الكتاب: أخبار الراضي بالله والمتقي لله = تاريخ الدولة العباسية، من كتاب الأوراق المؤلف: أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله الصولي (المتوفى: 335هـ) المحقق: ج هيورث دن الناشر: مطبعة الصاوي- مصر 1935 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- أخبار الراضي بالله والمتقي لله = تاريخ الدولة العباسية الصولي الكتاب: أخبار الراضي بالله والمتقي لله = تاريخ الدولة العباسية، من كتاب الأوراق المؤلف: أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله الصولي (المتوفى: 335هـ) المحقق: ج هيورث دن الناشر: مطبعة الصاوي- مصر 1935 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: قد فرغنا ولله الحمد من ذكر أَخبار القاهرة والأحداث في أَيامه إِن شاء الله. ولما خلع القاهرة في يوم الأربعاء، لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة أخرج الحجرية والساجية محمد بن المقتدر بالله ويكنى أَبا العباس وأمه أم ولد يقال لها ظلوم في هذا اليوم على ثلاث ساعات من النهار وكان في الخلافة هو وأخوه هارون على سبيل توكيل بهما من القاهرة فأجلسوه على السرير، وبايعوه بالخلافة مختارين له مجتمعين عليه، من غير أَن يواطئهم على ذلك ولا كانت بيعتهم مراسلة فيه إلا ما كان يعلمه من كراهيتهم لأمر القاهر وأنهم في وحيه عليه. وتولى التدبير في ذلك رجل من الساجية، يعرف بسيما المناخلي إلى أن تم، فأجلس محمد بن المقتدر على السرير، وجلس القاهر بالله في بيت بقربهم وأمر الراضي بالتوكل به والاحتياط عليه، ولم يعش المناخلي بعد هذا إلا أقل من مائة يوم. وكنت في هذا اليوم قد أخذت دواء لحاجة إليه، وشيء وجدته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وعلم بذلك الأمير أبو العباس قبل أن يتسمى بالراضي بالله، فجاءني رسوله يأمرني أن أوجه إليه بالأسماء التي ينعت بها الخلفاء، وتكون أوصافاً لهم، وإني لأعجب من إطباق الناس على تسميتها ألقاباً فيقولون لقب بكذا وهذا عندي خطأ، كبير، زلل عظيم، لأن الألقاب مكروهة ومنهي عنها في كتاب الله جل وعلا، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه جل وعز " وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَاب " فوجهت إليه برقعة فيها ثلاثون اسماً، ليختار منها ما يريد، وأشَرت عليه في رقعتي أن يختار منها المرتضى بالله، ولم أشك في اختياره له، وابتدأت من وقتي فعملت أَبياتاً ضادية قافيتها المرتضى، على أني أنشده إِياها وهي: أَثْبَتُ الرَّحْمنُ بالسَّعْدِ المْضُي ... دَوْلَةً قَائِمَةً لاَ تَنْقْضِي لأَبِي الْعَبَّاسِ عَفْواً سَاقَهَا قَدَرُ اللهِ الإِمَامِ الْمُرْتَضِي دَوْلَةٌ يَأْملُهَا كُلُّ الْوَرَى ... مَالَهَا إِنْ ذُكِرَتْ مِنْ مُبْغِضِ كَاَنَ وَجْهُ المُلْكِ مُسْوَدّاً فَقَدْ ... قَابَلَ اللَّحْظَ بِوَجْهٍ أَبْيَضِ يَا أَمِينَ اللهِ يَا مَنْ جُودُهُ ... إِنْ كَبَا دَهْرِي بِحَظِّي مُنْهِضِي غَلَبُ الْوَجْدِ وفِقْدَانُ الرِّضَي ... وكَلاَّ جِسْمِي بِهَمٍّ مُمْرِضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 كانَ حَظِّي بِكَ نَحْوِي مُقْبِلاً ... فَانْثَنَى عَنْهُ بِوَجْهٍ مُعْرِضِ أَقْرَضَ الدَّهْرُ شَبَابِي شَيْبَةً ... لَمْ أَكُنْ أَطْلُبُهَا مِنْ مُقْرِضِ لَيْسَ لِلشُّهْبِ إِذَا مَا جَارَتِ ال ... دُّهْمَ في سَبْقِ الْهَوَى مِنْ رائِضِ أسفَتْ نَفْسِي عَلَى قُرْبِي الَّذي ... كَانَ مِنْ يَومِ احْتِفَالِي مُغْرِضِي لَكَ عَبْدٌ مَسَّهُ بَعْدَكُ مَا ... وَكَّلَ الْجِسْمَ بِدَاءٍ مُحْرِضِ قُضيَ الْبُعْدُ عَلَيْهِ كَارِهاً ... لاَ يَرُدُّ النَّاسُ أَمْراً قَدْ قُضِي كُلَّ يَوْمٍ يَنْتَضِي سَيْفَ أَذًى ... بِالتَّكَاذِيبِ عَلَيْكُمْ مُنْتَضِي مَا يُبَالِي إِذْ رَأَى فِيكَ ألْمَي ... غَضِبَ الدَّهْرُ عَلَيْهِ أَمْ رَضِي وهذه الأَبيات لم تَهَّن بها المدة، ولا راضها الفكر. وإنما قيلت مقتضية فليست بالمختارة، وإن صفرت من العيب. ولولا الحاجة دعت إلى ذكرها ما ذكرتها، وسيمر بعون الله من جيد الشعر في أوقاته ما يعفى عليها إن شاء الله. فلما فرغت منها جاءني رسوله برقعته منه يقول فيها: قد كنت عرفتني أن إبراهيم بن المهدي لما بويع أيام الفتنة بالخلافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 أراد أَن يكون له ولي عهد فأحضروا منصور بن المهدي وسموه المرتضى، وما أَحب أن أتسمى باسم قد وقع لغيري، ولم يتم له أمره، وقد اخترت الراضي بالله، فكنت أشكر الله على ما وفقه له ووهبه فيه فمضى اسمه على ذلك، وما زال الناس يبايعونه بقية يومهم. ووجه من وقته فاستحضر أبا الحسن علي بن عيسى، ومعه أخوه أبو علي عبد الرحمن بن عيسى بالنظر في الأمور، وأراده للوزارة فاحتج بكبر وضعف وأقرها إلى أخيه بذلك، وأن يكون الاسم والخلعة له، ويتولى هو النظر في أمر الملك وتدبير الناس وجباية الأموال على كره منه لذلك وتغلب، لما رأى من تعذر مال البيعة إلا أنه كتب بالبيعة إلى النواحي ونظر في المهم الذي يوجبه الوقت، ومعه أخوه معرفاً له ما يعمل، ومستأذناً له فيه. إلى أن وافت وقعة أبي علي بن مقلة إلى سيما المناخلي، يتضمن له أنه يحتال في وقته خمسمائة ألف دينار يصرفها في الرجال للبيعة، ويتضمن له إن أَتم ذلك خمسمائة ألف دينار لنفسه. وكان المتولي لإيصال الرقعة إلى المناخلي كاتب له حدث، يعرف بعلي بن جعفر وضمن له ألفي دينار معجلة وأضعافها مؤجلة، فصار المناخلي بالرقعة بضمان الخمسمائة ألف دينار إلى الراضي بالله، فلما وقف عليها أحضر علي بن عيسى وأقرأه إياها فقال له: أمير المؤمنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 في هذا الوقت محتاج إلى زكاة هذا المال وما عندي وجه لبعضه! والصواب إن صح هذا المال أن يمضي أمر هذا الرجل ويستكتبه وانصرف فجلس في منزله فكان الراضي بعد ذلك يقول لم يتحصل لنا من الخمسمائة ألف دينار درهم، وأخذ من أموالنا وأموال الناس مثلها. واختير أبو علي محمد بن علي للوزارة يوم السبت لتسع خلون من جمادى الأولى، وخلع عليه وركب الناس معه إلى داره، ولقيني أبو سعيد ابن عمرو الكاتب - كاتب للراضي قبل الخلافة - وكان أخص الناس به فقال لي أمير المؤمنين قد أمرني بإعطائك عشرة آلاف درهم لتقسيمه وما عندي دراهم، فلا تلح علي ودعني أدفعها إليك في مرات قلت فعجل منها ما ترى فأعطاني ثلاثة آلاف درهم ووفانيها بعد شهرين. وبلغ الراضي بالله أن هارون بن غريب خال المقتدر بالله مقبل إلى بغذاذ فكره ذلك وما كان بصافي النية له، لأن الراضي بالله كان في حجر مؤنس المظفر، وكان العباس بن المقتدر في حجر الخال ثم في حجر ابنه هارون بعده، فكان يتهمه بإيثاره عليه. ولأنه كان أيضاً منحرفاً عن جدته شغب أيام حياة أبيه، ثم رأيت من ذكره لها في خلافته وتحننه عليها ما كنت أسمع ضده منه في أيام إمارته، وكذلك عاد منه كل تشعيث كان قديما نفث به في أبيه مدحاً وتقريظاً، ووصف محاسن. وإني لأذكر يوماً في إمارته وهو يقرأ علي شيئاً من شعر بشار وبين يديه كتب لغة وكتب أخبار إذا جاء خدم من خدم جدته السيدة فاخذوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 جميع ما بين يديه من الكتب فجعلوه في منديل دبيقي كان معهم، وما كلمونا بشيءِ ومضوا فرأيته قد وجم لذلك واغتاظ فسكنت منه وقلت له ليس ينبغي أن ينكر الأمير هذا فإنه يقال لهم إن الأمير ينظر في كثير لا ينبغي أن ينظر في مثلها، فأحبوا أن يمتحنوا، ذلك وقد سرني هذا ليروا كل جميل حسن، ومضت ساعات أو نحو ذلك ثم ردوا الكتب بحالها. فقال لهم الراضي قولوا لمن أمركم بهذا قد رأيتم هذه الكتب وإنما هي حديث وفقه ولغة وأخبار وكتب العلماء، ومن كمله الله بالنظر في مثلها وينفعه بها، وليست من كتبكم التي تبالغون فيها مثل عجائب البحر، وحديث سندباد والسنور والفأر. وخفت أن يؤدي الخادم قوله، فيقال: من كان عنده؟ فيذكرني فيلحقني من ذلك ما أكره إلى ما لي عندهم مما سأذكره والسبب فيه في موضعه من أخباره إن شاء الله فقمت إلى الخدم فسألتهم ألا يعيدوا قوله فقالوا: والله ما نحفظه فكيف نعيده! فكتب الراضي بيده إلى هارون بن الخال أن يقيم بمكانه ولا يتجاوز ذلك إلى ناحية الحضرة، ويعده أنه يأذن له في القدوم عليه في الوقت الذي يراه صلاحاً، فكتب جواباً عن هذا الكتاب بأنه جاء محتاطاً مشفقاً من أشياءِ قد بلغته وأقلقته وأقبل حتى نزل النهروان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 فاشتد ذلك على حمد بن ياقوت وكان قد حجبه وملك على الوزير محمد بن علي، فندب الراضي الناس للخروج مع ابن ياقوت لمحاربته من غير أن يرى ابن الخال أنه يحب، قتاله وإنما أحب تأخيره مديدة استيطاراً منه لأنه لم يدر كيف تؤول الأمور. فلقيه ابن ياقوت بنهر يتن بقرب النهروان، فقتله واحتز رأسه فجيء به إلى الراضي فأظهر سروراً بذلك وسلمه إلى أهله فدفن بقرب قبر أبيه في قصر عيسى بن علي في الكرخ في الجانب الغربي. وخلع في يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة على محمد بن ياقوت لقتله ابن الخال وطُوِّقَ وَسُوِّرَ. وخلع في يوم الخميس بعد ذلك بيومين على الوزير محمد بن علي لمعاونته على ذلك. وكان قتل هارون بن غريب في يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الآخرة وإلى هذا الوقت فما ذكر الراضي أحداً من الجلساء ولا جلس ولا كان يشرب النبيذ ولا يوافقه، وكنت أحسن تركه وكان في إمارته ربما اشتهى أن يصل مجالسه ويبر من يحضره ويشرب اليسير منه، فيتأذى بذلك وما زال ذكياً فطناً لقناً لما يسمع يحضره ما يريده من غير فكر فدعا يوماً أخاه هارون وكانا نفساً واحدة في جسمين في أيام أبيهما، مكتبهما واحد وأمرهما واحد، يقدم طباخوه الطعام لهما شهراً ثم يقدمه في الشهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الآخر طباخو أخيه هارون، وكان في حجر نصر الحاجب وكان بره به أكثر من الباقين بالأمراء الذين في حجورهم فدعا يوماً أخاه هارون إلى الثريا فشرب هارون وأحب أن يساعده فدخل النبيذ إلى أن غيره وكان يقرأ علي شعر أبي نواس في تلك الأيام فأنشدت معرضاً به بيتاً أبي ذؤيب: إذَا رَأَتْنِي صَرِيعُ الْخَمْرِ يَوْماً فَرُعْتُهَا يُقْرآنَ إِنَّ الْخَمْرَ شَغْبٌ صِحَابُهَا ففطن لما أردت، فقال لم أقرأتني بالأمس قول أبي نواس: فَمَا الْعَيْشُ إلاًّ أَنْ تَرَانِيّ صَاحِياً وَمَا الْعَمْرُ إلاَّ أَنْ يُتَعْتِعَنِي الْسُّكْرُ ثم قطع، وانصرف، فلما فرغ قلبه من أمر ابن الخال وجه إلى من ها هنا ممن جالس الخلفاء، وممن يصلح أن يجالسني؟ فوجهت إليه: إنه لم يبق ممن جالس الخلفاء غير إسحاق بن المعتمد، وها هنا من رسم بالمجالسة وما جالس بعد، مثل محمد بن عبد الله بن حمدون ومثل ابن المنجم. فقال: قد عزمت على الجلوس وتقدم بإحضار الجماعة، وأمر أن يكون فيهم أحمد بن محمد المعروف بالعروضي، واليزيديان إسحاق وعلي ابنا إبراهيم، وكانا يعلمان الجماعة الخط، وكان العروضي مرسوماً بتأديب أبي إسحاق المتقي بالله أمير المؤمنين، وأخيه علي رسمه بذلك والمعروف بابن غالب، وكانت رياسة التأديب إليه لأن الزجاج النحوي كان ندب لتأديب المقتدر بالله فاستخلفه فغلب على الأمر وحظي به دون الزجاج، ووهب له وأقطع لما ولي المقتدر وما أغناه وكفاه فرسم العروضي بهذين، ورسم أبا عبد الله محمد بن العباس اليزيدي بتأديب الراضي وأخيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 هارون، ورسم لتأديب العباس بن المقتدر رجلاً آخر يعرف بابن غدانة العماني. ثم إن علي بن المقتدر توفي فكان العروضي يصير إلى الراضي وأخيه هارون فيكرمانه، وتوفي اليزيدي وابن غالب قبل خلافة الراضي بالله فلم يكن يجلس إليهما غيره، وغير علي بن إبراهيم اليزيدي، على نوبة وملازمة. ورسم لتأديب عبد الواحد بن المقتدر المعروف بابن الأنباري النحوي فأمر الراضي أن يحضر الجماعة الدار في مستهل رجب سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ليجالسوه وأحضرنا وأمر بأن يكون ترتيب جلوسنا على ما أنا أذكره - رسم أن يكون على يمينه أقربنا إليه إسحاق بن المعتمد، ثم أكون أنا تالياً له، ثم يكون العروضي تالياً له، ثم يكون ابن حمدون تالياً له، ثم يجلس الباقون عن يسرته على ترتيب ربما اختلف. فكنا في المجلس في أول جلسة جلسها أربعة عن يمينه، كما ذكرت وخمسة عن يساره وهم: يوسف وأحمد ابنا يحيى بن المنجم، وعلي بن هارون بن علي بن يحيى واليزيديان إسحاق وعلي ابنا إبراهيم، وكان قد أمرني أن أعمل أبياتي الضادية على قافية المرتضى قصيدة ضادية غيرها على قافية الراضي، فعملتها فلما وصلنا إليه في ذلك اليوم أنشده أحمد بن يحيى وعلي بن هارون قصيدتين يهنيانه فيها بالخلافة ويصفان سرورهما لاغتباطهما فاستمعهما وأظهرا استحسانهما، ثم أمر بإنشاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الضادية فأنشدته أياها، وأنا أذكرها ها هنا لأنها ليست من الشعر الذي يأباه القلب ويمجه السمع، وفيها مدح لابن ياقوت وللوزير وهي: أَصْبَحَ الْمُلْكُ عالياً بأَبي الْعَ ... بَّاسِ أَعْلَى الْمُلُوك بَعْدَ انْخِفَاضِ واسْتَفَاضَ السُّرُورُ في سَائِرِ ال ... نَّاسِ بِمُلْكِ الْمُهَذَّبِ الْفَيَّاضِ رَضِيَ اللهُ هَدْيَهُ فَاصْطَفَاهُ ... فَهُوَ بِاللهِ وَالْمَقَادِيرِ رَاضِي مَنْ غَذَتْهُ الْعُلُومُ يَرْفَعُ مِنْهَا ... فِي جِنَانِ أَنِيقَةٍ ورِيَاضِ كَمُلُ الْفَضْلُ والْفَضَائِلُ فِيهِ ... قَبْلَ عِشْرِينَ مِنْ سِنِيهِ مَوَاضِي فَهُوَ بِالْعِلْمِ والتَّفَرُّغِ فِيهِ ... خَيْرُ آتٍ مِنَ الْمُلُوكِ وَمَاضِي خَطَرَتْ نَحْوَهُ الْخِلافَةُ طَوْعاً ... بِاتِّفاقٍ مِنَ الْوَرَى وَتَرَاضِ واصْطِفاقٍ مِنَ الأَكُفِّ دِرَاكاً ... واجْتِمَاعٍ مَوفٍ وَعَزْمٍ مُفَاضِ مَرِضَ الدِّينُ قَبْلَهُ وَأَتَاهُ ... بَارِئاً عِنْدَهُ مِنَ الأَمْرَاضِ واسْتَلَذَّ الزَّمَانُ إِذْ أَسْفَرَ الْمُلْ ... كُ وَجَلَّى سَوَادَهُ بِبَيَاضِ وَاجِدٌ بِالْعُلُومِ وجْدَ مُحِبٍّ ... رَاعَهُ مَنْ يُحِبُّ بِالإِعْرَاضِ يَرِدُ النَّاسُ مِنْهُ أَغْدَارَ جُودٍ ... طَيِّبُ الْوِرْدِ مُتْرَعُ الأَحْوَاضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 حَمُدوا مِنْ مُحَمَّدٍ حُسْنَ مُلْكٍ ... بِتَقَضِّي حَقِّ الْوَرى وَتَقَاضِي نِعَمٌ لِلْوَلِّي مِنْهُ حَبَاهُ ... وَمَنَايَا عَلَى الْعَدُوِّ مَوَاضِي تَمْلِكُ الْخَطْبَ مِنْهُ عَزْمَةُ رَأْيٍ ... يُذْعِنُ الصَّعْبُ عِنْدَهَا لاِرْتِيَاضِ يَا إمَاماً إِلَيْه حُلَّتْ عُرَى الْفَخْ ... رِ وَفُلَّتْ مَعَاقِدُ الأَغْرَاضِ حَازَ بِالمَكْرُمَاتِ كَامِلَ مَجْدٍ ... عَلِقَ النَّاسُ فِيهِ بِالأَبْعَاضِ وَتَعَالَى عَلَى النُّجُومِ بِبَيْتٍ ... سَامِقِ الْعِزِّ ظَاهِرِ الأَغْرَاضِ حُجَّةُ اللهِ أَتَتْ يَا قْبَلَةَ ال ... دِّينِ فَلَيْسَتْ تُرَدُّ بالإِدْحَاضِ آذَنَ السِّيْفُ مَنْ عَصَاكَ مَن ال ... نَّاسِ بِهُلْك وَاشِكٍ وانْقِراضِ وَبِثُقْلٍ مِنَ الْعَذَابِ وَوِزْرٍ ... يَنْقُضُ الظَّهْرَ أَيَّمَا إِنْقَاضِ لَسْتُ ممَّنْ يُرِيدُ بِالْمَدْحِ حَالاً يَبْسُطُ الْجَاهَ مِنْهُ بَعْدَ إِنْقِبَاضِ قَدْ تَرَوَّيْتُ مِنْ نَوَالِ إمَامٍ ... لَسْتُ مَا عِشْتُ فِيهِ بِالمُعْتَاضِ بِشْرُهُ زَائِدُ الْعَطَاءِ كَمَا الْبَرْ ... قُ دَلِيلُ الْغُيُوثِ بالإِيمَاضِ وَتَقَدَّمْتُ فِي مَديحِي لَهُ النَّا ... سَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ ذَوِي الإِبْغَاضِ وافْتَرَعْتُ الأَبْكَارَ مِنْ عِزَّةِ الشِّعْ ... رِ فَذَلَّلْتُ صَعْبَهَا بِافْتِضَاضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وَعَذَابِي بِطَوْلٍ مِنْهُ فِي سَا ... بِقِ أَيَّامِي الطِّوَالِ الْعِراضِ جَاءَ عَفْواً بِلاَ سُؤَالٍ وَلاَ وَعْ ... دٍ وَلاَ مُذَكِّرٍ بِهِ مُتَقَاضِي صَافِياً مِنْ تَكَدَّرِ الْمَطْلِ يَجْرِي ... جَرْيَ مَاءٍ صَافٍ عَلَى رَضْرَاضِ وَتَشَرَّفْتُ بِالجُلُوسِ لَدَيْهِ ... بِحَدِيثٍ يَلْتَذُّهُ مُسْتَفَاضِ وَبَلَغْتُ الْمُنَى وَبَشَّرَنِي ال ... نَّاسُ بِثَوْبٍ مِنَ الْغِنَى فَضْفَاضِ وَتَبَدَّلْتُ بالتَّذَلُّلِ عِزّاً ... آذَنَ الْهَمُّ عِنْدَهُ بِانْفْضَاضِ وَاطْمَأَنَّ الْفِرَاشُ مِنْ بَعْدِ أَنْ جَا ... نَبَ جَنْيِ تَجَنُّبَ النُّهَّاضِ واسْتَرَدَّ الْعَدُوُّ وُكْدِي وَعَادَتْ ... أَعْيُنُ السُّخْطِ وَهِيَ عَنِّيَ رَواضِي لاَ أَرى مُزْعَجاً نَوَالِي وَإنْ ... أَبْطَأً عَنِّي جنَاهُ بالإِيْغاضِ لاَ وَلاَ خَاطباً بِذَمِّ زَمَانٍ ... أَتَشَكَّى مِنْهُ نُدُوبَ عِضاضِ قَدْ كَفانِي الإِمَامُ مَا قَدْ عَنَانِي ... وانْتَضَانِي مِنْ خَلَّةِ الانْفَاضِ واجْتَنَيْتُ الْغِنيَ بِمَدْحِيَ غَضّاً ... مِنْ أَيَادٍ لَهُ رِطَابٍ غِضَاضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 لَم أَجُبْ نَحْوَهُ الْفَلاَةَ وَلاَ أَقْ ... بَلْتُ نِقْضاً أَهْوَى عَلَى أَنْقَاضِ تَتَرَامَى بِيَ الْمَفَاقِرُ طَوْراً ... واعْتِراضاً كَرَمْيَةِ الْمِعْرَاضِ بَعْدَ أَنْ حَلَّتِ النُّحُوسُ مَحَلِّي ... وَهَوَى نَجْمُ أَسْعُدِي لانِقِضَاضِ فَتَكَ الْيَأْسِ بِي فأَهْدَى صُدُوداً ... مِنْ وَصُول كَفَتْكَةِ البْرَّاضِ وَأَرانِي تَحَيُّفُ الْهَجْرِ لِلطَّيْ ... رِ بِمَا نَسَّي تَحَيُّف الْمِقَراضِ واقْتَضَانِي دَيْنَ الشَّبَابِ مَشِيبٌ ... فِيهِ عَسْفٌ لَهُ وقُبْحُ تَقَاضِي عَجَبي لَهُ كَيْفَ أَوْجَبَ ذَنْباً ... لَمْ يَكُنْ عَنْ تَسَلُّفٍ واقْتِراَضِ ظَالِمٌ مُنْصِفٌ سَرِيعٌ بَطيءٌ ... سَابِقٌ رَكْضُهُ بِغَيْرِ ارْتِكَاضِ فَتَسَوَّدْتُ بِالْبَيَاضِ وَعُذ ... تُ بِهِ عَنْ وصَالِ بِيَضٍ بِضَاضِ وَاكْتَسَيْتُ الْوقَارَ بالْكُرهِ مِنِّي ... وَنَضَتْ بِشْرَتِي لَيَالٍ نَوَاضِي وأَتَتْنِي قَوَارِضٌ مِنْ أُنَاسٍ ... مِثْلُ وَقْعِ الشِّهَابِ فِي الأَغْراضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 كُلِّ وَاهِي الْقُوَى نَؤُومٍ إِذَا مَا ... نَهَضَ النَّاسُ للْعُلَى رَبَّاضِ تَرَكَتْنِي لِمَا أُحَاذُرِ مِنْهَا ... حَرَضاً هَالِكاً مِنَ الأَحْرَاضِ عَلَم اللهُ مَا الَّذي كُنْتُ أَلْقَى ... فيكُمُ مِنْ تَأَلُّمٍ وَامْتِعَاضِ لَمْ أَذُقْ مُذْ رَكبْتُ رَاحِلَةْ الْ ... خَوْفِ إلىَ لَذَّةَ إِلإِغْمَاضِ لاَ أُطِيقُ الدِّفَاعَ عَنْكَ وَلاَ ... أَمْلِكُ غَيْرَ الْهُمُومِ والإِرْتِمَاضِ زَأَرَتْنِي أُسُودُ حِقْدٍ عَلَيْكُمُ ... لَمْ تُغَيِّبْ بِغَابَةٍ وَغِياضِ وَفَرَانِي الزَّمَانُ مِنْهُ بِنَابٍ ... بَعْدَكُمْ مُرْهَفِ الشَّبَّا عَضَّاضِ وَانْتَحَى آكِلاً لِلَحْمِي وَرَضَّ الْ ... عَظْمِ مِنِّي بِكَلْكَلٍ رَضَّاضِ واكْتَحَلْتُ السُّهَاد والْحَذَرَ ال ... دَّائِمَ خَوْفاً بِمَرْوَدٍ مَضَّاضِ مِنْ حَسُودٍ مُنَافِسٍ لِي عَلَيْكُمْ ... لِبِحَارِ أَغتِيابِكُمْ خَوَّاضِ مُبْغِضٍ لِي لَما أُسَيِّرُ فِيكُمْ ... مِنْ مَدِيحٍ عَلَى الأَذى حَضَّاضِ فأَرَانِي الإِلهُ مَا كُنْتُ أَرْجُو ... هُ وعُوِّضْتُ أَحْسَنَ الإِعْتياضِ يَا إِمَامَ الْهُدَى اسْتَمِعْ لِوَلِيٍّ ... سَائِرٍ فِي مَديحِكُمْ رَكَّاضِ بَذْلُ النَّفْسِ وَاجِبٌ لَكَ مَحْضُ ال ... نُّصْحِ مِنْ أُسْرَةٍ لَكُمْ أَمْحَاضِ كُلُّ عَاصٍ بِجِلْدَتِهِ العُ ... رُّ هَانِئُوهُ بِالخَضْخَاضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 يَفْضُلُ النَّاسِ في الشَّجَاعَةِ وَالْبأْ ... سِ كَفَضْلِ الدَّيْسِ لابْنِ مَخَاضِ قِبْلَةُ الْحَرْبِ حينَ تَجْتَنَبُ الْحَرْ ... بُ وَتَرْدَى خُيَولهُهَا في الْعِرَاضِ عَضَّدَ الْمُلْكَ فيهِ بالأَيِّدِ الْ ... عَالِمِ شَافِي الْمَحْلِ بالإِحْمَاضِ بَاذِلُ الرَّأْي سَالِكٍ شَعْبَ عَزْمٍ ... مَا الْمَصَاعِيبُ فِيهِ كالأَحْفَاضِ أَخْصَبَتْ أَرْبُعُ الْوَرَى بإِمَامٍ ... قَاتِلِ الْمَحَلِ جَابِرِ الْمُنْهَاضِ عَرَفَ النَّاسُ فَضْلَهُ مِثْلَ مَا يُعْ ... رَفُ قَصْدُ السِّهَامِ بالأَنْبَاضِ مَنْ رأَى حُبَّهُ كَنَافِلَةِ الْ ... فَرْضِ فَإِنِّي أَرَاهُ كالإفْتِرَاضِ أَيَّدَ اللهُ مُلْكَهُ بِوَزِيرٍ ... مُسْتَقِلٍّ برَأْيِهِ نَهَّاضِ عَالم بِالزَّمَانِ قَدْ رَاض مِنْهُ ... جَامِحاً آبياً عَلَى الرُّوَّاضِ لَمْ يَطُفْ بِالْيَقِينِ مِنْ ظَنِّهِ ال ... شَّكُّ وَلاَ حَالَ دُونَهُ بِاعْتِرَاضِ ضَرَبٌ في لُهَى وَلِيِّكَ مَاضٍ ... وسَهُادٌ عَلَى عَدُوِّكَ قَاضِي نَاصِحٌ لَمْ يَخُضْ ضَحَاضِحَ غِشِّ ... فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي مَعَ الْخُوَّاضِ مَوَّلَ اللهُ بَيْتَ مَالِكَ مِنْهُ ... باجْتِمَاعٍ مِنْهُ لاَ بارْفِضَاضِ غَيْرَ مَا حَافِلٍ إِذَا انْتَحَلَ النُّصْ ... حَ بِشَكْوَى مُغَاضِبٍ أَوْ مُرَاضِي مِنْ أُنَاسٍ أَقَلاَمُهُمْ أَسْهُمُ الْمُلْ ... كِ وَلَكِنَّهَا بِغَيْرِ وِفاضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 جَامعَاتٍ لِلأَمْرِ بَعْدَ افْتِراقٍ ... جَابِرَاتٍ لِلْعَظْمِ بَعْدَ انْهِيَاضِ مَا رَأْتْ سَاعياً على الْبَيْنِ إِلاَّ ... قَيَّدَتْ سَعْيَهُ بِغَيْرِ الاْيَاضِ نَفَثَتْ بِالْمِدَادِ سُمّاً عَلَيْه ... نَفْثَ أَنْيَابِ حَيَّةٍ نَبنَاضِ فَابْقَ يَا سَيِّدَ الْمُلُوكِ لَهُ تُبْ ... رِمُ بِالرَّأْي مِنْهُ كُلَّ انِتْقَاضِ وَتَمَلَّ النَّيْرُوزَ تِسْعِينَ عَاماً ... سَامِياً والْعَدُوِّ ذُوِ إِعْضَاضِ فقال - وكان عالماً بالشعر ناقداً -: ما أعرف مثل هذه الضادية لقديم ولا محدث وإنها لحُمَتُكَ رميت بها كما كانت - قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإِلهُ فَجُبْرِ - حمة العجاج رمى بها فقلت له يبقى الله سيدنا وها هنا حماةَ مثلها كثيرة. وكان من أول ما خاطبنا به أَن قال: والله لقد جاءني هذا الأمر وما شرعت فيه ولا أحببته، ولا علم الله ذاك مني في سر ولا علانية، لا جهلاً مني ما فيه من الشرف والجلالة لكني لتغير الأحوال وقلة الأموال وكلب الجند وخاب الدنيا وإنه يستصحبني من الغم والأسف والغيظ والاهتمام أكثر مما يؤمل من السرور واللذة، فما أجد في زماني مياسير من الكتاب والتجار بحمل بمثلهم الملك ويلجأ المهم إليهم مثل ابن الجصاص في التجار ومن يقاربه، وأرجو أن يعينني الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 بجميل نيتي، فقد ضقت ذرعا بما دفعت إليه فقلت له إذن يعينك الله يا أمير المؤمنين، ويوفقك بشهادة من رسول الله صلى الله عليه بذلك ووعد به قال وكيف ذاك؟ قلت: حدثنا إبراهيم بن عبد الله النميري قال حدثنا حجاج بن منهال عن المبارك بن فضالة عن الحسن بن أبي الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال قال لي رسول الله صلى الله عليه يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أَعطيتها عن مسئلة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسئلة أعنت عليها. فقال لي: قد والله سرني الله بهذا الحديث ولست أشك الآن في عون الله وتوفيقه إياي. ثم قطع المجلس، قطعه ما لقيه من إعنات القاهر له وخوفه لقتله أباه في ليله ونهاره وما دفع إليه من مداراة من لا تعرف طريقته ولا يوثق بدينه، ولا بعقله ولا تؤمن بوائقه، ولا ترضى خلائقه. إلى أن قال أليس بابن المعتضد؟ وأخ المقتدر وعم لنا؟ هذا والله عار لا يرحض وعيب لا يزال ثم نبهتنا سهامة. فقلت قد أزال الله عن سيدنا كل عيب وألحق به كل حسن، وله في رسول الله صلى الله عليه أسوة حسنة هذا عمه أبو لهب أنزل الله عن وجل فيه وفي امرأته سورة من القرآن يعرفها كل إنسان ويلفظ بها كل لسان فما ألحقه عاره وقد ولده جد رسول الله عبد المطلب، وهذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 كان يهجوه قبل إسلامه ثم أسلم وشهد حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وحسن أثره وما زال محموداً مرضياً إلى أن توفي ويقول له حسان بن ثابت وكان كافراً: أَبُوكَ أَبٌ حُرٌّ وأُمُّكَ حُرَّةٌ ... وَقَدْ يلِدُ الْحُرَّانِ غَيْرَ نَجِيبِ فَلاَ يَعْجَبَنَّ النَّاسُ مِنْكَ ومِنْهُمَا ... فَما خَبَثٌ مِنْ فِضَّة بعَجِيبِ فقال لي قد والله سرني جميع ما جرى وأراني طريق المسلاة واعتقني من هم كان قد ملكني وغلب علي. أعلمت أن الناس يظنون أن هذا من قول حسان، إنما هو لأبي سفيان صخر بن حرب. وأنا قد كنت أظن ذلك حتى عرفتنيه فقلت له. إن حسان هجاه بقصيدة فيها بيت يقال إنه ما سمع بهجاء قط أنصف منه، وهو قوله: هَجَوْتَ مُحَمَّداً فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعَنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ أَتَهْجُوهُ وَلَسْتُ لَهُ بِمِثلٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِداءُ هذا أَنصف بيت قيل قط من هجاء قال الصولي: وما حكيت من ألفاظه التي مرت، وما أحكيه من كلامه بعد فهو كما أحيكه أو شبهه أو مقارب، إذ كنت لا أقدر على أن أحفظ لفظه على حروفه وأنا أحفظ معناه. وكان والله إذا جمع نفسه وأحضر خاطره كأنه ينطق بلسان المنصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 إذا أراد الكلام في معنى من المعاني، كذلك خيل إلى. أو المأمون من بلاغته وحسن سلوكه سبل المعاني وما أخطأه من شيء فلن يخطئه أن يكون أحسن الناس علماً، بالشعر ونقداً له كما ينقده العلماء به، وإنه من أطبع ملوك بني العباس في الشعر وأكثرهم شعراً وأكرمهم عشرة لجلسائه وما رأيت ولا سمعت بخليفة أحسن منه أخلاقاً ولا أسمح بكل شيءِ بالمالِ والطعام حتى يفرط، وبالثياب والطيب ما بخل بشيء قط ولا تعاظمه شيءِ يهبه ولولا إتباعه لشهوته كثيراً، عالماَ بما في ذلك من العيب محتملاً له على بصيرة لظننت أنه لا يقدم أحد عليه. فكنا بين يديه في ذلك اليوم ثلاث ساعات من الليل نشرب وكان هو لا يشرب، قد ترك النبيذ جملة ثم انصرفنا وكان النوروز في تلك الأيام فجلس على بركة مرصصة الجوانب والمجاري حسنة قد عملها وأحضرنا فجلسنا حول البركة وملئت ماء وأمر فرمى فيها بمثقلات كافور كبار وصغار، ثم قال لنا كل من وقف بين يديه مثقلة فهي له فوقفت بين يدي بعضنا مثقلة وقدام بعضنا مثقلتان أنا منهم وقفت لي صغيرة وكبيرة باعهما لي ابن خزابة بثلاثة آلاف درهم ودفع إلينا ندا كثيراً وعنبراً، ووصل الجماعة بصلات مختلفة على أقدارهم عنده. ثم واصل الجلوس بعد ذلك إلى أن كثر شغب الحجرية والساجية في طلب المال فقطع الجلوس معنا مدة لئلا يقولوا إنه مشغول بلذاته. ولما قبض على القاهر حبس في بيت وطولب بأموال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فلم يقر بشيء وكأنه عرف ماله عند الراضي لسوء ما كان يعامله به فعذب عذاباً شديداً فما أنعم بشيء فأمر بعض الناس فكحله فأعماه وتردد المكروه عليه فما أقر بشيء ووجد له مال يسير وآلة فأخذت وحسن وفاء زيرك له فأعجب ذلك للراضي فاصطنعه وحسنت خدمته له فتمكنت عنده حاله وغلب عليه فأحسن إليه إحساناً كثيراً وأقطعه البستان المعروف بالشفيعي ووهب له من أنواع الطيب ما كان أمله يقصر عن مثله، وكذا من الجواهر والبلور وآلة الذهب والفضة - وما رأيت البلور عند ملك أكثر منه عند الراضي، ولا عمل ملك منه ما عمل ولا بذل في أثمانه ما بذل حتى اجتمع منه له ما لم يجتمع لملك قط. وعظم في أول أيام الراضي أمر مرداويج السلمي بأصبهان، وتحدث الناس عنه أنه يريد تشعيث الدولة وقصد بغداد وأنه لمساهم لصاحب البحرين مجتمع معه على ما يحاوله، ثم ورد الخبر بأن غلمانه قتلوه وأن رئيس الغلمان غلام يعرف ببجكم، وأنه خرج عن أَصبهان ومعه جماعة من الأتراك قد رضوا به صاحباً لهم ورئيساً عليهم، فزعم ابن ياقوت أنه هو الذي دبر ذلك وكاتب فيه الغلمان ووجه برسل إليهم يحضهم على ذلك ويرغبهم في حسن الفائدة عليهم في العاجل من جهة الخليفة، وفي الثواب بطاعتهم للخليفة ونفذت كتبه إلي بحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 والغلمان بتحقيق ظنونهم، والتقدم إليهم لقصد مولاهم وقتله ليبلغ لهم ما أملوه. ودخل ابنا المنجم أحمد بن يحيى وعلي بن هارون فأنشدا الراضي في يوم خميس شعراً يهنيانه بهذا الفتح، وتخلفت أنا لشيء وجدته ثم دخلت إلى الراضي في يوم السبت بعد الخميس بيومين وأنشدته: ضَحِكَ الدَّهْرُ بعد طُول عُبُوسِ ... طَالعاً بالسُّعُودِ لاَ بالنُّحُوسِ وأَتَتْنا الأيَّامُ معْتَذراتٍ ... لابسَاتٍ نعيمَها بعدَ بُوسِ بالإِمامِ الرَّاضِي الْمُطلِّ على الآ ... داب شَمْسِ الْمُلُوك وابِن الشُّمُوسِ سَبْعَةٌ مِنْ خَلاَئِفِ ولَدُوهُ ... لَمْ يكُنْ ذَا لغيره مِنْ رَئِيسِ رَضِيَ الرَّاضِي الإِلَهُ لِمُلْكٍ ... أَوْضَحَ النَّهجَ مِنْهُ بَعْدَ الدُّرُوسِ فهو كالخِصْبِ بَعْدَ وافِدِ جَدْبٍ ... رُعِيَ الغَضُّ مِنْهُ بعدَ الْيَبيسِ آنسَ اللهُ بالخليفةِ مُلْكاً ... مَوحِشَ الرَّبْعِ وَاهِنَ التَّأْسِيسِ فَهُوَ يخْتالُ فِي الْجَدِيدِ مِنَ اللِّبْ ... سَةِ والْحُسْنِ بَعْدَ لُبْسِ الدَّرِيسِ يَا نَسيمَ الْحَيَاةِ أَضْحَكْتَ دَهْراً ... كان لَوْ لاْكَ دَائِمَ التَّعْبِيسِ أَنَّ أيَّامَكَ اللِّذَاذَ كَوَصْلِ الْ ... حِبِّ طِيباً وَنوْمَةِ التَّعْرِيسِ مَرْدَوَاجُ بِسَيْفِ حَظِّكَ مَفْتُو ... لٌ فَأَهْوِنْ بِذَاكَ منْ مَرْمُوسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 قَصَفْتُه رِيَاحُ أَيَّامِكَ الْغُ ... رِّ فَأَخْمَدْنَ مِنْهُ نَارَ الْمَجُوسِ ثُلَّ عَرْشُ اللَّعِينِ أَسْرَعَ مِمَّا ... سُلِبَ الْعَرْشَ مِنْ يَدَيْ بِلْقِيسِ وَتَوَلَّتْ بِمَأْتَمِ الدَّهْرِ أَيَّا ... مٌ أَتَتْنَا تَجُرُّ ذَيْلَ الْعَرُوسِ بَعْدَ كُفْرٍ لِنِعْمَةٍ وَقَبِيحٌ ... كُفْرُ عَبْدٍ في نِعْمَةٍ مَغْمُوسِ وَجَزى الْمُسْلِمِينَ تَؤْخَذُ قَسْراً ... بِخُرُوجٍ عَلَيْهِمُ وَمُكُوسِ حَابسُ الْمَالِ عَنْهُمْ مُسْتَضَامٌ ... باتِّسَاعِ الأَذَى وضِيقِ الْحُبُوسِ وكأَنَّ الْعِيالَ إِذْ فَقَدُوهُمْ ... أُنْشِرُوا في الْبِلاَدِ بَعْدَ الُّرمُوسِ وكَأَنِّي بِهِمْ حَمَايِلَ إِقْبَا ... لٍ طَوِيلِي الإِطْرَاقِ والتَّنْكِيسِ حَسَّهْمُ سَيفُكُ الحُسَامُ فأَضْحَوْا ... هُمَّدًا مِنْهُ مَا لَهُمْ مِنْ حَسِيسِ يَا حُلِيَّ الزَّمَانِ يَا زينَةَ الأَرْ ... ضِ وَرَأْسُ الْمُلُوك وَابْنَ الرُّءُوسِ إِنَّ نُصْحِي وَصِدْقَ وَدِّي قَدِيمٌ ... لَمْ أَشُبْهُ بِالزُّورِ وَالتَّدْلِيسِ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ الزَّمانُ شَبابِي ... خَالِساً غُرَّتِي بِشَعْرٍ خَلِيسِ مَا أُطيلُ الْمَقاَلَ خَوْفاً لإِضْجاً ... رِ إمَامٍ مُؤَيَّدٍ مَحْرُوسِ وَأَرَى النَّاسَ أُظْهِرُوا بِمَدِيحٍ ... لِيَ مِنْهُ البُكُورُ بالتَّغْلِيسِ رُبَّ بَذْلٍ سَقَيْتَنِي مِنْهُ كَأْساً ... فَأَعِدْ مُدَارَ تِلكَ الْكُئُوسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 حِينَ شَرَّفْتَنِي فَكُنْتُ بِنُعْمَا ... كَ جَلِيساً مِنْ قَبْلِ كُلِّ جَلِيسِ ثُمَّ أَفْرَدْتَنِي خُصُوصاً بِبِرٍّ ... مُفْرَدٍ طَاهِرٍ مِنَ التَّدْنِيسِ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْن دَهْرِيَ حَرْبَاً ... جَاوَزَتْ حَرْبَ دَاحِسٍ وَالْبَسُوسِ أَنَا منْهُ لغَيْرِ هَجْرٍ وَوَصْلٍ ... وَاقِفٌ بَيْنَ لَوْعَةٍ ورَسِيسِ فَاعْتَبِرْ مَا شَكَاهُ عَبْدُكَ مِنْهُ ... ثُمَّ دَاوِ الْخُنَاقَ بِالتَّنْفِيسِ هُوَ في مِخْلَبِ الزَّمَانِ فَرِيسٌ ... فَارْحَمِ الآنَ نَفْسَ هَذَا الْفَرِيسِ وَاسْقِهِ مِنْ سُلاَفِ جَودِكَ بَذْلاً ... فَاقَ طِيباً سُلاَفَةَ الْخَنْدَرِيسِ يُطْلَقُ الشِّعْرُ فِي أُناسٍ وَشِعْرِي ... وَقْفُ مَدْحٍ عَلَى الإِمَامِ حَبِيسِ لَمْ تَزَلْ فِي القَدِيمِ تَلْبَسُ مِنْهُ ... مُسْتَجَدَّ الطِّرَازِ غَيْرَ لَبِيسِ لاَ أُعَلِّي بِهِ لعُلْوَةَ فِكْراً ... فِي مَشِيبٍ لَهَا وَلاَ لِلْعَمِيسِ مِدَحٌ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا زِيادٌ ... وَهُوَ خَاشٍ رَدَى أَبِي قَابُوسِ لاَ وَلاَ حَاكَ مِثْلَهُنَّ جَرِيرٌ ... عِنْدَ إِيحَاشِ رَبْعِهِ الْمَأْنُوسِ قَامَ هذَا الْمَدِيحِ بِالعُذْرِ مِنِّي ... نَائِباً عَنْ نَشيدِ يَوْمِ الْخَمِيسِ فَالْقْهُ بِالنَّجَاح يَا أَكْرَمَ الأُمَّ ... ةِ أُعْطِي بِهِ يَمِينَ غَمُوسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 لِيَ سَبْقُ الْمَدِيحِ فِيكَ عَلَى النَّا ... سِ وَفَخْرٌ بِالسَّبْقِ فِي التَّأْسِيسِ هِيَ حالٌ لَيْسَ الشَّبَابُ وإِنْ فُضِّ ... لَ خَيْراً فِيهَا مِن التَّعْنِيسِ يَا إِمَاماً بِهِ أُمَّرتْ عُرَى الْحَ ... قِّ وَحُلَّتْ مَعَاقِدُ التَّلْبِيسِ أَيَّدَ اللهُ مُلْكُه بِوَزِيرٍ ... عَالِمٍ بِالزَّمَانِ طَبٍّ رَئِيسِ ضَامِنٍ بِالْوَفَاءِ مِنْهُ رضَى الل ... هِ بِحْفظِ الرَّئيسِ والْمَرْءُوسِ ظَمِئَ الْمُلْكُ قَبْلَهُ فَسَقَاهُ ... رِيَّهُ مِنْ زُلاَلِ نُصْحٍ مَسُوسِ حَاصِدٍ لِلْعِدَى بِأَقْلاَمِ رَأْيٍ ... تَقْطَعُ السيفَ عَنْدَ حَمْيِ الْوَطِيسِ كَيْدُهُ وَافِدٌ عَلَيْهِمْ بِيَوْمٍ ... قَمْطَرِيرٍ بِمَا يَشُقُّ عَبُوسِ بَانَ فَضْلاً عَلَى الكُفَاةِ كَمَا با ... نَ عَلَى ابْنِ اللَّبُونِ فَضْلُ السَّدِيسِ طَابَ أَصْلاً وَبابْنْه طَابَ فَرْعاً ... غَرَس الْمُلْكُ منه خَيْرَ عَريس قَدْ أَمَرَّ الزَّمَانُ طَوْعاً عَلَيْهِ ... فَسَخَا بَعْدَ نَفْرَةٍ وَشُمُوسِ فَتَرَى النَّاسَ خَاضِعِينَ إِلَيْهِ ... مِنْ قِيَامٍ بِأَمْرِهِ وَجُلُوسِ أَمْتَعَ اللهُ بالْوَزِيرِ إِمَاماً ... خُصَّ مِنْ نُصْحِهِ بِعلْقٍ نَفِيسِ وَأَطَالَ الْبَقَاءَ لِلْمَلِكِ الرَّا ... ضِي إِلَهُ أَصْفَاهُ وُدَّ النُّفُوسِ وقد يعلم الله تعالى أَن الراضي بالله في حال إِمارته وأخاه هارون لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أَمر نصر الحاجب أن يتقدم إلى بخدمتهما، وإن يجعل على نوبة لهما يومين في كل أسبوع ففعل ذلك دخلت إليهما ذكيين فطنين عاقلين إلا أنهما خاليان من العلوم، فعاتبت ابن غالب مؤدبهما على ذلك وكان الراضي أَذكاهما وأحرصهما على الأدب، فحببت العلم إِليهما واشتريت لهما من كتب الفقه والشعر واللغة والأخبار قطعة حسنة فتنافسا في ذلك وعمل كل منهما خزانة لكتبه وقرآ علي الأخبار والأشعار فقلت إن الحديث أولى بكما وانفع لكما من هذه وهو أولى أن يبتدأ به وجئتهما بأعلى من بقي من الزمان إسناداً، وهو أبو القاسم ابن بنت منيع، واختلف إليهما مجالس ونسخت لهما علو حديثه ومشايخه، مثل علي بن الجعد وابن عائشة وأبي نصر التمار، وجميع علوه ومختار حديثه، واحتجنا إلى أن نبره بدنانير، فوجه إلى من جهة والدتهما والله ما عندنا دنانير لهذا المحدث، ولا بنا حاجة إلى مجيئه، فعرفت نصرا الحاجب ذلك فقال خذ له من مالي كل شيء يريده فأوصل إليه في مدة شهرين أربعمائة دينار. وقرآ علي من كتب اللغة كتباً كثيرة منها خلق الإنسان للأَصمعي فمضى خدم سمعوا ذلك إلى المقتدر وإلى والدته، فقالوا لهما: إن الصولي يعلمهما أسماء الفرج والذكر فدعا المقتدر نصرا الحاجب فعرفه ذلك، ودعاني نصر الحاجب. وكان من أحسن الناس عقلاً، فسألني عن ذلك، فعرفته السبب فيه فقال: جئني بالكتاب، فجئته فعرفه وعرفته أن هذا من العلوم التي لا بد للفقهاء والقضاة منها، وأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 يلجأون إلى أهل اللغة فيها فأخذ الكتاب وأدخله إلى المقتدر وعرفه ما عرفته فأزال كل شيءِ خفته. ثم قلت للراضي بالله قد أمرت أن تجلس في غد ليملك بحضرتك ابن الجواليقي بدار السيدة، وقد وعدوا جماعة فيهم الحسين بن إسماعيل المحاملي، وسيبكر إلى هاهنا في غد فارفع مجلسه وأقبل عليه وانبسط في مذاكرته، وإني أحب أن يسمع الناس وصفك والثناء عليك من مثله، ففعل جميع ذلك، ثم حضرت وانقضى أمر الإِملاك، فأخذ المحاملي بيد أبي بكر الخرقي، وقال ما رأيت في أهل هذا البيت شيخاً ولا كهلاً ولا حدثا يشبه هذا الفتى يقول حدثنا وأخبرنا وينشد ويعرب، وهذا كله من فعل هذا - وأومأ إِليّ - فأحب أن تتحمل رسالتي إلى القهرمانة ريدان. وتقول لها ما الذي فعلتم بمن صير هذا الأمير في هذا الحال، فقلت أنا لأبي بكر الله يعلم ما أفعل هذا إلا الله عز وجل، لأني أقول لعلهما أن يليا من أمور المسلمين شيئاً فينفعهم الله بهما. وجعلت أَقتضي أبا بكر الجواب فدفعني القاضي فقالت لي: إن هذه المحاسن من هذا الرجل عند السيدة ومن يخدمها مساوئ فقل له عني يا هذا، ما نريد أن يكون أولادنا أدباء ولا علماء، وهذا أبوهم قد رأينا كل ما نحب فيه وليس بعالم. فاعمل على ذلك فأتيت نصرا الحاجب فأخبرته بذلك فبكى، وقال: كيف نفلح مع قوم هذه نياتهم! فقلت والله ما أعود إليهما بعد هذا. فقال ولا لك حظ في ذلك. ولكن امض ساعة في الأيام ثم اقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وكان ابن أبي الساج في هذا الوقت بواسط عازماً على لقاء القرامطة، وكنت أنفذت إليه رسالة طويلة في كتاب عملته له أوصيته فيه بالمطاولة، وهي رسالة حسنة - قد سرقها الناس مني - تجمع ضروبا من العلوم فجاءني جوابه مع كاتب له يعرف بابن حراشة، وفي آخر الكتاب. وقد بلغني خبرك وقول من قال لا نريد أن يكون أولادنا علماء وإنا لله على ما بلى الناس به، وأفزعني ذلك وخفت أن يظن أني المبدي لهذا، والمتكلم به فصرت إلى نصر الحاجب فعرفته ذلك، فقال إن لابن أبي الساج خدماً في الدار، لا يخفون عنه الأنفاس، وهذا فإنما علمه من جهتهم، فسكنت نفسي إلى ذلك وانقطعت عنهم، وكان لهم بعدي هنة سر لحجبتهم لها كل أحد، وكان ثم قوم قد نفسوا على موضعي منهم. وكان الراضي وعدني بفص كنت استحسنته فكتبت إليه بقصيدة أسأله فيها التوجيه إلى بالفص، فكتب إلي إنما أتفرخ بما يرد على من جهتك، فاكتب إلي بشعر صادي قافيته الفص فعملت القصيدة وكتبت بها إليه وهي: أَلا قُلْ لَخِيْرِ النَّاسِ نَفْساً وَوَالِداً وَرَهْطاً وَأجْدَاداً مَقَالَةَ مُخْتَصِّ مَحمَّدٍ الْمَأْمُولِ وَالْمُقْتَدَي بهِ الْأَمِيرِ أبي الْعَبَّاسِ ذِي الْفَضْلِ النَّقْصِ وَمَنْ جَمَعَ الآدَابَ بَعْدَ افْتِراقَهِا وَثَقَّفَهَا بِالْبَحْثِ مِنْهُ وبِالْفَحْصِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 دقِيقِ حَوَاشِي الذّهْنِ هُذِّبَ طَبْعُهُ وَمُحِّصَ فِي قُرْبِ الْمَدَى أَيَّمَا مَحْصِ بَعِيدِ الْقَبُولِ مِنْ حَسُودِ مُكَاشِرٍ ... تَخَلَّفَ عَنْ بِالنَّزْغِ والْفَرْصِ لِئَنْ سَاغَ لِي أَكْلِي وَشُرْبِي فَإِنَّني كَذِي شَرَقٍ مِنْ غَيْبَتِي عَنْهُ مُغْتَصِّ وَقَدْ كُنْتُ ذَا حَظٍّ لَدَيْهِ وَزُلْفَةٍ فَجَاءَ الَّذِي حَاذَرْتُ فِيهِ عَلَى غَفْصِ بِفَسْخِ الَّذِي سَدَّى وأَلْحَمَ بَاطِلاً ... وَقَد وَقَصَاهُ عَاجِلاً أَيَّمَا وَقْصِ مِنَ أكْلُبِ خُوِزَسَتانَ نَغْلٌ مُحَقَّرٌ ضَئِيلٌ خَفِيٌ الشَّخْصِ فِي صُورَةِ الدَّرْص وَأَلْهَبَ مِنهُ الْجَمْرَ بِالنَّفْخِ حَابِلٌ عَلُوقٌ بِأَذْنَابِ الأَكَاذِيبِ كَالشَّصِّ بَنُو مُعْوَرَاتِ الطُّرْقِ جَاءُوا بِعَوْرَةٍ ذَوُو الآنْفِ الذَّكَّاءِ والأَعْيُنِ الرُّمْصِ أَولُوا بِظَنةٍ فِي بَاطِلٍ وتَكَذُّبٍ ... وَصِدْقُهُمُ يَأْوِي إلَى أَبْطُنٍ خُمْص فَمَا أَسْنَدُوا قَوْلاً إلَي ذِي تَمَاسُكٍ ولاَ شَيَّدُوا زُورَ الْمَقَالِ عَلَى إِصِ وَبِالْقَصْرِ قَوْمٌ إِنْ رَأَوْنَا تَبَلَّغُوا وَحَطُّوا لَنَا الأَعْيَاقَ كَالرَّخَمِ الْقُصِ تَلاَقَتْ بِتَأَلِيبٍ عَلْينَا جُفُونُهُمْ وَفَرَّقَتِ الأَقْوَالَ بِالثَّلْبِ والْغَمْصِ وَمَا قَبُلوا نُصْحَ الْعَرُوضِيِّ فِي الَّذِي رآهُ وَرَصُّوا إفْكَهُمْ أَيّمَا رَصِّ وَقَدْ هَطَلَتْهُ غَيْبَةٌ مِنْ سَحَابِهِمْ وَكَالُوا لَهُ صَاعاً مِنَ النَّثِّ والْقَصّ وَهَبَّ لهُ فِي بُعْدِه لَكَ قَاصِفٌ ... مِنَ الْحزْنِ يُنْئِي عَنْكَ بَلْ بُقْصِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فَغَصَّ بِشُربٍ مِنْ فِرَاقِكَ آجنٍ ... عَصُوفٍ بِجَدْوَاهُ أَمَرَّ مِنَ الْعَفْصِ وَإِنْ أَنْجَزَ الإِمْكَانُ يَوْماً بِجَلْسَةٍ لَدَيْكَ أَتَاكَ الْقَوْلُ بِالشَرْحِ واللَّخْصِ فَأَدْنَيْتَ حَقّاً قَدْ أُطِيحَ بِشَخْصِهِ إلَى نزَوَانِ الْقَوْمِ بِالزُّورِ والْقَنْصِ فَأَقْتَبَلُ الْعَيْشَ الْغَرِيرَ بِقُرْبِكُمْ وَأَسْحَبُ فِي لَذَّاتِهِ أَذْيُلَ الْقُمْصِ بِحَقّ أَفَاضَ الْقَلْبُ فَاضِل شَرْبَةٍ مِنَ الهَمِّ حَتَّى جَاءَنِي الأَمْرُ مِنْ فَصِّ وَأَطْلَعَ شَخْصُ الْحَقِّ عنْدَكَ وَجْهَهُ إلَى أَنْ يَقُودَ الْقُرْبُ مَنْطِقَ مُسْتَقْصِي تَحَيَّفَنِي رَيْبُ الزَّمَانِ بِبُعْدكُمْ تَحَيُّفَ مِقْراضِ الْمُجَازِفِ فِي الْقَصِّ إِلَيْكَ تَرَامَتْ بِي الأَمَانِي هِمَّةٌ ... عَلَى لُحُق الأَقْرَابِ ضَامِرَةٍ حُصِّ وَخُوصٍ سَقَتْهَا الآلَ كَأْسُ هَجِيرِهِ فَأَفْنَتْهُ بِالْوَجْدِ الْمُواشِكِ والرَّقْصِ إلَى ابْنِ الَّذِي أَحْيَا الْبَرِيَّةَ عَدْلُهُ فَشُبِّهَ بِالْفَارُوقِ فِيهمْ أَبِي حَفْصِ وَقَدْ كَانَ لِي وَعْدٌ عَلَيْكَ بِخَاتَمٍ عَلُوقٍ بِلَحْظِ الْعَيْنِ مُسْتَمْلَح الشَّخْصِ شَرِيف إِذَا ما رفعوه لسيد ... تعاظم واستعلى به شرف الفص فَلاَ أَنَا طَالَعْتُ الأَمِيرَ بِذْكِرهِ بِتَعْرِيضِ قَوْلٍ فِي الْخِطَابِ وَلاَ نَصِّ وَلاَ أَنْجَدَتْنِي مِنْهُ فِي ذَاكَ حُظْوَةٌ تُذَكِّرُ إِنْجَازاً وَلَسْتُ بذِي حِرْصِ وإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يُسَرِّيَ لُبْسُهُ فَيَأْخُذَ مِنْهُ اللَّبْسَ أَخْذَةَ مُقْتَصِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وَإِن لَمْ يَكُنْ كَرْعٌ يُقَاوِمُ غُلَّتِي بِرِيٍّ قَنَعَا فِيه بِالرَّشْفِ والْمَصِّ إِذا لَمْ يَكُنْ كُلُّ الَّذِي يَشْتَهِي الْفَتَى فَفِي الرَّأَيِ أَنْ يَرْضَى ويَقَنَعَ بالَشِّقْصِ وَلَسْتُ كَمَنْ يُمْضِي عَلَى الظَّنَّ حَكْمَهُ وَيَجْعَلُ إِسْنَادَ الرِّجَالِ إلىَ حَصِّ وإِنِّي لأُغلِي الْمَدْحَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي يُغَالِي بِإِعَطَاء وَلَسْتُ بِذِي نَقْصِ بِذِي هامَ قَلْبٌ لاَ بِخَرِيَدةٍ بِهَا ... يَميسُ بِهَا غُصْنٌ رَطِيبُ عَلَى دعْصِ صَليبَهُ عَزْمٍ الْقَلْبِ كَالصَّخْرِ قَلْبُهَا عَلَى أَنَّهُ يَكْتَنُّ فِي جَسَدٍ رَخْصِ وَلاَ بِشَمُولِ لَذَّةِ الطَّعْمِ قَرْقَفٍ ... مَنَاسِبُهَا في كَركْينَ وَالْقُفْصِ فَلَوْ كَانَ في حِمْصٍ يُرَجَّى شَبِيهُهُ ... لَسَاقَ مَطَايَايَ الرِّجَالُ إليَ حِمْصِ أَمِيلُ إلَى شُرْبِ الْكِرَامِ بِغُلَّتي ... وَلَسْتُ لأَوْشَالِ اللِّئَامَ بِمُمْتَصِّ فَقُولُوا لِمَنْ قَاسَ الأَمِيرَ بِغَيْرِهِ تَأَيَّدْ فَمَا الْكَيْلُ الْمُحَصَّلَ كَالخَرْصِ تَيَمَّمْتَ زَوراً فِي الْمَقَالِ وَبَاطِلاً لَدَى خُرْقٍ سَادَ الصُّخُورَ عَلَى رَهْصِ مَحَاسِنُ هَذَا الْخَلْقِ مِنْكَ ابْتَداؤُها وَيْجْذُبَها ذُو كُلْفَة مِنْكَ كَاللِّصِّ كَذَا الْمَجْدُ لاَ بِالْمَالِ يُجْمَعُ شَمْلُهُ وبِالدُّورِ شِيدَتْ بِالقَرَامِيدِ وَالْجِصِّ فَلاَ زِلْتَ للدَّهْرِ الْمُمَلَّكِ مَالِكاً يَطيعُكَ فِيمَا تَشْتَهِيهِ وَلاَ يَعْصِي وَحُزْتَ مِنَ الأَعْمَارِ أَقْصَى نِهَايَةٍ تفُوتُ مَدَى الإِحْصَاءِ فِيهَا يَدُ الْمُحصِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فوجه بخاتم فصه ياقوت سما نجوني ووجه معه بصلة، وكتب إلى ما أعرف والله مثل هذه الصادية لأحد، وقد بخستك في القيمة اضطراراً لا اختيار إلى أن يستقيم الزمان إن شاء الله. وإِنما آتى من الأشعار التي قلتها في الراضي بطرف للحاجة إلى المعنى الذي قيلت فيه، وإلا فالشعر كثير فيه، وقد أتيت في عملي أخبار المقتدر بشيء يسير منه، إلا أنني آمل أن لا يستهجن الأدباء ما أورد منه لصلاحه وصفوته، وصعوبة قوافيه، وسلامته مع ذلك من تكلف يهجنه، وسخافة لفظ ترذله إن شاء الله. وتمزق الأمر بين محمد بن ياقوت ومحمد بن علي بن مقلة، واستبد ابن ياقوت بالأمر دونه، ولم يمض أمراً إلا بتوقيعه، ونظر في الأموال، ورمى بأكثر أمره إلى كاتبه محمد بن أحمد القراريطي، إلى أن أظهر الوزير إطباق دواته، وترك النظر في شيء البتة، فإذا اضطر أن يوقع في أَعماله أو ينظر في أمر مال عرضت توقيعاته على ابن ياقوت فما أراد أمضاءه رضيه وقع