الكتاب: مصرع التصوف وهو كتابان: تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد المؤلف: إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (المتوفى: 885هـ) المحقق: عبدالرحمن الوكيل الناشر: عباس أحمد الباز - مكة المكرمة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مصرع التصوف = تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد برهان الدين البقاعي الكتاب: مصرع التصوف وهو كتابان: تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد المؤلف: إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي (المتوفى: 885هـ) المحقق: عبدالرحمن الوكيل الناشر: عباس أحمد الباز - مكة المكرمة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الكتاب : الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق, ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد خاتم النبيين، وسيد ولد أدم أجمعين، وبعد: فإنه كانت لي بالتصوف صلة، هي صلة العبرة بالمأساة، فهنالك حيث كان يدرج بي الصبا في مدارجه السحرية، وتستقبل النفس كل صروف الأقدار بالفرحة الطروب، وتستنشي الروح ريا الجمال والحب من كل معاني الحياة, هنالك تحت شفوف الأسحار الوردية من ليالي القرية الوادعة الحالمة، وفي هيكل عبق بغيوم البخور، جثم على صدره ضم صغير يعبده كثير من شيوخ القرية، هنالك في مطاف هذه الذكريات الولهى: كان يجلس الصبي بين شيوخ تغضنت منهم الجباه، وتهدلت الجفون، ومشي الهرم في أيديهم خفقات حزينة راعشة، وفي أجسادهم الهضيمة نحولا ذابلا، يتراءون تحت وصوصة السراج الخافت أوهام رجاء ضيعته الخيبة, وبقايا آمال عصف بها اليأس. وتتهدج ترانيم الشيوخ تحت السحر -نواحا بينها صوت الصبي- بالتراتيل الوثنية، وما زال الصبي يذكر أن صلوات ابن بشيش, ومنظومة الدردير كانتا أحب التراتيل إلى أولئك الشيوخ، وما زال يذكر أن أصوات الشيوخ كانت تشرق بالدموع، وتئن فيها الآهات حين كانوا ينطقون من الأولى: "اللهم انشلني من أوحال التوحيد!! " ومن الثانية: "وجد لي بجمع الجمع منك تفضلا" يا للصبي الغرير التعس المسكين!! فما كان يدري أنه بهذه الصلوات المجوسية يطلب أن يكون هو الله هوية وماهية وذاتا وصفة!! ما كان يدري ما التوحيد الذي يضرع إلى الله أن ينشله من أوحاله!! ولا ما جمع الجمع الذي يبتهل إلى الله أن يمن به عليه!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ويشب الصبي، فيذهب إلى طنطا ليتعلم، وليتفقه في الدين. وثمت يسمع الكبار من شيوخه يقسمون له، ولصحابه: أن "البدوي" قطب الأقطاب، يصرف من شئون الكون، ويدبر من أقداره وغيوبه الخفية!! ويجرؤ الشاب مرة فيسأل خائفا مرتعدا: وماذا يفعل الله؟ ويهدر الشيخ غضبا، ويزمجر حنقا، فيلوذ الشاب بالرعب الصامت، وقد استشعر من سؤاله، وغضب الشيخ، أنه لطخ لسانه بجريمة لم تكتب لها مغفرة!! ولم لا؟ والشيخ هذا كبير جليل الشأن والخطر، وما كان يستطيع الشاب أبدا أن يفهم أن مثل هذا الحبر الأشيب -الذي يسائل عنه الموت- يرضى بالكفر، أو يتهوك مع الضلال والكذب. فصدق الشاب شيخه، وكذب ما كان يتلو قبل من آيات الله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [آل عمران: 10] !! ثم يقرأ الشاب في الكتب التي يدرسها: أن الصوفي فلانا غسلته الملائكة، وأن فلانا كان يصلي كل أوقاته في الكعبة، في حين كان يسكن جبل قاف، أو جزائر واق الواق!!! وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مد يده من القبر وسلم على الرفاعي!! وأن فلانا عذبته الملائكة؛ لأنه حفظ القرآن والسنة وعمل بما فيهما، ولكنه لم يحفظ كتاب الجوهرة في التوحيد!! وأن مذهبنا في الفقه هو الحق وحده؛ لأنه أحاديث حذفت أسانيدها!! ويصدق الشاب بكل هذا, ويؤمن، وما كان يمكن إلا أن يفعل هذا. إذا قال في نفسه: لو لم تكن هذه الكتب حقا، ما درست في الأزهر، ولا درسها هؤلاء الهرمون من الأحبار، ولا أخرجتها المطبعة، وهل كان يمكن أن يسأل نفسه مثلا مثل هذا السؤال: أين من الحق البين من كتاب الله هذا الباطل العربيد في هذه الكتب؟ لا فلقد جيء به إلى طنطا ليتفقه في الدين على هؤلاء الشيوخ، وها هو فقه الدين يسمعه من الشيوخ، ويقرؤه في الكتب، وحسبه هذا!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وتموج طنطا بالوفود، وتعج بالآمين بيت الطاغوت الأكبر من كل حدب، ويجلس الشاب في حلقة يذكر فيها الصوفية اسم الله بخنات الأنوف، ورجات الأرداف، ووثنية الدفوف، وثمت يسمع منشد القوم يصيح راقصا: "ولي صنم في الدير أعبد ذاته" فتتعالى أصوات الدراويش طروبة الصيحات: "إيوه كده اكفر، اكفر يا مربي" ويرى الشاب على وجوه القوم فرحا وثنيا راقص الإثم بما سمعوا من المنشد الكافر، فيسأل شيخا ممن وفدوا من أهل قريته: يا سيدي الشيخ، ما ذلك الصنم المعبود؟! فيلزم الشيخ شفتيه، ثم يجود على الشاب الواله الحيرة بقوله: "إنته لسه صغير"!! ويسكت الشاب قليلا، ولكن الكفر يضج في النعيق، فسيمع المنشد يقيء "سلكت طريق الدير في الأبدية" "وما الكلب والخنزير إلا إلهنا" ويطوي الشاب نفسه على فزع وعجب يسائل الذهول: ما الكلب؟ ما الخنزير؟ ما الدير؟ وأنى للذهول بأن يجيب؟! ولقد خشى أن يسأل أحد الشيوخ ما دام قد قيل له: "إنته لسه صغير" ثم إنه رأي بعض شيوخه الكبار يطوفون بهذه الحمآت يشربون "القرفة" ويهنئون الأبدال والأنجاب والأوتاد بمولد القطب الغوث سيدهم السيد البدوي. وتكفن دورات الفلك من عمر الشاب سنوات، فيصبح طالبا في كلية أصول الدين، فيدرس أوسع كتب التوحيد-هكذا تسمى- فيعي منها كل شيء إلا حقيقة التوحيد، بل ما زادته دراستها إلا قلقا حزينا، وحيرة مسكينة. ويجلس الشاب ذات يوم هو وصديق من أصدقائه مع شيخ صوفي أمي. فيسألهما عن معاني بعض تهاويل ابن عطاء الله السكندري "إرادتك التجريد مع إقامة الله, إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب، مع إقامة الله إياك في التجريد, انحطاط عن الهمة العلية". ويحار الطالبان، ولا يدريان بم يجيبان هذا الأمي عن هذه الحكم المزعومة -وقد عرفا بعد أنها تهدف إلى تقرير أسطورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 رفع التكليف- فتمتلئ نفساهما بالغم المهموم؛ إذ رسبا في امتحان عقده لهما أمي صوفي؟! ويدور الزمن فيصبح الشاب طالبا في شعبة التوحيد والفلسفة. ويدرس فيها التصوف، ويقرأ في كتاب صنفه أستاذ من أساتذته، رأى ابن تيمية في ابن عربي. فتسكن نفس الشاب قليلا إلى ابن تيمية، وكان قبل يراه ضالا مضلا. فبهذا البهتان الأثيم نعته الدردير!! وكانت عنده لابن تيمية كتب، بيد أنه كان يرهب مطالعتها، خشية أن يرتاب في الأولياء، كما قال له بعض شيوخه من قبل!! وخشية أن يضل ضلال ابن تيمية.. ويقرأ الشاب، ويستغرق في القراءة، ثم ينعم القدر على الشاب بصبح مشرق يهتك عنه حجب هذا الليل، فيقر به سراه المضنى عند جماعة أنصار السنة المحمدية، فكأنما لقي بها الواحة الندية السلسبيل بعد دو ملتهب الهجير. لقد دعته الجماعة على لسان منشئها فضيلة والدنا الروحي الشيخ محمد حامد الفقي إلى تدبر الحق والهدى من الكتاب والسنة، فيقرأ الشاب ويتدبر ما يقرأ, وثمت رويدا رويدا ترتفع الغشاوة عن عينيه، فيبهره النور السماوي، وعلى أشعته الهادية يرى الحقائق, ويبصر القيم. يرى النور نورا، والإيمان إيمانا، والحق حقا، والضلال ضلالا، وكان قبل -بسحر التصوف- يرى في الشيء عين نقيضه. فيؤمن بالشرك توحيدا، وبالكفر إيمانا، وبالمادية الصماء من الوثنية: روحانية عليا، ويدرك الشاب -وهو لا يكاد يصدق- أن التصوف دين الوثنية والمجوسية, دين ينسب الربوبية والإلهية إلى كل زنديق، وكل مجرم، وكل جريمة!! دين يرى في إبليس، وفرعون، وعجل السامري، وأوثان الجاهلية، يرى في كل هؤلاء الذين لعنتهم كتب الله، بل لعنتهم حتى العقول، يرى فيهم أربابا وآلهة تهيمن على القدر في أزله وأبده، دين يرى في كل شيء إلها يجب أن يعبد، وربا يخلق ما يشاء ويختار، دين يقر أن حقيقة التوحيد الأسمى: هي في الإيمان بأن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 -سبحانه- عين كل شيء. دين لا تجد فيه فيصلا بين القيم، ولا بين حقائق الأشياء، ولا بين الضد وضده، ولا بين النقيض ونقيضه. دين يقول عن الجيف -يتأذى منه النتن, وعن الميكروبات تفتك سمومها بالبشرية- إنها هي الإله، وسبحان ربنا!! دين يقول عن القاتل، عن السارق، عن الباغي، عن كل وغد تسفل في دناءته، عن كل طاغية بغى في تجبره. يقول عن كل هؤلاء: إنهم تعينات الذات الإلهية!! فأي إله هذا الذي يقتل, ويبغي, ويفسد في الأرض؟ أي إله هذا الذي يدب تحت جنح الليل تتلظى في عينيه، وعلى يديه الإثم والجريمة الضارية؟ أي إله هذا الذي يلعق دم الضحايا يبرد به غلته، ويخصب بدماء الأعراض التي سفحها يديه الظالمتين؟ أي إله هذا الذي مشى في أيام التاريخ ولياليه بطشا وظلما وجبروتا يدمر، ويخرب، ويصنع القصة الأولى لكل جريمة خاتلة؟! ومن يكون إلا إله الصوفية الذي ابتدع أسطورته سلف ابن عربي، وابن الفارض وغيرهما!!؟ أيتها البشرية التي تهاب القانون، أو ترهب السماء!! ها هو دين التصوف يناديك ملحدا ملهوف النداء: أن تنحدري معه إلى حيث تترعين من كل خمرة مخمورة، وتتلطخين بكل فسق، وتتمرغين في أوحال الإثم!! وأنتم أيها العاكفون في المساجد: لا حاجة بكم إلى الصلاة والصوم والحج والزكاة، بل لا حاجة بكم إلى رب تحبونه وتخافونه، وترجونه، ولا إلى إله تعبدونه. لم هذا الكدح والجهاد والنصب والعبودية؟ لم هذا وكل فرد منكم في حقيقته هو الرب، وهو الإله كما يزعم الصوفية!؟ ألا فاطلقوا غرائزكم الحبيسة، ودعوها تعيش في الغاب والدغل وحوشا ضارية، وأفاعي فتاكة! وأنتم يا بني الشرق! دعوا المستعمر الغاصب يسومكم الخسف والهوان، ويلطخ شرفكم بالضعة، وعزتكم بالذل المهين، ويهيمن على مصائركم بما يهوى بطشه الباغي، وبغيه الظلوم. دعوه يهتك ما تحمون من أعراض، ويدمر ما تشيدون من معال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وينسف كل ما أسستم من أمجاد، ثم الثموا ضارعين خناجره هو تمزق منكم الحشاشات، واهتفوا لسياطه، وهي تشوي منكم -أذلاء- الجلود. فما ذلك المستعمر عند الصوفية سوى ربهم، تعين في صورة مستعمر. دعوا المواخير مفتحة الأبواب، ممهدة الفجاج. ومباءات البغاء تفتح ذراعيها الملهوفتين لكل شريد من ذئاب البشر, وحانات الخمور تطغى على قدسية المساجد, وأقيموا ذهبي الهياكل للأصنام، وارفعوا فوق الذرى منتن الجيف، ثم خروا ساجدين لها، مسبحين باسم ابن عربي وأسلافه وأخلافه. فقد أباح لكم أن تعبدوا الجيفة، وأن تتوسلوا إلى عبادتها بالجريمة. ذلكم هو دين التصوف في وسائله وغاياته، وتلك هي روحانيته العليا!! ألا فاسمعوها غير هيابة ولا وجلة، واصغوا ألى هتاف الحق يهدر بالحق من أعماق الروح: إن التصوف أدنأ وألأم كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله، ولرسله. إنه قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفي العداوة للدين الحق. فتش فيه تجد برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية وديصانية. تجد أفلوطينية، وغنوصية، تجد فيه يهودية ونصرانية ووثنية جاهلية، تجد فيه كل ما ابتدعه الشيطان من كفر، منذ وقف في جرأة صوفية يتحدى الله، ويقسم بعزته أنه الذي سيضل غير المخلصين من عباده. تجد فيه كل هذا الكفر الشيطاني، وقد جعل منه الشيطان كفرا جديدا مكحول الإثم متبرج الغواية، متقتل الفتون، ثم سماه للمسلمين: "تصوف" وزعم لهم -وأيده في زعمه القدامى والمحدثون من الأحبار والرهبان- أنه يمثل أقدس المظاهر الروحية العليا في الإسلام!! أقولها عن بينة من كتاب الله، وسنة خير المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وبعون من الله، سأظل أقولها، لعلي أعين الفريسة التعسة على أن تنجو من أنياب هذا الوحش الملثم بوشاح الدعة الحانية العطوف ولكن سلوا الصوفية سودا وبيضا، خضرا وحمرا، سلوهم: ما ردكم على هذا الصوت الهادر من أعماق الحق؟ سيقولون: ما قالت وثنية عاد {إِنْ نَقُولُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} وآلهتهم هي قباب أضرحة الموتى وأعتابها، دمغناهم بالحق، فراحوا يعوون عواء اللص الحذر، وقع فجأة في قبضة الحارس، وجأروا بالشكوى الذليلة إلى النيابة، فلم تر النيابة فيمن يمسك بالبريء إلا مجرما، وشكوا إلى رئيس حكومة سابق، وختموا الشكاة بهذه الضراعة الذليلة: "والله نسأل لمقامكم الرفيع الخير والسؤدد في ظل حامي الدين حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم صان الله عرشه، وأيد حكومته الرشيدة، وألهمها التوفيق"1، فلم ير الرئيس السابق فيمن يثرم أنياب الرقطاء مجرما. وطاح الحق ببغي إلههم وملاذهم حامي دينهم، كما كانوا يلقبونه. وما زلنا -بعون من الله نستلهمه- بكتاب الله نتحداهم، وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- نحاججهم، والله على كل شيء شهيد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. سيقول الناعمون -من ذوي الألسنة التي استمرأت كلمات الذل والعبودية، وليونة النفاق، وممن يتملقون الجماهير على حساب الحق، ويزعمون أنهم لا يحبون إثارة شقاق، أو جدال، ولا الطعن على أحد- سيقول هؤلاء: ما هكذا يكون النقد، ولا هكذا يكون البحث العلمي!! لا. أيها المدللون الخانعون للأساطير، فإنا لسنا أمام جماعة مسلمة، فنخشى إثارة الشقاق بينهم، ولو خشى الرسول مثل هذا لمالأ قريشا على حساب الحق، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- أطاع أمر ربه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ووعى قلبه -المشرق المؤمن الطهور التقي- موعظة ربه فيما قال له العلي الكبير: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] وفيما قال له: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73-75] فكان سيد ما يستغفر به الرسول الكريم الأمين ربه: "اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك, وأنا على عهدك ووعدك   1 قدموا هذه الشكوى بتاريخ 4 أغسطس سنة 1951. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ما استطعت" فكيف بنا نحن الذين أمرنا أن نجعل الرسول وحده لنا الأسوة؟! ولسنا كذلك أمام فئة تحترم العقل، بل تزدريه وتحقره، ثم تهب في قحة طاغية الجراءة لتشتم الله، وتذود عن إبليس وفرعون وعباد العجل والوثن، داعية المسلمين إلى اتخاذ هؤلاء أربابا وآلهة، وسيرد على القارئ عشرات النصوص من فصوص بن عربي وتائية ابن الفارض شهيدة عليهم بما ذكرت، وابن عربي وابن الفارض قطبا التصوف، وإمام الصوفية المعاصرة. فكيف يعاب علينا أننا ندافع عن دين الله، وأنا نقول للشيطان: إنك أنت الشيطان؟! ماذا نقول عن رجل -وهو ابن عربي- يفتري أدنأ البهتان على الله، فيصوره في صورة رجل وامرأة يقترفان الإثم، مؤكدا لأتباعه أن الجسدين الآثمين هما في الحقيقة ذات الله، سبحانه؟ وسبحان رب العزة عما يصف الآثم. فهل نلام إذا هتكنا القناع عن وجه هذا الرجل، ليبصره المخدوعون به، ليبصروه مسخا ثانيا للشيطان؟ إننا في ميدان مستعر الأتون، يقاتلنا فيه عدو دنيء يتراءى أنه الأخ الشفيق الحنو، الندي الرحمة، فلا أقل من أن نحاربه بما يدفع ضره وشره، ويحول بينه وبين القضاء على الرمق الذابل من عقائد المسلمين، وبين تشتيت الحشاشة الباقية من الجماعة الإسلامية. هذا الكتاب: هو في الحقيقة كتابان صنفهما علم من أعلام القرن التاسع الهجري، هو برهان الدين البقاعي، سمى أولهما "تنبيه الغبي، إلى تكفير ابن عربي" وسمى الآخر "تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد1" نقد فيهما ابن عربي وابن الفارض بخاصة، والتصوف المشاكل لدينهما بعامة. ومنهاج البقاعي في النقد يقوم على أصلين. أولا: نقل نصوص كثيرة عن "فصوص الحكم" لابن عربي، وعن   1 لما كان الكتاب ينقد التصوف نقدا قاتلا، فقد سميناه "مصرع التصوف" وأعتذر عن مخالفة الأصل في التسمية لطول عنواني الكتابين، ولما في أحدهما من تعريض بالقارئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 "التائية الكبرى" لابن الفارض, وقليلا ما يعلق البقاعي على هذه النصوص، أو يكشف عما فيها من مجافاة لروح التوحيد القرآني. معتمدا على فطنة القارئ ومعرفته بدينه، فهما كفيلان بإدراك ما في هذه النصوص من كفر ومجوسية، يدركهما القارئ حتى باللمحة الفكرية الهافية. الآخر: ذكر فتاوي كثيرة عن أعلام شيوخ القرون: السابع والثامن والتاسع الهجرية، ومما لاحظته: أن المؤلف لم ينقل عن ابن تيمية سوى النزر اليسير جدا بيد أن هذا مما يجعل للكتاب خطره الكبير في نظر المتصوفة على معتقدهم، إذ ما يستطيعون اتهام أحد ممن ذكرهم البقاعي بالخصومة، كما كانوا يفعلون -مفترين- بالنسبة إلى الشيخ الإمام ابن تيمية. فهؤلاء الذين أفتوا بفكر ابن عربي وابن الفارض: إما فريق قد ناهض ابن تيمية وخاصمه، ولكنه أدلى معه بدلوه في فضح الصوفية، وإما فريق لم يعرف عنه لا موالاة جلية ولا خصومة صريحة لابن تيمية -وإن كانوا فيما يذهبون إليه في مسألة العقيدة يخالفون ابن تيمية- فجلهم من أئمة الأشاعرة، وإما فريق كان له جاه ومقام كبيران في التصوف، كعلاء الدين البخاري، وهو أقسى هؤلاء جميعا حملة على ابن عربي وابن الفارض، ومن دان بدينهما. عملي في الكتاب: أولا تحقيق نص الكتاب، وهو إما نقول عن فصوص ابن عربي وتائية ابن الفارض، أو عن كتب علماء نقدوا التصوف, وإما من إنشاء المؤلف. أما ما نقله عن الفصوص: فراجعته على مطبوعة الحلبي بتحقيق الدكتور عفيفي، وجعلتها العمدة في تحقيق نصوص الفصوص، وقد أيقنت من هذه المراجعة أن المؤلف أمين جدا فيما نقل. بيد أنه كان يترك أحيانا ما له رحم ماسة بالكشف عن حقيقة معتقد ابن عربي، أو ما لا بد منه للربط بين نصوص الفصوص، وأحينا كان يسقط منه -أو من الناسخ- بعض ألفاظ، وكل هذا أثبته عن الفصوص، وجعلته بين قوسين هكذا [] ، وقد أشرت في الهامش إلى هذا وإلى أرقام الصفحات التي وردت فيها هذه النصوص حسب ترقيم صفحات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فصوص الحكم طبع الحلبي، حتى يسهل على القارئ مراجعة كل ما نقله المؤلف عن الفصوص في مصدره الأصيل، أما أبيات تائية ابن الفارض, فراجعتها على مرجعين: أحدهما ديوان ابن الفارض طبع بيروت، والآخر شرح تائية ابن الفارض للكاشاني المطبوع على هامش شرح ديوان ابن الفارض المطبوع سنة 1310هـ في المطبعة الخيرية. أما ما نقله عن العلماء فقد بذلت كل الجهد في سبيل تحقيق نقوله بمراجعتها في كتب أولئك العلماء، وأشرت إلى أرقام الصفحات التي وردت فيها تلك النقول في مصادرها الأصلية، مثل ما فعلت بما نقل المؤلف عن الشفاء لعياض، والمواقف للإيجي، والملل للشهرستاني وغيرها حتى يسهل أيضا على القارئ مراجعة آراء هؤلاء العلماء في كتبهم هم. وقد يسر الله سبحانه، فوجدت بعض ما نقله البقاعي من فتاوي عن العلماء في عصره وقبل عصره مذكورا في كتاب "العلم الشامخ" للعلامة المقبلي بتحقيق وتعليق العلامة الشيخ رشيد رضا، فراجعت بعض نقول البقاعي عن العلماء الذين لم أعثر على كتبهم في العلم الشامخ، وأثبت زيادة العلم، وجعلتها بين قوسين هكذا [] ، ويشهد الله أني لقيت في سبيل ذلك نصبا كبيرا، كان من نتائجه أن أصبحت أمانة البقاعي في النقل فوق كل مظنة، وسيكون من آثاره اطمئنان القارئ إلى كل ما نقله البقاعي عن الفصوص والتائية، وكتب العلماء، وما نقل عنهم من فتاوى. أما ما كان من أسلوب المؤلف: فتركته على حاله، فما صوبت فيه إلا ما تجزم قواعد العربية بخطئه مشيرا إلى ذلك في الهامش. ثانيا: ترجمت لمعظم من ذكروا في الكتاب ترجمة مختصرة، ولقيت في سبيل هذا مشقة وجهدا، سببهما: أن المؤلف كان يذكرهم إما بألقابهم أو كناهم، في حين تذكرهم كتب التراجم بأسمائهم أولا. ثالثا: ترجمت لكل فرق أو نحلة جاء ذكرها في الكتاب ترجمة ذكرت فيها أهم الأصول لتلك الفرقة، أو هذه النحلة، معتمدا على أصدق المراجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 رابعا: حققت كل ما ورد في الكتاب من أحاديث، وخرجتها تخريجا صحيحا، إذ كان يخطئ المؤلف أحيانا في نسبتها إلى رواتها. خامسا: ولما كانت بعض نصوص الفصوص غامضة تخفى معانيها ومراميها على بعض القراء، وكذلك بعض أبيات تائية ابن الفارض، لما كان ذلك كذلك: فقد شرحت في الهامش تلك النصوص وهذه الأبيات، ويشهد الله ما فهمت في الألفاظ غير معانيها، التي لها في عرف الصوفية، ولا فسرتها إلا بما هو مقرر عند شراح الفصوص والتائية من الصوفية. سادسا: برهنت في كثير من المواضع على مخالفة ما ذهب إليه الصوفية للنقل وللعقل، إذ كان المؤلف يكتفي بإيراد النصوص تاركا للقارئ الحكم عليها، وهو حكم يجزم به كل من له أدنى فهم لحقيقة التوحيد. سابعا: في الكتابين كثير من مصطلحات الصوفية، كالفناء والجمع، وجمع الجمع، والقطب، وقاب قوسين، وغيرها، وقد فسرت في هامش الكتاب هذه المصطلحات الصوفية معتمدا على كتبهم هم، حتى يخلص الكتاب للحق والإنصاف، والصدق. ثامنا: عنونت لمواضيع الكتابين، إذا خلا كلاهما إلا من عناوين قليلة وضعها الناسخ، أو المؤلف على هامش الكتابين، ومعظمها ليست ذات دلالة على ما وضعت له. تاسعا: رقمت ما ورد في الكتاب من الآيات القرآنية، والرقم الأول يدل على السورة، والثاني على الآية. ملحوظة: تشير الأرقام الواردة في صلب متن الكتاب إلى صفحات النسخة المصورة التي اعتمدت عليها في نشر هذا الكتاب. الأصل المطبوع عنه: يملك النسخة التي عنها نشرنا الكتاب سري جدة الجليل، الشيخ محمد نصيف. وقد تفضل -كدأبه دائما في العمل على نشر العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 أعطاها إلى فضيلة أستاذنا الكبير الشيخ محمد. حامد الفقي ليعمل على نشرها، فتفضل أستاذنا، ووكل إليّ أمر تحقيقها والتعليق عليها. وصف النسخة: وقد عثر على النسخة الخطية الأصيلة لكتابي البقاعي، العلامة شيخ العروبة في وقته أحمد زكي، عثر عليها في خزائن القسطنطينية، فنقلها بالتصوير الشمسي في مجلد واحد. ثم نقل عن نسخته المصورة نسخة أخرى بالتصوير الشمسي أيضا في مجلد واحد وأهداه إلى العالم الجليل الشيخ محمد نصيف. وقد ورد في الصفحة الأولى من الأصل الذي نشرنا عنه هذا الكتاب ما يأتي: "نقلت باسم الله هذا الكتاب بالتصوير الشمسي من خزائن القسطنطينية وأضفته إلى مجموعة كتبي التي أودعتها قبة الغوري بالقاهرة باسم الخزانة الزكية, وجعلتها وقفا على العلماء وطلبة العلم، نفع الله بها" ثم يلي ذلك إمضاء "وكتبه أحمد زكي" وورد أيضا في الصفحة الأولى ما يأتي: "وهذه النسخة المنقولة عنها هدية إلى خادم العلم الإسلامي والعمراني بالحرمين الشريفين الشيخ محمد نصيف, فخر جدة أعانه الله" ثم يلي ذلك إمضاء "أحمد زكي" وتاريخ الإهداء 5 محرم الحرام سنة 1352 الموافق 30 إبريل سنة 1933، وقد صورت النسخة المهداة سنة 1933م بمطبعة دار الكتب قسم التصوير. والنسخة مكتوبة بخط فارسي جميل، وناسخها سليمان بن عبد الرحيم. وقد انتهى من نسخها -كما ذكر هو في آخر الكتاب- سنة 947 هـ وتقع النسخة في 84 صفحة، وقد كتبت ورقاتها من وجه واحد ومسطرتها تبلغ 21 سطرا، ويقع الكتاب الأول منها، وهو "تنبيه الغبي" في 59 صفحة، والثاني وهو "تحذير العباد" في 23 صفحة. وقد كتب الشيخ الجليل محمد نصيف على نسخته ما يأتي: "أقول أنا محمد نصيف بن حسين بن عمر نصيف: سألت السائح التركي ولي هاشم عند عودته من الحج في محرم سنة 1355 عن سبب عدم وجود ما صنفه العلماء في الرد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ابن عربي، وأهل نحلته الحلولية والاتحادية من المتصوفة. فقال: قد سعى الأمير السيد عبد القادر الجزائري بجمعها كلها بالشراء والهبة وطالعها كلها, ثم أحرقها بالنار، وقد ألف الأمير عبد القادر كتابا في التصوف على طريقة ابن عربي. صرح فيه بما كان يلوح به ابن عربي، خوفا من سيف الشرع الذي صرع قبله "أبو الحسين الحلاج" وقد طبع كتابه بمصر في ثلاثة مجلدات، وسماه المواقف في الوعظ والإرشاد, وطبع وقفا، ولا حول ولا قوة إلا بالله". شبهة: يقول بعض من لا يستنبطون خبيئة التصوف، ويرسلون النظرة الكاشفة إلى أعماقه: وهل تدين الصوفية المعاصرة بما دان به ابن عربي، وابن الفارض, حتى تحكموا عليهم بما حكم به على ابن عربي وابن الفارض، أو حتى يصلح هذا الكتاب ردا عليهم؟ وأقول لهذا السائل: نعم، تدين الصوفية المعاصرة بوحدة الوجود، وبوحدة الأديان، فإنما هو أمر مبيت للدين الحق يتوارثه الصوفية خلفا عن سلف، ليكيدوا به لهذا الدين الحق. وفي أورادهم دليل ما نقول. وفي تقديسهم لابن عربي وكتابه الفصوص، ولابن الفارض. وتائيته حجة على أنهم يدينون بدينهما، فالأول عندهم "الشيخ الأكبر". والثاني: "سلطان العاشقين" ويا طالما قلنا للصوفية المعاصرة: أن تغنم رضاء الله مرة. فتبرأ إليه من ابن عربي، وابن الفارض. بل حتى من كتبهما وأشعارهما قلنا لها ذلك، فكان أن برئت إلى أصنامها ممن يقدم لها النصح ابتغاء وجه الله. واستغاثت بالأحياء، وبالأموات من الطواغيت، حتى لا ينزع الناصح تاج القداسة الزائف عن الشيطان المريد. وقد يقول قائل: وما بالكم تخصون الصوفية بهذا كله؟! وأقول: بل هو جهادنا الأول. ونقتدي في هذا برسولنا وأسوتنا عبد الله ورسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ بدأ دعوته بالدعوة إلى الله وحده، وإلى النهي عن اتخاذ شركاء أو شفعاء من دون الله رب العالمين، بدأ بوحي من الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 بدعوة الناس إلى التوحيد الخالص، وإذا ما تمكنت عقيدة التوحيد الخالص من قلب المسلم، جعلته إنسانا مثاليا في دينه وخلقه وروحانيته، ودفعت به إلى الحياة بطلا يعمل باسم الله لتحقيق المثل العليا للجماعة المسلمة، بل للإنسانية عامة، وجعلت منه وليا كريما للحق والعدل والخير والصدق والسمو والكرامة؛ وذلك لأنه يحمل قلبا مؤمنا لا يحب إلا الله، ولا يرهب غير الله، ولا يتقي غير الله، ولا يرجو إلا ثواب الله، ولا يطيع غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما الصوفية سواء كانت نظرية أم عملية، فقد قامت لتصرف الناس عن عبادة الخالق، إلى عبادة المخلوق. إنسانا كان أم حيوانا، ملكا أم شيطانا، حيا أم ميتا، لتجعل من المسلمين عباد هوى وشهوة وأوثان. ناج القلب الصادق الإيمان باسم الله يتجاوب معك، أَبِن له عن أمر الله، تجده يتلمس كل سبيل إلى طاعة أمر ربه سبحانه, ناشده باسم الله ما يحب الله تجده طيعا ذلولا في عزة ونبل وكرم وإيثار. ثم سل القلب الصوفي بعض ما سألت قلب المؤمن, فلن يسمع لك إلا إذا ناجيته باسم طواغيته ابن عربي وابن الفارض والشعراني وأمثالهم، أو باسم أوثانه وأصنامه، من قباب آلهته الموتى. فنحن إذن نعمل ليكون لله وحده الدين خالصا، ولتكون قلوب عباده إيمانا به وحده، وحبا له وحده، ورجاء فيه وحده، وتقوى له وحده، ولتتوحد الجماعة الإسلامية بهذا الإيمان، وهذا الحب، وهذا الرجاء، وهذه التقوى. وإلى العلي القدير أضرع أن يجعل علمنا خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعل من المسلمين أمة واحدة تعمل بقول الله سبحانه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} عبد الرحمن الوكيل عضو جماعة أنصار السنة المحمدية القاهرة: الجمعة: 12 من صفر سنة 1372 31 أكتوبر سنة 1952 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 البقاعي في سطور : ملخصة عن شذرات الذهب, والضوء اللامع هو الإمام إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر أبو الحسن برهان الدين البقاعي الشافعي المحدث المفسر العلامة المؤرخ. ولد سنة 809هـ, بقرية خربة روحا من عمل البقاع، ونشأ بها، ثم دخل دمشق وفيها جود القرآن وجدد حفظه وأفرد القراءات، واشتغل بالنحو والفقه وغيرهما من العلوم. أخذ عن أساطين عصره، كابن ناصر الدين وابن حجر، وبرع، وتميز، وناظر وانتقد حتى على شيوخه. وصنف تصانيف عديدة. من أجلها المناسبات القرآنية، وعنوان الزمان بتراجم الشيوخ والأقران، وتنبيه الغبي بتكفير عمر بن الفارض وابن عربي، دخل بيت المقدس، ثم القاهرة. وتوفي بدمشق في رجب 885 عن ست وسبعين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين خطبة الكتاب : الحمد لله المضل الهاد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تضمن الإسعاد، يوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى سبيل الرشاد. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قمعوا أهل العناد، وحكموا سيوفهم في رقاب أهل الفساد، فلم يجسر أحد في زمانهم على إلحاد، بتمثيل، أو تعطيل، أو حلول، أو اتحاد. أبعدنا الله من ذلك أيما إبعاد، وحمانا منه على مر الدهور والآباد. وبعد: فإني لما رأيت الناس مضطربين في ابن عربي1 المنسوب إلى التصوف، الموسوم عند أهل الحق: بالوحدة، ولم أر من شفى القلب في ترجمته2 وكان كفره في كتابه الفصوص أظهر منه في غيره، أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهرا، حتى يعلم حاله، فيهجر مقاله، ويعتقد انحلاله، وكفره وضلاله، وأنه إلى الهاوية مآبه ومآله, امتثالا لما رواه مسلم عن أبي سعيد [الخدري] رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن   1 هو أبو بكر محيي الدين محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي، ولد بمرسية سنة 560 ونشأ بها وانتقل إلى أشبيلية، ثم ارتحل وطاف البلدان فطرق بلاد الشام والروم والمشرق، ودخل بغداد، وارتحل إلى مكة، وكانت وفاته سنة 638هـ. 2غمط بقوله هذا حق الإمام ابن تيمية, وهو شيخ شيوخ البقاعي، وإليه تنتهي الإمامة في نقد التصوف، والبرهنة العقلية والنقلية على منابذته للحق من الكتاب والسنة, وللبدهيات من العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 لم يستطع، فبلسانه، فإن [لم] يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان1" وفي رواية [عن عبد الله بن مسعود] : "وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل" وما أحضر إلى النسخة التي نقلت ما تراه منها إلا شخص من كبار معتقديه، وأتباعه ومحبيه. عقيدة ابن عربي وكيده للإسلام . وينبغي أن يعلم أولا أن كلامه دائر على الوحدة المطلقة، وهي: أنه لا شيء سوى هذا العالم، وأن الإله أمر كلي لا وجود له إلا في ضمن جزئياته. ثم إنه يسعى في إبطال الدين من أصله، بما يحل به عقائد أهله؛ بأن كل أحد على صراط مستقيم، وأن الوعيد لا يقع منه شيء، وعلى تقدير وقوعه، فالعذاب المتوعد به إنما هو نعيم وعذوبة، ونحو ذلك!! وإن حصل لأهله ألم، فهو لا ينافي السعادة والرضى، كما لم ينافها ما يحصل من الآلام في الدنيا، وهذا يحط عند من له وعي على اعتقاد: أنه لا إله أصلا، وأنه مأثم2 إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما وراء ذلك شيء. منهاج الصوفية في الكيد بدعوتهم . وكل ما في كلامه من غير هذا المهيع3 فهو تستر وتلبيس على من ينتقد عليه، ولا يلقي زمام انقياده إليه، فإنه علم أنه إن صرح بالتعطيل ابتداء بَعُد كل سامع من قبوله فأظهر لأهل الدين أنه منهم، ووقف لهم في أودية اعتقادهم، ثم استدرجهم عند المضائق، واستغواهم في أماكن الاشتباه، وهو أصنع الناس في التلبيس،   1 مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه. 2 في الأصل: مأثم. 3 الطريق الواضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فإنه يذكر أحاديث صحاحا، ويحرفها على أوجه غريبة، ومناح عجيبة، فإذا تدرج معه من أراد الله -والعياذ به- ضلاله، وصل -ولا بد- إلى مراده من الانحلال من كل شرعة، والمباعدة لكل ملة. وخواص أهل هذه النحلة يتسترون [3] بإظهار شعائر الإسلام، وإقامة الصلاة والصيام، وتمويه الإلحاد بزي التنسك والتقشف، وتزويق الزندقة بتسميتها: بعلم التصوف، فهو ممن أشار إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية1". وقد أصل لهم غويهم هذا كما صرح به في الفص النوحى: أن الدعوة إلى الله مكر!! ونسب ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام، فقال: ادعوا إلى الله. فهذا عين المكر.. إلى آخر كلامه. وهذا هو السر في تنسكهم، على أنهم قد استغنوا في هذا الزمان عن التنسك؛ لانقياد أهله بغير ذلك, وقد يستدرجهم الله وأمثالهم -ممن يريد ضلاله- بإظهار شيء من الخوارق على أيديهم، كما يظهره الله على يد الدجال، وأيدي بعض الرهبان، فليتبين الموقن من المرتاب. مثالهم في زندقتهم وقد ضربوا -لتصحيح زندقتهم- مثالا مكروا فيه بمن لم ترسخ قدمه في الإسلام، ولا خالط أنفاس النبوة، حتى صار يدفع الشبه. حاصل ذلك المثال: أنهم يصلون إلى الله بغير واسطة المبعوث بالشرع2، فتم لهم المكر,   1 من حديث رواه البخاري -واللفظ له- ومسلم وأبو داود والنسائي. 2 قال ابن عربي: "علماء الرسوم يأخذون خلفا عن سلف إلى يوم القيامة، فيبعد النسب. والأولياء يأخذون عن الله ألقاه في صدورهم" المناوى ص246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وتبعهم في ذلك أكثر الرعاع، ولم يبالوا بخرق الإجماع، وذلك المثال: أن ملكا أقام على بابه سيافا، وقال له: من دخل بغير إذنك فاقتله، وقال لغيره: أذنت لك في الدخول متى شئت، فإذا دخل الغير، فقد أصاب، وإن قتله السياف فقد أصاب. وعنوا بالسياف: الشارع. فما أفادهم مثالهم مع زندقتهم به شيئا. فإنهم اعترفوا فيه بإباحة دمائهم، وهو قصد أهل الشريعة، ومن يعتقد أن لأحد من الخلق طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو كافر من أولياء الشيطان بالإجماع، فإن رسالته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عامة ودعوته شاملة. احتجاج الصوفية بقصة الخضر : ولا حجة لهم في قصة الخضر مع موسى عليه السلام، للفرق بخصوص تلك الرسالة، مع أن الخبر بعلم الخضر جاء من الله تعالى1 إلى موسى عليه   1 يقول ابن تيمية "ولا حجة فيها -أي: في قصة الخضر- لوجهين: أحدهما: أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباع موسى، فإن موسى كان مبعوثا إلى بني إسرائيل، ولهذا قال الخضر لموسى: إنك على علم من علم الله علمك الله إياه، وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت. ومحمد رسول الله إلى جميع الثقلين فليس لأحد الخروج عن مبايعته ظاهرا وباطنا، ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة في دقيق ولا جليل، لا في العلوم، ولا في الأعمال، وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى. وأما موسى فلم يكن مبعوثا إلى الخضر. الثاني: أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة. بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة، إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر، ولهذا لما بيّن أسبابها لموسى وافقه على ذلك، ولو كان فيها مخالفة للشريعة لم يوافقه بحال. فإن خرق السفينة مضمونه: أن المال المعصوم يجوز للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه، فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية، كما جاز للراعي على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يذبح الشاة التي خاف عليها الموت، وقصة الغلام مضمونها: جواز قتل الصبي الصائل = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 السلام، فأين هي من دعاويهم1؟! ولا شبهة عليها، فضلا عن دليل، بل هي مصادمة للقواطع، ومن صادم القواطع, انقطعت عنقه، ولو بلغ في الزهد والعبادة أقصى الغايات {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2-4] الآيات. ولو وقعت منهم الخوارق، فإنها شيطانية. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [يس: 43] ، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] . القول في صرف الكلام عن ظاهره : وسميت هذه الأوراق: تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي، وإن شئت فسمها: النصوص من كفر [4] الفصوص؛ لأني لم أستشهد على كفره، وقبيح أمره إلا بما لا ينفع معه التأويل من كلامه، فإنه ليس كل كلام يقبل تأويله، وصرفه عن ظاهره. وذلك يرجع إلى قاعدة الإقرار بشيء وتعقيبه بما يرفع شيئا ما من معناه، ولا خلاف عند الشافعية في أنه إن كان مفصولا لا يقبل، وأما إذا كان موصولا ففيه خلاف. ومن صورة ما لا ينفع فيه الصرف عن الظاهر،   = ولهذا قال ابن عباس: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا. وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة، إذا كان لذرية قوم صالحين" باختصار عن مجموعة الرسائل والمسائل جـ4 ص67. وأقول: على فرض أن في القصة مخالفة الباطن للظاهر. فهذا بالنسبة إلى شريعتين، شريعة الخضر وشريعة موسى. أما الأمر بالنسبة إلى الخضر، فكان ما فعله هو الظاهر في شريعته، فلم يخالف ظاهر ما فعل باطن ما به أمر. فليس إذن ثمة باطن خالف ظاهرا، أما دعوى الصوفية فتفتري جواز مخالفة الباطن للظاهر في الشريعة الواحدة. 1 في الأصل: دعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 كما لو أقر ببيع، أو هبة، ثم قال: كان ذلك فاسدا، فأقررت بظني الصحة، فإنه لا يصدق في ذلك. حكم من ينطق بكلمة ردة : ونقل الشيخ سراج الدين بن الملقن في العمدة على المنهاج، والزركشي في التكملة عن إمام الحرمين, أنه قال في أوائل الإيمان: "قال الأصوليون: لو نطق بكلمة الردة، وزعم أنه أضمر تورية كفر ظاهرا وباطنا" قال الإمام الغزالي1 في البسيط بعد حكايته أيضا عن الأصوليين: "لحصول التهاون منه، وهذا المعنى -يعني التهاون- لا يتحقق في الطلاق، فاحتمل قبول التأويل بإطلاقه". وسيأتي ما يشهد لذلك من نقل شيخ الإسلام الشيخ زين الدين العراقي عن العلامة علاء الدين القونوي محسنا له، على أن بعض العلماء غلب جانب الحرمة لله ولرسله فمنع التأويل مطلقا. قال القاضي أبو الفضل عياض2 المالكي في كتابه.   1 لقب الغزالي في التاريخ الذي صنعته الأهواء بالإمام، وغولي فيه حتى لقب بحجة الإسلام. أما هو في التاريخ الذي يستمد من الحق قصصه وعبره. ويشهد بصدقه كتبه. فليس من هذه الألقاب السحرية في شيء. بما خلفه في كتبه من تراث هو أرجاس من الباطنية، والصوفية، والفلاسفة، وفيه ما يناقض أصول الدين الذي لقب هو بأنه حجته وإمامه. يقول ابن تيمية عنه -وقوله عن بينة: "ولهذا صنف الكتب المضنون بها على غير أهلها. وهي فلسفة محضة سلك فيها مسلك ابن سينا" ثم يقول عن كتابه المضنون به على غير أهله "وهو فلسفة محضة. قول المشركين من العرب خير منه، دع قول اليهود والنصارى" النبوات لابن تيمية من 81-82 وقال عنه أخص أصحابه أبو بكر بن العربي الفقيه المالكي "شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منها فما قدر" والغزالي نفسه يقر في كتابه التأويل: بأنه رجل رديء البضاعة في الحديث!! 2 ولد بمدينة سبتة سنة 476هـ وتوفي بمراكش سنة 544هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الشفاء، وهو الذي تلقته الأمة بالقبول، وتدارسوه في الارتحال والحلول1 في القسم الرابع منه: "فصل: الوجه الرابع: أن يأتي من الكلام بمجمل، ويلفظ من القول بمشكل يمكن حمله على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو غيره, أو يتردد في المراد به من سلامته من المكروه, أو شره، فههنا متردد النظر, وحيرة العبر، ومظنة اختلاف المجتهدين، ووقفة استبراء2 المقلدين؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 43] فمنهم من غلب حرمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحمى حمى عرضه، فجسر على القتل، ومنهم من عظم حرمة الدم3". بيان ما هو من المقالات كفر : وقال في فصل بيان ما هو من المقالات كفر: "كل مقالة صرحت بنفي الربوبية، أو الوحدانية، أو عبادة أحد غير الله، أو مع الله، فهي كفر، كمقالة الدهرية4، وسائر فرق [أصحاب5] الاثنين [من الديصانية6   1 ليس للشفاء هذه القيمة التي مجده بها البقاعي. قال الحافظ الذهبي عنه: إنه محشو بالأحاديث الموضوعة، والتأويلات الواهية الدالة على قلة تفقده مما لا يحتاج إليه قدر النبوة. 2 في الأصل: استبر. والتصويب من الشفاء. 3 ص255 جـ2 الشفاء ط الآستانة سنة 1290هـ. 4 يقول عنهم الحميري في كتابه الحور العين ص143: "إنهم القائلون بقدم العالم وقدم الدهر، وتدبيره للعالم وتأثيره فيه، وأنه ما أبلى الدهر من شيء أحدث شيئا آخر" ويتحدث الشهرستاني عنهم في الملل، فيقول عنهم: "أنكروا الخلق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي، والدهر المفني، وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [النور: 45] إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي، وقصر الحياة والموت على تركيبها وتحللها، فالجامع هو الطبع، والمهلك هو الدهر" ص259ج2ط توفيق. 5 ما بين هذين [] ساقط من الأصل. وأثبته نقلا عن الشفاء. 6 هم أصحاب ديصان القائلون بأصلين: النور والظلام، فالأول يصنع الخير قصدا واختيارا، والثاني يفعل الشر طبعا واضطرارا، ويزعمون أن سمع النور وبصره وسائر حواسه شيء واحد. فسمعه هو بصره، وبصره هو حواسه" انظر ج2 ص89 من الملل والنحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 والمنانية1، وأشباههم من الصابئين2 والنصارى والمجوس3] والذين أشركوا   1 أصحاب ماني بن فاتك الذي ظهر في عهد سابور بن أزدشير. وضع دينا بين المجوسية والنصرانية، وزعم أن العالم مركب من أصلين قديمين نور وظلمة. الأول مصدر الخير، والثاني مصدر الشر. ويدين ماني بأن الظلام امتزج بالنور امتزاجا كليا في هذا الوجود، ولا يمكن أن ينفصل النور عن الظلام إلا بعد أن يفنى هذا العالم، ولهذا حرم الزواج على أتباعه حتى يبيد النوع الإنساني، فيستطيع النور الخلاص من الظلام، ولهذا قتله الملك. ودعوة ماني ذات نزعة تشاؤمية سوداء، شديدة الغلو في الحث على الزهد والحرمان. 2 اختلف في شأن الصابئة. فالمسعودي يرى أنهم عبدة الكواكب، فيقول في المروج, وهو بصدد الحديث عن أحد ملوك الفرس: "وظهر في سنة من ملكه رجل يقال له: بوداسف أحدث مذهب الصابئة، وقال: إن مجالي الشرف الكامل، والصلاح الشامل. ومعدن الحياة في هذا السقف المرفوع "يعني السماء" وأن الكواكب هي المدبرات والواردات والصادرات" مروج الذهب ج1 ص222 ويقول عنهم الحميري في الحور العين ص141 "وقال الصابئون: شيئان قديمان: نور وظلام, فالنور عالم, والظلام جاهل. وقيل: إن الصابئين قوم يعبدون الملائكة. وقيل إن الصابئين قوم يخرجون من دين إلى دين". ويقول الرازي في اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص90: "إنهم قوم يقولون: إن مدبر هذا العالم وخالقه هذه الكواكب السبعة والنجوم، فهم عبدة الكواكب" ويقول الشهرستاني في الملل والنحل "ذكرنا أن الصبوة في مقابل الحنفية. وفي اللغة: صبا الرجل إذا مال وزاغ، فبحكم ميل هؤلاء "يعني الصابئة" على سنن الحق، وزيغهم عن نهج الأنبياء، قيل لهم: الصابئة، وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين". ويقول في موضع آخر: "ومنهم -أي: من الناس- من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام، ولا يقول بالشريعة والإسلام، وهم الصابئة" وانظر القرطبي ج1 ص380، وابن خلدون ج1 ص116. 3 هم الثنويون من الفرس الذين يثبتون أصلين مدبرين قديمين يقتسمان الخير والشر. انظر الملل والنحل للشهرستاني ج2 ص59 ط صبيح، والحور العين للحميري ص142، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 بعبادة الأوثان، أو الملائكة، أو الشياطين، أو الشمس أو النجوم، أو النار، أو أحد غير الله1" ثم قال: "وكذلك من أقر بالوحدانية، وصحة النبوة، ونبوة نبينا عليه السلام، ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به. ادعى في ذلك المصلحة بزعمه، أو لم يدعها؛ فهو كافر بإجماع، كالمتفلسفين، وبعض الباطنية2 والروافض3، وغلاة المتصوفة، وأصحاب الإباحة4، فإن هؤلاء   1 ص268 ج2 الشفاء. 2 بل كل الباطنية، فما من باطني إلا وهو يبطن البغضاء لله ورسوله، وأولى الناس بهذا اللقب هم الصوفية. 3 يقول الأشعري في كتابه المقالات "وإنما سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر، وهم مجمعون على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نص على استخلاف علي بن أبي طالب باسمه وأظهر ذلك وأعلنه، وأن أكثر الصحابة ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ص87. ويقول ابن تيمية: "فهذا اللفظ -يعني الرافضة- أول ما ظهر في الإسلام، لما خرج زيد بن علي بن الحسين في أوائل المائة الثانية في خلافة هشام بن عبد الملك، واتبعه الشيعة، فسئل عن أبي بكر وعمر، فتولاهما وترحم عليهما، فرفضه قوم. فقال: رفضتموني، رفضتموني، فسموا: الرافضة" ص25 ط مجموعة الرسائل الكبرى. وانظر ص184 من الحور العين ففيه تفصيل ما دار بين الرافضة وبين زيد من محاجة في شأن أبي بكر وعمر. 4 هم صنفان: صنف كانوا قبل دولة الإسلام كالمزدكية، وصنف ظهروا في الإسلام، وهم كذلك صنفان. بابكية، ومازيارية، والأول أتباع الخرمي الذي ظهر في الجبال بناحية أذربيجان، وكثروا واستباحوا المحرمات وقتلوا الكثير من المسلمين. وأما المازيارية فهم أتباع مازيار. وكانت لهم ليلة يجتمعون فيها على الخمر والزمر. رجالهم ونساؤهم، فإذا طفئت السرج افتض الرجال النساء.. انتهى مختصرا عن مختصر الفرق بين الفرق ص162, وانظر ص74 من الاعتقادات للرازي وص31 من كشف أسرار الباطنية للحمادي. ولعله لقب عام يصدق على كل طائفة تستبيح لنفسها ما حرمه الله سبحانه، ولعل القراء على ذكر مما نشرته الصحف عن إحدى الطرق الصوفية التي استباح شيخها لنفسه أعراض أتباعه رجالا ونساء، مما يؤكد لهم أن كل طريقة صوفية: إنما هي امتداد لفرقة سابقة ناهضت الإسلام، ونابذت شرعته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 زعموا أن ظواهر الشريعة [5] وأكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان ويكون من أمور الآخرة والحشر والقيامة والجنة والنار، ليس منها شيء على مقتضى لفظها، ومفهوم خطابها، وإنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة، إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم1؛ فمضمن2 مقالاتهم إبطال الشرائع، وتعطيل الأوامر والنواهي، وتكذيب الرسل والارتياب فيما أتوا به. وكذلك نكفر من ذهب مذهب بعض القدماء في أن [في] 3 كل جنس من الحيوان نذيرا ونبيا من القردة والخنازير والدواب والدود [ويحتج بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ4} [النور: 35] إذ ذلك يؤدي إلى أن توصف أنبياء هذه الأجناس   1 يقول ابن سينا "أما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد، وهو أن الشرع والملل الآتية على لسان نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة. ثم من المعلوم الواضح، أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصانع موحدا مقدسا؛ ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور. ثم لم يرد في القرآن من الإشارة إلى هذا الأمر الأهم شيء، ولا أتى بصريح ما يحتاج إليه من التوحيد بيان مفصل، وإذا كان الأمر في التوحيد هكذا، فكيف فيما هو بعده من الأمور الاعتقادية" باختصار عن رسالة الأضحوية لابن سينا من ص44. وهكذا يدين الفلاسفة ومخانيثهم الصوفية بأن ليس في القرآن ما يهدي النفس إلى التوحيد أو يبين للفكر ما يجب اعتقاده في الله، وغير هذا من الأمور التي هي قوام الدين وملاكه. يدينون بهذا الإلحاد، ويقررونه في كتبهم في جرأة بالغة السفه والقحة والجحود بآيات الله التي تقرر في جلاء وإشراق ما يجحد به الفلاسفة. 2 في الأصل: فمضمون، وهي كما أثبتها في الشفاء. 3 ساقطة من الأصل. وأثبتها عن الشفاء. 4 القائلون بهذا هم الحائطية أتباع أحمد بن حائط، أحد أصحاب النظام = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 بصفاتهم المذمومة، وفيه من الإزراء على هذا المنصب المنيف ما فيه، مع إجماع المسلمين على خلافه، وتكذيب قائله1" ا. هـ. قلت: فكيف بمن يدعي أن الإله عين كل شيء من ذلك2؟. "وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب, أو خص3 حديثا مجمعا على نقله، مقطوعا به، مجمعا على حمله على ظاهره، كتكفير الخوارج بإبطال الرجم؛ ولهذا نفكر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو توقف فيهم أو شك, أو صح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده, واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره4 ما أظهر من خلاف 5 ذلك". ا. هـ. قلت: فكيف بمن يقول: أن جميع الخلق من أهل الملل وغيرها على صراط مستقيم6، وأن فرعون مات طاهرا مطهرا7 بعد النص القطعي على أنه   = انظر ص20 من كتاب الفرق الإسلامية محمود البشبيشي. وما بين هذين [] أثبته عن الشفاء. 1 ص296، 270ج2 من الشفاء. 2 أي: من القردة والخنازير والدواب والدود التي كفر القاضي عياض من يزعم النبوة لشيء منها. وافتراء أن الإله عين كل شيء من هذه وغيرها، هو دين ابن عربي وأحلاس زندقته. لإيمانه بوحدة الوجود. 3 كذا بالأصل. وبصلب الشفاء أيضا، ولكن على هامش الشفاء ط الآستانة تصويب هو "أو نص حديث مجمع على نقله مقطوع به، مجمع على حمله على ظاهره" وهو هكذا في الشفاء. ط المطبعة الأزهرية بشرح القارئ. وهذا هو الصواب. بدليل ما كفر به الخوارج، وهو إبطالهم للرجم، والرجم إنما نصت عليه السنة لا القرآن فتكون العلة في تكفير القاضي لهم هي مخالفتهم لنص حديث. 4 في الأصل: وما. والتصويب من الشفاء. 5 ص510 ج4 ط المطبعة الأزهرية بشرح القاري. 6 هذا دين ابن عربي لإيمانه بوحدة الأديان. 7 سيأتي النص بلفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 من أهل النار؛ بقوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [النساء: 43] . وقال:1 إن كل عابد شيئا فهو عابد لله، وحرف ما أخبر به عن عذاب قوم نوح وهود، ونحوهم بما سيأتي من أن ما حل بهم أعقبهم راحة وعذوبة، وأن الله تعالى كان ناصرهم على أنبيائه، فإن العداوة ما كانت إلا بينهم وبينهم؟ قال2: "وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع3" ثم قال: "وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية، وقاضي قضاتها أبو عمرو المالكي على قتل الحلاج4 وصلبه لدعواه الإلهية، والقول بالحلول، وقوله: أنا الحق، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته، وكذلك حكموا في ابن أبي الغراقيد5.   1 أي: ابن عربي. 2 أي: القاضي عياض. 3 ص272 ج2 الشفاء ط الآستانة. 4 هو الحسين بن منصور ولد سنة 244هـ وهلك مصلوبا سنة 309. وفي عصره ثم انتقال التصوف من جانبه العملي إلى جانبه النظري. فبدأ الصوفية يتحدثون عن ماهية الإله، وعن حقيقة العلاقة التي تربط الإنسان بالله: وقد آمن الحلاج بثنائية الطبيعة الإلهية باللاهوت والناسوت، وآمن بحلول اللاهوت في الناسوت. والحلاج في هذا متأثر بالمسيحيين السريان الذين استعملوا اللاهوت والناسوت للدلالة على طبيعتي المسيح. يقول في الطواسين ص134: أنا من أهوى، ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا ويقول في ص51 "أنا الحق، وصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون". 5 هو محمد بن علي أبو جعفر الشلمغاني. كان يعتقد أنه إله الآلهة، وأن الله سبحانه يحل في كل شيء على قدر ما يحتمل، وأنه قد حل في آدم، وفي إبليس، وأن الله تعالى إذا حل في جسد أظهر من القدرة والمعجزة ما يدل على أنه هو الله له كتاب اسمه الحاسة السادسة، صرح فيه برفض الشريعة وإباحة اللواط. وزعم أنه إيلاج نور الفاضل في المفضول، ولذا أباح أتباعه نساءهم له، طمعا في إيلاج نوره فيهن. وكان يسمي محمدا وموسى بالخائنين، زعما منه أن هارون أرسل موسى، وأن عليا أرسل محمدا فخاناهما. صلب في خلافة الراضي سنة 322 انظر الكامل لابن الأثير ج6 ص241، والشذرات ج2 ص293، ومختصر الفرق ص160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وكان على [نحو] 1 مذهب الحلاج, بعد هذا أيام الراضي وقاضي قضاة بغداد يومئذ أبو الحسين بن أبي عمر المالكي2" ا. هـ. قلت: فكيف بمن يقول صريحا: إن الخلق هو الحق3، والحق هو الخلق، والحق هو الإنسان الكبير، وهو حقيقة العالم وهويته؟! وقال شيخ الإسلام الشيخ محيي الدين النووي الشافعي في كتاب الردة الروضة4 مختصر الرافعي. قال المتولى: "من اعتقد قدم العالم، أو حدوث [4] الصانع -إلى أن قال- أو أثبت له الانفصال، أو الاتصال، كان كافرا5" ا. هـ.   1 ساقطة من الأصل. وأثبتها عن الشفاء. 2 ص282 ج2 الشفاء. 3 يعني الصوفية بالحق: الله تبارك وتعالى. 4 لعله سقط حرف "من" قبل لفظ الروضة. 5 في التصريح بنفي الاتصال والانفصال معا في آن واحد، وعن ذات واحدة خلل منطقي. فهما يتقابلان تقابل السلب والإيجاب، فيلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر. وفيهما أيضا إجمال واشتباه، فقد يعني بالانفصال أنه سبحانه بائن من خلقه مستو على عرشه، ليس كمثله شيء. وهذا حق يؤمن به من أسلم قلبه لله، ووحده توحيدا صادقا في ربوبيته وآمن بأسمائه وصفاته كما هي في القرآن والسنة. وقد يعني بالانفصال أنه سبحانه لا يتصل بالعالم صلة خلق أو تدبير، أو علم منه سبحانه، أعني نفي كونه خالقا عليما يدبر الأمر, أو أنه سبحانه ليس لإرادته، أو قدرته أثر في مقادير الوجود، وغير ذلك مما يدين به الفلاسفة، ومرادهم منه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قلت: فكيف بمن يصرح بأنه 1 عين كل شيء؟ قال: "والرضى بالكفر كفر". قلت: فكيف بمن يصوب كل كفر، وينسب ذلك التصويب إلى نقل الله تعالى له عن نبيه هود عليه السلام؟ ويقول: إن الضلال أهدى من الهدى؛ لأن الضال حائر، والحائر دائر   = نفى الخالق القادر المريد المختار. وهذا كف ر يجحد بالربوبية والإلهية. وكذلك الاتصال: فقد يراد به أن سبحانه يدبر الكون، ويصرف الليل والنهار، ويسخر الشمس والقمر، ويحيط علمه بكل شيء كليا كان أو جزئيا، وتشمل قدرته كل شيء، وغير هذا مما يشهد بكمال الربوبية. وهذا حق لا يتم الإيمان إلا به. وقد يعني به مفهومه الصوفي، أي: إنه سبحانه حال في كل شيء، أو متحد بكل شيء، أو إنه عين كل شيء، أو إنه هو الوجود الساري في كل موجود، ومن يدين بهذا فهو زنديق، أو مجوسي، أو بتعبير أدق: صوفي. فالصوفية مرادفة لكل ما يناقض الإيمان الحق، والتوحيد الحق. لذا يجب على كل من يخبر عن الله أو صفاته أو أسمائه أن يلتزم حدود ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر الرسول به عن ربه. وإلا تزندق، أو تمجس كالصوفية، وألحد كالفلاسفة، وضل كالمتكلمين, ألم تر إلينا نحن البشر كيف نعيب فلانا بأنه لم يكن دقيق التعبير عن المذهب الفلسفي أو الأخلاقي، أو الفنى لفلان، أولم يكن مهذبا فيما تحدث به عن فلان، أوخاطب به فلانا، بل قد نذهب في مذمته كل مذهب، حتى نتهمه بالعي والفهاهة والسفه، فكيف -ولله المثل الأعلى- نطلق للقلم العنان فيما يكتب عن الله، مما يصوره له الأفن والوهم عن ذات الله وصفاته؟ وكيف نستبيح -سادرين- الإخبار عن الله سبحانه بما لا يجب، وما لا يرضي، وما لم يخبر به عن نفسه. ونصف هذه الجرأة الكافرة بأنها حرية فكرية أو تجاوب مع العقل، أو استيحاء من الذوق!! ولقد كان من نتائج هذه الحرية المزعومة -والحق أنها عبودية للوهم وللشيطان- أن آمن بعض الناس برب لا يوصف إلا بالسلب، أي: بالعدم نعتوه ربا. أو برب هو عين العبد. أو بإله يجب أن يعبد في كل شي؛ لأنه عين كل شي، فلتمجد العبودية ربوبية الله، بما يحب سبحانه وحده أن تمجد به. 1 أي: الله سبحانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 حول القطب1 والمهتدي سالك في طريق مستطيل، فهو بعيد عن القطب؟! وسترى ذلك كله في عبارته2 صريحا. ثم نقل الشيخ محيي الدين النووي عن الحنفية -مرتضيا له- قائلا: "إن إطلاق أصحابنا يقتضي الموافقة عليه. أنه إذا سخر بوعد الله تعالى، أو بوعيده كفر. ولو قال: لا أخاف القيامة؛ كفر" ا. هـ. قلت: فكيف بمن يقول: إنه ليس لوعيد الله عين تعاين، وأن الآخرة موضع السعادة لكل أحد، والمعذب منعم بعذابه؟!. ثم نقل الشيخ عن القاضي عياض, مرتضيا له: "أن من لم يكفر من دان بغير الإسلام، كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح3 مذهبهم، فهو كافر، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده, قال: وكذا نقطع بتكفير كل قائل قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير الصحابة4". ثم قال5 في الباب الثاني في أحكام الردة: "إن حكمها إهدار دم المرتد، فيجب قتله إن لم يتب، سواء كان الكفر الذي ارتد إليه كفرا ظاهرا، أو غيره ككفر الباطنية" ا. هـ.   1 القطب عند الصوفية عبارة عن "الواحد الذي هو موضع نظر الله في الأرض في كل زمان، أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد, ويفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل". وستعرف مما سنذكره عن خصائص القطب أن ابن عربي يريد بالقطب هنا الله سبحانه وهو في زعمه متعين في صورة الحقيقة المحمدية. 2 أي: عبارة ابن عربي، فكل ما يذكر المؤلف دائما بعد قوله: قلت فكيف بمن يقول ... هو من دين ابن عربي. 3 في الأصل: صح. 4 انظر ص271 ج2 من الشفاء. 5 أي: النووي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقال الإمام شرف الدين إسماعيل بن المقري في مختصر الروضة: "فمن اعتقد قدم العالم -إلى أن قال- أو شك في تكفير اليهود والنصارى، وطائفة ابن عربي؛ كفر، لا إن جعل لقرب إسلامه أو بعده عن المسلمين"1. ا. هـ. الباطنية 2 قال الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل: "وإنما لزمهم -يعني الباطنية- هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا، ولكل تنزيل تأويلا، ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم [قوم] 3 فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة4 والمزدكية، وبخراسان: التعليمية والملحدة، وهم يقولون: نحن إسماعيلية5، لأنا نميز عن فرق الشيعة بهذا الاسم، وهذا   1 كذا بالأصل. وفي الكلام اضطراب. فليحرر. 2 يقول أبو المظفر الإسفرايني في التبصر ص84: "إن الذين وضعوا دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكان ميلهم إلى دين أسلافهم، ولكنهم لم يقدروا على إظهاره مخافة سيوف المسلمين". 3 ساقطة من الأصل، وأثبتها عن الملل والنحل. 4 طائفة سياسية دينية اتخذت الدعوة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق وسيلة إلى تحقيق أغراضها السياسية والدينية، هي قلب الدولة الإسلامية، وبعث المجوسية الفارسية، وقد عرفت بهذا نسبة إلى حمدان بن الأشعث المعروف بقرمط، وكان في أول أمره أكارا من أكرة سواد الكوفة، وقد ظهر بدعوته الملعونة أيام المأمون، وقد نجحت هذه الفرقة في إقامة دولة لها في بلاد البحرين، وجعلت الأحساء عاصمة لدولة القرامطة. 5 فرقة من الشيعة الإمامية، تزعم أن الإمامة انتقلت من جعفر الصادق -وهو الإمام السادس للشيعة- إلى ولده إسماعيل. ومنهم الفاطميون. وهم الآن فريقان: البهرة السليمانية أتباع أغا خان وهم في الهند وزنجبار والشام، يرون في زعيمهم إلها مقدسا يصير كل ما مسه مقدسا. ومباذل هذا الإله وتهتكاته مشهورة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الشخص -يعني إسماعيل بن جعفر- ثم إن الباطنية القديمة خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على ذلك المنهاج، فقالوا في الباري تعالى: إنا لا نقول: هو موجود، ولا: لا موجود، ولا عالم، ولا جاهل، ولا قادر، ولا عاجز وكذلك في جميع الصفات، فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقناها عليه، وذلك تشبيه، فلم يمكن الحكم بالإثبات المطلق، والنفي المطلق، بل هو إله المتقابلين، وخالق الخصمين، والحاكم بين المتضادين1، ونقلوا في هذا نصا عن محمد بن علي الباقر [7] أنه قال: لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل: هو قادر؛ فهو عالم قادر؛ بمعنى أنه وهب العلم والقدرة, لا بمعنى أنه قائم به العلم والقدرة، أو وصف بالعلم والقدرة، فقيل [فيهم] 2 إنهم نفاة الصفات حقيقة، معطلة الذات عن   = معروفة لرواد مواخير فرنسا، وغيرها، وأندية القمار. وأتاوته المفروضة على أتباعه تجعل منه قارون العصر الحديث. والفريق الثاني: هم البهرة الداودية. وهم أتباع طاهر سيف الدين، وينتشرون في بومباي وكراتشي وجبل حراز باليمن، وبعض جهات زنجبار. ولطاهر عليهم الكلمة النافذة التي لا ترد ولا تناقش، وكيف، وهو الإمام المعصوم؟ هذا وقد نشط دعاة الإسماعيلية في السنين الأخيرة نشاطا عجيبا غريبا في مصر، من مظاهره اتصال زعمائهم بشيوخ الأزهر، ونشر بعض أساتذة الجامعة بعض مخطوطاتهم التي كانوا أشد ما يكونون حرصا على إخفائها، ولا يخالطنا شك في أن غاية الناشر هي خدمة الحقيقة، ونحن نرحب بهذا النشر حتى يكون المسلمون على بينة من أمر هذه الطوائف التي تعمل جاهدة في سبيل أن تكون المجوسية دينا ودولة. 1 قال الحميري في الحور ص148: "وقالت الإسماعيلية: إن الله لا شيء، ولا: لا شيء لأن من قال إنه شيء فقد شبهه، ومن قال إنه لا شيء فقد نفاه. فقالوا فيه بالنفي والإثبات جميعا" اقرأ كتاب راحة العقل للكرماني ففيه تفصيل مذهبهم. 2 أثبتها نقلا عن الملل والنحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 جميع الصفات قالوا وكذلك نقول في القدم إنه ليس بقديم ولا محدث بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته انتهى وقول ابن عربي في الجمع بين التشبيه والتنزيه أشنع من هذا وأبشع وأقبح وأفظع من هو الزنديق قال الشيخ محي الدين النووي وسواء كان ظاهر الكفر أو زنديقا يظهر الإسلام ويبطن الكفر كذا فسر الزنديق في باب الردة في كتاب الفرائض وضعفه الأئمة قال ابن الملقن في العمدة وقال في كتاب اللعان في الكلام على التغليظ إنه الذي لا ينتحل دينا قال وهذا أقرب لأن الأول هو المنافق وقد غايروا بينه وبين الزنديق قال وقال الغزالي في الأصول الزنديق ضربان زنديق مطلق وهو الذي ينكر أصل المعاد حسا وعقلا وينكر الصانع وزنديق مقيد وهو الذي يثبت المعاد بنوع عقل مع نفي الآلام واللذات الحسية الجسمية وإثبات الصانع مع نفي علمه فهذه زندقة مقيدة بنوع اعتراف بتصديق الأنبياء انتهى وسيأتي في آخر هذا الكتاب عن العلامة علاء الدين البخاري تحقيق معنى الزنديق وغيره من أسماء الكفرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 على أن قتل المعتقد لمثل هذا لا بد منه، ولو توقفنا في تسميته. قال القاضي عياض: "وما رواه عن عمر بن عبد العزيز وجده وعمه من قولهم في القدرية: يستتابون، فإن تابوا، وإلا قتلوا1" وقال عيسى عن أبي القسم في أهل الأهواء من الأباضية2 والقدرية وشبههم ممن خالف الجماعة من أهل البدع والتحريف لتأويل كتاب الله تعالى: يستتابون أيضا أظهروا ذلك أو أسروه، فإن تابوا وإلا قتلوا، وميراثهم لورثتهم. وقال مثله ابن القسم في كتاب محمد في أهل القدر.. وقد انتهى بنا المقال الدال على كفر من اعتقد ما قاله من الضلال، وهذا حين الشروع في سوق كلامه الموضح لفساد طويته، وقبح مرامه.   = الصوفية من المشرق والمغرب كانوا يفدون إلى مصر، فتكسوهم الأوهام طيالس الدهاقين، وتصنع لهم التهاويل صور القديسين, كالبخاري والشاذلي والبدوي وغيرهم فلم كانوا يفدون إلى مصر بالذات، ولم كانوا يجدون حتى يستذلوا القلوب بهواهم؟ والملحوظ أن أكثر هؤلاء الصوفية وفدوا إلى مصر بعد طرد الفاطميين منها. والمشاهد الذي يلمسه اليقين بالحقيقة أن عقائد كثير من المسلمين في مصر تأثرت بدعوة هؤلاء الصوفية، حتى صارت ذات رحم ماسة بالمجوسية الفاطمية. قد تستطيع الإجابة عن تلك الأسئلة إذا ربطت بين المقدمات والنتائج، وإذا كنت على بينة من أن التصوف العملي يدين بعبادة مشاهد آل البيت، سواء أكانت صحيحة النسبة إليهم أم زائفتها، وإذا كنت على بينة أيضا من أن التصوف النظري يشابه عقيدة الفاطميين، ويشاكلها في التلبيس والتأويل، والمصدر والوسيلة والغاية. بل أقول: إنه هي في الظاهر والباطن والأهداف. تستطيع الإجابة عن تلك الأسئلة إذا تبينت كل هذا، بل ستدرك الجواب الصحيح، وبخاصة إذا قارنت بين ما ترتب من نتائج دينية وسياسية واجتماعية على الدعوة الفاطمية، وبين ما ترتب -وما زال- على الصوفية. قارن وتأمل وتجرد، تجد النتائج واحدة، تجد الجواب يدفعك دفعا إلى إدراكه، وهو أن الصوفية دعاة الفاطمية وأشباهها. 1 ص261 ج2 الشفاء. 2 إحدى فرق الخوارج أتباع عبد الله بن أباض، افترقوا فرقا كثيرة يجمعها القول بإكفار مخالفيهم من هذه الأمة ولا يزال منهم بقايا في عصرنا بطرابلس وزنجبار انظر ص61 من الفرق بين الفرق للبغدادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 إفك وبهتان : وأعظم الأمر أنه نسب كفره إلى إذن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الماحي لجميع الإشراك، المخلص لمتبعيه من حبائل سائر الأشراك, فقال في الخطبة1: "أما بعد فإني رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مبشرة [أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق2] وبيده كتاب، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم، خذه، واخرج به إلى الناس [ينتفعون به] ، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله، وأولي الأمر منا [كما أمرنا] فحققت الأمنية، وأخلصت النية، وجردت القصد والهمة إلى إبراز3 هذا الكتاب كما حده لي رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [8] من غير زيادة ولا نقصان4. فمن الله، فاسمعوا.. وإلى الله5 فارجعوا.. ا. هـ. دفع ما افتراه على الرسول : ولا شك أن النوم والرؤيا في حد ذاتهما في حيز الممكن، لكن ما أصله من مذهبه الباطل ألزمه أن يكون ذلك محالا، وذلك أن عنده أن وجود الكائنات هو الله، فإذن الكل هو الله، لا غير، فلا نبي ولا رسول، ولا مرسل، ولا مرسل إليه، فلا خفاء في امتناع النوم على الواجب، وفي امتناع افتقار الواجب إلى أن يأمره النبي بشيء في المنام، فمن هنا يعلم أنه لا يتحاشى من التناقض لهدم الدين بنوع مما ألفه أهله. نبه على ذلك الإمام علاء الدين البخاري في كتابه "فاضحة الملحدين، وناصحة الموحدين".   1 أي: خطبة كتاب الفصوص لابن عربي. 2 ما بين هذين [] ساقط من الأصل أو مختصر وأثبته عن فصوص الحكم. 3 في الأ صل: إيراد. وهي كما أثبتها في الفصوص. 4 اختصر المؤلف بعدها مقدار سبعة أسطر من مطبوعة الحلبي، ولو كان فيها ما يدفع عن الصوفية شبهة لأثبتها، حتى لا يتهم المؤلف بغير الأمانة في النقل. 5 في الأصل: وإليه. والتصويب من الفصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 إيمانه بأن الله إنسان كبير ثم قال ابن عربي في فص حكمة إلهية في كلمة آدمية لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى [التي لا يبلغها الإحصاء] أن يرى أعيانها وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر [كله] لكونه متصفا بالوجود ويظهر به سره إليه فإن رؤية الشيء [نفسه] بنفسه ما هي مثل رؤية نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة ثم قال فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير ثم قال فسمى هذا المذكور إنسانا وخليفة فأما إنسانيته فلعموم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 نشأته، وحصره الحقائق كلها، وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين به يكون النظر، وهو المعبر عنه بالبصر؛ فلهذا سمي إنسانا، فإنه به ينظر1 الحق إلى خلقه، فيرحمهم2، فهو الإنسان الحادث الأزلي، والنشء الدائم الأبدي3". ثم قال: "ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه، ولما كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم وصفة، ما عدا الوجوب4 الذاتي، فإن ذلك لا يصح في الحادث، وإن كان واجب الوجود، ولكن وجوبه بغيره، لا بنفسه5". ثم قال: "فوصف نفسه لنا بنا، فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا، وإذا شهدنا شهد نفسه، ولا شك أنا كثيرون بالشخص والنوع، وأنا وإن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا؛ فنعلم قطعا أن ثم فارقا به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض، ولولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد"6. آدم عند الصوفية : ثم قال: فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفا، ولهذا قال لإبليس:   1 في الأصل: نظر - رحمهم. 3 ص 48-49 فصوص. وفي هذا النص يذكر ابن عربي رأيه في الإنسان، فيقرر أنه لاهوت وناسوت، أو هو الله سبحانه تعين في مادة. ولذا يجمع الإنسان بين صفات الأضداد -تماما كالذات الإلهية عندهم- فهو حق أزلي أبدي، قديم سرمدي باعتبار لاهوتيته. وهو خلق حادث فان متجدد الصور، يتحول، ويجري في تيار الصيرورة باعتبار ناسوتيته. أي: باعتباره مادة، أو باعتبار صورته البدنية العنصرية. ولذا فالإنسان عندهم: حق خلق. 4 في الأصل: الوجود. والتصويب من الفصوص. 5 ص53 فصوص. 6 ص53 فصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 35] وما هو إلا عين جمعه1 بين [الصورتين] صورة العالم وصورة الحق [وهما يدا الحق2] ". ثم قال: فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل، فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره، وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى، ولذلك قال فيه: كنت سمعه وبصره. ما قال كنت عينه وأذنه3. زعمه أن الحق مفتقر إلى الخلق : ثم قال: "ولولا4 سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان [9] للعالم وجود، كما أنه لولا تلك الحقائق المعقولة الكلية، ما ظهر حكم في الموجودات العينية، ومن هذه الحقيقة كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده؛ شعر. فالكل مفتقر، ما الكل مستغني ... هذا هو الحق قد قلناه، لا نكني5   1 في الأصل: جمعت. والتصويب من الفصوص. 2 ص5 فصوص، وكل ما بين هذين [] ساقط من الأصل، وأثبته عن الفصوص. 3 ص55 فصوص، وسيأتي الرد على ما افتراه ابن عربي مستدلا في زعمه بهذا الحديث. 4 في الأصل: ولو. والتصويب من الفصوص. 5 ص58-59 فصوص: وابن عربي يعني "بالكل" الله والعالم، وكلاهما عنده مفتقر إلى الآخر إذ يدين بأنهما وجهان لحقيقة واحدة. ويفسر افتقار الخلق إلى الحق باحتياج الخلق إلى سريان الحق فيه، لينتقل من الثبوت -وكل شيء عند الزنديق ثابت قبل وجوده- إلى الوجود. ثم إن الخلق عند ابن عربي ليس إلا أسماء الحق تعينت في صور بدنية عنصرية. ولذا لا يضاف الوجود إلى الخلق حقيقة. بل مجازا. فوجوده حقيقة عين وجود الحق. فإذا تحدث الصوفي عن عجل السامري مثلا قال عنه: إنه اسم من أسماء الله سبحانه تعين في صورة العجل. أو هو الحق تبارك وتعالى سمي عجلا! = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 التنزيه والتشبيه : 1 ثم قال في فص حكمه سبوحية في كلمة نوحية: "اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد، فالمنزه إما جاهل، وإما صاحب سوء أدب، ولكن إذا أطلقاه2، وقالا به. فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه، ولم ير غير ذلك، فقد أساء الأدب، وأكذب الحق والرسل وهو لا يشعر، ويتخيل أنه في الحاصل، وهو في الفائت، وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض، ولا سيما وقد علم أن ألسنة الشرائع الإلهية، إذا نطقت في الحق تعالى بما نطقت به، إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول، وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان.   = وهذا تفسير آخر لافتقار الخلق إلى الحق عند الصوفية. أما افتقار الحق إلى الخلق، فيفسره ابن عربي بأنه احتياجه إلى تعين أسمائه وصفاته، بل ماهيته في صور خلقية. فلولا المادة عند ابن عربي ما ظهر للحق وجود. ولا تعينت له ذات، ولذا وضع الصوفية الحديث المفترى: "كنت كنزا مخفيا، فخلقت الخلق فبي عرفوني" وما زلت أذكر ذلك الشيخ الذي راح يشرح لنا هذا الحديث وأنا بمعهد طنطا، فكان مما قاله أن المراد بـ"فبي" محمد!! وكان دليله على خرافته أن العدد الناتج من حروف "فبي" يساوي العدد الناتج من حروف "محمد" فكلاهما على طريقة حساب الجمل: أبجد هوز إلخ = 92! وكما صفقنا وانتشينا، ويذهب الطالب الصغير إلى قريته ويحدث الناس بهذا، فيطربون للصبي الصغير إذا جاءهم بعلم لدني رباني!. 1 يريد ابن عربي بالتنزيه الإطلاق، وبالتشبيه التقييد، فإله الصوفية مشبه إذا نظرت إليه من حيث تعيناته في صور خلقية. وهو منزه إذا نظرت إليه من حيث كونه وجودا مطلقا, والعارف الحق عندهم من يؤمن برب كان مطلقا، ثم تعين فصار مقيدا، أي: خلقا. أما من يؤمن بأن الله غير خلقه، فهو ضال مشرك، إذ يؤمن بغير ما من الأغيار. 2 في الأصل: أطلقناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 بم يعرف الله عند الصوفية ؟: فإن للحق في كل خلق ظهورا، فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته1، وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الباطن. فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة، فيؤخذ في حد الإنسان مثلا باطنه وظاهره، وكذلك كل محدود. فالحق محدود بكل حد 2، وصور العالم لا تنضبط، ولا يحاط3 بها، ولا تعلم حدود4 كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورته5، فلذلك يجهل حد الحق، فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة. وهذا محال حصوله، فحد الحق محال، وكذلك من شبهه، وما نزهه، فقد قيده وحدده، وما عرفه, ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه، ووصفه بالوصفين   1 الهوية عند الصوفية هي كما عرفها الجيلي في الإنسان الكامل ص67ج1 "هوية الحق غيبة الذي لا يمكن ظهوره، لكن باعتبار جملة الأسماء والصفات". والجرجاني في التعريفات "هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق". والعالم عند الصوفية ظاهر الله وباطنه، أو صورته وحقيقته. 2 الحد هو أكمل أنواع التعريف، ولما كان كل شيء هو الله عند الصوفية كان حد كل شيء هو في الحقيقة حدا لله سبحانه، فإذا أراد الصوفي وضع تعريف لله سبحانه أخذ في حده حد كل موجود، إذ الكل تعينات الذات, ولما كانت هذه التعينات لا تتناهى، ولا يمكن أن يحاط بها، امتنع تبعا لهذا تناهي الحدود التي يمكن حد الله سبحانه بها، وامتنعت الإحاطة بهذه الحدود. وسيأتي بعد زيادة بيان عما يريده الصوفية بهذه الزندقة. 3 في الأصل: يحاد. والتصويب من الفصوص. 4 في الأصل: يعلم حد. 5 في الأصل: صورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 على الإجمال -لأنه يستحيل ذلك على التفصيل، لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور- فقد عرفه [مجملا1] ، لا على التفصيل, كما عرف نفسه مجملا، لا على التفصيل ولذلك ربط النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معرفة الحق بمعرفة النفس، فقال: "من عرف نفسه، فقد عرف ربه2". وقال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فصلت:53] وهو ما خرج عنك {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} وهو عينك {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} ، أي: للناظر {أَنَّهُ الْحَقُّ} 3 أي: من حيث إنك صورته، وهو روحك، فأنت له كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك، والحد يشمل الظاهر والباطن منك، فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبر لها، لم تبق إنسانا، ولكن يقال فيها: إنها صورة تشبه صورة الإنسان، فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة، ولا ينطلق عليها اسم إنسان إلا بالمجاز، لا بالحقيقة وصور العالم لا يمكن زوال [10] الحق عنها أصلا، فحد الألوهية له4 بالحقيقة،   1 أثبتها عن الفصوص. 2 ليس بحديث. قال النووي: ليس بثابت, وابن تيمية: موضوع. ويريد الصوفية به أن من عرف نفسه، عرف أنه هو الله. 3 تأمل كيف يفسر آي الله، ويضع للحق معنى الباطل، وللإيمان مدلول الكفر. وحق ما يقول جولدزيهر "إذا حملت العبارات الدينية المعاني التصوفية، وفسرت تلك بهذه، تكون دلالة تلك العبارات على هذه المعاني أشبه بدلالة الرموز على ما جعلت رمزا له، وبعبارة أخرى تكون دلالتها عليها على غير العرف العام للغة، وعلى غير الجاري في إطلاق ألفاظها على معانيها، وفهم هذه من تلك، ولكنهم في سبيل غايتهم لا يحفلون برعاية هذا العرف العام للغة، وربما على العكس يتجاوزونه قصدا" انظر جـ2 من الجانب الإلهى لأستاذنا الدكتور محمد البهي. 4 الضمير في "له" يعود على العالم. والحد كما سبق أتم أنواع التعريف، ولما كان ابن عربي يدين بأن الحق عين كل شيء، فإنه يزعم هنا أنه يجب تعريف كل شيء بأنه إله، أو بما نعرف به الله سبحانه، فإذا سئل الصوفي عن خنزير أو صنم ما هو؟ عرفه بأنه هوية الله وظاهره، ونسب إليه اسما وصفة من أسماء الله سبحانه وصفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 لا بالمجاز، كما هو حد الإنسان إذا كان حيا، وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثنى بلسانها على روحها ونفسها، والمدبر لها, كذلك جعل الله تعالى صورة العالم تسبح بحمده، ولكن لا نفقه تسبيحهم، لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور، فالكل ألسنة الحق، ناطقة بالثناء على الحق، ولذلك قال: الحمد لله رب العالمين, أي: إليه ترجع عواقب الثناء، فهو المثني والمثنى عليه شعر. فإن قلت بالتنزيه، كنت مقيدا ... وإن قلت بالتشبيه، كنت محددا وإن قلت بالأمرين، كنت مسددا ... وكنت إماما في المعارف سيدا فمن قال بالإشفاع، كان مشركا1 ... ومن قال بالإفراد، كان موحدا فإياك والتشبيه، إن كنت ثانيا ... وإياك والتنزيه إن كنت مفردا فما أنت هو2, بل أنت هو3، وتراه في ... عين4 الأمور مسرحا ومقيدا   1 أي: من آمن بوجود الحق، وبوجود الخلق على أنهما وجودان متغايران أو حقيقتان منفصلتان متباينتان؛ فهو مشرك. لأنه جعل وجود الخلق، غير وجود الحق، وجعل الحق غير الخلق أي: جعل الواحد اثنين، وغاير بين الإله وبين نفسه وهذا شرك عند الصوفية. أما الموحد عندهم فهو من يؤمن بأن الحق عين الخلق، وجودا وماهية. 2 باعتبار الإطلاق. 3 باعتبار التعين. ولاحظ التناقض المتوتر بين السلب والإ يجاب اللذين يجعلهما ابن عربي شيئا واحدا. 4 في الأصل: عيون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فنزه {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فشبه1] وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فشب وثنى {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فنزه وأفرد2.   1 ما بين هذين [] ساقط من الأصل وأثبته عن الفصوص. 2يريد ابن عربي بهذا التلبيس في فهم الآية أن يقول: إن اعتبرت الكاف زائدة في: كمثله كان معنى الآية: ليس مثله شيء، وبذا تنتفي المثلية. وهذا تنزيه. ولكن في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} تشبيه؛ لأنه أثبت لنفسه -هكذا يفهم الزنديق- عين ما للخلق من سمع وبصر. وهذا يستلزم كون ذات الحق عين الخلق ... وإن اعتبرت الكاف غير زائدة في "كمثله" كان معنى الآية: ليس مثل مثله شيء. يعني أنها تثبت المثلية. وهذا تشبيه. ولكن في قوله "وهو" نفي للمثلية؛ لأن الضمير للمفرد. وهذا تنزيه يفيد أنه هو وحده الذي يسمع ويبصر في صورة كل من يتأتى منه أن يسمع وأن يبصر. أي: هو عين كل سميع وبصير!! هذا ما يفهمه الزنديق في الآية يهدف به إلى إثبات أن لله وجهين. وجه يسمى الحق، والآخر يسمى الخلق، وأنه لا يمكن تسميته حقا فحسب, أو خلقا فحسب، بل يسمى حقا خلقا في آن واحد. وتعقيبه للآية أولا بقوله: فنزه على اعتبار زيادة الكاف, وتعقيبها ثانيا بقوله: فشبه وثنى على اعتبار عدم زيادة الكاف!! وإليك الحق يهتك باطله: قال صاحب المغني, وهو يعدد معاني الكاف "التوكيد وهي الزائدة نحو ليس كمثله شيء. قال الأكثرون: التقدير ليس شيء مثله، إذ لو لم تقدر زائدة صار المعنى ليس شيء مثل مثله، فيلزم المحال، وهو إثبات المثل، وإنما زيدت لتوكيد نفي المثل، لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة". وابن عربي قرر هذا بيد أنه لبس في تفسير {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إذ فسرها بأنه سبحانه يسمع كما يسمع العبد، وبنفس الأذن التي يسمع بها، ليزعم من وراء هذا الباطل أنه سبحانه عين من يسمعون، ومن يبصرون, لأن جوارحهم وحواسهم هي عين جوارح الإله الصوفي وحواسه، فتكون ذواتهم عين ذاته. والآية ناطقة بإبطال هذا الكفر الفاجر. فما فيه سميع كما تسمعون أو بما تسمعون وإنما هي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 تكفير الصوفية لنوح : لو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه: فدعاهم جهارا، ثم دعاهم إسرارا، ثم قال لهم: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] وقال: {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: 5، 6] وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته، فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان، ومن أقيم في القرآن لا يصغى إلى الفرقان، وإن كان فيه. فإن القرآن1 يتضمن   = لإثبات أن الله سبحانه له صفتا السمع والبصر، وأنه لإعجاز حكيم أن يجيء الإثبات بعد النفي، حتى يستقر اليقين في القلب بأنه سبحانه لا يماثله شيء، ولا يماثل هو شيئا، فإذا أثبت الله بعد هذا النفي المؤكد لنفسه صفتي السمع والبصر، فهم فيهما المؤمن ما يليق بجلال الله وكبريائه وربوبيته، لا ما استقر في الوعي مما يشهده الحس في الخلق فسبق النفي تصفية للفهم والقلب والفكر، من زيغ المثلية، وإعداد لتلقي ما يرد بعده من إثبات تلقي إيمان ويقين لا يمسه وهم من التشبيه، أو طائف من المثلية. أما إذا اعتبرت الكاف غير زائدة، فلا يفيد هذا مطلقا إثبات المثلية، لأن سياق الآية ينفيها، والضمير "هو" ينفيها كذلك، ثم إن العرب -والقرآن عربي- كانوا إذا بالغوا في نفي المثلية قالوا: مثلك لا يفعل كذا، ومرادهم نفي الفعل عنه، لا عن مثله، ولكن إذا نفوه عمن هو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه بالأولى. وعلى فرض، المستحيل فإن تلبيس ابن عربي يهدم باطله؛ لأن المثلية تستلزم الاثنينية، تثبت وجود اثنين في أحدهما غير ما في الآخر. وهو يدين بالوحدة المطلقة. 1 يريد ابن عربي بالقرآن: الجمع بين الحق والخلق، أي: إدراك أنهما وجهان لحقيقة واحدة سميت حقا باعتبار باطنها، وخلقا باعتبار ظاهرها، هذه الحقيقة: هي ماهية الله سبحانه، ويريد بالفرقان: التفرقة بينهما. ولذا يبهت نوحا عليه السلام بأنه جهل حقيقة الدعوة إلى الله سبحانه، أو بأنه مكر بقومه في دعوته، إذ دعاهم إلى الإيمان بالحق مجردا عن الخلق، أي: بأن الحق غير الخلق، ففصل نوح -هكذا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الفرقان، والفرقان لا يتضمن القرآن، ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، فـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يجمع الأمرين في أمر واحد، فلو أن نوحا أتى بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة بل [في] نصف آية. ونوح دعا قومه "ليلا" من حيث عقولهم، وروحانيتهم، فإنها غيب، و"نهارا" دعاهم أيضا من حيث ظاهر صورهم وحسهم1، وما جمع في الدعوة مثل: ليس كمثله شيء، فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان [فزادهم] فرارا، ثم قال عن نفسه: إنه دعاهم ليغفر لهم، لا ليكشف لهم2، وفهموا ذلك منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لذلك: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي   = يفتري الزنديق- بجهله بين وجهي الحقيقة الواحدة، أوجعل -بمكره- الحقيقة الواحدة شيئا آخر غير نفسها، وفرق بين باطن الذات الإلهية -وهو الحق- وبين ظاهرها وهو الخلق، ولذا لم يستجب قومه لدعوته، إذ كانوا على بينة من الأمر، على علم صادق بالحقيقة، كانوا على يقين -ويقينهم هو الحق عند الصوفية- من أن الله سبحانه حق وخلق، مطلق ومقيد، رب وعبد. وأنه عين كل شيء، فعبدوه في بعض ما تعين فيه، وهي الأصنام. فدلوا بهذه العبادة على صدق الإيمان، وكمال التوحيد، لهذا يقول الزنديق: ما كان ينبغي لنوح، أن يمكر بقومه في دعوته، أو أن يضلهم عن السبيل السوي، فيدعوهم إلى الإيمان بأن الرب غير العبد وأن الحق غير الخلق, وأن المعبود غير العابد. وإنما كان واجبا على نوح أن يؤيد الحق الذي آمن به قومه، والهدى الذي كشف لهم عن كنه الحقيقة، وهي أن هذه الأصنام ما هي إلا ذات الله سبحانه، وأن عبادتهم لها عبادة حقة لله سبحانه!! فتأمل!! كيف يبهت رسولا من أولي العزم بالمكر أو بالجهل، وكيف يفضل عليه أوباش الوثنية، وعبد الشيطان!! ورغم هذا يظل الشيوخ يدينون لابن عربي بالعبودية. 1 في الأصل: جثتهم. 2 يريد الزنديق أن نوحا دعا قومه إلى مقام الستر المطلق، لا إلى مقام الكشف والظهور، والستر المطلق هو الحق المنزه عن التجلي في أية صورة خلقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} وهذه كلها صور الستر التي دعاهم إليها، فأجابوا دعوته بالفعل، لا بلبيك ففي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} إثبات المثل ونفيه1, وبهذا قال عن نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه أوتي جوامع الكلم. فما دعا محمد قومه ليلا ونهارا، بل دعاهم ليلا في نهار، ونهارا في ليل2، فقال نوح في حكمته لقومه: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ} أي: بما يميل بكم إليه، فإذا مال بكم إليه، رأيتم [11] صورتكم   = ومقام الكشف تجلي الحق في صورة كل موجود، ويبهت نوحا بالخداع والمكر، إذ غفر -أي: ستر- عن قومه الحق العلوي الذي هم به مؤمنون. وهو أن أصنامهم بعض مجالي الله وظهوراته، وتعالى الله عما يأفك الصوفية. 1 تقدم الرد على يفتريه هنا. 2 يقصد بالليل باطن الذات الإلهية، وبالنهار ظاهرها. والباطن هو وجه الذات وغيبها المسمى حقا، والظاهر هو وجهها الآخر المسمى خلقا، ويذم نوحا بأنه دعا قومه ليلا ونهارا أي: إلى الإيمان بالحق -وهو الليل- وبالخلق، وهو النهار، وبأنهما غيران، ويمجد محمدا الذي يزعمه -وحاشا محمدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه جمع في دعوته بين الدعوتين، إذ دعا قومه إلى الإيمان بأن الحق عين الخلق. وعبر الفاجر الزنديق عن هذا بقوله: ليلا في نهار، أي: حقا في خلق. وإلى الإيمان بأن الخلق عين الحق، وهذا ما يعبر عنه الشيطان بقول: نهارا في ليل. أي: خلقا في حق. أي: قال لهم: الواحد عين الكثير، والكثير عين الواحد. وبهذا البهتان الأثيم يفضل ابن عربي محمدا المزعوم على نوح الذي جهل أو مكر، فغاير بين الحق والخلق! فتأمل! تأمل الشيخ الأكبر في عرف الزنادقة أي: الصوفية إلى أي حد تبلغ القحة في جراءة كفره، فيصم نوحا بالشرك والكفر، ويفتري على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان مشركا أصم الوثنية. ولكن كيف تعجب من رجل يجعل من الخنازير والجيف والقيح بما فيه من ميكروبات فتاكة، يجعل هذه آلهة له، وأربابا يفزع إليهم بالرجاء والأمل والحب والخوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فيه، فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرف، ومن عرف منكم أنه رأى نفسه، فهو العارف، فلهذا انقسم الناس إلى غير عالم، وعالم "وولده1" وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري، والأمر موقوف علمه على المشاهدة، بعيد عن نتائج الفكر "إلا خسارا" "فما ربحت تجارتهم" فزال عنهم ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم, وهو في المحمديين {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] وفي نوح {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا2} [نوح: 2] فأثبت الملك لهم، والوكالة لله فيهم، فهم مستخلفون فيه، فالملك لله، وهو وكيلهم, فالملك لهم، وذلك ملك الاستخلاف، وبهذا كان الحق تعالى مالك الملك، كما قال الترمذي رحمه الله. الدعوة إلى الله مكر عند الصوفية {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} لأن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو3؛ لأنه   1 فسر المدرار بالمعارف العقلية، والمال بما يميل بالإنسان إلى الله فيرى في الله سبحانه صورته، وفسر الولد بالنتاج الفكري، وهكذا يضع للغة القرآن ما شاءت زندقته من معان، وبمثل ما يفتري ابن عربي يعجب بعض ما يوصفون بأنهم من ذوي الفكر. ولو اتخذنا أسلوب ابن عربي قاعدة لنا في البيان ما بقيت للغة, بل ما بقيت حقيقة واحدة يمكن أن تجتمع عليها العقول. 2 الآية في بني إسرائيل، لا في قوم نوح. 3 يشرح القاشاني هذا بقوله "معناه: أن الدعوة إلى الله دعوة منه إليه، لأن الله عين الداعي والمدعو، والبداية والغاية، لكونه عين كل شيء" ص58 ط 1309 شرح القاشاني للفصوص. وأقول: يدين ابن عربي وعبد الطاغوت الصوفية أن الله سبحانه عين كل شيء، فإذا ما جاء الرسل، وأمروا بعبادة الله وحده، ونهوا عن عبادة غيره، عن عبادة العجل مثلا، والأصنام والكواكب وغيرها. فإن الصوفية يرون هذه الدعوة في مظهريها الإيجابي والسلبي مكرا وخداعا، إذ توحي إلى عبادة الأصنام والأوثان وغيرها أنهم يعبدون غير الله، والرسل يعلمون -هكذا يفتري الصوفية- أنه ما ثم غير, أو سوى، فكل ما عبد, أو سيعبد إنما هو الله. إذ كل معبود شيء، والله سبحانه عند الصوفية عين كل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ما عدم البداية، فيدعى إلى الغاية {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 108] فهذا عين المكر1". قلت: فهذا وأشكال من قوله -كما يأتي في الفصل اليوسفي- يدندن به على تصحيح قول الكفار: إن القرآن سحر. ولا يقدر على التصريح به، ولقد أخبرني من أثق به أن بعض أتباعهم قال له: القرآن أساطير الأولين2. ثم قالم ابن عربي: [مفسرا قول رب العالمين3] "عَلَى [بَصِيرَةٍ] " [يوسف: 108] فنبه على أن الأمر له كله، فأجابوه مكرا كما دعاهم، فجاء المحمدي، وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته، وإنما هي من حيث أسماؤه4، فقال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 86] فجاء بحرف الغاية، وقرنها بالاسم فعرفنا أن العالم كله تحت حيطة اسم إلهي، أوجب عليهم 5 أن يكونوا متقين،   1 ص772-6 فصوص الحكم. 2 بل قال الفاجر التلمساني: "القرآن كله شرك ليس فيه توحيد"، وإنما التوحيد في كلامنا نحن" ص77 جـ 1 مجموعة الرسائل والمسائل. 3 وضعت ما بين هذين [] هنا من عندي حتي لا يظن بآية من القرآن أنها من كلام ابن عربي. 4 أي: ما يدعو الرسل إلى عبادة الله من حيث كونه حقا، أو وجودا مطلقا، بل من حيث كونه خلقا، أو وجودا مقيدا تعين في صورة بدنية عنصرية. فما من شيء إلا وهو -عند الصوفية- اسم من أسماء الله تعالى. تعين في صورة ذلك الشيء. إذ يدعو الرسل الصادقون -هكذا يكفر الصوفية- إلي عبادة الخنازير والقمل والضفادع، والبغايا والأواثم، والأجساد الفواجر؛ لأن هذه عند الصوفية أسماء الإله الذي يزعمونه. 5 في الأصل: فعلمنا أن النور كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فقالوا1 في مكرهم {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] ، فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله. في المحمديين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [نوح: 23] أي: حكم2، فالعالم يعلم3 من عبد, وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة4، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله.   1 يعني قوم نوح الوثنيين. 2 بل أمر ووصى كما ستعرف. 3 في الأصل: يعلمه. 4 يشبه الحق والخلق، بالجسد وأعضائه في أن كليهما واحد في الحقيقة، كثير بالاعتبار فأنت إذا أفردت بالنظر كل عضو من أعضاء الجسم، فهو كثير، إذ ترى رأسا، ووجها، ويدين، وقدمين, وإذا نظرت إليه جملة وجدته واحدا. وهذه الوحدة حقيقية، أما الكثرة فاعتبارية فحسب. وكذلك -هكذا يفتري الزنديق- الله والعالم. فالعالم في حقيقته ليس شيئا سوى الله، أو هو تعينات أسمائه برزت في صور مادية. كما أن أعضاء الجسم ليست شيئا آخر غير الجسم، بل هي هو. ومدلول جميعها مدلوله. ورغم ما في المثل من تلبيس وزندقة فإنه لا يصحح لابن عربي مذهبه، فاليد مثلا ليست هي كل الجسد، وإنما هي عضو، أو جزء منه. وابن عربي لا يقول عن شيء ما: إنه عضو الإله أو جزؤه، بل هو عنده عينه وكله!! والذي يستلفت نظر المؤمن أن الغزالي سبق ابن عربي إلى استعمال هذا المثل في نفس ما استعمله فيه ابن عربي؛ إذ يقول, وهو بصدد بيان المرتبة الرابعة من التوحيد: "ألا ير ى في الوجود إلا واحدا"، وهي مشاهدة الصديقين. وتسمية الصوفية الغناء في التوحيد" ثم يشرح حال الموحد في هذه المرتبة، فيقول: "والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد، فإن قلت: كيف يتصور ألا يشاهد إلا واحدا وهو يشاهد السماء والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة؟ " يجيب الغزالي عن هذا بمثال يقرب في زعمه ذلك إلى الذهن، فيقول: "إن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وعروقه، وهو باعتبار آخر، ومشاهدة أخرى واحد، وكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد، وباعتبارات أخر سواه كثر" انظر باب التوحيد من كتاب الإحياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 في كل معبود1". تكفير العراق لابن عربي: وقال شيخ شيوخنا الإمام القدوة العارف شيخ الإسلام حافظ عصره الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي في كراسة أجاب فيها سؤال من سأله عن بعض كلام ابن عربي هذا: "وقوله في قوح نوح: لا تذرن آلهتكم -إلى آخره- كلام ضلال وشرك واتحاد وإلحاد، فجعل تركهم لعبادة الأوثان التي نهاهم نوح عن عبادتها جهلا يفوت عليهم من الحق بقدر ما تركوا" ا. هـ. قلت: يا ليت شعري من قال هذا القول في هذا العدد اليسير من الأصنام، ماذا يقول فيما روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل مكة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما2، فعجل يطعنها بعود في يده3، وجعل يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 18]   1 ص72 فصوص. 2 في البخاري "نصب". واحدة الأنصاب، وهو ما ينصب للعبادة من دون الله، ويراد به أيضا الحجارة التي كانوا يذبحون عليها للأصنام. غير أنها ليست مرادة هنا. 3 في مسلم عن أبي هريرة: [يطعن في عينيه بسية القوس] وفي حديث ابن عمر عند الفاكهي -وصححه ابن حبان- فيسقط الصنم ولا يمسه، وللفاكهي والطبراني من حديث ابن عباس "فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه مع أنها كانت ثابتة بالأرض". 4 ورد في البخاري أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال بعد هذا: "جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وفي السير: أنها كانت [12] مثبتة في الأرض بالرصاص، فما أشار بذلك العود إلى صنم منها إلا انقلب. إن أشار إلى قفاه انكب على وجهه، وإن أشار إلى وجهه انقلب على قفاه1، وكان في جزيرة العرب من الأصنام ما يتعسر حصره، فما أبقى لشيء منها باقية، وما استباح قتالهم، ونهب أموالهم، وقتل رجالهم، ومزق أبطالهم، وركب من دون ذلك الأهوال العظام، وقاطع الأخوال والأعمام إلا على ذلك، فتبا لمن أنكره، أو رأى شيئا أكمل منه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ا. هـ. كل شيء عندهم رب وإله : قال ابن عربي: "فالأدنى من تخيل فيه -أي: في كل معبود- الألوهية، فلولا2 هذا التخيل، ما عبد الحجر ولا غيره، ولهذا قال: " [قل] سموهم" [الرعد: 33] ، فلو سموهم لسموهم حجارة3 وشجرا وكوكبا، ولو قيل لهم: من عبدتم؟ لقالوا: إلها. ما كانوا يقولون: الله. ولا الإله. والأعلى ما تخيل، بل قال: هذا مجلى إلهى ينبغي تعظيمه، فلا يقتصر 4، فالأدنى صاحب التخيل يقول: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] والأعلى العالم يقول: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ   1 انظر سيرة ابن هشام ص276جـ2 على هامش الروض الأنف. 2 في الأصل: ولولا. 3 في الأصل: حجرا. 4 أي: لا يقصر عبادته على شيء ما بعينه، بل يعبد كل شيء، حتى ما يعصف بنفسه من هوى، وما يترنح في فكره من أوهام، وسيأتيك من كلام ابن عربي ما يدلك على أنه يؤمن بأن الهوى أعظم مجالي الإله. 5 في الأصل: إنما إلهكم. ويفسرها الزنديق بأن العارف المكمل. هو من يقول لعباد الأوثان، ولعباد الكواكب، إن ما تعبدونه هو الإله الواحد، فالإله المتعين في أوثانكم عين المتعين في كواكبهم، فلا يقصر أحد منكم عبادته على شيء ما بعينه، أو يختص بها بعضا دون بعض، فإن إلهكم هو عين كل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [السجدة: 34] الذين خبت نار طبيعتهم، فقالوا: إلها، ولم يقولوا طبيعة1". قلت: وعلى هذا يحوم ابن الفارض2 بقوله، فالعلماء شهدوا فيه3 أنه من أهل الاتحاد. الرأي في ابن الفارض وتائيته وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير4: "إنه نظم التائية على طريقة المتصوفة المنسوبين إلى الاتحاد, وقال: وقد تكلم فيه غير واحد من مشايخنا بسبب قصيدته المشار إليها5" وقال في سنة سبع وسبعين وستمائة في ترجمة محمد بن إسرائيل6: "وكان أديبا، ولكن في كلامه ما يشير إلى الحلول والاتحاد   1 ص72 فصوص. 2 ورد بهامش الأصل ما نصه "ابن الفارض هو حجة أهل الوحدة، وحامل لواء الشعراء، توفي سنة اثنتين وثلاثين وستمائة عن ست وخمسين إلا أشهرا. ذكره الذهبي في تاريخه" وقد ولد ابن الفارض سنة 576 هـ ودفن بمصر. 3 ليس الحكم بهذا على ابن الفارض بحاجة إلى شهادة أحد، فإنه صرح في التائية بأنه يدين بهذه الأسطورة الملحدة، إذ يقول: وجل في فنون الاتحاد، وجاء حديث في اتحادي ثابت، وهأنا أبدي في اتحادي مبدئي. وسيأتيك ما يجعلك تؤمن بأنه كان من المؤمنين بالوحدة، لا بالاتحاد فحسب. 4 الإمام المحدث البارع كما ينعته الذهبي. ولد سنة 700 وتوفي سنة 774، من مصنفاته البداية والنهاية في التاريخ، والتفسير، وجمع المسانيد العشرة، صحب ابن تيمية وأخذ عنه، ولازم المزي، وتزوج بابنته، وسمع عليه أكثر تصانيفه. 5 ذكر ابن كثير هذا في البداية والنهاية. 6 ولد نجم الدين ابن إسرائيل سنة 563 وتوفي سنة 677. ومن قوله: وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق وأيضا "إن الله ظهر في الأشياء حقيقة. واحتجب بها مجازا، فمن كان من أهل الحق والجمع شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل المجاز شهدها ستورا وحجبا" انظر لسان الميزان، ومجموعة الرسائل والمسائل جـ1 ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 على طريقة ابن الفارض، وابن عربي1". وقال الشيخ مدين, وهو كان رأس الصوفية زماننا: "إن التائية هي الفصوص، لا فرق بينهما" ومن قال أن السراج عمر بن إسحاق الهندي2 عزر الشهاب أحمد بن يحيى بن أبي حجلة3 لأجل كلامه في ابن الفارض، وجعل ذلك دليلا على ولايته؛ أجيب بأن شيخنا حافظ العصر أحمد بن حجر ذكر في ترجمته في أول تاريخه في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة أن السراج الهندي كان يتعصب للصوفية الاتحادية، وأنه شرح التائية، فسقط كلامه، والاعتبار به4، وعلى كل تقدير تعزيره له غير واقع في محله بوجه، فإنه لا شيء على من كفر مسلما بتأويل بلا خلاف.   1 لا يدين ابن الفارض بالحلول، ولا ابن عربي به أو بالاتحاد، وإنما يدينان بالوحدة، إذ الحلول يستلزم الاثنينية، والاتحاد يشعر بأنه كان ثم غيران في وقت ما، وهما يدينان بأنه ما ثم غير ولا سوى. ومما قرأته لابن إسرائيل تحكم بأنه على دين أهل الوحدة، لا الحلول أو الاتحاد. 2 ولد سنة 704 ومات سنة 773هـ. تولى قضاء الحنفية، وكان يتعصب تعصبا مقيتا للصوفية من أهل الوحدة، ولذا شرح تائية ابن الفارض. 3 ولد سنة 825 ثم قدم القاهرة، فولي بها مشيخة الصوفية، وكان يكثر من الحط على أهل الوحدة، وبخاصة ابن الفارض، ولهذا عارض جميع قصائده، توفي سنة 776. 4 ولهذا يجب دائما ألا نجعل آراء البشر أدلة على الحق, أو سبيلا إليه، بل نرد كل ما يعرض لنا من أقضية الدين إلى الكتاب والسنة، وفيما يحكمان به فصل الخطاب، والعدل والحق والصواب، ولو أن السراج الهندي أسلم وجهه لله، وجرد قلبه من إثم هواه، لوالى الله سبحانه ولم يوال ابن الفارض، وثمت يدين بالحق وهو ابن الفراض عدو للحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 نعلمه بين العلماء. والحجة فيه قصة عمر وحاطب1 رضي الله عنهما، وغير ذلك مما وقع بحضرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وقائع عدة، على أن التعزير2 يحتمل أمورا عدة، لا يتعين شيء منها إلا بدليل، فسقط الاستدلال به. وقال العلامة علاء الدين البخاري -وكان عين العلماء والصوفية قبل الشيخ مدين3- لشخص حنفي: "لا فرق بين التائية والفصوص إلا بكونه نثرا، وكونها نظما، كما أنه لا فرق بين منظومة [13] النسفي والقدوري إلا بذلك. وقال الشافعي مثل ذلك، ومثل بالبهجة نظم الحاوي، وبالحاوي". وقال العلامة بدر الدين حسين بن الأهدل, وهو من أعيان صوفية اليمن وفقهائهم: "واعلم أن ابن الفارض من رءوس أهل الاتحاد" واستشهد على4   1 هو حاطب بن أبي بلتعة، اتفقوا على شهوده بدرا وثبت ذلك في الصحيحين من حديث علي في قصة كتاب حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بتجهيز رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليهم، فنزلت فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} الآية. فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ " وقد روى حديث حاطب الجماعة كلهم إلا ابن ماجه. ومكان الحجة هنا: تأول عمر فعل حاطب بالنفاق، وعدم مؤاخذة الرسول لعمر في تأوله هذا. ولكن حاطبا رجل أخطأ فندم وتاب فأين من هذا إصرار ابن الفارض، وتصريحه الجلي بأنه هو الله؟! 2 يعني: تعزير السراج الهندي لابن أبي حجلة. وقد حفل البقاعي بهذا التعزير، كأنما السراج إله يعزر عاصيا. وماذا ينتظر الناس من السراج إلا إنما الحق غني عن تأييد الملايين من أمثال السراج هذا. 3 ولد بأشمون جريس سنة 781 تقريبا. وتوفي سنة 892. يقول عنه السخاوي في الضوء: "وأما في تحقيق مذهب القوم فهو حامل رايته. والمخصوص بصريحه وإشارته". 4 لعله سقط من الناسخ بعد على، كلمة: قولة، أو هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 بشراح التائية من أتباعه مثل سعيد الفرغاني وداود القيصري، ومحمود الأبزاوي. شواهد من تائية ابن الفارض ... وإياك والإعراض عن كل صورة مموهة، أو حالة مستحيلة ... فطيف خيال الظل يبدى1 إليك في كرى اللهو، ما عنه الستائر شقت ... ترى صور الأشياء تجلى عليك من وراء حجاب اللبس2 في كل خلعة ... تجمعت الأضداد فيها لحكمة3 وأشكالها تبدو على كل هيئة ... صوامت تبدي النطق وهي سواكن تحرك تهدي النور غير ضوية ... ثم ذكر أنواعا من الأضداد في نيف وعشرين بيتا، ثم قال: وكل الذي شاهدته فعل واحد ... بمفرده، لكن بحجب الأكنة إذا ما أزال الستر لم تر غيره ... ولم يبق بالأشكال إشكال ريبة ويجمعنا في المظهرين تشابه ... وليست لحالي حاله4 بشبيهة   1 في الأصل: يهدي. 2 في الأصل: النفس. والتصويب من الديوان. 3 في الأصل: بحكمة. 4 في الأصل: حالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فأشكاله كانت مظاهر فعله ... بستر تلاشت إذ تجلى وولت وكانت له بالفعل نفسي شبيهة ... وحسي كالأشكال، واللبس سترتي تمجيد الصوفية لعبادة الأصنام : وقال في الفص النوحي أيضا: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 23] أي: حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} 3 لأنفسهم "المصطفين" الذين أورثوا الكتاب، فهم أول الثلاثة3، فقدمه على المقتصد والسابق   1 في الأصل: إذا 2 يعني: من ذكروا في قوله تعالى: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} وقد عرفهم الزنديق بأنهم: هم المصطفون الأخيار. 3 يشير إلى الثلاثة الذين ذكروا في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} وقد سوى الزنديق بين مفهوم الظلم هنا، وبين مفهوم الظلم في قوله تعالى: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا} يهدف بهذه التسوية إلى تقرير أن عباد الأصنام من قوم نوح هم من الذين اصطفاهم الله سبحانه!! ناسيا عن عمد كفور أن الظلم في قوله سبحانه: {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} مقيد، وأنه هناك مطلق. وأن الظالم لنفسه في الآية مذكور في مقام ثناء، وأن الظالمين من قوم نوح ذكروا في مقام الذم. ولا عجب، فالمصطفى عند الصوفية هو الظالم، والظالم عندهم من شاهد الواحد كثيرا، فعدد الواحد, وسار منه إلى الكثير. والمقتصد من يشهد الكثرة في الواحد والواحد في الكثرة، جامعا في شهوده بين الحق والخلق. والسابق هو من يشهد الكثير واحدا، ويسير من الكثير إلى الواحد. ويرى الصوفية في الظالم أفضل الثلاثة إذ لا يرى الواحد إلا كثيرا بالاعتبار فقط. ويلزمهم من هذا أن يكون ربهم ناقصا كاملا. وأن يكون مغايرا لنفسه، إذ الثلاثة عندهم عين الحق. فيكون الحق المتعين في الظالم غير المتعين في المقتصد. في حين هم يدينون بأن هوية كل شيء عين هوية الحق!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 "إلا ضلالا" إلا حيرة المحمدي "زدني فيك تحيرا1". {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20] فالحائر له الدور، والحركة الدورية2 حول القطب3، فلا يبرج منه. وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه. صاحب خيال إليه غايته، فله "من، وإلى4" وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية، لا بدء له، فيلزمه "من" ولا غاية له5   1 يستشهد ابن عربي بهذا على أن حديث نبوي كما يأفك الصوفية. ولكن اسمع لابن تيمية يقول عنه: "لم يرو هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا في شيء من كتب من يعلم الحديث، بل ولا من يعرف الله ورسوله" ص45جـ4 مجموعة الرسائل والمسائل. 2 في الأصل: الدور، والتصويب من الفصوص. 3 يريد به هنا: الله سبحانه: وهو متعين في الحقيقة المحمدية، سبحانه عما يأفك الزنادقة. 4 يقول بالي أفندي في شرحه للفصوص "أي له ابتداء ومسافة، فابتداؤه من نفسه، وانتهاؤه إلى خياله، ومسافته ما بينهما. فلا يصل إلى مطلوبه بهذا الطريق، وهو طريق العابدين من أهل الظاهر" انظر ص84 من الشرح المذكور. واها للصوفية!! حتى بالي أفندي يؤمن بأن من يعبد الله بما شرعه الله، لا ينعم بالإيمان ولا بمحبة الله. 5 يقول بالي ص84 من شرحه للفصوص "ولا غاية له لمشاهدة مطلوبة في كل مظهر، ولا نهاية للمظاهر، فلا غاية لصاحب هذه الحركة" يعني: أن الصوفي الحق، والموحد الحق، هو من يدين بأن الحق عين الخلق، وهذا الموحد بدؤه عين غايته، وأوله نفس آخره، فهو أشبه بمن يديم الطواف حول دائرة. إنه ينتهي إلى حيث بدأ، ويبدأ من حيث انتهى. والصوفي يبدأ من عبادة الظاهر أو الحق، وينتهي إلى عبادة المظاهر أو الخلق، ولكن: ما تلك المظاهر؟ إنها عين الظاهر؟ ومن أولئك الخلق؟ إنهم عين الحق. فلا يقال عنه إنه بدأ أو انتهى، فالبداية عين النهاية!! هذا مراد الزنديق من قوله: ولا غاية له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فتحكم عليه "إلى" فله الوجود الأثم، وهو المؤتي جوامع الكلم والحكم "مما خطيئاتهم1" فهي التي خطت بهم، فغرقوا في بحار العلم بالله، وهو الحيرة "فأدخلوا نارا" في عين الماء2، في المحمديين {إِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] سجرت التنور إذا أوقدته. {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} فكان الله عين أنصارهم3 فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو أخرجهم إلى السيف، سيف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكل لله، وبالله، بل هو الله. "قال نوح: رب" ما قال: إلهي. فإن الرب له الثبوت، والإله يتنوع4 بالأسماء، فهو كل يوم هو في شأن. فأراد بالرب ثبوت التكوين؛ إذ لا يصح إلا هو.   1 يقصد قوله تعالى عن قوم نوح {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25] ويمجد الفاجر خطايا الوثنيين من قوم نوح، ويزعم أنه خطت بهم إلى قدس أقداس الحقيقة، فعرفوا أنهم أرباب تعبد آلهة هي الأصنام، ويفسر الإغراق بأنه إغراق في بحار العلم بالله!. 2 يفسر النار بأنها هي الماء، فأي عمه بصري، وغباء حسي، وخيال فكري أخبث من هذا؟ 3 في الأصل: ناصرهم. وتأمل رعونة الزندقة، وجرأة باطلها على الحق المبين من كتاب الله. إذ يزعم أن الله سبحانه ما نفى وجود الأنصار للوثنيين، إلا لأن الله نفسه كان هو عين أنصار أولئك الوثنيين، فما ثم غيره حتى يمكن نفي وجوده. ولم لا يفجر الزنديق كل هذا الفجور، وهو يدين بأن هذه الأوثان هي الله سبحانه عما يأفك الزنادقة. 4 في الأصل: تنوع. وابن عربي يدين بأن كل شيء هو اسم إلهي تعين في صورة ذلك الشيء. ولذا. فكل شيء إله يجب أن يعبد، ولما كان لكل شيء اسمه الخاص به، فإن الحق تعددت، وتنوعت أسماؤه تبعا لتنوع الأشياء وتعدد أسمائها، فالأشياء كلها تعينات أسمائه. فيسمى الإله الصوفي إذن صنما باعتبار تعينه في شيء سمي: الصنم ويسمى: عجلا، وخنزيرا، وميكروبا، وقاتلا، وبغيا، بنفس ذلك الاعتبار فلا تعجب: إذا رأيت الصوفي يعبد درويشة، أو عاهرة، فإنهما اسمان لإلههما تعينا في صورتي درويشة وعاهرة، هذا ما يريده ابن عربي، الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر من قوله: والإله يتنوع بالأسماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 "لا تذر على الأرض" يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها المحمدي "ولو دليتم بحبل لهبط على الله1" {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وما في وَالْأَرْضِ} 2 وإذا دفنت فيها [فأنت فيها] , وهي ظرفك {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 50] [14] لاختلاف الوجوه "من الكافرين3" الذين "استغشوا ثيابهم جعلوا أصابعهم في آذانهم" طلبا للستر؛ لأنه دعاهم ليغفر لهم. والغفر الستر. "ديارا" أحدا، حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة "إنك إن تذرهم" أي: تدعهم وتتركهم "يضلوا عبادك" إلى الخير، فيخرجهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدا، فهم العبيد الأرباب "ولا يلدوا" أي: ما ينتجون ولا يظهرون "إلا فاجرا" أي: مظهرا ما ستر "كفارا" أي: ستارا ما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما ستر، ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر، ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره، ولا الكافر   1 هذا حديث منقطع, لأنه من رواية الحسن عن أبي هريرة، والحسن لم ير أبا هريرة وبالتالي لم يسمع منه. وقد رواه الترمذي، وقال عنه: إنه غريب. وأوقن أن هذا الحديث قد سه إما صوفي، وإما جهمي تأييدا لأسطورة الحلول، أو أسطورة أن الله في كل مكان بذاته. فهو مصادم للقواطع من كتاب الله. فمن قول الله سبحانه {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} فكي يتوعدهم بخسف الأرض وهو فيها؟؟ 2 عقب ما ظنه حديثا بالآية، استشهادا بها على صدق أسطورة الوحدة. والآية ما فيها إلا حق يهدم كفر الباطل. إذ تفيد أن السماء والأرض ملك لله وحده، يفيد الأول اللام، والثاني تقدم الجار والمجرور. يفهم هذا من له أدنى إلمام بالعربية، ولكن ابن عربي يلبس حتى في البديهيات. 3 يعني: الذين دعا عليهم نوح عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 في كفره، والشخص واحد {رَبِّ اغْفِرْ لِي} 1 استرني، واستر من أجلي، فيجهل مقامي وقدري، كما جهل قدرك في قولك: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] "ولوالدي" من كنت نتيجة عنهما، وهما العقل والطبيعة "ولمن دخل بيتي" أي: قلبي "مؤمنا" أي: مصدقا لما يكون فيه من الإخبارات الإلهية، وهو ما حدثت به أنفسها2 "وللمؤمنين" من العقول "والمؤمنات" من النفوس3 "ولا تزد الظالمين" من الظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية "إلا تبارا" أي: هلاكا، فلا يعرفون نفوسهم، لشهودهم وجه الحق دونهم في المحمديين {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] والتبار الهلاك4" الحق عين الخلق عند الصوفية : ثم قال في فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية: "ومن أسمائه الحسنى: العلي. على5 من؟ ومن ثم إلا هو، فهو العلي لذاته، أو عن ماذا؟ وما هو   1 سيبدأ في تفسير قوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28] وسترى في تفسيره كيف يضع للفظ الكفر معنى الإيمان الحق، وللفظ الباطل معنى الحق. 2 في الأصل: أنفسهم، وصوبتها من الفصوص. 3 فسر الإضلال بأنه الإخراج من الباطل والشر إلى الحق والخير، أي: من الظن بأنهم عبيد، إلى اليقين بأنهم في حقيقتهم أرباب، وفسر الوالدين بالعقل والطبيعة، والبيت بالقلب، والمؤمنين والمؤمنات بالعقول والنفوس، والهلاك بشهود الحق في الخلق. وهكذا يعبث الصوفية عبث الجرأة الكافرة باللغة التي نزل بها القرآن، فيضعون للشيء معنى نقيضه، ويزعمون بهذا أنهم أهل الباطل، أي: الباطن. 4 ص72-74 فصوص. 5 في الأصل: علا عن من. وهي -كما أثبت- في الفصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 إلا هو!! فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها, وليست إلا هو1. فهو العلي، لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه، ما شمت رائحة من الوجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات والعين واحدة من المجموع في المجموع، فوجود الكثرة في الأسماء، وهي النسب، وهي أمور عدمية، وليس إلا العين الذي هو الذات، فهو العلي لنفسه، لا بالإضافة, فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة، لكن الوجوه الوجودية متفاضلة، فعلوا الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة، لذلك نقول فيه: هو، لا هو. أنت، لا أنت2. قال الخراز3   1 هذا صريح جدا في الدلالة على أن ابن عربي يؤمن بوحدة الوجود المادية والروحية. وقد عبر عن إيمانه هذا بقوله: "فالمسمى محدثات هي العلي لذاتها" ثم زاد الكفر غلوا وتوكيدا، فقال: "وليست إلا هو" هكذا بأقوى وأوكد أسلوب من أساليب القصر. ولعل في هذا ما يكشف لك عن علة مقت الصوفية لكلمة التقوى والتوحيد "لا إله إلا الله" وقولهم بدلا عنها: "ليس إلا الله" أو "لا هو إلا هو" وبهذا دان الغزالي، وقرره في مشكاة الأنوار، أو "هو الله" أو "هو هو" مما يهولون به على المخابيل، ويهدفون به إلى تأييد مذهبهم في الوحدة: شهودية, أو وجودية. 2 هو، وأنت: إيجاب، ولا هو, ولا أنت: سلب، فهما إذن نقيضان، لا يجتمعان، ولا يرتفعان. وإذا حكمت بثبوت أحدهما أو نفيه استلزم هذا لزوما قطعيا الحكم بنفي الآخر أو ثبوته. بيد أن الصوفية لا يحفلون في سبيل إثبات وجود العدم بقانون من قوانين اللغة أو الفكر، بل لديهم الجرأة البالغة على تكذيب ما يشهد به الحس، وما يقطع ببداهته العقل، والبين الجلي من كتاب الله. ومعنى قول ابن عربي: إنك تستطيع أن تقول عن كل شيء إنه هو الله باعتبار هويته وماهيته، وتقول ليس هو الله بالنظر إلى اسمه الخاص به، وإلى أنه أحد تعينات الذات لا كل تعيناتها، وكذلك أفهم قوله: أنت لا أنت. 3 هو أحمد بن عيسي أبو سعيد الخراز من صوفية بغداد, توفي سنة 277هـ. وسيذكر ابن عربي صريحا أن الخراز هو الله سبحانه!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وهو وجه من وجوه الحق، ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه: بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره1، وما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه، باطن عنه، وهو المسمى أبا سعيد الخراز، وغير ذلك من [أسماء] المحدثات2". قلت: وقال ابن الفارض: أممت إمامي في الحقيقة، فالورى ... ورائي وكانت حيث وجهت وجهتي يراها أمامي في صلاتي ناظري ... ويشهدني قلبي إمام أئمتي ولا غرو أن صلى الأنام إلي، أن ... ثوت بفؤادي وهي قبلة قبلتي لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي، ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعة إلى كم أواخى3 الستر، ها قد هتكته ... وحل أواخى4 الحجب في عقد بيعتي أفاد اتخاذي5 حبها لاتحادنا ... نوادر عن عاد المحبين شذت   1 إذ كل شيء عنده هو الله، فإذا رأي الصوفي إنسانا قال: الله رأى الله، وإذا عبد المشرك صنما قال الصوفي: الله عبد الله، وهكذا استطرد في كل اثنين. حتى العاهر مع العاهرة، وتعالى الله عما يأفك الزنادقة. 2 ص76-77 فصوص. وهذا صريح جدا في أن ابن عربي يؤمن بأن الله سبحانه عين كل شيء: مادي، أو روحي!! 3 من المواخاة بمعنى الملازمة. 4 جمع آخية، وهي ما يبرز -كالحقة- من الحبل المدفون طرفاه في الأرض وتشد إليها الدابة، ويراد بها الحرمة والذمة. 5 في الأصل: اتحادي، والتصويب من الديوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وفي الصحو بعد المحو1 لم أك غيرها ... وذاتي بذاتي إذا تحلت تجلت2 [فوصفي إذ لم تدع باثنين وصفها ... وهيئتها -إذا واحد نحن- هيئتي3] فإن دعيت كنت المجيب، وإن أكن ... منادي أجابت من دعاني ولبت وإن نطقت كنت المناجي4، كذاك 5 إن ... قصصت حديثا، إنما هي قصت فقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي فجاهد تشاهد فيك منك وراء ما ... وصفت سكونا عن وجد سكينة   1 الصحو عن الصوفية: هو رجوع العارف إلى الإحساس بعد غيبته وزوال إحساسه. والمحو: إسقاط إضافة الوجود إلى الأعيان، ولا موجود عندهم إلا الحق سبحانه وحده، فهو العابد باعتبار تعينه وتقيده بصور العبد التي هي شأن من شئونه الذاتية، وهو المعبود باعتبار إطلاقه. انظر التعريفات للجرجاني، وجامع الأصول في الأولياء للكمشخانلي تحت مادتي الصحو والمحو.. وابن الفارض هنا يغلو في إثبات الوحدة، فيزعم أنه هو الله، لا في حال المحو فحسب، بل في حال الصحو أيضا. وهذا يؤكد لك أنه يعني ما يقول، ويؤمن بالوحدة صحوا ومحوا، فما هي شطحات، ولكنها عقيدة ينبت عليها قلبه ودينه، وما هو بهذيان سكران كما يعرف الصوفية، ليقولوا: وكلام السكران معفو عنه، فيطوى ولا يروى. 2 يشرح القاشاني هذا البيت بقوله: "أي: ارتفع غيريتي في حال الصحو بعد المحو، وحينئذ زينت ذاتي بذاتي إذ تجلت، ولا ينتج تجليها السكر، لأنها لا تصادف غيرها" يعني أنها صارت هي الله" وهذا هو نهاية الاتحاد" انظر شرح القاشاني -وهو من عباد ابن الفارض- للتائية. 3 هذا البيت ليس في الأصل، وقد أثبته عن ديوان ابن الفارض، وسيأتي شرحه. 4 في الأصل: المجيب. والتصويب من الديوان. 5 في الأصل: كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فمن بعد ما جاهدت، شاهدت مشهدي1 ... وهادي2 لي إياي، بل بي قدوتي فبي موقفي، لا, بل إلي توجهي ... كذاك صلاتي لي، ومني كعبتي الوحدة المطلقة دين ابن عربي : قال الإمام زيد الدين العراقي في جواب السؤال المذكور: "وأما قوله3 فهو عين ما ظهر، وعين ما بطن، فهو كلام مسموم, ظاهره: القول بالوحدة المطلقة، وأن جميع مخلوقاته هي عينه، ويدل على إرادته لذلك صريحا قوله بعد ذلك: "وهو المسمى أبا سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المحدثات" وكذا قوله بعد ذلك: "والمتكلم واحد، وهو عين السامع" وقائل ذلك والمعتقد له كافر بإجماع العلماء". "لا يعتذر عن الوصفية بالتأويل": ثم قال: "ولا يقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول: أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره، ولا نؤول له كلامه، ولا كرامة. ولقد أحسن بعض من عاصرناه من العلماء العارفين، وهو الشيخ الإمام العلامة علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي حيث سئل عن شيء من هذا. فقال: "إنما نؤول كلام من ثبتت عصمته حتى نجمع بين كلاميه4، لعدم   1 في الأصل: مشهدتي. 2 في الأصل: وهادي. 3 يعني: ابن عربي. 4 هذا على دين من يقول بوجوب التأويل لآي القرآن، أو الأحاديث التي يرون -وهو: أي ضلالة- أن في حملها على ظاهرها إثباتا لوجود التعارض بين العقل والنقل. وما أتى هؤلاء إلا من إيمانهم بأسطورة الفلسفة الملحدة، وهي أن العقل حاكم على النقل، وأنه القاعدة، والمقياس، فإذا رأى العقل في كلام الله = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 جواز الخطأ عليه، وأما من لم تثبت عصمته، فجائز عليه الخطأ والمعصية والكفر، فنؤاخذه بظاهر كلامه، ولا يقبل منه ما أول كلامه عليه مما لا يحتمله، أو مما يخالف الظاهر, وهذا هو الحق" ا. هـ. خطر صرف الكلام عن ظاهره : وكذا قال في عدم التأويل لغير المعصوم الإمام نور الدين علي بن يعقوب البكري الشافعي، وقد حقق هذه المسألة حجة الإسلام1 أبو حامد الغزالي في أول الإحياء في كتاب العلم بما حاصله: أن الكلام إن كان ظاهرا في الكفر بالاتحاد، فقتل واحد ممن يقول به أفضل من إيحاء عشرة أنفس، وإن كان فهمه مشكلا، فلا يحل ذكره. وقال: إن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام بنقل عن صاحب الشرع، وبغير ضرورة تدعو إلى ذلك من دليل العقل2 اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ، ثم قال: والباطن لا ضبط   = ما لا يوافق مقاييسه وقيمه، وجب تأويله حتى لا يتعارض معه!! يجعلون المخلوق حاكما على الخالق، والعبد محددا للقيم التي يجب أن يؤمن بها الرب، ويوجبون على الله ألا يتكلم سبحانه إلا بما يتواءم وهوى عبيده, هكذا يفعل المؤولة، اقتداء بآلهتهم الفلاسفة، فما صاروا فلاسفة، وما قدروا على أن يعودوا مسلمين!! والقونوي هو أبو الحسن نور الدين المصري الشافعي، ولد سنة 673، وتوفي سنة 724هـ وهو من خصوم ابن تيمية، حتى لقد وثب مرة عليه، ونال منه. 1 إنما حجة الإسلام كتاب الله وسنة رسوله، وكيف يعتبر حجة للإسلام رجل يشهد على نفسه أنه رديء البضاعة في الحديث، وأنه لم يجد الحق إلا في التصرف؟. 2 لو تركنا للعقل الحرية في صرف اللفظ عن ظاهره، أي: عن معناه الذي هو له لصارت الحقائق كلا نسبية أو اعتبارية، بل لما بقى حق واحد يؤمن به الفكر العام، ولعدنا إلى السفسطائية. إذ سيصبح جائزا لكل إنسان ادعاء أن هذا اللفظ، أو ذاك يجب صرفه عن ظاهره، لأن عقله يحكم بذلك، ولا يمكن لامرئ ما معارضته، ما دمنا قد وضعنا له من قبل قاعدة وجوب صرف اللفظ عن ظاهره إذا تعارض مع العقل!! والفلاسفة أنفسهم لم يجمعوا على حقيقة واحدة، بل آمن كل بإله ليس هو إله الآخر في ماهيته وصفاته, بل كان الفيلسوف يؤمن أو يكفر بما كفر أو آمن به من قبل، ونظرة واحدة إلى نتاج الفكر الفلسفي تبين لك عما فيه من تناقض حاد، وتضاد متوتر، فأي عقل من هذه العقول نجعله قيما على الحق، وحكما بين الخطأ والصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 له، بل تتعارض فيه الخوطر1، ثم قال: وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة. وسيأتي تأييد ذلك عن الشيخ زين الدين العراقي وولده الحافظ أبي زرعة [16] وحكاية ابن خليل السكوني الإجماع على ذلك. صلة الخلق بالحق عند الصوفية : ثم قال ابن عربي في الفصل الإدريسي أيضا: "وما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود والمعدود منه عدم، ومنه وجود، فقد يعدم الشيء من حيث الحس، وهو موجود من حيث العقل، فلا بد من عدد، ومن معدود، ولا بد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه, فإن كل مرتبة2 من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا، والعشرة [إلى أدنى، وإلى أكثر، إلى غير نهاية] ما هي مجموع، ولا ينفك عنها اسم جمع الآحاد3". ثم قال: "ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها4   1 هذا حق لا حرية فيه، بيد أن من قرره لا يؤمن به إلا حين يخاطب عوام الناس في زعمه، أما في كتبه المضنون به على غير أهلها فهو باطني يجرد اللفظ من معناه في جرأة بالغة، وحسبك أن من أساتذة الغزالي إخوان الصفا، وأن في كتبه المضنون بها آثارا ظاهرة من باطنيتهم الخبيثة، وعجيب أن يحمل الغزالي على الباطنيين، وهم أساتذته، وهو من رواد مشارعهم؟ 2 في الأصل: وإن كان كل. وهو موافق لبعض نسخ الفصوص. 3 ص77 جـ1 فصوص. 4 في الأصل: ثبوتها، والتصويب من الفصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه1 وإن كان قد تميز الخلق من الخالق، فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة [لا] ، بل هو   1 يمثل الزنديق علاقة الحق بالخلق، بعلاقة الواحد الحسابي بالأعداد، فيزعم أن جميع الأعداد صور للواحد، وكذلك الوجودات المتعددة ما هي إلا صور للوجود الواحد، هو الوجود المطلق. فالتسعة مثلا هي الواحد مكررا, فلك القول بأن الواحد عين التسعة، ولك القول بأنه غيرها، بيد أنها غيرية مجازية، أو اسمية فقط. وكذلك الحق سبحانه -هكذا يأفك الزنديق- والخلق، فهذا عين الحق باعتبار الهوية والماهية، وهو غيره باعتبار خصوصيته، أي: كونه مظاهرا للذات الواحدة، ولكنها غيرية ذهنية لا تحقق لها في الخارج. ألا تراه يزعم: "إن الحق المنزه عين الخلق المشبه"؟، وما أظن الكفر تجرأ على الله من أحد بمثل هذه الجرأة من ابن عربي، وما أظنه صرح عن خبيئته بما هو أبين من هذه الصراحة. والرد على تلبيس ابن عربي هين. فالأعداد في ذاتها حقائق معقولة، لا توجد في الذهن، ولا توصف بالوجود الخارجي إلا بالنسبة للمعدودات، ثم إن معدود الأربعة مثلا ليس بلازم أن يكون عين معدود الخمسة، بل ولا عين معدود أربعة أخرى، فقد يكون معدود الخمسة أقلاما، فيكون الواحد فيها قلما, وقد يكون معدود الأربعة كتبا، فيكون الواحد منها كتابا. فيكون الواحد في الأربعة غير الواحد في الخمسة، بل غيره في أربعة أخرى، وهكذا في كل معدود. وهي غيرية حقيقية في الذاتيات والعرضيات. ولكن ابن عربي يوقن بأن الحق المتلبس بصورة الصنم عين الحق المتلبس بصورة الخنزير, يؤمن بأن الحق المعبود في عجل السامري عين الحق المعبود في البار، وهبل. أما الأعداد فقد رأيت أن الواحد في الأربعة يغاير الواحد في الأربعة يغاير الواحد في الخمسة مثلا، أو في أي عدد آخر مغايرة حقيقية، نعم معنى الواحد في عدد ما عين معناه في عدد آخر، لكنها عينية ذهنية، أو تجريدية فحسب. أما ابن عربي فيؤمن بتحقق العينية في الوجود الخارجي، إذ يدين بأن ما في الخارج عين ما في الذهن. وهذا واضح البطلان، فالمستحيل يوجد في الذهن، ولكنه لا يوجد في الخارج، وكذلك المطلق والكلي بشرط الإطلاق والكلية يوجدان في الذهن، ولا يوجدان ألبتة في الخارج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 العين الواحد، وهو العيون الكثيرة1" الطبيعة هي الله عند الصوفية : ثم قال: "وخلق منها زوجها [فما نكح سوى نفسه، فمنه الصاحبة والولد، والأمر واحد في العدد2] ، فمن الطبيعة؟ ومن الظاهر منها؟ وما رأيناها نقصت بما ظهر منها، ولا زادت بعدم ما ظهر!! وما الذي ظهر غيرها؟ وما هي عين ما ظهر، لاختلاف الصور بالحكم عليها. فهذا بارد يابس، وهذا حار يابس، فجمع باليبس، وأبان بغير ذلك، والجامع الطبيعة [لا] ، بل العين الطبيعة، فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة، لا. بل صورة واحدة في [مرايا] مختلفة3، فما ثم إلا حيرة، لتفرق النظر، ومن عرف ما قلناه لم يحر، وإن كان في مزيد علم، فليس إلا من حكم المحل، والمحل عين العين الثابتة، فيها يتنوع الحق في   1 ص78 ج1 فصوص. 2 كل ما بين هذين [] ساقط من الأصل، وأثبته عن الفصوص، وأظنك قد لاحظت عرام الغريزة الدنيئة كيف وضع لابن عربي دينه في قوله: "فما نكح سوى نفسه"!! ولاحظت التثليث الذي يصوره ابن عربي بصورة أدنأ من تثليث المسيحية المفلسفة، إذ يزعم أن الذات الإلهية ثلاثة أقانيم. أقنوم هو الزوج، وثان هو الزوجة، والأخير هو الولد" هذه الأقانيم الثلاثة هي الإله الواحد عند ابن عربي!! أفيستطيع الصوفية افتراء أنهم مسلمون. 3 يزعم ابن عربي أن مظاهر الطبيعة هي عين الذات الإلهية، والمظاهر الطبيعية مختلفة الا؛ كام، فمنها ما نحكم عليه بأنه حيوان أو جماد: ر طب أو يابس، حار أو بارد، لذا وجب أن يحكم على الذات الإلهية بكل ما يحكم به على مظاهرها وهي العالم الطبيعي. فيقال عن الذات الإلهية: إنه حيوان جماد رطب يابس حار بارد، وغير هذا. ويزعم ابن عربي أن الله نفسه هو الذي يحكم على نفسه بهذه الأحكام، أي: يحكم على نفسه سبحانه بكل ما يحكم به على كل مظاهر الطبيعة وحسب الصوفية إيغالا في الزندقة إيمانهم برب هو جماد بارد!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 المجلي، فتتنوع الأحكام عليه، فيقبل كل حكم، وما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه, وما ثم1 إلا هذا, شعر: فالحق خلق بهذا الوجه، فاعتبروا ... وليس خلقا بذاك الوجه فادكروا من يدر ما قال، لم تخذل بصيرته ... وليس يدريه إلا من له بص جمع2، وفرق، فإن العين واحدة ... وهي الكثيرة، لا تبقي ولا تذر3 دين ابن الفارض : قلت: وهذا مراد ابن الفارض بقوله: وجل في فنون الاتحاد، ولا تحد4 ... إلى فئة في غيره العمر أفنت فواحده الجم الغفير ومن عدا ... هـ شرذمة في غيره العمر أفنت فمت بمعناه، وعش فيه، أو فمت ... معناه، واتبع أمة فيه أمت فأنت بهذا المجد أجدر من أخي اجـ ... ـتهاد مجد عن رجاء وخيفة فألغ الكنى عني 5، ولا تلغ ألكنا ... بها، فهي من آثار صيغة صنعتي   1 في الأصل: ما. 2 في الأصل: وجمع. 3 ص78-79 جـ1 فصوص. 4 في الأصل: تجد. 5 لما كانت الكنى اصطلاحات وضعها الإنسان الذي هو من صنع الإله الذي تجسد في هيكل ابن الفارض, فإن هذا الإله الفارضي يأمر خلقه بإلغاء الكنى عنه, إذ لا يصح للمصنوع تعريف صانعه بكنية ما. وهدف ابن الفارض من هذا أن يؤمن الناس بما آمن به هو من الكفر الفاجر، وهو اعتقاد الوحدة التامة بين الحق والخلق، وأن يدينوا بأن ابن الفارض هو المجلي الأعظم، والمظهر الكامل للذات الإلهية، فليضيفوا إليه صفات الربوبية والإلهية!!! ولما كان ابن الفارض يعلم أن كفره هذا ينابذ الشرع، فإنه ألح في البيت الذي قبل هذا في تحذير أتباعه من الإصغاء إلى الشرع، أومن الميل إلى الأئمة المجتهدين الذين يعبدون الله = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وأي بلاد الله حلت بها، فما ... أراها وفي عيني حلت غير مكة وأي مكان ضمها حرم، كذا ... أرى كل دار أوطئت1 دار هجرة وما سكنته، فهو بيت مقدس ... بقرة عيني، فيه أحشاي قرت ومسجدي الأقصى مساحب بردها ... وطيبي ثرى أرض عليها تمشت وشكري لي، والبر مني واصل ... إلي, ونفسي باتحادي استبدت وثم أمور تم لي كشف سترها ... بصحو مفيق عن سواي تغطت بها لم يبح من لم يبح دمه، وفي الإشارة معنى ما العبارة حدت وقلبي بيت فيه أسكن. دونه ... ظهور صفاتي عنه من حجيبتي ومنها يميني فيّ ركن مقبل ... ومن قبلتي للحم في فيّ قبلتي وحولي بالمعنى طوافي حقيقة ... [17] وسعي لوجهي من صفائي لمروتي2 وفي حرم من باطني أمن ظاهري ... ومن حوله يخشى تخطف جيرتي3   = وحده، وتمتلئ قلوبهم خوفا من الله وحده، ورجاء فيه وحده.. وهكذا كل شيطان صوفي يحذر أتباعه من الشرع وأتباعه، ويأمرهم أن يكونوا بين يديه هو كجثة الميت بين يدي الغاسل، ويظل يقتل فيهم الشعور، ويميت منهم الكرامة، ويستعبد منهم الفكر، ويبيد فيهم كل إحساس بالذاتية، حتى يصبحوا لهواه عبيدا صاغرين، فينتهك حرمات الله ظانين أنه ثم مع الله، ويلعق دم الجريمة، وهم يحسبون أنه بذلك يقضي دين حب الله، ويترع حميم الخمر، ويقسمون أنها شراب من يد الله!! 1 في الأصل: وطنت. 2 يقصد: الصفا والمروة: يريد أن يقول: إنه إذا طاف فإنما يطوف حول نفسه، وإذا سعى بين الصفا والمروة، فإنما يسعى لوجهه، ذلك لإيمانه بأن العابد والمعبود عين واحدة. ولقد أقسم لي صوفي. أنه ليس ممن يطوفون حول الكعبة بل هو ممن تطوف حولهم الكعبة. 3 يريد أن يقول: إنه هو الحرام، ويشير إلى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67] بالزنديق يزعم أن باطنه الخبيث هو هذا القدس الطهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وشفع وجودي في شهودي ظل في اتحادي وترا في تيقظ غفوتي1 ولم أله باللاهوت عن حكم مظهري ... ولم أنس بالناسوت مظهر حكمتي وقد جاءني مني رسول. عليه ما ... عنت، عزيز بي، حريص لرأفة2 ومن عهد عهدي قبل عصر عناصري ... إلى دار بعث قبل إنذار بعثة إليّ رسولا كنت مني مرسلا3 ... وذاتي بآياتي عليّ استدلت   1 الشفع عند الصوفية وجود الرب شفع بوجود العبد، والوتر عندهم وجود الرب فردا باقيا بعد فناء وجود العبد. ولما يستلزمه الشفع من الاثنينية راح ابن الفارض ينفيه هنا نفيا باتا, ثم يؤكد أنه تجلى له عن شهود جلي، ويقظة شاعرة تمام الشعور أن الوجود -وجود الرب، ووجود العبد- واحد في أزليته وأبديته وأنه ما ثم إلا عين واحدة سميت باعتبار الباطن حقا، أو ربا، وباعتبار الظاهر خلقا أو عبدا. تلك هي الذات الإلهية، ويؤكد الزنديق كذلك أنما كان يضيفه من سمات الوجود وصفات لنفسه، ويحسبه غير الوجود الإلهي، كان وهما من الأوهام استبد بخياله الغافل المغرور، هذا لأنه أدرك تمام الإدراك أنه ما ثم غير، ولا سوى، بل وحدة مطلقة تشمل كل مظاهر الوجود. هذا وغيره يجعلنا نوقن أن ابن الفارض ممن يؤمنون بالوحدة، لا بالاتحاد. لأن الاتحاد افتعال يستلزم ثبوت وجودين اتحد أحدهما بالآخر. في حين أنه هنا وفي مواضع كثيرة يقرر وحدة الوجود في أزل وأبد وسرمد وآن، وأنه ما كان في حال ما ولا آن ما ثنائيا أبدا، بل كان دائما هو الوجود الواحد. 2 في الأصل: برأفة. 3 قال القاشاني في شرحه: "فالذات الإلهية باعتبار التجرد والابتداء تكون مرسلا، وباعتبار تلبسها بلباس النفس تكون مرسلا إليها" وهكذا يشد كل صوفي وتر الثالوث، فابن الفارض يزعم هنا أنه منذ القدم كان الله، ثم تلبس بصورة النفس. فأرسل بصفته وجودا متجردا، رسولا إلى نفسه بصفته وجودا مقيدا بالتعين. فهو المرسل، والرسول، والمرسل إليه، كان كذلك حتى وهو في غيابة الأزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 العبد عين الرب عند الصوفية : ثم قال في فص كلمه علية في كلمة إسماعيلية: "والعبد1 من كان عند ربه مرضيا، وما ثم إلا من هو مرضي عند ربه؛ لأنه الذي يبقي عليه ربوبيته، فهو عنده مرضي فهو سعيد": ثم قال؛ شعر: فأنت عبد, وأنت رب ... لمن له فيه أنت عبد وأنت رب، وأنت عبد ... لمن له في الخطاب عهد فكل عقد عليه شخص ... يحله من سواه عقد2 فرضي الله عن عبيده، فهم مرضيون، ورضوا عنه، فهو مرضي، فتقابلت الحضرتان3 تقابل الأمثال، والأمثال أضداد، لأن المثلين حقيقة لا يجتمعان, إذ لا يتميزان، وما ثم إلا متميز، فما ثم مثل4، فما في الوجود مثل، فما في الوجود ضد، فإن الوجود حقيقة واحدة، والشيء لا يضاد نفسه.   1 في الأصل: والسعيد. 2 البيتان الأخيران ساقطان من الأصل، وأثبتهما عن الفصوص. يقرر ابن عربي: أن الإنسان رب من حيث هويته التي هي عين هوية الحق، وهو عبد باعتبار ما أطلقه عليه الشرع. ويعني بالعهد: المفهوم من قوله سبحانه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} مبتغيا من وراء ذلك إثبات أن ما سمي في عرف الشرع عبدا ما هو في الحقيقة إلا رب حق يدين بربوبيته العارفون، ويشهد بحقها السالكون على بصيرة. 3 هما حضرة الربوبية، وحضرة العبودية، ويقرر ابن عربي: أن من يغاير بينهما محجوب أعمى البصيرة، جاهل بحقيقة الله سبحانه. 4 في الأصل: إلا مثل. وابن عربي ينفي المثلية لأنه يدين بأن الوجود حقيقة واحدة، أما المثلية، فتستلزم الاثنينية والغيرية بوجه ما. ومن ثم عنده إلا حقيقة واحدة، أو وجود واحد لا كثرة فيه، ولا تعدد, ولا تباين، فالشيء الواحد لا يقال إنه يغاير نفسه، أو يضادها, أو يماثلها. هذا ما يريده بنفي المثلية، وقد بناه على ما يدين به من وحدة الوجود. ويغلو ابن عربي في جرأة الزندقة، فيزعم أن معتقده هذا دل عليه برهان العيان، أي: شهود الحق متعددا في مظاهر خلقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فلم يبق إلا الحق، لم يبق كائن ... فما ثم موصول, ومن ثم بائن بذا جاء برهان العيان، فما أرى ... بعيني إلا عينه إذا أعاين1 النار عين الجنة عند الصوفية : ثم قال: "الثناء بصدق الوعد, لا بصدق الوعيد [والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات، فيثني عليها بصدق الوعد، لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز] {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] لم يقل: ووعيده2، بل قال: {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ 3} مع أنه توعد على ذلك، فأثنى على إسماعيل عليه الصلاة والسلام بأنه كان صادق الوعد. فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... وما لوعيد الحق عين تعاين وإن دخلوا دار الشقاء، فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين نعيم جنان الخلد4 فالأمر واحد ... وبينها5 عند التجلي تباين يسمى عذابا من عذوبة لفظه ... وذاك لكالقشر، والقشر صائن6   1 ص92-93 فصوص. 2 في الأصل: وعيده بدون واو العطف. 3 يعني قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] ويحملها على الكفرة والمشركين، ليخلص من ذلك إلى إثبات ما يقرره؛ وهو أن لا عذاب يوم القيامة، لأن الله وعد في هذه الآية بالتجاوز عن السيئات. فتأمل!! 4 الجنة عند الصوفية: هي عرفان المرء بنفسه، ليدرك بهذه المعرفة أنه هو الله وهذا ما يفسرون به الحديث الموضوع: "من عرف نفسه فقد عرف ربه" والجحيم عندهم: هو ما يغيم على النفس من أوهام الكثرة، فتخدعها عن الحقيقة، فتظن المغايرة بين الخلق والحق. وهذا الظن هو الجحيم!! 5 في الأصل: وما بينهما. 6 ص 93-94 فصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 " مثل من تفسير ابن عربي للقرآن ": ثم قال في نص حكمة نورية في كلمة يوسفية, بعد أن قرر أن الشيء قد يرى في خلاف ما هو عليه لبعد، أو ظلام ونحوه: "فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال، ويجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي كان عنه ذلك الظل، فما حيث هو ظل له يعلم، ومن حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل من صورة شخص من امتد عنه يجهل من الحق، فلذلك نقول: إن [الحق] معلوم لنا من وجه, مجهول لنا من وجه {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان: 45] أي: يكون فيه بالقوة. يقول: ما كان الحق ليتجلى للممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان: 45] وهو اسمه النور [الذي قلنا، ويشهد له الحسن, فإن الظلال لا يكون لها عين بعدم النور] {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46] . وإنما قبضه إليه؛ لأنه ظله، فمنه ظهر، وإليه يرجع الأمر كله، فهو هو لا غيره1. "وجود الحق عين وجود الخلق عند الصوفية " فكل ما تدركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق   1 يشبه الله سبحانه والعالم بالشيء وظله، غير أن هذا التشبيه -على ما فيه- لا يصحح للزنديق دينه، بل يدمغه بالتلبيس والتضليل. فما من شك في أن الشيء وظله يشيئان متمايزان، والزعم بأيهما حقيقة واحدة مكابرة وجحود بشهود الحس اليقيني. نعم يحتاج الظل في وجوده إلى من أو ما هو ظل له. بيد أن هذا الاحتياج شيء، والزعم بأنهما حقيقة واحدة شيء آخر مباين كل المباينة. وابن عربي يدين بأن العالم هو الله في الهوية والماهية، أما ظل الشيء فليس عين الشيء لا في ذاتي, ولا في عرضي، قد يقال: إن الظل أثر من آثار الشيء، غير أن الزنديق يؤمن بأن العالم ليس أثرا لله، بل هو هو في الحقيقة والوجود. فلا يثبت مثال ما ليس به بهذا المثال. [حتى يظهر الظل فيكون كما بقي من الممكنات] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 هو1 وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو2 أعيان الممكنات، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول عنه [18] باختلاف الصور اسم العالم، أو اسم سوى الحق, فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق؛ لأنه الواحد الأحد، ومن حيث كثرة الصور هو العالم, فتفطن، وتحقق ما أوضحته لك، فإذا كان الأمر على ما ذكرته لك، فالعالم متوهم3 ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال, أي: خيل إليك أنه أمر زائد قائم بنفسه، خارج عن الحق، وليس كذلك في نفس الأمر، ألا تراه في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه يستحيل [عليه] الانفكاك عن ذلك الاتصال، لأنه يستحيل على4 الشيء الانفكاك عن ذاته5".. وهذا وما شاكله من قوله -كما تقدم في الفص النوحي- مشيرا إلى تصحيح قول الكفار في القرآن: إنه سحر لا حقيقة له، إشارة تكاد أن تكون صريحة، وإلى مثل هذا المحال لوح ابن الفارض، والأمر فيه أوضح مما في الفصوص: وها دحية وافى الأمين نبينا ... بصورته في بدء وحي النبوة أجبريل قل لي كان دحية إذ بدا ... لمهدي الهدى في هيئة6 بشرية؟ وفي علمه عن حاضريه مزية ... بماهية المرئي من غير مرية يرى ملكا يوحي إليه، وغيره ... يرى رجلا يرعى لديه بصحبة   1، 2 في الأصل: فهو في الموضعين. 3 هذا يستلزم وجود وهم ومتوهم، فإن قال: إن المتوهم عين الوهم والمتوهم لزمه كون إلهه وهما ومتوهما، أي: باطلا ينتج باطلا. فكيف يسمونه: حقا؟ وإن قال: إنه غيرهما لزمه القول بالغيرية والتعدد، وهو يدين بأن لا غير، ولا سوى. وهكذا في كل دليل له حجة تدمغه بالإفك، وتدينه بالبهتان. 4 في الأصل: عن. 5 ص102 فصوص. 6 في الأصل: في صورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولي من أتم الرؤيتين إشارة ... تنزه عن دعوى الحلول1 عقيدتي وفي الذكر ذكر اللبس ليس بمنكر ... ولم أعد عن حكمي كتاب وسنة يعني قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] هذا ما كان ظهر لي، ثم تبين أن المراد أقبح من هذا بقول شراح التائية، الفرغاني وغيره2 وسيأتي نقله عنه آنفا. رد علاء الدين البخاري : قال الإمام علاء الدين البخاري: "ما ذكرتم في نفي ثبوت الأشياء معارض بالمثل؛ إذ لا خفاء أنه من أعيان الأكوان، غير أنه من الأعراض، فيكون ما ذكرتم أيضا خيالا وسرابا، لا حقيقة له، فلا يمكن به إثبات مذهبكم الباطل وإذا لم يبق في قوس المكابرة منزع، ولا لما لزمهم من شنيع المحالات والضلالات مدفع، التجئوا إلى دعوى الكشف على ما هو دأب قدماء الفلاسفة حين عجزوا عن إقامة البرهان، وأنت خبير بأن الكشف إنما يظهر الحقائق، لا أنه يهدم الشرائع، وينفي الحقاق3، فإن ذلك زندقة، وقد غلط هؤلاء كغلط.   1 لم يرض بكفر الحلاج دينا، وهو الحلول؛ لأنه يستلزم الاثنينية والمغايرة بوجه ما بين الحال، وبين المحل. وابن الفارض يدين بالوحدة. 2 قال القاشاني في شرح ذلك البيت: "ظهور الحق في بعض صور المخلوقات هو تلبسه بها، كتلبس جبريل بصورة رجل". 3 لا يستطيع البخاري هدم باطل الصوفية ما دام مؤمنا معهم بأسطورة الكشف -ولكن لا تنس أنه هو الآخر صوفي- فالصوفية لم يهولوا بهذه الأسطورة إلا لينقضوا بتهاويل باطلها حقائق الدين والعقل، ولإثبات ما يدينون به من زندقة، بعد تشكيك الناس في كل حقيقة عقلية أو نقلية. على أن الصوفية الذين دانوا بالكشف لم يدينوا بدين واحد، ولم يروا في الإلهية والربوبية رأيا واحدا، ولم ينظروا إلى حقيقة الوجود نظرة واحدة. فالحلاج حلولي، والسهروردي إشراقي, وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين من زعماء وحدة الوجود على= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 النصارى لما رأوا إشراق نور الله تعالى، وقد تلألأ في عيسى عليه السلام1، فقالوا: هو الإله، وهؤلاء لما رأوا الوجود فائضا من الحضرة الإلهية على الموجودات فلم يفرقوا بين الفيض2 والمفيض، فقالوا: الوجود هو الله سبحانه وتعالى. اهـ رأي العضد والجرجاني : وقال الشريف الجرجاني3 في شرح المواقف للعضد4: "واعلم أن المخالف في هذين الأصلين -يعني عدم الاتحاد وعدم الحلول- طوائف ثلاث، الأولى:   = اختلاف في التصور والتصوير، والقنونوي والتلمساني والجيلي كل له مذهبه، وكل له وسيلته، وكل له تصويره، وكي يدعي أنه آمن بما آمن به عن كشف وشهود. فبأي كشف نأخذ، وبأي شهود نصدق؟ ليمكن أن نأخذ أو نصدق بالجميع لأنه نفاية تناقض وتباين، والحق واحد لا يتعدد، ولا يناقض نفسه، ولا يمكن أن نأخذ ببعض دون بعض، وإلا احتجنا إلى دليل نثبت به أن ما أخذنا به هو الحق وأن ما عداه باطل، فبماذا نستدل؟ أبكشف أم بغيره؟ إن كان الأول لزم التسلسل وإن كان الثاني ثبت أن الكشف محتاج إلى دليل آخر غير الكشف يثبت به، ثم إنا لو أخذنا ببعض دون بعض، كان هذا معناه أن بعض أنواع الكشف الصوفي باطل، في حين يدين الصوفية بأن كل كشف صوفي هو حق في ذاته، وبما ذكرت أو ببعضه يتجلى لك بطلان أسطورة الكشف، وتؤمن بأن ملاذ الحق ومشرقه وقدسه كتاب الله سبحانه. وسنة رسوله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 1 في كلامه هذا رائحة الحلول المسيحي، أو الإشراق السهروردي. ولكن لعله يقصد بالنور الذي تلألأ هدي النبوة والإيمان. 2 يقصد ما أفاضه الله من الوجود، والواجب أن يعبر عن هذا: بالخلق والخالق، إذ الفيض أسطورة ابتدعتها الفلسفة والصوفية، ابتغاء نفي خلق الله سبحانه للعالم. ونفي القادر المريد، وابتغاء إثبات قدم العالم، وأن الأشياء ثابتة في العدم. 3 هو علي بن محمد بن علي. ولد سنة 740هـ وتوفي سنة 814. 4 هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار عضد الدين الإيجي ولد سنة 709 تقريبا، ومات سنة 753هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 النصارى" ثم ذكر مذاهبهم، ثم قال: "الثانية: النصيرية1 والإسحاقية2 من غلاة الشيعة، قالوا: ظهور الروحاني بالجسماني لا ينكر، ففي طرف الشر، كالشياطين، فإنه [19] كثيرا ما يتصور الشيطان بصورة الإنسان، ليعلمه الشر ويكلمه بلسانه، وفي طرف الخير -كالملائكة- فإن جبريل عليه السلام كان يظهر بصورة دحية الكلبي [والأعرابي3] ، فلا يمتنع [حينئذ4] أن يظهر الله تعالى في صورة بعض الكاملين [وأولى الخلق بذلك أشرفهم وأكملهم، وهو العترة الطاهرة، وهو من يظهر فيه العلم التام، والقدرة التامة من الأئمة من تلك العترة، ولم يتحاشوا عن إطلاق الآلهة على أئمتهم، وهذه ضلالة بينة5 الطائفة] الثالثة [بعض] المتصوفة، وكل منهم مختبط6 بين الحلول والاتحاد" ثم قال العضد7: "ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره، ويقول: لا حلول, ولا اتحاد، إذ ذاك يشعر بالغيرية، ونحن لا نقول بها، بل نقول: ليس في ذات الوجود غيره8، وهذا العذر أشد قبحا وبطلانا من ذلك الجرم؛ إذ يلزم ذلك المخالطة التي لا يجترئ على القول بها عاقل، ولا مميز أدنى تمييز9".   1 محدثها محمد بن نصير النميري، وتزعم هذه الفرقة أن الله سبحانه ظهر بصورة علي وأولاده المخصوصين. 2 أحدثها إسحاق بن زيد بن الحراث. ومن القائلين بالإباحة وإسقاط التكاليف، وأن لعلي شركة مع الرسول، ثم تطورت فقالت بالحلول كالنصيرية. 3, 4, 5 كل ما بين هذين [] ساقط من الأصل، وأثبته عن المصدر الذي نقل عنه المؤلف، وهو شرح المواقف. 6 في شرح المواقف: وكلامهم مخبط. 7 ليس قول العضد وحده، وإنما مع شرح الجرجاني له. 8 في المواقف "ليس في دار الوجود غيره ديار" وهو أدق. 9 ص29 وما بعدها جـ8 شرح المواقف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 رأي السعد التفتازاني :1 وهذا المعنى الأخير هو الذي أراده الشيخ سعد الدين التفتازاني، بالمذهب الثاني، من قوله في شرح المقاصد: "وههنا مذهبان آخران يوهمان الحلول والاتحاد وليسا منه في شيء. الأول: أن السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله تعالى في الله يستغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تطمحل ذاته في ذاته، وصفاته في صفاته ويغيب عن كل ما سواه، ولا يرى في الوجود إلا الله، وهو الذي يسمونه: الفناء في التوحيد، وإليه يشير الإلهي2: "إن العبد لا يزال يتقرب إليّ حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به3". وحينئذ ربما تصدر عنه عبارات تشعر بالحلول4، أو بالاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحال، وبعد الكشف عنها بالمثال، ونحن على ساحل التمني نعترف5 من بحر التوحيد بقدر الإمكان، ونعترف بأن طريق الفناء فيه العيان6 دون البرهان، والله الموفق.   1 مسعود بن عمر بن عبد الله ولد سنة 712، وتوفي سنة 792هـ. 2 يقصد: الحديث القدسي، وقد روي هذا مختصرا جدا. 3 سيرد الحديث بتمامه والتعليق عليه. 4 ما تقرب إنسان في الوجود إلى الله بمثل ما تقرب إليه به عبده ورسوله وخليله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم تصدر عنه مثل تلك العبارات الطافحة بإثم الإلحاد، والتي يأفك الصوفية أنها روحانية الأنس تفيض من حظائر القدس. بل كل ما صدر عنه توحيد لله سبحانه خالص في ربوبيته وإلهيته، وتسابيح عبودية تستشعر الخوف والرجاء، وتبتهل إلى الله أن يغمرها برضاه، وأن يغفر لها كل ما تشعرها به روحانية الإيمان أنه ذنب. 5 لعلها: نغترف. 6 يقصدون معاينة الذات تصدر عنها أفعالها. وتصرف في الكون أقدارها. وإبراهيم خليل الله أراه الله ملكوت السموات والأرض، وموسى، كله الله من وراء = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الثاني: أن الواجب هو الوجود المطلق1، وهو واحد لا كثرة فيه أصلا وإنما الكثرة بالإضافات, والتعينات التي هي بمنزلة الخيال والسراب، إذ الكل في الحقيقة واحد يتكرر على مظاهر، لا بطريق المخالطة، ويتكرر في النواظر، لا بطريق الانقسام، فلا حلول منا، ولا اتحاد؛ لعدم الاثنينية والغيرية، وكلامهم في   = حجاب، ومحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عرج به إلى السماء، وشهد النور الأعظم، فما تكلم رسول منهم بمثل هذا، ولا حدثنا عن الفناء أو العيان الصوفي، ولا قال واحد منهم أنه رأى الله، ولا سمعنا عن أحد منهم أنه عبد الله بغير ما أمر الله، أو غفل مرة عن أداء حق من حقوق الله، أو ادعى أن الله سبحانه أسقط عنه التكاليف، بل ما زادهم ذلك إلا إيمانا وخشية، وجدا في العمل، وكدحا في العبادة، وحبا لله وخوفا منه، ورجاء فيه سبحانه، ولم يعد المؤمنون تغرهم بالله تلك التهاويل السحرية الصوفية، ولا تلك الزمزمات المجوسية. 1 يرد الإمام بن تيمية على هؤلاء بقوله: "المطلق بشرط الإطلاق لا يتصور إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها، وما لا حقيقة له يتميز بها فليس بشيء، فمن قال: إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين فحقيقة قوله: إنه ليس للحق وجود أصلا، ولا ثبوت إلا نفي الأشياء المعينة المتميزة، والأشياء المعينة ليست إياه، فليس شيئا أصلا. وتلخيص النكتة أنه لو عنى به المطلق بشرط الإطلاق، فلا وجود له في الخارج، فلا يكون للحق وجود أصلا، وإن عنى به المطلق بلا شرط. فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام، وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معينا، فلا يكون للحق وجود إلا وجود الأعيان، فيلزم محذوران. أحدهما: أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات. والثاني التناقض، وهو قوله: إنه الوجود المطلق دون المعين" باختصار عن مجموعة الرسائل والمسائل جـ4 ص21 وهذا حق، فإن الوجود الطلق تجريد صرف، أو سلب خالص، فليس ثم حقيقة تتميز، ولا ذات تتحقق، وكذلك العدم، أو اللاوجود، فكأنهم يجعلون الواجب عدما، أو يقولون هو وجود ولا وجود. أما المطلق لا بشرط فلا يوجد إلا معينا مخصوصا في هذا أو ذاك، إذ ليس في الخارج شيء إلا وهو معين يتميز عما سواه بحده وماهيته وهم ينكرون تعين الوجود، إذ يسمونه مطلقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ذلك طويل خارج عن طريق العقل والشرع أشرنا في بحث الوجد إلى بطلانه، لكن من يضلل الله فما له من هاد" انتهى كلام الشيخ سعد الدين رحمه الله. زعم أن الحق يتلبس بصور الخلق : وقال سعيد الفرغاني -وهو من أكابر أتباعهم- في شرحه للتائية: "وتنزه1 تلك الإشارة عقيدتي عن رأي الحلول، فإنه لما جاز ووقع أن يكون لملك مخلوق قدرة التلبس بأي صورة شاء بلا معنى الحلول فيه، يصح أن يتلبس الحق تعالى بصورتي بفناء أنانيتي2 بالكلية، وإن تعللت بعدم جواز تلبسه3 بالصورة، وعللت بتنزيهه عن ذلك التلبس منعناك، ورددنا تعليلك بالكتاب والسنة". ثم قال في شرح البيت4 الذي فيه استشهاده بالكتاب والسنة: "وفي الذكر5، آي القرآن [20] ذكر اللبس، أي: تلبس الحق بالصورة ليس بمردود بل هو ثابت مذكور معروف موضعه من القرآن، ولم أتجاوز في تقريري حكمي الكتاب والسنة. أما الكتاب، فقوله تعالى: {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8] يعني من أن يكون منحصرا ظهوره حالتئذ وقبله وبعده في ذلك التلبس، وفي غيره من الصور، وغير ما، وقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص: 30]   1 يعني بيت ابن الفارض. ولي من أتم الرؤيتين إشارة ... تنزه عن دعوى الحلول عقيدتي 2 أي: ذاته. 3 أي: الله سبحانه. 4 يقصد بيت ابن الفارض. 5 وفي الذكر ذكر اللبس ليس بمنكر ولم أعد عن حكمي كتاب وسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الآية، وإذا جاز تلبسه بصورة الجماد1، فبصورة الإنسان أجمع وأولى عند فنائه عن تعينه وتشخصه. وأما السنة، فقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حكاية عنه تعالى: "كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله2" وقوله أيضا: فإن الله تعالى قال   1 تأمل رعونة الزندقة في التعبير، حيث يصف الله سبحانه وتعالى بأنه تلبس بالشجرة، أو كان هو الشجرة وهو يكلم موسى، ويفجر في زعمه فيقرر أن القرآن يثبت هذا! 2 يعني ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "يقول الله تعالى: "من عادى لي وليا، فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته, ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يسعى.. الحديث" ويستدل الصوفية بهذا الحديث على أن الله سبحانه عين خلقه، وعلى أن العبد يحور ربا. وإليك رد الشيخ ابن تيمية عليهم: "والحديث حجة عليهم من وجوه كثيرة، منها قوله: من عادى لي وليا، فقد بارزني بالمحاربة، فأثبت معاديا محاربا، ووليا غير المعادي، وأثبت لنفسه سبحانه هذا وهذا ومنها قوله: وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، فأثبت عبدا متقربا إلى ربه، وربا افترض عليه فرائضه، ومنها قوله: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فأثبت متقربا، ومتقربا إليه، ومحبا ومحبوبا غيره، وهذا كله ينقض قولهم: الوجود واحد. والحديث حق، فإن ولي الله لكمال طاعته لله ومحبته لله يبقى إدراكه لله، وباطنه وعمله لله وبالله، فما يسمعه مما يحبه الحق أحبه، وما يسمعه مما يبغضه الحق أبغضه، وما يراه مما يحبه الحق أحبه، وما يراه مما يبغضه الحق أبغضه ويبقى في سمعه وبصره من النور ما يميز به بين الحق والباطل، فولي الله فيه من الموافقة لله ما يتحد به المحبوب والمكروه، والمأمور والمنهي عنه ونحو ذلك، فيبقى محبوب الحق محبوبه، ومكروه الحق مكروهه، ومأمور الحق مأموره، وولي الحق وليه، وعدو الحق عدوه" ص48 رسالة الرد الأقوم ط السنة المحمدية. هذا والحديث رواية البخاري عن خالد بن مخلد القطواني الكوفي أبي الهيثم. وقد تكلم فيه. قال العجلي عنه: ثقة فيه تشيع, وقال ابن سعد: منكر الحديث متشيع مفرط، وقال أحمد بن حنبل: له مناكير، وقال أبو داود: صدوق إلا أنه يتشيع وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقد عد هذا الحديث من مناكير خالد يقول الذهبي: "هذا حديث غريب جدا، ولولا هيبة الجامع الصحيح لعددته في منكرات خالد، وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك، وليس بالحافظ" والحدث -على افتراض صحته- حجة على الصوفية كما رأيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 على لسان عبده: سمع الله لمن حمده. ثم حديث القيامة في الإتيان في الصورة1   1 يعني ما ورد في الحديث من أن الله سبحانه يتجلى لعباده يوم القيامة، ثم يأتيهم في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة, فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا" والحديث في الصحيحين والترمذي، وتوحيد ابن خزينة، وسنن الدارمي وغيرها. والحديث حجة تدمغ الصوفية بالبهتان. أولا: يثبت الحديث أن هذا التجلي لن يكون إلا في الآخرة، أما الصوفية فيدينون بتلبسه بالصور في الدنيا. ثانيا: يدين الصوفية بأن الرب يتجلى لكل أحد بحسب اعتقاده، فالقاصر المقيد لا يعرفه إلا إذا تجلى له في صورة معتقده، فإذا اعتقد أن الرب صنم، أو كوكب، أو عجل, تجلى له في صورة ما اعتقده، أما إذا تجلى له في صورة أخرى أنكره، أما العارف المطلق، فإنه يعرف الله -في زعم الصوفية- في كل صورة يظهر بها؛ لأنه يعتقد أن الرب عين كل شيء. هذا في حين يثبت الحديث أن المؤمنين أنكروه في صورته الأولى، وعرفوه في صورته الثانية، ومن أنكروه، ثم عرفوه هم الرسل والأنبياء والأولياء، وهؤلاء -باعتراف الصوفية-أكمل العارفين، وهم لم يعرفوه إلا في صورة واحدة، وهذا ينقض أصل دعواهم، وهو أن العارف المكمل هو من يعرف الله في كل صورة، ثالثا: يثبت الحديث وجود قوم يعرفون بعد إنكار، ووجود رب تجلى ثم تجلى. وهذا يستلزم وجود أغيار كثيرين هم غير الرب. في حين يدين الصوفية بأنه ما ثم غير ما. رابعا: يزعم الصوفية أنه سبحانه عين كل شيء, والحديث يثبت وجود قوم مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، فإذا أخذنا بزعم الصوفية كان ربهم هو الكافر والمنافق، والمنكر والمنكر، وثبت لربهم الجهل، وحسب الصوفية شرا أن يكون عبيد رب هذا شأنه، خامسا: يثبت الحديث أنه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ثم قال: فالحديث أولا وآخرا معلم أنه يتلبس بأي لباس صورة شاء مما يعرف، ومما ينكر من غير حلول، فكان ظهوره بصورتي أيضا جائزا من غير حلول، فصح بهذا دعوى اتحادي مع الحلول". أمر ابن الفارض باتباع شريعته ثم قال في شرح قوله: منحتك علما إن ترد كشفه، فرد ... سبيلي، واشرع في اتباع شريعتي قال: "يحتمل أن يكون إضافة الشريعة من الناظم إلى نفسه بلسان الجمع والترجمانية، ويريد بقوله: فرد سبيلي ما أريد به في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] وبقوله: شريعتي، شريعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ثم قال: فمنبع صدا1 من شراب نقيعه ... لدي، فدعني من سراب بقيعة   = سبحانه لن يتجلى إلا في صورة واحدة في كل مرة، أما هم فيدينون بتجلي ربهم فيما لا يتناهى من الصور المتباينة في آن واحد. سادسا: لم يبين الحديث كنه الصورة الأولى، أما صورته الثانية فعرفها بأنها هي التي رأوه فيها أول مرة. أما هم فقالوا بتجليه في صورة يغوث ويعوق. وفي صورة عجل السامري، وفي صورة نار المجوس، بل في صورة كل مخلوق. سابعا: يثبت الحديث ربا، ويثبت عبادا يبتليهم ربهم بتجليه، ويثبت أنهم غير الرب، وهم يقولون: العبد عين الرب. ويثبت الحديث مكانا. فما هذا المكان؟ أهو الرب أم غيره، إن قالوا بالأول، فما في الحديث هذا. وكفاهم خزيا أن يكون ربهم مواطي أقدام. وإن قالوا بالثاني ثبت وجود غير، وهم ينفون الغيرية. ثم ما للصوفية يستشهدون بما لا يؤمنون به؟ إنهم يزعمون أخذهم عن الله مباشرة، ويستنكفون العمل بشريعة الله التي جاء بها رسله! وفي الحديث براهين أخرى، وحسبنا هذا. 1 في الأصل: صدى. وصوابها: صداء قال ضرار: كأني من وجدي بزينب هاشم ... يخالس من أحواض صداء مشربا وصداء بئر ماؤها أعذب مياه العرب، ومن الأمثال: ماء ولا كصداء يضرب لما يحمد بعض الحمد، ويفضل عليه غيره. انظر مجمع الأمثال، والمضاف والمنسوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 صدا ماء للعرب يضرب المثل به لعذوبته، والنقيع: البئر الكثيرة الماء، يقول معللا البيت السابق الذي حاصله: أمره باتباع شريعته، والورود في سبيل هداه وطريقته، ونهى عن متابعة غيره ممن يدعي التحقيق في العلم والمعرفة الحقيقية نحو علماء الظاهر من الأصوليين والفلاسفة: أن المورد العذب الهنيء النافع عندي، ويختص بمشربي، وهو المفهوم المطابق من الكتاب والسنة، وإشاراتهما الغامضة بلا تأويل عقلي وتقليد، بل على ما هو الأمر عليه، فإن استطعت أن تخوض فيه، وتشرب منه، وإلا فدعني من سراب علوم علماء الظاهر1، وتأويلاتهم ومفهوماتهم التي ظاهرها لأجل الفصاحة، وتركيب الدلائل، تظهر وتغر السامع الغر2، فيحسبها شيئا نافعا له، فإذا فتش عن حقيقتها لم يجد شيئا، ولا تحقيق، ولا معرفة فيها، ولا طائل تحتها، وكذلك دلائل الفلسفة في المسائل الإلهية، تغر، ولا تقر. ولا تذكر عندي مذاهبهم ومقالاتهم ودلائلهم، ولا تلتفت إلى ذلك تفز فوزا عظيما. هذا كلام الفرغاني الذي يثني ابن بنت ابن الفارض في مقدمة [21] الديوان عليه، وشهد له أنه على نفس جده3، وهكذا يفعل في كل الأبيات مهما وجد شيئا من المتشابه في الكتاب أو السنة أجراه على ظاهره4، وجعله حجتهم في   1 يعني الآخذين بأحكام الشريعة، والمتفقهين فيها. 2 الجاهل بالأمور الغافل عنها. 3 لعله سقط من الكلام, كلمة: مذهب أو طريقة قبل كلمة جده. 4 لو أجرى الكلام على ظاهره لنعم فكرا بالحقيقة، وقلبا باليقين، ونفسا بالهدى، ولكنه أجراه على هوى شيطانه. وألمح من قول البقاعي أنه يعني بالمتشابه آيات الصفات وأحاديثها، فإن يك فقد زل به فهمه، وقلد في هذا الزلل غيره، فآيات الصفات محكمات هن من أم الكتاب يجب إجراؤها على ظاهرها، أي: على = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الاتحاد، واستحسان الأفعال القبيحة من المكلفين، فإن عجز -بكون الشرع نص على قباحتها- يقول: إن فيها حسنا وقبحا من بعض الوجوه, ولعل ذلك الوجه يقود أصحاب تلك المقالة إلى الخير، ويسعى كل السعي في إسقاط الإنكار على أحد في فعل من الأفعال. وكذا نقل البدر بن الأهدل عن شرحها للأبزاري وغيره، والله المستعان. تكذيب صريح للقرآن وقال في فص حكمة أحدية في كلمة هودية: {ومَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] : فكل ماش [فعلى] صراط الرب المستقيم, فهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه، ولا ضالون، فكما كان الضلال عارضا، فكذلك الغضب الإلهي عارض، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء1.   = ما لها من معان في العربية دون تمثيل أو تشبيه أو تلويث للفهم بما يشهد الحس لها من كيفيات بالنسبة إلى الخلق. هذا وإلا جعلنا للعقل -وهو من خلق الله- سلطانا على الخلاق العظيم يقوم صفاته بما شاء، وكيف شاء، ويرضى له بعضا, وينكر بعضا، ويبتدع له بالهوى العصوف صفات وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان وجل جلال الله سبحانه. 1 ص106 فصوص، وابن عربي يكذب بهذا البهتان قوله سبحانه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} وغيرها من الآيات. فالقرآن يقرر أن الناس بالنسبة إلى الحق ثلاثة أقسام: قوم عرفوا الحق وآمنوا به، وهم الذين وصفهم الله بأنههم على صراط مستقيم، وقوم عرفوا الحق، وأعرضوا عنه كفرا وجحودا، وهم المغضوب عليهم، وقوم لم يحاولوا معرفة الحق فلم يهتدوا، وهم الضالون. وقد خص الله الفريق الأول برضاه ورحمته, والآخرين بغضبه ولعنته. ولكن ابن عربي يجعل الجميع سواء، هادفا من وراء ذلك إلى تقرير أسطورة وحدة الأديان التي تزعم أن الأديان سماويها ووضعيها واحد، وأن الحق والهدى فيها جميعا، لا يختص بها دين عن دين، فالشرك عين التوحيد، والمجوسية عين الإسلام، فعابد العجل عندهم كعابد الله. يقول لك الصوفية: كن مشركا كن مجوسيا كن بوذيا كن يهوديا. فأنت على صراط مستقيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 إفك على الله : ثم قال: "اعلم أن العلوم1 الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة؛ فإن الله تعالى يقول: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها" فذكر أن هويته2 [هي] عين الجوارح التي هي عين العبد، فالهوية واحدة، والجوارح مختلفة، ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة، تختلف باختلاف الجوارح كالماء. حقيقة3 واحدة مختلف4 في الطعم باختلاف البقاع5" قلت: وعلى هذا الضلال عول ابن الفارض، فقال: وجاء حديث في اتحادي6 ثابت ... روايته في النقل غير ضعيفة مشيرا بحب الحق بعد تقرب ... إليه بنقل أو أداء فريضة وموضع تنبيه الإشارة ظاهر ... بكنت له سمعا كنور الظهيرة فكلي لكلي طالب متوجه ... وبعضي لبعضي جاذب بالأعنة ومني بدا لي ما علي لبسته ... وعني البوادي بي إلي أعيدت   1 في الأصل: الأمور. 2 أي: حقيقته، وهدفه من هذا: إثبات أن الإحساسات، أو المشاعر، أو الأهام، أو الخيالات التي يشعر بها كل إنسان هي في الحقيقة من مكونات علم الله سبحانه، فعلم الله عند الصوفيه متوقف على علم عبيده، وتعالى الله عما يأفك الزنادقة. 3 في الأصول: حقيقته. 4 في الأصل. تختلف. 5 ص107 فصوص. 6 في الأصل: باتحادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وفيّ شهدت الساجدين لمظهري ... فحققت أني كنت آدم سجدتي1 تعانقت الأطراف2 عندي وانطوى ... بساط السِّوى عدلا بحكم السوية   1 قال القاشاني في شرح هذا البيت "أي: عاينت في نفسي الملائكة الساجدين لمظهري، فعلمت حقيقة أني كنت في سجدتي آدم تلك السجدة, وأن الملائكة يسجدون لي، والملائكة صفة من صفاتي، فالساجد صفة مني يسجد لذاتي. فالجمع واقع لا يدفع". وأقول في قصة آدم، وأمر الملائكة بالسجود له، وطاعتهم لهذا الأمر، وتمرد إبليس عليه: في كل هذا ما ينقض دعاوى الصوفية في الحلول والوحدة والاتحاد؛ لأنها -أي: القصة- تثبت ربا آمرا بالسجود. وتثبت أغيارا كثيرين هم: آدم، والملائكة، وإبليس. لهذا يحاول ابن الفارض تصوير القصة. بما يتواءم وهوى زندقته، أي: بما يرفع في زعمه هذا التعدد في الوجود والذوات, ويرفع المغايرة بين الماهيات. فيقول: لا تحسبن الآمر بالسجود غير من أمروا به، أو غير من وقع الملائكة له ساجدين، أو غير من تمرد على هذا السجود، فإنهم جميعا عين واحدة هي الذات الإلهية. فالآمر هو الله باعتبار الهوية المجردة عن التعين. وآدم هو مظهر تعين الذات، أو الهوية، والملائكة هم تعينات الصفات، وكذلك إبليس، فلا تعدد في الوجود، ولا غيرية في الماهيات. فآدم هو الذات، والملائكة وإبليس هم الصفات، وما كان السجود الذي وقع سجود ذات لغيرها، بل كان من صفات لموصوفها ... ثم ينتقل ابن الفارض من هذا التصوير الصوفي إلى تقرير أنه كان عين آدم، وكان عين الملائكة، أي: عين الذات الإلهية. وعين صفاتها. هذا هو دين سلطان العاشقين، أو قل: هذه زندقة رب الصوفيين!! 2 يزعم أنه ليس في الوجود متناقضات ولا أضداد، ولا أغيار، بل ولا أمثال، إذ الوجود كله حقيقة واحدة. والحقيقة الواحدة لا يقال عنها: إنها تناقض أو تضاد، أو تغاير، أو تماثل نفسها، ولهذا يؤمن الزنديق أن القدم عين الحدوث والأول والفوق عين التحت، والنور عين الظلمة، والأول عين الآخر، والأزل عين الأبد، والآن عين الماضي وعين المستقبل، وهذه هي الأطراف الوجودية والمكانية والزمانية التي يزعم ابن الفارض أنها تعانقت عنده، والتي يقول بعدها أنه حين رأى النقيض عين نقيضه، والضد والغير نفس ضده وغيره، انجلت عن بصيرته أوهام السوية، والغيرية، فبدت له الحقيقة التي غلفتها بالستر أوهامه. تلك هي أن الوجود حقيقة واحدة، وأن الخالق عين الخلق، وأنه هو الله!! هذا هو دين إله الصوفية العاشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وليس ألست1 الأمس غيرا لمن غدا ... وجنحي غدا صبحي ويومي2 ليلتي وسر بلى لله مرآة كشفها ... وإثبات معنى الجمع نفي المعية 3 ظهور صفاتي عن أسامي جوارحي ... مجازا بها للحكم نفسي تسمت رقوم علوم في ستور هياكل ... على ما وراء الحس في النفس ورت   1 يعني قوله سبحانه {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} مشيرا إلى ما فسرت به الإسرائيليات هذه الآية وهو سبحانه أخذ العهد على ذرية آدم جميعهم وهم في ظهره مودعا في إشارته تلك كفره الصوفي. ويريد بالغد في هذا البيت: يوم القيامة في عرف الشرع. وبيته هذا توكيد لكفره في البيت السابق. إذ يقرر هنا. أن الحضرة الأزلية، أو الذات الأحدية -رغم تكثر مظاهرها، وتعدد مجاليها- تنزهت عن عوارض الزمان، واختلاف الجهات، ورتب الآنات، فوقتها أحد، سرمدي أبدي. يندرج فيه الأزل والأبد، والمبدأ والأمد، والأمس والغد، ولذا فما ثم صباح ولا مساء، ولا نهار ولا ليل، ويقرر ابن الفارض أن هذا كله له, ليستدل به على أنه هو الذات الأحدية عينها, فهو فيما يسميه الصوفية بالآن الدائم، وهو عندهم امتداد الحضرة الإلهية الذي يندرج فيه الأزل في الأبد، وكلاهما في الوقت الحاضر لظهورها في الأزل على أحايين الأبد، وكون كل حين منها مجمع الأزل والأبد، فيتحد به الأزل والأبد والوقت الحاضر. 2 في الأصل: على, والتصويب من الديوان. 3 يشير ببلى في قوله: وسر بلى إلخ إلى قوله سبحانه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} والجواب ببلى يستلزم وجود سائل ومجيب، أعني يستلزم الاثنينية، بيد أن ابن الفارض يدعي هنا أن السائل عين المجيب، وهذا في قوله: وإثبات معنى الجمع نفي المعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وأسماء ذاتي عن صفات جوانحي ... جوازا الأسرار بها الروح سرت مظاهر لي بدوت فيها, ولم أكن ... عليّ بخاف قبل موطن برزني [22] ولما شعبت الصدع، والتامت فطو ... ر شمل بفرق الوصف غير مشتت1 تحققت أنا في الحقيقة واحد ... وأثبت صحو الجمع محو التشتت2 وإني، وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي تمجيد الصوفية للمجرمين : ثم قال في الفص الهودي أيضا: {فَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم [بها] فهو يأخذ بنواصيهم، والريح تسوقهم -وهي عين الأهواء التي كانوا عليها- إلى جهنم،   1, 2 يقول: لما جمعت ما تفرق في الوجود، من صفات وأسماء وأفعال، تيقنت أن كل شيء، هو عين الذات الإلهية، وأن وجود عين وجوده، ثم ينتقل إلى نفسه، فيقرر أنه آمن عن بينة، ويقظة بصيرة: أنه هو الله ذاتا وصفة واسما وفعلا، ومشاعر وجوارح. وهكذا يؤكد ما قررته من قبل، وهو أن ابن الفارض ممن يدينون بالوحدة، لا بالاتحاد، ألا تراه يكرر دائما أنه آمن عن يقين أنه ما كان في حال ما، ولا زمان ما غير ولا سوى وإنما كان ثم حقيقة واحدة هي الذات الإلهية تجلت في صور خلقية، أما الاتحاد، فيستلزم أنه كان قبل وجودان، ثم اتحد أحدهما بالآخر، وهذا ما ينكره ابن الفارض وينفيه نفيا باتا. قد يقال: وما لابن الفارض إذن يعبر عن معتقده: بالاتحاد؟ أقول: مما يفصل به ابن الفارض في التائية الكبرى تجزم بأنه يستعمل الاتحاد بمعنى الوحدة، والعبرة بمعانيه، لا بألفاظه، أو لعل لحظات العجب النفسي، كانت تجمح بخياله الزنديقي إلى محاولة إثبات أنه هو وحده الذي تعينت فيه الذات الإلهية، ثم يفيق من هذا العجب، فيقررها شاملة عامة، هي أن مظاهر الوجود مقومات للذات الإلهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وهي البعد1 الذي كانوا يتوهمونه، فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب، فزال البعد، فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق؛ لأنهم مجرمون، فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة، وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم2، لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة، فما مشوا بنفوسهم، وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب3 {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ4} . [الواقعة: 85] زعمهم أن هوية الحق عين أعضاء العبد وقواه ثم قال: "فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه5، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى، فهو حق مشهود في خلق   1 فسر الريح بهوى النفس، وجهنم بالبعد، وهكذا يصنع في كل ما يفسر به آي القرآن، يفسرها بما لا يقره شرع ولا لغة ولا عقل. 2 أرأيت كيف يصف المجرمين المشركين، بأنهم سالكون سبيل الهداية الحق، وصراط الله المستقيم، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بأن الله عين ما عبدوه من كوكب أو صنم!؟. تستطيع من خلال هذا تبين نار الحقد التي تلتهم قلوب الصوفية على الإسلام وكتابه ورسوله. 3 القرب عندهم هو الفناء عن وصف العبودية، والتحقق بمقام الربوبية، وترى الزنديق يزعم أن المجرمين من قوم هود كانوا من أعلم الناس بحقيقة الربوبية إذ تجلت لهم غيوب هوياتهم، فأدركوا وآمنوا أنها عين هوية الله. وأن وصف العبودية لهم مجازي فحسب وهكذا يدين الصوفية برب تجسد حيوانا ضاريا يفسق ويجترح الإثم والفاحشة، ويلعق دم الجريمة. 4 ص108 فصوص. 5 زاد الآثم فجورا في الزندقة، فافترى على الله أنه ليس عين الخلق جميعا فحسب، بل هو عين كل عضو فيهم وجارحة، وأن قوى الله سبحانه عين قوى الخلق المادية والروحية، حتى ما يعتمل في الدم، ويعتلج في الخواطر من شهوات = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 متوهم، فالخلق معقول، والحق محسوس مشهود عند المؤمنين، وأهل الكشف والوجود1 وما عدا هذين الصنفين، فالحق عندهم معقول، والخلق مشهود، فهم بمنزلة الملح الأجاج، والطائفة الأولى بمنزل الماء العذب الفرات السائغ لشاربه، فالناس على قسمين: من الناس من يمشي على طريق يعرفها، ويعرف غايتها، فهي في حقه على صراط مستقيم، ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها، ولا يعرف غايتها، وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر، فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة، وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة2". تفسيرهم لما عذب الله به قوم هود ثم قال: "ألا ترى عادا قوم هود كيف قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فظنوا خيرا بالله تعالى -وهو عند ظن عبده به- فأضرب لهم الحق عن هذا القول، فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب، فإنه إذا أمطرهم، فذلك حظ   = الغر ائز، وصور الأوهام، ولذا يصف العبد بأنه حق مشهود وأن وصفه بالخلقية وهم يغلف الحقيقة الكبرى بحجابه، تلك الحقيقة هي أن العبيد جميعا أرباب وآلهة أو هم الرب تعينت أسماؤه آلهة تنجلي في صور الخلق، هؤلاء القتلة السفاحون السفاكون مغتصبو الأعراض، الوالغون في الدم، هؤلا المرتشون المفسدون في الأرض، هؤلاء الذين يروعون أمن الحياة، وسلام الوجود، هؤلاء الظلمة الفاتكون بالأيامى واليتامى والأرامل. كل هؤلاء عند الصوفية أرباب خلقوا السموات والأرض، ولهم ملكوت السموات والأرض. 1 غالى الزنديق فزعم أن الخلق ما هو إلا صورة ذهنية وهمية لا تحقق لها في الخارج. أما الحق -أي: الله سبحانه- فهو محسوس مشهود، إذ لا ينفك عن التعين في مادة. ويبهت الزنديق بالجهل من يؤمن بأن الله تعالى يتجرد عن المادة، أو أنه شيء آخر غير المادة. 2 ص108 فصوص. وغير العارف هذا هو إله الصوفية متعينا في صورة بدنية عنصرية، فإلههم إذا مقلد جاهل يدعو إلى نفسه عن تقليد وجهالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الأرض, وسقى الحب، فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر1 إلا عن بعد2، فقال لهم {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] . فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة، فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة، والمسالك الوعرة، والسدف المدلهمة، وفي هذه الريح عذاب، أي: أمر يستعذبونه3، إذا ذاقوه، إلا أنه يوجعهم لغرقه المألوف4". انتهى ما قاله مكذبا لصريح الذكر الحكيم في قوم قال فيهم أصدق القائلين, سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون [23] علوا كبيرا {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} [نوح: 7] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الجن: 7] ، {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ, وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 59, 60] . ابن عربي يزعم أنه اجتمع بالأنبياء ثم ادعى في هذا الفص أنه رأى الأنبياء عليهم السلام في مشهد واحد سنة ست وثمانين وخمسمائة، وأنه ما كلمه منهم إلا هود، وقال: "رأيته5 لطيف   1 في الأصل: الظن. 2 في الأصل: "فقد أي: بعد". 3 فسر الريح التي أهلك الله بها عادا بالرحمة والراحة، وفسر العذاب الذي حاق بهم بأنه أمر تستعذبه النفس. فتأمل. 4 ص109 فصوص. 5 ذكر المؤلف قبل قول ابن عربي ملخصا، وإليك نصه: "واعلم أنه لما أطلعني الحق، وأشهدني أعيان رسله عليهم السلام، وأنبيائه كلهم البشريين من آدم إلى محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجمعين في مشهد أقمت فيه بقرطبة سنة ستة وثمانين وخمسمائة ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلى هود عليه السلام، فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم، ورأيته رجلا ضخما في الرجال حسن الصورة ... إلخ" انظر الفص الهودي من فصوص الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 المحاورة عارفا بالأمور كاشفا لها، ودليلي على كشفه لها قوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وأي بشارة للخلق أعظم من هذه؟ ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن. ظن الصوفية بالله سبحانه : ثم تممها الجامع للكل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بما أخبر به عن الحق أن عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان، أي: هو عين الحواس والقوى الروحانية أقرب من الحواس، فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد1، فترجم الحق لنا عن نبيه هود مقالته لقومه بشرى لنا، وترجم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[عن الله] مقالته بشرى، فكمل العمل في صدور الذين أوتوا العلم {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت: 47] فإنهم يسترونها -وإن عرفوها- حسدا منهم ونفاسة وظلما، وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها، أو إخبار عنه أوصله إلينا فيما يرجع إليه إلا بالتحديد، تنزيها كان أو غير تنزيه، أولها العماء الذي ما فوقه هواء، وما تحته هواء، فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق، ثم ذكر أنه استوى على العرش، فهذا أيضا تحديد، ثم ذكر أنه ينزل إلى السماء الدنيا، فهذا تحديد، ثم ذكر أنه في السماء، وأنه في الأرض2 وأنه   1 يقول الزنديق: إذا كان الله سبحانه عين حواس العبد وجوارحه, فأولى أن يكون عين قواه الروحية ... ويريد بالأبعد المحدود: الحواس وبالأقرب المجهول: القوى الروحية، الألسنة الآثمة الوالغة في الأعراض، والأيدي الملوثة بالجريمة السابقة، والأقدام التي تدب تحت الليل لتنتهك كل حرمة، وتستلب كل كنين. والشفاه الملوثة بأصباغ الشهوات. إنها ألسنة وأقدام وأيدي وشفاه الإله الذي يعبده الصوفية. 2 يومئ إلى قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] ويزعم أنها ذات دلالة على أن الله في السماء، وفي الأرض، بل عين السماء وعين الأرض، في حين أن دلالة جلية بينة على أنه سبحانه وحده إله من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 معناه1 أينما كنا؛ إلى أن أخبرنا أنه عيننا، ونحن محدودون, فما وصف نفسه إلا   = في السماء من في الأرض، وأنه المعبود من أهلها، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} فالآيات مسوقة لبيان أن الله سبحانه له وحده الربوبية والإلهية، وأنه بيده ملكوت السماء والأرض. إذ جاء قبل تلك الآية {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} وجاء بعدها {تَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ورغم الإشراق العلوي من البيان وجلائه ووضحه يأبى ابن عربي إلا أن يفسر الآية بهذا البهتان الخبيث. 1 يفسر ابن عربي المعية هنا بأنها معية الذات، وليت هذا فحسب، بل يريد من وراء هذا الفهم إثبات أننا عين الله ذاتا ووجودا وصفة، وإليك ما جلى به الشيخ ابن تيمية مسألة المعية: كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى. ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها: أنه مطلع شهيد عليكم، مهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: معهم بعلمه. ولفظ المعية استعمل في الكتاب والسنة في مواضع تقتضي في كل موضع أمورا لا تقتضيها في الموضع الآخر, فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع, أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضوع بخاصيته، وعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب مختلطة بالخلق" انتهى باختصار عن مجموعة الرسائل الكبرى جـ1 ص451 وما بعدها. وأقول: لا يخلو تصوير الزنديق للمعية من أحد أمرين، فإما أن تكون الذات مختلطة بكل ذوات الخلق، وإما أن تكون مختلطة ببعض دون بعض، فإن قال بالأول لزمه القول بانقسام الذات، وانفصال بعض أجزائها عن بعض. بل لزمه القول بتعدد الماهيات، وبالغيرية والتكثر الحقيقيين، وبأن كل شيء ليس عين الذت، بل بعضها، أو جزءها. وهذا غير ما يدين به الزنديق، فهو يفتري أن هوية الحق وماهيته عين هوية كل موجود وماهيته، وإن قال بالثاني لزمه ذلك أيضا في البعض الذي يقول باختلاط الذات به، ولزمه في البعض الآخر القول بأن من الخلق من ليس عين الذات، بل غيرها. وهذا نقيض ما يدعيه؛ ولكن ماذا نقول في مخبول يزعم أن العدم عين الوجود، وأن الشيء نفسه نقيضه؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 بالحد. وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] حد أيضا، إن أخذنا الكاف زائدة لغير الصفة، ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود، فالإطلاق عن التقييد تقييد، والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم، وإن جعلنا الكاف للصفة فقد حددناه، وإن أخذنا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 على نفي المثل تحققنا2 بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء والأشياء محدودة، وإن اختلفت حدودها فهو محدود بحد كل محدود، فما يحد شيء إلا وهو حد الحق، فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود, فهو عين الوجود، فهو على كل [شيء] حفيظ, ولا يئوده حفظ شيء، فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه3 لصورته، أن يكون الشيء غير صورته [24] ولا يصح إلا هذا فهو الشاهد من الشاهد, والمشهود من المشهود، فالعالم صورته, وهو روح العالم المدبر له، فهو الإنسان الكبير4" هذا لفظه هنا، وتقدم في الفص الآدمي: أن العالم يعبر عنه في اصطلاحهم بالإنسان الكبير، فراجعه تعرف صراحة كفر الخبيث؟ الكون هو رب الصوفية : ثم قاثم قال: "فقل في الكون ما شئت. إن شئت قلت: هو الخلق، وإن شئت [قلت] هو الحق، وإن شئت قلت: هو الحق الخلق، وإن شئت قلت:   1 سبق الرد على ما يلبس به الزنديق ويفتريه هنا. 2 في الأصل: تحققا. 3 في الأصل: حفظ. 4 ص111 فصوص الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه1, وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك، فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب، ولولا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور، ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه: فلا تنظر العين إلا إليه ... ولا يقع الحكم إلا عليه2 ثم قال: "وبالجملة، فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع بها إليه, ويطلبه فيها [فإذا تجلى له الحق فيها عرفه، وأقر به، وإن تجلى له في غيرها أنكره وتعوذ منه، وأساء الأدب عليه في نفس الأمر، وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه] فلا يعتقد معتقد إلها إلا بما جعل في نفسه، فالإله في الاعتقادات بالجعل فما رأوا إلا نفوسهم، وما جعلوا فيها. لم يقول الصوفية بوحدة الأديان : فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص, وتكفر بما سواه، فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولي3 لصور المعتقدات   1 لا حق من كل وجه باعتبار تعينه في صور بدنية عنصرية، أو باعتبار ظاهره. ولا خلق من كل وجه باعتبار هويته، أو باعتبار باطنه. هذا هو مراد الزنديق. 2 يقول: كل ما تقع العين عليه في الحياة، فهو الله، سل الصوفي في المواخير من ترى ثم؟ وسل الصوفي يرعى الخنازير ماذا تسوق؟ وسل الصوفي يرى الجيف المنتنة والرمم البالية ماذا ترى؟ إنك ستسمعه مجيبا -وهو يحدجك بالنظرة الساخرة- إنه الله، هذا معنى الشطر الأول من البيت، أما الشطر الثاني فيزعم فيه الزنديق: أن كل ما نحكم به على الأشياء فهو في الحقيقة محكوم به على الله سبحانه، إذ هو في إفك الزنادقة عين كل شيء فإذا حكمت على شيء بأنه جماد، أو عجل، وصنم، ورجس، أو جيفة؛ كانت تلك الأحكام كلها واقعة على رب الصوفية كما يدينون؛ لأنها ليست شيئا آخر غير هذا الرب الصوفي. 3 يريد بها هنا ما يقبل التأثير، يقول الزنديق: اجعل نفسك بحيث تتقبل كل معتقد، وترضى به، وتعتقد أنه حق، واحذر أن تنكر على المشرك شركه، أو على المجوسي مجوسيته. واحذر أن تقيد نفسك بدين خاص، وتحارب سواه، فالآلهة المعبودة في كل دين هي في حقيقتها الإله الواحد، وإن تك كواكب أو أحجارا، أو موتى.. وكل عابد لأي منها عابد لله، فما ذلك المعبود إلا عين ذات الله!! وتعالى الله عن إفك الزنادقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 كلها، فإن الله تعالى أوسع وأعظم [من] أن يحصره عقد دون عقد، فإنه يقول: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1 [البقرة: 115] ". ثم قال: "فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية2 كله وجهة3، وما ثم إلا الاعتقادات، فالكل مصيب، وكل مصيب مأجور، وكل مأجور سعيد، وكل سيعد مرضي عنه4، وإن شقي زمانا ما في الدار الآخرة، فقد مرض، وتألم أهل العناية -مع علمنا بأنهم سعداء وأهل الحق- في الحياة الدنيا". الوحدة عند ابن الفارض وإلى هذه الجهالة والضلالة رمز ابن الفارض في هذه المقالة: فلا تك مفتونا بحسك معجبا ... بنفسك موقوفا على لبس غرة وفارق ضلال الفرق فالجمع5 منتج ... هدى فرقة بالاتحاد تحدت وصرح بإطلاق الجمال، ولا تقل ... بتقييده ميلا لزخرف زينة فكل مليح حسنه من جمالها ... معار له، أو حسن كل مليحة   1 ص113 فصوص. 2 نسبة إلى الأين، هو حال تعرض للشيء بسبب حصوله في المكان. 3 في الأصل: وجه. 4 إيمان الزنديق بوحدة الأديان نتيجة إيمانه بوحدة الوجود، وتراه هنا يقرر الأولى، فيزعم أن من تدين بأي دين -سواء كان وضعيا أم سماويا- فهو سعيد مرضي عنه من الله. 5 في الأصل: والجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 بها قيس لبنى هام، بل كل عاشق ... كمجنون ليلى، أو كثير عزة فكل صبا منهم إلى وصف لبسها ... لصورة حسن لاح في حسن صورة وما ذاك إلا أن بدت بمظاهر ... فظنوا سواها، وهي فيها1 تجلت بدت باحتجاب، واختفت بمظاهر ... على صبغ التلوين في كل برزة2 ففي النشأة الأولى تراءت لآدم ... بمظهر حوا قبل حكم الأمومة فهام بها كيما يصير بها أبا ... ويظهر بالزوجين حكم3 النبوة وما برحت تبدو وتخفى لعلة ... على حسب الأوقات في كل حقبة وتظهر للعشاق في كل مظهر ... من اللبس في أشكال حسن بديعة ففي مرة لبنى، وأخرى بثينة ... [25] وآونة تدعى بعزة عزت ولسن سواها، لا. ولا كن غيرها ... وما إن لها في حسنها من شريكة4 كذاك بحكم الاتحاد بحسنها ... كمالي بدت في غيرها، وتزيت بدوت لها في كل صب متيم ... بأي بديع حسنه، وبأيت5   1 في الأصل: فيهم، والتصويب من الديوان. 2 البرزة: المرة من البروز، أو المرأة العفيفة تبرز للرجال، وتتحدث معهم وإخاله يريد بها هذا، إذ هو بصدد ذكر تجلي الحقيقة الإلهية في صور النساء. 3 في الأصل: سر. 4، 5 يفتري سلطان الزنادقة أن الذات الإلهية تتجلى -أتم وأجمل مما تتجلى- في صور النساء الجميلات، ويفتري أنها تجلت في صور ليلى وبثينة وعزة، وقد رمز بهن عن كل امرأة جميلة عاشقة معشوقة، ولما كان من طبيعة هذا الرب الصوفي العشق، كان لا بد له من التجلي في صور عشاق، ليعشق، ويعشق، فتجلى في صور قيس وجميل وكثير عشاق أولئك الغانيات. وقد رمز بهم عن كل فتى اختبله الحب وتيمته الصبابة، ثم يفتري أيضا الزعم بأن العاشق ليس غير العشيقة بل هو هي، فالرب الصوفي عشق وعاشق وعشيقة. فليلى وقيس مثلا عند ابن الفارض هما الرب تعينت ذاته في صورة امرأة تعشق وتعشق هي ليلى، وفي صورة رجل يعشق ويعشق هو قيس. وليتأمل القارئ معي. فابن الفارض حين يتحدث عن الذات الإلهية باعتبارها حقا يحكم بأنها تظهر في صور نساء، وإذا تحدث عنها باعتبار تعينها فيه يحكم بأنها تظهر في صور رجال، يريد بهذا أن يفضل الرب المتعين فيه على الرب المتعين في غيره، أو بتعبير أبين صراحة، يفضل نفسه على الرب الذي يظهر في صورة امرأة, ويجعل من نفسه قيما عليه، فالرجال -كما لا يخفى- قوامون على النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وليسوا بغيري1 في الهوى لتقدم ... على لسبق في الليالي القديمة وما القوم غيري في هواها2 وإنما ... ظهرت [لهم] للبس في كل هيئة ففي مرة قيسا، وأخرى كثيرا ... وآونة أبدو جميل بثينة تجليت فيهم ظاهرا واحتجبت با ... طنا بهم فاعجب لكشف بسترة أسام بها كنت المسمى حقيقة ... وكنت لي البادي بنفس تخفت وما زلت إياها، وإياي لم تزل ... ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت3   1 في الأصل: سواي. 2 في الأصل: هواي. 3 هذا وما قبله بين الدلالة على إيمان ابن الفارض بالوحدة، لا بالاتحاد، فإنه حين عبر بقوله: وما زلت إياها خشى أن يقال عنه أنه ما زال يستشعر اثنينية ما، لوجود محمول وموضع في تعبيره -وإن كان الحمل صوريا، إذ المحمول عين الموضع- أقول: خشى أن يقال عنه هذا فعقبه بقوله: ولا فرق، حتى لا تفهم أن الذات المعبر عنها بضمير المتكلم، وهو التاء في "ما زلت" غير المعبر عنها بضمير الغائب في إياها، وإنما هي هي. وزاد ابن الفارض إيغالا في كفره، فقال: بل ذاتي لذاتي، ليجرد الذات الإلهية من وجودها الخاص، وليؤكد أن ليس لها من وجود إلا هذا الوجود المقيد المتعين في هذا أو ذاك من أفراد الخلق، ولإثبات الوحدة التامة بين الحق والخلق -لا في الباطن فحسب- بل في الظاهر، ثم لغرض آخر، وهو أن الذات الإلهية، نالت كمالها بتعينها في صورة ابن الفارض. هذا هو دين من لا يزال كبار الشيوخ -بله الزنادقة الصوفية- يلقبونه: سلطان العاشقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وليس معي في الكون شيء سواي والـ ... ـمعية لم تخطر على ألمعيتي1 الكثرة عين الوحدة : ثم قال ابن عربي في فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية: "وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد، كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية، وإن اختلفت حقائقها وكثرت أنها عين واحدة, فهذه كثرة معقولة في واحد العين، فيكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة، كما أن الهيولي2 تؤخذ3 في حد كل صورة [وهي] مع كثرة الصور [واختلافها] ترجع4 في الحقيقة إلى جوهر واحد، هو5 هيولاها، فمن عرف نفسه بهذه المعرفة, فقد عرف ربه، فإنه على صورة خلقه بل هو عين هويته وحقيقته6.   1 هذا توكيد لما يدين به من الوحدة، ولذا يلح في نفي المعية، نفي أن يكون ثم في الكون غير أو سوى, إذ ما ثم إلا حقيقة واحدة، هي هوية الحق, تكثرت بمظاهرها الخلقية, والألمعية: الذكاء والفطنة. 2 يراد بها: المادة، أو ما به الشيء بالقوة، أو ما يقبل التأثير. 3, 4, 5 في الأصل: يؤخذ, ويرجع, وهو. والتصويب من الفصوص. 6 ص124 فصوص، وقد خاف ابن عربي أن يظن به أنه يدين بمشاركة الإنسان لله في أمر عرضي وهو الصورة، وذلك من قوله: فإنه على صورة خلقه -وإن كان يعني بالصورة هنا: ما به الشيء بالفعل- أقول: خاف هذا, فأضرب عن قوله هذا، وأتبعه بقوله: بل هو عين هيوته وحقيقته. يا للزنديق!! فرعون حقيقة الله عنده، وقارون، وهامان، وأبو جهل، وأبو لهب، بل كل آثم غوى الضلالة والفجور. كل هذا، والشيوخ يسبحون بحمد ابن عربي، ويرونه الروح الرفاف في ملكوت الجمال الأعظم، والنور الذي هدى إلى قدس الحقيقة. أما قولنا ذيادا عن جلال الله: إن ابن عربي كافر. فهو قول عند الشيوخ يستعصي على المغفرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 قلت: وإلى هذا المحال أشار ابن الفارض فقال: رجعت لأعمال العبادة عادة ... وأعددت أحوال الإرادة عدتي وعد جملة من أفعال البر في أبيات، ثم قال: ودققت فكري في الحلال تورعا ... وراعيت في إصلاح قوتي وقوتي متى حلت عن قولي: أنا هي أو أقل ... وحاشا لمثلي1 أنها فيّ حلت وهذا مثل ما يقال: خاب فلان وخسر، وكان مثل إبليس، إن كان منه كذا. فعل البعد عين فعل الرب عند الصوفية وقال ابن عربي في فص حكمة نبوية في [كلمة] عيسوية: فإنا أعبد حقا ... وإن الله مولانا وإنا عينه، فاعلم ... إذا ما قلت: إنسانا فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهانا فكن حقا، وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا2 وقال في فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية: "والعمل مقسم على ثمانية   1 في الأصل: هداها. 2 ص143 فصوص والرحمن عند الصوفية "اسم الحق باعتبار الجمعية الأسمائية التي في الحضرة الإلهية الفائض منها الوجود، وبقية الكمالات على جميع الممكنات" الكمشخانلي في جامعه تحت المادة.. فهو مرادف للوجود المطلق. ويفتري الزنديق، فيزعم أن العارف يكون رحمانا -أي: وجودا مطلقا، أي: نفس الله سبحانه- إذا آمن أنه الحق، وأنه الخلق، إذا نظر إلى باطنه، فأيقن أنه حقيقة الحق، وإلى ظاهره، فأيقن أنه مظهر خلقي لحقيقة الحق. بهذه النظرة الشاملة من العارف إلى غيبه، وشهوده، يكون هو الذات الإلهية الجامعة للأسماء الإلهية كلها.. هذا مراد من يجعل الصوفية اسمه تميمة، والتسبيح بحمده روحانية ابتهال، وصلاة ضراعة, ونسك قرابين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أعضاء من الإنسان، وقد أخبر الحق تعالى أنه هوية كل عضو منها1، فلم يكن العامل غير الحق، والصورة للعبد، والهوية مدرجة2 فيه، أي: في اسمه، لا غير لأنه تعالى عين ما ظهر3". ما الخلق ؟: ثم قال: "فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهية، والنسب الربانية، ثم أوجبها على نفسه بظهورنا لنا، وأعلمنا أنه هويتنا، لنعلم أنه ما أوجبها على نفسه إلا4 لنفسه، فما خرجت الرحمة عنه، فعلى من [26] امتن، وما ثم إلا   1 يزعم الزنديق أن الحق سبحانه عين كل عضو وجارحة من كل إنسان، فإذا سرقت يد فالسارق رب الصوفية، وإذا اجترح الفاحشة أثيم، فهو رب الصوفية وإذا ولغ لسان في الأعراض الشريفة فالوالغ رب الصوفية. وهكذا كل من يقترف جريمة، أو يروع الحق بباطله، والفضيلة برذائله، فهو في الحقيقة رب خلاق عند الصوفية. ولست أدري أي إله هذا الذي تقطع يده، ويرجم, ويجلد، وتقطع أيديه وأرجله من خلاف. وينفى من الأرض؟ أي إله هذا الذي يتدلي من مشافره ملايين الألسن، وتطحن الأعراض في شدقية ملايين الضروس، ويدب على الأرض فاتكا مدمرا بملايين الأرجل؟ إنه الإله الذي يحرق الصوفية أرواحهم في المحاريب ضراعة باسمه الكريم، وكنت بصدد الإشارة إلى أن ابن عربي بهذا يثبت أنه ممن يدينون بالجبر القاهر المطلق، بيد أن خبيئته أخبث وأدنأ عهرا من هذا، إنه يهدف إلى جعل الأمر فوضى وإباحية عربيدة المجون، إلى الانتقاض على كل شرعة وقانون ونظام، بل إلى شنها حربا طاحنة على الإسلام وحده، فإنه مجد اليهودية بعبادة عجل السامري، والمسيحية بعبادة عيسى، والمجوسية بعبادة النار، والوثنية بعبادة الأصنام، ثم التفت إلى المسلمين زاريا محقرا مبغضا ساخرا. لماذا؟ لأنهم يعبدون ربا واحدا، هو الله رب العالمين. 2 في الأصل: مندوجة. 3 ص151-152 فصوص الحكم. 4 في الأصل: لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 هو؟ إلا أنه لا بد من حكم لسان التفصيل، لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم, حتى يقال: إن هذا أعلم من هذا مع أحدية العين1". زعمه أن التفاضل لا يستلزم التغاير : ثم قال: "فكل جزء من العالم، أي: هو قابل لحقائق متفرقات العالم كله، فلا يقدح قولنا: إن زيدا دون عمرو في العلم أن تكون هوية الحق عين زيد وعمرو، وتكون في عمرو أكمل [وأعلم منه في زيد] كما تفاضلت الأسماء الإلهية، وليست غير الحق، فهو تعالى -من حيث هو عالم- أعم في التعلق من حيث ما هو مريد وقادر، وهو هو ليس غيره2، فلا تعلمه هنا يا ولي، وتجهله.   1 ص153 فصوص. 2 يشهد العقل والحس والوجدان أن بعض الخلق أفضل من بعض، وليس هذا في الإنسان فحسب، بل كذلك في الحيوان والجماد والنبات، فالعالم أفضل من الجاهل، والقادر أفضل من العاجز، والمؤمن غير الكافر، وفي إثبات التفاضل إثبات للغيرية، وحكم بأن الأفضل ليس عين الفاضل المفضول, فكيف إذن يكون الحق عين الخلق. في حين أن الخلق يغاير بعضهم بعضا؟ وهذه المغايرة تقتضي ولا ريب ثبوت أن الخلق غير الحق، وهذا ينقض دين ابن عربي في الوحدة، وقد أحس الزنديق بخطر هذه الشهادة العقلية الحسية الوجدانية على معتقده فراح يكدح في سبيل دفع هذا الخطر. زاعما أن هذا التفاضل لا يستلزم مطلقا. مغايرة الحق للخلق. ولا مغايرة الذات الإلهية لنفسها أو مظاهرها. فهو ليس تفاضلا واقعا بين ذات وغيرها، بل بين بعض صفات وأسماء هذه الذات، وبين بعضها الآخر، وهذا لا يستلزم إلا مغايرة اسم لاسم، أو صفة لصفة، لا ذات لذات، ثم يفصل هذا بقوله كاستدلال على صدق معتقده: إن الأسماء، أو الصفات الإلهية، يفضل بعضها بعضها، فاسمه -تعالى- العالم. أفضل من اسمه -سبحانه- المريد. وهذا أفضل من اسمه: القادر. إذ العالم أفضل من الإرادة. وهما أفضل من القدرة. وهذا لشمول العلم وتعلقه بكل ما هو معلوم. سواء أكان أمرا وجوديا أو عدميا. موجودا بالقوة، أم موجودا بالفعل. ممكن الوجود أم مستحيله = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 هنا، وتثبته هنا، وتنفيه هنا، إلا إن أثبته بالوجه الذي أثبت نفسه، ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه، كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه حين قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فنفي {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فأثبت بصفة تعم كل سامع بصير   = ولا كذلك الإرادة. ثم إن الإرادة أسبق من القدرة. وبهذا كانت أفضل. ثم يستطرد في تلبيسه قائلا: بيد أن هذا التفاضل لا يمكن أبدا استلزام أن يكون الإله غير نفسه. بل لا يمكن أن تحكم إلا بأن العالم عين القادر. عين المريد ومن هذا يثبت أن التفاضل لا يستلزم الغيرية أو التعدد. ثم ينتقل من هذا إلى ما يهدف إليه، فيزعم أنه لما كانت الموجودات هي تعينات أسماء الذات الإلهية وصفاتها، كان التفاضل الواقع بين الموجودات، صورة للتفاضل الذي كان واقعا بين الأسماء والصفات قبل تعينها في صور الموجودات، وقد ثبت أن هذا التفاضل لا يستلزم غيرية ولا تعدد, فيصدق القول: بأن الحق عين الخلق، ويصدق القول: بأن محمدا هو عين أبي جهل، عين أبي لهب، عين فرعون، وبأن العالم عين الجاهل، والمؤمن عين الكافر، والموحد عين المشرك، لأن كل طرف من هذه المتقابلات ما هو إلا اسم إلهي تعين في هذا الطرف، ومنه يثبت -هكذا زعم الزنديق- أن العالم -رغم ما فيه من تفاضل يشعر بالغيرية- ليس شيئا آخر غير الحق، بل هو عينه، إذ ما هو إلا أسماء الله وصفاته التي تعينت في صور هذا العالم، هذا هو مراد الزنديق، وما لهثت من أجله أنفاسه، ليثبت به قوله: "لا يقدح قولنا: إن زيدا دون عمرو في العلم أن تكون هوية الحق عين زيد وعمرو" ورغم ما في هذا الهراء من تلبيس زنديقي، فللعقل -أي عقل كان- أن يصرخ في وجه ابن عربي بالحق: ما زلت أيها الزنديق في حاجة -ولن تقضى لك والله هذه الحاجة أبدا- إلى إثبات أصل زندقتك، وهو أن هذه الموجودات هي تعينات أسماء الله. فقد بنيت هراءك المجوسي كله على هذا الأصل الذي يحسد بيت العنكبوت على قوته، وأقول: العقل وحده، إذ يستطيع كل امرئ يفهم آية واحدة من القرآن أن يحكم على ابن عربي بالزندقة الفاجرة. ولكن ماذا نفعل للكبار الكبار الذين يستظهرون ألف متن وحاشية، والمصحف حتى علائم الوقف فيه، يؤمنون بالزنديق، ويكفرون بآيات الله، ويقدسون فصوص الحكم، ويجحدون بالذكر الحكيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 من حيوان، ومن ثم إلا حيوان، إلا أنه بطن في الدنيا عن إدراك بعض الناس، وظهر في الآخرة لكل الناس، فإنها الدار الحيوان، وكذلك الدنيا، إلا أن حياتها مستورة عن بعض العباد، ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله بما يدركونه1 من حقائق العالم فمن عم إدراكه، كان الحق أظهر في الحكم ممن ليس له ذلك العموم، فلا تحجب بالتفاضل، وتقول: لا يصح كلام من يقول: إن الخلق هوية الحق، بعد ما أريتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشك أنت أنها [هي] الحق، ومدلولها المسمى بها وليس إلا الله2". الضال مهتد, والكافر مؤمن: ثم قال: "نحن على الصراط المستقيم الذي الرب عليه، لكون نواصينا في يده، وتستحيل مفارقتنا إياه، فنحن معه بالتضمين، وهو معنا بالتصريح، فإنه قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ونحن معه بكونه آخذا بنواصينا فهو تعالى مع نفسه حيثما مشى بنا من صراطه، فما أحد من العالم إلا على صراط مستقيم3" ثم قال في فص حكمة وجودية في كلمة داودية {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وإن اتفقا، فنحن نعلم أنهما لو اختلفا [تقديرا] لنفذ حكم أحدهما فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله، ومن هنا تعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم أنه حكم الله، وإن خالف الحكم المقرر في الظاهر المسمى: شرعا؛ إذ لا ينفذ حكم إلا الله في نفس الأمر، لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة4".   1 في الأصل: يذكرونه. 2ص 153 فصوص الحكم. 3ص 158 فصوص. 4ص 156 فصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 لن يعذب كافر عند الصوفية : ثم قال: "ولما كان الأمر [في نفسه] على ما قررناه، لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها، فعبر عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت كل شيء، وأنها سبقت الغضب الإلهي، والسابق متقدم، فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخر حكم عليه المتقدم، فنالته الرحمة، إذا لم يكن غيرها سبق، فهذا معنى سبقت رحمته غضبه، لتحكم على من وصل [27] إليها، فإنها في الغاية وقفت، والكل سالك إلى الغاية، فلا بد من الوصول إليها، فلا بد من الوصول إلى الرحمة، ومغادرة الغضب، فيكون الحكم لها في كل واصل إليها، بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها. فمن يك ذا فهم يشاهد ما قلنا ... وإن لم يكن فهم، فيأخذه عنا فما ثم إلا ما ذكرناه، فاعتمد ... عليه، وكن في الحال فيه كما كنا فمنه إليه ما تلونا عليكم ... ومنا إليكم ما وهبناكم منا1 وقال في فص حكمة نفسية في كلمة يونسية2: "وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ولكن في النار، إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب، أن تكون بردا وسلاما على من فيها، وهذا نعيمهم، فنعيم أهل النار -بعد استيفاء الحقوق- نعيم خليل الله حين ألقي في النار، فإنه عليه السلام تعذب برؤيتها، وبما تعود في علمه، وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان، وما علم مراد الله فيها، ومنها في حقه، فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصورة اللونية في حقه، وهي نار في عيون الناس، فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين. هكذا هو التجلي الإلهي3".   1 ص116 فصول. 2 في الأصل: يوسفية. 3 ص169 فصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وقال في فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية: "وقد ورد في العلم الإلهي النبوي اتصاف الحق بالرضا والغضب، وبالصفات، والرضا مزيل للغضب، والغضب مزيل للرضا عن المرضي عنه، والاعتدال: أن يتساوى الرضا والغضب، فما غضب الغاضب على من غضب عليه، وهو عنه راض, فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه، وهو ميل، وإنما قلنا هذا لأجل من يرى أن أهل النار، لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه، فمآلهم حكم الرضا من [الله] فصح المقصود، فإن كان -كما قلنا- مآل أهل النار إلى إزالة الآلام، وإن سكنوا النار، فذلك رضا، فزال الغضب لزوال الآلام، إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت. فمن غضب، فقد تأذى, فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلا ليجد الغاضب الراحة بذلك، فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه، والحق إذا أفردته عن العالم يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصفة على هذا الحد، وإذا كان الحق هوية العالم، فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه، وهو قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] حقيقة وكشفا1 {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} حجابا وسترا2، فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم3؛ لأنه على صورة   1يعني بالأمر: كل مظاهر الوجود وأحكامه، ويفتري بهذا البهتان على الله، فيزعم أن مظاهر الخلق هي مظاهر الحق، وأن ما نحكم به على مظاهر الوجود وصوره يجب أن نحكم به على الحق، إذ هو عين تلك المظاهر، فإذا قيل: إن فلانا يتألم من كذا، أو يلتذ به، فالمتألم عند الصوفية والملتذ عند الصوفية والملتذ هو الحق المتعين في فلان هذا وإذا قلنا: إن فلانا آثم غوي، كان هذا الحكم محكوما به في الحقيقة على رب الصوفية؛ لأنه هو عين هذا الآثم الغوي، هذا تفسيره لقوله سبحانه: {إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} ولذا عقبها بقوله: حقيقة وكشفا. 2 الأمر بالعبادة يستلزم إثبات معبود وعابد، ويصف ابن عربي الأمر بالعبادة بأنه ستر وحجاب، إذ ما ثم عابد ومعبود، فالعابد عين المعبود، ولذا عقب الآية بقوله: حجابا وسترا. 3 لأنه يدين بأن العالم هو الله وصفاته وأسماؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الرحمن أوجده الله تعالى، أي: ظهر وجوده تعالى بظهور العالم، كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية، فنحن صورته الظاهرة، وهويته روح هذه الصورة المدبرة لها، فما كان التدبير إلا فيه [كما لم يكن إلا منه] ، فهو: "الأول" بالمعنى، "والآخر" بالصورة، وهو "الظاهر" [28] بتغير الأحكام والأحوال "والباطن" بالتدبير "وهو بكل شيء عليم" فهو على كل شيء شهيد.1 الحق عندهم سار في عناصر الطبيعة : وقال في فص حكمة إبناسية في كلمة إلياسية: "وكان إلياس الذي هو إدريس، قد مثل له انفلاق الجبل2 [المسمى] لبنان عن فرس من نار، فلما [رآه] ركب عليه، فسقطت3 عنه الشهوة، فكان4 عقلا بلا شهوة، فلم يبق له تعلق بما تتعلق به الأغراض النفسية، فكان الحق فيه5 منزها، فكان على النصف من المعرفة بالله [فإن العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره كانت معرفته بالله] عن التنزيه6, لا على التشبيه، وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي كملت معرفته بالله، فنزه في موضع, وشبه في موضع، ورأى سريان الحق في الصور الطبيعية والعنصرية، وما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق عينها، وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله، وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها7". رد العراقي على وحدة الأديان قال الإمام زين الدين العراقي في جواب السؤال المذكور قبل: "بتوحيد   1 ص172 فصوص. 2, 3, 4, 5 في الأصل: جبل, سقطت, وكان, فيها. 6 الصوفية حرب على العقل، ويكفرون به كمصدر أو وسيلة من وسائل المعرفة، إذ يحكم على أوهامهم الذوقية بالتناقض, وأنها وليدة خرافة وأساطير. 7 ص181 فصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 إلياس عليه السلام بعثت الرسل كلها، لأن الملل كلها، وما جاءت به الرسل لم يختلفوا في التوحيد والإقرار به، وقد نزه الله تعالى نفسه عن الشبه بقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وليت شعري ما الفائدة لبعثة الرسل إذا كان من عبد شيئا من المخلوقات عابدا لله تعالى؟ وليت شعري ماذا يقول هذا القائل، في نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في نهيهم عن عبادة الأوثان وكسرها؟ هل يقول: كانوا بعبادتها مصيبين عابدين لله، وأنه ما حصل لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتساع، فأنكر عليهم، كما قال في حق هارون عليه السلام، ولا شك أن الرسل كلهم متفقون في التوحيد، وكأنه إنما سكت عن ذلك خيفة من السيوف المحمدية، فإن هذه المؤلفات التي كان يسرها إلى أصحابه، ويسرها أصحابه إلى أصحابهم، ولو كان حقا لأظهروه على رءوس الأشهاد" ا. هـ. الشرائع أوهام عند الصوفية : ثم قال ابن عربي: "فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانية، وبه جاءت الشرائع المنزلة، فشبهت ونزهت: شبهت في التنزيه بالوهم، ونزهت في التشبيه بالعقل، فارتبط الكل بالكل، فلم يمكن أن يخلو1 تنزيه عن تشبيه، ولا تشبيه عن تنزيه، قال الله تعالى: { [لَيْسَ] كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فنزه وشبه {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فشبه، وهي أعظم آية تنزيه نزلت، ومع ذلك لم تخل عن تشبيه بالكاف، فهو أعلم العلماء بنفسه، وما عبر عن نفسه إلا بما ذكرناه2. ليس لله وجود عند الصوفية : ثم قال في مثل ضربه للتشبيه في التنزيه، والتنزيه في التشبيه: "مثل من يرى الحق في النوم، ولا ينكر هذا، وأنه لا شك الحق عينه، فتتبعه لوازم تلك الصورة، وحقائقها التي تجلى فيها في النوم، ثم بعد ذلك يعبر3 -أي   1 في الأصل: يخلق. 2 ص181 فصوص. 3 في الأصل: تعبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 يجاز- عنها إلى أمر آخر، يقتضي التنزيه عقلا، فإن كان الذي يعبرها ذا كشف وإيمان، فلا يجوز عنها إلى تنزيه فقط، بل يعطيها [29] حقها1 في التنزيه، ومما ظهرت فيه، فالله على التحقيق عبارة2 لمن فهم الإشارة3". الداعي عين المجيب : ثم قال: "ومن ذلك قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قال الله: {إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] إذ لا يكون مجيبا إلا إذا كان من يدعوه4 وإن كان عين الداعي عين المجيب، فلا خلاف في اختلاف الصور، فهما صورتان بلا شك5، وتلك الصور كالأعضاء لزيد، فمعلوم أن زيدا حقيقة واحدة شخصية، وأن يده ليست صورة رجله، ولا رأسه ولا عينه، ولا حاجبه، فهو الكثير بالصور الواحد بالعين كالإنسان بالعين واحد بلا شك، ولا نشك أن عمرا ما هو زيد، ولا خالد، ولا جعفر، وأن أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا، فهو وإن كان واحدا بالعين، فهو كثير بالصور والأشخاص، وقد علمت قطعا -إن كنت مؤمنا- أن الحق عينه يتجلى يوم القيامة في صورة، فيعرف، ثم يتحول في صورة، فينكر، ثم يتحول عنها في صورة، فيعرف، وهو هو المتجلى ليس   1 في الأصل: من. 2 في الأصل: عبادة. 3 ص182 فصوص. 4 في الأصل: غيره بعد كلمة يدعوه. 5 الأمر بالدعاء يقتضي الاثنينية والغيرية، أعني يستلزم وجود داع ومجيب، لذ راح الزنديق يزعم أنها اثنينية وهمية، وغيرية صورية، فالداعي هو الله تعين في صورة من يدعو، والمجيب هو الله تعين في صورة من يجيب، فهما غيران في الصورة، واحد في الحقيقة. ولذا يقول: الداعي عين المجيب، وما إخال القارئ في حاجة إلى البيان عما في هذا من تخريف كافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 غيره في كل صورة. ومعلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى، فكأن العين الواحدة قامت مقام المرآة، فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقده في الله عرفه، وأقر به، وإذا اتفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره، كما يرى في المرآة عين صورته وصورة غيره، فالمرآة عين واحدة، والصور كثيرة في عين الرائي، وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة من كون المرآة لها أثر في الصور بوجه، وما لها أثر بوجه1". ثم قال: "فإن كوشف على أن الطبيعة عين نفس الرحمن، فقد أوتي خيرا كثيرا2". قلت: وإلى هذا أومأ ابن الفارض بقوله: ولا تحسبن الأمر عني خارجا ... فما ساد إلا داخل في عبودتي3 ولولاي لم يوجد وجود، ولم يكن ... شهود، ولم تعهد عهود بذمة وفي عالم التركيب في كل صورة ... ظهرت بمعنى عنه بالحسن زينتي وضربي لك الأمثال مني منة ... عليك بشأني مرة بعد مرة تأمل مقامات السروجي4 واعتبر ... بتلوينه، تحمل قبول مشورتي وتدر5 التباس النفس بالحس باطنا ... بمظهرها في كل شكل وصورة وشاهد إذا استجليت نفسك ما ترى ... بغير مراء في المرائي6 الصقيلة7   1 ص184 فصوص. 2 ص187 فصوص 3 في الأصل: عبوتي. 4 اسم الشخص الذي بنى عليه الحريري مقاماته. 5 في الأصل: تدري. 6 في الأصل: المرآة. 7 يرد الشيخ الجليل ابن تيمية على هذا المثل الذي يمثل به ابن الفارض = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أغيرك فيها لاح، أم أنت ناظر ... إليك بها عند انعكاس1 الأشعة؟ وأصغ لرجع الصوت عند انقطاعه ... إليك بأكناف القصور المشيدة أهل كان من ناجاك ثم سواك، أم ... سمعت خطابا عن صداك المصوت وقل لي: من ألقى إليك علومه ... وقد ركدت منك الحواس بغفلة وما كنت تدري قبل يومك ما جرى ... بأمسك، أو ما سوف يجري بغدوة فأصبحت ذا علم بأخبار من مضى ... [30] وأسرار من يأتي مدلا بخبرة أتحسب من جاراك في سنة الكرى ... سواك بأنواع العلوم الجليلة وما هي إلا النفس عند اشتغالها ... بعالمها عن مظهر البشرية تجلت لها2 بالغيب في شكل عالم ... هداها إلى فهم المعاني الغريبة ولا تك ممن طيشته دروسه ... بحيث استقلت عقله واستفزت فثم وراء النقل علم يدق عن ... مدارك غايات العقول السليمة3   = الوحدة بين الحق والخلق، فيقول: "فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة، فالمرآة خارجة عن نفسه، فرأى نفسه، وأمثال نفسه في غيره، والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى، فليس هناك مظهر مخالف للظاهر، ولا مرآة مغايرة للرائي, وهم يقولون: إن الكون مظاهر الحق، فإن قالوا: المظاهر غير الظاهر لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا: المظاهر هي الظاهر، لم يكن قد ظهر شيء في شيء، ولا تجلى شيء في شيء، ولا ظهر شيء لشيء، وكان قوله: "يعني ابن الفارض" "ومشاهد إذا استجليت.. إلخ" كلاما متناقضا، لأن هنا مخاطبا، ومخاطبا، ومرآة تستجلى فيها الذات، فهذه ثلاثة أعيان، فإن كان الوجود واحدا بالعين، بطل هذا الكلام، وكل كلمة يقولونها تنقض من أصلهم" ص87 جـ1 مجموعة الرسائل والمسائل. 1 في الأصل: الانعكاس. 2 في الأصل: لهم. 3 يقصد بالنقل نصوص الشرائع السماوية، والوصفية لا يبغضون شيئا في الحياة بغضهم لما أحوى به الله سبحانه إلى رسله، وإذا استشهد صوفي بآية أفسد = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 تلقيته مني، وعني أخذته ... ونفسي كانت من عطائي ممدتي ولا تك باللاهي عن اللهو جملة ... فهزل الملاهي جد نفس مجدة الحق عين كل معلوم عند الصوفية : ثم قال1 في فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية؛ بعد أن ذكر أن من حكمته الملفوظة، أنها إن تك مثال حبة من خردل الآية ... وأن من حكمته المسكوبة2 عموم المؤتى إليه؛ لأنه لم يقل: يأتي بها الله إليك، أو إلى غيرك، قال: "فنبه لقمان بما تكلم به، وبما سكت عنه أن الحق عين كل معلوم، لأن المعلوم أعم [من الشيء3] فهو أنكر النكرات، ثم تمم الحكمة، واستوفاها؛   = معناها أساطير زندقته، وإذا استشهد بحديث فثق بأنه موضوع، وضعته الصوفية منذ خلعت عنها اسم المجوسية، وتسمت بهذا الاسم الخلوب المكر والخديعة لتنفث سمومها الفتاكة، وتعيث بزندقتها في عقائد المسلمين فسادا، ولذا يقول ابن الفارض: لا تركن إلى الكتاب والسنة، فليس فيهما أثارة من الحق، ولا لمع من الهداية، ولا إشراق من الحقيقة، وتعال إلي أعلمك علما دقيقا جليلا يهيمن على الهدى والحق!! وأقول إذا كان علم ابن الفارض يدق عن مدارك العقول المشرقة، فمن للدراويش من للذي هم ليسوا بأقطاب؟ ثم أليس أولئك الذين لا يعلمون علمه، هم الله في عرف زندقته؟ أليس هذا معناه أن له علما يدق حتى عن الله سبحانه؟ ومعناه أن زندقته أبر بالحق والهدى من شرائع الله سبحانه. 1 أي: ابن عربي. 2 لعلها: المسكوت عنها، فابن عربي يقول في هذا الفصل: "والحكمة قد تكون متلفظا بها، ومسكوتا عنها". 3 يقول أبو البقاء في كلياته: "الشيء هو لغة: ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فيشمل الموجود والمعدوم ممكنا، أو محالا، واصطلاحا: خاص بالموجود -خارجيا كان أو ذهنيا- والشيء أعم العام، ويقع على الواجب والممكن والممتنع. نص على = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 لتكون النشأة كاملة فيها، فقال: "إن الله لطيف" فمن لطافته ولطفه، أنه في الشيء المسمى كذا المحدود بكذا، عين ذلك الشيء، حتى لا يقال فيه إلا ما يدل عليه اسمه بالتواطؤ1 والاصطلاح، فيقال: هذا سماء, وأرض, وصخرة، وشجرة، وحيوان، وملك، ورزق، وطعام، والعين واحدة2 من كل شيء.   = ذلك سيبويه، حيث قال في كتابه: الشيء يقع على كل ما أخبر عنه، ومن جعل الشيء مرادفا للموجود، حصر الماهية بالموجود، ومن جعله أعم عمم الموجود والمعدوم". ولكن ابن عربي يفسر الشيء بأنه المتحقق بالفعل، وعلى هذا, فالمعلوم أعم منه، إذ المعلوم عنده يتناول الموجودات: عينية، أو علمية ممكنة، أو ممتنعة، وابن عربي يزعم أن الحق عين كل معلوم، وهذا معناه أن إلهه عين الممكن، وعين الممتنع، عين الوجود الخارجي، وعين الوجود الذهني، عين الوهم، وعين الحقيقة عين الباطل وعين الحق، عين الغي والضلال, وعين الرشد والهدى، عين العدم والفناء، وعين الوجود والبقاء, هذا هو إله الصوفية الأعظم. 1 المتواطئ هو الكلي إن استوت أفراده فيه، كالإنسان بالنسبة إلى أفراده فالإنسانية في محمد مثلا عينها في بكر، عينها في خالد، عينها في كل فرد، فهو يطلق على كل فرد فرد بمعنى واحد لا يزيد، ولا ينقص في فرد عنه في فرد آخر. وكذلك اسم الله سبحانه -هكذا يفتري الزنديق الآثم ابن عربي- يقال على كل معلوم بالتواطؤ. يقال على الممكن والممتنع، على الموجود والمعدوم، على الوجود الذهني، وعلى الوجود الخارجي، على الإنسان والحيوان والجماد، والميكروبات والرمم!! هذا دين من لا يزال بعض كبار الشيوخ يتخذونه لهم قدوة وإماما، ويثورون ثورة الدنس والرذيلة على الطهر والفضيلة، إذا شاء كاتب أن يصفع باطله بيد الحق القاهرة القوية. 2 يزعم أن السماء عين الأرض، وأن الصخرة عين الشجرة، وأن الجماد عين الحيوان، يؤمن بأن كل شيء من هذه الأشياء عين الآخر، ويؤمن بأن الله سبحانه عين كل شيء، فسمه بأي اسم شئت من أسماء هذه الأشياء، فلن تعدو الحق عند الزنديق، سمه أرضا، أو صخرة، أو شجرة، أو حيوانا، أو جمادا, أو حشرة، فالكل عينه؛ وهيوتها هويته، وماهيتها ماهيته، ووجودها عين وجوده، وأسماؤها أسماؤه!! أرأيت أية مادية صماء يوغل ابن عربي في الإيمان بها إذ يرى ربه صخرا وجمادا. فأين هي الروحانية في التصوف يا أحلاس المجوسية، ويا عبدة الخنازير؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وفيه كما تقول الأشاعرة1: أن العالم كله متماثل بالجوهر، فهو جوهر واحد2 فهو عين قولنا: [العين واحدة] ثم قالت: ويختلف بالأعراض، وهو عين قولنا   1 مدرسة كلامية ابتدعت مذهبا كلاميا ملفقا, فهو أمشاج من الاعتزال. والسلفية، والجبرية والفلسفة اليونانية القديمة قبل سقراط، زعيمها: أبو الحسن الأشعري المتوفى سنة 330هـ وأشهر زعمائها بعده الباقلاني والجويني، والغزالي. راجع ما كتبته عن هذه المدرسة في كتابي دعوة الحق. 2 قال السعد في المقاصد: "أثبت المتكلمون أن أجزاء الجسم هي الجواهر الفردة، وأنها متماثلة لا يتصور فيها اختلاف، ليثبتوا أن الأجسام متحدة بالحقيقة، وإنما الاختلاف بالعرض، وهذا أصل ينبني عليه كثير من قواعد الإسلام "تأمل" كإثبات القادر المختار، وكثير من أحوال النبوة والمعاد" ص318 جـ1. وعلى الرغم مما هول به الأشاعرة حول أسطورة الجوهر الفرد التي استمدوها من الفلسفة اليونانية القديمة، وبخاصة من ديمقريط، فإن قولهم لا ينتسب إلى الصوفية في الوحدة برحم، فالأشاعرة يقولون بتماثل الجواهر الفردة في الأجسام. أما الصوفية فيدينون، لا بالتماثل، بل بالوحدة التامة بين الحق والخلق، ثم إن الأشاعرة يدينون بوجودين: وجود الله، ووجود العالم، الأول قديم، والثاني حادث، أما الصوفية فيدينون بوجود واحد تردد بين الإطلاق والتقييد، وجود يجمع الخالق بالخلق في وحدة تامة، الأشاعرة يؤمنون بأن الله هو الخالق، وأن العالم هو المخلوق، أما الصوفية، فيكفرون بأن الله خالق، إذ الحق والخلق عندهم حقيقة واحدة، وإليك ما يرد به العلامة المقبلي على ما نسبه ابن عربي إلى الأشاعرة هنا، وهو قولهم بوحدة الجوهر: "وقد غالط في كلامه هذا أو غلط، وذلك بقوله: فهو جوهر واحد فإنه ليس من كلام الأشاعرة، ولا غيرهم من المتكلمين، ألا ترى إلى قولهم: متماثل؟ وهو -أي: ابن عربي- قد أحال التماثل وأحال الشركة لاتحاد العين" العلم الشامخ ص437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ويختلف، ويتكثر بالصور والنسب حتى يتميز, فيقال: هذا ليس هذا من حيث صورته، أو عرضه، أو مزاجه كيف شئت، فقل: وهذا عين هذا من حيث جوهره، ولهذا تؤخذ عين الجوهر في حد كل صورة، أو مزاج، فنقول نحن: إنه ليس سوى الحق، ويظن المتكلم1 أن مسمى الجوهر الفرد -وإن كان حقا- ما هو عين الحق الذي يطلقه أهل الكشف والتجلي فهذا حكمة كونه: لطيفا2، ثم نعت، فقال: خبيرا، أي: عالما عن اختبار3، وهو قوله: ولنبلونكم حتى نعلم، وهذا هو علم الأذواق، فجعل الحق نفسه -مع عمله بما هو الآمر عليه- مستفيدا علما، ولا نقدر4 على إنكار ما نص الحق عليه [في حق نفسه] ، ففرق تعالى بين علم الذوق والعلم المطلق، فعلم الذوق مقيد بالقوى وقد قال عن نفسه: إنه عين قوى عبده في قوله: كنت سمعه. وهو قوة من قوى العبد. وبصره, وهو قوة من قوى العبد ولسانه، وهو عضو من أعضاء العبد، ورجله، ويده، فما اقتصر في التعريف على القوى فحسب، حتى ذكر الأعضاء، وليس العبد بغير لهذه5 الأعضاء والقوى، فعين مسمى العبد هو الحق، لا عين العبد هو السيد6، فإن النسب متميزة لذاتها7 وليس المنسوب إليه متميزا [31] فإنه ليس ثم سوى عينه في جميع النسب، فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات، فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في8   1 يقصد القائلين بالجوهر الفرد من الأشاعرة. 2 يعني اسم الله سبحانه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34] . 3 ينسب العلم الاختباري إلى الله، بيد أنه يفسره بأنه العلم الذوقي، وهذا عنده مقيد بالقوى التي تفيده وصادر عنها، والزنديق يفتري أن الله سبحانه عين قوى العبد وأعضائه، وعلى العبد مستمد من هذه القوى والأعضاء فعلم الحق عنده هو ما يعلمه العبد عن طريق قواه وأعضائه، إذ ليس الحق شيئا سوى هذا العبد!! 4, 5, 6, 7, 8 في الأصل: يقدر, غير هذه, اليد, لذواتها, من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 هذه الآية من1 هذين الاسمين الإلهيين2". وقال في فص حكمة إمامية في كلمة هارونية: "اعلم أن وجود هارون كان من حضرة الرحموت3" ثم ذكر غضب موسى عليه السلام، وأخذه بلحيته، ثم قال: "وسبب ذلك عدم التثبت في النظر فيما كان في يديه من الألواح، التي ألقاها من يده، فلو نظر فيها نظرة تثبت لوجد فيها الهدى والرحمة، فالهدى بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه مما [هو] هارون بريء منه، والرحمة بأخيه4، فكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره، وأنه أسن منه5". تمجيد الصوفية لعبادة العجل : ثم قال: "وكان موسى عليه السلام أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى ألا نعبد إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون؛ لما وقع [الأمر] في5 إنكاره وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء6".   1 في الأصل: في. 2 ص189 فصوص. 3 ص191 فصوص. 4 في الأصل: لأخيه. 5 ص191 فصوص. 5 في الأصل: من. 6 ص192 فصوص، وقد خشي الزنديق من تعبيره الأول: "في كل شيء" أن يتهم بأنه حلولي، لإفادة في معنى الظرفية، أو أن يظن أحد في كلامه مجازا تقديره: يرى أثر قدرة الله في كل شيء. خشي هذا وذاك فعقبه بنص قاطع الدلالة على معتقده إذ قال: بل يراه عين كل شيء، ليؤكد لك إيمانه بوحدة الوجود المادية والروحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 بعض ما كفر به العراقي ابن عربي : قال الشيخ زين الدين العراقي في جواب السؤال المذكور: "هذا الكلام كفر من قائله من وجوه: أحدها: أنه نسب موسى عليه السلام إلى رضاه بعبادة قومه للعجل. الثاني: استدلاله بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] على أنه قدر1 أن لا يعبد إلا هو، وأن عابد الصنم عابد له، الثالث: أن موسى   1 يفسر الزنديق قضى بقدر وحكم، ثم يستطرد فيقول: وكل ما قدره الله، أو حكم به فلا بد من وقوعه، ومما وقع عبادة العجل وعبادة الصنم، والنار والكواكب وغيرها، وهذا دليل على أن عبادة هذه الأشياء حكم إلهي قدره الله فوقع، ولما كان الله سبحانه لا يمكن أن يحكم بعبادة غيره، بدليل: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} كان هذا دليلا على أن تلك المعبودات ليست شيئا غير الله سبحانه، بل هي عينه، وعلى أن عابديها لم يعبدوا إلا الله، هذا ما يهدف إليه ابن عربي من تفسيره لقضى: بقدر وحكم، وإليك ما يرد به الشيخ الجليل ابن تيمية على تلبيس ابن عربي وبهتانه هذا: "احتج الملحدون بقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} قالوا: وما قضى الله شيئا إلا وقع، وهذا هو الإلحاد فى آيات الله وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على الله، فإن قضى هنا ليست بمعنى القدر والتكوين بإجماع المسلمين، بل وبإجماع العقلاء، حتى يقال: ما قدر الله شيئا إلا وقع، وإنما هي بمعنى: أمر. وما أمر الله به، فقد يكون، وقد لا يكون، فتدبر هذا التحريف، وكذلك قوله: ما حكم الله بشيء إلا وقع كلام مجمل، فإن الحكم يكون بمعنى الأمر الديني، وهو الأحكام الشرعية، كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} الآية. وكقوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} ويكون الحكم حكما بالحق والتكوين والعقل، كقوله: {لَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لي} وقوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} ولهذا كان بعض السلف يقرءون "ووصى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه" وذكروا أنها كذلك في بعض المصاحف، ولهذا قال في سياق الكلام: وبالوالدين إحسانا، وساق أمره = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عليه السلام عتب على أخيه هارون عليهما السلام إنكاره لما وقع، وهذا كذب على موسى عليه السلام, وتكذيب لله فيما أخبر به عن موسى من غضبه لعبادتهم العجل، الرابع: أن العارف يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، لجعل العجل عين الإله المعبود، فليعجب السامع لمثل هذه الجرأة التي تصدر ممن في قلبه مثال ذرة من إيمان". آيات تشهد بكفر ابن عربي : ثم ساق من الآيات1 التي كذب بها في هذه المقالة2 قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه: 92، 93] وقوله: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف: 150] وقوله: { [وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا] اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ3} [الأعراف: 148] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152] . وقوله:   ووصاياه إلى أن قال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} فختم الكلام بمثل ما فتحه به من أمره بالتوحيد ونهيه عن الشرك، ليس هو إخبارا أنه ما عبد أحدا إلا الله، وأن الله قدر ذلك وكونه، وكيف، وقد قال: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} وعندهم ليس في الوجود شيء يجعل إلها آخر" فأي شيء عبد فهو نفس الإله ليس آخر غيره" ص88 جـ4 مجموعة الرسائل والمسائل. 1 أي: العراقي. 2 يقصد ما نسبه ابن عربي إلى موسى عليه السلام من الرضا بعبادة العجل، ونسبته الجهل إلى هارون باستنكاره لعبادة العجل، وتصحيحه لعبادة العجل، وزعمه أنها عبادة الله، إذ العجل ليس شيء غير الإله المعبود. 3 استشهد العراقي بالآية مبتورة، فذكرتها بتمامها لأنها نص في الحكم، ووضعت ما لم يستشهد به العراقي بين هذين [] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149] . شرك الصوفية أخبث الشرك : ثم قال1: فجاء هذا المخالف لله، ولرسوله ولجميع المؤمنين، فصوب فعلهم، وصرح بأنهم من العارفين بقوله: إن العارف من يرى الحق في كل شيء, بل يراه عين كل شيء، ولا شك أن شرك قائل هذا أشد من شرك اليهود والنصارى فإن أولئك عبدوا عبدا من عباد الله المقربين، وهذا يرى أن عبادة العجل والصنم عين عبادة الله، بل يؤدي كلامه إلى أن يرى الحق عين الكلب والخنزير، وعين العذرة، وقد أخبرني بعد الصادقين من فضلاء أهل [32] العلم أنه رأى شخصا ممن ينتحل هذه المقالة القبيحة بثغر الإسكندرية، وأن ذلك الشخص قال له: إن الله تعالى هو عين كل شيء، فمر بهما حمار، فقال2: وهذا الحمار؟ فقال3: وهذا الحمار؛ فروث الحمار من دبره، فقال4: له: وهذا الروث؟ فقال5: وهذا الروث، فنسأل الله السلامة والتوفيق6.   1 أي: العراقي. 2, 4 يعني العالم الفاضل. 3، 5 أي: الصوفي. 6 ذكر الإمام ابن تيمية الصدوق مثل هذه القصة، فقال: "مر شيخان منهم التلمساني والشيرازي على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال الشيرازي للتلمساني: هذا "يشير إلى جثة الكلب الميت الأجرب" أيضا هو ذات الله؟ فقال: وله ثم شيء خارج عنها؟ نعم، الجميع ذاته" جـ1 ص145، مجموعة الرسائل الكبرى, ص105 مجموعة الرسائل والمسائل، وليس هذا بمستغرب ممن يدينون بأن الله سبحانه عين كل شيء. فالروث شيء، والجيفة المنتنة شيء، والخنزير شيء، والبغي الهلوك شيء، والأحمق المأفون شيء، وحسب الصوفية أن تكون هذه بعض أربابهم وآلهتهم!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 تعليلهم لإنكار موسى على السامري : قال ابن عربي: وكان موسى يربي هارون عليهما السلام تربية علم، وإن كان أصغر منه في السن، ولذلك لما قال له هارون ما قال، رجع إلى السامري، فقال له: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه: 95] يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص، وصنعك هذا الشبح من حلي القوم، حتى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم1، وليس للصور بقاء، فلا بد من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه، فغلبت عليه الغيرة، فحرقه، ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم [نسفا] ، وقال له: انظر إلى إلهك، فسماه2. إلها بطريق التنبيه، للتعليم؛ لما علم أنه3 بعض المجالي الإلهية "لأحرقنه" فإن حيوانية الإنسان لها التصرف من حيوانية الحيوان، لكون الله سخرها للإنسان، ولا سيما وأصله ليس من حيوان، فكان أعظم في التسخير4".   1 يريد الزنديق بهذا تصويب عبادة العجل، فيزعم أن السامري لم يخطئ إلا في أنه فهم أن الذات الإلهية تعينت في العجل وحده، فدعا قومه إلى عبادته لهذا، على حين أن كل شيء -لا العجل وحده- هو الله, فلو أن السامري كان عارفا مكملا لأمر قومه بعبادة كل شيء مع عبادة العجل!! بيد أن السامري عند ابن عربي أعرف بالحقيقة من هارون، إذ علم -وهارون جهل- أن العجل إله حق يجب أن يعبد, لأنه مجلى إلهي! ثم يفسر الزنديق قول موسى للسامري: ما خطبك يا سامري. بما بيانه: لم دعوت قومي يا سامري إلى عبادة العجل وحده وأنت تعلم أنه ليس وحده كل تعينات الذات، بل واحدا منها، وتعلم أن كل شيء هو الله؟ لِم لم تدعهم يا سامري إلى الحق، فيعبدوا كل شيء، لا العجل وحده؟ هذا هو دين الزنديق يا شيوخ الطرق!! 2، 3 الضمير فيهما راجع إلى عجل السامري. 4 ص192 فصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ثم قرر1 أمر التسخير، وأن منه ما هو بالمال، ومنه ما هو بالحال، وأن ما هو بالحال مثل تسخير الطفل لأبيه بالقيام في مصالحه، وتسخير الرعايا للملك بقيامه في مصالحهم, قال. "وهذا كله تسخير بالحال من الرعايا يسخرون [في ذلك] مليكهم، ويسمى على الحقيقة تسخير المرتبة، فالمرتبة حكمت عليه بذلك، فالعالم كله يسخر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه اسم مسخر. قال الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ [فِي] شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل، كما سلط موسى [عليه] حكمة من الله ظاهرة في الوجود؛ ليعيد في كل صورة2، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك، فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد، إما عبادة تأله، وإما عبادة تسخير، فلا بد من ذلك لمن عقل، وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد، والظهور بالدرجة في قلبه، ولذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات، ولم يقل: رفيع الدرجة، فكثر الدرجات في عين واحدة، فإنه قضى، أن لا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة، أعطت كل درجة مجلى إلهيا عبد فيها. الهوى رب الصوفية الأعظم : وأعظم مجلى عبد فيه, وأعلاه الهوى، كما قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] وهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا بالله، ولا يعبد هو إلا بذاته3" ثم قال: "والعارف المكمل من رأي كل معبود مجلى للحق يعبد   1 أي: ابن عربي. 2 يفتري على الله أنه يسخر الناس ليعبدوه في كل صورة، أي: ليعبد كل إنسان نفسه وغيره من جماد وحيوان فإله الصوفية عين كل كائن، وعين كل شهوة وعين كل جريمة. وعين كل فاحشة. 3 ص194 فصوص، وبهذا يوقن القارئ، أننا لم نتجن على الصوفية، فيما ذكرناه عنهم، فها هو شيخهم الأكبر يدعوهم في تلظي شهواته الفواجر، إلى عبادة الهوى، ويؤكد لهم أنه الرب الأعظم الذي اقترفه لهم هواء الصوفي، وهل الهوى العصوف سوى الشهوات العرابيد، والفسوق الغوي، والفواحش العرابيد، والفسوق الغوي، والفواحش والنزوات؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فيه، ولذلك سموه كلهم: إلها مع اسمه الخاص بحجر، أو شجر، أو حيوان، أو إنسان، أو ملك، أو كوكب1. وحدة الأديان عند ابن الفارض : قلت: وإلى هذا [33] أشار ابن الفارض بقوله: فبي مجلس الأذكار سمع مطالع ... ولي حانة الخمار عين طليعة2 وما عقد الزنار3 حكما سوى يدي ... وإن حل بالإقرار بي، فهي حلت وإن نار بالتنزيل محراب مسجد ... فما بار بالإنجيل هيكل بيعة وأسفار توراة الكليم لقومه ... يناجي بها الأحبار في كل ليلة وإن خر للأحجار في البد عاكف ... فلا تعد بالإنكار بالعصبية فما زاغت الأبصار من 4 كل ملة ... وما زاغت الأفكار من 5كل نحلة وما احتار من للشمس عن غرة صبا6 ... وإشراقها من نور إسفار غرني وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار في7 ألف حجة   1 ص195 فصوص. وهذا نص صريح على دين الزنديق في وحدة الوجود ووحدة الأديان. 2، 4، 5 في الأصل: طليعتي, في, في. 3 ما على وسط النصارى والمجوس "القاموس". 6 مال. 7 في الأصل: من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فما عبدوا غيري1، وإن كان قصدهم. ... سواي وإن لم يعقدوا عقد نيتي رأوا ضوء ناري مرة، فتوهمو ... هـ نارا, فضلوا في الهدى بالأشعة الإله الصوفي مجلى صور العالم : وقال 2 في فص حكمة علوية في كلمة موسوية: "وجود الحق كانت الكثرة له، وتعداد الأسماء أنه كذا، وكذا بما ظهر عنه من العالم الذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهية، فثبت3 به وبخالقه4 أحدية الكثرة، وقد كان أحدي العين من حيث ذاته، كالجوهر الهيولاني5، أحدي العين من حيث ذاته كثير بالصور الظاهرة فيه التي هو حامل لها بذاته، كذلك الحق بما ظهر منه من صور التجلي، فكان مجلى صور العالم مع الأحدية المعقولة6". حكم ابن عربي بإيمان فرعون ونجاته : ثم ذكر أخذ فرعون لتابوت موسى عليه السلام، وأنه أراد قتله، وأن امرأته رضي الله عنها قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فبه قرت عينها بالكمال الذي   1 يحكم سلطان الزنادقة بأن أولئك جميعا, وهو المجوس، والوثنيون، واليهود، والنصارى مؤمنون موحدون، لم يعبدوا غير الله، إذ كل ما -أو من- عبدوه ليس شيئا غير الله. 2 أي: ابن عربي. 3، 4 في الأصل: فثبتت, ويخالفه. 5 الجوهر الفرد، أو الذرة، أو الجزء الذي لا يتجزأ. 6 ص200 فصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 حصل لها، كما قلنا1، قال: "وكان قرة عين لفرعون2 بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهرا مطهرا، ليس فيه شيء من الخبث؛ لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام، والإسلام يجب ما قبله، وجعله آية على عنايته سبحانه وتعالى بمن شاء، حتى لا ييأس أحد من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون3.   1 في الأصل: كما شهد لها به رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وهو كما أثبته في الفصوص. 2 بهاشم الأصل ورد ما يأتي: "وفي التنزيل قالت امرأة فرعون {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} إلا ولي "كذا" سمعه فرعون، قال: قرة عين لك، وأمالي، فلا. وفي الحديث: "والذي يحلف به لو أقر فرعون بأنه يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله عز وجل به، كما هداها ولكن الله سبحانه حرمه ذلك" كذا في بعض التفاسير". وأقول: الذي في تفسير ابن كثير: "فأتت -أي: امرأة فرعون- فقالت: قرة عين لي ولك، فقال فرعون: يكون لك، فأما لي، فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والذي يحلف به، لو أقر فرعون، أن يكون له قرة عين كما أقرت لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك" ثم قال ابن كثير: "وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار، أو غيره" ويا ويل المسلمين من كعب الأحبار، والكعوب الكثيرين من أمثاله اليوم!! 3 ص201 فصوص. وقد جاء بهامش الأصل "أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لما أغرق الفرعوني قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. قال جبريل: يا محمد، فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة" أقول: الحديث رواه كذلك أحمد عن ابن عباس، ونصه: قال رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لما قال فرعون: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. قال: قال لي جبريل: لو رأيتني، وقد أخذت عن حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 رد هذه الفرية : هذا نصه بحروفه مع العلم الضروري لكل من شم رائحة العلم من المسلمين وغيرهم أن فرعون ما نطق بالإيمان إلا عند رؤية البأس، وتصريح الله تعالى في غير آية من كتابه العزيز بأنه لا ينفع أحدا إيمانه عند ذلك1، وأن ذلك سنة الله التي قد خلت، ولن تجد لسنة الله تحويلا، وقوله في دعاء موسى عليه السلام {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] مع قوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وقوله تعالى منكرا عليه2: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون: 48] وقوله تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] , {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43] المنتج3 قطعا أن فرعون من أصحاب النار. وأما السنة، فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر الصلاة يوما, فقال: "من حافظ عليها كانت   = تناله الرحمة" ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حماد بن سلمة، وقال الترمذي: حديث حسن، وانظر ابن كثير في تفسير الآية. 1 ورد بهامش الأصل ما يأتي: "وفي ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} .. [الأنعام: 158] والآية في هامش الأصل مبتورة الكلمات. 2 أي: على فرعون إيمانه حين أدركه الغرق. 3 فاعل المنتج ضمير يعود على محذوف تقديره: القياس، فالمؤلف طوى في كلامه قياسا منطقيا من الشكل الأول صورته: فرعون مسرف، كل مسرف من أصحاب النار، وهذا ينتج قطعا: فرعون من أصحاب النار، دليل القضية الصغرى قوله تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] ودليل الكبرى {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة, ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور، ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان، وقارون، وأبي بن خلف" قال الحافظ المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد والطبراني في الكبير والأوسط، وابن ماجه في صحيحه، وقال الإمام أبو العباس ابن تيمية في الفتوى التي أجاب فيها الشيخ سيف الدين بن عبد المطلب بن بليان السعودي: "ويكفيك معرف بكفرهم -يعني ابن عربي وأتباعه- أن أخف أقوالهم: أن فرعون مات مؤمنا، وقد علم بالاضطرار عن دين أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أن فرعون من أكفر الخلق بالله. سؤال فرعون وجواب موسى : ثم قال ابن عربي: "وهنا سر كبير فإنه -أي: موسى عليه السلام أجاب بالفعل لمن سألوه عن الحد الذاتي1- أي بقوله: وما رب العالمين، فجعل الحد   1 الحد الذاتي هو أتم أقسام التعريف، إذ يتركب من الذاتيات المشتركة، والذاتيات الخاصة، أو كما يعبر المناطقة: من الجنس والفصل القريبين، وبهذا الحد تعرف ماهية الشيء وحقيقته، كما إذا أردنا تعريف المربع، فإنا نقول: هو شكل رباعي أضلاعه متساوية، وزواياه قائمة. وابن عربي في حديثه عن المحاورة بين موسى عليه السلام، وبين فرعون، يقول: إن فرعون سأل موسى عن الحد الذاتي لله، أي: عن حقيقته وماهيته. وهذا صحيح. فالسؤال بـ"ما" سؤال عن الماهية. بيد أن ابن عربي -وقد ذكر طرفا من حق- بنى عليه باطلا، بما نسبه زورا إلى موسى في جوابه عن سؤال فرعون، وقبل أن نبين هذا الذي بهت به الزنديق نبي الله، نعرض عليك ما فسر به الزمخشري سؤال فرعون وجواب موسى، فقد أجاد الزمخشري القول في نباغة من الفهم: "وهذا السؤال: يعني سؤال فرعون لموسى بقوله: ما رب العالمين. لا يخلو: إما أن يريد به: أي شيء هو من الأشياء التي شوهدت، وعرفت أجناسها؟ فأجاب -أي: موسى- بما يستدل به عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس بشيء مما شوهد وعرف من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم، أو ما ظهر فيه من صور العالم، فكأنه قال في جواب قوله: وما رب العالمين. قال: الذي تظهر فيه صورة   = الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، ليس كمثله شيء، وأما أن يريد به -أي: بسؤاله- أي شيء هو على الإطلاق؟ تفتيشا عن حقيقته الخاصة ما هي؟ فأجاب بأن الذي إليه سبيل -وهو الكافي في معرفته- معرفة ثباته بصفاته، استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك، وأما التفتيش عن حقيقته الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق، والذي يليق بحال فرعون، ويدل عليه الكلام أن يكون سؤاله هذا إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه، لادعائه الإلهية، فلما أجاب موسى بما أجاب عجب قومه من جوابه، حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقريره، جننه إلى قومه، وطنز به "أي: سخر واحتدم غيظا" حيث سماه: رسولهم، فلما ثلث بتقرير آخر، احتد واحتدم، وقال: لئن اتخذت إلها غيري. وهذا يدل على صحة هذا الوجه الأخير" انتهى من الكشاف للزمخشري. غير أن الزنديق ابن عربي يفسر جواب موسى عليه السلام بما يتفق وهوى ذندقته، وأسطورة الوحدة، إذ يزعم أن جواب موسى على سؤال فرعون: ما رب العالمين؟ هو: الذي تظهر فيه صورة العالمين، من علو -وهو السماء-وسفل -وهو الأرض- ثم يقول بعد: فلما جعل موسى المسئول عنه عين صور العالم، فتأمل كيف يفهم الزنديق، وكيف يجعل الحق باطلا هذا العربيد الخبل!! أية صلة بين ما نسبه إفكا وبهتانا وزورا إلى موسى عليه السلام، وبين ما أجاب به موسى من إشراق الحق والإيمان والتوحيد؟ وهو قوله: رب السموات والأرض، وما بينهما، وقوله: ربكم ورب أبائكم الأولين، وقوله: رب المشرق والمغرب وما بينهما. يجيب موسى بأن الله وحده رب كل شيء, فيفتري الزنديق على موسى بأنه أجاب: إن الله عين كل شيء، وهكذا يفهم الصوفية -سلفا وخلفا- كتاب الله، وبمثل هذا الأفق المجوسي يفسرون آيات الله، ومع هذا ما زلت تجد الأحبار مهطعين أذلاء لأبالسة التصوف، بل تجد قوما منهم يفخرون بأنهم أخذوا العهد على الأحداث من مخابيل المتصوفة المأفونين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 العالمين من علو -وهو السماء- وسفل -وهو الأرض- إن كنتم موقنين1 فرعون عند الصوفية رب موسى وسيده : ثم قال: "فلما جعل موسى المسئول عنه عين [صور] العالم2 خاطبه فرعون بهذا اللسان -والقوم لا يشعرون- فقال [له] : {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] والسين في السجن من حروف الزوائد3" أي: لأسترنك، فإنك أجبت بما أيدتني به، أن أقول لك مثل هذا القول. فإن قلت لي: فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي -والعين واحدة- فكيف فرقت؟ فيقول فرعون: إنما فرقت المراتب العين4. ما تفرقت [العين] ، ولا انقسمت في ذاتها, ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل، وأنا أنت بالعين، وغيرك بالرتبة5", ثم قال: "ولما كان فرعون في منصب التحكم   1 ص208 فصوص الحكم. 2 من أين جاء الزنديق بهذا البهتان؟ وجواب موسى مبدوء في كل مرة بتقرير ربوبية الله وحده!! ولكنها الجرأة الوقاح التي لا تحفل بدين ولا لغة ولا عقل، ولا عرف عام أو خاص. 3 بل السين في هذه الكلمة حرف أصلي، مثلها في ستر، وسبح, وسبك ولكن ابن عربي -وقد افترى على الله الكذب كله- لا يعجزه أن يفتري على اللغة. 4 في الأصل: العين بالضم على اعتبار أنها فاعل فرقت. وهو خطأ صوبته من الفصوص. ويزعم الزنديق أن موسى قال لفرعون: كيف تتوعدني، وأنت تعلم أن ذاتي هي ذاتك، وهويتي هويتك. لأني وإياك عين الذات الإلهية، وفي وعيدك إياي إشعار لي بأنك تفهم أني غيرك، فكيف تفرق بين الرب وبين نفسه؟ فقال فرعون: نعم أنا أنت يا موسى في الحقيقة لأننا عين الذات، غير أن الرب المتعين في له التحكم في هويته التي تعينت فيك، فأنا غيرك في الرتبة، وإن كنت أنا عينك في الحقيقة. 5 ص209 فصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 صاحب الوقت1، وأنه الخليفة بالسيف، وإن جار في العرف الناموسي, لذلك قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] أي: وإن كان الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله، لم ينكروه، وأقروا له بذلك، فقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] فالدولة لك, فصح قوله: أنا ربكم الأعلى، وإن كان عين الحق، فالصورة لفرعون، فقطع الأيدي والأرجل [35] وصلب بعين حق في صورة باطل2، لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل [فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها، لأن الأعيان الثابتة اقتضتها، فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت] ، إذ لا تبديل لكلمات الله، وليس كلمات الله سوى أعيان الموجودات3، فينسب إليها القديم من حيث ثبوتها، وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها وظهورها، كما تقول: حدث اليوم   1 عرف الصوفية صاحب الوقت بأنه: "هو المتحقق بجمعية البرزخية، المطلع على حقائق الأشياء، الخارج عن حكم الزمان وتصرفات ماضيه ومستقبله إلى الآن الدائم، فهو ظرف أحواله وصفاته، فلذلك يتصرف في الزمان بالطي والنشر، وفي المكان بالقبض والبسط؛ لأنه المتحقق بالحقاق والطبائع في القليل والكثير والطويل والقصير والعظيم والصغير سواء، إذ الوحدة والكثرة والمقادير كلها عوارض، فكما تصرف في الوهم فيها، كذلك في العقل، فصدق وافهم تصرفه فيها في الشهود والكشف الصريح، فإن المتحقق بالحق، المتصرف بالحقائق يفعل ما يفعل في طور وراء طور الحس والوهم والعقل، ويتسلط على العوارض بالتغيير والتبديل" جامع الأصول في الأولياء ط 1328 للكمشخانلي. 2 يزعم أن فرعون حين صلب كان هو الله في الحقيقة متعينا في صورة باطلة هي صورة خلقية سميت فرعون. 3 أبى الزنديق إلا أن يكون كفره أشد خبثا من كفر النصارى، إذ زعموا أن حكمة الله تجسدت في عيسى، وزعم هو أن أعيان الموجودات كلها هي تجسدات كلمات الله، أو هي كلمات الله تعينت أجسادا، أو هي هي الله سبحانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 عندنا إنسان، أو ضيف، ولا يلزم من حدوثه أنه ما كان له وجود قبل الحدوث1". حكم من ينسب ربوبية إلى فرعون : قال الشيخ زين الدين العراقي: "قوله في قول فرعون: أنا ربكم الأعلى: أنه صح قوله ذلك، مستدلا عليه بأن السحرة صدقوه. كذب وافتراء على السحرة، فلقد كذبوه، وخالفوه، ودعواه كاذبة، وبها أخذ الله فرعون وأهلكه، فقال تعالى حكاية عنه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات: 24، 25] ثم قال: ولا شك أن من صح أنه قال هذا، واعتقده، مع وجود عقله، وهو غيره مكره، ولا مجبر الإجبار المجوز للكفر، فهو كافر ولا يقبل منه تأويلها على ما أراد، ولا كرامة، كما قدمنا ذكره، وهذا ما لا نعلم فيه خلافا بين العلماء بعلوم الشريعة المطهرة في مذاهب الأئمة الأربعة, وغيرهم من أهل الاجتهاد والصحيح. والله أعلم". وهذا كما ترى مبطل لما يقوله بعضهم من الخرافات في تأويله ستر الكفر، وأن المراد به: فرعون النفس؛ لأنه نزل قوله على جل آيات القرآن جملة جملة، ومن المقطوع به أن الله تعالى ما أنزل هذه الآيات إلا في فرعون وموسى. تحريم التأويل : ولهذا قال الغزالي في الطامات من كتاب العلم من الإحياء -بعد تحريم التأويل بما لا تسبق الأفهام إليه- ما نصه: "وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانه قطعا، كتنزيل فرعون على القلب، فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا وجوده، ودعوة موسى عليه السلام له، كأبي جهل، وأبي لهب، وغيرهما من الكفار   1 ص210 فصوص الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وليس من جنس الشياطين والملائكة، وما يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه1" ا. هـ. رأي ولد العراقي في الفصوص والتائية : وقال الإمام ولي الدين أحمد العراقي2 ابن الشيخ زين الدين المذكور في المسألة الحادية والعشرين من فتاويه المكية ما نصه، "لا شك في اشتمال الفصوص المشهورة عنه على الكفر الصريح الذي لا شك فيه، وكذلك فتوحاته المكية، فإن صح صدور ذلك عنه، واستمر إلى وفاته، فهو كافر مخلد في النار بلا شك, وقد صح عندي عن الحافظ المزي3 أنه نقل من خطه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] كلاما ينبو عنه السمع, ويقتضي الكفر، وبعض كلماته لا يمكن تأويلها4،   1 الغزالي نفسه في كتبه المضنون بها على غير أهلها من أشد المفرطين الغالبين في التأويل، بل من أشدهم جرأة على تجريد الألفاظ من معانيها, ثم تحميل الألفاظ معاني باطنية، لا تقرها دلالة من الدلالات اللغوية. 2 كنيته: أبو زرعة. ولد سنة 762 هـ، وتوفي سنة 826هـ. 3 هو الحافظ الجليل يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن عبد الملك، أبو الحجاج جمال الدين. ولد سنة 654 بالمعقلية بظاهر حلب. سمع منه ابن تيمية -وقد أوذي المزي بسببه- والذهبي، وابن سيد الناس. توفي سنة 742. 4 جاء بهامش الأصل: "قال -يعني ابن عربي- عليه من الله ما يستحق. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . إيجاز البيان فيه: يا محمد إن الذين كفروا ستروا محبتهم في عنهم، فسواء عليهم أأنذرتهم بوعيدك الذي أرسلناك به، أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك، فإنهم لا يعقلون غيري، وأنت تنذرهم بخلقي, وهم ما عقلوه، ولا شاهدوه، وكيف يؤمنون بك، وقد ختمت على قلوبهم، فلم أجعل فيها متسعا لغيري. وعلى سمعهم؛ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 والذي يمكن تأويله منها كيف يصار إليها مع مرجوجية التأويل، وأن الحكم إنما يترتب على الظاهر، وقد بلغني عن الشيخ علاء الدين القونوي -وأدركت أصحابه- أنه قال في مثل ذلك: إنما يؤول كلام المعصومين، وهو كما قال", [36] ثم ذكر كلام الذهبي1 فيه، وساق الأسانيد إلى ابن [عبد] السلام2 بما يأتي عنه من تكفيره، ثم قال: "وأما ابن الفارض، فالاتحاد في شعره، وأمرنا أن نحكم بالظاهر، وإنما نؤول كلام المعصومين، لكن علماء عصره من أهل الحديث رووا عنه في معاجمهم، ولم يترجموه لشيء من ذلك، فقال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري3 في معجمه: الشافعي الأديب4 سمع من   = فلا يسمعون كلاما إلا مني. وعلى أبصارهم غشاوة من [بهائي عند] مشاهدتي. فلا يبصرون غيرا. ولهم عذاب عظيم عندي أردهم بعد هذا المشهد السني إلى إنذارك. وأحجبهم عني كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى [قربا] وأنزلتك إلى من يكذبك. ويرد [ما جئت به إليه من] الكلام في وجهك. وتسمع في ما يضيق به صدرك. فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك. فهكذا إمناني على خلقي الذين أجنيتهم رضائي، فلا أسخط عليهم أبدا. إلى آخر ما ذكره بعده ذكر ذلك في الباب الخامس من الفتوحات المكية" ا. هـ.. وأقول: وقد راجعت هذا على الفتوحات، وأثبت عنها ما سقط من كاتب الهامش، ووضعته بين هذين [] . 