الكتاب: خلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام المؤلف: فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376هـ) المحقق: - الناشر: - الطبعة: الثانية، 1412 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- خلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام فيصل المبارك الكتاب: خلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام المؤلف: فيصل بن عبد العزيز بن فيصل ابن حمد المبارك الحريملي النجدي (المتوفى: 1376هـ) المحقق: - الناشر: - الطبعة: الثانية، 1412 هـ - 1992 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ترجمة المؤلف: هو القاضي فيصل بن عبد العزيز بن فيصل بن محمد بن مبارك بن عبد الرحمن بن حسن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن راشد بن علي بن سليمان بن حمد آل أبو رباع البشري. مولده: وُلِد في بلدة حريملاء بنجد عام 1313 ثم انتقل إلى الرياض مع بعض أسرته عام 1320، وقُتِل والدُه في وقعة البكيرية عام 1322، وكان عمر فيصل آنذاك تسع سنوات فتكفَّل به وبإخوته عمُّه محمد. مشايخه: حرص منذ صغره على حفظ القرآن الكريم فحفظه وأتقنه وهو في الثامنةَ عشرةَ من عمره على يد الشيخ عبد العزيز الخيال. اهتمَّ بكتب الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب، وحفظ المتون والمنظومات في جميع العلوم الشرعية، وذلك بعد عودته إلى بلدته حريملاء عام 1331. ومن المشايخ الذين تلقَّى العلم عنهم: الشيخ عبد العزيز الخيال، والشيخ ناصر بن محمد بن ناصر، والشيخ محمد بن فيصل بن مبارك، والشيخ عبد الله بن حمد الحجازي، والشيخ عبد الله بن فيصل الدوسري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ عبد الله بن راشد في اليمن، والشيخ عبد الرحمن بن داود بحريملاء، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبد العزيز النمر، والشيخ عيسى بن عكاس قاضي الإحساء، والشيخ عبد العزيز بن بشر، والشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع، وذلك في قطر. كما درس على يد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار النجدية، والشيخ محمد بن حمد آل مبارك، وقاضي المجمعة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وغيرهم من المشايخ. تولى الوعظ والإرشاد بالحجاز وتهامة في عهد الملك عبد العزيز آل سعود، وشارَك في وقعة جراب مع الملك عبد العزيز، وتولى أيضًا القضاء في كلٍّ من: تثليث، وأبها، وبيشة، وتربة، والخرمة، والقنفذة، وضرما، والجوف، توفي بالجوف بعد أن أسس بها مسجدًّا، وكان له نشاط واسع في الدعوة بها، وكانت وفاته عام 1376هـ. تلاميذه: تلقَّى العلم على يد الشيخ كثيرٌ من الطلبة نذكر بعضًا منهم: سعد بن محمد بن فيصل المبارك، وعبد الله بن عبد الوهَّاب، وحمود بن متروك البليهد قاضي دومة الجندل، والشيخ عبد العزيز العقل، وإسماعيل بن بلال الدرعان، وصالح بن مترك البليهد، وعارف مفضي المسعر، وعبد الله بن حمود قاضي طريف، وعمر المريح، وشقيق المرزوق، وعبد الرحمن بن عطا الشايع، وعبد المصلح المريح، وفياض المسعر، وعواد الراشد، وعبد الواحد الحموان، وعثمان عطية، ويوسف الحشاش، وأحمد القايد، وعقيل بن عطا الشايع، وخليف المسلم، وإبراهيم بن خليف، وعيسى العيساوي، وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 مؤلفاته: للشيخ مؤلفات كثيرة وغالبها مختصرات وطبع كثيرٌ من هذه المؤلفات وعليها إقبال شديد من طلبة العلم ومن مؤلفاته: 1 - كتاب في التوحيد، مخطوط ولكنه فُقِد. 2 - خلاصة الكلام شرح الشيخ فيصل آل مبارك على عمدة الأحكام وهو كتابنا هذا، وهو من أنفع الشروح وأصحِّها، وطبع مرتين ولشدة الحاجة إليه نقدِّم هذه الطبعة الجديدة وبها هذه الترجمة الموجَزة لشارحه - رحمه الله تعالى - ونسأل الله - تعالى - أن يعمَّ بها النفع. 3 - له تفسير للقرآن الكريم وهو "توفيق الرحمن في تفسير القرآن"، مطبوع في أربع مجلدات. 4 - أربع المختصرات النافعة مطبوعة وهي: أ - تعليم الأحب أحاديث النووي وابن رجب. ب - الدلائل القاطعة في المواريث النافعة. جـ - مفتاح العربية على متن الأجرومية. د - غذاء القلوب ومفرج الكروب. 5 - بستان الأخيار مختصر نيل الأوطار، مجلدان مطبوع. 6 - تجارة المؤمنين في المرابحة مع رب العالمين، مجلد مطبوع. 7 - المجموعة الجليلة وهي ثلاث مختصرات: أ - مختصر الكلام على بلوغ المرام. ب - محاسن الدين على متن الأربعين. جـ - مقام الرشاد بين التقليد والاجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 8 - كلمات السداد على متن الزاد، وهي اختصار لزاد المستقنع هو مطبوع. 9 - تذكرة القارئ مختصر فتح الباري وهو ثمانية مجلدات. 10 - المرتع المشبع من الروض المربع، أربعة مجلدات. 11 - السبيكة الذهبية على متن الرحبية. 12 - القول في الكرة الجسيمة الموافقة للفطر السليمة، مجلد واحد. هذه بعض مؤلفاته ومختصراته، وهي من أنفس الكتب والمختصرات؛ لذلك كان حرص طلبة العلم على اقتنائها شديدًا لما لها من الفائدة العظيمة وسهولتها، جزى الله مؤلفها خير الجزاء ورحمه الله رحمة واسعة. * * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 "قال الشيخ الحافظ تقيُّ الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الله بن علي بن سرور المقدسيُّ - رحمه الله تعالى -: الحمد لله الملك الجبَّار، الواحد القهَّار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفَّار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المختار، - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه الأخيار. أمَّا بعدُ، فإن بعض إخواني سألني اختصار جملة في أحاديث الأحكام، مما اتَّفق عليه الإمامان: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، ومسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، فأجبته إلى سؤاله رجاء المنفعة به، وأسأل الله أن ينفعنا به ومَن كتبه أو سمعه أو قرأه أو حفظه أو نظر فيه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، مُوجِبًا للفوز لديه في جنات النعيم، فإنه حسبنا ونعم الوكيل". هذا الكتاب من أصحِّ الكتب وأنفعها، ولا بُدَّ لطالب العلم من حفظه؛ فإن أحاديثه صحيحة صريحة جامعة لما تفرَّق في غيره من كتب الحديث، ومؤلفه هو الإمام العالم العامل القدوة الحافظ عبد الغني بن عبد الله بن علي بن سرور المقدسي الدمشقي المولود سنة خمسمائة وإحدى وأربعين، والمتوفى سنة ستمائة، كان كثير العبادة ورعًا متمسِّكًا بالسنة - رحمه الله تعالى. قال الإمام الخطابي في "معالم السنن": ورأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميَّز عن أختها في الحاجة، ولا يستغنى عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، انتهى. * * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 كتاب الطهارة الحديث الأول عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنما الأعمال بالنيات - وفي رواية: بالنية - وإنما لكلِّ امرئ ما نوى؛ فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوَّجها فهجرته إلى ما هاجَر إليه)) . الطهارة في اللغة: التنزُّه عن الأدناس والأقذار، وفي الشرع: رفع ما يمنع الصلاة - من حدث أو نجاسة - بالماء أو التراب عند عدم الماء. قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] . قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات ... )) إلى آخره: هذا حديث عظيم جليل القدر، كثير الفائدة، قال عبد الرحمن بن مهدي - رحمه الله تعالى -: ينبغي لكلِّ مَن صنَّف كتابًا أن يبتدئ فيه بهذا الحديث؛ تنبيهًا للطالب على تصحيح النية. وقال الشافعي - رحمه الله تعالى -: يدخل في سبعين بابًا من العلم. وقال ابن مهدي أيضًا: ينبغي أن يُجعَل هذا الحديث رأس كلِّ باب. وقال البخاري - رحمه الله تعالى -: "باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكلِّ امرئ ما نوى"، فدخل فيه الإيمان والوضوء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام. ولفظة (إنما) للحصر؛ أي: لا يُعتَدُّ بالأعمال بدون النية. قوله: ((إنما لكلِّ امرئ ما نوى)) قال ابن عبد السلام: الجملة الأولى لبيان ما يُعتَبَر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتَّب عليها، والنية هي القصد، ومحلُّها القلب، ولم يُنقَل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ولا التابعين ولا الأئمة الأربعة، قول: نويت أتوضأ، ونويت أصلي، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وقد قال الله - تعالى -: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16] . ووجه إدخال هذا الحديث في كتاب الطهارة الإشارة إلى أنها لا تصحُّ إلا بالنية. قوله: ((فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) ؛ أي: مَن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصدًا فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا. و (الهجرة) : الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان، وفي الحديث الصحيح: ((المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَن هَجَر ما نهى الله عنه)) . قوله: ((مَن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) ، قال الحافظ العسقلاني - رحمه الله تعالى -: مَن نوى بهجرته مفارقةَ دار الكفر وتزوُّج المرأة معًا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى مَن كانت هجرته خالصة. وقال ابن دقيق العيد: نقلوا أن رجلاً هاجَر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأةً تسمى أم قيس، فلهذا خصَّ في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به، قال ابن مسعود: فكنَّا نسمِّيه مهاجر أمِّ قيس، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقبل الله صلاةَ أحدكم إذا أحدث حتى يتوضَّأ)) . (الحَدَث) : هو الخارج من أحد السبيلين. والحديث يدلُّ على بطلان الصلاة بالحدث، وأنها لا تصحُّ إلا من متطهِّر، وعلى أن الوضوء لا يجب لكلِّ صلاة ولكنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 مستحب؛ لما روى الترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن توضَّأ على طُهْرٍ كُتِب له عشر حسنات)) ، والخارج من أحد السبيلين ناقض بالإجماع، فأمَّا غيره من النواقض فمختَلَف فيها، وقد ورد في ذلك أحاديث والعمل بها أحوط، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ويلٌ للأعقاب من النار)) . هذا الحديث دليلٌ على وجوب غسل الرجلين، وتعميم أعضاء الوضوء بالغسل، قال البخاري: "باب غسل الرجلين، ولا يمسح القدمين"، وساق حديث عبد الله بن عمرو قال: "تخلَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - عنَّا في سفرة فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضَّأ ونمسح على أرجلنا فنادَى بأعلى صوته: ((ويلٌ للأعقاب من النار)) مرتين أو ثلاثًا". وفيه دليلٌ على رفع الصوت بالإنكار، وتكرار المسألة لتُفهَم، وتعليم الجاهل. وروى مسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً توضَّأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ارجع فأحسن وضوؤك)) ، فرجع ثم صلَّى. قال الحافظ: وإنما خُصَّت الأعقاب بالذكر لصورة السبب، كما تقدَّم في حديث عبد الله بن عمرو فيلتحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهُل في إسباغها. وفي الحاكم وغيره من حديث عبد الله بن الحارث: ((ويلٌ للأعقاب وبطون الأقدام من النار)) . قال ابن خزيمة: لو كان الماسح مؤدِّيًا للفرض لما تُوُعِّد بالنار. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين"؛ رواه سعيد بن منصور، وبالله التوفيق. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الحديث الرابع عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا توضَّأ أحدكم فليجعل على أنفه ماءً ثم ليَنثُر، ومَن استجمر فليُوتِر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثًا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)) ، وفي لفظٍ لمسلم: ((فليستنشق بمنخريه من الماء)) ، وفي لفظ: ((مَن توضأ فليستنشق)) . الاستنثار: هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، والأمر به دليل على وجوبه0 قوله: ((ومَن استجمر فليوتر)) ؛ أي: ليستجمر بثلاثة أحجار أو خمسة أو أكثر منها إن رأى ذلك، و (الاستجمار) : استعمال الأحجار أو ما يقوم مقامها في الاستطابة. وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: "لقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو عظم"؛ رواه مسلم. وفي الحديث دليلٌ على مشروعية غسل اليدين بعد النوم، قال الحافظ: وفيه الأخذ بالوثيقة، والعمل بالاحتياط في العبادة، والكناية عمَّا يُستَحيَا منه إذا حصل الإفهام بها، واستحباب غسل النجاسة ثلاثًا؛ لأنه أمر بالتثليث عند توهُّمها فعند تيقُّنها أَوْلَى، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه)) ، ولمسلم: ((لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)) . فيه دليل على النهي عن البول في الماء الراكد؛ لأنه ينجسه إن كان قليلاً، ويقذره إن كان كثيرًا، وقوله: ((لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)) ؛ أي: لأنه يقذره، قال الحافظ: النهي عن البول في الماء لئلاَّ ينجسه، وعن الاغتسال فيه لئلاَّ يسلبه الطهورية، وهذا محمول على الماء القليل كما في حديث القلتين، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الحديث السادس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: ((إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا)) ، ولمسلم: ((أولاهن بالتراب)) . وله في حديث عبد الله بن مغفل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعًا، وعفِّروه الثامنة بالتراب)) . هذا الحديث يدلُّ على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا وتتريبه، وفيه دليلٌ على نجاسة الكلب ونجاسة سؤره، وفي رواية لمسلم: ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليُرِقه ثم ليغسله سبع مرات)) . قال النووي - رحمه الله تعالى -: "ولو ولغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 في إناء فيه طعام جامد ألقى ما أصابه وما حوله وانتفع بالباقي على طهارته السابقة". قوله: ((وعفروه الثامنة بالتراب)) : لما كان التراب جنسًا غير الماء جعل اجتماعها في المرة الواحدة معدودًا باثنتين، وفيه جمع المطهِّرَين؛ وهما الماء والتراب. * * * الحديث السابع عن حمران مولى عثمان: "أن عثمان - رضي الله عنه - دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثًا، ثم قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ نحو وضوئي هذا ثم قال: ((مَن توضَّأ نحو وضوئي هذا، ثم صلَّى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه)) . اشتمل هذا الحديث والذي بعده على صفة الوضوء من ابتدائه إلى انتهائه. قال النووي: هذا الحديث أصلٌ عظيم في صفة الوضوء، وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرَّة مرَّة، وعلى أن الثلاث سنة. وفيه دليل على أن غسل الكفين في أوَّل الوضوء سنة باتفاق العلماء. قوله: ((ثم تمضمض واستنشق واستنثر)) : اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في وجوب المضمضة والاستنشاق؛ فمذهب مالك والشافعي أنهما سنتان، وذهب أحمد في المشهور عنه إلى أنهما واجبتان لمداومته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. قوله: "ويديه إلى المرفقين"؛ أي: مع المرفقين، والمرفقان والكعبان تدخل في المغسول كما في حديث جابر: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه". قوله: "ثم مسح برأسه"؛ أي: كله؛ كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 في الحديث الذي بعده: "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه"، وفي حديث عبد الله بن عمرو: "ثم مسح برأسه وأدخل إصبعيه السبابتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه". وفي الحديث التعليم بالفعل؛ لكونه أبلغ وأضبط، والترتيب في الوضوء كما في الآية، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ابدؤوا بما بدأ الله به)) . قوله: ((مَن توضَّأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه)) : فيه الحثُّ على دفع الخواطر المتعلِّقة بأشغال الدنيا، وجهاد النفس في ذلك، فإن الإنسان يحضُره في حال صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها. وفيه الترغيب في الإخلاص، وقد قال الله - تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114 - 115] ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات لما بينهن إذا اجتُنِبت الكبائر)) . * * * الحديث الثامن عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه قال: "شهدت عمرو بن أبي الحسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكفأ على يديه من التَّوْرِ فغسل يديه ثلاثًا، ثم أدخل يده في التَّوْرِ فتمضمض واستنشق واستنثر ثلاثًا بثلاث غرفات، ثم أدخل يده في التَّوْرِ فغسل وجهه ثلاثًا، ثم أدخل يديه فغسلهما مرَّتين إلى المرفقين، ثم أدخل يديه فمسَح بهما رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه". وفي رواية: "بدأ بمُقدَّم رأسه ذهب بهما إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 قفاه، ثم ردَّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه". وفي رواية: "أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تَوْرٍ من صفر". (التور) : شبه الطَّسْتِ. في هذا الحديث جواز الوضوء من الأواني الطاهرة كلها إلا الذهب والفضة؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) . وفيه أن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرَّة وبعضه بمرَّتين وبعضه بثلاث، وفيه أن اغتراف المتطهِّر بيده لا يضرُّ الماء سواء أدخل واحدة أو اثنتين. قوله: "ثم أدخل يديه فمسح بهما رأسه": فيه دليل على أن المتطهِّر يأخذ ماء جديدًا لرأسه، كما روى مسلم عن عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومسح برأسه بماء غير فضل يديه". * * * الحديث التاسع عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره، وفي شأنه كله". قولها: "يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره"، زاد أبو داود: "وسواكه". (التنعُّل) : لبس النعل ونحوه، والترجُّل: مشط الشعر، وفيه البداءة بالميامن في الوضوء والغسل، وقد روى أصحاب السنن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم)) . قولها: "وفي شأنه كله": هذا عام مخصوص؛ فإن دخول الخلاء والخروج من المسجد وخلع النعل ونحوه يبدأ فيه باليسار. قال النووي: "قاعدة الشرع المستمرَّة استحباب البداءة باليمين في كلِّ ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدِّهما استُحِبَّ فيه التياسر"، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وروى أبو داود عن حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه ويجعل شماله لما سوى ذلك. قال الحافظ: السواك من باب التنظيف والتطييب لا من باب إزالة القاذورات، وقد ثبت الابتداء بالشق الأيمن في الحلق، انتهى. قلت: فيستحب السواك باليمين لا باليسار. * * * الحديث العاشر عن نعيم المجمر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجَّلين من آثار الوضوء، فمَن استطاع منكم أن يطيل غرَّته فليفعل)) . وفي لفظ آخر: رأيت أبا هريرة يتوضَّأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أمتي يُدعَون يوم القيامة غرًّا محجَّلين من آثار الوضوء، فمَن استطاع منكم أن يطيل غرَّته وتحجيله فليفعل)) . وفي لفظٍ لمسلم: سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) . قوله: "عن نعيم المجمر" وُصِف بذلك لأنه كان يبخر مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم. قوله: ((غرًّا محجلين)) : الغرَّة في الوجه، والتحجيل في اليدين والرجلين. قال الحافظ: وأصل الغرَّة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استُعمِلت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النوع الكائن في وجوه أمة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم. وقوله: ((محجلين)) : من التحجيل وهو بياض يكون في قوائم الفرس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 والمراد به هنا النور أيضًا. قوله: "رأيت أبا هريرة يتوضَّأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين"، في روايةٍ لمسلم: قال أبو هريرة: "هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأ". تتمَّة: تُشرَع التسمية في الوضوء؛ لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة لِمَن لا وضوء له، ولا وضوء لِمَن لم يذكر اسم الله عليه)) . ويسنُّ تخليل أصابع اليدين والرجلين لما روى الأربعة عن لقيط بن صبرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسبِغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالِغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما)) . وعن عثمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلِّل لحيته في الوضوء؛ رواه الترمذي. وعن أبي رافع - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضَّأ حرَّك خاتمه؛ رواه ابن ماجه. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد يتوضَّأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلا فُتِحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيِّها شاء)) ؛ رواه مسلم، والترمذي وزاد: ((اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين)) . وفي روايةٍ لأحمد وأبي داود: ((مَن توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم رفع بصره إلى السماء وقال: ... )) فذكر الحديث. * * * باب دخول الخلاء والاستطابة الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء قال: ((اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث)) . ((الخُبُث)) : بضم الخاء والباء وهو جمع خبيث، و ((الخبائث)) : جمع خبيثة، استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ((الخلاء)) هنا: موضع قضاء الحاجة، والاستطابة: إزالة الأذى عن المخرَجَين بالماء أو بالأحجار. قوله: "إذا دخل الخلاء"؛ أي: إذا أراد أن يدخل كما في رواية عند البخاري، وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله)) ؛ رواه ابن ماجه. ويُكرَه دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله إلا لحاجة، وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه؛ رواه أهل السنن. قال أحمد: الخاتم إذا كان فيه اسم الله يجعله في باطن كفِّه ويدخل الخلاء. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: ((الحمد لله الذي أذهب عنى الأذى وعافانى)) ؛ رواه ابن ماجه. * * * الحديث الثاني عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرِّقوا أو غربوا)) ، قال أبو أيوب: فقدِمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بُنِيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله - عزَّ وجلَّ. ((الغائط)) : الموضع المطمئن من الأرض كانوا ينتابونه للحاجة، فكنَّوا به عن نفس الحديث كراهيةً لذكره بخاص اسمه، و"المراحيض" جمع مرحاض: وهو المغتَسَل، وهو أيضًا كناية عن موضع التخلِّي. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "رقيت يومًا على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة". حديث أبي أيوب يدلُّ على تحريم استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، وحديث ابن عمر يدلُّ على جواز ذلك في البنيان، وعن مروان الأصفر قال: "رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نُهِى عن هذا؟ قال: بلى، إنما نُهِيَ عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس؛ رواه أبو داود. قوله: ((ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا)) المراد بذلك أهل المدينة ومَن على سمتها، ولا يدخل في ذلك من الأمكنة ما كانت القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب. * * * الحديث الرابع عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلامٌ نحوي معي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء". و"العنزة": الحربة الصغيرة، و"الإداوة": إناء صغير من جلد. والحديث يدلُّ على مشروعية الاستنجاء بالماء، قال أحمد: إن جمع بين الحجارة والماء فهو أحبُّ إليَّ؛ لحديث عائشة وهو ما رواه الترمذي وصححه أنها قالت للنساء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 "مُرْنَ أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء، ثم أثر الغائط والبول، فإني استحييهم، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله". وفي الحديث جواز استخدام الأحرار إذا رضوا، وفيه أن في خدمة العالم شرفًا للمتعلم. * * * الحديث الخامس عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يمسَّن أحدكم ذكَرَه بيمينه وهو يبول، ولا يتمسَّح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفَّس في الإناء)) . الحديث يدلُّ على النهى عن إمساك الذكر باليمين عند البول وعن إزالة الأذى باليمين. قوله: ((ولا يتنفس في الإناء)) ؛ أي: داخله؛ لأن التنفُّس فيه مستقذَر وربما أفسده على غيره، وأمَّا إذا أبان الإناء وتنفَّس خارجه فهي السنة. * * * الحديث السادس عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: مَرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: ((إنهما ليُعَذَّبان وما يعذبان في كبير؛ أمَّا أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأمَّا الآخر فكان يمشي بالنميمة)) ، فأخذ جريدة رطبة فشقَّها نصفين فغرز في كلِّ قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله، لِمَ فعلت هذا؟ قال: ((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 قوله: ((وما يُعَذَّبان في كبير)) ؛ أي: الاحتراز منه سهل، وقيل: ليس بكبير في اعتقادهما وهو عند الله كبير، كما قال - تعالى -: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] ، وفي روايةٍ: ((وما يُعذَّبان في كبير ولكنه كبير)) . قوله: ((أمَّا أحدهما فكان لا يستتر من البول)) ؛ أي: من بوله، قال البخاري: "وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاحب القبر: ((كان لا يستتر من بوله)) ، ولم يذكر سوى بول الناس"، انتهى. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه)) ؛ رواه الدارقطني، وقد استدلَّ بعض العلماء بقوله: ((من البول)) على نجاسة الأبوال كلها من الآدميين والبهائم مأكولة اللحم وغيرها، والحديث خاصٌّ ببول الآدميين؛ فأمَّا أبوال ما يُؤكَل لحمه فطاهرة؛ والدليل على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر العرنيين أن يلحقوا بإبل الصدقة ويشربوا من أبوالها وألبانها، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلُّوا في مرابض الغنم)) . وفي الحديث إثبات عذاب القبر ووجوب إزالة النجاسة مطلقًا والتحذير من ملابستها، وفيه أن النميمة من الكبائر، وهي نقل كلام الناس بقصد الإضرار. قوله: "فأخذ جريدة رطبة" أخذ بعض العلماء من هذا الحديث استحباب وضع الجريد الرطب ونحوه على القبور؛ لأنه يسبح ما دام رطبًا فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وأنكره بعضهم، وقال: هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أمر مغيب. تتمَّة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتَّقوا اللاعنين)) ، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلَّى في طريق الناس أو في ظلِّهم)) ؛ رواه مسلم. وعن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يبولن أحدكم في مستحمِّه ثم يتوضَّأ منه؛ فإن عامة الوسواس فيه)) ؛ رواه أحمد وأبو داود. وقال ابن ماجه: سمعت علي بن محمد يقول: إنما هذا في الحفيرة، فأمَّا اليوم فمغتسلات الجص والصاروج والقير فإذا بال وأرسل عليه الماء فلا بأس به. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تغوَّط الرجلان فليتوارَ كلُّ واحد منهما عن صاحبه ولا يتحدَّثا؛ فإن الله يمقت على ذلك)) ؛ رواه أحمد. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 باب السواك الحديث الأول عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)) . ((السواك)) : يُطلَق على الفعل، وعلى العود الذي يُتسَوَّك به، وهو مسنون في كلِّ وقت، ويتأكَّد عند الصلاة والوضوء وقراءة القرآن، وتغير الفم والاستيقاظ من النوم، وفي السواك فوائد دينية ودنيوية. وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السواك مَطْهَرة للفم مَرْضَاة للرب)) ؛ رواه أحمد والنسائي. وذكر بعض العلماء أن السواك يُورِث السعة والغنى، ويطيب النكهة ويشد اللثة، ويسكن الصداع ويذهب وجع الضرس. وعن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا أحصي يتسوَّك وهو صائم"؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال الشافعي: لا بأس بالسواك للصائم أول النهار وآخره0 قوله: ((لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)) ؛ أي: لأوجبته عليهم، وفي بعض النسخ: ((مع كل وضوء عند كل صلاة)) ، وللنسائي: ((لولا أن أشقَّ على أمتي لفرضت عليهم السواك مع كل وضوء)) . وعند أحمد: ((لأمرتهم بالسواك عند كلِّ صلاة كما يتوضؤون)) ، وله أيضًا: ((لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك)) . * * * الحديث الثاني عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يَشُوصُ فاه بالسواك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قال المؤلف: معناه: يغسل أو يدلك، يُقَال: شَاصَه يَشُوصُه ومَاصَه يَمُوصُه إذا غسله. في هذا الحديث استحباب السواك عند القيام من النوم؛ لأنه مقتضٍ لتغيُّر الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، والسواك آلة تنظيفه. * * * الحديث الثالث عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا مُسنِدتُه إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستنُّ به، فأَبَدَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره، فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيَّبته، ثم رفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستنَّ به، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنَّ استنانًا أحسن منه، فما عدا أن فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يده أو أصبعه ثم قال: ((في الرفيق الأعلى)) ثلاثًا ثم قضَى"، وكانت تقول: "مات بين حاقنتي وذاقنتي". وفي لفظ: "فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحبُّ السواك فقلت: آخُذه؟ فأشار برأسه أن نعم"؛ هذا لفظ البخاري، ولمسلم نحوه. "القضم": الأخذ بطرف الأسنان، ونفَضته بالفاء والضاد المعجمة، و"الحاقنة": الوهدة المنخفضة بين الترقوتين، و"الذاقنة": هي الذقن. قولها: "فأَبَدَّه" بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال المهملة؛ أي: مدَّ نظره إليه. وفي الحديث إصلاح السواك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وتهيئته، والاستياك بسواك الغير، والعمل بما يُفهَم من الإشارة. قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((في الرفيق الأعلى)) إشارة إلى قوله - تعالى -: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] . وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أسمع أنه لا يموت نبيٌّ حتى يخيَّر بين الدنيا والآخرة، فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه وأخذته بَحَّة يقول: ((مع الذين أنعم الله عليهم ... )) الآية، فظننت أنه خُيِّر". * * * الحديث الرابع عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يستاك بسواك رطب، قال: وطرف السواك على لسانه وهو يقول: ((أع أع)) ، والسواك في فيه كأنه يتهوَّع". قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: ويُستَفاد منه مشروعية السواك على اللسان طولاً، أمَّا الأسنان فالأحبُّ فيها أن تكون عرضًا. وفيه تأكيد السواك، وأنه لا يختصُّ بالأسنان، وأنه من باب التنظيف والتطييب، لا من باب إزالة القاذورات؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يكتفِ به، وبوَّبوا عليه "استياك الإمام بحضرة رعيته". [تتمة] وعن شريح قال: قلت لعائشة بأي شيء كان يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته؟ قالت بالسواك" رواه مسلم. وعن أنس مرفوعا: "يجزي من السواك الأصابع" رواه الدارقطني والبيهقي. قال الموفق في "المغني": وإن استاك بإصبعه أو خرقة فالصحيح أنه يصيب السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء، ولا يترك القليل من السنة للعجز عن كثيرها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 باب المسح على الخفين الحديث الأول عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأهويت لأنزع خفيه. فقال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما)) . المسح على الخفين جائز عند عامة أهل العلم. قال أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رفعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما وقفوا. وعن الحسن قال: ((حدثني سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين)) . وعن جرير ((أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه. فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه)) قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة؛ متفق عليه. (قوله كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر) هي غزوة تبوك. (قوله: فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) ؛ أي: القدمين فمسح عليهما. وللحميدي في مسنده: ((قلت يا رسول الله: أيمسح أحدنا على خفيه؟ قال: نعم، إذا أدخلهما وهما طاهرتان)) . وفي الحديث اشتراط كمال الطهارة قبل لبس الخفين. الحديث الثاني عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - قال: ((كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فبال وتوضأ ومسح على خفيه)) مختصرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 (قوله: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) وللبيهقي أن ذلك كان بالمدينة، وقد وقع في بعض النسخ: ((كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر)) وهو غلط. قال البخاري "باب البول قائما وقاعدا" وساق الحديث، ولفظه: ((أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم فبال قائما، ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ)) ولمسلم ((ومسح على خفيه)) . قال بعض العلماء: إنما بال - صلى الله عليه وسلم - قائما لأنه لم يجد مكانا يصلح للقعود. قال الحافظ: والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود، والله أعلم. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((ما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما منذ أنزل عليه القرآن)) رواه أبو عوانة في "صحيحه" والحاكم. وفي الحديث دليل على إثبات المسح على الخفين وجواز المسح في الحضر. تتمَّة: وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم؛ يعني: في المسح على الخفين"؛ أخرجه مسلم. وعن صفوان بن عسال - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنَّا سَفْرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم؛ أخرجه النسائي والترمذي واللفظ له. وعن علي - رضي الله عنه - قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أَوْلَى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفَّيه"؛ أخرجه أبو داود. وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ ومسح بناصيته وعلى العمامة والخفين؛ أخرجه مسلم. قال في "المغنى": وإذا كان بعض الرأس مكشوفًا مما جرَت العادة بكشفه استحبَّ أن يمسح عليه مع العمامة، نصَّ عليه أحمد. وقال أيضًا: وإن تطهَّرت المستحاضة ومَن به سلَس البول وشبههما ولبسوا خفافًا فلهم المسح، نصَّ عليه لأن طهارتهم كاملة في حقهم، انتهى. وقال الشافعي: ولا يجوز مسح الجوربين إلا أن يكونا منعلين يمكن متابعة المشي فيهما، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 باب في المذي وغيره الحديث الأول عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "كنت رجلاً مذَّاء، فاستحييت أن أسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته مِنِّي، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: ((يغسل ذكره ويتوضَّأ)) ، وللبخاري: ((اغسل ذكرك وتوضأ)) ، ولمسلم: ((توضَّأ وانضح فرجك)) . "المذي": ماء رقيق يخرج عند الملاعبة أو تذكُّر الجماع، وهو نجسٌ، ولا يجب الاغتسال منه، بل يكفيه غسل ذكره والوضوء، وفي روايةٍ لأبي داود والنسائي: "كنت رجلاً مذَّاء فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقَّق ظهري، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تفعل)) . وفي الحديث جواز الاستنابة في الاستفتاء، وفيه استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يُستَحيَا منه عرفًا، وحسن المعاشرة مع الأصهار. * * * الحديث الثاني عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني - رضي الله عنه - قال: "شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يُخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا)) . فيه دليلٌ على النهي عن إبطال الصلاة بالشك حتى يتيقَّن الحدَث، قال النووي: هذا الحديث أصلٌ في حكم بقاء الأشياء على أصولها حتى يتيقَّن خلافَ ذلك، ولا يضرُّ الشك الطارئ عليها. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الحديث الثالث عن أم قيس بنت محصن الأسدية أنها أتتْ بابنٍ لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه في حجره، فبالَ على ثوبه فدعا بماء فنضَحَه على ثوبه ولم يغسله. وفي حديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بصبي فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه. ولمسلم: فأتبعه بوله ولم يغسله. فيه دليل على تخفيف نجاسة بول الصبي، وأنه يكتفي في تطهيره بالنضح، وعن أبي السمح - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يغسل من بول الجارية ويرشُّ من بول الغلام)) ؛ رواه أبو داود والنسائي. وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بول الغلام الرضيع يُنضَح، وبول الجارية يُغسَل)) ، قال قتادة: وهذا ما لم يطعما، فإذا طعما غُسِلا جميعًا؛ رواه أحمد والترمذي. وفي الحديث من الفوائد: الندب إلى حسن المعاشرة، والتواضع، والرفق بالصغار، وتحنيك المولود، وحمل الأطفال إلى أهل الفضل، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا قضى بولَه أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذَنُوبٍ من ماء فأُهرِيق عليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 "الذنوب": الدلو فيها ماء. والحديث دليلٌ على أن الأرض تطهر بصب الماء عليها ولا يشترط حفرها. قال الحافظ: وفيه أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرة، ويلتحق بها غير الواقعة؛ لأن البلة الباقية على الأرض غسالة نجاسة، وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادًا، وفيه رأفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحسن خلقه، وفيه تعظيم المساجد وتنزيهها عن الأقذار، وفيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما؛ لأنه لو قطع عليه بوله لأدَّى ذلك إلى ضرر بدنه أو تكثير النجاسة في المسجد، وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع. * * * الحديث الخامس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقصُّ الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط)) . ((الفطرة)) : الجبلة التي خلق الله الناس عليها وجبل طباعهم على فعلها، وهي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، وقوله - تعالى -: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ} [الروم: 30] ؛ أي: دين الله، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ مولود يُولَد على الفطرة فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه)) ؛ أي: لو تُرِك لأدَّاه نظره إلى الدين الحق وهو التوحيد. قوله: ((الفطرة خمس ... )) إلى آخره، الحصر مبالغة لتأكيد أمر الخمس المذكورة، كقوله: ((الدين النصيحة)) ، و ((الحج عرفة)) ، وفي رواية ((خمس من الفطرة)) ، وقد ثبت في أحاديث أُخَر زيادة على الخمس. ((الختان)) واجب على الذكور ومستحب للنساء، وروى: ((الختان سنة في الرجال مَكْرُمَة في النساء)) ؛ أخرجه أحمد والبيهقي. قال في "المدخل": إن السنة إظهار ختان الذكر، وإخفاء ختان الأنثى. و ((الاستحداد)) هو: إزالة شعر العانة بالحديد، ويجوز بغير ذلك كالنتف والنورة. و ((قص الشارب)) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أخذه حتى يبدو حرف الشفة. وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لم يأخذ من شاربه فليس مِنَّا)) ؛ رواه أحمد والنسائي والترمذي، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((جُزُّوا الشوارب وأَرْخُوا اللِّحَى، خالفوا المجوس)) ؛ رواه مسلم. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خالفوا المشركين وفِّرُوا اللِّحَى، وأحفوا الشوارب)) ؛ متفق عليه، وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه. وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً وشاربه طويل فقال: ((ائتوني بمقص وسواك)) ، فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه. ((وتقليم الأظفار)) : قطع ما طال منها على اللحم، وفي ذلك تحسين الهيئة وكمال الطهارة. قال الحافظ: ولم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث. قوله: ((ونتف الآباط)) : إزالة ما نبت عليها من الشعر بالنتف وهو السنة، ويجوز إزالته بغير ذلك. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "وقَّت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصِّ الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة"؛ رواه الخمسة إلا ابن ماجه. * * * باب الغسل من الجنابة الحديث الأول عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب: "فانخنست منه، فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال: ((أين كنت يا أبا هريرة؟)) ، قال: كنت جنبًا، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: ((سبحان الله، إن المسلم لا ينجس)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قوله: "باب الغسل من الجنابة": قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] . قوله: "فانخنست": الانخناس: الانقباض والرجوع، وفي الحديث دليل على طهارة عرق الجنب، وعلى جواز تصرُّفه في حوائجه قبل أن يغتسل، وفيه استحباب الطهارة عند ملابسة الأمور العظيمة، واحترام أهل الفضل وتوقيرهم ومصاحبتهم على أكمل الهيئات، وفيه استحباب استئذان التابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه. * * * الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم يغتسل، ثم يخلل بيديه شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء عليه ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده". وكانت تقول: "كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد نغترف منه جميعًا". اشتمل هذا الحديث والذي بعده على بيان كيفية الغسل من ابتدائه إلى انتهائه. وفي هذا الحديث البداءة بغسل اليدين، وتقديم الوضوء قبل الاغتسال، وتخليل الشعر، وجواز اغتسال الزوجين جميعًا واغترافهما من إناء واحد، وجواز نظر كلٍّ منهما إلى الآخر وهو عريان. وروى أبو داود والنسائي عن رجل صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل الرجل بفضل المرأة أو المرأة بفضل الرجل وليغترفا جميعًا"، وهذا النهي محمول على التنزيه جمعًا بين الأدلة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 لما روى مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة - رضي الله عنها. ولأصحاب السنن: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة فجاء ليغتسل منها فقالت له: إني كنت جنبًا فقال: ((إن الماء لا يجنب)) . * * * الحديث الثالث عن ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: "وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوء الجنابة فأكفأ بيمينه على يساره مرتين أو ثلاثًا ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثًا، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل سائر جسده، ثم تنحَّى فغسل رجليه فأتيته بخرقة فلم يردَّها فجعل ينفض الماء بيديه". في هذا الحديث دليل على تقديم غسل الكفين على غسل الفرج لِمَن يريد الاغتراف، وفيه استحباب مسح اليد بالتراب بعد غسل الأذى وتكرير ذلك، وفيه مشروعية المضمضة والاستنشاق في الغسل، وفيه جواز تأخير غسل الرجلين في وضوء الغسل، وفيه خدمة الزوجات لأزواجهن. وعن يعلى بن أمية - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يغتسل بالبَرَاز، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((إن الله - عزَّ وجلَّ - حييٌّ سِتِّير يحبُّ الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)) ؛ رواه أبو داود والنسائي. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الحديث الرابع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: ((نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد)) . في هذا الحديث دليلٌ على استحباب الوضوء للجنب قبل النوم؛ لأنه يخفف الجنابة، وفيه أن غسل الجنابة ليس على الفور وإنما يتضيَّق عند القيام إلى الصلاة، وفيه استحباب التنظُّف عند النوم، قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: والحكمة فيه أن الملائكة تبعد عن الوسخ والريح الكريهة، بخلاف الشياطين فإنها تقرب من ذلك، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عن أم سلمة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم، إذا هي رأت الماء)) . قولها: "إن الله لا يستحي من الحق": قدَّمت هذا تمهيدًا لعذرها في ذكر ما يُستَحيَا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قال البغوي في قوله - تعالى -: {وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] ؛ أي: لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياء. قولها: "فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت": (الاحتلام) : الجماع يراه النائم في نومه، والحديث يدلُّ على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال وكذلك الرجل لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سُئِل رسول الله عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلامًا، فقال: ((يغتسل)) ، وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل، فقال: ((لا غسل عليه)) ، فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها الغسل؟ قال: ((نعم، إنما النساء شقائق الرجال)) ، قال ابن رسلان: أجمَع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني. * * * الحديث السادس عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه". وفي لفظٍ لمسلم: "لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركًا فيصلي فيه". قولها: "كنت أغسل الجنابة"؛ أي: المني، والحديث يدلُّ على غسل المني إذا كان رطبًا، وفركه إذا كان يابسًا. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب؟ فقال: إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذْخِرَة)) . * * * الحديث السابع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ((إذا جلس بين شُعَبِها الأربع ثم جهَدَها فقد وجب الغسل)) ، وفي لفظٍ لمسلم: ((وإن لم ينزل)) . ((شُعَبها الأربع)) : يداها ورجلاها. قوله: ((جهدها)) ؛ أي: جامَعَها. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جاوَز الختانُ الختانَ وجب الغسل)) ؛ رواه الترمذي. وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: "إن الفُتيَا التي كانوا يقولون: الماء من الماء، رخصة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص بها في أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعد"؛ رواه أحمد وأبو داود. وعن ابن عباس أنه حمل حديث: ((الماء من الماء)) على صورة مخصوصة؛ وهي ما يقع في المنام من رؤية الجماع. * * * الحديث الثامن عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم -: أنه كان هو وأبوه عند جابر بن عبد الله وعنده قوم فسألوه عن الغسل فقال: يكفيك صاعٌ، فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي مَن هو أوفى منك شعرًا أو خير منك، يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أمَّنا في ثوب. وفي لفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفرغ الماء على رأسه ثلاثًا". قال - رضي الله عنه -: الرجل الذي قال ما يكفيني هو: الحسن بن محمد بن أبي طالب - رضي الله عنه - أبوه: محمد بن الحنفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 في هذا الحديث استحباب الغسل بالصاع اقتداءً بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم. وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأ بالمُدِّ ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد"؛ متفق عليه. وفي الحديث ما كان عليه السلف من الاحتجاج بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - والانقياد إلى ذلك، وفيه جواز الردِّ بعنف على مَن يُمارِي بغير علم، وتحذير السامعين من مثل ذلك، وفيه كراهية التنطُّع والإسراف في الماء. قوله: ((ثم أمَّنا في ثوب)) ؛ يعني: صلَّى بنا في إزار بغير رداء، وقد روى البخاري ومسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان الثوب واسعًا فالتحف به)) ؛ يعني: في الصلاة. ولمسلم: ((فخالِف بين طرفيه، وإن كان ضيقًا فاتَّزر به)) . * * * باب التيمم الحديث الأول عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً معتزلاً لم يصلِّ في القوم، فقال: ((يا فلان، ما منعك أن تصلي في القوم؟)) ، فقال: يا رسول الله، أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)) . (التيمم) في اللغة: القصد، وفي الشرع: مسح الوجه واليدين بشيء من الصعيد؛ والأصل فيه قوله - تعالى -: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] . وفي الحديث سؤال العالم عن الفعل المحتمل ليوضح وجه الصواب، وفيه التحريض على الصلاة في الجماعة، وفيه حسن الملاطفة والرفق في الإنكار. قوله: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)) يدلُّ على أن المتيمِّم لا يلزمه القضاء. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الحديث الثاني عن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - قال: "بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرَّغت في العصيد كما تَمَرَّغ الدابة، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: ((إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا)) ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه. قوله: ((إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا)) فيه دليلٌ على أن الواجب في التيمُّم هي الصفة المذكورة، وفيه أن الترتيب غير مشتَرَط في التيمُّم، وفي الحديث أن المجتهد لا لوم عليه إذا بذل وسعه وإن لم يصب الحق، وأنه إذا عمل بالاجتهاد لا تجب عليه الإعادة، وفيه التعليم بالفعل. * * * الحديث الثالث عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أُعطِيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصِرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعِلت لي الأرض مسجًدا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحِلَّت لي المغانم ولم تحلَّ لأحد قبلي، وأُعطِيت الشفاعة، وكان النبي يُبعَث إلى قومه خاصَّة وبُعِثت إلى الناس عامة)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قوله: ((وجُعِلت لي الأرض مسجدًّا وطهورًا)) فيه دليلٌ على أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في هذا الوصف، وعلى أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمَّم للصلاة الأخرى)) ؛ رواه الدارقطني. قال شيخ الإسلام بن تيميَّة: التيمم لوقت كلِّ صلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى كمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، هو أعدل الأقوال. قوله: ((وأُحِلَّت لي المغانم، ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي)) كان مَن قبلنا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته، وقد قال الله - تعالى -: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} [الأنفال: 69] . قوله: ((وأُعطِيت الشفاعة)) ؛ أي: الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف بتعجيل حسابهم، وهو المقام المحمود المذكور في قوله - تعالى -: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] . قال ابن دقيق العيد: والشفاعات خمس: أحدها: هذه وهي مختصَّة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والثانية: الشفاعة في إدخال قومٍ الجنة من دون حساب، والثالثة: قوم قد استوجبوا النار فيشفع في عدم دخولهم، والرابعة: قوم أدخلوا النار فيشفع في خروجهم منها، والخامسة: الشفاعة بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها، انتهى ملخصًا. وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامَّة والصلاة القائمة آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلَّت له شفاعتي يوم القيامة)) ؛ أخرجه البخاري والأربعة، زاد البيهقي: ((إنك لا تخلف الميعاد)) . * * * باب الحيض الحديث الأول عن عائشة - رضي الله عنها - أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قال: ((لا، إن ذلك دم عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلِّي)) . وفي رواية: ((وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فيها فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي)) . ((الحيض)) : دم طبيعة وجبلة يُرخِيه الرحم إذا بلغت المرأة، ثم يعتادها في أوقات معلومة لحكمة تربية الولد، يخرج في الغالب في كلِّ شهر ستة أيام أو سبعة، وقد يزيد على ذلك وينقص. قال الله - تعالى -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] . قولها: "إني أستحاض فلا أطهر" (الاستحاضة) : جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه. قوله: ((إن ذلك دم عِرق)) بكسر العين يسمونه العاذل. قوله: ((ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي)) فيه دليل على أن المستحاضة تبنى على عادتها. قوله: وفي رواية: ((وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فيها، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي)) فيه دليلٌ على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث تتوضَّأ لكلِّ صلاة، وروى أبو داود والنسائي عن عائشة - رضي الله عنها -: أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن دم الحيض دم أسود يُعرَف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضَّئي وصلِّي)) ، انتهى. وإذا كان للمستحاضة عادة وتمييز قدَّمت التمييز فعملتْ به وتركت العادة، وهو ظاهر كلام الخرقي ورواية عن الإمام أحمد، وإن كانت لا تمييز لها ولا عادة فإنها تقعد ستة أيام أو سبعة في كل شهر ثم تغتسل وتصلي؛ لحديث حمنة - رضي الله عنها - قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فقال: ((إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي)) الحديث. والمبتدِئَة تجلس عادة نسائها، قال في "المغني": روى صالح قال: قال أبي: "أوَّل ما يبدأ الدم بالمرأة تقعد ستة أيام أو سبعة وهو أكثر ما تجلسه النساء"، على حديث حمنة. وفي الحديث جواز استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها للرجل فيما يتعلق بأحوال النساء وجواز سماع صوتها للحاجة. * * * الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها -: أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأمرها أن تغتسل، فكانت تغتسل لكل صلاة. قال الحافظ: قوله: "فأمرها أن تغتسل" زاد الإسماعيلي: "وتصلي"، وهذا الأمر بالاغتسال مطلق فلا يدلُّ على التكرار، وقال الليث بن سعد في روايته عند مسلم: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تغتسل لكلِّ صلاة، ولكنه شيء فعلته هي، انتهى. وللمستحاضة أحكامٌ تخالف الحائض: منها جواز وطئها، وكونها لا تترك الصلاة والصيام والطواف، والحائض بضد ذلك. قوله: "فكانت تغتسل لكلِّ صلاة" فيه دليلٌ على استحباب الغسل للمستحاضة عند كل صلاة، والواجب عليها الوضوء كما في رواية للبخاري: ((وتوضيء لكل صلاة)) ، انتهى. فإذا دخل الوقت غسلت المستحاضة فرجها وعصبته وصلت؛ لقوله في حديث أم سلمة: ((ولتستثفر ثم تصلي)) ؛ رواه أبو داود. * * * الحديث الثالث عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت اغتسل أنا ورسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد كلانا جنب، وكان يأمرني فأتَّزر فيباشرني وأنا حائض، وكان يُخرِج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض". فيه جواز مباشرة الحائض فيما فوق الإزار، وفيه دليل على طهارة بدن الحائض وعرقها، وفيه أن الحائض لا تدخل المسجد، وفيه جواز اغتسال الزوجين من إناء واحد، وقد تقدم. * * * الحديث الرابع عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتَّكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن". فيه جواز ملامسة الحائض، وفيه إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن، وقال البخاري "باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض"، وكان أبو وائل يرسل خادمة وهي حائض إلى أبي رزين فتأتيه بالمصحف فتُمسِكه بعلاقته وساق الحديث. * * * الحديث الخامس عن معاذة قالت: "سألت عائشة - رضي الله عنها - فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، فقالت: كان يصيبنا ذلك فنُؤمَر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 قال ابن دقيق العيد: (الحروري) نسبة إلى حروراء، وهو موضع بظاهر الكوفة اجتمع فيه أوائل الخوارج ثم كثر استعماله حتى استُعمِل في كل خارجي، ومنه قول عائشة لمعاذة: أحرورية أنت؟ وإنما قالت ذلك لأن مذهب الخوارج أن الحائض تقضي الصلاة. قال الحافظ: والخوارج فِرَق كثيرة، لكن من أصولهم المتَّفق عليها بينهم الأخذ بما دلَّ عليه القرآن، وردُّ ما زاد عليه من الحديث مطلقًا. قولها: "ولكني أسأل"؛ أي: سؤالاً مجرَّدًا لطلب العلم لا للتعنُّت، وفي الحديث الجواب بالنص لأنه أبلغ وأقوى وأقطع لِمَن يعارض، وبالله التوفيق. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 كتاب الصلاة باب المواقيت الحديث الأول عن أبي عمرو الشيباني - واسمه سعد بن إياس - قال: حدثني صاحب هذه الدار - وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود - قال: "سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله - عزَّ وجلَّ -؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قلت: ثم أي (1) ؟ قال: ((بر الوالدين)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قال: حدثني بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو استزدته لزادني. (الصلاة) : في اللغة الدعاء: قال الله - تعالى -: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] ؛ أي: ادعُ لهم، وهي في الشرع عبارة عن الأفعال المعلومة. قال الله - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] ، وقال - تعالى -: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31] . وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي. وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة، فمَن تركها فقد كفر)) ؛ رواه الخمسة. ومناسبة تعقيب الطهارة   (1) قوله: ((أي)) , قيل: الصواب أنه غير منوَّن, وحكى ابن الجزري عن ابن الخشاب الجزم بتنوينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 بالصلاة لتقدُّم الشرط على المشروط والوسيلة على المقصود. و (المواقيت) : جمع ميقات قال الله - تعالى -: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ؛ أي: مقدرًا وقتها، فلا تُقدَّم عليه ولا تُؤخَّر عنه. قال ابن عباس: أي: مفروضًا. وقال - تعالى -: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] . والدلوك: زوال الشمس، فيدخل فيه وقت الظهر والعصر، ويدخل في غسق الليل وقتُ المغرب والعشاء. وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يَغِب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس)) ؛ رواه مسلم. قوله: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أحب إلى الله - تعالى؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) "؛ أي: في وقتها، فلا تصحُّ الصلاة قبل دخول وقتها، ويحرم تأخيرها حتى يخرج وقتها؛ قال الله - تعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ، قال ابن مسعود: أخَّروها عن وقتها، وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا العصر حتى تغرب الشمس. وعن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] ، و {عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] ، و {عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34] . فقال بن مسعود: على مواقيتها، قالوا: ما كنَّا نرى ذلك إلا على الترك، قال: ذلك الكفر. وفي الحديث تعظيم الوالدين، وأن أعمال البر يفضُل بعضها على بعض، وفيه السؤال عن مسائل شتَّى في وقت واحد، والرفق بالعالم والتوقُّف عن الإكثار عليه خشيةَ إملاله، وفيه أن الإشارة تتنزل منزلة التصريح إذا كانت مبيِّنة. * * * الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لقد كان رسول الله - صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وسلم - يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفِّعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس". قال: "المروط": أكسية معلمة تكون من خزٍّ وتكون من صوف، و"متلفِّعات": ملتحفات، و"الغلس": اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل. فيه استحباب المبادرة بصلاة الصبح في أوَّل الوقت وهو تحقُّق طلوع الفجر كما في حديث أبي موسى: "فأقام الفجر حين انشقَّ الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا"، وأمَّا المبادرة بها من حين طلوع الفجر فلم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يوم مزدلفة. قال الشوكاني: ولا معارضة بين هذا الحديث وبين حديث أبي برزة أنه كان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه؛ لأن هذا إخبار عن رؤية المتلفِّعة على بعد، وذاك إخبار عن رؤية الجليس. وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقال: ((يا معاذ، إذا كان في الشتاء فغلِّس بالفجر، وأطِل القراءة قدر ما يطيق الناس ولا تملهم، وإذا كان الصيف فأسفِر بالفجر، فإن الليل قصير والناس ينامون فأمهلهم حتى يدركوا)) ؛ رواه البغوي في "شرح السنة". قوله: " (والغلس) اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل"؛ أي: الصبح الصادق وهو الفجر الثاني، وأمَّا الفجر الأول فلا تصحُّ فيه، وفي الحديث جواز خروج النساء إلى المساجد إذا لم يخشَ فتنة. * * * الحديث الثالث عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقيَّة، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحيانًا وأحيانًا إذا رآهم اجتمعوا عجَّل وإذا رآهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أبطؤوا أخَّر، والصبح كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها بغلس". (الهاجرة) : هي شدة الحر بعد الزوال. وهذا الحديث يدلُّ على فضيلة أوَّل الوقت، وهو عام مخصوص بالإبراد في شدَّة الحر، وتأخير العشاء إذا لم يشق. قوله: "والعصر والشمس نقية"؛ أي: صافية لم تدخلها صفرة. قوله: "والمغرب إذا وجبت"؛ أي: إذا سقطت؛ يعني: غربت الشمس. وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بلال، اجعل بين أذانك وإقامتك نفَسًا يفرغ الآكِل من طعامه في مهَل، ويقضي المتوضِّئ حاجته في مهَل)) ؛ رواه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند". قال ابن دقيق العيد: وتأخير صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد في أول الوقت؛ لأن التشديد في ترك الجماعة والترغيب في فعلها موجود، للأحاديث الصحيحة، وفضيلة الصلاة في أوَّل الوقت وردت على جهة الترغيب في الفضيلة، وأمَّا جانب التشديد في التأخير عن أوَّل الوقت فلم يرد كما في صلاة الجماعة. * * * الحديث الرابع عن أبي المنهال سيار بن سلامة قال: "دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية، ونسيت ما قال في المغرب، وكان يستحبُّ أن يؤخِّر من العشاء التي تدعونها العَتَمة، وكان يكره النوم قبلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ بالستين إلى المائة". قوله: "والشمس حية"؛ أي: بيضاء نقية، و"رحله": مسكنه. قال ابن دقيق العيد: وإنما قيل لصلاة الظهر الأولى؛ لأنها أول صلاة أقامها جبريل - عليه السلام - للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم. قوله: "وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها" فيه دليلٌ على كراهة الأمرين. وروى الحافظ المقدسي في "الأحكام" من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا: ((لا سمر إلا لثلاثة: مصلٍّ، أو مسافر، أو عروس)) . قال النووي: واتَّفق العلماء على كراهة الحديث بعدها إلاَّ ما كان في خير. * * * الحديث الخامس عن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق: ((ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)) . وفي لفظٍ لمسلم: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر)) ، ثم صلاها بين المغرب والعشاء. وله عن عبد الله بن مسعود قال: "حبس المشركون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة العصر حتى احمرَّت الشمس أو اصفرَّت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارًا)) . في الحديث دلالةٌ صريحةٌ على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. قوله: "ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 صلاها بين المغرب والعشاء"؛ أي: بعد دخول وقت المغرب، كما في حديث جابر: فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. * * * الحديث السادس عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: أعتَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعشاء فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله، رقد النساء والصبيان، فخرج ورأسه يقطر يقول: ((لولا أن أشقَّ على أمتي - أو: على الناس - لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة)) . فيه دليلٌ على استحباب تأخير العشاء إذا لم يشقَّ على الناس. قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على تنبيه الأكابر؛ إمَّا لاحتمال غفلة، أو لاستثارة فائدة. * * * الحديث السابع عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أُقِيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء)) ، وعن ابن عمر نحوه. * * * الحديث الثامن ولمسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)) . فيه دليل على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أوَّل الوقت ولو فاتته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الجماعة، ولا يجوز اتِّخاذ ذلك عادة. وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلُّوا المغرب)) . قوله في حديث عائشة: ((ولا وهو يدافعه الأخبثان)) ؛ يعني: البول والغائط. قال ابن دقيق العيد: ومدافعة الأخبثين إمَّا أن تؤدِّي إلى الإخلال بركن أو شرط أو لا، فإن أدَّى إلى ذلك امتنع دخول الصلاة معه، وإن دخل واختلَّ الركن أو الشرط فسَدت الصلاة بذلك الاختلال، وإن لم يؤدِّ إلى ذلك فالمشهور فيه الكراهة. * * * الحديث التاسع عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "شهد عندي رجال مرضيُّون وأرضاهم عندي عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب". وما في معناه من الحديث العاشر. * * * الحديث العاشر عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس)) . قال المصنف - رحمه الله تعالى -: وفي الباب عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وكعب بن مرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وأبي أمامة الباهلي، وعمرو بن عبسة الأسلمي، وعائشة - رضي الله عنهم - والصنابحي، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله، قال المصنف: إلى آخره من الأصل. قال النووي: أجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في الأوقات المنهيِّ عنها، واتَّفقوا على جواز الفرائض المؤدَّاة فيها، واختلفوا في النوافل التي لها سبب، انتهى. وقال الموفق في "المقنع": ويجوز قضاء الفرائض في أوقات النهي، وتجوز صلاة الجنازة وركعتا الطواف وإعادة الجماعة إذا أُقِيمت وهو في المسجد بعد الفجر والعصر، وهل يجوز في الثلاثة الباقية؟ على روايتين، ولا يجوز التطوُّع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة إلا ما له سبب؛ كتحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف وقضاء السنن الراتبة فإنها على روايتين، انتهى. وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بني عبدمناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلَّى أية ساعة شاء من ليل أو نهار)) ؛ رواه الخمسة. وهذا الحديث يدلُّ على مشروعية ركعتي الطواف في أوقات النهي تبعا للطواف. قال الموفق في "المغني": ولا فرق بين مكة وغيرها في المنع من التطوُّع في أوقات النهي، والله أعلم. * * * الحديث الحادي عشر وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسبُّ كفار قريش، وقال: يا رسول الله، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والله ما صليتها)) ، قال: فقمنا إلى بطحان فتوضَّأ للصلاة وتوضَّأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 في الحديث دليلٌ على جواز قضاء الفوائت في أوقات النهي، وفيه جواز اليمين من غير استحلاف إذا اقتضت مصلحة من زيادة طمأنينة أو نفي توهُّم، وفيه مشروعية ترتيب قضاء الفوائت وصلاتها في الجماعة. * * * باب فضل الصلاة الجماعة ووجوبها الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجة)) . * * * الحديث الثاني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا؛ وذلك أنه إذا توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يُخرِجه إلا الصلاة لم يخطُ خطوةً إلا رُفِعت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لم تزل الملائكة تصلِّي عليه ما دام في مصلاَّه: اللهم صلِّ عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة)) . قوله: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) قال الترمذي: عامة من رواه قالوا: "خمسًا وعشرين"، إلا ابن عمر فإنه قال: "سبعًا وعشرين"؛ انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وقد جمع بينهما بأن ذكر القليل لا ينفي الكثير وفضل الله واسع، وقيل: السبع مختصَّة بالجهرية والخمس بالسرية؛ لأن في الجهرية الإنصات عند قراءة الإمام والتأمين عند تأمينه. وفي حديث أبي هريرة إشارة إلى بعض الأسباب المقتضية للدرجات وهو قوله: ((وذلك أنه إذا توضَّأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطُ خطوة إلا رُفِعت له بها درجة وحُطَّ عنها بها خطيئة)) ، ومنها الاجتماع والتعاون على الطاعة، والألفة بين الجيران، والسلامة من صفة النفاق ومن إساءة الظن به، ومنها صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له، وغير ذلك، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمُر بالصلاة فتُقَام، ثم آمر رجلاً فيصلِّي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حِزَم من حطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) . هذا الحديث يدلُّ على وجوب الصلاة في الجماعة، وفيه تقديم التهديد على العقوبة، وسر ذلك أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفى به عن الأعلى من العقوبة، وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرَّة، وفيه الرخصة للإمام في ترك الجماعة لمثل ذلك. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((لقد رأيتنا وما يتخلَّف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتَى به يُهادِي بين الرجلين حتى يُقَام في الصف)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي، وقال البخاري: "باب وجوب صلاة الجماعة". وقال الحسن: إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة عليه لم يطعها وساق الحديث، ولفظه: أن رسول الله - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمُر بحطب فيحطب، ثم آمُر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمُر رجلاً فيؤمُّ الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين (1) حسنتين لشهد العشاء)) . * * * الحديث الرابع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)) ، قال: فقال بلال بن عبد الله، والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبَّه سبًّا سيئًا ما سمعته سبَّه مثله قطُّ، وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: والله لنمنعهن، وفي لفظ: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) . فيه دليلٌ على جواز خروج النساء إلى المساجد إذا أُمِنت الفتنة بهن أو منهن. ولأبي داود: ((ولا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خيرٌ لهن)) . قال ابن دقيق العيد: وقد صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) ، ويلحق به حسن الملابس، ولبس الحلي الذي يظهر أثره في الزينة، انتهى. وفي الحديث تأديب المعترض على السنن برأيه وعلى العالم بهواه وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيرًا إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران. * * *   (1) العرق: العظم بلحمه, والمرماة: الظلف, اهـ قاموس, اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الحديث الخامس عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد الجمعة وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء"، وفي لفظ: "فأمَّا المغرب والعشاء والفجر والجمعة ففي بيته". وفي لفظ للبخاري أن ابن عمر قال: "حدثتني حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها". قوله: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر"، في رواية "حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات"، فالمراد بقوله: "مع" التبعية لا التجميع، وهذا الحديث يدلُّ على سنيَّة الرواتب العشر وتأكيدها. قوله: "فأمَّا المغرب والعشاء والفجر والجمعة ففي بيته" قال الحافظ: والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يتشاغَل بالناس في النهار غالبًا، وبالليل يكون في بيته غالبًا، انتهى. قال ابن دقيق العيد: وفي تقديم السنن على الفرائض وتأخيرها عنها معنًى لطيف مناسب، أمَّا في التقديم فلأن الإنسان يشتغل بأمور الدنيا وأسبابها فتتكيَّف النفس في ذلك بحال بعيدة عن حضور القلب في العبادة والخشوع فيها الذي هو روحها، فإذا قدمت السنن على الفريضة تأنَّست النفس بالعبادة وتكيَّفت بحالة تقرِّب من الخشوع فيدخل في الفرائض على حالة حسنة لم تكن تحصل له لو لم تقدم السنة، فإن النفس مجبولة على التكييف بما هي فيه لا سيَّما إذا كثر أو طال، وورود الحالة المنافية لما قبلها قد تمحو أثر الحالة السابقة أو تضعفه، وأمَّا السنن المتأخِّرة فلما ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض، فإذا وقع الفرض ناسَب أن يكون بعده ما يجبر خللاً فيه إن وقع. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الحديث السادس عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشدَّ تعاهدًا منه على ركعتي الفجر"، وفي لفظ لمسلم: ((ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها)) . فيه دليل على تأكيد ركعتي الفجر وعظم ثوابهما. تنبيه: إذا صلى الرجل ركعتي الفجر في بيته وأتى المسجد قبل أن تُقَام الصلاة فليركع ركعتين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) . باب الأذان الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة)) . الأذان: لغة الأعلام؛ قال الله - تعالى -: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] ، وشرعًا: الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة في أوقات مخصوصة. قال الله - تعالى -: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58] . قال القرطبي وغيره: الأذان على قِلَّة ألفاظه مشتَمِل على مسائل العقيدة؛ لأنه بدأ بالأكبرية وهي تتضمَّن وجود الله وكماله، ثم ثنَّى بالتوحيد ونفي الشريك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة بالرسالة؛ لأنها لا تُعرَف إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا. ويحصل من الأذان الإعلامُ بدخول الوقت والدعاءُ إلى الجماعة، وإظهارُ شعائر الإسلام، والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولةُ القول وتيسُّره لكل أحد في كل زمان ومكان. قوله: "أمر بلال"؛ أي: أمره النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم. والحديث له قصة، وهي ما رواه البخاري عن ابن عمر: كان المسلمون حين قدِمُوا يجتمعون فيتحيَّنون الصلاة ليس يُنادَى لها، فتكلَّموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أوَلاَ تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بلال، قم فنادِ بالصلاة)) . قوله: "أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة"؛ أي: بألفاظ الأذان شفعًا والإقامة فُرادَى إلا قد قامت الصلاة. قال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن تربيع التكبير الأوَّل في الأذان وتثنيته والترجيع في التشهد وتركه وتثنية الإقامة وإفرادها من الاختلاف المباح، فالجميع جائز، انتهى. * * * الحديث الثاني عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السُّوائي قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قُبَّة له حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوء فمن ناضح ونائل، قال: فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه حُلَّة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه، قال: فتوضَّأ وأذَّن بلال، قال: فجعلت اتبع فاه ها هنا وها هنا يقول يمينًا وشمالاً: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، ثم ركَّزت له عنزة فتقدَّم وصلَّى الظهر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فيه دليلٌ على مشروعية الالتفات عند الحيعلتين، ووضع السترة للمصلي، والاكتفاء بمثل العنزة، وأن السنَّة في السفر قصر الصلاة، قال أحمد: لا يدور المؤذن إلا إن كان على منارة يقصد إسماع أهل الجهتين. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن بلالاً يؤذِّن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم)) . في الحديث دليلٌ على جواز أذان الأعمى إذا كان له مَن يخبره، وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يُقَال له: أصبحت أصبحت. وللبخاري: ((فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر)) . ولمسلم: ((ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا)) ، وفيه جواز اتِّخاذ مؤذنَين في المسجد الواحد، وفيه جواز الأكل مع الشك في طلوع الفجر؛ لأن الأصل بقاء الليل، وجواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان يقصد التعريف ونحوه، وجواز نسبة الرجل إلى أمِّه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه. قال الموفق في "المغني": ويستحبُّ أن لا يؤذِّن قبل الفجر إلا أن يكون معه مؤذِّن آخر يؤذِّن إذا أصبح كفعل بلال وابن أم مكتوم اقتداءً برسول - صلَّى الله عليه وسلَّم. * * * الحديث الرابع عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثلما يقول)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فيه دليلٌ على مشروعية إجابة المؤذِّن بمثل ما يقول إلا في الحيعلتين، فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول بعد فراغه: اللهم ربِّ هذه الدعوة التامَّة والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا. تتمة: وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتَمَة والصبح لأتوهما ولو حبوًا)) . * * * باب استقبال القبلة الحديث الأول عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبِّح على ظهر راحلته حيث كان يومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله. وفي رواية: كان يوتر على بعيره. ولمسلم: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. وللبخاري: إلا الفرائض. استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة، والقبلة هي الكعبة؛ والأصل في ذلك قول الله - تعالى -: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . قوله: "كان يسبح على ظهر راحلته"؛ أي: يصلي عليها. وفيه دليلٌ على جواز صلاة النافلة على الدابة سواء كان إلى جهة القبلة أو غيرها. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع"؛ رواه أبو داود. وتجوز صلاة الفرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 على الراحلة للعذر؛ لحديث يعلي بن مرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسماء من فوقهم والبِلَّة من أسفل منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذَّن وأقام، ثم تقدَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته فصلَّى بهم يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع؛ رواه أحمد والترمذي. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف أصلي في السفينة؟ قال: ((صلِّ فيها قائمًا إلاَّ أن تخاف الغرق)) ؛ رواه الدارقطني. وقال البخاري: "وصلى جابر وأبو سعيد في السفينة قائمًا، وقال الحسن: "قائمًا ما لم تشق على أصحابك تدور معها وإلا فقاعدًا. * * * الحديث الثاني عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزِل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة". فيه دليلٌ على صحة صلاة مَن صلَّى إلى غير القبلة جاهلاً أو ساهيًا أو مجتهدًا، وفيه أن العمل الكثير لمصلحة الصلاة لا يبطلها، وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وفيه جواز تعليم مَن ليس في الصلاة لِمَن هو فيها، وأن استماع المصلي لكلام مَن ليس في الصلاة لا يفسد صلاته. * * * الحديث الثالث عن أنس بن سيرين قال: "استقبلنا أنسًا حين قدم من الشام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فلقيناه بعين التمر، فرأيته يصلي على حمار ووجه من ذا الجانب - يعني: عن يسار القبلة - فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة؟ فقال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ما فعلته". فيه دليلٌ على جواز الصلاة على الحمار. قال ابن دقيق العيد: يُؤخَذ من هذا الحديث طهارة عرق الحمار؛ لأن ملابسته مع التحرُّز منه متعذِّرة، لا سيَّما إذا طال الزمان في ركوبه واحتمل العرق. قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد أن مَن صلَّى على موضع فيه نجاسة لا يباشرها بشيء منه أن صلاته صحيحة؛ لأن الدابة لا تخلو من نجاسة ولو على منفذها، وفيه الرجوع إلى أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كالرجوع إلى أقواله من غير عرضة للاعتراض عليه، وفيه تلقِّي المسافر، وسؤال التلميذ شيخَه عن مستند فعله، والجواب بالدليل، وفيه التلطُّف في السؤال والعمل بالإشارة؛ لقوله: "من ذا الجانب"، انتهى. تتمَّة: وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) . وعن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - قال: "كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة فأشكلت علينا القبلة فصلَّينا فلمَّا طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] "؛ رواهما الترمذي. * * * باب الصفوف الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سوُّوا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فيه دليلٌ على وجوب تسوية الصفوف. وفي رواية البخاري: ((فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة)) . وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: "خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ألا تصفُّون كما تصفُّ الملائكة عند ربها)) ، فقلنا: يا رسول الله، كيف تصفُّ الملائكة عند ربها؟ قال: يتمُّون الصف الأول ويتراصون في الصف)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. * * * الحديث الثاني عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم)) . ولمسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوِّي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أن قد عقلنا عنه، ثم خرج يومًا فقام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلاً باديًا صدره فقال: ((عباد الله، لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) . قال في "القاموس": "القدح": السهم قبل أن يُرَاش وينصل، جمعه قداح. قال ابن دقيق العيد: القداح خشب السهام حين تُبرَى وتُنحَت وتُهيَّأ للرمي وهي مما يطلب فيها التحرير وإلا كان السهم طائشًا، انتهى. وفي الحديث دليلٌ على وجوب تسوية الصفوف وعلى جواز كلام الإمام فيما بين الإقامة والصلاة لما يعرض من حاجة، وفيه مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الحديث الثالث عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن جدته مليكة دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته له، فأكل منه ثم قال: ((قوموا فلأصلي لكم)) ، قال أنس: فقمت إلى حصيرٍ لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِس فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى ركعتين ثم انصرف. ولمسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى به وبأمه فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا. (اليتيم) : هو ضميرة جد حسن بن عبد الله بن ضميرة. فيه دليلٌ على أن المرأة وحدها تكون صفًّا، وفيه إجابة الدعوة ولو لم تكن عرسًا ولو كان الداعي امرأة إذا أمنت الفتنة، وفيه جواز صلاة النافلة جماعة، وفيه تنظيف مكان المصلي، وقيام الصبي مع الرجل صفًّا، وتأخير النساء عن صفوف الرجال، وفيه أن المرأة لا تصفُّ مع الرجال، فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور. * * * الحديث الرابع عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "بتُّ عند خالتي ميمونة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فيه دليلٌ على أن موقف المأموم الواحد يكون عن يمين الإمام، وفيه دليل على جواز الائتمام بمن لم ينوِ الإمامة، وأن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها. * * * باب الإمامة الحديث الأول عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أمَا يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوِّل الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار)) . قوله: ((أمَا)) استفهام توبيخ، وفيه وعيد شديد لِمَن سابق الإمام، وفيه وجوب متابعة الإمام، وفي الحديث كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتَّب عليها من الثواب والعقاب. * * * الحديث الثاني عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما جُعِل الإمام ليُؤتَمَّ به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون)) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الحديث الثالث عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالسًا وصلى وراءه قوم قيامًا فأشار إليهم أن اجلسوا؟ فلمَّا انصرف قال: ((إنما جُعِل الإمام ليُؤتَمَّ به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين)) . قوله: ((إنما جُعِل الإمام ليؤتَمَّ به)) ؛ أي: ليقتدي به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدَّم عليه في موقفه. قوله: ((وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد)) ، فيه دليلٌ على أن المأموم لا يقول: سمع الله لِمَن حمده، بل يقول: ربنا ولك الحمد. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: ((اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء المجد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) . وعن رفاعة ابن رافع الزرقي - رضي الله عنه - قال: كنَّا يومًا نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا رفع رأسه من الركعة قال: ((سمع الله لِمَن حمده)) ، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه)) ، فلمَّا انصرف قال: ((مَن المتكلم؟)) ، قال: أنا، قال: ((رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)) . قوله: ((وإذا صلى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون)) ، قال البخاري في "صحيحه": قال الحميدي: قوله: ((إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا)) هو في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسًا والناس خلفه قيامًا لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخِر فالآخِر من فعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الحديث الرابع عن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري - رضي الله عنه - قال: حدثني البراء وهو غير كذوب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: ((سمع الله لِمَن حمده)) ، لم يحنِ أحدٌ منَّا ظهره حتى يقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدًّا ثم نقع سجودًا بعده. فيه دليلٌ على أن المأموم يتأخَّر حتى يتمكَّن الإمام من الركن الذي ينتقل إليه، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به فإذا كبَّر فكبِّروا، ولا تكبِّروا حتى يكبِّر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون)) ؛ رواه أبو داود. * * * الحديث الخامس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا؛ فإنه مَن وافَق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه)) . فيه دليلٌ على مشروعية التأمين للإمام والمأموم والجهر به في الجهرية. ومعنى آمين: اللهم استجب. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الحديث السادس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطوِّل ما شاء)) . * * * الحديث السابع عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظة أشد مما غضب يومئذ، فقال: ((يا أيها الناس، إن منكم منفِّرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز؛ فإن وراءه الكبير والصغير وذا الحاجة)) . فيه دليلٌ على استحباب التخفيف للإمام حيث يشق التطويل على المأمومين، وفيه الغضب في التعليم. قال ابن القيم: الإيجاز أمر نسبي إضافي راجع إلى السنة لا إلى شهوة الإمام ومَن خلفه. وقال شيخنا سعد بن عتيق - رحمه الله تعالى -: ليس في هذا الحديث حجة للنقارين. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث الأول عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبَّر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: ((أقول: اللهم باعد بين وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاي بالماء والثلج والبرد)) . قوله: "هنيهة" وفي رواية: "هنيَّة"؛ أي: شيئًا يسيرًا. قوله: "بأبي أنت وأمي"؛ أي: أفديك بأبي وأمي. قوله: ((بالماء والثلج والبرد)) قال ابن دقيق العيد: عبَّر بذلك عن غاية المحو؛ فإن الثوب الذي يتكرَّر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء. وفي الحديث دليلٌ على مشروعية الاستفتاح بين التكبير والقراءة، وحديث الباب أصحُّ ما ورد في ذلك، وقد ورد فيه أحاديث منها: ((وجهت وجهي ... )) إلى آخره، ومنها: ((سبحانك اللهم وبحمدك ... )) إلى آخره. ونقل عن الشافعي استحباب الجمع بين التوجيه والتسبيح، وإن جمع بين ((سبحانك اللهم وبحمدك)) وبين ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي)) فحسن. وفي الحديث من الفوائد جواز الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن، وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة على تتبُّع أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حركاته وسكناته، وإسراره وإعلانه، حتى حفظ الله بهم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وعن الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يسكت سكتتين: إذا استفتح الصلاة، وإذا فرغ من القراءة كلها. وفي رواية: سكتت إذا كبر، وسكتت إذا فرغ من قراءة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ؛ رواه أبو داود. قال النووي: يسكت قدر قراءة المأمومين الفاتحة، وقال في "الفروع": ويستحبُّ سكوته بعدها قدر قراءة المأموم. وقال في "المغني": يستحب أن يسكت الإمام عُقَيب قراءة الفاتحة سكتةً يستريح فيها، ويقرأ فيها مَن خلفه الفاتحة كي لا ينازعوه فيها. * * * الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوِّبه ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعدًا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفرش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم". قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث سها المصنف في إيراده في هذا الكتاب فإنه مما انفرد به مسلم عن البخاري، وشرط الكتاب تخريج الشيخين للحديث. قوله: "كان يستفتح الصلاة بالتكبير"؛ أي: يقول: الله أكبر، وهي تكبيرة الإحرام. قوله: "والقراءة" بالنصب؛ أي: ويستفتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، بضم الدال على الحكاية0 قوله: "وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه"؛ أي: لم يرفعه ولم يخفضه. قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 "وكان يقول في كل ركعتين التحية"؛ أي: يجلس للتشهد ويقول: ((التحيات لله)) . قوله: "وكان ينهى عن عقبة الشيطان" هي أن يلصق الرجل إليتيه في الأرض وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض كما يقعي الكلب. قوله: "وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع"؛ أي: يبسطهما في سجوده كالكلب. قوله: "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى" هذه الجلسة تكون في التشهد الأول وفي القعود بين السجدتين، وأمَّا التشهد الأخير فيتورَّك فيه لحديث أبي حميد في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإذا جلس في الركعتين جلَس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدَّم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعَد على مقعدته"؛ أخرجه البخاري. قال في "سبل السلام": وللعلماء خلاف في ذلك، والظاهر أنه من الأفعال المخير فيها. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذوَ منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبَّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: ((سمع الله لِمَن حمده ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود)) . فيه دليلٌ على استحباب رفع اليدين في هذه المواضع الثلاثة، ويستحب أيضًا حين يقوم من التشهد الأول لما روى البخاري عن نافع: أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبَّر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم. ويستحب أن يضع يده اليمنى على كوعه؛ لحديث وائل بن حجر: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع يده اليمنى على كفِّه اليسرى والرسغ والساعد؛ رواه أحمد وأبو داود، ويضعهما تحت سرَّته أو فوق صدره. قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أن ذلك صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الحديث الرابع عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أُمِرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين)) . فيه دليلٌ على وجوب السجود على هذه الأعضاء السبعة. قوله: "وأشار بيده إلى أنفه" يدل على دخول الأنف في السجود مع الجبهة فصارا كالعضو الواحد. وعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري. * * * الحديث الخامس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول سمع الله لِمَن حمده حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ((ربنا ولك الحمد)) ، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الحديث السادس عن مطرف بن عبد الله قال: صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فكان إذا سجد كبَّر، وإذا رفع رأسه كبَّر، وإذا نهض من الركعتين كبَّر، فلمَّا قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: ذكَّرَني هذا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو قال: صلى بنا صلاة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم. في ذلك دليلٌ على مشروعية التكبير في كل خفض ورفع وقيام وقعود، إلا في الرفع من الركوع فإن الإمام يقول: سمع الله لِمَن حمده، ويقول هو والمأموم: ربنا ولك الحمد ... إلى آخره. قال البغوي في "شرح السنة": اتفقت الأئمة على هذه التكبيرات. وقال النووي: قد كان فيه خلاف في زمن أبي هريرة، وكان بعضهم لا يرى التكبير إلا للإحرام، انتهى. واختلف العلماء هل التكبير واجب أو مندوب؟ فذهب جمهورهم إلى أنه مندوب فيما عدا تكبيرة الإحرام، وقال أحمد في رواية عنه وبعض أهل الظاهر: إنه يجب؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) ؛ رواه البخاري، ولحديث أبي موسى قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا فبين لنا سنَّتنا وعلَّمنا صلاتنا فقال: ((إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمَّكم أحدكم، فإذا كبَّر فكبِّروا وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين يحبكم الله، وإذا كبَّر وركع فكبِّروا واركعوا؛ فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم)) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فتلك بتلك)) ، وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد يسمع الله لكم، فإن الله - تعالى - قال على لسان نبيه: سمع الله لِمَن حمده، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فتلك بتلك)) ؛ الحديث رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الحديث السابع عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: "رمقت الصلاة مع محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجدت قيامه فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء، وفي رواية البخاري: ما خلا القيام والقعود قريبًا من السواء". فيه دليلٌ على تقارب الأركان في الطول من الركوع والرفع منه والسجود والجلوس بين السجدتين. قوله: "ما خلا القيام والقعود"؛ يعني: القيام للقراءة والقعود للتشهد الأخير؛ فإنهما أطول من بقية الأركان. * * * الحديث الثامن عن ثابت البناني عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا". قال ثابت: "فكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه؛ كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي". قوله: "لا آلو"؛ أي: لا أقصر، وفي الحديث دليل على تطويل هذين الركنين كسائر الأركان. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 كان يقول بين السجدتين: ((اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني)) ؛ رواه أبو داود والترمذي واللفظ له. وأمَّا الرفع من الركوع فكان يقول فيه: اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) . * * * الحديث التاسع عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "ما صليت وراء إمام قطُّ أخف صلاة، ولا أتم صلاة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قال ابن دقيق العيد: الحديث يدلُّ على طلب أمرين في الصلاة: التخفيف في حقِّ الإمام مع الإتمام، والثاني عدم التقصير، وذلك هو الوسط العدل، والميل إلى أحد الطرفين خروجٌ عنه، أمَّا التطويل في حقِّ الإمام فإضرارٌ بالمأمومين، وأمَّا التقصير عن الإتمام فبخس في حق العبادة، انتهى. * * * الحديث العاشر عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري قال: "جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة، أصلي كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فقلت لأبي قلابة: كيف كان يصلي؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا، وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أراد بشيخهم أبا بريد عمر بن سلمة الجرمي. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث مما انفرد به البخاري عن مسلم وليس من شرط هذا الكتاب، وقال الحافظ: أخرج صاحب "العمدة" هذا الحديث وليس هو عند مسلم من حديث مالك بن الحويرث. قوله: "إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة"؛ أي: ما أريد الصلاة بكم، ولم يرد نفي القربة إنما أراد تعليمهم؛ ولهذا قال: "أصلي كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي". وفي رواية: كان مالك ابن الحويرث يرينا كيف كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك في غير وقت صلاة. قوله: "وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض" هذه تسمى جلسة الاستراحة، واختلف العلماء في مشروعيتها؛ فذهب الشافعي وطائفة من أهل الحديث إلى مشروعيتها، وهو رواية عن الإمام أحمد، ولم يستحبَّها الأكثر لحديث وائل بن حجر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سجد وقعت ركبتاه على الأرض قبل أن يقع كفاه، فلمَّا سجد وضع جبهته بين كفَّيه وجافى عن إبطيه، وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه؛ رواه أبو داود. * * * الحديث الحادي عشر عن عبد الله بن مالك بن بحينة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطه. فيه دليلٌ على استحباب التجافي للرجال في السجود. * * * الحديث الثاني عشر عن أبي سلمة سعيد بن يزيد قال: "سألت أنس بن مالك: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟ قال: نعم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فيه دليلٌ على جواز الصلاة في النعلين. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه أذًى أو قذرًا فليمسحه وليصلِّ فيهما)) ؛ رواه أبو داود. وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خالِفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)) ؛ رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حافيًا ومنتعلاً"؛ رواه أبو داود. * * * الحديث الثالث عشر عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأبي العاص بن الربيع بن عبدشمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. هذا الحديث دليلٌ على جواز مثل ذلك في الصلاة وأنه لا يبطلها، وفيه جواز دخول الصبيان المساجد، وفيه تواضعه - صلى الله عليه وسلم - وشفَقَته على الأطفال وإكرامه لهم؛ رحمة بهم وجبرًا لوالديهم. * * * الحديث الرابع عشر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 قوله: ((اعتدلوا في السجود)) قال الحافظ: أي: كونوا متوسِّطين بين الافتراش والقبض، انتهى. وينتصب على كفَّيه وركبتيه وصدوره قدميه، ويُجافِي عضُدَيه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويسجد بين كفيه، ويفرق ركبتيه. قوله: ((ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)) ؛ أي: لا يفترش ذراعيه، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخالفة الحيوانات في هيئة الصلاة، قال بعض العلماء: إِذَا نَحْنُ قُمْنَا فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّنَا = نُهِينَا عَنِ الإِتْيَانِ فِيهَا بِسِتَّةِ بُرُوكِ بَعِيرٍ وَالْتِفَاتٍ كَثَعْلَبٍ = وَنَقْرِ غُرَابٍ فِي سُجُودِ الفَرِيضَةِ وَإِقْعَاءِ كَلْبٍ أَوْ كَبَسْطِ ذِرَاعِهِ = وَأَذْنَابِ خَيْلٍ عِنْدَ فِعْلِ التَّحِيَّةِ * * * باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود الحديث الأول عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فدخل رجلٌ فصلَّى ثم جاء فسلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ)) ، فرجع فصلَّى كما صلَّى، ثم جاء فسلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ)) ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلِّمني، فقال: ((إذا قمتَ إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًّا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا وافعل ذلك في صلاتك كلها)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 قوله: "باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود"؛ أي: ووجوبها في الاعتدال من الركوع، وفي الجلوس بين السجدتين. وهذا حديث جليل مشتَمِل على معظم ما يجب في الصلاة وما لا تتمُّ إلا به، وفيه وجوب الطمأنينة في جميع الأركان. قوله: "فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - "، في رواية فقال: ((وعليك السلام، ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ)) . قوله: ((ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا)) ، زاد البخاري: ((ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًّا)) . قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد وجوبُ الإعادة على مَن أخلَّ بشيء من واجبات الصلاة، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن التعليم بغير تعنيف، وإيضاح المسألة، وطلب المتعلِّم من العالم أن يعلمه، وفيه تكرار السلام وردُّه وإن لم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال، وفيه جلوس الإمام في المسجد وجلوس أصحابه معه، وفيه التسليم للعالم والانقياد له، والاعتراف بالتقصير، والتصريح بحكم البشرية في جواز الخطأ، وفيه حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - ولطف معاشرته، وفيه تأخير البيان في المجلس للمصلحة. * * * باب القراءة في الصلاة الحديث الأول عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة لِمَن يقرأ بفاتحة الكتاب)) . فيه دليلٌ على وجوب قراءة الفاتحة على الإمام والمأموم والمنفرد، وروى أبو داود والترمذي عن عبادة قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح فثقلت عليه القراءة، فلمَّا انصرف قال: ((إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم)) ، قال: قلنا: يا رسول الله، إي والله، قال: ((لا تفعلوا إلا بأمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاة لِمَن يقرأ بها)) . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((مَن صلى صلاةً لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)) ، يقولها ثلاثًا، فقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 لأبي هريرة: إنَّا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجَّدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. * * * الحديث الثاني عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليَين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية، وفي الركعتين الأخريين، بأم الكتاب، وكان يطول في الركعة الأولى في صلاة الصبح ويقصر في الثانية". فيه دليلٌ على استحباب تطويل القراءة في الأوليين من الصلاة، وكون الأولى أطول من الثانية، وجواز الجهر في السرية بالآية ونحوها أحيانًا، وجواز النظر إلى الإمام، وفيه الاقتصار على الفاتحة في الأخريين، وفيه التنصيص على قراءة الفاتحة في كل ركعة. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كُنَّا نَحْزِر قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ألم تنزيل السجدة، وفي الأخريين قدر النصف من ذلك، وفي الأوليَين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، والأخريين على النصف من ذلك"؛ رواه مسلم. والجمع بين الحديثين أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصنع هذا تارة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وهذا تارة؛ فيقرأ في الأخريين غير الفاتحة معها أحيانًا، ويقتصر على الفاتحة أحيانًا. وروى مالك من طريق الصنابحي: أنه سمع أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - يقرأ في ثالثة المغرب: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] * * * الحديث الثالث عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور". فيه دليلٌ على استحباب القراءة في المغرب بطوال المفصل أحيانًا. وعن سليمان بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: "ما رأيت رجلاً أشبه صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان، لإمامٍ كان بالمدينة، قال سليمان: فصليت خلفه، فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل"؛ رواه أحمد والنسائي. * * * الحديث الرابع عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فصلَّى العشاء الآخرة فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه - صلَّى الله عليه وسلَّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فيه استحباب تحسين الصوت بالقراءة في الصلاة وغيرها، وتخفيف القراءة في السفر. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما أَذِن الله لشيء ما أَذِن لنبيٍّ حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن يجهر به)) ؛ متفق عليه. * * * الحديث الخامس عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، فلمَّا رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقال: ((سلوه لأيِّ شيء يصنع ذلك؟)) ، فقال: لأنها صفة الرحمن - عزَّ وجلَّ - فأنا أحب أن أقرأها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أخبروه أن الله - تعالى - يحبه)) . فيه دليلٌ على جواز الجمع بين السورتين في ركعة واحدة، وفيه فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وفيه دليلٌ على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه، ولا يعد ذلك هجرانًا لغيره. وقال البخاري: "باب الجمع بين السورتين في ركعةٍ والقراءة بالخواتيم وبسورة قبل سورة وبأول سورة"، ويذكر عن عبد الله بن السائب: "قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنون في الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهرون أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع". وقرأ عمر في الركعة الأولى بمائة وعشرين آية من البقرة، وفي الثانية بسورة من المثاني، وقرأ الأحنف بالكهف في الأولى، وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أنه صلى مع عمر - رضي الله عنه - الصبح بهما، وقرأ ابن مسعود بأربعين آية من الأنفال، وفي الثانية بسورة من المفصل. وقال قتادة فيمَن يقرأ سورة واحدة في ركعتين أو يردِّد سورة واحدة في ركعتين: كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 كتاب الله. وقال عبيد الله عن ثابت عن أنس: "كان رجل من الأنصار يؤمُّهم في مسجد قباء، وكان كلَّما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما تقرأ به افتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كلِّ ركعة، فكلَّمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإمَّا تقرأ بها، وإمَّا أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، وإن أحببتم أن أؤمَّكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمَّهم غيره، فلمَّا أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر، فقال: ((يا فلان، ما منعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟)) ، فقال: إني أحبها، فقال: ((حبك إيَّاها أدخلك الجنة)) . * * * الحديث السادس عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: ((فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى؛ فإنه وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة)) . قال البخاري: "باب مَن شكا إمامه إذا طوَّل"، وقال أبو أسيد: طوَّلت بنا يا بني، وذكر حديث أبي مسعود: قال رجل: يا رسول الله، إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها، ثم ذكر حديث جابر، ولفظه قال: "أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل، فوافَق معاذًا يصلي، فترك ناضحه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل وبلغه أن معاذًا نال منه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه معاذًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معاذ، أفتَّان أنت - أو: أفاتن؟ ثلاث مرار - فلولا صلَّيت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة)) . وفي الحديث دليلٌ على استحباب قراءة أوساط المفصل في العشاء، واقتداء الإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بأضعف المأمومين، ومراعاة حوائجهم، وعدم المشقة عليهم. قال الحافظ: وفيه استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وفيه أن الحاجة من أمور الدنيا عذر في تخفيف الصلاة، وجواز خروج المأموم من الصلاة لعذر، وفيه الاكتفاء في التعزير بالقول، وفيه أن التخلُّف عن الجماعة من صفة المنافقين، انتهى ملخصًا. * * * باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. وفي رواية: "صليت مع أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم". ولمسلم: "صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - وكانوا يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها". قال ابن دقيق العيد: يستدلُّ به مَن يرى عدم الجهر بالبسملة في الصلاة، والعلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب: أحداها تركها سرًّا وجهرًا، وهو مذهب مالك - رحمه الله تعالى - الثاني: قراءتها سرًّا لا جهرًا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد - رحمهما الله - الثالث: الجهر بها في الجهرية، وهو مذهب الشافعي - رحمه الله - والمتيقن من هذا الحديث عدم الجهر، انتهى. وقال ابن القيم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفيها أكثر مما يجهر بها. وقال صاحب "الاختيارات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 لشيخ الإسلام ابن تيميَّة": ويستحبُّ الجهر بالبسلمة للتأليف، كما استحبَّ أحمد ترك القنوت في الوتر تأليفًا للمأموم، ولو كان الإمام مطاعًا يتبعه المأموم فالسنَّة أولى. * * * باب سجود السهو الحديث الأول عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي"، قال ابن سيرين: وسمَّاها أبو هريرة ولكن نسيت أنا، قال: "فصلَّى بنا ركعتين ثم سلَّم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتَّكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبَّك بين أصابعه، وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة؟ وفي القوم أبو بكر وعمر فهابَا أن يكلِّماه، وفي القوم رجلٌ في يديه طول يقال له: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: ((لم أنس ولم تقصر)) ، فقال: ((أكما يقول ذو اليدين؟)) ، قالوا: نعم، فتقدَّم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه ثم سلَّم، قال: فنبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 (العشي) ما بين زوال الشمس إلى غروبها؛ قال الله - تعالى -: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] . قوله: "إحدى صلاتي العشاء"؛ يعني: إمَّا الظهر وإمَّا العصر، وفي رواية لمسلم: "صلاة العصر"، والحديث دليل على مشروعية سجود السهو، وعلى أن كلام الناس لا يبطل الصلاة، وأن السلام سهوًا والخروج من الصلاة على ظن التمام لا يبطلها، وإذا تكلم عامدًا لمصلحة الصلاة لم تبطل، كما فعل ذو اليدين ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، وفيه جواز البناء على الصلاة بعد السلام سهوًا، وفيه دليلٌ على أن سجود السهو يتداخَل ولا يتعدَّد بتعدُّد أسبابه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلَّم ومشى، وفيه دليلٌ على أنه إذا سها الإمام فسجد سجد معه المأمومون وإن لم يسهوا، وفيه التكبير في سجود السهو والسلام بعده. وفي الحديث جواز السهو على النبي في الأفعال، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكِّروني)) ، ولكنه لا يقرُّ عليه بل يقع له بيان ذلك، وفائدته بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثل ذلك لغيره، وفيه أن الاعتقاد عند فَقْدِ اليقين يقوم مقام اليقين لقوله: ((لم أنسَ)) ؛ أي: في اعتقادي لا في نفس الأمر، وفيه جواز تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، وأمَّا الحديث الذي أخرجه أبو داود عن كعب بن عجرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إذا توضَّأ أحدكم ثم خرج عامدًا إلى الصلاة فلا يشبِّكن بين يديه فإنه في صلاة)) ، فمن العلماء مَن ضعَّفه، ومنهم مَن جمع بين الأحاديث بأن النهي مقيَّد بما إذا كان في الصلاة أو قاصدًا لها، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن عبد الله بن بحينة - وكان من أصحاب النبي، - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر فقام في الركعتين الأوليَين ولم يجلس، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم. فيه دليلٌ على أن مَن ترك التشهد الأول ساهيًا جبره بسجود السهو قبل السلام، وقد اختلف أهل العلم في حكم سجود السهو هل هو واجب أو سنة؛ فمنهم مَن قال: مسنون، ومنهم مَن قال: واجب، ومنهم مَن فصَّل في ذلك. واختلفوا أيضًا في محلِّه؛ فمنهم مَن قال: قبل السلام، ومنهم مَن قال: بعده، ومنهم مَن قال: يستعمل كل حديث فيما ورد فيه، وما لم يَرِدْ فيه حديث فمحلُّه قبل السلام، قال الحافظ: ورجَّح البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده، ونقل الماوردي وغيره الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف في الأفضل انتهى. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا شكَّ أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى ثلاثًا أم أربعًا فليطرح الشك وليبنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم فإن كان صلى خمسًا شفعن صلاته، وإن كانتا ترغيمًا للشيطان)) ؛ رواه مسلم. فائدة: قال الموفق في "المغني": وإذا نسي سجود السهو حتى طال الفصل لم تبطل الصلاة، وحكم النافلة حكم الفرض في سجود السهود، والله أعلم. * * * باب المرور بين يدي المصلي الحديث الأول عن أبي جهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمرَّ بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 يدي المصلي)) ، قال أبو النضر: لا أدري قال أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة؟ فيه دليلٌ على تحريم المرور بين يدي المصلي، ولا فرق بين مكة وغيرها، واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة. * * * الحديث الثاني عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان)) . (المقاتلة) : المدافعة باليد لا بالسلاح، ولو صلى إلى غير سترة فليس له الدفع لتقصيره، والحكمة في السترة كفُّ البصر عمَّا وراءها، ومنع من يجتاز دونها. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أقبلت راكبًا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهَزت الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس بمنًى إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك عليَّ أحد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قوله: "إلى غير جدار" قال ابن دقيق العيد: ولا يلزم من عدم الجدار عدم السترة، انتهى. واستدل به على أن سترة الإمام سترة لِمَن خلفه، وفيه تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة. * * * الحديث الرابع عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمَزَني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. فيه دليلٌ على جواز الصلاة إلى النائم إذا لم يشغله، وعلى أن اللمس بغير لذَّة لا ينقض الطهارة، وعلى أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة. وعن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخِرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخِرة الرحل فإنه يقطع صلاته المرأة والحمار والكلب الأسود)) ، قلت: يا أبا ذر، ما بالُ الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني فقال: ((الكلب الأسود شيطان)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري. واختلف العلماء في معنى قطع الصلاة؛ فقال قوم: تبطل الصلاة بالمذكورات في هذا الحديث، وعن أحمد تبطل بمرور الكلب الأسود فقط، وقال جمهور العلماء: لا تبطل بمرور شيء من ذلك، وتأوَّلوا القطع بنقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخطَّ خطا ثم لا يضرُّه مَن مرَّ بين يديه)) ؛ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 باب جامع الحديث الأول عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) . فيه دليل على استحباب صلاة تحية المسجد، قال الحافظ: واتَّفق أئمَّة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب، وقال الطحاوي: الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها. قال الحافظ: هما عمومان تعارضَا: الأمر بالصلاة لكلِّ داخل غير تفصيل، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بُدَّ من تخصيص أحد العمومين؛ فذهب جمعٌ إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمعٌ إلى عكسه وهو قول الحنفية والمالكية انتهى. والحديث له سبب؛ وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجَد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسًا بين أصحابه فجلس معهم، فقال له: ((ما منعك أن تركع؟)) ، قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس، قال: ((فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) ؛ رواه مسلم. ولابن أبي شيبة: ((أعطوا المساجد حقَّها)) ، قيل: له: وما حقها؟ قال: ((ركعتين قبل أن تجلس)) . * * * الحديث الثاني عن زيد بن أرقم قال: "كنَّا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل منَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. (القنوت) : هنا السكوت، وأجمع العلماء على أن الكلام في الصلاة من عالم بالتحريم عامد لغير مصلحتها أو إنقاذ مسلم مُبطِل لها. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا اشتدَّ الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدَّة الحر من فيح جهنم)) . فيه دليلٌ على استحباب تأخير الظهر في شدَّة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج، والأحاديث الدالَّة على فضيلة التعجيل عامة، وهذا خاصٌّ، والخاص مقدَّم على العام، والحكمة في الإبراد دفع المشقَّة لكونها قد تسلب الخشوع. * * * الحديث الرابع عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلاَّ ذلك)) ، وتلا قوله - تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ، ولمسلم: ((مَن نسي صلاة أو نام عنها فكفَّارتها أن يصليها إذا ذكرها)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 قوله: وتلا قوله - تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ، قال مجاهد في قوله - تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ؛ أي: أقم الصلاة لتذكرني بها، وقال مقاتل: إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها. وفي الحديث دليلٌ على وجوب قضاء الصلاة إذا فاتت بالنوم أو بالنسيان فورًا ولا إثم عليه، وأمَّا العامد فإنه يجب عليه قضاؤها والإثم باقٍ عليه بإخراجه الصلاة عن وقتها؛ قال الله - تعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59- 60] . * * * الحديث الخامس عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة. فيه دليلٌ على جواز اقتداء المفترض بالمتنفِّل، وللدارقطني: ((فهي لهم فريضة وله تطوع)) . قال الحافظ: وهو حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، وفيه جواز إعادة الصلاة الواحدة في اليوم الواحد مرتين. * * * الحديث السادس عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنَّا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدَّة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكِّن جبهته من الأرض بسَط ثوبه فسجد عليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فيه دليلٌ على جواز استعمال الثياب وغيره في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض لاتِّقاء حرِّها وبردها، وفيه جواز السجود على الثوب المتَّصل بالمصلي، وفيه جواز العمل القليل في الصلاة ومراعاة الخشوع فيها، وفيه جواز الصلاة في شدَّة الحر وإن كان الإبراد أفضل. * * * الحديث السابع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)) . قوله: ((لا يصلي)) (لا) نافية، وهو خبر بمعنى النهي، واختلف العلماء في وجوب ستر العاتق؛ فذهب الجمهور إلى استحبابه وصحة صلاة من تركه، وحملوا النهي على التنزيه. وعن أحمد: لا تصحُّ صلاة مَن قدر على ذلك فتركه، وعنه: تصحُّ ويأثم؛ واختار ابن المنذر وجوبه إذا كان الثوب واسعًا؛ لحديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان الثوب واسعًا فالتحِف به)) ؛ يعني: في الصلاة، ولمسلم: ((فخالِف بين طرفيه، وإن كان ضيقًا فاتَّزر به)) ؛ متفق عليه. * * * الحديث الثامن عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا - أو: ليعتزل مسجدنا - وليقعد في بيته)) ، وأتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحًا، فسأل، فأُخبِر بما فيها من البقول، فقال: ((قرِّبوها)) إلي بعض أصحابه، فلمَّا رآه كره أكلها، قال: ((كُلْ فإني أناجي من لا تناجي)) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الحديث التاسع عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أكل البصل أو الثوم أو الكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو الإنسان)) . فيه دليل على النهي عن حضور الجماعة لِمَن به رائحة من هذه المذكورات؛ لإيذائه المسلمين والملائكة. قال الخطابي: توهَّم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلُّف عن الجماعة، وإنما هو عقوبة لآكله على فعله؛ إذ حُرِم فضل الجماعة. قال الحافظ: ولا تعارض بين امتناعه - صلى الله عليه وسلم - من أكل الثوم وغيره مطبوخًا وبين إذنه لهم في أَكْلِ ذلك مطبوخًا؛ فقد علَّل ذلك بقوله: ((إني لست كأحدٍ منكم)) . * * * باب التشهد الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفِّي بين كفَّيه كما يعلمني السورة من القرآن: ((التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)) ، وفي لفظ: ((إذا قعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 أحدكم للصلاة فليقل: ((التحيات لله ... )) وذكره، وفيه: ((فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلَّمتم على كلِّ عبدٍ صالح في السماء والأرض)) ، وفيه: ((فليتخير من المسألة ما شاء)) . قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، انتهى. قوله: ((ثم ليتخيَّر من المسألة ما شاء)) فيه دليل على جواز كلِّ سؤال يتعلَّق بالدنيا والآخرة في الصلاة وغيرها. * * * الحديث الثاني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "لقيني كعب بن عجرة فقال: ألاَ أهدي لكم هدية؟ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، عَلِمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد)) . قوله: ((كما صليت على آل إبراهيم)) وقع للبخاري في كتاب أحاديث الأنبياء من "صحيحه" في ترجمة إبراهيم - عليه السلام - بلفظ: ((كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم)) ، وكذا في قوله: ((كما باركت)) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الحديث الثالث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو في صلاته: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)) . وفي لفظٍ لمسلم: ((إذا تشهَّد أحدكم فليستعذ بالله من أربع؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ... )) ثم ذكر نحوه. ((الدجال)) : الكذاب؛ والمراد به هنا الذي يخرج في آخر الزمان يدَّعي الألوهية، وفي الحديث دليل على استحباب الدعاء بعد التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستعاذة بالله من هذه الأربع في كلِّ صلاة؛ لعظم الأمر فيها وشدة البلاء في وقوعها. * * * الحديث الرابع عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - إنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: ((اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)) . فيه دليلٌ على استحباب هذا الدعاء في الصلاة خصوصًا بعد التشهد، وفيه استحباب طلب التعليم من العالم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الحديث الخامس عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً بعد أن نزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، إلا يقول فيها: ((سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي)) ، وفي لفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)) . فيه دليلٌ على استحباب هذا الدعاء في الركوع والسجود. قال ابن دقيق العيد: ولا يعارضه قوله - عليه السلام -: ((فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأمَّا السجود فاجتهدوا في الدعاء)) ، فإنه يُؤخَذ من هذا الحديث الجواز، ومن ذلك الأولوية بتخصيص الركوع بالتعظيم. * * * باب الوتر الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ما ترى في صلاة الليل؟ قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة)) ، فأوترت له ما صلى، وأنه كان يقول: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الوتر من آكَد السنن لا ينبغي تركه. وفي الحديث دليلٌ على استحباب التسليم في كل ركعتين من صلاة الليل، واستحباب الإيتار بركعة واحدة، وإن أوتر بثلاث أو خمس فلا بأس كما ورد ذلك في الأحاديث الأخرى، ويجوز الوصل، والفصل أفضل؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - أجاب به السائل. * * * الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أوَّل الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر". فيه دليلٌ على استحباب تأخير الوتر إلى آخر الليل لِمَن وثق بالاستيقاظ. * * * الحديث الثالث عن عارئشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس، ولا يجلس في شيء إلى في أخرها". فيه دليلٌ على جواز الإيتار بخمسٍ بسلامٍ واحد. وعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر بسبع وبخمس، لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام)) ؛ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 باب الذكر عقب الصلاة الحديث الأول عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عباس: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته". وفي لفظ: "ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالتكبير". فيه دليلٌ على استحباب رفع الصوت بالذكر عقب المكتوبة. * * * الحديث الثاني عن وارد مولى المغيرة بن شعبة قال: "أملى عليَّ المغيرة بن شعبة في كتابٍ إلى معاوية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ، ثم وفدت بعد على معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك". وفي لفظ: "كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، وكان ينهي عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 قوله: ((ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ؛ أي: لا ينفع ذا الحظ حظه، وإنما ينفعه العمل الصالح كما قال - تعالى -: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وقال - تعالى -: {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88- 89] ، وإضاعة المال: بذلُه في غير مصلحة دينية ولا دنيوية. قال ابن دقيق العيد: وأمَّا كثرة السؤال ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك راجعًا إلى الأمور العلمية، وقد كانوا يكرهون تكلُّف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها، وفي حديث معاوية: "نهى الله عن الأغلوطات"؛ وهي شداد المسائل وصعابها، وإنما كان ذلك مكروهًا لما يتضمَّن كثيرًا من التكلُّف في الدين والتنطُّع والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه، مع عدم الأمن من العثار وخطأ الظن، والأصل المنع من الحكم بالظن إلا أن تدعو الضرورة إليه. الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعًا إلى سؤال المال، وقد وردت أحاديث في تعظيم مسألة الناس، انتهى. قال الحافظ: والأَوْلَى حَمْلُه على العموم. قوله: "وكان ينهي عن عقوق الأمهات ووأد البنات"؛ أي: قتلهن. "ومنع وهات"؛ أي: منع ما أمر ببذله، وسؤال ما ليس له، وحكم اختصاص الأم بالذكر إظهار لعِظَم حقها، والعقوق محرَّم في حق الوالدين جميعًا. وفي لفظ: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات ومنعًا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) . قال الحافظ: وفي الحديث استحباب هذا الذكر عقب الصلوات؛ لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد، ونسبة الأفعال إلى الله، والمنع والإعطاء وتمام القدرة، وفيه المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها. * * * الحديث الثالث عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن فقراء المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلَى والنعيم المقيم، قال: ((وما ذاك؟)) ، قالوا: يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون ولا نتصدَّق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلا أعلِّمكم شيئًا تدركون به مَن سبقكم، وتسبقون من بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا مَن صنع مثل ما صنعتم)) ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((تسبِّحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة)) ، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء)) ، قال سمي: فحدَّثت بعض أهلي بهذا الحديث فقال: وهمت، إنما قال: ((تسبح الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وتكبر الله ثلاثًا وثلاثين)) ، فرجعت إلى أبي صالح فذكرت له ذلك فقال: "الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، حتى يبلغ من جميعهن ثلاثًا وثلاثين". "الدثور": جمع دثر هو المال الكثير قوله: ((تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين)) ، قال الحافظ: يحتمل أن يكون المجموع للجميع فإذا وُزِّع كان بكلِّ واحد إحدى عشرة، والأظهر أن المراد أن المجموع لكل فرد فرد؛ أي: تسبحون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون كذلك، وتكبرون كذلك، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قلت: ويؤيِّده ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن سبَّح الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غُفِرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)) . قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم أن العالِم إذا سُئِل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس الفاضل لئلاَّ يقع الخلاف، وفيه التوسعة في الغبظة والفرق بينهما وبين الحسد المذموم، وفيه المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلَغَهم، وفيه أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاق، وفيه أن العمل القاصر قد يساوي المتعدِّي. * * * الحديث الرابع عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلمَّا انصرف قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي)) . ((الخميصة)) : كساء مربع له أعلام، ((والأنبجانية)) : كساء غليظ. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على جواز لباس الثوب ذي العلم، وعلى أن اشتغال الفكر يسيرًا غير قادح في الصلاة، وفيه دليلٌ على طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها، ونفي ما يقتضي شغل الخاطر بغيرها، انتهى. وقال شيخنا سعد بن عتيق - رحمه الله تعالى -: في الحديث دليلٌ على جواز الكلام بعد السلام قبل الذكر والدعاء، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 تتمَّة: وعن ثوبان قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا وقال: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري. وعن أبي أمامة قال: قيل: يا رسول الله، أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) ؛ رواه الترمذي. وعن أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: ((اللهم إني أسألك علمًا نافعًا ورزقًا طيبًا وعملاً متقبَّلاً)) ؛ رواه أحمد وابن ماجه. وأخرج مسلم من حديث البراء أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بعد الصلاة: ((رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)) . قال الشوكاني: ووَرَد عقب المغرب والفجر بخصوصهما عند أحمد والنسائي: ((مَن قال قبل أن ينصرف منهما: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرَّات كُتِب له عشر حسنات، ومُحِي عنه عشر سيئات، وكان يومه في حرز من الشيطان)) . باب الجمع بين الصلاتين في السفر الحديث الأول عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع في السفر بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء". قال الموفق في "المغني": الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما جائز في قول أكثر أهل العلم. وقال المجد في "المنتقى": "باب جمع المقيم لمطر أو غيره، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء"؛ متفق عليه". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 باب قصر الصلاة في السفر الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك". هذا هو لفظ رواية البخاري في الحديث، ولفظ رواية مسلم أكثر وأزيد، فليعلم ذلك. الأصل في قصر الصلاة الكتاب والسنة والإجماع. قال الله - تعالى -: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . وروى مسلم عن يعلى بن أمية: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، وقد آمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته)) . قوله: "ولفظ رواية مسلم أكثر وأزيد"، قال مسلم: وحدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه قال: "صبحت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلَّى بنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحلة، وجلس وجلسنا معه، فحانَت منه التفاتة نحو حيث صلى فرأى ناسًا قيامًا فقال: ما ينصع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبحًا أتممت صلاتي يا ابن أخي، إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقد قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ". قال النووي: وقد اتَّفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة، فكرهها ابن عمر وآخرون، واستحبَّها الشافعي وأصحابه والجمهور. فائدة: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قيل له: ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الإنفراد وأربعًا إذا ائتمَّ بمقيم؟ فقال: تلك السنة؛ رواه أحمد. تنبيه: ليس الجمع بسنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين، بل هو رخصة عارضة، فسنة المسافر قصر الرباعية سواء كان له عذر أو لم يكن، وأمَّا جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة. * * * باب الجمعة الحديث الأول عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رجالاً تمارَوْا في منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أي عود هو؟ فقال سهل: من طرفاء الغابة، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عليه فكبَّر وكبَّر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: ((يا أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتمُّوا بي ولتتعلموا صلاتي)) ، وفي لفظ: "صلى عليها، ثم كبَّر عليها، ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقرى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الأصل في فرض الجمعة الكتاب والسنة والإجماع. قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] . قال الحافظ: يستفاد من الحديث أن مَن فعل شيئًا يخالف العادة أن يبين حكمته لأصحابه، وفيه مشروعية الخطبة على المنبر لكلِّ خطيب خليفة كان أو غيره، وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وجواز العمل اليسير في الصلاة وكذا الكثير إن تفرَّق، وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه، واستحباب الافتتاح بالصلاة في كل جديد، إمَّا شكرًا، وإمَّا تبركًا. * * * الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن جاء منكم الجمعة فليغتسل)) . فيه دليلٌ على استحباب الغسل يوم الجمعة وتأكيد سنيته. * * * الحديث الثالث عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: ((صليت يا فلان؟)) ، قال: لا، قال: ((قم فاركع ركعتين)) ، وفي رواية: ((فصلِّ ركعتين)) . فيه دليلٌ على استحباب صلاة تحية المسجد حالَ الخطبة، وفي الحديث الآخَر: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما)) ؛ رواه مسلم. وفيه أن التحية لا تفوت بالقعود، وأن للخطيب أن يأمر في خطبته وينهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ويبيِّن الأحكام المحتاج إليها. وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله ورسوله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)) ؛ رواه الخمسة. * * * الحديث الرابع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس". فيه دليلٌ على مشروعية الجلوس بين الخطبتين، ولفظ الحديث في البخاري عن عبد الله بن عمر قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين يقعد بينهما". * * * الحديث الخامس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت)) . (اللغو) : ما لا يحسن من الكلام، وفيه دليل على وجوب الإنصات حال الخطبة، فإن احتاج إلى ما لا بُدَّ منه فبالإشارة. * * * الحديث السادس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرَّب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 بدَنَة، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقَرَة، ومَن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرن، ومَن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومَن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) . قوله: ((ثم راح)) ؛ أي: ذهب، وابتداء الساعات بعد ارتفاع الشمس، وفيه من الفوائد الحضُّ على الاغتسال يوم الجمعة وفضله، وفصل التبكير إليها. * * * الحديث السابع عن سلمة بن الأكوع - وكان من أصحاب الشجرة، رضي الله عنه - قال: "كنَّا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به". وفي لفظ: "كنَّا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع فنتتبَّع الفيء". قوله: "نجمع"؛ أي: نصلي الجمعة. قوله: "وليس للحيطان ظل يستظل به" لا ينفي أصل الظل، ولكن ينفي الظل الكثير الذي يستظلُّون به، وفيه دليلٌ على مشروعية التبكير بصلاة الجمعة في أوَّل الوقت بعد الزوال. قال الموفق في "المغني": المستحَبُّ إقامة الجمعة بعد الزوال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، ولأن في ذلك خروجًا من الخلاف، فإن علماء الأمة اتَّفقوا على أن ما بعد الزوال وقت للجمعة، وإنما الخلاف فيما قبله، انتهى. وقال النووي: وقد قال مالك وأبو حنيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والشافعي وجماهير العلماء: لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل وإسحاق فجوَّزاها قبل الزوال، انتهى. وقال البخاري: "وقت الجمعة إذا زالت الشمس)) . * * * الحديث الثامن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: آلم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان". فيه دليلٌ على استحباب قراءة هاتين السورتين في صلاة الفجر يوم الجمعة، وقيل: إن الحكمة في ذلك الإشارة إلى ما فيهما من ذكر خلق آدم وأحوال يوم القيامة؛ لأن ذلك كان وسيقع يوم الجمعة. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم - عليه السلام - وفيه أُدخِل الجنة، وفيه أُخرِج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)) ؛ رواه مسلم. * * * باب صلاة العيدين الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة". الأصل في صلاة العيد: الكتاب والسنة والإجماع. قال الله - تعالى -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، وفي الحديث دليل على مشروعية صلاة العيد قبل الخطبة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الحديث الثاني عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى بعد الصلاة قال: ((مَن صلى صلاتنا ونسَك نسكنا فقد أصاب النسك، ومَن نسَك قبل الصلاة فلا نسك له)) ، فقال أبو بردة بن نِيَار خال البراء بن عازب: يا رسول الله، إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أوَّل ما يُذبَح في بيتي، فذبحت شاتي وتغدَّيت قبل أن آتي الصلاة، قال: ((شاتك شاة لحم)) ، قال: يا رسول الله، فإن عندنا عناقًا وهي أحب إلينا من شاتين، أفتجزي عنِّي؟ قال: ((نعم، ولن تجزي عن أحد بعدك)) . قوله: ((تجزي)) ؛ أي: تقضي، ومنه قوله - تعالى -: {لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] ، وفي الحديث دليلٌ على مشروعية الصلاة يوم العيد قبل الخطبة، وأمَّا ما ذبح قبل الصلاة لا تجزي عن الأضحية، وأن العناق لا تجزي في الأضحية. قال ابن دقيق العيد: وفيه دليلٌ على أن المأمورات إذا وقعتْ على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر فيها بالجهل، وقد فرَّقوا في ذلك بين المأمورات والمنهيَّات فعذَرُوا في المنهيَّات بالنسيان والجهل، كما جاء في حديث معاوية بن الحكم حين تكلم في الصلاة، انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم، أن المرجع في الأحكام إنما هو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن خطابه للواحد يعمُّ جميع المكلَّفين حتى يظهر دليل الخصوصية، وفيه أن الإمام يعلِّم الناس في خطبة العيد أحكام النحر، وفيه جواز الاكتفاء في الأضحية بالشاة الواحدة عن الرجل وعن أهل بيته. قال الشيخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أن العمل وإن وافق نية حسنة لم يصح إلا إذا وقع على وفق الشرع، وفيه جواز أكل اللحم يوم العيد مع ما لهم فيها من الشهوة بالأكل والادِّخار، ومع ذلك ثبت لهم الأجر في الذبح، وفي الحديث أن الجذع من المعز لا يجزي وهو قول الجمهور، وفيه تأكيد أمر الأضحية، وأن المقصود منها طيب اللحم وإيثار الجار على غيره، وأن المفتي إذا ظهرت له من المستفتي أمارة الصدق كان له أن يسهل عليه حتى لو استفتاه اثنان في قضية واحدة جاز أن يفتي كلا منهما بما يناسب حاله، وجواز إخبار المرء عن نفسه بما يستحق به الثناء عليه بقدر الحاجة، انتهى ملخصًا. قوله: "وتغديت قبل أن آتي الصلاة" فيه جواز الأكل قبل صلاة الأضحى. قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": وتختلف الفتوى باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن جندب بن عبد الله البَجَلي - رضي الله عنه - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، ثم خطب وقال: ((مَن ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومَن لم يذبح فليذبح باسم الله)) . قوله: ((فليذبح بسم الله)) ؛ أي: فليذبح قائلاً: بسم الله، وفيه دليل على أن وقت الأضحية بعد صلاة العيد. * * * الحديث الرابع عن جابر - رضي الله عنه - قال: "شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ثم قام متوكئًا على بلال، فأمَر بتقوى الله وحثَّ على الطاعة، ووعَظ الناس وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكَّرهن، فقال: ((تصدَّقن فإنكنَّ أكثر حطب جهنم)) ، فقامت امرأة من سِطَة النساء سفعاء الخدَّين فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: ((لأنكن تكثرن الشِّكَاية، وتكفرن العشير)) ، قال: فجعلن يتصدَّقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن". قوله: "فقامت امرأة من سِطَة النساء"؛ أي: من وسطهن في المجلس. قوله: "سفعاء الخدَّين" (الأسفع) و (السفعاء) : مَن أصاب خدَّه لونٌ يخالف لونه الأصلي من سواد أو خضرة أو غيره، والحديث يدلُّ على عدم مشروعية الأذان والإقامة لصلاة العيد وهو بإجماع العلماء. قال ابن دقيق العيد: وكان تخصيص الفرائض بالأذان تمييزًا لها بذلك عن النوافل، وإظهارًا لشرفها، وهذه المقاصد التي ذكرها الراوي من الأمر بتقوى الله والحث على طاعته، والموعظة والتذكير، هي مقاصد الخطبة، انتهى. قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد أيضًا استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام، وتذكيرهن بما يجب عليهن، وحثهن على الصدقة، وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد، ومحلُّ ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة، وفيه خروج النساء إلى المصلى، واستدلَّ به على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقُّف على إذن زوجها أو على مقدار معيَّن، وفيه أن الصدقة من دوافع العذاب، وفيه بذل النصيحة والإغلاظ بها لِمَن احتِيج في حقِّه إلى ذلك، وفيه جواز طلَب الصدقة للمحتاجين ولو كان الطالب غير محتاج، وفي مبادرة تلك النسوة على الصدقة بما يعزُّ عليهن من حليِّهن مع ضيق الحال في ذلك الوقت دلالة على رفيع مقامهن في الدين وحرصهن على امتثال أمر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي عنهن. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الحديث الخامس عن أم عطية نسيبة الأنصارية - رضي الله عنها - قالت: "أمرنا - تعني: النبي، - صلى الله عليه وسلم - أن نُخرِج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحُيَّض أن يعتزلن مصلى المسلمين" وفي لفظ: "كنَّا نُؤمَر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، وحتى تخرج الحُيَّض، فيكبِّرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطُهرَتَه". "العواتق": جمع عاتق، وهي مَن بلغت الحلم، أو قاربت، أو استحقَّت التزويج، أو هي الكريمة على أهلها، أو التي عتقت عن الامتهان في الخروج للخدمة. "والخدور": جمع خدر، وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه، وبين العاتق والبكر عموم وخصوص وجهي. وفي الحديث مشروعية صلاة العيدين في الصحراء، واستحباب خروج النساء يوم العيد، وحضور الحيَّض واعتزالهن المصلى، والله أعلم. * * * باب صلاة الكسوف الحديث الأول عن عائشة - رضي الله عنها -: أن الشمس خسفت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث مناديًا ينادي: الصلاة جامعة فاجتمعوا، وتقدَّم فكبَّر وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 (الكسوف والخسوف) : شيء واحد، وكلاهما قد وردت به الأخبار، وقال - تعالى -: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 7- 8] ، وفي الحديث مشروعية صلاة الكسوف جماعة ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجدتان. * * * الحديث الثاني عن أبي مسعود عقبة بن عامر الأنصاري البدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوِّف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحدٍ من الناس ولا لحياته، فإذا رأيتم منها شيئًا فصلُّوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)) . فيه دليل على مشروعية الصلاة لكسوف الشمس أو القمر، وعلى مشروعيتها في أيِّ وقت حدث فيه الكسوف، وفيه الأمر بالدعاء والتضرُّع إلى الله - تعالى - قوله: ((وأنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس ولا لحياته)) . قال الحافظ: وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وهو نحو قوله في الحديث الآخر: ((يقولون: مُطِرنا بنوء كذا)) . قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يُوجِب حدوث تغيُّر في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخَّران ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. قوله: ((يخوف الله بهما عباده)) قال الحافظ: فيه ردٌّ على مَن يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم؛ إذ لو كان كما يقولون لم يكن ذلك تخويف ويصير بمنزلة الجزر والمد في البحر. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: ((يخوِّف الله بهما عباده)) وليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 بشيء؛ لأن لله أفعالاً على حسب العادة وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كلِّ سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت فالعلماء بالله لقوَّة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء، إذا وقع شيء غريب حدَث عندهم الخوف لقوَّة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلا أن يشاء الله خرقها. وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقًّا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوِّفًا لعباد الله - تعالى - والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "خُسِفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام فصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الأخرى مثلما فعَل في الركعة الأولى، ثم انصرف وقد تجلَّت الشمس، فخطَب الناس فحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا وصلُّوا وتصدَّقوا)) ، ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما من أحد أَغْيَر من الله - سبحانه - أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)) . وفي لفظ: "فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات". هذا الحديث مشتمِل على صفة صلاة الكسوف، وفيه دليلٌ على مشروعية الخطبة والموعظة بعدها، وفيه الأمر بالصدقة وكثرة الذكر والدعاء والاستغفار. قوله: "ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول"، في رواية: "ثم قال: ((سمع الله لِمَن حمده، ربنا ولك الحمد)) ". قوله: ((ما من أحد أَغْيَر من الله - سبحانه - أن يزني عبده أو تزني أمته)) ، وقيل: غيرة الله - تعالى - ما يغير من حال العاصي بانتقامه منه، ومنه قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . وقال ابن دقيق العيد: أهل الشريعة في مثل هذا على قولين: إمَّا ساكت، وإما مؤوِّل، على أن المراد بالغَيْرَة شدَّة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة التي قلت، والسكوت في هذا المقام ونحوه أسلم من الخوض في ذلك، فتفسيرها إمرارها كما وردت، ولما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرًا في إثارة النفوس وغلَبَة الغضب، ناسَب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة مَن حرَّم الفواحش وحماها. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على غلَبَة مقتضى الخوف، وترجيح الخوف في الموعظة على الإشاعة بالرخص؛ لما في ذلك من التسبُّب إلى تسامح النفوس لما جُبِلت عليه من الإخلاد إلى الشهوات وذلك مرضها الخطر، والطبيب الحاذق يقابل العلة بضدِّها لا بما يزيدها، انتهى. قال الحافظ: وفي حديث عائشة من الفوائد غير ما تقدَّم المبادرة بالصلاة وسائر ما ذكر عند الكسوف، والزجر عن كثرة الضحك والحث على كثرة البكاء، والتحقُّق بما سيصير إليه المرء من الموت والفناء والاعتبار بآيات الله، وفيه الرد على مَن زعم أن للكواكب تأثيرًا في الأرض؛ لانتفاء ذلك عن الشمس والقمر فكيف بما دونهما؟ وبيان ما يُخشَى اعتقاده على غير الصواب، ومن حكمة وقوع الكسوف تبيين أنموذج ما سيقع في القيامة، وصورة عقاب مَن لم يذنب، والتنبيه على سلوك طريق الخوف مع الرجاء لوقوع الكسوف بالكوكب، ثم كشف ذلك عنه ليكون المؤمن من ربه على خوف ورجاء. وفي الكسوف إشارة إلى تقبيح رأي مَن يعبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الشمس أو القمر، وحمل بعضهم الأمر في قوله: {لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] على صلاة الكسوف؛ لأنه الوقت الذي يناسب الإعراض عن عبادتها، لما يظهر فيهما من التغيير والنقص المنزَّه عنه المعبود - جلَّ وعلا وسبحانه وتعالى. * * * الحديث الرابع عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام فزعًا يخشى أن تكون الساعة حتى أتى المسجد فقام فصلى بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيته يفعله في صلاته قطُّ، ثم قال: إن هذه الآيات التي يرسلها الله - تعالى - لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يرسلها يخوِّف بها عباده، فإذا رأيتم منها شيئًا فافزعوا إلى ذكره وإلى دعائه واستغفاره)) . فيه دليلٌ على مشروعية تطويل صلاة الكسوف، وفيه الندب إلى الذكر والدعاء والاستغفار؛ لأنه مما يدفع به البلاء. قوله: "فقام فزعًا يخشى أن تكون الساعة" قدر - صلى الله عليه وسلم - وقوعها لولا ما أعلمه الله - تعالى - بأنها لا تقع قبل الأشراط تعظيمًا منه لأمر الكسوف؛ ليبين لِمَن يقع له من أمته ذلك كيف يخشى ويفزع. قوله: ((فافزعوا إلى ذكره)) ؛ أي: التجئوا وتوجَّهوا، وفيه أن الالتجاء إلى الله عند المخاوف بالدعاء والاستغفار سببٌ لمحو ما فرط من العصيان يرجى به زوال المخاوف، وأن الذنوب سببٌ للبلايا والعقوبة العاجلة والآجلة، نسأل الله - تعالى - رحمته وعفوه وغفرانه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 باب الاستسقاء الحديث الأول عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني - رضي الله عنه - قال: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي فتوجَّه إلى القبلة يدعو وحوَّل رداءه، ثم صلَّى ركعتين جهر فيهما بالقراءة"، وفي لفظ: "أتى المصلى". فيه دليلٌ على مشروعية صلاة الاستسقاء، وهي سنَّة مؤكدة، وفيه دليلٌ على أن سنة الاستسقاء البروز إلى المصلَّى، وفيه استحباب تحويل الرداء في هذه العبادة، واستقبال القبلة عند تحويل الرداء والدعاء. وعن أبي هريرة قال: "خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا يستسقي، فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا)) ؛ رواه أحمد وابن ماجه. قال الحافظ: ويمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالدعاء، ثم صلى ركعتين، ثم خطب، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من بابٍ كان نحو دار القضاء، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) ، قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرْسِ، فلمَّا توسَّطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتًا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب بالناس، فقال: يا رسول الله، هلك الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله يمسكها عنَّا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكَام والظِّرَاب وبطون الأودية ومنابت الشجر)) ، قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس، قال شريك: فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري. قال - رضي الله عنه -: الظراب الجبال الصغار. ((الآكام)) : جمع أكمة، وهي أعلى من الرابية ودون الهضبة، ودار القضاء: دار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سُمِّيت بذلك لأنها بيعت في قضاء دينه. قوله: "سبتًا" المراد به الأسبوع، وهو من تسمية الشيء باسم بعضه كما يقال: جمعة. قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة، وفيه القيام في الخطبة وأنها لا تنقطع بالكلام ولا بالمطر، وفيه قيام الواحد بأمر الجماعة وإنما لم يباشر ذلك بعض أكابر الصحابة؛ لأنهم كانوا يسلكون الأدب بالتسليم وترك الابتداء بالسؤال، ومنه قول أنس: كان يعجبنا أن يجيء الرجل من البادية، فيسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه سؤال الدعاء من أهل الخير ومَن يُرجَى منه القبول وإجابتهم لذلك، وفيه تكرار الدعاء ثلاثًا وإدخال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر ولا تحويل فيه، ولا استقبال والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء، وليس في السياق ما يدلُّ على أنه نواها مع الجمعة، وفيه علَم من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه - عليه الصلاة والسلام - عقبه أو معه ابتداء في الاستسقاء وانتهاء في الاستصحاء، وفيه الأدب في الدعاء؛ حيث لم يدعُ برفع المطر مطلقًا؛ لاحتمال الاحتياج إلى استمراره فاحترز فيه بما يقتضي دفع الضرر وإبقاء النفع. ويستنبط منه أن مَن أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي له أن يتسخَّطها لعارض يعرض فيها، بل يسأل الله رفع ذلك العارض وإبقاء النعمة، وفيه أن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكُّل وإن كان مقام الأفضل التفويض؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالمًا بما وقع لهم من الجدب وأخر السؤال في ذلك تفويضًا لربه، ثم أجابهم إلى الدعاء لما سألوه في ذلك بيانًا للجواز وتقريرًا لسنة هذه العبادة الخاصة، انتهى. وقال البخاري: "باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء"، وساق حديث أنس قال: "أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة فقال: يا رسول الله، هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مُطِرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فأتى الرجل إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول، بَشِق المسافر ومنع الطريق ... الحديث. قوله: "بَشِق"، بفتح الموحدة وكسر المعجمة بعدها قاف؛ أي: ملَّ واشتدَّ عليه الضرر، والله أعلم. * * * باب صلاة الخوف الحديث الأول عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في بعض أيامه التي لقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فيها العدو، فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو، فصلَّى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا، وجاء الآخَرون فصلى بهم ركعة، وقضت الطائفتان ركعة ركعة". صلاة الخوف ثابتة بالكتاب والسنة؛ قال الله - تعالى -: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 102] . سبب نزول هذه الآية ما قال مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال: "كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر فقال: ((لقد أصبنا غرَّة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة)) ، فنزلت الآية بين الظهر والعصر". قال الخطَّابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة وبأشكال متباينة، يتحرَّى في كلها ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة، فهي على اختلاف صورها متفِقة المعنى، انتهى. قوله: "في بعض أيامه التي لقي فيها العدو" وفي رواية: "غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَل نجد". قوله: "فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا" وفي "الموطأ": "ثم استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون". قوله: "وجاء الآخَرون فصلى بهم ركعة وقضت الطائفتان ركعة ركعة"، ولأبي داود من حديث ابن مسعود: "ثم سلم فقام هؤلاء - أي: الطائفة الثانية - فقضَوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلُّوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا". قال الحافظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 واستدلَّ به على عظم أمر الجماعة، بل على ترجيح القول بوجوبها لارتكاب أمور كثيرة لا تُغتَفَر في غيرها، ولو صلَّى كلُّ امرئ منفردًا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك، انتهى. * * * الحديث الثاني عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات بن جبير، عمَّن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفَّت مع الإمام وطائفة وجاه العدو فصلَّى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وِجَاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلَّى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم الرجل الذي صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو سهل بن أبي حثمة. الفرق بين هذا الحديث وحديث ابن عمر: أن الطائفة الأولى أتمَّت لأنفسها مع بقاء صلاة الإمام وتوجَّهت للحراسة فارغة من الصلاة، والذي في حديث ابن عمر أن الطائفة الأولى توجَّهت للحراسة مع كونها في الصلاة. قوله: "ثم سلم بهم" ظاهره أنه انتظرهم في التشهد ليسلموا معه، فالطائفة الأولى أحرموا معه، والأخرى سلموا معه. قال البخاري، قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف؛ يعني: حديث سهل. * * * الحديث الثالث عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - قال: "شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف والعدو بيننا وبين القبله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبَّرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفَع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخَّر في نحر العدو، فلمَّا قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدَّم الصف المؤخَّر وتأخَّر الصف المقدَّم، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخَّر في نحر العدو، فلمَّا قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعًا. قال جابر: "كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائكم"؛ ذكره مسلم بتمامه، وذكر البخاري طرفًا منه: وأنه صلى صلاة الخوف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغزوة السابعة غزوة ذات الرقاع. هذا الحديث فيه صفة ثالثة لصلاة الخوف، قال النووي: وبهذا الحديث قال الشافعي وأبو يوسف وابن أبي ليلى إذا كان العدو في جهة القبلة، انتهى. وقال الإمام أحمد: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "كنَّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع وأُقِيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أربع وللقوم ركعتان"؛ متفق عليه. وللشافعي والنسائي عن جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف عام غزوة نجد، فقام إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورها إلى القبلة، فكبر فكبروا جميعًا الذين معه والذين مقابل العدو، ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه، ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيامًا مقابلي العدو، ثم قام وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هو، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد ومَن معه، ثم كان السلام فسلم وسلموا جميعًا، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان ولكل طائفة ركعتان"؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وعن ثعلبة بن زَهْدَم - رضي الله عنه - قال "كنَّا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقال: أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا"؛ رواه أبو داود والنسائي. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "فرض الله الصلاة على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة"؛ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن ابن عمر: أنه وصف صلاة الخوف ثم قال: "فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالاً قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها". قال مالك، قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلاَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ رواه البخاري. قال الشوكاني: وقد أخذ بكلِّ نوع من أنواع صلاة الخوف الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة من أهل العلم؛ والحق الذي لا محيصَ عنه أنها جائزة على كلِّ نوع من الأنواع الثابتة، وقد قال أحمد بن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثًا إلا صحيحًا انتهى، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 كتاب الجنائز الحديث الأول عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصفَّ بهم وكبر أربعًا". فيه دليل على استحباب إعلام الأهل والأصحاب والجيران وأهل الصلاح بالميت لشهود جنازته والصلاة عليه، وليس ذلك من النعي المنهي عنه وهو نعي الجاهلية؛ فإنهم كانوا إذا تُوفِّي الرجل ركب رجل دابة ثم صاح في الناس: أنعى فلانًا، واستدلَّ به على جواز الصلاة على الغائب، وهو مذهب الشافعي وأحمد والجمهور؛ وعن المالكية والحنفية لا يشرع ذلك، وعن أحمد لا تجوز الصلاة على الغائب إن كان صلى عليه، واختاره شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وقال الخطابي: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرضٍ ليس بها مَن يصلي عليه. وفي الحديث دليل على أن سنة الصلاة على الجنازة التكبير أربعًا، وفيه علَم من أعلام النبوة. * * * الحديث الثاني عن جابر - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث". فيه دليل على مشروعية الصفوف على الجنازة، وقد روى أبو داود وغيره من حديث مالك بن هبيرة مرفوعًا: ((مَن صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب)) ؛ حسنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الترمذي وصححه الحاكم. وفي روايةٍ له: ((إلا غُفِر له)) . قال الطبري: ينبغي لأهل الميت إذا لم يخشوا عليه التغيُّر أن ينتظروا به اجتماع قوم يقوم منهم ثلاثة صفوف لهذا الحديث. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر بعدما دفن فكبر عليه أربعًا". فيه دليلٌ على مشروعية الصلاة على القبر لِمَن لم يصلِّ على الجنازة، وفي رواية قال ابن عباس: "فصففنا خلفه"، وفيه مشروعية صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز. * * * الحديث الرابع عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُفِّن في ثلاثة أثواب يمانية بيض سحولية (1) ليس فيها قميص ولا عمامة". فيه دليلٌ على استحباب التكفين في ثلاثة أثواب يُدرَج فيها إدراجًا، وفيه استحباب التكفين في البياض. قال ابن دقيق العيد: فيه جواز التكفين بما زاد على الواحد الساتر لجميع البدن، وأنه لا يضايق في ذلك ولا يتبع رأي مَن منع منه من الورثة. * * *   (1) نسبة إلى سحول قرية باليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الحديث الخامس عن أم عطية الأنصارية قالت: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفيت ابنته زينب، فقال: ((اغسلنها بثلاث أو خمس أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافورًا أو شيئًا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني)) ، فلمَّا فرغنا آذنَّاه فأعطانا حِقْوَه، فقال: ((أشعرنها إياه)) ؛ يعني: إزاره. وفي رواية: ((أو سبعًا)) ، وقال: ((ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها)) ، وإن أم عطية قالت: "وجعلنا رأسها ثلاثة قرون". قال ابن المنذر: ليس في أحاديث الغسل للميت أعلى من حديث أم عطية، وعليه عوَّل الأئمة. قوله: ((إن رأيتن ذلك)) ؛ معناه: التفويض إلى اجتهادهن بسبب الحاجة لا بالتشهِّي. وفي الحديث دليلٌ على وجوب غسل الميت، واستحباب قطع الغسل على وتر إذا حصل الإنقاء، وفيه استحباب الغسل بالماء والسدر وجعل الكافور مع الماء في الغسلة الأخيرة، قيل: الحكمة في الكافور مع كونه يطيب رائحة الموضع لأجل مَن يحضر من الملائكة وغيرهم أن فيه تجفيفًا وتبريدًا وقوة نفوذ وخاصية في تصليب بدن الميت وطرد الهوامِّ عنه، ومنه ما يتحلَّل من الفضلات، ومنه إسراع الفساد إليه، وهو أقوى الأراييح الطيِّبة في ذلك، وهذا هو السر في جعله في الأخيرة، وفيه استحباب البداءة بميامن الميت ومواضع الوضوء منه. قال الزين بن المنير: والحكمة في الأمر بالوضوء تجديد أثر سمة المؤمنين في ظهور أثر الغرة والتحجيل، واستدلَّ به على استحباب المضمضة والاستنشاق في غسل الميت، وفيه جواز تكفين المرأة في ثوب الرجل، واستحباب نقض شعر الميت وغسله وجعله ثلاثة قرون، وفي رواية: "ضفرنا رأسها ثلاثة قرون: ناصيتها وقرنيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وألقيناه خلفها". وعن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: "كنت فيمَن غسَّل أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاتها، وكان أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحقا ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة، ثم أُدرِجت بعد ذلك في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الباب يناولنا ثوبًا ثوبًا"؛ رواه أحمد وأبو داود. قال الحافظ: وفي حديث أم عطية من الفوائد غير ما تقدَّم في هذه التراجم العشر - يعني: تراجم البخاري - تعليم الإمام مَن لا علم له بالأمر الذي يقع فيه وتفويضه إليه إذا كان أهلاً لذلك بعد أن ينبهه على علة الحكم، والله أعلم. * * * الحديث السادس عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته، أو قال فأقعصته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اغلسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوبين، ولا تحنِّطوه، ولا تخمِّروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا)) . وفي رواية: ((ولا تخمِّروا وجهه ورأسه)) . قال - رضي الله عنه -: (الوقص) : كسر العنق. (القعص) : القتل في الحال، ومنه قعاص الغنم. وفي رواية: "فأقصعته" بتقديم الصاد؛ أي: هشمته. وفي رواية: "فوقصته"، أو قال: فأوقصته. قال الحافظ: يحتمل أن يكون فاعل وقصته الوقعة أو الراحلة بأن تكون أصابته بعد أن وقع، قال: والأول أظهر. قوله: ((وكفِّنوه في ثوبين)) ، في رواية: ((في ثوبيه)) ، وللنسائي: ((في ثوبيه الذي أحرم فيهما)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 قوله: ((ولا تحنِّطوه ولا تخمِّروا رأسه)) ، قال النووي: (الحَنُوط) أخلاط من طيب تجمع للميت خاصة لا تستعمل في غيره، انتهى. وفيه دليلٌ على أن الميت غير المحرم يحنَّط كما يخمِّر رأسه، والنهي إنما وقع لأجل الإحرام. قوله: "وفي رواية: ((ولا تخمروا وجهه ورأسه)) " قال النووي: يتأوَّل هذا الحديث على أن النهي عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز تغطية وجهه بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطَّوا وجهه لم يؤمن أن يغطي رأسه. قال ابن المنذر: وفيه أن الوتر في الكفن ليس بشرطٍ في الصحة، وأن الكفن من رأس المال، لأمره - صلى الله عليه وسلم - بتكفينه في ثوبيه ولم يستفصل هل عليه دين يستغرق أم لا، وفيه استحباب تكفين المحرِم في ثياب إحرَامه، وأن إحرَامه باقٍ؛ وفيه التكفين في الثياب الملبوسة. قال الحافظ: وفي الحديث إطلاقُ الواقف على الراكب، واستحباب دوام التلبية في الإحرام، وأنها لا تنقطع بالتوجُّه لعرفة، وجواز غسل المحرم بالسدر ونحوه مما لا يُعَدُّ طيبًا. قال ابن بطال: وفيه أن مَن شرع في عمل طاعة ثم حال بينه وبين إتمامه الموت يُرجَى له أن الله يكتبه في الآخرة من أهل ذلك العمل، انتهى. قلت: ويشهد لهذا قول الله - تعالى -: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100] . * * * الحديث السابع عن أم عطية الأنصارية قالت: "نُهِينا عن اتِّباع الجنائز ولم يُعزَم علينا". قولها: "نهينا"؛ أي: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل ما ورد بهذه الصيغة فهو في حكم المرفوع. قال ابن دقيق العيد: فيه دليلٌ على كراهية اتباع النساء الجنائز من غير تحريم، وهو معنى قولها: "ولم يُعزَم علينا" فإن العزيمة دالة على للتأكيد. وقال القرطبي: ظاهر سياق أم عطية أن النهي نهي تنزيه، وبه قال جمهور أهل العلم. وقال المهلب: في حديث أم عطية دلالة على أن النهي من الشارع على درجات. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الحديث الثامن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال ((أسرِعوا بالجنازة فإن تكُ صالحة فخيرٌ تقدِّمونها إليه، وإن تكُ سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم)) . فيه دليلٌ على استحباب الإسراع بالجنازة. قال الحافظ: يُستَحبُّ الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدَّة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقَّة على الحامل أو المشيع، انتهى. وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: مرَّت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة تمخض مخض الزق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم القصد)) ؛ رواه أحمد. وعن المغيرة بن شعبة مرفوعًا: ((الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها)) ؛ أخرجه الأربعة. * * * الحديث التاسع عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: "صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها". فيه دليلٌ على مشروعية الصلاة على النفساء، والحائض مثلها، وفيه موقف الإمام من المرأة. قال الزين بن المنير: إن النفساء وإن كانت معدودة من جملة الشهداء فإن الصلاة عليها مشروعة، بخلاف شهيد المعركة. * * * الحديث العاشر عن أبي موسى عبد الله بن قيس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشاقَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قال - رضي الله عنه -: "الصالقة": التي ترفع صوتها عند المصيبة. في الحديث دليل على تحريم هذه الأفعال. قال المهلب: قوله: ((أنا برئ)) ؛ أي: من فاعل ما ذكر وقت ذلك الفعل، ولم يرد نفيه عن الإسلام. * * * الحديث الحادي عشر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لما اشتكى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر بعض نسائه كنيسة رأتها بأرض الحبشة يُقَال لها: مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتَا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًّا ثم صوَّروا فيه تلك الصور، أولئك هم شرار الخلق عند الله)) . قال ابن دقيق العيد: فيه دليلٌ على تحريم مثل هذا الفعل، وقد تظاهَرَت دلائل الشريعة على المنع من التصوير والصور، ولقد أبعد غاية البعد مَن قال: إن ذلك محمول على الكراهة. وقوله: ((بنوا على قبره مسجد)) إشارة إلى المنع من ذلك، وقد صرَّح به الحديث الآخر: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، انتهى. وقال الحافظ: إنما فعل ذلك أوائلهم ليستأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكَّروا أحوالهم الصالحة؛ فيجتهدوا كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظِّمونها فاعبدوها، فحذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك سدًّا للذريعة المؤدِّية إلى ذلك. وفي الحديث دليلٌ على تحريم الصور، وفيه جواز حكاية ما يشاهد المؤمن من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به وذم فاعل المحرَّمات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وأن الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل، وفيه كراهية الصلاة في المقابر سواء كانت بجنب القبر أو عليه أو إليه، انتهى ملخصًا. وقال الموفق في "المغنى": ولا يجوز اتخاذ السُّرُج على القبور؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((لعن الله زوَّارات القبور، والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرُج)) ؛ رواه أبو داود والنسائي، ولو أُبِيح لم يلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَن فعله، ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام، ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر مثل ما صنعوا، متفق عليه. وقالت عائشة: إنما لم يبرز قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئلاَّ يُتَّخذ مسجدًّا، ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرُّب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها، انتهى. * * * الحديث الثاني عشر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن اليهود والنصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، قالت: ولولا ذلك لأُبرِز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًّا. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يدلُّ على امتناع اتخاذ قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مسجدًّا، ومنه يفهم امتناع الصلاة على قبره. وقال الحافظ: الوعيد على ذلك يتناول مَن اتخذ قبورهم مساجد تعظيمًا ومغالاة كما صنع أهل الجاهلية وجرَّهم ذلك إلى عبادتهم، ويتناول مًن اتَّخذ أمكنة قبورهم مساجد بأن تنبش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وترمي عظامهم، فهذا يختصُّ بالأنبياء ويلتحق بهم أتباعهم، وأمَّا الكفرة فإنه لا حرج في نبش قبورهم؛ إذ لا حرج في إهانتهم، ولا يلزم من اتِّخاذ المساجد في أمكنتها تعظيم، فعُرِف بذلك أن لا تعارض بين فعله - صلى الله عليه وسلم - في نبش قبور المشركين واتِّخاذ مسجده مكانها وبين لعنه - صلى الله عليه وسلم - مَن اتخذ القبور الأنبياء مساجد لما تبيَّن من الفرق، انتهى. قال ابن القيم: ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن اتِّخاذ القبور مساجد وإيقاد السُّرُج عليها، واشتدَّ نهيه في ذلك حتى لعن فاعله، وكان هديه أن لا تُهان القبور وتوطَّأ ويجلس عليها ويتكأ عليها ولا تعظَّم بحيث تُتَّخذ مساجد فيصلي عندها وإليها وتتَّخذ أعيادًا وأوثانًا. وقال أيضًا: ولم يكن من هديه - صلى الله عليه وسلم - تعلية القبور ولا بناؤها بآجُر ولا بحجر ولبن، ولا تشييدها ولا تطييبها ولا بناء القباب عليها، فكلُّ هذا بدعة مكروهة مخالفة لهديه - صلى الله عليه وسلم - وقد بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن لا يدع تمثالاً إلا طمسه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّاه، فسنَّته - صلى الله عليه وسلم - تسوية هذه القبور المشرِفة كلها، ونهى أن يجصَّص القبر، وأن يُبنَي عليه، وأن يُكتَب عليه، وكانت قبور الصحابة لا مشرِفة ولا لاطئة، وهكذا كان قبره الكريم وقبر صاحبيه وقبره - صلى الله عليه وسلم - مسنم مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء لا مبني ولا مطيَّن، وهكذا كان قبر صاحبيه، وكان يعلم قبر مَن يريد تعرف قبره بصخرة، انتهى. وقال الشوكاني: والسنة أن القبر لا يُرفَع رفعًا كثيرًا مَن غير فرق بين مَن كان فاضلاً ومَن كان غير فاضل، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها اعتقاد الجَهَلة لها كاعتقاد الكفَّار للأصنام، وعظم ذلك فظنُّوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضر، فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج، وملجأً لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدُّوا إليها الرحال وتمسَّحوا بها واستغاثوا، وبالجملة إنهم لم يدعوا شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد توارَد إلينا من الأخبار أن كثيرًا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجَّهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرًا، فإذا قيل له: احلف بشيخك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكَّأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أَبْيَن الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك مَن قال: إنه - تعالى - ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة، فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر؟ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبًا، انتهى ملخصًا من "نيل الأوطار"، والله المستعان. * * * الحديث الثالث عشر عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ليس منَّا مَن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) . فيه وعيد شديد لِمَن فعل ما ذكر، والمراد بدعوى الجاهلية ما يقولونه عند موت الميت كقولهم: واجبلاه، واسَنَداه، واسيِّداه، والدعاء بالويل والثبور. قال الحافظ: وهذا يدلُّ على تحريم ما ذكر من شق الجيب وغيره، وكان السبب في ذلك ما تضمَّنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء، فإن وقع التصريح بالاستحلال فلا مانع من حمل النفي على الإخراج من الدين. * * * الحديث الرابع عشر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((مَن شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومَن شهدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 حتى تُدفَن فله قيراطان)) ، قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)) ، ولمسلم: ((أصغرهما مثل جبل أحد)) . فيه دليل على فضل شهود الجنازة عند الصلاة، وأن الأجر يزاد بشهود الدفن مع الصلاة عليها. قال ابن دقيق العيد: والقيراط تمثيل لجزء من الأجر ومقدار منه، وقد مثَّله في الحديث بأن أصغرهما مثل أحد، وهو من مجاز التشبيه تشبيهًا للمعنى العظيم بالجسم العظيم. وقال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم، الترغيب في شهود الميت والقيام بأمره، والحض على الاجتماع له والتنبيه على عظيم فضل الله وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لِمَن يتولى أمره بعد موته، وفيه تقدير الأعمال بنسبة الأوزان: إما تقريبًا للأفهام، وإما على حقيقته، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 كتاب الزكاة الحديث الأول عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تُؤخَذ من أغنيائهم فتُرَدُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) . الزكاة أحد أركان الإسلام، وهي واجبة بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] ، وقال - تعالى -: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] . قوله: ((إنك ستأتي قومًا أهل كتاب)) هي كالتوطئة للتوصية لتستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهَّال من عبَدَة الأوثان. قوله: ((فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)) ، قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث البداءة بالمطالبة بالشهادتين؛ لأن ذلك أصل الدين الذي لا يصحُّ شيء من فروعه إلا به، فمَن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 منهم غير موحِّد على التحقيق كالنصارى فالمطالبة متوجِّهة إليه بكل واحدة من الشهادتين عينًا، ومَن كان موحِّدًا كاليهود فالمطالبة له بالجمع بين ما أقرَّ به من التوحيد وبين الإقرار بالرسالة، وإن كان هؤلاء اليهود الذين باليمن عندهم ما يقتضي الإشراك ولو باللزوم، يكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم، وقد ذكر الفقهاء أن مَن كان كافرًا بشيء مؤمنًا بغيره لم يدخل في الإسلام إلا بالإيمان بما كفر به، انتهى. قوله: ((فإن هم أطاعوا لك بذلك)) ؛ أي: شهدوا وانقادوا ((فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)) فيه البداءة بالأهم فالأهم، وذلك من التلطُّف في الخطاب؛ لأنه لو طالَبَهم بالجميع في أوَّل مرَّة لم يأمن النفرة. قوله: ((فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تُؤخَذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) فيه دليل على جواز إخراج الزكاة في صنف واحد. قوله: ((فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم)) قال ابن دقيق العيد: ويدل الحديث على أن كرائم الأموال لا تؤخذ من الصدقة كالأكولة والربا، وهي التي تربي ولدها، والماخض: وهي الحامل، وفحل الغنم وحزارات المال، وهي التي تحزر بالعين وترمق لشرفها عند أهلها، والحكمة فيه أن الزكاة وجبت مواساة للفقراء من مال الأغنياء ولا يناسب ذلك الإجحاف بأرباب الأموال فسامَح الشرع أرباب الأموال بما يضنُّون به ونهى المصدِّقين عن أخذه، انتهى. قوله: ((واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) ؛ أي: إنها مقبولة ليس لها صارف يصرفها ولا مانع. وعن أبي هريرة مرفوعًا: ((دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه)) ؛ أخرجه أحمد. وفي الحديث تنبيهٌ على المنع من جميع الظلم، والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم الإشارة إلى أن أخذها ظلم. قال الحافظ: وفي الحديث أيضًا الدعاء إلى التوحيد قبل القتال وتوصية الإمام عامله فيما يحتاج إليه من الأحكام وغيرها، وفيه بعث السعاة لأخذ الزكاة وقبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وفيه أن الزكاة لا تُدفَع إلى الكافر لعود الضمير في فقرائهم إلى المسلمين، انتهى. وقال عياض: فيه إيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون؛ لعموم قوله: ((من أغنيائهم)) . وقال البغوي: فيه أن المال إذا تلف قبل التمكُّن من الأداء سقطت الزكاة لإضافة الصدقة إلى المال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 تنبيه: لم يذكر الصوم والحج في هذا الحديث وهما من أركان الإسلام؛ لأن الكلام في الدعاء إلى الإسلام، فاكتفى بالأركان الثلاثة: الشهادة والصلاة والزكاة؛ لأن كلمة الإسلام هي الأصل وهي شاقَّة على الكفار، والصلوات شاقَّة لتكرُّرها، والزكاة شاقَّة لما في جبلَّة الإنسان من حب المال، فإذا أذعن المرء لهذه الثلاثة كان ما سواها سهلاً عليه بالنسبة إليها، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمسة أوسق صدقة)) . فيه دليلٌ على اعتبار النصاب وسقوط الزكاة فيما دون ذلك. وفي رواية للبخاري: ((ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذَوْدٍ من الإبل صدقة)) . وفي روايةٍ لمسلم: ((ليس فيما دون خمسة أوساق من ثمر ولا حب صدقة)) ، ((الوسق)) : ستون صاعًا بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - و ((الأوقية)) : أربعون درهما، و ((عشرة الدراهم)) : سبعة مثاقيل. * * * الحديث الثالث عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)) ، وفي لفظ: ((إلا زكاة الفطر في الرقيق)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فيه دليلٌ على عدم وجوب الزكاة في الخيل والعبيد إذا كان ذلك لغير التجارة. وعن عليٍّ مرفوعًا: ((قد عفوت عن الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة)) ؛ رواه أبو داود. وقال البخاري: وقال الزهري في المملوكين للتجارة: يزكي في التجارة، ويزكي في الفطر. قال الحافظ: وما نقله البخاري عن الزهري هو قول الجمهور. * * * الحديث الرابع عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العَجْمَاء جُبَار، والبئر جُبَار، والمَعْدِن جُبَار، وفي الرِّكَاز الخمس)) ، الجُبَار: الهَدَر الذي لا شيء فيه، و ((العجماء)) : الدابة، سميت البهيمة عجماء؛ لأنها لا تتكلم. وفي الحديث دليلٌ على أنه لا ضمان على أحد في شيء مما ذُكِر إذا لم يكن منه تسبُّب ولا تغرير. وعن البراء بن عازب - رضي اله عنه - قال: "كانت له ناقة ضاربة فدخلت حائطًا فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل"؛ أخرجه الشافعي وأبو داود والنسائي وابن ماجه. قوله: ((وفي الركاز الخمس)) ، ((الركاز)) : هو المال المدفون، قال البخاري وقال مالك وابن إدريس: الركاز دفن الجاهلية في قليله وكثيرة والخمس، وليس المعدن بركاز. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((في المعدن جُبَار وفي الركاز الخمس)) ، وأخذ عمر بن عبد العزيز من المعادن من كل مائتين خمسة انتهى. * * * الحديث الخامس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 والعباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ينقم ابن جميل إلاَّ أن كان فقيرًا فأغناه الله - تعالى - وأمَّا خالد فإنكم تظلمون خالدًا؛ فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأمَّا العباس فهي عليَّ ومثلها)) ، ثم قال: ((يا عمر، أمَا علمت أن عم الرجل صِنْوُ أبيه)) . قوله: ((ما ينقم)) ؛ أي: ما ينكر. قوله: ((وأعتاده)) هو ما يعدُّه الرجل من الدواب والسلاح. قوله: ((فهي علي ومثلها)) ؛ أي: هي عندي قرض، لأنني استسلفت منه صدقة عامين، ويؤيِّد ذلك ما أخرجه الخمسة إلا النسائي عن علي - رضي الله عنه - أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحلَّ، فرخَّص له في ذلك. قوله: ((فإنكم تظلمون خالدًا)) ؛ أي: بنسبتكم إياه إلى المنع وهو لم يمنع، وكيف يمنع الفرض وقد تطوَّع بتحبيس سلاحه وخيله في سبيل الله؟ واستدلَّ بقصة خالد على مشروعية تحبيس الحيوان والسلاح، وأن الوقف يجوز بقاؤه تحت يد محتبِسه، وعلى صرف الزكاة إلى صنف واحد من الثمانية، وفيه دليلٌ على وجوب الزكاة في عروض التجارة. قوله: ((يا عمر، أمَا علمت أن عمَّ الرجل صِنْوُ أبيه)) (الصنو) : المِثْل، وأصله في النخل أن يجمع النخلتين أصلٌ واحد؛ قال - تعالى -: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] . قال الحافظ: وفي الحديث بعث الإمام العمَّال لجباية الزكاة، وتنبيه الغافل على ما أنعم الله به من نعمة الغنى بعد الفقر ليقوم بحق الله عليه، والعيب على مَن منع الواجب وجواز ذكره في غيبته بذلك، وتحمُّل الإمام عن بعض رعيته ما يجب عليه، والاعتذار عن بعض الرعية بما يسوغ الاعتذار به، والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الحديث السادس عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني - رضي الله عنه - قال: "لمَّا أفاء الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين قسم في الناس وفي المؤلَّفة قلوبهم ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فكأنما وجدوا في أنفسهم؛ إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلاَّلاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرِّقين فألَّفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟)) ، كلَّما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أمنُّ، قال: ((ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟)) ، قالوا: الله ورسوله أمنُّ، قال: ((لو شئتم لقلتم: جئتَنا بكذا وكذا، ألا ترضَون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقَون بعدي أثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) . قوله: "لمَّا أفاء الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين"؛ أي: أعطاه غنائم الذين قاتلهم يوم حنين، وكان السبي ستة آلاف نفس من النساء والأطفال، وكانت الإبل أربعة وعشرين ألفًا، والغنم أربعين ألف شاة. قوله: ((لو شئتم لقلتم: جئتنا بكذا وكذا)) وفي حديث أبي سعيد: ((فقال أمَا والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك وعائلاً فواسيناك)) ، وفي حديث أنس عند أحمد فقالوا: "بل المنُّ علينا لله ورسوله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 قوله: ((ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي إلى رحالكم)) ، في رواية: "قالوا: يا رسول الله، قد رضينا". قوله: ((لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار)) ؛ أي: لولا أن النسبة إلى الهجرة نسبة دينية لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم. قوله: ((ولو سلَك الناس واديًا أو شِعْبًا لسلكت وادي الأنصار وشِعْبَها)) ، قال القرطبي: لما كانت العادة أن المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه، وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب، فإذا تفرَّقت في السفر الطرق سلَك كل قوم منهم واديًا وشعبًا، فأراد أنه مع الأنصار. قوله: ((الأنصار شعار والناس دثار)) (الشعار) : الثوب الذي يلي الجلد، و (الدثار) : الذي فوقه، وهي استعارة لطيفة؛ والمعنى: أنهم بطانته وخاصته، و (الأثرة) : الانفراد بالشيء المشترك دون مَن يشركه فيه. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم: إقامة الحجة على الخصم وإفحامه بالحق عند الحاجة إليه، وحسن أدب الأنصار في تركهم المماراة، والمبالغة في الحياء، وبيان أن الذي نقل عنهم إنما كان عن شبَّانهم لا عن شيوخهم وكهولهم، وفيه مناقب عظيمة لهم لما اشتمل من ثناء الرسول البالغ عليهم، وأن الكبير ينبِّه الصغير على ما يغفل عنه ويوضح له وجه الشبهة ليرجع إلى الحق، وفيه المعاتبة واستعطاف المعاتب وإعتابه عن عتبة بإقامة حجة مَن عتب عليه، والاعتذار والاعتراف، وفيه علَم من أعلام النبوة لقوله: ((ستلقون بعدي أثَرَة)) فكان كما قال، وفيه أن للإمام تفضيل بعض الناس على بعض في مصارف الفيء، وأن له أن يعطي الغني منه للمصلحة، وأن مَن طلب حقَّه من الدنيا لا عتب عليه في ذلك، وفيه مشروعية الخطبة عند الأمر الذي يحدث سواء كان خاصًّا أم عامًّا، وفيه جواز تخصيص بعض المخاطبين في الخطبة، وفيه تسلية مَن فاته شيء من الدنيا بما حصل له من ثواب الآخرة، والحض على طلب الهداية والألفة والغني، وأن المنة لله ولرسوله على الإطلاق، وتقديم جانب الآخرة على الدنيا، والصبر عمَّا فات منها؛ ليدَّخر ذلك لصاحبه في الآخرة (والآخرة خير وأبقى) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 باب صدقة الفطر الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "فرَض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر - أو قال: رمضان - على الذكر والأنثى والحر والمملوك، صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، قال: فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير والكبير. وفي لفظ: "أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى المصلى". صدقة الفطر ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14- 15] . قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في قوله - تعالى -: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] : هو زكاة الفطر، والحديث دليلٌ على وجوب صدقة الفطر على جميع المسلمين، ونقَل ابن المنذر الإجماع على أنها لا تجب على الجنين، وكان أحمد يستحبُّه ولا يوجِبه. قوله: "أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"، قال عكرمة: يقدِّم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته؛ فإن الله - تعالى - يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14- 15] . وفي الحديث دليلٌ على كراهة تأخيرها عن الصلاة، قال البخاري: وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل العيد بيوم أو يومين. * * * الحديث الثاني عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كنَّا نعطيها في زمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الرسول - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب، فلمَّا جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مُدًّا من هذه يعدل مدين، قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم. فيه دليل على مشروعية إخراج زكاة الفطر صاعًا من هذه الأجناس المنصوص عليها، واستدلَّ به على أنه لا يجزئ غير الأصناف المذكورة مع قدرته على تحصيلها. وقال أكثر العلماء: يجزئ قوت بلده مثل الأرز وغيره وهو رواية عن أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيميَّة، واحتجَّ بقوله - تعالى -: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . قوله: "صاعًا من طعام" قال الحافظ: المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة، فيحتمل أن تكون الذرة فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن، وقد روى الجوزقي في حديث أبي سعيد "صاعًا من تمر صاعًا من سلت أو ذرة"، انتهى. قوله: "فلمَّا جاء معاوية وجاءت السمراء ... " إلى آخره، قال النووي: تمسَّك بحديث معاوية مَن قال بالمدَّين من الحنطة، وفيه نظر؛ لأنه فِعْلُ صحابي، وقد خالَفَه فيه أبو سعيد وغيره من الصحابة ممَّن هو أطول صحبة منه وأعلم بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد صرَّح معاوية بأنه رأيٌ رآه لا أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال البيهقي: وقد وردت أخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاع من بر، ووردت أخبار في نصف صاع ولا يصح شيء من ذلك، انتهى. قال الحافظ: وفي حديث أبي سعيد ما كان عليه من شدَّة الاتِّباع والتمسُّك بالآثار وترك العدول إلى الاجتهاد مع وجود النص، وفي صنيع معاوية وموافقة الناس له دلالة على جواز الاجتهاد وهو محمود، لكنَّه مع وجود النص فاسد الاعتبار انتهى، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 كتاب الصيام الحديث الأول عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه)) . صوم رمضان أحد أركان الإسلام، والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 183- 184] الآيات. و (الصيام) في اللغة: الإمساك، وفي الشرع: الإمساك في النهار عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع. وفي الحديث دليلٌ على النهي عن الصيام قبل رمضان بيوم أو يومين إلا لِمَن له عادة فوافَق صومه ذلك. قال الحافظ: قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي لمَّا أخرجه: العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجَّل الرجل بصيامٍ قبل دخول رمضان لمعنى رمضان، انتهى. قال الحافظ: والحكمة في ذلك أن الحكم علق بالرؤية فمَن تقدَّمه بيومٍ أو يومين فقد حاوَل الطعن في ذلك الحكم، وهذا هو المعتمَد. ومعنى الاستثناء: أن مَن كان له ورد فقد أذن له فيه؛ لأنه اعتاده وألِفَه وترك المألوف شديد، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويلتحق بذلك القضاء والنذر لوجوبهما، وفي الحديث ردٌّ على مَن يرى تقديم الصوم على الرؤية كالرافضة، وردٌّ على مَن قال بجواز صوم النفل المطلق، وفيه بيان لمعنى قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 في الحديث الآخر: ((صوموا لرؤيته)) فإن اللام فيه للتوقيت لا للتعليل، وفيه منع إنشاء الصوم قبل رمضان إذا كان لأجل الاحتياط، انتهى ملخصًا. * * * الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ ليكم فاقدِروا له)) . قوله: ((فاقدِروا له)) ؛ أي: انظروا في أوَّل الشهر واحسبوا تمام الثلاثين كما في رواية البخاري: ((فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العِدَّة ثلاثين)) . وله من حديث أبي هريرة: ((فأكمِلوا عِدَّة شعبان ثلاثين)) . وقال البخاري: "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)) ". وقال صلة عن عمار: "مَن صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم - صلَّى الله عليه وسلَّم"، انتهى. واختلفت الروايات عن الإمام أحمد - رحمه الله - فيما إذا حال دون منظر الهلال غيم أو قتر؛ فعنه يجب صومه، وعنه أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، وعنه لا يجب صومه قبل رؤية هلاله أو إكمال شعبان، واختاره شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وقال هو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، وعن صومه منهي عنه، وهذا هو الموافق للأحاديث الصحيحة الصريحة. * * * الحديث الثالث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تسحَّروا؛ فإن في السحور بركة)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فيه دليل على استحباب السحور. قال الحافظ: البركة في السحور تحصل بجهات متعدِّدة؛ وهي: اتِّباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوِّي به على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبُّب بالصدقة على مَن يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل، والتسبُّب للذكر والدعاء وقت مظنَّة الإجابة. * * * الحديث الرابع عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: "تسحَّرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام إلى الصلاة، قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية". فيه دليلٌ على استحباب تأخير السحور. قال الحافظ: قال المهلب وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت العرب تقدِّر الأوقات بالأعمال كقولهم قدر حلب ناقة، وقدر نحر جزور؛ فعدل زيد بن ثابت عن ذلك إلى التقدير بالقراءة إشارة إلى أن ذلك الوقت كان وقت العبادة بالتلاوة. قال ابن أبي جمرة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر ما هو الأرفق بأمَّته فيفعله؛ لأنه لو لم يتسحَّر لاتَّبعوه فيشق على بعضهم، ولو تسحَّر في جوف الليل لشق أيضًا على بعض ممَّن يغلب عليه، فقد يفضي إلى ترك صلاة الصبح أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر. وفي الحديث تأنيس الفاضل أصحابه بالمؤاكلة، وجواز المشي بالليل للحاجة؛ لأن زيد بن ثابت ما كان يبيت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه الاجتماع على السحور، انتهى ملخصًا. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الحديث الخامس عن عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم". فيه دليلٌ على صحة الصوم من الجنب سواء كان عامدًا أو ناسيًا، سواء كان صيامه فرضًا أو تطوعًا، وفيه دليلٌ على جواز تأخير الغسل إلى بعد طلوع الفجر، ويقاس على ذلك الحائض والنفساء إذا انقطع دمها ليلاً ثم طلع الفجر قبل اغتسالها صحَّ صومها. * * * الحديث السادس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليُتِمَّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) . فيه دليلٌ على أن الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا لم يفسد صومه، وفيه لطف الله بعباده والتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج عنهم. * * * الحديث السابع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ((ما لك؟)) ، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، وفي رواية: أصبت أهلي في رمضان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تجد رقبة تعتقها؟)) ، قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)) ، قال: لا، قال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟)) ، قال: لا، قال: فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما نحن على ذلك إذ أُتِي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر - والعرق: المكتل (1) - قال: ((أين السائل؟)) ، قال: أنا، قال: ((خذ هذا فتصدَّق به)) ، فقال: أعَلَى أفقر مِنِّي يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه الكريمة، ثم قال: ((أطعمه أهلك)) . (الحرة) : الأرض تركبها حجارة سود. هذا حديث جليل كثير الفوائد، قال الحافظ: وقد اعتنى به بعض المتأخِّرين ممَّن أدركه شيوخنا، فتكلَّم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة، انتهى. والحديث دليلٌ على وجوب الكفارة على المجامع في نهار رمضان وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينًا كما في آية الظهار. قال ابن دقيق العيد: استدلَّ بالحديث على أن مَن ارتكب معصية لا حدَّ فيها وجاء مستفتيًا أنه لا يُعاقَب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية، ومن جهة المعنى أن مجيئة مستفتيًا يقتضي الندم والتوبة، والتعزير استصلاح، ولا استصلاح مع الصلاح، ولأن معاقبة المستفتي مفسدة تكون سببًا لترك الاستفتاء من الناس عند وقوعهم في مثل ذلك، وهذه مفسدة عظيمة يجب   (1) أي: الزنبيل، اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 دفعها، انتهى. وقال الحافظ بعد ما شرح هذا الحديث فأجاد وأفاد: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم، السؤال عن حكم ما يفعله المرء مخالفًا للشرع، والتحدُّث بذلك لمصلحة معرفة الحكم، واستعمال الكناية فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه؛ لقوله: وقعت، وأصبت، وفيه الرفق بالمتعلِّم، والتلطُّف في التعليم، والتألُّف على الدين، والندم على المعصية، واستشعار الخوف، وفيه الجلوس في المسجد لغير الصلاة من المصالح الدينية كنشر العلم، وفيه جواز الضحك عند وجود سببه، وإخبار الرجل بما يقع منه مع أهله للحاجة، وفيه الحلف لتأكيد الكلام، وقبول قول المكلَّف مما لا يطَّلع عليه إلا من قِبَله؛ لقوله في جواب قوله: "أفقر منَّا": ((وأطعمه أهلك)) ، ويحتمل أن يكون هناك قرينة لصدقه، وفيه التعاون على العبادة والسعي في خلاص المسلم، وإعطاء الواحد فوق حاجته الراهنة، وإعطاء الكفَّارة أهل بيت واحد انتهى، والله أعلم. باب الصوم في السفر وغيره الحديث الأول عن عائشة - رضي الله عنها - أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، قال: ((إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)) . فيه دليلٌ على التخيير بين الصوم والفطر في السفر، وأخرج أبو داود والحاكم من طريق محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه أنه قال: يا رسول الله، إني صاحب ظهر أعالجه أسافر وأَكْرِيه، وإنه ربما صادَفَني هذا الشهر - يعني: رمضان - وأنا أجد القوَّة، وأجدني أن أصوم أهون عليَّ من أن أؤخِّر فيكون دَيْنًا علي، فقال: ((أي ذلك شئت يا حمزة)) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الحديث الثاني عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنَّا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم". فيه دليل على التخيير في رمضان للمسافر بين الإفطار والصوم، وفي حديث أبي سعيد عند مسلم: "كنَّا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يجد الصائم على المفطر والمفطر على الصائم، يرون أن مَن وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ومَن وجد ضعفًا فأفطر أن ذلك حسن"، قال الحافظ: وهذا التفصيل هو المعتَمَد وهو نصٌّ رافع للنزاع. * * * الحديث الثالث عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان في حرٍّ شديد، حتى إذا كان أحدنا لَيضع يده على رأسه من شدَّة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة". قال الحافظ: فيه ردٌّ على مَن قال: مَن سافر في شهر رمضان امتنع عليه الفطر، وفيه دليلٌ على أن لا كراهية في الصوم في السفر لِمَن قوي عليه ولم يصبه منه مشقَّة شديدة. وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نهرٍ من ماء السماء والناس صيام في يوم صائف مشاة ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلة له فقال: ((اشربوا أيها الناس)) ، قال: فأبوا، قال: ((إني لست مثلكم، إني آمركم إني راكب)) ، فأبوا، فثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخذه فنزل فشرب وشرب الناس وما كان يريد أن يشرب؛ رواه أحمد. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الحديث الرابع عن جابر - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فرأى زحامًا ورجلاً قد ظلل عليه، فقال: ((ما هذا؟)) ، قالوا: صائم، قال: ((ليس من البر الصيام في السفر)) . وفي لفظٍ لمسلم: ((عليكم برخصة الله التي رخَّص لكم)) . قوله: ((ليس من البر الصيام في السفر)) ، قال ابن دقيق العيد: أُخِذ من هذه القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصَّة بِمَن هو في مثل هذه الحالة ممَّن يجهده الصوم ويشقُّ عليه، أو يؤدِّي به إلى ترك ما هو أَوْلَى من الصوم من وجوه القُرَب. وقوله: ((عليكم برخصة الله التي رخَّص لكم)) دليلٌ على أنه يستحب التمسُّك بالرخصة إذا دعت الحاجة إليها، ولا تترك على وجه التشديد والتنطُّع والتعمق انتهى، وبالله التوفيق. * * * الحديث الخامس عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فمنَّا الصائم ومنَّا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، وأكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء، فمنَّا مَن يتَّقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوَّامون وقام المفطِرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر)) . فيه دليلٌ على جواز الصوم في السفر وفضيلة الإفطار لِمَن يخدم أصحابه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الحديث السادس عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان". فيه دليلٌ على جواز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان، وقال ابن عباس: لا بأس أن يفرق لقوله - تعالى -: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . قال الحافظ: وفي الحديث دليلٌ على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقًا سواء كان لعذر أو لغير عذر، ويؤخَذ من حرصها على ذلك في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر، انتهى. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "مَن فرَّط في صيام رمضان حتى أدركه رمضان آخر فليصم هذا الذي أدركه ثم ليصم ما فاته ويطعم مع كل يوم مسكينًا"؛ رواه الدارقطني. * * * الحديث السابع عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن مات وعليه صيام صام عنه وليُّه)) . وأخرجه أبو داود وقال: هذا في النذر خاصة وهو قول أحمد بن حنبل. * * * الحديث الثامن عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أفأقضيه؟ قال: ((لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟)) ، قال: نعم، قال: ((فدين الله أحق أن يُقضَى)) . وفي رواية: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: ((أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدِّي ذلك عنها؟)) ، قالت: نعم، قال: ((فصومي عن أمك)) . قوله: ((مَن مات وعليه صيام صام عنه وليُّه)) ، قال الحافظ: خبر بمعنى الأمر تقديره فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر على الوجوب عند الجمهور. وقد اختلف السلف في هذه المسألة؛ فأجاز الصيامَ عن الميت أصحابُ الحديث، وعلَّق الشافعي في القديم القول به على صحَّة الحديث وهو قول أبي ثور وجماعة من محدثي الشافعية. وقال البيهقي في "الخلافيات": هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في صحتها فوجب العمل بها، ثم ساق بسنده إلى الشافعي قال: كل ما قلت وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه فخذوا بالحديث ولا تقلِّدوني، وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبو حنيفة: لا يُصام عن الميت. وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: لا يُصام عنه إلا النذر؛ حملاً للعموم الذي في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس، وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما؛ فحديث ابن عباس صورة مستقلَّة سأل عنها مَن وقعت له، وأمَّا حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم حيث قال في آخره: ((فدين الله أحق أن يُقضَى)) . وأمَّا رمضان فيطعم عنه، ومعظم المجيزين للصيام لم يوجبوه، وإنما قالوا: يتخيَّر الولي بين الصيام والإطعام، انتهى ملخصًا. وقال النووي: اختلف العلماء فيمَن مات وعليه صوم واجب من رمضان أو قضاء أو نذر أو غيره هل يقضى عنه؛ وللشافعي في المسألة قولان مشهوران: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أشهرهما لا يصام عنه، ولا يصح عن ميت صوم أصلا، والثاني: يستحب لوليه أن يصوم عنه ويبرأ به الميت ولا يحتاج إلى إطعام، وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صحَّحه محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، انتهى. وقال الشوكاني: ظاهر الأحاديث أنه يصوم عنه وليُّه وإن لم يوصِ بذلك، وأن مَن صدق عليه اسم الولي لغةً أو شرعًا أو عرفًا صام عنه، ولا يصوم عنه مَن ليس بولي، انتهى، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر وأخَّروا السحور)) . فيه دليلٌ على استحباب تعجيل الإفطار بعد تحقُّق غروب الشمس، وتأخير السحور. قوله: ((ما عجَّلوا الفطر)) (ما) ظرفية؛ أي: لا يزال الناس بخير مُدَّة فعلهم ذلك امتثالاً للسنة واقفين عند حدِّها غير متنطِّعين بعقولهم ما يغير قواعدها، وزاد أبو هريرة في هذا الحديث: "لأن اليهود والنصارى يؤخِّرون"؛ أخرجه أبو داود. ولابن حبان والحاكم من حديث سهل: ((ولا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم)) . قال الحافظ: من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل والشرب على مَن يريد الصيام زعما ممَّن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس، وقد جرَّهم ذلك إلى أن صاروا لا يؤذِّنون إلا بعد الغروب بدرجةٍ لتمكين الوقت - زعموا - فأخَّروا الفطر وعجَّلوا السحور وخالَفوا السنة؛ فلذلك قلَّ عنهم الخير وكثر فيهم الشر، والله المستعان. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الحديث العاشر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم)) . فيه دليل على استحباب تعجيل الفطر إذا تحقَّق غروب الشمس. قوله: ((إذا أقبل الليل من ها هنا)) ؛ أي: من جهة المشرق ((وأدبر النهار من ها هنا)) ؛ أي: من جهة المغرب، وعند البخاري: ((وغربت الشمس فقد أفطر الصائم)) ؛ أي: قد حلَّ له الفطر. قال ابن دقيق العيد: الإقبال والإدبار مثلا زمان؛ أعني: إقبال الليل وإدبار النهار، وقد يكون أحدهما أظهر للعين في بعض المواضع فيستدلُّ بالظاهر على الخفي، كما لو كان في جهة المغرب ما يستر البصر عن إدراك الغروب وكان المشرق ظاهرًا بارزًا فيستدلُّ بطلوع الليل على غروب الشمس، انتهى. * * * الحديث الحادي عشر عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال، قالوا يا رسول الله: إنك تواصل، قال: ((إني لست مثلكم؛ إني أطعم وأسقى)) ؛ رواه أبو هريرة وعائشة وأنس بن مالك - رضي الله عنهم. ولمسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: ((فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 في الحديث دليلٌ على كراهة الوصال، وهو ألا يفطر بين اليومين، وفيه دليل على جوازه إلى السحر إذا لم يشقَّ عليه ولم يضعفه عن العبادة. قوله: ((إني أُطعَم وأُسقَى)) ؛ أي: يعطيني الله قوة الآكل والشارب ويفيض عليَّ ما يسد مسد الطعام والشراب، ومَن له أدنى ذوق وتجربة بعبادة الله والاستغراق في مناجاته، والإقبال عليه ومشاهدته، يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثيرٍ من الغذاء الجسماني، ولا سيما الفرح المسرور بمطلوبه الذي قرَّت عينه بمحبوبه. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد استواء المكلَّفين في الأحكام، وأن كل حكم ثبت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت في حق أمته إلا ما استثني بدليل، وفيه جواز معارضة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله ولم يعلم المستفتي بسرِّ المخالفة، وفيه الاستكشاف عن حكمة النهي، وفيه ثبوت خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وأن عموم قوله - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] مخصوص، وفيه أن الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته ويبادرون إلى الائتساء به إلاَّ فيما نهاهم عنه، وفيه أن خصائصه لا يتأسَّى به في جميعها، وفيه بيان قدرة الله - تعالى - على إيجاد المسببات العاديات من غير سبب ظاهر، انتهى، والله أعلم. * * * باب أفضل الصيام وغيره الحديث الأول عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: أُخبِر النبي - صلى الله عليه وسلم - أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشتُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت الذي قلت ذلك؟)) ، فقلت له: قد قلته، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: ((فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر)) ، قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك، قال: ((فصم يومًا وأفطر يومين)) ، قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك، قال: ((فصم يومًا وأفطر يومًا، فذلك صيام داود - عليه السلام - وهو أفضل الصيام)) ، قلت: إن لأطيق أفضل من ذلك، فقال: ((لا أفضل من ذلك)) . وفي رواية: قال: ((لا صوم فوق صوم داود - عليه السلام - شطر الدهر، صم يومًا وأفطر يومًا)) . هذا الحديث يدلُّ على أن أفضل الصيام صوم يوم وإفطار يوم، وفيه دليلٌ على كراهية الزيادة على ذلك، وفيه استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. قال الخطابي: محصَّل قصة عبد الله بن عمرو، أن الله - تعالى - لم يتعبَّد عبده بالصوم خاصة، بل تعبَّده بأنواع من العبادات، فلو استفرغ جهده لقصَّر في غيره، فالأَوْلَى الاقتصاد فيه؛ ليستبقي بعض القوة لغيره. قال الحافظ: وفي قصة عبد الله بن عمرو من الفوائد غير ما تقدَّم، بيان رفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقته عليهم، وإرشاده إياهم إلى ما يصلحهم، وحثه إياهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيهم عن التعمُّق في العبادة؛ لما يخشى من إفضائه إلى الملل أو ترك البعض، وقد ذمَّ الله - تعالى - قومًا لازموا العبادة ثم فرَّطوا فيها، وفيه الندب على الدوام على ما وظَّفه الإنسان على نفسه من العبادة، وفيه جواز الإخبار عن الأعمال الصالحة والأوراد ومحاسن الأعمال، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الرياء، وفيه الإشارة إلى الاقتداء بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام. * * * الحديث الثاني عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود؛ كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا)) . قال الحافظ: قال المهلب: كان داود - عليه السلام - يجمُّ نفسه بنوم أول الليل ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه: ((هل من سائل فأعطيه سؤله)) ، ثم يستدرك بالنوم ما يستريح به من نصَب القيام في بقية الليل، وإنما صارت هذه الطريقة أحب من أجل الأخذ بالرفق للنفس التي يخشى منها السآمة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يملُّ حتى تملُّوا، والله يحبُّ أن يديم فضله ويوالي إحسانه)) ، وإنما كان ذلك أرفق لأن النوم بعد القيام يريح البدن ويذهب ضرر السهر وذبول الجسم، بخلاف السهر إلى الصباح، وفيه من المصلحة أيضًا استقبال صلاة الصبح وأذكار النهار بنشاط وإقبال، انتهى، وبالله التوفيق. * * * الحديث الثالث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أوصاني "خليلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أُوتِر قبل أن أنام". فيه استحباب صلاة الضحى، واستحباب صيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، واستحباب الإيتار قبل النوم لِمَن لم يَثِقْ بالقيام آخر الليل. قال الحافظ: (الخليل) الصديق الخالص، الذي تخلَّلت محبَّته القلب فصارت في خلاله؛ أي: في باطنه. واختلف هل الخلة أرفع من المحبة أو بالعكس، وقول أبي هريرة هذا لا يعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)) ؛ لأن الممتنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 أن يتَّخذ هو - صلى الله عليه وسلم - غيره خليلاً لا العكس، ولا يُقال: إن المخاللة لا تتمُّ حتى تكون من الجانبين؛ لأنَّا نقول: إنما نظر الصحابي إلى أحد الجانبين فأطلق ذلك، أو لعلَّه أراد مجرَّد الصحبة أو المحبة، قال: والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام ليدخل في الواجب منها بانشراح، ولينجبر ما لعله يقع فيه من نقص. ومن فوائد ركعتي الضحى أنها تجزى عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في كلِّ يوم، وهي ثلاثمائة وستون مفصلاً، كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر، وقال فيه: ((ويجزي من ذلك ركعتا الضحى)) ، انتهى. * * * الحديث الرابع عن محمد بن عباد قال: "سألت جابر بن عبد الله: أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم". وزاد مسلم: "ورب الكعبة". * * * الحديث الخامس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده)) . حديث جابر مطلق في النهي عن صوم يوم الجمعة، وهو محمول على صومه مفردًا، كما بيَّن في حديث أبي هريرة فهو مقيَّد به. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده)) ؛ رواه الحاكم وغيره، والأحاديث تدلُّ على كراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الحديث السادس عن أبي عبيدة مولى بن أزهر - واسمه سعد بن عبيد - قال: "شهدت العيد مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر الذي تأكلون من نُسُكِكم". قال الحافظ: وفي الحديث تحريم صوم يومي العيد سواء النذر والكفارة والتطوُّع والقضاء والتمتُّع، وهو بالإجماع، انتهى. * * * الحديث السابع عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يومين: النحر، والفطر، وعن اشتمال الصَّمَّاء، وأن يحتبي الرجل في ثوبٍ واحد، وعن الصلاة بعد الصبح والعصر"؛ أخرجه مسلم بتمامه، وأخرج البخاري الصوم فقط. هذا الحديث أخرجه البخاري في هذا الباب بتمامه، وأخرجه في (باب ما يستر من العورة) ، ولفظه: عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اشتمال الصَّمَّاء، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء". قال الحافظ: قوله: "عن اشتمال الصَّمَّاء" قال أهل اللغة: هو أن يجلل جسده بالثوب لا يرفع منه جانبًا ولا يبقي ما يخرج منه يده. قال ابن قتيبة: سميت صمَّاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 لأنه يسد المنافذ كلها فتصير كالصخرة الصمَّاء التي ليس فيها خرق. وقال الفقهاء: هو أن يلتحف بالثوب ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه فيصير فرجه باديًا. قال النووي: فعلى تفسير أهل اللغة يكون مكروهًا؛ لئلا يعرض له حاجة فيتعسر عليه إخراج يده فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء يحرم؛ لانكشاف العورة. قال الحافظ: ظاهر سياق المصنف من رواية يونس في اللباس، أن التفسير المذكور فيها مرفوع وهو موافق لما قاله الفقهاء، ولفظه: و (الصمَّاء) أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقَّيه، وعلى تقدير أن يكون موقوفًا فهو حجَّة على الصحيح؛ لأنه تفسيرٌ من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر. قوله: "وأن يحتبي" (الاحتباء) أن يقعد على أليتيه وينصب ساقيه ويلف عليه ثوبًا، ويقال له: الحبوة، وكانت من شأن العرب، وفسَّرها في رواية يونس المذكورة بنحو ذلك، انتهى. * * * الحديث الثامن عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صام يومًا في سبيل الله بَعَّدَ الله وجهه عن النار سبعين خريفًا)) . (الخريف) : زمانٌ معلوم من السنة، والمراد به هنا العام، والفضل المذكور محمولٌ على مَن لم يضعفه الصوم عن الجهاد، قال ابن الجوزي: إذا أطلق ذكر في سبيل الله فالمراد به الجهاد، وقال القرطبي: (سبيل الله) طاعة الله، فالمراد: مَن صام قاصدًا وجه الله. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 باب ليلة القدر الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرى رؤياكم قد تواطَأت في السبع الأواخر، فمَن كان منكم متحرِّيها فليتحرَّها في السبع الأواخر)) . (ليلة القدر) : هي الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن؛ قال الله - تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] . قال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزَّة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع. وقال البغوي: سميت ليلة القدر لأنها ليلة تقدير الأمور والأحكام، يقدِّر الله فيها أمر السنة في عباده وبلاده إلى السنة المقبلة كقوله - تعالى -: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] ، انتهى. وفي حديث أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبدٍ قائم أو قاعد يذكر الله - عزَّ وجلَّ)) ؛ ذكره ابن الجوزي. وقد قال الله - تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ} الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5] . قوله: "أروا ليلة القدر في المنام"؛ أي: قيل لهم في المنام: إنها في السبع الأواخر؛ يعني: أواخر الشهر. قوله: ((تواطأت)) ؛ أي: توافقت وزنًا ومعنًى، قال الحافظ: وفي هذا الحديث دلالةٌ على عظيم قدر الرؤيا، وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر)) . قال الحافظ: ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره لا في ليلة بعينها، وهذا هو الذي يدلُّ عليه مجموع الأخبار الواردة فيها. * * * الحديث الثالث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عامًا حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قال: ((مَن اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر؛ فقد رأيت هذه الليلة ثم أُنسِيتها، وقد رأيتُني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتَمِسوها في العشر الأواخر، والتَمِسوها في كل وتر)) ، فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوكَف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجهه أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين". قوله: "الأوسط" قال الحافظ: هكذا وقع في أكثر الروايات، والمراد العشر الليالي، وكان من حقِّها أن توصَف بلفظ التأنيث، لكن وصفت بالمذكر على إرادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الوقت أو الزمان، والتقدير الثلث كأنه قال: الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر، انتهى. قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليلٌ لِمَن يرجح ليلة إحدى وعشرين في طلب ليلة القدر، ومَن ذهب إلى أن ليلة القدر تنتقل في الليالي فله أن يقول: كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين، ولا يلزم من ذلك أن تترجَّح هذه الليلة مطلقًا، والقول بتنقُّلها حسن؛ لأن فيه جمعًا بين الأحاديث، وحثًّا على إحياء جميع تلك الليالي، انتهى. وقال الحافظ بعدما ذكر الاختلاف فيها على ستة وأربعين قولاً، وأرجحها كلها أنها في وترٍ من العشر الأخير، وأنها تنتقل، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين. قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسِها بخلاف ما لو عُيِّنت لها ليلة لاقتصر عليها كما تقدَّم نحوه في ساعة الجمعة. قال: وفي حديث أبي سعيد من الفوائد تركُ مسح جبهة المصلِّي، وفيه جواز السجود في الطين، وفيه الأمر بطلَب الأَوْلَى والإرشاد إلى تحصيل الأفضل، وأن النسيان جائزٌ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نقصَ عليه في ذلك لا سيَّما فيما لم يؤذَن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلَّق بالتشريع؛ كما في السهو في الصلاة، أو بالاجتهاد في العبادة؛ كما في هذه القصة، وفيه استعمال رمضان بدون شهر، واستح باب الاعتكاف فيه وترجيح اعتكاف العشر الأخير، وأن من الرؤيا ما يقع تعبيره مطابقًا، وترتُّب الأحكام على رؤيا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام. * * * باب الاعتكاف الحديث الأول عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله - تعالى - ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 اعتكف أزواجه من بعده. وفي لفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كلِّ رمضان، فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه. (الاعتكاف) : هو المقام في المسجد لطاعة الله - تعالى - على صفة مخصوصة، وهو قربة وطاعة؛ قال الله - تعالى -: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] ، وقال - تعالى -: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] . وهو في اللغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه، برًّا كان أو غيره، ومنه قوله - تعالى -: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] . قال ابن دقيق العيد: وحديث عائشة فيه استحباب مطلق الاعتكاف، واستحبابه في رمضان بخصوصه، وفي العشر الأواخر بخصوصها، وفيه تأكيد هذا الاستحباب بما أشعر به اللفظ من المداوَمَة، وبما صرَّح به في الرواية الأخرى من قولها: "في كل رمضان"، وبما دلَّ عليه من عمل أزواجه من بعده، وفيه دليلٌ على استواء الرجل والمرأة في هذا الحكم، انتهى. قوله: "فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه" فيه أن أوَّل الوقت الذي يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، وهو قول الأوزاعي والليث والثوري، ورواية عن الإمام أحمد، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وقال الجمهور: يدخل قبل غروب الشمس. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتَكَفه، وأنه أمر بخِبَاء فضُرِب لمَّا أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فأمرت زينب بخبائها فضُرِب، وأمرت غيرها من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبائها فضُرِب، فلمَّا صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر نظر فإذا الأخبية فقال: ((البر يردن)) ، فأمر بخبائه ففوض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأواخر من شوال"؛ رواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الجماعة إلا الترمذي، لكن له منه: "كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه". وفي اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - في شوال دليلٌ على استحباب قضاء النوافل المعتادة إذا فاتت، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تُرَجِّل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض وهو معتكِف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه، وفي رواية: وكان لا يدخل البيت إلا لحاجه الإنسان، وفي رواية: أن عائشة قالت: "إني كنت لا أدخل البيت إلا للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارَّه". في الحديث دليلٌ على أن خروج رأس المعتكف من المسجد لا يُبطِل اعتكافه، وفيه دليلٌ على طهارة بدن الحائض، وفيه دليلٌ على عدم خروج المعتكِف إلاَّ لما لا بُدَّ منه، وفيه جواز عيادة المريض على وجه المرور من غير تعريج. قوله: "تُرَجِّل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ أي: تمشِّط رأسه وتدهنه. قال الحافظ: وفي الحديث جواز التنظُّف والتطيُّب والغسل والحلق والتزيُّن إلحاقًا بالترجُّل، والجمهور على أنه لا يُكرَه في المسجد. قوله: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" قال الحافظ: وفسَّرها الزهري بالبول والغائط، وقد اتَّفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لهما فتوضَّأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق بهما القيء والفصد لِمَن احتاج إليه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الحديث الثالث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة - وفي رواية: يومًا - في المسجد الحرام، قال: ((فأوفِ بنذرك)) ، ولم يذكر بعض الرواة يومًا ولا ليلة. استدل بالحديث على أن الصوم ليس بشرطٍ في الاعتكاف؛ لأن الليل ليس وقتًا للصوم، فلو كان شرطًا لأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه دليلٌ على لزوم الوفاء بنذر القربة، وفيه أنه لا يشترط للاعتكاف حدٌّ معين. * * * الحديث الرابع عن صفية بنت حيي - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتكِفًا، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في بيت أسامة بن زيد، فمرَّ رجلان من الأنصار، فلمَّا رأَيَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرَعَا في المشي، فقال: ((على رِسْلِكُمَا، إنها هي صفية بنت حُيَيٍّ)) ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خفتُ أن يقذف في قلوبكما شرًّا - أو قال: شيئًا)) ، وفي رواية: أنها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الأواخر من رمضان، فتحدَّثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - معها يقلبها حتى إذا بلغ باب المسجد عند باب أم سلمة ... ثم ذكره بمعناه. فيه دليلٌ على جواز زيارة المرأة للمعتكِف، وجواز التحدُّث معه، والمشي مع الزائر. قولها: "يقلبني"؛ أي: يردُّها إلى منزلها. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد جواز اشتغال المعتكِف بالأمور المباحة؛ من تشييع زائره، والقيام معه، والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة، وزيارة المرأة للمعتكف، وبيان شفَقَتِه - صلى الله عليه وسلم - على أمته، وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم، وفيه التحرُّز من التعرُّض لسوء الظن، والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار. قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكِّد في حق العلماء ومَن يقتدي به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجِب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع يعلمهم، ومن ثَمَّ قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبيِّن للمحكوم عليه وجهَ الحكم إذا كان خافيًا؛ نفيًا للتهمة، ومن هنا يظهر خطأ مَن يتظاهر بمظاهر السوء ويعتذر بأنه يجرِّب بذلك على نفسه، وقد عَظُم البلاء بهذا الصنف، والله أعلم. وفيه إضافة بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهن، وفيه جواز خروج المرأة ليلاً، وفيه قول: سبحان الله عند التعجُّب، وقد وقعت في الحديث لتعظيم الأمر وتهويله وللحياء من ذكره كما في حديث أم سليم، انتهى وبالله التوفيق. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 كتاب الحج باب المواقيت الحديث الأول عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقَّت لأهل المدينة ذا الحُلَيفة، ولأهل الشام الجُحْفَة، ولأهل نجد قَرْنَ المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، هن لهن ولِمَن أتى عليهن من غير أهلهن ممَّن أراد الحج أو العمرة، ومَن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهلُ مكة من مكة. * * * الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُهَلِّل أهل المدينة من ذي الحُلَيْفَة، وأهل الشام من الجُحْفَة، وأهل نجد من قَرْن)) ، قال عبد الله: وبلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ويُهِلُّ أهل اليمن من يَلَمْلَم)) . الحج أحد أركان الإسلام الخمسة؛ قال الله - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] ، و (السبيل) : الزاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 والراحلة، وقال - تعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، والحج في اللغة: القصد، وهو في الشرع: القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة. قوله: "باب المواقيت" هي جمع ميقات، قوله: "وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة ... " إلى آخره؛ أي: حدَّد هذه المواضع للإحرام، والتوقيت: التحديد والتعيين، وقوله في حديث ابن عمر: ((يُهِلُّ)) ؛ أي: يحرم، قال الحافظ: المُهَلُّ موضع الإهلال، وأصله رفع الصوت؛ لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية عند الإحرام، ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعًا. قوله: ((هن لهن)) ؛ أي: المواقيت للجماعات، وفي رواية: ((هن لهم)) ؛ أي: المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة، قال الحافظ: ويدخل في ذلك مَن دخل بلدًا ذات ميقات ومَن لم يدخل، فالذي لا يدخل لا إشكال فيه إذا لم يكن له ميقات معين، والذي يدخل فيه خلافٌ كالشامي إذا أراد الحج فدخل المدينة، فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها، ولا يؤخر حتى يأتي الجُحْفَة التي هي ميقاته الأصلي، فإن أخَّر أساء ولزمه دم عند الجمهور. قوله: ((ممن أراد الحج أو العمرة)) قال الحافظ: فيه دلالة على جواز دخول مكة بغير إحرام. قوله: ((ومَن كان دون ذلك)) ؛ أي: بين الميقات ومكة، ((فمن حيث أنشأ)) ؛ أي: فميقاته من حيث إنشاء الإحرام؛ إذ السفر من مكانه إلى مكة. قال الحافظ: ويؤخذ منه أن مَن سافَر غير قاصد للنسك فجاوَز الميقات ثم بدَا له بعد ذلك النُّسُك أنه يُحرِم من حيث تجدَّد له القصد ولا يجب عليه الرجوع إلى الميقات؛ لقوله: ((فمن حيث أنشأ)) . قوله: ((حتى أهل مكة من مكة)) قال الحافظ: أي: لا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه، بل يحرمون من مكة كالآفاقي الذي بين الميقات ومكة وهذا خاصٌّ بالحاج، وأمَّا المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل، واختلف فيمن جاوز الميقات مريدًا للنسك فلم يحرم، فقال الجمهور: يأثم ويلزمه دم، قال الجمهور: لو رجع إلى الميقات قبل التلبُّس بالنُّسُك سقط عنه الدم، انتهى ملخَّصًا. فائدة: قال الحافظ: الأفضل في كلِّ ميقات أن يحرم من طرفه الأبعد من مكة، فلو أحرم من طرفه الأقرب جاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 تتمَّة: وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لما فُتِح هذان المصران أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّ لأهل نجد قرنًا وهو جور عن طريقنا، وإنَّا إن أردنا قرنًا شقَّ علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق". قال الحافظ: والمصران: الكوفة، والبصرة، وهما سرتا العراق، والمراد بفتحهما غلَبَة المسلمين على مكان أرضهما، وإلاَّ فهما من تمصير المسلمين، انتهى. قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن إحرام أهل العراق من ذات عرق إحرام من الميقات. قال الموفق: ومَن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذَى أقرب المواقيت إليه أحرم، انتهى، والله أعلم. * * * باب ما يلبس المحرم من ثياب الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلبس القُمُص ولا العمائم ولا السراويل ولا البرانس ولا الخفاف، إلا مَن لا يجد نعلين فليلبس خفَّين وليقطعهما من أسفل الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئًا مسَّه زعفران أو وَرْسٌ)) ، وللبخاري: ((ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفَّازين)) . * * * الحديث الثاني عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: سمعت النبي - صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 عليه وسلم - يخطب بعرفات: ((مَن لم يجد نعلَين فليلبس الخفَّين، ومَن لم يجد إزارًا فليلبس السراويل)) . قوله: "أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلبس القُمُص ... )) إلى آخره"، قال النووي، قال العلماء: هذا الجواب من بديع الكلام وأجزله؛ لأن ما لا يلبس منحصِر فحصَل التصريح به، وأمَّا الملبوس الجائز فغير منحصِر، فقال: لا يلبس كذا؛ أي: ويلبس ما سواه، انتهى. قال عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم، وأنه نبَّه بالقميص والسراويل على كلِّ مَخِيط، وبالعمائم والبرانس على كلِّ ما يغطِّي الرأس بهم خيطًا أو غيره، وبالخفاف على كلِّ ما يستر الرجل. قال الحافظ: والمراد بتحريم المَخِيط ما يلبس على الموضع الذي جعل له ولو في بعض البدن، فأمَّا لو ارتدى بالقميص مثلاً فلا بأس. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ما ذكر، وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسَّه الزعفران أو الوَرْسُ. قال الحافظ: ومما لا يضرُّ الانغماس في الماء، فإنه لا يسمى لابسًا، وكذا ستر الرأس باليد. قوله: ((إلا مَن لا يجد نعلين فليلبس خفَّين)) ، وفي رواية: ((وليُحرِم أحدكم في إزار ورداء ونعلَين، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفَّين)) . قوله: ((وليقطعهما من أسفل الكعبين)) ، وفي رواية: ((حتى يكونا تحت الكعبين)) ، قال الحافظ: والمراد كشف الكعبين في الإحرام وهما العظمان الناتئان عند مِفْصَل الساق والقدَم، وظاهر الحديث على أنه لا فدية على مَن لبسهما إذا لم يجد النعلين، واستدلَّ به على اشتراط القطع، خلافًا للمشهور عن أحمد؛ فإنه أجاز لبس الخفين من غير قطع لإطلاق حديث ابن عباس، وتُعُقِّب بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيَّد فينبغي أن يقول بها هنا. وقال الشافعي: زيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس؛ لاحتمال أن تكون عزَبَت عنه، أو شك، أو قالها فلم ينقلها عنه بعض رواته، انتهى. وقال الموفق: حديث ابن عمر متضمِّن لزيادةٍ على حديث ابن عباس والزيادة من الثقة مقبولة، والأَوْلَى قطعهما؛ عملاً بالحديث الصحيح وخروجًا من الخلاف وأخذًا بالاحتياط، انتهى. قال الحافظ: قال العلماء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 والحكمة في منع المحرم من اللباس والطيب البعدُ عن الترفُّه والاتِّصاف بصفة الخاشع، وليتذكَّر بالتجرُّد القدوم على ربه؛ فيكون أقرب إلى مراقبته وامتناعه من ارتكاب المحظورات. قوله: ((ولا يلبس من الثياب شيئًا مسه زعفران أو وَرْسٌ)) قال الحافظ: هو نبتٌ أصفر طيِّب الريح يُصبَغ به. قال ابن العربي: ليس الوَرْسُ بطيب ولكنه نبَّه به على اجتناب الطيب وما يشبهه في ملاءمة الشمِّ، فيُؤخَذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرِم وهو مجمَع عليه فيما يقصد به التطيُّب، انتهى. قال مالك في "الموطأ": إنما يُكرَه لبس المصبغات؛ لأنها تنفض. وقال الشافعية: إذا صار الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تَفُحْ له رائحة لم يمنع. قال الحافظ: والحجَّة فيه حديث ابن عباس بلفظ: "ولم ينهَ عن شيء من الثياب إلا المزعفرة التي تردع الجلد"؛ رواه البخاري. وأمَّا المغسول فقال الجمهور: إذا ذهبت الرائحة جاز، انتهى. وقال البخاري: (باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجَّل ويدهن) . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يشم المحرم الريحان، وينظر في المرآة، ويتداوَى بما يأكل الزيت والسمن. وقال عطاء: يتختَّم ويلبس الهِمْيَان، وطاف ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو محرِم وقد حزم على بطنه بثوب، ولم ترَ عائشة - رضي الله عنها - بالتبان بأسًا للذين يرحلون هودجها، ثم ذكر حديث عائشة: "كنت أطيِّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه حين يحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت". قال الحافظ: واختلف في الريحان؛ فقال إسحاق: يباح، وتوقَّف أحمد، وقال الشافعي: يحرم، وكرهه مالك والحنفية. ومنشأ الخلاف أن كل ما يُتَّخذ منه الطيب يحرم بلا خلاف، وأما غيره فلا. قال: و (الهِمْيَان) يشبه تكة السراويل، يجعل فيها النفقة ويشد في الوسط، قال ابن عبد البر: أجاز ذلك فقهاء الأمصار، وأجازوا عقده إذا لم يمكن إدخال بعضه في بعض. قال الحافظ: والتُّبَّان: سراويل قصيرة بغير أكمام، وكأنه هذا رأي رأتْه عائشة، وإلا فالأكثر على أنه لا فرق بين التبان والسراويل في منعه للمحرم، انتهى. وعن يعلى بن أمية أنه قال لعمر - رضي الله عنه -: "أرِني النبي حين يُوحَى إليه، قال: فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجِعْرَانة ومعه نفرٌ من أصحابه، جاءه رجل فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمِّخ بطيب؟ فسكت النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 -صلى الله عليه وسلم - ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر - رضي الله عنه - إلى يعلى، فجاء يعلى وعلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوب قد أظلَّ به، فأدخل رأسه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمر الوجه وهو يغطُّ، ثم سُرِّي عنه، فقال: ((أين الذي سأل عن العمرة؟)) ، فأتى بالرجل فقال: ((اغسل الطِّيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجَّتك)) ، قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم"؛ رواه البخاري. قال الحافظ: واستدلَّ بحديث يعلى على منع استدامة الطيب بعد الإحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن، وهو قول مالك ومحمد بن الحسن، وأجاب الجمهور بأن قصة يعلى كانت بالجِعْرَانة، وهي في سنة ثمانٍ بلا خلاف، وقد ثبت عن عائشة أنها طيَّبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديها عند إحرامه، وكان ذلك في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر، وبأن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخلوق لا مطلق الطيب، فلعلَّ علة الأمر فيه ما خالَطَه من الزعفران، وقد ثبت النهي عن تَزَعْفُر الرجل مطلقًا، محرمًا أو غير محرم، انتهى. قال الموفق: وإن طيَّب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه، فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه، فإن لبسه افتدى؛ لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة، وكذلك إن نقل الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر افتدى؛ لأنه تطيب في إحرامه، وكذا إن تعمَّد مسَّه بيده أو نحَّاه من موضعه ثم ردَّه إليه، انتهى. قلت: وما ذكره العلماء - رحمهم الله تعالى - من تعمُّد مس الطيب الذي ببدنه وهو محرم لا يحترز منه كثيرٌ من الناس، وقد لا يتطيَّب بعض الجَهَلة حتى يحرم، فإذا كان المقصود من ترك الطيب للمحرم عدم الترفُّه فالأولى عندي ترك استدامته كما قال مالك خصوصًا لراكبي السيارات، فإنهم يقطعون الطريق في مسافة قليلة، والطيب عند الإحرام إنما يُقصَد به دفع الرائحة الكريهة بعد ذلك، والله أعلم. وقد روى ابن ماجه في "سننه" والبغوي في "شرح السنة" عن ابن عمر قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما الحاج؟ قال: ((الشَّعِثُ التَّفِلُ)) . وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان يوم عرفة إن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثًا غبرًا ضاحين من كل فجٍّ عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم)) ؛ الحديث رواه في "شرح السنة". قوله: ((ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفَّازين)) النقاب عند العرب هو الذي يبدو منه محجر العين، والقفَّازان: تثنيه قفَّاز؛ شيء يعمل لليدين يحشى بقطن تلبسهما المرأة للبرد. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها، إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفًا تستر به عن نظر الرجال ولا تخمره، إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت: "كنَّا نخمِّر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر"؛ تعني: جدتها. قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً، كما جاء عن عائشة قالت: "كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرَّ بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات فإذا جاوزنا رفعناه"، انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: ويجوز للمرأة المحرمة أن تغطي وجهها بملاصق خلا النقاب والبرقع، ويجوز عقد الرداء في الإحرام ولا فدية عليه فيه، انتهى. تتمَّة: عن جابر - رضي الله عنه - قال: "حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنا النساء والصبيان، فلبَّينا عن الصبيان ورمينا عنهم"؛ رواه أحمد وابن ماجه. قال الشوكاني، قال ابن بطال: أجمع أئمَّة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ، إلا أنه إذا حج كان له تطوُّعًا عند الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ إحرامه، ولا يلزمه شيء من محظورات الإحرام، وإنما يحجُّ به على جهة التدريب، وقد احتج أصحاب الشافعي بحديث ابن عباس على أن الأم تُحرِم عن الصبي، وقال ابن الصباغ ليس في الحديث دلالة على ذلك، انتهى. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي ركبًا بالروحاء، فقال: ((مَن القوم؟)) ، قالوا: المسلمون، قالوا: مَن أنت؟ فقال: ((رسول الله)) ، فرفعت إليه امرأة صبيًّا فقالت: ألهذا حج؟ قال: ((نعم، ولك أجر)) ؛ رواه مسلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)) ، قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها ((لبيك وسعديك والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل)) ؛ معنى (التلبية) : الإجابة. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لما فرغ إبراهيم - عليه السلام - من بناء البيت قيل له: أذِّن في الناس بالحج، قال: ربِّ، وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن وعليَّ البلاغ، قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس، كُتِب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه مَن بين السماء والأرض، أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون"؛ رواه ابن أبي حاتم. وفي رواية: "فأجابوا بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأوَّل مَن أجابه أهل اليمن، فليس حاجٌّ يحجُّ من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا مَن كان أجاب إبراهيم يومئذ". قال ابن المنير: وفي مشروعية التلبية تنبيهٌ على إكرام الله - تعالى - لعباده، بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاءٍ منه - سبحانه وتعالى. قوله: "وكان ابن عمر يزيد فيها ... " إلى آخره، فيه دليلٌ على جواز الزيادة على ما وَرَد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، قال الشافعي: ولا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر وغيره من تعظيم الله ودعائه، غير أن الاختيار عندي أن يفرد ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. قال الحافظ: وهو شيبهٌ بحال الدعاء في التشهُّد فإنه قال فيه: ((ثم ليتخيَّر من المسألة والثناء ما شاء)) ؛ أي: بعد أن يفرغ من المرفوع، انتهى. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان من تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لبيك إله الحق لبيك)) ؛ أخرجه النسائي وابن ماجه. قوله: ((لبيك وسعديك)) ؛ أي: إجابة بعد إجابة، وإسعادًا بعد إسعاد. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الحديث الرابع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم)) . قوله: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر)) خصَّ المؤمنة بالذكر لأن صاحب الإيمان هو الذي ينتفع بخطاب الشارع وينقاد له. قوله: ((أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم)) وفي حديث ابن عباس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) ، فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج، فقال: ((أخرج معها)) . قال الموفق: و (المحرم) : زوجها، أو مَن تحرم عليه على التأييد، بنَسَب أو سبب مباح. قال الحافظ: واستدلَّ به على عدم جواز السفر للمرأة بلا محرم، وهو إجماعٌ في غير الحج والعمرة والخروج من دار الشرك، ومنهم مَن جعل ذلك من شرائط الحج. قال أبو الطيب الطبري: الشرائط التي يجب بها الحج على الرجل يجب بها على المرأة، فإذا أرادت أن تؤدِّيه فلا يجوز لها إلا من محرم أو زوج أو نسوة ثقات، انتهى، والله أعلم. * * * باب الفدية الحديث الأول عن عبد الله بن مغفل قال: "جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية فقال: نزلت فيَّ خاصة وهي لكم عامة، حملت إلى رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ((ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى - أو ما كنت أرى الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟)) ، فقلت: لا، قال: ((فصُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكلِّ مسكين نصف صاع)) ، وفي رواية: "أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطعم فرقًا بين ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام". قال الله - تعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] . قال مجاهد وغيره: الإحصار من عدو أو مرض أو كسر. قال البغوي: قوله - تعالى -: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] ؛ معناه: لا تحلقوا رؤوسكم في حال الإحرام إلا أن تضطرُّوا إلى حلقه لمرض أو لأذًى في الرأس من هوام أو صداع، انتهى. قال الموفق: ومَن أحصر بمضر أو ذهاب نفقة لم يكن له التحلُّل، فإن فاته الحج تحلَّل بعمرة، ويحتمل أنه يجوز له التحلُّل كمَن حصره العدو، انتهى. قوله: "ويحتمل أنه يجوز له التحلل، هو رواية عن أحمد، وروى عن ابن مسعود وهو قول عطاء والنخعي والثوري وأصحاب الرأي وشيخ الإسلام ابن تيميَّة. قال الزركشي: ولعله أظهر؛ لظاهر قوله - تعالى -: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] ، ولحديث الحجاج بن عمرو، انتهى. والحديث رواه أحمد عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن كسر أو وجع أو عرج فقد حلَّ وعليه حجة أخرى)) ، قال فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق. قوله: ((ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى)) ، أو: ((ما كنت أرى الجهد بلغ منك ما أرى)) ، شكٌّ من الراوي، هل قال: الوجع أو الجهد. و (الجَهْد) بالفتح: المشقَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 قوله: ((أتجد شاة)) ، فقلت: لا، قال ابن عبد البر: فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا إيجابه. قوله: ((فصُمْ ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع)) ؛ أي: من كل شيء، ولأحمد: ((لكل مسكين نصف صاع من طعام)) . قوله: "نزلت في خاصة وهي لكم عامة"، في رواية عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه وأنه يسقط على وجهه، فقال: ((أيؤذيك هوامك؟)) ، قال: نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يتبيَّن لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطعم فرقًا بين ستة، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام"، قال الحافظ: والصيام المطلق في الآية مقيد بما ثبت في الحديث بالثلاثة. قال ابن التين وغيره: جعل الشارع هنا صوم يوم معادلاً بصاع. وفي الفطر في رمضان عدل مُدٍّ، وكذا في الظهار والجماع رمضان، وفي كفارة اليمين بثلاثة أمداد وثلث، وفي ذلك أقوى دليل على أن القياس لا يدخل في الحدود والتقديرات. قال: وفي حديث كعب بن عجرة من الفوائد أن السنة مبيِّنة لمجمل الكتاب لإطلاق الفدية في القرآن وتقييدها بالسنَّة، وتحريم حلق الرأس على المحرم، والرخصة له في حلقه إذا آذَاه القمل أو غيره من الأوجاع، وفيه تلطُّف الكبير بأصحابه وعنايته بأحوالهم وتفقُّده لهم، وإذا رأى ببعض أتباعه ضررًا سأل عنه وأرشده إلى المخرج منه، انتهى. واستدلَّ به على أن الفدية لا يتعيِّن لها مكان، وبه قال أكثر التابعين. قال الموفَّق: وكلُّ هدى أو إطعام فهو لمساكين الحرم إذا قدر على إيصاله إليهم إلا فدية الأذى واللبس ونحوهما إذا وجد سببها في الحلِّ فيفرقها حيث وجد سببها، ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر، وأمَّا الصيام فيجزيه بكل مكان، انتهى، والله أعلم. * * * باب حرمة مكة الحديث الأول عن أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي العدوي - رضي الله عنه - أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 قال لعمرو بن سعيد بن العاص وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدِّثك قولاً قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح، فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به، أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن مكة حرَّمها الله يوم خلق السموات والأرض ولم يحرمها الناس، فلا يحلُّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإنْ أحدٌ ترخَّص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب)) . فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بدمٍ ولا فارًّا بخربة)) ، ((الخربة)) : بالخاء المعجمة والراء المهملة، قيل: الجناية، وقيل: البلية، وقيل: التهمة، وأصلها في سرقة الإبل، قال الشاعر: وَالْخَارِبُ اللِّصُّ يُحِبُّ الْخَارِب قوله: "وهو يبعث البعوث إلى مكة"؛ أي: يرسل الجيوش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير؛ لكونه امتنع عن مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم بالحرم، وكان عمرو والي يزيد على المدينة. قال الحافظ: عمرو ليست له صحبة، ولا كان من التابعين بإحسان، وهو المعروف بالأشدق. قوله: "ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح"؛ أي: ثاني يوم الفتح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قال الحافظ: يُستَفَاد منه حسن التلطُّف في مخاطبة السلطان؛ ليكون أدعى لقبوله النصيحة، وأن السلطان لا يُخاطَب إلا بعد استئذانه، ولا سيَّما إذا كان في أمرٍ يعترض به عليه، فترك ذلك والغلظة له يكون سببًا لإثارة نفسه ومعاندة مَن يخاطبه. قوله: "فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به" فيه إشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه. قوله: "أنه حمد وأثنى عليه" قال الحافظ: ويؤخذ منه استحباب الثناء بين يدي تعليم العلم وتبيين الأحكام والخطبة في الأمور المهمة. قوله: ((إن مكة حرَّمها الله)) قال الحافظ: أي: حكَم بتحريمها وقضاه، وظاهره أن حكم الله - تعالى - في مكة أن لا يقاتل أهلها، ويؤمن مَن استجار بها ولا يتعرَّض له، وهو أحد الأقوال المفسِّرين في قوله - تعالى -: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] ، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] . قوله: ((ولم يحرمها الناس)) ؛ أي: إن تحريمها ثابتٌ بالشرع لا مدخل للعقل فيه، أو المراد أنها من محرَّمات الله فيجب امتثال ذلك، وليس من محرَّمات الناس؛ يعني: في الجاهلية كما حرَّموا أشياء من عند أنفسهم. قوله: ((فلا يحلُّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر)) قال الحافظ: فيه تنبيهٌ على الامتثال؛ لأن مَن آمَن بالله لزمته طاعته، ومَن آمَن باليوم الآخر لزِمَه امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه؛ خوف الحساب عليه. قوله: ((أن يسفك بها دمًا)) ، استدلَّ به على تحريم القتل والقتال بمكة. قوله: ((ولا يعضد بها شجرة)) ؛ أي: لا يقطع. قال القرطبي: خصَّ الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما ينبته الله - تعالى - من غير صنع آدمي؛ فأمَّا ما ينبت بمعالجة آدمي فاختلف فيه والجمهور على الجواز، انتهى. واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول؛ فقال مالك: لا جزاء فيه بل يأثم، وقال عطاء: يستغفر، وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي، وقال الشافعي: في العظيمة بقرة، وفيما دونها شاة، وقال الموفق: ومَن قلعه ضَمِن الشجرة الكبيرة ببقرة، والصغيرة بشاة، والحشيش بقيمته، والغصن بما نقص، وقال أيضًا: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشجر بغير صنع آدمي ولا بما يسقط من الورق، نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافًا. قوله: ((فإن أحد ترخَّص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار)) قال الحافظ: مقدارها ما بين طلوع الشمس إلى صلاة العصر، ولفظ الحديث عند أحمد من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: لما فتحت مكة قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر فأَذِن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: كفوا السلاح، فلقي رجل من خزاعة رجلاً من بني بكر من غَدٍ بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام خطيبًا فقال - ورأيته مسندًا ظهره إلى الكعبة ... فذكر الحديث. قوله: ((وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس)) ، في رواية: ((ثم هي حرام إلى يوم القيامة)) . قوله: ((فليبلغ الشاهد الغائب)) فيه دليلٌ على وجوب تبليغ العلم، وعلى قبول خبر الواحد. قوله: "أنا أعلم بذلك يا أبا شريح" قال ابن حزم: لا كرامة للطيم الشيطان يكون أعلم من صاحب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم. قوله: ((إن الحرم لا يعيذ عاصيًا)) ؛ أي: لا يجيره ولا يعصمه. قوله: ((ولا فارًّا)) ؛ أي: هاربًا بدم. قال الحافظ: والمراد: مَن وجوب عليه حدُّ القتل فهرب إلى مكة مستجيرًا بالحرم، وهي مسألة خلاف بين العلماء، وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الحكم مساق الدليل وفي تخصيصه العموم بلا مستند، انتهى. قوله: ((ولا فارًّا بخربة)) قال ابن بطال: الخربة بالضم الفساد، وبالفتح السرقة، وقد تصرَّف عمرو في الجواب وأتى بكلام ظاهره حق، لكن أراد به الباطل، فإن الصحابي أنكر عليه نصب الحرب على مكة، فأجابه بأنها لا تمنع من إقامة القصاص وهو صحيح، إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمرًا يجب عليه فيه شيء من ذلك، انتهى. وعند أحمد: قال أبو شريح: "فقلت لعمرو: قد كنت شاهدًا وكنت غائبًا، وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا وقد بلغتك". قال الحافظ: وفي حديث أبي شريح من الفوائد غير ما تقدَّم: إخبار المرء عن نفسه بما يقتضي ثقته وضبطه لما سمعه ونحو ذلك، وإنكار العالم على الحاكم ما يغيره من أمر الدين والموعظة بلطف وتدريج، والاقتصار في الإنكار على اللسان إذا لم يستطع باليد، ووقوع التأكيد في الكلام للتبليغ، وجواز المجادلة في الأمور الدينية، وفيه الخروج عن عهدة التبليغ والصبر على المكاره لِمَن لا يستطيع بدًّا من ذلك، وفيه شرف مكة، وتقديم الحمد والثناء على القول المقصود؛ وفضل أبي شريح لاتِّباعه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ عنه وغير ذلك. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الحديث الثاني عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفِرتم فانفروا)) . وقال يوم فتح مكة: ((إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحلَّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلَّ لي إلا ساعةً من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا مَن عرفها ولا يختلى خلاه)) ، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال: ((إلا الإذخر)) ، والقين: الحداد. قوله: ((لا هجرة بعد الفتح)) ؛ أي: فتح مكة، قال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على مَن أسلم؛ لقلَّة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلمَّا فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على مَن قام به أو نزل به عدو. قال الحافظ وكانت الحكمة في وجوب الهجرة على مَن أسلم ليسلم من أذى ذَوِيه من الكفار؛ فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] الآية. وهذه الهجرة باقية الحكم في حق مَن أسلم في دار الكفر وقدَر على الخروج منها. وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: ((لا يقبل الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 من مشرك عملاً بعد ما أسلم أو يفارق المشركين)) . ولأبي داود في حديث سمرة مرفوعا ((أنا برئ من كلِّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين)) وهذا محمولٌ على مَن لم يأمن على دينه، انتهى. وقال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام، انتهى. قوله: ((ولكن جهاد ونية)) قال الطيبي وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى: أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن، والنية في جميع ذلك. قال الحافظ: وتضمَّن الحديث بشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن مكة تستمرُّ دار إسلام. قوله: ((وإذا استُنفِرتم فانفروا)) ؛ أي: إذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد فاخرجوا، قال الحافظ: وفي الحديث وجوب تعين الخروج في الغزو على مَن عيَّنه الإمام، وأن الأعمال تعتبر بالنيات، انتهى. قوله: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله)) ؛ أي: بتحريمه، واستدلَّ به على تحريم القتل والقتال بالحرم. فأمَّا القتل فنقل بعضهم الاتِّفاق على جواز إقامة حدِّ القتل فيها على مَن أوقعه فيها، وخص الخلاف بِمَن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم، وممَّن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزي. وأمَّا القتال فقال الماوردي: من خصائص مكة أن لا يحارب أهلها، فلو بغوا على أهل العدل، فإن أمكن ردهم بغير قتال لم يجز، وإن لم يمكن إلا بالقتال؛ فقال الجمهور: يقاتلون؛ لأن قتال البغاة من حقوق الله - تعالى - فلا يجوز إضاعتها، وقال آخَرون: لا يجوز قتالهم، بل يضيق عليهم إلى أن يرجعوا إلى الطاعة. قال الطبري من الشافعية: مَن أتى حدًّا في الحل واستجار بالحرم فللإمام إلجاؤه إلى الخروج منه، وليس للإمام أن ينصب عليه الحرب بل يحاصره ويضيِّق عيه حتى يذعن للطاعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنما أُحِلَّت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس)) ، فعلم أنها لا تحلُّ لأحدٍ بعده بالمعنى الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 حلَّت له به، وهو محاربة أهلها والقتل فيها. وقال ابن المنير: قد أكَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - التحريم بقوله: ((حرمه الله)) ، ثم قال: ((فهو حرام بحرمة الله)) ، ثم قال: ((ولم تحلَّ لي إلا ساعة من نهار)) ، وكان إذا أراد التأكيد وذكر الشيء ثلاثًا، قال: فهذا نصٌّ لا يحتمل التأويل. وقال القرطبي: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - لاعتذاره عمَّا أُبِيح له من ذلك، مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقِّين للقتال والقتل؛ لصدِّهم عن المسجد الحرام وإخراجهم منه وكفرهم، وهذا الذي فهمه أبو شريح وقال به غير واحد من أهل العلم. وقال ابن كثير في تفسير قوله - تعالى -: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] ، يقول - تعالى -: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعًا للصائل، كما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم الحديبية. قوله: ((لا يعضد شوكه)) ؛ أي: لا يقطع. قوله: ((ولا ينفر صيده)) ، قال النووي: يحرم التنفير وهو الإزعاج عن موضعه، فإن نفره عصى سواء تلف أو لا، فإن تلف في نفاره قبل سكوته ضمن وإلا فلا، قال العلماء: يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بأولى. قوله: ((ولا يلتقط لقطته إلا مَن عرفها)) ، وفي حديث أبي هريرة: ((ولا تحلُّ ساقطتها إلا المنشد)) ؛ أي: معرف. قال الحافظ: واستدلَّ بحديثي ابن عباس وأبي هريرة على أن لقطة مكة لا تلتقط للتمليك بل للتعريف خاصة، وهو قول الجمهور. قوله: ((ولا يختلى خلاء)) الخلا: هو الرطب من النبات، واختلاؤه قطعه واحتشاشه. قال الشافعي: لا بأس بالرعي لمصلحة البهائم وهو عمل الناس، بخلاف الاحتشاش فإنه المنهي عنه، فلا يتعدَّى ذلك إلى غيره. قال ابن قدامة: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبَتَه الناس في الحرم من بقل وزرع ومشموم، فلا بأس برعيه واختلائه. قوله: فقال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال: ((إلا الإذخر)) ، وفي رواية: ((فإنه لصاغتنا وقبورنا)) ، كان أهل مكة يسقفون البيوت بالإذخر بين الخشب، ويسددون به الخلل بين اللبنات في القبور، ويستعلمونه بدلاً من الحلفاء في الوقود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قال الحافظ: في تقريره - صلى الله عليه وسلم - للعباس على ذلك دليلٌ على جواز تخصيص العام. وقال الطبري: ساغَ للعباس أن يستثنى الإذخر؛ لأنه احتمل عنده أن يكون المراد بتحريم مكة تحريم القتال دون ما ذكر من تحريم الإختلاء فإنه من تحريم الرسول باجتهاده، فساغ له أن يسأله استثناء الإذخر. وقال ابن المنير: الحق أن سؤال العباس كان على معنى الضراعة، وترخيص النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تبليغًا عن الله إمَّا بطريق الإلهام أو بطريق الوحي. قال الحافظ: وفي الحديث بيان خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر في الحديث، وجواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية، والمبادرة إلى ذلك في المجامع والمشاهد، وعظيم منزلة العباس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنايته بأمر مكة؛ لكونه كان بها أصله ومنشؤه، وفيه رفع وجوب الهجرة من مكة إلى المدينة وإبقاء حكمها من بلاد الكفر إلى يوم القيامة، وأن الجهاد يشترط أن يقصد به الإخلاص، ووجوب النفير مع الأئمة. * * * باب ما يجوز قتله الحديث الأول عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خمسٌ من الدواب كلهن فواسق يُقتَلن في الحرم: الغراب، والحِدَأَة، العقرب، والفأرة، والكلب العقور)) ، ولمسلم: ((خمس فواسق يُقتَلن في الحل والحرم)) . قوله: ((خمس من الدواب كلهن فواسق يُقتَلن في الحرم)) ، وفي حديث ابن عمر: ((خمسٌ من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح)) . قال الحافظ: وعرف بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 أن لا إثم في قتلها على المحرم ولا في الحرم، ويؤخذ من جواز ذلك للحلال وفي الحل من باب الأَوْلَى. قوله: ((الغراب)) في رواية عند مسلم: ((الأبقع)) وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، قال الحافظ، قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شارَكَه في الإيذاء وتحريم الأكل، وقد اتَّفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب، ويقال له: غراب الزرع، ويقال له: الزاغ، وأفتوا بجواز أكله، فبقي ما عداه من الغربان ملتحِق بالأبقع. قوله: ((والحدأة)) ، وفي رواية: ((والحُدَيَّا)) ، قال الحافظ: ومن خواص الحدأة أنها تقف في الطيران، ويقال: إنها لا تختطف إلا من جهة اليمين. قوله: ((والعقرب)) وفي حديث ابن عمر عند أحمد: ((والحية)) بدل: ((والعقرب)) ، قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب، وقال نافع لما قيل له: فالحية؟ قال: لا يختلف فيها. قوله: ((والفأرة)) قال الحافظ: بهمزة ساكنة ويجوز فيها التسهيل، ولم يختلف العلماء في جواز قتلها للمحرم إلا ما حُكِي عن إبراهيم النخعي، فإنه قال: فيها جزاء إذا قتلها المحرم؛ أخرجه ابن المنذر، وقال هذا خلاف السنة وخلاف قول جميع أهل العلم، والفأر أنواع: منها الجرذ، والخلد وفأرة الإبل، وفأرة المسك، وفأرة الغيط وحكمها في تحريم الأكل وجواز القتل سواء، انتهى. قوله: ((والكلب العقور)) قال مالك في "الموطأ": كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم؛ مثل: الأسد والنمر، والفهد والذئب، هو العقور، وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور. وقال بعض العلماء: أنواع الأذى مختلفة، وكأنَّه نبَّه بالعقرب على ما يُشارِكها في الأذى باللسع ونحوه من ذوات السموم؛ كالحية، والزنبور، وبالفأرة على ما يشاركها في الأذى بالنقب والقرض كابن عرس، وبالغراب والحدأة على ما يشاركها في الأذى بالاختطاف كالصقر، وبالكلب العقور على ما يشاركه في الأذى بالعدوان والعقر كالأسد والفهد، انتهى. قال في "القاموس": ابن عرس دُوَيبة أشتر أصلم أسك. تتمَّة: عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الوزع فويسق)) ، ولم أسمعه أمر بقتله"؛ رواه البخاري. قال الحافظ: وقضية تسميته إيَّاه فويسقًا أن يكون قتله مباحًا، وكونها لم تسمعه لا يدلُّ على منع ذلك فقد سمعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 غيرها، انتهى. ونقل ابن عبد البر: الاتِّفاق على جواز قتله في الحل والحرم، وروى ابن أبي شيبة: أن عطاء سُئِل عن قتل الوزغ في الحرم، فقال: إذا آذاك فلا بأس بقتله، والله أعلم. * * * باب دخول مكة وغيره الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المِغْفَر، فلمَّا نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلِّق بأستار الكعبة، فقال: ((اقتلوه)) . قال الحافظ: "المغفر" هو زرد من الدرع على قدر الرأس، وقيل: هو رفرف البيضة، قاله في "المحكم"، وفي "المشارق": هو ما يجعل من فضل دروع الحديد على الرأس مثل القلنسوة، والسبب في قتل ابن خطل وعدم دخوله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن دخل المسجد فهو آمِن)) ، ما روى ابن إسحاق في "المغازي": حدثني عبد الله بن أبي بكر وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل مكة قال: ((لا يقتل أحدٌ إلا مَن قاتل)) ، إلا نفرًا سماهم فقال: ((اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة)) ، منهم عبد الله بن خطل، وعبد الله بن سعد، وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلمًا، فبعثه رسول الله مصدقًا، وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه، وكان مسلمًا، فنزل منزلاً فأمر المولى أن يذبح تيسًا ويصنع له طعامًا، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله، ثم ارتدَّ مشركًا، وكانت له قينتان تغنِّيان بهجاء رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم، انتهى. واستدلَّ بالحديث على جواز دخول مكة بغير إحرام إذا لم يقصد الحج أو العمرة قال البخاري: "باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام ودخل ابن عمر، وإنما أمر النبي - صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 عليه وسلم - بالإهلال لِمَن أراد الحج أو العمرة ولم يذكر الحطابين وغيرهم"، وذكر حديث ابن عباس في المواقيت وحديث الباب، واستدلَّ بالحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة عنوة. قال الحافظ: وفيه مشروعية لبس المِغْفَر وغيره من آلات السلاح حال الخوف من العدو، وأنه لا ينافي التوكُّل، وفيه جواز رفع أخبار أهل الفساد إلى ولاة الأمر، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة ولا النميمة. * * * الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى". قوله: "دخل مكة من كداء من الثنية العليا" وفي حديث عروة عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عام الفتح من كداء أعلى مكة"، قال عروة: وكان هشام يدخل على كلتيهما من كداء وكدا وأكثر ما يدخل من كدا، وكانت أقربهما إلى منزله. قال الحافظ: كداء هي الثنية التي ينزل منها إلى المعلى مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها: الحجون، وكدا عند باب شبيكة بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان. واختلف في المعنى الذي لأجله خالَف - صلى الله عليه وسلم - بين طريقيه؛ فقيل: الحكمة في ذلك المناسبة بجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: ليشهد له الطريقان، وقيل: لأنه - صلى الله عليه وسلم - خرج منها مختفيًا في الهجرة فأراد أن يدخلها ظاهرًا عاليًا، وقيل: لأن مَن جاء من تلك الجهة كان مستقبِلاً للبيت، ويحتمل أن يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح فاستمرَّ على ذلك، والسبب في ذلك قول أبي سفيان بن حرب للعباس: لا أسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 حتى أرى الخيل تطلع من كداء، فقلت: ما هذا؟ قال: شيء طلع بقلبي، وإن الله لا يطلع الخيل هناك أبدًا، قال العباس: فذكرت أبا سفيان بذلك. وللبيهقي من حديث ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: ((كيف قال حسان؟)) ، فأنشده: عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا = تُثِيرُ النَّقْعَ مَطْلَعُهَا كَدَاءُ فتبسَّم وقال: ((ادخلوها من حيث قال حسان)) ، انتهى. وفي "السيرة"؛ لابن إسحاق: عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَمْ تَرَوْهَا = تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب، فلمَّا فتحوا الباب كنت أوَّل داخل، فلقيت بلالاً فسألته: هل صلى فيه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانيين". قوله: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت"، في رواية: "أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته ومعه بلال وعثمان بن طلحة حتى أناخ في المسجد"، وفي روايةٍ: "عند البيت وقال لعثمان: ائتنا بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل". قال الحافظ: وعثمان المذكور هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزي بن عبد الدار بن قصي بن كلاب، ويقال له: الحجبي، ولآل بيته: الحجبة لحجبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الكعبة، ويعرفون الآن بالشيبيين، نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي يطلحة، وهو ابن عمِّ عثمان هذا لا ولده، وله أيضًا صحبة. قوله: "فأغلقوا عليهم الباب"، وعند أبي عوانة من داخل قوله: "فلما فتحو الباب"، في رواية "فلبث فيه ساعة ثم خرجوا". قوله: "فلمَّا فتحوا الباب كنت أول داخل"، في رواية: "ثم خرج فابتدر الناس الدخول فسبقتهم". قوله: "فلقيت بلالاً"، في رواية: "فأقبلت والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج، وأجد بلالاً قائمًا بين البابين، فسألت بلالاً فقلت: أَصَلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة؟ قال: نعم، ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين". قوله: "بين العمودين اليمانيين"، في رواية: "جعل عمودًا عن يمينه وعمودًا عن يساره"، وفي رواية: "بين ذينك العمودين المقدمين"، وكان البيت على ستة أعمدة سطرين، صلى بين العمودين من السطر المقدَّم وجعل باب البيت خلف ظهره". وفي روايةٍ عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قبل الوجه حين يدخل، ويجعل الباب قبل الظهر، يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبًا من ثلاث أذرع فيصلي، يتوخَّى المكان الذي أخبره بلال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه، وليس على أحد بأسٌ أن يصلي في أيِّ نواحي البيت شاء"، وفي الحديث استحباب دخول الكعبة، والصلاة فيها، وليس ذلك بواجب. قال البخاري: وكان ابن عمر يحجُّ كثيرًا ولا يدخل. قال النووي: لا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل في يوم الفتح لا في حجة الوداع. قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد رواية الصحابية عن الصحابي، وسؤال المفضول مع وجود الأفضل، والاكتفاء به، والحجة بخبر الواحد، وفيه اختصاص السابق بالبقعة الفاضلة، وفيه السؤال عن العلم والحرص فيه، وفضيلة ابن عمر؛ لشدَّة حرصه على تتبُّع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعمل بها؛ وفيه أن الفاضل من الصحابة قد كان يغيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض المشاهد الفاضلة ويحضره مَن هو دونه فيطَّلع على ما لم يطَّلع عليه؛ لأن أبا بكر وعمر وغيرهما ممَّن هو أفضل من بلال ومَن ذكر معه لم يشاركوهم في ذلك، وفيه أن السترة إنما تشرع حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 يخشى المرور، فإنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بين العمودين ولم يصلِّ إلى أحدهما، والذي يظهر أنه ترك ذلك للقرب من الجدار، وفيه استحباب دخول الكعبة، ومحل استحبابه ما لم يؤذِ أحدًا بدخوله، انتهى. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أحبُّ أن أدخل البيت أصلِّي فيه فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فأدخلني الحجر، فقال لي: ((صلِّي في الحجر إذا أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت)) ؛ رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصحَّحه الترمذي. * * * الحديث الرابع عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله، وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلك ما قبَّلتك". قوله: "جاء إلى الحجر الأسود فقبله"، في رواية: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال للركن: "أمَا والله إني لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلمك ما استلمتك"، فاستَلَمه. وفي حديث ابن عمر: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبِّله"، ولابن المنذر عن نافع: "رأيت ابن عمر استَلَم الحجر وقبَّل يده وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله". قال الحافظ: ويستفاد منه الجمع بين الاستلام والتقبيل، بخلاف الركن اليماني فيستَلَمه فقط، انتهى. وعن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((يا عمر، إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلِّل وكبِّر)) ؛ رواه أحمد. قوله: "إني لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلك ما قبَّلتك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهدٍ بعبادة الأصنام؛ فخشي عمر أن يظنَّ الجهَّال أن استلام الحجر من باب تعظيم لهذه الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتِّباعٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا لأن الحجر ينفع ويضرُّ بذاته، كما كان الجاهلية تعتقده في الأوثان، انتهى. وعن ابن عباس مرفوعًا: ((إن لهذا الحجر لسانًا وشفتين يشهدان لِمَن استلمه يوم القيامة بحق)) ؛ رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وصحَّحه ابن حبان والحاكم. قال الحافظ: وفي قول عمر هذا التسليمُ للشارع في أمور الدين وحسن الاتِّباع فيما لا يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتِّباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهَّال، أن في الحجر الأسود خاصية ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السنن بالقول والفعل، وأن الإمام إذا خشي على أحدٍ من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضح ذلك. قال شيخنا في "شرح الترمذي": فيه كراهة تقبيل ما لم يَرِد الشرع بتقبيله. وأمَّا قول الشافعي: ومهما قبَّل من البيت فحسن فلم يرد به الاستحباب؛ لأن المباح من جملة الحسن عند الأصوليين انتهى، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قومٌ قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الحديث السادس عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود، أوَّل ما يطوف يَخُبُّ ثلاثة أشواط". قوله في حديث ابن عباس: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة"؛ أي: في عمرة القضاء. قوله: "فقال المشركون إنه يقدم عليكم قومٌ قد وهنتهم حمى يثرب"؛ أي: أضعفتْهم، و (يثرب) اسم المدينة النبوية في الجاهلية، ونهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تسميتها بذلك، وإنما ذكر ابن عباس ذلك حكاية لكلام المشركين. قوله: "فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة" (الرمل) : هو الإسراع في المشي، و (الأشواط) جمع شوط، وهو الجري مرة إلى الغاية، والمراد به هنا الطوفة حول الكعبة. قوله: "وأن يمشوا ما بين الركنين"؛ أي: اليمانيين، وعند أبي داود: "وكانوا إذا تواروا عن قريش بين الركنين مشوا وإذا طلعوا عليهم رملوا"، وللبخاري: "لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لعامه الذي استأمن قال: ((ارملوا)) ؛ ليرى المشركون قوتهم، والمشركون من قِبَل قعيقعان)) . قال الحافظ: وهو يُشرِف على الركنين الشاميين، ومَن كان به لا يرى مَن بين الركنين اليمانيين، ولمسلم: "فقال المشركون هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم، لهؤلاء أجلد من كذا". قال الحافظ: ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدَّة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابًا لهم، ولا يُعَدُّ ذلك من الرياء المذموم، وفيه جواز المعاريض بالفعل كما يجوز بالقول، وربما كانت بالفعل أَوْلَى. قوله في حديث ابن عمر: "يَخُبُّ ثلاثة أشواط"، في رواية: "يَخُبُّ ثلاثة أطواف من السبع"؛ أي: يسرع في مشيه. قال الحافظ: اقتصروا عند مراءاة المشركين على الإسراع إذا مرُّوا من جهة الركنين الشاميين؛ لأن المشركين كانوا بإزاء تلك الناحية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فإذا مرُّوا بين الركنين اليمانيين مشوا على هيئتهم كما هو بيِّن في حديث ابن عباس، ولما رملوا في حجة الوداع أسرعوا في جميع كلِّ طوفة فكانت سنة مستقلَّة. قال الموفق: ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمرًا، أو طواف القدوم إن كان مفردًا أو قارنًا، ويطوف سبعًا يرمل في الثلاثة الأولى منها وهو إسراع المشي مع تقارب الخُطَا ولا يثب وثبًا ويمشي أربعًا، انتهى. قال الحافظ: لا يشرع تدارك الرَّمَل، فلو تركه في الثلاث لم يقضه في الأربع؛ لأن هيئتها السكينة فلا تغير، ويختصُّ بالرجال فلا رَمَل على النساء، ويختصُّ بطواف يعقبه سعي على المشهور، ولا فرق في استحبابه بين ماشٍ وراكب، ولا دم بتركه عند الجمهور. * * * الحديث السابع عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على بعيرٍ يستلم الركن بمحجن". (المحجن) : عصى محنية الرأس، وفي رواية لمسلم: "يستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن". وله من حديث ابن عمر: أنه استلم الحجر بيده ثم قبله، ورفع ذلك، قال الحافظ: وبهذا قال الجمهور إن السنة أن يستلم الركن ويقبِّل يده، فإن لم يستطع أن يستلمه بيده استلَمَه بشيء في يده وقبَّل ذلك الشيء، فإن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك، انتهى. وقال البخاري: باب المريض يطوف راكبًا؛ وأورد فيه حديث ابن عباس، وحديث أم سلمة قالت: "شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني اشتكي، قال: ((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)) ، فطفت ورسول الله يصلي إلى البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور". قال ابن بطال: في هذا الحديث جواز دخول الدواب التي يُؤكَل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك؛ لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الحديث الثامن عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لم أرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين". روى أحمد عن أبي الطفيل قال: "كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لا يمرُّ بركن إلا استَلَمه، فقال ابن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الحجر اليماني، فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال له ابن عباس: لقد كان لكم في رسول أسوة حسنة، فقال معاوية: صدقت". قال الداودي: ظنَّ معاوية أنهما ركنَا البيت، وليس كذلك لحديث عائشة؛ يعني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - - لها: ((ألم ترَيْ أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم)) ، فقلت: يا رسول الله: ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: ((لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت)) . فقال عبد الله بن عمر: "لئن كانت عائشة - رضي الله عنها - سمعتْ هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترَك استلام الركنَين اللذَين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمَّم على قواعد إبراهيم"؛ متفق عليه. قال الشافعي: إنَّا لم ندع استلامهما؛ يعني: الركنين الشاميين هجرًا للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به، ولكنَّا نتبع السنة فعلاً وتركًا. * * * باب التمتع الحديث الأول عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال: "سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها، وسألته عن الهدي فقال: فيه جزور أو بقرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أو شاة أو شرك في دم، قال: وكأن أناسًا كرهوها، فنمت فرأيت في المنام كأن إنسانًا ينادي: حج مبرور ومتعة متقبلة، فأتيت ابن عباس فحدَّثته فقال: الله أكبر، سنَّة أبي القاسم - صلَّى الله عليه وسلَّم". التمتُّع: هو الاعتمار في أشهر الحج، ثم التحلُّل من تلك العمرة، والإهلال بالحج في تلك السنة؛ قال الله - تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن التمتُّع المراد بقوله - تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، قال: ومن التمتع القِرَان؛ لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتُّع أيضًا فسخ الحج إلى العمرة، انتهى. قوله: "سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها"، وفي رواية: "تمتَّعت فنهاني ناسٌ، فسألت ابن عباس - رضي الله عنهما - فأمرني بها"، قال الحافظ: وكان ذلك في زمن ابن الزبير، وكان ينهى عن المتعة. قوله: "وسألته عن الهدي"؛ أي: المذكور في قوله - تعالى -: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . قوله: "فيه جزور"؛ أي: في المتعة؛ يعني: يجب على مَن تمتَّع دمٌ، والجزور البعير ذكرًا كان أو أنثى. قوله: "أو شرك في دم"؛ أي: مشاركة في الجزور والبقرة. قال الحافظ: وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُهِلِّين بالحج، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منَّا في بدنة"، وبهذا قال الشافعي والجمهور سواء كان الهدي تطوعًا أو واجبًا، وسواء كانوا كلهم متقرِّبين بذلك، أو كان بعضهم يريد التقرُّب وبعضهم يريد اللحم، وأجمعوا على أن الشاة لا يصحُّ الاشتراك فيها. قوله: "وكأن أناسًا كرهوها، فنمت فرأيت في المنام كأن إنسانًا ينادي: حج مبرور ومتعة متقبلة"، وفي رواية: "كأن رجلاً يقول لي: حج مبرور وعمرة متقبَّلة"، وفي رواية: "عمرة متقبَّلة وحج مبرور"، والحج المبرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 هو الذي لا يخالطه شيء من الإثم. ولأحمد من حديث جابر: قالوا: يا رسول الله، ما بر الحج؟ قال: ((إطعام الطعام وإفشاء السلام)) . قوله: "فأتيت ابن عباس فحدَّثته فقال: الله أكبر سنة أبي القاسم - صلَّى الله عليه وسلَّم"، وفي رواية: "ثم قال لي: أقم عندي فأجعل لك سهمًا من مالي، قال شعبة: فقلت: لِمَ؟ فقال: للرؤيا التي رأيت". قال الحافظ: ويؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسرُّه، وفرح العالم بموافقته الحق، والاستئناس بالرؤيا لموافقته الدليل الشرعي، وعرض الرؤيا على العالم، والتكبير عند المسرَّة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على اختلاف أهل العلم ليعمل بالراجح منه الموافق للدليل، وبالله التوفيق. * * * الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "تمتَّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فسَاقَ الهدي من ذي الحُلَيْفَة، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ بالعمرة ثم أهلَّ بالحج، فتمتَّع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس مَن تمتَّع فسَاقَ الهدي من ذي الحُلَيْفَة، ومنهم مَن لم يهدِ، فلمَّا قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس: مَن يكن منكم قد أهدى فإنه لا يحلُّ من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومَن لم يكن أهدى فليَطُف بالبيت وبالصفا والمروة، ليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهدِ، ومَن لم يجد هديًا فليَصُم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أهله، فطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قَدِم إلى مكة واستلم الركن أول شيء، ثم خبَّ ثلاثة أشواط من السبع، ومشى أربعًا، وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلَّم وانصرف فأتى الصفا، فطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم لم يحلَّ من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حلَّ من كل شيء حرم منه، وفعل مثلما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن أهدى فساق الهدي من الناس. قوله: "تمتَّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج"، قال الحافظ: يحتمل أن يكون معنى قوله: "تمتِّع" محمولاً على مدلوله اللغوي، وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها وغير ذلك، بل قال النووي: إن هذا هو المتعين. قال الحافظ: وقوله: "بالعمرة إلى الحج"؛ أي: بإدخال العمرة على الحج. قوله: "وأهدى فساق الهدي من ذي الحُلَيْفَة" قال الحافظ: وفيه الندب إلى سَوْقِ الهدي من المواقيت ومن الأماكن البعيدة، وهي من السنن التي أغفلها كثير من الناس. قوله: "وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ بالعمرة ثم أهلَّ بالحج"، قيل: المراد به صورة الإهلال؛ أي: لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما، فقال: لبيك بعمرة وحجة، وفي الصحيحين من حديث أنس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لبيك عمرة وحجًّا)) . قال ابن القيم: الذي صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو متعة القِرَان بلا شكٍّ كما قطع به أحمد. قوله: "فتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ بالعمرة إلى الحج"، هذا محمولٌ على التمتُّع اللغوي؛ فإنهم لم يكونوا متمتِّعين بمعنى التمتُّع المشهور، قال الحافظ: الذين تمتَّعوا إنما بدؤوا بالحج، لكن فسخوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 حجهم إلى العمرة حتى حلُّوا بعد ذلك بمكة ثم حجوا من عامهم. قوله: "فلمَّا قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للناس: ((مَن يكن منكم أهدى فإنه لا يحلُّ من شيء حرم منه حتى يقضى حجه)) قال ابن دقيق العيد: هو موافق لقوله - تعالى -: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، فلا يجوز أن يحلَّ المتمتُّع الذي ساق الهدي حتى يبلغ الهدي محلَّه. قوله: ((ومَن لم يكن منكم أهدى فليَطُف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهدِ)) قال النووي: معناه: أنه يفعل الطواف والسعي والتقصير ويصير حلالاً، وهذا دليل على أن الحلق أو التقصير نسك وهو الصحيح، وإنما أمَرَه بالتقصير دون الحلق مع أن الحلق أفضل؛ ليبقى له شعر يحلقه في الحج. قال الحافظ: وقوله: ((وليحلل)) هو أمرٌ معناه الخبر؛ أي: قد صار حلالاً فله فعل كل ما كان محظورًا عليه في الإحرام، وقوله: ((ثم ليهلَّ بالحج)) ؛ أي: يحرم وقت خروجه إلى عرفة، ولهذا أتى بـ (ثم) الدالَّة على التراخي، وقوله: ((وليهدِ)) ؛ أي: هدي التمتُّع. قوله: ((ومَن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)) ؛: أي مَن لم يجد الهدي بذلك المكان ويتحقَّق ذلك بأن يعدم الهدي أو يعدم ثمنه حينئذ، أو يجد ثمنه لكن يحتاج إليه لأهم من ذلك فينتقل إلى الصوم كما هو نص القرآن. قال الحافظ: والمراد بقوله: ((في الحج)) ؛ أي: بعد الإحرام به. وقال النووي: هذا هو الأفضل، فإن صامها قبل الإهلال بالحج أجزأ على الصحيح، وأمَّا قبل التحلُّل من العمرة فلا على الصحيح، فإن فاته الصوم قضاه، وفي صوم أيام التشريق لهذا قولان للشافعية أظهرهما: لا يجوز، وأصحهما من حيث الدليل: الجواز. قوله: "ثم سلم وانصرف فأتى الصفا" في حديث جابر عند مسلم: "ثم رجع إلى الحجر فاستَلَمَه، ثم خرج من باب الصفا". قوله: ((ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه)) ، قال الحافظ: سبب عدم إحلاله كونه ساق الهدي وإلا لكان يفسخ الحج إلى العمرة ويتحلَّل منها كما أمر به أصحابه. قوله: "وفعل مثلما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن أهدى فساق الهدي من الناس"، قال الحافظ: إشارة إلى عدم خصوصيته - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وفيه مشروعية طواف القدوم والرَّمَل فيه إن عقبه بالسعي، وتسمية السعي طوافًا، وطواف الإفاضة يوم النحر. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الحديث الثالث عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلُّوا من العمرة ولم تحلَّ أنت من عمرتك؟ قال: ((إني لبَّدت رأسي وقلَّدت هديي، فلا أحلُّ حتى أنحر)) . قوله: ((إني لبَّدت رأسي)) قال الحافظ: هو أن يجعل فيه شيء ليلتصق به، ويُؤخَذ منه استحباب ذلك للمحرم؛ أي: لئلاَّ يتشعَّث شعره في الإحرام. قوله: ((فلا أحلُّ حتى أنحر)) ؛ يعني: يوم النحر، وفي رواية: ((فلا أحلُّ حتى أحلَّ من الحج)) ، قال الحافظ: استدلَّ به على أن مَن ساق الهدي لا يتحلَّل من عمل العمرة حتى يهلَّ بالحج ويفرغ منه؛ لأنه جعل العلَّة في بقائه على إحرامه كونه أهدى، وكذا وقع في حديث جابر، وأخبر أنه لا يحلُّ حتى ينحر الهدي، وهو قول أبي حنيفة وأحمد ومَن وافَقَهما، ويؤيِّده قوله في حديث عائشة: ((فأمَّا مَن لم يكن ساق الهدي فليحل) ، والأحاديث بذلك متضافرة؛ والذي تجتمع به الروايات أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا؛ بمعنى: أنه أدخل العمرة على الحج بعد أن أهلَّ به مفردًا، لا أنه أوَّل ما أهل أحرم بالحج والعمرة معًا. وقال النووي: الصواب الذي نعتقده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا، وقال عياض: وأمَّا إحرامه - صلى الله عليه وسلم - فقد تضافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفردًا، وأمَّا رواية مَن روى: ((متمتعًا)) فمعناه أمر به؛ لأنه صرَّح بقوله: ((ولولا أن معي الهدي لأحللت)) فصحَّ أنه لم يحلَّ، وأمَّا رواية مَن روى القِرَان فهو إخبار عن آخر أحواله؛ لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي، وقيل له: قل عمرة في حجة. قال الحافظ: وهذا الجمع هو المعتمَد، ويترجَّح رواية مَن روى القِرَان بأمور منها: أن معه زيادة علمٍ على مَن روى الإفراد وغيره، وبأن مَن روى الإفراد والتمتُّع اختلف عليه في ذاك. إلى أن قال: ومقتضى ذلك أن يكون القِرَان أفضل من الإفراد والتمتُّع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه، واختاره من الشافعية المزني وابن المنذر وأبو إسحاق المروزي، وذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم إلى أن التمتُّع أفضل؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - تمناه، فقال: ((لولا أني سقت الهدي لأحلت)) ولا يتمنَّى إلا الأفضل، وهو قول أحمد بن حنبل المشهور عنه، انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: إن ساق الهدي فالقِرَان أفضل، وإن لم يَسُقْ فالتمتُّع أفضل، ومَن أراد أن ينشئ لعمرته من بلده سفرًا فالإفراد أفضل له، وهذا أعدل المذاهب وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة، انتهى ملخصًا. * * * الحديث الرابع عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: "أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينزل قرآن بحرمتها ولم ينهَ عنها حتى مات، فقال رجل برأيه ما شاء". قال البخاري: يُقال: إنه عمر، ولمسلم: "نزلت آية المتعة؛ يعني: متعة الحج، وأمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لم ينزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينهَ عنه حتى مات"، ولهما بمعناه. قوله: "أنزلت آية المتعة"؛ يعني: قوله - تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] الآية. قوله: "ولم ينهَ عنها"؛ أي: المتعة، وفي الرواية الأخرى: "ولم ينه عنه"؛ أي: التمتع. قوله: "فقال رجل برأيه ما شاء، قال البخاري: يُقال: إنه عمر"، وعند مسلم: أن ابن الزبير كان ينهى عنها، وابن عباس يأمر بها، فسألوا جابرًا فأشار إلى أن أوَّل مَن نهى عنها عمر، قال الحافظ: استقرَّ الأمر بعد على الجواز: وفي الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرًا ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلَّت العمرة لِمَن اعتمر، فقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلِّين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظَم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: ((حل كله)) . قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد جواز نسخ القرآن بالقرآن ولا خلاف فيه، ونسخه بالسنة، وفيه اختلاف شهير، ووجه الدلالة منه قوله: "ولم ينهَ عنها" رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن مفهومه أنه لو نهى عنها لامتنعت، ويستلزم رفع الحكم، ومقتضاه جواز النسخ، وقد يُؤخَذ منه أن الإجماع لا يُنسَخ به؛ لكونه حصَر وجوه المنع في نزولِ آيةٍ أو نهيٍّ من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه وقع الاجتهاد في الأحكام بين الصحابة، وإنكار بعض المجتهدين على بعض بالنص، والله الموفق. باب الهدي الحديث الأول عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم أشعَرَها وقلَّدها أو قلَّدتها، ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة، فما حرم عليه شيء كان له حلالاً". * * * الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة غنمًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الأصل في مشروعية الهدي الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 36- 37] ، وقال - تعالى -: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 32- 33] . قال البخاري: قال مجاهد: سميت (البدن) : لبدنها، و (القانع) : السائل، و (المعتر) : الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير، و (شعائر الله) : استعظام البدن واستحسانها، و (العتق) : عتقه من الجبابرة، ويقال: (وجبت) : سقطت إلى الأرض، ومنه: وجبت الشمس. قولها: "فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ثم أشعرها"، قال الحافظ: فيه مشروعية الإشعار، وهو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم يسلت، فيكون ذلك علامة على كونها هديًا، وبذلك قال الجمهور. وقال الخطابي وغيره: اعتلال مَن كره الإشعار بأنه من المثلة مردودٌ، بل هو باب آخر كالكي وشق أذن الحيوان ليصير علاَمة، وقال الترمذي: "سمعت أبا السائب يقول: كنَّا عند وكيع، فقال له رجل: روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة، فقال له: أقول لك: أشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وتقول: قال إبراهيم! ما أحقك بأن تُحبَس. قال الحافظ: اتَّفق مَن قال بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل إلا سعيد بن جبير، واتفقوا على أن الغنم لا تشعر لضعفها، ولكون صوفها أو شعرها يستر موضع الإشعار. وأخرج مسلم من حيث جابر قال: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحُلَيْفَة، ثم دعا بناقته فأشعرها في سنامها الأيمن، وسلت الدم، وقلَّدها نعلين، ثم ركب راحلته، فلمَّا استوت به على البيداء أهلَّ بالحج"، وفي "الموطأ" عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أهدى هديًا من المدينة - على ساكنها الصلاة والسلام - قلَّده بذي الحُلَيْفَة، يقلِّده قبل أن يشعره، وذلك في مكان واحد، وهو متوجِّه إلى القبلة، يقلِّده بنعلين، ويشعره من الشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الأيسر، ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يدفع به، فإذا قدم غداة النحر نحره. وعن نافع عن ابن عمر: "كان إذا طعن في سنام هديه بالشفرة قال: بسم الله الله أكبر". قال الحافظ: وفي الحديث مشروعية الإشعار، وفائدته الإعلام بأنها صارت هديًا ليتبعها مَن يحتاج إلى ذلك، وحتى لو اختلطت بغيرها تميَّزت أو ضلَّت عرفت أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة فأكلوها، مع ما في ذلك من تعظيم شعائر الشرع وحث الغير عليه. وقال ابن دقيق العيد: في الحديث دليلٌ على استحباب بعث الهدي من البلاد لِمَن لا يسافر بها معه، وفيه دليلٌ على استحباب تقليده للهدي، وإشعاره من بلده بخلاف ما إذا سافر مع الهدي فإنه يؤخِّر الإشعار إلى حين الإحرام، وفيه دليلٌ على استحباب الإشعار في الجملة خلافًا لِمَن أنكره، وهو شق صفحة السنام طولاً وسلت الدم عنه. واختلف الفقهاء هل يكون في الأيمن أو الأيسر، ومَن أنكره قال: إنه مثلة، والعمل بالسنة أَوْلَى، وفيه دليلٌ على أن مَن بعث بهدي لا يحرم عليه محظورات الإحرام، وفيه دليلٌ على استحباب فتل القلائد، انتهى. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد تناولُ الكبير الشيء بنفسه وإن كان له مَن يكفيه إذا كان مما يهتم به، ولا سيما ما كان من إقامة الشرائع وأمور الديانة، وأن الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - التأسِّي به حتى تثبت الخصوصية. قولها: "أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة غنمًا"، وفي رواية: "كنت أفتل القلائد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيقلد الغنم ويقيم في أهله حلالاً"، وفي رواية: "كنت أفتل قلائد الغنم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيبعث بها ثم يمكث حلالاً"، وفي رواية: "فتلت قلائدها من عهن كان عندي"، قال الحافظ، قال ابن المنذر: أنكر مالك وأصحاب الرأي تقليدها، زاد غيره: وكأنهم لم يبلغهم الحديث، ولم نجد لهم حجة إلا قول بعضهم: إنها تضعف عن التقليد، وهي حجة ضعيفة؛ لأن المقصود من التقليد العلامة، وقد اتَّفقوا على أنها لا تشعر لأنها تضعف عنه فتقليدها لا يضعفها انتهى، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الحديث الثالث عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: ((اركبها)) ، قال: إنها بدنة؟ قال: ((اركبها)) ، فرأيته راكبها يساير النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم"، وفي لفظ: قال في الثانية أو الثالثة: ((اركبها، ويلك - أو: ويحك)) . قوله: "فرأيته راكبها يساير النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم" في رواية: "والنعل في عنقها"، ولمسلم: "بينا رجل يسوق بدنة مقلدة". قوله: "قال في الثانية أو الثالثة: ((اركبها ويلك - أو ويحك)) "، في حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: ((اركبها)) ، قال: إنها بدنة؟ قال: ((اركبها)) ، قال: إنها بدنة؟ قال: ((اركبها)) ثلاثًا، وللنسائي: "وقد جهده المشي". قوله: ((ويلك - أو: ويحك)) ، وعند مسلم: ((ويلك اركبها، ويلك اركبها)) ، ولأحمد قال: ((اركبها ويحك)) ، قال: إنها بدنة؟ قال: ((اركبها ويحك)) ، قال الهروي: (ويل) تقال لِمَن وقع في هلَكَة يستحقُّها، وويح: لِمَن وقع في هلَكَة لا يستحقُّها، قال القرطبي، قال له: ويلك تأديبًا له؛ لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه. قال الحافظ: واستدلَّ به على جواز ركوب الهدي سواء كان واجبًا أو متطوعًا به، لكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل صاحب الهدي عن ذلك، فدلَّ على أن الحكم لا يختلف بذلك، وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد من حديث علي: "أنه سُئِل: هل يركب الرجل هديَه؟ فقال: لا بأس، قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمرُّ بالرجال يمشون، فيأمرهم يركبون هديه؛ أي: هدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم" إسناده صالح، انتهى. وأخرج مسلم من حديث جابر مرفوعًا: ((اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا)) . وروى أبو داود في "المراسيل" عن عطاء: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركبها غير منهكها"، قلت: ماذا؟ قال: الراجل والمتيع اليسير، وهذا قول الجمهور، ونقل عياض الإجماع على أنه لا يؤجرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 قال الحافظ: وفي الحديث تكرير الفتوى، والندب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر، وزجر مَن لم يبادر إلى ذلك وتوبيخه، وجواز مسايرة الكبار في السفر، وأن الكبير إذا رأى مصلحة للصغير لا يأنف عن إرشاده إليها، واستنبط منه البخاري جواز انتفاع الواقف بوقفه، وهو موافق للجمهور في الأوقاف العامة، أمَّا الخاصة فالوقف على النفس لا يصحُّ عند الشافعية ومَن وافقهم، والله أعلم. تتمَّة: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "أهدى عمر نجيبًا، فأُعطِي بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني أهديت نجيبًا، فأُعطِيت بها ثلاثمائة دينار، فأبيعها واشتري بثمنها بدنًا؟ قال: انحرها إياها"؛ رواه أحمد وأبو داود والبخاري في "تاريخه". * * * الحديث الرابع عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنِه، وأن أتصدَّق بلحمها وجلودها وأجلتها، ولا أعطي الجزار منها شيئًا، وقال: ((نحن نعطيه من عندنا)) . قوله: "أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه"، قال الحافظ: أي: عند نحرها للاحتفاظ بها، ويحتمل أن يريد ما هو أعمُّ من ذلك؛ أي: على مصالحها في علفها ورعيها وسقيها وغير ذلك. وفي رواية: "أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة، فأمرني بلحومها فقسمتها، ثم أمرني بجلالها فقسمتها، ثم بجلودها فقسمتها". وفي حديث جابر الطويل عند مسلم: "ثم انصرف - صلى الله عليه وسلم - إلى المنحر فنحر ثلاثًا وسبعين بدنة، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدَنَة ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكلاَ من لحمها وشربَا من مرقها". قوله: "وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها" (الأجلة) : جمع جل، وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه، قال البخاري: "وكان ابن عمر - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 رضي الله عنهما - لا يشق من الجلال إلا موضع السنام، وإذا نحرها نزع جلالها مخافة أن يفسدها الدم ثم يتصدَّق بها". قال المهلب: ليس التصدُّق بجلال البدن فرضًا، وإنما صنع ذلك ابن عمر لأنه أراد أن لا يرجع في شيء أهلَّ به لله، ولا في شيء أُضِيف إليه. وروى ابن المنذر عن نافع: أن ابن عمر كان يجلل بدنه الأنماط والبرود والحِبَر حتى يخرج من المدينة ثم ينزعها فيطويها حتى يكون يوم عرفة فيلبسها إياها حتى ينحرها ثم يتصدق بها، قال نافع: وربما دفعها إلى بني شيبة". قال الحافظ: واستدلَّ به على منع بيع الجلد قال القرطبي: فيه دليلٌ على أن جلود الهدي وجلالها لا تباع لعطفها على اللحم وإعطائها حكمه، وقد اتَّفقوا على أن لحمها لا يُباع فكذلك الجلود والجلال، وأجازه الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو وجهٌ عند الشافعية، قالوا: ويُصرَف ثمنه مصرف الأضحية، واستدلَّ أبو ثور على أنهم اتَّفقوا على جواز الانتفاع به، وكل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، وعُورِض باتفاقهم على جواز الأكل من لحم هدي التطوع، ولا يلزم من جواز أكله جواز بيعه، وأقوى من ذلك في ردِّ قوله ما أخرجه أحمد في حديث قتادة بن النعمان مرفوعًا: ((لا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي، وتصدَّقوا وكلوا واستمتعوا بجلودها، ولا تبيعوا، وأن أطعمتم من لحومها فكلوا إن شئتم)) . قوله: ولا أعطي الجزار منها شيئًا، وقال: ((نحن نعطيه من عندنا)) ، وللنسائي: ((ولا يعطى في جزارتها منها شيئًا)) . قال الحافظ: والمراد منع عطية الجزار من الهدي عوضًا عن أجرته، قال ابن خزيمة: والنهي عن إعطاء الجزار المراد به: أن لا يعطى منها عن أجرته، وكذا قال البغوي في "شرح السنة"، قال: وأمَّا إذا أعطي أجرته كاملة، ثم تصدَّق عليه إذا كان فقيرًا كما يتصدَّق على الفقراء فلا بأس بذلك. وقال غيره: إعطاء الجزار على سبيل الأجرة ممنوع لكونه معاوضة، وأمَّا إعطاؤه صدقة أو هدية أو زيادة على حقِّه فالقياس الجواز، ولكن إطلاق الشارع ذلك قد يفهم منه منع الصدقة لئلاَّ تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه فيرجع إلى المعاوضة. قال: وفي حديث عليٍّ من الفوائد سَوْقُ الهدي، والوكالة في نحر الهدي، والاستئجار عليه، والقيام عليه وتفرقته والاشتراك فيه، وأن مَن وجب عليه شيء لله فله تخليصه، ونظيره الزرع يعطي عشرة ولا يحسب شيئًا من نفقته على المساكين، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الحديث الخامس عن زياد بن جبير قال: "رأيت ابن عمر قد أتى على رجل قد أناخ بدنه ينحرها، فقال: ابعثها قيامًا مقيَّدة سنة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم". قوله: "مقيدة"؛ أي: معقولة. وعن سعيد بن جبير قال: "رأيت ابن عمر ينحر بدنته وهي معقولة إحدى يديها"؛ رواه سعيد بن منصور. ولأبي داود من حديث جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقى من قوائمها"، وقال ابن عباس في قوله - تعالى -: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] قال: قيامًا. قال الحافظ: وفي هذا الحديث استحباب نحر الإبل على الصفة المذكورة، وفيه تعليم الجاهل، وعدم السكوت على مخالفة السنة وإن كان مباحًا، وفيه أن قول الصحابي: من السنة كذا مرفوع عند الشيخين؛ لاحتجاجهما بهذا الحديث في صحيحيهما. تتمَّة: قال البخاري: "وقال عبيد الله: أخبرني نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر، ويؤكل مما سوى ذلك، وقال عطاء: يأكل ويطعم من المتعة"، انتهى. وروى سعيد بن منصور عن عطاء: "لا يؤكل من جزاء الصيد ولا مما يجعل للمساكين من النذر"، قال ابن مفلح في "الفروع": واختار أبو بكر والقاضي والشيخ الأكل من أضحية النذر كالأضحية على رواية وجوبها في الأصح انتهى. وقال ابن رجب في القاعدة المائة: الواجب بالنذر هل يلحق بالواجب بالشرع أو بالمندوب؟ فيه خلاف يتنزَّل عليه مسائل كثيرة: منها الأكل من أضحية النذر، وفيه وجهان، اختار أبو بكر الجواز انتهى، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 باب الغسل للمحرم الحديث الأول عن عبد الله بن حنين: "أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء؛ فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، قال: فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري، فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوبٍ، فسلَّمت عليه فقال: مَن هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين، أرسَلَني إليك ابن عباس يسألك: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب، فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصبُّ عليه الماء: اصبب، فصبَّ على رأسه، ثم حرَّك رأسه بيديه، ثم أقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يفعل"، وفي رواية: "فقال المسور لابن عباس: لا أماريك بعدها أبدًا". (القرنان) : العمودان اللذان يُشَدُّ فيهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة. قوله: "باب الغسل للمحرم"، قال البخاري: "وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يدخل المحرم الحمام، ولم يرَ ابن عمر وعائشة بالحكِّ بأسًا". قال الموفق: فإن حكَّ فرأى في يده شعرًا أحببنا أن يفديه احتياطًا، ولا يجب عليه حتى يستيقن أنه قلعة. وقال أيضًا: ويكره له غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما؛ لما فيه من إزالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الشعث والتعرُّض لقلع الشعر. قوله: "اختلفا بالأبواء"؛ أي: وهما نازلان بها. قوله: "لا أماريك"؛ أي: لا أجادلك، قال ابن عبد البر: الظاهر أن ابن عباس كان عنده في ذلك نصٌّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخَذَه عن أبي أيوب أو غيره؛ ولهذا قال عبد الله بن حنين لأبي أيوب: كيف كان يغسل رأسه ولم يَقُل: هل كان يغسل رأسه. قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد مناظرة الصحابة في الأحكام ورجوعهم إلى النصوص، وفيه اعتراف للفاضل بفضله، وإنصاف الصحابة بعضهم بعضًا، وفيه استتار الغاسل عند الغسل، والاستعانة في الطهارة، وجواز الكلام والسلام حالة الطهارة، وجواز غسل المحرم وتشريبه شعره بالماء، ودلكه بيده إذا أمن تناثره، والله أعلم. * * * باب فسخ الحج إلى العمرة الحديث الأول عن جابر - رضي الله عنه - قال: "أهلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحج وليس مع أحدٍ منهم هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة، وقَدِم علي - رضي الله عنه - من اليمن فقال: أهللت بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يجعلوها عمرةً فيطوفوا، ثم يقصروا ويحلوا، إلاَّ مَن كان معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منًى، وذكر أحدنا يقطر فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت)) ، وحاضت عائشة فنسكت المناسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 كلها، غير أنها لم تَطُف بالبيت، فلمَّا طهرت طافت بالبيت، قالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجة وعمرة، وأنطلق بحج، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج. "فسخ الحج إلى العمرة" هو الإحرام بالحج، ثم يتحلَّل منه بعمل عمرة فيصير متمتعًا. قوله: "أهلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحج"، (الإهلال) أصله رفع الصوت، والمراد به هنا التلبية. قوله: "وليس مع أحد منهم هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة" في حديث عائشة عند مسلم: "كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وذوي اليسار"، وفي حديث ابن عباس: "وكان طلحة ممن ساق الهدي ولم يحلَّ". قوله: "وقدم عليٌّ - رضي الله عنه - من اليمن فقال: أهللت بما أهل به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم"، ولمسلم في حديث ابن عباس فقال: "لبيك بما أهلَّ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يقيم على إحرامه وأشركه في الهدي". قوله: "فقالوا ننطلق إلى منًى وذكَر أحدِنا يقطر"؛ أي: لقرب ملامستهم النساء. قوله: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت)) قال ابن دقيق العيد: معلل بقوله: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، انتهى. وفيه جواز استعمال (لو) في تمنِّي القربات والعلم والخير. قوله: "وحاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت طافت بالبيت"، وفي حديث عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) ، قال الحافظ: والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل؛ لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض الجنب والمحدِث وهو قول الجمهور، وذهب جمعٌ من الكوفيين إلى عدم الاشتراط، وعند أحمد رواية: أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم، وعند المالكية قول يوافق هذا، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 قال ابن مفلح في "الفروع": وتشترط الطهارة من حدث، قال القاضي وغيره: الطواف كالصلاة في جميع الأحكام إلا في إباحة النطق، وعنه: يجبره بدم، وعنه: إن لم يكن بمكة، وعنه: يصحُّ من ناسٍ ومعذور فقط، وعنه: يجبره بدم، وعنه: وكذا حائض، وهو ظاهر كلام القاضي وجماعة، واختاره شيخنا؛ يعني: شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وأنه لا دم لعذر، ونقل أبو طالب: والتطوُّع أيسر وإن طاف فيما لا يجوز له لبسه صحَّ وفدى، ذكره الآجرِّي، انتهى. قوله: "قالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحج، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج"، وفي رواية: "في ذي الحجة، وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالعقبة وهو يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: ((لا، بل للأبد)) . قال الحافظ: الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عمَّا هو أعمُّ من ذلك؛ أي: فيتناول جواز العمرة في أشهر الحج، وجواز القِرَان، وجواز فسخ الحج إلى العمرة، انتهى. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كان معه هدي فليهلَّ بالحج، ثم لا يحلُّ حتى يحلَّ منهما جميعًا، فقدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((انقضى رأسك وامتشطي وأهلِّي بالحج ودعي العمرة)) ، ففعلت، فلمَّا قضينا الحج أرسلني النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك، قالت: فطاف الذين كانوا أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلُّوا ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منًى، وأمَّا الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا"؛ متفق عليه. قال الحافظ: وفي الحديث جواز الخلوة بالمحارم سفرًا وحضرًا، وإرداف المحرم محرمه معه، واستدلَّ به على تعيُّن الخروج إلى الحلِّ لِمَن أراد العمرة ممَّن كان بمكة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الحديث الثاني عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "قدمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقول: لبيك بالحج، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلناها عمرة". قال الحافظ: يؤخذ من هذا الحديث فسخ الحج إلى العمرة، وقد ذهب الجمهور إلى أنه منسوخ، وذهب ابن عباس إلى أنه محكم، وبه قال أحمد وطائفة يسيرة، انتهى. قال الموفق: ومَن كان مفرِدًا أو قارِنًا أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمرة؛ لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك، إلا أن يكون معه هدي فيكون على إحرامه انتهى، والله أعلم. وقال البخاري: "باب التمتع والقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لِمَن لم يكن معه هدي"، ثم ذكر حديث جابر وعائشة وغيرهما. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة أربعة من ذي الحجة مهلِّين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فقالوا: يا رسول الله، أيُّ الحل؟ قال: ((الحلُّ كله)) . هذا آخر الحديث، وأوَّله: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرًا، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وانسلخ صفر حلت العمرة لِمَن اعتمر، قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه ... " الحديث، وفيه دليلٌ على مشروعية فسخ الحج إلى العمرة. قوله: فقالوا: يا رسول الله، أيُّ الحل؟ قال: ((الحل كله)) قال الحافظ: كأنهم يعرفون أن للحج تحلُّلَين فأرادوا بيان ذلك فبيَّن لهم أنهم يتحلَّلون الحلَّ كله؛ لأن العمرة ليس لها إلا تحلُّل واحد، انتهى. والمراد: إباحة الجماعة وغيره من محظورات الإحرام. * * * الحديث الرابع عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - قال: "سُئِل أسامة بن زيد وأنا جالس: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حين دفع؟ فقال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص"، العنق: انبساط السير، والنص: فوق ذلك. قوله: "حين دفع"؛ أي: من عرفة، و (الفجوة) : المتَّسع، وفي رواية "فرجة". قال ابن عبد البر: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى مزدلفة لأجل الاستعجال للصلاة؛ لأن المغرب لا تصلَّى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الزحمة، ومن الإسراع عند عدم الزحام، وفيه أن السلف كانوا يحرصون على السؤال عن كيفية أحواله - صلى الله عليه وسلم - في جميع حركاته وسكونه؛ ليقتدوا به في ذلك. تتمَّة: عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "غدَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منًى حين صلَّى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهجِّرًا، فجمَع بين الظهر والعصر، ثم خطَب الناس ثم راح فوقف على الموقف من عرفة"؛ رواه أحمد وأبو داود. قوله: "حين صلى الصبح" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 في حديث جابر عند مسلم: "ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس"، واختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في جواز الجمع والقصر بعرفة لأهل مكة، فلم يجوِّزه الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، وجوَّزه مالك وأحمد في الرواية الأخرى عنه، واختارَه شيخ الإسلام ابن تيميَّة وأبو الخطاب. وقال ابن القيم: "خطب - صلى الله عليه وسلم - واحدة، فلمَّا أتمَّها أمر بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة فصلَّى الظهر ركعتين، ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضًا، ومعه أهل مكة وصلُّوا بصلاته قصرًا وجمعًا بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام ولا بترك الجمع"، ومَن قال: إنه قال لهم: ((أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر)) فقط غلط، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة حيث كانوا في ديارهم مقيمين، ولهذا كان أصحُّ أقوال العلماء أن أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة كما فعلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال الموفق في "المغني": والحجة مع مَن أباح القصر لكلِّ مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه، انتهى. وعن عروة بن مضرِّس بن أوس بن حارثة بن لامٍ الطائي قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبلي طيِّئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفه ليلاً أو نهارًا، فقد تمَّ حجُّه وقضى تفَثَه)) ؛ رواه الخمسة وصحَّحه الترمذي. قال المجد: وهو حجَّة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف. وعن عبد الرحمن بن يعمر: "أن ناسًا من أهل نجد أتَوْا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة فسألوه، فأمر مناديًا ينادي: ((الحج عرفة، مَن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر أدرك أيام منًى ثلاثة أيام، فمَن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه، ومَن تأخر فلا إثم عليه)) ، وأردف رجلاً ينادي بهن"؛ رواه الخمسة. قال الشوكاني: وقد أجمع العلماء على أن مَن وقف في أيِّ جزء كان من عرفات صحَّ وقوفه، ولها أربعة حدود: حد إلى جادة طريق المشرق، والثاني إلى حافات الجبل الذي وراء أرضها، والثالث إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار مستقبِل الكعبة، والرابع وادي عرنة، وليست هي ولا نمرة من عرفات ولا من الحرم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 انتهى. وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نحرت ها هنا ومني كلها منحر فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف)) ؛ رواه أحمد ومسلم وأبو داود، ولابن ماجه وأحمد أيضًا نحوه، وفيه: كل فِحَاجِ مكة طريق ومنحر. وعن أسامة بن زيد قال: "كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى"؛ رواه النسائي. قال الموفق: والمستحبُّ أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة ويستقبِل القبلة؛ لما جاء في حديث جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة"، انتهى. تنبيه: ما يفعله العوامُّ من استقبال قرن عرفة واستدبار القبلة عند الدعاء بدعة مخالفة للسنة، ولا أعلم لذلك أصلاً من كتاب الله - تعالى - ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا قول مَن يقتدي به، وبالله التوفيق. * * * الحديث الخامس عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح، قال: ((اذبح ولا حرج)) ، وقال الآخر: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي، فقال: ((ارمِ ولا حرج)) ، فما سُئِل يومئذٍ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) . قوله: "عن عبد الله بن عمر"، قال الحافظ: هو ابن العاص، بخلاف ما وقع في بعض نسخ "العمدة"، وشرح عليه ابن دقيق العيد ومَن تبعه على أنه ابن عمر. قوله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع"؛ أي: بمنًى "فجعلوا يسألونه"، وفي رواية: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الجمرة وهو يسأل"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وفي رواية: "وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقته"، وفي رواية: "أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: كنت أحسب أنَّ كذا قبل كذا، ثم قام آخر فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((افعل ولا حرج)) لهن كلهن، فما سُئِل يومئذ عن شيء إلا قال: ((افعل ولا حرج)) . قال الحافظ: كان ذلك يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة، ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها، ففي حديث ابن عمر: أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النحر بين الجمرات فذكر خطبته، فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض ورجع إلى منى. قوله: "فقال رجل لم أشعر أي لم أفطن"، ولمسلم: "لم أشعر أن الرمي قبل النحر، فنحرت قبل أن أرمي"، وقال آخر: "لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر"، ولمسلم: "إني حلقت قبل أن أرمي"، وقال آخر: "أفضت إلى البيت قبل أن أرمي". قوله: ((أذبح ولا حرج)) ؛ أي: لا ضيق عليك في ذلك، قال الحافظ: أي: لا شيء عليك مطلقًا من الإثم، لا في الترتيب ولا في ترك الفدية، هذا ظاهره، وقال بعض الفقهاء: المراد نفي الإثم فقط، وفيه نظر؛ لأن في بعض الروايات الصحيحة: "ولم يأمر بكفارة"، وقال الحافظ أيضًا: وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة. وفي حديث أنس في الصحيحين: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منًى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنًى فنحر وقال للحلاق: ((خذ)) ، ولأبي داود: "رمى ثم نحر ثم حلق". وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، واختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض؛ فأجمعوا على الإجزاء في ذلك، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع. وقال القرطبي: ذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدم؛ لقوله للسائل: ((لا حرج)) ، فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معًا؛ لأن اسم الضيق يشملها، انتهى. ولمسلم: فما سمعته سُئِل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجعل من تقديم بعض الأمور على بعض وأشباهها إلا قال: ((افعلوا ولا حرج)) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 قال الموفق في "المغني": قال الأثرم عن أحمد: إن كان ناسيًا أو جاهلاً فلا شيء عليه، وإن كان عالمًا فلا؛ لقوله في الحديث: ((لم أشعر)) . وقال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دلَّ على وجوب اتِّباع الرسول في الحج بقوله: ((خذوا عني مناسككم)) ، وهذه الأحاديث المرخِّصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قُرِنت بقول السائل: لم أشعر، فيختصُّ الحكم بهذه الحالة وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد جواز القعود على الراحلة للحاجة، ووجوب اتباع أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكون الذين خالفوها لمَّا علموا سألوه عن حكم ذلك، واستدلَّ به البخاري على أن مَن حلف على شيء ففعله ناسيًا أو جاهلاً أن لا شيء عليه. * * * الحديث السادس عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي: "أنه حجَّ مع ابن مسعود - رضي الله عنه - فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصياتٍ فجعل البيت عن يساره ومنًى عن يمينه، ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة - صلَّى الله عليه وسلَّم". قال الأعمش: سمعت الحجاج يقول على المنبر: السورة التي يذكر فيها البقرة والسورة التي يذكر فيها آل عمران، والسورة التي يذكر فيها النساء، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع ابن مسعود - رضي الله عنه - حين رمى جمرة العقبة فاستبطن الوادي حتى إذا حاذَى بالشجرة اعترَضَها فرمى بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصاة، ثم قال: من ها هنا، والذي لا إله غيره قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة - صلَّى الله عليه وسلَّم. قال الحافظ: تمتاز جمرة العقبة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الجمرتين الأُخرَيَيْن بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمي ضحى، ومن أسفلها استحبابًا. قال: وليست من منًى بل هي حد مني من جهة مكة، وهي التي بايَع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار عندها على الهجرة، و (الجمرة) : اسم لمجتمع الحصى. قال: وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه، أو عن يساره، أو من فوقها، أو من أسفلها، أو وسطها، والاختلاف في الأفضل، انتهى. وخصَّ ابن مسعود سورة البقرة لأنها التي ذكر الله فيها كثيرًا من أفعال الحج، وقيل: خص البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما فيها من الأحكام. قال الحافظ: واستدلَّ بهذا الحديث على اشتراط رمي الجمرات واحدة واحدة؛ لقوله: "يكبر مع كل حصاة"، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عنِّي مناسككم)) ، وفيه ما كان الصحابة عليه من مراعاة حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ حركة وهيئة، ولا سيَّما في أعمال الحج، وفيه التكبير عند رمي حصى الجمار، وأجمعوا على أن مَن لم يكبر فلا شيء عليه. فائدة: زاد محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن أبيه في هذا الحديث عن ابن مسعود: أنه لما فرغ من رمي جمرة العقبة قال: "اللهم اجعله حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا"، انتهى. تتمَّة: عن الفضل بن العباس - رضي الله عنهما - وكان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في عشية عرفة وغداةَ جمع للناس حين دفعوا: ((عليكم السكينة)) ، وهو كافٌّ ناقته حتى دخل محسِّرًا وهو من منى، قال: ((وعليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة)) ؛ رواه أحمد ومسلم. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن لضَعَفة الناس من المزدلفة بليل"؛ رواه أحمد. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى، وأمَّا بعد فإذا زالت الشمس"؛ أخرجه الجماعة. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبًا وراجعًا"؛ رواه الترمذي وصحَّحه، وفي لفظٍ عنه: أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبًا، وسائر ذلك ماشيًا، ويخبرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 رواه أحمد. وعن سالم عن ابن عمر: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصاة، ثم يتقدَّم فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله؛ رواه أحمد والبخاري. وعن سعد بن مالك - رضي الله عنه - قال: "رجعنا في الحجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضنا يقول: رميت بست حصيات، فلم يعب بعضهم على بعض"؛ رواه أحمد والنسائي. وعن وبرة قال: "سألت ابن عمر - رضي الله عنهما -: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمِه، فأعدت عليه المسألة، قال: كنَّا نتحيَّن فإذا زالت الشمس رمينا"؛ رواه البخاري. قال الحافظ: فيه دليلٌ على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور، وخالَف فيه عطاء وطاوس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقًا، ورخَّص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، وقال إسحاق: إن رمى قبل الزوال أعاد، إلاَّ في اليوم الثالث فيجزئه، انتهى. وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به؛ رواه البخاري. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إنما كان منزلاً ينزله النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون أسمح لخروجه"؛ تعني: بالأبطح، متفق عليه. وعن عبد العزيز ابن رفيع قال: "سألت أنس بن مالك: أخبِرني بشيء عقلتَه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنًى، قلت: فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح، افعل كما يفعل أمراؤك"؛ متفق عليه. * * * الحديث السابع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اللهم ارحم المحلِّقين)) ، قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قال: ((اللهم ارحم المحلِّقين)) ، قالوا: يا رسول الله، والمقصِّرين؟ قال: ((والمقصِّرين)) . الحلق أو التقصير: نسك من مناسك الحج والعمرة؛ قال الله - تعالى -: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] . قوله: ((اللهم ارحم المحلقين)) في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اغفر للمحلِّقين)) ، قالوا: وللمقصِّرين، قال: ((اللهم أغفر للمحلِّقين)) ، قالوا: وللمقصِّرين، قالها ثلاثًا، قال: ((وللمقصرين)) . وعن ابن عمر قال: "حلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأناس من أصحابه وقصر بعضهم". وزاد فيه مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يرحم الله المحلِّقين)) . قوله: "قالوا: والمقصرين يا رسول الله" قال الحافظ: الواو في قوله: ((والمقصرين)) معطوفة على شيء محذوف تقديره: قل: والمقصرين، أو: قل: وأرحم المقصرين، وهو يسمى العطف التلقيني، انتهى. وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لأهل الحديبية، للمحلِّقين ثلاثًا وللمقصِّرين مرَّة"؛ رواه أحمد، قال الحافظ: ظاهر الروايات أن ذلك كان بالحديبية وفي حجة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الوداع، إلاَّ أن السبب في الموضعين مختلف؛ فالذي بالحديبية كان بسبب توقُّف مَن توقَّف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم مُنِعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك، فحالَفَهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصالَح قريشًا على أن يرجع من العام المُقبِل، فلمَّا أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحلال توقَّفوا، فأشارت أم سلَمَة أن يحلَّ هو - صلى الله عليه وسلم - قبلهم ففعل فتبعوه، فحلق بعضهم وقصَّر بعض، وكان مَن بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممَّن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس؛ فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره: أنهم قالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة؟ قال: ((لأنهم لم يشكُّوا)) ، وأمَّا السبب في تكرير الدعاء للمحلِّقين في حجة الوداع، فالأَوْلَى ما قاله الخطابي وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحبُّ توفير الشعر والتزيُّن به، وكان الحلق فيهم قليلاً، وربما كانوا يرَوْنَه من الشهرة ومن زيِّ الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. قال: وفي الحديث من الفوائد أن التقصير يجزى عن الحلق، وفيه أن الحلق أفضل من التقصير، ووجهه أنه أبلغ في العبادة وأَبْيَن للخضوع والذلَّة وأدلُّ على صدق النية، والذي يقصر يبقى على نفسه شيئًا مما يتزيَّن به بخلاف الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله - تعالى - واستدلَّ بقوله: ((المحلقين)) على مشروعية حلق جميع الرأس؛ لأنه الذي تقتضيه الصيغة، وقال بوجوب حلق جميعه مالك وأحمد، واستحبَّه الكوفيون والشافعي، والتقصير كالحلق، فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة، وهذا كله في حق الرجال، وأما النساء: فالمشروع في حقِّهن التقصير بالإجماع، وفيه حديثٌ لابن عباس عند أبي داود، ولفظه: ((ليس على النساء حلق، وإنما على النساء التقصير)) ، وللترمذي من حديث عليٍّ: "نهى أن تحلق المرأة رأسها". وفي الحديث أيضًا مشروعيةُ الدعاء لِمَن فعل ما شرع له وتكرير الدعاء لِمَن فعل الراجح من الأمرين المخيَّر فيهما، والتنبيه بالتكرار على الرجحان، وطلب الدعاء لِمَن فعل الجائز وإن كان مرجوحًا، انتهى ملخصًا. * * * الحديث الثامن عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله، إنها حائض، فقال: ((أحابِسَتَنا هي؟)) ، قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 قال: ((اخرجوا)) ، وفي لفظ: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عَقْرَى حَلْقَى، أفاضت يوم النحر؟)) ، قيل: نعم، قال: ((فانفري)) . قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((عَقْرَى حَلْقَى)) ؛ أي: عقرها الله وحلق شعرها، والعرب تدعو على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به، كما قالوا: قاتَلَه الله، وترِبت يداه، ونحو ذلك. قوله: ((أحابستنا هي؟)) قال الحافظ: أي: مانعتنا من التوجُّه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجُّه فيه ظنًّا منه - صلى الله عليه وسلم - أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك لأنه كان لا يتركها ويتوجَّه، ولا يأمرها بالتوجُّه معه وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثاني. قوله: ((أفاضت يوم النحر؟)) ، قيل: نعم، قال: ((فانفري)) قال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع، انتهى. وعن عكرمة: "أن أهل المدينة سألوا ابن عباس - رضي الله عنهما - عن امرأة طافت ثم حاضت، قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد، قال: إذا قدمتم المدينة فسلوا، فقدموا المدينة فسألوا: فكان فيمَن سألوا أم سليم، فذكرت حديث صفية"؛ متفق عليه. قال الحافظ: وفي الحديث أن طواف الإفاضة ركن، وأن الطهارة شرطٌ لصحة الطواف، وأن طواف الوداع واجب، وقد ذكر مالك في "الموطأ": أنه يلزم الجمال أن يحبس لها؛ أي: لِمَن لم تَطُفْ طواف الإفاضة إلى انقضاء أكثر مُدَّة الحيض، وكذا على النفساء، واستشكله ابن المواز بأن فيها تعريضًا للفساد كقطع الطريق، وأجاب عياض بأن محلَّ ذلك مع أمن الطريق، كما أن محلَّه أن يكون مع المرأة محرم، انتهى. وقال ابن مفلح في "الفروع": ويلزم الناس في الأصحِّ وجزَم به ابن شهاب انتظارها إن أمكن، ونقل المروذي في المريض ببلد العدو يقيمون عليه، قال: لا ينبغي للوالي أن يقيم عليه، انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: والمحصَر بمرض أو ذهاب نفقة كالمحصَر بعدوٍّ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ومثله حائض تعذَّر مقامها وحرم طوافها أو رجعت ولم تَطُفْ لجهلها بوجوب طواف الزيارة، أو لعجزها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 عنه، أو لذهاب الرفقة، والمحصَر يلزمه دم في أصح الروايتين، ولا يلزمه قضاء حجه إن كان تطوعًا، وهو إحدى الروايتين انتهى، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفِّف عن المرأة الحائض". طواف الوداع واجب، ويلزم بتركه دمٌ، وهو قول أكثر العلماء. قوله: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت"؛ أي: أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية لمسلم قال: "كان الناس ينصرفون في كلِّ وجه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)) . قال الحافظ: وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكَّد به وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكَّد، واستدلَّ به على أن الطهارة شرط لصحة الطواف، انتهى، والله أعلم. * * * الحديث العاشر عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له". قال الحافظ: في الحديث دليلٌ على وجوب المبيت بمنًى، وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقَع للعلة المذكورة وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور، وفي الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 أيضًا استئذان الأمراء والكبراء فيما يطرأ من المصالح والأحكام، وبدار مَن استؤمر إلى الإذن عند ظهور المصلحة، والمراد بليالي منًى ليلة الحادي عشر واللتين بعدها، انتهى. قال الأزرقي: "كان عبدمناف يحمل الماء في الروايا والقرب إلى مكة ويسكبه في حياض من أدم بفناء الكعبة للحجاج، ثم فعله ابنه هاشم بعده ثم عبد المطلب، فلمَّا حفر زمزم كان يشتري الزبيب فينبذه في ماء زمزم ويسقي الناس. قال ابن إسحاق: ثم ولي السقاية من بعد عبد المطلب ولده العباس وهو يومئذ من أحدث إخوته سنًّا، فلم تزل بيده حتى قام الإسلام وهي بيده، فأقرَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه، فهي اليوم إلى بني العباس، روى الفاكهي عن ابن عباس: أن العباس لما مات أراد عليٌّ أن يأخذ السقاية، فقال له طلحة: أشهد لَرَأيت أباه يقوم عليها، وإن أباك أبا طالب لنازل في إبله بالأراك بعرفة، قال: فكف علي عن السقاية". ومن طريق ابن جريج قال: "قال العباس: يا رسول الله، لو جمعت لنا الحجابة والسقاية، فقال: ((إنما أعطيتكم ما تُرزؤون ولم أعطكم ما تَرزؤون)) ؛ أي: أعطيتكم ما ينقصكم لا ما تنقصون به الناس. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل، أذهب إلى أمك فائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب من عندها، فقال: ((اسقني)) ، قال يا رسول الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: ((اسقني)) ، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: ((اعملوا فإنكم على عمل صالح)) ، ثم قال: ((لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه)) ؛ يعني: عاتقه، وأشار إلى عاتقه"؛ رواه البخاري. تتمَّة: عن عاصم بن عدي - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منًى، يرمون يوم النحر ثم يرمون الغداة ومن بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر"؛ رواه الخمسة وصحَّحه الترمذي. وفي رواية: "رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا"؛ رواه أبو داود والنسائي، وللترمذي: "ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمون في أحدهما". قال الشوكاني في قوله: "ويدعوا يومًا": أي: يجوز لهم أن يرموا الأوَّل من أيام التشريق ويذهبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 إلى إبلهم فيبيتوا عندها، ويدعوا يوم النفر الأول ثم يأتوا في اليوم الثالث فيرموا ما فاتهم في اليوم الثاني مع الثاني مع رمي اليوم الثالث، وفيه تفسير ثانٍ: وهو أنهم يرمون جمرة العقبة ويدعون رمي ذلك اليوم ويذهبون، ثم يأتون في اليوم الثاني من التشريق فيرمون ما فاتهم، ثم يرمون ذلك اليوم كما تقدَّم وكلاهما جائز، انتهى. وقال الموفق: وإن أخَّر الرمي كله فرماه في آخر أيام التشريق أجزأه ويرتبه بنيته، وإن أخَّره عن أيام التشريق أو ترك المبيت بمنًى في لياليها فعليه دم، وفي حصاة واحدة أو ليلة واحدة ما في حلق شعرة، وليس على أهل سقاية الحاج والرعاء مبيت بمنى، انتهى. وعن أبي نضرة قال: "حدثني من سمع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أوسط أيام التشريق فقال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألاَ لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر - إلا بالتقوى، أبلغت؟)) ، قالوا: بلغ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ رواه أحمد. وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: "دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت، فحمد الله وأثنى عليه، وكبر وهلل، ثم قام إلى ما بين يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه، ثم هلل وكبر ودعا، ثم فعل ذلك بالأركان كلها، ثم خرج فأقبل على القبلة وهو على الباب فقال: ((هذه القبلة، هذه القبلة)) ، مرتين أو ثلاثًا"؛ رواه أحمد والنسائي. وعن عبد الرحمن بن صفوان - رضي الله عنه - قال: "لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة انطلقت فوافقته قد خرج من الكعبة وأصحابه قد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطهم"؛ رواه أحمد وأبو داود، وبالله التوفيق. * * * الحديث الحادي عشر عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجمعٍ يجعل لكلِّ واحدة منهما إقامة ولم يسبِّح بينهما، ولا على أثر واحدة منهما". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 قوله: "بجمع"؛ أي: المزدلفة، وفي حديث أسامة: "دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة، فنزل الشِّعْبَ فبَالَ، ثم توضَّأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة، فقال: ((الصلاة أمامك)) ، فجاء المزدلفة فتوضَّأ فأسبغ، ثم أُقِيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أُقِيمت الصلاة فصلى العشاء ولم يصلِّ بينهما"؛ متفق عليه. ولمسلم: "فأقام المغرب ثم أناخ الناس ولم يحلُّوا حتى أقام العشاء، فصلُّوا ثم حلُّوا"، قال الحافظ: وكأنهم صنعوا ذلك رفقًا بالدواب أو للأمن من تشوُّشِهم بها، وفيه إشعارٌ بأنه خفَّف القراءة في الصلاتين، وفيه أنه لا بأس بالعمل اليسير بين الصلاتين اللتين يجمع بينهما ولا يقطع ذلك الجمع، انتهى. وعن جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى المزدلفة فصلَّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبيَّن له الصبح بأذان وإقامة"؛ رواه مسلم. وفي حديث ابن مسعود: فلمَّا طلع الفجر قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي هذه الساعة، إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال عبد الله: هما صلاتان يحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعدما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين يبزغ الفجر"؛ رواه البخاري. قوله: "ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدة منهما"، قال الحافظ: ويستفاد منه أنه ترك التنفُّل عقب المغرب وعقب العشاء، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة، صرح بأنه لم يتنفَّل بينهما بخلاف العشاء، فإنه يحتمل أن يكون أنه لم يتنفَّل بعدها، لكن تنفَّل بعد ذلك في أثناء الليل، انتهى. وقال ابن رشد في "بداية المجتهد": واختلفوا إذا كان الإمام مكيًّا، هل يقصر بمنًى الصلاة يوم التروية، وبعرفة يوم عرفة، وبالمزدلفة ليلة النحر إن كان من أحد هذه المواضع؟ فقال مالك والأوزاعي وجماعة: سنة هذه المواضع التقصير سواء كان من أهلها أو لم يكن. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وداود: لا يجوز أن يقصر مَن كان من أهل تلك المواضع. وحجة مالك: أنه لم يروَ أن أحدًا أتمَّ الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم - أعني بعد سلامه منها. وحجة الفريق الثاني البقاء على الأصل المعروف أن القصر لا يجوز إلا للمسافر حتى يدل الدليل على التخصيص، انتهى. قال شيخ الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ابن تيميَّة: ويجمع ويقصر بمزدلفة وعرفة مطلقًا، وهو مذهب مالك وغيره من السلف، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، واختاره أبو الخطاب في عباداته، ولا يشترط للقصر والجمع نية، واختاره أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره، انتهى، وبالله التوفيق. * * * باب الحرم يأكل من صيد الحلال الحديث الأول عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجًّا فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم أبو قتادة وقال: خذوا على ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلمَّا انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش، فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانًا فنزلنا وأكلنا من لحمها، ثم قلنا: نأكل من لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عن ذلك، فقال: ((أمنكم أحدٌ أمَرَه أن يحمِل عليها أو أشار إليها؟)) ، قالوا: لا، قال: ((فكلوا ما بقي من لحمها)) ، وفي رواية: ((هل معكم منه شيء؟)) ، فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها. قوله: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجًّا فخرجوا معه"، في رواية: "انطلقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم أحرم فأنبئنا بعدو بغسيقة فتوجَّهنا نحوهم فبصر أصحابي بحمار وحشي، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرت فرأيته، فحملت عليه الفرس فطعنته فأثبتُّه فاستعنتهم فأبَوْا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 يعينوني فأكلنا منه"، وفي رواية عند البيهقي: "خرج حاجًا أو معتمرًا". قوله: "فلمَّا انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم"، في حديث أبي سعيد: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحرمنا، فلمَّا كنا بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في وجه ... )) الحديث. قوله: "فبينما هم يسيرون رأوا حمر وحش"، في رواية: "فأبصروا حمارًا وحشيًّا وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به وأحبُّوا لي أني أبصرته والتفتُّ فأبصرته"، وفي رواية: "فقلت ما هذا؟ فقالوا: لا ندري، فقلت: هو حمار وحش، فقالوا: هذا ما رأيت". قال الحافظ: وفي حديث أبي قتادة من الفوائد أن تمني المحرم أن يقع من الحلال الصيد ليأكل المحرم منه لا يقدح في إحرامه، وأن الحلال إذا صاد لنفسه جاز للمحرم الأكل من صيده، وهذا يقوي من حمل الصيد في قوله - تعالى -: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ، على الاصطياد، وفيه الاستيهاب من الأصدقاء وقبول الهدية من الصديق. وقال عياض: عندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من أبي قتادة ذلك تطييبًا لقلب مَن أكل منه بيانًا للجواز بالقول والفعل لإزالة الشبهة التي حصلت لهم، وفيه إمساك نصيب الرفيق الغائب ممَّن يتعيَّن احترامه أو تُرجَى بركته، أو يتوقَّع منه ظهور حكم تلك المسألة بخصوصها، وفيه تفريق الإمام أصحابه للمصلحة واستعمال الطليعة في الغزو، وفيه أن عقر الصيد ذكاته، وفيه استعمال الكناية في الفعل كما تُستَعمل في القول؛ لأنهم استعملوا الضحك في موضع الإشارة لما اعتقدوه من أن الإشارة لا تحلُّ، وفيه ذكر الحكم مع الحكمة في قوله: ((إنما هي طعمة أطعمكموها الله)) . تكملة: لا يجوز للمحرم قتل الصيد إلا إن صالَ عليه فقتله دفعًا فيجوز، ولا ضمان عليه، والله أعلم، اهـ. * * * الحديث الثاني عن الصعب بن جثامة الليثي - رضي الله عنه -: "أنه أهدى إلى النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 - صلى الله عليه وسلم - حمارًا وحشيًّا وهو بالأبواء أو بوَدَّانَ فردَّه عليه، فلمَّا رأى ما في وجهه قال: ((إنا لم نردَّه عليك إلا أنا حرم)) ، وفي لفظ لمسلم: "رجل حمار"، وفي لفظ: "شق حمار"، وفي لفظ: "عجز حمار". قال الشافعي في "الأم": إن كان الصعب أهدى له حمارًا حيًّا، فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حي، وإن كان أهدى له لحمًا، فقد يحتمل أن يكون أنه صيد له. قوله: "فلمَّا رأى ما في وجهه"؛ أي: من الكراهية، وفي رواية: "فلمَّا عرف في وجهي رده هديتي". قوله: قال: ((إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم)) ، في رواية: ((لولا أنا مُحرِمون لقبلناه منك)) . قوله: وفي لفظٍ لمسلم: "رجل حمار"، في روايةٍ له أيضًا عن ابن عباس قال: "قدم زيد بن أرقم فقال له عبد الله بن عباس يستذكره كيف: أخبرني عن لحم صيد أُهدِي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حرام قال: أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال: ((إنا لا نأكله، إنا حرم)) ، قال الحافظ: جمع الجمهور بين ما اختلف من ذلك بأن أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه ثم يهدي منه للمحرم، وأحاديث الرد محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم، قالوا: والسبب في الاقتصار على الإحرام عند الاعتذار للصعب أن الصيد لا يحرم على المرء إذا صيد له إلا إذا كان محرمًا، فبيَّن الشرط الأصلي وسكت عمَّا عداه فلم يدلَّ على نفيه، وقد بينه في الأحاديث الأخر، ويؤيِّد هذا الجمع حديث جابر مرفوعًا: ((صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصاد لكم)) ؛ أخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة. وفي حديث الصعب الحكمُ بالعلامة لقوله: "فلمَّا رأى ما في وجهي"، وفيه جواز رد الهدية لعلَّة، وفيه الاعتذار عن ردِّ الهدية تطييبًا لقلب المهدي، وأن الهبة لا تدخل في الملك إلا بالقبول، وأن قدرته على تملكها لا تصيِّره مالكًا لها، وأن على المحرم أن يرسل ما في يده من الصيد الممتنع عليه اصطياده، والله أعلم، اهـ. تتمَّة: قال الموفق: وإن أحرم وفي يده صيد، أو دخل الحرم بصيد لزمه إزالة يده المشاهدة دون الحكمية عنه، فإن لم يفعل فتلف ضَمِنَه، وإن أرسله إنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 من يده قهرًا فلا ضمان على المرسل. قوله: "لزمه إزالة يده المشاهدة"؛ أي: مثلما إذا كان في قبضته أو خيمته أو قفصه ونحوه، قال في "الشرح الكبير": إذا أحرم وفي ملكه صيد لم يزل ملكه عنه ولا يده الحكمية مثل أن يكون في بلده، أو في يد نائب له في غير مكانه، ولا شيء عليه إن مات، وله التصرُّف فيه بالبيع والهبة وغيرهما، وإن غصبه غاصب لزمه ردُّه، ويلزمه إزالة يده المشاهدة عنه، ومعناه إذا كان في قبضته أو خيمته أو رحله أو قفص معه أو مربوط بحبل معه لزمه إرساله، وبه قال مالك وأصحاب الرأي. وقال الثوري: هو ضامن لما في بيته أيضًا، وحُكِي نحو ذلك عن الشافعي، وقال أبو ثور: ليس عليه إرسال ما في يده وهو أحد قولي الشافعي؛ لأنه في يده ولم يجب إرساله كما لو كان في يده الحكمية، ولأنه لا يلزم منع ابتداء الصيد المنع من استدامته بدليل الصيد في الحرم، ولنا على أنه لا يلزمه إزالة يده الحكمية أنه لم يفعل في الصيد فعلاً فلم يلزمه شيء كما لو كان في ملك غيره، وعكس هذا إذا كان في يده المشاهدة، لأنه فعل الإمساك في الصيد فكان ممنوعًا منه، وكحالة الابتداء فإن استدامة الإمساك إمساك، بدليل أنه لو حلف لا يملك شيئًا فاستدام إمساكه حنث، والأصل المقيس عليه ممنوع والحكم فيه ما ذكرنا قياسًا عليه إذا ثبت هذا فإنه متى أرسله لم يزل ملكه عنه، ومَن أخذه رده عليه إذا حلَّ، ومَن قتله ضَمِنَه له؛ لأن ملكه كان عليه، وإزالة يده لا تزيل الملك بدليل الغصب والعارية، فإن تلف في يده قبل إرساله مع إمكانه ضمنه، اهـ. وقال ابن مفلح في "الفروع": وإن ملك صيدًا في الحل فأدخله الحرم لزمه رفع يده وإرساله، فإن أتلفه أو تلف ضمنه كصيد الحلِّ في حق المحرم، نقله الجماعة وعليه الأصحاب وفاقًا لأبي حنيفة، ويتوجَّه أنه لا يلزمه إرساله وله ذبحه، ونقل الملك فيه وفاقًا لمالك والشافعي؛ لأن الشارع إنما نهى عن تنفير صيد مكة، ولم يبيِّن مثل هذا الحكم الخفي مع كثرة وقوعه والصحابة مختلفون، وقياسه على الإحرام فيه نظر؛ لأنه آكد لتحريمه ما لا يحرم، اهـ. تكميل: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) . قال الحافظ: قوله: ((لا تُشَدُّ الرحال)) بضم أوَّله بلفظ النفي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 والمراد النهي عن السفر إلى غيرها، قال الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي فإنه قال لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصَّت به، والرِّحال بالمهملة جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس، وكني بشدِّ الرحال عن السفر لأنه لازِمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور، ويدلُّ عليه قوله في بعض طرقه: ((إنما يسافر)) ؛ أخرجه مسلم من طريق عمران بن أبي أويس عن سليمان الأغر عن أبي هريرة، اهـ. وقال الصنعاني في "سبل السلام": والحديث دليلٌ على فضيلة هذه المساجد، ودلَّ بمفهوم الحصر أنه يحرم شد الرحال لقصد غير الثلاثة، كزيارة الصالحين أحياءً وأمواتًا لقصد التقرُّب ولقصد المواضع الفاضلة لقصد التبرُّك بها والصلاة فيها، وقد ذهب إلى هذا الشيخ أبو محمد الجويني، وبه قال القاضي عياض وطائفة، ويدلُّ عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار أبي بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور، وقال: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت، واستدلَّ بهذا الحديث ووافَقَه أبو هريرة. وذهب الجمهور إلى أن ذلك غير محرَّم، واستدلُّوا بما لا ينهض، وتأوَّلوا أحاديث الباب بتآويل بعيدة، ولا ينبغي التأويل إلا بعد أن ينهض على خلاف ما أوَّلوه الدليل. وقد دلَّ الحديث على فضل المساجد الثلاثة، وأن أفضلها المسجد الحرام؛ لأن التقديم ذكرًا يدلُّ على مزيَّة المقدَّم، ثم مسجد المدينة، ثم المسجد الأقصى، وقد دلَّ لهذا أيضًا ما أخرجه البزار وحسَّن إسناده من حديث أبي الدرداء مرفوعًا: ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)) ، وفي معناه أحاديث أُخَر، اهـ. وقال الشوكاني في "شرح المنتقى": وقد اختلف أقوال أهل العلم في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب الجمهور إلى أنها مندوبة، وذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية إلى أنها واجبة، وقالت الحنفية: إنها قريبة من الواجبات، وذهب ابن تيميَّة الحنبلي حفيد المصنف المعروف بشيخ الإسلام إلى أنها غير مشروعة، وتبعه على ذلك بعض الحنابلة، وروى ذلك عن مالك والجويني والقاضي عياض، اهـ. وقال ابن القيم: فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في زيارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 القبور، كان إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم، والترحُّم عليهم، والاستغفار لهم، وهذه هي الزيارة التي سنَّها لأمَّته وشرعها لهم، وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية"، وكان هديه أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة عليه من الدعاء والترحُّم والاستغفار، فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإشراك به، والإقسام على الله به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به، والتوجُّه إليه بعكس هديه - صلى الله عليه وسلم - فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت، وهم ثلاثة أقسام: إمَّا أن يدعوا الميت، أو يدعوا به، أو عنده، ويرون الدعاء عنده أوجَب وأَوْلَى من الدعاء في المساجد، ومَن تأمَّل هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تبيَّن له الفرق بين الأمرين، وبالله التوفيق، اهـ. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ، ثم ينصرف؛ رواه مالك في الموطأ. قال الموفق في "المغني": ولا يستحب التمسُّح بحائط قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تقبيله، قال أحمد: ما أعرف هذا، قال الأثرم: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسُّون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقومون من ناحية فيسلمون، قال أبو عبد الله: وهكذا كان ابن عمر يفعل، اهـ. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما منكم من أحد يسلم علي إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام)) ؛ رواه أبو داود بإسناد صحيح. قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: وإذا سلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - استقبل القبلة ودعا في المسجد ولم يدعُ مستقبلاً للقبر كما كان الصحابة يفعلونه وهذا بلا نزاع، وما نقل عن مالك فيما يخالف ذلك مع المنصور فليس بصحيح وإنما تنازعوا في وقت التسليم هل يستقبل القبر أو القبلة؟ فقال أصحاب أبي حنيفة: يستقبل القبلة، والأكثرون على أنه يستقبل القبر، انتهى، وبالله التوفيق، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 كتاب البيوع الحديث الأول عن عبد اله بن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا تبايع الرجلان فكلُّ واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرَّقا وكانا جميعًا، أو يخبر أحدهما الآخر)) ، قال: ((فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع)) . وما في معناه من حديث حكيم بن حزام وهو: * * * الحديث الثاني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا)) ، أو قال: ((حتى يتفرَّقا، فإن صدَقا وبينا بُورِك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحِقت بركة بيعهما)) . البيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وقال - عزَّ وجلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . والبيوع: جمع بيع، وجمع لاختلاف أنواعه، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: وكلُّ ما عدَّه الناس بيعًا أو هبةً من متعاقب أو متراخٍ من قول أو فعل انعقد به البيع والهبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 قوله: ((إذا تبايع الرجلان فكلُّ واحد منهما بالخيار ما لم يتفرَّقا)) ؛ أي: فينقطع الخيار. وقوله: ((وكانا جميعًا)) تأكيد لذلك. قوله: ((أو يخير أحدهما الآخر)) ؛ أي: إذا اشترط أحدهما الخيار مدَّة معلومة فإن الخيار لا ينقضي بالتفرُّق بل يبقى حتى تنقضي مدَّة الخيار التي شرطها، فالبيع جائز والشرط لازم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحلَّ حرامًا)) والخيار طلب أحد الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه، والحديث دليلٌ على ثبوت خيار المجلس للبائع والمشتري، فلكلِّ واحدٍ منهما فسخ البيع ما داما في مجلس العقد، فإذا تفرَّقا لزم البيع، وفيه دليل على خيار الشرط. قال شيخ الإسلام: ويثبت خيار المجلس في البيع وفي كل العقود ولو طالت المدَّة، فإن أطلقا الخيار ولم يؤقتا بمدَّة توجَّه أن يثبت ثلاثًا لخبر حبان بن منقذ: وللبائع الفسخ في مدَّة الخيار إذا ردَّ الثمن وإلا فلا، انتهى. وخبر حبان أخرجه أصحاب السنن، عن ابن عمر: أن حبان بن منقذ سفع في رأسه في الجاهلية مأمومة فخبلت لسانه، فكان إذا بايع يخدع في البيع، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بايع وقل لا خلابة ثم أنت بالخيار ثلاثًا)) ، قال ابن عمر: فسمعته يبايع ويقول: لا خذابة لا خذابة. قوله: ((فإن صدقًا وبيّنًا)) ؛ أي: إن صدقا في قولهما وبيَّن البائع عيب السلعة وبيَّن المشتري عيب الثمن ((بُورِك لهما في بيعهما، وإن كتما)) : أي العيب ((وكذبا)) في قولهما ((مُحِقت بركة بيعهما)) ، وفي الحديث فضل الصدق والحث عليه، وذم الكذب والتحذير منه، وأنه سبب لذهاب البركة، وأن العمل الصالح يحصل حيري الدنيا والآخرة، والله المستعان. تتمَّة: قال في "الاختيارات": والصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كلِّ عيب، والذي قضى به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم: أن البائع إذا لم يكن علم بذلك العيب فلا رد للمشتري، لكن إذا ادَّعى أن البائع علم بذلك فأنكر البائع حلف أنه لم يعلم، فإن نكل قضى عليه، وإذا اشترى شيئًا فظهر به على عيب فله أرشه إن تعذَّر رده وإلا فلا، وهو روايةٌ عن أحمد ومذهب أبي حنيفة والشافعي، وكذا في نظائره كالصفقة إذا تفرقت، والبيع بالصفة السليمة صحيح وهو مذهب أحمد، وإن باعه لبنًا موصوفًا في الذمة واشتراط كونه من هذه الشاة أو البقرة صحَّ، انتهى. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 باب ما نهى الله عنه من البيوع الحديث الأول عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المنابذة؛ وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة؛ والملامسة لمس الرجل الثوب لا ينظر إليه. قوله: "باب ما نهى الله عنه من البيوع"؛ أي: على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله - تعالى -: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، قال ابن رشد في "بداية المجتهد": وإذا اعتبرت الأسباب التي من قِبَلها ورد النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة وجدت أربعة: أحدها تحريم عين المبيع، والثاني: الربا، والثالث: الغرر، والرابع: الشروط التي تؤول إلى أحد هذين أو مجموعهما. قوله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المنابذة، وهي طرح الرجل ثوبه ... إلى آخره، (المنابذة) و (الملامسة) و (الحصاة) : بيوع كانوا يتبايعون بها في الجاهلية وهي من القمار ومن بيوع الغرر. ولأحمد: والمنابذة أن يقول: إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع، والملامسة: أن يلمس بيده ولا يشره ولا يقلبه، إذا مسه وجب البيع. تتمَّة: قال في "الاختيارات": يصحُّ بيع الحيوان المذبوح مع جلده وهو قول جمهور العلماء، وكذا لو أفرد أحدهما بالبيع، ويصحُّ بيع المغروس في الأرض الذي يظهر ورقه: كالقت والجوز والقلقاس والفجل والبصل وشبه ذلك، وقاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بعض أصحابنا، ويصحُّ البيع بالرقم، وبما ينقطع به السعر، وكما يبيع الناس، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، ولو باع ولم يسمِّ الثمن صحَّ بثمن المثل كالنكاح، انتهى. * * * الحديث الثاني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تلقوا الركبان، ولا يَبِع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبيع حاضر لبادٍ، ولا تُصَرُّوا الإبل والغنم، ومَن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردَّها وصاعًا من تمرٍ)) ، وفي لفظ: ((وهو بالخيار)) ثلاثًا. قوله: ((لا تلقوا الركبان)) ظاهرٌ في النهي عن ذلك؛ لما يحصل به من الغرر على الجالب والضرر على أهل السوق. وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلقوا الجلب، فمَن تلقى فاشترى، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار)) . قوله: ((ولا يبع بعضكم على بيع بعض)) ، وللنسائي ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر)) . ولمسلم: ((لا يسومن المسلم على سوم المسلم)) ، قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لِمَن اشترى سلعة في زمن الخيار: افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأَزْيَد، قال الحافظ: وهو مُجمَع عليه. وأمَّا السوم فصورته: أن يأخذ شيئًا ليشتريه فيقول له: ردَّه لأبيعك خيرًا منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك: استرده لأشتريه منك بأكثر، ومحلُّه بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر، اهـ. وعن أنس - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - باع حلسًا وقدحًا وقال: ((مَن يشتري هذا الحلس والقدح؟)) ، فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال: ((مَن يزيد على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 درهم؟)) ، فأعطاه الرجل درهمين فباعهما منه؛ رواه أحمد وأصحاب السنن. قوله: ((ولا تناجشوا)) (النجش) : هو الزيادة في ثمن السلعة ممَّن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، فإن كان ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم، وإلا فيختصُّ بذلك الناجش، قال البخاري: وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكِل ربا خائن، وهو خداع باطل لا يحلُّ. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الخديعة في النار، ومَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) ، اهـ. قوله: ((ولا يبيع حاضر لبادٍ)) ، في رواية لمسلم: ((لا يبيع حاضر لبادٍ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) . وقال البخاري: باب هل يبيع حاضر لبادٍ بغير أجر؟ وهل يعينه أو ينصحه؟ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له)) ، اهـ. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لبادٍ)) ، قال: فقلت لابن عباس: ما قوله: ((لا يبيع حاضر لبادٍ)) ؟ قال: لا يكون له سمسارًا، وقوله: ((ولا يبيع)) نفي بمعنى النهي. وصورة بيع الحاضر للبادي أن يحمل البدوي أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعرِ يومِه ويرجع فيأتيه البلديُّ فيقول: ضعه عندي لأبيعه على التدريج بزيادة سعر وذلك إضرار بأهل البلد. قوله: ((ولا تُصَرُّوا الإبل والغنم)) بضم التاء من صرَّى يصرِّي تصرية، والمصراة هي التي صرى لبنها وجمع، فلم يُحلَب أيامًا، وهو حرام؛ لأنه غش وخديعة، وفي رواية: ((مَن اشترى غنمًا مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر)) . قوله: ((فهو بخير النظرين)) ؛ أي: الرأيين. قوله: ((إن رضيها أمسكها)) ؛ أي: أبقاها على ملكه، قال الحافظ: وهو يقتضي صحة بيع المصراة وإثبات الخيار للمشتري، وحكى البغوي أن لا خلاف في المذهب أنهما لو تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره كفى. قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصلٌ في النهي عن الغش، وأصلٌ في ثبوت الخيار لِمَن دلَّس عليه بعيب، وأصلٌ في أنه لا يفسد أصل البيع، وأصلٌ في أن مُدَّة الخيار ثلاثة أيام، وأصلٌ في تحريم التصرية وثبوت الخيار فيها. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها، قيل إنه كان يبيع الشارف وهي الكبيرة المسنة بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته. قوله: "كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها"؛ أي: ثم تعيش المولودة حتى تكبر ثم تلد، والمنع في ذلك للجهالة في الأجل، والمنع في التفسير الثاني من جهة أنه بيع معدوم ومجهول وغير مقدور على تسليمه فيدخل في بيوع الغرر. ولأحمد عن ابن عمر: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتبايعون ذلك البيع يبتاع الرجل بالشارف حبل الحبلة، فنهوا عن ذلك. قال ابن التين: محصل الخلاف هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين؟ وعلى الأول هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها، وعلى الثاني هل المراد بيع الجنين الأول أو بيع جنين الجنين، فصارت أربعة أقوال، اهـ، وكل هذه الصور داخلة في النهي، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهي البائع والمشتري". ومثل هذا حديث أنس، وهو الذي بعده: * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الحديث الخامس عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل: وما تزهي؟ قال: حتى تحمرَّ أو تصفرَّ، قال: أرأيت إذا منع الله الثمرة بِمَ يستحلُّ أحدكم مال أخيه؟ سبب هذا النهي ما قال البخاري: وقال الليث: عن أبي الزناد وكان عروة بن الزبير يحدث عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري قال: كان الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون الثمار فإذا جاذَّ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدمان أصابه مرض أصابه قشام عاهات يحتجُّون بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كثرت عنده الخصومة في ذلك: فإمَّا لا فلا تتبايعوا كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم، وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبيَّن الأصفر من الأحمر. قوله: "حتى يبدو صلاحها"؛ أي: يظهر، وفي حديث جابر نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تُباع الثمرة حتى تشقح، فقيل: ما تشقح؟ قال: تحمار وتصفار ويُؤكَل منها؛ متفق عليه. قوله: "نهى البائع والمشتري" قال الحافظ: أمَّا البائع فلئلاَّ يأكل مال أخيه بالباطل، وأمَّا المشتري فلئلاَّ يضيع ماله ويساعد البائع على الباطل، وفيه أيضًا قطع النزاع والتخاصم، ومقتضاه جواز بيعها بعد بُدُوِّ الصلاح مطلقًا، سواء اشترط الإبقاء أم لم يشترط؛ لأن ما بعد الغاية مُخالِف لما قبلها، وقد جعل النهي ممتدًّا إلى غاية بُدُوِّ الصلاح، والمعنى فيه أن تؤمن فيها العاهة، وتغلب السلامة، فيَثِق المشتري بحصولها بخلاف ما قبل بُدُوِّ الصلاح فإنه بصدد الغرر، وسبب النهي عن ذلك خوف الغرر لكثرة الجوائح فيها. وفي حديث أنس: ((فإذا احمرَّت وأُكِل منها أُمِنت العاهة عليها)) ؛ أي: غالب. قوله: "نهى عن بيع الثمار حتى تزهى"، في رواية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن النخل حتى يزهو. قوله: "أرأيت إذا منع الله الثمرة بِمَ يستحلُّ أحدكم مال أخيه؟ وفي رواية: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرأيت إذا منع الله الثمرة بِمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟)) . وعن ابن شهاب قال: لو أن رجلاً ابتاع ثمرًا قبل أن يبدو صلاحه ثم أصابته عاهة كان ما أصابه على ربه. وروى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته عاهة فلا يحلُّ لك أن تأخذ منه شيئًا، بِمَ تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) ، قال الحافظ: واستدلَّ بهذا على وضع الجوائح في الثمر يشترى بعد بُدُوِّ صلاحه، ثم تصيبه جائحة، فقال مالك: يضع عنه الثلث، وقال أحمد وأبو عبيد: يضع الجميع، وقال الشافعي والليث والكوفيون: لا يرجع على البائع بشيء، وقالوا: إنما ورد وضع الجائحة فيما إذا بيعت الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها بغير شرط القطع، فيحمل مطلق الحديث في رواية جابر على ما قيد به في حديث أنس، والله أعلم. واستدلَّ الطحاوي بحديث أبي سعيد: أصيب رجل في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تصدَّقوا عليه)) ، فتصدَّق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال: ((خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك)) ؛ أخرجه مسلم وأصحاب السنن، قال: فلمَّا لم يبطل دين الغرماء بذهاب الثمار وفيهم باعتها ولم يُؤخَذ الثمن منهم دلَّ على أن الأمر بوضع الجوائح ليس على عمومه، والله أعلم. قوله: ((بِمَ يستحلُّ أحدكم مال أخيه)) ؛ أي: لو تلف الثمر لانتفى في مقابلته العِوَض، فكيف يأكله بغير عوض؟ وفيه إجراء الحكم على الغالب؛ لأن تطرُّق التلف إلى ما بدا صلاحه ممكن، وعدم التطرُّق إلى ما لم يبدُ صلاحه ممكن، فأُنِيط الحكم بالغالب في الحالتين، انتهى. تتمَّة: قال في "الاحتيارات": والصحيح أنه يجوز بيع المقاثي جمة بعروقها، سواء بدا صلاحها أو لا، وهذا القول له مأخذان: أحدهما: أن العروق كأصول الشجر، فبيع الخضروات قبل بُدُوِّ صلاحها كبيع الشجر بثمره قبل بُدُوِّ صلاحه يجوز تبعًا، والمأخذ الثاني وهو الصحيح أن هذه لم تدخل في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يصحُّ العقد على اللقطة الموجودة واللقطة المعدومة إلى أن يبس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 المقثأة؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك، ويجوز بيع المقاثي دون أصولها، وقال بعض أصحابنا: وإذا بدا صلاح بعض الشجرة جاز بيعها وبيع ذلك الجنس، وهو رواية عن أحمد وقول الليث بن سعد، انتهى. * * * الحديث السادس عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُتَلقَّى الركبان، وأن يبيع حاضر لبادٍ، قال: فقلت لابن عباس ما قوله حاضر لبادٍ، قال: لا يكون له سمسارًا". (السمسار) : متولِّي البيع والشراء لغيره وهو الدلاَّل، قال البخاري: باب هل يبيع حاضر لبادٍ بغير أجر، وهل يعينه أو ينصحه، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له)) . قال الحافظ: قال ابن المنير وغيره: حمل البخاري النهي عن بيع الحاضر للبادي على معنى خاص وهو البيع بالأجر أخذًا من تفسير ابن عباس، وقوي ذلك بعموم أحاديث ((الدين النصيحة)) ؛ لأن الذي يبيع بالأجرة لا يكون غرضه نصح البائع غالبًا، وإنما غرضه تحصيل الأجرة، فاقتضى ذلك إجازة بيع الحاضر للبادي بغير أجرة من باب النصيحة، انتهى. وعن جابر مرفوعًا: ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرجل فلينصح له)) ؛ رواه البيهقي. * * * الحديث السابع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة؛ وهي أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بتمرٍ كيلاً، وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كلِّه". قوله: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة"، وفي رواية: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ولا تبيعوا الثمر بالتمر)) . قال سالم: وأخبرني عبد الله عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص بعد ذلك في بيع العرايا بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غيره)) ، وحقيقة المزابنة بيع مجهول بمعلوم من جنسه، ومن صورها أيضًا ما روى البخاري عن ابن عمر، والمزابنة أن يبيع الثمر بكيل إن زاد لي وإن نقص فعليَّ. قال الحافظ: ولا يلزم من كونها ثمارًا ألاَّ تسمى مزابنة؛ واستدلَّ بأحاديث الباب على تحريم بيع الرطب باليابس ولو تساويا في الكيل والوزن؛ لأن الاعتبار بالتساوي إنما يصحُّ حالة الكمال، والرطب قد ينقص إذا جفَّ عن اليابس نقصًا لا يتقدَّر وهو قول الجمهور، وأصرح من ذلك حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن بيع الرطب بالتمر فقال: ((أينقص الرطب إذا جفَّ؟)) ، قالوا: نعم، قال: ((فلا إذًا)) ؛ أخرجه مالك وأصحاب السنن وصحَّحه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، انتهى. قوله: ((كيلاً)) ذكر الكيل ليس بقيد هنا؛ لأن المسكوت عنه أَوْلَى بالمنع من المنطوق، والله اعلم. * * * الحديث الثامن عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن". * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الحديث التاسع عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث)) . قوله: "نهى عن ثمن الكلب" قال الحافظ: ظاهر النهي تحريم بيعه، وهو عام في كل كلب معلَّمًا كان أو غيره ممَّا يجوز اقتناؤه أو لا يجوز، ومن لازم ذلك أن لا قيمة على متلفه وبذلك قال الجمهور، انتهى. وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره؛ لما روى النسائي عن جابر قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب إلا كلب صيد"، قال الحافظ: أخرجه النسائي بإسناد رجال ثقات إلا أنه طُعِن في صحته. قوله: "ومهر البغي" هو ما تُعطَاه على الزنا، وسُمِّي مهرًا على سبيل المجاز، وهو حرام لأنه في مقابلة حرام. قوله: "وحلوان الكاهن" هو ما يُعطَاه على كهانته، قال الحافظ: وهو حرام بالإجماع؛ لما فيه من أخذ العِوَض على أمر باطل، وفي معناه التنجيم والضرب بالحصا وغير ذلك مما يتعاطاه العرَّافون من استطلاع الغيب، والكهانة ادِّعاء علم الغيب؛ كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيه استراق الجني السمعَ من كلام الملائكة فيلقيه في أذن الكاهن. والكاهن لفظٌ يُطلَق على العراف، والذي يضرب بالحصا، والمنجم؛ ويطلق على مَن يقوم بأمرٍ آخر ويسعى في قضاء حوائجه، وقال الخطابي: الكهَنَة قومٌ لهم أذهان حادَّة، ونفوس شرِّيرة، وطباع ناريَّة، فألِفَتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور وساعدتهم بكلِّ ما تصل قدرتهم إليه. قوله: ((وكسب الحجام خبيث)) وفي حديث ابن عباس: "احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطى الحجام أجره، ولو كان حرامًا لم يعطه"، قال الحافظ: واختلف العلماء في كسب الحجام؛ فذهب الجمهور إلى أنه حلال، واحتجُّوا بحديث ابن عباس قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 هو كسب فيه دناءة وليس بمحرَّم، فحملوا الزجر عنه على التنزيه، ومنهم مَن ادَّعى النسخ وأنه كان حرامًا ثم أُبِيح، وجنح إلى ذلك الطحاوي، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وذهب أحمد وجماعة إلى الفرق بين الحر والعبد، فكرهوا للحر الاحتراف بالحجامة، ويحرم عليه الإنفاق على نفسه منها، ويجوز له الإنفاق على الرقيق والدواب منها، وأباحوها للعبد مطلقًا، وعمدتهم حديث محيصة: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كسب الحجام فنهاه، فذكر له الحاجة فقال: ((أعلفه نواضحك)) ؛ أخرجه مالك وأحمد وأصحاب السنن ورجاله ثقات، انتهى. قال في "الاختيارات": وإذا كان الرجل محتاجًا إلى هذا الكسب ليس له ما يغنيه عنه إلا المسألة للناس فهو خيرٌ له من مسألة الناس، كما قال بعض السلف: كسبٌ فيه دناءة خيرٌ من مسألة الناس. * * * باب العرايا وغير ذلك الحديث الأول عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها تمرًا يأكلونها رطبًا". * * * الحديث الثاني عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص في بيع العرايا في خمسة أَوْسُق أو دون خمسة أَوْسُق)) . (العرايا) ، جمع عرية: وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة، كان العرب في الجدب يتطوَّع أهل النخل بذلك على مَن لا ثمر له، كما يتطوَّع صاحب الشاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أو الإبل بالمنيحة، وصورة العرية المرخَّص فيها: أن يشتري ثمرَ نخلاتٍ بأعيانها بخرصها من التمر خمسة أَوْسُق أو دونها فيخرصها ويبيعه ويقبض منه التمر ويسلم له النخلات بالتخلية فينتفع برطبها. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن باع نخلاً قد أبرَّت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)) . ولمسلم: ((مَن ابتاع عبدًا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع)) . (التأبير) : التشقيق والتلقيح، قال القرطبي: إبار كل شيء بحسب ما جرت العادة أنه إذا فعل فيه ثبتت ثمرته وانعقدت فيه، ثم قد يعبر به عن ظهور الثمرة وعن انعقادها وإن لم يفعل فيها شيء. قال الحافظ: وقد استدلَّ بمنطوقه على أن مَن باع نخلاً وعليها ثمرة مؤبرة لم تدخل الثمرة في البيع، بل تستمرُّ على ملك البائع وبمفهومه على أنها إذا كانت غير مؤبرة أنها تدخل في البيع وتكون للمشتري وبذلك قال الجمهور. قوله: "إلا أن يشترط المبتاع"؛ أي: المشتري، قال الحافظ: وقد استدلَّ بهذا الإطلاق على أنه يصحُّ اشتراط بعض الثمرة كما يصحُّ اشتراط جميعها، ويُستَفاد من الحديث أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا يُفسِد البيع فلا يدخل في النهي عن بيع وشرط، انتهى. قوله: "ولمسلم: ((مَن ابتاع عبدًا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع)) وهو في البخاري أيضًا، قال ابن دقيق العيد: استدلَّ به لمالك على أن العبد يملك لإضافة الملك إليه باللام، وقال غيره: يؤخذ منه أن العبد إذا ملكه سيده مالاً فإنه يملكه، وبه قال مالك وكذا الشافعي في القديم، لكنه إذا باعه بعد ذلك رجع المال لسيده إلا أن يشترط المبتاع، وقال الكرماني: قوله: وله مال، إضافة المال إلى العبد مجاز كإضافة الثمرة إلى النخلة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الحديث الرابع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) ، وفي لفظ: ((حتى يقبضه)) ، وعن ابن عباس مثله. قال البخاري: باب بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك، وذكر حديث ابن عباس بلفظ: "أمَّا الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يباع حتى يقبض"، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله، ثم ذكر حديث ابن عمر وفي رواية: "قال طاوس قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجًا". قوله: ((مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) هذا نصٌّ في المنع عن بيع الطعام قبل أن يستوفيه. قوله: ((حتى يقبضه)) فيه زيادة في المعنى؛ لأنه قد يستوفيه بالكيل ولا يقبضه. وروى الدارقطني عن جابر: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري"، وروى الجماعة إلا الترمذي عن ابن عمر: "كنَّا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله"، قال في "الاختيارات": ويملك المشتري المبيع بالعقد، ويصحُّ عتقه قبل القبض إجماعًا فيهما، ومَن اشترى شيئًا لم يبعه قبل قبضه سواء المكيل والموزون وغيرهما، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن عقيل ومذهب الشافعي. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "وسواء كان البيع من ضمان المشتري أو لا"، وعلى ذلك تدلُّ أصول أحمد، انتهى. * * * الحديث الخامس عن جابر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 يقول عام الفتح: ((إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها يُطلَى بها السفن ويُدهَن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: ((لا، هو حرام)) ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ((قاتَل الله اليهود، إن الله لمَّا حرَّم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)) . ((جملوه)) ؛ أي: أذابوه. الميتة ما زالت عنه الحياة بغير ذكاة شرعية، وهي حرام بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِْ} [المائدة: 3] . ويُستَثنى من الميتة السمك والجراد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أُحِلَّت لنا ميتتان ودمان؛ فأمَّا الميتتان فالجراد والحوت، وأمَّا الدمان فالطحال والكبد)) . قوله: "فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس"؛ أي: فهل يحلُّ بيعها، فقال: ((لا، هو حرام)) ؛ أي: البيع، قال في "الاختيارات": وقرن الميتة وعظمها وظفرها وما هو من جنسه كالحافر ونحوِه طاهرٌ، وقال غير واحد من العلماء: ويجوز الانتفاع بالنجاسات، وسواء في ذلك شحم الميتة وغيرُه وهو قول الشافعي، وأومأ إليه أحمد في رواية ابن منصور، ويطهُر جلد الميتة الطاهرة حال الحياة بالدباغ، وهو روايةٌ عن أحمد، انتهى. قال الحافظ: والظاهر أن النهي عن بيع الأصنام للمبالغة في التنفير عنها، ويلتحق بها في الحكم الصلبان التي تعظِّمها النصارى، ويحرم نحت جميع ذلك وصنعته، انتهى. قوله: ((قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)) فيه إبطال الحِيَل والوسائل إلى المحرم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 باب السَّلَم الحديث الأول عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قَدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: ((مَن أسلف في شيء فليسلف في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ)) . (السَّلَم) : هو السَّلَف وزنًا ومعنًى، وقيل: السَّلَف لغة أهل العراق، والسَّلَم لغة أهل الحجاز، وهو بيع موصوف في الذمة، واتَّفق العلماء على أنه يشترط له ما يشترط للبيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس، إلا مالكًا فإنه أجاز تأخير اليومين والثلاثة. والسَّلَم جائز بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . قوله: ((في شيء)) قال الحافظ: أُخِذ منه جواز السلم في الحيوان إلحاقًا للعدد بالكيل، والعدد والذرع ملحق بالكيل والوزن للجامع بينهما وهو عدم الجهالة بالمقدار، انتهى. وقال مالك: يجوز السَّلَم في المكيل وزنًا وفي الموزون كيلاً إذا كان الناس يتبايعون التمر وزنًا، قال الموفق: وهذا أصحُّ إن شاء الله تعالى؛ لأن الغرض معرفة قدره وخروجه من الجهالة وإمكان تسليمه من غير تنازُع فبأي قدر قدَّره جاز، انتهى. وقال مالك أيضًا: يجوز السَّلَم إلى الحصاد وقدوم الحاج. وعن عبد الله بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا: "كنَّا نصيب المغانم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلقهم في الحنطة والشعير والزبيب - وفي رواية: والزيت - إلى أجل مسمى، قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنَّا نسألهم عن ذلك"؛ رواه البخاري. ويجوز الرهن في السلم والكفيل به، وهو قول مالك والشافعي وأهل الرأي ورواية عن أحمد؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 لقوله الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلى قوله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، قال في "الاختيارات": ويصحُّ السَّلَم حالاً إن كان المسلم فيه موجودًا في ملكه وإلاَّ فلا، ويجوز بيع الدَّين في الذمَّة من الغريم وغيره ولا فرق بين دين السلم وغيره، وهو رواية عن أحمد، وقاله ابن عباس، لكنَّه بقدر القيمة فقط لئلاَّ يربح فيما لم يضمن، وقال أيضًا: ويصحُّ الصلح عن المؤجَّل ببعضه حالاً وهو روايةٌ عن أحمد وحكى قولاً للشافعي، انتهى، والله أعلم. * * * باب الشروط في البيع الحديث الأول عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كلِّ عام أوقية، فأعينيني، فقالت: إنْ أحبَّ أهلك أن أعدَّها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فقالت إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لِمَن أعتق)) ، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد، فما بالُ رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لِمَن أعتق)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 هذا الحديث جليل كثير الفوائد، قال النووي: صنَّف ابن خزيمة وابن جرير في قصة بريرة تصنيفين كبيرين، وقال الحافظ: استنبط بعضهم منه أربعمائة فائدة. قولها: "كاتبت أهلي" (المكتابة) بيع العبد نفسه بمال في ذمته؛ قال الله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} [النور: 33] . قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لِمَن أعتق)) كان - صلى الله عليه وسلم - قد أعلم الناس بأن اشتراط الولاء باطل. قوله: ((ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط)) قال ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه من كتابه أو سنة رسوله أو إجماع الأمة، انتهى. ويُستَفاد منه أن الشروط التي لم تخالف الشرع صحيحة ولو تعدَّدت، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرّم حلالاً أو أحلَّ حرامًا)) . قوله: ((قضاء الله أحق)) ؛ أي: بالاتِّباع من الشروط المخالفة له ((وشرط الله أوثق)) ؛ أي: باتِّباع حدوده التي حدَّها ((وإنما الولاء لمن أعتق)) (إنما) للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه. قال الحافظ: وفي حديث بريرة من الفوائد جواز كتابه الأمَة كالعبد، وجواز كتابة المتزوِّجة ولو لم يأذن الزوج، وفيه جواز السؤال لِمَن احتاج إليه من دين أو غرم أو نحو ذلك، وفيه أن المرأة الرشيدة تتصرَّف لنفسها في البيع وغيره ولو كانت مزوجة، وفيه جواز رفع الصوت عن إنكار المنكر، وأنه لا بأس لِمَن أراد أن يشتري للعتق أن يُظهِر ذلك لأصحاب الرقبة ليتساهلوا له في الثمن ولا يُعَدُّ ذلك من الرياء، وفيه أن الشيء إذا بِيعَ بالنقد كانت الرغبة فيه أكثر ممَّا لو بِيعَ بالنسيئة، وفيه جواز الشراء بالنسيئة، وفيه جواز البيع على شرط العتق بخلاف البيع بشرط أن لا يبيعه لغيره مثلاً ولا يهبه، وأن من الشروط في البيع ما لا يبطل ولا يضرُّ البيع، وفيه جواز بيع المُكاتِب إذا رضِي وإن لم يكن عاجزًا عن أداء نجم قد حلَّ، وأنه لا بأس للحاكم أن يحكم لزوجته بالحق، وأن بيع الأمَة ذات الزوج ليس بطلاق، وفيه البداءة في الخطبة بالحمد والثناء، وقوله: أمَّا بعد فيها، وجواز تعدُّد الشروط؛ لقوله: ((مائة شرط)) ، وفيه أن لا كراهة في السجع في الكلام إذا لم يكن عن قصد ولا متكلفًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وفيه جواز شراء السلعة للراغب في شرائها بأكثر من ثمن مثلها؛ لأن عائشة بذلت ما قرر نسيئة على جهة النقد مع اختلاف القيمة بين النقد والنسيئة، وفيه جواز استدانة مَن لا مال له عند حاجته إليه، وفيه مشاورة المرأة زوجها في التصرُّفات، وسؤال العالم عن الأمور الدينية، وإعلام العالم بالحكم لِمَن رآه يتعاطى أسبابه ولو لم يسأل، وفيه أن المدين يبرأ أداء غيره عنه، وفيه أن الأيدي ظاهرة في الملك، وأن مشتري السلعة لا يسأل عن أصلها إذا لم تكن ريبة، وفيه جواز عقد البيع بلا كتابة، وفيه جواز اليمين فيما لا تجب فيه ولا سيَّما عند العزم على فعل الشيء، وأن لغو اليمين لا كفارة فيه؛ لأن عائشة حلفت أن لا تشترط، ثم قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اشترطي)) ولم ينقل كفارة، وفيه ثبوت الولاء للمرأة المعتقة، فيستثنى من عموم: ((الولاء لحمة كلحمة النسب)) ؛ فإن الولاء لا ينتقل إلى المرأة بالإرث بخلاف النسب، وفيه أن حق الله مقدَّم على حق الآدمي لقوله: ((شرط الله أحقُّ وأوثق)) ، ومثله الحديث الآخر: ((دين الله أحق أن يُقضَى)) . وفيه أن البيان بالفعل أقوى من القول، وجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، وفيه أن الحاجة إذا اقتضت بيان حكم عام وجب إعلانه أو ندب بحسب الحال، انتهى ملخصًا، وسيأتي بعض الكلام على فوائده في الفرائض - إن شاء الله تعالى. * * * الحديث الثاني عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أنه كان يسير على جملٍ له فأعيا فأراد أن يسيبه فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي وضربه فسار سيرًا لم يسر مثله قط، فقال: ((بعنيه بأوقية)) ، قلت: لا، ثم قال: ((بعنيه)) ، فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلمَّا بلغت أتيتُه بالجمل فنَقَدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: ((أتُراني ماكستك لآخُذ جملك، خُذْ جملك ودراهمك فهو لك)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 (المماكسة) : المناقصة في الثمن، وفي الحديث جوازُ اشتراط مثل هذا في البيع؛ كسكنى الدار وخدمة العبد مُدَّة معلومة ونحو ذلك، وفيه جواز الاستثناء في البيع إذا لم يكن المستثنى مجهولاً، قال الحافظ: وفي الحديث جواز المساومة لِمَن يعرض سلعته للبيع، والمماكسة في المبيع قبل استقرار العقد، وأن القبض ليس شرطًا في صحة البيع، وأن إجابة الكبير بقول: (لا) جائزٌ في الأمر الجائز، وفيه توقير التابع لرئيسه، وفيه معجزة ظاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى ملخصًا. تتمَّة: قال في "الاختيارات": سأل أبو طالب الإمام أحمد عمَّن اشترى أمَة يشترط أن يتسرَّى بها لا للخدمة، قال: لا بأس به، وهذا من أحمد يقتضي أنه إذا شرط على البائع فعلاً أو تركًا في البيع ممَّا هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه صحَّ البيع والشرط كاشتراط العتق، وكما اشترط عثمان لصهيب وقف داره عليه، انتهى، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضرٌ لبادٍ ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في إنائها. قوله: "ولا يبيع ولا يخطب" بإثبات التحتانية في يبيع وبالرفع فيهما على أنه نفي، وسياق ذلك بصيغة الخبر أبلغ في المنع، وفي حديث ابن عمر: ((لا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبلُ أو يأذن له الخاطب)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قوله: "ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في إنائها"، وفي حديث آخر: ((لا يحلُّ لامرأة تسأل طلاق زوجة الرجل)) ؛ أي: سواء كانت ضرتها أو أجنبية. قال الطيبي: هذه استعارة مستملحة تمثيلية شبَّه النصيب والبخت بالصحفة وحظوظها وتمتعاتها بما يُوضَع في الصحفة من الأطعمة اللذيذة، وشبَّه الافتراق المسبَّب عن الطلاق باستفراغ الصحفة من تلك الأطعمة. * * * باب الربا والصرف الحديث الأول عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة ربًا إلا هاء وهاء، والبُرُّ بالبُرِّ ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء)) . الربا حرامٌ بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] الآيات، وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] . قال مالك: عن زيد بن أسلم، كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل حق إلى أجل، فإذا حلَّ قال: أتقضي أم تُربِي؟ فإن قضاه أخذ وإلا زاد في حقه وزاد الآخر في الأجل. والربا في اللغة: الزيادة، وهو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة. وأمَّا الصرف: فهو دفع ذهب وأخذ فضة وعكسه، وله شرطان: منع النسيئة مع اتِّفاق النوع واختلافه، ومنع التفاضل في النوع الواحد منهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وقوله: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء)) الذي في البخاري: ((الذهب بالورق)) ، ورواية مسلم: ((الورق بالذهب)) ، ولفظه عن ابن شهاب عن مالك بن أوس: أخبره أنه التمس صرفًا بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مِنِّي، فأخذ الذهب يقلِّبها في يده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) . ولمسلم: قال عمر بن الخطاب: كلاَّ والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الورق بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء)) ، فذكره. قال الحافظ: قوله: ((الذهب بالورق ربًا)) قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك فيه وحمله عنه الحفَّاظ، وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة، وشذَّ أبو نعيم عنه فقال: "الذهب بالذهب". قال الحافظ: الذهب يُطلَق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها، والورق الفضة، والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة، انتهى. قوله: ((إلا هاء وهاء)) ؛ أي: يعطيه ما في يده ويأخذ ما في يد صاحبه، كالحديث الآخر: ((إلا يدًا بيد)) ؛ يعني: مقابضة في المجلس. قوله: ((والبُرُّ بالبُرِّ، والشعير بالشعير)) قال الحافظ: واستدلَّ به على أن البر والشعير صنفان وهو قول الجمهور، قال ابن عبد البر: فيه أن النسيئة لا تجوز في بيع الذهب بالورق، وإذا لم يجز فيهما مع تفاضلهما بالنسيئة فأحرى ألا يجوز في الذهب بالذهب وهو جنس واحد، وكذا الورق بالورق، قال الحافظ: وقد نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على هذا الحكم، انتهى. وروى مسلم عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرُّ بالبُرِّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) ، قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يدًا بيد)) حجة للعلماء كافَّة في وجوب التقابض وإن اختلف الجنس. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الحديث الثاني عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) ، وفي لفظ: ((إلا يدًا بيد)) ، وفي لفظ: ((إلا وزنًا بوزنٍ، مثلاً بمثلٍ، سواء بسواء)) . قوله: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل)) ، وفي رواية: ((الذهب بالذهب مثلاً بمثل والورق بالورق مثلاً بمثل)) ، قال الحافظ: ويدخل في الذهب جميع أصنافه من مضروب ومنقوش، وجيد ورديء، وصحيح ومكسر، وحلى وتبر، وخالص ومغشوش، ونقل النووي تبعًا لغيره في ذلك الإجماع. قوله: ((ولا تشفوا)) ؛ أي: لا تفضلوا، قال الحافظ: والشف الزيادة، وتطلق على النقص. قوله: (ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) ؛ أي: مؤجلاً بحالٍّ، قال الحافظ: البيع كله إمَّا بالنقد أو بالعرض حالاًّ أو مؤجلاً؛ فهو أربعة أقسام: بيع النقد إمَّا بمثله وهو المراطلة، أو بنقد غيره وهو الصرف، وبيع العرض بنقد يسمى النقد ثمنًا والعرض عِوَضًا، وبيع العرض بالعرض يسمى مقابضة والحلول في جميع ذلك جائز، وأمَّا التأجيل فإن كان النقد بالنقد مؤخرًا فلا يجوز وإن كان العرض جاز، وإن كان العرض مؤخرًا فهو السَّلَم وإن كانا مؤخَّرَين فهو بيع الدين بالدين، وليس بجائز إلا في الحوالة عند مَن يقول إنها بيع، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاء بلال إلى النبي - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 صلى الله عليه وسلم - بتمر برني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أين هذا؟)) ، قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ((أوَّه عين الربا عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشترِ به)) . قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن التمر بالتمر لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلاً بمثل، وسواء فيه الطيب والدون، وأنه كله على اختلاف أنواعه جنس واحد. قال الحافظ: وفي الحديث قيام عذر مَن لا يعلم التحريم حتى يعلمه، وفيه جواز الرفق بالنفس، وترك الحمل على النفس لاختيار أكل الطيب على الرديء خلافًا لِمَن منع ذلك من المتزهِّدين، وفيه أن البيوع الفاسدة تُرَدُّ، انتهى ملخصًا. * * * الحديث الرابع عن أبي المنهال قال: "سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم - رضي الله عنهم - عن الصرف فكلٌّ واحدٍ منهما يقول: هذا خيرٌ مِنِّي، وكلاهما يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق دينًا". الصرف: بيع الدراهم بالذهب أو عكسه، وفي رواية: "سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف؟ فقالا: كُنَّا تاجرين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصرف؟ فقال: ((إن كان يدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 بيد فلا بأس، وإن كان نسيئًا فلا يصلح)) . قال الحافظ: وفي الحديث ما كان عليه الصحابة من التواضع وإنصاف بعضهم بعضًا، ومعرفة أحدهم حقَّ الآخر، واستظهار العالم في الفتيا بنظيره في العلم. * * * الحديث الخامس عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواءً بسواءٍ، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا، قال: فسأله رجلٌ فقال: يدًا بيدٍ؟ فقال: هكذا سمعت". قال الحافظ: اشتراط القبض في الصرف متَّفق عليه، واستدلَّ به على بيع الربويات بعضها ببعض إذا كان يدًا بيد، وأصرح منه حديث عبادة بن الصامت: ((فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) ، انتهى. وقال ابن دقيق العيد: قوله: "ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا" بالنسبة إلى التفاضل والتساوي، لا إلى الحلول أو التأجيل، انتهى. تتمَّة: قال في "الاختيارات": العلة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطعم وهو رواية عن أحمد، ويحرم بيع اللحم بحيوان من جنسه مقصود اللحم، ويجوز بيع الموزونات الربوية بالتحرِّي وقاله مالك: وما لا يختلف فيه الكيل والوزن مثل الأدهان يجوز بيع بعض ببعض كيلاً ووزنًا، وظاهر مذهب أحمد جواز بيع السيف المحلَّى بجنس حليته؛ لأن الحلية ليست بمقصودة، ولا يُشتَرَط الحلول والتقابض في صرف الفلوس النافقة بأحد النقدين وهو رواية عن أحمد، وإن اصطَرَفَا دينًا في ذمَّتهما جاز، ومَن باع ربويًّا نسيئة حرم أخذه عن ثمنه ما لا يباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 به نسيئة ما لم تكن حاجة، والتحقيق في عقود الربا إذا لم يحصل فيها القبض أن لا عقد، والكيمياء باطلة محرَّمة، وتحريمها أشدُّ من تحريم الربا، ولا يجوز بيع الكتب التي تشتمل على معرفة صناعتها، وأفتى بعض ولاة الأمور بإتلافها، ويجوز قرض الخبز وردُّ مثله عددًا بلا وزن من غير قد الزيادة، وهو مذهب أحمد، ولو أقرضه في بلد آخر جاز على الصحيح، ويجوز قرض المنافع مثل أن يحصد معه يومًا، ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها، انتهى، والله أعلم. * * * باب الرهن وغيره الحديث الأول عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعامًا ورهنه درعًا من حديد". (الرهن) : هو المال الذي يُجعَل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذَّر استيفاؤه من الغريم، وهو جائزٌ بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] . قال الحافظ: وإنما قيَّده بالسفر لأنه مظنَّة فَقْدِ الكاتب فأخرجه مخرَج الغالب، قال: وفي الحديث جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة مَن أكثر ماله حرام، وفيه جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيًّا، وفيه ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم، وجواز الشراء بالثمن المؤجَّل، واتِّخاذ الدروع والعدد وغيرها من آلات الحرب، وأنه غير قادح في التوكُّل، وفيه ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التواضع والزهد في الدنيا والتقلُّل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الادِّخار حتى احتاج إلى رهن درع والصبر على ضيق العيش والقناعة باليسير، وفيه فضيلة لأزواجه لصبرهن معه على ذلك. قال العلماء: الحكمة في عدوله - صلى الله عليه وسلم - عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود إمَّا لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجة غيرهم، أو خشي أنهم لا يأخذون منه ثمنًا أو عوضًا فلم يرد التضييق عليهم، والله أعلم. وفي الحديث الردُّ على مَن قال: إن الرهن في السلم لا يجوز، انتهى. وقال مالك: يلزم الرهن بمجرَّد العقد قبل القبض؛ لأنه عقد يلزم بالقبض فلزم قبله كالبيع وهو روايةٌ عن أحمد. قال الزجاج في قول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] : أي: العقود التي عقد الله عليكم وعقدتم بعضكم على بعض، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مطل الغني ظلم، إذا أُتبِع أحدكم على مَلْْءٍ فليَتْبع)) . (المطل) : المدافعة، والمراد تأخير ما استحقَّ أداؤه بغير عذر. قوله: ((وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)) ؛ أي: إذا أُحِيل فليحتل، قال الحافظ: ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها أنه لمَّا دلَّ على أن مطل الغني ظلم عقبه بأنه ينبغي قبول الحوالة على المليء؛ لما في قبولها من دفع الظلم الحاصل بالمطل، فإنه قد تكون مطالبة المحال عليه سهلة على المحتال دون المحيل، ففي قبول الحوالة إعانة على كفِّه عن الظلم. وفي الحدث الزجر عن المطل، واختُلِف هل يُعَدُّ فعله عمدًا كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يفسق، لكن هل يثبت فسقه بمطله مرَّة واحدة أم لا؟ قال: ويدخل في المطل كلُّ مَن لزمه حقٌّ؛ كالزوج لزوجته، والسيد لعبده، والحاكم لرعيته وبالعكس، واستدلَّ به على أن العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم وهو بطريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 المفهوم، انتهى. وقال البخاري: باب الحوالة، وهل يرجع في الحوالة؟ وقال الحسن وقتادة: إذا كان يوم أحال عليه مليًّا جاز، وقال ابن عباس: يتخارج الشريكان وأهل الميراث فيأخذ هذا عينًا وهذا دينًا، فإن تَوِيَ لأحدهما لم يَرجِع على صاحبه، انتهى. قال في "الاختيارات": والحوالة على ماله في الديوان إذن في الاستيفاء فقط، والمختار الرجوع ومطالبته، انتهى، والله أعلم. قال الحافظ: واستدلَّ بالحديث على ملازمة المماطل وإلزامه بدفع الدين، والتوصُّل إليه بكل طريق وأخذه منه قهرًا، واستدلَّ به على اعتبار رضا المحيل والمحتال دون المحال عليه؛ لكونه لم يذكر في الحديث، وبه قال الجمهور، وفيه الإرشاد إلى ترك الأسباب القاطعة لاجتماع القلوب؛ لأنه زجر عن المماطلة وهي تؤدِّي إلى ذلك، انتهى، وبالله التوفيق. * * * الحديث الثالث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال: سمعت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسانٍ قد أفلس فهو أحقُّ به من غيره)) . قوله: ((مَن أدرك ماله بعينه)) ؛ أي: لم يتغيَّر ولم يتبدَّل سواء كان بيعًا أو قرضًا أو وديعة. قوله: ((عند رجل أو إنسان)) شكٌّ من الراوي. قوله: ((قد أفلس)) ؛ أي: تبيَّن إفلاسه، والمفلس مَن تزيد ديونه على موجوده، وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقُّ بمتاعه إذا وجده"، زاد بعضهم: "إلا أن يترك صاحبه وفاء". فائدة: روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن وجد عين ماله عند رجل فهو أحقُّ به ويتبع البيع مَن باعه)) ، وفي لفظ: ((إذا سرق من الرجل متاع أو ضاع منه فوجده بيد رجل بعينه فهو أحقُّ به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن)) ؛ رواه أحمد وابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 تتمَّة: قال في "الاختيارات": والدين الحالُّ يتأجَّل بتأجيله سواء كان الدين قرضًا أو غيره، وهو قول مالك، ووجه في مذهب أحمد، وإذا كان الذي عليه الحق قادرًا على الوفاء ومطل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية، فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد، انتهى. * * * الحديث الرابع عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "جعل - وفي لفظ: قضى - النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كلِّ مالٍ لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة". الشفعة ثابتة بالسنة والإجماع، وهي استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها ولا يحلُّ الاحتيال لإسقاطها. وروى الخمسة عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا)) ، والحكمة في مشروعية الشفعة دفع الضرر. وقد روى الطحاوي من حديث جابر: "قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شيء". قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق"؛ أي: بينت مصارف الطرق وشوارعها "فلا شفعة" قال في "المقنع": ولا شفعة فيما لا تجب قسمته في إحدى الروايتين، انتهى. واختار ابن عقيل وشيخ الإسلام الشفعة فيه، قال الحارثي: وهو أحق، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فما تأمرني به؟ قال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدَّقت بها)) ، قال: فتصدَّق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمولٍ فيه"، وفي لفظ: "غير متأثل". هذا الحديث أصلٌ في مشروعية الوقف، وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة في طرق الخير. قوله: "أنفس"؛ أي: أجود، والنفيس: الجيد المغتبط به. قوله: "فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها" في لفظ: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تصدق بأصله لا يُباع ولا يُوهب ولا يُورث ولكن يُنفق ثمره)) . قوله: "وفي القربى"؛ يعني: قربى الواقف. قوله: "لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف"؛ يعني: بالقدر الذي جرت به العادة، قال القرطبي: جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف، حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل يستقبح ذلك منه. قوله: "غير متموِّل فيه"؛ أي: غير متَّخذ مالاً، و (التأثل) : اتخاذ أصل المال حتى كأنه عند قديم، وكتب عمر هذا الوقف في خلافته، ونصه: "هذا ما كتب عبد الله أمير المؤمنين في ثمغ، أنه إلى حفصة ما عاشت تنفق ثمره حيث أراها الله، فإن توفيت فإلى ذوي الرأي من أهلها، والمائة وسق الذي أطعمني النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها مع ثمغ على سنته الذي أمرت به إن شاء ولي ثمغ أن يشتري من ثمره رقيقًا يعملون فيه فعل، وكتب معيقيب، وشهد عبد الله بن الأرقم". وفيه من الفوائد جواز إسناد الوصية والنظر على الوقف للمرأة، وإسناد النظر إلى مَن لم يسمَّ إذا وصف بصفة تميِّزه، وأن الواقف له النظر على وقفه، وفيه استشارة أهل العلم والدين والفضل، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر، وفيه فضل الصدقة الجارية، وفيه صحة شروط الواقف إذا لم تخالف الشرع، وفيه جواز الوقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 على الأغنياء، وفيه أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءًا من ريع الموقوف، وفيه جواز وقف المشاع، وفيه دليل على المسامحة في بعض الشروط؛ حيث علق الكل بالمعروف وهو غير منضبط. * * * الحديث السادس عن عمر - رضي الله عنه - قال: "حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((لا تشترِه ولا تَعُد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه)) ، وفي لفظ: ((فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)) . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العائد في هبته كالعائد في قيئه)) . الحديث دليلٌ على تحريم الرجوع في الصدقة والهبة، وفي لفظ: ((ليس لنا مثل السوء: الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه)) ، وهذا أبلغ في الزجر عن ذلك. قوله: "حملت على فرس في سبيل الله"؛ أي: حمل تمليك ليجاهد به، فأضاعه الذي كان عنده، وفي رواية: "وكان قليل المال". قوله: ((لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم)) سمي الشراء عودًا في الصدقة لأن العادة جرت بالمسامحة من البائع في ذلك، قال الطبري: يخصُّ من عموم هذا الحديث مَن وهب بشرط الثواب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ومَن كان والدًا، والموهوب ولده، والهبة التي لم تقبض، والتي ردَّها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء كلِّ ذلك، وفي الحديث جواز إذاعة عمل البر للمصلحة. تتمَّة: قال في "الاختيارات": وتصحُّ هبة المعدوم كالثمر واللبن، واشتراط القدرة على التسليم هنا فيه نظر بخلاف البيع، وتصحُّ هبة المجهول كقوله: ما أخذت من مالي فهو لك، أو مَن وجد شيئًا من مالي فهو له، وفي جميع هذه الصور يحصل الملك بالقبض ونحوه، وللمبيح أن يرجع فيما قال قبل التملُّك، وهذا نوعٌ من الهبة يتأخَّر القبول فيه عن الإيجاب كثيرًا وليس بإباحة، انتهى. * * * الحديث السابع عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: "تصدق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى يشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) ، قال: لا، قال: ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)) ، فرجع أبي فرد تلك الصدقة"، وفي لفظ: قال: ((فلا تشهدني؛ إذًا فإني لا أشهد على جور)) ، وفي لفظ: ((فأشهد على هذا غيري)) . الحديث دليلٌ على وجوب التسوية بين الأولاد. وفي رواية لمسلم: ((اعدلوا بين أولادكم في النحل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر)) ، وفيه الندب إلى التآلف بين الإخوة، وترك ما يورث العقوق للآباء، وفيه مشروعية استفصال الحاكم والمفتي، وجواز تسمية الهبة صدقة، وفيه أن للأم كلامًا في مصلحة الولد، وفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال، وفيه إشارة إلى سوء حال عاقبة الحرص والتنطُّع؛ لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه، فلمَّا اشتدَّ حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه. قوله: ((فأشهد على هذا غيري)) المراد به التوبيخ، وفي حديث جابر عند مسلم: ((فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق)) ، وفيه كرامة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح، وأن للإمام أن يتحمل الشهادة. * * * الحديث الثامن عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامَل أهل خيبر شطر ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرعٍ". الحديث دليلٌ على جواز المساقاة في النخل وجميع الشجر وعلى جواز المزارعة بجزء معلوم، وقد عامَل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا، وفي الحديث جواز دفع النخل مساقاة والأرض مزراعة من غير ذكر سنين معلومة، وقال أبو ثور: إذا أطلقا حمل على سنة واحدة. * * * الحديث التاسع عن رافع بن خديج قال: "كنَّا أكثر الأنصار حقلاً، وكنَّا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، وربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك، فأمَّا الذهب والورق فلم ينهنا". ولمسلم عن حنظلة بن قيس قال: "سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال: لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذِيانَات وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأمَّا شيء معلوم مضمون فلا بأس به. الماذيانات: الأنهار الكبار، والجدول: النهر الصغير. النهي عن كراء الأرض محمول على الوجه المُفضِي إلى الضرر والمجادلة والمخاطرة، وفي الحديث جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة. وفي الصحيحين على أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه، فإن أبي فليمسك أرضه)) ، قال المجد: وبالإجماع تجوز الإجارة ولا تجب الإعارة، فعلم أنه أراد الندب. * * * الحديث العاشر عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعُمرَى لِمَن وهبت له"، وفي لفظ: "مَن أعمر عمرى فهي له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، وقال جابر: إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأمَّا إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها". وفي رواية لمسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه مَن أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 "العمرى": مأخوذة من العمر؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، يعطى الرجل الدار ويقول له: أعمرتك إياها؛ أي: أبحتها لك مدَّة عمرك؛ وكذا قيل لها: رقبى؛ لأن كلاً منهما يرقب متى يموت الآخر لترجع إليه، وإذا وقعت كانت ملكًا للآخِذ ولا ترجع إلى الأوَّل إلا إن صرح باشتراط ذلك، وهي كسائر الهبات. والحاصل أن للعمرى ثلاثة أحوال: أحدها أن يقول: هي لك ولعقبك، فهذا صريح في أنها للموهوب له ولعقبه، الثاني أن يقول: هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت إليَّ، فهذه عارية مؤقتة وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذين أعطى، الثالث أن يقول أعمرتكها ويطلق فحكمها حكم الأولى ولا ترجع إلى الواهب، وهذا قول الجمهور. وعن ابن عباس يرفعه: ((العمرى لِمَن أعمرها، والرقبى لِمَن أرقبها، والعائد في هبته كالعائد في قيئه)) . وعن جابر: "أن رجلاً من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت، فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء، قال: فأبى، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقسمها بينهم ميراثًا"؛ رواه أحمد، والله أعلم. * * * الحديث الحادي عشر عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرِضين، والله لأضربن بها بين أكتافكم". قوله: "خشبة" روى بالإفراد والجمع والمعنى واحد؛ لأن المراد الجنس، والحديث دليل على أن الجار إذا طلب إعارة حائط جاره ليضع خشبة عليه، وجب ذلك على المالك إذا لم يتضرَّر به. وروى مالك أن الضحاك بن خليفة سأل محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 بن مسلمة أن يسوق خليجًا له فيمرُّ به في أرض محمد بن مسلمة فامتنع، فكلَّمه عمر في ذلك فأبى، فقال: والله ليمرَّن به ولو على بطنك، فحمل عمر الأمر على ظاهره وعداه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه. قوله: "ما لي أراكم عنها معرضين"؛ أي: عن هذه السنَّة "والله لأضربن بها بين أكتافكم"، روى بالمثناة وبالنون، قال في "الاختيارات": وإذا كان الجدار مختصًّا بشخص لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع بما يحتاج إليه الجار، ولا يضرُّ بصاحب الجدار، ويجب على الجار تمكين جاره من إجراء مائه في أرضه إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن على صاحب الأرض ضرر، وحكم به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه. * * * الحديث الثاني عشر عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن ظلم من الأرض قِيدَ شبرٍ طُوِّقه من سبع أرضين)) . قوله: ((قِيدَ شبر)) ؛ أي: قدر شبر، وهو إشارة إلى الوعيد في قليل ظلم الأرض وكثيره، وفي الحديث تحريم الظلم والغصب وتغليظ عقوبته وأنه من الكبائر، وأن مَن ملك أرضًا ملك أسفلها بما فيه من حجارة ومعادن وغير ذلك، وفيه أن الأرضيين السبع طباق كالسموات. وروى البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أخذ من الأرض شيئًا بغير حقِّه خُسِف به يوم القيامة إلى سبع أرضيين)) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 باب اللقطة الحديث الأول عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: "سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لقطة الذهب والورق، فقال: ((اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرِّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدِّها إليه)) ، وسأله عن ضالة الإبل، فقال: ((ما لك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها)) ، وسأله عن الشاة، فقال: ((خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب)) . "اللقطة": المال الضائع من ربه. قوله: "عن لقطة الذهب والورق" هو كالمثال وإلا فلا فرق بينهما وبين غيرهما في الحكم. قوله: ((اعرف وكاءها وعفاصها)) (الوكاء) : ما يُربَط به الشيء، و (العفاص) : الوعاء الذي تكون فيه. قوله: ((ثم عرفها سنة)) ؛ أي: اذكرها للناس، ومحلُّ ذلك المحافل؛ كالأسواق، وأبواب المساجد خارجها، ونحو ذلك من مجامع الناس، يقول: من ضاعت له نفقة، ونحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئًا من الصفات. قوله: ((فإن لم تعرف فاستنفقها)) فيه دليلٌ على أن الملتقط يتصرَّف فيها بعد الحول سواء كان غنيًّا أو فقيرًا. قوله: ((ولتكن وديعة عندك)) ؛ أي: في وجوب أدائها إذا عرفها صاحبها بعد الحول. قوله: ((فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدِّها إليه)) ؛ أي: بعد معرفة صفتها ولا يحتاج إلى بينة، فإن كان قد استنفقتها غرمها، وإن كان أبقاها على حكم الأمانة أدَّاها. وقد روى الخمسة إلا الترمذي عن عياض بن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ((مَن وجد لُقَطة فليشهد ذوي عدل وليحفظ عفاصها ووكاءها ثم لا يكتم ولا يغيب، فإن جاء ربها فهو أحقُّ بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه مَن يشاء)) . قوله: "وسأله عن ضالة الإبل" الضالة لا تقع إلا على الحيوان، وما سواه يقال له: لقطة، ويقال للضوالِّ: الهوامي والهوامل، قال العلماء: حكمة النهي عن التقاط الإبل أن بقاءها حيث ضلَّت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه في رحال الناس، وقالوا: في معنى الإبل كلُّ ما امتنع بقوَّته من صغار السباع. قوله: "وسأله عن الشاة فقال: ((خذها؛ فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب)) " فيه جواز التقاطها لأنها ضعيفة، قال في "الاختيارات": ولا تُمَلَّك لقطة الحرم بحال، انتهى. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به"؛ رواه أحمد وأبو داود، وعن عبيد الله بن حميد عن الشعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيَّبوها فأخذها فأحياها فهي له)) ؛ رواه أبو داود والدارقطني، والله أعلم. * * * باب الوصايا وغير ذلك الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) ، زاد مسلم: "قال ابن عمر: فوالله ما مرَّت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك إلا ووصيتي عندي". الوصية نوعان: أحدهما: الوصية بالحقوق الواجبة على الإنسان وذلك واجب، الثاني: الوصية بالتطوُّعات في القربات وذلك مستحب، والحديث محمول على النوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الأول، وتُطلَق الوصية أيضًا على ما يقع به الزجر عن المنهيَّات والحث على المأمورات، ويشترط لصحة الوصية العقل والحرية، ولا تندب الوصية بالمال لِمَن كان له ورثة وماله قليل. قوله: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه)) ، ولأحمد: ((حقٌّ على كلِّ مسلم ألاَّ يبيت ليلتين وله ما يوصى فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده)) ، وفي الحديث من الفوائد: التأهُّب للموت والحزم قبل الفوت، واستدلَّ به على جواز الاعتماد على الكتابة والخط إذا عرف ولو لم يقترن ذلك بالشهادة، ويُستفاد منه أن الأشياء المهمَّة ينبغي أن تضبط بالكتابة؛ لأنها أثبت من الضبط بالحفظ لأنه يخون غالبًا. * * * الحديث الثاني عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتدَّ بي، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مالٍ ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: ((لا)) ، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: ((لا)) ، قلت: فالثلث، قال: ((الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك)) ، قال: فقلت: يا رسول الله، أخلف بعد أصحابي؟ قال: ((إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة. قوله: ((وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرت بها)) كأنه قيل له: لا توصِ بأكثر من الثلث، فإنك إن متَّ تركت ورثتك أغنياء، وإن عشت تصدَّقت وأنفقت، فالأجر حاصل لك في الحالتين. قوله: ((ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون)) وقع كما قال - صلى الله عليه وسلم - فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة، وانتفع به المسلمون بالغنائم ممَّا فتح الله على يديه من بلاد الشرك وضُرَّ به المشركون الذين هُتكوا على يديه. قال بعض العلماء: (لعلَّ) وإن كانت للترجي لكنها من الله للأمر الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غالبًا. قوله: "لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة"، "البائس": الذي اشتدَّ بؤسه، والبؤس: شدة الفقر. قوله: "يرثي له" أن يتوجَّع له لكونه مات في البلد التي هاجر منها. وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعيةُ عيادة المريض للإمام فمَن دونه، واستحباب الفسح للمريض في طول العمر، وجواز إخبار المريض بشدَّة مرضه لطلب دعاء أو دواء، وأن ذلك لا يُنافِي الصبر المحمود، وفيه إباحة جمع المال بشروطه، وفيه الحثُّ على صلة الرحم والإحسان إلى الأقارب، وأن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد، وفيه الإنفاق على مَن تلزمه مؤنتهم والحث على الإخلاص في ذلك، وفيه منع نقل الميت من بلد إلى بلد، وفيه النظر في مصالح الورثة، وفيه أن مَن ترك مالاً قليلاً فالاختيار له ترك الوصية وإبقاء المال للورثة، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: لو أن الناس غضُّوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الثلث والثلث كثير)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 قوله: "غضوا"؛ أي: نقصوا، وعند الإسماعيلي "لو غض الناس إلى الربع كان أحب إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"، وفيه دليل على استحباب النقص من الثلث في الوصية. وعند النسائي في حديث سعد: "عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضي فقال: ((أوصيت؟)) ، قلت: نعم، قال: ((بكم؟)) ، قلت: بمالي كله في سبيل الله، قال: ((فما تركت لولدك؟)) ، قلت: هم أغنياء، قال: ((أوصِ بالعشر)) ، فما زال يقول وأقول حتى قال: ((أوصِ بالثلث، والثلث كثير - أو: كبير)) . * * * باب الفرائض الحديث الأول عن عبد الله الله بن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)) ، وفي رواية: ((اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض فلأولى رجلٍ ذكر)) . (الفرائض) : هي قسمة المواريث: جمع فريضة بمعنى مفروضة، وخصَّت المواريث باسم الفرائض لقوله - تعالى -: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] . وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة)) ؛ رواه أبو داود وابن ماجه. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعلَّموا القرآن وعلِّموه الناس، وتعلَّموا الفرائض وعلِّموها، فإني امرؤ مقبوض والعلم مرفوع، ويوشك أن يختلف اثنان في الفريضة والمسألة فلا يجدان أحدًا يخبرهما)) ؛ ذكره أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها)) المراد بالفرائض هنا: الأنصباء المقدَّرة في كتاب الله - تعالى - وهي النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس، والمراد بأهلها مَن يستحقها بنصِّ القرآن. قوله: ((فما بقي فلأولى رجل ذكر)) ؛ أي: فما بقي من المال بعد ذوي الفروض فهو لأقرب رجل من العصبة، وأقربهم البنوَّة، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأب، ثم الجد وإن علا، ثم الإخوة من الأب، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم أعمام الأب ثم بنوهم، ثم أعمام الجد لا يرث بنو أبٍ أعلى مع بني أب أقرب وإن نزلوا، ومَن أدلى بأبوين يُقدَّم على مَن أدلى بأب، ويُقدَّم الأخ من الأب على ابن الأخ لأبوين، وإذا انقرض العصبة من النسب ورث المولى المعتق ثم عصباته من بعده، ولا يرث النساء بالولاء إلا مَن أُعتِقن أو أعتقه مَن أعتقن. وجهات العصوبة ست: البنوة، الأبوة، ثم الأخوة، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة، ثم الولاء، فإذا اجتمع عاصبان فأكثر قُدِّم الأقرب جهةً، فإن استووا فيها فالأقرب درجة، فإن استووا فيها قُدِّم مَن لأبوين على مَن لأبٍ، وهذا كقول الجعبري - رحمه الله تعالى -: فَبِالْجِهَةِ التَّقْدِيمُ ثُمَّ بِقُرْبِهِ = وَبَعْدَهُمَا التَّقْدِيمُ بِالْقُوَّةِ اجْعَلاَ وإذا لم تستوعب الفروض المال ولم يكن عصبة رُدَّ على ذوي الفروض بقدر فروضهم إلاَّ الزوجين، فإن لم يكن ذو فرض ولا عصبة ورث أولو الأرحام بالتنزيل؛ وهو أن تجعل كل شخص بمنزلة مَن أدلى به، وهم أحق بالميراث من بيت المال؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((الخال وارثُ مَن لا وارث له)) ، وفي الحديث دليلٌ على أن ابن الابن يحوز المال إذا لم يكن دونه ابن، وأن الجد يرث جميع المال إذا لم يكن دونه أبٌ، وأن الأخ من الأم إذا كان ابن عم يرث بالفرض والتعصيب، وكذا الزوج إذا كان ابن عم، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أتنزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 غدًا في دارك بمكة؟ فقال: ((وهل ترك لنا عقيل من رباعٍ أو دور؟)) ، ثم قال: ((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)) . الحديث دليلٌ على انقطاع التوارث بين المسلم والكافر بالنسب، وكذا بالولاء، وهو قول جمهور العلماء ورواية عن أحمد. قوله: أتنزل غدًا في دارك بمكة؟ فقال: ((وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور)) (الرباع) جمع ربع: وهو المنزل المشتمل على أبيات، وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرث عليٌّ ولا جعفر - رضي الله عنهما - شيئًا؛ لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين. قال الحافظ: وأخرج هذا الحديث الفاكهي من طريق محمد بن أبي حفصة، وقال في آخره: ويُقال إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم بن عبدمناف، ثم صارت لعبد المطلب ابنه فقسمها بين ولده حين عمر فمن ثَمَّ صار للنبي - صلى الله عليه وسلم - حق أبيه عبد الله، وفيها وُلِد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم. قال الحافظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما؛ لكونهما كانا لم يسلما، وباعتبار ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لحقه منها بالهجرة وفقد طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها، انتهى، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الولاء وهبته". (الولاء) : حقٌّ ثبت بوصفٍ وهو الإعتاق، فلا يقبل النقل إلى الغير بوجهٍ من الوجوه؛ فلهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الولاء لحمة كلحمة النسب لا يُباع ولا يُوهَب)) . قال الموفق: والولاء لا يورث وإنما يورث به، ولا يُباع ولا يُوهَب وهو للكبر، فإذا مات المعتق وخلف عتيقه وابنين فمات أحد الابنين بعده عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ابن ثم مات العتيق فالميراث لابن المعتق، فإن مات الابنان بعده وقبل المولى وخلف أحدهما ابنا والآخر تسعة فولاؤه بينهم على عددهم لكلِّ واحد عشرة، انتهى. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رجلاً مات على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يترك وارثًا إلا عبدًا هو أعتقه فأعطاه ميراثه"؛ رواه الخمسة إلا النسائي. قال في "الاختيارات": أسباب التوارث: رحم ونكاح وولاء عتق إجماعًا، وذكر عند عدم ذلك كله موالاته ومعاقدته وإسلامه على يديه والتقاطه كونهما من أهل الديوان، وهو رواية عن الإمام أحمد، ويرث مولى من أسفل عند عدم الورثة وقاله بعض العلماء، انتهى، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كانت في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت، وأهدى لها لحم فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبرمة على النار، فدعا بطعام، فأتي بخبز وإدام من إدام البيت، فقال: ((ألم أرَ البرمة على النار فيها لحم؟)) ، فقالوا: بلى يا رسول الله، ذلك لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه، فقال: ((هو عليها صدقة، وهو لنا منها هدية)) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الولاء لِمَن أعتق)) . فيه دليل على حصر الولاء لِمَن أعتق، وفي رواية للبخاري: ((الولاء لِمَن أعطى الورق وولى النعمة)) . قولها: "كانت في بريرة ثلاث سنن"، وفي رواية: ثلاث قضيات والمراد ما وقع من الأحكام فيها مقصودًا، وإلا ففي قصتها فوائد كثيرة تُؤخَذ بطريق التنصيص أو الاستنباط، وفي الحديث دليل على أن الأمة إذا عتقت تحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 عبد فلها الخيار، فإن مكنته من وطئها عالمة سقط خيارها، وأن بيعها لا يكون طلاقًا ولا فسخًا، وفيه ثبوت الولاء للمرأة المعتقة، وفيه أن المرء إذا خير بين مباحين فاختار ما ينفعه لم يُلَم ولو أضرَّ ذلك برفيقه، وفيه اعتبار الكفاءة في الحرية وسقوطها بالرضا، وفيه جواز أكل الغني ما تصدق به على الفقير إذا أهداه له، وجواز أكل الإنسان من طعامِ مَن يسرُّ بأكله ولو لم يأذن له فيه بخصوصه، وفيه جواز الصدقة على مَن يمونه غيره، وفيه أن مَن حَرُمت عليه الصدقة جاز له أكل عينها إذا تغيَّر حكمها، وفيه أن الهدية تُمَلَّك بوضعها في بيت المهدي له ولا يحتاج إلى التصريح بالقبول، وفيه أنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إذا لم يكن فيه شبهة، ولا عن الذبيحة إذا ذُبِحت بين المسلمين، وفيه تسمية الأحكام سننًا وإن كان بعضها واجبًا، وفي قصة بريرة من الفوائد أيضًا استحباب شفاعة الحاكم في الرفق بالخصم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لبريرة: ((زوجك وأبو ولدك)) ، وفيها غير ذلك، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 كتاب النكاح الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومَن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء)) . (النكاح) في الشرع: عقد التزويج، والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ، وقال - تعالى -: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، وهو في اللغة: الضم والتداخل، قال الفارسي: إذا قالوا: نكح فلانة أو بنت فلان فالمراد العقد وإذا قالوا: نكح زوجته فالمراد الوطْء. قوله: ((يا معشر الشباب)) (المعشر) جماعة يشملهم وصف، و (الشباب) : جمع شاب، وهو اسم لِمَن بلغ حتى يكمل ثلاثين، ثم هي كهل إلى أن يجاوز الأربعين ثم شيخ. قوله: ((مَن استطاع منكم البَاءَة فليتزوج)) ، المراد بالباءة هنا القدرة على مُؤَن النكاح، وهو في اللغة الجماع؛ أي: مَن استطاع منكم مؤنة النكاح فليتزوَّج، ومَن لم يستطع فليصم لدفع شهوته، والوجاء رضُّ الأنثيين، والإخصاء: سلهما، وإطلاق الوجاء على الصيام من مجاز المشابهة. وفي الحديث إرشاد العاجز عن مُؤَن النكاح إلى الصوم؛ لأن شهوة الجماعة تابعة لشهوة الأكل، تقوَى بقوة الأكل وتضعف بضعفه، وفيه الحثُّ على غض البصر وتحصين الفرج بكلِّ ممكن، وعدم التكليف بغير المستطاع. وأخرج ابن أبي شيبة وغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 من حديث طاوس، قال عمر بن الخطاب لأبي الزوائد: إنما يمنعك عن التزويج عجز أو فجور. فائدة: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادمًا أو دابة فليأخذ بناصيتها وليقل: اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه)) ؛ رواه ابن ماجه، والله الموفق. * * * الحديث الثاني عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمَن رغب عن سنتي فليس مِنِّي)) . قوله: "سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر" وفي رواية: "فلمَّا أُخبِروا بها كأنهم تقالُّوها وقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فقال بعضهم ... إلى آخره، وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له)) . قوله: ((فمَن رغب عن سنتي فليس مِنِّي)) ؛ أي: مَن ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مِنِّي؛ وطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوَّى على الصوم، وينام ليتقوَّى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الحديث دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه، وفيه تقديم الحمد والثناء على الله عند إلقاء مسائل العمل، وبيان الأحكام للمكلفين، وإزالة الشبهة عن المجتهدين، وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة والاستحباب، وفيه النهي عن التعمُّق في الدين والتشبُّه بالمبتدعين؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] ، وبالله التوفيق. * * * الحديث الثالث عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "ردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتُّل ولو أَذِن له لاختصينا". المراد بالتبتل هنا: الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذِّ إلى العبادة، وأمَّا التبتُّل المأمور به في قوله - تعالى -: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] فالمراد به الإكثار من ذكره - تعالى - والانقطاع إليه، وإخلاص العبادة له والرغبة إليه، كما قال - تعالى -: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7- 8] ؛ أي: إذا فرغت من أشغالك فانصب في طاعته وعبادته لتكون فارغ البال. قوله: "ولو أَذِن له لاختصينا"؛ أي: لو أَذِن له بالتبتل وترك النكاح لاختصينا، وكان ذلك قبل تحريم الخصاء، قال القرطبي: الخصاء في غير بني آدم ممنوعٌ في الحيوان إلا لمنفعة حاصلة في ذلك كتطييب اللحم أو قطع ضرر عنه، قال الحافظ: والنهي عن الخصاء نهي تحريم في بني آدم بلا خلاف. * * * الحديث الرابع عن أم حبيبة بنت أبي سفيان - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان، فقال: ((أوتحبين ذلك؟)) ، فقلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 نعم، لست لك بمخلية، وأحبُّ مََن شاركني في خير أختي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن ذلك لا يحلُّ لي)) ، قالت: فإنا نحدِّث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: ((بنت أم سلمة؟)) ، قلت: نعم، فقال: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلَّت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة مولاة لأبي لهب فلا تعرِضَنَّ عليَّ بناتكن ولا أخواتكن)) . قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهب كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا مات أبو لهب أريه بعض أهله بشرِّحِيبة، قال: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألقَ بعدكم خيرًا غير أني سقيت من هذه بعتاقتي ثويبة. (الحِيبة) بكسر الحاء. تحريم الربيبة منصوصٌ عليه في القرآن مع المحرَّمات في النكاح وكذلك الجمع بين الأختين. قوله: ((أوَتحبين ذلك؟)) هو استفهام تعجب من كونها تطلب أن يزوج غيرها مع ما طُبِع عليه النساء من الغيرة. قوله: ((لست لك بمخلية)) ؛ أي: بمنفردة بك ولا خالية من ضرَّة. قوله: ((وأحبُّ مَن شاركني في خيرٍ أختي)) وفي رواية: ((وأحبُّ مَن شركني فيك أختي)) . قوله: "فإنا نحدِّث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة" اسمها (درة) ، واسم أخت أم حبيبة (عزة) . قوله: ((بنت أم سلمة؟)) هو استفهام إثبات لرفع الإشكال أو استفهام إنكار، والمعنى: أنها إن كانت بنت أبي سلمة من أم سلمة فيكون تحريمها من وجهين، وإن كانت من غيرها فمن وجه واحد. قوله: ((إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلَّت لي)) ؛ أي: لو كان بها مانع واحد لكفى في التحريم فكيف وبها مانعان. قوله: ((في حجري)) خرج مخرج الغالب ولا مفهوم له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 عند الجمهور، و (الربيبة) : بنت زوجة الرجل، مشتقَّة من الرب وهو الإصلاح؛ لأنه يقوم بأمرها غالبًا. قوله: ((فلا تعرِضَنَّ عليَّ بناتَكن ولا أخواتكن)) قال القرطبي: جاء بلفظ الجمع وإن كانت القصة لاثنتين وهما: أم حبيبة وأم سلمة؛ ردعًا وزجرًا أن تعود واحدة منهما أو غيرهما إلى مثل ذلك. قوله: ((وثويبة مولاة لأبي لهب)) قال أبو نعيم: لا نعلم أحدًا ذكر إسلامها غير ابن منده، والذي في السِّيَر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكرمها وكانت تدخل عليه بعدما تزوَّج خديجة، وكان يرسل إليها الصلة من المدينة إلى أن كان بعد فتح خيبر ماتت ومات ابنها مسروح. قوله: "فلمَّا مات أبو لهب أريه بعض أهله بشرِّحِيبه"؛ أي: سوء حال، وذكر السهيلي أن العباس قال: لما مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول في شرِّ حال، فقال: ما لقيت بعدكم راحة، إلا أن العذاب يخفَّف عنِّي في كل يوم اثنين، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وُلِد يوم الاثنين، وكانت ثويبة بشَّرت أبا لهب بمولده فأعتقها. قوله: "غير أني سقيت من هذه بعتاقتي ثويبة" في رواية: "وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه" وفي أخرى: "وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها" وفي ذلك حقارة ما سقي من الماء. * * * الحديث الخامس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجمع الرجل بين المرأة وعمَّتها، ولا بين المرأة وخالتها)) . قوله: ((لا يجمعُ)) بالرفع على الخبر عن المشروعية، وهو يتضمَّن النهي، فإنْ جمع بينهما بعقد بطل نكاحهما معًا، وإن كان مرتَّبًا بطل الثاني، وقال الترمذي بعدما أخرج الحديث: العمل على هذا عند عامَّة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافًا أنه لا يحلُّ للرجل أن يجمع بين المرأة وعمَّتها أو خالتها، ولا أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، اهـ. وخصَّ العلماء بهذا الحديث عموم قوله - تعالى -: {وَأُحِلَّ لَكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، وهو دليلٌ على جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد، والحكمة في النهي عن الجمع بينهما ما يقع بسبب المضارَّة من التباغض والتنافر فيفضي ذلك إلى قطيعة الرحم، والله أعلم. * * * الحديث السادس عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحقَّ الشروط أن توفُّوا به ما استحللتم به الفروج)) . أي: أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح؛ لأن أمره أحوط وبابه أضيق، قال الخطابي: الشروط في النكاح مختلفة: فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقًا؛ وهو ما أمر الله به من إمساكٍ بمعروف أو تسريحٍ بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث، ومنها ما لا يُوفى به اتفاقًا؛ كسؤال طلاق أختها، ومنها ما اختُلِف فيه؛ كاشتراط أن لا يتزوج أو لا يتسرَّى أو لا ينقلها من منزلها، اهـ. قال الموفق: وإن شرط لها طلاق ضرَّتها، فقال أبو الخطاب: هو صحيح، ويحتمل أنه باطل؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في صحفتها ولتنكح فإن لها ما قدر لها)) ، اهـ. وعن عبد الرحمن بن غنم قال: "كنت مع عمر حيث تمسُّ ركبتي ركبته، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، تزوجت هذه وشرطت لها دارها، وإني أجمع لأمري أو لشأني أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا، فقال له: اشرطها، فقال الرجل: هلك الرجال إذ لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت، فقال عمر: المؤمنون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم"؛ أخرجه سعيد بن منصور. والحديث دليلٌ على لزوم الوفاء بالشروط وإن لم تكن من مقتضى العقد، قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من الصحابة، منهم عمر قال: "إذا تزوج الرجل المرأة وشرط أن لا يخرجها لزم"، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الحديث السابع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار"؛ والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق. قوله: "والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق" في حديث جابر مرفوعًا: "نهى عن الشغار، والشغار أن ينكح هذه بهذه بغير صداق، بضع هذه صداق هذه، وبضع هذه صداق هذه"؛ رواه البيهقي. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته، فالجمهور على البطلان، وفي رواية عن مالك: "يفسخ قبل الدخول لا بعده" وذهب الحنفية إلى صحته ووجوب مهر المثل، اهـ. وقال النووي: أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات وبنات الأخ وغيرهن كالبنات في ذلك، والله أعلم. * * * الحديث الثامن عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية". نكاح المتعة: هو تزوج المرأة إلى أجل، وقد أُبِيح ذلك ثم نُسِخ. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث)) ؛ أخرجه ابن حبان في "صحيحه". وعن سبرة الجهني قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا بين الركن والباب وهو يقول: ((يا أيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة)) ؛ رواه مسلم. وعن سلمة بن الأكوع قال: "رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها"؛ رواه أحمد ومسلم. قال النووي: الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعَا مرتين، فكانت مباحة قبل خيبر ثم حرمت فيها، ثم أُبِيحت عام الفتح وهو عام أوطاس، ثم حرمت تحريمًا مؤبدًا. وقال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة في نكاح المتعة، ولا أعلم اليوم أحدًا يجيزها إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقولٍ يخالف كتاب الله وسنة رسوله. وقال عياض: وأمَّا ابن عباس فرُوِي عنه أنه أباحها، ورُوِي عنه أنه رجع عن ذلك، اهـ. وعن سعيد بن جبير قال: "قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان؛ وقال فيها الشعراء - يعني: في المتعة - فقال: والله ما بهذا أفتيت، وما هي إلا كالميتة لا تحلُّ إلا للمضطر"؛ أخرجه الخطابي والفاكهي. وعن جعفر بن محمد: "أنه سُئِل عن المتعة، فقال: هي الزنا بعينه"؛ نقله البيهقي. ومتى وقع نكاح المتعة بطل سواء كان قبل الدخول أو بعده، قال عياض: وأجمعوا على أن شرط البطلان التصريح بالشرط، فلو نوى عند العقد أن يفارق بعد مدَّة صحَّ نكاحه إلا الأوزاعي فأبطله، واختلفوا هل يحد بنكاح المتعة أو يعزر على قولين. قوله: "وعن لحوم الحمر الأهلية" ظاهر النهي التحريم والتقييد بالأهلية يُخرِج الحمر الوحشية، ولا خلاف في إباحتها، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تنكح الأيم حتى تُستَأمر، ولا تنكح البكر حتى تُستَأذن)) ، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 قوله: ((لا تنكح)) بكسر الحاء للنهي وبرفعها للخبر، وهو أبلغ في المنع، والأيِّم هي الثيِّب التي فارَقَت زوجها بموت أو طلاق، والاستئمار طلب الأمر. وفي روايةٍ عند ابن المنذر: ((الثيب تشاور)) ؛ والمعنى: لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، والاستئذان طلب الإذن من البكر. وعن عائشة أنها قالت: يا رسول الله، البكر تستحي، قال: ((رضاها صمتها)) ، ولمسلم من حديث ابن عباس: ((والبكر يستأذنها أبوها في نفسها)) . والحديث دليلٌ على أنه لا يجوز للأب ولا غيره من الأولياء تزويج الثيب والبكر إلا برضاهما، ويجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة التي لا تعرف الإذن لحديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجها وهي بنت ست سنين، وأُدخِلت عليه وهي بنت تسع، ومكثت عنده تسعًا؛ رواه البخاري. قال في "الاختيارات": والجد كالأب في الإجبار وهو رواية عن الإمام أحمد، وليس للأب إجبار بنت التسع بكرًا كانت أو ثيبًا، وهو رواية عن أحمد اختارها أبو بكر، ورضا الثيب الكلام، والبكر الصمات، اهـ، والله أعلم. * * * الحديث العاشر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فطلَّقني فبَتَّ طلاقي، فتزوَّجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسَيلَته ويذوق عُسَيلَتك)) ، قالت: وأبو بكر عنده وخالد بن سعيد بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: يا أبا بكر، ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 قولها: ((فطلَّقني فبَتَّ طلاقي)) في رواية: أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات. قولها: "وإنما معه مثل هدبة الثوب"؛ تعني: في الاسترخاء أو عدم الانتشار، وفي رواية: "فلم يقربني إلا هنة واحدة ولم يصل مِنِّي إلى شيء"، وفي رواية: "فقال: كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشز تريد رفاعة، قال: ((فإن كان ذلك لم تحلَّ له ... )) الحديث. قوله: ((لا، حتى تذوقي عُسَيلَته ويذوق عُسَيْلَتك)) العُسَيْلَة: حلاوة الجماع، ويكفي من ذلك ما يوجب الحد ويفسد الحج، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحلَّ للأول إلا سعيد بن المسيب، اهـ. قال عياض: اتَّفق كافَّة العلماء على أن للمرأة حقًّا في الجماع، فيثبت الخيار لها إذا تزوجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما، ويضرب للعنين أجل سنة لاحتمال زوال ما به، وفي الحديث ما كان الصحابة عليه من سلوك الأدب بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنكارهم على مَن خالف ذلك بفعله أو قوله. * * * الحديث الحادي عشر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "من السنَّة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا ثم قسم"، قال أبو قلابة: "ولو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم". قوله: "من السنَّة"؛ أي: سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "ولو شئت لقلت إن أنسًا رفعه إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ أي: لأنه في حكم المرفوع. وعن أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوَّجها أقام عندها ثلاثًا، وقال: ((إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي)) ؛ رواه مسلم، وفي روايةٍ له: ((إن شئت ثلَّثت ثم درت)) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الحديث الثاني عشر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنِّبنا الشيطان وجنِّب الشيطان ما رزقتنا، فإن قُدِّر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا)) . قوله: ((لم يضره الشيطان أبدًا)) ؛ أي: لم يسلط عليه لأجل بركة التسمية، بل يكون من جملة العباد الذين قال الله فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65] ، قال مجاهد: إن الذي يجامع ولا يسمى يلتفُّ الشيطان على إحليله فيُجامِع معه، قيل للبخاري: مَن لا يحسنها بالعربية يقولها بالفارسية؟ قال: نعم. وفي الحديث استحباب التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك في كل حال حتى في حالة الملاذِّ، وفيه الاعتصام بذكر الله ودعائه من الشيطان، والتبرُّك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسواء، وفيه إشارة إلى أن الشيطان ملازم لابن آدم لا ينطرد عنه إلا إذا ذكر الله. * * * الحديث الثالث عشر عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إياكم والدخول على النساء)) ، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)) ، ولمسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: "سمعت الليث يقول: (الحمو) أخو الزوج، وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قوله: ((إياكم والدخول على النساء)) روى الترمذي عن جابر مرفوعًا: ((لا تدخلوا على المغيبات؛ فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) . ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: ((لا يدخل رجل على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان)) ، وفي الحديث الآخر: ((لا يخلوَنَّ رجل بامرأة إلا والشيطان ثالثهما)) ، وفي الحديث الآخر: ((لا يخلوَنَّ رجلٌ مع امرأة إلا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم)) . قوله: فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)) ، قال النووي: المراد به في الحديث أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه؛ لأنهم محارم للزوجة يجوز لهم الخلوة بها ولا يُوصَفون بالموت، وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابن العم وابن الأخت، ونحوهم ممَّن يحلُّ لها تزويجه لو لم تكن متزوِّجة، وجرت العادة بالتساهل فيه فيخلو الأخ بامرأة أخيه فشبه بالموت وهو أَوْلَى بالمنع من الأجنبي، فإن الخلوة بقريب الزوج أكثر من الخلوة بغيره، والشر يتوقَّع منه أكثر من غيره، والفتنة به أمكن لتمكُّنه من الوصول إلى المرأة والخلوة بها من غير نكير عليها بخلاف الأجنبي، والله أعلم. * * * باب الصداق الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها". الأصل في مشروعية الصداق الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] الآية، وقال - تعالى -: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] ، وكلُّ ما كان مالاً جاز أن يكون صداقًا قليلاً كان أو كثيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 قوله: "أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" فيه دليلٌ على أن الرجل إذا أعتق أمَتَه على أن يجعل عتقها صداقها أنه يصحُّ العقد والعتق والمهر، قال الترمذي بعد إخراج الحديث: وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقها صداقها حتى يجعل لها مهرًا سوى العتق، والقول الأول الأصح. * * * الحديث الثاني عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقامت قيامًا طويلاً، فقال رجل: يا رسول الله، زوِّجنيها إن لم يكن لك بها حاجة؟ فقال: ((هل عندك من شيء تصدقها؟)) ، فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك، فالتمس شيئًا)) ، قال: ما أجد، قال: ((فالتمس ولو خاتمًا من حديدٍ)) ، فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل معك شيء من القرآن)) ، قال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((زوجتكما بما معك من القرآن)) . هذه الواهبة غير الواهبة المذكورة في قوله - تعالى -: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] . وفي الحديث جواز التزويج بالقرآن لِمَن لم يكن عنده مال، وفيه أنه لا حدَّ لأقلِّ المهر، وفيه أن الإمام يزوج مَن ليس لها وليٌّ خاص إذا رضيت بذلك، وفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 جواز تأمُّل محاسن المرأة لإرادة تزويجها وإن لم تتقدَّم الرغبة في تزويجها ولا وقعت خطبتها. وعن محمد بن مسلمة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا ألقى الله - عزَّ وجلَّ - في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها)) ؛ رواه أحمد وابن ماجه. وفيه أن النكاح لا بُدَّ فيه من الصداق، وفيه استحباب ذكر الصداق في العقد؛ لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة، فلو عقد بغير ذكر صداق صحَّ ووجب لها مهر المثل بالدخول، وفيه استحباب تعجيل تسليم المهر، وفيه جواز النكاح بالخاتم الحديد وما هو نظير قيمته، ونقل عياض الإجماع على أن مثل الشيء الذي لا يتموَّل ولا له قيمة لا يكون صداقًا ولا يحلُّ به النكاح، وفيه جواز كون الإجارة صداقًا، وقد نقل عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافَّة إلا الحنفية، وفيه دليل على أن مَن قال: زوجني فلانة، فقال: زوجتها بكذا، كفى ذلك، ولا يحتاج إلى قول الزوج: قبلت، إذا ظهر منه قرينة القبول، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن النكاح ينعقد بكلِّ لفظ يدل عليه، وهو قول الحنفية والمالكية وإحدى الروايتين عن أحمد، وأصوله تشهد بأن العقود تنعقد بما يدلُّ على مقصودها من قول أو فعل. وفيه أن طالب الحاجة ينبغي عليه ألاَّ يلحَّ في طلبها، بل يطلبها برفق وتأنٍّ ويدخل في ذلك طالب الدنيا والدين من مستفتٍ وسائل وباحث عن علم، وفيه نظر الإمام على مصالح رعيَّته وإرشاده إلى ما يصلحهم، وفيه المراوضة في الصداق وخطبة المرء لنفسه، وفيه جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، وفيه فوائد أُخَر، والله الموفق. * * * الحديث الثالث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران، فقال النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 - صلى الله عليه وسلم -: مَهْيَم؟ فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة، فقال: ((ما أصدقتها؟)) ، قال: وزن نواة من ذهب، قال: ((بارك الله لك، أَوْلِم ولو بشاة)) . قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مهيم)) ؛ أي: ما شأنك - أو ما هذا؟ وهي كلمة استفهام مبنية على السكون، وفي رواية للطبراني: فقال له: ((مهيم)) وكانت كلمته إذا أراد أن يسأل عن الشيء. قوله: "وزن نواة من ذهب" المراد واحدة نوى التمر، وللطبراني، قال أنس: "جاء وزنها ربع دينار"، وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عمَّا قيمته خمسة دراهم من الورق. قال الشافعي: النواة ربع النشِّ، والنشُّ نصف أوقية، والأوقية أربعون درهمًا. قوله: ((بارك الله لك أولم ولو شاة)) (لو) للتقليل، وفيه دليل على توكيد أمر الوليمة، قال عياض: وأجمعوا على أن لا حدَّ لأكثرها، وأمَّا أقلها فكذلك، والمستحبُّ أنها على قدر حال الزوج، وفيه استحباب الدعاء للمتزوِّج، وسؤال الإمام والكبير أصحابه وأتباعه عن أحوالهم، وجواز خروج العروس وعليه أثر العرس من خلوق وغيره. وفيه جواز التزعفر للعروس وخصَّ به عموم النهي عن التزعفر للرجال، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 كتاب الطلاق الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتغيَّظ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسَّها، فتلك العدة كما أمر الله - عزَّ وجلَّ)) ، وفي لفظ: ((حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلَّقها فيها)) ، وفي لفظ: "فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم". (الطلاق) : حل قيد النكاح، والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] ، وقال - تعالى -: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . قالت عائشة - رضي الله عنها -: "لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدَّة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال: والله لأتركنك لا أيمًا ولا ذات زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - فيه: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، فوقَّت الطلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره"؛ أخرجه ابن مردويه. قال البخاري: "وطلاق السنة أن يطلقها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 طاهرًا من غير جماع، ويشهد شاهدين". قوله: "طلق امرأته وهي حائض"، ولمسلم: "تطليقة واحدة فتغيَّظ منه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"، قال ابن عباس: "الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال، ووجهان حرام: فأمَّا اللذان هما حلال أن يطلق الرجل امرأته طاهرًا من غير جماع، أو يطلقها حاملاً مستبينًا حملها، وأمَّا اللذان هما حرام: فأن يطلقها حائضًا، أو يطلقها عند الجماع لا يدري أشتمل الرحم على ولد أم لا"؛ رواه الدارقطني. قوله: ((ليراجعها)) فيه دليلٌ على وجوب المراجعة لِمَن طلَّق في الحيض لأنه حرام، وفي رواية: ((مُرْهُ فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرًا - أو حاملاً)) . قوله: ((ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر)) ، في رواية: ((مُرْهُ أن يراجعها، فإذا طهرت مسَّها حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها)) ، والحكمة في ذلك أن لا تصير الرجعة لغرض الطلاق. قوله: ((فتلك العدة كما أمر الله - عزَّ وجلَّ)) ؛ أي: في قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . قوله: "فحسبت من طلاقها"، في لفظ: "حسبت عليَّ بتطليقة"، وفي رواية: عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - قال: ((هي واحدة)) ؛ رواه الدارقطني. وفي الحديث من الفوائد أن الرجعة يستقلُّ بها الزوج دون الولي ورضا المرأة كما قال - تعالى -: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا} [البقرة: 228] . وفيه تحريم الطلاق في الحيض أو في طهر جامَعَها فيه، وفيه أن الطلاق يقع بالحائض ويُحسَب عليه بتطليقة واحدة، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها -: "أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة وهو غائب"، وفي رواية: "طلقها ثلاثًا، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: ((ليس لك عليه نفقة)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وفي لفظ: ((ولا سكنى)) ، فأمرها أن تعتدَّ في بيت أم شريك، ثم قال: ((تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدِّي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني)) ، قالت: فلمَّا حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمَّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأمَّا معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد)) ، فكرهته، ثم قال: ((انكحي أسامة بن زيد)) ، فنكحته فجعل الله فيه خيرًا واغتبطت به. قوله: "طلقها ألبتة وهو غائب"؛ وفي رواية: "طلقها ثلاثًا"، في روايةٍ لمسلم: "أن زوجها خرج مع عليٍّ - رضي الله عنه - لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فبعث إليها بتطليقة ثالثة بقيت لها". قوله: ((ليس لك عليه نفقة)) فيه دليل لقول الجمهور: أن المطلقة البائن لا نفقة لها. قوله: "وفي لفظ ولا سكنى" فيه دليل لمذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: أنه لا نفقة لها ولا سكنى أيضًا. قوله: ((تلك امرأة يغشاها أصحابي)) ؛ أي: يزورونها لصلاحها. قوله: ((أمَّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه)) ، في رواية: ((أنه ضرَّاب للنساء)) . وفي الحديث دليلٌ على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند النصيحة، وأنه لا يكون من الغيبة المحرمة، وفيه استعمال المبالغة وجواز نكاح القرشية للمولى، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 باب العدة الحديث الأول عن سُبَيعة الأسلمية: أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممَّن شهد بدرًا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته، فلمَّا تعلت من نفاسها تجمَّلت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَكٍ - رجل من بني عبد الدار - فقال لها: ما لي أراك متجمِّلة؟ لعلك ترجين النكاح، والله ما أنت بناكحٍ حتى تمرَّ عليك أربعة أشهرٍ وعشر، قالت سُبَيعة: فلمَّا قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي، قال ابن شهاب: ولا أرى بأسًا أن تتزوَّج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر. الأصل في وجوب العدَّة الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وقال - تعالى -: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، وقال - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، والعدة اسم لمدَّة التربص، والمقصود الأصلي منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 براءة الرحم، والحديث دليل على أن الحامل تنقضي عدَّتها بوضع الحمل أي وقت كان. قوله: "فلمَّا تعلت من نفاسها"؛ أي: طهرت. وفي الحديث من الفوائد أنه ينبغي لِمَن ارتاب في فتوى المفتي أن يبحث عن النص في تلك المسألة، وفيه الرجوع في الوقائع إلى الأعلم، وفيه جواز تجمُّل المرأة بعد انقضاء عدَّتها لِمَن يخطبها، وفيه غير ذلك، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن زينب بنت أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "توفي حميم لأم حبيبة فدعت بصفرة فمسحت بذراعيها، فقالت: إنما صنعت هذا لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ على ميتٍ فوق ثلاثٍ، إلا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا)) ، (الحميم) القرابة. قال ابن بطال: الإحداد امتناع المرأة المتوفى عنها من الزينة كلها من لباس وطيب وغيرهما، وكل ما كان من دواعي الجماع، وأباح الشارع للمرأة أن تحد على غير زوجها ثلاثة أيام؛ لما يغلب من لوعة الحزن، ويهجم من ألم الوجد، انتهى. وقال البخاري، قال الزهري: لا أرى أن تقرب الصبية الطيب؛ لأن عليها العدة. وفي الحديث دليل على تحريم الإحداد على غير الزوج، ووجوب الإحداد في المدَّة المذكورة على الزوج، وفيه أنه لا إحداد على امرأة المفقود لقوله ((على ميت)) ، وأمَّا المطلقة الرجعية فلا إحداد عليها بالإجماع، وقال الجمهور: لا إحداد على البائن أيضًا، وفيه أن الإحداد على كل زوج سواء كان الموت قبل الدخول أو بعده، لقوله: ((إلا على زوج)) ، ولقوله - تعالى -: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 قوله: ((أربعة أشهر وعشرًا)) قيل: الحكمة فيه أن الولد يتكامل تخليقه وتُنفَخ فيه الروح بعد مائة وعشرين، وهي زيادة على أربعة أشهر بنقصان الأهلَّة، فجبر الكسر إلى عقد العشرة على طريق الاحتياط، وتجب عدَّة الوفاة في المنزل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لفُرَيعَة بنت مالك: ((امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله)) ؛ رواه الخمسة، ويجوز خروجها للعذر. وعن ابن مسعود: في نساء نعي إليهن أزواجهن ويشتكين الوحشة، فقال: "يجتمعن بالنهار، ثم ترجع كلُّ امرأة منهن إلى بيتها بالليل"؛ أخرجه عبد الرزاق، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن أمِّ عطية - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تُحِدُّ امرأة على ميتٍ فوق ثلاثٍ، إلا على زوج أربعة أشهرٍ وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصبٍ، ولا تكتحل ولا تمسُّ طيبًا ولا شيئًا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار)) . (العصب) : ثياب من اليمن فيها بياض وسواد. * * * الحديث الرابع عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا)) ، مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: ((لا)) ، ثم قال: ((إنما هي أربعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أشهرٍ وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول، فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت خِفْشًا، ولبست شرَّ ثيابها، ولم تمسَّ طيبًا ولا شيئًا حتى تمرَّ عليها سنة، ثم تؤتى بدابة حمارٍ أو طيرٍ أو شاةٍ فتفتضُّ به، فقلَّما تفتضُّ بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعدما شاءت من طيبٍ أو غيره)) . قوله: ((إلا ثوب عصب)) قال الحافظ: هي برود اليمن يعصب غزلها؛ أي: يربط ثم يصبغ، ثم ينشج معصوبًا، ثم يخرج موشى لبقاء ما عصب به أبيض لم ينصبغ، وإنما يعصب السدي دون اللحمة. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادَّة لبس الثياب المعصفرة ولا المصبغة إلاَّ ما صُبِغ بسواد، فرخَّص فيه مالك والشافعي لكونه لا يتَّخذ للزينة، بل هو من لباس الحزن. قوله: ((ولا تمسُّ طيبًا ولا شيئًا إلا إذا ظهرت نبذة من قسط أو أظفار)) قال النووي: القسط والأظفار نوعان معروفان من البخور، وليسا من مقصود الطيب، رخَّص فيه للمغتسِلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم. قولها: "إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا)) " فيه دليل على تحريم الاكتحال على الحادَّة، وفي الموطأ وغيره من حديث أم سلمة: ((اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار)) ، وعنها قالت: "دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرًا، فقلت: إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب، فقال: ((إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وانزعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب)) ، قالت: قلت: بأيِّ شيء أمتشط يا رسول الله؟ قال: ((بالدر تغلغلين به رأسك)) ؛ رواه أبو داود والنسائي. قال الحافظ: ووجه الجمع بين الأحاديث أنها إذا لم تحتج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 إلى الكحل لا يحلُّ، وإذا احتاجت لم يجز بالنهار ويجوز بالليل، مع أن الأَوْلَى تركه، فإن فعلت مسحته بالنهار. قوله: ((إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول)) فيه إشارة إلى تقليل المدَّة بالنسبة إلى ما كان قبل ذلك، وفي رواية: فقال: ((لا تكتحل، قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها - أو: شر بيتها - فإذا كان حولٌ فمرَّ كلب رمت ببعرة، فلا حتى تمضي أربعة أشهر وعشر)) . قوله: ((دخلت حفشًا)) هو البيت الصغير الشعث البناء. قوله: ((بدابة حمار أو طير أو شاة فتفتضُّ به)) قال مالك: تمسح به جلدها، وقال ابن قتيبة: سألت الحجازيين عن الافتضاض، فذكروا أن المعتدَّة كانت لا تمسُّ ماء ولا تقلِّم ظفرًا ولا تزيل شعرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتضُّ؛ أي: تكسر ما هي فيه من العدَّة بطائر تمسح به قُبُلَها وتنبذه، فلا يكاد يعيش بعدما تفتضُّ به. قوله: ((ثم تخرج فتعطي بعرة فترمي بها)) ، وفي رواية: ((من بعر الغنم أو الإبل فترمي به أمامها فيكون ذلك إحلالاً لها)) ، وقيل: ترمي من عرض من كلب أو غيره تُرِي مَن حضرها أن مُقامَها حولاً أهون عليها من بعرة ترمي بها كلبًا؛ والمراد: الإشارة إلى أنها رمت العدَّة رمي البعرة، وقيل: إشارة إلى أن الفعل الذي فعلته من التربُّص والصبر على البلاء الذي كانت فيه لما انقضى كان عندها بمنزلة البعرة التي رمتها استحقارًا له وتعظيمًا لحق زوجها، والله أعلم. * * * باب اللعان الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن فلان بن فلانٍ قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجد أحدُنا امرأتَه على فاحشةٍ كيف يصنع؟ إن تكلَّم تكلَّم بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكت سكت على مثل ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 قال: فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه، فلمَّا كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - هؤلاء الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ... } [النور: 6] ، فتلاهن عليه ووعظه، وأخبره أن عذاب الدنيا أَهْوَن من عذاب الآخرة، فقال: لا، والذي بعثك بالحق نبيًّا ما كذبت عليها، ثم دعاها ووعظها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أَهْوَن من عذاب الآخرة، فقالت: لا، والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنَّى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليه إن كان من الصادقين، ثم فرَّق بينهما، ثم قال: ((الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب)) ثلاثًا، وفي لفظ: ((لا سبيل لك عليها)) ، قال: يا رسول الله، مالي؟ قال: ((لا مال لك إن كنت صدتَ عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنتَ كذبتَ عليها فهو أبعد لك منها)) . * * * الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رجلاً رمى امرأته وانتفى من ولدها في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلاعنا كما قال الله - تعالى - ثم قضى بالولد للمرأة وفرَّق بين المتلاعنين)) . الأصل في اللعان قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6- 9] . واللعان والملاعنة والالتعان: بمعنًى، وهو مأخوذ من اللعن، وخصَّت المراة بالغضب لعظم ذنبها إن كانت كاذبة؛ لما فيه من تلويث الفراش والتعرُّض لإلحاق ما ليس من الزوج به، قال القفال في "محاسن الشريعة": كررت أيمان اللعان لأنها أُقِيمت مقام أربعة شهود في غيره ليقام عليها الحد، ومن ثَمَّ سُمِّيت شهادات، اهـ. وفي أحاديث اللعان من الفوائد: أن المفتي إذا سُئِل عن واقعة ولم يعلم حكمها ورجا أن يجد فيها نصًّا لا يبادر إلى الاجتهاد فيها، وفيه أن البلاء موكَّل بالمنطق، وأنه إن لم يقع بالناطق وقع بِمَن له به وصلة، وفيه أن الحاكم يردع الخصم عن التمادي على الباطل بالموعظة والتحذير ويكرِّر ذلك ليكون أبلغ، وفيه أن اللعان إذا وقع سقط حدُّ القذف عن الملاعن للمرأة والذي رميت به، وفيه أنه ليس على الإمام أن يعلم المقذوف بما وقع من قاذفه، وفيه أن الحامل تلاعن قبل الوضع لأن اللعان شرع لدفع حدِّ القذف عن الرجل ودفع حدِّ الرجم عن المرأة، فلا فرق بين أن تكون حاملاً أو حائلاً، وفيه أن الحكم يتعلَّق بالظاهر، وأمر السرائر موكلاً إلى الله - تعالى - وفيه غير ذلك، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "جاء رجلٌ من بني فزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هل لك إبل؟)) ، قال: نعم، قال: ((فما ألوانها؟)) ، قال: حُمْرٌ، قال: ((فهل يكون فيها من أَوْرَق؟)) ، قال: إن فيها لَوُرْقًا، قال: ((فأنَّى أتاها ذلك؟)) ، قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: ((وهذا عسى أن يكون نزعه عرق)) . قوله: "إن امرأتي ولدت غلامًا أسود"، في رواية لمسلم: "وهو يعرِّض بأن ينفيه" والتعريض هو ذكر شيء يُفهَم منه شيء آخر لم يُذكَر. قال المهلب: التعريض إذا كان على سبيل السؤال لا حدَّ فيه، وإنما يجب الحدُّ في التعريض إذا كان على سبيل المواجهة والمشاتمة. قوله: ((هل فيها من أَوْرَق)) هو الذي فيه سواد وليس بحالك بل يميل إلى الغبرة، ومنه قيل للحمامة: ورقاء. قوله: ((فأنى أتاها ذلك؟)) ، قال: عسى أن يكون نزعه عرق؛ أي: يحتمل أن يكون في أصولها ما هو باللون المذكور فاجتذبه فجاء على لونه. وفي الحديث ضرب المثل، وتشبيه المجهول بالمعلوم تقريبًا لفهم السائل، وفيه أن الزوج لا يجوز له الانتفاء من ولده بمجرَّد الظن، وأن الولد يلحق به ولو خالف لونه لون والديه، وفيه الاحتياط للأنساب وإبقاؤها مع الإمكان والزجر عن تحقيق ظن السوء، وفيه تقديم حكم الفراش على ما يشعر به مخالفة الشبه. قال القرطبي: لا يحلُّ نفي الولد باختلاف الألوان المتقاربة كالأدمة والسمرة، ولا في البياض والسواد إذا كان قد أقرَّ بالوطء ولم تمضِ مدَّة الاستبراء، اهـ، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلامٍ، فقال سعد: يا رسول الله، هذا ابن أخي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 عتبة بن أبي وقاص عهد إليَّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله، ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة، فلم يرَ سودة قطُّ)) . قال الحافظ: والذي يظهر من سياق القصة أنها كانت أمَة مُستَفْرَشة لزمعة، فاتَّفق أن عتبة زنى بها، وكانت طريقة الجاهلية في مثل ذلك أن السيد إن استلحقه لحقه، وإن نفاه انتفى عنه، وإن ادَّعاه غيره كان مردُّ ذلك إلى السيد أو القافة. وقد أخرج أبو داود تلو حديث الباب بسند حسن إلى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "قام رجل فقال: يا رسول الله، إن فلانًا ابني عاهرت بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش وللعاهر الحجر)) . قوله: ((الولد للفراش)) ؛ أي: سواء كانت المستفرشة حرَّة أو أمَة، ولا تصير الأمَة فراشًا إلا بالوطء، وأمَّا الزوجة فتكون فراشًا بمجرَّد العقد، بشرط الإمكان زمانًا ومكانًا. قال الموفق: مَن أتت امرأته بولد يمكن كونه منه؛ وهو أن تأتي به بعد ستة أشهر منذ أمكن اجتماعه بها، ولأقل من أربع سنين منذ أبانها، وهو ممَّن يُولَد لمثله - لَحِقَه نسبه. وقال ابن دقيق العيد: والحديث أصلٌ في إلحاق الولد بصاحب الفراش وإن طرأ عليه وطء محرَّم، وقال الشافعي: هو له ما لم ينفِه، فإذا نفاه بما شرع له كاللعان انتفى عنه. قوله: ((وللعاهر الحجر)) ؛ أي: للزاني الخيبة والحرمان، وجرت عادة العرب أن تقول لِمَن خاب: له الحجر، وبفيه الحجر والشراب، وأخرج الحاكم في حديث زيد بن أرقم: ((الولد للفراش وفي فم العاهر الحجر)) ، وقيل: المراد بالحجر أنه يُرجَم. قوله: ((واحتجبي منه يا سودة)) ؛ أي: ابنة زمعة، زوج النبي - صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 عليه وسلم - أخت عبد بن زمعة، أمرها بالحجاب احتياطًا لما رأى الشبه بينًا بعتبة، ولأن الحجاب في حق أمهات المؤمنين أغلظ منه في غيرهن. وفي الحديث دليلٌ على أن القائف إنما يعتمد في الشبه إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتلفت هنا إلى الشبه بل حكم بالولد لصاحب الفراش، وكذا لم يُحكَم بالشبه في قصة الملاعنة؛ لأنه عارَضَه حكم أقوى منه وهو مشروعية اللعان، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليَّ مسرورًا تبرق أسارير وجهه، فقال: ((ألم تري أن مجزرًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد. فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض)) ، وفي لفظ: ((كان مجزر قائفًا)) . (القائف) : هو الذي يعرف الشبه ويميز الأثر والجمع القافة. قوله: "تبرق أسارير وجهه" (الأسارير) : الخطوط التي في الجبهة. قوله: ((ألم تري أن مجزرًا نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد)) ، وفي رواية: ((ألم تري أن مجزرًا المدلجي دخل فرأى أسامة وزيدًا وعليهما قطيفة قد غطَّيَا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)) ، (المدلجي) : نسبة إلى مدلج بن مرة بن عبدمناف بن كنانة، وكانت العرب تعترف لهم بالقيافة، وليس ذلك خاصًّا بهم. قال أبو داود: نقل أحمد بن صالح عن أهل النسَب أنهم كانوا في الجاهلية يقدحون في نسب أسامة؛ لأنه كان أسود شديد السواد، وكان أبوه أبيض من القطن، فلمَّا قال القائف ما قال مع اختلاف اللون سُرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 بذلك لكونه كافلاً لهم، اهـ. وأم سلمة هي أم أيمن مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن شهاب: كانت حبشية وصيفة لعبد الله والد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم. قال الحافظ: وفي الحديث جواز الشهادة على المنتقبة، والاكتفاء بمعرفتها من غير رؤية الوجه، وقبول شهادة مَن شهد أن يستشهد عند عدم التهمة، وسرور الحاكم لظهور الحق لأحد الخصمين عند السلامة من الهوى، وبالله التوفيق. * * * الحديث السادس عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "ذكر العزل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ولِمَ يفعل أحدُكم ذلك؟)) ، ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم، فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها. * * * الحديث السابع عن جابر - رضي الله عنه - قال: "كنَّا نعزل والقرآن ينزل لو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن". (العزل) : النزع بعد الإيلاج ليُنزِل خارج الفرج. قوله: "ذكر العزل لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"، في رواية: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب، وطالت علينا الغربة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ذلك ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا لا نسأله، فسألناه". وفي روايةٍ لمسلم قال: "ذُكِر العزل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وما ذلكم؟)) ، قالوا: الرجل تكون له المرأة ترضع له فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، والرجل تكون له الأمَة فيصيب منها ويكره أن تحمل منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 قوله: فقال: ((ولم يفعل أحدكم ذلك؟)) ، ولم يقل: "فلا يفعل ذلك أحدكم"، أشار إلى أنه لم يصرِّح لهم بالنهي، وإنما أشار إلى أن الأَوْلَى ترك ذلك؛ لأن العزل إنما كان خشية حصول الولد فلا فائدة في ذلك؛ لأن الله إن كان قدَّر خلق الولد لم يمنع العزل ذلك، فقد يسبق الماء فلا يشعر العازل فيحصل العلوق ويلحقه الولد، ولا رادٌّ لما قضى الله، ولهذا قال: فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها. قوله: "كنَّا نعزل والقرآن ينزل، لو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن"، كأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع، ولو كان حرامًا لم نقرَّ عليه، ولمسلم عن جابر: "أن رجلاً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لي جارية، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: ((اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها)) ، فلبث الرجل، ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، قال: ((قد أخبرتك)) ، وفي رواية: فقال: ((أنا عبد الله ورسوله)) . قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرَّة إلا بإذنها؛ لأن الجماع من حقِّها ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل، اهـ. وأخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال: "تُستَأذن الحرَّة في العزل ولا تُستَأمر الأمَة، فإن كانت أمَة تحت حر فعليه أن يستأمرها". * * * الحديث الثامن عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ليس من رجلٌ أدعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومَن ادَّعى ما ليس له فليس منَّا، وليتبوَّأ مقعده من النار، ومَن دعا رجلاً بالكفر أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه)) ، كذا عند مسلم، وللبخاري نحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 قوله: ((إلا كفر)) ؛ أي: فعل فعلاً شبيهًا بفعل أهل الكفر، وذلك حرام، وليس المراد بالكفر حقيقة الكفر الذي يخلِّد صاحبه في النار، فهو كفر دون كفر. قال ابن بطال: ليس معنى هذا أن مَن اشتهر بالنسبة إلى غير أبيه أن يدخل في الوعيد كالمقداد بن الأسود، وإنما المراد مَن تحوَّل عن نسبه لأبيه إلى غير أبيه عالمًا عامدًا مختارًا. قوله: ((ومَن ادَّعى ما ليس له فليس منَّا وليتبوَّأ مقعده من النار)) ؛ أي: ليتَّخذ منزلاً من النار، وهو خبر بلفظ الأمر. قوله: ((ومَن دعا رجلاً بالكفر أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه)) ؛ أي: رجع. قال ابن دقيق العيد: وهذا وعيد عظيم لِمَن كفَّر أحدًا من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة، وأهل الحديث لمَّا اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم، والحقُّ أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها، فإنه حينئذ يكون مكذبًا للشرع، اهـ. قال الحافظ: وفي الحديث تحريم الانتفاء من النسب المعروف والادِّعاء إلى غيره، وقيد في الحديث بالعلم، ولا بُدَّ منه في الحالتين إثباتًا ونفيًا؛ لأن الإثم إنما يترتَّب على العالم بالشيء المتعمِّد له، وفيه جواز إطلاق الكفر على المعاصي لقصد الزجر، ويُؤخَذ من رواية مسلم تحريم الدعوى بشيءٍ ليس هو للمدَّعي فيدخل فيه الدعاوي الباطلة كلها؛ مالاًً وعلمًا، وتعلمًا ونسبًا، وحالاً وصلاحًا، ونعمة وولاء، وغير ذلك، ويزداد التحريم بزيادة المفسدة المترتِّبة على ذلك، اهـ، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 كتاب الرضاع الحديث الأول عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة: ((لا تحلُّ لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وهي ابنة أخي من الرضاعة)) . الأصل في التحريم بالرضاع الكتاب السنة والإجماع؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ... } [النساء: 23] الآية. قوله: ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) قال بعض الفقهاء: كلُّ ما يحرم من النسب يحرم من الرضاع إلا أربعًا، وقال بعضهم: إلا ستًّا، وقال بعضهم: إلا أم أخته وأخت ابنه، قال ابن كثير: والتحقيق أنه لا يُستَثنى شيء من ذلك؛ لأنه يوجد مثل بعضها في النسب، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر، فلا يَرِد على الحديث شيء أصلاً ألبتة، ولله الحمد، اهـ. والمقصود أن الأم تحرم بالرضاع كما تحرم بالنسب، وكذا الجدات وإن علون، والبنات وبنات الأولاد وإن سفلن، والأخوات من كل جهة، والعمَّات وعمَّات الوالدين وإن علوا، والخالات وخالات الوالدين وإن علوا، وبنات الأخ وبنات الأخت وبنات أولادهم وإن سفلن، وأم الزوجة وجداتها وإن علون من الرضاعة والنسب فحرمن بعقد النكاح، والربائب، وهن بنات المرأة من غيره وبنات أولادها وإن سفلن من الرضاع والنسب بعد الدخول، وزوجات أبنائه وأبناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 أولاده وإن سفلوا من الرضاع والنسب بنفس العقد، وحلائل الأب والأجداد وإن علوا من الرضاع والنسب، وكل امرأة تحرم بعقد النكاح تحرم بالوطء في ملك اليمين، فلو ملك أختين من نسب أو رضاع لم يجز له أن يجمع بينهما في الوطء، وكذلك بين المرأة وعمَّتها أو خالتها من نسب أو رضاع. * * * الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الرضاع يحرم ما يحرم من الولادة)) . وعنها قالت: "إنَّ أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليَّ بعدما أنزل الحجاب، قلت: والله لا آذَن له حتى استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فقلت: يا رسول الله، إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته، فقال: ((ائذني له فإنه عمُّك، تربت يمينك)) ، قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب". وفي لفظ: "استأذن عليَّ أفلح فلم آذَن له، فقال: أتحتجبين مِنِّي وأنا عمك، فقلت: كيف ذلك؟ قال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، قالت: فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((صدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أفلح، ائذني له، تربت يمينك)) ؛ أي: افتقرت، والعرب تدعو على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به. وعنها - رضي الله عنها - قالت: "دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي رجل، فقال: ((يا عائشة، مَن هذا؟)) ، قلت: أخي من الرضاعة، فقال: ((يا عائشة، انظرن مَن إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة)) . الحديث دليلٌ على أن لبن الفحل يحرِّم، وصورته أن يكون لرجل امرأتان فترضع إحداهما صبيًّا أجنبيًّا والأخرى صبية فتحرم على الصبي؛ لأنها أخته لأبيه من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، قال ابن عباس: اللقاح واحد، يُشِير إلى أن سبب اللبن هو ماء الرجل وماء المرأة. قولها: "والله لا آذن له حتى أستأذن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم" فيه أن مَن شكَّ في حكم يتوقَّف عنه حتى يسأل العلماء. وفيه مشروعية استئذان المحرم على محرمه. قولها: "دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي رجل"، وفي رواية: "دخل عليها وعندها رجل فكأنه تغيَّر وجهه كأنه كره ذلك، فقالت: إنه أخي، فقال: ((انظرن مَن إخوانكن)) ، فإنما الرضاعة من المجاعة)) ، قال المهلب: معناه: انظر ما سبب هذه الأخوة فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسدَّ الرضاعة المجاعة. قوله: ((فإنما الرضاعة من المجاعة)) ؛ أي: الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحلُّ بها الخلوة حيث يكون الرضيع طفلاً لسد اللبن جوعته، وروى الترمذي عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام)) . وعن أم الفضل: "أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتحرم المصَّة؟ فقال: ((لا، تحرِّم الرضعة والرضعتان، والمصَّة والمصَّتان)) ، وفي رواية قالت: "دخل أعرابي على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله، إني كانت لي امرأة فتزوَّجت عليها أخرى، فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 امرأتي الحدثى رضعة أو رضعتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحرِّم الإملاجة والإملاجتان)) ؛ رواه أحمد ومسلم. ((الإملاجة)) : الإرضاعة الواحدة مثل المصة، وفي الحديث أن الزوج يسأل زوجته عن سبب إدخال الرجل بيته والاحتياط في ذلك والنظر فيه. * * * الحديث الثالث عن عقبة بن الحارث: "أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمَة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فأعرض عنِّي، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، فقال: ((وكيف وقد زعمتْ أن قد أرضعَتْكما؟)) . في رواية: "فنهاه عنها"، وفي رواية: ((دعها عنك)) أو نحوه، وفي رواية: "ففارَقَها عقبة ونكحت زوجًا غيره"، والحديث دليلٌ على قبول شهادة المرضعة وحدها في الرضاع، وحمل الجمهور النهي على التنزيه والأمر على الإرشاد، وفي رواية عند المالكية: أنها تقبل وحدها لكن بشرط فشو ذلك في الجيران، وقال عمر: فرق بينهما إن جاءت ببيِّنة وإلا فخلِّ بين الرجل وامرأته إلا أن يتنزَّها، ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين الزوجين إلا فعلت. قال الحافظ: وفي الحديث جوار إعراض المفتي لينبِّه المستفتي على أن الحكم فيما سأله الكف عنه، وجواز تكرار السؤال لِمَن لم يفهم المراد، والسؤال عن السبب المقتضي لرفع النكاح. قوله: "فجاءت أمَة سوداء" فيه دليلٌ على قبول شهادة الإمَاء والعبيد، قال البخاري: وقال أنس: شهادة العبد جائزة إذا كان عدلاً، وقال ابن سيرين: شهادته جائزة إلا العبد لسيده اهـ، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الحديث الرابع عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني: من مكة - فتبعتهم ابنة حمزة تنادي: يا عمِّ، يا عمِّ، فتناولها علي - رضي الله عنه - فأخذ بيدها، وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك، فاحتملتها، فاختصم فيها علي وجعفر وزيد، فقال علي: أنا أحقُّ بها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمِّي وخالتها تحتي، وقال زيد: بنت أخي، فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخالتها وقال: ((الخالة بمنزلة الأم)) ، وقال لعلي: ((أنت مِنِّي وأنا منك)) ، وقال لجعفر: ((أشبهت خَلْقِي وخُلُقِي)) ، وقال لزيد: ((أنت أخونا ومولانا)) . قوله: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يعني: من مكة؛ أي: في عمرة القضية. قوله: "فاختصم فيها عليٌّ وجعفر وزيد"؛ أي: في أيِّهم تكون عنده، وكانت خصومتهم في ذلك بعد أن قَدِمُوا المدينة، وكان لكلٍّ من هؤلاء الثلاثة فيها شبهة، أمَّا زيد فللأخوة التي ذكرها روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان آخَى بين حمزة وزيد بن حارثة، ولكونه بدأ بإخراجها من مكة، وأمَّا عليٌّ فلأنه ابن عمِّها وحملها مع زوجته، وأمَّا جعفر: فلكونه ابن عمِّها وخالتها عنده، فيترجَّح جانب جعفر باجتماع قرابة الرجل والمرأة منها. قوله: ((الخالة بمنزلة الأم)) ؛ أي: في الحضانة؛ لأنها تقرب منها في الحنوِّ والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد، وفيه دليلٌ على أن الحاضنة إذا تزوَّجت بقريب المحضونة لا تسقط حضانتها. قوله: وقال لعليٍّ: ((أنت مِنِّي وأنا منك)) ؛ أي: في النسب والصهر والسابقة والمحبة، وغير ذلك من المزايا. قوله: وقال لجعفر: ((أشبهت خَلْقِي وخُلُقِي)) ، ((الخَلْق)) بالفتح: الصورة، وبالضم: الطبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 والسجيَّة، وهذه منقبة عظيمة لجعفر؛ قال الله - تعالى -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] . قوله: وقال لزيد: ((أنت أخونا)) ؛ أي: في الإيمان، ((ومولانا)) ؛ أي: من جهة أنه أعتقه، وفي الحديث الآخر: ((مولى القوم من أنفسهم)) . وفي هذا الحديث من الفوائد أيضًا تعظيم صلة الرحم؛ بحيث تقع المخاصمة بين الكبار في التوصُّل إليها، وأن الحاكم يبيِّن دليل الحكم للخصم، وأن الخصم يُدلِي بحجَّته، والحديث أصلٌ في باب الحضانة، وقد روى أحمد والأربعة عن أبي هريرة: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فجاء زوجها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا غلام، هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمِّه فانطلقت به)) . قال ابن القيم: ينبغي قبل التخيير والاستهام ملاحظة ما فيه المصلحة للصبي، فإذا كان أحد الأبوين أصلح للصبي من الآخر قُدِّم عليه من غير قرعة ولا تخيير. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 كتاب القصاص الحديث الأول عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارِك لدينه المفارِق للجماعة)) . (القصاص) : مأخوذ من القص: وهو القطع، أو من اقتصاص الأثر؛ لأن المقتصَّ يتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178، 179] ، وقال - تعالى -: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] . قال ابن عباس: كان في بني إسرائيل قصاص ولم تكن فيهم ديَة، فقال الله لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، قال بن عباس: فالعفو أن يقبل الدية في العمد، وقال: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أن يطلب بمعروف ويؤدِّي بإحسان؛ رواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 قال أبو عبيد: ذهب ابن عباس إلى أن هذه الآية ليست منسوخة بآية المائدة: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، بل هما محكمتان، وكأنه أراد أن آية المائدة مفسِّرة لآية البقرة، وأن المراد بالنفس نفس الأحرار ذكورهم وإناثهم دون الأرقَّاء، فأنفسهم متساوية دون الأحرار. وقال سعيد بن جبير في قول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ؛ يعني: إذا كان عمدًا الحر بالحر، "وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيَّين يتطاوَل على الآخَر في العدَّة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منَّا الحر منهم، وبالمرأة من الرجل منهم، فنزل فيهم: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] ؛ رواه ابن أبي حاتم. قال الحافظ: والآية أصلٌ في اشتراط التكافؤ في القصاص، وهو قول الجمهور. قوله: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)) ؛ أي: خصال ثلاث: ((الثيِّب الزاني)) ؛ أي: فيحلُّ قتله بالرجم ((والنفس بالنفس)) ؛ أي: مَن قتل نفسًا عمدًا بغير حقٍّ قُتِل ((والتارك لدينه)) ؛ أي: المرتد وهو المسلم يكفر بعد إسلامه. قوله: ((المفارِق للجماعة)) المراد: جماعة المسلمين؛ أي: فارَقَهم بالارتداد، قال القرطبي: ظاهر قوله: ((المفارق للجماعة)) ، أنه نعت للتارك لدينه؛ لأنه إذا ارتدَّ فارَق جماعة المسلمين، غير أنه يلتحق به كلُّ مَن خرج عن جماعة المسلمين وإن لم يرتدَّ، كمَن يمتنع من إقامة الحد عليه إذا وجب ويقاتل على ذلك؛ كأهل البغي، وقطَّاع الطريق، والمحارِبين من الخوارج، وغيرهم، فيتناوَلهم لفظ المفارق للجماعة بطريق العموم، انتهى. وقال الإمام أحمد: إذا ترك الصلاة كفر وقتل ولو لم يجحد وجوبها، وقال الجمهور: يقتل حدًّا لا كفرًا، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوَّل ما يُقضَى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أي: أو القضايا يوم القيامة القضاء في الدماء التي وقعت بين الناس في الدنيا وعند النسائي: ((أوَّل ما يُحاسَب عليه العبد صلاته، وأوَّل ما يُقضَى بين الناس في الدماء)) ، وفي الحديث الصدر الطويل عن أبي هريرة رفعه: ((أوَّل ما يُقضَى بين الناس في الدماء، ويأتي كلُّ قتيل قد حمل رأسه فيقول: يا ربِّ، سَلْ هذا فيمَ قتلني؟)) الحديث. قال الحافظ: وفي الحديث عظم أمر الدماء، فإن البداءة إنما تكون بالأهمِّ، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البنية الإنسانية غاية في ذلك، انتهى، والله المستعان. * * * الحديث الثالث عن سهيل بن أبي حثمة - رضي الله عنه - قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعودٍ إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرَّقَا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحَّط في دمه قتيلاً، فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعودٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبد الرحمن يتكلَّم فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((كبِّر كبِّر)) ، وهو أحدث القوم فسكت فتكلَّما، فقال: ((أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟)) ، قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نرَ؟ قال: ((فتبرئكم يهود يخمسين يمينًا؟)) ، قالوا: وكيف نأخذ بأيمان قومٍ كفار، فعقله النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وفي حديث حماد بن زيد: "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمَّته)) ، قالوا: أمر نشهده كيف نحلف؟ قال: ((فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم؟)) ، قالوا: يا رسول الله، قوم كفار". وفي حديث سعد بن عبيد: "فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه فوَدَاه بمائةٍ من إبل الصدقة". هذا الحديث أصلٌ في مشروعية القسامة؛ وهي: الأيمان المكرَّرة في دعوى القتل عند وجود اللوث، وهو ما يغلب على الظن صحَّة الدعوى به. قال الزهري: قال لي عمر بن عبد العزيز: إني أريد أن أدع القسامة يأتي رجل من أرض كذا وآخر من أرض كذا فيحلفون على ما لا يرون، فقلت: إنك إن تتركها يوشك أن الرجل يقتل عند بابك فيبطل دمه، وإن للناس في القسامة لحياة. قال القاضي عياض: هذا الحديث أصلٌ من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، انتهى. وقال أبو الزناد عن خارجة: "قتلنا بالقسامة والصحابة متوافرون، إني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان"؛ أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي. وقال القرطبي: الأصل في الدعاوى أن اليمين على المدَّعَى عليه، وحكم القسامة أصلٌ بنفسه لتعذُّر إقامة البيِّنة على القتل فيها غالبًا، فإن القاصد للقتل يقصد الخلوة، ويترصَّد للغفلة، وتأيَّدت بذلك الرواية الصحيحة المتَّفَق عليها وبقي ما عدا القسامة على الأصل. قوله: ((يُقسِم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته)) (الرمة) : حبل يكون في عنق الأسير، وهذا اللفظ يُستَعمل في دفع القاتل للأولياء للقتل. وروى النسائي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَقِم شاهدين على مَن قتله أدفعه إليكم برمَّته)) ، فقال: يا رسول الله، ومن أين أُصِيب شاهدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم؟ قال: فتحلف خمسين قسامة؟ فقال: يا رسول الله، فيكف أحلف على ما لم أعلم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فاستحلف منهم خمسين قسامة)) ، فقال: يا رسول الله، كيف نستحلفهم وهم يهود؟ فقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديَتَه عليهم، وأعانهم بنصفها. قال الشافعي: لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خمسين يمينًا سواء قلُّوا أم كثروا، فلو كانوا بعدد الأيمان حلف كل واحد منهم يمينًا، وإن كانوا أقلَّ أو نكل بعضهم رُدَّت الأيمان على الباقين، فإن لم يكن إلا واحدًا حلف خمسين يمينًا واستحقَّ. وقال مالك: إن كان ولي الدم واحدًا ضمَّ إليه آخر من العصبة، ولا يُستَعان بغيرهم، قال في "الفروع": ولا قسامة على أكثر من واحد، نصَّ عليه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فتستحقون دم صاحبكم)) وعنه: بلى في غير هذه دم وتجب الدية، انتهى. وعن الشعبي: "أن قتيلاً وُجِد بين وادعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى وادعة أقرب، فأحلفهم عمر خمسين يمينًا كل رجل: ما قتلته ولا علمت قاتله، ثم أغرمهم الديَة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لا أيماننا دفعت عن أموالنا، ولا أموالنا دفعت عن أيماننا، فقال عمر: كذلك الحق"؛ أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي. قال الحافظ: وفي الحديث أن الحلف في القسامة لا يكون إلا مع الجزم بالقاتل، والطريق إلى ذلك المشاهدة أو إخبار مَن يُوثَق به مع القرينة الدالَّة على ذلك، وفيه الاكتفاء بالمكاتبة وبخبر الواحد مع إمكان المشافهة، انتهى. قال في "الاختيارات": نقل الميموني عن الإمام أحمد أنه قال: اذهب إلى القسامة إذا كان ثَمَّ لطخ، وإذا كان ثَمَّ سبب بيِّن، وإذا كان ثَمَّ عداوة، وإذا كان مثل المدَّعَى عليه بفعل هذا، وهذا هو الصواب، فإذا كان ثم لوث يغلب على الظن أنه قتل مَن اتهم بقتله جاز لأولياء القتيل أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقُّوا دمه، وأمَّا ضربه ليقرَّ فلا يجوز إلا مع القرائن التي تدلُّ على أنه قتله، فإن بعض العلماء جوَّز تقريره بالضرب في مثل هذه الحال، وبعضهم منع من ذلك مطلقًا، انتهى، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الحديث الرابع عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن جارية وُجِد رأسُها مرضوضًا بين حجرين، فقيل: مَن فعل هذا بك فلان فلان؟ حتى ذُكِر يهودي، فأَوْمَأَت برأسها، فأُخِذ اليهودي فاعترف؛ فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُرَضَّ رأسه بين حجرين". ولمسلم والنسائي عن أنس: "أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح، فأقاده رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم". (الأوضاح) بالمهملة: حليُّ الفضة، قال المهلب: فيه أنه ينبغي للحاكم أن يستدلَّ على أهل الجنايات، ثم يتلطَّف بهم حتى يقرُّوا ليُؤَاخَذوا بإقرارهم، وهذا بخلاف ما إذا جاؤوا تائبين فإنه يعرض عمَّن لم يصرح بالجناية، فإنه يجب إقامة الحدِّ عليه إذا أقرَّ، وفيه أنه تجب المطالبة بالدم بمجرَّد الشكوى وبالإشارة. وقال المازري: فيه الردُّ على مَن أنكر القصاص بغير السيف، وقتل الرجل بالمرأة، انتهى. والحديث يدلُّ على أن القاتل يُقتَل بما قتَل به، ولقوله - تعالى -: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، وقوله - تعالى -: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وهذا قول الجمهور، وأمَّا حديث ((لا قَوَد إلا بالسيف)) ، فقال الحافظ: هو ضعيف، وقال ابن عدي: طرقه كلها ضعيفة، قال ابن المنذر: قال الأكثر: إذا قتله بشيء يقتل مثله غالبًا فهو عمد، وقال ابن العربي: يُستَثنى من المماثلة ما كان فيه معصية؛ كالخمر واللواط والتحريق، وفي الثالثة خلاف عند الشافعية والأوَّلان بالاتفاق، لكن قال بعضهم: يُقتَل بما يقوم مقام ذلك، قال الحافظ: وفي قصَّة اليهودي حجَّة للجمهور في أنَّه لا يُشتَرط في الإقرار بالقتل أن يتكرَّر، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وقال البخاري: باب القصاص بين الرجال والنساء والجراحات، وقال أهل العلم: يقتل الرجل بالمرأة، ويذكر عن عمر: تُقَاد المرأة من الرجل في كلِّ عمد يبلغ نفسه فما دونها من الجراح، انتهى. قال الحافظ: قوله: "تُقَاد"؛ أي: يقتص منها إذا قتلت الرجل ويقطع عضوها الذي تقطعه منه وبالعكس، انتهى. * * * الحديث الخامس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((لما فتح الله - تعالى - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قتلت هذيل رجلاً من بني ليث بقتيلٍ كان لهم في الجاهلية، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إن الله - عزَّ وجلَّ - قد حبس عن مكة الفيل وسلَّط عليها رسوله والمؤمنين، وأنها لم تحلَّ لأحدٍ كان قبلي ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحلِّت لي ساعةً من نهارٍ، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يعضد شجرها، ولا يُختَلى خلاها، ولا يُعضَد شوكها، ولا تُلتَقط ساقطتها إلا لمُنشِد، ومَن قُتِل له قتيل فهو بخير النظرين، إمَّا أن يقتل وإمَّا أن يفدى)) ، فقام رجل من أهل اليمن يُقال له: أبو شاه، فقال: يا رسول الله، اكتبوا لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اكتبوا لأبي شاه)) ، ثم قام العباس فقال: يا رسول الله، إلاَّ الإذخِر، فإنَّا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا الإذخِر)) . قوله: "قتلتْ هذيل"، الذي في البخاري: "قتلت خزاعة". قوله: ((إن الله - عزَّ وجلَّ - قد حبس عن مكة الفيل)) أشار بحبسه عن مكة إلى قصة الحبشة وهي مشهورة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 1- 5] . قوله: ((ومَن قتل له قتيل فهو بخيرِ النظرين: إمَّا أن يقتل، وإمَّا أن يفدى)) ؛ أي: مَن قتل له قريب فوليُّه مخيَّر بين القصاص والدية، ولأبي داود من حديث أبي شريح: ((فإنه يختار إحدى ثلاث خصال: إمَّا أن يقتصَّ، وإمَّا أن يعفو، وإمَّا أن يأخذ الديَة، فإن أراد الرابعة فخُذُوا على يديه)) ؛ أي: إن أراد زيادة على القصاص أو الديَة. قال الحافظ: وفي الحديث جواز إيقاع القصاص في الحرم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - خطب بذلك بمكة ولم يقيِّده بغير الحرم. قوله: ((اكتبوا لأبي شاه)) ؛ أي: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه مشروعية كتابة العلم، والله أعلم. * * * الحديث السادس عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة عبدٍ أو أمَةٍ فقال: لتأتين بِمَن يشهد معك، فشهد معه محمد بن مسلمة". * * * الحديث السابع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجرٍ فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ديَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 جنينها غرَّة عبد أو وليدة، وقضى بديَة المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومَن معهم، فقام حمل بن النابغة الهذلي فقال: يا رسول الله، كيف أغرم مَن لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهلَّ، فمثل ذلك يطل؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما هو من إخوان الكهَّان)) ، من أجل سجعه الذي سجع". (الإملاص) : أن تزلقه المرأة قبل حينِ الولادة، وفي رواية: "أن عمر نشد الناس مَن سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في السقط". قال ابن دقيق العيد: الحديث أصلٌ في إثبات ديَة الجنين، وأن الواجب فيه غرَّة: إمَّا عبد وإمَّا أمَة، وذلك إذا ألقته ميتًا بسبب الجناية، واستشارة عمر في ذلك أصلٌ في سؤال الإمام عن الحكم إذا كان لا يعلمه، أو كان عنده شكٌّ، أو أراد الاستثبات. وفيه أن الوقائع الخاصَّة قد تخفى على الأكابر ويعلمها مَن دونهم، وفي ذلك ردٌّ على المقلد إذا استدلَّ عليه بخبرٍ يخالفه، فيجيب لو كان صحيحًا لعلمه فلان مثلاً، فإن ذلك إذا جاز خفاؤه عن مثل عمر فخفاؤه عمَّن بعده أَجْوَز. قوله: "فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ديَة جنينها غرَّة عبدٍ أو وليدة"، (الجنين) : حمل المرأة ما دام في بطنها؛ قال الله - تعالى -: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إذ إنَّشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإذ إنَّتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] ، فإن خرج حيًّا فهو ولد، وإن خرج ميتًا فهو سقط، و (الغرة) في الأصل: البياض يكون في جبهة الفرس، وتُطلَق على الشيء النفيس أدميًّا كان أو غيره. قوله: "وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومَن معهم"، روى أبو داود عن جابر: "أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكلِّ واحدة منهما زوج وولد، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ديَة المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، قال: فقال: عاقلة المقتولة ميراثها لنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا، ميراثها لزوجها وولدها)) . وعن عمر - رضي الله عنه - قال: "العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة"؛ رواه الدارقطني، وقال الزهري: مضت السنَّة أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 العاقلة لا تحمل شيئًا من ديَة العمد إلا أن يشاؤوا"؛ رواه مالك في "الموطأ". قال الشوكاني: قد وقع الإجماع على أن ديَة الخطأ مؤجَّلة على العاقلة، ولكن اختلفوا في مقدار الأجل، فذهب الأكثر إلى أن الأجل ثلاث سنين، انتهى. قال في "الاختيارات": وأبو الرجل وابنه من عاقلته عند الجمهور؛ كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه، وتؤخَذ الديَة من الجاني خطأ عند تعذُّر العاقلة في أصحِّ قولي العلماء، ولا يؤجل على العاقلة إذا رأى الإمام المصلحة فيه، ونصَّ على ذلك الإمام أحمد، انتهى. قوله: ((إنما هو من إخوان الكهَّان)) وفي رواية أسامة بن زيد عند البيهقي: فقال: ((دعني من أراجيز الأعراب)) ، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسجع الجاهلية وكهانتها، إن في الصبي غرة)) . قال الموفق: وإذا لم يجد الغرَّة انتقل إلى خمس من الإبل على قول الخرقي، وعلى قول غيره ينتقل إلى خمسين دينارًا أو ستمائة درهم، انتهى. وفي الحديث ذم السجع لإبطال حق أو تحقيق باطل. * * * الحديث الثامن عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: "أن رجلاً عضَّ يد رجلٍ فنزع يده من فيه فوقعت ثناياه، فاختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يعضُّ أحدكم أخاه كما يعضُّ الفحل، اذهب لا ديَة لك)) . الحديث دليلٌ على أن المعضوض لا يلزمه قصاص ولا ديَة؛ لأنه في حكم الصائل، وهو قول الجمهور، واحتجُّوا أيضًا بالإجماع بأن مَن شهر على آخر سلاحًا ليقتله فدفع عن نفسه فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه، قال يحيى بن عمر: لو بلغ مالكًا هذا الحديث لما خالفه. وفي الحديث من الفوائد التحذير من الغضب، وأن مَن وقع له ينبغي له أن يكظمه ما استطاع؛ لأنه أدَّى إلى سقوط ثنايا الغضبان وإهدارها، وفيه رفع الجناية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 إلى الحاكم من أجل الفصل، وأن المرء لا يقتصُّ لنفسه، وفيه جواز تشبيه فعل الآدمي بفعل البهيمة إذا وقع في مقام التنفير عن مثل ذلك الفعل. قال في "المقنع": وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رياسة فهما ظالمتان وتضمن كلُّ واحدة ما أتلفت على الأخرى، قال في "الإنصاف": هذا بلا خلاف أعلمه، لكن قال الشيخ تقي الدين: إن جهل قدر ما نهبه كل طائفة من الأخرى تساوتا، كمَن جهل قدر الحرام من ماله أخرج نصفه والباقي له، وقال أيضًا: وإن تقابلا تقاصَّا؛ لأن المباشر والمعين سواء عند الجمهور. * * * الحديث التاسع عن الحسن بن أبي الحسن البصري - رحمه الله تعالى - قال: حدثنا جندب في هذا المسجد، وما نسينا منه حديثًا، وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كان فيمَن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكينًا فجزَّ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله - عزَّ وجلَّ -: بادَرَنِي عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة)) . هذا الحديث أصلٌ كبير في تعظيم قتل النفس. قوله: "بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة"؛ أي: لأنه استعجل الموت؛ لأنه حزَّها لإرادة الموت لا لقصد المداواة. قال الحافظ: وفي الحديث تحريم قتل النفس، سواء كانت نفس القاتل أم غيره، وفيه الوقوف عند حقوق الله ورحمته بخلقه؛ حيث حرَّم عليهم قتل نفوسهم وأن الأنفس ملك لله، وفيه التحديث عن الأمم الماضية، وفضيلة الصبر على البلاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وترك التضجُّر من الآلام؛ لئلاَّ يُفضِي إلى أشد منها، وفيه تحريم تعاطي الأسباب المفضِيَة إلى قتل النفس، وفيه التنبيه على أن حكم السراية على ما يترتَّب عليه ابتداء القتل، وفيه الاحتياط للتحديث وكيفية الضبط له والتحفُّظ فيه بذكر المكان والإشارة إلى ضبط المحدث وتوثيقه لِمَن حدَّثه ليركن السامع إلى ذلك، والله أعلم، اهـ. وفي الحديث أن مَن قتل نفسه عمدًا فلا ديَة له وهو إجماع، وقال البخاري: باب إذا قتل نفسه خطأ فلا ديَة له، وذكر حديث سلمة بن الأكوع في قصة قتل عامر نفسه يوم خيبر. قال الحافظ: إنما قيَّد بالخطأ لأنه محلُّ الخلاف، قال ابن بطال، قال الأوزاعي وأحمد وأسحاق: تجب ديَتُه على عاقلته، وقال الجمهور: لا يجب غير ذلك شيء، وقصة عامر حجة لهم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 كتاب الحدود الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "قدم ناس من عُكْلٍ أو عُرَينة فاجتووا المدينة، فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاحٍ، وأمَرَهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلمَّا ضحُّوا قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أوَّل النهار، فبعث في آثارهم، فلمَّا ارتفع النهار جيء بهم فأمر بهم، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم وتركوا في الحرَّة يستسقون فلا يسقون، قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله"؛ أخرجه الجماعة. (احتويت) البلاد إذا كرهتها وكانت موافقة واستوبأتها إذا لم توافقك. (الحدود) : جمع حد، وأصله ما يحجز بين شيئين، وسُمِّيت عقوبة الزاني ونحوه حدًّا لكونها تمنعه المعاودة، أو لكونها مقدَّرة من الشارع، قال الراغب: وتطلق الحدود ويُرَاد بها نفس المعاصي كقوله - تعالى -: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، وعلى فعلٍ فيه شيء مقدَّر، ومنه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] ، وكأنها لما فصلت بين الحلال والحرام سُمِّيت حدودًا، فمنها ما زجر عن فعله، ومنها ما زجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 عن الزيادة عليه والنقصان منه. قوله: "قدم ناس من عُكْلٍ أو عُرَينة"، في رواية: "من عُكْلٍ وعُرَينة"، ولأبي عوانة: "كانوا أربعة من عُرَينة وثلاثة من عُكْلٍ"، قال الحافظ: وهما قبيلتان متغايرتان عُكْل من عدنان، وعُرَينة من قحطان: حي من بجيلة، وقدومهم سنة ست. قوله: "فاجتووا المدينة"؛ أي: استوخموها وعظمت بطونهم، وفي رواية: "فقالوا: يا رسول الله، إنَّا كنَّا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف". قوله: "فبعث في آثارهم"؛ أي: الطلب، وفي رواية: "أنهم شباب من الأنصار قريبٌ من عشرين رجلاً، وبعث معهم قائفًا يقتص آثارهم". قوله: "وسمرت أعينهم" وفي رواية: "ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها"، ولمسلم: "إنما سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة"، قال قتادة: بلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } [المائدة: 33] الآية، وذهب جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمَن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطريق، قال الحافظ: والمعتمد أن الآية نزلت أولاً فيهم، وهي تتناول بعمومها مَن حارب من المسلمين بقطع الطريق، لكن عقوبة الفريقين مختلفة؛ فإن كانوا كفارًا يخيَّر الإمام فيهم إذا ظفر بهم، وإن كانوا مسلمين فعلى قولين: أحدهما وهو قول الشافعي والكوفيين ينظر في الجناية فمَن قتَل قُتِل، ومَن أخذ المال قُطِع، ومَن لم يقتل ولم يأخذ مالاً نُفِي، وجعلوا (أو) للتنويع، وقال مالك: بل هي للتخيير، فيُخَيَّر الإمام في المحارِب المسلم بين الأمور الثلاثة، ورجَّح الطبري الأول، انتهى. وفي الحديث المماثَلة في القصاص، وفيه دليلٌ على طهارة أبوال الإبل وأبعارها، ويُقاس عليه مأكول اللحم من غيرها، وفيه قدوم الوقود على الإمام ونظره في مصالحهم، وأن كلَّ جسد يطب بما اعتاده، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما - أنهما قالا: "إن رجلاً من الأعراب أتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلاَّ قضيت بيننا بكتاب الله فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقضِ بيننا بكتاب الله وَأْذَن لي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قل)) ، فقال: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغدُ يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)) ، فغدَا عليها فاعترفت، فأمَر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرُجِمت". قوله: "أنشدك الله"؛ أي: أسألك بالله، وضمن (أنشدك) معنى (أذكرك) فحذف الباء. قوله: "فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه"؛ أي: لحسن أدبه في استئذانه وترك رفع صوته وتأكيده السؤال؛ لأن حسن السؤال نصف العلم. قوله: "إن ابني كان عسيفًا على هذا"، وفي رواية: "إن ابني هذا كان عسيفًا على هذا"، (العسيف) : الأجير، وسُمِّي عسيفًا لأن المستأجِر يعسفه العمل. قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد الرجوع إلى كتاب الله نصًّا أو استنباطًا، وجواز القسم على الأمر لتأكيده، والحلف بغير استحلاف، وحسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وحلمه على مَن يخاطبه بما الأولى خلافه، وأن مَن تأسَّى به في ذلك من الحكام يحمد كمَن لا ينزعج بقول الخصم مثلاً: احكم بيننا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 بالحق، وقال البيضاوي: إنما تواردا على سؤال الحكم بكتاب الله مع أنهما يعلمان أنه لا يحكم إلا بحكم الله؛ ليحكم بينهما بالحق الصرف لا بالمصالحة ولا الأخذ بالأرفق؛ لأن للحاكم أن يفعل ذلك برضا الخصمين؛ يعني: إذا لم يخالف الشرع. وفيه أن مَن اعترف بالحدِّ وجب على الإمام إقامته عليه ولو لم يعرف شارَكَه في ذلك ويُستَفاد منه الحثُّ على إبعاد الأجنبي من الأجنبية مهما أمكن، وفيه جواز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل، وفيه أن الحدَّ لا يقبل الفداء وإنما يجري الفداء في البدن كالقصاص في النفس والأطراف، وفيه أن العقود المخالفة للشرع باطلة مردودة، وفيه جواز الاستنابة في إقامة الحد، وفيه الرجوع إلى العلماء عند اشتباه الأحكام والشك فيها. قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على أن ما يستعمل من الألفاظ في محلِّ الاستفتاء يتسامح به في إقامة الحد أو التعزير، فإن هذا الرجل قذف المرأة بالزنا ولم يتعرَّض النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمر حده بالقذف وأعرَض عن ذلك ابتداء، ولعله يُؤخَذ منه أن الإقرار مرَّة واحدة يكفي في إقامة الحد؛ فإنه رتَّب رجمها على مجرَّد اعترافها ولم يقيده بعدد، وقد يستدلُّ به على عدم الجمع بين الجلد والرجم فإنه لم يعرفه أنيسًا ولا أمر به اهـ، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما - قالا: "سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأمَّة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: ((إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير)) . قال ابن شهاب: ولا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة، والضفير: الحبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 قوله: ((ولم تحصن)) ؛ أي: بالتزويج؛ وأمَّا قوله - تعالى -: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، فيفيد أن الحكم في حقِّهن من الجلد لا الرجم، فحَكَم زناها قبل الإحصان مأخوذ من السنَّة، وبعد الإحصان مأخوذ من الكتاب لأن الرجم لا يتنصَّف فاستمرَّ حكم الجلد في حقِّها. وعن علي - رضي الله عنه - قال: "أقيموا الحدود على أرقَّائكم مَن أحصن منهم ومَن لم يحصن"؛ رواه مسلم. قوله: ((إن زنت فاجلدوها)) الخطاب لِمَن يملك الأمَة، ففيه دليلٌ على أن السيد يُقِيم الحدَّ على مَن يملكه ولو لم يأذن له الإمام، وهو قول الجمهور، واستثنى مالك القطع في السرقة. قوله: ((ثم بيعوها ولو بضفير)) قال ابن بطال: حمل الفقهاء الأمر بالبيع على الحضِّ على مباعدة مَن تكرَّر منه الزنا لئلاَّ يظن بالسيد الرضا بذلك، ولما في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا، وقال ابن العربي: يُرجَى عند تبديل المحلِّ تبديل الحال؛ لأن للمجاورة تأثيرًا في الطاعة والمعصية، وفي الحديث: أن مَن زنى فأُقِيم عليه الحدُّ ثم عاد أُعِيد عليه، وفيه الزجر عن مخالطة الفسَّاق ومعاشرتهم، وفيه أن الزنا عيبٌ تنقص به القيمة عند كلِّ أحد. * * * الحديث الرابع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: "أتى رجل من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه فتنحَّى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه حتى ثنَّى ذلك عليه أربع مرات، فلمَّا شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أبِكَ جنون؟)) ، قال: لا، قال: ((فهل أحصنت؟)) ، قال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اذهبوا به فارجموه)) ، قال ابن شهاب: فأخبرني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول: "كنت فيمَن رجمه، فرجمناه بالمصلى فلمَّا أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه"، الرجل هو ماعز بن مالك. قوله: "حتى ثنى"؛ أي: ردَّد، وفي حديث بريدة عند مسلم قال: ((ويحك، ارجع فاستغفِر الله وتُبْ إليه)) ، فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله، طهِّرني. قوله: ((أبِكَ جنون)) ، قال: لا، وفي حديث بريدة: "فأرسل إلى قومه فقالوا: ما تعلمه إلا وفيَّ العَقْلِ من صالحينا، وفيه: ((أشربت خمرًا)) ، قال: لا، وفيه: "فقام رجلٌ فاستنكهه فلم يجد منه ريحًا". قوله: ((فهل أحصنت)) ؛ أي: تزوجت، وفي حديث أبي هريرة المذكور: ((أَنِكْتَها؟)) ، قال: نعم، قال: ((تدري ما الزنا؟)) ، قال: نعم، قال: ((دخل ذلك منك في ذلك منها؟)) ، قال: نعم، قال: ((كما يغيب المِرْوَد في المُكْحُلة، أو الرشاء في البئر؟)) ، قال: نعم، قال: ((تدري ما الزنا؟)) ، قال: نعم، أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: ((فما تريد بهذا القول؟)) ، قال: تُطهِّرني، فأمر به فرُجِم. قوله: "فلمَّا أذلقته الحجارة"؛ أي: أقلقته هرب، وعند الترمذي: فلمَّا وجد مسَّ الحجارة فرَّ يشتد حتى مرَّ برجل معه لحى جمل فضربه وضربه الناس حتى مات. وفي الحديث: أنه يستحبُّ لِمَن وقع في معصية وندم أن يبادر إلى التوبة منها، ولا يُخبِر بها أحدًا، ويستتر بستر الله، واستدلَّ بقوله: "فلمَّا شهد على نفسه أربع شهادات" على اشتراط تكرير الإقرار بالزنا أربعًا، وتأوَّله الجمهور بأن ذلك وقع لزيادة الاستثبات، وفيه أن الإمام لا يشترط أن يرجم بنفسه ولا أن يبدأ بالرجم، وفيه أن الحدَّ لا يجب إلا بالإقرار الصريح، وفيه أن إقرار السكران لا أثر له. قال الليث: يعمل بأفعاله ولا يعمل بأقواله؛ لأنه يلتذُّ بفعله ويشفى غيظه، ولا يفقه أكثر ما يقول؛ وقد قال - تعالى -: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] . وفيه التثبت في إزهاق النفس والتعريض للمُقِرِّ بأن يرجع، وفيه أن مَن اطَّلع على مثل ذلك يستر عليه، ولا يفضحه ولا يرفعه إلى الإمام. وفي القصة أن النبي - صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الله عليه وسلم - قال لهزال: ((لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك)) ؛ يعني: ممَّا أمرته به من إظهار أمره، قال ابن العربي: هذا محلُّه في غير المجاهر، فأمَّا إذا كان مُتظاهرًا بالفاحشة مُجاهِرًا فإني أحبُّ مكاشفته والتبريح به لينزجر هو وغيره، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: "إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنَيَا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟)) ، فقالوا: ((نفضحهم ويُجلَدون)) ، قال عبد الله بن سلام: كذبتم؛ إن فيها آية الرجم، فأتَوْا بالتوراة فنَشَروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يديه فإذا فيها آية الرجم، فقال: صدق يا محمد، فأمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فرُجِما، قال: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة". قال - رضي الله عنه -: الذي وضع يده على آية الرجم عبد الله بن صوريا. قوله: "فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيَا" ولأبي داود عن أبي هريرة قال: "زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم: اذهبوا بنا إلى هذا النبي؛ فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك، قال: فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما ترى في رجل وامرأة زنيا منهم". قوله: "فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟)) ، فقالوا: نفضحهم ويجلدون"، وفي رواية: "نحمِّم وجوههم ونُخزِيهم"، وفي رواية: "ونخالف بين وجوههما ويُطَاف بهما". قوله: "فإذا فيها آية الرجم" وقع بيان ذلك في حديث أبي هريرة: ((المحصن والمحصنة إذا زنيا فقامت عليهما البيِّنة رُجِما، وإن كانت المرأة حُبلَى تربَّص بها حتى تضع ما في بطنها)) . ولأبي داود عن جابر قالا: "نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذَكَرَه في فرجها مثل الميل في المُكْحُلة رُجِما"، زاد البزار: "فإذا وجدوا الرجل مع المرأة في بيت أو في ثوبها وعلى بطنها فهي ريبة وفيها عقوبة"، قال: فما منعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل". وفي حديث أبي هريرة: "فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ قال: زنى رجلٌ ذو قرابة من الملك فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل شريف فأرادوا رجمه فحال قومه دونه وقالوا: ابدأ بصاحبك، فاصطلحوا على هذه العقوبة". قوله: "فأمر بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فرُجِما" في حديث البراء: ((اللهم إني أوَّل من أحيَا أمرك إذ أماتوه)) . وفي هذا الحديث من الفوائد: وجوب الحدِّ على الكافر الذي إذا زنى، وهو قول الجمهور، وفيه قبول شهادة أهل الذمَّة بعضهم على بعض، وفيه أن أنكحة الكفار صحيحة؛ لأن ثبوت الإحصان فرع ثبوت النكاح، وفيه أن اليهود كانوا ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها، وفيه اكتفاء الحاكم بترجمان واحد موثوق به، وفيه أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا إذا لم ينسخ، والله أعلم. * * * الحديث السادس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو أن امرأً اطَّلع عليك بغير إذنٍ فحذفتَه بحصاةٍ ففقأتَ عينه ما كان عليك جناح)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 قوله: ((فحذفته)) بالمهملة، وفي روايةٍ بالمعجمة. قوله: ((ما كان عليك جناح)) ؛ أي: حرج، وفي روايةٍ لمسلم: ((مَن اطَّلع في بيتِ قومٍ بغير إذنهم فقد حلَّ لهم أن يفقؤوا عينه)) ، وعند أحمد والنسائي: ((ففقؤوا عينه فلا ديَة ولا قصاص)) ، وفي رواية: ((فهو هَدَر)) . قال يحيى بن يعمر من المالكية: لعل مالكًا لم يبلغه الخبر، وفي البخاري عن أنس: "أن رجلاً اطَّلع في بعض حُجَر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه بمِشْقَص أو بمشاقص وجعل يختله ليطعنه"، (المِشْقَص) : النصل العريض، وفي الحديث مشروعية الاستئذان على مَن يكون في بيت ومنع التطلُّع عليه. قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث إشعارٌ أنه إنما يقصد العين بشيء خفيف كمدرى وحصاة؛ لقوله: فحذفته، قال الفقهاء: أمَّا إذا زرقه بالنشاب، أو رماه بحجر يقتله فقَتَله، فهذا قتل يتعلَّق به القصاص أو الديَة، والله أعلم. * * * باب حد السرقة الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم"، وفي لفظ: "ثمنه". * * * الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها -: "أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تُقطَع اليد في ربع دينارٍ فصاعدًا)) . الأصل في القطع بالسرقة الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ؛ أي: أيمانهما {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] ، والسرقة: أخذ المال من حرز مثله على وجه الخفية والاستتار، قال ابن بطال: الحرز مُستَفاد من معنى السرقة، وقال الجمهور فيمَن سرق فقطع، ثم سرق ثانيًا تقطع رجله اليسرى، ثم إن سرق فاليد اليسرى، ثم إن سرق فالرجل اليمنى، ثم إن سرق عُزِّر وسُجِن، قال ابن عبد البر: ثبَت عن الصحابة قطع الرجل بعد اليد وهم يقرؤون: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، كما اتفقوا على الجزاء في الصيد في قتله خطأ وهم يقرؤون: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، ويمسحون على الخفَّين وهم يقرؤون غسل الرجلين، وإنما قالوا جميع ذلك بالسنَّة. قوله: "قطع في مجنٍّ قيمته ثلاثة دراهم" وفي حديث عائشة أن يد السارق لم تقطع على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في ثمن مجنٍّ: حجفة أو ترس، والمِجَنُّ: بكسر الميم ما يستتر به، والحجفة: الدرقة، قال ابن دقيق العيد: القيمة والثمن قد يختلفان، والمعتبر إنما هو القيمة، انتهى. والحديث دليلٌ على أنه إذا سرق ثلاثة دراهم أو قيمتها من العروض وجب القطع، ولا يقطع فيما دون ذلك، وإن كان المسروق ذهبًا فلا قطع فيه حتى يبلغ ربع دينار، وفيه دليل على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن آية السرقة نزلت في سارق رداء صفوان بن أمية أو سارق المجنِّ، وعمل بها الصحابة في غيرهما من السارقين. * * * الحديث الثالث عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن قريشًا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: مَن يكلم فيها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقالوا: ومَن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيدٍ حِبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلَّمه أسامة فقال: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟)) ، ثم قام فاختطب فقال: ((إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) . وفي لفظ: "كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها". هذه القصة وقعت في غزوة الفتح. قوله: ((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) أراد المبالغة في إثبات إقامة الحدِّ على كل مكلَّف وترك المحاباة في ذلك، قال الشافعي: ذكر عضوًا شريفًا من امرأة شريفة. وللنسائي في حديث ابن عمر: ((قُمْ يا بلال فخذ بيدها فاقطعها)) . قوله: "كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده"، وللنسائي: "كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده"، قال بعض العلماء: إن القصة لامرأة واحدة استعارت وجحدت، فقطعت للسرقة لا للعارية، قال القرطبي: يترجَّح أن يدها قُطِعت على السرقة لا لأجل جحد العارية، انتهى. واستدلَّ بهذا اللفظ مَن قال من العلماء يقطع جاحد العارية، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع في جحد العارية، ويؤيِّده حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس على خائن ولا منتهِب ولا مختلس قطعٌ)) ؛ رواه الخمسة. وفي هذا الحديث من الفوائد: منع الشفاعة في الحدود، وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود الله فقد ضادَّ الله في أمره)) ؛ رواه أحمد وأبو داود. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه رفعه: ((تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدٍّ وجب)) ؛ رواه أبو داود، قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته، وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على مَن وجب عليه، ولو كان ولدًا أو قريبًا أو كبير القدر والتشديد في ذلك، وفيه جواز ضرب المثل بالكبير القدر للمبالغة في الزجر عن الفعل، وفيه الاعتبار بأحوال مَن مضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 من الأمم، ولا سيَّما مَن خالَف أمر الشرع، وفيه الرحمة لِمَن أُقِيم عليه الحدُّ بعد إقامته عليه، قالت عائشة: فحسنت توبتها بعدُ وتزوَّجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم. * * * باب حد الخمر الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتِي برجل قد شرب الخمر فجَلَده بجريدة نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن بن عوفٍ: أخفُّ الحدود ثمانون، فأمر به عمر - رضي الله عنه". الخمر محرَّم بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90- 91] . قوله: "فجلده بجريدة" وفي حديث أبي هريرة: أُتِي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب فقال: ((اضربوه)) ، قال: فمنَّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلمَّا انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)) ؛ رواه أحمد والبخاري وأبو داود، وزاد في رواية: "ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بكِّتوه، فأقبلوا عليه يقولون له: ما اتَّقيت الله - عزَّ وجلَّ - ما خشيت الله - جل ثناؤه - ما استحييت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أرسلوه". قال النووي: أجمعوا على الاكتفاء بالجريد والنعال، والأصحُّ جوازه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 بالسوط، وشذَّ مَن قال هو شرط، وهو غلط منابذ للأحاديث الصحيحة. قال الحافظ: وتوسَّط بعض المتأخِّرين فعيَّن السوط للمتمرِّدين، وأطراف الثياب والنعال للضعفاء، ومَن عداهم بحسب ما يليق بهم وهو متَّجه، انتهى. قوله: فقال عبد الرحمن بن عوف: "أخفُّ الحدود ثمانون فأمر به عمر - رضي الله عنه"، قصة عبد الرحمن ذكرها مسلم وغيره ولم يخرجها البخاري، ولكن ذكر معنى صنيع عمر في حديث السائب بن يزيد قال في آخره: "حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين". وفي "الموطأ": أن عمر استشار الناس في الخمر فقال له عليُّ بن أبي طالب: نرى أن تجعله ثمانين فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فجعله عمر في الخمر ثمانين. قال القاضي عياض: أجمعوا على وجوب الحد في الخمر واختلفوا في تقديره؛ فذهب الجمهور إلى الثمانين، وقال الشافعي في المشهور عنه وأحمد في رواية وأبو ثور وداود: أربعين. * * * الحديث الثاني عن أبي بردة هانئ بن نِيَار البلوي - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله)) . اختلف العلماء في المراد بالحدِّ في هذا الحديث؛ فقال بعضهم: المراد بالحدِّ هنا ما ورد فيه من الشارع عدد من الجلد أو عقوبة مخصوصة، وقال بعضهم: المراد به حق الله، قال ابن القيم: المراد بالحدود هنا الحقوق التي هي أوامر الله ونواهيه، وهي المراد بقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] ، وفي أخرى: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] ، وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا} [النساء: 14] ، قال: فلا يُزَاد على العشر في التأديبات التي لا تتعلَّق بمعصية كتأديب الأب ولدَه الصغير، اهـ. قال الحافظ: ويحتمل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 يفرق بين مراتب المعاصي؛ فما ورد فيه تقدير لا يُزَاد عليه وهو المستثنَى في الأصل، وما لم يرد فيه تقدير فإن كانت كبيرة جازت الزيادة فيه وأطلق عليه اسم الحد كما في الآيات المُشَار إليها والتحق بالمستثنى، وإن كانت صغيرة فهو المقصود بمنع الزيادة، انتهى. تتمَّة: التعزير يكون بالضرب والحبس والهجر والتوبيخ في كلِّ معصية لا حدَّ فيها. وعن النعمان بن بشير: "أنه رفع إليه رجل غشى جارية امرأته، فقال: لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كانت أحلَّتها لك جلدتك مائة جلدة وإن كانت لم تحلَّها لك رجمتك"؛ رواه الخمسة. وعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلاً في تهمة، ثم خلى سبيله"؛ رواه الخمسة إلا ابن ماجه. قال الأوزاعي: "لا يبلغ بالتعزير الحد"؛ أي: لا يبلغ بكلِّ جناية حدًّا مشروعًا في جنسها، ويجوز أن يزيد على حدِّ غير جنسها؛ لحديث سعيد بن المسيب عن عمر في أمَة بين رجلَين وطئها أحدهما: "يُجلَد الحدَّ إلا سوطًا واحدًا"؛ رواه الأثرم واحتجَّ به أحمد. وروى أحمد: "أن عليًّا أُتِي بالنجاشي قد شرب خمرًا في رمضان، فجلده ثمانين: الحد، وعشرين سوطًا لفطره في رمضان". وعن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) ؛ رواه الخمسة إلا النسائي. وعن سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس: "في البكر يوجد على اللوطية يرجم اللوطي محصنًا كان أو غير محصن"؛ رواه أبو داود. وعن علي أنه رجم لوطيًّا قال: إن فعل، وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصنًا كان أو غير محصن، وأخرج البيهقي أيضًا عن أبي بكر: "أنه جمع الناس في حق رجل يُنكَح كما تُنكَح النساء، فسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فكان من أشدِّهم يومئذ قولاً عليُّ بن أبي طالب قال: هذا ذنب لم تعصِ به أمَّة من الأمم إلا أمَّة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن تحرقه بالنار، فاجتمع أصحاب رسول الله - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 صلى الله عليه وسلم - على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار". وأخرج أيضًا عن ابن عباس: "أنه سُئِل عن حدِّ اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمي به منكسًا ثم يتبع الحجارة"، وذهب عمر وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط. قال الشوكاني: وقد حكى صاحب "الشفاء" إجماع الصحابة على القتل، وما أحق مرتكب هذه الجريمة ومقارِف هذه الرذيلة الذميمة بأن يُعاقَب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيب بكسر شهوة الفسقة والمتمرِّدين، انتهى، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 كتاب الأيمان والنذور الحديث الأول عن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطِيتها عن مسألة وُكِلت إليها، وإن أُعطِيتها من غير مسألة أُعِنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفِّر عن يمينك وأنت الذي هو خير)) . * * * الحديث الثاني عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحلَّلتها)) . الأصل في مشروعية الأيمان وثبوت حكمها الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] وقال - تعالى -: {وَلاَ تَنْقُضُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] . والنذور: جمع نذر، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] ، وقال - تعالى -: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] . وأصل اليمين في اللغة: اليد، وأُطلِقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كلٌّ منهم بيمين صاحبه، وعرفت اليمين في الشرع بأنها: توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله. قوله: ((لا تسأل الإمارة)) يدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك، وأن مَن حرص على ذلك لا يُعان عليه، ومَن وُكِل إلى نفسه هلك. وعن أنس رفعه: ((مَن طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وُكِل إلى نفسه، ومَن أُكرِه عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدده)) ؛ أخرجه ابن المنذر. وعن أبي هريرة رفعه: ((مَن طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدلُه جورَه فله الجنة، ومَن غلب جورُه عدلَه فله النار)) ؛ أخرجه أبو داود. وفي حديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّا لا نولِّي مَن حرص)) ، قال ابن دقيق العيد: لما كان خطر الولاية عظيمًا بسبب أمور في الوالي وسبب أمور خارجة عنه، كان طلبها تكلُّفًا ودخولاً في خطر عظيم، فهو جدير بعدم العون، ولما كانت إذا أتت من غير مسألة لم يكن فيها هذا التكلُّف، كانت جديرة بالعون على أعبائها وأثقالها. قوله: ((وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفِّر عن يمينك وائتِ الذي هو خير)) ، وفي رواية: ((فائتِ الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك)) ، ولأبي داود: ((كفِّر عن يمينك ثم ائتِ الذي هو خير)) . وفي حديث عديِّ بن حاتم عند مسلم: ((فرأى غيرها أتقى لله فليأتِ التقوى)) ، قال عياض: اتفقوا على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث، وقال المازري: للكفارة ثلاث حالات: أحدها قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقًا، ثانيها بعد الحلف والحنث فتجزئ اتفاقًا، ثالثها بعد الحلف وقبل الحنث ففيه الخلاف، اهـ، والجمهور على جوازها قبل الحنث. قوله: ((لا أحلف على يمين)) ، وفي رواية لمسلم: ((على أمر)) ، وفي رواية للبخاري: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفرٍ من الأشعريين فوافَقته وهو غضبان فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا"، وفي لفظ له قال: ((والله ما أحملكم، ما عندي ما أحملكم)) ، قال: فانطلقنا، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنهب إبل، فقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 هؤلاء الأشعريون، فأتيناه فأمر لنا بخمس ذود غر الذري، فاندفعنا، وفيه: فرجعنا، فقلنا: يا رسول الله، أتيناك نستحملك فحلفت أن لا تحملنا، ثم حملتنا فظننَّا أو فعرفنا أنك نسيت يمينك، قال: ((انطلقوا فإنما حملكم الله، إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها)) . قوله: ((وتحللتها)) ؛ أي: كفرت عنها. * * * الحديث الثالث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)) ، ولمسلم: ((فمَن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت)) ، وفي رواية قال عمر: "فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنها ذاكرًا ولا آثرًا"، يعني: حاكيًا أنه حلف بها. الحديث دليلٌ على المنع من الحلف بغير الله - تعالى - قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع، وعن عكرمة قال: قال عمر: "حدثت قومًا حديثًا، فقلت: لا وأبي، فقال رجل من خلفي: ((لا تحلفوا بآبائكم)) ، فالتفتُّ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك، والمسيح خيرٌ من آبائكم)) ؛ رواه ابن أبي شيبة، قال الحافظ: وهذا مرسل يتقوَّى بشواهده. وعن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) ، قال الترمذي حسن. قال العلماء: السرُّ في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، وقال الماوردي: لا يجوز لأحدٍ أن يحلف أحدًا بغير الله، لا بطلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ولا عتاق ولا نذر، وإذا أحلف الحاكم أحدًا بشيء من ذلك وجب عزله لجهله، انتهى. وفي الحديث الزجر عن الحلف بغير الله - عزَّ وجلَّ - لا نبي ولا غيره، وما ورد في القرآن من القسم بغير الله فذلك يختصُّ بالله - عزَّ وجلَّ - قال الشعبي: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلح وأبيه إن صدق)) فهذا اللفظ كان يجري على ألسنة العرب من غير أن يقصدوا به القسم، وقيل: يقع في كلامهم للتأكيد لا للتعظيم كقول الشاعر: لَعَمْرُ أَبِي الوَاشِينَ إِنِّي أُحِبُّهَا فإنه لم يقصد تعظيم والد مَن وشى به، قال الحافظ: وفيه أن مَن حلف بغير الله مطلقًا لم تنعقد يمينه سواء كان المحلوف به يستحقُّ التعظيم لمعنًى غير العبادة؛ كالأنبياء والملائكة والعلماء الصُّلَحاء والملوك والآباء والكعبة، أو كان لا يستحقُّ التعظيم كالآحَاد، أو يستحقُّ التحقير والإذلال كالشياطين والأصنام وسائر مَن عُبِد من دون الله، انتهى، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال سليمان بن داود - عليهما السلام -: لأطوفنَّ الليلة على تسعين امرأة تلد كلُّ امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهنَّ فلم تَلِد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان)) ، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان ذلك دركًا لحاجته)) . قوله: " قل: إن شاء الله"؛ يعني: قال له الملك. قوله: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة" هو كناية عن الجماع، قال وهب بن منبه: كان لسليمان ألف امرأة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سريَّة. قوله: "تلد كلُّ امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله" قال الحافظ: هذا قاله على سبيل التمنِّي للخير، وإنما جزم به لأنه غلب عليه الرجاء لكونه قصد به الخير وأمر الآخرة، لا لغرض الدنيا. قوله: ((فقيل له: قل: إن شاء الله فلم يقل)) ، وفي رواية: ((فنسي)) قال بعض السلف: نبه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث على آفة التمنِّي والإعراض عن التفويض، قال: ولذلك نسي الاستثناء ليمضي فيه القدر. قوله: ((فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان)) ، في رواية: ((ولم تحمل منهن شيئًا إلا واحدًا ساقطًا إحدى شقيه)) . قوله: ((لو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان ذلك دركًا لحاجته)) ، في رواية: ((وكان أرجى لحاجته)) ، وفي رواية: ((لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون)) ، وفي رواية: ((لو استثنى لحملت كلُّ امرأة منهن فولدت فارسًا يُقاتل في سبيل الله)) . وفي الحديث استحباب الاستثناء لِمَن قال: سأفعل كذا، وأن إتباع المشيئة اليمينَ يرفع حكمها، وفيه أن الاستثناء لا يكون إلا باللفظ، وفيه أن كثيرًا من المباح والملاذِّ يصير مستحبًّا بالنيَّة والقصد، وفيه ما خصَّ به الأنبياء من القوة على الجماع الدال ذلك على صحة البنية وقوة الفحولية وكمال الرجولية، مع ما هو فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم، ويُقال: إن كلَّ مَن كان أتقى لله فشهوته أشدُّ؛ لأن الذي لا يتَّقي يتفرَّج بالنظر ونحوه، وفيه جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناء على غلبة الظن، وفيه جواز السهو على الأنبياء وأن ذلك لا يقدح في علوِّ منصبهم، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حلف على يمين صبرٍ يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان)) ، ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ... } [آل عمران: 77] إلى آخر الآية. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الحديث السادس عن الأشعث بن قيس - رضي الله عنه - قال: "كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((شاهداك أو يمينه)) ، قلت: إذًا يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حلف على يمين صبرٍ يقتطع بها مال امرئ مسلم لقِي الله وهو عليه غضبان)) . قوله: ((مَن حلف على يمين صبر)) (يمين الصبر) : هي التي تلزم ويجبر عليها حالفها، يُقَال: أصبره اليمين أحلفه بها في مقاطع الحق، قال ابن بطال: إن الله خصَّ العهد بالتقدمة على سائر الأيمان، فدلَّ على تأكُّد الحلف به؛ لأن عهد الله ما أخذه على عباده وما أعطاه عباده. وقال الراغب: ويطلق عهد الله على ما فطر عليه عباده من الإيمان به عند أخذ الميثاق، ويُراد به أيضًا ما أمر في الكتاب والسنة مؤكدًا، وما التزمه المرء من قِبَل نفسه كالنذر، اهـ. وفي الحديث سماع الحاكم الدعوى فيما لم يره إذا عرفه المتداعيان، وفيه أن الحاكم يسأل المدَّعي: هل له بينة؟ وفيه بناء الأحكام على الظاهر، وأن حكم الحاكم لا يُبِيح للإنسان ما لم يكن حلالاً، وفيه أن صاحب اليد أَوْلَى بالمدَّعى فيه. قال الحافظ: وفيه التنبيه على صورة الحكم في هذه الأشياء؛ لأنه بدأ بالطالب فقال: ليس لك إلا يمين الآخَر، ولم يحكم بها للمدعَى عليه إذا حلف، بل إنما جعل اليمين تصرف دعوى المدعي لا غير، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حلف المدعى عليه أن لا يحكم بملك المدعي فيه ولا بحيازته، بل يقرُّه على حكم يمينه، وفيه أن يمين الفاجر تسقط عند الدعوى، وأن فجوره لا يُوجِب الحجر عليه، وفيه موعظة الحاكم الخصم إذا أراد أن يحلف خوفًا من أن يحلف باطلاً، اهـ، وبالله التوفيق. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 الحديث السابع عن ثابت بن الضحاك الأنصاري - رضي الله عنه -: أنه بايَع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت لشجرة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا متعمِّدًا فهو كما قال، ومَن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجلٍ نذر فيما لا يملك)) . وفي رواية: ((لَعْنُ المؤمن كقتلِه)) ، وفي رواية: ((مَن ادَّعى دعوى كاذبة ليستكثر بها لم يزده الله إلا قلَّة)) . قوله: ((مَن حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا متعمِّدًا فهو كما قال)) (الملة) : الدين والشريعة، قال عياض: يُستَفاد منها أن الحالف المتعمِّد إن كان مطمئنَّ القلب بالإيمان وهو كاذبٌ في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم يكفر، وإن قال معتقدًا لليمين بتلك الملة لكونها حقًّا كفَر، وإن قالها لمجرَّد التعظيم لها احتمل، اهـ. وعن الحسين بن واقد عن أبيه رفعه: ((مَن قال: إني برئ من الإسلام، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا لم يعد إلى الإسلام سالمًا)) ؛ أخرجه النسائي وصحَّحه. قوله: ((ومَن قتل نفسه بشيء عُذِّب به يوم القيامة)) قال ابن دقيق العيد: هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، ويُؤخَذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست ملكًا له مطلقًا، بل هي لله - تعالى - فلا يتصرَّف فيها إلا بما أذن الله له فيه. قوله: ((وليس على رجل نذر فيما لا يملك)) أخرج مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي كانت أسيرة فهربت على ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الذين أسروا المرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 انتهبوها، فنذرت إن سلمت أن تنحرها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)) . وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا نذر في معصية، وكفَّارته كفَّارة يمين)) ؛ رواه الخمسة، واحتجَّ به أحمد وإسحاق. وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن نذر نذرًا ولم يسمِّه فكفَّارته كفَّارة يمين، ومَن نذر نذرًا لم يطقه فكفارته كفارة يمين)) ؛ رواه أبو داود وابن ماجه، وزاد ((ومَن نذر نذرًا أطاقه فليفِ به)) . وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف؟ فقال: ((أوفي بنذرك)) ؛ أخرجه أبو داود، زاد أحمد والترمذي في حديث بريدة: أن ذلك وقت خروجه في غزوة، فنذرت إن ردَّه الله - تعالى - سالمًا، وعند أحمد: ((إن كنتِ نذرتِ فاضربي، وإلا فلا)) . قوله: ((لَعْنُ المؤمن كقتلِه)) ؛ أي: لأنه إذا لعنه فكأنه دعا عليه بالهلاك، وقيل: يشبهه في الإثم، والله أعلم. * * * باب النذر الحديث الأول عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله، إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة - وفي رواية: يومًا - في المسجد الحرام قال: ((فأوفِ بنذرك)) . النذر في اللغة: التزام خير أو شر، وفي الشرع: التزام المكلف شيئًا لم يكن عليه منجزًا أو معلقًا، قال قتادة في قوله - تعالى -: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] : كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وممَّا افترض عليهم فسمَّاهم الله أبرارًا وقال القرطبي: النذر من العقود المأمور بالوفاء بها المثنى على فاعلها، وأعلى أنواعه ما كان غير معلَّق على شيء؛ كمَن يُعافَى من مرض، فقال: لله عليَّ أن أصوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 كذا أو أتصدَّق بكذا شكرًا لله - تعالى - ويليه المعلق على فعل طاعة؛ كإن شفى الله مريضِي صمتُ كذا أو صليت كذا، وما عداهما من أنواعه كنذر اللجاج؛ كمَن يستثقل عبده فينذر أن يعتقه ليتخلَّص من صحبته فلا يقصد القربة في ذلك أو يحمل على نفسه فينذر صلاة كثيرة أو صومًا مما يشقُّ عليه فعله، فإن ذكره يكره، وقد يبلغ بعضه التحريم، اهـ. وفي الحديث لزوم النذر في القربة من كلِّ أحد حتى قبل أن يسلم، قال الحافظ: أصل الجاهلية ما قبل البعثة، والمراد بقول عمر: "في الجاهلية" ما قبل إسلامه؛ لأن جاهلية كلِّ أحد بحسبه، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن النذر وقال: ((إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستَخرج به من البخيل)) . قوله: "نهى عن النذر"، في رواية للبخاري: "أو لم ينهوا عن النذر؟ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن النذر لا يُقدِّم شيئًا ولا يؤخِّره، وإنما يُستَخرج به من البخيل)) ، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: ((فإن النذر لا يغني من القدر شيئًا)) . قال الخطابي: هذا بابٌ من العلم غريب، وهو النهي عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبًا. قوله: ((وإنما يستخرج به من البخيل)) في حديث أبي هريرة: ((فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج)) ، قال البيضاوي: عادة الناس تعليق النذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرَّة، فنهى عنه لأنه فعل البخلاء؛ إذ السخي إذا أراد أن يتقرَّب بادَرَ إليه، والبخيل لا تُطاوِعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة عِوَض يستوفيه أولاً فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 لا يُغنِي من القدر شيئًا، فلا يسوق إليه خيرًا لم يقدَّر له ولا يردُّ عنه شرًّا قُضِي عليه، لكن النذر قد يوافق القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه، اهـ. وفي الحديث الردُّ على القدرية، وأمَّا ما أخرجه الترمذي من حديث أنس: أن الصدقة تدفع ميتة السوء؛ فمعناه: أن الصدقة تكون سببًا لدفع ميتة السوء والأسباب مقدَّرة كالمسببات، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِل عن الرقي: ((هل تردُّ من قدَر الله شيئًا؟)) ، قال: ((هي من قدر الله)) ؛ أخرجه أبو داود، ونحوه قول عمر: نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله. وفيه الحثُّ على الإخلاص في عمل الخير وذم البخل، وفيه أن كلَّ شيء يبتدئه المكلَّف من وجوه البرِّ أفضل ممَّا يلتزم بالنذر، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: "نذرتْ أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته فقال: ((لتمشِ ولتركب)) . الحديث دليلٌ على صحة النذر بإتيان البيت الحرام، وعن أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى شيخًا يهادي بين ابنيه، قال: ((ما بال هذا؟)) ، قالوا: نذر أن يمشي، قال: ((إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغني)) ، وأمره أن يركب"، وعن عقبة بن عامر رفعه: ((كفارة النذر كفارة اليمين)) ؛ أخرجه مسلم. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ((جاء رجل فقال: يا رسول الله، إن أختي نذرت أن تحجَّ ماشية، فقال: ((إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، لتحجَّ راكبة ثم لتكفِّر يمينها)) ؛ أخرجه الحاكم. وعنه: "أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي هديًا"؛ أخرجه أبو داود، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الحديث الرابع عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نذرٍ كان على أمه، تُوفِّيت قبل أن تقضيه، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فاقضيه عنها)) . فيه دليلٌ على قضاء الحقوق الواجبة على الميت، وقد ذهب الجمهور إلى أن مَن مات وعليه نذر ماليٌّ أنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوصِ به، إلا إن وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث، وفيه فضل برِّ الوالدين بعد الوفاة والتوصُّل إلى براءة ما في ذمتهم. وعن عائشة: "أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: ((نعم، تصدق عنها)) . وفي هذا الحديث جواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه بوصول ثواب الصدقة إليه، لا سيَّما إن كان من الولد، وهو مخصوص من عموم قوله - تعالى -: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39] ، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمسِك عليك بعض مالك؛ فهو خيرٌ لك)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 قوله: ((أمسِك عليك بعض مالك)) ، في رواية: "فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر"، ولأبي داود: ((يجزى عنك الثلث)) ، قال ابن المنير: لم يبت كعب الانخلاع بل استشار هل يفعل أو لا، وقال الفاكهاني: أورد الاستشارة بصيغة الجزم. قال الحافظ: الأَوْلَى لِمَن أراد أن ينجز التصدُّق بجميع ماله أو يعلقه أن يمسك بعضه، ولا يلزم من ذلك أنه لو نجزه لم ينفذ، والتصدُّق بجميع المال يختلف باختلاف الأحوال، فمَن كان قويًّا على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يُمنَع، وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق، وإيثار الأنصار على أنفسهم المهاجرين ولو كان بهم خصاصة، ومَن لم يكن كذلك فلا، وعليه يتنزل ((لا صدقة إلا عن ظهر غنى)) ، وفي لفظ: ((أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى)) ، اهـ. وقال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليلٌ على أن الصدقة لها أثر في محو الذنب، ولأجل هذا شرعت الكفارات المالية، اهـ. تتمَّة: وعن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني فكلُّ مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفِّر عن يمينك وكلِّم أخاك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يمين عليك، ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك)) ؛ رواه أبو داود، والله أعلم. * * * باب القضاء الحديث الأول عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) ، وفي لفظ: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الأصل في القضاء ومشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {يا دَاودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] ، وقال - تعالى -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] ، وقال - عزَّ وجلَّ -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . وفي الحديث المتفق عليه: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)) . وعن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار وَكَلَه إلى نفسه)) ؛ رواه ابن ماجه، وفي لفظ: ((فإذا جار تخلَّى عنه ولزمه الشيطان)) ؛ رواه الترمذي. وعن بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأمَّا الذي في الجنة: فرجلٌ عرف الحق فقضى به، ورجلٌ عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهل فهو في النار)) ؛ رواه ابن ماجه وأبو داود. قال مالك: لا بُدَّ أن يكون القاضي عالمًا عاقلاً، وقال البخاري: يستحبُّ للكاتب أن يكون أمينًا عاقلاً، اهـ. وعن معاذ بن جبل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه قاضيًا إلى اليمن، قال له: ((بِمَ تحكم؟)) ، قال: بكتاب الله - تعالى - قال: ((فإن لم تجد)) ، قال: فبسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فإن لم تجد)) ، قال: أجتهد رأيي، قال: ((الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله)) ؛ رواه أحمد. وكتب عمر إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام: أن انظرَا رجالاً من صالحي مَن قِبَلَكم فاستعمِلوهم على القضاء، وأوسعوا عليهم وارزقوهم واكفُوهم من مال الله، وقال علي: لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيًا حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم. قال الموفق: وله أن ينتهر الخصم إذا التوى ويصِيح عليه، وإن استحقَّ التعزير عزَّره بما يرى من أدب أو حبس. قوله: ((مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) قال الحافظ: هذا الحديث معدودٌ من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه: مَن اخترع في الدين ما لا يشهد له أصلٌ من أصوله فلا يلتفت إليه. قال النووي: هذا الحديث ممَّا ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك، اهـ. وقال الطرفي: هذا الحديث نصف أدلة الشرع. قوله: وفي لفظ: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)) قال الحافظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 هذا أعمُّ من اللفظ الأول فيحتجُّ به في إبطال جميع العقود المنهيَّة وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفيه ردُّ المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردُّها، ويُستَفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر؛ لقوله: ((ليس عليه أمرنا)) والمراد به أمر الدين، وفيه أن الصلح الفاسد منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد، اهـ. وقال البخاري: باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)) ، وقال أيضًا: ((إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد)) ، وأورد قصة خالد وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أبرأ إليك ممَّا صنع خالد بن الوليد)) ، قال ابن بطال: الإثم إن كان ساقطًا عن المجتهد في الحكم إذا تبيَّن له أنه بخلاف جماعة أهل العلم لكن الضمان لازمٌ للمخطئ عند الأكثر مع الاختلاف هل يلزم ذلك عاقلة الحاكم أو بيت المال؟ قال الحافظ: والذي يظهر أن التبرُّؤ من الفعل لا يلزم منه إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة؛ فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود اهـ، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 بنيَّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفِي بنيك)) . قولها: "شحيح"، في لفظ: "مسيك" بكسر الميم وتشديد السين، وبالفتح والتخفيف، والشح: البخل مع حرص وهو أعمُّ من البخل، قال القرطبي: قوله: ((خذي)) ، أمر إباحة، والمراد بالمعروف القدر الذي عرف بالعادة أنه الكفاية، اهـ. وفي الحديث جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك، وفيه جواز سماع كلام الأجنبية عند الحكم والإفتاء، وفيه جواز استماع كلام أحد الخصمين في غيبة الآخَر، وفيه وجوب نفقة الزوجة وأنها مقدَّرة بالكفاية، وهي معتبرة بحال الزوجين معًا؛ لقوله - تعالى -: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ ... } [الطلاق: 7] الآية، وفيه وجوب نفقة الأولاد بشرط الحاجة، واستدلَّ به على أن مَن له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقِّه بغير إذنه، وتسمَّى مسألة الظفر، وأن للمرأة مدخلاً في القيام على أولادها وكفالتهم والإنفاق عليهم، وفيه اعتماد العرف في الأمور التي لا تحديد فيها من قِبَل الشرع، وفيه جواز القضاء على الغائب. قال ابن بطال: أجاز مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وجماعة الحكم على الغائب واستثنى ابن القاسم عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج كالأرض والعقار، إلا إن طالت غيبته أو انقطع خبرة. قال الحافظ: واحتج مَن منع بحديث عليٍّ رفعه: ((لا تقضِ لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر)) ، وبحديث الأمر بالمساواة بين الخصمين، وبأنه لو حضر لم تسمع بيِّنة المدَّعي حتى يسأل المدَّعى عليه فإذا غاب فلا تسمع، وبأنه لو جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور واجبًا عليه، وأجاب مَن أجاز بأن ذلك كله لا يمنع الحكم على الغائب؛ لأن حجته إذا حضر قائمة فتسمع ويعمل بمقتضاها ولو أدَّى إلى نقض الحكم السابق، وحديث عليٍّ محمول على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الحاضرين. وقال ابن العربي: حديث عليٍّ إنما هو مع إمكان السماع، فأمَّا مع تعذره بمغيب فلا يمنع الحكم، كما لو تعذر بإغماء أو جنون أو حجر أو صغر. قال الحافظ: كلُّ حكم يصدر من الشارع فإنه ينزل منزلة الإفتاء بذلك الحكم في مثل تلك الواقعة، فيصحُّ الاستدلال بهذه القصة للمسألتين؛ يعني: مسألة القضاء على الغائب ومسألة الظفر، وقال البخاري: باب مَن رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند: ((خُذِي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) ، وذلك إذا كان أمرًا مشهورًا، اهـ، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن أم سلمة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ((إلا إنما أنا بشر مثلكم، وإنما يأتيني الخصم، فلعلَّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمَن قضيتُ له بحقِّ مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها)) . "الجلبة": اختلاط الأصوات وارتفاعها. قوله: ((إنما أنا بشر مثلكم)) أتى به ردًّا على مَن زعم أن مَن كان رسولاً فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم. قوله: ((أبلغ)) ، في رواية: ((ألحن)) . قوله: ((قطعة من النار)) كقوله - تعالى -: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] . قوله: ((فليحملها أو يذرها)) الأمر فيه للتهديد كقوله - تعالى -: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ، قال ابن التين: هو خطاب للمقضيِّ له، ومعناه: أنه يعلم من نفسه هل هو محقٌّ أو مبطِل، فإن كان محقًّا فليأخذ، وإن كان مبطلاً فليترك، فإن الحكم لا ينقل الأصل عمَّا كان عليه. ولأبي داود: فبكى الرجلان وقال كلٌّ منهما: حقِّي لك، فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أمَا إذا فعلتما فاقتسما وتوخَّيَا الحق ثم استهِما ثم تحاللا)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وفي هذا الحديث من الفوائد إثم مَن خاصم في باطل حتى استحقَّ به في الظاهر شيئًا هو في الباطن حرام عليه، وفيه أن مَن ادَّعى مالاً ولم يكن له بيِّنة فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة الحالف أنه لا يبرأ في البطان وأن المدعي لو أقام بيِّنة بعد ذلك تُنافِي دعواه سُمِعت وبطل الحكم، وفيه أن المجتهد قد يخطئ وأنه ليس كل مجتهد مصيبًا، وإذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يُؤجَر، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء. قال الشافعي: فيه دلالة على أن الأمة إنما كلفوا القضاء على الظاهر، وأن قضاء القاضي لا يحرم حلالاً ولا يحلُّ حرامًا، اهـ. وفيه أن التعمُّق في البلاغة بتزيين الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل مذموم، وأمَّا البلاغة فلا تذمُّ لذاتها وهي أن يبلغ بعبارة لسانه كُنْهَ ما في قلبه، وقال أهل المعاني والبيان: البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع الفصاحة وهي خلوُّه عن التعقيد، وفيه موعظة الخصوم والعمل بالنظر الراجح وبناء الحاكم عليه. فائدة: قال الحافظ: نقل بعض العلماء الاتِّفاق على أنه لو شهدت البينة بخلاف ما يعلمه القاضي لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة. * * * الحديث الرابع عن عبد الرحمن بن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: كتب أبي وكتبت له إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة، وهو قاضٍ بسجستان: لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)) ، وفي رواية: ((لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 قوله: "كتب أبي"؛ أي: أمره بالكتابة "وكتبت له"؛ أي: باشرت الكتابة التي أمر بها. قوله: ((لا يحكم أحدٌ بين اثنين وهو غضبان)) قال المهلب: سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوَز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قال فقهاء الأمصار، وقال ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب؛ لما يحصل بسببه من التغيير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه، وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كلِّ ما يحصل به تغيُّر الفكر من الجوع والعطش المفرطين، وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقًا يشغله عن استيفاء النظر، وهو قياس مظنة على مظنة. قال الحافظ: لو خالف فحكم في حال الغضب صحَّ إن صادَف الحق مع الكراهة، وهذا قول الجمهور، وفي الحديث ذكر الحكم مع دليله في التعليم وكذلك الفتوى، وفيه شفقة الأب على ولده وإعلامه بما ينفعه وتحذيره من الوقوع فيما ينكر، وفيه نشر العلم للعمل به والاقتداء وإن لم يسأل العالم عنه، والله الموفق. * * * الحديث الخامس عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألاَ أنبكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) ، وكان متكئًا فجلس فقال: ((ألاَ وقول الزور، وشهادة الزور)) ، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. قوله: ((ألاَ أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا؛ أي: قال ذلك ثلاث مرات، كرَّره تأكيدًا لينتبه السامع على إحضار فهمه0. قوله: ((الإشراك بالله)) تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، فذكره تنبيهًا على غيره من أصناف الكفر. قوله: ((وعقوق الوالدين)) العقوق صدور ما يتأذَّى به الوالد من ولده من قول أو فعل. قوله: وكان متكئًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور)) قال الحافظ: يشعر بأنه اهتمَّ بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئًا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور وشهادة الزور أسهل وقوعًا على الناس والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأمَّا الزور فالحوامل عليه كثيرة؛ كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه. قوله: "فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت"؛ أي: شفقةً عليه وكراهيةً لما يزعجه، وفيه تحريم شهادة الزور، وفي معناها كلُّ ما كان زورًا من تعاطي المرء ما ليس له أهلاً، قال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصَّل بها إلى الباطل من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررًا منها ولا أكثر فسادًا بعد الشرك بالله، اهـ. وفيه التحريض على مجانبة كبائر الذنوب ليحصل تكفير الصغائر بذلك، كما وعد الله - عزَّ وجلَّ - في قوله - تعالى -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء: 31] ، وفي الحديث انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويُؤخَذ منه ثبوت الصغائر؛ لأن الكبيرة بالنسبة إليها أكبر منها، قال الغزالي: إنكار الفرق بين الصغيرة والكبير لا يليق بالفقيه، اهـ. وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) ؛ متفق عليه. وعن ابن عباس: أنه قيل له: الكبائر سبع، قال: هي إلى السبعين أقرب، قال القرطبي: كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب الله أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم أو أخبر فيه بشدَّة العقاب أو علَّق عليه الحد أو شدَّد النكير عليه فهو كبير، وقال الحليمي ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنتقل الصغيرة كبيرة بقرينةٍ تضمُّ إليها وتنقلب الكبيرة فاحشة كذلك، والله اعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الحديث السادس عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو يعطى الناس بدعاويهم لادَّعى ناس دماء رجالٍ وأموالهم ولكن اليمين على المدَّعى عليه)) . هذا الحديث أصلٌ في فصل الخصومات بين الناس. قوله: ((ولكن اليمين على المدعى عليه)) في حديث ابن عمر عند الطبراني: ((البينة على المدِّعِي واليمين على المدَّعَى عليه)) ، وعند الإسماعيلي: ((ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب)) ، وعند البيهقي: ((لكن البينة على المدَّعي واليمين على مَن أنكر)) . قال العلماء: الحكمة في ذلك أن جانب المدَّعِي ضعيف لأنه يقول خلاف الظاهر فكلف الحجة القوية وهي البيِّنة؛ لأنها لا تجلب لنفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضررًا فيقوى بها ضعف المدَّعي، وجانب المدَّعى عليه قوي فاكتفي منه باليمين وهي حجة ضعيفة؛ لأن الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع الضرر فكان ذلك في غاية الحكمة، والمدَّعي مَن إذا سكت ترك وسكوته، والمدَّعَى عليه مَن لا يخلى إذا سكت، قال الإصطخري: إن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدَّعي لم يتلفت إلى دعواه، اهـ. وروى مسلم عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد"، قال ابن عبد البر: لا مطعن لأحدٍ في صحته ولا إسناده. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "قضى الله ورسوله في الحق بشاهدين، فإن جاء بشاهدين أخذ حقَّه، وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده، قال الشافعي: القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن؛ لأنه لا يمنع أن يجوز أقل مما نص عليه، قال الحافظ: لا يلزم من التنصيص على الشيء نفيه عمَّا عداه. وقال: تخصيص الكتاب بالسنة جائز، وكذلك الزيادة عليه كما في قوله - تعالى -: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، وأجمعوا على تحريم العمَّة مع بنت أخيها، وسند الإجماع في ذلك السنة الثابتة، وكذلك قطع رجل السارق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 في المرَّة الثانية، وأمثلة ذلك كثيرة، اهـ. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يُسهِم بينهم في اليمين أيهم يحلف"؛ رواه البخاري. وعن أبي موسى - رضي الله عنه -: "أن رجلين ادَّعيا بعيرًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث كلُّ واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما نصفين"؛ رواه أبو داود. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل حلفه: ((احلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء)) ؛ يعني: المدعي؛ رواه أبو داود. فائدة: في وضع اليد: كل دعوى يكذبها العرف والعادة غير مسموعة، فإذا رأينا رجلاً حائزًا لدار متصرِّفًا فيها مدَّة طويلة وهو ينسبها إلى نفسه وملكه، وإنسان حاضر يراه لا يعارضه، وليس له مانع يمنعه من مطالبته، وليس بينه وبين المتصرِّف قرابة ولا شركة، ثم جاء بعد طول هذه المدَّة يدَّعيها لنفسه ويريد أن يقيم بيِّنة بذلك، فدعواه غير مسموعة وتبقى الدار بيد حائزها، هذا مقتضى اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وشمس الدين ابن القيم، وإمام الدعوة النجدية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده، وهو مذهب الإمام مالك، واختاره شيخنا محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 كتاب الأطعمة الحديث الأول عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول - وأشار النعمان بأصبعيه إلى أذنيه -: ((إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمَن اتَّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحِمَى يوشك أن يقع فيه، ألاَ وإن لكل ملك حِمَى، ألاَ وأن حِمَى الله محارمه، ألاَ وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألاَ وهي القلب)) . الأصل في الأطعمة الحلُّ؛ لقول الله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وقال - عزَّ وجلَّ -: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ... } [الأعراف: 157] الآية، وقال - تعالى -: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] . وعن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن والجبن والفراء فقال: ((الحلال ما أحلَّ الله في كتابه، والحرام ما حرَّم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم)) ؛ رواه ابن ماجه والترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 قوله: ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن)) ؛ أي: بأدلتهما الظاهرة. قوله: ((وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)) ، وللترمذي: ((لا يدري كثيرٌ من الناس أمِنَ الحلال هي أم من الحرام، ومفهومه أن معرفة حكمها ممكِن لكن للقليل من الناس. قوله: ((فمَن اتَّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)) ؛ أي: مَن حذر منها فقد برأ دينه من النقص وعرضه من الطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة، قال بعض العلماء: المكروه عقبة بين العبد والحرام فمَن استكثر من المكروه تطرَّق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمَن استكثر منه تطرَّق إلى المكروه. قوله: ((ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) ، في رواية: ((فمَن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان له أترك، ومَن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حِمَى الله، مَن رتع حول الحِمَى يُوشِك أن يواقعه)) . قوله: ((ألاَ وإن لكل ملك حِمَى، ألاَ وإن حِمَى الله محارمه)) قال الحافظ: كان ملوك العرب يحمون لمواشيهم أماكن مختصَّة يتوعَّدون مَن يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثَّل لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى؛ خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبعده أسلم له ولو اشتدَّ حذره، وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه، فلا يأمن أن تنفرد الفاذة فتقع فيه بغير اختياره أو بمحلِّ المكان الذي هو فيه، ويقع الخصب في الحمى فلا يملك نفسه أن يقع فيه، فالله - سبحانه وتعالى - هو الملك حقًّا وحماه محارمه. قوله: ((ألاَ وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألاَ وهي القلب)) (ألا) للتنبيه على صحة ما بعدها، والمضغة: القطعة من اللحم، وهي قدر ما يمضغ، وسمي القلب قلبًا لتقلُّبه في الأمور، وخصَّ القلب لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه إشارة أن لطيب الكسب أثرًا في صلاح القلب، اهـ. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الحديث الثاني عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "أنفجنا أرنبًا بمرِّ الظَّهْرَان، فسعى القوم فلعبوا وأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوركها وفخذها فقبله". فيه جوازُ أكل الأرنب، وفيه أن آخِذ الصيد يملكه ولا يشاركه من أثاره معه، وفيه هدية الصيد وقبولها من الصائد وإهداء الشيء اليسير للكبير القدر إذا علم من حالة الرضا بذلك، وفيه أن وليَّ الصبي يتصرَّف فيما يملكه الصبي بالمصلحة، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: "نحرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا فأكلناه"، وفي رواية: "ونحن في المدينة". * * * الحديث الرابع عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأَذِن في لحوم الخيل"، ولمسلم وحده قال: "أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحمار الأهلي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 قوله: "نحرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا فأكلناه"، وللدارقطني: "فأكلناه نحن وأهل بيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"، قال الحافظ: والذي يظهر أن الحكم في الخيل والبغال والحمير كان على البراءة الأصلية، فلمَّا نهاهم الشارع يوم خيبر عن الحمر والبغال خشي أن يظنوا أن الخيل كذلك لشبهها بها؛ فأَذِن في أكلها دون البغال والحمير. * * * الحديث الخامس عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: "أصابتنا مجاعة ليالي خيبر فلمَّا كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها، فلمَّا غلت بها القدور نادَى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أكفِئُوا القدور، ولا تأكلوا من لحوم الحمر الأهلية". فيه أن الذكاة لا تطهر ما لا يحلُّ أكله، وأن كلَّ شيء تنجَّس بملاقاة النجاسة يكفي غسله مرَّة واحدة؛ لإطلاق الأمر بالغسل في بعض الروايات، قال القرطبي: قوله: ((فإنها رجس)) ، ظاهر في عود الضمير على الحمر؛ لأنها المتحدث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها، وهذا حكم المتنجِّس فيستفاد منه تحريم أكلها، وهو دالٌّ على تحريمها لعينها لا لمعنى خارج، اهـ. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني: يوم خيبر - لحوم الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير"؛ رواه أحمد والترمذي. * * * الحديث السادس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة، فأتي بضب مَحنُوذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل، فقلت: تأكله؟ هو ضب، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده فلم يأكل، فقلت: يا رسول الله، أحرام هو؟ قال: ((لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه)) ، قال خالد: فاجتررته فأكلته والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر". قولها: "فقلت: تأكله؟ هو ضب" ولمسلم: "قالت ميمونة: إنه لحم ضب، فكفَّ يده"، وفي حديث ابن عمر: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الضب لست آكله ولا أحرمه)) . قوله: ((إنه لم يكن بأرض قومي)) ؛ أي: قريش؛ يعني: لم يكن بأرض مكة وما حولها، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز، وفي الحديث جواز أكل الضب، وفي حديث ابن عمر: ((كلوا وأطعموا فإنه حلال)) ، وفيه أن مطلق النفرة وعدم الاستطابة لا يستلزم التحريم، وفيه أن الطباع تختلف في النفور عن بعض المأكولات، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُؤاكِل أصحابه ويأكل اللحم حيث تيسَّر، وأنه كان لا يعلم من المغيبات إلا ما أعلمه الله - تعالى - وفيه فضيلة ميمونة أم المؤمنين وصدق فراستها - رضي الله عنها - والله أعلم. * * * الحديث السابع عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: "غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبغ غزوات نأكل الجراد". الحديث دليلٌ على جواز أكل الجراد، وأنه حلال، ويجوز أكله بغير تذكية؛ لحديث ابن عمر رفعه: ((أُحِلَّت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 والطحال)) ؛ رواه أحمد. قال الحافظ: ونقل النووي الإجماع على حلِّ أكل الجراد، لكن فصَّل ابن العربي في شرح الترمذي بين جراد الحجاز وجراد الأندلس؛ فقال في جراد الأندلس: لا يؤكل؛ لأنه ضرر محض، وهذا إن ثبت أنه يضرُّ أكله بأن يكون فيه سمية تخصُّه دون غيره من جراد البلاد تعيَّن استثناؤه، والله اعلم. * * * الحديث الثامن عن زَهْدَم بن مُضَرِّب الجرمي قال: "كنَّا عند أبي موسى الأشعري فدعا بمائدة وعليها لحم دجاج، فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي، فقال له: هلمَّ، فتلكأ، فقال له: هلمَّ؛ فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل منه". قوله: "شبيه بالموالي"؛ أي: العجم. قوله: "فقال له هلمَّ، فتلكَّأ"؛ أي: تردَّد وتوقَّف، وفي رواية: "قال: إني رأيته يأكل شيئًا فذرته فحلفت أن لا أكله". وفي الحديث جواز أكل الدجاج، واستثنى بعضهم الجلالة، وهي ما تأكل الأقذار، وعن ابن عمر: أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثًا؛ أخرجه ابن أبي شيبة، وله عن جابر: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة أن يؤكل لحمها ويشرب لبنها"، اهـ، والمعتبر في جواز أكل الجلالة زوال رائحة النجاسة بعد أن تعلف بالشيء الطاهر، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أكل أحدكم طعامًا فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 قوله: ((يَلعَقها)) ؛ أي: هو ((أو يُلعِقها)) ؛ يعني: غيره ممَّا لا يتقذَّر ذلك؛ من زوجة، أو خادم، أو ولد، ولمسلم عن جابر: ((إذا سقطت لقمة أحدكم فليُمِط ما أصابها من أذًى وليأكلها، ولا يمسح يده حتى يَلعَقها أو يُلعِقها؛ فإنه لا يدري في أيِّ طعامه البركة)) . وفي الحديث ردٌّ على مَن كره لعق الأصابع، نعم لو فعله في أثناء الأكل كره؛ لأنه يعيد أصابعه في الطعام وعليها أثر ريقه. قال الخطابي: عاب قوم أفسد عقلهم الترفُّه، فزعموا أن لعق الأصابع مستقبَح، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي علق بالأصابع والصفحة جزء ممَّا أكلوه، وفيه استحباب مسح اليد بعد الطعام، وعن أبي هريرة رفَعَه: ((مَن بات وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء، فلا يلومنَّ إلا نفسه)) ، وفيه المحافظة على عدم إهمال شيء من فضل الله كالمأكول والمشروب. * * * باب الصيد الحديث الأول عن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ وفي أرض صيدٍ، أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمُعَلَّم وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: ((أمَّا ما ذكرت من آنية أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فَكُلْ، وما صدت بكلبك المُعَلَّم فذكرت اسم الله عليه فَكُلْ، وما صدت بكلبك غير المُعَلَّم فأدركت ذكاته فَكُلْ)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الأصل في إباحة الصيد الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، وقال - تعالى -: {يسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4] ، "مكلبين"؛ أي: مؤدبين، قال ابن عباس: إن أكل الكلب فقد أفسده إنما أمسك على نفسه، والله يقول: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ} فتضرب وتعلم حتى تترك، وقال عطاء: إن شرب الدم ولم يأكل فَكُلْ، وفسَّر مجاهد الجوارح بالكلاب والطيور، وهو قول الجمهور. قوله: "إنا بأرض قوم أهل كتاب"؛ يعني: بالشام، ولأبي داود: "نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر"، فقال الحديث. وعن جابر قال: كنَّا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنصيب من آنية المشركين فنستمتع بها فلا يعيب ذلك علينا"؛ أخرجه أبو داود، وفي رواية البزار: "فنغسلها ونأكل فيها". قوله: ((وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليك فَكُلْ)) قال ابن بطال: أجمعوا على أن السهم إذا أصاب الصيد فجرحه جاز أكله، ولو لم يدرِ هل مات بالجرح أو من سقوطه في الهواء أو من وقوعه على الأرض، وأجمعوا على أنه لو وقع على جبل مثلاً فتردَّى منه فمات لا يُؤكَل، وأن السهم إذا لم ينفذ مقاتله لا يُؤكَل إلاَّ إذا أدرك ذكاته. وقال ابن التين: إذا قطع من الصيد ما لا يتوهَّم حياته بعده فكأنه أنفذه بتلك الضربة فقامت مقام التذكية وهذا مشهور مذهب مالك وغيره، وقال البخاري وقال الحسن وإبراهيم: إذا ضرب صيدًا فبان منه يد أو رجل لا تأكل الذي بان وكل سائره، وقال إبراهيم: إذا ضربت عنقه أو وسطه فَكُلْ. وفيه مشروعية التسمية عند الصيد، وذهب جمهور العلماء إلى جواز أكله لِمَن تركها سهوًا لا عمدًا. قوله: ((وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فَكُلْ)) ، قال ابن دقيق العيد: ولم يتعرَّض في الحديث للتعليم المشترط، والفقهاء تكلَّموا فيه وجعلوا المعلَّم ما ينزجر بالانزجار وينبغث بالإشلاء، ولهم نظر في غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ذلك من الصفات، والقاعدة أن ما رتَّب عليه الشرع حكمًا ولم يحدَّ فيه حدًّا رجع فيه إلى العرف اهـ. قوله: ((وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فَكُلْ)) في حلِّ ما صِيدَ بالكلب المعلَّم ولو لم يزكَّ، وتحريم ما صِيدَ بغير المعلَّم إذا لم يذك، ولأبي داود: وأفتني في قوسي، قال: ((كل ما ردَّت عليك قوسك ذكيًّا أو غير ذكي)) ، قال: وإن تغيَّب عنِّي؟ قال: ((وإن تغيَّب عنك ما لم يصل أو تجد فيه أثر غير سهمك)) . قوله: ((يصل)) ؛ أي: ينتن، وقال ابن عباس في قوله - تعالى -: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، قال: ((فما أدركته من هذا يتحرَّك له ذنَب أو تطرَّف له عين فاذبح واذكر اسم الله عليه فهو حلال)) ، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن همام بن الحارث عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم الله، فقال: ((إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فَكُلْ ما أمسك عليك)) ، قلت: وإن قتلن؟ قال: ((وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها)) ، قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب، فقال: ((إذا رميت بالمعراض فخزق فَكُلْه، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله)) ، وحديث الشعبي عن عدي نحوه، وفيه: ((إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسمِّ على غيره)) ، وفيه ((إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فإن أمسك عليك فأدركته حيًّا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله؛ فإن أخْذ الكلب ذكاته)) ، وفيه: ((إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه)) ، وفيه: ((وإن غاب عنك يومًا أو يومين)) ، وفي رواية: ((اليومين والثلاثة فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فَكُلْ إن شئت، وإن وجدته غريقًا في الماء فلا تأكل؛ فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك؟)) . قوله: قلت: وإن قتلن؟ قال: ((وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها)) فيه أنه لا يحلُّ أكل ما شارَكَه في اصطياده كلب آخر؛ لقوله: ((فإنما سمَّيت على كلبك ولم تسمِّ على غيره)) فإن تحقَّق أن الذين أرسله من أهل الذكاة حلَّ، وهو للأوَّل منهما. قوله: "فإني أرمي بالمعراض الصيد" المعراض سهمٌ لا ريش له ولا نصل، وقيل: عصا رأسها محدَّد، وقال ابن التين: المعراض عصا في طرفها حديدة يرمي الصائد بها، فما أصاب بحدِّه فهو ذكي فيُؤكَل، وما أصاب بغير حدِّه فهو وقيذ، وقال ابن عمر في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة، البندقة تتَّخذ من طين وتيبس فيرمى بها، وأمَّا البنادق المعروفة الآن فحكمها حكم السهام. قال الحافظ: والحاصل أن السهم وما في معناه إذا أصاب الصيد بحدِّه حل وكانت تلك ذكاته، وإذا أصابه بعرضه لم يحلَّ؛ لأنه في معنى الخشبة الثقيلة والحجر ونحو ذلك من المثقل. قوله: ((فإن أكل فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه)) فيه تحريم الصيد الذي أكل الكلب منه ولو كان معلمًا، وهو قول الجمهور؛ لقوله - تعالى -: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، واستدلَّ الجمهور بقوله: ((كل ما أمسك عليك)) بأنه لو أرسل كلبه على صيدٍ فاصطاد غيره حلَّ، قال بعض العلماء: يعفى عن معض الكلب ولو كان نجسًا. قوله: ((فإنَّ أخذ الكلب ذكاته)) فيه جواز أكل ما أمسكه الكلب المعلم ولو لم يذبح، فلو قتل الصيد بظفره أو نابه حلَّ، وكذا لو لم يقتله الكلب، لكن تركه وبه رمق ولم يبقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 زمن يمكن صاحبه فيه لحاق ذبحه فمات حلَّ؛ لعموم قوله: ((فإن أخْذَ الكلب ذكاته)) فإنه وجده حيًّا حياة مستقرَّة وأدرك ذكاته لم يحلَّ إلا بالتذكية؛ لقوله: ((فإن أمسك عليك فأدركته حيًّا فاذبحه)) . قوله: ((وإن غاب عنك يومًا أو يومين فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فَكُلْ إن شئت)) مفهومه أنه إن وجد فيه أثرًا غير سهمه لا يأكل، وللترمذي والنسائي: ((إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد به أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فَكُلْ منه)) . قوله: وفي رواية: ((اليومين والثلاثة)) وعند مسلم في حديث أبي ثعلبة: ((إذا رميت سهمك فغاب عنك فأدركته فَكُلْ ما لم ينتن)) ، واستدلَّ به على أن الرامي لو أخَّر طلب الصيد عقب الرمي إلى أن يجده أنه يحلُّ، وعن أبي حنيفة: إن أخر ساعة فلم يطلب لم يحلَّ، وإن أتبعه عقب الرمي فوجده ميتًا حلَّ، وعن الشافعي: لا بُدَّ أن يتبعه. قوله: ((وإن وجدته غريقًا في الماء فلا تأكل؛ فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك)) قال الحافظ: وقد صرَّح الرافعي بأن محلَّه لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلاً فقد تمَّت ذكاته، اهـ، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان)) ، قال سالم: "وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: أو كلب حرثٍ، وكان صاحب حرثٍ". قوله: "وكان صاحب حرث" أراد بذلك الإشارة إلى تثبيت رواية أبي هريرة، وأن سبب حفظه لهذه الزيادة أنه كان صاحب زرع، وعن السائب ابن يزيد: "أنه سمع سفيان بن أبي زهير رجلاً من أزدشنوءة، وكان من أصحاب النبي - صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن اقتنى كلبًا لا يغني عنه زرعًا ولا ضرعًا نقص من عمله كل يوم قيراط)) ، قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: إي، ورب هذا المسجد"؛ رواه البخاري. قال ابن عبد البر: في هذا الحديث إباحة اتخاذ الكلاب للصيد والماشية وكذلك الزرع، وكراهة اتخاذها لغير ذلك، إلاَّ أنه يدخل في معنى الصيد وغيره ممَّا ذكر اتِّخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسًا، فتتمخَّض كراهة اتِّخاذها لغير حاجة؛ لما فيه من ترويع الناس، وامتناع دخول الملائكة للبيت الذي هو فيه. قوله: ((فإنه ينقص من أجره كل يومٍ قيراطان)) وفي حديث أبي هريرة: ((فإنه ينقص من عمله كلَّ يومٍ قيراط)) قيل: المراد بالنقص أن الإثم الحاصل باتِّخاذه يوازي قدر قيراط أو قيراطين من عمله، وقيل: نقصان القيراطين باعتبار كثرة الأضرار باتخاذها، ونقص القيراط باعتبار قلته، وقيل: يحتمل أن تكون العقوبة تقع بعدم التوفيق للعمل بمقدار قيراط ممَّا كان يعمله من الخير لو لم يتَّخذ الكلب، وقيل: يسبب النقصان امتناع الملائكة من دخول بيته، أو ما يلحق المارِّين من الأذى أو عقوبة لمخالفة النهي، أو لولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها. وفي الحديث دليلٌ على تكثير الأعمال الصالحة والتحذير من العمل بما ينقصها، وفيه بيان لطف الله - تعالى - بخلقه في إباحة ما لهم به نفع وتبليغ نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لهم أمور معاشهم ومعادهم، وفيه ترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة لوقوع استثناء ما ينتفع به ممَّا حرم اتخاذه، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: "كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي الحُلَيفة من تهامة، فأصاب الناس جوع فأصابوا إبلاً وغنمًا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات القوم فعجلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وذبحوا ونصبوا القدور فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقدور فأُكفِئت ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير، فندَّ منها بعير فطلبوه فأعياهم، وكان في القوم خيل يسيرة، فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه الله، فقال: ((إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ندَّ عليكم منها فاصنعوا به هكذا)) ، قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدًا وليس معنا مدًى، أفنذبح بالقصب؟ قال: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك؛ أمَّا السن فعظم، وأمَّا الظفر فمُدَى الحبشة)) . قوله: "فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقدور فأُكفِئت" عامَلَهم - صلى الله عليه وسلم - من أجل استعجالهم بنقيض قصدهم عقوبةً وزجرًا لهم. قوله: "ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير" هذه قسمة تعديل بالقيمة، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي كما في حديث جابر عند مسلم: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منَّا في بدنة". قوله: "فندَّ منها بعير"؛ أي: شرد وهرب نافرًا. قوله: ((إن لهذه البهائم أوابد)) جمع آبدة، يُقال: أبدت؛ أي: نفرت. قوله: ((فما ندَّ عليكم منها فاصنعوا به هكذا)) ، وللطبراني: ((فاصنعوا به ذلك وكلوه)) ، وفيه جواز أكل ما رُمِي بالسهم وجُرِح في أيِّ موضع كان من جسده، بشرط أن يكون وحشيًّا أو متوحشًا. قال البخاري: وقال ابن عباس: ما أعجزك من البهائم ممَّا في يديك فهو كالصيد، وفي بعير تردَّى في بئرٍ من حيث قدرت عليه فذكِّه، ورأى ذلك عليٌّ وابن عمر عائشة، اهـ. قال الحافظ: وقد نقله ابن المنذر وغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 عن الجمهور. قوله: "إنا لاقو العدو غدًا وليس معنا مدًى" جمع مدية وهي السكين، قيل: مراده أنهم يحتاجون إلى ذبح ما يأكلونه ليتَّقوا به على العدو إذا لقوه، فسأل عن الذي يجزئ في الذبح، وفيه إشارة إلى أن الذبح بالحديد كان متقررًا عندهم جوازه. قوله: ((ما أنهر الدم)) ؛ أي: أساله وصبَّه بكثرة، ((وذكر اسم الله عليه فكلوه)) ، وللطبراني من حديث حذيفة رفعه: ((اذبحوا بكلِّ شيء فرى الأوداج، ما خلا السن والظفر)) وفيه اشتراط التسمية؛ لأنه علَّق الإذن بمجموع الأمرين وهما الإنهار والتسمية، فمَن تركها متعمِّدًا حرمت ذبيحته. قال البخاري: وقال ابن عباس: مَن نسي فلا بأس، وقال - تعالى -: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ، والناسي لا يسمَّى فاسقًا. قوله: ((أمَّا السن فعظم)) ؛ أي: وكل عظم لا يحلُّ الذبح به. قوله: ((وأمَّا الظفر فمُدَى الحبشة)) ؛ أي: وهم كفار، وقد نُهِيتم عن التشبُّه بهم، وقد قالوا: إن الحبشة تُدمِي مذابح الشاة بالظفر حتى تزهق نفسها خنقًا. وفي الحديث من الفوائد أن للإمام عقوبة الرعية بما فيه إتلاف منفعة ونحوها إذا غلبت المصلحة الشرعية، وأن قسمة الغنيمة يجوز فيها التعديل والتقويم، ولا يشترط قسمة كلِّ شيء منها على حِدَة، وأن ما توحَّش من المستأنس يُعطَى حكم الوحشي وبالعكس، وجواز الذبح بما يحصل به المقصود سواء كان حديدًا أو حجرًا أو قصبًا أو خشبًا أو غيره، إلا السن والظفر، وفيه جواز عقر الحيوان النادِّ لِمَن عجز عن ذبحه؛ كالصيد البري والمتوحِّش من الإنسي ويكون جميع أجزائه مذبحًا فإذا أصيب فمات من الإصابة حلَّ، أمَّا المقدور عليه فلا يُباح إلا بالذبح أو النحر إجماعًا، وفيه التنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها فيها، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه إذا قطع الحلقوم والمريء والودجين وأسال الدم حصلت الذكاة وفيه منع الذبح بالسن والظفر متَّصلاً كان أو منفصلاً طاهرًا أو متنجسًا. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 باب الأضاحي الحديث الأول عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشَين أملحَين أقرنَين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما"، قال - رحمه الله -: الأملح الأغبر وهو الذي فيه سواد وبياض. الأصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قال بعض المفسِّرين: المراد به الأضحية بعد صلاة العيد. وروى الترمذي: أن رجلاً سأل ابن عمر عن الأضحية فقال: "ضحَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بعده"، وقال البخاري: وقال ابن عمر: هي سنَّة ومعروف، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحرة في يوم عيد"؛ رواه الدارقطني. قوله: "ضحَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشَين أملحَين أقرنَين" قال البخاري: ويُذكَر: سمينَين. وقال يحيى بن سعيد: سمعت أبا أمامة قال: كنَّا نسمِّن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون، اهـ. (الكبش) : فحل الضأن في أيِّ سن كان، وابتداؤه إذا أثنى، وعن أبي سلمة عن عائشة أو عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشَين عظيمَين سمينَين أقرنَين أملحَين موجوءَين، فذبح أحدهما عن محمد وآل محمد، والآخر عن أمَّته مَن شهد لله بالتوحيد وله بالبلاغ"؛ أخرجه عبد الرزاق؛ والوجاء: الخصاء، وفيه استحباب التضحية بالأقرن، وأنه أفضل من الأجمِّ مع الاتِّفاق على جواز التضحية بالأجمِّ، وفيه أن الذكر في الأضحية أفضل من الأنثى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 قال الماوردي: إن اجتمع حسن المنظر مع طيب المخبر في اللحم فهو أفضل، وإن انفردا فطيب المخبر أَوْلَى من حسن المنظر. قوله: "ذبحهما بيده" فيه استحباب مباشرة المضحِّي الذبح بنفسه، وعن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد ويبرك في سواد، فأضجعه ثم ذبحه، ثم قال: ((بسم الله، اللهم تقبَّل من محمد وآل محمد ومن أمَّة محمد)) ، ثم ضحَّى؛ أخرجه مسلم. قوله: "وسمى وكبَّر ووضع رجله على صفاحهما"، وفي رواية: "فرأيته واضعًا قدمه على صفاحهما يسمِّي ويكبر فذبحهما بيده". وفيه استحباب التكبير مع التسمية، واستحباب وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن، واتَّفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر، فيضع رجله على الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وإمساك رأسها بيده اليسار. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "ضحَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد بكبشَين، فقال حين وجههما: ((وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمِرت وأنا أوَّل المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمَّته)) ؛ رواه ابن ماجه، وبالله التوفيق. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 كتاب الأشربة الحديث الأول عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: "أن عمر قال على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير؛ والخمر ما خامر العقل، ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عهد إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا". قوله: "نزل تحريم الخمر وهي من خمسة"؛ أي: نزل تحريم الخمر في حال كونها تصنع من خمسة، ولمسلم: "ألا وإن الخمر نزل تحريمها وهي من خمسة أشياء"، وأراد عمر بنزول تحريم الخمر قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90- 91] ، فأراد عمر التنبيه على أن الخمر في هذه الآية ليس خاصًّا بالمتَّخذ من العنب، بل يتناول المتخذ من غيرها، وقد روى أصحاب السنن عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة، وإني أنهاكم عن كل مسكر)) ؛ لفظ أبي داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 قوله: "والخمر ما خامَر العقل"؛ أي: غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله، والعقل هو آلة التمييز، قيل: سميت الخمر لأنها تركت حتى اختمرت، واختمارها تغير رائحتها. قوله: "ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عهد إلينا فيهن عهدًا ننتهي إليه"؛ أي: نصًّا؛ لأن الاجتهاد يخطئ ويصيب. قوله: "الجد"؛ يعني: قدر ما يرث؛ لأن الصحابة اختلفوا في ذلك اختلافًا كثيرًا، وقضى فيه عمر بقضايا مختلفة، قال البخاري: وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير: الجد أبٌ، وقرأ ابن عباس: "يا بني آدم - واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب"، ولم يذكر أن أحدًا خالَف أبا بكر في زمانه، وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرون. قوله: "والكلالة" أخرج أبو داود في "المراسيل" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: جاء رجل فقال: يا رسول الله، ما الكلالة؟ قال: ((مَن لم يترك ولدًا ولا والدًا فورثته كلالته)) ، قال ابن دقيق العيد: الكلالة مَن لا أب له ولا ولد عند الجمهور. قوله: "وأبواب من أبواب الربا" قال الحافظ: لعله يشير إلى ربا الفضل؛ لأن ربا النسيئة متفق عليه بين الصحابة، وسياق عمر يدلُّ على أنه كان عنده نصٌّ في بعض من أبواب الربا دون بعض، فلهذا تمنَّى معرفة البقية. وفي الحديث من الفوائد أيضًا ذكر الأحكام على المنبر لتشتهر بين السامعين، والتنبيه على شرف العقل وفضله، وتمنِّي الخير، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن البتع فقال: ((كلُّ شراب أسكر فهو حرام)) . قال - رضي الله عنه -: "البتع": نبيذ العسل. قوله: ((كل شراب أسكر فهو حرام)) ؛ أي: قليله وكثيره، وقدر روى أبو داود والنسائي عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أسكر كثيرُه فقليلُه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 حرام)) ، ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعًا: ((كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام)) ، ولمسلم عن أبي موسى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنَّا نصنعهما باليمن، البتع: من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر من الشعير، والذرة ينبذ حتى يشتد، قال: وكان - صلى الله عليه وسلم - أعطى جوامع الكلم وخواتمه، فقال: ((أنهي عن كل مسكر)) . وفي الحديث أن المفتي يجيب السائل بزيادة عمَّا سأل عنه إذا كان ذلك مما يحتاج إليه السائل، وفيه تحريم كلِّ مسكر سواء كان متخذًا من عصير العنب أو من غيره، قال عبد الله بن المبارك: لا يصحُّ في حلِّ النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة شيء، وقال أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، سمعت المختار بن فلفل يقول: سألت أنسًا فقال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُزَفَّت، وقال: ((كلُّ مسكر حرام)) ، قال: فقلت له صدقت، المسكر حرام، فالشربة والشربتان على الطعام؟ فقال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) . قال الحافظ: واستدلَّ بإطلاق قوله: ((كل مسكر حرام)) على تحريم ما يسكر ولو لم يكن شرابًا، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها، وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدِّرة، وهو مكابرة؛ لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من الطرب والنشوة والمداومة عليها والانهماك فيها، وعلى تقدير أنها ليست بمسكرة فقد ثبت في أبي داود النهي عن كل مسكر ومفتِّر، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: بلغ عمر أن فلانًا باع خمرًا فقال: قاتل الله فلانًا، ألم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 قوله: "قاتل الله فلانًا"، ولمسلم: أن سمرة باع خمرًا، فقال: قاتل الله سمرة، قيل: أخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية، فباعها منهم معتقدًا جواز ذلك، قال الحافظ: يحتمل أن يكون حصلت له عن غنيمة أو غيرها، انتهى. وقيل: إن سمرة علم تحريم الخمر ولم يعلم تحريم بيعها، ولذلك اقتصر على ذمِّه دون عقوبته، وهذا هو الظن به، ووجه تشبيه عمر بيع المسلمين الخمر بيع اليهود المذاب من الشحم الاشتراك في النهي عن تناول كل منهما. وفي الحديث إقالة ذوي الهيئات زلاتهم؛ لأن عمر اكتفى بتلك الكلمة عن مزيد عقوبته، وفيه إبطال الحِيَل والوسائل إلى الحرام، وقد نقل ابن المنذر وغيره في ذلك الإجماع، وفيه أن الشيء إذا حرم عينه حرم ثمنه، وفيه دليل على أن بيع المسلم الخمر من الذمي لا يجوز، وفيه استعمال القياس في الأشياء والنظائر، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 كتاب اللباس الحديث الأول عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلبسوا الحرير فإنه مَن لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) . اللباس من النعم التي أنعم الله بها على عباده، قال الله - تعالى -: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] ، وقال - عزَّ وجلَّ -: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 31- 32] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة)) ؛ رواه البخاري تعليقًا. قوله: ((لا تلبسوا الحرير)) ؛ يعني: الرجال دون النساء؛ لما روى أحمد والنسائي وصححه الترمذي عن أبي موسى، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي، وحرم على ذكورها)) . قوله: ((فإن مَن لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) وفي حديث أنس: ((من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة)) ، وللنسائي قال ابن الزبير: "مَن لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة"، قال الله - تعالى -: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] ، وأخرج أحمد والنسائي عن أبي سعيد رفعه: ((مَن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) ، وزاد: ((وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو)) . قال الحافظ: وأعدل الأقوال أن الفعل المذكور مقتضٍ للعقوبة المذكورة، وقد يتخلَّف ذلك لمانعٍ كالتوبة والحسنة التي توازن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 والمصائب التي تكفر، وكدعاء الولد بشرائط، وكذا شفاعة مَن يؤذن له في الشفاعة، وأعم من ذلك كله عفو أرحم الراحمين. قوله: ((لا تلبسوا الحرير)) يعمُّ النهي لبسه وافتراشه، قال البخاري: وقال عبيدة: هو كلبسه، وعن حذيفة قال: "نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه"؛ رواه البخاري. * * * الحديث الثاني عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) . فيه تحريم لبس الحرير من الديباج وغيره على الذكور، وفيه تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كلِّ مكلف رجلاً كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء؛ لأنه ليس من التزين الذي أبيح لهنَّ في شيء. قال القرطبي وغيره: فيه تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويلحق بهما ما في معناهما؛ مثل التطيُّب والتكحُّل وسائر وجوه الاستعمالات، وبهذا قال الجمهور. قوله: ((فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) ؛ أي: الكفار يستعملونها في الدنيا، ((وهي لكم في الآخرة)) مكافأة لكم على تركها في الدنيا ويمنعها مَن يستعملها في الدنيا جزاء لهم على معصيتهم. * * * الحديث الثالث عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "ما رأيت من ذي لِمَّةٍ في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 حُلَّة حمراء أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له شعر يضرب إلى منكبيه بعيد ما بين المنكبين، ليس بالقصير ولا بالطويل". كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خَلقًا وخُلُقًا، وكان ربعة من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون ليس بأبيض أمهق ولا آدم، له شعر يضرب إلى منكبيه ليس بجعد قَطَطٍ ولا سَبْطٍ، أُنزِل عليه وهو ابن أربعين سنة، فلبث بمكة ثلاث عشرة سنة ينزل عليه وبالمدينة عشر سنين، وقُبِض وليس في رأسه عشرون شعرة بيضاء، قال ربيعة: فرأيت شعرًا من شعره فإذا هو أحمر فسألت فقيل: أحمر من الطيب، وكان وجهه مثل القمر، وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس وأصدق الناس، ولم يكن بخيلاً ولا جبانًا ولا كذوبًا ولا فاحشًا ولا متفحشًا، وكان أشدَّ حياء من العذراء في خدرها، ولم يكن يسرد الحديث سردًا، كان يحدث حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه، وكانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، يقول ناعته: لم أرَ قبله ولا بعده مثله - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ قال الله - تعالى -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] . قوله: "من ذي لِمَّة"؛ أي: صاحب لِمَّة، قال في "الصحاح": الوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن، ثم الجمة، ثم اللمة: وهي التي ألَمَّت بالمنكبين. قوله: "بعيد ما بين المنكبين"؛ أي: عريض أعلى الظهر، ولابن سعد عن أبي هريرة "رحب الصدر"، وعن ابن عباس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحيته من هذه إلى هذه حتى كادت تملأ نحره". قوله: "في حلة حمراء" (الحلة) : إزار ورداء، وفي رواية: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مربوعًا، وقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئًا أحسن منه". وفي الحديث جواز لبس الثوب الأحمر، قال الطبري: الذي أراه جواز لبس الثياب المصبغة بكلِّ لون، إلا أني لا أحب ما كان مشبعًا بالحمرة، ولا لبس الأحمر مطلقًا ظاهرًا فوق الثياب؛ لكونه ليس من ملابس أهل المروءة في زماننا، فإن مراعاة زيِّ الزمان من المروءة ما لم يكن إثمًا، وفي مخالفة الزي ضربٌ من الشهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وقال ابن القيم: كان بعض العلماء يلبس ثوبًا مشبعًا بالحمرة يزعم أنه يتبع السنة وهو غلط؛ فإن الحلة الحمراء من برد اليمن، والبرد لا يصنع أحمر صرفًا، اهـ، والله أعلم. * * * الحديث الرابع عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "أمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبعٍ ونهانا عن سبعٍ: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتم - أو عن التختم - بالذهب، وعن الشرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القسي، وعن لبس الحرير، والإستبرق، والديباج". قوله: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع"؛ أي: سبع خصال، وهي من حقوق المسلمين بعضهم على بعض. قوله: "وإبرار القسم أو المقسم" شك من الراوي وهو فعل ما أراده الجالف ليصير بذلك بارًّا. قوله: "ونهانا عن سبع"؛ أي: خصال. قوله: "وعن المياثر"؛ أي: الحمر، "المياثر": جمع مِيثَرة، قال الطبري: المِيثَرة وطاء يوضع على الفرس أو رحل البعير، كانت النساء تصنعه لأزواجهن من الأرجوان الأحمر ومن الديباج، وكانت مراكب العجم. قال ابن بطال: كلام الطبري يقتضي التسوية في المنع من الركوب عليه سواء كانت من حرير أم من غيره، فكان النهي عنها إذا لم يكن حريرًا للتشبُّه أو للسرف أو التزيُّن، وبحسب ذلك تفصيل الكراهة بين التحريم والتنزيه. قوله: "وعن القَسِّيِّ" نسبة إلى بلد يقال لها: القس، قال البخاري: وقال عاصم، عن أبي بردة: "قلت لعليٍّ: ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة فيها حرير وفيها أمثال الأترج". واستدلَّ بالنهي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 لبس القسي على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب، وذهب الجمهور إلى جواز لبس ما خالطه الحرير إذا كان غير الحرير الأغلب؛ لحديث ابن عباس: "إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب المصمت من الحرير، فأمَّا العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس به"؛ أخرجه الطبراني، وأصله عند أبي داود. قوله: "وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج" الديباج والإستبرق صنفان نفيسان من الحرير، وعطفه على الحرير من عطف الخاص على العام، والله اعلم. * * * الحديث الخامس عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصطنع خاتمًا من ذهب فكان يجعل فصَّة في باطن كفِّه إذا لبسه، فصنع الناس مثل ذلك، ثم إنه جلس على المنبر فنزعه فقال: ((إني كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصه من داخل)) ، فرمى به ثم قال: ((والله لا ألبسه أبدًا)) ، فنبذ الناس خواتيمهم"، وفي لفظ: "جعله في يده اليمنى". قال ابن بطال: ليس في كون فص الخاتم في بطن الكف ولا ظهرها أمر ولا نهي. قوله: "وفي لفظ: جعله في يده اليمنى"، ولمسلم عن أنس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتمًا من فضة في يمينه فصه حبشي"، وعنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان خاتمه من فضة وكان فصه منه"؛ رواه البخاري، وهذا لا يعارض ما قبله فإنه يحمل على التعدُّد، ويحتمل أن يكون فصه من فضة، ونسبته إلى الحبشة لصياغته أو نقشه، واختلفوا هل الأَوْلَى التختُّم في اليمين أو اليسار، والراجح التختُّم في اليمين؛ ليُصَان الخاتم عن الاستنجاء ونحوه. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الحديث السادس عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبعيه: السبابة، والوسطى". ولمسلم: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير، إلا موضع أصبعين أو ثلاثٍ أو أربعٍ". قوله: "نهى عن لبس الحرير إلا هكذا"؛ يعني: الأعلام جمع علم: وهو ما يكون في الثوب من تطريف وتطريز ونحوهما. قوله: "إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع" (أو) هنا للتنويع والتخيير، لا للشك، وللنسائي: "لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربعة أصابع"، واستدلَّ به على جواز لبس الثوب الذي يخالطه من الحرير مقدار العلم سواء كان مجموعًا أو مفرقًا إذا كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع لو كانت منفردة. وعن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -: "أنها أخرجت جبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج"؛ رواه أبو داود وأصله في مسلم. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلَّة يوم القيامة)) ؛ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 كتاب الجهاد الحديث الأول عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس قام فيهم فقال: ((يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)) . الجهاد فرض كفاية، إذا قام به قوم سقط عن الباقين، وهو بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق على مجاهدة النفس والشيطان والفسَّاق، قال أحمد: لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد. وأصل الجهاد في اللغة: المشقَّة، وقد قال الله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] . قوله: "انتظر حتى مالت الشمس" في حديث النعمان بن مقرن عند البخاري: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل أوَّل النهار انتظر حتى تهبّ الأرواح وتحضر الصلاة"، ولأبي داود: "وينزل النصر". قوله: ((لا تتمنوا لقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا)) قال ابن بطال: حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصديق: لأن أُعافَى فأشكر أحبُّ إليَّ من أن أُبتَلي فأصبر، اهـ. وكان عليٌّ يقول: "لا تدع إلى المبارزة فإذا دعيت فأجب تنصر، لأن الداعي باغٍ". قوله: ((واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) قال القرطبي: هو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمِل على ضروب من البلاغة مع الوجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد، والإخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدوِّ واستعمال السيوف، والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين. قوله: ((اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) قال الحافظ: فيه التنبيه على عظم هذه النعم الثلاث؛ فإن بإنزال الكتاب حصلت النعمة الأخروية وهي الإسلام، وبإجراء السحاب حصلت النعمة الدنيوية وهي الرزق، وبهزيمة الأحزاب حصل حفظ النعم وكأنه قال: اللهم كما أنعمت بعظيم النعمتين الأخروية والدنيوية وحفظتهما فأبقهما. وفي الحديث استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار ووصية المقاتلين بما فيه صلاح أمرهم، وتعليمهم بما يحتاجون إليه، وسؤال الله - تعالى - بصفاته الحسنى وبنعمه السالفة، ومراعاة نشاط النفوس لفعل الطاعة والحث على سلوك الأدب، وغير ذلك، اهـ، والله أعلم. * * * الحديث الثاني عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رباط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 (الرباط) : ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم؛ قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] ، قال قتادة: (اصبروا) على طاعة الله، (وصابروا) لانتظار الوعد، (ورابطوا) العدو (واتقوا الله) فيما بينكم. قوله: ((وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خيرٌ من الدنيا وما عليها)) ((الغدوة)) : الخروج أول النهار، ((والروحة)) : الخروج آخره. وروى ابن المبارك عن مرسل الحسن قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا فيهم عبد الله بن رواحة فتأخَّر ليشهد الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم)) ، قال الحافظ: والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد، وأن مَن حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أمر عظيم من جميع ما في الدنيا، فكيف بِمَن حصل منها أعلى الدرجات، والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إل سبب من أسباب الدنيا فنبَّه هذا المتأخِّر أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل من جميع ما في الدنيا، اهـ، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((انتدب الله - ولمسلم: تضمَّن الله - لِمَن خرج في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عليَّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلاً ما نال من أجرٍ أو غنيمة، ومثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بِمَن يجاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 في سبيله - كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله إن توفَّاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالمًا مع أجرٍ أو غنمةٍ)) . قوله: ((انتدب الله)) ؛ أي: سارع بثوابه وحسن جزائه، قال في "الصحاح": ندبت فلانًا لكذا فانتدب؛ أي: أجاب. قال الحافظ: قوله: ((تضمن الله)) ، و ((تكفل الله)) ، و ((انتدب الله)) ، بمعنى واحد، ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] ، وذلك التحقيق على وجه الفضل منه - سبحانه وتعالى - وقد عبَّر - صلى الله عليه وسلم - عن الله - سبحانه وتعالى - بتفضُّله بالثواب بلفظ الضمان ونحوه ممَّا جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئنُّ به نفوسهم. قوله: "لا يخرجه إلا الجهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي" هذا نصٌّ على اشتراط خلوص النية في الجهاد. وقوله: "في سبيلي": فيه عدول من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم، فهو التفات. قوله: "فهو عليَّ ضامن"؛ أي: مضمون. قوله: "أن أدخله الجنة"؛ أي: ساعة موته كما ورد إن أرواح الشهداء تسرح في الجنة. قوله: "أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة"؛ أي: أجر تام إن لم يغنم شيئًا، أو غنيمة معها أجر ناقص؛ لما روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: ((ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تمَّ لهم أجرهم)) . قوله: ((ومثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم بِمَن يجاهد في سيله)) فيه إشارة إلى اعتبار الإخلاص. قوله: ((كمثل الصائم القائم)) شبَّه حال المجاهد في سبيل الله بحال الصائم القائم في نيل الثواب في كلِّ حركة وسكون، فأجره مستمرٌّ كما قال - تعالى -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120- 121] . قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ((وتوكَّل اللهُ)) في رواية: ((وتكفَّل الله)) والمعنى واحد وهو عبارة عن تحقيق هذا الموعود من الله - سبحانه وتعالى. وفي هذا الحديث استعمال التمثيل في الأحكام، وأن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها وإنما يحصل بالنية الخالصة، وبالله التوفيق. * * * الحديث الرابع عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مكلوم يُكلَم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي، اللون لون الدم، والريح ريح المسك)) . (المكلوم) : المجروح، و (الكلم) : الجرح. قوله: ((إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي)) في رواية: ((تكون يوم القيامة كهيئتها إذ طعنت تفجر دمًا)) . قوله: ((اللون لون الدم والريح ريح المسك)) قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله - تعالى - وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد: ((زمِّلوهم بدمائهم)) ، والله أعلم. * * * الحديث الخامس عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غدوة في سبيل الله أو روحة خيرٌ ممَّا طلعت عليه الشمس وغربت)) . * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الحديث السادس عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غدوة في سبيل الله أو روحة خيرٌ من الدنيا وما فيها)) . تقدَّم الكلام على هذين الحديثين في الحديث الثاني، والمراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد، وبالله التوفيق. * * * الحديث السابع عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين، وذكر قصة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قتل قتيلاً له عليه بينة فله سَلَبُه)) ، قالها ثلاثًا. قوله: "وذكر قصة" هي ما روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه، فأقبل علي فضمَّني ضمَّة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت، فأرسلني فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا وجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((مَن قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)) ، فقمت فقلت: مَن يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال: ((مَن قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)) ، فقمت فقلت: مَن يشهد لي؟ ثم جلس، ثم قال الثالثة فقمت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما لك يا أبا قتادة؟)) ، فاقتصصت عليه القصة، فقال رجل: صدق يا رسول الله، وسلبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 عندي فأرضه عنِّي، فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: لاها الله إذًا لا يعمد على أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يعطيك سَلَبَه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صدق وأعطه إياه)) ، فأعطاني، فبعت الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة، فإنه لأوَّل مال تأثلته في الإسلام. قوله: ((مَن قتل قتيلاً له عليه بينة فله سَلَبُه)) (السلب) ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره عند الجمهور فيستحقُّه القاتل سواء قال أمير الجيوش قبل ذلك: "مَن قتل قتيلاً فله سلبه"، أو لم يقل ذلك؛ لأنه فتوى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخبار بالحكم الشرعي، وشرطه أن يكون المقتول من المقاتلة، واتفقوا على أنه لا يقبل قول مَن ادَّعى السلب إلا ببيِّنة تشهد له أنه قتله، ونقل ابن عطية عن أكثر الفقهاء: أن البينة هنا شاهد واحد يكتفي به والله أعلم. وعن عوف بن مالك وخالد بن الوليد - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخمس السلب"؛ رواه أحمد وأبو داود. * * * الحديث الثامن عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عين من المشركين وهو في سفرٍ، فجلس عند أصحابه يتحد ثم انفتل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اطلبوه واقتلوه)) ، فقتله فنفلني سلبه". وفي رواية: ((مَن قتل الرجل؟)) ، فقالوا: ابن الأكوع، فقال له: ((سَلَبُه أجمع)) . قوله: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عين من المشركين" سمى الجاسوس عينًا لأن جلَّ عمله بعينه، ولمسلم: أن ذلك في غزوة هوازن. قوله: "فجلس عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 أصحابه يتحدث ثم انفتل"، وعند مسلم: "فقيد الجمل ثم تقدَّم يتغذى مع القوم، وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة في الظهر إذ خرج يشتد". قوله: ((اطلبوه واقتلوه)) ، ولمسلم: "فأتبعه رجل من أسلم على ناقة ورقاء فخرجت أعدو حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلمَّا وضع ركبته بالأرض اخترطت سيفي فأضرب رأسه فنَدَر، فجئت براحلته وما عليها أقودها، فاستقبلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فقال: ((مَن قتل الرجل؟)) ، قالوا: ابن الأكوع، قال: ((له سَلَبُه أجمع)) ، قال النووي: فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر، وهو باتِّفاق، وأمَّا المعاهد فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك، وعند الشافعية خلاف، أمَّا لو شرط ذلك عليه في عهده فينقض اتفاقًا، انتهى. * * * الحديث التاسع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى نجدٍ فخرجت فيها فأصبنا إبلاً وغنمًا، فبلغت سُهمَاننا اثني عشر بعيرًا، ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرًا بعيرًا". قوله: "فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرًا"؛ أي: بلغ نصيب كلِّ واحد منهم هذا القدر. قوله: "ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرًا بعيرًا" ولأبي داود: "فخرجت فيها فأصبنا نعمًا كثيرًا، وأعطانا أميرنا بعيرًا بعيرًا لكلِّ إنسان، ثم قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل منا اثنا عشر بعيرًا بعد الخمس"، قال النووي: معناه: أن أمير السرية نَفَّلهم فأجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجازت نسبته لكلٍّ منهما، قال ابن دقيق العيد: يستدل به على أن المنقطع من الجيش عن الجيش الذي فيه الإمام ينفرد بمَّا يغنمه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 قال: وإنما قالوا بمشاركة الجيش لهم إذا كانوا قريبًا منهم يلحقهم عونه وغوثه لو احتاجوا، انتهى. وفي الحديث مشروعية التنفيل؛ ومعناه: تخصيص مَن له أثر في الحرب بشيء من المال، قال ابن عبد البر: إن أراد الإمام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه فذلك من الخمس، لا من رأس الغنيمة، وإن انفردت قطعة فأراد أن ينفلها ممَّا غنمت دون سائر الجيش فذلك من غير الخمس، بشرط أن لا يزيد على الثلث اهـ، وفيه أن أمير الجيش إذا فعل مصلحة لم ينقضها الإمام، والله أعلم. * * * الحديث العاشر عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا جمع الله الأوَّلين والآخِرين يرفع لكلِّ غادرٍ لواء، فيُقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) . قوله: ((يرفع لكلِّ غادر لواء)) وفي رواية لمسلم من حديث أبي سعيد: ((يرفع له بقدر غدرته عند أسته)) قال ابن المنير: كأنه عُومِل بنقيض قصده؛ لأن عادة اللواء يكون على الرأس فنصب عند السفل زيادة في فضيحته؛ لأن الأعين غالبًا تمتدُّ إلى الألوية فيكون ذلك سببًا لامتدادها إلى التي بدت له ذلك اليوم فيزداد بها فضيحة. وقال القرطبي: هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل؛ لأنهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته يوم القيامة فيذمه أهل الموقف، انتهى. وفي الحديث غلظ تحريم الغدر سواء كان من برٍّ لفاجر أو من برٍّ لبرٍّ، أو كان من فاجر لبرٍّ أو فاجر ولا سيَّما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدَّى ضرره إلى خلق كثير، وفيه أن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 الحديث الحادي عشر عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن امرأة وُجِدت في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقتولة، فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل النساء والصبيان". فيه تحريم قتل النساء والصبيان إلا لضرورة، وأخرج أبو داود والنسائي من حديث رباح بن الربيع قال: كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فرأى الناس مجتمعين، فرأى امرأة مقتولة، فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل)) ، ومفهومه: أنها لو قاتلت لقتلت، وهو قول الجمهور. وعن الصعب بن جثامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم، قال: ((هم منهم)) ؛ متفق عليه. * * * الحديث الثاني عشر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام، شكيا القمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ لهما، فرخَّص لهما في قميص الحرير فرأيته عليهما". قوله: "فرخَّص لهما في قميص الحرير"، وفي رواية: "في قميصٍ من حرير من حكَّة كانت بهما"، قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن الحكَّة حصلت من القمل فنسبت العلة تارة إلى السبب وتارة إلى سبب السبب، قال: والحكَّة نوع من الجرب، أعاذنا الله - تعالى - منه، اهـ. قال الطبري: فيه دلالة على أن النهي عن لبس الحرير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 لا يدخل فيه مَن كانت به علة يخففها لبس الحرير، والله أعلم. قال المهلب: لباس الحرير في الحرب لإرهاب العدو هو مثل الرخصة في الاختيار في الحرب، اهـ. وعن جابر بن عتيك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن من الغيرة ما يحب الله، ومن الغيرة ما يبغض الله، وإن من الخُيَلاء ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله؛ فأمَّا الغيرة التي يحبها الله: فالغيرة في الريبة، وأمَّا الغيرة التي يبغض الله: فالغيرة في غير الريبة، والخُيَلاء التي يحبُّ الله: فاختيال الرجل بنفسه عند القتال واختياله عند الصدقة، والخيلاء التي يبغض الله: فاختيال الرجل في الفخر والبغي)) ؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي، والله أعلم. * * * الحديث الثالث عشر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "كان أموال بني النضير ممَّا أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ممَّا لم يوجف المسلمون عليه بخيلٍ ولا ركاب، وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصًا، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعزل نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدَّة في سبيل الله - عزَّ وجلَّ". بنو النضير قبيلة كبيرة من اليهود وادَعَهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد قدومه إلى المدينة على ألاَّ يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوَّه، وكانت أموالهم ونخيلهم ومنازلهم بناحية المدينة، فنكثوا العهد، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على الجلاء، وكان ذلك على رأس ستة أشهر من وقعة بدر فصُولِحوا على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، وهي السلاح، فخرجوا إلى الشام ونزلت فيهم سورة الحشر، وتسمى (سورة النضير) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 قوله: "كان أموال بني النضير ممَّا أفاء الله على رسوله" قال الشافعي وغيره من العلماء: الفيء كل ما حصل للمسلمين ممَّا لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، وقال أبو عبيد: حكم الفيء والخراج والجزية واحد، ويلتحق به ما يُؤخَذ من مال أهل الذمة من العشر إذا اتَّجروا في بلاد المسلمين، وهو حق المسلمين يعمُّ به الفقير والغني، وتصرف منه أعطية المقاتلة وأرزاق الذرية، وما ينوب الإمام من جميع ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، واختار البخاري أن مصرف الفيء راجع إلى نظر الإمام بحسب المصلحة وهو قول الجمهور، وقد قال الله - تعالى -: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] ، إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] . وفي الحديث جواز الادِّخار، وأن ذلك لا ينافي التوكل، وفيه جواز اتخاذ العقار واستغلال منفعته، والله الموفق. * * * الحديث الرابع عشر عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "أجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ضمر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع، وأجرى ما لم يضمر من الثنية على مسجد بني زريق، قال ابن عمر: وكنت فيمَن أجرى، قال سفيان: من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل". التضمير معروف، ومنه أن تعلف الخيل حتى تسمن وتقوى، ثم يقلل علفها بقدر القوت، وتدخل بيتًا وتغشى بالجلال حتى تحمي فتعرق، فإذا جفَّ عرقها خف لحمها وقويت على الجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وفي الحديث مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة، وهي دائرةٌ بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك. قال القرطبي: لا اختلاف في جواز السابقة على الخير وغيرها من الدواب، وعلى الإقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة؛ لما في ذلك من التدريب على الحرب، وفيه جواز إضمار الخيل ولا يخفي اختصاص استحباب بالخيل المعدَّة للغزو، وفيه مشروعية الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة، وفيه تنزيل الخلق منازلهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - غاير بين منزلة المضمر وغير المضمر ولو خلطهما لأتعب غير المضمر، اهـ. * * * الحديث الخامس عشر عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "عُرِضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحدٍ، وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في المقاتلة، وعُرِضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني". اتفقوا على أن أحدًا كانت في شوال سنة ثلاث، وفي الحديث دليلٌ على أن مَن استكمل خمس عشرة سنة أُجرِيت عليه أحكام البالغين وإن لم يحتلم، وفيه أن الإمام يستعرض مَن يخرج معه للقتال قبل أن تقع الحرب، فمَن وجده أهلاً استصحبه وإلا ردَّه، والله أعلم. * * * الحديث السادس عشر عنه - يعني: ابن عمر، رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهمًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 النفل يطلق ويراد به ما ينفله الإمام، ويطلق ويراد به الغنيمة، وهو المراد هنا. قوله: "للفرس سهمين وللرجل سهمًا" وفي رواية: "جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا" وقال البخاري: وقال مالك: يسهم للخيل والبراذين منها؛ لقوله - تعالى -: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] ، ولا يُسهِم لأكثر من فرس، اهـ، وهذا قول الجمهور، وقال أحمد: "يسهم لفرسين لا لأكثر"؛ لما روى الأوزاعي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسهم للرجل أكثر من فرسين وإن كان معه عشرة أفراس"، قال ابن بطال: واسم الخيل يقع على البرذون والهجين، وعن أحمد: إن بلغت البراذين مبلغ العربية سوى بينهما، وإلا فُضِّلت العربية. وفي الحديث حضٌّ على اكتساب الخيل واتخاذها للغزو؛ لما فيه من البركة وإعلاء الكلمة وإعظام الشوكة؛ كما قال - تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ... } [الأنفال: 60] الآية، وبالله التوفيق. * * * الحديث السابع عشر عنه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش". فيه مشروعية تنفيل السرايا، وزاد مسلم: "والخمس واجب في ذلك كله"، وعن حبيب بن مسلمة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع بعد الخمس في بداءته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته"؛ رواه أحمد وأبو داود. وقال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دلالة على أن لنظر الإمام مدخلاً في المصالح المتعلقة بالمال أصلاً وتقديرًا على حسب المصلحة على ما اقتضاه حديث حبيب بن مسلمة في الربع والثلث، فإن الرجعة لما كانت أشقَّ على الراجعين وأشد لخوفهم؛ لأن العدو قد كان نذر بهم لقربهم وهو على يقظة من أمرهم اقتضى زيادة التنفيل، والبداءة لما لم يكن فيها هذا المعنى اقتضى تنقيصه ونظر الإمام متقيد بالمصلحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 لا على أن يكون بحسب التشهِّي، وحيث يُقال: إن النظر للإمام، إنما يعني هذا؛ أعني: أن يفعل ما تقتضيه المصلحة لا أن يفعل على حسب التشهِّي، والله اعلم، انتهى. * * * الحديث الثامن عشر عن أبي موسى عبد الله بن قيس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن حمل علينا السلاح فليس منَّا)) . قال الحافظ: معنى الحديث: حمل السلاح على المسلمين لقتالهم به بغير حق؛ لما في ذلك من تخويفهم وإدخال الرعب عليهم، وقال ابن دقيق العيد: فيه دلالة على تحريم قتال المسلمين والتشديد فيه. قوله: ((مَن حمل علينا السلاح فليس منَّا)) قال بعض العلماء: معناه: ليس على طريقتنا، قال الحافظ: والأَوْلَى عند كثير من السلف إطلاق لفظ الخبر من غير تعرُّض لتأويله؛ ليكون أبلغ في الزجر، قال: والوعيد المذكور لا يتناول مَن قاتل البغاة من أهل الحق فيحمل على البغاة، وعلى مَن بدأ بالقتال ظالمًا، اهـ، والله أعلم. * * * الحديث التاسع عشر عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: "سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله - عزَّ وجلَّ)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 قوله: "يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء"، وفي رواية: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمَن في سبيل الله؟ "، قال الحافظ: فالحاصل أن القاتل يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب، وكلٌّ منها يتناوله المدح والذم؛ فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي. قوله: ((مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) قال ابن عباس: كلمة الله: قول: لا إله إلا الله، قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه، اهـ. وفي الحديث أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة، وفيه ذم الحرص على الدنيا وعلى القتال لحظ النفس في غير الطاعة، وفيه أن الفضل الذي ورد في المجاهدين مختصٌّ بِمَن قاتل لإعلاء دين الله، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 كتاب العتق الحديث الأول عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أعتق شركًا له في عبدٍ فكان له ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدلٍ، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)) . العتق في الشرع: تحرير الرقبة وتخليصها من الرقِّ، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 11- 16] . قوله: ((مَن أعتق شركًا له في عبد)) ؛ أي: والأمَة مثله، وفي رواية: ((مَن أعتق شركًا له في مملوك)) . قوله: ((قوم عليه قيمة عدل)) ، زاد مسلم: ((لا وكس ولا شطط)) ، وللنسائي: ((مَن أعتق شركًا له في عبدٍ وله مالٌ يبلغ قيمة أنصباء شركائه فإنه يضمن لشركائه أنصبائهم ويعتق العبد)) . وفي الحديث دليلٌ على أن الموسر إذا أعتق نصيبه من مملوك عتق كله قال ابن عبد البر: لا خلاف في أن التقويم لا يكون إلا على الموسر، اهـ. قيل: الحكمة في التقويم على الموسر أن تكمل حرية العبد لتتمَّ شهادته وحدوده، قال الحافظ: ولعلَّ ذلك هو الحكمة في مشروعية الاستسعاء، والله أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الحديث الثاني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أعتق شقصًا له من مملوك فعليه خلاصه كله في ماله، فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدلٍ، ثم استسعى العبد غير مشقوق عليه)) . قال البخاري: إذا أعتق نصيبًا في عبد وليس له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه على نحو الكتابة، اهـ. قوله: ((غير مشقوق عليه)) ؛ أي: يستسعى العبد في تحصيل القدر الذي يخلص به باقيه من الرقِّ إن قوي على ذلك، ولا تعارض بين هذا وبين حديث ابن عمر، فإن المعسر إذا أعتق حصته لم يسر العتق في حصة شريكه، بل تبقى حصة شريكه على حالها وهي الرق، ثم يستسعى في عتق بقيته، فيحصل ثمن الجزء الذي لشريك سيده ويدفعه إليه ويعتق. قال الحافظ: وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد رجاله ثقات عن أبي قلابة، عن رجل من بني عذرة: أن رجلاً منهم أعتق مملوكًا له عند موته وليس له مال غيره، فأعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلثه وأمره أن يسعى في الثلثين، اهـ، وبالله التوفيق. * * * باب بيع المُدَبَّر الحديث الأول عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "دبر رجل من الأنصار غلامًا له"، وفي لفظ: "بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 من أصحابه أعتق غلامًا له عن دبرٍ لم يكن له مال غيره، فباعه بثمانمائة درهم ثم أرسل بثمنه إليه". (التدبير) : تعلُّق عتق عبده بموته، سمي بذلك لأن الموت دبر الحياة، والأصل فيه السنة والإجماع؛ قال ابن المنذر: أجمع كلُّ مَن أحفظ عنه من أهل العلم على أن مَن دبَّر عبده أو أمَتَه ولم يرجع عن ذلك حتى مات، والمدبر يخرج من ثلث ماله بعد قضاء دين إن كان عليه، وإنفاذ وصاياه إن كان وصى، وكان السيد بالغًا جائز الأمر أن الحرية تجب له أو لها. قوله: "أعتق غلامًا عن دبر لم يكن له مال غيره"، في رواية: "أن رجلاً أعتق غلامًا له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((مَن يشتريه منِّي؟)) فاشتراه نعيم بن عبد الله النحام. قوله: ((ثم أرسل بثمنه إليه)) ، زاد أبو داود: ((أنت أحقُّ بثمنه، والله أغنى عنه)) . وفي الحديث دليل على جواز بيع المُدَبَّر لحاجته لنفقته أو لقضاء دينه. والله - سبحانه وتعالى - أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على النبي الآمين، وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410