على أبي مَنْصُور وَقتل من تَجدهُ من القرامطة فِيهَا لما راى أَبُو مَنْصُور وَقد كَانَ مَرِيضا الجيوش تضرب الْحصار على طوس فر إِلَى جرجان غير أَن وشهجير طلع لَهُ فِي الطَّرِيق فاشتبكا فِي قَالَ ضار من الضُّحَى إِلَى صَلَاة الْعَصْر خارت مَعَه قوى أبي مَنْصُور وفت فِي عضدع لضَعْفه ومرضه فَنزل عَن جَوَاده وأيند رايه إِلَى أحد غلمانه وَأسلم الرّوح حَالا فَانْهَزَمَ جَيْشه وَأطلق السيقان للريح وَأمر وشمجير بفصل رَأس أبي مَنْصُور عَن جسده ثمَّ أَخذ جَيْشه يطاردون فلول المنهزمين يقتلُون وَيَأْسِرُونَ إِلَى صَلَاة الْمغرب واستولوا على مَتَاع أبي مَنْصُور وخزانته جَمِيع فَبعث بِهِ وشمجير وَمَعَهَا مائَة وَثَمَانُونَ أَسِيرًا إِلَى الْأَمِير السديد فِي الحضرة ثمَّ أطبق أَبُو الْحسن سيمجور على الولايات من طرف ووشمجير وقابوس ابْنه من الطّرف الاخر وَأخذُوا يقتلُون القرامطة حَتَّى أَنه لم يبْقى فِي خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر قرمطي وَاحِد وغار هَذَا الْمَذْهَب فِي بطن الأَرْض دفْعَة وَاحِدَة وَلم يبْق لأحد من معتنقيه أثر خُرُوج مُحَمَّد البرقعي بِمذهب الباطنية فِي خوزستان وَالْبَصْرَة بِجَيْش من الزنج وَفِي سنة مئتين وَخمْس وَخمسين هجرية 255 هـ خرج مُحَمَّد بن عَليّ البرقعي الْعلوِي بالأهواز بعد أَن أغوى زنوج خوزستان وَأهل الْبَصْرَة عدَّة سنوات ودعاهم ومناهم بالوعود لقد خرج مُفِيدا من تِلْكَ الوعود وانضم إِلَيْهِ الونوج فاستولى على الأهواز أَولا ثمَّ الْبَصْرَة وخوزستان جَمِيعهَا أما الزنوج فَقتلُوا خواجاتهم وَوَضَعُوا أَيْديهم على ثرواتهم وَنِسَائِهِمْ وَبُيُوتهمْ وهزموا جيوش الْمُعْتَمد مَرَّات وظل البرقعي يسود على الْبَصْرَة وخوزستان أَربع عشرَة سنة وَأَرْبَعَة شهور وَسِتَّة أَيَّام إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ فِي النِّهَايَة وَقضي على الزنوج جَمِيعًا وَفِي اخر صفر من عَام 270 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 اقتيد مُحَمَّد البرقعي إِلَى بَغْدَاد وفيهَا قتل أما مذْهبه فَكَانَ كمذهب مزدك وبابك وَأبي زَكَرِيَّا والخرمية والقرامطة فِي كل شَيْء خُرُوج أبي سعيد الجنابي وَابْنه أبي طَاهِر خذلهما الله فِي الْبَحْرين والأحساء وَفِي عهد المعتضد ايضا خرج أَبُو سعيد الْحسن بن بهران الجنابي فِي الْبَحْرين والأحساء ودعا أهلهما إِلَى مَذْهَب السبعية الَّذِي نسمية نَحن الباطنية فأضلهم وَقَوي أمره وَلما استحكم شَأْنه هُنَاكَ أَخذ يقطع الطّرق ويغير على النواحي والأطراف وَأظْهر الْإِبَاحَة علنا وَاسْتمرّ على هَذَا المنوال شطرا من الزَّمن إِلَى أَن اغتاله أحد الخدم مِمَّا حدا بِهَذِهِ الطَّائِفَة أَن لَا تعتمد الخدم أَو تركن إِلَيْهِم فِي الْبَحْرين والأحساء من بعد وَتَوَلَّى بعد أبي سعيد ابْن لَهُ كَانَ يكنى بَابي طَاهِر الَّذِي اخذ نَفسه بالصلاح حينا وَكَانَ يعرف شَيْئا من مقَالَة السبعية وَأرْسل أَبُو طَاهِر إِلَى الدعاة يستفسر عَن غَايَة كِتَابهمْ البلاغة السَّابِع فَأَرْسلُوهُ إِلَيْهِ وَلما قَرَأَ الْكتاب أضحى وَكَأَنَّهُ كلب ضار فَدَعَا كل من كَانَ فِي الْبَحْرين والاحساء من الشَّبَاب وعشاق السِّلَاح هلموا إِلَيّ فَإِن لي بكم حَاجَة وَكَانَ ذَلِك قبيل موسم الْحَج فتجمع حوله خلق لَا يُحصونَ عدا مضى بهم إِلَى مَكَّة وَوصل فِي وَقت أَدَاء الْفَرِيضَة وَقد كَانَ الحجيج محرمين فَأمر رِجَاله أَن اشرعوا سُيُوفكُمْ واقتلوا كل من تصادفونه وأطلقوا أَيْدِيكُم بالمكيين والمجاورين واستلوا سيوفهم وأعملوها فِي النَّاس قتلا فَلَمَّا رَأَتْ الْخَلَائق هَذَا فزعت إِلَى دَاخل الْحرم وَوضعت الْمَصَاحِف أمامها أما المكيون فهرعوا الى السِّلَاح وتأزر كل من كَانَ لَدَيْهِ سلَاح بِهِ وَمضى إِلَى ساحة الوغى فَلَمَّا رأى أَبُو طَاهِر الْأَمر على هَذِه الْحَال أخرج إِلَى وسط ساحة الْقِتَال رَسُولا يَقُول لقد جِئْنَا لِلْحَجِّ لَا لِلْقِتَالِ وَكَانَ الذَّنب ذنبكم إِذْ أفسدتم علينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 إحرامنا وقتلتم وَاحِد من دون ذَنْب فاضطررتمونا إِلَى حمل السِّلَاح وَإِذا مَا ذاع فِي الْعَالم أَن المكيين يتأبطون الأسلحة ويعبثون فِي الحجيج قتلا فسيعزف النَّاس عَن الْحَج وتوصد طَرِيقه وتسوء سمعتكم لَا تفسدوا علينا حجنا بل دَعونَا نُؤَدِّي الْفَرِيضَة وخيل للمكيين صدق قَوْله وَلم يستبعدوا أَن أحد قد تحرش بهم فشهر سلاحه عَلَيْهِم وَقتل وَاحِد مِنْهُم وَاتَّفَقُوا على أَن يُعِيد الجانبان السيوف إِلَى أغمادها وأقسما بالقران الْكَرِيم يَمِينا لَا رَجْعَة فِيهَا بألا يعودا إِلَى الْقِتَال ثَانِيَة وأ يتراجع المكيون ويعيدوا الْمَصَاحِف إِلَى امكنتها فِي الْحرم حَتَّى يتَمَكَّن الجانبان من زِيَارَة الْكَعْبَة وتأدية مَنَاسِك الْحَج وَأقسم الْمُسلمُونَ من المكيين وَالْحجاج كَمَا أقسم أبوطاهر وَرِجَاله وفْق إرادتهم ثمَّ تراجعوا وألقوا السِّلَاح وَعَاد المكيون ثمَّ أعادوا الْمَصَاحِف إِلَى أماكنها واستأنف الحجيج تأدية مناسكهم وطوافهم وَلما راى أَبُو طَاهِر أَن حَملَة السِّلَاح قد تفَرقُوا أَمر أعوانه أَن هبوا إِلَى السِّلَاح