1 هو الحافظ الجليل محمد بن أحمد بن عثمان أبو عبد الله شمس الدين الذهبي ولد سنة 673 يقول عنه طاش كبرى زاده: كان إمام الوجود حفظا، وذهب العصر لفظا ومعنى، شيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال في كل سبيل. توفي سنة 748هـ. 2 هو عبد العزيز بن عبد السلام أبو محمد عز الدين. ولد سنة 578، ومن تلاميذ ابن دقيق العيد -وهو الذي لقب العز بسلطان العلماء- وتوفي سنة 660هـ. 3 ولد سنة 581 ومن مصنفاته مختصر سنن أبي داود -نشرته مطبعة السنة المحمدية في طبعة جيدة التحقيق والطبع-ومختصر مسلم، والترغيب والترهيب توفي سنة 656هـ. 4 يعني ابن الفارض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أبي القاسم ابن عساكر، وحدث: سمعت شيئا من شعره، وقال الحافظ رشيد الدين العطار في معجمه: الشيخ الفاضل الأديب كان حسن النظم متوقد الخاطر، وكان يسلك طريق التصوف، وينتحل مذهب الشافعي، وأقام في مكة مدة، وصحب جماعة من المشايخ.. وقال الحافظ أبو بكر بن مسدي1: برع في الأدب، فكان رقيق الطبع، عذب النبع، فصيح العبارة، دقيق الإشارة، سلس القيادة، نبيل الإصدار والإيراد، وتصرف فتصوف، فكان كالروض المفوف، وتخلق بالزي، وتزيا بالخلق، وجمع كرم النفس كل مفترق" انتهى كلام الشيخ ولي الدين. وما قاله هؤلاء الأئمة ليس فيه مناقضة لكلامه أولا في الحكم عليه بالاتحاد، فإنهم لم يقضوا على التائية ونحوها، وأما قوله: إن صح ذلك عنه، فهو على طريق من يعتبر في الكتب المشهورة إسنادا خاصا، وهي طريقة غير مرضية2، والصحيح أنها لا تحتاج إلى ذلك، بل الشهرة كافية3، والله الموفق. رأي السكوتي: وقال الإمام أبو علي ابن خليل السكوتي في كتابه: تحت العوام، فيما يتعلق   1 هو محمد بن يوسف الأزدي الفرناطي قتل بمكة سنة 663، قال عنه الذهبي: "له أوهام، وفيه تشيع، ورأيت جماعة يضعفونه. 2 في الأصل: غير ضية. 3 ثبوت نسبة التائية إلى ابن الفارض حقيقة لا ينتطح فيها عنزان. ونحن لا يعنينا كونها له، أو لغيره، ما دام الصوفية أنفسهم، يقرون بنسبتها إليه، ويدينون بما فيها، بل ما سموه سلطان العاشقين إلا بها، ويؤمنون بأنها أروع تعبير عن الحب الإلهي الذي يجعل المحب عين الحب وعين الحبيب، ولكن ليغضب الصوفية لسلطان عاشقيهم ما شاءوا، وليتهموا منتقديه بعمى البصيرة، فكل هذا الدوي الراعد الجبانة لن يضيع دوي الحق معلنا في قوة وشجاعة وإيمان أن تصوف ابن الفارض ما هو إلا أخبث تعبير عن الزندقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 يعلم الكلام. بعد أن حذر من ابن عربي وأتباعه، فقال: "وليحترز من مواضع كثيرة من كلام ابن عربي الطائي في فصوصه وفتوحاته المكية، وغيرهما وليحترز أيضا من مواضع كثيرة من كلام ابن الفارض الشاعر وأمثاله، مما يشيرون بظاهره إلى القول بالحلول والاتحاد, لأنه باطل بالبراهين القطعية -ثم قال: وكل كلام وإطلاق يوهم الباطل، فهو باطل بالإجماع، فأحرى وأولى بطلانه إذا كان صريحا في الباطل، فإن قالوا: لم نقصد بكلامنا ورموزنا وإشاراتنا الاتحاد، والحلول، وإنما قصدنا أمرا آخر يفهم عنا، قلنا لهم: الله أعلم بما في الضمائر، وما يخفى في السرائر، وإنما اعترضنا نحن الألفاظ والإطلاقات التي تظهر فيها الإشارات إلى الإلحاد، والحلول، والاتحاد1" ا. هـ. حكم من يؤول للصوفية كلامهم : والفيصل في قطع التأويل من أصله أن محقق زمانه وصالحه علاء الدين محمد البخاري الحنفي ذكر عنده ابن عربي هذا، فقال قاضي المالكية إذ ذاك شمس   1 الذي لا يحاسب على ما ينطق به هو المكره، أو المجنون، وهؤلاء ليسوا بمكرهين، فما ثم من يكرههم على الزندقة، بل كان ثم من يكرههم على الإيمان، فلم يحاولوا. وليسوا بمجانين. بإقرار عابديهم، وبدليل تلك اللامة المستلئمة في الكيد للإسلام ابتغاء صرف الأمة عنه، وابتغاء تمجيد الوثنية والإباحية، وإعلاء شهواتهما، كل هذا وهم يلبسون مسوح القديسين والزهاد، زاعمين أنهم الأرواح المطلقة التي تفرد في أقداس الجمال المطلق. فلم يبق إلا أن يكون لهم باعث وغاية، تلك هي القضاء على الإسلام. ألم تر إلى الزنادقة، كيف يلحون في دعوة الناس إلى عبادة القبور، والضراعة إلى الرمم؟ وكيف لا يشغلون لياليهم الساهرة على الإلحاد إلا بهذا، ولا الناس معهم إلا بتلك الوثنية. كل هذا ليدكوا -وما هم ببالغيه- أساس الإسلام المتين، وهو التوحيد؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الدين محمد البساطي1: يمكن تأويل2 كلامه. فقال له البخاري: كفرت. وسلم له أهل عصره ممن كان في مجلسه، ومن غيرهم، وما طعن أحد منهم فيه بكلمة واحدة، وقد كان منهم حافظ العصر قاضي الشافعية بها شهاب الدين أحمد بن [37] حجر، وقاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني، وقاضي القضاة محمود العيني الحنفي، والشيخ يحيى السيرامي الحنفي، وقاضي القضاة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي، وزيد الدين أبو بكر القمني الشافعي، وبدر الدين محمد بن الأمانة الشافعي، وشهاب الدين أحمد بن تقي المالكي3، وغيرهم من العلماء والرؤساء، وما خلص البساطي من ذلك إلا بالبراءة من اعتقاد الاتحاد، ومن طائفة الاتحادية، وتكفيره لمن يقول بقولهم.   1 هو محمد بن أحمد بن عثمان أبو عبد الله شمس الدين. ولد سنة 760 وتولى القضاء بمصر عشرين سنة،. توفي سنة 842هـ. 2 في محاولة الدفاع عن الصوفية بالتأويل حجة بالغة على أن كلام الصوفية يجافي الحق من الكتاب والسنة، وإلا ما لجأ أحلاسهم إلى دعوى إمكان التأويل. 3 هو كما يقول صاحب الشذرات: شيخ الإسلام علم الأعلام حافظ العصر شهاب الدين أبو الفضل الشهير بابن حجر نسبة إلى آل حجر الكناني العسقلاني الأصل المصري المولد والدار والنشأة والوفاة. ولد سنة 773 وتوفي سنة 852هـ والتفهني نسبة تفهن قرية بمصر. ولد سنة 765 تقريبا. وتوفي سنة 835هـ والعيني ولد سنة 762هـ تولى منصب قاضي قضاة الحنفية بمصر توفي سنة 885هـ والسيرامي شيخ الشيوخ بمدرسة الظاهر برقوق. ولد قبل الثمانين وسبعمائة وتوفي سنة 833هـ. والبغدادي كان شيخ الحنابلة في عصره ومفتي الديار المصرية ولد سنة 765. وتوفي سنة 844هـ. والقمني ولد سنة 758 ولي تدريس الصلاحية بالقدس والمنصورية والشريفية وتوفي سنة 833هـ. والمتقي المالكي ولد بفوة سنة 785 تقريبا. وتوفي سنة 842هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 أوهام الصوفية في الحكم بإيمان فرعون : ثم قال ابن عربي: "وأما قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 85] ، {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} 1 فلم يدل ذلك على أنه لا ينفعهم في الآخرة، بقوله في الاستثناء: إلا قوم يونس، فأراد أن ذلك لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا، فلذلك أخذ فرعون مع وجود الإيمان منه2" ثم قال: "فآمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل على التيقن بالنجاة، فكان كما تيقن، لكن على غير الصورة التي أراد، فنجاه الله من عذاب الآخرة في نفسه، ونجى بدنه، كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92] لأنه لو غاب بصورته ربما قال قومه: احتجب، فظهر بالصورة المعهودة ميتا، ليعلم أنه هو] فقد عمته النجاة حسا ومعنى، ومن حقت عليه كلمة العذاب الأخروي3 لا يؤمن، ولو جاءته كل آية {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أي: يذوقوا العذاب الأخروي4، فخرج فرعون من هذا الصنف, هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن, ثم إنا نقول بعد ذلك: والأمر فيه إلى الله، لما استقر في نفوس عامة الخلق من شقائه، وما لهم نص في ذلك يستندون إليه 5" ا. هـ. وقد تقدم النص المنتج قطعا بديهة أنه من أهل النار. ثم قال: "ثم لعلم6 أنه   1 يعني قوله سبحانه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] . 2 ص211 فصوص. 3، 4 في الأصل: الأخراوي. 5 ص214 فصوص، وليس بعجيب أن ينكر الزنديق وجود نص في القرآن يدل على أن فرعون من أصحاب النار، وقد ذكر في هذا النص نفسه أن فرعون هو الرب الأعلى، وأنه أعظم من موسى. 6 في الأصل: وليعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ما يقبض الله أحدا إلا وهو مؤمن، أي: مصدقي بما جاءت به الأخبار الإلهية، أعني من المحتضرين، ولهذا يكره الموت الفجاءة، وقتل الغفلة1" ثم قال: "وأما حكمة التجلي والكلام في صورة النار، فلأنها كانت بغية موسى، فتجلى له في مطلوبه2" ثم قال: كنار موسى، رآها3 حين حاجته وهو الإله، ولكن ليس يدريه. افتراء على الرسول, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وقال في فص حكمة فردية في كلمة4 محمدية: "وإنما حبب إليه النساء, فحن إليهن؛ لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه5، فأبان بذلك عن الأمر   1، 2 ص212 فصوص. 3 في الأصل: يراها. 4 نسبة لا إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل إلى الحقيقة المحمدية التي يزعم الصوفية أنها هي الذات مع التعين الأول، وأنها هي اسم الله الأعظم، وإذا كان كل شيء عند الصوفية هو أحد تعينات الذات الإلهية، فإن محمدهم -وحاشا رسولنا الأمين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو صور الحق كلها، لتحققه بالحقيقة الأحدية والواحدية. 5 محمد كما سبق هو صور الحق كلها عن الصوفية، والنساء عند الصوفية هن أجل تعينات الذات الإلهية، لهذا حن محمد الذي هو الكل إلى بعض تعيناته أو أجزائه، هكذا يصور الصوفية العلاقة بين ربهم المتعين في محمد، وبين ربهم المتعين في صور النساء، وللحب عندهم ناحيتان. إحداهما شوق الحق إلى الخلق، وأخراهما: شوق الخلق إلى الحق، وشوق الحق له اعتباران أو مظهران. أحدهما: اشتياقه إلى الظهور بعد البطون، أو التقييد بعد الإطلاق، وهذا يكون بتعينه في صور بدنية عنصرية. وأما أخراهما، فاشتياقه إلى العودة إلى الإطلاق، أو التجرد بعد التعين، فربهم دائما مشدود العاطفة بين الإطلاق، وبين التقييد، أو بين المرتبتين: الحقية والخلقية. أما شوق الخلق إلى الحق فله مظهر أو اعتبار واحد، هو التجرد من الصور الخلقية، ليعود حقا، أو وجودا مطلقا كما كان قبل تعينه، وليس اشتياق أحدهما اشتياق الشيء إلى غيره، بل إلى نفسه، ودائما ترى زعماء = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 في نفسه من جانب الحق في قوله في هذه النشاة الإنسانية العنصرية: ونفخت فيه من روحي، ثم وصف نفسه بشدة الشوق إلى لقائه، فقال للمشتاقين: يا داود إني أشد شوقا إليهم1". التثليث عند الصوفية : ثم ذكر العبد المؤمن، وأنه لا يرى ربه إلا بعد الموت، فاشتاق الحق لوجود هذه النسبة، يعني رؤية المؤمن له تعالى بالموت، ثم قال: "فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه، فما اشتاق إلا إلى نفسه, ألا تراه خلقه على صورته؛ لأنه من روحه، ولما كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة [38] في جسده2 أخلاطا حدث عن نفخة اشتعال بما في جسده من الرطوبة، فكان روح الإنسان نارا, لأجل نشأته, ولهذا ما كلم الله تعالى موسى إلا في صورة النار [وجعل حاجته فيها، فلو كانت نشأته طبيعية، لكان روحه نارا] ، وكنى عنه بالنفخ يشير إلى أنه من نفس الرحمن3، فإنه بهذا النفس الذي هو النفخة ظهر عينه [وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتغال نارا لا نورا] فبطن نفس الرحمن فيما كان   = الصوفية يلهجون بذكر النساء، ويرونهن أكمل وأجمل وأتم تعينات الذات الإلهية ومجاليها، كما رأيت من ابن الفارض وابن عربي، وكما سترى بعد. وهذا يجعلك تؤمن بأن هناك في أعماق التصوف حيوانا ضاريا يستعبده الشبق والغلمة الداعرة، ويستعلن دائما بالصريخ الملتهب عما يزلزله من رجفات الشهوات العارمة، وينزو بعربدته على كل مقدسات الدين ومحارم الفضيلة، وتؤمن كذلك أن من مقومات التصوف عبادة المرأة وتعرف عن يقين لماذا يبحث الصوفية عن درويشات يسلكن معهم طريق القوم!! 1 ص215 فصوص. 2 في الأصل: حده. 3 في الأصل: الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 [به] الإنسان إنسانا، ثم اشتق له [منه] شخصا على صورته سماه: امرأة، فظهرت بصورته, فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه، وحنت إليه حنين الشيء إلى وطنه, فحببت1 إليه النساء، فإن الله أحب من خلقه على صورته، وأسجد له ملائكته [النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم، وعلو نشأتهم الطبيعية] فمن هناك وقعت المناسبة، والصورة أعظم مناسبة، وأجلها وأكملها، فإنها زوج أي: شفعت وجود الحق، كما أن هناك المرأة شفعت بوجودها الرجل، فصيرته زوجا، فظهرت2 الثلاثة: حق ورجل وامرأة3. فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه، فحبب إليه ربه النساء، كما أحب الله من هو على صورته4" انتهى وقد علم من هنا قطعا أنه يريد بالصورة في خلق آدم على صورته معناها المتعارف5. رب الصوفية امرأة : ثم قال: "فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودا في منفعل، وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه من [غير] استحضار صورة ما كان شهودا6 في منفعل عن الحق بلا واسطة، فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل؛ لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل   1، 2 في الأصل: فحبت, ظهره. 3 هذا هو التثليث عند ابن عربي، وهو بعض ما استمده من المسيحية المفلسفة، بيد أنه زاد الكفر شناعة، فقال بثالوث هو "حق ورجل وامرأة" الثلاثة إله واحد. 4 ص216 فصوص. 5 لا بل يريد بالصورة غير هذا، يريد بها هوية الذات، يعني أن هوية آدم وماهيته عين هوية الحق وماهيته. 6 في الأصل: شهوده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 منفعل1، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة فلهذا أحب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النساء، لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا2، فإن الله بالذات غني عن العالمين، وإذا 3 كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا،   1 الرجل والمرأة عند ابن عربي صورتان من صور الله، يعني حقيقته تتجلى في صورتي رجل وامرأة، وفي حال المواقعة يسمى الرجل فاعلا, والمرأة منفعلة. ويدين الزنديق بأن ربه فاعل منفعل معا, فهو فاعل لتعينه في صورة رجل، وهو منفعل لتعينه في صورة امرأة مع رجل. ولما كانت المرأة -هكذا يصور الزنديق- تعتبر فاعلة، لشدة تأثيرها في الرجل في تلك الحالة العاصفة بالشهوة، فإن شهود الإله الصوفي في المرأة الهلوك أتم وأكمل، إذ يشاهد فيها في صورة فاعل ومنفعل. وهنا يبدو خطر التصوف الجامح على الخلق والعرض والأمة, ماذا يفعل الصوفي وهو يؤمن أن المرأة هي أتم وأكمل مجالي الإله؟ ماذا سيحدث معه وهو يوقن أن ربه امرأة يواقعها رجل؟ اعفني من الجواب؛ لأنك ستدرك الجواب، ستدرك أن التصوف دعوة ملحة إلى الإباحية الماجنة، وهذا يؤكد لك ما قررته من قبل، وهو أن لحيوان الشهوة المعربد في أعماق ابن عربي أثرا بعيدا في تصوفه، فقد تدله -وهو بمكة حين زارها سنة 598 هـ-بحب غانية هي ابنة الشيخ مكين الدين الأصفهاني، ولكنها لم تهدهد من نزواته الفواجر، ولم ترد غلة ذئبه الظامئ إلى الدم، فنظم -يستدرجها إلى الغواية- فيها ديوان شعره المسمى: ترجمان الأشواق، وابن عربي نفسه يقر بأنه نظم ديوانه هذا تشبيبا بتلك الغانية القتول، وحين عصفت الفضيحة بهواه، فر هاربا من مكة، حتى لا يجابه عار الفضيحة، بيد أن الهوى ظل يعصف به، ويلهبه، وثمت نفس عن جحيمه بخيالات زندقته، فراح يصور ربه في صورة امرأة، ويزعم أنه يتجلى -أجمل وأحلى ما يتجلى- في صورة امرأة تقترف. كل هذا من أجل امرأة لم تستطع شهوته أن تضرس منها اللحم، وتعرق العظم. 2 أي: لا بد للإله الصوفي من جسد يتعين فيه، فتأمل!. 3 في الأصل: فإذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود1 وأكمله [وأعظم الوصلة النكاح2] وهو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته، ليخلفه، فيرى فيه نفسه، فسواه، وعدله، ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه، فظاهره خلق، وباطنه حق3". وهذا يدلك على أن الإله عنده كالكلي الطبيعي4، لا وجود له إلا في ضمن جزئياته، والله الموفق. ثم قال: "فمن أحب النساء على هذا الحد، فهو حب إلهي، ومن أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية خاصة نقصه علم هذه الشهوة، فكان صورة بلا روح عنده، وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح، ولكنها غير مشهودة لمن جاء لامرأته، أو لأنثى حيث كانت لمجرد الالتذاذ، ولكن لا يدري: لمن؟! فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ما لم يسمه هو بلسانه حتى يعلم، كما قال بعضهم: صح عند الناس أني عاشق ... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن كذلك هذا. أحب الالتذاذ، فأحب [39] المحل الذي يكون فيه، وهو المرأة، ولكن غاب عنه روح المسألة، فلو علمها، لعلم بمن التذ، ومن التذ؟! 5 وكان كاملا، وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله:   1 في الأصل: شهود. 2 يعني به: ما له من معنى في أذهان العامة، لا الزواج. 3 ص217 فصوص الحكم. 4 الكلي هو ما لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، كالإنسان، ويمسي كليا طبيعيا باعتبار وجوده في الخارج أي: في الطبيعة، والكلي الطبيعي جزء جزئيه، فلا وجود له إلا في ضمن جزئياته، أعني ليس له وجود خاص به، قائم بذاته، وإنما يوجد بوجود أفراده، وهكذا الإله الصوفي. 5 يقول: لو تأمل الرجل الملتذ بالمرأة، لعلم أنه ليس مع امرأة، بل مع الإله الصوفي، وأنه ليس هو الملتذ، بل الإله الذي تعين فيه، وأعتذر للقراء عن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 288] نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته، مع كونه على صورته، فبتلك الدرجة التي تميز عنه بها كان غنيا عن العالمين، وفاعلا أولا، فإن الصورة فاعل ثان، فماله الأولية التي للحق، فتميزت الأعيان بالمراتب، فأعطى كل ذي حق حقه كل عارف، فلهذا كان حب النساء لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن تحبب إلهي [وأن الله أعطى كل شيء خلقه، وهو عين حقه، فما أعطاه إلا باستحقاق استحقه بمسماه أي بذات ذلك المستحق] وإنما قدم النساء -أي: في قوله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حبب إليّ من الدنيا" النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"1..؛ لأنهن محل الانفعال كما تقدمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة, وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني، فإن فيه انفتحت صورة العالم أعلاه وأسفله2". الأنوثة صفة الإله الصوفي : ثم قال: إنه عليه الصلاة والسلام غلب في هذا الخبر التأنيث على التذكير؛ لأنه قصد التهمم بالنساء فقال: ثلاث، ولم يقل: ثلاثة بالهاء الذي هو لعدد الذكران؛ إذ فيها ذكر الطيب, وهو منكر، وعادة العرب أن تغلب التذكير   ذكر هذا النتن الإباحي الصوفي, فإنا بصدد هتك القناع عن فاحشة آثمة تتراءى في شف من القدسية والروحانية، وتمزيق الستر عن خبيث يقترف الجريمة وهو ريان السجود في المحاريب، وتبصير المسلمين بمجوسية التصوف، وما تكيد به لهم، حتى يعتصموا بحبل الله وحده. 1 أخرجه أحمد والنسائي والحاكم والطبراني والبزار وابن أبي شيبة، وقد أعله ابن عدي والدارقطني والعقيلي, وليس في شء من طرقه لفظ ثلاث. انظر تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر، وتمييز الطيب من الخبيث للشيباني، وبهذا ينهدم كل ما بناه الزنديق ابن عربي من التثليث، وما هول به من تأنيث الإله على لفظ "ثلاث" التي ليست في الحديث قط على ضعفه. 2 ص218 فصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 [على التأنيث] 1, ثم قال: "ثم إنه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث وأدرج بينهما المذكر، فبدأ2 بالنساء، وحكم بالصلاة، وكلتاهما تأنيث، والطيب بينهما "كهو3" في وجوده، فإن الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه، فهو بين مؤنثين تأنيث ذات، وتأنيث حقيقي, كذلك النساء تأنيث حقيقي, والصلاة تأنيث غير حقيقي، والطيب مذكر بينهما, كآدم بين الذات الموجود هو عنها، وبين حواء الموجودة عنه، وإن شئت، قلت: القدرة، فمؤنثة أيضا، فكن على أي مذهب شئت، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم، حتى عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم، والعلة مؤنثة. الإله الصوفي بين التقييد والإطلاق ثم قال: "وثم مرتبة يعود الضمير على العبد المسبح فيها في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] أي: بحمد ذلك الشيء5، فالضمير الذي في   1 ص219 فصوص وكل ما بين هذين [] ساقط من الأصل، وأثبته عن الفصوص. 2 في الأصل: فبداء. ويظهر أن الناسخ كان يرسم الهمزة التي من هذا القبيل هكذا دائما. 3 الهو عند الصوفية: هو اعتبار الذات بحسب الغيبة والفقد. 4 ص220 فصوص. 5 معنى الآية: ما من شيء إلا ويسبح بحمد الله رب العالمين، ولكن ابن عربي يرجع الضمير في قوله: بحمده، على لفظة شيء ليتواءم هذا البهتان الزنديقي، ومذهبه في الوحدة، فيكون معنى الآية عنده: ما من شيء إلا ويسبح بحمد نفسه لأن الله سبحانه عنده عين كل شيء، فإذا سبح شيء، فالمسبح عنده والمسبح له هو الله سبحانه عما يقول الصوفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 [قوله] : بحمده، يعود على الشيء، أي: بالثناء الذي يكون عليه، كما قلنا في المعتقد أنه [إنما] يثني على الإله الذي في معتقده، وربط به نفسه، وما كان من عمله، فهو راجع إليه، فما أثنى إلا على نفسه، فإنه من مدح الصنعة، فإنما مدح الصانع بلا شك، فإن حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها، وإله1 المعتقد مصنوع للناظر فيه، فهو صنعه2، فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه ولهذا يذم معتقد غيره, ولو أنصف لم يكن له ذلك, إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شك3 في ذلك لاعتراضه [40] على غيره فيما اعتقده في الله، إذ لو عرف ما قال الجنيد: لون الماء لون إنائه، لسلم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده وعرف الله في كل صورة، وكل معتقد، فهو ظان ليس بعالم، ولذلك4 قال: "أنا عند ظن عبدي بي5". أي: لا أظهر له إلا في صورة معتقده، فإن شاء أطلق، وإن شاء قيد، فإله المعتقدات تأخذه الحدود, وهو الإله الذي وسعه قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء6، وعين نفسه7.   1 في الأصل: والإله. 2 في الأصل: صنعته. 3 يحذر المؤمن أن يذم دين الكافر، والموحد أن يذم دين المشرك، والمسلم أن يذم دين وثني أو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، فذم أي دين -وإن كان سداه الأسطورة ولحمته الخرافة- جهل عميق بالحقيقة، فهؤلاء جميعا دينهم واحد، ومعبودهم في الحقيقة -وإن اختلفت نسبه أو إضافاته، أو أسماؤه- واحد، بل إنهم جميعا عين واحدة، إذ كل واحد منهم أحد تعينات الذات الإلهية، ومعبوداتهم في حقيقتها الرب الواحد؛ لأنها الحق تجلى في صور هذه المعبودات، ودينهم واحد لأن الحق المتعين في كل واحد منهم هو الذي شرع هذا الدين وارتضاه، وذلك البهتان هو دين الزنديق ابن عربي, وهذا هو نص ما يريده. 4 في الأصل: فلذلك. 5 متفق عليه عن أبي هريرة مرفوعا، بيد أن تفسير الزنديق له إفك أثيم. 6 باعتبارها تعيناته أو ظاهره. 7 باعتبارها وجودا مطلقا، أو حقا أو باطنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 والشيء ولا يقال فيه: يسع نفسه، لا يسعها, فافهم.1. قلت: وهذا أراد ابن الفارض بقوله: فلو أنني وحدت، ألحدت، وانسلخـ ... ـت من أي جمعي مشركا بي صنعتي دعاء ومباهلة : هذا آخر الكتاب2، المباعد للصواب، المراد للشك والارتياب، لعنة3 الله على معتقده، ورحمة الله على منتقده، قد تم -ولله الحمد- ما أردت انتقاده منه، مترجما بسوء السيرة وقبح السريرة عنه، وانتهى ما وقع انتقادي عليه، وأداني اجتهادي إليه: من واضح كفره، ودقيق مكره، وجلي شره، أعاذنا الله بحوله وقوته من شكوكه، وعصمنا من زيغ طريقه، وباعدنا من سلوكه، ورأيت أن أختم ذلك بحكاية طالما حدثنا بها شيخنا شيخ الإسلام حافظ العصر، قاضي القضاة، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر الكناني، العسقلاني الأصل، المصري الشافعي، ثم رأيتها منقولة عن كتاب الحافظ تقي الدين الفاسي4 في تكفير ابن عربي، وقد أصلح شيخنا بعضها بخطه، قال: "كان في أيام الظاهر برقوق5 شخص يقال له: ابن الأمين شديد التعصب لابن عربي صاحب هذه الفصوص، وكنت أنا كثير البيان لعواره، والإظهار لعاره وعثاره،   1 ص226 فصوص. 2 يقصد فصوص الحكم. 3 في الأصل: لعنه. 4 هو محمد بن أحمد بن علي ولد بمكة سنة 775، وتوفي سنة 832هـ ولي قضاء المالكية بمكة. 5 مؤسس دولة المماليك البرجية، واستمر يحكم من سنة 784 إلى أن توفي عن 60 عاما سنة 801. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وكان بمصر شيخ يقال له: الشيخ صفا، وكان مقربا عند الظاهر، فهددني المذكور بأنه يعرفه بي، ليذكر للسلطان أن بمصر جماعة أنا منهم، يذكرون الصالحين بالسوء، ونحو ذلك، وكانت تلك الأيام شديدة المظالم والمصائب والمغارم، وكنت ذا مأل1، فخفت عاقبته، وخشيت غائلته، فقلت: إن هنا ما هو أقرب مما تريد، وهو أن بعض الحفاظ قال: إنه وقع الاستقراء بأنه ما تباهل اثنان على شيء, فحال الحول على المبطل منهما، فهلم، فلنتباهل، ليعلم المحق منا من المبطل، فتباهلت أنا وهو، فقلت له: قل: اللهم إن كان ابن عربي على ضلال، فالعني بلعنتك، فقاله، فقلت أنا: اللهم إن كان ابن عربي على هدى فالعني بلعنتك وافترقنا، وكان يسكن الروضة، فاستضافه شخص من أبناء2 الجند جميل الصورة، ثم بدا له أن يتركهم، فخرج في أول الليل، فخرجوا يشيعونه فأحس بشيء مر على رجله3، فقال لأصحابه: مر على رجله شيء ناعم، فانظروا ما هو؟ فنظروا [41] فلم يجدوا شيئا، فذهب، فما وصل إلى منزله إلا وقد عمي، ولم يصبح إلا وهو ميت، وكان ذلك في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وسبعمائة، وكانت المباهلة في رمضان منها، قال: وكنت عند وقوع المباهلة عرفت من حضر أن من كان مبطلا في المباهلة لا تمضي عليه السنة، فكان ولله الحمد ذلك، واسترحت من شره، وأمنت من عاقبة مكره". المكفرون لابن عربي : وقد صرح بكفر هذا الرجل4، ومن نحا نحوه في مثل هذه الأقوال الظاهرة   1 كذا بالأصل ولعلها: مال. 2 في الأصل: ابنا. 3 لعلها رجلي، إلا أن تكون على سبيل الحكاية. 4 يقصد ابن عربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 في الضلال جماعة من العلماء الأعلام مشايخ الإسلام، ما نقل عنهم الإمام شهاب الدين أحمد بن يحيى بن أبي حجلة التلمساني الحنفي في كتابه الذي صنفه في ذلك، وكذا نقل بعض ذلك الإمام سيف الدين عبد اللطيف بن بلبان السعودي1 الصوفي في جزء نقله عنه أحمد بن أقش الحراني، قال: "وقد كتب كل من راقب الله تعالى، وخشيه، وامتنع كل من التبسه مخافة غيره، وغشيه، فالذي كتب قام لله تعالى بلوازم فرضه، والذي امتيح2 فهو المسئول عن ذلك في يوم عرضه، فإن زعم أنه ترك خوف الفتنة من المخالفين، فتلك محنة في الدين بما وجب على كل عالم من التبيين". وكذلك نقل الفتاوي العلامة بدر الدين حسين بن الأهدل، شيخ أبيات حسين ببلاد اليمن في تصنيفه المسمى: كشف الغطا عن حقائق التوحيد، فالمنكرون منهم سلطان العلماء عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القسم السلمي الشافعي، كما نقل ذلك عنه شيخ الإسلام تقي الدين محمد بن دقيق العيد، قال الحافظ شمس الدين محمد، الذهبي في معجمه3: "حدثني محمد المفيد. حدثنا أبو الفتح اليعمري، سمعت أبا الفتح محمد بن علي القشيري، سمعت شيخنا ابن عبد السلام يقول -وجرى ذكر ابن العربي الطائي- فقال: هو شيخ سوء كذاب4" وقال الصلاح خليل الصفدي في تاريخه: "سمعت أبا الفتح ابن سيد الناس5 يقول: سمعت ابن دقيق العيد يقول: سألت ابن عبد السلام   1 ولد سنة 650 تقريبا، وتوفي سنة 736هـ. 2 لعلها: امتنع. 3 ذكر هذا في ميزان الاعتدال. 4 في الميزان: شيعي سوء كذاب. 5 هو محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس أبو الفتح فتح الدين الحافظ الأديب. ولد سنة 671هـ وتوفي سنة 734هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 عن ابن عربي، فقال: هو شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا، وقال شيخنا العلامة محمد1 بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف [ويعرف2] بابن الجرزي الشافعي في جواب أجاب فيه بكفره، كما حكاه عنه ابن الأهدل: ولقد حدثنا شيخنا شيخ الإسلام الذي لم تر عيناي مثله عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير من لفظه غير مرة، حدثني شيخ الإسلام العلامة قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي3، حدثنا الشيخ العلامة شيخ الشيوخ قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي القشيري المعروف بابن دقيق4 العيد القائل في آخر عمره: لي أربعون [42] سنة ما تكلمت بكلمة إلا أعددت لها جوابا بين يدي الله تعالى، قال: سألت شيخنا سلطان العلماء عز الدين أبا محمد عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي عن ابن عربي، فقال: شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا" ا. هـ. وقال ابن تيمية5 في جواب السيف   1ولد الجزري بدمشق سنة 751هـ وتوفي سنة 814هـ. 2 ساقطة من الأصل، وأثبتها عن الضوء اللامع. 3 ولد سنة 683هـ، وتوفي بالقاهرة سنة 756هـ ولي قضاء دمشق والخطابة بالجامع الأموي، وكان من خصوم ابن تيمية، غير أنه عاد فأثنى عليه ثناء مستطابا. 4 ولد بناحية ينبع سنة 625هـ وتوفي سنة 702هـ يقول عنه الذهبي: كان إماما متقنا مجودا مديم السنن والجمع وله اليد الطولى في الفروع والأصول. 5 أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي علم الأعلام الإمام الصبار الشكور. يقول عنه خصمه تقي الدين السبكي -وقد عاتبه الحافظ الذهبي على ما نال به من قدر ابن تيمية: "المملوك "يعني نفسه" يتحقق كبير قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية "يعني بكل هذا ابن تيمية" وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام به، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان" انتهى نقلا عن الدرر الكامنة لابن حجر. ولد ابن تيمية سنة 661هـ، ومات سجين البغي بقلعة دمشق سنة 728هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 السعودي "فكفر الفقيه أبو محمد بذلك، ولم يكن بعد ظهر من قوله: إن العالم هو الله, والعالم صورة الله، وهوية الله" قال السيف المذكور: ثم تابعه في الإنكار الشيخ الإمام بركة الإسلام قطب الدين ابن القسطلاني، وحذر الناس من تصديقه، وبين في مصنفاته فساد قاعدته، وضلال طريقه في كتاب سماه: بالارتباط. ذكر فيه جماعة من هؤلاء الأنماط. ومنهم قاضي القضاة قدوة أهل التصوف إمام الشافعية بدر الدين محمد بن جماعة قال: "وحاشا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يأذن في المنام فيما يخالف، أو يضاد قواعد الإسلام1، بل ذلك من وساوس الشيطان ومحنته، وتلاعبه برأيه وفتنته، وأما إنكاره -يعني ابن عربي- ما ورد في الكتاب والسنة من الوعيد، فهو كافر به عند علماء التوحيد، وكذلك قوله في نوح وهود عليهما السلام قول لغو باطل مردود2" والقدوة العارف عماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي3، وقال: إنه علق في ذم هذه الطائفة4 ثلاث كراريس، الأول سماه: البيان المفيد في الفرق بين الإلحاد والتوحيد، الثاني: لوامع الاسترشاد في الفرق بين التوحيد والإلحاد، والثالث: أشعة النصوص في هتك أستار الفصوص. كل ذلك ليبقى المؤمنون منهم على بصيرة، يحذرون من طرقهم وزندقتهم. وحاصل ذلك كله بكلام وجيز مختصر:   1 رد على ما زعمه ابن عربي في خطبة الفصوص أنه رأى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النوم، وأنه قال له: هذا كتاب الفصوص خذه واخرجه به إلى الناس ينتفعون به، وعلى ما زعمه ابن الفارض من مثل هذا بالنسبة للتائية الكبرى. 2 انظر نص هذه الفتوى في العلم الشامخ للمقبلي ص494. 3 ولد سنة 657هـ وتوفي سنة 711هـ. 4 طائفة ابن عربي ومن دان دينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 "أن هؤلاء جميع ما يبدونه من الكلام الحسن في مصنفاتهم إنما هو ربط واستجلاب، فإن الدعاة إلى البدعة إن لم يكونوا ذوي بصيرة يستدرجون الخلق في دعوتهم، حتى يحلوهم عن أديانهم لا يستجاب لهم، هذا ابن عربي عنده في أصوله: أنه يجعل المعدومات أشياء ثابتة -علويها وسفلها- قبل وجودها، فهي عنده ثابتة في القدم، لكن ليس لها وجود، ثم أفاض الحق عليها من وجوده الذاتي فقبل كل موجود من وجود عين الحق بحسب استعداده، فظهر الكون بعين وجود الحق، فكان الظاهر هو الحق، فعنده: أنه لا وجود إلا للحق، ويستحيل عنده أن يكون ثم وجود محدث، كما يقوله أهل الحق؛ فإنهم يقولون وجود قديم، ووجود حادث1، وهذا عنده، وعند أصحابه: أنه ليس بوجود حادث، وليس ثم إلا وجود الحق الذاتي، وهو الذي فاض على الأعيان والممكنات   1 ليس هذا التقسيم من صنع أهل الحق، وإنما هو بدعة الفلسفة ومخانيثهم علماء الكلام، والله العليم الحكيم الخبير لم يسم نفسه بالقديم، ولا وصف وجوده أو ذاته بالقدم، وما ورد أحدهما -الاسم والصفة- على لسان أحد من رسله، ولا استعملت في كتاب الله فيما استعملتها فيه الفلسفة، وإليك مواردها في القرآن: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} , {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} ، {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} فهل تجد آية من هذه الآيات أعطت مفهوم القدم، والقديم كما هو في الفلسفة والكلام؟ وهل تجده بحيث يصح إطلاقه على الله ووجوده؟ قارن بين القدم في الفلسفة والكلام، وبينه في القرآن إذ يصف الإفك والعرجون والضلال بالقدم، وستخرج من هذه المقارنة بأنه لا يجوز وصف الله به وفي اللغة تقول عن شيء سلف زمانه: إنه قديم، وعن الثوب الرث: إنه قديم. هذا مدلول الكلمة في اللغة التي نزل بها كتاب الله، والتي يجب أن يفسر بها وحدها القرآن، فليقولوا: خالق ومخلوق، وليقولوا عن الله ما قاله عن نفسه "هو الأول والآخر والظاهر والباطن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 [43] فهو موجود بعينه1، ومن شك أن هذا اعتقاده فليراجع كتبه الفصوص وغيرها، وعنده أنه لما فاض على الأكوان عين وجود الحق، كان هو الظاهر فيها بحكم الوجود، وكانت هي الظاهر فيه بحكم الأسماء، فإنها كثيرة متعددة2، وعنده أن الكون افتقر إلى الحق بسبب إفاضة الوجود، وأن الحق أيضا افتقر إلى الكون لظهور أسمائه، وكل منهما يعبد الآخر". فتوى الجزري : ومنهم العلامة شمس الدين محمد بن يوسف ابن الجزري جد شيخنا العلامة شمس الدين، قال:3 "وحكمه بصحة عبادة قوم نوح للأصنام كفر، وقوله: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه كلام باطل متناقض، وهو كفر، وقوله في قوم [هود4] : وحصلوا في عين القرب افتراء على الله تعالى، ورد لقوله فيهم، وقوله: زال البعد وصيرورة5 جهنم في حقهم نعيما كذب، وتكذيب للشرائع، وأما من يصدقه فيما قال، فحكمه كحكمه في التضليل والتكفير إن كان عالما، وإن كان ممن لا علم له: فإن قال ذلك جهلا عرف بحقيقة ذلك، ويجب تعليمه وردعه عنه، مهما أمكن" ومنهم الإمام القدوة برهان الدين إبراهيم بن معضاد الجعبري6، ومنهم العلامة زين الدين عمر بن أبي الحرم الكتنائي7 الشافعي.   1 لم يحسن التعبير، وإليك نص الفصوص ص76 "وهو من حيث الوجود عين الموجودات". وفي الأصل: فهي موجودة. 2 قال القاشاني في شرح الفصوص: "للذات بحسب كل عين اسم، وتلك الأعيان أيضا أسام، لكونها عين الذات مع التعين" ويقول ابن عربي: "فأسماؤنا أسماء الله تعالى". 3 انظر نص فتواه في العلم الشامخ ص495. 4 أثبتها عن الفصوص. 5 لعلها: صارت، أو بصيرورة. 6 توفي في سنة 687هـ عن ثمانين سنة. 7 كان شيخ الشافعية في عصره. ولد سنة 653هـ وتوفي سنة 738هـ وانظر = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ومن جوابه: "وقوله في قوم هود كفر، لأن الله تعالى أخبر في القرآن العظيم عن عاد: أنهم كفروا بربهم، والكفار ليسوا على صراط مستقيم، فالقول بأنهم كانوا عليه، مكذب لصريح القرآن، ويأثم من سمعه، ولم ينكره إذا كان مكلفا، وإن رضي به كفر". رأي أبي حيان والإمام أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي1. ذكر ذلك في تفسير سورة المائدة عند قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] الآية في أوائلها: "ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر2 بالإسلام ظاهرا، وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة: كالحلاج والشعوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق، وابن الفارض، وأتباع هؤلاء كابن سبعين -وعد جماعة3- ثم قال:   = نص فتواه في العلم الشامخ ص496، وفي الشذرات لقب بالكتاني نسبة إلى الكتان. 1 ولد سنة 654هـ. قال عنه الذهبي: "حجة العرب وعالم الديار المصرية" كان من خلصاء ابن تيمية، حتى لقد امتدحه بقصيدة منها. قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذا عصت مضر وفي مناظرة بينهما خطأ ابن تيمية سيبويه، فلم يطقها منه أبو حيان، فكان أن بهته أبو حيان في تفسيره البحر. 2 في البحر: تستر. 3 هم كما جاء في البحر: "والتستري تلميذه وابن مطرف المقيم بمرسية، والصفار المقتول بغرناطة، وابن اللباج، وأبو الحسن المقيم كان بلورقة، ومن رأيناه يرمي بهذا المذهب الملعون: العفيف التلمساني، وله في ذلك أشعار كثيرة، وابن عياش المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق. وعبد الواحد بن المؤخر المقيم كان بصعيد مصر، والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة من ديار مصر، وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم كان بحارة زويلة" انتهى نقلا عن تفسير البحر لأبي حيان. وزاد في تفسيره النهر: "والشريف عبد العزيز المنوفي، وتلميذه عبد الغفار القوصي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 "وإنما سردت هؤلاء نصحا لدين الله، يعلم الله ذلك، وشفقة على ضعفاء المسلمين، وليحذروا، فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسله، ويقولون بقدم العالم وينكرون البعث، وقد أولع جهلة ممن ينتمي إلى التصوف بتعظيم هؤلاء، وادعائهم أنهم صفوة الله". رأي التقي السبكي والفاسي والزواوي : والعلامة قاضي القضاة شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي، فقال: "ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وغيره، فهم ضلال جهال، خارجون عن طريقة الإسلام, فضلا عن العلماء" قال ذلك في باب الوصية من شرح [44] المهاج ونقله الكمال الدميري، والتقي الحصني، وقال الحافظ تقي الدين الفاسي في كتابه فيه: "وقد أحرقت كتب ابن عربي غير مرة". وممن صنع ذلك من العلماء المعتبرين: الشيخ بهاء الدين السبكي، والعلامة القاضي شرف الدين عيسى بن مسعود الزواوي2 المالكي شارح صحيح مسلم، فقال: "وأما ما تضمنه هذا التصنيف من الهذيان، والكفر والبهتان، فهو كله تلبيس وضلال، وتحريف وتبديل، فمن صدق بذلك أو اعتقد [صحته3]   1 ورد بعد هذه في البحر: "وأولياؤه، والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين" انظر تفسير سورة المائدة من البحر لأبي حيان. 2 ولد سنة 664هـ، وتوفي سنة 743هـ انتهت إليه رياسة الفتوى في المذهب المالكي بمصر والشام، وقد شرح صحيح مسلم في اثني عشر مجلدا وسماه: إكمال الإكمال. 3 ساقطة من الأصل، وأثبتها عن العلم الشامخ, فقد ورد فيه نص هذه الفتوى ص498. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 كان كافرا ملحدا، صادا عن سبيل الله، مخالفا لسنة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ملحدا في آيات الله، مبدلا لكلماته، فإن أظهر ذلك, وناظر عليه، كان كافرا يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل، وإن أخفى ذلك، وأسره كان زنديقا، فيقتل متى ظهر عليه، ولا تقبل توبته إن تاب، لأن توبته لا تعرف، فقد كان قبل أن يظهر عليه يقول بخلاف ما يبطن، فعلم بالظهور عليه خبث باطنه، وهؤلاء قوم يسمون الباطنية، لم يزالوا من قديم الزمان ضلالا في الأمة، معروفين بالخروج من الملة، يقتلون متى ظهر عليهم، وينفون من الأرض، وعادتهم التملصح والتدين، وادعاء التحقيق، وهم على أسوأ طريق [فالحذر كل الحذر منهم فإنهم أعداء الله، وشر من اليهود والنصارى؛ لأنهم قوم لا دين لهم يتبعونه، ولا رب يعبدونه، وواجب على كل من ظهر على أحد منهم أن ينهى أمره إلى ولاة المسلمين، ليحكموا فيه بحكم الله تعالى1] ويجب على [من2] ولي الأمر3 إذا سمع بهذا التصنيف البحث عنه، وجمع نسخه حيث وجدها وإحراقها، وأدب من اتهم بهذا المذهب, أو نسب إليه, أو عرف به، على قدر قوة التهمة عليه حتى يعرفه الناس ويحذروه". رأي البكري : ومنهم الشيخ الإمام المحقق الزاهد القدوة العارف نور الدين علي بن يعقوب البكري الشافعي، قال: "وأما تصنيف تذكر فيه هذه الأقوال، ويكون المراد بها ظاهرها، فصاحبها ألعن وأقبح من أن يتأول له ذلك، بل [هو4]   1 ما بين هذين [] ساقط من الأصل. وأثبته عن العلم الشامخ ص498. 2 أثبتها عن المصدر السابق. 3 في الأصل: الأمراء، وهي كما أثبتها في العلم الشامخ. 4 أثبتها عن المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 كاذب فاجر، كافر في القول والاعتقاد، ظاهرا وباطنا، وإن كان قائلها لم يرد ظاهرها، فهو كافر بقوله، ضال بجهله، ولا يعذر في تأويله لتلك [الألفاظ] إلا أن يكون جاهلا بالأحكام جهلا تاما عاما، ولا يعذر في جهله لمعصيته، لعدم مراجعة العلماء والتصانيف1 على الوجه الواجب من المعرفة في حق من يخوض في أمر الرسل ومتبعيهم، أعني معرفة الأدب في التعبيرات، على أن في هذه الألفاظ ما يتعذر، أو يتعسر تأويله، بل كلها كذلك، وبتقدير التأويل على وجه يصح في المراد، فهو كافر بإطلاق اللفظ على الوجه الذي شرحناه. وأما دلائل ذلك فهي مذكورة في تصانيف العلماء، وفيما ألفته أيضا في بعض المسائل وليست هذه الورقة مما تسع الكلام على أقوال هذا المصنف2 لفظة لفظة. مسألة الوعيد لكن مسألة الوعيد -يعني التي قال فيها ابن عربي: وما لوعيد الحق عين تعاين-3لا بد فيها من نبذة لطيفة للضرورة. اعلم [45] أنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية، وإجماع المسلمين أن قول الله حق، وخبره صدق، وذلك واجب له لذاته سبحانه وتعالى، ومن أنكر أن خبر الله حق، أو أن وعده ووعيده صدق فهو كافر بإجماع المسلمين، وإنما قال بعض الناس من الأصوليين: إنه لا يجب وقوع الوعيد بتأويل مقرر في الأصول، وحقيقته ترجع إلى أن كلام الله تعالى منزل على عادة العرب في تخاطبها، وعادتها إذا أوعدت بالعقوبة -وإن كانت   1 ما دام قادرا على مراجعة التصانيف، فالواجب عليه قبل كل شيء: تدبر آيات الله سبحانه، ففي قبس واحد من نوره ما يبدد باطل التصوف وضلاله، أما أن ندعوه إلى مراجعة التصانيف دون الكتاب والسنة، فهي دعوة إلى اتخاذ أرباب من دون الله، وهي بعينها دعوة التصوف. 2 يقصد فصوص الحكم لابن عربي. 3 يعني: إنكار ابن عربي وقوع العذاب على المشركين والكافرين يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 صورتها الوعيد الجازم- فإنما تريد: إذ لم تعف, وأصرت على الانتقام، وادعي أن ذلك مركوز في طباعها، وأن حقيقة اللفظ الحمل عليه، سواء أراده حالة التخاطب، أو لم يرده. وقال فيه آخرون: إن الرب سبحانه وتعالى علق الأشياء بمشيئته في غير موضع, وأن الوعد المطلق مقيد بالمشيئة، فجوز أن يقع الوعيد بشيء، فلا يحصل المتوعد: إما لأن حقيقة اللفظ مقيدة بعدم العفو، وإما لأن مطلق اللفظ مقيد بنصوص أخر مع أمور أخرى يحتملها اللفظ مطلقا من غير دليل خاص: من تقييد المطلق، وتخصيص العام، واحتمال الإضمار والمجاز. وجوز أن يضع الله تعالى اللفظ وضعا جديدا لمعنى آخر لا تفهمه العرب عند بعض الناس إلى غير ذلك. ومع هذا كله، فإنما هو كلام في أصل الوعيد من حيث الجملة. وأما خصوص مسألة وعيد الكافرين، فلا خلاف أن المراد به قد علم، وأن من ادعى أن الكفار لا يعذبون أصلا، فهو كافر، إلا أن يكون ممن لم تبلغهم الدعوة, أو في معناه، والمراد في وعيد الكافرين المعلوم: هو أنهم يعذبون في النار العذاب الشديد، ولا يغفر كفرهم المغفرة المزيلة للعقوبة بعد بلوغ الدعوة، على الوجه الذي تقوم به الحجة. والعلم بالمراد في هذه القضية متلقى بوجهين: أحدهما: أخبار التواتر. الثاني: فهم الصحابة لذلك عن المعصوم فهما قطعيا منقولا إلينا بالتواتر المعنوي1، وإنما تكلموا في مسألة الخلود دون أصل.   1 ورد الخبر عن عذاب الله للكفار وغيرهم بصيغة الماضي في بعض الآيات، ومثال: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 24] والتعبير عما سيقع بصيغة تفيد أنه وقع يفيد تحقق الوقوع، وأنه سيقع لا محالة، ثم إن ابن عربي إنما ينكر العذاب؛ لإيمانه بوحدة الوجود, وبالتالي إلى وحدة الأديان، فالزنديق يدين بأن الله سبحانه عين كل شيء، ويدين بأن كل دين هو عين الحق، فكيف يعذب الله كافرا، أو مشركا؟ والكافر عنده هو الله، وكذلك المشرك. والكفر دين حق وكذلك الشرك، لا يمكن وقوع العذاب، وإلا قلنا: إن الله يعذب نفسه. هذا سر إنكار ابن عربي وقوع العذاب، فهو في واد، وما ذكره المؤلف هنا عن الوعيد في واد آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 التعذيب، فمن حاك1 الخلاف عن السلف، ومن 2 حاك الإجماع " ............ " ففيها نظر. والله أعلم" فتوى البالسي وابن النقاش : ومنهم العلامة نجم الدين محمد بن عقيل البالسي3 الشافعي، فقال: "من صدق هذه المقالة الباطلة أو رضيها، كان كافرا بالله تعالى يراق دمه، ولا تنفعه التوبة عند مالك وبعض أصحاب الشافعي، ومن سمع هذه المقالة القبيحة تعين عليه إنكارها بلسانه، بل يجب عليه منع قائلها بالضرب، إن لم ينزجر باللسان، فإن عجز [46] عن الإنكار بلسانه أو بيده، وجب عليه إنكار ذلك بقلبه, وذلك أضعف الإيمان". ومنهم نادرة زمانة العلامة أبو أمامة محمد بن علي بن النقاش4 المصري الشافعي في تفسيره5، وأجاد جدا في تقرير مذهبهم، وبيان عواره، فقال: "وقد ظهرت أمة ضعيفة العقل، نزرة العلم، اشتغلوا بهذه الحروف, وجعلوا لها دلالات، واشتقوا منها ألفاظ، واستدلوا منها على مدد وسموا أنفسهم بعلماء الحروف6، ثم جاءهم شيخ وقح من جهلة العالم يقال له:   1، 2 لعلها حكى. 3 ولد سنة 660هـ. ولي قضاء بلبيس، ولازم ابن دقيق العيد. وتوفي سنة 729هـ. 4 ولد سنة 720هـ. وتوفي سنة 763هـ. 5 سماه السابق واللاحق، والتزم أن لا ينقل فيه حرفا من تفسير أحد ممن تقدموه. 6 يقول ابن خلدون في مقدمته ص440 عن علم الحروف: "حدث هذا العلم في الملة بعد صور منها، وعند ظهور الغلاة من المتصوفة، وزعموا أن الكمال الأسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب. وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء، فهي سارية في الأكوان على هذا النظام، تعددت فيه تآليف = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 البوني، ألف فيها مؤلفات، وأتى فيها بطامات، ومن الحروف دخلوا للباطن، وأن للقرآن باطنا غير ظاهر، بل وللشرائع باطنا غير ظاهرها، ومن ذلك تدرجوا إلى وحدة الوجود، وهو مذهب الملحدين كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض ممن يجعل الوجود الخالق هو الوجود المخلوق، وقد لا يرضى هؤلاء بلفظ الاتحاد بل يقولون بالوحدة؛ لأن الاتحاد يكون افتعالا بين شيئين، وهم يقولون: الوجود واحد لا تعدد فيه، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع، فإن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، ولكن ليس وجود هذا وجودا هذا. والقدر المشترك هو كلي، والكلي المطلق لا يوجد كليا مطلقا إلا في الأذهان، لا في الأعيان، بل كل موجود من المخلوقات له وصف يختص [به] لا يشاركه فيه غيره في الخارج، وأنقص المراتب عند هؤلاء مرتبة أهل الشريعة. ثم قال: وهم متألهون للخيال، معظمون له، ولا سيما ابن عربي منهم، ويسميه: أرض الحقيقة. ولهذا يقولون بجواز الجمع بين النقيضين1، وهو من الخيال الباطل، وقد علم المعتنون بحالهم من علماء الإسلام كالشيخ عز الدين بن عبد السلام،   = البوني وابن عربي وغيرهما" ويعرف طاش كبرى زادة هذا العلم في مفتاح السعادة ص418 جـ2 ط الهند: "هو علم باحث عن كيفية تمزيج الأعداد، أو الحروف على التناسب والتعادل، بحيث يتعلق بواسطة هذا التعديل أرواح متصرفة تؤثر في القوابل حسب ما يراد ويقصد من ترتيب الأعداد والحروف وكيفياتها" وانظر ص68 من كتاب نقض المنطق لابن تيمية. وما زال كثير منهم يهول بهذه الأساطير يمدونها شركا لمال يتيم يراد استلابه، أو عرض يبتغى استلابه. 1 قولهم بهذا الخبل راجع إلى إيمانهم بوحدة الوجود، حتى زعموا أن ذات الإله: جامعة بين النقيضين، وبين الضدين، وأن هذا الجمع أول مقوماتها وأبين خصائصها، قال الجيلي في كتابه الإنسان الكامل ص69جـ1: "الألوهية في نفسها تقتضي شمول النقيضين، وجمع الضدين بحكم الأحدية" هذا لإيمانهم بأنه سبحانه عين كل شيء وكل معلوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وابن الحالجب وغيرهما: أن الجن والشياطين تمثلت لهم، وألفت كلاما يسمعونه، وأنوارا يرونها1، فيظنون ذلك كرامات، وإنما هي أحوال شيطانية، لا رحمانية وهي من جنس السحر. ولقد حكى سعيد الفرغاني في شرح قصيدة ابن الفارض أن رجلا نزل دجلة، ليغتسل لصلاة الجمعة، فخرج من النيل، فأقام بمصر عدة سنين، وتزوج، وولد له هناك، ثم نزل ليغتسل لصلاة الجمعة، فخرج من دجلة فرأى غلامه ودابته والناس لم يصلوا بعد الجمعة، ومن المعلوم لكل ذي حس أن يوم الجمعة ببغداد ليس بينه وبين يوم الجمعة بمصر يوم, فضلا عن أكثر منه ولا الشمس توقفت عدة أعوام في السماء، وإنما هو الخيال، فيظنونه لجهلهم في   1 جرى مثل هؤلاء الشيوخ على تصديق ما يهرف به خيال الصوفية من رؤية أنوار وسماع كلام، ثم يحاولون تعليل هذا الباطل بغير علته الحقة، فيزعمون أن ذلك النور والكلام تهاويل جن تجسدت لهم، وخيالات شياطين تبدت في صور إنسية. هذا ليردوا إفك الصوفية فيما زعموه من رؤية نور الله وسماع كلامه, والحق أن الصوفية لم يروا نورا، ولم يسمعوا كلاما، والحق أنهم كاذبون كاذبون مفترون، يدعون هذا بغية استعباد المخابيل والمفاليك لشهوات الجريمة التي تتلمظ على أنيابهم، وينزو قيحها من صدورهم. وفي الكتاب والسنة ما يشهد بكذبهم، ويدمغهم بأنهم أحلاس إفك وبهتان، فموسى عليه السلام خر صعقا حين تجلى الله للجبل، وربنا سبحانه، ما يكلم إلا رسله وحيا، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، أفهؤلاء الدعاة إلى الإثم والوثنية من رسل الله؟ أتراهم أقوى روحا من موسى عليه السلام؟ ألا فلنقتص الكذب والزور نفسه، أما تصديق دعاويهم، ثم تعليلها بمثل ما عللها به هؤلاء الشيوخ، ففيه مشايعة للباطل في بعض ما يفتريه، ومساندة له في أدنأ بهتانه. فالله سبحانه يقول عن الشيطان: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، والرسول الكريم ما رأى الجن وهم يستمعون القرآن، وعذر الشيوخ أنهم كانوا يعيشون في عصر امتلأ بهذه المؤتفكات، حتى صارت -وكأنها من مسلمات البديهة- فردوا الباطل بما مكن لهم عصرهم أن يردوه به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الخارج1. ثم قال2: وحقيقة قولهم: إن ما ثم وجودا [47] إلا هذا العالم لا غير، كما قاله فرعون، لكن هم يقولون: إن العالم هو الله، وفرعون أنكر وجود الله, ثم قال: قيل لبعض أكابرهم: ما3 الفرق بينكم وبين النصارى؟ قال: النصارى خصصوا4، وهذا موجود في كلام ابن عربي، وغيره. ينكرون على المشركين تخصيصهم عبادة بعض، والعارف عندهم يعبد كل شيء5 -ثم قال: ومن المعتقدين الحلول الخاص طائفة من أتباع العبيدية6 الباطنية الذين ادعوا أنهم علويون- ثم قال: وقد اعتقدت طائفة منهم الإلهية في الحاكم7 كالدريزية   1 أي: يظنون ما تخيلوه حقيقة واقعة، وما ظنهم هذا عن جهل، وإنما هو عن خيال؛ يمس الكلب فيخال نفسه أسدا، والشيطان فيظن نفسه ملاكا. 2 أي: ابن النقاش. 3 في الأصل: لما. 4 أي: جعلوا عيسى وحده ربا وإلها، وكان الواجب -هكذا يفتري الزنادقة- أن يتخذوا من كل شيء ربا وإلها، لأن الإله عين كل شيء. 5 نص ابن عربي: "والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه" ص185ط الحلبي. 6 نسبة إلى عبيد الله أبي محمد سعيد بن الحسين بن عبد الله القداح من سلالة ميمون، وعبيد. هو إمام الشيعة الإسماعيلية في عصره، ومؤسس الدولة الفاطمية ولد سنة 260هـ وآلت إليه زعامة الإسماعيلية سنة 280هـ وتوفي وله من العمر نحو ثلاث وستين سنة. 7 منصور بن عبد العزيز بن المعز الفاطمي، ادعى الإلهية، وكان غدورا سفاكا للدماء، تثير تصرفاته المتناقضة دهشة بالغة، تدفع إلى الظن بأنه كان نهب ولثة عقلية جامحة. ولد سنة 375هـ ولقي مصرعه سنة 411هـ على يد عبدين لابن دواس، تنفيذا لمؤامرة دبرتها له أخته ست الملك للخلاص منه، وما زال أتباعه الدروز حتى اليوم ينتظرون رجعته؛ إذ يؤمنون بأنه لم يقتل، وإنما اختفى وسيعود مرة ثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 أتباع شهنكير1 الدرزي الذي كان من موالي الحاكم، وأضل أقواما بالشام في وادي تيم الله بن ثعلبة" ا. هـ. رأي ابن هشام وابن خلدون : ومنهم العلامة جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام2 صاحب المغني وغيره من المصنفات البديعة، وكتب على نسخة من كتاب الفصوص. هذا الذي بضلاله ... ضلت أوائل مع أواخر من ظن فيه غير ذا ... فلينأ عني، فهو كافر هذا كتاب فصوص الظلم، ونقيض الحكم، وضلال الأمم، كتاب يعجز الذم عن وصفه، قد اكتنفه الباطل من بين يديه ومن خلفه، لقد ضل مؤلفه ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا: لأنه مخالف لما أرسل الله به رسله, وأنزل به كتبه وفطر عليه خليقته" ا. هـ. وقال العلامة قاضي القضاة أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون3: "إن طريق المتصوفة منحصر في طريقين4، الأولى: وهي   1 يعني محمد بن إسماعيل المعروف بأنوشتكين البخاري، أقوى رسل حمزة بن علي بن أحمد الزوزني المؤسس الحقيقي لمذهب الدروز، وقد شرح أنوشتكين أصول مذهبه القائم على أساس تأليه الحاكم في رسالة قدمها إلى هذا فقر به واصطفاه فقوي واشتد نفوذه، وقد سمى أنوشتكين نفسه بسند الهادي وحياة المستجيبين، وتذهب بعض الروايات إلى أنه قتل سنة 410هـ, وأخرى إلى أنه فر إلى الشام، وهناك نشر دعوته، فكانت هي نحلة الدروز الضالة. 2 ولد سنة 708هـ وتوفي سنة 761هـ يقول عنه ابن خلدون "ما زلنا -ونحن بالمغرب- نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له: ابن هشام، أنحى من سيبويه". 3 ولد سنة 732هـ وتوفي سنة 808هـ تولى قضاء المالكية بمصر، يقول عنه المستشرق ديبور في كتابه تاريخ الفلسفة في الإسلام: "مفكر متزن يحارب صناعة النجوم بالأدلة العقلية، وكثيرا ما يعارض النزعة الصوفية العقلية عن الفلاسفة بمبادئ الدين". 4 صوابها: طريقتين. وهكذا ذكرت في العلم الشامخ الذي وردت فيه هذه الفتوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 طريقة السنة، طريقة سلفهم الجارية على الكتاب والسنة، والاقتداء بالسلف الصالح من الصحابة والتابعين1, والطريقة الثانية: وهي مشوبة بالبدع، وهي   1 ما كان من الصحابة، ولا من التابعين صوفي، ولم يسم واحد منهم بهذا الاسم المرادف للزنديق، والصوفية منذ نشئوا وحيث كانوا عصابة تنابذ الكتاب والسنة، لا يفترق في هذا سلفهم عن خلفهم في هذا، غير أن بعضهم كان أشد جرأة من بعض في البيان عن زندقته، ودليلنا ما سجله التاريخ الحق، وما خلفوه هم في كتبهم من تراث وثني طافح بالمجوسية الغادرة، فتقسيم ابن خلدون هذا مجاف للصواب، ولكنه خدع كغيره فيما يشقشق به الصوفية من زور النفاق, إذ يزعمون كاذبين أن طريقهم طريق الكتاب والسنة، وابن خلدون نفسه يقر بأنه بدعة، إذ يقول في مقدمته عن التصوف: "هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة! ثم هل في الكتاب والسنة أن قبر الكرخي يقسم به على الله فيستجيب، ويستشفى به فيهفو الشفاء، وأن الصوفية هم غياث الخلق؟ كما زعم القشيري في رسالته. وهو من سلف الصوفية المتقدمين، وأقلهم شناعة في إفك التصوف. أجاء في السنة أن العزوبية تباح لهذه الأمة بعد المائتين من الهجرة، وأن تربية الجرو أفضل من تربية الولد كما زعم أبو طالب المكي في قوته، ونسب فريته المانوية إلى الرسول, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أفيها أن الدين شريعة وحقيقة، وأن هذه أفضل من تلك؟ أفيها أن المريد لا بد له من شيخ، وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان؟ أفيها أن قلب المريد بيد شيخه يصرفه بهواه؟ أفيها أن غضب الشيخ من غضب الله؟ أفيها أن المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه كجثة الميت بين يدي الغاسل؟ أفيها أن الولي أفضل من النبي؟ أفيها أن العارف يسمع كلام الله كما سمعه موسى؟ أفيها أن الذريات تسبح بحمد الأولياء، وأن هؤلاء يفقهون تسبيحها؟ كما زعم الغزالي؟ تلك بعض مفتريات سلف الصوفية الأقدمين، بهتوا بها الحق والهدى منذ سمي أول رجل منهم بالصوفي في منتصف القرن الثاني للهجرة وبعده، وتلك بعض ضلالات أولئك الأول الذين يزعم لهم ابن خلدون -وغيره- أن طريقهم مؤيد بالكتاب والسنة، أفتنسم على روحك ما نقلته عنهم نسمات حق، أو عبير هدى؟ كلا بل إنه يحموم كفر ومجوسية ألا فلنقل الحق: ما من صوفي إلا وهو يسلك طريق الشيطان وحده من سلف ومن خلف والتقسيم الصحيح للصوفية أن يقال: إنه قسمان: عملي ونظري، وأن هذا وليد ذاك، فالنظرية وليدة التطبيق، ثم نبين خصائص كل من النوعين، مقارنين بينهما وبين الحق من الكتاب والسنة، وسترى بعد هذه المقارنة أن التصوف بينهما وبين الحق من الكتاب والسنة، سترى بعد هذه المقارنة أن التصوف في نشأته وتطوره في سلفيته وخلفيته لا ينتسب إلى الإسلام برحم: دانية، أو نائية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 طريقة قوم من المتأخرين يجعلون الطريقة الأولى وسيلة إلى كشف حجاب الحس لأنها من نتائجها، ومن هؤلاء المتوصفة ابن عربي وابن سبعين، وابن برجان وأبتاعهم ممن سلك سبيلهم، ودان بنحلتهم1، ولهم تواليف كثيرة يتداولونها مشحونة بصريح [الكفر2] ومستهجن البدع، وتأويل الظاهر لذلك على أبعد الوجوه، وأقبحها مما يستغرب الناظر فيها من نسبتها إلى الملة، أو عدها في الشريعة، ولي ثناء أحد على هؤلاء حجة، ولو بلغ المثنى ما عسى أن يبلغ [من3] الفضل؛ لأن الكتاب والسنة أبلغ فضلا، أو شهادة من كل أحد4، وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلة، وما يوجد من نسخها بأيدي الناس مثل الفصوص والفتوحات المكية لابن عربي والبد لابن سبعين وخلع النعلين لابن قسي [وعين اليقين لابن برجان، وما أجدر الكثير من شعر ابن الفارض والعفيف التلمساني5، وأمثالهما أن يلحق بهذه الكتب، وكذا شرح ابن الفرغاني للقصيدة الثانية من نظم ابن الفارض6] فالحكم في هذه   1 في الأصل بتخلقهم، والتصويب من العمل الشامخ. 2، 3 ساقطتان من الأصل، وأثبتهما عن العمل الشامخ. 4 هذا قول يحمده الحق لابن خلدون. 5 داعر من زنادقة الصوفية، لا يحرم فرجا، ويبيح نكاح الأم والأخت، ويرى القرآن كله شركا، وما عنده غير ولا سوى بوجه من الوجوه. هلك سنة 690 أما ابن سبعين فمن القائلين بالوحدة المطلقة، ولد بمرسيا سنة 613هـ. وهلك سنة 667 هـ بمكة. 6 ما بين هذين [] لم يرد في الأصل، وأثبته عن ص500 من العمل الشامخ إذ أورد فيه مؤلفه المقبلي نص فتوى ابن خلدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها متى وجدت بالتحريق بالنار، والغسل بالماء حتى ينمحي1 أثر الكتاب؛ لما في ذلك من المصلحة العامة في الدين بمحو العقائد المختلفة، فيتعين على ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعا للمفسدة العامة، ويتعين على من كانت عنده التمكين منها للإحراق. رأي الشمس العيزري : ومنهم العلامة شمس الدين محمد العيزري الشافعي في كتاب سماه: الفتاوي المنتشرة. قال عن الفصوص: "قال العلماء: جميع ما فيه كفر؛ لأنه دائر مع عقيدة الاتحاد2، وهو من غلاة الصوفية المحذر من طرائقهم، وهم شعبان3: شعب حلولية يعتقون حلول الخالق في المخلوق، وشعب اتحادية لا يعتقدون تعددا في الوجود في زعمهم أن العالم هو الله، وكل فريق منهم يكفر الآخر، وأهل الحق يكفرون الفريقين. ثم قال. ومن هم ابن الفارض صاحب الديوان -وعد جماعة معه- ثم قال: ذكر هؤلاء بالحلول والاتحاد جماعة من علماء الشريعة المتأخرين، كالشيخ عز الدين بن عبد السلام وبأبي عمرو بن الصلاح، وابن دقيق العيد, وشيخ الفقهاء الزين الكتنائي، وقاضي القضاة الشيخ تقي الدين السبكي، وحكم بتكفيرهم القضاة الأربعة: البدر عهن جماعة، والزين الحنفي، والشرف الزواوي، والسعد الحنبلي4- ثم ذكر كلام الشيخ أبي حيان فيهم.   1 في الأصل: يمتحي. والتوصيب من العلم الشامخ. 2 صوابها: الوحدة. فهذا هو دين ابن عربي. 3 الحق أنهم ثلاثة: حلوليون، واتحاديون، وأهل الوحدة، ولعل العيزري يستعمل الاتحاد في الدلالة على الوحدة أيضا. 4 تقدم ذكر بعض هذه الفتاوى، وقد أوردها صاحب العلم الشامخ فطالعها فيه من ص495 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 من تفسيره البحر1 إلى أن قال: - وقد انتدب بعض المغالطين من أهل العلم ممن يحسن الظن ببعضهم، ولا صواب معه، وصنف تأويلات لنظم السلوك2 وتعسف بما لا يصح الأخذ به لقوة ظواهر الألفاظ الخالقة جزما لسياج عصمة الديانة، وانتهاك حرمة الربوبية- ثم قال: - ويحوم3 بظاهر كلامه على أن هو الله، وأن الله هو، وهذا بهتان قبيح، وكفر صريح -ثم قال: - وكان ابن الفارض يقول: إنما قتل الحلاج لأنه باح بسره، إذ شرط هذا التوحيد الكتم4". رأي لسان الدين بن الخطيب، والموصلي: ومنهم العلامة لسان الدين محب بن الخطيب الأندلسي المالكي5 في كتابه "روضة التعريف بالحب الشريف" وأجاد في تقرير مذهبه من ورد ما شاء، فقال: "الفرع الخامس في رأي أهل الوحدة المطلقة، ثم قال: وحاصله: أن الباري -جل وعلا- هو مجموع ما ظهر، وما بطن، وأنه لا شيء خلاف ذلك، وأن تعدد هذه الحقيقة المطلقة والآنية الجماعة التي هي عين كل آنية، والهوية التي هي   1 سبق ذكر قول أبي حيان. 2 هي التائية الكبرى لابن الفارض. 3 لا, بل يسف إسفافا، ويصرح بهذا غير موار ولا موارب. 