فيه بإمضائه وما لم يرده لم يوقع فيه فبطل، ولم يلتفت إلى توقيع غيره، فما زال الوزير يعمل في أمره حتى قبض عليه وأنا أذكر ذلك في حوادث السنين إن شاء الله. وكنا ليلة نشرب مع الراضي، فوصلنا وجيء برغيف كبير بحرف وافر قد عمل من ند فرمى به إلينا، وقال انتهبوه فبدروني، فاستلبوه دوني وسخفوا وتبذلوا حتى تكشف واحد منهم، وكل ذلك بعينه فسألته العوض فقال صف أمرك معهم وصف الزبيدية فإنك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 مشغوف بها، وأنا على العبور عليها حتى أَعوضك وانصرفت فعلمت في ذلك قصيدة زائية هي من خير زائية قيلت قط، فلذلك أذكرها وكان ذلك في أيام النيروز وهي: بَارَكَ اللهُ لِلأَمِيرِ أَبِي الْ ... عَبَّاسِ خَيْرِ الْمُلُوكِ فِي النَّيْرُوزِ وَأَرَاهُ أَوْلاَدَهُ الْغُرَّ أَجْدَا ... داً بِمُلْكٍ نَامٍ وَعِزٍّ عَزِيزِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وبَالْجُودِ فِيهِ ... مِنْ ابْرِويزَ وَمِنْ فَيْرُوزِ لَهُمُ فِي الْهِلالِ هُرْمُزُروزٍ ... وَلَنَا الدَّهْرِ فِيكَ هُرْمُزُرُوزِ فَاقْتَبِلْ جِدَّةَ الزَّمَانِ بِعَامٍ ... بَارِزٍ بِاللُّجِيْنِ وَلابْرِيزِ ضَاحِكَاتٍ أَيَّامُهُ طَائِعَاتٍ ... طَاعَةَ الْحبِّ بَعْدَ طُولِ النّشُوزِ وَاقْضِ حَقَّ النَّيْرُوزِ فيه بِكَأْسِ ... مُزْعَجٍ سَقْيُهَا بكَأْسٍ وَكُوزِ فِيهِ نَقْشٌ مُلَوَّنُ مِنْ يَدَيْ مَنْ ... لَمْ تَشُبْهُ مَعَايِبُ التَّلْوِيزِ طَلَعَتْ شَمْسُ وَجْهِهِ تَحْتِ دَاجِيَ ال ... شَّعَرِ الْجَعْدِ صِبْغَةَ الشِّيرُوزِ مِنْ عُقَارٍ تَرَى الْفَتِيَّةَ مِنْهَا ... عَجَزَتْ عَنْ كَمَالِ حُسْنِ الْعَجُوزِ يَشْتَكِي كَرْمُهَا الأُوَامَ لَدَى الْقَطْ ... فِ وَمَا زَالَ كَارِعاً في البُرُوزِ وعَلَى مُقْبِلٍ مِنَ السَّعْدِ مَحْجُو ... بٍ عَنِ النَّحْس والأَذَىَ مَحْجُوزِ بِالزَّبَيْدِيَّةِ الْمُشَهَّرَةِ الْحُسْ ... نِ وَحَوْزِ الَّلَذَاذَةِ الْمَاحُوزِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وصُنَوفٍ مِنَ الْجَوَاهِرِ تَبْدُو ... كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كَنْزِهَا المَكْنُوزِ يَاسَمِينَ حكَى قُرَاضَةَ تِبْرٍ ... فَتَقُوا طِيبَهُ بِمَرْمَاحُوزِ يَضْحَكُ الْوَرْدُ عْنْدَهُ بَيْن نِسْرِي ... نَ وَبُسْتَانُ لعنُهم آيْرُوز ورِياحٍ مِنَ الرِّياحِين أدَّتْ ... نشرَ مِسْكٍ بعَنْبر مَعْرُوز وبها من حَمَاحمٍ هَامُ رَنْجٍ ... مُشْرفات الطُّلَى على سينيز ومياهٍ يَشْكو الْجَداول أَبْساً ... لم تَمَزِّقْهُ حادثاتُ النُّزُورِ وبنا رِنْجِها المَحَمَّلِ تِبْراً ... ومياه منْ آسها الْمَجزُوزِ ونخيلٍ ترفَّع النَّوْعُ منها ... عن حِوار الأَنْفَالِ والشَّهْرِيز وبها الطَّلْعُ مثْلُ بِيضِ أَكُفٍّ ... بَرَزَتْ من مَخَصَّرات القُزُوز وتجافَتْ عَنْها الجُفوفُ فشُبِّهْ ... ن كَمَاماً مفَتَّقات الدُّرُوز كَمْ زمانٍ مضَى بها مُسْتَلَذٍّ ... لَيْلنُا فيه مثلُ لَيْل الحَزِيز قَبْلَ أَن تَرْحَلَ البوارحُ عنَّا ... وتُحَطَّ الرِّحَالُ من تَمَّوز رضِيَ الرَّاضِيَ الإِلهُ لمُلْك ... عَزَّزَ الدَّينَ أيَّما تعزيز فهُوَ بالله في مَحَلِّ أَمانٍ ... تَحتَ حِرْزٍ من القَضاء حَريز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أَيَّد اللهُ مُلكَه بنَصيحٍ ... رازَ منه الزَّمانَ أَذكى مَروز بوَزير مؤَيَّد الرَّأْي قَدْ حا ... زَ بيُمْن التَّدبير خَيْرَ مَحُوز فكنُوزُ الآباءِ ثابتَةٌ منْهُ ... كُلُّ يوم مُجَدَّدٍ يكنُوزِ قَلَمٌ يملكُ الوَرَى فهو أَمْضى ... من حُسامٍ على الأَعادي جَرُوز ومن السَّهْمِ حينَ يَسْتَلِبُ الْعُمْ ... رَ اخْتِطافاً وعاملٍ مَجْلُوزِ حَتَفَ اللهُ مَرْدَواجَ بحدّ ... منْهُ في أَنْفُس الوَرَى مَرْكُوز كم عَدْوٍّ أَبادَهُ غيْرَ مَقْبُو ... نٍ بَمَرْدَى الرَّدَى ولا مَجْنُوز وكذا يَسْتَمرُّ في كُلِّ عاصٍ ... وَنَبِيطٍ لهُمْ عُتاةٍ وخُوز عَرُزُوا كالْجَرَادِ نَسْلَ فسادٍ ... مَحَقَ الله ذاكَ منْ تَغْرِيزِ فهو كالشَّهدِ للنَّصيحِ المُوَالِي ... وَكَسَيْفٍ عَلَى العِدَا مَهْزُوزِ لم يَضقْ بالأُمور صَدْراً ولا أَصْ ... بَحَ فيها كحائر مَلْهُوز وعَليٌّ كذاك غَيْرُ ظنِينٍ ... في مُراعاتَه ولا مَلْمُوز بَلْ يُنادِي الأَعْدَاءَ منْهُ برَأْي ... غَيْرِ مُسْتَنْقَصٍ ولا مَغْمُوز فَرِداءُ الشَّباب ضَافٍ عَلَيْهِ ... وهو ذو حُنْكَة ورأيٍ مَريز كم عدُوٍّ يبيتُ منهُ على ص ... حَّةِ جسمٍ بلَيْلَةٍ الْمَنْكُوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يا أَجلَّ المُلوك عَقْلاً وعلْماً ... مفَرَدَ السبق غَيْرَما مَلْزُوز لَكَ عَبْدٌ كَساكَ فاخِرَ مَدْحٍ ... رَائِقِ لُبْسُهُ لِبَاسَ الخُزُوز لم يَشِنْهُ ذكُر السَّبَاسِبِ والوَصْ ... فُ لعيسِ تَحْتَ الرِّحال جَمُوز من قوافٍ علَى سِواهُ صِعَاب ... سُبَّقِ الْجَرْي ظاهرات البُرُوز خَطَرْت نَحْوَكَ القَوَافِي بِمَدْحٍ ... غيرِ مُسْتَهْجَنٍ ولا مَكْزُوز بَيْن صادٍ وبَيْن ضادٍ وسينٍ ... ثُمَّ زايٍ مُبينةٍ التَّبْريز سائلُ الطَّبْع مُشْرقُ اللَّفْظ سَهْلٌ ... ما تُغَشِّيه ظُلْمَةُ التَّكْزيز فائضٌ ماؤُه يجيءُ مُطيعاً ... غيرَ مُسْتَجْلَب ولا مَنْحَوز يَرْجعُ الشِّعْرُ عَنْهُ حِين يُسامِي ... هِ بأَنفٍ مُجَدَّعٍ مَحْزُوز مَن يَرُمْ نَسْجَ مثْله تَخْتَطفْهُ ... لامعاتٌ من ذلك التَّطْريز قَصَّرَ الْمُخْلِفُ المُعَلَّمُ عَنْ فَيْ ... ض صَيُودٍ مُعاوِدِ التَّكْزيز وكذا لاَ يُقاسُ بَيْنَ خَسِيفٍ ... فائضٌ عِدُّهَا بِبِئْرٍ نَكُوز جُزْتُ فيه مَيْدَان قَوْمٍ أَراهُمْ ... شُعَراءً بالْخَطِّ والتَّجْوِيز يَسْتَمِيزُونَ لَفْظَ غَيْرهم في ... هـ غِلاباً كَغَارة التَّكْليز بقَوَافٍ مَدُوسَةٍ ومَعانٍ ... مَخْلِقاتٍ ومَنْطِقٍ مَرْمُوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وَكَزُوهُ ليَلْحقُوهُ فَآبُوا ... بِقَصِيرٍ عنِ المَدَى مَوْكُوز حُرِموا الطَّبْعَ صاغرينَ فَسَارُوا ... منْ طَريق إليَهْ غيرِ مَجُوزِ عَجَبٌ والقَضادُ يَقْعِد ذا الْقُ ... وَّةِ عَنْ خُطْوِةِ الضَّعِيفِ الْعَجِيز كيف يحوِي التَّجْويدَ صاحبُ قَلْبٍ ... مُوَجعٍ من تَأَسُّفٍ مَوْحُوز لا أَرَى كارعاً لَهُمْ في إناء ... لا ولا في بحارِهِمْ ذا نُهُوز ليس لي غَلَّةٌ تَحَصَّلُ ممَّا ... في موازينهم ولا في قَفيز لاَ وَلاَ في أَرضهم قِيدُ شِبْرٍ ... في وِهادٍ لَهُمْ ولا في نُشُوز دَرَّةُ العُزْرِ هامِيَاتٌ عَلَيْهِمْ ... وَلَنَا دَرَّةُ القَطُوعِ الْعَزُوز غَرَّزُوا أَرجُلَ الطَّمَاعَةِ فِي رُكْ ... بٍ أَخَسَّتْ مِقْدَارَهُمْ وغُرُوزِ لَوْ يكونُ التَّجْويدُ دارَ ثَوَاءٍ ... لَمْ يَجوزُوا منها مدى الدَّهْلِيْزِ قُلْتُ إِذْ جُوِّزَتْ بغَيْر انْتِقَاب ... لَكِ حَظٌّ الْقِنَاعِ فِينا فجُوزي فازَ مْنُهْم جَمَاعَةٌ بأَناسٍ ... واتِّكَالِي عَلَيْكَ في التَّفْويز لَسَتُ أَرْجُو سواكَ بعدَ إلهي ... عِنْدَ تَقْصِيدِهِمْ ولا التَّرجِيز وَوَزِيرَيْنِ جَهَّزِانِي بجُودٍ ... تَعَّشَانِي بذَلِكَ التَّجْهِيزِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 حِينَ عَيَّ الزَّمانُ عن ذِكْرِ حَظِّي ... جَبَرَاً فاقَتِي بِجَودٍ وجِيز أَنتَ أَدْرَى بالشِّعْر من قائلِيهِ ... فاقضِ فِيهِ بالْحَزْم والتَّعْجيز وكذا العِلْمُ بالمحرَّكِ والسَّا ... كِنِ في نَحْوِهِمْ وبالمَهْمُوز لَيْس إلاَّ الَّذي يَضُمُّهُمُ المَجْلِسُ للإِنْتِحالِ والتَّمْييز فَهُمُ قَوْقَ مَنْ يَرَى قَوْلَ حَقٍّ ... غيرَ مُسْتَنْكَرٍ ولا مَنْهُوز فأَجِزْنِي بِقَدْرِ علمِكَ بالأَشْ ... عار يا خَيْرَ مُنْعِمٍ ومُجيز بِدَنانِيرَ لا أَحَالُ على الْجِهْ ... بِذِ فيهَا وَلاَ عَلَى كتُبْ رُوز وَرَغِيفُ النَّدِّ الَّذي عَصَبُوني ... هِ وأَكْرِمْ بِذَاكَ مِنْ مَجْنُوز غَلَبَتْني عَلَيْهِ أَيْدِي نِهَابٍ ... نَهزَتْهُ بحَظِّهَا المَنْهُوز سَبَقَتْني إليه سَبْقَ ذئابٍ ... خاطِفَاتٍ بِهِزَّةٍ وأَزِيزِ كان خَتْلاً منهم كَخْتَل الحَواريِّ ... سَيْفِ الله ذِي الرَّدى جُرْمُوز لو خَشِينَا الْبِدَارَ مِنهُمْ لَعِثْنا ... فيهِم كاللُّيُّوثِ فِي الأَمْعُوزِ ثُمَّ آبوا بجانِبٍ طَيِّب النَّشْ ... رِ وَأُبْنا بِجانِبٍ مَحْبوز لَهْفَ نفسي عليه مُلْقىً كَتُرْسٍ ... وافرِ الحَرْف مُشْرفٍ التَّفْريز فَدُموعي من التَّأَسُّف تَجْري ... جَرْيَ وَفْرَاءَ وافياتِ الخُرُوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 جَمَزَتْنِي فَوايِتُ الحظِّ منْهُ ... وابلاَئِي منْ حَظِّيَ الْمجمُوز قَدْ رَأَى سَيِّدِي وُقُوفِيَ حَيْرا ... نَ كَمُصْمِي الرَّمْيَةِ الْمَتْرُوز فابْقَ يَا سَيِّدي بَقاءَ ثَبِيرٍ ... غَيْرَ ما مَزْعِجٍ ولاَ مَحْقُوز وتَمَلَّ السُّرُورَ سائِرَ مُلْكٍ ... غَيْرَ مُسْتَنْقَصٍ ولاَ مَبْرُوز تَتَخطَّى مداسَ كلِّ إِمامٍ ... قاهرَ العزِّ غَيْرَ مَا مَعزُوز فلما أَنشدته إياها استحسنها وقال ما أعرف زائية مثلها بل لا أعرف زائية إلا للشماخ، وتلك عجوز وهذه شابة، ثم عوضني أحسن تعويض بصلة وند وعنبر. ولما جاء بجكم وهزم ابن رائق قال لنا ما أحسن هذه الأبيات، في المعنى الذي نحن فيه وأنشدنا: إذا قُلْتُ يَبْرَا بَعْضُ داء عَشِيرَتِي ... تَلاَقَتْ غَوَاةٌ واسْتَجَدَّ نُشُور كما نُشَرْت مَخْشيَّةُ العَرِّ بَعْدَ مَا ... عَلاَ اللَّوْنَ بُرْءٌ ظَاهرٌ وطُرُور ومَولَى عَصانِي واسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ ... كما لَمْ يُطِعُ بالْبَقَّتَيْنِ قَصيرُ فَلَمَّا رأَى أَنْ شَتَّ أَمْري وَأَمْرُه ... ووَلَّتْ بأَعْجازِ الأُمُور صُدُورُ تَمَنَّى حُبَيْشٌ أَنْ يَكُونَ أَطاعَنِي ... وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الأُمُورِ أَمُور كذا أنشدني تمنى حبيش ثم قال أتعرف مثله؟ قلت لا ولكن نحوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 لطارق بن ديسق اليربوعي: إذَا أَنْتَ جاوَرْتَ أَمْرَأَ السَّوْءِ لم تَزَلْ غوائِلُهُ تأَتيكَ منْ حَيْثُ لاَ تَدْرِي وفِينَا وإِنْ قيلَ اصْطَلَحْنا تَضَاعُنٌ ... كما طُرَّ أَوْبارُ الجِرابِ عَلَى النَّشْر ثم قلت إن سيدنا أطال الله بقاه نشأ في حجر الصواب، فمن أي له تمنى حبيش؟ فقال لي من حيث لا يطيف براوية عيب، فقلت لو أن أبا عمرو بن العلاء روى هذه لكان أَخطأ ناسه فقال: إن الطبري يقول هذا في كتاب تاريخه فقلت له: الطبري ليس في الغريب مثله في غيره روى الأَصمعي وأبو عبيدة وابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني تمنى نييشاً أن يكون أطاعني ومعناه أنه تمنى شيئاً بعد ما فاته يقال رأى هذا نييشاً إذا رآه في آخره وقد فات، قال بلال بن جرير: كَمْ نَاصِحٍ قَدْ قالَ لي وَمَا وَشَا ... إِنَّكَ لَمْ تَنْأَشْ لِوَصْلِ مَنْأَشَا يقول لم تطلبه في أَوله وأنشدته: تَنَاءَتْ عَنْكُمُ عُدُسُ بْنُ زَيْدٍ ... فَلَمْ يَعْرِفْكُمْ إلاَّ نُيَيْشَا يريد إلا أخيراً فقال لي فلعل الوراق أَخطأ عليه قلت لا ولكن الطبري رأى نبيشاً في كتاب ولم يدر ما هو فظنه حبيشاً اسم رجل وهذا الشعر لنهشل بن جزي النهشلي وهو في الخزانة فوجه فطلبه فلم بحده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فقلت له وهذا أيضا عجب، يتحدث الناس بأَن سيدنا مع جلاله علمه وعلو نعمته عمل خزانة كتب كما عمل متقدمو الخلفاء، طلب فيها شعر هذا الشاعر المشهور فلم يوجد قال فما الحيلة وقد شغلنا بغيرها عنها؟ قلت كتب عبيدك لك فتبتدئ في عمل الأشعار من الخزانة، تبدأ بمضر ثم ربيعة ثم اليمن، فما لم يكن فيها حملة عبيدك من كتبهم، وما كان سماعا لعبيدك أو شيئاً لايعتاضون منه، نسخة وراقوك الذين تجري عليهم. وجلده مجلدو الخزانة فسكت المفكر. فقلت له إن الذي قلته ليس لشيء أجتلبه إنما هو حيف على كتبي، ولكنى آنف أن يتحدث الناس بشيء يفعله سيدنا لا يكون في نهاية الجلالة. فقال ويحك فإذا جاء ما يشغل كيف نصنع؟ قلت يجعل سيدنا هذه الخزانة للأميرين، ويقتصر على ما يريد النظر فيه، قال أما هذا فنعم فأمر بإِخراجِ الكتب إليه يوماً يوما، وأجلسنا فميزناها وقسمها بين يديه، بين أبنيه واقتصر على ما أراد ووهب لنا الباقي فاقتسمناه. وكان أكثره ما يباع وزنا. تفسير الأبيات النشر: أن يجرب البعير فيبرأ غير برء تام، وتبقي بقية من جربه أي قليل فينبت وبره عليه فيكون ظاهره برء وباطنه سقم، يريد الشاعر وكذلك نحن ظاهرنا جميل وصلح، وباطننا شر وحقد ونحوه: وقدْ يَنْبُتُ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِ الثَّرَى وَتَبْقَى حَزَارَاتُ النُّفُوسِ كما هِيَا وهو النشر بفتح الشين، وإنما يسكنها الشاعر لضرورة الشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ثم لم يرض حتى سأل القاضي عن هذا، فقال رواه الطبري على خطأ والصولي كثير السماع فمن هذا لا يحكي إلا صواباً. حدثني القاضي بذلك وقال لنا الراضي بالله كأني بالناس يقولون أرضي هذا الخليفة بأن يدبر أمره عبد تركي، حتى يتحكم في المال ويتفرد بالتدبير؟ ولا يدرون أن هذا الأمر أفسد قبلي، وأدخلني فيه قوم بغير شهوتي، فسلمت إلى ساجية وحجرية يتسحبون علي ويجلسون في اليوم مرات، ويقصدونني ليلاَ. ويريد كل واحد منهم أن أخصه دون صاحبه، وأن يكون له بيت مال وكنت أتوقى الذماء في تركي الحيلة عليهم إلى أن كفاني الله أمرهم. ثم دبر الأمر ابن رائق فدبره أشد تسحباً في باب المال منهم، وانفرد بشربه ولهوه. ولو بلغه وبلغ الذين قبله أن على فراسخ منهم فرسانا قد أخذوا الأموال واجتاحوا الناس فقيل لهم اخرجوا إليهم فرسخا لطلبوا المال وطالبوا بالاستحقاق، وربما أخذوه ولم يبرحوا ويتعدى الواحد منهم أو من أصحابهم على بعض الرعية، بل على أسبابي وآمر فيه بأمر فلا يمتثل ولا ينفذ ولا يستعمل، وأكثر ما فيه أن يسألني فيه كلب من كلابهم فلا أملك رده، وإن رددته غضبُوا وتجمعوا وتكلموا فلما جاء هذا الغلام جاء من لا يقول لي صنعتك أو أجلستك كما كانوا يقولون بل اجترأنا عليه بالاصطناع، ووجدته إن تعدى أحد من أصحابه لم يرض إلا بقتله والمبالغة في عقوبة. وإن بلغه أن عدوا قد تحول في ناحية نهض إليه فسبق خبره من غير اعتساف لي بطلب مال ولا تلبث لوفاء استحقاق، فرضيت ضرورة به وكان أوفق وأحب إلي ممن قبله، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الأجود أن يكون الأمر كله لي كما كان لمن مضى قبلي، ولكن لم يجر القضاء بهذا لي! وكان دعا بجكم مرات ما منها مرة إلا وهو ينفق عليه في خلعه. وما يحمله معه عشرين ألف دينار وزيادة عليها من صواني ذهب وفضة وعنبر وند ومسك وكافور وبلور. وعلم أن عادته في داره وحشمه ألا يشرب الماء إذا جاءه حتى يذوقه بين يديه الذي جاء به يصب منه في إناء معه فيشربه ثم يناوله إياه فكان يستعمل الراضي معه هذا إذا حمل إليه لون وضع بين يدي الراضي أولا فأكل منه ثم وضع بين يدي بجكم وكذلك النبيذ وجميع ما يوضع بين يديه، وكان يستعفيه من هذا فلا يعفيه. ولقد قبل في آخر دعوة دعاه فخذه ويده فضمه الراضي إليه وأخرج من إصبعه خاتمين فوضعهما في إصبعه أحدهما يشبه الجبل في حمرته وكبره، فنظر ابن حمدون إليّ ونظرت إليه واغتممنا أن يكون الجبل في يد غيره ففطن لنا، فلما انصرف بجكم قال لنا قد رأيت نظركما وقت الخاتم وأحسبكما ظننتماه الجبل ليس به ولكنه أقرب فص في الدنيا شبهاً به. ولقد قال لي بجكم بعد موت الراضي، وأنا معه بواسط، وعلى رأسه من خدم الراضي جماعة، إن هؤلاء حدثوني أن الراضي أراد أن يقبض على في بعض دعواته، أفكان كذا؟ فقلت له: الأمير يعلم أن الراضي لا يرجى في هذا الوقت ولا يخاف، وبالله ما استبنا منه ذلك في حال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 صحوه ولا سكر ولا جده ولا هزله. وما كان محباً للأمير مغتبطاً به، ولقد كان يتصنع في مدح ابن رائق حين كرهه ويقرظه ويصفه فما كان يخفى علينا ضميره فيه هذا من قبل أن يظهر لنا ما في نفسه عليه فقال لي صدقت والله وكذب هؤلاء، وما يدريهم؟ كان الأمر عندي كما قلت ثم حدثته بما قد ذكرته من قول الراضي أنا أعلم أن الناس يقولون.. فضحك وقال ما كان إلا نهاية في عقله ودهائه وملقه - يريد بجكم هذه وإن لم يلفظ بهذا اللفظ - ولكني أعتب عليه بأنه كان شديد الجبن يؤثر لذته وشهوته على رأيه. فعجبت والله من عقل بجكم، جاء والله بعيبيه اللذين ما كان فيه غيرهما ثم حدثته أنا كنا نقف على مكاتبته الأمير سراً ليأذن له في المصير إلى بغداد ويشكو إليه ما كان يجري عليه من ابن رائق فيكتب إليه. عليك بالوفاء لمن اصطنعك، وأحسن إليك، إلى أن كتب إليه الأمير أعوذ بالله أن يكون مولاي يريد قتلي كما يريده ابن رائق لأنه أعطاني جيشاً بمال معلوم ثم لم يوفني استحقاقهم، وهذا يبقى على دمي، وأنه لما ورد عليه كتاب الأمير بهذا كتب إليه: والله ما أحب أن يتأذى بشيء أقل جندك وأتباعك لموضعك عندي، وما يستحقه شجاعتك ومناصحتك فكيف أحب ما ذكرته فيك وإذ صار الأمر إلى هذا، وجعلت وصيتي لك بالتمسك بالوفاء وحسن العهد سبباً لزوال أمرك فما أحب هذا افعل ما يصلحك. فلما قرأ الأمير هذا الكتاب أقبل إلى بغداد. فقال كان كذا والله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ماجئت حتى جاءني هذا الكتاب، قلت ثم وقفنا في وقت من الأوقات أن الأمير اتهمه بأنه كاتب في أمره بعض من يصلح للمكاتبة في مثله وأن ذلك اتصل به فوجه إلى الأمير قد علمت الحال التي كنت عليها لابن رائق في كراهتي له في آخر أيامه وما أجرى إليه مما يستوجب به إزالة أمره ومكاتبتك لي بما كاتبت، فإن كنت مع تلك الحال أذنت لك في مكروهه، أو تغير عليه مع سخطي وغضبي فإني سأكاتب فيك على بعد ما بينكما، وأنا في هذا الوقت مغتبط بك راض بجميع فعلك وأمرك فضحك بجكم فقال كذا كان وأزال هذا جميع ما بقلبي مما توهمته وعلمت أنه صادق فيه. قال الصولي: وما رأيت الراضي يقرظ أحداً تقريظه الأمير أبي بكر محمد بن طغج فإنه كان يصفه ويرضى جميع ما هو عليه، وإذا جاءته هدية من قبله استحسن جميعها وفرق علينا منها، وكان يقول إذا ذكره رجل كبير العقل حسن الطاعة، يشبه أجلاء الموالي الماضين وما أدري بما أكافئه، ثم أمر فكتبت عنه كتب بأنه قد سماه الأخشاذ وأمره أن يسميه به جميع الناس. ولما جاءته هديته في آخر أيامه التي كان فيها الخدم الذين يغنون ويرقصون قال لقد خصني بما لم يملك مثله خليفة قط - وكان ربما قال بغير حضرة من لا يثق به - لو كان مثله عندي وكان جيشه مكان هذا الجيش! فإنه أشبه بجيش آبائي، واشد تمسكاً بطاعتي. ولقد ذكره يوماً فقرظه ووصفه وكان قد تغير لابن رائق تغيراً أبداه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لي وللعروضي حتى يقرئنا رقاعاً له إليه وجواباته له، وربما أقرأنا أهاجي قد هجاه بها. فقال بعقب وصفه للأمير الأخشاذ وذمة لمن ذم كيف كنت حدثتني عن عمارة بن عقيل مع خالد بن يزيد الشيباني، وتميم بن خزيمة بن خازم التميمي؟ فقلت له: حدثني القاسم بن إسمعيل أن عمارة حدثه أنه أضاق فصار إلى تميم بن خزيمة وهو تميمي من رهطه، فسأله فاعتل فجاء إلى خالد ابن يزيد الشيباني وهو من ربيعة بعيد النسب منه فسأله فأعطاه وأكرمه واعتذر إليه فقال عمارة يفضل خالداً عليه: أَأَتْرُك إنْ قَلَّتْ دَرَاهِمُ خَالِدٍ ... زِيَارَتَهُ إِنِّي إِذاً لمُلِيم فَلَيْتَ بِثَوْبَيهِ لَنَا كَانَ خَالِدٌ ... وكَانَ لِبَكْرٍ بِالثَّرَاءِ تَميمُ فَيُصْبِحُ في قَوْمِي أَغَرُّ مُحَجَّلٌ ... وَيُصْبِحُ فِي بَكْرٍ أَغمُّ بَهِيمُ ولعمارة أهاج في تميم ومدخ لخالد بن يزيد كثيراً. فقال لي الراضي لما سمع هذا فليت! يريد فليت لي الأخشاذ بابن رائق، وهذا ظريف مما كان يقوله ولكنه ينبئ عن جميعه، وكذلك صنعت في أشياء اختصرتها لئلا يطول الكتاب بها. ولم يزل الراضي ذكياً عاقلاً مذ كان صبياً قرأ يوماً أبياتاً من الشعر في الغزل، فقال لي اعمل في نحوها فعملت: يا مَلِيحَ الدَّلاَلِ رِفْقاً بصَبٍّ ... يَشْتَكي منْكَ جَفْوَةً وملاَلاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 نطق السُّقْمُ بالَّذِي كانَ يُخْفِي ... فَسِل الجسْمَ إِنْ أَرَدْتَ سُؤَالاَ قَدْ أَتَاهُ في النَّوْمِ مِنْكَ خَيالٌ ... فرآهُ كما اشْتَهِيْتَ خَيالاَ يَتَحَامَاهُ للضَّنَى أَلْسُنُ الْعَذْ ... ل فَأَضْحَى لاَ يَعْرِفُ العُذَّالاَ فقال لي سأعمل في نحوها فتنحى وأخذ دواة وعمل بحضرتي: قلْبِيَ لاَ يَقْبَلُ المحَالاَ ... وَأَنْتَ لاَ تَبْذُلُ الوِصَالاَ ضَلَلْتُ في حُبِّكُمْ فَحَسْبي ... حَتَّى مَتَى أَتْبَعُ الضَّلالا قَدْ زارَنِي مِنْكُمْ خَيالٌ ... فَزدْتُ إِذْ زَارَنِي خَيالاَ رَأَى خَيالاً علَى فرَاشِي ... وما أُرَاهُ رأَى خَيالا فلحن هذا الشعر بعض الطنبوريين، وغنى فيه فحدثه يوماً مضحك كان يدخل إليه، أنه حضر مجلساً غنى فيه بهذا الشعر فقال هو هذا لسيدنا الأمير. فقال كاتب كان في المجلس هو لفظ الصولي وشعره فحلفت على ذلك فأقام على قوله. فقال له عرفني هذا الكاتب فظن أنه يريد سواد فيه فقال لعلك وهمت أني غضبت من قوله لا والله ولكني استحسنت عليه بالشعر لأن الصولي علمني الشعر وأنا أتبع ألفاظه وأنحو مذهبه فلما قال هذا ما قال وهو لا يعرف حقيقة أمري علمت أنه لم يقل هذا إلا عن علم بالشعر فأحببت بذلك أن أحسن إليه، إذ كانت فيه هذه الفضيلة، فعجبت من حسن عقله وتمييزه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وكنا يوماً بين يدي الراضي، وهو يشرب فلغط الجلساء فجذب الدواة والدرج وكتب فيه شيئاً وناولنيه فإذا فيه: لما بَرِمْت بِراحِي وانْقَضَى الأَدَبُ ... قَرَنْتُها بِأُناسٍ شانَهُمْ إِرَبُ تراهُمُ الدَّهْرُ لاَ يَرْوُونَ من لغط ... علَى المُدام فلا الْتَذُّوا وَلاَ شَرِبوا ولم يزل الراضي نحو سنتين من خلافته، لا يشرب النبيذ ونشر به نحن بين يديه. وربما شرب الجلاب وأنا مصوب له ذلك مساعد عليه حتى أغواه أصحابنا فقال: إني أعطيت الله عهداً أن لا أشربه أبدا وكتب رقعة بلفظه بيمينه وعرضها على الفقهاء، فوجد رخصه فوجه بألف دينار إلى لأتصدق بها عنه وشرب: وقال لي يوماً أنشدني تشبيب قصيدتك البائية في ابن فرات فإنه عندي أحسن تشبيب سمعته قط فأنشدته: سَيِّدِي أَنْتَ إِنَّني بِكَ صَبٌّ ... بَيْنَ أَيدِي الْهُمُوم والشَّوْق نَهْبُ وشَفِيعِي إِلَيْكَ أَنِّي مُحبٌ ... وقَدِيماً أَحِبُّ مَنْ لاَ يُحِبُّ بَعَثَ الحُبُّ لي سَقاماً فَأَعْدَى ... بِيَ حُزْناً مداوماً ما يَغِبُّ لَيْس لي نَيَّةٌ أُسَلِّي بها النَّفْ ... س لِمَا قَدْ رَأَى وَلاَ لِيَ قَلْبُ ضَاعَ صَبْرِي وَأَخْلَفَتْنِي ظُنُونٌ ... كاذِباتٌ يَلَذُّها مَنْ يَصَبُّ غَيْرَ أنِّي أُرِحْتُ مِنْ قَوْلِ لاَحِ ... هُوَ هَمٌّ عَلَى الفُؤادِ وكَرْبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 عَذَلَ العَاذِلُونَ فِيكَ وقالُوا ... ما عَلَى منْ أَحَبَّ مثلَكَ عَتْبُ لكَ خَدٌّ مُوَرَّدُ اللَّوْن سَهْلٌ ... وَفَمٌ طَيِّبُ الْمُجَاجَةِ عَذْبُ وجَبينٌ تَلأَلأَ الحُسْنُ فيه ... كهِلالٍ تكَشَّفَتْ عَنْهُ حُجْبِ وجَفونٌ مُفَتَّراتٌ مِرَاضٌ ... وحديثُ الْمُؤَنَّثِ اللَّفْظِ رَطْبُ وقَوامٌ للرِّيح فيهِ احْتِكَارٌ ... يَتَثَنَّى الغُصْنِ شَطْبُ أَخْصَبَ الحُسْنُ في جميعكَ إلاَّ ... أَنَّ حظِّي منْ كُلِّ ذَلكَ جَدْبُ لَهْفَ نفسي عَلَيْكَ لو أَنْصَفَ الْح ... ب لَذَلَّ الغَداةَ لي منْكَ صَعْبُ لا أُسَمِّيك خَيفَةً بلْ أَعدِّي ... عنك طَرْفاً دُمُوعُهُ فيكَ سَكْبُ وعَدَدْتَ الْهَوَى عَلَيَّ ذُنوباً ... إِنْ يَكُنْ ذَا فَحُسْنُ وجهك ذَنْبُ أيمر الزمان صَفْحاً عَلَيْنا ... لَمْ يُنَلْ طائلٌ ولم يُقْضَ نَحْبُ ظَلَمَتْنِي كظُلْمِكَ السِّنُّ حَتَّى ... شَابَ رَأْسِي ودَعْوَةُ الشَّيْبِ سَبُّ سَلَبَتْني ثَوْبَ الشَّباب الثَّلاَثُو ... نَ وللشَّيْب بَعْدَ ذَلِكَ سَلْبُ وأحالَتْ دُهْمَاً عَلَى الرَّأْسِ شُهْباً ... لَيْسَ يَجِزي بِخَيْلِهِ اللَّهْوِ شُهْب إِنْ يَكُنْ سَارَ عَامداً لِدِمَشْقٍ ... وطَوانِي كَمَا طَوَى الشَّمْسَ غَرْب فهوَ للْقَلْب حيثُ ما مال ذِكْرٌ ... وهُوَ للطَّرْف حيثُ ما دار نُصْبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 حُسْنُ رَأْيِ الْوَزِيرِ عَوَّض فيه ... فَهُو للْجُودِ الْمَكارمِ رَبُّ وهي طويلة فجلس طويلاً، ثم أنشدني ما عمل ولم يقطعه بعد فإذا هو: أُشهِدُ اللهَ أَنَّني بكَ صَبٌّ ... لِفَؤَادِي من شِدَّة الوَجْدِ وَجْبُ حارَ في الجِسْمِ يَوْمَ ودَّعْتَ دَمْعٌ ... فاضَ منْهُ مَعَ التَّسُتُّرِ غَرْبُ يا عَلِيلاً فَدَتْهُ مِنِّيَ نَفْسٌ ... بَيْنَ أَيْدِي الإِشْفاق والشَّوْقِ نَهْبُ سَلَبَ الْقَلْبَ وَالْمُنَى وَافدُ السَّ ... نِّ وقَدْ كانَ قَبْلَهُ لِيَ قَلْبُ إنْ أَمِتْهُ في هَواكَ قالمَوْتُ دائِي ... أَنْتَ فِي الْبُعْدِ للَّواحِظِ نُصْبُ فَوَقَتْكَ الرَّدَى حُشَاشَةُ نَفْسٍ ... لَمْ يَجْرِها مِنَ التَّبَاعُدِ قُرْبُ ثم قال لي قد أغرت عليك، فقلت له إن رأى سيدي أن ينعم على ويقطع علمه لهذا الأبيات، ففعل. ثم قال لي بعد عرفني بما أردت بقطعي الأبيات؟ قلت إن أبياتي جهدت نفسي حتى جاء تشبيهها كما وصفه سيدنا وترجل أبياتاً فينشدها الناس معها فيرون أبياتي أجود، وما أحب أن يرى الناس لعبد شيئاً أفضل مما يملكه مولاه من أشباهه. وحدثني الراضي قال لما قتل القاهر مؤنساً وبليق وابن بليق أنفذ رءوسهم إلى مع الخدم يهددوني بذلك وأنا في حبسه لأني كنت في حجر مؤنس، ففطنت لما أراد قلت ليست إلا مغالطته، فسجدت شكراً لله وأظهرت للخدم من السرور ما حملهم على أن جعلوا التهدد بشارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وجعلت أشكره وأدعو له فرجعوا بذلك وكتبت إليه: بَقِيتَ أَمِيرَ المُؤْمنينَ عَلَى الدَّهْرِ بِرَغْمِ الأَعادِي نافِذَ النَّهْى والأَمْرِ شفَيْتَ غَليلاً كَانَ لَوْلاَكَ قاتِلاً وخَفَّفْتَ هَمّاً ضَاقَ عَنْ حَمْلِهِ صَدْرِي وقُمْتَ بحقِّ الله في قَتْلِ مَعْشَرٍ ... سَعَوْا فِي الْبِلادِ بالفْسَادِ وبالكُفْرِ وثَأَرِ أخٍ سادَ الأَنامَ وَلَمْ تَكُنْ ... لتَغْفُل عَنْ ثَأْرٍ عِرَاكٍ وَلاَ دَثْرِ وَلَسْتَ بلَيْثٍ أَفْلَتَتْهُ فَرِيسَةٌ ... وقد عَلِقَتْ بالنَّابِ منْهُ وبالظُّفْر ولاَ حيَّةٍ يَنْجُو بنَفْثٍ لَدِيغُها ... ولاَ صارِمٍ يَهْوِي لضَرْبٍ ولاَ يَبْرِي فعِشْتَ لِدِينِ اللهِ تَجْبُرُ وَهْنَهُ وَبُلِّغْتَ أَقْصَى مَا هَوِيتَ منَ الْعُمْرِ ويا لَيْتَنِي أُسِعدتُ فيكَ بنَظْرَةٍ ... أُوَفِّي بهَا حَقَّ الْمَحامِدِ وَالشُّكْرِ فلما قرأها دعاني فقال ما شفيتك فأظهرت السرور وأكثرت الدعاء فنفعني والله ذلك عنده، وحال عما أراده بي إلى غيره. وكان الراضي وعدني وهو أمير أن يشرب ليلة، وأنا أحتال في المصير إليه سراً، فصرت إلى داره بالمخرم ليلاً فلم أصل، واشتغل بزائر زاره فلم يشرب، وكتب إلي من الغد: وَلَيْلَةٍ منْ سيِّئاتِ الدَّهْر ... توقَّدَ الشَّوْقَ بها فِي صَدْرِي تَوَقُّدَ النَّارِ بِذاكِي الجْمر ... أُنْسيتُ ما أَشْرَبه لِذِكْرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 مُغْرًى بِنسيانِي وطُولِ هَجْرِي ... ذَا سَطُوَةٍ وَنَخْوَةٍ وكَبْرِ وَقُدْرَةٍ يَجْهَلُ فِيهَا قَدْرِي ... ثُمَّ أَتَى مُزْوَرَةً بِالْعُذْرِ أَفْديه منْ وافٍ ومِنِ ذِي غَدْرِ ... يَبْخَلُ عَنِّي بِقَليلٍ نَزْرِ فاعْذِرْ فَهذا خَبَري وَأَمْرِي ... مَتَى أَرَى سِرِّي يَحُثُّ جَهْرِي بِوَصْلِ بَدْرٍ فَاضِحٍ لِلْبَدْرِ ... يُسْكرُنِي باللَّحْظِ قَبْلَ سُكْرِي يا طالباً قَتْلِي لغَيْرِ وَتْرٍ ... يَهْنِيكَ هَجْرٌ منْكَ يُفْنِي عُمْرِي ولما هزم بجكم لابن رائق وخرج إلى الشام، وصار أميراً مكانه دعاني الراضي فأنشدني: أَبَعْدَ مَا قَدْ الدَّهْرَ أَشْطُرَهُ ... مُحَارباً لخُطُوبٍ حُكْمُها جَارِي وفَلَّقَتْ حِيَلِي هَامَ الرِّجالِ أُرَى والغَيْبُ يُخْمِدُ مَا أَذْكَيْتُ مِنْ نَارِ صَمِمْتُ عنْ صَبَواتٍ يسْتَجيبُ لها ... ناسٌ بأَوْتَارِ لَهْوٍ ثَأْرَ أَوْتارِ وَفَلَّ لَذَّاتِ لَهْوِي جَيْشُ عَارَفتِي ... وَقَلَّمَ العَزْمُ مني نَقْرَ أَوْتَارِي حتَّى رَحضَتُ بتَحْريضِي العَدُوَّ عَلَى قَتْلِ الْعَدُوِّ ثِيَابَ الذُّلِّ وَالْعَارِ كذاكَ منْ تُنْهضُ السَّادَاتُ هَمَّتَهُ لاَ يْغْمِضُ الْعَيْنَ مَغْلُوباً عَلَى ثَارِ وَرُبَّ خَطْبٍ دجَا ذَلَّ الجبَانُ لَهُ ... وقَدَ فرَاه بُأنيابٍ وأَظفْار لم يَحْتَنِكْ لَيْلُهُ حَتَّى صَدَعْتُ لَهُ صُبْحاً مِنَ الرَّأْي لا يَعْشَي بِهِ السَّارِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فَقُلْ لمَنْ يُلْهِبُ الإِهمالُ غُرَّتَهُ ... اسْتَغْنِ عَنْ صِدْقِ إيقاعٍ بِإنْذارِ وَلاَ تُمِرَّنَّ حَبْلاً لِلْخِلاَفِ فَقَدْ ... رأيتَ نَقْضِي وإِحْكامِي لإِمْرارِي لا تَبْسُطَّن رِماحاً لاَ زِجاجَ لَها ... إلى سُيُوفٍ مُطيحاتٍ بِأَعْمارِ فإِنَّها حينَ تُدْنِيهَا لمِلْحَمَةٍ ... تَبْرِي بكُلِّ رقِيقِ الحَدِّ بَتَّار وعِشْ بِنيَّةِ صِدْقٍ تَسْتَدِرُّ بِها ... رَسْلَ الحَيَاةِ بعُرْف لاَ بِإِنْكارِ أَو فَاسْحَبْنَّ ذُيُولَ الذُّلِّ مقْتَسِراً وَانْظُرْ بطَرْفٍ خَفِيِّ اللَّحْظِ غَدَّارِ لاَ يُخْرِمُ المَرْءُ فِي وِرْدٍ يُحَاوِلُهُ ... حتَّى يُوَجَّهَ فِيهِ وَجْهَ إِصْدارِ ثم قال لي كيف تراه؟ فحلفت أنه ما قال في جودته خليفة قط ولكن فيه شيء يغيره، قال وما هو قلت قولك: حتى رحضت بتحريضي العدو على ... قتل العدو .... ... .... اجعله بتحريضي الولي على قتل العدو، فقال صدقت والله خرج الكلام على ما في نفسي فغيره فقال إنما عنيت ذهاب الساجية والحجرية بابن رائق، قلت أخاف أن يتأول أنه لبجكم وابن رائق لأنك عملته بعقب أمرهما قال صدقت وكنت عملت أبياتاً على قافية الشين: غَشِيَتْنِي مِنَ الهُمُومِ غَواشٍ ... لِعَذُولٍ يَلُومُ فِيكَ ووَاشِ لَوْ يُلاَقوا الَّذِي لَقِيتُ مِن الْوَجْ ... د لِشَوْقٍ بَيْنَ الجَوانِحِ نَاشِ نَمَّ بِالسِّرِّ عِنْدُهُمْ دَمْعُ عَيْنِي إِنَّ سِرَّ المُحِبِّ بِالْدَّمْعِ فَاشِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 مَنْ عَذِيرِي لظَالِمٍ أَنَا مِنْهُ ... فِي زَمَانِ الوصَالِ لِلْهَجْرِ خَاشِي أَخَذَ الْقَدَّ مَنْ قَضِيبٍ رَطِيبٍ ... وحكى أَعْيُنَ الظِّبَاءِ العِطاشِ فأنشدتها الراضي في إمارته، فعمل في قافيتها ومعناها نَحُولُ الْجِسْمِ مِنْ وَاشٍ ... وَدَمْعِي لِلهُوَى فَاشِي لأَنِّي فِي زَمَانِ الْوَصْ ... لِ مِنْ هَجْرِكِ لِي خَاشِي لإِصغَارِكَ لِلشَّكْوَى ... وَإِصْغَائِكَ لِلْوَاشِي فَأَوْحَشْتَ بِإِدْنَاءٍ ... وَآنَسْتَ بِإِيحاشِ عَرانِي سَقَمٌ نَاشٍ ... بهَجْرٍ مِنكُمُ نَاشِي وعملت أيضاً: حُبٌّ لأِحْمَدَ قَدْ فَشَا ... بَيْنَ الْجَوانِحِ والْحَشَا يَهْتَزُّ فِي حَرَكَاتِهِ ... مِثْلَ الْقَضِيبِ إِذَا مَشَا خَدَّاهُ مِنْ بَرَدِ الدُّجَا ... وَالْمُقْلَتَانِ مِنَ الرَّشَا لَمَّا ظَفِرْتُ بِوَصْلِهِ ... وَمَلَكْتُ مِنْهُ مَا أشَا أَحْلَى الْبَرِّيةِ أَوْ عَلَى ... عَيْنِ الَّذي يَهْوَى غِشَا وتَنَاوَمَتْ عَيْنُ الرَّقِي ... بِ لَحَثِّ أَقْدَاحِ الْوِشَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وفَشَا الحَدِيثُ بِحُبِّنا ... والحُبُّ يَحْسُنُ إِنْ فَشَا عَبَثَ الْوُشاةُ بوَصْلِنَا ... حَسَداً فقُبِّحَ مَنْ وَشَا فعمل هو: أَقْرَحَ القَلْبَ والحَشَا ... مُفْتِنٌ لَحْظُهُ رَشَا مَلَكَ الجِسْمَ حُبُّهُ ... فَبراهُ كَمَا يَشا لا يُجازَى عَلَى الوِصَا ... لِ وَلاَ يَقْبَلُ الرِّشَا شِئْتُ أَنْ يَرْحَمَ الْمُحِ ... بَّ وَهَيْهاتَ مَا أشَا يا هِلاَلاً إِذَا بَدا ... وقَضِيباً إِذَا مَشَى افْشِ وَصْلاً فإِنَّ هَجْ ... رَكَ لاَ كانَ قَدْ فَشا وكان الراضي بالله وصلنا وهو في الزيديه، وأقام بها أياما وعملت له فيه قرية كما يعمل الملوك، أنفق عليها مال، ثم فرقها علينا ووهب لنا ثياباً. فلما عبر بلغه أن الناس تكلموا في إعطائه لنا وإسرافه في أمرنا فقال: لاَ تَعْذِلِي كَرَمِي عَلَى الإِسْرافِ ... رِبْحُ المَحامِدِ مَتْجَرُ الأَشْرافِ أَجْرِي كآبائِي الخَلاَئِفِ سَابِقاً ... وأَشِيدُ مَا قَدْ أَسَّسَتْ أَسْلاَفِي إِنِّي مَن الْقَوْمِ الَّذيَنْ أَكُفُّهُمْ ... مُعْتادَةُ الإِخْلافِ والإِتْلافِ ولما ملك بجكمَ واسط في آخر خروجه إليها وفعل بابن رايق ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فعل وقتل، أنشدني الراضي: ياعُمْدَةَ السُّلْطَانِ ... وَلَيْثَ هَذا الزَّمانِ ومُشْتَرِي الحَمْدَ مِنِّي ... بأَوْفَرِ الأَثْمَانِ فكَكْتَ أَسْرِيَ مِنْ ... كَفِّ طارِقِ الحَدَثَانِ فصِرْتُ أَسْبقُ جَرْياً ... وقَدْ مَلَكْتُ عِنانِي فأَنْتَ حَرْبُ عَدُويِّ ... وسَلْمُ مَنْ وَالاَنِي والسَّيْفُ مِثْلُ لِسَانِي ... إِذَا تَعَايَا لِسَانِي تَسُرَّني كُلَّ وَقْتٍ ... فِي غَيْبَةٍ وعِيَانِ فَشُكْرُكَ الدَّهْرَ لاَ شُكْرُ ... غَيْرِكَ شَانِي ومن كرم الراضي وشريف أخلاقه أن ابن حمدون كان يباري علي بن هارون المنجم في الشرب بين يديه، وإذا شرب أحدهما خماسية قبل صاحبه رفعها ليراها الراضي ففعل ذلك مراراً كثيرة، إلى أن ضجر الراضي فقال كأنها قوارير بول ترفع بين يدي طبيب وهو مع ذلك لحلمه وكرمه يضحك لما يفعلانه ويثيب عليه إلى أن فعلا ذلك يوماً فقال لهما وقد تلاحيا: لا عليكما الأمر عندي سواء في فعل جميعكم من زاد في شربه فإنما فعل ذلك سروراً بنا ونشاطاً لمجلسنا وإنما بقي على نفسه لخدمتنا وأحب به مطاولتنا فقبلنا الأرض بين يديه وحلفنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أنه ما جلس مجلساً أكرم عشرة منه لعبيده، وأقبلنا عليهما فقلنا: أبقى لكما الآن شيء بعد هذا فقصرا عن كثير فعلهما ذلك مما تركاه في وقت: ومن كرمه أنه كان كلما أراد الشرب وضعت بين أيدينا صوان فيها خماسيات مطبوخ ومغاسل وكيزان ماء ليشرب كل واحد منا ما يريد، ولم يكن يفعل ذلك الخلفاء إلا خصوصاً بالواحد بعد الواحد، وبالجماعة في وقت من الدهر. وإن كان الخدم الشرابية يجيئون بالأَقْداح فيناولونها الجلساء فيشربونها ويردونها عليهم، وربما أرادوا من الخدم ماء لأقداحهم فيما كسونهم فيه، وكان يأمر بأن يوضع بين أيدينا الفواكه الرطبة واليابسة فننال منها كما ننال في بيوتنا، وما كانت الخلفاء تفعل بجلسائها ذلك إلا في الحين إن فعلوه. وكان كثيراً يقول لكرمه ووفائه ومحبته أن يؤكل طعامه: أمر النبيذ إليكم اشربوا ما شئتم وأمر الأكل إلى لا بد من مطالبتكم به حتى تأكلوا معي، ويمدح من يزيد أكله بين يديه وينفعه ذلك عنده. ولقد تعشينا ليلة بين يديه فجاءونا بخبز سيمذ كبار ما رأينا أحسن مما خبز فعزل العروضي رغيفاً وقال نوبتي في غد في بيتي، وقد استحسنت هذا الرغيف وأريد أكله في غد فاستبنت أنه قد سر لما فعل العروضي. وجاءت جامات فيها بوارد فعزلت جاماً وقلت: ما ذقت والله أطيب من هذه الباردة وأنا كالشبعان وأريد أن آكلها في غد مع العروضي فإنا شريكان وفرغنا من الأكل وجلسنا ورفع الرغيف والجام، ثم وضع بين العروضي الرغيف بعينه وفوقه دراهم قد ملأته ووضع بين يديه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 جام فيه دراهم مثل ما في الرغيف فضج الجلساء لذلك وسألوا أن يفعل بهم مثل ذلك فقال إلا أن هذين استطابا طعامنا فأزلا منه لغد ما يقصر عن كفايتهما فأحببنا أن نتمم أمرهما بما فعلناه ولم يكن لكم سبب في مثل هذا فنفعل بكم كما فعلناه بهما. فانصرفنا ولم يأخذ أحد شيئاً غيرنا وأعطينا الرغيف والجام كما رفعا، فكان في الجام ألفا درهم وكذلك على الرغيف. ولما ورد قتل ياقوت على الحجرية اضطربوا اضطراباً شديداً واجتمعوا إلى الراضي بالله وقالوا قبضت على ابنه أبي بكر لغير ذنب فحبسته، ثم قبضت على أخيه أبي الفتح ثم كتبت إلى ابن البريدي في قتله، فجلس لهم وأحضر القاضي، وأحضر معه من العدول أبا الحسن الهاشمي بن أم شيبان، وابن عمه عبد الوهاب، وجلس الراضي لهم ليلا. فدخلوا إليه وهو على كرسي، فلغطوا وكان الصغار اشد كلاماً وأبسط ألسناً من كبارهم وقوادهم، فتركهم حتى تكلموا بكل ما أرادوه وأخرجوا ما في أنفسهم، ثم أقبل عليهم رابط الجأش ذرب اللسان فكلمهم أحسن كلام، وقال: إن كان هذا الأمر قد صح عندكم. فعرفوني من أي جهة صح لأعرفها كمعرفتكم؟ وإن كان ظنا فالظن يخطئ ويصيب ظننتم هذا بمجيء أخ البريدي أبي الحسن إلى الديار هذه الأيام وإنما كان يجئ بكتب أخيه يشكو معاملة ياقوت، ثم أخرج فصولاً من كتب، فدفعها إلى القاضي فقرأها عليهم، وفيها جوابات من ياقوت إلى ابن البريدي، وقد أنفذها ابن البريدي إليه ثم قال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ما قبلت في ابن البريدي إلا رأى محمد بن ياقوت، والآن فقد وقفتم على الخبر، وأنا أعزلهم وأنفذ الجيوش إليهم، وأخرج معكم إن أردتم كلمهم القاضي وفرقهم. وكنت وهو أمير بعد اعتللت في يوم نوبتي عنده، فكتبت رقعة اعتذر فيها بالعلة لتخلفي عن خدمته فوقع إلى: وَصَلَتْ رَقْعَةٌ فَأَوْصَلَت الْوَحْ ... شَةَ لَمَّا أَتَتْ بِشَكْوَى الأَنِيسِ بُدِّلَ الْقُرْبُ بِالبِعَادِ فَبُدِّلْ ... تُ بِيَوْمِ السُّرُورِ عُبُوسِ فكتبت الجواب: وَصَلَتْ رُقْعَةُ الأَمِيرِ الرَّئِيسِ ... غُرَّةِ الدَّهْرِ وَالخَطِيرِ النَّفِيسِ فَأَزَالَتْ مَا كُنْتُ أَشْكُو وَأَهْدَتْ ... لِي نَعِيماً وَأَذْهَبَتْ كُلَّ بُوسِ وَأَتى الشِّعْرُ مُبْرئاً وَشِفَاءً ... وَأَنِيساً يَفُوقُ كُلَّ أَنِيسِ حَسَنَ اللَّفظ مُطْرباً كُلَّ من يَسْ ... مَعُ إِطْرَابَ زَابَدات الْكُؤُوسِ قَدْ جَلاَهُ الطَّبْعُ الْمُغَاثُ بِحِذْقٍ ... لِعُقُولِ الْوَرَى جِلاَءَ الْعَرُوسِ أضْحَكَ اللهُ بِالأَمِيرِ زَمَانِي ... وَلَقَدْ كَانَ قَبْلَهُ ذَا عُبُوسِ صِرْتُ مُذْ قَدَّرَ الإِلَهُ جُلُوسي ... مَعَهُ سَيِّداً لِكُلِّ جَليسِ ضَاقَ شُكْرُ الْعُبَيْدِ عَنْ برِّ مَوْلًى ... مِثْلَ ضِيقِ الغُفْرَانِ عَنْ إبْلِيسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وكنا يوماً نشرب بين يديه، فرأيت من ذكائه وسرعة خاطره ما جعلت أعجب منه، وذلك أنه سأل عن شعر فقال أحمد بن يحيى هو لدعبل فقلت أنا هو لمحمد بن الحجاج البغدادي فلاحاني، فقلت له: إن أَقرب من أنشدناه لمحمد أبوك عن أبي هفان، وكان ذكره في كتبه فأمسك وضحك الراضي، وقال فأنشدنيه، فأنشدته وهو مقبل علي يسمع: زَمَنِي بِمَا طَابَ سُقِيَت زَمانَا ... ما كُنْتُ إلاَّ رَوْضَةً وَجِنَاناً أَصْلَحْتَنِي بالجُودِ بَلْ أَفْسَدْتَني ... وتَرَكْتَنِي أَتَسَخَّطُ الإِحْسَانا مَنْ جَادَ قَبْلَكَ كَانَ جُودُك فَوْقَهُ ... لَمْ أَرْضَ قَبْلَكَ كَائِناً مَنْ كانا وليس الشعر هكذا، إنما قال: من جاء بعدك كان جودك فوقه ... لم أرض بعدك كائنا من كانا فلم استحسن أن أنشده بعدك في أول البيت وبعدك في آخره فأنشدته كما ذكرت، فقال: محمد بن يحيى الصولي يحيل الشعر إذا أنشده، ما كذا قيل، فقال له كيف الشعر فأنشده: من جاد بعدك كان جودك فوقه ... لم أرض بعدك كائنا من كانا ففطن أني قلبت اللفظ عمداً لما فيه، وأن هذا مما لم يفطن له أحمد فقال له: تلك رواية الصولي، وهذه روايتك أنت فقال كذا والله يا سيدي قال الشاعر، وكذا أنشدني أبي، فقال له: قد علمت كما أنشدك أبوك أيضاً لنفسه إن كنتم قريش فمه! فسكت وانقطع الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وكان إذا ذكر أبيات يحيى بن علي هذه يشتد غيظه ويقول أقوالاً يسمعها سائر الجلساء، لا أحب ذكرها، ويسرني منه بأن يقول قد شفي القلوب ابن المعتز بجوابه. وأنشدني يوماً العروضي جواباً ليحيى في غير شعر عمله أحسن والله في بعضه، ولكني لا أذكره للطعن الذي فيه. واعتللت وهو أمير فتأخرت عن خدمته، والنوبة التي كانت علي فكتب إلي رقعة فيها: يا عَلِيلاً جَعَلَ السَّا ... عَةَ إِذْ غَابَ شُهُوراً ولَقَدْ كَان بِهِ ال ... دَّهْرُ إذ جَاءَ قَصيراً لِعُلُومِ لاَ أَرَى ال ... دَّهْرَ لَهُ فِيها نَظِيرا صَرَفُ اللهُ الأذَى ... عَنْكَ ولقَّاكَ سُرُورا فكتبت الجواب: يا أَميراً ما رَأَيْنَا ... مثْلَهُ فَضْلاً أَميرَا يا أَبا الْعَبَّاس يا شَمْ ... ساً ويا بَدْراً مُنيرَا يَا كَبِيرَ الْعَقْلِ والْ ... آدابِ مُذْ كَانَ صَغِيرَا والذي نكذب إن ... قسنا به يوماً نطير قد أَتَى عيْدَكَ شِعْرٌ ... منْكَ خَلاَّهُ حَسِيَرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 بَعْدَ سَبْقِ مِنْ خَطَارِ ال ... شِّعْرِ مَنْ كَانَ خَطِيرَا حَسَنُ اللَّفْظُ يَحاكِي ... رَصْفُهُ الدُّرَّ النَّثِيرَا مَلأَ الجِسْمَ شِفَاءً ... وحَشَا الْقَلْبَ سُرُوراً كَانَ مِنْ عَارِضِ شَكْ ... وايَ وَمِنْ دَهْرِي مَجيرَا لَيْسَ ما يَذْخَرُهُ عِنْ ... دِي مِنَ الشُّكْرِ يَسيرَا سَوْفَ أُهْدِي مِنْهُ رَوْضاً ... جَاوَرَتْ مِنْكَ غَدِيرَا كَمْ عَسِيرٍ عَادَلِي مِنْ ... حُسْنِ نَعْمَاكَ يَسِيرَا قَدْ يُرَى الْعَبْدُ وإنْ ... قَلَّ بِمَوْلاَهُ كَثِيرَا سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة مات في المحرم منها إبراهيم بن خفيف، صاحب ديوان النفقات وتقلد موضعه محمد بن يحيى بن شيرزاد، وتقلد الزمام عليه سعيد بن عمرو بن سنكلا. وفي الشهر ظهر ابن خزابة بعد استتار، وصودر على مال كثير، وضج الناس من غلاء السعر، وكان الخبز قد صار إلى أربعة أرطال بدرهم، وأظهر قوم من بني هاشم المصاحف وشكوا الجوع. ومات إبراهيم بن حماد لسبع خلون من صفر، ودفن إلى جانب قبر إسماعيل بن إسحاق. واحتبس القطر فنادى السلطان بخروج الناس للاستسقاء، فخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أهل الجانبين في يوم الأحد لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول، وخرج الناس الأئمة فصلوا بالناس ودعوا وانصرفوا. ووافى كتاب قاضي اصبهان لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الأول بقتل مرداويج. وكان السبب فيه أنه جعل عسكره صنفين صنف منهم جيل وديلم وهم خواصه وأهل بلده الذين فتح بهم الري ونواحيها، ومنهم صنف أتراك وأهل خراسان، ثم استخص نفراً من الأتراك فوجد الديلم من ذلك وعاتبوه عليه، فقال إنما اتخذت الأتراك لأقيكم بهم، وأقدمهم يحاربون بين أيديكم، وأنتم خاصتي وأنا بكم ولكم، فبلغ ذلك الأتراك فأجمع رأيهم على قتله، فأوصوا الغلمان الصغار الذين في خدمته ووكدوا عليهم بالتركية أن يفتكوا به، فقتلوه في حمام، وجاءهم الذي واطأوهم على ذلك وأخرجوهم من الدار، وركبوا دوابه وساروا فاضطربوا فقالوا نجعل علينا رئيساً فرضوا ببجكم وأخذوا من داره مالا عظيماً وآنية فضة وذهب، وكان قد تكبر وتجبر ووضع التاج على رأسه مكللاً بأحسن الحب والياقوت وجلس على سرير فضة حواليه ذهب، وكان مرصعاً بجوهر وقال أنا أرد دولة العجم وأبطل دولة العرب، وصار بجكم والغلمان الذين معه إلى ابن رايق قبله أحسن قبول، وغمره بالإحسان وخلع علي غلام الراشدي بحمص وأعمالها. وقبض السلطان على ابن شنبوذ لما رفع عليه من قراءته بما لا يجوز، وشهد عليه بشهادات فأحضر دار ابن مقلة وحضر ابن مجاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وجماعة من القضاة والفقهاء فنوظر، فتاب ورجع عن رأيه فكتبت رقعة نسختها: يقول محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ إني كنت أقرأ حروفاً تخالف ما في المصحف المنسوب إلى عثمان رحمه الله، الذي اتفق عليه أصحاب رسول لله صلى الله عليه وعلى تلاوته، ثم بان لي أن ذلك خطأ فأنا منه تائب وعنه مقلع وإلى الله منه برئ، إذ كان مصحف عثمان هو الحق الذي لا يجوز خلافه. وكتب بخطه في أسفل هذه الرقعة: يقول محمد بن أحمد بن أيوب ما في هذه الرقعة صحيح وهو قولي واعتقادي، أشهد الله على ذلك ومن حضر، وقد كتبت هذه بخطي فمتى خالفت ذلك أو بان مني غيره، فأمير المؤمنين أطال الله بقاه في حل وتبرئه من دمي. وكتب يوم الأحد لسبع خلون من شهر ربيع الآخر في سنة ثلاث وعشرين وذلك كله في مجلس الوزير أبي علي. ودعا الأئمة في يوم الجمعة بالجانب الشرقي والغربي بعد دعائهم للراضي لابن ياقوت وقرظوه فبلغ ذلك الراضي فأنكره وأمر بأن يقلد مكان أبي عمر حمزة بن القاسم من ولد العباس بن محمد على الصلاة