واندفعوا إِلَى الْحرم واقتلوا كل من تلقونه فِي دَاخله وخارجه واندفعوا بسيوفهم ورماحهم إِلَى الْحرم بَغْتَة وَأخذُوا يقتلُون كل من يجدونه فِي طريقهم إِلَى ان قتلوا المجاورين جَمِيعًا وخلقا كثيرين غَيرهم وَجعل النَّاس يلقون بِأَنْفسِهِم فِي الابار ويقرون إِلَى رُؤُوس الْجبَال خوفًا من السَّيْف وَأخرج القرامطة الْحجر الْأسود من الْكَعْبَة وصعدوا إِلَى سطحها وخلعوا ميزابها الذَّهَبِيّ وهم يرددون لقد صَار ربكُم إِلَى الساء وخلى بَيته الْكَعْبَة نهبا مضاعا فِي الأَرْض انهبوه ودمروه ثمَّ نزعوا كسْوَة الْكَعْبَة عَنْهَا ونهبوها قِطْعَة قِطْعَة وهم يرددون باستهزاء بعض الْآيَات الْكَرِيمَة {وَمن دخله كَانَ آمنا} {وآمنهم من خوف} وَيَقُولُونَ أَيْضا لماذا لم تأمنوا شَرّ سُيُوفنَا وَقد دَخَلْتُم الْكَعْبَة لَو كَانَ لكم إِلَه لوقاكم جراحات سُيُوفنَا وأمنكم من خوفها وَغير هَذَا من عِبَارَات الْكفْر ثمَّ استولوا على نسَاء المكيين وَأَبْنَائِهِمْ وأخذوهم سَبَايَا مَعَهم أما الْقَتْلَى فَتَجَاوز عَددهمْ عشْرين ألفا فضلا عَمَّن ألقوا بانفسهم فِي الابار أَحيَاء حَتَّى هَؤُلَاءِ أَمر أَبُو طَاهِر بإلقاء الْقَتْلَى فَوْقهم ليلقوا حتفهم أَيْضا واما غنائمهم فَكَانَت مائَة ألف بعير ومقادير لَا حصر لَهَا من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالدَّنَانِير والقصب والمسك والعنبر وطرائف أُخْرَى ثمينة وَلما عَادوا إِلَى الاحساء بعثوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 بِهَدَايَا من هَذِه الْأَمْوَال إِلَى الدعاة فِي كل مَكَان لقد مزلت هَذِه الكارثة بِالْإِسْلَامِ فِي عهد المقتدر سنة ثَلَاثمِائَة وَسبع عشرَة هجرية ثمَّ أرسل أَبُو طَاهِر هَدِيَّة إِلَى أبي سعيد بالمغرب وَكَانَ غُلَاما يَهُودِيّا رباه أحد ابناء عبد الله بن مَيْمُون القداح واسنه أَحْمد الَّذِي كَانَ قد تزوج أمه أم أبي سعيد ثمَّ علمه الْأَدَب والفضيلة وهيأ لَهُ سَبِيل الجاه والثروة وَجعله ولي عَهده ولقنه أصُول الدعْوَة وبصره برموزها واياتها ثمَّ مضى أَبُو سعيد إِلَى الْمغرب وَأقَام بِمَدِينَة سجلماس وتعاظم أمره ثمَّة وَفرض الْمَذْهَب على رِقَاب الْخلق بِالسَّيْفِ وَادّعى انه الْمهْدي وَأَنه علوي ثمَّ فرض على النَّاس خراجا باهضا وَأحل الْخمْرَة وأباح الْأُم وَالْأُخْت والابنه وَجعل يلعن المروانيين والعباسيين على رُؤُوس الاشهاد وَأمر اتِّبَاعه بلعنهم أَيْضا وَيطول ينا الْمقَام لَو ذكرنَا الدِّمَاء الَّتِي سفكها بِغَيْر حق والعادات السَّيئَة الَّتِي سنّهَا فَهَذَا الْمُخْتَصر لَا يَتَّسِع لَهَا وَقد ورد فِي كتب التَّارِيخ أَن هَؤُلَاءِ الَّذين يتسنمون سدة الحكم فِي مصر من أَبنَاء أبي سعيد وَلما جَاءَ أَبُو طَاهِر بن أبي سعيد إِلَى الأحساء جمع الْكتب السماوية من قرَان وتوراة وزبور وإنجيل أَنى وجدت وَرمى بهَا فِي الصَّحرَاء وَقَالَ لقد دمر النَّاس فِي الدُّنْيَا ثَلَاثَة راعي غنم وطبيب وراعي إبل اني لفي غيظ شَدِيد على الْأَخير خَاصَّة فقد كَانَ أذكاهم وادهاهم واكثرهم شعبذة وحيلة ثمَّ أَبَاحَ الْأُخْت وَالأُم والإبنة وشق الْحجر الاسود نِصْفَيْنِ وَوَضعه على حافتي مرحاض وَكَانَ يضع إِحْدَى رجلَيْهِ حِين يجلس على نصفه وَالْأُخْرَى على النّصْف الآخر وَأمر بسب الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ولعنهم عَلَانيَة وساء الْعَرَب جدا امْرَهْ النَّاس باباحة الْأُم ومواصلتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 حَتَّى ان كثيرين مِنْهُم تجرعوا شَيْئا من الزرنيخ والكبريت الْأَصْفَر حبا فِي الْمَوْت على أَن يواصلوا أمهاتهم إِلَّا أَن أهل الْمغرب تلقوا لجهلهم هَذَا الْأَمر تلقيا طبيعيا وَأخذُوا بِهِ وَعَاد أَبُو طَاهِر فهاجم قوافل الحجيج مرّة أُخْرَى نَاكِثًا أيمانه ضَارِبًا بهَا عرض الْحَائِط وَقتل خلقا كثيرا غير أَنه لما علم هُوَ ورهطه بتجمع الْمُسلمين بخراسان وَالْعراق وعزمهم على التَّوَجُّه إِلَى الْحَج برا وبحرا خَافُوا فَأَعَادُوا الْحجر الْأسود وَلما صَار الْمُسلمُونَ إِلَى مَسْجِد الْكُوفَة الْجَامِع إِذا الْحجر الْأسود ملقى هُنَاكَ فَأَخَذُوهُ ورتقوه بقضيب حَدِيد وَحَمَلُوهُ إِلَى مَكَّة وأعادوه إِلَى مَكَانَهُ واستقدم أَبُو طَاهِر زكيره كبر الْمَجُوسِيّ منم أصفهان إِلَى الأحساء وولاه الْحُكُومَة فِيهَا فشمر الرجل عَن سَاقه وَقتل سَبْعمِائة من رُؤَسَاء القرامطة وَأَرَادَ أَن يقتل أَبَا طَاهِر وإخوانه فَعلم أَبُو طَاهِر بِالْأَمر وَقَتله بحيلة من الْحِيَل وتسلم زِمَام السلطة من جَدِيد وَلَو ذكرنَا جَمِيع مفاسد هَذَا الْكَلْب وفتنه فِي الأسلام الَّتِي امتدت الى خلَافَة الراضي لناء الْكتاب بِحمْلِهِ وَفِي عهد الراضي خرج الديالمة أَيْضا وَلَقَد ذكرت هَذَا الْقدر ليعلم سيد الْعَالم خلد الله ملكه حَقِيقَة مَذْهَب هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين لَا يركن إِلَى وعودهم وَأَيْمَانهمْ فَمَا أَكثر مَا قَامَت بِهِ الباطنية من فَسَاد وأعمال بذيئة فِي كل الْأَوْقَات الَّتِي طَالَتْ فِيهَا أَيْديهم على الْمُسلمين وديار الْإِسْلَام انهم قوم شُؤْم كلهم وأعداء أَي أَعدَاء