4 يعني توحيد هم القائم على أساس اعتقاد أن الحق عين الخلق، ويجبن بعض الصوفية عن التصريح المبين بهذا مخافة القتل، ولذا يقول الغزالي عن هذه المرتبة، محذرا لإخوانه الصوفية: إنها سر الربوبية. وإفشاء سر الربوبية كفر، ويقول السهروردي المقتول: بالسر أن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء العاشقين تباح 5 هو ذو الوزارتين مضرب المثل في الكتابة والشعر والطب ومعرفة العلوم ولد سنة 713 هـ بغرناطة، وتوفي سنة 766 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 عين كل هوية1 إنما وقع بالأوهام من الزمان والمكان والخلاف والغيبة والظهور والألم واللذة والوجود والعدم. قالوا: وهذه إذا حققت إنما هي أوهام راجعة إلى أخبار الضمير، وليس في الخارج شيء منها، فإذا سقطت الأوهام صار مجموع العالم بأسره، وما فيه واحدا، وذلك الواحد هو الحق، وإنما العبد مؤلف من طرفي حق وباطل، فإذا سقط الباطل -وهو اللازم بالأوهام– لم يبق إلا الحق وصرحت بذلك أقوال شيوخهم، فمنه قول ابن أحلى: قد أقام باطلا بعض صفاته، وقال الحلاج وابن العربي: وقد تعرض لما به وقعد التعدد، وأنه وهم، فالكل واحد وإن كان متفرقا. فسبحان من هو الكل، ولا شيء سواه الواحد بنفسه، المتعدد بنفسه". ومنهم الحافظ الرحلة شمس الدين أبو عبد الله محمد الموصلي الشافعي، نزيل دار الحديث بدمشق. فقال. "وفي كلام ابن عربي من الكفر الصريح الذي لا يمكن تأويله شيء كثير يضيق هذا الوقت من وصفه، ومنه تفسير اسمه: العلي بأن قال: العلي على من؟ وما ثم إلا هو2! وهو المسمى أبا سعيد [الخراز] . رأي البساطي : ومنهم شيخنا علامة زمانه قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد البساطي المالكي قاضي مصر. قال في أول كتاب له في أصول الدين في المسألة السادسة في حدوث العالم: "وخالفنا في ذلك طوائف. الأولى: الدهرية، والثانية.   1 يعني: أنهم يدينون بأن الله سبحانه عين كل ما بطن، وعين كل ما ظهر. فالآنية عندهم هي تحقق الوجود العيني من حيث مرتبته الذاتية وتدل مواردها على أنها تستعمل في مقابل الماهية: أي المرادفة لمجرد الوجود، وقد سبق تعريف الهوية. 2 في الأصل: العلا علا عن من، وليس ثم غيره، والتصويب من الفصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 متأخرو الفلاسفة كأرسطو1، ومن تبعهم من ضلال المسلمين كابن سينا والفارابي2 ومن حلي كلامه، وزخرفة بشعار الصالحين كابن عربي وابن سبعين ثم قال في الكتاب الثاني في المسألة السادسة في أنه سبحانه ليس متحدا بشيء: واعلم أن هذه الضلالة المستحيلة في العقول سرت في جماعة المسلمين، نشؤوا في الابتداء على الزهد والخلوة والعبادة، فلما حصلوا من ذلك على شيء صفت أرواحهم، وتجردت نفوسهم، وتقدست أسرارهم، وانكشفت لهم ما كانت الشواغل الشهوانية مانعة من انكشافه3، وقد كانت طرق أسماعهم من   1 أعظم فلاسفة اليونان على الإطلاق، ولد بمدينة استجايرا سنة 384 قبل الميلاد، أستاذه أفلاطون، ومن تلاميذه إسكندر المقدوني. توفي سنة 333 قبل الميلاد. 2 الفارابي: هو محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ أبو نصر، يقول عنه ابن خلكان: "أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه". ولد في وسيج قرية تقع في فاراب من بلاد الترك فيما وراء النهر، حصل علومه في بغداد على يوحنا بن خيلان، ومات في دمشق سنة 339هـ عن ثمانين عاما. أما ابن سينا فولد في أفشنة على مقربة من بخارى سنة 370هـ. وفي بيت تسوده تقاليد فارسية معارضة للإسلام. تقلد الوزارة لشمس الدولة في همدان. وتوفي سنة 428 هـ وهو أشهر وأكبر فلاسفة عصره. 3 ما هذا الذي انكشف لهم؟ لعله صور ما في أذهانهم المخبولة من تهاويل الجنون. ثم إن الإسلام ليس دين رهبانية، ولا زهادة تطوي الذات على نفسها الولهي، حتى تخمد فيها جذوة الحياة الشاعرة، وتخبو وقدات الشعور والإحساس بواجب الدين والنفس والحياة، وهي طريحة الوهم في غيابه كهفها الساهم المظلم الحزين، إنما الإسلام دين العمل والجد, مع الإيمان المشرق والتقوى، وانطلاق النفس في رحاب الوجود ومجاليه، كادحة في سبيل الله، لتحقيق الغاية الكبرى، هي أن يكون الناس أمة واحدة تتجاوب أرواحهم بالإيمان والمحبة، وتتجه مشاعرهم في كل هزة إلى الله وحده، وتتوحد بواعثهم وغاياتهم في عبادة الله رب العالمين، معتصمة بالحق والهدى من الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 خرافات النصارى، أنه إذا حل روح القدس في شيء نطق بالحكمة، وظهر له أسرار ما في هذا العالم، مع تشوف النفوس إلى المناصب العلية، فذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة، فمنهم من صرح بالاتحاد على المعنى الذي قالته النصارى1، وزادوا عليه أنهم لم يقصروه على المسيح، كما ذهب إليه الغلاة من الروافض في علي رضي الله عنه، وكذا ما ذهب إليه جماعة في خاتم الأولياء2 عندهم من   1 يرى اليعاقبة من النصارى أن اللاهوت والناسوت يؤلفان في المسيح طبيعة واحدة، ويزعمون أن الكلمة انقلبت لحما ودما، فصار الإله هو المسيح, وهو الظاهر بجسده، بل هو هو، فإرادة الله وفعله هما إرادة المسيح وفعله، هذا على حين كان الملكانيون يميزون بين طبيعتين في المسيح اللاهوت والناسوت، ويزعمون أن مريم ولدت إلها أزليا، وأن القتل والصلب وقع على اللاهوت والناسوت، وأطلقوا اسم الأبوة على الله، والبنوة على المسيح، أما النسطوريون، فكان أكثر تدقيقا من الملكانيين في التمييز بين الطبيعتين، فأثبتوا للمسيح خصائص الإنسان في الوجود والإرادة والفعل، مميزين بين هذا وبين ما للعنصر اللاهوتين زاعمين أن الله سبحانه ذو أقانيم ثلاثة: الوجود والعلم والحياة، ويدعون أن هذه الأقانيم ليست هي زائدة على الذات، ولا هي هو "قارن بين هذا وبين رأي الأشاعرة في الصفات" وأن الكلمة اتحدت بجسد عيسى لا على طريق الامتزاج كالملكانية، ولا الظهورية كاليعاقبة، ولكن كإشراق الشمس على بللور أو النقش في الخاتم.. هذا معتقد النصارى، ولعلك موقن بعده أن الصوفية أشد إيغالا في الكفر من هذا، فكل ما نسبته المسيحية المفلسفة إلى المسيح من ربوبية وإلهية ونبوة نسبته الصوفية إلى كل شيء، قالت المسيحية: إن الله هو المسيح ابن مريم، وقالت الصوفية: إن الله هو عين كل شيء. قالت الأولى: إن الله ثالث ثلاثة، وقالت الصوفية: إن الله هو ما لا يحصى ولا يتناهى من الأبدان والعناصر، فأيهما أدخل في الكفر الخبيث من الآخر. 2 يدين الصوفية بأن النبوة أعلى من الرسالة، وبأن الولاية أعلى من النبوة، فيكون الولي عندهم أسمى مقاما من النبي والرسول، ولذا يقول ابن عربي: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول، ودون الولي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ...............................................   = واستدلوا على إفكهم بأساطير: أولا: الولي يعلم الشريعة والحقيقة، خبير بالظاهر والباطن، والنبي والرسول لا يعلمان سوى الشريعة أو الظاهر فحسب. ثانيا: الرسالة والنبوة محددتان بالزمان والمكان. ولذا تتقاطعان، وقد انقطعتا فعلا، أما الولاية فلا تحدها مكانية ولا زمانية. بل هي صنو الديمومة والسرمدية والانطلاق. ثالثا: الرسول لا يستمد معرفته عن الله مباشرة، بل بواسطة ملك يبلغ الوحي الإلهي، أما الولي فيستمد الحقيقة فيضا مباشرا من باطن الحقيقة المحمدية: أي ذات الله مع التعين الأول. رابعا: أفضل أسماء الله هو الولي، وكل موجود هو اسم إلهي تعين في صورة هذا الموجود، فيكون الموجود الذي تعين فيه الله باسمه الولي، أفضل من الذي تعين فيه باسمه الرسول أو النبي، ولما كان للنبيين خاتم، فكذلك للأولياء خاتم، وهو يستمد فيوضات علم الحقيقة مباشرة عن الروح المحمدي، وهو أشبه ما يكون بالعقل الأول عند أفلوطين، أو بالكلمة في المسيحية المفلسفة. وإليك ما يذكره ابن عربي عن خصائص الولاية وخاتم الأولياء "واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام، ولهذا لم تنقطع، وأما نبوة التشريع والرسالة، فمنطقة، والرسول من حيث هو ولي أتم من حيث هو نبي ورسول، فمرجع الرسول والنبي إلى الولاية والعلم" ثم يقول عن علم الحقيقة "ما يراه أحد من الأولياء إلا من مكشاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه -متى رأوه- إلا من مشكاة خاتم الأولياء" ثم يقول عن الخاتم: "وخاتم الأولياء الولي الوارث الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب". أنظر ص134، ص62، ص64 من فصوص الحكم ط الحلبي، ولعل أول من زمزم لهم بهذه الأسطورة الكهنوتية: هو محمد بن علي بن الحسن بن بشر المعروف بالحكيم الترمذي -وهو غير صاحب السنن- وألف فيها كتابا سماه "ختم الولاية" زعم فيه أن خاتم الأولياء يكون في آخر الزمان، وأنه أفضل ممن تقدمه من الأولياء، ومن أبي بكر وعمر، ومن خصائصه عند اشتغاله بالأعمال القلبية أكثر من اشتغاله بالعبادة، ولذا زعم الحكيم الترمذي: أن الولاية أفضل من النبوة، ووضوح الباطل في هذه الأساطير بين لا يحتاج إلى بيان. وقد رد الإمام ابن تيمية عليها في الجزء الرابع ص57 مجموعة الرسائل والمسائل. هذا دين الصوفية في الولاية والولي وخاتمهم، ومنه توقن: لم يضف الصوفية إلى أوليائهم قدرة الله وعلمه وحكمته وربوبيته وإلهيته؟ وتوقن: لم نحارب هذه الولاية المزعومة, وسنظل بعون الله ندمر هذه الطواغيت والأصنام، داعين الناس إلى أن يكونوا من أولياء الله الذين وصفهم رب العالمين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الحلول، ولهم في ذلك كلمات يعسر تأويل كلها لمن يريد الاعتذار عنهم، بل منها ما لا يقبل التأويل، ولهم في التأويل خلط وخبط، كلما أرادوا أن يقربوا من المعقول ازدادوا بعدا، حتى إنهم استنبطوا قضية حلت لهم الراحة، وقنعوا في مغالطة الضرورة بها بالمغيب، وهي أن ما هم فيه، ويزعمونه وراء العقل، وأنه بالوجدان يحصل، ومن نازعهم محجوب مطرود عن الأسرار الإلهية، وفي هذا كفاية. والله أعلم" ا. هـ. البساطي وشرحه للتائية وقد قام في زماننا ناس حدثان الأسنان سفهاء الأحلام، أرادوا [50] إظهار هذا المذهب، ثم أخزاهم الله تعالى، فقلقلوا كل مقلقل, وكان مما قالوه: أن الشمس البساطي هذا منهم، وأنه شرح تائية ابن الفارض، فاستبعد هذا منه. وإن كان ما قالوه صحيحا، فقد قضى على نفسه في كلامه هذا، بأنه خرج من دائرة العقل، ثم يسر الله -وله الحمد- الاطلاع على الشرح المنسوب إليه, فإذا هو بريء مما فرقوه به كما كنت أظن، فرأيته قال في أوله: "أما بعد: فهذا كتاب شرح قصيدة ابن الفارض، ولباب فتح، وصيد لحن [ابن] الفارض على وجه أنا نبين مراده من كلامه بقدر فهمنا لمقصوده منه، ولا يلزمنا صحة ما قاله في العربية لفظا، أو في الشريعة معنى، أو استحسانا، عقلا أو شرعا أو عرفا" ثم تكلم على الأبيات على وجه يظهر منها حملها على موافقة الشرع ما أمكنه، فإذا عجز صرح في ذلك الموضع بما يليق به من الحكم عليه من غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ثم قرر1 أمر التسخير، وأن منه ما هو بالمال، ومنه ما هو با لحال، وأن ما هو بالحال مثل تسخير الطفل لأبيه بالقيام في مصالحه، وتسخير الرعايا للملك بقيامه في مصالحهم, قال: "وهذا كله تسخير بالحال من الرعايا يسخرون [في ذلك] مليكهم، ويسمى على الحقيقة تسخير المرتبة، فالمرتبة حكمت عليه بذلك، فالعالم كله يسخر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه اسم مسخر. قال الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ [فِي] شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل، كما سلط موسى [عليه] حكمة من الله ظاهرة في الوجود؛ ليعيد في كل صورة2، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك, فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد, إما عبادة تأله، وإما عبادة تسخير، فلا بد من ذلك لمن عقل، وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد، والظهور بالدرجة في قلبه، ولذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات، ولم يقل: رفيع الدرجة، فكثر الدرجات في عين واحدة، فإنه قضى أن لا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة، أعطت كل درجة مجلى إلهيا عبد فيها. الهوى رب الصوفية الأعظم : وأعظم مجلى عبد فيه، وأعلاه الهوى، كما قال: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] وهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا بالله، ولا يعبد هو إلا بذاته3" ثم قال: "والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد   1 أي: ابن عربي. 2 يفتري على الله أنه يسخر الناس ليعبدوه في كل صورة، أي: ليعبد كل إنسان نفسه وغيره من جماد وحيوان فإله الصوفية عين كل كائن، وعين كل شهوة وعين كل جريمة، وعين كل فاحشة. 3 ص194 فصوص. وبهذا يوقن القارئ أننا لم نتجن على الصوفية، فيما = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وما قبله، وما بعده مما ادعى فيه أن الله يتحد به، ويتجلى بصورته من غير حلول، ما نصه1: "ولكن دعوى تجلي الله بصورة ما مفكر2 بها شرعا بإجماع المسلمين والكافرين من آمن به3، وإن لم يكن حلولا". رأي ابن حجر والبلقيني وغيرهما : ومنهم شيخنا شيخ الإسلام حافظ عصره قاضي القضاة أبو الفضل بن حجر، وشيخه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني4، فقال في ترجمة عمر بن الفارض في لسان الميزان بعد أن ذكر ترجمة الذهبي له بأنه شيخ الاتحادية وأنه ينعق بالاتحاد الصريح في شعره: "وقد كنت سألت شيخنا سراج الدين البلقيني عن ابن العربي، فبادر بالجواب بأنه كافر, فسألته عن ابن الفارض، فقال: لا أحب التكلم فيه, فقلت: فما الفرق بينهما، والمهيع واحد؟! وأنشدته من التائية [51] فقطع علي بعد إنشاد عدة أبيات بقوله: هذا كفر، هذا كفر". ومنهم الشيخ ولي الدين العراقي وأبوه كما تقدم في الفص الموسوي وغيره، ومنهم العلامة برهان الدين السفاقيني صاحب الإعراب، ونظم قصيدة طويلة يتحرق فيها، ويندب أهل الإسلام لهؤلاء الضلال، فقال فيها: فشيخهم الطائي5 في ذاك6 قدوة ... يرى كل شيء في الوجود هو الحقا7   1 مقول قوله قبل: وقال في شرح. 2 في الأصل: مكر. والتصويب من الأصل نفسه، إذ ورد فيه هذا النص مرة أخرى. 3 أي: من آمن بتجلي الله في صورة ما في الدنيا. 4 ولد سنة 724هـ، ولي إفتاء دار العدل وقضاء دمشق، ثم عاد إلى القاهرة توفي سنة 805هـ. 5 يعني: ابن عربي. 6 في الأصل: ذلك. وهو خطأ يختل به وزن البيت. 7 أي: الله سبحانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وكم من غوي كابن سبعين مثله ... وكلهم بالكفر قد طوقوا طوقا وكالششتري القونوي، وابن فارض ... فلا برد الله ثراهم، ولا أسقى ومن كفر ابن الفارض بصريح اسمه شيخنا محقق عصره، قاضي القضاة شيخ الإسلام محمد بن علي الغاياتي الشافعي1. أخبرني عنه بذلك الثقة من غير وجه، وأخبرني الثقة عن الشيخ مدين2 أنه قال: التائية هي الفصوص، لا فرق بينهما، وقد كان المذكور رأس صوفية عصرنا. مقتل الحلاج : ومنهم الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير الدمشقي الشافعي, وقال: "هؤلاء كلهم يقتفون في مسالكهم هذه طريقة الحسين بن الحلاج الذي أجمع الفقهاء في زمانه على كفره وقتله، قاله الإمام أبو بكر المازري الفقيه المالكي" قلت: وما قاله القاضي عياض كما تقدم نقله عنه في مقدمة هذا الكتاب. والله الموفق. قال: "وقد بسطت سيرته في التاريخ بعد الثلاثمائة، وذكرت صفة قتله، واجتماع الكلمة على تكفيره من العلماء والصوفية العباد، سوى ابن عطاء وابن خفيف، حتى أنشدهما بعضهم من شعره قائلا: ما تقولان في قول بعض الشعراء: سبحان من أظهرنا شوته3 ... سر سنا لاهوته الثاقب ثم بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشارب   1 ولد سنة 785 تقريبا. وتوفي سنة 850هـ. 2 هو مدين خليفة الأشموني، نسبة إلى أشمون جريس من أعمال المنوفية ولد بها سنة 781 تقريبا، وتوفي في ربيع الأول سنة 892هـ يقول عنه السخاوي: "وأما في تحقيق مذهب القوم فهو حامل رايته، والمخصوص بصريحه وإشاراته مع أنه لم يكن يتكلم فيه إلا بين خواصه". 3 تقرأ بالضم والفتح، وهي بالضم أدق في الدلالة على دين الحلاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة1 الحاجب بالحاجب فقالا: هذا شعر الزنادقة2، فقال: هذا شعر الحسين بن منصور الحلاج، فلعنا الحلاج، ورجعا عنه" ا. هـ. رأي الذهبي : وممن صرح بكفره، وأحسن في بيان أمره حافظ عصره شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، فقال في كتابه تاريخ الإسلام بعد خط الحافظ سيف الدين ابن المجد علي الحريري المتصوف: "فكيف لو رأى الشيخ كلام ابن عربي الذي هو محض الكفر والزندقة، لقال: هذا الدجال المنتظر، ولكن كان ابن العربي3 منقطعا عن الناس، إنما يجتمع به آحاد الاتحادية4، ولا يصرح بأمره لكل أحد، ولم تشتهر كتبه إلا بعد موته، ولهذا تمادى أمره، فلما كان على رأس السبعمائة جدد الله لهذه [الأمة] دينها بهتكه وفضيحته، ودار بين العلماء كتابه الفصوص، وقد خط عليه الشيخ القدوة الصالح إبراهيم بن معضاد الجعبري فيما حدثني به شيخنا ابن تيمية عن التاج [52] البارنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم يذكر ابن عربي: كان يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا، وحكى عنه ابن تيمية أنه قال لما اجتمع5 بابن عربي، رأيت شيخا نجسا يكذب بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي أرسله الله6".   1 في الأصل: كخطة، وهو خطأ، صوابه ما أثبته. 2 أي: من أنشدهما من شعر الحلاج. 3 اصطلح أهل المشرق على تسميته بابن عربي، أي: من غير آل، تمييزا له من أبي بكر بن العربي القاضي الفقيه المالكي. 4 ابن عربي زعيم وحدة الوجود لا الاتحاد. 5 أي: ابن معضاد. 6 انظر مجموعة الرسائل والمسائل جـ4 ص76، ففيها نص ما ذكر هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 رأي ابن تيمية وغيره من العلماء : وقال الإمام أبو العباس أحمد ابن تيمية في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: "وقد صنف بعضهم -أي: أهل الاتحاد- كتبا وقصائد على مذهبه، مثل قصيدة ابن الفارض المسماة بنظم السلوك، يقول فيها -وذكر منها عدة أبيات1- ثم قال: إلى مثل هذا الكلام -أي: الدال على الاتحاد-، ولهذا كان عند الموت ينشد2: إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي أمنية ظفرت روحي بها زمنا ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه، تبين له بطلان ما كان يظنه3" وقال في إفتائه الذي استفتاه فيه الشيخ سيف الدين عبد اللطيف بن بلبان السعودي، بعد أن حكى جملة من أقوال ابن عربي صريحة في الكفر: "فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو فصوص الحكم, وأمثاله مثل صاحبه القونوي4 -يعني صدر الدين- والتلمساني وابن سبعين، والششتري وابن الفارض وأتباعهم، مذهبهم الذي هم عليه أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود, ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود   1 مما استشهد به ابن تيمية قول ابن الفارض: لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشد فيها أنها لي صلت كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعة 2 أي: ابن الفارض. 3 انظر ص83 وما بعدها من الفرقان ط1366هـ، ص76 جـ4 مجموعة الرسائل والمسائل. 4 محمد بن إسحاق من أهل الوحدة، هلك سنة 673هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الخالق عين وجود المخلوقات، فكل ما تتصف به المخلوقات من حسن وقبح ومدح وذم إنما المتصف به عندهم عين الخالق1، وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها، بل عندهم ما ثم غير أصلا للخالق ولا سواه فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم؛ لأنه ما عندهم له غير وأما العلامة ابن دقيق العيد، فذكر أنه سمع عز الدين بن عبد السلام يقول في ابن عربي: شيخ سوء كذاب" وممن حط عليه، وحذر منه الشيخ القدوة إبراهيم الرقي2, ثم ذكر جماعة ممن تقدم ذكرهم في إفتائهم بأن كتابه الفصوص فيه الكفر الأكبر، وقد ذكر ابن أبي حجلة أيضا عن غير هؤلاء ممن كفر هذه الطائفة من علماء المسلمين وذكر في كلام كل منهم في إبطال هذا المذهب ما لا لبس فيه، وفيما ذكرته مقنع، وذكر الحافظ تقي الدين الفاسي3 في كتابه فيه: "ممن كفره الإمام أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الحضري ابن خلدون قاضي المالكية بمصر، وقال في فتوى ذكرها4 فيه، وفي أضرابه، فيتعين على ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعا للمفسدة العامة.   1 قال ابن عربي في الفصوص: "فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية، بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا, أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا، وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة" ص79 فصوص. فما ينسبه ابن تيمية إليهم صدق وحق في شأنهم. 2 ولد سنة 812هـ وتوفي سنة 884هـ قال عنه السخاوي: ونعم الرجل كان رحمه الله وإيانا. 3 محمد بن أحمد بن علي. ولد سنة 775هـ بمكة. وتوفي سنة 832هـ. 4 سبق ذكر هذه الفتوى. 5 في هامش الأصل جاء ما يأتي: "قلت: رأيته مصرحا به في كتابه "يعني ابن خلدون" عيون العبر، وديوان المبتدأ [والخبر] وفصل هناك تفصيلا زائدا، وهو كتاب لا نظير له". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ومما ذكره الفاسي أيضا من مكفريه: الإمامان رضي الدين أبو بكر بن محمد بن صالح [53] الجبلي المعروف: بابن الخياط1 الشافعي مدرس المعينية بتعز، ومفتي تلك النواحي، والقاضي شهاب الدين أحمد بن علي الناشري2 الشافعي مفتي زبيد، وفاضل اليمن شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري3 الشافعي، قال: "وبين من حال ابن عربي ما لم يبينه غيره" وقال: وأما من أثنى على ابن عربي، فلفضله وزهده، وإيثاره، واجتهاده4 في العبادة، ولم يعرفوا ما في كلامه من المنكرات، لاشتغالهم عنها بالعبادات. وقال الفاسي أيضا: "وبعض المثنين عليه يعرفون ما في كلامه من المنكرات، ولكنهم يزعمون أن   1 من كبار علماء اليمن ولد سنة 772هـ يقول عنه السخاوي: "انتهت إليه رياسة الفقه، وجرى بينه وبين المجد الشيرازي مراجعات، بسبب إنكاره على المشتغلين بكتب ابن عربي" توفي سنة 811هـ. 2 ولد سنة 789هـ، وهو من كبار علماء اليمن، ولي قضاء زبيد نيابة عن والده. توفي سنة 854هـ. 3 ولد سنة 808هـ وتوفي سنة 875هـ له قصيدة طويلة يذم فيها الصوفية ويحذر منهم، منها: حوتهن كتب حارب الله ربها ... وغر بها من غر بين الحواضر تجاسر فيه ابن العربي واجترا ... على الله فيما قال كل المتجاسر فقال بأن الرب والعبد واحد ... فربي مربوب بغير تغاير وأنكر تكليفا، إذ العبد عنده ... إله وعبد، فهو إنكار فاجر وقال: تجلى الحق في كل صورة ... تجلى عليها، فهي إحدى المظاهر فسبحان رب العرش عما يقوله ... أعاديه من أمثال هذي الكبائر فكذبه يا هذا تكن خير مؤمن ... وإلا فصدقه تكن شر كافر وتقع هذه القصيدة في ستة وسبعين بيتا، نقلها المقبلي في كتابه العلم الشامخ ص504. 4 أي فضل لابن عربي؟ إيمانه بأن فرعون هو الله؟ أم عشقه بمكة امرأة زعم لها بعد أنها هي الله؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 لها تأويلات، وحملهم على ذلك كونهم تابعين لابن عربي في طريقته، فثناؤهم على ابن عربي مطروح لتزكيتهم معتقدهم". رأي علاء الدين البخاري : وممن كفر أهل هذا المذهب شيخ مشايخنا نادرة زمانه علاء الدين محمد بن محمد البخاري الحنفي، وصنف فيهم رسالة سماها: "فاضحة الملحدين، وناصحة الموحدين" وبين أن وحدتهم الوحدة التي قرر أصلها بعض الفلاسفة, إلا التي يسميها أهل الله: الفناء1، ونقل عن القاضي عضد الدين تكفيرهم، فإنه قال في وصفه لابن عربي: "يحكى عنه أنه كان كذابا حشاشا كأوغاد الأوباش" فقد صح عن صاحب كتاب المواقف عضد الملة والدين، أعلى الله درجته في عليين، أنه لما سئل عن كتاب الفتوحات لصاحب الفصوص حين وصل هنالك قال: "أفتطمعون من مغربي يابس المزاج بحر2 مكة، ويأكل الحشيش شيئا غير ذلك؟ وقد تبعه -أي ابن عربي- في ذلك ابن الفارض حيث يقول: أمرني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتسمية التائية: نظم السلوك! إذ لا يخفى على العاقل أن ذلك من الخيالات المتناقضة الحاصلة من الحشيش؛ إذ عندهم أن وجود الكائنات هو الله تعالى، فإذن الكل هو الله، لا غير، فلا نبي, ولا رسول، ولا مرسل إليه، ولا خفاء في امتناع النوم على الواجب، وفي امتناع افتقار الواجب إلى أن يأمره النبي بشيء في المنام، لكن لما كان لكل ساقطة لاقطة، ترى طائفة من الجهال ذلت أعناقهم لها، خاضعين أفرادا وأزواجا،   1 هذا اصطلاح صوفي ابتدعه الضالون تمهيدا لتقرير وحدة الوجود، وظني أن أول من تكلم به هو طيفور بن عيسى البسطامي، فكيف يكون هذا من تسمية أهل الله؟ وما قرره في مفهومه الصوفي الكتاب ولا السنة، ولا تكلم به صحابي ولا تابعي. 2 كذا بالأصل: ولعلها: حرم مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وشرذمة من الضلال يدخلون في فسوق الكفر بعد الإيمان، زمرا وأفواجا مع أنهم يرون أنه اتخذ آيات الله، وما أنذروا به هزوا، وأشرك جميع الممكنات -حتى الخبائث والقاذورات- بمن لم يكن له كفوا أحد". تحقيق معنى الكافر والملحد والزنديق والمنافق : وقال في آخر رسالته: "إنهم يسمون كفرة وملاحدة وزنادقة، وذلك أن الكافر اسم لمن لا إيمان له، فإن أظهر الإيمان من غير اعتراف بنبوة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خص باسم المنافق، دون الزنديق، لأن الله تعالى لم يسم الذين نافقوا [54] في عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زنادقة، فدروز 1 الشام -على ما تشهد به كتبهم الملعونة- إنما يظهرون الإيمان، ولا يعترفون بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام، فهم مباحيون منافقون، لا زنادقة على ما يتوهم ذلك؛ لعدم التفرقة بين المنافق والزنديق، وإن طرأ كفره بعد الإيمان خص باسم المرتد؛ لرجوعه عن الإيمان، وإن قال بإلهين أو أكثر خص باسم المشرك؛ لإثباته الشريك في الألوهية، وإن كان متدينا ببعض الأديان والكتب المنسوخة خص باسم الكتابي، كاليهودي والنصراني، وإن كان يقول بقدم الدهر، واستناد الحوادث، خص باسم الدهري، وإن كان لا يثبت الصانع خص باسم المعطل، وإن كان مع اعترافه بنبوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإظهار شعائر الإسلام، يتبطن عقائد هي كفر بالاتفاق خص باسم الزنديق، وهو في الأصل منسوب   1 واضع نحلتهم محمد بن إسماعيل الدرزي، وقد تقدمت ترجمته، والدروز لا يضيفون الألوهية إلا إلى الحاكم، ويدينون برجعته آخر الزمان، وينكرون الأنبياء والرسل جميعا، وينكرون أصول الإسلام والنصرانية واليهودية، ويبغضون في الباطن جميع أبناء الأديان الأخرى، ولا سيما المسلمين، ويستبيحون دماءهم وأموالهم، ويفترون أن القرآن من صنع سلمان الفارسي، وهم الآن بالجبل المسمى باسمهم في سوريا، انظر كتاب الحاكم بأمر الله للأستاذ محمد عبد الله عنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 إلى زند1 اسم كتاب أظهره مزدك2 في أيام قباذ، وزعم أنه تأويل كتاب المجوسي الذي جاء به زرادشت3 الذي يزعم أنه نبيهم، وإن كان مع تبطن تلك العقائد الباطلة يستحل الفروج، وسائر المحرمات بتأويلات فاسدة، كما يزعم الباطنة والوجودية4 خص باسم الملحد. والزنديق في عرف الشرع: اسم لما عرفت5، لا لكل من صدر عنه فعل، أو قول يوجب الكفر على ما هو   1 ليس من وضع مزدك، وإنما هو شرح زرادشت لكتابه هو المسمى أفستا. 2 ظهر مزدك بفارس سنة 487م، وهو ثنوي يدين بالنور والظلمة. أما دعوته الاجتماعية فيتحدث عنها الشهرستاني بقوله: "أحل النساء، وأباح الأموال وجعل الناس شركة فيها" وحين اشتدت وطأة بعض الخلفاء العباسيين على المزدكيين فر زعماؤهم إلى أوروبا. وتستطيع بهذا إدراك ما بين المزدكية والشيوعية من صلة، وتعرف المصدر القديم لهذه. 3 يزعم الفرس أنه نبي، ولد حوالي سنة 660 قبل الميلاد, وقد وضع دينا ليس بجديد كل الجدة، بل أرسى أصوله على أسس من الديانة الفارسية القديمة، ومات حوالي سنة 583 ق م. وكتابه الذي يزعم أنه أوحي إليه به يسمى: أفستا, أو أبستاق كما يسميه المسعودي في مروجه، وزرادشت ممن يدينون بأصلين، أحدهما: أصل الخير، ويسميه "أهورا مزدا" والآخر: أصل الشر، ويسميه "أهرمن" ويزعم زرادشت أن بين الأصلين نزاعا دائما، بيد أن الخير سيهزم الشر في النهاية، لذا كانت نزعته تفاؤلية، غير مبالغ في دعوته إلى الزهد، بل أباح التمتع بالطيبات، وفي ديانته ما يوحي بأنه كان يؤمن بالبعث والجزاء على تصور وتصوير خرافيين، ويرى بعض الباحثين أن زرادشت كان موحدا يؤمن بأن ما في العالم من خير وشر أثران للإله الواحد. انظر الملل والنحل، ومروج الذهب جـ1، والكامل لابن الأثير جـ1، وتاريخ ابن خلدون جـ1. 4 القائلون بوحدة الوجود. 5 ذكر الشهاب الخفاجي في شفاء الغليل أن لفظ الزنديق ليس عربيا، وذكر عن أبي حاتم أنه فارسي معرب" زند كرد" أي: عمل الحياة، ثم ذكر كلاما طويلا يظهرنا على مدى ما بين أئمة اللغة وغيرهم من اختلاف بيّن في تحديد مفهوم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 متعارف أهل عصرنا، وقد يتوهم بناء على عدم الشعور بمعنى الحلول والاتحاد، أن الوجودية حلولية، أو اتحادية، وليس كذلك؛ إذ الحلول والاتحاد إنما يكون بين موجودين متغايرين في الأصل، والوجودية يجعلون الله تعالى عين وجود الممكنات، فلا مغايرة بينهما، ولا اثنينية، فلا يتصور ههنا الاتحاد والحلول،   = هذه الكلمة.. والحق أنه ليس في الشرع ولا في اللغة تحديد جامع مانع لمفهومها والحق أن الزنديق لفظ غامض مشترك، لم يطلق بمعنى واحد في كل عصر، ولا على قوم بخصوصهم، بل تعددت معانيه، واختلفت إطلاقاته، فنراه أطلق على كل من اعتنق دينا فارسيا كالمانويين والزرادشتيين والمزدكيين والديصانيين، أعني على كل ثنوي فارسي، ونراه أطلق على كل ملحد، وكل مبتدع، وكل ماجن من الشعراء وغيرهم. قال بشار يهجو ابن أبي العوجاء: لا تصلي، ولا تصوم، فإن صمـ ... ـت، فبعض النهار صوما دقيقا لا تبالي إذا أصبت من الخمـ ... ـر عتيقا ألا تكون عتيقا ليت شعري غداة حليت في الجنـ ... ـد حنيفا حليت، أم زنديقا وقال أبو نواس: تيه مغن، وظرف زنديق. قال الصولي "وإنما قال ذلك لأن الزنديق لا يدع شيئا، ولا يمتنع عما يدعى إليه، فنسبه إلى الظرف لمساعدته على كل شيء وقلة خلافه" والتأمل في تاريخ الكلمة يلحظ أنها أطلقت أول ما أطلقت على ثنوية الفرس، وعلى من أعداهم الفرس بثنويتهم من العرب. وهذا يجعلنا نؤمن بالتطور في تاريخ هذه الكلمة، نؤمن بأنه قصد بها أولا كل ثنوي فارس، ثم توسع بعد هذا في مفهومها، فتعددت تبعا لهذا التوسع إطلاقاتها، فإنك لتجد صلة قوية بين كل من أطلق عليهم هذا اللفظ بعد، وبين الثنويين: إما في دين، وإما في خلق، وإما في نزعات المشاعر والأحاسيس. والتصوف -بدراسة دقيقة لتاريخه- ما هو إلا امتداد لهذه المؤامرات التي قام بها الزنادقة الأول, لإفساد العقائد، فيفسد المسلمون، فلا تكون لهم دولة ولا جامعة، بيد أن الشيطان أوحى إلى أوليائه تسميتها صوفية! يا للمجوسية تتراءى للمسلمين في وشاح من الربانية، وشفوف من الروحانية العليا في الإسلام، ويا للمسلمين بينهم كتاب الله، ويخدعهم هذا الزيف المجوسي! انظر أمالي المرتضى جـ1، شفاء الغليل للخفاجي، ضحى الإسلام، من تاريخ الإلحاد للدكتور بدوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بلا زندقة أخرى أنجس منهما باطلة ببديهة العقل؛ إذ القائلون بها يجعلون الله تعالى أمرا اعتباريا لا وجود له في الخارج". بعض مصطلحات الصوفية : وقال1: "إن الملاحدة عبروا عن ضلالتهم بعبارات العارفين بالله2، يتسترون بها في زندقتهم، فينبغي الحذر من ذلك، فأرادوا بالفناء نفي حقائق الأشياء، وجعلوها خيالا وسرابا على ما هو مذهب السوفسطائية3، وبالبقاء ملاحظة الوجود المطلق، وبالوحدة المطلقة كون ما سوى الوجود من الأشياء خيالا وسرابا، وكون وجود جميع الأشياء -حتى وجود الخبائث والقاذورات4- إلها، وذلك   1 أي: علاء الدين البخاري. 2 التسمية بالعارف بدعة صوفية، تخفي وراءها كيدا خفيا للشريعة، إذ الغاية عندهم المعرفة وحدها لا العبادة، معرفة أن الحق عين الخلق. أما الغاية الحقة لكل مسلم، فهي الإيمان الصحيح مع التوحيد الخالص، مع التقوى، وكم من عارف صوفي دينه أساطير، ودعوته مجوسية. 3 مشتق من الكلمة اليونانية "سوفيا" أي: الحكمة، والسوفيست هو الحكيم، وبه لقب رجال هذه المدرسة أنفسهم، ولكنها تطورت معهم، وتغير مدلولها بهم، حتى صارت تدل على المغالطة والتشكيك والمماراة. والصيغة العامة لمذهبهم الفكري إنكار الحقيقة المطلقة، والجزم باستحالة الحكم العام، فالحقائق عندهم اعتبارية كلها، ومقياس الحقيقة هو الإحساس الفردي، فما يراه شخص ما حقا, فهو حق، وإن كان غيره يراه موغلا في تيه الباطل. وأشهر زعماء هذه المدرسة التي عاشت قبل سقراط "بروتاجوراس، وجورجياس" أما عقيدتهم في الإلهية فيوضحها قول الأول "لا أستطيع أن أعلم إذا كان الآلهة موجودين، أم غير موجودين" ونرى شبها واضحا بين السفسطائية والصوفية في المنهج وفي النتائج فالأولون يرون الإحساس الفردي مصدر المعرفة ومقياسها، والآخرون يرون الذوق الفردي، وكلاهما يدين بأن الحقائق اعتبارية. 4 نسبة هذا إلى الصوفية ثابتة صادقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 غير ما أراده العارفون، فإنهم أرادوا بها معاني يصدقها الشرع1 وهم مصرحون بأن كل حقيقة يردها الشرع فهي زندقة، وأنه لس في أسرار المعرفة شيء يناقض ظاهر الشرع، بل باطن الشريعة يتم بظاهره، وسره يكمل صريحه [55] ولهذا إذا انكشفت على أهل الحقيقة أسرار الأمور على ما هي عليه2، نظروا إلى الألفاظ الواردة في الشرع، فما وافق ما شاهدوه قرروه، وما خالف أولوه بما يطابق الشرع، كالآيات المتشابهة3، ولا يستبعد وقوع المتشابه في الكشف ابتلاء   1 ما في الشرع تلك الزمزمات الكهنوتية التي يزعم البخاري أنها من حقائق العارفين، فما في القرآن، ولا في السنة، ولا في قول صحابي، أو تابعي، أو مؤمن ما يسمى: الفناء، البقاء، الوحدة المطلقة، فناء الفناء. ما في الشرع مطلقا أثارة من هذه بدلائلها الصوفية، اللهم إلا إذا شاءوا وصف القرآن بأنه خلي من المعارف الإيمانية الحقة، أو الرسول والصحابة والتابعين بأنهم غير عارفين. هنالك في الإسلام مرتبة عليا هي الإحسان وهي: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" فلم يبغض الصوفية هذه المرتبة؟! 2 هذا بهتان صوفي، فالذي يعلم ويدرك أسرار الأمور على ما هي عليه هو الله رب العالمين وحده، بيد أن المس الصوفي يجري على لسان العلاء البخاري تهاويل الخرافة والأسطورة. 3 في قوله بما يطابق الشرع تلبيس، فالتأويل إنما ابتدعه أصحابه، ليجعلوا النقل مطابقا للعقل، إذ القاعدة عندهم: العقل أصل النقل، والعقل حاكم على النقل، فما لم يرتض واحد من المؤولة بعضا من الكتاب والسنة، أول هذا الذي لم يرتضه، أو بتعبير أدق: جرده من معانيه الأصلية الصحيحة، ووضع له معاني من عنده، حتى يطابق -في زعمه- ما يحكم به العقل!! ولكن عقل من؟ هذا ما نطلب الجواب عنه من المؤولة، وستظل علامة الاستفهام هذه أمام العقل دون أن يحير عنها جوابا، ثم إنه لم يدن بالتأويل سوى من سموهم خلفا، أما الصحابة والتابعون والسلف الصالحون، فلم ير واحد منهم في آيات الصفات وأحاديثها ما يرعش طمأنينة الإيمان واليقين الثابت في الأعماق المشرقة من قلبه، ولم يصفها أحد منهم بأنها من المتشابه، ولم يؤول أحد منهم شيئا منها مطلقا، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 لقلوب العارفين1، كما أن وقوع المتشابه في الشرع ابتلاء لقلوب الراسخين, فأراد بالبقاء التخلق بالأخلاق الإلهية، والتنصل عن كدورات الصفات البشرية والفناء عندهم عبارة عن اطمحلال الكائنات في نظرهم مع وجودها، وعن الغيبة عن نسبة أفعالهم إليهم، وكذا الوحدة المطلقة عبارة عن مشاهدة الله -لا غير- من بين الموجودات لاطمحلالها مع تحققها ووجودها عند ظهور أنوار التجليات، كاطمحلال الكواكب مع وجودها عند ظهور نور الشمس في النهار، فإن كان العارف في هذه الحال يرى نفسه، فذلك هو الفناء في التوحيد, وهو مرتبة الخواص، وهو مشوب بكدورة وقصور، وإن غاب مع ذلك عن مشاهدة نفسه   = وأمشاج من الزور ما زعمه البخاري هنا، ألا تراه يدين بأن الشريعة، لا يحكم عليها حتى بالعقل، بل بما يغيم على النفس من خواطر الأوهام، ويدين على الفكر من غيوم الأهواء؟ يدين بأن الكشف -وهو ألعن أسطورة ابتدعها الصوفية لمحاربة الكتاب والسنة- هو مقياس حقائق الشرع، تقاس بأوهامه يقين الوحي الإلهي، وقيمه السماوية المقدسة. وأن الكشف هو الذي يحدد لكل حقيقة شرعية مفهومها وغايتها، أو ما أراده الله منها وبها؟ وهكذا يأبى الخبل الصوفي إلا أن ينطق علاء الدين بهوسه وخرافاته. 1 يعرف الصوفية الكشف بأنه الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية، والأمور الحقيقية وجودا وشهودا، والله سبحانه هو القائل {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} ، والبخاري -وهو يرد على الصوفية، ليبطل ما يدينون به من الوحدة- يتهاوى في نفس الحمأة، هذا لأنه صوفي, لا يحب أن ينسى -وهو يرد على غيره من الصوفية- تصوفه هو، لا ينسى طريقته التي يود أن يصرف الناس إليها وحدها. ولكن حسبنا منه -وهو أكبر صوفي في عصره- اعترافه الصريح، وحكمه البين على ابن عربي وابن الفارض بأنهما خارجان عن حقيقة الإسلام، والأول شيخهم الأكبر، وكبريتهم الأحمر، والآخر سلطان عاشقيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وعن أحواله الظاهرة والباطنة وعن ذلك الفناء -بحيث لا يشاهد شيئا غير الله1 كما لا يشاهد في النهار من الكواكب غير الشمس- فذلك هو فناء الفناء في التوحيد، وهو درجة خواص الخواص، فيصير لهم معنى قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [النمل: 88] ذوقا وحالا، كما أن حظ غيرهم من المؤمنين منه يكون علما وإيمانا، فالذوق نيل عين تلك الحال بالحصول الاتصافي، والعلم معرفة ذلك بالبرهان، ومأخذه القياس بأن ينظر إلى اطمحلال تلك الكواكب عند إشراق الشمس، فيقاس به اطمحلال وجود الكائنات عند إشراق أنوار التجليات، والإيمان قبوله بالتسامع والإذعان له، ولا يخالف هذا قولهم: إن الطريق إلى المعلوم بالكشف، إنما هو العيان دون البرهان؛ لأن المراد منا إقامة البرهان، على تحقق الكشف، لا على إثبات المعلوم، فقد عرفت أن معنى الوحدة المطلقة عند العارفين2 بعيد عما يريد به الكفرة الوجودية من الفلاسفة، ومن تبعهم ممن يدعي الإسلام؛ ليتمكن من هدمه عند الضعفاء.   1 هذه هي وحدة الشهود، وهي النبحة الأولى من وحدة الوجود، بل هي المدخل إليها، وسترى البخاري -رغم تكفيره للقائلين بوحدة الوجود- يدور حولها، ويتسرب في خفية إليها. ولكنه جبان الشطح، مكير الخيال والتصوير. 2 ما في الرسل جميعا، ولا في الأنبياء عامتهم، ولا في الأولياء الصادقين من هو أعرف بحق الربوبية والإلهية من محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما فيهم من أحد أدى هذا الحق كما أداه، فما جاءنا عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرافة الوحدة المطلقة الصوفية، أو أنه وصل إلى حال لم يشاهد فيها شيئا غير الذات الإلهية. والصوفية يعنون بالشهود معاينة الذات، وفناء الكائنات جميعها في هذا الشهود حتى في الليلة التي تجلى الله فيها على عبده بأعظم نعمة، وأراه فيها من آياته الكبرى ليلة الإسراء والمعراج، قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سئل: هل رأي ربه: نور. أنى أراه؟! وفيها كان يشهد غير الله: الأنبياء، وجبريل، والجنة، والبيت المعمور وسدرة المنتهى، وغير ذلك، وسمى لنا كل شيء باسمه، فأين منه البيان عن شهود = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 أسطورة الكشف : ويروجون تلك السفسطة بإحالتها إلى الكشف، ويتفيهقون بأن مرتبة   = الذات فنيت فيها الكائنات؟ ولكن لعل البخاري وأضرابه يفترون أنهم يصلون إلى ما لم يستطع أن يصل إليه خير البشرية وخاتم النبيين، ثم إنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبرنا خبر صدق وحق أن أحدا لن يرى ربه حتى يموت. وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتجاوب قلبه الطهور المشرق بنور الإيمان الأسمى مع كل حق عليه، فيؤديه أتم وأكمل وأوفى أداء، حق الله سبحانه، حق النفس، حق الحياة، حق الأهل والولد, فيا ترى هل لم يبلغ الرسول الأعظم في الدين والمعرفة مرتبة البخاري وأحلاس الصوفية؟ فما أبان لنا عن البقاء، والفناء وفناء الفناء والوحدة وما في عمله ولا قوله ما يحدد مفاهيم هذه الأساطير الصوفية. والله سبحانه يذكر لنا أن خليله إبراهيم رأى -منة من الله- ملكوت السماوات والأرض، فأين البيان من الخليل عن الفناء وفناء الفناء والوحدة المطلقة؟، وداود عليه السلام في تسابيحه كانت الطير تئوب معه، والجبال سخرها الله له يسبحن معه بالعشي والإشراق فما جاءنا عنه أنه كان في فناء، أو فناء فناء، أو شهود ذات فنيت فيها الكائنات، بل كان مع ذلك في الحديد يعمل. وربنا العليم بذات الصدور يثني على خير رسله في أسمى مقاماتهم بأنهم عباده المخلصون المتقون المؤمنون الأوابون، لا الذين يشهدون الذات فنيت فيها الكائنات! ويثني على الملائكة بأنهم عباد مكرمون, لا الذائقون حال الوحدة المطلقة، والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول عن الإحسان, أسمى مراتب الإخلاص في العبودية: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" والبخاري وأضرابه يقولون أسمى مرتبة: أن تشهد الذات فنيت فيها الكائنات، وحقيقة التوحيد أن تعبد الله وحده، وأن لا تعبده إلا بما شرعه، ولكن البخاري يقول: أن تشهد الذات فنيت فيها الكائنات، وقد أجهد الصوفي البخاري نفسه في الرد على باطل الصوفية حتى لهثت أنفاسه. فما بلغ إلا تأييد باطل كان يتمنى الصوفية مثل قلم البخاري للدفاع عنه، ولو أنه لجأ إلى الكتاب والسنة لاستطاع بحجة واحدة منهما أن يأتي بنيانهم من القواعد، بل لو لجأ إلى العقل مؤمنا لدك على الطاغوت هيكله، ولدمر أصنامه، ولكنه صوفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الكشف وراء طور العقل، وأنت خبير بأن مرتبة الكشف نيل ما ليس له العقل ينال، لا نيل ما هو ببديهة العقل محال، وذلك أن الله تعالى خلق العباد وبين لهم سبيل الرشاد، وزينهم بالعقل نورا يهتدون به إلى معرفته، وحجة توصلهم إلى محجته بالاستدلال على وجود الصانع بالمصنوعات1، والنظر فيما يجوز ويستحيل [56] عليه من الأفعال والصفات، وأن إرسال الرسل من أفعاله الجائزة، وأنه قادر على تعريف صدقهم بالمعجزة، وعند ذلك ينتهي بصرف العقل2 لعدم استقلاله بمعرفة المعاد، وبما يحصل السعادة والشقاوة هنالك للعباد، وإنما يستقل بمعرفة الله تعالى3، وصدق الرسول، ثم يعزل نفسه، ويتلقى من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يقول، في أحكام الدنيا والآخرة بالقبول4، إذ لا ينطق   1 لم لا يقال: الخالق بالمخلوقات؟! 2 الله سبحانه هو العليم الخبير حقا بما يجب لربوبيته وإلهيته. وقد بين لنا عز شأنه تفضلا منه ورحمة هذا في كتابه الحكيم أجلى وأتم وأكمل بيان. فما يجوز لامرئ الزعم بأن للعقل التصرف في إثبات ما يجب وما يجوز وما يستحيل على الله سبحانه، والمؤمن الحق هو من يؤمن صادقا بكل ما وصف الله به نفسه إثباتا ونفيا. فيثبت خاشعا ما أثبت الله سبحانه لنفسه. وينفي منزها ما نفاه عنها جل وعلا. هو من يوحد الله توحيدا قوليا. وعمليا وعلميا واعتقاديا في الربوبية والإلهية بما ورد في الكتاب والسنة. 3 فرية فلسفية، وإفك صوفي، فالعقل حينما استقل بمعرفة الله سماه سبحانه ووصفه بما لا يحب الله أن يسمى أو أن يوصف به، أثبت له ما أوجب الله نفيه، ونفى عنه ما أوجب الله إثباته، نفى عنه كونه خالقا مدبرا يعلم كل خافية، وأثبت له ما عربد من الشهوة، وما ضل من العاطفة، فسماه عاشقا ولاذا وملتذا، ألا فليؤمن العقل دائما بأنه دائما في قبضة من خلقه، وأنه الفقير دائما إلى الغني الخلاق العليم الخبير. 4 بل يجب عليه قبل هذا أن يتلقى مؤمنا مخلصا ما جاء في الكتاب والسنة عن صفات الله وأسمائه، دون لمسة من ريب تدفعه إلى التأويل، أو همسة من فكر تلوذ به إلى التعطيل، أو تجاوب مع الحس يهيم به في التجسيم أو التمثيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 بما يحيل العقل بالبديهة والبرهان، لامتناع ثبوت ما تحكم حجة الله عليه بالبطلان فلا مجال في مورد الشرع، ولا في طور الولاية والكشف لما يحكم العقل عليه بأنه محال، بل يجب أن يكون كل منهما في حيز الإمكان والاحتمال، غير أن الشرع يرد بما لا يدركه العقل بالاستقلال، وبالكشف يظهر ما ليس له العقل ينال1 لأن الطريق إليه الكشف والعيان؛ دون بديهة العقل والبرهان، لكن إذا عرض عليه لا يحكم عليه بالبطلان، لكونه في حيز الإمكان، ولا ينبغي متوهم أن ما يتستر به الوجودية من دعوى الكشف من قبيل ما ليس له العقل ينال، بل هو مستحيل وللعقل في إبطاله تمكن ومجال؛ إذ الطريق إليه التصور ثم التصديق بالبطلان، وذلك وظيفة العقل بالبديهة أو البرهان، وأما الأمور الممكنة الكسبية، فيجعلها العقل في حظيرة الإمكان، ولا يحكم عليها بالبطلان ثم إن ما يناله الكشف، ولا يناله العقل الممكن الذي الطريق إليه العيان2، دون البرهان، لا المحال الممتنع الوجود في الأعيان؛ إذ الكشف لا يجعل الممتنع متصفا بالإمكان موجودا في الأعيان؛ لأن قلب الحقائق بين الامتناع والبطلان فلو تخايل حصول المحال بالكشف ككون الوجود المطلق واحدا شخصيا، وموجودا خارجيا، وكون الواحد الشخصي منبسطا في المظاهر، متكررا عليها   1 جعل من الشرع قسما لا يناله العقل، بل الكشف، فمن قال هذا؟ وسيعلم أن الطريق إليه كذلك معاينة الذات؟ فمن أين جاء بهذا؟ وهل في مقدور كل مسلم الكشف والمعاينة؟ يجيبون هم بأن هذا لخواص الخواص، وهذا يستلزم أن الخواص والعوام لا يمكن أن يصلوا إلى معرفة أهم حقائق الشرع، ثم ما هذا الذي لا يظهر إلا بالكشف؟ إن كان هو عين ما في الشريعة، فما للكشف فائدة إذا. وإن كان غير ما فيها، قالوا بجواز عبادة الله بغير ما شرعه الله، وتلك هي الطاعة الكبرى، فما صنع البخاري شيئا سوى أن فر إلى ما فر منه، وحارب ما يحارب هو من أجله. 2 يريد الصوفية بها معاينة الذات الإلهية، ومشاهدة أسرار الربوبية والإلهية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 بلا مخالطته، متكثرا مع النواظر بلا انقسام، فذلك شعوذة الخيال، وخديعة الشيطان وقال بعد ذلك: "إنهم صرحوا بأن التكثر في الموجودات ليس بتكثر وجوداتها، بل تكثر الإضافات والتعينات" ثم قال: "فقالوا: معنى قولنا: الواجب موجود، أنه1 وجود، ومعنى قولنا: الإنسان، أو الفرس موجود، أنه ذو وجود، بمعنى أن له نسبة إلى الوجود، لا أنه متصف بالوجود، على ما هو معنى الوجود لغة وعرفا وشرعا، احترازا عن شفاعة التصريح بكون الواجب صفة الممكن، وأنت خبير بأن جواز الإطلاق فرع صحة الاشتقاق، ولو سلم فما ذكروا في بيان معناه في الواجب والممكن ليس معناه، لا لغة، ولا عرفا، ولا شرعا ومنشأ الغلط فيما يكشفه الشرع بما يقصر عنه العقل، وما يدعيه هؤلاء مما يحيله [57] عدم التفرقة بين ما أحاله العقل كهذه المذكورات، وبين ما لا يناله العقل كاطمحلال وجود الكائنات عند سطوع أنوار التجليات، وإنما ينال ذلك بجذبة الإلهية2، أو رياضة في متابعة الحضرة النبوية في الوظائف العلمية والعملية   1 في الأصل: موجوداته، بدل: موجود أنه. 2 عجيب أن يجعل البخاري هذا مما لا ينال إلا بجذبة، فالمؤمن الحق يدرك باللمحة الهافية من الفكر والوجدان والشعور، أن بين وجود الله، ووجود العالم فرق ما بين رب السموات والأرض، وبين عبد خلق من طين, بيد أن البخاري يريد بالاطمحلال عند التجلي فناء وجود السوى، فلا يشهد العارف ثم إلا وجودا واحدا هو الواجب، أو المطلق، يعني يرى الكثير واحدا، والظاهر عين المظاهر فإن يك هذا, فقد هوى في غيابة صوفية، إذ ينفي الوحدة من جهة، ويثبتها من جهة أخرى، فالصوفية يريدون بالتجلي ما ينكشف للقلب من أنوار الغيوب، أو ظهور الذات في عين المظاهر، وفي الأول ادعاء معرفة الغيب وقول على الله بغير علم, وفي الآخر الإقرار بوحدة الوجود، فأيهما يريد البخاري؟! ثم ما هذه الجذبة؟ ما سبيلها؟ ما دليلها؟ ما مثالها في الماضي المؤمن؟ لا يقال: سبيلها العبادة، فإنه جعل العبادة قسما آخر غير الجذبة، وليس في الكتاب ولا في السنة عليها دليل، وما سمعنا عن صحابي أو تابعي، أو مؤمن صادق أنه نال هذه الجذبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 والنيل هو الحصول الاتصافي، والعلم هو الحصول الإدراكي، ثم إن كلا مما لا يدركه العقل بالاستقلال، وما ليس له العقل ينال، لما كان مستوقفا على الإعلام والإرشاد من رب العالمين، بعث الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ لبيان الأول، وهو علم الشريعة صريحا، والإشارة إلى الثاني، وهو علم الحقيقة رمزا وتلويحا1, كما يلوح من القرآن المجيد {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] إلى درجة الفناء في الفناء في التوحيد".   1 يدين البخاري كغيره من الصوفية أن الدين حقيقة وشريعة، وأن الأولى غير الأخرى، بل أسمى منها وأفضل، وأن الشريعة لا تتضمن الحقيقة، وأن البيان عنها في القرآن جلي صريح. أما عن الحقيقة، فرمز وتلويح, وبذا أركس البخاري فيما أركس فيه الصوفية. الله سبحانه يصف كتابه بأنه بيان للناس، ويمن علينا بأنه بعث في الأميين رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، والبخاري يزعم أن القرآن أشار إلى علم الحقيقة عن طريق الرمز والتلويح، وما كل الناس يفهمون الدلالة الرمزية، أو التلويحية، وما كل أمي يفهمها، وهذا يستلزم طامتين، الأولى: اتهام القرآن بالعجز في البيان عن الحقيقة، فلم يستطع الإفصاح عنها إلا عن طريق الرمز والتلويح، وهما أغمض وأعجز أنواع الدلالات، الأخرى: اتهام الأكثرية الغالبة من هذه الأمة بأنها لا تعلم الحقيقة من دينها الحق، ولا يعبدون الله على بصيرة من الحق، بل ينسحب هذا الاتهام على الصحابة أجمعين، وإذا كانوا فلاسفة لا صوفيين، فإن قيل: كانوا يعرفون علم الحقيقة في زعم الصوفية، قلت: أين الدليل؟ أجاء عن أحد منهم افتراء أن الدين حقيقة وشريعة مغايرا بين القسمين؟ أتكلم واحد منهم عن الفناء، وفناء الفناء، والوحدة المطلقة، وهذه هي معارف علم الحقيقة عند الصوفية؟ بل أقول: إن في قول البخاري ومن دان دينه من الصوفية اتهاما للرسول ببهتانين، أولهما: كتمان علم الحقيقة في الدين، أو الجانب الأسمى منه، إذ لم يرد فيما بلغ إلينا عن الله هذا العلم الذي يدعيه البخاري: علم الفناء، وفناء الفناء، ومعاينة الذات!! وآخرهما: أنه كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعلم الحقيقة، ولم يهتد إلى ما اهتدى إليه البخاري وغيره. واتهام الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوهم من هذا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 انتهى ما نقلته من رسالة الشيخ علاء الدين البخاري، لكني تصرفت فيه بالتقديم والتأخير، وقد وضح بذلك محالهم، وتبين به ضلالهم1 والله الموفق. عود إلى من كفروا ابن عربي : وعن الحافظ تقي الدين محمد بن أحمد الفاسي المكي في كتابه: تحذير النبيه والغبي من الافتتان بابن عربي، أنه قال, وقد سئل عنه وعن شيء من كلامه:   = كفر خبيث، وقد اتهمه الصوفية فعلا بالأول: أي: الكتمان، اسمع لابن عجيبة في شرحه لحكم ابن عطاء الله السكندري يقول: "وأما واضع هذا العلم -يعني التصوف- فهو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علمه الله له بالوحي والإلهام، فنزل جبريل أولا بالشريعة، فلما تقررت نزل ثانيا بالحقيقة، فخص بها بعضا دون بعض" ص5 جـ1 ط1331هـ. وفي هذا حجة على دين الصوفية مقت للشريعة، واتهام صريح للرسول بأنه لم يبلغ بعض ما أنزل إليه، وبأنه هوى مع الهوى فخص به بعضا, وحاشا الرسول الكريم. 1 علاء الدين البخاري رجل أشرب قلبه وفكره التصوف، وقد خدع البقاعي بهذره الصوفي، فكل ما هول به البخاري في الرد على الصوفية لا ينابذ لهم باطلا. بل يواليه ويمالئه. نعم صرح الرجل في قوة وشجاعة وجلاء بتكفير ابن عربي وأحلاسه، بيد أن ما حسبه أدلة تدمغهم بالزندقة هي في حقيقتها أساطير صوفية، أو هي بالذات عناكبهم التي يصيدون بها العقول الذبابية. وهذا يثبت ما قلته من قبل، وهو أن كل من به مس من الصوفية إنما يطوي النفس على أمشاج وثنية. وإن تراءى بتكفير غيره من لدانه وأقرانه. قارن بين ما رد به البخاري الصوفي، وبين ما رد به الإمام ابن تيمية، لتدرك البون الشاسع بين الرجلين، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالبخاري صوفي يرد بتصوفه على تصوف غيره؛ كي يؤمن الناس به هو، وبما يدعو إليه من التصوف، وابن تيمية يدمغ الباطل بما دمغه به الحق من الكتاب والسنة، بل وببراهين العقل الذي جعل هدى القرآن مناره، ولم يلوثه دنس صوفي، ابتغاء مرضاة الله، والجلاد المستلئم في الجهاد في سبيل الله، وهذا هو دائما فرق ما بين المؤمن والصوفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن عرفة الورغمي التونسي عالم إفريقية، فقال ما معناه: إن من نسب إليه هذا الكلام لا يشك مسلم منصف في فسقه وضلاله وزندقته" ا. هـ. ومنهم شيخنا العلامة إمام القراء شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري الدمشقي نزيل بلاد الروم ثم العجم، قال: "ومما يجب عل ملوك الإسلام، ومن قدر على الأمر بالمعروف [والنهي عن المنكر] أن يعدموا الكتب المخالفة لظاهر الشرع المطهر من كتب المذكور1 وغيره، ولا يتلفت إلى قول من قال: هذا الكلام المخالف للظاهر ينبغي أن يؤول، فإنه2 غلط من قائله. إنما يؤول كلام المعصوم، ولو فتح باب تأويل كل كلام ظاهره الكفر، لم يكن في الأرض كافر" ومنهم العلامة نادرة زمانة علما وعملا بدر الدين حسين بن عبد الرحمن الأهدل3 اليمني الحسيني نسبا وبلدا، وصنف في ابن عربي وابن الفارض كتابا كبيرا 4 نافعا جدا، وذكر فيه أنه كان في اليمن شخص من أكابر أتباعه، يقال له الكرماني، حصلت به في اليمن فتن كبيرة، وحصل بينه وبين ابن المقري خطوب، وصنف في الرد على ابن المقري كتابا قال فيه عن نفسه، وأهل مذهبه ما لفظه: "إنا حيث قلنا: المخلوق، فمرادنا الخالق، وحيث قلنا: الحجر، فمرادنا الله" ا. هـ.   1 يعني: ابن عربي، واقرأ نص فتوى الجزري في ص495 من العلم الشامخ للعلامة المقبلي. 2 أي: القول بالتأويل لكلام الصوفية. 3 ولد سنة 779هـ تقريبا، وتوفي سنة 855هـ. وهو من كبار علماء اليمن في عصره. 4 سماه: كشف الغطا عن حقائق التوحيد وعقائد الموحدين، وله كتاب آخر سماه: بيان حكم الشلح والنص على مروق ابن عربي وابن الفارض وأتباعهما من الملحدين. انظر الضوء اللامع للسخاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 من مكر الصوفية : من مكر هذه الطائفة، كما شرعه لهم شيخهم1 من أن الدعوة إلى الله مكر أن يخيلوا2 كل من ظنوا أنه مال عنهم بأنه يصاب في نفسه، أو ماله3، ويقولون: ما تكلم أحد فيهم إلا أصيب، ويباهتون [58] بأشياء هي كذب ظاهر. ولا عليهم -وأكثر الناس صبيان العقول، مرضى الأفكار، تجد أحدهم إذا سمع هذا نفر منك نفر النعام الشارد، ثم يكون أحسنهم خلالا الذي يقول: التسليم أسلم!! ولا يتأمل أن الشك في الكفر بعد البيان كفر، وهو مع كونه4 كذبا بمن أنكر عليهم من أكابر العلماء الذي لا يحصون كثرة، وماتوا على أحسن الأحوال- تشبه باليهود في قولهم في الإسلام لما مات أبو أمامة أسعد   1 يعني: ابن عربي. 2 صوابها: إلى كل، أو لكل. ففي الذكر {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} . 3 كاد لي لئيم فضيع لي ما يسمى: "مسوغات التعيين في وزارة المعارف" فتنادى بعض الصوفية: يا للكرامة، ويال نتقام أوليائنا الرهيب!! فقلت: يا سبحان الله! لا يتورع القوم حتى من اتهام أوليائهم أنهم لصوص بغاة، يحاربون الناس في أرزاقهم. 4 لعلها: كذب، ولو أن الأمر كان تكذيبا للعلما فحسب لهانت الجرمية، ولكنه تكذيب لله ولرسوله، وتقوى لغير الله، ورهب من زنادقة، فما يطيق أمثال هؤلاء -رغم إخراج الكفر لهم لسانه من كتب الصوفية- النطق بكلمة حق يرضون بها الله سبحانه. سل اليوم كبار الأحبار، عبيد المتن والحاشية، عن فصوص ابن عربي، وتائية ابن الفارض، وطبقات الشعراني، سلهم ثم أنصت للجواب الذليل. ستسمع من يقول عن ابن عربي: الشيخ الأ كبر، وعن ابن الفارض: سلطان العاشقين، وعن الشعراني: الهيكل الصمداني، وستسمع من يقول -ممن يزلزل الريب يقينهم، وتغشي الوثنية معتقداتهم: يسلم لهم حالهم، فالتسليم أسلم! هذا ما يجيده الأحبار من أساليب الدفاع عن دين الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ابن زرارة1 الأنصاري رضي الله عنه فإنههم شرعوا يقولون تخييلا لبعض الضعفاء: لو كان نبيا ما مات صاحبه. فكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[يقول] : "بئس الميت أبو أمامة ليهود، يقولون: كذا, والله ما أملك لنفسي ولا لصاحبي شيئا2" وتسنن3 بالكفرة في قولهم {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ [هُمْ] أَرَاذِلُنَا} [هود: 77] ، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 73-75] ونحو ذلك من الآيات، ومتى مال الإنسان نحو تخييلهم، كان كمن قال الله تعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ] } [السجدة: 11] . من آيات ثبات الإيمان في القلب مع أن الكتاب والسنة ناطقان بأن علامة صحة الإسلام في القلب المصائب4 قال الله تعالى: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2] الآيتين، وقال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ،   1 من أول الأنصار إسلاما، ويقال: إنه أول من بايع ليلة العقبة، وكان نقيب قبيلته بني النجار, وأول من صلى الجمعة بالمدينة في هزمة من حرة بني بياض، يقال له: نقيع الخضمات، وكانوا أربعين رجلا. مات أسعد رضي الله عنه -والمسجد يبنى- في السنة الأولى من الهجرة في شوال قبل بدر "أسد الغابة، والإصابة". 2 هذا لفظه في سيرة ابن هشام. أما في أسد الغابة "بئس الميتة ليهود!! يقولون: أفلا دفع عن صاحبه؟ وما أملك له، ولا لنفسي شيئا". 3 معطوفة على قوله قبل: تشبه باليهود. 4 يعني الصبر عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَزُلْزِلُوا} [يوسف: 214] الآية. إلى غير ذلك من آيات الكتاب الناطق بالصواب. وقال شخص للنبي: "إني أحبك، قال: فأعد للبلاء تجفافا1" وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من يرد الله به خيرا يصب منه2"، " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل "، "يبتلى المرء على قدر دينه3" إلى أمثال ذلك, وهو كثير جدا, وأعجب من ذلك أن البيعة على الإسلام كانت -ليلة العقبة- على الصبر على المصائب، فإن العباس بن نضلة4 رضي الله عنه قال لقومه قبل المبايعة يثبتهم على البيعة: "إن كنتم ترون أنه إذا نهكت5 أموالكم مصيبة، وأشرافكم فتلا أسلمتوه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة، قالوا: أبسط يدك، فبسط يده, فبايعوه6" على هذا فكانت   1التجفاف: آلة للحرب يلبسه الفرس والإنسان ليقيه الحرب، وجفف الفرس: ألبسه إياه "القاموس والنهاية". 2 رواه البخاري ومالك. 3 من حديث رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وابن أبي الدنيا، ولم لا نفهم في الحديث معنى آخر، هو أن أفضل الناس أشدهم بلاء في سبيل الله، من قولهم: أبلى فلان في الحرب بلاء حسنا, إذا أظهر بأسه حتى بلاه الناس وخبروه؟ أو يراد به ما يصيبهم من الناس من بلاء لاستلامهم في الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله. أقول: هذا لأنه ثبت في أذهان الناس أن الإيمان الصحيح صنو المصائب، وأن الله يدخر الرزايا للمخلصين من عباده. 4 أنصاري خزرجي، شهد العقبة، وقيل: العقبتين، بل قيل: كان مع النفر الستة الذين لقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلموا قبل جميع الأنصار، خرج عباس رضي الله عنه إلى مكة، وأقام مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى هاجر إلى المدينة، فكان أنصاريا مهاجريا. قتل في أحد، ولم يشهد بدرا "أسد الغابة، الإصابة". 5 يقال: نهكته الحمى، أضنته وهزلته، وجهدته، ونهكت الناقة حلبا: إذا لم تبق في ضرعها لبنا "القاموس والنهاية". 6 ص277 جـ1 سيرة ابن هشام على هامش الروض الأنف ط 1914. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 المبايعة، وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره1. ولقد شرع لنا [59] رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سنن الهدى، وتركنا على بيضاء نقية، ليلها كنهارها2، ولم يتغير دينه بعده، ولم يتبدل, ولم يزدد إلا شدة. وأخبرنا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الدين بدأ غريبا، وأنه سيعود كما بدأ، وقال: "فياطوبى للغرباء"3 فلا يهتم الإنسان بقلة الموافق، فإن الله معه، ومن كان الله معه، كان كثيرا, ولا بكثرة المخالف المشاقق، فإنهم أعداء الله، فليس معهم ومن لم يكن الله معه، كان قليلا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر: 36، 37] . هوان الدين عند الأكثرية : ومما ينبغي أن يكون نصب العين معيارا يعرف به هوان الدين عند أكثر الناس، وهو أن أحدهم لو كان مشرفا على الموت من الجوع، ووجد   1 من حديث نصه: عن عبادة بن الصامت "بايعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا, وأن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم" الصحيحان، الموطأ، النسائي، المنشط: الأمر الذي ينشط له، ويخفف إليه، الأثرة: الاستيثار بالشيء والانفراد به. 2 من حديث رواه ابن ماجه: "وأيم الله، لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها". 3 نص الحديث: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ، فيا طوبى للغرباء" مسلم عن أبي هريرة، والنسائي عن ابن مسعود، وابن ماجه عنهما وعن أنس، وطوبى: فرح وقرة عين كما فسرها ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 طعاما شهيا، فقال له أحد: إنه مسموم لم يقر به بعد ذلك، ثم لا يبالي بقول هؤلاء العلماء1 الذين هم القدوة في الدين2 أن كلام هؤلاء الاتحادية سم حاسم للدين من أصله، ذابح للإيمان بسيفه ونصله، فإنا لله، وإنا إليه راجعون. من هم الأولياء ؟: هذه نبذة من ذم أهل الحق له3، وهم الأولياء حقيقة، لما شاع لهم من الأنوار التي ملأت الأقطار بمصنفاتهم التي أحيوا بها الدين، وأيدوا سنة سيد المرسلين، فقد قال الشيخ محيي الدين النووي4 في مقدمة شرح المهذب "فصل في النهي الأكيد, والوعيد الشديد لمن يؤذي، أو يبغض الفقهاء، والمتفقهين". وروى الخطيب البغدادي5 عن الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما أنهما قالا: "إن لم يكن الفقهاء6 أولياء الله، فليس لله ولي" وعن ابن عباس رضي الله   1 بل لا يبالي بالقرآن والسنة، وفيهما الفيصل الحق بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والهدى والضلال. 2 القدوة والأسوة: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 3 لابن عربي. 4 يحيى بن شرف. ولد سنة 631هـ. ومات سنة 676هـ. وكان واسع المعرفة بالحديث والفقه واللغة. 