لِلْإِسْلَامِ وَالْملك خُرُوج الْمقنع فِي مَا وَرَاء النَّهر وَفِي هَذِه الاونة أَيْضا خرج الْمقنع المرغزي فِي بِلَاد مَا وَرَاء النَّهر ونفض الشَّرِيعَة من أَيدي قومه دفْعَة وَاحِدَة فَبَدَأَ أول الْأَمر بالدعوة إِلَى الْمَذْهَب الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الباطنية مِثْلَمَا يفعل أَبُو سعيد الجنابي وَأَبُو سعيد المغربي وَمُحَمّد الْعلوِي البرقعي ودعاتهم كَانَ الْمقنع معاصرا لأبي سعيد الجنابي وَأبي سعيد المغربي وَكَانَت بيينهم مكاتبات ومراسلات لقد خرج الْمقنع على النَّاس بطلسم سحرِي فِي مَا وَرَاء النَّهر إِذْ أخرج من كل جبل شَيْئا على غرار الْقَمَر وَكَانَ أهل تِلْكَ النواحي يرَوْنَ تِلْكَ الأشكال يوميا فِي موعد طُلُوع الْقَمَر تَمامًا وَمَضَت على هَذَا مُدَّة طَوِيلَة وَلما تمكن الْمقنع من إِخْرَاج سكان تِلْكَ الْولَايَة من دَائِرَة الشَّرِيعَة وَالْإِسْلَام وَقَوي شَأْنه ادّعى الألوهية فأريقت لهَذَا الدِّمَاء وَظَهَرت الْمَفَاسِد وَتَقَدَّمت جيوش الْمُسلمين من شَتَّى الْأَطْرَاف لقتاله واشتبكت مَعَه فِي حروب دَامَت سنوات لَو نذْكر أَخْبَارهَا لاحتاجت إِلَى مجلدات ان أخباره وأخبار كل وَاحِد من الْكلاب الَّذين ذكرت تحْتَاج إِلَى كتاب ضخم كَبِير مَكْتُوب بِخَط دَقِيق وَلَقَد اكتفيت بِالْقدرِ الَّذِي ذكرت حَتَّى لَا يَخْلُو ذكر الْمقنع من بَين هَؤُلَاءِ تعدد أَسمَاء الباطنية لقد كَانَ للباطنية فِي كل وَقت خَرجُوا فِيهِ اسْم ولقب يخْتَلف عَنهُ فِي وَقت اخر وَعرفُوا بأسماء وألقاب مُتَفَاوِتَة فِي كل مَدِينَة وَولَايَة وَإِن تكن مَعَ ذَلِك وَاحِدَة فِي مَعْنَاهَا فقد كَانَ يُقَال لَهُم الإسماعلية فِي حلب ومصر والسبعية فِي قُم وكاشان وطبرستان وسبزوار والقرامطة فِي بَغْدَاد وَمَا وَرَاء النَّهر وغزنين والمباركية فِي الْكُوفَة والراوندية والبرقعية فِي الْبَصْرَة والخلفية فِي الرّيّ والمحمرة فِي جرجان والمبيضة فِي الشَّام والسعيدية فِي الْمغرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 والجنابية فِي الأحساء والباطنية فِي أصفهان أما هم فَكَانُوا يطلقون على أنفسهم التعليمية وأمثال هَذَا وَكَانَ هدفهم تقويض دعائم الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين وَالْعَمَل على غواية الْخلق وضلالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الْفَصْل السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ فِي خُرُوج الخرمدينية خذلهم الله وَاذْكُر الان نبذا مختصرة فِي مَوْضُوع الخرمدينية ليَكُون سيد الْعَالم خلد الله ملكه على علم بأحوالهم وأخبارهم كلما خرج الخرمية كَانَ الباطنية ينضمون إِلَيْهِم ويشدون أزرهم ويقوونهم وَكَانَت الخرمية أَيْضا تنضم إِلَى الباطنية كلما خَرجُوا وتمدهم بِالْمَالِ وَالرِّجَال لِأَن أصل مَذْهَبهم وَاحِد فِي مَوْضُوعه وفساده وموقفه من الدّين فَفِي سنة مائَة واثنتين وَسِتِّينَ 162 هـ فِي خلَافَة الْمهْدي قوي كثيرا أَمر باطنية جرجان الَّذين كَانَ يُطلق عَلَيْهِم أَصْحَاب الرَّايَات الْحمر أَي المحمرة ووحدوا كلمتهم مَعَ الخرمية وَزَعَمُوا ان أَبَا مُسلم حَيّ وسنخلص نَحن الْملك ونعيده إِلَيْهِ ثَانِيَة ثمَّ رئسوا ابْن ابي الغزا حفيد أبي مُسلم عَلَيْهِم ومضوا إِلَى الرّيّ فأحلوا الْمُحرمَات كلهَا وأباحوا نِسَاءَهُمْ فِيمَا بَينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وَكتب الْمهْدي كتبا إِلَى الْأَطْرَاف يَأْمُرهُم فِيهَا بالانضواء بحت لِوَاء عمر بن الْعَلَاء وَالِي طبرستان والتوجه إِلَى حَرْب الخرمدينية فانصاعوا لِلْأَمْرِ وتوجهوا لقتالهم فشتتوا جموعهم وَحين كَانَ هَارُون الرشيد بخراسان خرج الخرمدينيون مرّة أُخْرَى فِي ترمدين وكابله وفابك ونواح أُخْرَى من أصفهان وتوجهت إِلَيْهِم أعداد كَبِيرَة من الرّيّ وهمذان ودشت بيه والتحقت بهم فَصَارَ عَددهمْ أَكثر من مائَة ألف شخص وَندب هَارُون الرشيد عبد الله بن مَالك بِعشْرين ألف مقَاتل من خُرَاسَان لحربهم فخافوه وَعَاد كل قوم إِلَى مكانهم وَكتب عبد الله إِلَى الرشيد لَا مندوحة لي من مدد أبي دلف وجاءه الْجَواب لتنضو تَحت لوائه فاتحد الطرفان وَكَانَ الخرمدينية قد جمعُوا من جَدِيد عددا غفيرا من النَّاس بتدبير من الباطنية وخداعها وأطلقوا أَيْديهم فِي الْفساد النهب وَالسَّلب فهاجمهم أبودلف الْعجلِيّ وَعبد الله بن مَالك بَغْتَة وَكَانُوا غافلين وَقتلُوا مِنْهُم خلقا لَا يعد وَلَا يُحْصى وحملوا نِسَاءَهُمْ وأبناءهم إِلَى بَغْدَاد وباعوهم خُرُوج بابك وَبعد تسع سنوات خرج بابك من اذربيجان فقصده الباطنية للألتحاق بِهِ لكِنهمْ لما سمعُوا بَان جَيْشًا أرسل ليعترض طريقهم خَافُوا وعادوا أدراجهم وَتَفَرَّقُوا وَفِي عَام 212 هـ فِي أَيَّام الْمَأْمُون خرج الخرمدينية من نواحي أصفهان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وترمدين وكابله وكرج وانضم إِلَيْهِم الباطنية وعاثوا فِي الْبِلَاد فَسَادًا ثمَّ مضوا إِلَى أذربيجان والتحقوا ببابك وَأرْسل الْمَأْمُون مُحَمَّد بن حميد الطَّائِي لقِتَال بابك والخرمية وَأمره أَولا بِحَرب زُرَيْق بن عَليّ صَدَقَة الَّذِي كَانَ قد عصى وَتَوَلَّى ولَايَة قوهستان الْعرَاق وَأخذ يُغير على القوافل ويستولي عَلَيْهَا وسير مُحَمَّد بن حميد الطَّائِي جَيْشًا بِمَالِه الْخَاص وَمضى بِهِ دون أَن يطْلب من خزانَة الْمَأْمُون شَيْئا وَصَارَ إِلَى حَرْب زُرَيْق فَقبض عَلَيْهِ وَأهْلك قومه وشتت جمعهم فولاه الْمَأْمُون لذَلِك قزوين ومراغة وَأكْثر أذربيجان ثمَّ مضى مُحَمَّد إِلَى قتال بابك فدارت بَينهمَا معارك ضارية استمرت سِتَّة أشهر قتل مُحَمَّد بن حميد فِي نهايتها دون أَن يحرز على البابكية نصرا وتفاقم أَمر بابك فَأرْسل خرمية أصفهان إِلَيْهَا أما الْمَأْمُون فعز عَلَيْهِ مقتل قائده مُحَمَّد حميد حميد الطَّائِي جدا وَندب فِي الْحَال عبد الله بن طَاهِر الَّذِي كَانَ واليا على خُرَاسَان لِحَرْب بابك وولاه ولَايَة قوهستان كلهَا وَمَا كَانَ قد تمّ فَتحه والاستيلاء عَلَيْهِ من أذربيجان وَتوجه عبد الله إِلَى أذربيجان فَلم يسْتَطع بابك أَن يثبت أَمَامه بل فر إِلَى قلعة حَصِينَة وتشتت جموع الخرمية وبحلول سنة 218 هـ خرج خرمية فَارس وأصفهان وكل قوهستان وأذربيجان منتهزين ذهَاب الْمَأْمُون إِلَى بِلَاد الرّوم وتواعدوا جَمِيعًا على لَيْلَة بِعَينهَا خَرجُوا فِيهَا جَمِيعهم فِي كل المدن والولايات بإيعاز من بابك وتدبيره فَقتلُوا عُمَّال المدن وأعدادا غفيرة من الْمُسلمين ونهبوا مَنَازِلهمْ وَسبوا أَبْنَاءَهُم وأخذوهم عبيدا لَهُم لَكِن مُسْلِمِي فَارس جمعُوا أنفسهم فانتصروا على الخرمية فِيهَا وَقتلُوا وأسروا مِنْهُم كثيرا أما خرمية أصفهان فَجمعُوا أنفسهم فِي دَار وترمدين وحشد رئيسهم الَّذِي كَانَ يدعى عَليّ بن مزدك عشْرين ألف رجل على مشارف الْمَدِينَة ثمَّ مضى بهم وَأَخُوهُ مَعَه إِلَى كرج وَكَانَ أبودلف غَائِبا وَلم يكن فِي الْمَدِينَة حينذاك سوى أَخِيه معقل الَّذِي لم يسْتَطع أَن يُقَاوم بِخَمْسِمِائَة خيال ففر إِلَى بَغْدَاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 أما عَليّ بن مزدك فاستولى على كرج ونهبها وَقتل من وجد فِيهَا من الْمُسلمين ثمَّ سبا نسَاء العجليين وبنيهم وَأَخذهم مَعَه وتحول من هُنَاكَ إِلَى أذربيجان للالتحاق ببابك ثمَّ أَخذ الخرمية يتدفقون على بابك من شَتَّى الأرجاء لقد كَانُوا بادىء ذِي بَدْء عشرَة الاف ثمَّ غدوا خَمْسَة وَعشْرين ألفا تجمعُوا فِي الْمَدِينَة الَّتِي تدعى شارستانة بَين قوهستان وأذربيجان وَهُنَاكَ الْتحق بهم بابك واعمل جَيش إِسْحَاق سيوفهم وَأخذُوا يقتلُون فَبلغ عدد الْقَتْلَى من الخرمية غير من أعْطوا الْأمان فِي معركة وَاحِدَة مائَة ألف أما من مضوا إِلَى أصفهان مَعَ أخي عَليّ بن مزدك فَكَانَ عَددهمْ عشرَة الاف وَكَانَ أَخُو عَليّ هَذَا قد حمل مَعَه النِّسَاء والأطفال وعد بيُوت رُؤَسَاء الْمَدِينَة ملكا لَهُ وأدخلها فِي حسبانه سلفا غير أَن عَليّ بن عِيسَى أَمِير أصفهان كَانَ غَائِبا فتصدى قَاضِي الْمَدِينَة ورؤساؤها واهلها وأعيانهم لحربهم واطبقوا عَلَيْهِم من ثَلَاثَة جَوَانِب وهزموهم وأسروا نِسَاءَهُمْ وأبناءهم وحملوهم إِلَى الْمَدِينَة واتخذوهم عبيدا لكِنهمْ ضربوا رِقَاب الْبَالِغين من الْأَبْنَاء وألقوا بهم فِي الْأَبَّار بعد هَذَا بست سنوات تفرغ المعتصم للخرمية وَندب الإفشين لِحَرْب بابك فقاد الإفشين الجيوش وَمضى بهم إِلَيْهِ وهب الخرمية والباطنية لنجدة بابك من كل حدب وَصوب وباختصار فقد ظلوا يحارتون إِلَى جَانِبه سنتَيْن دارت فِي خلالهما رحى معارك طاحنة بَين الإفشين وبابك وَقتل فِيهَا عدد لَا يُحْصى من الْجَانِبَيْنِ ولجأ الإفشين فِي النِّهَايَة إِلَى الْحِيلَة فَفرق أَكثر عسكره الَّذين قوضوا خيامهم فِي عتمة اللَّيْل البهيم وتراجعوا فرسخين وحطوا الرّحال هُنَاكَ ثمَّ أرسل إِلَى بابك من يَقُول لَهُ ابْعَثْ إِلَيّ بِرَجُل عَاقل مجرب من رجالك لأكلمه فِي أُمُور فِيهَا مصلحَة الطَّرفَيْنِ مَعًا فَأرْسل إِلَيْهِ بابك رجلا قَالَ لَهُ الإفشين قل لبابك ان لكل أَمر نِهَايَة ان رَأْي الادمي لَيْسَ كراثا يَنْمُو من جَدِيد إِذا مَا قطع لقد قتل أَكثر رجالي وَلم يبْق حَتَّى وَاحِد من كل عشرَة مِنْهُم وَهَكَذَا الْحَال فِيمَا أعلم بِالنِّسْبَةِ لرجالك هيا بِنَا نتصالح فتقنع أَنْت بِالْولَايَةِ الَّتِي فِي حوزتك وتتربع عَلَيْهَا بامن وَسَلام وأعود أَنا لأحصل لَك على عهد أَمِير الْمُؤمنِينَ بِالْولَايَةِ وأرسله وَإِلَّا فتعال نتحارب من جَدِيد لنرى لمن يكون الظفر وَخرج الرَّسُول من عِنْد الإفشين وَهُوَ يسرح النّظر فِي شَتَّى الْجِهَات ليرى حد الْجَيْش لكنه لم ير سوى جنود خفاف وَكَأَنَّهُم يمتطون أَجْنِحَة الْهَزِيمَة وَلما عَاد إِلَى بابك نقل إِلَيْهِ مقَالَة الإفشين وَأخْبرهُ عَن قلَّة عدد الْجَيْش فاذا هِيَ الْأَخْبَار عينهَا الَّتِي انهاها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 عُيُون بابك إِلَيْهِ وَاتفقَ بابك ورهطه على أَن يشعلوها حَربًا شعواء بعد ثَلَاثَة أَيَّام أما الإفشين فَأرْسل إِلَى جيوشه الَّتِي كَانَ قد أمرهَا بالتراجع يَقُول تَعَالَوْا يَوْم لنزل لَيْلًا واختبئوا على بعد فَرسَخ وَنصف من على يَمِين الْجبَال والأدوية ويسارها وَحين أتظاهر بالهزيمة وابتع عَن الجيوش مَسَافَة بعيدَة