5 أحمد بن علي بن أبي ثابت أبو بكر الإمام الحافظ المصنف المؤرخ. ولد سنة 392هـ. وتوفي سنة 463هـ. وقد ترك قرابة مائة مصنف. 6 هم الذين يعتصمون في فقههم بالكتاب والسنة، ويدعون الناس إلى الاعتصام بهما والعمل بما فيهما، لا أولئك الذين يصنع لهم فقههم الرأي المفتون أو يدعون الناس إلى اتخاذ كتبهم أربابا من دون الله، ويدينون بمذهب فلان. فمثل هؤلاء أولياء الشيطان، ثم الله سبحانه بين خصائص الولي في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وبينهما رسوله الكريم بقوله: "إن أولياء الله المصلون، ومن يقيم الصلوات الخمس التي كتبها الله على عباده، ومن يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ومن يصوم رمضان، ويحتسب صومه, ويجتنب الكبائر.." الحديث. رواه أبو داود والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه كلهم عن عبيد بن عمير الليثي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 عنهما1: "من آذى فقيها, فقد آذى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن آذى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد آذى الله عز وجل" ا. هـ. ومن نابذ كلامهم، فقد عاداهم. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال الله: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب 2 " ومن رد أقوالهم3 لأجل توهم أن من حكموا بكفره ولي لشهرة باطلة، وكلام مزوق يراد به الإضلال والغرور، فمن كمن 4 أصابه داء، فوصف له الأطباء العارفون دواء، فقال له عامي: لا تسمع منهم وخذ هذا فقد قال لي فلان وفلان, وعد جماعة مثله: أنه نافع، فاعتمد على مجرب، ولا تعتمد على طبيب. وأمثال هذا من الخرافات، فقبل كلامه، لكونه قريب الطبع من طبعه، فأعطاه سما، فتحساه، فهلك إلى لعنة الله، فإنه لا عبرة بشهرة أصلا إلا شهرة كانت بين أهل العلم [60] الموثوق بهم، لأن الاستفاضة والشهرة من العامة، لا يوثق بها، وقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر فلا يفيد العلم، إذا لم ينتبه إلى معلوم محسوس، وأما من مدحه، فهو أحد رجلين كما مضى عن الفاسي وغيره: رجل بلغه زهده وانقطاعه عن الناس، ولم يبلغه ما في كلامه من المصائب فالجرح5 مقدم على ثنائه، أو رجل كان يعتقده في الباطن، فهو يناضل   1 في الأصل: عنه. 2 البخاري وأحمد والطبرني وأبو يعلى. 3 هذا إذا كانت حقا مشرقا من النورين: الكتاب والسنة. لا كأقوال علاء الدين البخاري، فقد رد أساطيرهم بأساطيره. 4 أي: من فعل هذا فهو كمن أصابه داء إلخ. 5 في الأصل: فالحرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 من نفسه، فلا عبرة به1 رأي ابن أيوب في الحلاج وابن عربي: وحدثني الفاضل جمال الدين عبد الله بن الشيخ القدوة زاهد زمانه، والمشار إليه بالصلاح والمعارف والورع، وحفظ اللسان في أوانه بدمشق الشيخ علي بن أيوب2: أن أباه -الشيخ عليا المذكور- كان يجلس في الجامع مطرقا يقيم إحدى رجليه هيئة المستوفز، ويضع ذقنه على ركبته، فلا يكلم لهيئته، فإذا رفع رأسه، علم أنه أذن في الكلام، فسأله من أراد عما شاء، ففعل ذلك يوما، فلما رفع رأسه، سأله شخص عن ابن عربي هذا، فأطرق زمانا طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: إنه كفر كفرا، ما وافق فيه كفر ملة من الملل، بل خرق بكفره إجماع الملل3، وزاد عليهم. قال الشيخ جمال الدين: فحكيت ذلك لبعض من يشار إليه بالعلم والميل إلى ابن عربي، فقال: والله لو سمع ابن عربي هذا الكلام لقال: ما عرفني أحد غير هذا الرجل. قال: وسئل والدي أيضا عن الحلاج، فقال: لا شك أن الحجاج قتل من العلماء خلائق يتعسر حصرهم، وشتت شملهم   1 الحكم على ابن عربي بما حكم الله به على من ألهوا عيسى، وعبدوا الأوثان وغيرهم ليس في حاجة إلى كل هذا، فكتابه الفصوص ثابت النسبة إليه ثبوت لعن الله لأبي لهب، والفصوص, ردغة كفر، وحمأة زندقة. وما ينفع ابن عربي أن يشهد له ملايين الصوفية بأنه الرباني الأعظم، فشهادة كتبه عليه شهادة الحق والصدق، فليشهد الصوفية له بأنه وأنه، فكذلك الصديد, لا يشهد له بأنه طعام طيب سوى الميكروب الذي يحيا به وفيه. 2 الإمام الفقيه البارع المتقن المحدث بقية السلف, كما يقول الذهبي. ولد سنة 666هـ وتوفي سنة 748هـ. 3 هذا يدل على فهم دقيق غاية الدقة لمعتقد ابن عربي، فإنه كفر بكل كفر ثم أضاف إليه كفره، ثم جعل من هذا كله دينا للصوفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وأبادهم، وقتل سعيد بن جبير1، وأهل الأرض محتاجون إلى علمه، وخلعه العلماء وخرجوا عليه، وقاتلوه، ومع هذا كله لم يقل أحد منهم، إنه كافر، بل قالوا: إنه من عصاة المسلمين، لا تحل امرأته لذلك. والحلاج ما تعرض لأحد من أهل العلم بأذى في دنياه، وأجمع جميع أهل زمانه منهم على كفره واستباحة دمه، فلو كان العلماء يقولون بالهوى، لقالوا في الحجاج الذي ما ترك نوعا من الأذى حتى رماهم به، فثبت أنهم لا يقولون بالهوى، فوجب على الناس اتباعهم2 وقبول كلامهم" وهذا غاية في البيان، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الضابط المتقن المتفنن أستاذ المفسرين نادرة المحدثين، برهان دين العالمين، أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط ابن علي بن أبي بكر البقاعي الشافعي، نزيل القاهرة المحروسة: فرغت من مسودة هذا الكتاب بحمد الهادي للصواب في شوال سنة أربع وستين وثمانمائة. والحمد لله وحده. وفرغ من نسخ هذه النسخة المباركة في وقت العصر من يوم الأربعاء من شهر ربيع الآخر من شهور سنة سبع وأربعين وتسعمائة.   1 أحد أعلام التابعين، كان مع عبد الرحمن بن الأشعث لما خرج على عبد الملك بن مروان، فلما قتل ابن الأشعث، فر سعيد إلى مكة, فظفر به الحجاج، فقتله في شعبان سنة 95هـ كما في الوفيات، أو 94 سنة كما في مروج الذهب والكامل لابن الأثير. 2 إنما الواجب اتباع الكتاب والسنة، وتأييد كل داع إلى الله بالحق،. وما أركس الناس في فتنة الضلالة سوى اتخاذهم القرآن مهجورا، وكتب الناس أربابا من دون الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد المقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الهاد لأركان الجبابرة الشداد، القامع لأهل الإلحاد، بسيوف السنة الحداد، وأشهد أن لا إله إلا الله المفضل1 الهاد وأشهد أن سيدنا محمدا عبده [ورسوله2] الداعي لسائر العباد، إلى سبيل الرشاد، صلى الله عليه، وعلى آله الخيرة الأمجاد، وصحابته الأبطال الأنجاد، وسلم تسليما يغلب التعداد، ويبقى على مر الآباد. وبعد: فهذه رسالة سميتها: " تحذير العباد من أهل العناد، ببدعة الاتحاد أنفذتها الى العباد في جميع البلاد، الراغبين في الاستعداد ليوم المعاد، بموالاة أهل الوداد، وملاواة3 الأشقياء الأضداد، الضالين بنحلة الاتحاد، أرجو أن تكون ضامنة للإسعاد يوم التناد، فقلت: اعلموا أيها الإخوان الذين هم على البر أعوان، حفظكم الله ورعاكم، وصانكم من كل سوء، وحماكم؛ أنه لا يقوم على الأمر بالمعروف [والنهي عن المنكر4] إلا من جعل نفسه هدفا للحتوف5 وتجرع من مر الكلام ما هو أمر من السهام، فإن الناهي عن المنكر، يعاني الهوان الأكبر، بمعاداة كل شيطان من الإنس والجان، يقوم عليه الجيلان، ويرشقه بسهام الأذى القبيلان، شياطين الإنس ظاهرا بالمقال والفعال، وشياطين [الجن6] باطنا بما يوحون إليهم من الضلال.   1 لعلها المضل، فهكذا وردت في أول رسالته الأولى. 2، 4، 6 كلها ساقطة من الأصل، والسياق يوجبها. 3 يقال: لاوت الحية الحية ملاواة: إذا التوت عليها. 5 جمع حتف وهو الهلاك، وقيل: هي مصدر بمعنى الحتف، وهو قضاء الموت "أساس البلاغة للزمخشري". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 آيات سلى الله بها نبيه : ولصعوبة المقام، وما فيه من الأخطار والآلام، سلى الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97-99] وقال الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] وقال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 111-113] وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ [63] زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 121-123] إلى غير ذلك من الآيات والدلالات الواضحات، ففي الأنبياء الذين هم أشرف الخلق عليهم أفضل الصلاة والسلام مسلاة لأتباعهم، واعتبار بأحوالهم، واعتصام، وما أتى أحد قط أحدا1 بمخالفة هواه إلا ساءه2 وأذاه إلا من عصم الله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ   1 في الأصل: أحد بالرفع، وهو خطأ. 2 في الأصل: ساه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] وهؤلاء الذين اتسموا بسمة الاتحاد، وقد ألفهم الطغام1 من الأنام؛ لما غرروهم به من إظهار التصوف، ليأخذوهم من المأمن، وما دروا أن الصوفية أشد الناس تحذيرا منهم، وتنفيرا للعباد عنهم. الرأي في سلف الصوفية : فإن المحققين منهم والمحققين2 بنوا طريقهم على الاقتداء بالكتاب والسنة3، كما نقل القاضي عياض في أوائل القسم الثاني من الشفاء فيما يجب من حقوق المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الحسن4 رحمه الله أنه قال: "إن أقواما قالوا: يا رسول5 الله، إنا نحب الله، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وعنه أنه قال: "عمل قليل في سنة خير من عمل كثير من بدعة" وعن أبي عثمان الحيري6 أنه قال: "من أمر على نفسه السنة قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة"، وقال سهل بن عبد الله التستري7: "أصول مذهبنا ثلاثة: الاقتداء بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الأخلاق والأفعال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع   1 الأوغاد من الناس، مفردة طغامة، وهو يتطغم على الناس: يتجاهل عليهم "أساس البلاغة". 2 كذا بالأصل: ولعل الثانية زائدة، أو لعلها: المتحققين. 3 كتب الصوفية سلفهم وخلفهم تشهد عليهم بنقيض هذه الدعوى الكذوب وقد سبق بيان هذا. 4 يعني: البصري. ولم يك صوفيا. 5 في الأصل: برسول. وهي كما أثبتها في الشفاء. 6 هو سعيد بن إسماعيل بن منصور. توفي سنة 298هـ. 7 توفي سنة 273هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 الأعمال1" وفي كتب القوم كالرسالة والعوارف2 من ذلك شيء كثير, والشهادة على من قال: الحقيقة خلاف الشريعة بالزندقة3، وأن الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ4، قاله الجنيد5، وقال أبو عثمان الحيري: خلاف السنة في الظاهر علامة رياء في الباطن، وقال النوري6: من ادعى حالا يخرجه من حد العلم الشرعي، فلا تقربن منه، وقال الخراز: كل باطن يخالفه ظاهر، فهو باطل، وقال القشيري: حكم الوقت فيما ليس لله فيه أمر، إذ التضييع لما أمرت به والإحالة على التقدير، وعدم المبالاة بما يحصل من التقصير؛ خروج عن الدين7، وقال السهروردي في قوم تسموا   1 انظر ص7جـ2 الشفاء، وإذا كان هذا صحيحا، فلم يوجبون الاقتداء بالشيوخ وحدهم؟ ولم يأكلون السحت من صناديق نذور الأصنام؟ ولم يقصدون بالصلاة في مساجدهم وجوه الهامدين في الأضرحة؟! 2 الرسالة لعبد الكريم بن هوازن القشيري. ولد سنة 376هـ وتوفي سنة 465هـ. والعوارف لأبي حفص شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي ولد سنة 539هـ وتوفي سنة 632هـ. 3 إن من يقسم الدين إلى حقيقة وشريعة لا يقترف هذا إلا وهو يتصور المغايرة بين الاثنين، ويؤمن بهذه الغيرية، وكتب القوم جميعها طافحة بهذا مفضلة الحقيقة على الشريعة، وإلا فما فائدة التقسيم عندهم؟. 4 انظر ص19 من الرسالة للقشيري. 5 يسمونه سيد الطائفة. توفي سنة 297هـ وكما نقل عنه القشيري هذا، فقد نقل عنه أنه سئل عن العارف فقال: من نطق عن سرك، وأنت ساكت!! والله وحده هو الذي يعلم ما تكن الصدور. 6 أحمد بن محمد أبو الحسين. مات سنة 295هـ. 7 ولكن اسمع للقشيري يقول في رسالته ص31: "الكيس من كان بحكم وقته. إن كان وقته الصحو فقيامه بالشريعة وإن كان وقته المحو فالغالب عليه أحكام الحقيقة" ألا ترى القشيري هنا يؤكد المغايرة بين الشريعة والحقيقة، وأن العارف في المحو ترفع عنه تكاليف الشريعة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 بالملامتية1: "إنهم -في غرور- يزعمون أن الارتسام بالشريعة رتبة العوام، وهذا عين الإلحاد، وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة2" وكذا قال الشيخ [64] عبد القادر الكيلاني، وقال القشيري: "من كان سكره بحظ مشوبا كان صحوه بحظ [صحيح3] مصحوبا، ومن كان محقا في حاله، كان محفوظا في سكره، والعبد4 في [حال5] سكره يشاهد الحال، وفي حال صحوه يشاهد6 العلم، إلا أنه في حال سكره محفوظ، لا بتكلفه، وفي حال صحوه متحفظ بتصرفه، ومن شرط الولي أن يكون محفوظا، كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما": وإنما نقلت هذه النبذة الماضية من الشفاء7، ليعلم أن طريق   1 اقرأ عنهم كتاب الدكتور عفيفي: الملامتية. 2 ص57 عوارف المعارف للسهروردي. 3، 5 ساقطتان من الأصل، وأثبتهما عن الرسالة للقشيري. 4 في الأصل: وهو. والتصحيح من رسالة القشيري. 6 في الأصل: بشرط. والتصحيح من رسالة القشيري. 7 نقل المؤلف هذه النصوص ليقيم الحجة على الصوفية بشهادة أئمتهم، ولكن ما ينبغي أن تغرنا بالحق هذه النصوص، فإنما هي وجه إسلامي لقلب مجوسي، يحتدم حنقا على الكتاب والسنة، فالقشيري الذي يتراءى بتمجيد السنة هو الذي زعم في رسالته أن قبر معروف الكرخي يستشفى به، ونقل قول الكرخي للسري للسقطي: "يا سري. إذا كانت لك حاجة إلى الله فأقسم عليه بي" ويكفي هذا لإخراج المرء من زمرة المسلمين. ويقول السهروردي في عوارفه ص158 "وقد تقرر أن الوحدة والعزلة ملاك الأمر، ومتمسك أرباب الصدق" فأين الجمعة والجماعة والجهاد في سبيل الله؟ ثم يدعو السهروردي دعوة ما نوية صرفة فينسب إلى الرسول زورا أنه أباح العزوبة لأمته بعد المائتين، ويقول: سمعنا عن الجيلي أن بعض الصالحين قال له: لم تزوجت؟ فقال: ما تزوجت حتى قال لي رسول الله، فقال له: الرسول يأمر بالرخص، وطريق القوم: التزم بالعزيمة" يلتزم طريق القوم، ولا يلتزم أمر الرسول!! فهل تشم نفحة من السنة؟ لا بل يحموم المانوية الصرفة الداعية إلى القضاء على النوع الإنساني، وإبادة الجنس البشرى كله. وهذا يؤكد لك قوة الصلة، بين مجوسية ماني وبين التصوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 الفقهاء، هي طريق الصوفية1، هذا ما بنى عليه الصوفية أمرهم، وأما هؤلاء الذين تشبهوا بهم، ونبه العلماء -حتى الصوفية- على أنهم ليسوا منهم، ودلسوا على الناس، ولبسوا أحوالهم، ليقطعوا الطريق على أهل الله، وهم يظهرون أنهم منهم. منابذة الصوفية للعقل والشرع : فأول ما بنوا عليه أمرهم ترك العقل2 الذي بنى الله أمر هذا الوجود على حكمه بشرط استناده إلى النقل الذي أنزل به كتبه: وأرسل به رسله عليهم الصلاة والسلام، لئلا يزل العقل بما يغلبه من الفتور والشهوات والحظوظ، وجعل العقل حاكما3 لا يعزل بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات في ملة من الملل وضموا إلى ذلك4 الداهية الدهياء، وهي ترك ما عطر الله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكون بمدحه، وملأ الوجود بذكر مناقبه وفضائله، وهو العلم والشرع   1 شتان شتان ما طريق الصوفية، وطريق الفقهاء، والصوفية أنفسهم يقرون بهذا، ويزعمون أن طريقهم هو الحقيقة لا الشريعة، ومتمسك الفقهاء هي الشريعة، والصوفية يرون المستمسك بالشريعة محجوبا عن الحقيقة، ثم ما لابن حنبل يأبى أن يسير في جنازة الحارث المحاسبي؟! إنه اشتم من كلامه نتن رائحة التصوف؟! 2 مقياس الحقيقة ومصدر المعرفة عند الصوفية هو الذوق، وهذا سر ترديدهم لأسطورتهم: من ذاق عرف، أما العقل فيكفرون به، ويرونه حجابا يستر الحقيقة، كل هذا ليغروا من حكم العقل عليهم بالأفن والضلال. 3 ما للعقل أن يحكم على الحقائق الشرعية، والقيم الدينية إلا بحكم الكتاب والسنة، لا كما يزعم الفلاسفة وغيرهم من علماء الكلام والأصول: وهو أن العقل أصل النقل وحاكم عليه. 4 أي: إلى تركهم للعقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وحذروا من اتباع شيء من ذلك غاية التحذير, فكانوا كالأنعام، بل هم أضل سبيلا، وذلك بيّن جدا في فصوص ابن عربي, ونظم تائية ابن الفارض اللذين قصد بهما هدم الشريعة، وكل منهما1 ثابت عمن نسب إليه عند أهله ثبوتا رافعا للريب والتائية متصلة بابن الفارض بالآحاد والتواتر. موقف العلماء من ابن عربي وابن الفارض : وقد كفرهما العلماء بسبب ما نقل من حالهما، وما صدق ذلك من كلامهما. أما ابن عربي، فالمتكلمون فيه كثير جدا, وكان له علم كثير في فنون كثيرة، وله خداع كبير غر به خلقا، فأثنى عليه لأجل ذلك ناس من المؤرخين2 ممن   1 يعني: الفصوص والتائية الكبرى. 2 كم سجل الهوى في التاريخ البطولة للرعديد، والقدسية للداعر، والعدالة للطاغية، والجماعة الإنسانية التي تتعدد، وتتباين فيها المقاييس الدينية والخلقية والاجتماعية تختلف على نفسها في تقدير قيم الحقائق والأشياء، وبالتالي فيمن تنسب إليهم هذه القيم إثباتا أو نفيا، لذا أمر الله سبحانه أن يجعل المسلمون كتاب الله وسنة نبيه حكما بينهم، يحتكمون إليها كما شجر بينهم خلاف، حتى يقوموا حقائق الأشياء بالحق والعدل، ويحكموا في أقضيتهم بالحق والعدل، فلا يبدد الخلاف وحدتهم، ولا يذهب بهم الهوى شيعا وأحزابا. وقد حدد الكتاب والسنة مفهوم التوحيد والشرك، ومفهوم الإيمان والكفر، بل والخير والشر، وضرب الله سبحانه لنا أمثالا ممن حكم عليهم بواحد منها. فبجانب نوح عليه السلام ذكر ابنه وبجانب إبراهيم عليه السلام ذكر أباه آزر، وبجانب موسى وهارون عليهما السلام ذكر الله فرعون وهامان وقارون، وبجانب محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر أبا لهب بالاسم، وغيره بالصفة، وبجانب مريم وامرأة فرعون ذكر امرأة نوح وامرأة لوط، ذكر الأولون في مقام الثناء عليهم، وإسباغ الرضى والرحمة، وذكر الآخرون في مقام الذم وصب الغضب واللعنة عليهم، مع ذكر أسباب الثناء وأسباب الذم، لتكون لنا بالصالحين نعم القدوة، فنسعى سعيهم ما استطعنا، وفي الطالحين العظة = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 خفي عليهم أمره، أطبق العلماء على تكفيره وصار أمرا إجماعيا، وأما ابن الفارض فأمره أسهل، وذلك أنه لم يوجد لأحد من أهل عصره الخبيرين بحاله ثناء عليه بعدالة، ولا ولاية، ولا ظهر عنه علم من العلوم الدينية، ولا مدح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقصيدة واحد ة على كثرة شعره، فدل ذلك على سوء طويته، ونقل القدح فيه نقلا قطعيا عن محبيه ومبغضيه، فقد قال شراح تائية التابعون لطريقته والمنتقدون عليه من أهل السنة: إن أهل زمانه كلهم من أهل الشريعة، وأرباب الطريقة رموه بالفسق والإباحة والزندقة [65] على الإجمال. المكفرون لابن الفارض : وأما التفصيل والتعيين فقد رماه بالزندقة بشهادة الكتب الموثوق بها نحو من أربعين عالما، هم دعائم الدين من عصره إلى عصرنا، فمن أهل عصره سلطان العلماء عز الدين [ابن] عبد السلام الشافعي، والحافظ الفقيه الأصول تقي الدين ابن الصلاح الشافعي، والإمام الفقيه المحدث الصوفي قطب الدين القسطلاني الشافعي، والإمام نجم الدين أحمد بن حمدان الحنبلي1 وشرح التائية، وبين   = والعبرة، فنحذر مما أركسوا فيه، وبسببه لعنهم الله وطردهم من رحمته وبهذه المقاييس القرآنية يجب أن نؤمن، وبها يجب أن نقيس كل ما يعرض علينا من أمور الدين والحياة، فلا نفهم في التوحيد إلا ما بينه الله سبحانه به، وكذلك الشرك وغيرهما. ولا يخدعنا عن الحق الجلي من كتاب الله كهان ولا أحبار، ولا رهبان، وعلى هداية الحق ننقد التصوف، دون أن نعير التفاتا إلى ثناء المثنين، أو ذم الذامين، ما دمنا نحمل المشعل الوهاج من القرآن يكشف لنا ما خفي من أمر التصوف. فما يهم بعده ثناء الملايين على ابن عربي وابن الفارض، وكيف، ونحن نعرف قصة فرعون وقصة الوثنية، ونعرف بم حكم الله على الجميع!؟ فكل من نجده في دينه منتسبا إلى الفرعونية أو الوثنية، حكمنا عليه بحكم الله، وإن ضج الملايين من الصوفية. 1 من أئمة الفقه والأصول، ولي نيابة القضاء بالقاهرة. ولد سنة 603هـ وتوفي سنة 695هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 عواره فيها بيتا بيتا, وأبو علي عمر بن خليل السكوني المالكي، والشيخ جمال الدين بن الحاجب المالكي. وممن يليهم قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد الصوفي الشافعي، وقاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز الشافعي، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعي، والشرف عيسى الزواوي المالكي، والسعد الحارثي الحنبلي، والإمام أبو حيان الشافعي، وأبو أمامة ابن النقاش الشافعي، والحافظ شمس الدين الموصلي الشافعي، وشيخ الإسلام تقي الدين السبكي الشافعي، وشيخ الفقهاء الزين1 الكتناني الشافعي، والشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي. وممن يليهم الكمال جعفر الأدفوي2 الشافعي -ونقل ذم التائية عن العلماء- والبرهان إبراهيم السفاقسي المالكي، والشهاب أحمد بن أبي جحلة الحنفي، والحافظ شمس الدين الذهبي الشافعي، والحافظ عماد الدين بن كثير الشافعي. وممن يليهم العلامة شمس الدين محمد العيزري3 الشافعي، وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني الشافعي، وعلامة زمانه علاء الدين محمد البخاري الحنفي الصوفي, وكفر بعض من قال بحضرته: إن ذلك يؤول4 وما أنكر عليه أحد ممن كان حاضره من العلماء تكفيره له، ولا غيرهم من أهل زمانه من مذهب من المذاهب، وما وسع المكفر إلى البراءة من الاتحادية، ومذهبهم. وممن يليهم قاضي القضاة ولي الدين العراقي، وقاضي القضاة حافظ عصره.   1 في الأصل: الدين. 2 ولد سنة 685هـ, أو سنة 675هـ، وتوفي سنة 748هـ. 3 ولد بالقدس سنة 724هـ، وتوفي سنة 808هـ ومن شيوخه ابن قيم. 4 من قال بهذا هو شمس الدين البساطي كما ذكر المؤلف من قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 شهاب الدين أحمد بن حجر الشافعي، وقاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي وقاضي القضاة شمس الدين البساطي المالكي، وعلامة اليمن بدر الدين حسين ابن الأهدل الشريف الشافعي الصوفي، كما شهد بهذا النقل عنهم نحو عشرين كتابا من مصنفاتهم، ومصنفات غيرهم من العلماء، وهي شرح التائية لابن حمدان، وديباجة ديوان ابن الفارض، ولحن العوام لابن خليل، وتفسير أبي حيان البحر والنهر والفرقان لابن تيمية1، وقصيدة السفاقسي التي يقول فيها: وكالششتري القونوي ابن فارض ... فلا برد الله ثراهم، ولا أسقى والقونوي الذي ذكره صدر الدين [66] صاحب ابن عربي، وكتاب ابن أبي حجلة، والميزان ولسانه لابن حجر، والتاريخ لابن كثير بخطه، وناصحة الموحدين للعلاء البخاري، والفتاوي المكية للعراقي، وتاريخ العيني وشرح التائية للبساطي، وكشف الغطاء لابن الأهدل. فهذه ستة عشر كتابا وقصيدة شهدت بكفره من بضع وعشرين عالما، هم أعيان كل عصر. موقف شيوخ المذاهب من ابن الفارض : وممن كفره قاضي القضاة سعد الدين الديري الحنفي، وقاضي القضاة محقق زمانه شمس الدين القاياتي، ونادرة وقته عز الدين بن عبد السلام القدسي الشافعي والعلامة علاء الدين القلقشندي الشافعي، والشيخ يحيى العجيسي المالكي والعلامة   1 لا يكاد يخلو كتاب من كتب ابن تيمية من نقد الصوفية، وبيان عوارهم ويلاحظ أن البقاعي لم ينقل عن ابن تيمية سوى النذر اليسير، بل الذي لا يكشف تمام الكشف عن العبقرية المحلقة للإمام الجليل في نقده للتصوف بالعقل والنقل، وهذا يثير الدهشة من جانب البقاعي، أما نحن فيسرنا هذا حتى لا توضع خصومة ابن تيمية للتصوف موضع التهمة من الصوفية في هذا الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 شمس الدين البلاطنيسي الشافعي شيخ الشاميين في وقته، وشيخ الإسلام عبد الأول السمرقندي الحنفي ابن صاحب الهداية، والعلامة الصوفي كمال الدين ابن إمام الكاملية الشافعي، والعلامة شهاب الدين بن قر الشافعي, والعلامة أبو القاسم النويري المالكي، كما شهد بذلك الثقات من أصحابهم. فهؤلاء أعيان العلماء في عصر ابن الفارض، وفي كل عصر أتى بعده طبقة بعد طبقة إلى وقتنا هذا؛ وقد اجتمع فيهم أهل المذاهب الأربعة التي هي عمدة الإسلام1، فشهادة هؤلاء العلماء الموثوق بهم حجة على من قال بكفره، أما من لم ندركه فبشهادة الكتب الموثوق بصحة نسبتها إلى قائليها. وأما من أدركناه فبشهادة الكتب في بعضهم، وشهادة الثقاة في باقيهم2، هذا إلى ما شهدت به شروح التائية كما يأتي. تواتر نسبة ابن الفارض إلى الكفر : فقد صارت نسبة العلماء له إلى الكفر متواترة تواترا معنويا. وقد علم بهذا عذر من كفره، لو لم يكن له سند غير هذا، فكيف وقد تأيد هذا بما في كلامه وكلام ابن عربي من الطامات التي منها منابذة العقل والشرع كما مضى؟   1 يسير المؤلف مع القافلة الشرود فيرى في المذاهب الأربعة عمدة الإسلام، وينسى الكتاب والسنة اللذين أمرنا الله سبحانه أن نرد إليهما كل شيء، ولو رددنا أمر الصوفية إلى بعض شيوخ هذه المذاهب -لا الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم- لوجدناهم يصححون له زندقته، أما الكتاب الكريم فقد حكم الله فيه بالكفر على القائل، الله هو المسيح، وابن عربي يقول: الله عين كل شيء. 2 إن من يقرأ نصف بيت من تائية ابن الفارض، كقوله مثلا: فبي دارت الأفلاك أو: وفي الصحو بعد المحو لم أك غيرها. أو: وما زلت إياها. من يقر شيئا من هذا لا يتردد في الحكم على ابن الفارض أنه رجل انسلخ عن الإسلام. يحكم بهذا المسلم، بل غير المسلم ممن يقارنون بين التوحيد في القرآن، وبين الوحدة عند ابن الفارض. فما بالك، وقد حكم عليه كل أولئك العلماء؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 الضلال عند الصوفية خير من الهدى : أما ما في الفصوص من ذلك، فقد قال في الفص النوحي في أثناء تحريفه لسورة نوح عليه السلام، التحريف الذي يكفر الإنسان بأدنى شيء فيه1: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 24] أي: حيروهم في تعداد الواحد {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} المصطفين الذين أورثوا الكتاب، فهم أول الثلاثة {إِلَّا ضَلالًا} إلا حيرة، فالحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب، فلا يبرح منه، وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه, صاحب خيال إليه غايته, وله "من" و"إلى" وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له، فيلزمه "من" ولا غاية له, فيحكم عليه "إلى" فله الوجود الأتم، وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم" وقال: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22] لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو؛ لأنه ما عدم من البداية، فيدعى إلى الغاية، ادعوا إلى الله، فهذا [67] عين المكر2. رب ابن الفارض أنثى : وأما ما في التائية من ذلك فقال فيها مخاطبا لله تعالى -كما أجمع عليه شراحه- بضمير المؤنث من أولها إلى آخرها وهي نحو سبعمائة3 بيت، ولو خاطب أحد من أهل الزمان غيره بمثل ذلك4 قاتله، لكن الناس لا يحلمون إلا عند حقوق مولاهم سبحانه، وأما في حقوقهم، فهم في غاية الحدة والمشاححة5، والله الهادي.   1 في هامش الأصل: لعله: منه. 2 سبق نقل هذا عن ابن عربي وتعليقي عليه. 3 بل تقارب الثمانمائة. 4 أي: بمثل غزله الماجن في الذات الإلهية. 5 مثال ذلك حنق الصوفية على كل من يذود عن الكتاب والسنة، ومن = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 تفضيل الزنديق نفسه على الرسل قال وحزني ما يعقوب بث أقله ... وكل بلا أيوب بعض بليتي فضله الشارع على من ذكر في البيت كما هو ظاهر العبارة وعلل ذلك بقوله لقوة استعداده فسار في خطوة واحدة مالا يستطيعه غيره إلا في أزمنة طوال وقال القاضي عياض في أواخر الشفاء من قال صبرت كصبر أيوب إن دريء عنه القتل لم يسلم من عظيم النكال وأقول فكيف إذا فضل نفسه وكذب نحو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد الناس بلاء الأنبياء الخلاعة سنة ابن الفارض قال وخلع عذارى فيك فرضي وإن أبى اقترابي ... قومي والخلاعة سنتي وليسوا بقومي ما استعابوا تهتكي ... فأبدوا قلى واستحسنوا فيك جفوتي وأهلي في دين الهوى أهله وقد ... رضوا لي عاري واستطابوا فضيحتي فمن شاء فليغضب سواك فلا أذى ... إذا رضيت عني كرام عشيرتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 ذللت بها في الحي حتى وجدتني ... وأدنى منال عندهم فوق همتي وأخملني وهنا خضوعي لهم، فلم ... يروني -هوانا1بي- محلا لخدمتي ومن درجات العز أمسيت مخلدا ... إلى دركات الذل من بعد نخوتي فلا باب لي يغشى، ولا جاه يرتجى ... ولا جار لي يحمى لفقد حميتي كأن لم أكن فيهم خطيرا، ولم أزل ... لديهم حقيرا في رخائي وشدتي فحالي بها حال2 بعقل مدله3 ... وصحة مجهود، وعز مذلة أسرت مني وصلها النفس حيث لا ... رقيب حجا سرا لسرى وخصت يغالط بعض عنه بعضي صيانة4 ... وميني في إخفائه صدق لهجتي أجمع شراح التائية على أن المراد بالأبيات التسعة الأولى، أن طريقه هتك أستار الحرمة، والخرق في بعض النواميس الإلهية، وتخليته الناس مع ربهم من غير أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ورضاه بكل ما يقع منهم لشهوده الأفعال   1 في الأصل: هو أناتي. 2 أي: متزين. 3 في الأصل: لعقل مدلة، والتصويب من الديوان. 4 في الأصل: صبابة، ويقصد ببعضه الأول: نفسه، وبالآخر: عقله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 كلها الواحد1 الحقيقي الظاهر في صور الكثرات، وعدم الالتفات إلى المترسمين من الزهاد والعباد، وكسر نواميسهم2، والرد عليهم وعدم التقييد بظواهر العلوم والاعتقادات، فحملهم ذلك على أن رموه بالفسق والبدعة والكفر والإباحة والزندقة والخروج عن طريقهم، فذل بين حي أهل الشريعة والطريقة وأجمعوا3 على أن المراد من الثلاثة [68] الأخرى أن نفسه أسرت تمني الوصل، وتحققها بحقيقته حتى غاب عنها رقيب العقل؛ خوفا من إطلاعه على ذلك، فيغلب عليه حكم التنزيه، فيقوم بالمنع والتشنيع، فيقول4: ما للراب ورب الأرباب، وأنه بالغ في الإخفاء خوفا من أن يتنبه العقل5، فيقوم يشنع وينكر، فصار كل واحد من الصفات يغالط الآخر، وكذبه في هذا صدق لهجته. وقال بعد ذلك بكثير: ولا استيقظت عين الرقيب، ولم تزل ... علي بها في الحب عيني رقيبتي قال التلمساني: "يعني لما سكرت روحي، ونامت عين الرقيب -وهو الشرع والعقل- أقمت عيني رقيبة علي، لرعاية آداب حضرة المحبوبة". ذمه للرسل وللشرائع : وقال في ذم الشرع أيضا:   1 لعله سقط قبلها: من، أو: فعل, أو: صادرة عن. 2 في الأصل: نواميسم. 3 أي: شراح التائية. 4 أي: العقل. 5 هذا إقرار صريح بأن نتائج التصوف تجافي العقل، فإذا كان دينهم يجانب الشرع والعقل. فماذا بقي؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 منحتك علما إن ترد كشفه فرد ... سبيلي، واشرع في اتباع شريعتي فنبع صداء1 من شراب نقيعه2 ... لدي، فدعني من سراب بقيعة ودونك بحرا خضته، وقف الأولى ... بساحله صونا لموضع حرمتي قال الشراح: "إن معنى ذلك أنه منح أتباعه علما كما صداء، وهو ماء يضرب به المثل في الغزارة والعذوبة، ونهى عن متابعة غيره من علماء الظاهر من الأصوليين والفلاسفة والفقهاء، وغيرهم من أهل العلوم الفكرية، فإنها تغر السامع، وهي كسراب بقيعة ليست شيئا، وأنه خاض بحر التوحيد، وأخرج منه ما لم ينله أحد من السابقين من الأنبياء والأولياء لوقوفهم في ساحل ذلك البحر لأجل حفظ حرمته3" ثم خادعوا4 بأن قالوا: "قال هذا على لسان الحضرة المحمدية5؛ إذ كمال التوحيد مختص بمقام جمعه، والكمل والتابعين إياه" ا. هـ. وقد وقع من شرحه بذلك -مع الحيدة عما لا محيد عنه- في الكفر من   1 في الديوان: صدا بالقصر لضرورة الشعر، وهي صداء بالمد وتشديد الدال. 2 في الأصل: نقيعة. 3 أي: حرمة ابن الفارض. 4 أي: شراح التائية. 5 ظن المؤلف أنهم يقصدون بالحضرة المحمدية محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا غير صحيح، فالصوفية يريدون بالحضرة المحمدية الذات الإلهية مع التعين الأول، ومن باطنها يزعمون أنهم يستمدون الفيوضات الإلهية مباشرة، فمعنى قول الشراح إذا: أنه قال هذا على لسان الله سبحانه، والدليل قولهم: مختص بكمال جمعه: أي: إنه هو الذات الكاملة التي جمعت بين الحق والخلق في أكمل ماهية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 جهة أخرى، وهي أنه يلزم منه تفضيل أتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأنبياء الماضين عليهم السلام1. يفضل أتباعه على الرسل، وزندقته على شرعة الله : ومن نمطه -لكونه لا ينفك عن كفره- قوله عقبه: وأصغر أتباعي على عين قلبه ... عرائس أبكار المعارف زفت فإن سيل2 عن معنى أتي بغرائب ... من الفهم جلت، أو عن الوهم دقت فإنه لا يصح على لسانه، ولا لسان غيره3. ثم قال في ذم الشرع والعلم. ولا تك ممن طيشته دروسه ... بحيث استقلت عقله واستفزت فثم وراء النقل علم يدق عن ... مدارك غايات العقول السليمة تلقيته مني، وعني أخذته ... ونفسي كانت من عطائي4 ممدتي   1 بل تفضيل نفسه على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى فرض صحة زعمهم أنه يتكلم بلسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه يكون بهذا قد تعمد الكذب على رسول الله، فهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما قال هذا الشعر الصوفي، وجزاء متعمد الكذب على الرسول الكريم معروف. 2 أي: سئل. 3 أي. ولا لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ردا على زعمهم أنه يتكلم بلسان الحضرة المحمدية. 4 في الأصل: بالعطاء. والتصويب من الديوان. وابن الفارض يختار كلمتي الإعطاء والإمداد عن عمد آثم يدلك على مبلغ اعتقاده في أنه هو الله. إذ الله سبحانه هو الذي يقول عن نفسه تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 قالوا في معناه: "لا يستخفنك كثرة دروس العلوم النقلية، فوراءها علم مكنون أخذت ظاهره من حسي، وباطنه من عقلي، وسره من روحي، ومكنونه من سري من حيث أن كل واحد منها عيني وذاتي. ولا وصف, ولا نعت زائد علي حاكم بمغايرتي، وغيريتي إياها، فكنت المعطي، وكنت المعطى، وكنت الممد، وكنت المستمد، والفاعل والقابل1". هذا أمرهم [69] في الانسلاح من العقل. الصلة بين التصوف والنصرانية : وقد شهد عليهم العلماء بذلك. قال العلامة قاضي القضاة شمس الدين البسطامي في أول كتاب له في أصول الدين في المسألة السادسة من الكتاب الثاني في أنه سبحانه ليس متحدا بشيء: "واعلم أن هذه الضلالة المستحيلة في العقول سرت في جماعة من المسلمين، نشئوا في الابتداء على الزهد والعبادة -إلى أن قال- ولهم في ذلك -أي: الاتحاد بالمعنى الذي قالته النصارى- كلمات يعسر تأويلها، بل منها ما لا يقبل التأويل، ولهم في التأويل خلط وخبط كلما أرادوا أن يقربوا من المعقول، ازدادوا بعدا، حتى إنهم استنبطوا قضية حلت لهم الراحة، وقنعوا في مغالطة الضرورة بها بالمغيب، وهي أن ما هم فيه، ويزعمونه وراء طور العقل، وأنه بالوجدان يحصل، ومن نازعهم محجوب مطرود عن الأسرار الإلهية" وهكذا قال الشيخ سعد الدين في شرح المقاصد، والشريف في شرح المواقف2. ادعاؤه الربوبية ولما تمهد له في زعمه3 ادعى أنه الله؛ عنادا لقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ   1 لو قرأت بإزاء هذا قول الله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لحكمت على هذا الرجل بآية واحدة بأنه خارج عن الإسلام. 2 سيق ذكر نص العضد والسعد. 3 أي: في زعم ابن الفارض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ولأمر1 رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قتاله لكل من سمى شيئا غير الله إلها، فقال شعر: فبي دارت الأفلاك عجبا لقطبها الـ ... ـمحيط بها، والقطب2 مركز نقطتي   1 معطوفة على قوله قبل: لقوله تعالى. 2 زيادة على ما ذكرته قبل عن القطب عند الصوفية أقول هنا: القطب عندهم نوعان. قطب قديم أو معنوي، وقطب حادث أو حسي. فإن كان بالنسبة إلى ما في عالم الشهادة من الخلق، فهو القطب الحادث أو الحسى، وهذا يستخلف بدلا منه عند موته أقرب الأبدال منه، إذ كان هو قبل القطبية بدلا، ثم استخلفه القطب الذي كان قبله عند موته، وإن كان بالنسبة إلى ما في عالم الغيب والشهادة من تعينات الوجود المطلق، فهو القطب القديم، أو المعنوي، لا يستخلف عنه بدلا، ولا يقوم أحد من الخلائق مقامه، إذ هو قطب الأقطاب المتعاقبة في عالم الشهادة، فلا يسبقه قطب ولا يخلفه آخر، أي: ليس قبله قبل، ولا بعده بعد والقطب القديم هذا هو الروح المصطفوي، أو الحقيقة المحمدية، أو هو الله -وسبحان رب العالمين- حين عرف نفسه في أول صورة تعين فيها، وسماها الحقيقة المحمدية، ومن خصائص هذا القطب القديم وجود كل الأفلاك بوجوده، ودورانها به، وحوله، وإحاطة علمه وقدرته بأقطارها، وسمو رتبته وشرفه عن ذرى رتبتها وسنام شرفها. وهنا يزعم لبن الفارض أنه هو هذا القطب القديم، يعني قطب الأقطاب، يعنى أنه الله سبحانه!! يزعم أن علمه محيط بكل شيء، وأن قدرته تصرف لمشيئته كل شيء، وأنه فوق كل شيء بالشرف والرتبة، وأنت -ولا ريب- على ذكر من أن الله سبحانه هو وحده الذي يحيط علمه بكل ما في عالم الغيب والشهادة وغير هذا مما لا يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى وحده. وأنت -ولا ريب- مدرك من قول ابن الفارض أنه ينسب كل هذه الصفات الإلهية لنفسه، فهل يجوز أن يعتريك وهم في أن ابن الفارض يقرر أنه هو الله ذاتا وصفة وعلما وقدرة، أعني له الربوبية والإلهية "انظر ص103جـ2 كشف الوجوه الغر، لعبد الرازق القاشاني المطبوع على هامش شرح ديوان ابن الفارض ط 1310هـ المطبعة الخيرية" فعنه بخاصة كتبت ما كتبت عن القطب، وإن كان لنا شيء فالأسلوب وحده. كل هذا لنقطع على الصوفية سبيل ادعاء أن ما نقول مفترى عليهم، فلا والله ما نأخذ ما نكتبه عنهم إلا من كتب آلهتهم!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 فمن قال، أو من طال، أو صال إنما ... يمن بإمدادي له برقيقة وما سار فوق الماء، أو طار في الهوا ... أو اخترق النيران إلا بهمتي وعني من أمددته برقيقة ... تصرف1 عن مجموعة في دقيقة ومني لو قامت بميت لطيفة ... لردت إليه نفسه، وأعيدت ولا تحسبن الأمر عني خارجا ... فما ساد إلا داخل في عبودتي فلا حي إلا عن حياتي حياته ... وطوع مرادي كل نفس مريدة2 [ولولاي لم يوجد وجود، ولم يكن ... شهود، ولم تعهد عهود بذمة] 3 ولا قائل إلا بلفظي محدث ... ولا ناظر إلا بناظر مقلتي هذا لا يصح كونه عنه، ولا عن الله4!! زعمه أن صفات الله عين صفاته : ويقول أيضا أن الله يتحد به، بحيث يصير الذاتان ذاتا واحدة، فمن ذلك قوله: ولا منصت إلا بسمعي؟؟ سامع ... ولا با طش إلا بأزلي وشدتي ولا ناطق غير، ولا ناظر، ولا ... سميع سوائي5 من جميع الخليقة   1 في الأصل: في. 2 في الأصل: أبيه. والتصويب من الديوان. 3 هذا البيت ساقط من الأصل، وأثبته عن الديوان. 4 هذا رد على زعم شراح التائية أن ابن الفارض يتكلم بلسان الحضرة الإلهية. 5 في الأصل: سواي. وهي في الديوان كما أثبتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 وهأنا أبدي في اتحادي مبدئي ... وأنهي انتهائي في تواضع رفعتي جلت في تجليها الوجود لناظري ... ففي كل مرئي أراها برؤية وأشهدت غيبي إذ بدت فوجدتني ... هنالك إياها بجلوة خلوتي فوصفي -إذ لم تدع باثنين- وصفها ... وهيئتها -إذ واحد نحن- هيئتي1   1 زعم الزنديق قبل أنه قطب الأقطاب، وأن له وحده القدرة المهيمنة، والعلم المحيط بما في عالمي الغيب والشهادة، وفي هذه الأبيات يوغل أيضا في التزندق إيغالا فاجرا، فيزعم أنه السيد لكل سيد، وأنه مفيض الحياة والوجود، وأنه المهيمن على إرادة كل مريد، فلولاه ما وجد موجود، ولا خلق كائن، ولا أخذ العهد على الآدمية أن تعبد الله، ولا دعا إلى الله -بالحق- نبي أو رسول. لأنه الآخذ لهذا العهد على عبيده، المرسل للرسل المانح المعطي كل كائن وجوده وحياته، ولما كان ابن الفارض يدين بأن الله سبحانه هو عين خلقه، وأنه -أي: ابن الفارض- هو الله، فقد هوى هنا في هذه الأبيات مع الزندقة إلى غورها السحيق، إذ يزعم أن ما تلفظه الشفاه هو في الحقيقة ألفاظ الله، وأن ما تسمعه الآذان، وتراه العيون، عين ما يسمع الله ويرى، بل الآذان والعيون هي في حقيقتها آذان الله وعيونه, وتعالى الله عما يشركون، مشيرا في لآمة ماكرة إلى الحديث القدسي "كنت سمعه..إلخ" ملمحا بهذه الإشارة إلى أن السنة تؤيد بهتان مجوسيته. وقد سبق الرد على ما يدندن به الصوفية حول هذا الحديث.. كل هذا يهدف به مخبول الزندقة، ليؤكد لك عشرات المرات أنه هو الله، ورغم جلاء الكفر الآثم في شعره، فإنا ما زلنا نسمع من الأحبار أن ابن الفارض سلطان العاشقين، في حين أن كفر ابن الفارض أشد جحودا، وأخبث وسيلة وغاية من كفر الشيطان، فإبليس في لحظة تحدي العبودية الآبقة للربوبية المهيمنة، لم يذهله التحدي عن عزة الله، وأنه سبحانه هو الأعظم الأكبر، فلم يقسم بغير عزة الله {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] وإبليس في لحظة الجحود والعناد لم يزعم لنفسه القدرة الشاملة، ولا التصرف الكامل، فقال: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وإبليس في لحظة التخايل بالكبر المقيت، لم يزعم لنفسه أنه غني عن الله، ولا أن حياته طوع إرادته هو، فدعا الله سبحانه دعاء المفتقر إلى من يؤمن بأنه غني أن ينظره الله إلى يوم البعث {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36] فتأمل في كفر إبليس وكفر ابن الفارض، وثمت تقول مع الحق: وأين من كفر الزنديق كفر إبليس؟!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني، ولبت [70] وإن نطقت كنت المناجي، كذلك إن ... قصصت حديثا إنما هي قصت فقد رفعت تاء المخاطب بيننا1 ... وفي رفعها عن فرقة الفرق2 رفعتي فإن لم يجوز رؤية اثنين واحدا ... حجاك، ولم يثبت لبعد تثبت سأجلو إشارات عليك خفية ... بها, كعبارات لديك جلية وأثبت بالبرهان قولي. ضاربا ... مثال محق، والحقيقة عمدتي بمتبوعة ينبيك في الصرع غيرها ... على فمها في مسها حين جنت3 ومن لغة تبدو بغير لسانها ... عليه براهين الأدلة صحت وفي العلم حقا أن مبدي غريب ما ... سمعت سواها، وهي في الحس أبدت   1 الخطاب يستلزم الاثنينية، إذ يقتضي وجود مخاطب، ومخاطب، لذا ينفي ابن الفارض الخطاب، ليثبت من وراء نفيه، أنه ما ثم غيره حتى يخاطبه، وإنما هناك ذات واحدة، هي الذات الإلهية المتعينة في صورة ابن الفارض, أو لعله يريد أن تاء المخاطب -وهي مفتوحة- تحولت إلى تاء المتكلم وهي مضمومة، فبدل أن يقول: أنت خلقت، أصبح يقول: أنا خلقت. 2 الفرق عند الصوفية: "شهود قيام الخلق بالحق، ورؤية الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة من غير احتجاب صاحبه بأحدهما عن الآخر" جامع الأصول في الأولياء. فالفرق لا يزال مشوبا بالغيرية، لذا يزعم ابن الفارض أنه تسامى عن هذه المرتبة التي يشعر فيها السالك أن ثمت بينه وبين الله سبحانه وجها ما من وجوه الغيرية، وأنه في أفق يوقن فيه وتحقق منه أنه هو عين الذات الإلهية. 3 سبق هذا البيت وتعليقي عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 قال الإمام شمس الدين البساطي في شرح هذه الآيات: "ومن ظن هذا برهانا, فجنونه أعظم من جنون المتبوعة" وقال قبل ذلك: زعمه أن الله سبحانه يصلي له: ولا غرو أن صلى الأنام إلي أن ... ثوت بفؤادي، وهي قبل قبلتي لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع1 في كل سجدة وما كان لي صلى سواي2 ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة ثم قال بعد ذلك: وفارق ضلال الفرق فالجمع، منتج ... هدى فرقة بالاتحاد تحدث   1 الجمع عند الصوفية: "شهود الحق بلا خلق، أو الإشارة إلى حق بلا خلق، وهو ما يسمى: وحدة الشهود" غير أن ابن الفارض يعني به هنا ما هو أشد كفرا، إذ يزعم أنه حين يسجد، فالساجد والمسجود له حقيقة واحدة هي الحق في صورة خلق، يعني الإله باعتبار الإطلاق، والإله باعتبار التعين في صورة ابن الفارض. 2 فيما قبله عبر بقوله: كلانا مصل وكلا. والضمير الذي بهما يشعران بأنه ثم اثنان يؤديان الصلاة- وإن كان قد عقبه بما ينفي الاثنينية المفهومة من "كلانا" وهو قوله "واحد ساجد". غير أنه لم يكتف بهذا في نفي الاثنينية، فنظم هذا البيت "وما كان لي صلى سواي.. إلخ" توكيدا لنفي ما نفاه من قبل، وتوكيدا لمعنى الوحدة بينه وبين الله سبحانه، ومعنى قوله: احذر أن تفهم أن المصلى غير من صلى له، فإنما هما حقيقة واحدة تخدع غير العارف بتجليها في مظهرين غيبي وشهودي، أو مصلى له ومصل، المصلي أنا، والمصلى له أنا!! غير أني أقول للزنديق وعبيده: ما زال ثم غير. هو مكان الصلاة، فلا يثبت لك نفي الغيرية والاثنينية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 رب الصوفية في صور العاشقات : وصرح بإطلاق الجمال, ولا تقل ... بتقييده ميلا لزخرف زينة بها قيس لبني1هام، بل كل عاشق ... كمجنون ليلى2، وكثير3 عزة فكل صبا منهم إلى وصف لبسها ... بصورة حسن لاح في حسن صورة وما ذاك إلا أن بدت بمظاهر ... فظنوا سواها، وهي فيها4 تجلت ففي النشأة الأولى تراءت لآدم ... بمظهر حوا5 قبل حكم الأمومة فهام بها كيما يصير بها أبا ... ويظهر بالزوجين سر البنوة انظر إلى هذا التجاسر مع الكفر على صفي الله آدم عليه السلام في وصفه   1 في الأصل ليلى، وقيس المذكور هو ابن ذريح أحد مشاهير العشاق. ما زال يشبب بلبنى بنت الحباب الكعبية، ويسعى سعيه حتى تزوج بها، ثم طلقها ثم تزوجها وكان في أيام معاوية "عن تزيين الأسواق للأنطاكي". 2 المجنون هو عامر بن ملوح بن مزاحم، وصاحبته ليلى بنت مهدي بن سعد سلبه عشق ليلى رشده. وكانا في أيام مروان ومن شعره فيها: أراني إذا صليت يممت نحوها ... بوجهي وإن كان المصلى ورائيا وما بي إشراك ولكن حبها ... وعظم الجوى أعيا الطبيب المداويا 3 هو كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الأسود بن عامر كنيته أبو صخر الشاعر المشهور، كان رافضيا شديد التعصب لآل أبي طالب. توفي سنة 150هـ. وصاحبته عزة بن جميل بن حفص بن إياس، ومن شعره فيها: الله يعلم لو أردت زيادة ... في حب عزة ما وجدت مزيدا رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خروا لعزة ركعا وسجودا والميت ينشر أن تمس عظامه ... مسا، ويخلد أن يراك خلودا 4 في الأصل: فيهم، والتصويب من الديوان، فالضمير يعود على المظاهر. 5 يفتري أن الذات الإلهية تعينت لآدم في صورة حواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 بالهيام بالذات الأقدمين1 كما لا يخفى ولم لا يخفى: وما برحت تبدو وتخفى لعلة ... على حسب الأوقات في كل حقبة وتظهر للعشاق في كل مظهر ... من اللبس في أشكال حسن بديعة ففي مرة لبنى، وأخرى بثينة ... وآونة تدعى بعزة. عزت ولسن سواها، لا ولا كن غيرها2 ... وما إن لها في حسنها من شريكة كذاك بحكم الاتحاد, لحسنها ... كما لي بدت في غيرها، وتزيت بدوت لها في كل صب متيم ... بأي بديع حسنه، وبأيت وليسوا بغيري في الهوى لتقدم ... علي بسبق في الليالي القديمة وما القوم غيري في هواي، وإنما ... ظهرت بهم للبس في كل هيئة   1 في الكلام خلل فلعله سقط منه شيء، ويعجب المؤلف من جسارة ابن الفارض على آدم، وليس بعجيب هذا من رجل قال قبل ذلك: إن الله هو جسد حواء!! وسبحان الله رب العالمين. 2 يفتري الزنديق أن لبنى وبثينة وعزة وليلى ما هن إلا الذات الإلهية تعينت في صور هؤلاء الغواني العاشقات، وأن قيسا وجميلا وكثيرا وعامرا عشاق أولئك النسوة، ما هم إلا الذات الإلهية تعينت في صور هؤلاء العشاق، فمن خصائص الإله الصوفي أنه يتجلى في صورة رجل عاشق، وفي صورة امرأة هلوك عاشقة، وأنه حين يعشق فإنما يعشق نفسه، فهو العاشق والعشق والمعشوق. وابن الفارض يختار لفظ العشق عن عمد تثيره الغريزة الملتهبة، فالعشق كما يعرفه صاحب القاموس "إفراط الحب، ويكون في عفاف وفي دعارة، أو عمي الحس عن إدراك عيوبه أو مرض وسواس يجلبه إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور" والصوفية المعاصرة تعيب علينا الإيمان بصفات الله كما هي في الكتاب والسنة، وترجف بنا باغية في كل ناد أننا نجسم الله! ومعاذ الله أن ننسب إليه إلا ما نسب هو سبحانه إلى نفسه. ألا فلينظروا إلى ربهم الذي صنعته زندقة ابن الفارض، إنه يصوره شهوة عارمة النزوات, وبهذا لقبوه بسلطان العاشقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 ففي مرة قيسا، وأخرى كثيرا ... وآونة أبدو جميل بثينة1 [71] تجليت فيهم ظاهرا, واحتجبت با ... طنا بهم, فاعجب لكشف بسترة2 وهن, وهم3 -لا وهن وهم- مظاهر ... لنا4 بتجلينا بحب، ونضرة فكل فتى حب أنا هو، وهي حـ ... ـب كل فتى، والكل أسماء لبسة أسام بها كنت المسمى حقيقة ... وكنت لي البادي بنفس تخفت وما زلت إياها, وإياي لم تزل ... ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت5 وليس معي فى الملك شيء سواي ... والمعية لم تخطر على ألمعيتي   1 تكنى أم عبد الملك، وصاحبها جميل بن عبد الله بن معمر بن صباح وكلاهما من بني عذرة، قبيلة اشتهرت بالجمال والحب والعفة فيه، حتى قيل: هوى عذري, وجميل مضرب المثل في صدق الصبابة وعفة الحب، وكان وصاحبته في عهد عبد الملك بن مروان. 2 دائما يذكر ابن الفارض عن نفسه باعتباره أحد تعينات الذات الإلهية أنه يتجلى في صور رجال عاشقين، أما حين يتحدث عن الذات مطلقا فيزعم أنها تتجلى في صور نساء عاشقات وما من شك في أنه يريد بهذا تفضيل نفسه على كل تعينات الإله الصوفي، إذ الرجل قيم على المرأة. 3 العشيقات والعشاق الذين ذكروا قبل, والذين هم رمز عن الوجود المتعين. 4 أي: الذات الإلهية باعتبارها وجودا خاليا من التعين، ولها باعتبارها خلقا سمي بابن الفارض. 5 هذا وما قبله يؤكد أن ابن الفارض ممن يدينون بوحدة الوجود، لا بالاتحاد، ألا تراه يؤكد أن مظاهر الوجود المختلفة هي عين الذات، وأن الذات منذ أحبت أن تتعين وهي تتجلى في صور الوجود، وأن هذه الحقيقة -حقيقة تعين الحق في صور الخلق- لا يطيف بها وهم من الأوهام؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 فهذا ظاهر في إرادة الاتحاد1 بحيث إن الذاتين تكونان ذاتا واحدة، لا شبهة فيه أصلا. ثباته على اعتقاد الوحدة : ثم قال في إثباته2، ونفي الحلول: رجعت لأعمال العبادة عادة ... وأعددت أحوال الإرادة عدتي وعذت بنسكي بعد هتكي، وعدت من ... خلاعة بسطي، لانقباض بعفتي وصمت نهاري رغبة في مثوبة ... وأحييت ليلي رهبة من عقوبة وعمرت أوقاتي بورد لوارد ... وصمت لسمت، واعتكاف لحرمة وبنت عن الأوطان هجران قاطع ... مواصلة الأحباب، واخترت عزلتي ودققت فكري في الحلال تورعا ... وراعيت في إصلاح قوتي، وقوتي وأنفقت من يسر3 القناعة راضيا ... من العيش في الدنيا بأيسر بلغة وهذبت نفسي بالرياضة، ذاهبا ... إلى كشف ما حجب العوائد غطت وجردت في التجريد عزمي تزهدا ... وآثرت في نسكي استجابة دعوتي متى حلت عن قولي: أنا هي، أو أقل ... وحاشا لمثلي أنها في حلت جميع هذه الأفعال التي هي محاسن الشريعة جعلها نقائض، ودعا على نفسه بها4، إن ادعى الحلول، أو حال عن دعوى الاتحاد.   1 الصور اللفظية لابن الفارض تشعر بهذا، أما معانيه وشرحه في القصيدة لمعتقده فيؤكدان إيمانه بالوحدة. 2 أي: في إثبات الاتحاد، والحق أنها وغيرها في إثبات الوحدة. 3 في الأصل: سر، والتصويب من الديوان. 4 يدعو ابن الفارض على نفسه بالعودة إلى مرتبة العبودية المصلية الصائمة الذاكرة، المنطوية على أحزانها في كهف الزهد وغيابة الحرمان، يدعو بهذا على نفسه إن تحول يوما عما يدين به، وهو أنه هو الله سبحانه، أو كما يقول: متى حلت عن قولي: أنا هي! وجواب "متى" يدل عليه ما سبق من أول قوله: رجعت لأعمال العبادة ... إلخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 استدلاله على زندقته : ثم قال بعد هذا بكثير في أواخر القصيدة, دالا على مذهبه فيما زعم: وجاء حديث في اتحادي ثابت ... روايته في النقل غير ضعيفة يشير بحب الحق بعد1 تقرب ... إليه بنفل, أو أداء فريضة وموضع تنبيه الإشارة ظاهر ... بكنت له سمعا كنور الظهيرة قال شارحه: "إن الحب ميل باطني أثره رفع امتياز المحب والمحبوب، ورفع ما بينهما2، والمحب عين الحضرة الإلهية، والمحبوب ظهور كماله الذاتي والأسمائي، ولن يصح لقبول هذا الظهور المحبوب منصة إلا الحقيقة الإنسانية صورة ومعنى؛ لكمال جمعيتها، وتتميمها دائرة الأزلية والأبدية، والحديث المشير بهذا الاتحاد: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ولسانا ورجلا3 وعبارة التلمساني في مقدمة شرحه: نص   1 في الأصل: عند. وهي كما أثبتها في الديوان. 2 أي: رفع كل ما بينهما من فروق ذاتية وصفاتية، حتى تصير الذاتان ذاتا واحدة هي الحق متلبسا. بصورة خلقية قال الجنيد: ويسمونه سيد الطائفة, ويزعم من لا يستبطن خبيئة التصوف: أن تصوف الجنيد أقباس من السنة, "سمعت السري السقطي يقول: لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا" بهذا يؤمن الجنيد وخاله السري السقطي، والقشيري ناقل هذا في رسالته في باب الحب، فتأمل متى بدأ التصوف ينفث زندقته! فالجنيد والسقطي من رجال القرن الثالث الهجري. وكلاهما يؤمن أن غاية الحب صيرورة العبد ربا، حتى يقول الرب للعبد، والعبد للرب: يا أنا! 3 روي الحديث باختصار مخل، وليس في الحديث ذكر كلمة: لسان. وقد = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 في المراد، وهي: "فالسمع والبصر, وغيرهما من الصفات في أي موصوف كان هو الله حقيقة" وسيأتي كلام القشيري [72] والسهروردي: أن هذا زندقة، وساق ابن الفارض بعد الأبيات الماضية ما زعم أنه يدل على دعواه الاتحاد وأنه إذا دل على ذلك انتفى الحلول، فقال: ولست على غيب أحيلك لا, ولا ... على مستحيل موجب سلب حليتي وكيف، وباسم الحق ظل تحققي ... تكون أراجيف الضلال مخيفتي؟ وها دحية1 وافى الأمين2 نبينا ... بصورته في بدء وحي النبوة   = سبق الحديث وبيان سنده والرد على ما استنبطه منه الزنادقة. وأنقل لك هنا طرفا مما شرح به ابن قيم الحديث لترى كيف يفهم المؤمنون، ويهرف بالزندقة الصوفيون "وخص في الحديث السمع والبصر واليد والرجل بالذكر، فإن هذه آلات الإدراك وآلات الفعل، والسمع والبصر يوردان على القلب الإرادة والكراهة، ويجلبان إليه الحب والبغض، فتستعمل اليد والرجل، فإذا كان سمع العبد بالله وبصره به كان محفوظا في آلات إدراكه، فكان محفوظا في حبه وبغضه، فحفظه في بطشه ومشيه، فمتى كان العبد بالله هانت عليه المشاق، وانقلبت المخاوف في حقه أمانا، فبالله يهون كل صعب، ويسهل كل عسير، ويقرب كل بعيد، وبالله تزول الأحزان والهموم والغموم، فلا هم مع الله، ولا غم مع الله، ولا حزن مع الله. ولما حصلت هذه الموافقة مع العبد لربه في محابه، حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه، فقال: "ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" أي: كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري والتقرب إلي بمحابي، فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني أن أفعل به، ويستعيذني أن يناله مكروه" اقرأ الشرح كاملا في الجواب الكافي لابن قيم ط السنة المحمدية ص202 وما بعدها. 1 هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق، وقيل: أحد. كان مضرب المثل في حسن الصورة، حتى كان جبريل ينزل بصورته، عاش رضي الله عنه إلى خلافة معاوية "أسد الغابة، الإصابة، الاستيعاب" 2 جبريل عليه السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 أجبريل قل لي: كان دحية إذ بدا ... لمهدي الهدى في هيئة بشرية وفي علمه عن حاضريه مزية ... بماهية1 المرئي من غير مرية يرى ملكا يوحي إليه، وغيره ... يرى رجلا يرعى لديه لصحبة ولي من أصح الرؤيتين إشارة ... تنزه عن رأي الحلول عقيدتي يدين بتلبس الله بصورة خلقه : قالوا: "إن المراد -كما هو ظاهر جدا- أن جبريل عليه السلام ظهر في صورة دحية من غير حلول فيه، ولأجل ظهوره كذلك ادعى أن الله تعالى تجلى بصورة الناظم، لم يدع حلوله2 فيه".   1 ماهية الشيء: حقيقته التي تقال في جواب: ما هو؟ 2 مع كفره البين بقياس شأن الله على شأن عبده جبريل، وحكمه بوقوع تلبس الخالق بصور الخلق، قياسا على ما وقع لجبريل, إذ تلبس بصورة دحية. أقول: مع كفره بهذا، فالحديث ناطق بالحق يهدم ما بنى ابن الفارض ومخانيثه عليه من باطل، فهو لا يثبت إلا ظهور جبريل بصورة دحية، فلم يكن ثم -إذا- ذاتان اتحدت إحداهما بالأخرى, أو صورتان لحقيقة واحدة، وإنما كان ثم غيران منفصلان تمام الانفصال، ليسا متحدين لا في ذات، ولا في صفة، ولا في فعل بل ولا في ماهية أو هوية، ولكل منهما خصائصه، ومقوماته وحياته التي لا تشبه الأخرى في أدنى شيء، أو تقاربها، كان ثم الحقيقة الملكية، وكان ثم الحقيقة الآدمية. وهذا نقيض ما يدين به ابن الفارض، إذ يدين بالوحدة التامة بينه وبين الله في الهوية والماهية والذات والصفة، يؤمن بأن هذه الكائنات التي لا تتناهى هي عين الذات الإلهية. وأنت -ولا ريب- قد آمنت بأن الحديث حجة عليه لا له. ثانيا: فصل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو سيد العارفين، كما يوقنون- بحكمه عن بينة بين جبريل، وبين دحية، وهذا الفصل يقتضي أن ذات جبريل غير ذات دحية, أعني يستلزم الغيرية بالحقيقية. وابن الفارض يدين بعدم الغيرية، وينكرها بتاتا. ثالثا: حينما ظهر جبريل بصورة دحية كان ثم أغيار كثيرون حقيقيون غيره. هم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، وكان ثم المكان. = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 قال البساطي: "لكن دعوى تجلي الله بصورة ما مكفر بها1 شرعا بإجماع المسلمين والكافرين من آمن به، وإن لم يكن حلولا". ثم قال: دالا على أن ما قاله بزعمه في الكتاب والسنة: وفي الذكر2 ذكر اللبس ليس بمنكر ... ولم أعد عن حكمي كتاب وسنة وشرحه الشراح كلهم بقوله تعالى في الكتاب العزيز: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص: 30]   = والصوفية يدينون بأنه ما ثم غير من الأغيار، وإنما الكل عندهم عين الذات. رابعا: حينما ظهرت الملائكة لإبراهيم الخليل عليه السلام ظنهم رجالا -والعارف الحق عندهم من لا تخدعه الصورة عن الحقيقة- فقدم لهم طعاما، فلم ينالوا منه شيئا، وهذا دليل على أن الملائكة -رغم ظهورهم في صور بشرية- ظلت على خصائصها الملكية، ولم تنزل على حكم البشرية، فتأكل وتشرب, في حين يدين الصوفية بأن الله سبحانه عين الماهية والهوية من كل موجود، وله خصائصه الحيوانية، والإنسانية، أو الجمادية، فيأكل ويشرب ويتزوج وغير ذلك. قال الحافظ بن حجر في الفتح "والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه" لكن الصوفية -يعبر عنها ابن الفارض وابن عربي وغيرهما- تدين بأن ذات الحق عين الخلق فيجوز عليها كل ما يجوز عليهم، فهي حقيقة القاتل من فاعل القتل، وشارب الخمر من شاربها، فما من فاعل يأتي بشيء، وما من مجرم يقترف إثما إلا وهو الله حقيقة عند الصوفية، وتعالى الله الملك الحق عما يصفون!! 1 سبق ذكر هذا النص وتعليقي عليه. 2 القرآن. 3 يفتري الزنديق أن من كلم موسى هي الشجرة، وأنها كانت هي الله سبحانه متجليا في صورة شجرة، ثم يأخذ من هذا الإفك الأثيم دليلا على دعواه، وهو تعين الله في صورة خلقية، وتجليه في صورة ابن الفارض، ورغم هذا البهتان المجوسي، فالآية تدمغهم، فإنها تثبت وجود أغيار كثيرة غير الرب الذي ظنوه شجرة. تثبت وجود موسى، والشاطئ، والبقعة المباركة، وابن الفارض ومخانيثه يدينون بأنه ما ثم غير أبدا, فعندهم أن الله سبحانه عين كل شيء. وهم يزعمون هنا أن الشجرة وحدها كانت هي الله، فما استدلوا به يناقض ما يدينون به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1 [الأنفال: 17]   1 يتخذ الصوفية -كدأبهم في التلبيس الزنديقي- من هذه الآية دليلا على أن فعل العبد عين فعل الله، ليثبتوا من ورائه أن ذات العبد عين ذات الله سبحانه وإليك ما يرد به الإمام ابن تيمية بهتانهم" قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} لم يرد به أن فعل العبد هو فعل الله، كما تظنه طائفة من الغالطين فإن ذلك لو كان صحيحا، لكان ينبغي أن يقال لكل أحد حتى يقال للماشي: ما مشيت، ولكن الله مشى، ويقال مثل ذلك للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك، وطرد ذلك يستلزم أن يقال: وما كفرت إذ كفرت، ولكن الله كفر، ويقال للكاذب.. ومن قال هذا فهو ملحد خارج عن العقل والدين. ولكن معنى الآية: أن النبي -صلي الله عليه وسلم- يوم بدر رماهم، ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم، فإنه إذا رماهم بالتراب، وقال "شاهت الوجوه" ولم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم، فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم بقدرته يقول: وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل, فالرمي الذي أثبته ليس هو الرمي الذي نفاه عنه، وهو الإيصال والتبليغ، وأثبت له الحذف والإلقاء" باختصار قليل جدا عن مجموعة الرسائل والمسائل ص96 جـ1 وأقول: تثبت الآية وجود رام، وشيء رمي، وقوم أصيبوا بما رمي، فعلى فرض صحة إفكهم أن الرامي هو الله في صورة محمد، فمن هم أولئك الذين رماهم الله؟ وما ذلك الشيء الذي رماهم به، أهم عين الله، أم هم غيره؟ إن قيل بالأول لزمهم كون ربهم من عتاة الجاهلية عباد الصنم، وأنه غلب على أمره. وأصيب بما لم يملك له دفعا. وهذا هو إله الصوفية الذي تصنعه الأوهام والشهوات. وإن قيل بالثاني لزم وجود غير، بل أغيار كثيرة، وهذا نقيض ما يدعونه، وهو أن الله سبحانه عين كل شيء، وتعالى الله عما يصفون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 1 [الفتح: 10] وفي السنة حديث الإتيان في الصورة التي تنكر يوم القيامة، ثم في الصورة التي تعرف2. ثم قال3: "فعلم أنه تعالى يتلبس بأي لباس صورة شاء مما يعرف، ومما ينكر من غير حلول، فكان ظهوره بصورتي جائزا من غير حلول، فصح بهذا دعوى اتحادي مع نفي الحلول" ا. هـ. وليس وراءه تصريح بالكفر. نسأل الله العافية. وقالوا في شرح البيت الثاني4: "إن الحق من أسماء الذات، ومن اتصف بأسماء   1 يزعم الصوفية أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} تؤيد بهتانهم في الاتحاد والوحدة، وإليك رد الإمام ابن تيمية عليهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لم يرد به أنك أنت الله، وإنما أراد به أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه، فمن بايعك، فقد بايع الله، كما أن من أطاعك فقد أطاع الله، ومن ظن في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} الآية: أن المراد به أن فعلك هو فعل الله، أو المراد أن الله حال فيك ونحو ذلك فهو مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته، وجعله مثل غيره، وذلك أنه لو كان المراد به أني خالق لفعلك، لكان هنا قدر مشترك بينه وبين سائر الخلق, وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله، ومن بايع مسيلمة فقد بايع الله، ومن بايع قادة الأحزاب، فقد بايع الله، وعلى هذا التقدير؛ فالمبايع هو الله أيضا، فيكون الله قد بايع الله، إذ الله خالق لهذا ولهذا، وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد، فإنه عام عندهم في هذا وهذا، فيكون الله قد بايع الله، وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية، حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو، يقول: أأقاتل الله؟! " باختصار قليل جدا عن مجموعة الرسائل والمسائل ص97جـ1. 2 سبق ذكر الحديث والرد على استدلال الصوفية به على معتقدهم. 3 أي: شارح التائية. 4 هذا البيت هو: وكيف، وباسم الحق ظل تحققي ... تكون أراجيف الضلال مخيفتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 الذات أعلى ممن اتصف بأسماء الصفات، وقد أخبر عن اتصافه باسم الحق -وهو الثابت بذاته، المثبت لغيره1- فلا يمكن أن يتغير عما ذهب إليه". رأي القشيري والسهروردي : وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري في شرحه للأسماء الحسنى: "إن العبد لا يجوز أن يتصف بصفات ذات الحق كما زعم بعضهم: أن العبد يكون باقيا ببقاء الحق، سميعا بسمعه، بصيرا ببصره2، وهذا خروج عن الدين، وانسلاخ عن الإسلام بالكلية، وهذه البدعة أشنع من قول النصارى: إن الكلمة القديمة اتحدت بذات عيسى عليه السلام، وهي توازي قول [73] الحلولية". وقال السهروردي في الباب الحادي والستين من عوارفه في الكلام على المحبة، ما حاصله: "إن المحبة: التخلق بأخلاق الله، ومن ظن من الوصول غير ما ذكرنا، أو تخايل له غير هذا القدر، فهو متعرض لمذهب النصارى في اللاهوت والناسوت3" وقال: "علم البقاء والفناء يدور على إخلاص الوحدانية وصحة العبودية، وما كان غير هذا فهو من المغاليط والزندقة4. وحدة الأديان عند ابن الفارض : وعلى هذا الأصل المخبث الخبيث -وهو الاتحاد بين جميع الكائنات،   1 من هذا الغير؟ إن كان خلقا، فقد أقروا بأن الحق غير الخلق، وهذا نقيض دعواهم، وإن كان هو الحق نفسه، فقد أثبتوا أن ربهم يغاير نفسه، محتاج إلى من يمنحه الثبوت والوجود، وهذا أيضا نقيض دعواهم، فهم ينكرون الغيرية، ويسمونه الوجود المطلق. 2 يعني: ما يدين به الصوفية، وهو أن سمع الله وبصره عين سمع العبد وبصره، إذ الحق عندهم عين الخلق. 3 انظر ص353 عوارف المعارف ط العلامية، وقد سبق لنا بيان فرق النصارى. 4 ص362 عوارف المعارف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وأنه لا غير, ولا غيرية في شيء من الوجود- فرع صحة كل دين1؛ لأن الفاعل عنده إنما هو الله، فأبطل دين الإسلام القائل بأن كل ما عداه2 باطل، فصار المحامي له3 خاذلا لمن ينصره4، فإن من كفر ابن الفارض ساع جهده في نصر دين الإسلام، وتأييد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وأغلب المحامين له يعتقدون أن دين الإسلام -القائل بضلال ما عداه- هو الحق، ويسعون في نصر من يصوب كل ملة، ويصحح كل نحلة، وهم لا يشعرون أنه قال في تصويب جميع الأباطيل. شعر. شعره في وحدة الأديان : وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار من ألف حجة فما عبدوا غيري، وإن كان قصدهم ... سواي، وإن لم يعقدوا عقد نيتي رأوا ضوء نوري مرة، فتوهمو ... هـ نارا فضلوا في الهدى بالأشعة وإن خر للأحجار في البد5 عاكف ... فلا وجه6 للإنكار بالعصبية فقد عبد الدينار معنى منزه ... عن العار بالإشراك7 بالوثنية   1 هذا قول حق، فالصوفية آمنوا بوحدة الأديان -سماويها ووضعيها- لإيمانهم بوحدة الوجود، فرب الصوفية عين المسلم وعين المشرك وعين المجوسي، ولذا قالوا: الإسلام عين الشرك عين المجوسية عين البهائية، ولذا أيضا قالوا بنفي العذاب في الآخرة، إذ الإله لا يمكن أن يعذب نفسه!!. 2 في الأصل: عدا. 3 أي: لابن الفارض. 4 أي: لمن ينصر الإسلام. 5 بهامش الأصل "البد": بيت الأصنام وهو صحيح. 6 في الأصل: فلا تعد بالإنكار، وهي كما في الديوان. 7 في الأصل: في الإشراك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وإن نار بالتنزيل محراب مسجد ... فما بار بالإنجيل هيكل بيعة وأسفار توراة الكليم لقومه ... يناجي بها الأحبار في كل ليلة وما احتار من للشمس عن غرة1 صبا ... وإشراقها من نور إسفار غرتي وقد بلغ الإنذار عني2 من بغى ... وقامت بي3 الأعذار في كل فرقة فما زاغت الأبصار من كل ملة ... ولا راغت الأفكار في كل نحلة قال شراحه: "إنه مهد في هذه الأبيات أعذار كل فرقة، وأن كل صاحب ملة ونحلة -وإن بطل سعيه- على نصيب من الهدى، فعباد النار غير مؤاخذين من جميع الوجوه، بل من وجه دون وجه، ولا لوم على أحد، بل لكل واحد وجه، ومحمل خير يحمل عليه، فكل يعمل على شاكلته، وكذا عابد الأصنام. قالوا: لا تنكر عليه، فإن أنكرت، لم يكن إنكارك إلا تعصبا؛ لأنك لا تنكر على المقبل على الدنيا، مع أنه أقوى شركا من عابد الصنم, وقالوا: كما أن القرآن نور المساجد، فكذلك الإنجيل نور المعابد. وقالوا نحو هذا في التوراة، وفي عابد الشمس: أنه بإثباته عين الألوهية لم يكن ناقصا، فقام له عذر من وجه من الوجوه. وذلك كاف للكريم" ولا يقول بشيء من هذا مسلم4. معاندته للتوحيد الحق : وقد عاند التوحيد الحق في قوله:   1 في الأصل: غيره. 2، 3 في الأصل: مني-ب. 4 بل لا يقول به يهودي أو نصراني، والبهائية على خبث معتقدهم، ورغم أنهم امتداد للصوفية لا يقولون بهذا، وإنما القائل به في كل أمة هم الصوفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 ولو أنني وحدت ألحدت1 وانسلخـ ... ـت من آي جمعي مشركا بي صنعتي قالوا في شرحه: "لو أنني أثبت وحدة الذات الحق المطلوب المحبوب، ونفيت كثرة نسبه عنه، كما أثبتت ونفت المنزهة2، وبعض الفلاسفة، لكنت مائلا عن سنن الاستقامة؛ لأني أثبت لنفسي وغيري وجودا يقابل وجود الحق" وهذا عين الإلحاد والشرك، فليس وراء هذا كفر، فإن كان هذا مما يفهمه المنازع3، كما يفهم الذاب عن الشارع، فقد علم منابذته لله، ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان لا يفهمه، ويدعي أن له معنى حسنا، فيكفيه أنه يخوض بالجهل فيما هو أخطر الأشياء، وهو أصول الدين الذي في الزلة فيه ذهاب الروح والدين، وهو معاند بمنازعته لقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] , {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونٌَ} [البقرة: 168, 169] ، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا   1 يرى في التوحيد الحق الذي جاء به الرسل جميعا عن الله إنه إلحاد، وهذا هو دين الصوفية سلفهم وخلفهم، ألا تسمع عواء الصوفية تحت قباب الطواغيت، وهم يقيئون صلوات ابن بشيش التي يقول فيها: "زج بي في بحار الأحدية، وأنشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع، ولا أجد, ولا أحس إلا بها" يرون توحيد الرسل أوحالا من الطين، ويدعون الله أن ينشلهم منها؟ ومتى يدعون، والليل لما يهتك كله السحر عن مهده!! هذا لأن التوحيد الحق يثبت لله وحده الربوبية والإلهية، أما الصوفية فيدعون أن يكون حتى الدراويش منهم أربابا وآلهة، وهذا معنى قولهم: "وأغرقني في عين بحر الوحدة" بلا يريدون أن يكونوا وجودا مطلقا "وزج بي في بحار الأحدية". 2 الذين ينزهون الله سبحانه عن مشابهة خلقه، ويثبتون له سبحانه، ما أثبت لنفسه من صفات. 3 أي: المنازع في كفر ابن الفارض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الاعراف: 33] {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] . ويكون1 تابعا لمجرد العصبية، وحمية الجاهلية، مع أنك لا تجد من يحامي عنه إلا منهمكا في الفسوق والبغي والعقوق، أو قريبا منه، تبعا له في قوله: دعوته إلى المجون وينبيك عن شأني الولدي وإن نشأ ... بليدا بإلهام كوحي وفطنة ويعرب عن حال السماع بحاله ... فيثبت للرقص انتفاء النقيصة ولا تك باللاهي عن اللهو جملة ... فهزل الملاهي جد نفس مجدة وإياك والإعراض عن كل صورة ... مموهة، أو حالة مستحيلة قالوا في شرحه: "إن الطفل يبين بحاله من الإصغاء إلى المناغي عن حال أهل السماع والرقص، فيثبت بهذا انتفاء النقص خلافا لما قاله المحجوبون، ولما كان سماع الطفل ورقصه بريا عن الشهوة والرئاء2 كان معربا عن صحة حال سماع الواجدين، ورقصهم3 وهزل الملاهي جد نفس مجدة، فلا تكن غافلا.   1 أي: المنازع في كفر ابن الفارض، وهو معطوف على قوله قبل: يخوض بالجهل. 2 في الأصل: الرئا. 3 يدعو ابن الفارض -متوهج المجون- إلى إلهاب شهوات النفس، واستشارة غرائزها الجامحة بالرقص العربيد والغناء الطافح بالشهوة، ويلح في هذه الدعوة الآثمة، إذ الرقص في دينه معارج الروح إلى أفق رحموت ملكوت الأحدية!! بل يوقن أن الرقص والغناء فيض إلهي يجب أن تتلقاه أرواح العارفين بالبهجة والنشوة!! وأمس كان يدعو عبد المرأة والشهوات إلى مثل هذا فيستنكر منهم هذا الإثم بعض العلماء، وتثور بها بعض الجماعات الدينية، بل -واعجب معي بعض الصوفية، غير أنهم- إذا قيل لهم: إن ابن الفارض = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 عنه، فإنه فائض من الأسماء الإلهية، وما يفيض من الحق إلا ما هو حق لا باطل. الباطل إله الصوفية : ولذلك قال ابن عربي "لا تنكر الباطل في طوره، فإنه بعض ظهوراته"1 فقد أفاد هذا أنهم يعتقدون: أن الباطل هو الله، ولو لم يكن في هذا إلا أنه2 يدعو إلى البطالة والخلاعة والضلالة، لكان كافيا في استهجانه [75] ومنابذته للدين. وقد نقل شيخنا حافظ العصر ابن حجر في لسان الميزان أنه كان لهذا الناظم جوار في البهنسة موظفات للغناء والضرب بآلات الملاهي، وكلما ماتت واحدة منهن اشترى بدلها أخرى، وكان يذهب إليهم في بعض الأوقات، فيسمعهن، ويرقص على غنائهن، ويرجع3. المناضل عن ابن الفارض : فالمناضل عنه مسارع إلى شكله، ومضارع لمن كان فعله كفعله، كما قال علي   = شيطان هؤلاء، وداعيتهم إلى التلطخ بهذه الردغة, أقلقوا مضاجع الليل بالاستغفار أن ذكر سلطان العاشقين أمامهم بسوء!! في حين أن دعوته أدهى شرا ما يدعو إليه المجان عبيد الغواني، فهو يصور الرقص تنفث به المرأة سم الجريمة، والغناء تتجاوب معه أحط الغرائز، والعشق يرويه دم الأعراض، يصور كل هذه الموبقات على أنها سبحات الإشراق الأسمى, وفيض إلهي يصل العارف بالملأ الأعلى يجعل اقتراف ذلك الإثم مظاهر تبتل، ومحراب تأله وتعبد، على حين يصفها المجان بأنها علائم حضارة، ودلائل مدنية! فأي الدعوتين أطغى شرا، وأخبث كفرا؟! 1 أي: بعض تعينات الإله الصوفي. 2 يعني: ابن الفارض. 3 ذكر الحافظ في اللسان: أنه نقل هذا عن كتاب التوحيد للشيخ عبد القادر القوصي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 رضي الله عنه بعد قدومه الكوفة بثلاثة أيام: "قد عرفنا خياركم من شراركم، قالوا: كيف؟ وما لك عندنا إلا ثلاثة أيام، قال: كان معنا خيار وشرار، فانضم خيارنا إلى خياركم، وشرارنا إلى شراركم" وحديث: "الأرواح جنود مجندة" 1 الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أعدل شاهد لذلك ويتعين على كل مسلم إنكار ما أنكره الشرع من مثل هذا. قوله يوجب إراقة دمه : وقد اعترف هو أن ما قاله موجب لإراقة الدم، وأنه قاله في الصحو والإفاقة لا في السكر والجذبة، فقال: وثم أمور ثم لي كشف سترها ... بصحو مفيق عن سواي تغطت بها لم يبح من لم يبح دمه وفي الإ ... شارة معنى ما العبارة حدت قالوا في شرحه: "أي انكشفت لي أمور وأسرار بواسطة الصحو الذي حصل لي بعد السكر والإفاقة، وهي متغطية عن غيري من المحجوبين، ولم يظهر تلك الأسرار إلا من أباح دمه للمحجوبين2، فإنهم يقتلون العارفين الذين باحوا بأسرار التوحيد3" وقد صرح بأن ما يقوله حقيقة لا مجاز، فقال: عليها مجازي سلامي، فإنما4 ... حقيقته مني علي تحيتي   1 نص الحديث: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" ولم يروه الشيخان -كما ذكر- عن أبي هريرة، وإنما رواه عنه مسلم وأبو داود، أما البخاري، فرواه عن عائشة رضي الله عنها. 2 يعني: المعتصمين بكتاب الله، والمستمسكين بظواهر الشريعة المؤمنين بالله وحده ربا، وبالخلق عبيدا لله رب العالمين. 3 أسرار التوحيد عندهم: اعتقاد أن الله سبحانه عين خلقه، وعن هذه المرتبة يقول الغزالي: إنها سر، وإفشاء سر الربوبية كفر. 4 في الأصل: لإنما، وهي في الديوان كما أثبتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 قال الشراح: "أي: على حضرة المحبوبة سلامي في قولي: التحيات إلى آخره؛ مجاز لأنها عيني، لا غيري، فحقيقة السلام مني، وإلي" وقد مثلوا كون التشخص مجازيا، والإطلاق حقيقيا بأن الروح الكلي الذي هو الإله عندهم كالبحر، والأشخاص الناشئة عنه مثل البخار الصاعد من صورته البخارية ثم في صورة السحابية، ثم يرجع إلى الماء، ويختلط بالحبر، فيصير إياه، وهو بخار وسحاب حقيقة، وتلك الصورة العارضة مجاز1!! فأين هذا الانهماك في اللذة قولا وفعلا، والانقياد للهوى عقدا وحلا، من رتبة الولاية التي يدعيها المتعصبون له، التي من شرطها الإعراض عن الانهماك في اللذات الدنيوية ومن رتبة الولاية التي يدعيها هو؟   1 مراده من هذا: إثبات أن المغايرة بين الحق والخلق مغايرة وهمية، أو اسمية، أو صورية، ويشبهها بالمغايرة بين الماء المطلق، وبينه في حال تعينه بصورة بخارية, أو سحابية. فالكل حقيقة واحدة، هي الماء، ولكنها تعينت مرة في صورة بخار، وأخرى في صورة سحاب، وكذلك الذات الإلهية عندهم، فإنها هي وذوات الخلق واحد في الحقيقة، كثير بالاعتبار، فهوية الحق قبل التعين تسمى وجودا مطلقا، أو حقا، ثم سميت خلقا بعد التعين، فهما واحد في الحقيقة، غيران بالنسب والإضافات. يقول التلمساني: البحر لا شك عندي في توحده ... وإن تعدد بالأمواج والزبد فلا يغرنك ما شاهدت من صور ... فالواحد الرب ساري العين في العدد وأقول: هذا المثل حجة على الصوفية، فالماء لا يصير بخارا من نفسه، بل بتأثير شيء آخر خارج عنه يخالفه في حقيقته: هو الحرارة، وكذلك في صيرورته سحابا، فالمؤثر في هذه الصيرورة شيء غير الماء يخالفه في الحقيقة، فالمثل إذا يثبت وجود غيرين هما غير الماء حقيقية وصورة. والصوفية ينكرون الغيرية والكثرة، والمثل كما رأيت يثبتهما، ويثبت أيضا أن الماء في صيروراته يخضع لمؤثر خارجي، وهذا يستلزم كون رب الصوفية يتأثر بغير حقيقي خارجي. فما ذلك المؤثر، أو من هو؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 ومن هنا تعلم أنهم1 لا أرضوه، ولا أرضوا الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحدا من المؤمنين، فإنه هو لا يرضى إلا أن يكون خليعا، وهم يقولون: متقيد، وهو يقول: أن ما قاله مبيح للدم، وهم يقولون: لا يبيحه، وهو يقول: إنه عاقل صاح، وهم يقولون: مجنون [76] سكران، وهو يقول: إن ما قاله: حقيقة، وهم يقولون: مجازا2، ولا يقدرون على تخريجه على المجاز وهو لا يرضى إلا أن يكون هو الله، وينهى عن ذكره بغير. لماذا يزجر عن تكنيته بكنية، أو تلقيبه بلقب وألغ الكنى عني ولا تلغ أكلنا3 ... بها، فهي من آثار صيغة صنعتي4 وعن لقبي بالعارف ارجع فإن ترى التـ ... ـنابذ بالألقاب في الذكر تمقت قال شراحها: "أي: أسقط الكنى عني، ولا تستعمل اللغو في إطلاقها على حال كونك عييا5 عن الكلام في تعريف مقامي، فإنها من آثار مصنوعاتي، إذ الإنسان صاغها، وهو من جملة مصنوعاتي التي أوجدتها، وارجع عن إطلاقك علي اسم العارف؛ لاتحادي بذات من لا يطلق عليه هذا الاسم". فلم يدع جهدا في زجرهم عن تسميته بالعارف، ولم يدع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبسا في أمرهم بتكفيره، وهم6 يعصون كلا من الأمرين,   1 يعني: شارح التائية. 2 الحق أن أكثر الشراح للتائية يدينون بأن قول ابن الفارض في الاتحاد والوحدة حقيقي، لا مجازي. والقائلون بالمجاز قلة من منافقي الصوفية خشية على السحت الذي يأكلون به مال اليتامى والأيامى. 3 يقصد: الإنسان. 4 لا تلغ: لا تكلم باللغو. والألكن: الثقيل اللسان في التكلم. 5 في الأصل: عيبا. 6 أي: اتباع ابن الفارض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 ولا يرجعون عن شيء من المنهيين، فيا خسارتهم بما ضروا به أنفسهم فيما لا ينفعهم، كما قال تعالى فيمن يعبد الله على حرف: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 12، 13] . زعمة أنه عرج إلى السماء : وادعى العروج إلى الله، والوصول إلى مقام: أو أدنى، 1 فقال: ومن أنا إياها، إلى حيث لا إلى ... عرجت، وعطرت الوجود برجعتي قالوا في شرحه: "عرجت من مقام: أنا إياها -وهو ابتداء الاتحاد- ومن قولهم: أنا الحق2، ولا إله إلا أنا فاعبدني3، إلى أن وصلت إلى مقام لا نهاية فيه، وعطر الوجود برجوعه، لاتصافه بصفات الرحمن4، واتحاده. بذات الملك الديان".   1 يقرر المؤلف ما زعمه ابن الفارض من العروج إلى السماء، ووصوله إلى مقام "أو أدنى" المشار إليه بقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} ويعني به ابن الفارض: الدنو من الله، لا من جبريل كما هو الحق. والكمشخانلي الصوفي يشرح هذا المقام في كتابه: جامع الأصول في الأولياء، فيقول: "هو مقام القرب الأسمائي باعتبار التقابل بين الأسماء في الأمر الإلهي، المسمى: بدائرة الوجود، كالإبداء والإعادة والعروج والفاعلية والقابلية، وهو الاتحاد بالحق مع بقاء التمييز والاثنينية الاعتبارية. هناك الفناء المحض، والطمس الكلي للرسوم كلها" ومن هنا تدرك لم ادعى ابن الفارض أنه وصل إلى هذا المقام ثم رجع منه، إذ لم يرتض حتى الاثنينية الاعتبارية، أو بقاء التمييز بينه وبين الله سبحانه بوجه ما. وكيف يرتضيه وهو يفتري أنه هو الله ذاتا وصفة وخلقا؟. 2 كفر الحلاج. 3 قول طيفور الشهير بالبسطامي عن نفسه. 4 يزعم أنه عاد من مقام أو أدنى -وقد ذكرت مرادهم منه- رحمانا. = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 والبيت الذي بعده أشد كفرا1، ثم قال: ولي عن مفيض الجمع عند سلامه ... علي بأو أدنى إشارة نسبة قالوا في شرحه: "إنه لما فني في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بقي به حصة بمشاركته في قبول عين السلام من حيث عين ذلك المقام -وهو مقام: أو أدنى-   = وقد اختاروا تسميته بهذا الاسم بالذات، لأن الرحمن عندهم: "اسم الحق باعتبار الجمعية الأسمائية التي في الحضرة الإلهية: الفائض منها الوجود وبقية الكمالات على جميع الممكنات" فهو مرادف للوجود المطلق، وقد سبق البيت الذي نقله المؤلف عن ابن عربي من الفصوص، والذي يقول فيه: فكن حقا، وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا وهكذا يتغالى الصوفية في الزندقة حتى ليأبى الواحد منهم أن يقال عنه: إنه إله تعين في صورة خلقية، ولا يحب إلا أن يقال عنه: إنه هو الوجود المطلق، أو هوية الحق قبل أن تتعين في شيء ما، حتى في الحقيقة المحمدية. 1 هذا البيت هو. وعن أنا، إياي لباطن حكمة ... وظاهر أحكام أقيمت لدعوتي ويريد الزنديق بهذا: أنه نال كل مراتب التوحيد، حتى بلغ المرتبة الأخيرة منه فالأولى: فناء عين التفرقة وبقاء أثرها. وصاحب هذه المرتبة يقول: أنا الحق, أو أنا الله. ولكن هذه قضية ذت محمول وموضوع، والحمل يستلزم الاثنينية نعم هو حمل صوري لأن المحمول عين الموضوع. ولكن اختلاف لفظيهما يوهم الغيرية. لذا يرفض الزنديق هذه المرتبة. الثانية: فناء التفرقة عينا وأثرا. وصاحب هذه المرتبة يقول: أنا أنا. ولكن ما زال ثم قضية فيها محمول وموضوع ولذا يرفض الزنديق هذه المرتبة أيضا. الأخيرة: وهذه لا تسعف فيها العبارة، ولا تومئ إليها إشارة، وغاية ما يستطيع العارف عندهم هو أن يقول عن نفسه: أنا فحسب، غير مدرك بإدراك ما, ولا شاعر بشعور ما: أن هنالك ما يمكن أن يحمل عليه، أو يوضع له، إذ ما ثم غير ولا سوى. هذا هو مراد الزنديق. غير أنه يزعم أنه رضي وتنزل إلى مرتبة التعين في الخلق، ليبرز مكنون قدرته، وإمكانيات وجوده المطلق الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فإنه جل جناب هذا المقام من أن يطلع عليه إلا واحد بعد واحد، فالواحد السابق هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والواحد اللاحق به:1 أنا إن شاء الله تعالى من جهة غرقي في لجيته" ا. هـ. وقال عياض في أواخر الشفاء: وكذلك -أي: يكفر- من ادعى مجالسة الله تعالى، والعروج إليه، ومكالمته، أو حلوله في أحد الأشخاص، كقول بعض المتصوفة2. لا شيء على من يكفر ابن الفارض : وأما من أنكر عليه لأمثال ما رأيته من الألفاظ الصريحة بالنص في الكفر، فلا شيء عليه بإجماع المسلمين بقاعدة من كفر مسلما متأولا، فلا أضل ممن ترك طريقا مضمون السلامة، واتبع طريقا أخف أحواله أنه مظنون العطب والملامة [77] ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح، على تقدير تسليم أن يكون لهم فيما هم فيه مصلحة، ولي فيه -والله- مصلحة بوجه، فقد اعترف كل من يحامي له أن ظاهر كلامه منابذ للكتاب والسنة, وإلا لما احتاجوا إلى ادعاء تأويله، مع أن الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ما سلك فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجه3, قد أنكر التأويل لغير كلام المعصوم4، ومنع منه رضي الله عنه، وأرضاه، وأهلك كل   1 يعني: ابن الفارض لأنه يتكلم بلسانه. 2 ص298 جـ2 الشفاء ط تركيا. 3 إشارة إلى الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم، وفيه: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لعمر: "إيها يابن الخطاب! والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك" والفج: الطريق الواسع، أو المكان المتخرق بين الجبلين. 4 بل ما ثبت عن عمر، ولا عن غيره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 من خالفه وأرداه، وبسيف الشرع قتله وأخزاه، فقال فيما رواه عنه البخاري في كتاب الشهادات من صحيحه: "إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن الوحي قد انقطع, وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر خيرا أمناه، وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، والله يحاسبه في سريرته. ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة" وقد أخذ هذا الأثر الصوفية، وأصلوا عليه طريقهم. منهم صاحب العوارف استشهد به في عوارفه، وجعله من أعظم معارفه، فمن خالف الفاروق رضي الله عنه كان أخف أحواله أن يكون رافضيا خبيثا، وأثقلها أن يكون كفارا عنيدا، وهذا الذي سماه الفاروق رضي الله عنه: ظاهرا هو الذي يعرف في لسان المتشرعة بالصريح، وهو ما قابل النص والكناية والتعريض، وقد تبع الفاروق رضي الله عنه على ذلك -بعد الصوفية- سائر العلماء، لم يخالف منهم أحد كما نقله إمام الحرمين1 عن الأصوليين كافة، وتبعه الغزالي، وتبعهما الناس. وقال الحافظ زين الدين العراقي أنه أجمع عليه الأمة من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل الاجتهاد الصحيح، وكذا قال الإمام أبو عمرو ابن عبد البر2 في التمهيد، وأصله إمامنا الشافعي رضي الله في كتاب   = تأويلهم لشيء ما من كلام المعصوم، وإنما كان الجميع يفهمون ما جاءهم عن الله ورسوله بمعانيه التي هي له في لغة العرب, لا بما اصطلحت عليه الفلسفة أو التصوف أو الكلام. فما عرف شيء من هذه الضلالات، ولا في عهد أصحابه. وقريب من الذكر تلك الضربات الهادية الشافية التي أنزلها عمر على رأس من جاء يسأله عن معنى الذاريات، إذ استشعر من وراء السؤال فكرا يهمس فيه الشك. 1 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي الجويني من زعماء الأشاعرة. ولد سنة 419هـ ولقب بإمام الحرمين. لأنه جاور بمكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي. توفي سنة 478هـ. 2 هو يوسف بن عبد البر بن محمد حافظ المغرب. قال عنه ابن حزم "لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله. ولد سنة 368هـ وتوفي سنة 463هـ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 الرسالة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنكم تختصمون إلي، ولعل أحدكم أن يكون ألحن1 بحجته، فأقضي له" الحديث رواه الستة عن أم سلمة رضي الله عنها في أمثال كثيرة, وقال الأصوليون: "كافة التأويل -إن كان لغير دليل- كان لعبا، وما ينسب إلى بعض المذاهب من تأويل ما هو ظاهر في الكفر فكذب أو غلط منشؤه سوء الفهم، كما بينت ذلك بيانا شافيا في غير هذه الرسالة، وإنما أولنا كلام المعصوم2؛ لأنه لا يجوز عليه الخطأ، وأما غيره، فيجوز عليه الخطأ سهوا وعمدا. المتوقف في تكفير الصوفية : ولا يسع أحدا أن يقول: أنا واقف أو ساكت لا أثبت، ولا أنفي؛ لأن ذلك يقتضي الكفر؛ لأن الكافر من أنكر ما علم من الدين بالضرورة. ومن شك في كفر مثل هذا كفر [78] ولهذا قال ابن المقري في مختصر الروضة: "من شك في اليهود والنصارى وطائفة [ابن3] عربي فهو كافر". وحكى القاضي عياض في الباب الثاني من القسم الرابع من الشفاء: "الإجماع على كفر من لم يكفر أحدا من النصارى واليهود، وكل من فارق   1 أي: أفطن لها، ونص الحديث: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي, ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع،، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار" فأين من هذا الهدى والحق ضلال الصوفية وباطلهم. إذ يزعمون أن حقائق الأشياء تنكشف لهم على ما هي عليه، وأنهم يتصرفون في البواطن، وأن شيوخهم يتكلمون عن سرائر دراويشهم وهم ساكتون؟ 2 هذا على دين من يأخذون بالتأويل ممن يجعلون العقل حاكما على النقل، وقد سبق الرد على هذا. 3 ليست بالأصل والسياق يوجبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 دين المسلمين، أو وقف في تكفيرهم, أو شك. قال القاضي أبو بكر: لأن التوقيف والإجماع [اتفقا1] على كفرهم، فمن وقف في ذلك، فقد كذب النص أو2 التوقيف، أو شك [فيه3] والتكذيب، أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر4" ا. هـ. وقال الإمام حافظ الدين النسفي في كتابه العمدة في أصول الدين: "التوقف باطل؛ لاقتضائه الشك، والشك فيما يفترض اعتقاده كالإنكار" ومن العجب أنهم يعاندوننا، لأننا لا نؤول لمن يجوز عليه الزلل، وينصرون من يتعصبون له، وهو5 لا يؤول المتشابه من كلام المعصوم، بل يجريه على ظاهره6 خلافا لإجماع الأمة7 مع تأدية ذلك إلى إبطال الشرع، ويدعون   1، 3 ساقطتان من الأصل، وأثبتهما عن الشفاء. 2 في الأصل: و. وهي في الشفاء كما أثبتها. 4 ص267جـ2 الشفاء. 5 يعني: ابن الفارض. 6 كان واجبا أن يقول: بل يجريه على ما يشهد الحس له من مظاهر بالنسبة إلى الخلق، أو على ما يشاء الهوى الصوفي، فابن الفارض -ككل صوفي- لا يقترف هذا، فحسب، بل يجرد اللفظ من دلالته ومعناه في العربية، ويفتري له معنى يهدف به إلى مساندة زندقته، وأحيانا يفصل بعض أجزاء الكلام عن بعض كمن يفصل "لا إله" عن "إلا الله". وأحيانا يقيس شأن الخلاق الخبير على شأن خلقه، ويحكم على الرب بما يحكم به على العبد، ومثاله ما افتراه من أن الله سبحانه يتلبس بصورة الخلق قياسا على شأن جبريل حين ظهر بصورة دحية والأعرابي. هذا بعض ما يمسخ به الصوفية وجه الحق!! 7 قوله هذا يجافي الحق، ويجانب الصواب، فالإجماع الذي يعتد به -إن كان لا بد مع النص إجماع- هو إجماع الصحابة والتابعين. وقد أجمع هؤلاء جميعا -ومن بعدهم الأئمة المهتدون- على إجراء ما تلقوه عن الله سبحانه ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ظاهره، أي: على ما له من دلالة ومعنى في العربية، إذ لا يراد بالظاهر غير هذا، أما أن يراد بالظاهر كيفياته الحسية، فهذا ليس من دين أهل الحق، ولا من الحق في شيء. أقول هذا لأن البقاعي يعني بالمتشابه آيات الصفات وأحاديثها، وهذا رأي ساقط الاعتبار، لم يدن به إلا عبيد الفلسفة ومخانيث الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 الإسلام، فما أحقهم بقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 88، 89] إلى هذا من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلام حملة1 شريعته من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم دعوتا {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 22] . الرأي في شعر ابن الفارض : وأما المحامون له، فإنهم داعون إلى شاعر لم يؤثر عنه قط شيء غير ديوان شعر لم يمدح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه بقصيدة واحدة، بل هو كفر وضلالة وخلاعة وبطالة، وقد علم ذم الله، وذم رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للشعر والشعراء إذا كان حالهم مثل هذا، كما قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 224-227] وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما رواه الستة عن ابن عمر رضي الله عنهما: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا [حتى يريه2] خير من أن يمتلئ شعرا3" وذلك إذا انفرد بالشعر   1 في الأصل: جملة، والسياق يوجب ما أثبته. 2 يرى من الورى، وهو داء يفسد الجوف. وهذه الزيادة لم ترد في رواية أبي داود. وهي كذلك ساقطة من الأصل. 3 لم يروه الستة عن بن عمر، وإنما رواه البخاري عنه، ورواه الشيخان = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 كهذا الرجل، فإنه ليس شيء ينفع الدين أصلا، وليس له من الشعر إلا ما عادى به الإسلام، وأهله، وأذاهم غاية الأذى، وأوقع به بينهم1 العداوة والبغضاء؛ لأنه ملأه كفرا وخلاعة، وصدا عن الدين وشناعة، فقد حاد به الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [79] وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] . فنحن في غاية السلامة، إن شاء الله تعالى، لما قدمت. وأما من يحامي عنه، فهو دائر بين اعتقاد ما تضمنه كلامه، وذلك هو الكفر الموجب للسيف في الدنيا، والخلود في النار في الأخرى، وبين الذب2 عنه مع الجهل لما قال، وذلك موجب لموادة من حاد الله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الموجبة لعداوتها الجارة إلى كل شقاء.   = وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة. والمقصود والله أعلم: الشعر الذي يمجد الرذيلة، ويفسد الخلق والدين، وينابذ القيم الروحية، ويصرف النفس عن الحق من الكتاب والسنة. أما الشعر الذي يستلهم الإيمان والحكمة، ويصور المثل العليا، ويمجد قيم الحق والخير والمحبة، ويستحث النفوس على الجهاد في سبيل الحق. هذا الشعر من هواتف النفس المؤمنة، وليس بذي مذمة ولا مبغضة، ودليلي قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من الشعر حكمة" رواه البخاري وأبو داود عن أبي بن كعب، ورواه الترمذي عن ابن مسعود، وأيضا ما روته عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما, ينافح عن رسول الله, ثم يقول: "إن الله يؤيد حسانا يروح القدس ما نافح -أو فاخر- عن رسول الله" أخرجه البخاري -واللفظ له- وأبو داود والترمذي، كلهم عن عائشة رضي الله عنها. 1 يعني: بين المسلمين. 2 في الأصل: الذنب. والسياق يوجب ما أثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 تواتر الخبر بتكفير العلماء له : هذا مستندنا، وهو قطعي1 من جميع وجوهه، تواتر لنا تواترا معنويا نسبة العلماء له إلى الكفر، وتواترا حقيقيا أن التائية نظمه، ونحن على القطع بأنها صريحة في القول بالاتحاد بالذات والصفات، وما يتبع ذلك من تصويب جميع الملل والنحل إن لم يكن نصا فيه، وعلى القطع بأن ذلك كفر، والقائل به كافر، وقد انتقيت من التائية ما يقارب أربعمائة وخمسين بيتا شهد شراحها البررة والكفرة أن مراده منها صريح الاتحاد، وما تفرع عليه من تصويب جميع الأباطيل في مجلد سميته الفارض2.   1 في الأصل: قطيعي. وهو خطأ في النحو. 2 ورد بهامش الأصل ما يأتي: "قال المصنف رحمه الله في كتابه: الفارض في تكفير ابن الفارض: ثم إنه لا ينبغي الاغترار بما قاله ابن بنته في ديباجة الديون فإنه رجل مجهول لا تقبل روايته، ولا سيما وهو شهد بحده، ولا سيما إذا كانت شهادته مخالفة بشهادة الأئمة بكفره، وعلى تقدير صحة ذلك لا يدل على صلاح إلا إن كان الجاري ذلك على يده متابعا للكتاب والسنة، فإن الخوارق ربما كانت لكفره امتحانا من الله لعباده، وينبغي لكل مسلم أن يجعل قصة الدجال نصب عينيه، فإنه يظهر على يديه من الخوارق شيء كثير مع علمنا بأنه أكفر الكفرة، فأي لبس بعد هذا؟ مع أنه قد كثر ضلال الضلالة بمن ظهر على يديه شبه خارقة، وقد علم أن ذلك قد يكون من الشياطين، وقد ضبط العلماء -ولله الحمد- أمر الخوارق وبينوا حقه من باطله، فمن ظهر على يده شيء من الخوارق. وكان عارفا بالله وصفاته مواظبا [على] الطاعات. مجتنبا للمعاصي. معرضا عن الانهماك في الـ[ملذات] والشهوات. فذلك ولي. والخارق كرامة. وما كان على يد مخالف للشرع فهو إهانة له بالاستدراج له, و [لا] يغتر به. هذا الدجال نشهد أنه أكفر الكفرة مع أنه تظـ[هر على] يده الخوارق العظيمة. منها مسير جبال الثريد معه وو.. الأرض كذلك. ومنها تمثل الشياطين بصور أقارب من أرا [د الله] فتنته يدعونهم إلى متابعته. ومنها. أنه يقول للشمس: قفي [فتقف] ويقول لها: سيري = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 لا عبرة بقول حفيد ابن الفارض : ولا مستند لمن ينابذنا إلا ما أثبته ابن بنته في ديباجة الديوان من الزور والبهتان، وهو نكرة لا يعرف، ولو أنه شهد على أحدهم بدينار لم تقبل شهادته حتى يعدله العدول الموثوق بهم، ولا معدل له، ولا لجده، ممن هو خبير بحالهما أصلا، فصار المحامون له لا مستند لهم إلا سند قريش في منابذة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التوحيد حين قالوا: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًَّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] ، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص: 7] ، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] ، {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30] . وكل من هكذا يوشك أن يقول عند سؤال الملكين في قبره ما قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن المنافق، أو المرتاب: "هاه [هاه] 1. لا أدري. سمعت   = فتسير. ويقول للسماء: أمطري. فتمطر. وللأرض: أنبتي: فتنبت. إلى غير ذلك ممن يضل الله به من [يشاء من] عباده، وأعظمه إحياء ميت" انتهى من هامش الأصل: وما بين هذين [] ساقط من الأصل، ورأيت السياق يوجبه فأثبته. وأقول: حديثه عن الخوارق تظهر على يد الأولياء حديث القرون التي كانت تعيش تحت سطوة التهاويل، إنما الكرامة هي أن يكون الله مع عبده المؤمن نصرا وتأييدا وحفظا. 1 وردت مرة واحدة في الأصل، بيد أنها ذكرت مرتين في الحديث الذي رواه أبو داود عن البراء بن عازب "وهاه هاه" كلمة تقال في الضحك وفي الإيعاد، وللتوجع. وهو أليق بمعنى الحديث كما قال المنذري، وحديث السؤال في القبر أخرجه -غير أبي داود- الشيخان وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وأبو حاتم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 الناس يقولون شيئا، فقلته" على أنه لو ثبت ما في ديباجة الديوان لم يفد ولاية، فإن العلماء قسوا الخوارق إلى معجزة وكرامة، ومعونة وإهانة. وأشار إلى ذلك الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر، انظر إلى ما ورد للدجال من الخوارق1، وهو أكفر الكفرة. بم يكون الإنسان وليا ؟: إنما يفيد الولاية بذل المجهود في متابعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن بذل جهده في [80] اتباع السنة، قلنا: إنه ولي، فإن خيل بعض المحلولين منهم أحدا ممن ظهر له الحق بقوله: التسليم أسلم!! فليقل له: هذا خلاف ما أمر به صاحب الشرع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكتاب والسنة: من جهاد أعداء الله، والبغض في الله، من ذلك حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المتفق عليه في تسليته عن التخلف عن أصحابه بمكة: "ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون" على أن التسليم لأهل الشريعة وأهل الطريقة2 المجمع عليهم الذين رموا هذا الرجل بالكفر، ورأسهم الفاروق رضي الله عنه بمنعه من التأويل أجدر بإيجاب السلامة. وقد قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما:   1 ما سيظهر على يد الدجال أخبرنا به المعصوم, وإنه لفتنة سيبتلي بها الله عباده ويميز بها بين المؤمن والكافر، أما ما يزعمه هؤلاء، فلم يروه إلا كذاب، أو منافق، أو صوفي، وإنها لشعبذة يقترفها أولئك ابتغاء سلب مال أيم، أو أرملة، أو يتيم! ولا ينخدع بها إلا النوكى مخابيل الأحلام. 2 لا. بل الواجب هو الاعتصام بالكتاب والسنة، والتسليم لهما، وتأييد كل من يذود عنهما، ثم من أهل الطريقة؟! أليسوا هم أولئك الأدعياء الكذبة الذين ابتدعوا هذه البدع الصوفية كلها، تأييدا للمتآمرين على الإسلام من مجوس ويهود ونصارى؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 "إن لم تكن الفقهاء أولياء لله، فليس لله ولي1" نقله عنهما النووي في تبيانه عن الخطيب البغدادي، ودليله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] , {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63] . فقد أرشد الله تعالى إلى أن الولي هو العالم، وأن العالم هو العامل بعلمه. دفاع وادعاء : وإن قالوا: أنت تبغض الصوفية، فقل: هذه مباهتة. إنما أبغض من كفره من أجمعنا على أنهم صوفية، مثل الجنيد، وسري2 وأبي يزيد3،   1 ما من شك في أن الإمامين الجليلين يقصدان بالفقيه: ذلك المؤمن العالم الذي يستمد فقهه من الكتاب والسنة، ويبذل الجهد في سبيل دعوة المسلمين إلى اتباع الكتاب والسنة، لا ذلك الذي تدفعه عصبية حمقاء إلى عبادة مذهب خاص، ودعوة الناس إلى الاقتداء بغير رسول الله, والتدين بكتاب غير كتاب الله سبحانه مثل هذا هو من يسميه الناس اليوم وقبل اليوم بالفقيه، وإنه لفقيه ضلالة، وداعية إلى اتخاذ عبيد الله أربابا من دون الله. 2 هو سري بن المغلس السقطي، خال الجنيد. ومن قوله: "كل ما أنا فيه فمن بركات معروف الكرخي" توفي سنة 257هـ, فهل قائل هذه الكلمة يعتبر مسلما؟. 3 هو طيفور بن عيسى البسطامي المتوفى سنة 261هـ ومن قوله: "سبحاني ما أعظم شاني، تالله، إن لوائي أعظم من لواء محمد، ولأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة" انظر ترجمة المناوي لأبي يزيد ولطائف المنن والأخلاق جـ1 ص125، 126 وعجيب من المؤلف أن يستشهد بمثل هذا الزنديق على تكفير صوفي، وهو زعيمهم الذي ألهبهم جرأة وقحة على جلال الربوبية وكبرياء الإلهية، وهو القائل أيضا: "رفعني الله مرة بين يديه وقال: إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زيني بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هناك" اللمع ص382. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 وأبي سعيد الخراز، والأستاذ أبي القاسم القشيري، والشيخ عبد القادر الكيلاني والشيخ شهاب الدين عمر السهروردي صاحب العوارف، فإن بعضهم قال: طريقنا, مشبك بالكتاب والسنة، فمن خالفهما، فليس منا، وبعضهم جعل أثر عمر رضي الله عنه أصلا، وبنى عليه طريقهم، وبعضهم قال: من قال: إن الشريعة خلاف الحقيقة فهو زنديق، ومن قال: إن المراد بمحبة الله تعالى، ووصوله إليه غير كمال المتابعة للكتاب والسنة، أو بمحبة الله غير إكرامه بحسن الثواب؛ فهو زنديق1، إلى غير ذلك مما حدوه، فتعداه من عاديتمونا بسببهم   1 الخبير بحال الصوفية -سلفهم وخلفهم- والمتأمل في كتبهم يوقن أن الصوفية منذ نشأت، وهي حرب دنيئة -خفية أو مستعلنة- على الإسلام. هذا القشيري الصوفي القديم "ولد سنة 376هـ وتوفي سنة 465هـ" هذا هو يقول في رسالته عنهم "ارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة. وركنوا إلى اتباع الشهوات. وادعوا أنهم تحروا عن رق الأغلال. وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدانية" ص2، 3 الرسالة للقشيري. هذه شهادة عليهم في القرن الرابع الهجري من رجل يعدونه المثل الأعلى للصوفية العملية المعتدلة، وإنها لتدل على أن الصوفية من قديم تواصوا بالكيد للإسلام، وإنا لا تخدعنا هذه الشفوف من النفاق الصوفي، إذ هم السم الناقع يتراءى شهدا مذابا. فالقائلون بما هلل له البقاعي هم عين القائلين بما يخنقك منهم يحموم الزندقة، فالقشيري نفسه يقول في مقدمة رسالته عن أهل الطريقة: "جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه" يفضل الصوفية على السابقين من المهاجرين والأنصار، ثم يقول: "وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث للخلق" وماذا بقي لله إذا كان هؤلاء غياثا للخلق؟ وماذا للصحابة من طوالع الأنوار ومعادن الأسرار إذا كان هؤلاء وحدهم كذلك؟ ثم يقول: "ورقاهم إلى محال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 بل أنتم بعد بغضكم للصوفية نابذتم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بموالاتكم من نابذ شريعته، ونحن نذب عنها وأنتم تناضلون عمن يهدمها من غير فائدة في ذلك، وتقولون: إنهم أرادوا بكلامهم الذي ظاهره قبيح غير ظاهره، ولو قال أحد من الناس لأحد منكم كلمة توهم نقصا "كالعلق" الذي قال أهل اللغة أن معناه: الشيء النفيس1؛ عاداه، وإن حلف له أنه ما قصد ذما، وإن كرر ذلك كانت القاصمة، فتحرر بذلك أن نابذتم أهل الدين من الفقهاء والصوفية2 المجمع   = وأشهدهم مجاري أحاكم الربوبية" إذا فهم عند القشيري أعظم مقاما من خليل الله إبراهيم، ومن محمد عليه الصلاة والسلام؟! فتأمل في الأستاذ القشيري، وفي قوله، وفيما خلفه في رسالته، ثم اسمع إليه ينقل في رسالته: "لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا، المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه" انظر مقدمة الرسالة وص146منها. وهذه زمزمة قديمة بزندقة الاتحاد ووحدة الشهود. 1 في القاموس: "العلق: بالكسر" النفيس من الشيء. 2 وضع الصوفية بجانب الفقهاء من المؤلف يوحي بأن هناك طريقان: طريق الفقهاء، وطريق الصوفية، ويوحي بأن الدين فقه وتصوف، وأن الطريقين مختلفان، وأن الفقه والتصوف متغايران. فما طريق الفقهاء، وما طريق الصوفية؟ وما الفقه، وما التصوف؟ إن كان أحدهما عين الآخر بطلت التسمية، وإن كان غيره، استلزم النقص في أحدهما، أعني استلزم أن يكون أحدهما لا يمثل الشريعة الإسلامية في كل أصولها وفروعها. والصوفية يزعمون أنهم يمثلون الجانب الروحي والحقائق الباطنة في الإسلام. ويدمغون الفقهاء بأنهم علماء الرسوم. في حين يقول الفقهاء عن الصوفية: إنهم يتحللون من تكاليف الشريعة بهذه الدعوى!! فأي الفريقين على بينة من قوله؟ لا بد من العودة إلى الكتاب والسنة لنحكم على قيم الأشياء بما حدد القرآن من مفاهيم لهذه القيم، وثمت نجد أمين الله جبريل يسأل الرسول: ما الإسلام؟ ثم: ما الإيمان؟ ثم: ما الإحسان؟ ونجد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجيب إجابة واضحة صريحة لا لبس فيها ولا غموض، محددا هذه الحقائق العليا تحديدا جليا مشرقا، فلنجعل قلوبنا ونياتنا وأعمالنا مظهرا لها في صدق وإخلاص ولندع تلك التفريعات، والتقسيمات، والتسميات، لنستمد معارفنا عن الدين من الكتاب والسنة، فلا تستبد بنا حيرة، ولا يعصف بنا شك ولا يستعبدنا بعض خلق الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 عليهم بالتأويل في جانب الله تعالى، ومنعتم مثله في حقكم، فأف لهذا عقلا، فكيف بالنظر إلى [81] الدين؟ وجوب الكشف عن زندقة الصوفية وبيانها : وإن قالوا: لا تجرب بالإنكار عليه في نفسك، فليقل: وإن تركت الإنكار عليه، كنت أيضا مجربا في نفسي بمنابذة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي رواه مسلم عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" وفي حديث آخر لمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل1" وقد صرح العلماء بأن من خاف   1 بات المنكر عند بعض الناس هو النهي عن المنكر، ولبعدهم عن الكتاب والسنة حالت في أذهانهم قيم الأشياء، فالدعوة إلى الحق عندهم رغاء بالباطل، والاعتصام بالكتاب والسنة جمود ينافي قانون التطور، والمحافظة على تراث الإسلام الروحي مادية صماء، والحكم بما أنزل الله رجوع إلى وحشية القرون الوسطى، وانتباذ لسماحة القانون الإنساني. هذا في ناحية قيم الخير، أما في ناحية الشر، فالإلحاد حرية فكرية، والعصبية المذهبية تقديس للأئمة، وعبادة القبور والجيف محبة لأولياء الله، والمجوسية قداسة روحانية، ومعارج ربانية، وهي الصوفية، والتبرج المتلطخ بدماء الأعراض مدنية حديثة، وأمس قبل ثورة الجيش على الطغيان كانت مساندة الطاغوت والسجود له ولاء واجب مقدس!! هذا فهم المسلمين لقيم الأشياء, يؤازرهم في هذا -ويا أسفاه- بعض العلماء، أو من يسميهم الناس بهذا. ثم تعال، وانظر إلى ما كان يحدث من قبل. حاولت بعض الحكومات في عهد الطاغية تعديل قانون الانتخاب!! فماذا حدث؟ قامت قيامة من يسمون أنفسهم بفقهاء القانون، وتنادوا بالويل والثبور!! في حين كان كل رئيس حكومة = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 على أحد أنه يقع في هلكة يجب عليه إنذاره, ولو كان في الصلاة {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] . الجاهلية في الصوفية : على أنهم تابعون في هذا التحريف سنة الجاهلية في قولهم لنوح عليه السلام ما أجابهم عنه بما حكاه تعالى عنه في قوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71] ثم قولهم لهود عليه السلام، وقوله لهم ما حكاه تعالى بقوله: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، ِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54-56] ثم قولهم لإبراهيم عليه السلام كذلك: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ1 أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ   = يعتدي في كل لحظة على كتاب الله، وينتهك الحرمات في جرأة مستعلنة وقحة، ويستعبد عباد الله للطاغية الظلوم الغشوم، ويقدم للطاغوت قرابينه: فضيلة مذبوحة، أو رذيلة تغري بإثمها، أو عرضا كان يرف حياء، ويتألق قدسية. كان كل هذا يحدث وغيره. فما كنت ترى من الشيوخ والصوفية إلا ابتهالا إلى الله أن ينصر الطاغية، كانوا كلما استنجد بهم الطاغوت لمساندته هبوا سراعا هبوب الوثنية إلى هبل، يحلون له ما حرم الله، ويرتلون بين يديه طقوس العبادة، وعلى فمه تتلمظ الفواحش، وعلى أنيابه مزق من الأعراض. ويقولون له: حفظك الله ذخرا يا أمير المؤمنين!! فيا أبطال الثورة على الطاغوت: إن أسمى ما تحققون من خير هو الجهاد في سبيل أن يفهم الناس قيم الأشياء على حقيقتها، فيؤمنوا بالخير خيرا، وبالشر شرا، وثمت تجدون محكومين يتجاوبون مع الحاكمين في صدق ومحبة، وفي الكتاب والسنة الحق، وهدى الدين والدنيا. 1 ساقط من الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ، وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 80-83] وقال كفار قريش لزنيرة الرومية رضي الله عنها لما أسلمت2، فعميت: "ما أعماها إلا اللات والعزى فرد الله عليها بصرها، وقالت ثقيف: "والله لا يستطيع أحد أن يخرب اللات، فلما أخربوها، قالوا: والله ليغضبن الأساس" وقال اليهود لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه: "لو كان نبيا ما مات صاحبه" إلى أمثال هذه الترهات. دفع اعتراض : وإن قالوا، استخفافا لضعفاء العقول: إن هذا الرجل3 له ما يزيد على مائتي سنة ميتا، فما للناس يقلقونه في قبره؟ تلك أمة قد خلت. فقل, بعد التأسي بفعل الله بفرعون وأضرابه: هذا الكلام [82] لنا عليكم، فإنه   1 ساقط من الأصل. 2 أسلمت في أول الإسلام، وعذبها المشركون عذابا شديدا، فاشتراها الصديق ثم أعتقها وقد عميت، فقال المشركون: أعمتها اللات والعزى لكفرها بهما فقالت: وما يدري اللات والعزى من يعبدهما، إنما هذا من السماء، وربي قادر على رد بصري، فأصبحت من الغد، وقد رد الله بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد. "عن الإصابة لابن حجر، وأسد الغابة لابن الأثير". 3 يعني: ابن الفارض. 4 يريد: أنه لو كان ذم الموتى مذموما مطلقا ما ذم الله في القرآن آزر أبا إبراهيم، وابن نوح، وامرأته، وامرأة لوط، وفرعون، وهامان، وقارون، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 لو كان حيا لظن أن الكلام فيه لعداوة، أو حظ من الحظوظ الدنيوية، وحيث انتفت التهم كلها, كان الكلام بسبب ما خلفه من كلامه الذي أقر الذابون عنه أن ظاهره خبيث حتى احتاجوا إلى تأويله، فلو تركوا كلامه، تركنا الكلام فيه، فمن غض منه, علمنا أنه ما غض -مع معاداة أكثر الناس- إلا ذبا عن حمى الشريعة خوفا على الضعفاء من الاغترار بهذه الظواهر، ومن حامى عنه، كان ذلك قرينة دالة على أنه يعتقد ما ظهر من كلامه، وإن قالوا: "لا تذكروا موتاكم إلا بخير" رواه النسائي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا. قيل: حتى يكون من موتانا1، وإن قالوا: "لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا" رواه البخاري عنها أيضا مرفوعا. قيل: هذا إذا كان في أمرهم شك بدليل {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 2، ونحن لم نسبه، بل أخبرنا بما وصفه به العلماء الذي ثبتت ولايتهم تحذيرا من كلامه3، واتباعا لحديث البخاري عن أنس   = ممن حادوا الله ورسوله. أما وقد جاء في القرآن ذلك، فنعلم قطعا أنه يجب ذم الشرك، وكل مشرك. وبيان حاله حتى نأمن من الفتنة به على غير الخبير بحاله. وما مثل كفر ابن الفارض وابن عربي وأمثالهما من الصوفية كفر. وما مثل خطرهما على المسلمين خطر. فلا يمنع هلاكهما من بيان حالهما، وذم معتقدهما، والتحذير منهما، ومن أمثالهما. وإن كانوا في توابيت من فضة، وتحت قباب من ذهب، وكان لهم ملايين الدراويش!!. 1 أي: من المسلمين الذين لم نسمع منهم في صراحة قول الكفر. ولم نر منهم في جلاء فعل الكفر. ولم يخلفوا وراءهم كتبا تطفح بالوثنية والزندقة. كأمثال طواغيت الصوفية. فإن كان من هؤلاء وجب على كل مسلم بيان معتقده، وتحذير المسلمين منه، ودمغهم بما دمغ الله به كل فاجر كفار. 2 يعني: لو كان ذم الموتى مطلقا غير جائز ما ذم الله في كتابه الحكيم: أبا لهب ونحن اليوم -وقد تقضت قرون كثيرة على هلاك أبي لهب- ما زلنا، وسنظل حتى قيام الساعة نقرأ قول الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} . 3 أي: من كلام ابن الفارض، والمؤمن الحق ليس في حاجة إلى شهادة عالم يشهد على مثل ابن الفارض بالكفر، فشعر الصوفية وكتبهم تنزو بقيح الوثنية المجرمة، وتشهد عليهم أنهم فئة يبغضون الله ورسوله ويحبون القبور، ورمم القبور!! وبهذه الشهادة التي لا يمكن الطعن فيها، نحكم عليهم بما حكم الله به على إبليس وفرعون، وعباد العجل والأوثان، والمجرمين من قوم لوط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 رضي الله عنه -رفعه- "مرو بجنازة فأثنوا عليها شرا، فقال: "وجبت" واتباعا لإجماع الأمة في جرح من يستحق الجرح. هذا من فوائد قولنا، فليذكر الخصم للدفع عنه فائدة واحدة لنفعه، أو لنفع الدين, أو أحد من المسلمين!! وإن قالوا: ما لأهل زمانه ما أنكروا عليه؟ قيل: قد أنكروا عليه، كما مضى بيانه، وإن قالوا: ما لهم ما قتلوه؟ قيل: منعهم اختلاف الأغراض، كما منع ذلك في الباجريقي، وكما ترى الآن من هذا التجاذب، على أن القتل أيضا لا يفيد قطع التعنت من المتعنتين، فقد أجمع أهل زمان الحلاج الذي هو رأس هذه الطائفة الاتحادية1 بعد فرعون، وهم أتباع طريقته على قتله على الزندقة، كما نقله القاضي عياض في آخر كتابه الشفاء الذي هو من أشهر الكتب وأعظمها, ونقل الأستاذ أبو القاسم القشيري رأس الصوفية في زمانه في الرسالة عن أحد مشياخنا عمرو2 بن عثمان المكي تكفيره للحلاج وذلك في باب "حفظ قلوب المشايخ3 وقتل بسيف الشرع، وأنت تجد الآن هذه الطائفة، وأتباعهم من   1 هو حلولي وليس اتحاديا. 2 توفي سنة 291هـ. 3 نص ما ذكره القشيري "ومن المشهور أن عمرو بن عثمان المكي رأى الحسين بن منصور الحلاج يكتب شيئا، فقال: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن، فدعا عليه، وهجره. قال الشيوخ: إن ما حل به بعد طول المدة كان لدعاء ذلك الشيخ عليه" والقشيري لم يذكر هذا انتقاصا من مقام الحلاج، وإنما ذكره تأييدا لما يهدف إليه الصوفية، وهو استعباد قلوب أتباعهم لأهوائهم، ألا تراه يقرر أن الحلاج لم يحل به القتل إلا من دعاء شيخه عليه، لا لأنه كان يعارض القرآن، فغضب الله عليه! وألا تراه يرويه في باب "حفظ قلوب المشايخ"؟ = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 العامة، يعتقدون فيه اعتقادا عظيما، وينابذون أهل الشريعة، وذلك يدل على أنهم إنما يقولون: تؤول تقية، وخوفا من السيوف المحمدية، وأنهم يعتقدون الكلام على ظاهره، فاستوى حينئذ القتل على الزندقة وعدمه {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 33] . نصيحة : ولا تهتموا أيها الأخوان بكثرة كلام أتباع الشيطان، وهجائهم لنا بالإثم والعدوان، فهم: إنما يقولون ذلك في الغيبة، ولهم عليه الإثم والخيبة، فإن الله تعالى قد ضمن النصرة، وإن كان مع المبطل الكثرة. روى [83] الشيخان عن معاوية رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون, وحتى يقاتل بقيتهم الدجال" وفي رواية: "وهم بالشام"، وقال [تعالى] : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]   = ولذا يقول في رسالته: "من رضي عنه شيخه لا يكافأ في حال حياته، لئلا يزول عن قلبه تعظيم ذلك الشيخ، فإذا مات الشيخ أظهر الله عز وجل عليه ما هو جزاء رضاه ومن تغير عليه قلب شيخه لا يكافأ في حال حياة ذلك الشيخ، لئلا يرق له، فإنهم مجبولون على الكرم، فإذا مات ذلك الشيخ، فحينئذ يجد المكافأة بعده" ويقول: "من خالف شيخه لم يبق على طريقته، ومن صحب شيخا من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه، فقد نقض عهد الصحبة، ووجبت عليه التوبة! على أن الشيوخ قالوا: حقوق الأستاذين لا توبة عنها!! " انظر ص150، 151 من الرسالة للقشيري في باب حفظ قلوب المشايخ. ولكن أرأيت إلى الأستاذ القشيري كيف يقرر وجوب التوبة حتى على من همس في قلبه اعتراض على شيخه, بل يقرر أن التوبة من هذا لا تقبل! ولذا يقول الشعراني" من أشرك بشيخه شيخا آخر فكأنما أشرك بالله" يريد الصوفية سلفا وخلفا أن يكون الناس عبيد أهوائهم ونزواتهم، ويخوفونهم بغضب العبيد، لا غضب رب العالمين، ويشرعون لهم، أن الغاية من الإيمان إرضاء هوى الشيوخ، لا إرضاء مالك الملك سبحانه!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 10، 11] إلى أن قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 12-14] . وقد قلت في حالنا وحالهم. نصرنا سنة المختار حقا ... فهاجينا لذاك1 الأكافر وراموا نصر شاعرهم فخابوا ... وضلل سعيهم في نصر شاعر {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] ، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] ، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] ، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51, 52] ، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ, إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ، فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 171-182] . قال منشؤها سيدنا الشيخ الإمام العالم العامل العلامة أبو الحسن برهان الدين إبراهيم البقاعي الشافعي نفع الله المسلمين بعلومه: إني فرغت [من] هذه الرسالة   1 لعلها: ذياك أو لذلكم. فبهذا يستقيم وزن البيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 في مقدار يوم، وكان فراغي منها ليلة الأحد ثامن عشرين شهر رجب الفرد الحرام سنة ثمان وسبعين وثمانمائة في مسجد "دلر رجمه العبد1" بالقاهرة والحمد الله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين. وفرغ من كتابتها الفقير إلى رحمة ربه، سليمان بن عبد الرحيم في شهر ربيع الآخر من شهور سنة سبع وأربعين وتسعمائة للهجرة النبوية. [زاد الناسخ، أو غيره بعد هذا] : وممن يقول بكفر ابن عربي غير مصنف هذه الرسالة أيضا من العلماء الشيخ إبراهيم بن داود الآمدي2 والشيخ أبو بكر بن قاسم الكناني3 والشيخ الفاضل سليمان بن يوسف الياسوفي4 الدمشقي، والإمام الجليل علي بن عبد الله الأردبيلي5، والعلامة محمد بن خليل عز الدين الحاضري الحلبي الحنفي الفاضل محمد بن علي الدكالي6 ثم المصري، والشيخ الصالح موسى بن محمد الأنصاري 7 الشافعي قاضي حلب، وكلهم ذكر الشيخ برهان الدين إبراهيم البقاعي عن شيخه شهاب الدين أحمد بن حجر في تراجمهم ما فيه الكفاية من فضلهم وحذقهم، وعلمهم وزهدهم وورعهم، وإنما أردت ذكر أسمائهم، ليعلم أن من قال بكفر   1 كذا بالأصل. 2 أسلم على يد ابن تيمية، وكان دينا خيرا فاضلا. توفي سنة 797هـ. 3 ولد سنة 666هـ قال عنه الذهبي: دين حسن المحاضرة. 4 ولد سنة 739هـ تقريبا، كان شافعيا، ثم حبب إليه الحديث، فأقبل عليه بكليته، وسلك طريق الاجتهاد. توفي سنة 789هـ معتقلا بقلعة دمشق. 5 ولد سنة 667 قال عنه الذهبي: حصل جملة من كتب الحديث، وشغل في فنون وهو عالم كبير حسن الصيانة. مات بالقاهرة سنة 746هـ. 6 هو أبو أمامة ابن النقاش. وقد سبقت ترجمته. 7 ولد سنة 748هـ, ولي قضاء حلب عن الظاهر برقوق. وتوفي سنة 803هـ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 هذا الضال جماعة من العلماء غير واحد ليحذر من مذهبه من لا يعرفه تحقيقا، ويعلم أن جماعة من العلماء لا يتفقون على ضلالة، وهؤلاء من المتأخرين دون من لم يذكرهم من المتقدمين، كالشيخ عز الدين بن عبد السلام، وصاحب المواقف وغيرهما، وكذلك الشيخ الجليل أفضل المتأخرين علامة زمانه الشيخ علاء الدين البخاري، وقد عمل في الرد على ابن عربي غبي وبيان كفره رسالة شافعية مسماة: "بفاضحة الملحدين، وناصحة الموحدين"". ومن أراد البحث والرد على هذه الطائفة، فليطالعها، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين". فرغت من نسخها وتحقيقها والتعليق عليها يوم الخميس 4 من صفر سنة 1372هـ الموافق 23 من أكتوبر سنة 1952م بمدينة القاهرة والحمد لله أولا وآخرا. وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله محمد خاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين. عبد الرحمن الوكيل عضو جماعة أنصار السنة المحمدية وكان الفراغ من الطبع والتصحيح بمطبعة السنة المحمدية يوم الخميس 18 من رجب سنة 1372هـ الموافق 2 من إبريل سنة 1953م. وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله المصطفى، ورسوله المجتبى: محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 الفهارس : فهارس تنبيه الغبي 3 مقدمة الكتاب 17 البقاعي في سطور 18 خطبة الكتاب 19 عقيدة ابن عربي وكيده للإسلام 19 منهاج الصوفية في الكيد بدعوتهم. 20 مثالهم في زندقتهم 21 احتجاج الصوفية بقصة الخضر. 22 القول في صرف الكلام عن ظاهره 23 حكم من ينطق بكلمة ردة 24 بيان ما هو من المقالات كفر 33 الباطنية 35 من هو الزنديق؟ 37 إفك وبهتان ابن عربي على الرسول 37 دفع هذا الافتراء 38 إيمان ابن عربي بأن الله إنسان كبير 39 آدم عند الصوفية 40 زعمه أن الحق مفتقر إلى الخلق 41 التنزيه والتشبيه 42 بم يعرف الله عند الصوفية 46 تكفير الصوفية لنوح 49 الدعوة إلى الله مكر عند الصوفية 52 تكفير العراقي لابن عربي 53 كل شيء عند الصوفية رب وإله 54 الرأي في ابن الفارض وتائيته 58 تمجيد الصوفية لعبادة الأصنام 62 الحق عين الخلق عند الصوفية 66 الوحدة المطلقة دين ابن عربي 66 لا يعتذر عن الصوفية بالتأويل 67 خطر صرف الكلام عن ظاهره 68 صلة الخلق بالحق عند الصوفية 70 الطبيعة هي الله عند 71 دين ابن الفارض 74 العبد عين الرب عند الصوفية 75 النار عين الجنة عندهم 76 مثل من تفسير ابن عربي للقرآن 78 رد علاء الدين البخاري 79 رأي العضد والجرجاني 81 رأي السعد التفتازاني 83 زعم أن الحق يتلبس بصورة الخلق 86 أمر ابن الفارض باتباع شريعته 88 تكذيب صريح للقرآن 89 إفك على الله 92 تمجيد الصوفية للمجرمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 93 زعمهم أن هوية الحق عين أعضاء العبد وقواه 94 تفسيرهم لما عذب الله به قوم هود 95 زعم ابن عربي أنه اجتمع بالأنبياء 96 ظن الصوفية بالله سبحانه 98 الكون هو رب عند الصوفية 99 لِم يقول الصوفية بوحدة الأديان؟ 100 الوحدة عند ابن الفارض 103 الكثرة عين الوحدة 104 فعل الرب عين فعل العبد عند الصوفية 105 ما الخلق؟ 106 زعم ابن عربي: أن التفاضل لا يستلزم التغاير 108 الضال مهتد، والكافر مؤمن عنده 109 لن يعذب كافر عنده أيضا 111 الحق عنده سار في عناصر الطبيعة 111 رد العراقي على وحدة الأديان 112 الشرائع أوهام عند الصوفية 112 ليس لله وجود عندهم 113 الداعي عين المجيب عندهم 116 الحق عين كل معلوم عندهم 120 تمجيد الصوفية لعبادة العجل 121 بعض ما كفر به العراقي ابن عربي 122 آيات تشهد بكفر ابن عربي 123 شرك الصوفية أخبث الشرك 124 تعليلهم لإنكار موسى على السامري 125 الهوى رب عند الصوفية 126 وحدة الأديان عند ابن الفارض 127 الإله الصوفي مجلى صور العالم 127 حكم ابن عربي بإيمان فرعون ونجاته 129 رد هذه القرية 130 سؤال فرعون وجواب موسى 132 فرعون عند الصوفية رب موسى وسيده 134 حكم من ينسب ربوبيته إلى فرعون 134 تحريم التأويل 135 رأي ولد العراقي في الفصوص والتائية 137 رأي السكوتي 140 أوهام الصوفية، في الحكم بإيمان فرعون 141 افتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم 142 التثليث عند الصوفية 143 رب الصوفية امرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 146 الأنوثة صفة الإله الصوفي 147 الإله الصوفي بين التقييد والإطلاق 149 دعاء ومباهلة 150 المكفرون لابن عربي 155 فتوى الجزري 156 رأي أبي حيان 157 رأي التقي السبكي والفارسي والزواوي 158 رأي البكري 159 مسألة الوعيد 161 فتوى البالسي وابن النقاش 165 رأي ابن هشام وابن خلدون 168 رأي الشمس العيزري 169 رأي ابن الخطيب والموصلي 170 رأي البساطي 174 البساطي وشرحه للتائية 176 رأي ابن حجر والبلقيني وغيرهما 177 مقتل الحلاج 178 رأي الذهبي 179 رأي ابن تيمية وغيره من العلماء 182 رأي علاء الدين البخاري 183 تحقيق معنى الكافر والملحد والزنديق والكافر 186 بعض مصطلحات الصوفية 190 أسطورة الكشف 195 رأي الحافظ تقي الدين الفاسي 197 مكر الصوفية 198 آيات ثبات الإيمان في القلب 200 هوان الدين عند الأكثرية 201 من هم الأولياء؟ 203 رأي ابن أيوب في الحلاج وابن عربي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فهارس تحذير العباد : 207 مقدمة 208 آيات سلي الله بها نبيه 209 الرأي في سلف الصوفية 212 منابذة الصوفية للنقل والشرع 213 موقف العلماء من ابن عربي وابن الفارض 214 المكفرون لابن الفارض 216 موقف شيوخ المذاهب من ابن الفارض 217 تواتر نسبة ابن الفارض إلى الكفر 218 الضلال عند الصوفية خير من الهدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 218 رب ابن الفارض أنثى 219 تفضيل الزنديق نفسه على الرسل 219 الخلاعة سنة ابن الفارض 221 ذمه للرسل وللشرائع 223 تفضيله أتباعه على الرسل, وزندقته على شرعة الله 224 الصلة بين التصوف والنصرانية 226 زعمه أن صفات الله عين صفاته 229 زعمه أن الله سبحانه يصلي له 230 رب الصوفية في صور العاشقات 233 ثباته على اعتقاد الوحدة 234 استدلاله على زندقته 236 يدين ابن الفارض بتلبس الله بصورة خلقه 240 رأي القشيري والسهروردي 240 وحدة الأديان عند ابن الفارض 241 شعره في وحدة الأديان 242 معاندته للتوحيد الحق 244 دعوته إلى المجون 245 الباطل إله الصوفية 245 حكم المناضل عن ابن عربي 246 قول ابن الفارض يوجب إراقة دمه 248 زجره لمن يكنيه أو يلقبه 249 زعمه أنه عرج إلى السماء 251 حكم من كفر ابن الفارض 253 حكم المتوقف في تكفير الصوفية 255 الرأي في شعر ابن الفارض 257 تواتر الخبر بتكفير العلماء له 258 نفي كلام حفيده فيما أثبته 259 أصل الولاية الحقة 260 دفاع وادعاء 263 وجوب الكشف عن زندقة الصوفية وبيانها 264 الجاهلية في الصوفية 265 دفع اعتراض واه 268 نصيحة البقاعي ختم بها كتابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276