فَإِن قسما من جَيش بابك سيلاحقني ويتفرغ الْقسم الاخر للإغارة على المعسكر ونهبه حِينَئِذٍ اخْرُجُوا من وَرَاء الْجبَال واستلموا طَرِيق الْوَادي لِئَلَّا يتمكنوا من العودة والوصول إِلَيْهِ وساعود حِين ذَاك وَفِي يَوْم الْحَرْب أخرج بابك جَيْشه من الْمضيق وَكَانَ عدده أَكثر من مائَة ألف خيال وراجل فَبَدَا جَيش الإفشين حَقِيرًا ضئيلا فِي أَعينهم لِأَنَّهُ كَانَ قَلِيلا بِالنِّسْبَةِ لما كَانُوا قد رَأَوْهُ من جيوش ودارت المعركة وَحَارب الجانبان بضراوة وَقتل مِنْهُمَا عدد كَبِير فَلَمَّا رنحت شمس الْأَصِيل إِلَى المغيب لَاذَ الإفشين بالفرار عمدا وَلما ابتعد عَن المعسكر فرسخا قَالَ لحامل الرَّايَة قف وانصب الرَّايَة هُنَا وَأخذ كل من يصل إِلَى هَذَا الْمَكَان من الْجند يتَوَقَّف عِنْده اما بابك فَقَالَ لجنده لَا تشْغَلُوا أَنفسكُم بالغارة والغنائم قبل أَن نرتاح بَالا من الإفشين وجيشه نهائيا وَمضى الخيالة مَعَ بابك فِي إِثْر الإفشين أما الرجالة فعاثوا فِي المعسكر نهبا حِينَئِذٍ خرج الْعشْرُونَ ألف خيال من جَيش الإفشين من وَرَاء الْجبَال عَن الْيَمين وَعَن الْيَسَار وأذا الصَّحرَاء تموج بالخرمية فاستلموا طَرِيق الْوَادي وقطعوها عَلَيْهِم أَولا ثمَّ شرعوا سيوفهم وَعَاد الإفشين بِعشْرين ألف خيال فاحاطوا بِهَذَا بابك وَجُنُوده وَلم تفلح كل محاولاته فِي الْوُصُول إِلَى سَبِيل للفرار وَلما وصل الإفشين قبض على بابك وظل جنده يعبثون فِي الخرمية قتلا إِلَى صَلَاة الْعَصْر حَتَّى ناف مَا قتل مِنْهُم على ثَمَانِينَ ألف رجل ثمَّ ترك الإفشين على قلعة بابك غُلَاما بِعشْرَة الاف خيال وراجل وَعَاد هُوَ بالأسرى وبابك إِلَى بَغْدَاد الَّتِي أدخلوه إِلَيْهَا موسوما بعلامة خَاصَّة وَلما وَقعت عين المعتصم عَلَيْهِ قَالَ أَيهَا الْكَلْب لماذا أضرمت نَار الْفِتْنَة فِي الأَرْض وَلم قتلت الاف الْمُسلمين فَلم ينبس بابك ببنت شفة وَأمر المعتصم بِقطع يدية وَرجلَيْهِ جَمِيعًا وَلما قطعُوا إِحْدَى يَدَيْهِ وضع يَده الْأُخْرَى فِي الدَّم ولطخ بِهِ وَجهه إِلَى ان صيره أَحْمَر كُله فَقَالَ المعتصم يَا كلب أَي علم هَذَا أَيْضا قَالَ بابك إِن فِي هَذَا لحكمة فَقيل لَهُ قل أَيَّة حِكْمَة هَذِه قَالَ إِنَّكُم تُرِيدُونَ قطع يَدي ورجلي جَمِيعًا ان الدَّم هُوَ الَّذِي يَجْعَل وجنات النَّاس حمرا لكنه حِين ينْفد من الْجِسْم يصفر الْوَجْه وَأَنا إِنَّمَا حمرت وَجْهي بِالدَّمِ كي لَا يُقَال عِنْدَمَا ينْفد دمي إِن وَجهه غَدا أصفر خوفًا وخشية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وَأمر المعتصم بسلخ جلد ثَوْر بقرنيه وَأَن يُؤْتى بِهِ طريا وَلما جِيءَ بِهِ وضع بابك فِيهِ بِحَيْثُ ظهر فِيهِ قرنا الثور بمحاذاة أذنبه ثمَّ خيط الْجلد وَلما جف علقوه عرضوا بابك فِيهِ حَيا على هَذَا النَّحْو إِلَى أَن مَاتَ ميتَة شنعاء ان أَمر بابك من بَدْء خُرُوجه إِلَى الْقَبْض عَلَيْهِ يَتَّسِع لمجلد كَبِير جدا وَلَقَد سُئِلَ اُحْدُ جلاديه بعد أسره كم شخصا قتلت قَالَ كَانَ لبابك عدَّة جلادين اما عدد من قَتلتهمْ أَنا فَثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ ألف مُسلم فضلا عَمَّن قتل الجلادون الاخرون من الْمُسلمين فِي ساحات الْقِتَال لقد تمت على يَد المعتصم ثَلَاثَة فتوح وانتصارات كَانَت كلهَا قُوَّة للأسلام وحصنا أَولهَا بِلَاد الرّوم وَثَانِيها قَضَاؤُهُ على بابك وَثَالِثهَا واخرها انتصاره على المازيار الْمَجُوسِيّ بطبرستان وَلَو أَن أَحدهَا لم يتم لفت فِي عضد الْإِسْلَام كثيرا حِكَايَة حول المعتصم فِي حِين كَانَ المعتصم جَالِسا للشراب يَوْمًا وَكَانَ القَاضِي يحيى بن أَكْثَم حَاضرا نَهَضَ الْخَلِيفَة وَدخل إِحْدَى الحجرات ثمَّ خرج وَتَنَاول شَيْئا من الشَّرَاب ونهض من جَدِيد وَدخل حجرَة أُخْرَى ثمَّ نَهَضَ للمرة الثَّالِثَة وَدخل الْحمام فاغتسل وَخرج من الْحمام بِسُرْعَة وَطلب مصلى فصلى رَكْعَتَيْنِ وَعَاد إِلَى الْمجْلس ثمَّ قَالَ للْقَاضِي يحيى أَتَدْرِي مَا الصَّلَاة الَّتِي صليتها قَالَ يحيى لَا قَالَ المعتصم صَلَاة شكر لنعمة من نعم الله عز وَجل أسبغها عَليّ الْيَوْم قَالَ يحيى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ماهذه النِّعْمَة قَالَ المعتصم فِي هَذِه السَّاعَة افتضضت ثَلَاث فتيات هن بَنَات ثَلَاثَة كَانُوا خصوما لي أحداهما بنت ملك الرّوم وَالثَّانيَِة ابْنة بابك وَالْأُخْرَى كَرِيمَة المازيار الْمَجُوسِيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 خُرُوج الخرمية فِي عهد الواثق وَفِي أَيَّام الواثق خرج الخرمية فِي نَاحيَة أصفهان وعاثوا فِيهَا فَسَادًا وظلوا يخرجُون إِلَى سنة ثَلَاثمِائَة هجرية وأغاروا على كرج ونهبوها مرّة أُخْرَى وَقتلُوا خلقا كثيرا لكنه قضي عَلَيْهِم أَيْضا وَمِمَّنْ خَرجُوا باريزدشاه الَّذِي اتخذ من جبال أضفهان معقلا لَهُ فالتف حوله الخرمية والباطنية وَأخذُوا يسطون على القوافل وينهبون الْقرى وَيقْتلُونَ الشُّيُوخ والشباب والأطفال ودامت فتنته مَا يزِيد على ثَلَاثِينَ سنة لم تستطع الجيوش فِي خلالها أَن تحرز أَي نصر عَلَيْهِ بل عجزت عَن رده والتغلب عَلَيْهِ لاستحكامه فِي جبال حَصِينَة جدا وَلَكِن تَكُ الْقَبْض عَلَيْهِ فِي نِهَايَة المطاف وعلق رَأسه فِي أصفهان وَأرْسلت كتب إِلَى شَتَّى أقطار الْإِسْلَام تبشر الْمُسلمين بِهَذَا النَّصْر إِنَّه ليطول بِي الْمقَام لَو ذكرت أخبارهم كلهَا فَهِيَ كَثِيرَة وَمهما ذكرت مِنْهَا فكأنني لم أذكر شَيْئا وَمن يَشَأْ الْوُقُوف على ثورات الباطنية والخرمية ومفاسدهم فليقرأ تَارِيخ الطَّبَرِيّ وتاريخ أصفهان وتاريخ خلفاء بني الْعَبَّاس أصُول مَذْهَب الخرمية الركيزة الَّتِي بنى عَلَيْهَا الخرمية مَذْهَبهم هِيَ أَنهم ألقوا عَن كواهلهم كل ضروب الإجهاد والإرهاق ونبذوا شَعَائِر الدّين الإسلامي وفرائضة من قيام وَصَلَاة وَصِيَام وَحج ومجاهدة أَعدَاء الله عز وَجل والاغتسال من الْجَنَابَة وَتَحْرِيم الْخمْرَة والتمسك بالزهد وَالتَّقوى وكل مَا هُوَ فَرِيضَة انهم لم يسعوا فِي أُمُور الشَّرِيعَة وَلم يحاولوا سلوك سَبِيل دين الْمُصْطَفى عَلَيْهِ السَّلَام فِي شَيْء لقد كَانَ اول مَا يتفوهون بِهِ فِي محافلهم ولقاءاتهم إِظْهَار الأسف وَالْحَسْرَة على قتل أبي مُسلم صَاحب الدولة وَلعن قتلته دَائِما وَالصَّلَاة على الْمهْدي بن فَيْرُوز ابْن فَاطِمَة بنت أبي مُسلم الَّذِي كَانُوا يَدعُونَهُ الطِّفْل الْحَكِيم أَو الْفَتى الْعَالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ويبدو أَن أصل الْمذَاهب الثَّلَاثَة المزدكية والخرمية والباطنية وَاحِد وانهم كَانُوا يسعون دَائِما لتقويض دعائم الْإِسْلَام لقد كَانُوا يتظاهرون بِالصّدقِ والزهد وَالْعِبَادَة وَالتَّقوى ومحبة ال الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمَام الْمُسلمين بادىء بَدْء لإيقاعهم فِي حبائلهم لكِنهمْ كَانُوا يسعون بعد أَن يقوى عودهم وَيكثر أتباعهم إِلَى الإطاحة بِأمة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وَدينه وتقويضهما حَتَّى أَن الْكفَّار كَانَت تأخذهم الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة على امة مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام أَكثر من هَؤُلَاءِ وَلَقَد ذكرت هَذَا الْقدر من أَقْوَالهم لأَنهم كَانُوا يحفرون بِئْرا ويحاولون إخفاء أَمر جلي والتستر عَلَيْهِ أما من اسْتَجَابُوا بدعوتهم فَكَانُوا ييسرون لَهُم أُمُورهم ويخدمون أغراضهم ويمدون إِلَيْهِم يَد العون ويساند كل مِنْهُم الاخر لقد جعلُوا سيد الْعَالم خلد الله ملكه الَّذِي لَهُ كل مَا فِيهِ وَالَّذِي كل الْعَالمين عبيده حَرِيصًا على جمع المَال المَال الَّذِي كَانُوا يسلبونه من الْمُسْتَحقّين ويظهرونه على أَنه توفير انه لَا يُمكن عمل ثوب من قصاصات ستْرَة أَو وصل كمين مَعًا سيتذكر سيد الْعَالم دَامَ سُلْطَانه مقَالَة مَوْلَاهُ حِين يقذف شرهم وفتنتهم وَاضحا للملأ وسيتذكر إبان هَذَا الْفساد ان مَا قلته هُوَ الصَّوَاب عينه وانني لم أضن مَا أمكنني ذَلِك فِي تَقْدِيم النصح وَإِظْهَار الحدب والخشية وَلم ال جهدا فِي تَنْفِيذ شُرُوط طَاعَتي وهواي لهَذِهِ الدولة الْقَاهِرَة ثَبت الله أَرْكَانهَا وقى الله تَعَالَى عهد مولَايَ عين السوء وَيَد الشَّرّ وَحَال بَين أعدائه وَبَين تحقييق ماربهم وامالهم الشريرة ووشح قصره وبلاطه وديوانه بِأَهْل الدّين إِلَى يَوْم الدّين وَلَا أخلى هَذِه الدولة مِمَّن هواهم مَعهَا ووهب ملكه النَّصْر وَالظفر كل يَوْم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 الْفَصْل الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ فِي امتلاك الخزائن ورعاية قواعدها وأنظمتها كَانَ للملوك دَائِما خزانتان إِحْدَاهمَا الخزانة الأَصْل وَالْأُخْرَى خزانَة الْإِنْفَاق لقد كَانُوا يحولون الْأَمْوَال المتحصلة غَالِبا إِلَى الخزانة الأولى وقليلا مَا حولوها إِلَى الْأُخْرَى وَلم يَكُونُوا يُنْفقُونَ من الخزانة الأَصْل الا لضَرُورَة قصوى وعَلى سَبِيل قرض يُعَاد اليها بعد ذَلِك وَلَو لم يفكروا على هَذَا النَّحْو لأنفق كل مَا كَانَ يحصل من أَمْوَال حَتَّى إِذا مَا احْتِيجَ إِلَى المَال بَغْتَة وَلم يكن متوافرا فَلَا ينشأ عَنهُ سوى الْحيرَة وإنشغال البال وَالتَّقْصِير فِي مُوَاجهَة ذَلِك المهم والتأخر فِي قَضَائِهِ وَلم يكن الْمُلُوك يُنْفقُونَ مِمَّا كَانَ يدْخل الخزانة من دخل الْولَايَة الْبَتَّةَ لكَي تُؤَدّى النَّفَقَات فِي أَوْقَاتهَا وَلَا يحدث أَي إخلال أَو تَقْصِير فِي أَدَاء الصلات والهبات والأعطيات وَحَتَّى تظل الخزانة عامرة دَائِما التون تاش وَأحمد بن الْحسن الميمندي سَمِعت أَن الْأَمِير التون تاش الَّذِي كَانَ الْأَمِير الْحَاجِب للسُّلْطَان مَحْمُود ندب حَاكما لخوارزم وَأرْسل إِلَيْهَا وَكَانَ معدل دخل حاصلات خوارزم سِتِّينَ ألف دِينَار فِي حِين كَانَت رواتب جَيش التون ضعف هَذَا الملبغ وَذهب التون تاش إِلَى خوارزم وَبعد سنة على وجوده فِيهَا أرسل إِلَيْهِ من يطْلب مَالا فَأرْسل معتمديه إِلَى غزنين يلْتَمس أجعلوا سِتِّينَ الْألف دِينَار هَذِه وَهِي أحمال خوارزم رواتب لجندي بَدَلا عَمَّا يدْفع لي من الدِّيوَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وَلما قَرَأَ شمس الكفاة أَحْمد بن الْحسن الميمندي وَكَانَ وزيرا الرسَالَة كتب فِي الْحَال الْجَواب التَّالِي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إعلم ان التون تاش لَا يُمكن أَن يكون مَحْمُودًا باية حَال احْمِلْ مَا تعهدت بِهِ من أَمْوَال وهاتها إِلَى خزانَة السُّلْطَان ثمَّ اجْلِسْ إِلَى النَّاقِد والوزان وَسلم الذَّهَب وَخذ سندا بِهِ وَحِينَئِذٍ اطلب رواتب جندك حَتَّى يكْتب لَك وَلَهُم عهد بمحاصيل بست وسجيتان ثمَّ امضوا إِلَيْهِمَا وأحضروا محاصيلهما إِلَى خوارزم كل هَذَا ليمتاز الْفرق بَين الْمولى وسيده وَبَين مَحْمُود والتون تاش وليظهر رونق السُّلْطَان وَيعرف حد الْجند يجب ان يكون كَلَام خوارزمشاه فِي منأى عَن الخطل فَإِن التماسه لَا يعدو أحد أَمريْن اثْنَيْنِ فإمَّا أَنه ينظر إِلَى السُّلْطَان بِعَين الصغارة والهوان وَإِمَّا أَنه يعد أَحْمد بن الْحسن الميمندي غافلا مبتدئا جَاهِلا لقد عجبنا لكَمَال عقل خوارزمشاه وفصاحته وَقد عجب كل من سمع التماسه أَيْضا عَلَيْك أَن تعتذر وتلتمس الْعَفو فَإِن سعي الْمولى لمشاركة سَيّده فِي الْملك لخطر عَظِيم وَالسَّلَام وَبعث الميمندي الرسَالَة بيد أحد رُؤَسَاء الحرس وَمَعَهُ عشرَة غلْمَان إِلَى خوارزم فاتوا بستين ألف دِينَار وزنت وأودعت خزانَة مَحْمُود وأعطوا من ديوَان غزنين عَنْهَا عهدا بمحاصيل بست وسجستان من البلوط وقشور الرُّمَّان والقطن وَمَا إِلَيْهَا وَذهب التون تاش ورهطه إِلَيْهِمَا فاخذوا المحاصيل وباعوها وجاؤوا بستين ألف دِينَار من بِشَتٍّ إِلَى خوارزم لقد حَافظ الْملك على هَذَا النظام وَهَذِه الْقَاعِدَة من قَوَاعِد الْملك لِئَلَّا يتسرب الانفصام إِلَى شؤون المملكة ومصالحها وَحَتَّى يظل صَلَاح الرّعية وَعمْرَان الخزانة على حَالهمَا وتقطع الأطماع فِي أَمْوَال السُّلْطَان والرعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الْفَصْل التَّاسِع والآربعون فِي إِجَابَة المتظلمين وَقَضَاء مطالبهم وإنصافهم يغص الْقصر دَائِما بالمتظلمين الَّذين لَا يغادرونه قبل أَن يتسلموا أجوبة شكاياتهم ان هَذَا قد يبْعَث كل رَسُول أَو غَرِيب يفد إِلَيْهِ على الظَّن حِين يسمع صُرَاخ المتجمعين وجلبتهم بَان ظلما عَظِيما ينزل بِالنَّاسِ فحتى يوصد الْبَاب دون هَذَا الظَّن يَنْبَغِي أَن تجمع شكاوى أهل كل مَدِينَة وناحية من الْحَاضِرين على حِدة وتوضع فِي مَكَان وَاحِد ثمَّ يَأْتِي خَمْسَة مِنْهُم إِلَى الْقصر لبَيَان أَمرهم وَعرض أَحْوَالهم ويتلقون الْجَواب ويتسلمون الحكم ويعودون حَالا وَهَذِه هِيَ السَّبِيل للْقَضَاء على الجلبة والضوضاء والصراخ الَّتِي لَا أساس لَهَا كتاب يزدجرد إِلَى عمر وَجَوَابه عَنهُ يرْوى أَن الْملك يزدجرد أرسل إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ رَسُولا يَقُول لَيْسَ فِي الْعَالم الْيَوْم مملكة أَكثر سكانا من مملكتنا وخزانة أعمر من خزانتنا وجيش اكثر من جيشنا وَلَيْسَ لأحد من الة وعدة فَأَجَابَهُ عمر أجل إِن مملكتك مكتظة لَكِن بالمتظلمين وَإِن خزانتك مترعة لَكِن بِالْمَالِ الْحَرَام وَأَن جيشك كثير لكنه شاق عَصا الطَّاعَة وَإِذا مَا دالت الدولة فَإِن الالة وَالْعدة لَا يغنيان فتيلا ان فِي هَذَا كُله لدليلا على انحطاط دولتكم وَقرب زَوَال ملككم وَهَكَذَا كَانَ إِن الطَّرِيقَة الأمثل أَن يبْدَأ سيد الْعَالم خلد الله ملكه بالإنتصاف من نَفسه حَتَّى يصير الْجَمِيع منصفين ويقطعوا دابر الطمع مِمَّا هُوَ محَال وَغير حق مِثْلَمَا فعل السُّلْطَان مَحْمُود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 رِسَالَة السُّلْطَان مَحْمُود الشَّدِيدَة يُقَال إِن تَاجر أَتَى بلاط السُّلْطَان مَحْمُود وتظلم إِلَيْهِ من ابْنه مَسْعُود فِي حسرة وتوجع وَقَالَ امْرُؤ تَاجر مَضَت عَليّ مُدَّة هُنَا أَرغب فِي العودة إِلَى مدينتي لكنني لَا استطيع لِأَن الْأَمِير مسعودا اشْترى مني بضَاعَة واقمشة بستين ألف دِينَار دون أَن يدْفع ثمنهَا أُرِيد أَن ترسلني والأمير مسعودا إِلَى القَاضِي ورق قلب السُّلْطَان مَحْمُود لكَلَام التَّاجِر وَبعث رِسَالَة شَدِيدَة إِلَى مَسْعُود أمره فِيهَا أُرِيد أَن تقضي لَهُ حَقه الان وَإِلَّا تعال لتمثل مَعَه أَمَام الْقَضَاء لتطبق عَلَيْكُمَا أَحْكَام الشَّرِيعَة وَمضى التَّاجِر إِلَى مجْلِس القَاضِي فِي حِين قصد الرَّسُول مسعودا وَأدّى الرسَالَة وَأسْقط بيد مَسْعُود فَقَالَ للْمُوكل بالخزانة انْظُر مَا فِي الخزانة من الذَّهَب نَقْدا فَذهب وَنظر وَعَاد فَقَالَ لَيْسَ ثمَّة أَكثر من عشْرين ألف دِينَار قَالَ مَسْعُود خُذْهَا وامض بهَا إِلَى التَّاجِر واستمهله ثَلَاثَة أَيَّام لباقي الْمبلغ ثمَّ قَالَ لرَسُول السُّلْطَان قل للسُّلْطَان إِنَّنِي دفعت إِلَى الرجل عشْرين ألف دِينَار فِي الْحَال وسأعطيه حَقه كَامِلا بعد ثَلَاثَة أَيَّام وإنني لأقف الان مرتديا قبائي منتعلا موزجي فِي انْتِظَار مَا يَأْمر بِهِ السُّلْطَان فَذهب الرَّسُول لكنه عَاد إِلَى مَسْعُود مرّة أُخْرَى وَقَالَ يَقُول السُّلْطَان إِمَّا أَن تتَوَجَّه إِلَى مجْلِس الْقَضَاء وَأما أَن تدقع مَال التَّاجِر إِلَيْهِ وَاعْلَم أَنَّك لن ترى لي وَجها مَا لم تُؤَد حق الرجل إِلَيْهِ كَامِلا وَلم يَجْرُؤ مَسْعُود على أَن يضيف إِلَى كَلَامه السَّابِق حرفا وَأرْسل رسلًا إِلَى مُخْتَلف النواحي يطْلب قرضا فَمَا أَن تأزف وَقت صَلَاة الْعَصْر حَتَّى وصلت إِلَى التَّاجِر السِّتُّونَ ألف دِينَار وَلما تناهى هَذَا الْخَبَر إِلَى أَطْرَاف الْعَالم أَخذ التُّجَّار ينالون على غزنين من الصين وخطا ومصر وعدن يحملون إِلَيْهِ مَا فِي الْعَالم من تحف ونفائس أما مُلُوك هَذَا الزَّمَان فَإِنَّهُ لَو أَمر أحدهم أدنى فرَاش أَو ركابدار بِأَن أمثل فِي مجْلِس الْقَضَاء مَعَ عميد بَلخ وَرَئِيس مرو لما صدع لأَمره أَو أَعَارَهُ أدنى اهتمام جَوَاب عمر بن عبد الْعَزِيز لعامل حمص كتب عَامل حمص إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز لقد انهار سور حمص ورمه وَاجِب فيمَ تَأمر فَكتب إِلَيْهِ عمر سور حمص بِالْعَدْلِ وطهر طرقاتها من الْخَوْف وَالظُّلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وَلَا حَاجَة بعد إِلَى الطين وَاللَّبن وَالْحجر والجص وَأمر الله عز وَجل داودعليه السَّلَام {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ} وَيَقُول تَعَالَى {أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} وَيَقُول مُحَمَّد الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اسْتعْمل على الْمُسلمين عَاملا وَهُوَ يعلم أَن فِي الْمُسلمين من هُوَ خير مِنْهُ فقد خَان الله وَرَسُوله وَجَمِيع الْمُسلمين ان هَذَا الْعَالم صحيفَة الْمُلُوك يذكر الْأَخْبَار مِنْهُم بِالْخَيرِ ويثني عَلَيْهِم وَيذكر الأشرار بِالشَّرِّ وَالسوء ويلعنهم يَقُول العنصري ... ستؤول ألى حِكَايَة وَذكر وَلَو شدت سريرك فِي السَّمَاء وَلنْ يبْقى مِنْك سوى الذّكر وَلَو تمنطقت بِالثُّرَيَّا فحاول أَن تخلف ذكرا حسنا مَا دمت ستؤول ذكرا وَاسع فِي أَن تكون حِكَايَة جَيِّدَة مَا دمت ستصير حِكَايَة ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الْفَصْل الْخَمْسُونَ فِي تدوين حِسَاب أَمْوَال الولايات ونسقه إِن فَائِدَة تدوين حِسَاب أَمْوَال الولايات وَمَعْرِفَة الدخل والإنفاق تكمن فِي التَّأَمُّل الدَّقِيق فِي الْإِنْفَاق فيلغى عندئذ مَا لَيْسَ ضَرُورِيًّا ويحذف وَإِذا مَا كَانَ لأحد رَأْي فِي مَجْمُوع الدخل كَأَن أظهر رَغْبَة فِي التوفير فَيَنْبَغِي الإصغاء إِلَيْهِ حَتَّى إِذا تبين صِحَة مَا يَقُول يجب السَّعْي فِي إِثْر ذَلِك المَال وتوفيره فَبِهَذَا يُمكن الْقَضَاء على مَا قد يحدث من إخلال أَو تبذير فِي الْأَمْوَال وتضييعها وَلَا يظل ثمَّة شَيْء خافيا بعد ذَلِك أما موقف الْملك أَي ملك من حَال الدُّنْيَا وشؤونها الْأُخْرَى فَيجب أَن يكون منصفا فِي كل حَال وَأَن يجْرِي وفْق السّنَن الْقَدِيمَة وعَلى قري الْمُلُوك الصَّالِحين الأخيار وعَلى الْملك أَلا يسن سنة سَيِّئَة أَو يرضى بالبدع وَمن واجبه كَذَلِك مراقبة الْعمَّال والمعاملات وَمَعْرِفَة الدخل والخرج والحفاظ على الْأَمْوَال وتأسيس الخزائن والإدخار كل هَذَا لتوفير المَال وَدفع أَذَى الْأَعْدَاء ومضارهم وَلَا يَعْنِي هَذَا أَن يمسك يَده ويغلها إِلَى عُنُقه فيصمه النَّاس بالبخل وينسبونه إِلَى الدُّنْيَا والتكالب عَلَيْهَا وَلَا يَعْنِي كَذَلِك أَن يتمادى فِي الْإِسْرَاف فَيَقُول عَنهُ النَّاس إِنَّه مبذر للأموال مذربها عَلَيْهِ أَن يعرف عِنْد الْعَطاء للنَّاس مَنَازِلهمْ وأقدارهم فَلَا يهب مائَة دِينَار من لَا يسْتَحق سوى عشرَة أَو يمنح ألف دِينَار من يسْتَحق مائَة لِأَن هَذَا يحط من أقدار العظماء والمشهورين ومراتبهم ويفسح المجال للاخرين بِأَن يدعوا ان هَذَا الْملك لَا يُرَاعِي أقدار النَّاس ومنازلهم وَلَا يعرف لأَصْحَاب الخدمات وَالْفضل والمهارات والفنون أقدارهم لذَلِك يضغنون دونما سَبَب ويقصرون فِي الْقيام بواجباتهم وَيجب على الْملك كَذَلِك أَن يحارب الْأَعْدَاء حَربًا تتْرك بَاب الصُّلْح مَفْتُوحًا وَأَن يصالحهم صلحا لَا يوصد بَاب الْحَرْب وَأَن يوطد علاقاته مَعَ الصّديق والعدو بِنَحْوِ يُمكنهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 من أَن يفصم عراها أَو يُعِيد بناءها أَنى يَشَاء وَمِمَّا يجب عَلَيْهِ أَيْضا أَلا يشرب الْخمر حبا فِي السكر وَإِلَّا يفرد وَجهه دَائِما أَو يعبس دَفعه وَاحِدَة ومثلما يشغل نَفسه بالصيد والتنزه وَالشرب أَحْيَانًا يجب أَن يَأْخُذهَا بَين الْحِين والحين بالشكر وبذل الصَّدقَات بِاللَّيْلِ وَالصِّيَام وَفعل الْخَيْر ليجمع بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَعَلِيهِ أَن يتوسط فِي كل الْأُمُور عملا بقول الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام خير الْأُمُور أوسطها وَألا ينسى نصيب الْحق تَعَالَى فِي كل أَمر لِئَلَّا يكون ذَلِك وبالا عَلَيْهِ وَمن واجبه أَن يسْعَى فِي إطاعة أوَامِر الله تَعَالَى وتطبيق أَحْكَام الدّين وشرائعه وَأَن يحرص عَلَيْهَا حَتَّى يَهبهُ الله الْكِفَايَة فِي أُمُوره الدِّينِيَّة والدنيوية ويحقق لَهُ مُرَاد الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ويوصله إِلَى مَا يصبو إِلَيْهِ من آمال وأماني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299