بجامع الجانب الغربي أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن عيسى بن جعفر بن المنصور ويعرف بابن بريه، وأن يقلد مكان أبي الحسن أحمد بن الفضل بن عبد الملك من ولد العباس بن محمد أبو بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 محمد بن الحسن بن عبد العزيز على الصلاة بالجامع الشرقي، وأن يقلد أخوه الصلاة بجامع السلطان. وشغب المؤنسية في طلب الأرفاق وقطعت الجسور وأرجف الناس بابن ياقوت أنه قتل فركب في الجانبين وأزال الإرجاف بركوبه وسكن الناس. وتوفي احمد بن عبد العزيز الجوهري صاحب عمر بن شبة بالبصرة لخمس بقين من شهر ربيع الآخر. وقبض على محمد بن ياقوت يوم الاثنين لست خلون من جمادى الأولى، وعلى كاتبه أبي إسحاق القراريظي وعلى نجاح كاتبه على الجيش فقبض من ابن ياقوت على رجل كامل في عقل وعلم وشجاعة وصيانة وعفاف. واجتمع الحجرية والساجية فقالوا: لا نرضى بأن يكون بدر الخرشنى واليآشرطة بغداد فسفر بينهم وبين بدر ورفق بهم حتى رضوا به بلغ السلطان أن أبا الفتح بن ياقوت يضرب الحجرية والساجية على الراضي، ليفتكوا به وتوقع البيعة لبعض إخوته فقبض عليه وهو بين يديه يخاطبه وكل بدوره فلم تنهب وحمل ما فيها ليلاً إلى دار السلطان. وخلع الراضي على غلامه ذكي للحجبة يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الأولى وغضب صغار الحجرية لابن يانوت وقالوا يناظر بحضرتنا فإن وجب عليه شيء وإلا أطلق فداروهم حتى سكتوا وأمر بقبض ضياع ابني ياقوت، وحمل القراريطي على دار الوزير وأخذ خطه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بمال قيل أنه ثلاثة ألف ألف درهم أو أقل. ومات ابن المشبع الشيعي، وكان يروى عن عمر بن شبة لليلتين بقيتا من جمادى الأولى. وفي جمادى الأولى خلع على أبي الحسين علي بن محمد لخلافة أبيه، وزاد أمر الحنبلية في هذا الوقت ونهبوا دكاكين بباب الشام لأن البربهاري مضى بعود أمر عبد الله بن أحمد بن حنبل وعاثوا في مربعة شبيب فأنكر السلطان ذلك وأمر بطلب الدلاء وابن رمضان فلم يوجدا. وكان النوروز لثمان خلون من رجب، ووجه الراضي إلى أخيه العباس وأحضره الدار مع طائفة منهم أبو القاسم كاتب نازوك ثم أخرج العباس بين الظهر والعصر، وحضر الوزير والقاضي عمر ابن محمد وحضرنا، فكتب القاضي كتاباً بيده ولم يكتبه الوزير. وقال للقاضي في هذا شروط أنت بها أحذق وعليها أقوم. فكتب كتاباً حسناً عن حلف العباس ومن معه، أنه ما نكث ولا خرج عن طاعة. وفي آخر جمادى ولى أبو العلاء سعيد بن حمدان أعمال ابن أخيه الحسن بن عبد الله فنفذ في خف من الجيش فأنزله داراً لهَ لما صار إلى الموصل وأطمعه في التسليم إليه، ثم قبض عليه وقتله غلمان الحسن وعظم ذلك على الوزير، وأصلح آلة للخروج، وحلف أنه لا بد له من أن يوقع به أو يصير إلى الحضرة، ويؤدي عشرة ألف ألف درهم. وقبض على علي بن عيسى يوم الأربعاء لأربع بقين من رجب، جاء راغب الخادم فحمله إلى دار السلطان، ثم صاعد به إلى دار الوزير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وأخذ خطه بخمسين ألف دينار. وكان الأَصل في هذا أن الراضي زعم أن ابن حمدان الحسن وجه إليه بخمسة آلاف دينار على يد ابن طليب الهاشمي، ليوصلها إلى الراضي، فلم يفعل ذلك، فكان الراضي بعد نكبة علي بن عيسى يحلف أن علياً اختان الخمسة الألف، فكنت أقول له لو تأمل سيدنا هذا من أين وقع وأن علياً لا يمد عينه إلى خمسة آلاف دينار، وهو أبعد الناس عن هذا، وكنت أحدثه عنه بما أقدر إزالة ما وقع بقلبه، فلا يقبل إلى أن ضرني ذلك عنده وسعى بي قوم من الجلساء إلى الوزير فانحرف عني بعد ميل، وحرمني بعد إعطاء. وكثر ضجيج بني هاشم في شكوى الضر وسودوا وجوههم ومنعوا الإمام يوم الجمعة بالجانب الغربي من الصلاة فصلى بعد جهد مخففاً للخطبة. وتوفي آخر رجب أبو عبيدة القاسم بن إسماعيل المحاملي المحدث ودفن بمقابر الدير. ووجه الوزير إلى منازل أبي الفرج بن حفص وولده فكبسهم فيها، وطلبهم فلم يوجدوا فهدم دورهم وجمر نخيلهم، ونقل ما وجد لهم من الأثاث، وكان ذلك لرقعة زعموا وجدت فيها ابن حفص للوزير وجماعة معه بمال خطير. وخرج الوزير مصاعداً إلى الحسن بن عبد الله لخمس خلون من شعبان، ومعه خلق من الحجرية والقواد، واستخلف على الحضرة ابنه أبا الحسين، وأطلق علي بن عيسى إلى منزله بعد أدائه المال، وانحدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 إلى ضيعته بالصافية لأيام خلت من شعبان، وانتقل والده إلى الصافية جمال بغداد، ومن لا يرى الناس مثله. ومات نسيم البشراني الخادم للنصف من شعبان فأمر الراضي أن يرد ما كان إليه إلى كاتبه أبي عمرو فأبى أن يقبل ذلك إلا برئيس من الخدم يكون الاسم له، وحشم الشراب ومن يخدم فيه مضمومون إليه، وهو يكفي الخدمة فجعل الراضي ذلك إلى زيرك الخادم القاهري. وفي هذا الشهر خرج مفلح الأسود إلى بيت المقدس أشير عليه بذلك لكراهة الراضي مقامه بالحضرة، ولعهدي به وقد دخل ليودعه وهو يبكي ويضطرب. ويقبل الأرض. ويشكو أن فراقه لمولاه كفراقه لحياته. والراضي يقول هذا وجه كنت تحبه، وحيث ما كنت فأنت لي وقريب مني وعنايتي تلحقك. ثم خرج على كره منه. وورد الخبر بدخول الوزير إلى الموصل أول يوم من شهر رمضان على اختيار عمل له. ومات أبو عبد الله بن المهتدي لليلتين خلتا من شهر رمضان، وكان قد حدث وكان فقيهاً مشهوراً، له حلقة يجتمع إليه الناس، وفي هذا الشهر قطعت يد رجل في ناحية بشرى المؤنسي وطيف به في الجانبين، ونودي عليه هذا جزاء من يسعى في الأرض فساداً لأنه اتهم جماعة من الحجرية كانوا يجتمعون في دار له بدرب النهر لبيعة يوقعونها، فقرر وضرب فقال أنا مقتول، فلم أوقع غيري فمني ووعد العفو فابتدأ يقر، فذكر جليلاً من الحجرية، وأراد أن يذكر غيره، فأمر الراضي بترك سؤاله وقال: ما حاجتي أن أفسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بيات قوم إذا عرفتهم لم أجد من ينصرني عليهم ويعاونني لعلمهم بوقوفي على أمرهم فقيل له لا يذكر أحداً وهذا من جيد رأي الراضي، وكان قد حفظ عني أن المأمون لما قتل ابن عائشة وجد في منزله قماطر فيها مكاتبات بعض الجندله، فجلس وأحضرها وجمع الناس، وقال: أنا أعلم أن فيكم المستزيد والعاتب، وإن نظرت في هذه الكتب فسدت عليكم وفسدتم علي، وقد وهبت مسيئكم لمحسنكم، وأمر فأحرقت القماطر وأسفرت وجوه القوم واستصيب رأيه. ووقع بالكرخ حريق عظيم في شوال أحرق العطارين والصيادلة وأصحاب المدهون والخزازين والجوهريين، وكان عظيماً، وقبل ذلك بقليل وقع حريق دونه في أصحاب الحناء والأشنان فآثاره باقية إلى وقتنا هذا، ما رد إلى حالته لما يتزايد في خراب البلد. وانصرف الوزير من الموصل ولم يبلغ ما أراد فأقام بالبردان لثلاث بقين من شوال لنقضي كسوف الشمس، وكان لليلتين بقيتا من شوال ثم دخل في أول ذي الحجة وخلف بالموصل علي بن خلف بن طياب على الخراج، ويانساً المؤنسي على الحرب. ووافى في هذا الوقت جميع من كان مع محمد بن خلف زوج أخت ابن الحواري بالخيل مفلولين هزمهم الديلم، فيهم ابن عمرويه وابن الفارقي. وولى لؤلؤ طريق مكة، وكان غلاماً للمتهشم فخرج بالناس فلقيهم القرامطة يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بطيزناباذ فقاتلهم اشد قتال، إلى أن خذله أصحابه وأصابته ضربات فطرح نفسه مع القتلى ثم دب ليلة الخميس إلى أن صار إلى الكوفة فاستتر. وكان من انقضاض الكواكب في ليلة الأربعاء التي قطع على الحاج في صبيحتها، فلم يفلت منهم أحد ما لم يعهد مثله بالكوفة وطيزباذ موضع الوقعة وكان عندنا ببغداد من ذلك ما لم نر مثله ولا سمعنا به قط واستؤسر ابن حاتم، وكان قد تقدم في قافلة الخوارزمية فقتلوا كلهم وصار إلى القرامطة ألفاً جمل عليها أصناف البز والأمتعة وأفلت القراريطي من حبس الوزير وتحدث الناس أنه أطعم الموكلين طعاماً فيه بنج. وأحضر الراضي جعفر بن المكتفي فحبسه لشيء بلغه عنه ثم أخرجه إلينا مرات نسائله ونخاطبه، وأرسلت إلي والدته تسألني الكلام عنه فما بقيت غاية أنا والجلساء في ذلك حتى أطلقه، وذلك لما أوجب الله عز وجل على من حق المكتفي، واصطناعه إياي وإحسانه إلي، وكثر الضجيج ببغداد لما نال الحاج ووثب العامة بأصحاب المعاوز في الطرق والمساجد، ونال الراضي من ذلك أمر عظيم، وصام أياماً وكان يقول: لو كان لي مال كمال المكتفي حين فعل ذكرويه بالحاج ما فعل، فطلبه بالجيش والأموال حتى قتله لما رضيت والله إلا أن أخرج بنفسي إلى البحرين. ولكن ما حيلتي في جند مستحثين، قد ملكوا الأمر دوني وعوز مال، وانخراق هيبة إلى الله أشتكي وبه استنصر. والحجرية والساجية يعيبونه كل يوم حتى يجلس لهم مرات بالليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والنهار لا يريده أحد منهم فيحتجب عنه. وصودر أبو يوسف كاتب أم جعفر المقتدر بالله، على أحد وعشرين ألف دينار، وحمل الحسن ابن هارون مالاً، وحمل جماعة منهم مصانعة عن أنفسهم، ووافى الحسن بن عبد الله من الموضع الذي كان صار إليه فولى نقيطاً المؤنسي نصيبين وقلد الديلمي القائد الذي كان معه بلد لأن من كان بالموصل لم يتجاوزها. وأحضر في يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة القاضي عمر بن محمد ومعه أبو أيوب السمسار فنظرا إلى ابن ياقوت ميتاً لا أثر فيه، وأنه مات حتف أنفه وصلى عليه آبو أيوب ودفن في مقبرة لهم في الشارع الأعظم فوق سوق السلاح. ومات أحمد بن محمد البستانبان المحدث وكان ينزل عند دار ابن الحواري، وولد سنة أربعين ومائتين وكان حافظاً للحديث في ذي الحجة. وفي ذي الحجة طولب أبو الحسين علي بن محمد البريدي بمال فصودر على مائة ألف دينار عن جماعتهم نصفها معجل ونصفها مؤجل. وأرجف الناس بأنه يسعى للخصيبي بالوزارة فطلب وكبست مواضع بسببه وجرد كاتبه ابن رمكة ليضرب من أجله فحلف أنه لا يعرف مكانه. سنة أربع وعشرين وثلاثمائة كان لبني هاشم وثوب في المحرم بإمام الجامع الغربي فخاتلهم حتى صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ركعتين خفيفتين قرأ في الثانية الحمد وقل هو الله أحد وخطب بكلمات يسيرة، وصاروا من غد إلى الجامع الشرقي فوثبوا بالقاضي وما تركوه يخطب، فانصرف مفلتا من أيديهم، وأمر الوزير أن يفتتح الخراج في هذا الشهر فضج الناس من ذلك. ومات في هذا الشهر أبو منصور ابن جبر النصراني، وما اصطفى بن يعقوب النصراني صاحب بيت مال الخاصة من قبل مؤنس الخادم، وورد تابوت ابن دولة الحسن بن علي ابن محمد بن الفرات إلى بغداد من الشام، وذكرت عنه في ولايات تولاها أمور قبيحة من الظلم. وغرق القاضي ابن كاس فأخرج وبقي أياماً ومات. وشغب العامة لغلاء السعر في مسجد الرصافة ودخل الجند في طلبهم إلى الصحن فصعدوا إلى السطوح وغتوا الفرسان بالحجارة حتى هربوا وحارب الجند العامة يوم السبت بباب الطاق فأخذ السلطان جماعة فضربهم بالسياط وأدراهم. وأشار الوزير بأن يسعر المكوك من الدقيق بثلاثة دراهم فما نفع ذلك. ونادى بأن يتعامل الناس بالغليظ من الدارهم والممسوح طلباً للرفق بهم. ووقع بين الحجرية والساجية في صفر خلاف فمشى بينهم قوم فاصطلحوا. وقلد في هذا الشهر الحسن بن عبد الله من تكريت إلى آمد، وفورق على مال واستقام أمره، وأزيل عنه من بالموصل، ومات في يوم الخميس للنصف من ربيع الأول هارون بن المقتدر بالله أبو عبد الله وكان كاملاً في عقله وأدبه وأظهر الراضي حزناً شديداً عليه، وقال لنا هذا على أنه كان يسعى على هذا الأمر ويكاتبه فيه جماعة منهم ابن ياقوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقال لي: كنت أعرف محلك منه أفرثيته بشيء؟ فقلت نعم إنما انتظرت الإستئذان في إنشاده فقال جئني به في غد وأنشدنيه مفرداً، ثم أمر بإدخالي إليه من غد وكنت بكرت قبل حضور أهل نوبتي فأدخلني فأنشدته: تَعَزَّ يا خَيْرَ الْوَرَى عَنْ أخٍ ... لَمْ يَشُبِ الإِخْلاَصَ بالَّلبْسِ كَانَ صَدِيقاً وافِراً وُدُّهُ ... صَدَاقَةَ الأَنْفُسِ والجِنْسِ تَعَزَّ عَنْهُ بِنَبِيِّ الهُدَى ... مَحَمَّدٍ أُدْخِلَ فِي الرَّمْسِ وَهُوَ حَبِيبُ اللهِ في أرْضِهِ ... مؤيَّداً بالْوَحي والْقُدْسِ سَمَّاكَ بِالرَّاضي لِتَرْضَى بِمَا ... تُسْلِفُ مِنْ أَمْرٍ ومَا تُنْسى قَدْ أَنْذَرَ الدَّهْرُ تَصَارِيفُهُ ... بِأَلْسُنٍ ناطِقَةٍ خُرْسِ يُخْبِرُنَا عَنْ مَوْتِهِ كَوْنُهُ ... بِغَيْرِ إِذْكَارٍ وَلا حَدْسِ كَانَ نَسِيباً لإِمامِ الْهُدَى ... بَالْوُدِّ والألْفَةِ والأُنْسِ ونِسْبَةُ الجِسْمِ شَتَاتٌ إذَا ... لَمْ تتآلفْ نِسْبُةُ النَّفْسِ وَكَانَ فَرْعاً ذَاكِياً غُصْنُهُ ... مُهَذَّباً مِنْ خَيْرِ ما غَرْسِ وَكَانَ في السُّودَدِ ذَا هِمَّةِ ... وَكَانَ في النِّعْمَة ذَا غَمْس أَرْسَى عَلَيْهِ دَهْرُهُ مِثْلَ مَا ... أَرْسَى عَلَى سَاكِنَةِ الرَّسِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 إِنْ صُرِفَ الدهر إلَى مَضَى ... عَادَ سُرُورُ النَّاسِ ذَا عَكْسِ حَوادِثُ الأَيَّامِ شَقَّاقَةٌ ... تُقَرِّبُ الْمَأَتَمَ بالْعُرْسِ يَعْتَقبُ الْمَرْءُ بِها حَالُهُ ... بِوَطْئِهِ الْحَزْنَ إلَى الْوَعْسِ مَنْ عَزَّ بالدُّنْيَا هَفَا قَلْبُهُ ... وَعَاد مِنْهُ النُّورُ ذا طَمْسِ وَزالَ في تَلْوينَها عَقْلُهُ ... وَغَالُهُ طَيْفٌ مِنَ اللَّقْسِ مَنِيَّةٌ إِنْ لَمْ تُفَاجِ الْفَتَى ... كَانَتْ لَهُ بِالسُّقْمِ ذَاتَ مَسِّ لَهفِي عَلَيْهِ وَقَلِيلٌ لَهُ ... لَهْفِي وهَلْ يَرْجِعُ لِي أَمْسِ ي لَهْفِي عَلَى مُنْتَخَبٍ حِلْمُهُ ... أَرْجَحُ مِنْ رَضْوَى وَمِنْ قُدْسِ وأَيْنَ الأُولَى كَانُوا شَمُوسَ الْوَرَى ... لُيُوثَ حَرْبٍ غَيْرَ مَا شُمْسِ جَرَى عَلَى السُّودَدِ مِنْهُمْ كَمَا ... شُيِّدُ بُنْيَانٌ عَلَى أسِّ فافْرِسْ لَهُ صَبراً يُزِيلُ الأَذَى ... فَالدَّهْرِ للإِنْسَانِ ذُو فَرْسِ يَنْعَمُ مِنْهُ جِسْمُهُ تَارَةً ... ثُمَّ تَرَاهُ جَاسِيَ الْجَسِّ فَلَمْ تَزْلْ فَوْقَ المُلُوكِ الأُولَى ... مِنْ عَرَبٍ سَادُوا ومَنْ فُرْسِ مَنْ لاَ يَرَى حُبَّكَ فَرْضاً فَما ... أَدَّى فُروضَ اللهِ في الْخَمْسِ فداؤُكَ النَّاسُ جَمِيعاً عَلَى ... رَغْمِ عَدُوٍّ لِحَزٍ شَكِسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فالْخَلْقُ وارد مِنْ رِفْهٍ إلَى الْ ... مَوْتِ وَذِي عَشْرٍ وذِي خَمْسِ أَوَّلُهُمْ مَنْتَظِرٌ آخرّاً ... فَهُوَ عَلَيْهِ الدَّهْرَ ذُو حَبْسِ حَتَّى يَجِئُوا وَكِفَاتٌ لَهُمْ ... وَلاَ يُرَى لِلْقَوْمِ مِنْ حِسِّ وَبَعْثُهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَا كُلِّهِ ... لِخَابِلِ الجِنَّةِ والإِنْسِ تَخْشَعُ أَصْوَاتُهُمْ خِيفَةً ... فَلاَ تُنَاجِي بِسَوَى الْهَمْسِ دَاعِي المَنَايَا خَاطِبٌ كُفْوَهُ ... كَخِطْبَةِ المْعُتَامِ لِلْعِرْسِ يَسْمُو إِلَى الأَنْفُسِ فِي قُدْرَةٍ ... مُنَكِّباً عَنْ سَاقِطٍ جِلْسِ تَلْعَبُ بِالْمَرْءِ اللَّيَالِي كَمَا ... قَدْ تَلْعَبُ الأَقْلاَمُ بِالنَّقْسِ تُرْضِعُ بالإِنْعَامِ ذَا عزَّةٍ ... يُقْطَمُ بِالْبُؤْسِ وَبِالتَّعْسِ تُتْبِعُ نُعَمَاهَا بِبَأْسَائِهَا ... وَيَعْقِبُ الصِّحَّةُ بالنُّكْسِ فَالحُرُّ فِيها أَبداً حَائِرٌ ... مِنْ سَوْمِهَا الْغَالِي عَلَى مَكْسِ يُتْعِبُ فِيهَا أَبداً جِسْمَهُ ... وإنَّمَا الرَّاحَةُ كاَلخَلْسِ يَخْدَعُ فِيها بِالْمُنَى نَفْسَهُ ... وَوافِدُ الْمَوْتِ بِهِ مُرْسِي يَنْسَى الَّذِي يأَتِي بِهِ صَرْفُهَا ... والآمِلُ الغَرَّارُ قَدْ يُنْسِي تَلْبِسُهُ مِنْ طَمَعِ غَفْلَةٌ ... بِالْمَطْعَمِ المَلْذُوذِ وَالُّلبْسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فَأَسْلَمَ اللهُ إِمَامَ الْهُدَى ... فَمَا عَطَاءُ الدَّهْرِ بِالنَّحْسِ كُلُّ الْوَرَى أَنْتَ وَكُلٌّ يُرَى ... عَبْدَكَ مِنْ عالٍ ومِنْ نِكْسِ بَقَاؤُكَ الْفَوْزُ لَنَا وَالْغِنَى ... نُصْبِحُ فِيهِ مِثْلَ ما نُمَسْي شَوىً صُرُوفُ الدَّهْرَ مَا لَمْ تُصِبْ ... فِي الرَّطْبِ إِنْ عَاثَتْ وفِي اليَبْسِ مَنْ تاجَرَ الدَّهْرَ بِلاَ صَرْفِهِ ... فَصَارَ مِنْ رِبْحٍ إلَى وَكْسِ فَأَسْلَمَ الكُلَّ فَلاَ بَأْسَ أَنْ ... يُرْزَأَ في السُّدْس وفي الخُمْسِ إِن غَيَّبَ الْبَدْرَ كُسُوفٌ فَقَدْ ... لاَحَتْ بِسَعْدٍ غُرَّةُ الشَّمْسِ مَا طَالِعُ الأُمَّةِ يَا سَيِّدِي ... إِذَا خَطَاكَ الْخَطْبُ بِالْبَخْسِ فما فرغت من الإنشاد حتى بكا بكاء شديداً، ثم قال لي أنت كنت حديثتني أن المأمون قال لمحمد بن عباد المهلبي لما مات أخوه أبو عيسى، وكان أحب الناس إليه: يا محمد حال القدر دون الوطر. قلت له قد كان ذاك، فقال والله ما كان المأمون لأبي عيسى بأشد حباً مني لهارون ولا أَصح نية فيما روى عنه. ودفن هارون في داره بقرب الجسر، وحضره يومه الوزير والقواد، وكل نزع سيفه ومنطقه إلى أن دفن بعد العصر وانصرفوا فقال بعد ذلك: لولا أني لا أدرك ثأري لقتلت بختيشوع الطبيب، سقى أخي هارون درهم سقمونيا حتى قتله ورمى بكل ما في جوفه! وإن كان المشئوم ما تعمد ذلك، ولكنه أعمى القلب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 قصير العلم بليد الفكر، مرزوق في أيامه، محظوظ. وأشاع الناس بأن ابن رايق يريد الصعود من واسط إلى بغداد ولحقه الناس من بغداد، فظن الساجية والحجرية أن ذلك بمكاتبة الراضي. فتكلموا في ذلك فكتب إليه لا تجيء ووجه بما كرد وينال وعبد الله بن علي كاتب نسيم، يناشدونه في مقامه وقدموا من عنده يوم الخميس لست خلون من شهر ربيع الآخر. ومات في هذا الوقت علي بن العباس النوبختي وقد قارب ثمانين سنة وكان حسن الأدب والشعر وكان ابنه الحسين يكتب لابن رايق ويدبره أمره. وقد شيخ هاشمي من سر من رأى يقال له إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى فحدث واجتمع إليه، وذكروا أنه ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، وكان عنده علو إسناد مفقود في وقته، الموطأ عن مالك عن أبي مصعب الزبيري وروى عن أبي سعد الأشج وعبد الجبار بن العلاء العطار. فتكلم الناس في سماعة والتهبت له سوق ثم طفئت ورجع إلى سر من رأى. واستحق الساجية والحجرية، فطالب الوزير مياسير التجار بأموال يعجلونها، ويكتب لهم بها سفاتج فاستتروا. وضرب ابن جبير الدقاق، وأخذ منه مال وأمر منكان ينزل بسور المدينة أن ينتقل لتباع المنازل. ووجه الحسن بن عبد الله بمائة كر دقيقاً، يفرق بسر من رأى وبغداد على الأشراف والضعفى ففرح به الناس وصدرت زواريق كثيرة للتجار فصلح السعر. وبلغ الحجرية والساجية أن بدراً الخرشني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 والمؤنسية والرجالة قد عزموا بأمر السلطان، فتنكروا لهم فخرج بدر ومن معه إلى الصحراء يوم الثلاثاء، لثلاث خلون من جمادى الأولى وقالوا كيف صار الساجية والحجرية يأخذون المال وقت استحقاقهم ونحن نؤخر بقسم المال بيننا! وصار الحجرية والساجية إلى الحلبة وأقاموا بها واستظهر السلطان بعض الاستظهار ببعض اليلبقية والهارونية وغلمان أم المقتدر. ثم إن الحجرية والساجية أخرجوهم عن الدار، وصار الخرشني إلى مسجد الجامع بالرصافة فضرب خيمة هناك وتبعه جعفر بن ورقاء ولؤلؤ وغيرهم. وكان الراضي قد اختص جعفراً وشاوره فحسن أثره في رأيه وفضله. وقال الساجية والحجرية للراضي: قد أشاع الناس أنا محاصروك فأخرج فصل الجمعة بالناس ليزول ذلك. فخرج فصلى بالناس في مسجد الدار، وما علم به الناس. وقال للحجرية وللساجية أنتم خاصتي وثقاتي، وسفر جعفر بن ورقاء بين الناس فأصلح الأمر. ووعد الناس بأن الخليفة يصلي بهم في الجمعة الثانية فما تخلف أحد، وما كنت أنا علمت بصلاته أول جمعة فحضرت في الثانية ووجدت إسحاق بن المعتمد حاضراً فدخلنا المقصورة وخرج الراضي فعلاً المنبر ووقعت عينه علينا فخطب فأوجز ونزل وصلى بالناس فقرأ سورة الجمعة في أول ركعة وفي الثانية سبح اسم ربك الأعلى أتم قراءة وأحسنها ودخل وانصرفنا. فابتدأت أعمل شعراً أصف فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 خطبته، فوافتني رقعة بخطه وفيها: أبقاك الله يا محمد قد لحظك طرفي وأنا أخطب وأنت إلى جانب إسحاق قريب مني، غير بعيد عني فعرفني على تحري الصدق واتباع الحق كيف ماسمعت وهل تهجن الكلام بزيادة فيه أو اختل بنقص منه أو وقع ذلك في لفظه أو إحالة في معناه جارياً فيه على عادتك في حال الإمرة غير مقصر عنها للخلافة إن شاء الله فكتبت إليه جواب الرقعة بعد أن أتممت القصيدة. أمير المؤمنين أدام الله دولته وأطال في الملك مدته أجل خطراً وقدرا، وأسنى مجداً وفخراً. وأوسع خاطراً وفكراً من أي يبلغ خاطب خطابته أو يروم بليغ بلاغته أو يدرك فيها واصف صفته إلا بما تناله طاقته وتبلغه غايته. ولما وصل إلى عبده سؤاله عن حسن ما وعاه وسمعه وجليل ما حفظه ولقنه من كلامه في خطبته وتصرفه في حسنه عجز عن بلوغ كنهه لسانه ولم يؤده شرحه وبيانه ففزع في وصف ذلك إلى قول من كان أقوم بوصف مثله وأشد استقلالاً به وأحسن أداء له وهو حسان بن ثابت في وصف كلام جده عبد الله بن عباس نضر الله وجهه وصلى على روحه فإنه قال فيه: إذَا قَالَ لَمْ يَتْرُكْ مَقَالاً لِقَائِلٍ بِمُنْتَظِمَاتٍ لاَ نَرَى بَيْنَهَا فَصْلا كَفَى وشَفَى مَا فِي النُّفُوسِ فَلَمْ يَدَعْ لِذِي إِرْبَةٍ فِي الْقَوْلِ جِدّاً وَلاَ هَزْلا يَقُولُ مَقَالاً لاَ يَقُولُونَ مِثْلَهُ كَنَحْتِ الصَّفَا لَمْ يُبْقِ مِنْ غَايَةٍ فَضْلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وقد عمل عبد أمير المؤمنين أبياتاً في وصف ذلك جعل أمام مدحه تشبيباً لم يخله من تشبيه مبتدع ومعنى منتزع، إذ كان الأمر قد تقدم إليه أن يجعل ذلك في صدور قصائده، وأوائل مدائحه وهو يأمل أن يقع من استحسان سيده بحسب تفضله عليه، واصطناعه أياه والأبيات: أَسُرُّكِ يَا مُنَايَ وَلاَ أَسُوكِ ... وأَنْفِي بِالْهَوَى عَرَضَ الشُّكُوكِ وأَحْمِيكِ الَّذِي تَخْشِينَ مِنْهُ ... كما يَحْمِيكِ مِنْ عَارٍ أَخُوكِ لَقَدْ بُلِّغْتُ فِيكِ مَدَى الْمَنَايَا ... وَما بَلَغَتْ مَدَى عَشْرٍ سُنُوِكِ أرَى الْهِجْرَانِ مِنْكِ يُحِيلُ صُبْحِي ... وَمَا أَذْنَبْتُ لَيْلاً ذَا حُلُوكِ وَدَهْرُ الْوَصْلِ يحكْيِ لِي رَبِيعاً ... يُشَابِهُ نَبْتُهُ خَلَى الْهَلُوكِ رِياضٌ نُمْرِجُ الأَلْحَاظُ فِيهَا ... مَنَوَّرَةُ الأَعالي وَالسُّمُوكِ بَهَارٌ قَدْ حَكَى الْعُشَّاقَ لَوْناً ... عَلَى قُضُبٍ حَكَتْهُمْ في النُّهُوكِ وَوَرْدٌ مِثْلُ خَدٍّ مِنْكِ رَاضٍ ... جِوَارَ فَمٍ تَبَسَّمَ عَنْ مُسُوكِ وَيَضْحَكُ أَقحُوَانٌ فِيهِ يَحْكِي ... لَنَا ثَغْراً تَكَشَّفَ عَنْهُ فُوكِ تَطَلَّعَ بَيْنَ ذَاكَ وَبَيْنَ هَذَا ... شَقَائِقُ مِثْلُ أَعْرَافِ الدُّيُوكِ مَدَاهِنُ مِنْ عَقِيقٍ نَظَّمَتْهَا ... يَدَا خَرْقَاءَ وَاهِيَةِ السُّلُوكِ حَلَفْتُ بِغُرَّةِ الرَّاضِي فإِنِّي ... أَرَاهُ حَقِيقَةً فَوْقَ الْمُلُوكِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 بأخَّاذٍ لِمَا يُرْجَى ألُوفٍ ... وعَيَّافٍ لِمَا يُخْشَى تَرُوكِ عَبُوسٍ في انِتْهَاكِ الْمُلْكِ فَظٍّ ... وطَلْقٍ في مَذَاهِبِهِ ضَحُوكِ نَهُوضٍ بِالْخُطُوبِ إِذَا اعْتَرَتْهُ ... فَرَامَا هَبَّةَ السَّيفِ الْبَتُوكِ عَشِيقُ الْمُلْكِ جَاءَ بِلاَ كِتَابٍ ... يُرَجَّى الْوَصْلُ مِنْهُ وَلاَ أَلُوكِ فَمَنْ للْبُخْلِ يُمْسُك ما حَوَاهُ ... فَمَا هُوَ بالْبَخِيلِ ولاَ الْمَسُوكِ أَجَلُّ النَّاس آرَاهُ وَعلْماً ... مَقَالٌ لَيْسَ يُقْرَنُ بِالأُفُوكِ وَمَا أَحْياهُ منْ سُنَن تَعَفَّتْ ... فَدَارَ صَلاَ حُهَا دَوْرَ الدَّمُوك رَكُوبٌ للْمَنَابِرِ سَارَ قَصْداً ... إلَيْهَا وَهِيَ حَائِرَةُ السُّلُوكِ فَذَكَّرنَا مَقَالٌ مِنْهُ فَصْلٌ ... مَقَالَ الْمُصْطَفَى بِحِرَى تَبُوكِ فأَطْلَعَ مِنْهُ شَمْسُ الْمُلْكِ سَعْداً ... وَكَانَتْ نَحْسَةً بِشَفَا الدُّلُوكِ لأَعْتَمِدَنَّ سَيْرَ الْمَدْحِ فِيهِ ... بإِرِقَال يَبَرُّ عَلَى الرُّتُوكِ أَحُوكُ مِنَ الْقَصَائِدِ وَشْيَ مَدْحٍ ... تُفَضِّلُهُ عَلَى الْوَشْيِ الْمَحُوكِ لَقَدْ فَتَكَ الزَّمَانُ بِسُوءِ حَالِي ... فَأنْقِذْنِي مِنَ الزَّمَنِ الْفَتُوكِ فتأخر الجواب عني بيومين، ثم وافت رقعة يقول فيها قد استحسنت الشعر غاية الإستحسان، ورأيتك تكلفت فيه ما لا يجب عليك من لزوم الواو في أرداف القافية ورأيت المدح مليحاً قد وقع كله في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 القسم ورأيت في صدر الأبيات في نهاية الحسن، تقدمت فيها كل من وصف ما وصفت، وخاصة بيت البهار لتشبيهه شيئين فيه. وقد تأملت البيت الأخير وأنفذت إليك في هذا الوقت ما تبنى به المنهدم من حالك، إلى أن تنجلي الهبوة التي نحن فيها إن شاء الله. ومع الرقعة صرة ديباج مختومة بخاتم راغب الخادم، فيها ثلاثمائة دينار. وتنكر الساجية والحجرية للوزير، بعد أن صالحوا الخرشني، ورجع الجميع إلى منازلهم، وانحدر الوزير إلى دار السلطان بأرزاقهم، فعرفهم أن لا مال عنده، فوثبوا به وقبضوا عليه، والسلطان يراهم. فوثب ودخل وأمر راغباً يتسلم الوزير ويكون في يده، وأن لا تجري جناية عليه. ونهب الناس داره ودار ابنه الملاصقة لداره، وطرحوا فيها النار، ونهب جماعة من كتابه. وأحضر أبو علي عبد الرحمن بن عيسى في هذا اليوم، فولى الوزارة وهو يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة من جمادى الأولى بعد أن عرض السلطان الوزارة على علي بن عيسى واستعفاه فأعفاه. وكان من العجائب المشهورة أن دار ابن مقلة أحرقت في مثل اليوم الذي أمر فيه بإحراق دار سليمان بن الحسن بباب محول، وفي مثل ذلك الشهر بينهما حول كامل، وظهر في عشية هذا اليوم سليمان ابن الحسن والخصيبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 واستوحش الخرشني الساجية والحجرية. وتحول فنزل دار الحسن بن هارون، وشغل عن العامة فعاثوا، ثم صار إليه جماعة من الحجرية فحلفوا له أنه واحد منهم فرضى ورجع إلى داره وكتب على حيطان ابن مقلة: أحْسَنْتَ ظَنَّكِ بِالأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ وَسَالْمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا وَحِينَ تَصْفُو اللَّيالِي يَحْدُثُ الْكَدْرُ وتحته صنع بدارك مثل ما صنعت بدار سليمان. وحول ابن مقلة إلى دار الوزير أبي عبد الرحمن، فأحسن إليه وسلمه إلى هنكر وما كرد ليكون في أيديهما، ويناظره سليمان في الأموال بحضرتهما في يوم الأحد لثمان ليال بقين من جمادى الأولى في دار النوشري بقرب الحبس. واتصل بالسلطان أن أبا الفتح بن ياقوت قد حبب جماعة محمد الأولياء وحملهم على الفتك بالخليفة والبيعة لأخيه عبد الواحد، فقبض عليه بين يدي الخليفة، وثب به الخدم وحبسوه في حجرة لأربع ليال بقين من جمادى الأولى. وصرف الخرشني عن شرطة بغداد لليلتين بقيتا من جمادى الأولى، وولوا كاجو الجانب الغربي، وجعل الجانب الشرقي إلى أبي الفتح تتج الحجري وأخيه أبي الفوارس سخرباس شركة بينهما. وناظر سليمان ابن مقلة وانفرد له ابن الحارث فلقى ابن مقلة منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 عنتا وأعطى خطه بمال يقال إنه ألف ألف دينار، عنه وعن جميع أسبابه، أربعمائة ألف دينار منها معجلة ثم لم يحمل شيئاً فحرك السلطان علي بن عيسى وأخاه الوزير في ضمان ابن مقلة، فوجها بالخصيبي فقرر الأمر على نحو الأول، على أن تقوم ضياعه وتؤخذ، وينجم الباقي في سنتين. وعز الخبز والدقيق فلم يوجد أياماً ببغداد، ووقع في الناس طاعون عظيم فتفانوا ببغداد وما سواها. وضرب الخصيبي ابن مقلة ضرباً مبرحاً، وأحاله على جماعة منهم ابن المغلس الفقيه فاعترف بخمسة آلاف دينار عنده لابنه أبي الحسين وأمر بحملها فحملها، ومات في تلك الليلة من سكتة عرضت له، وكان فقيهاً على مذهب داود جدلاً موسراً، وذلك لأربع خلون من جمادى الآخرة. وفي هذا الشهر رخصت الأسعار، وبلغت الساجية والحجرية أن السلطان على الخروج إلى الموصل. فقالوا هذه حيلة علينا، وقالوا لجعفر بن ورقاء هذا عملك ثم بطل ذلك. وتوفي يوم السبت لأربع خلون من رجب أبو محمد العلوي الرملي رحمه الله، ولو قلت إني ما رأيت أفضل منه في دينه وزهده وكرمه، لما خفت إثما. ودفن ببراثا وكان من لم يلحق الصلاة عليه يصلي على قبره أياماً. وطلب سعيد بن عمرو بن سنكلا - عند ابي الحسن علي بن عيسى وعند أخيه أبي علي - ما كان يجده عند غيرهما فعز ذلك عليه ولم يستحلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أن يمدا إلى أموال الناس، فحمل الراضي على عزلهما، فقبض على عبد الرحمن يوم الاثنين لست خلون من رجب. وخلع على أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي وولى الوزارة، وكانت مدة أيام عبد الرحمن خمسين يوماً، وسلم ابن مقلة إليه ليناظره، ووجدت له خزانة في دار ريطة فيها ذهب وفضة ومتاع يساوي نحو مائتي ألف دينار وقبض على أبي عبد الله بن عبدوس وصودر على مائتي ألف دينار، فتكلم سعيد بن عمرو في حطيطته والوزير يخالفه حتى شرق الأمر بينهما، فكان ذلك سبب زوال الكرخي وأدى ثمانين ألف دينار وأطلق. وصودر علي بن عيسى وأخوه، وصرفا إلى منازلهما من دار الوزير، ومات أبو بكر بن مجاهد القارئ يوم الجمعة للنصف من شعبان، ولم ير مثله ولا أرى هو مثل نفسه في علمه وخلف مالا صالحاً وورد تابوت جحظة من واسط، وكان شخص إلى ابن رايق. فيا بعد ما بين الأثنين، على أن جحظة كان أحذق الناس بصناعته، وكان له شعر صالح، وكان يروي أخباراً عمن رأى، ومات أيضاً قريض المغني، غلام محمد بن داود في هذا الوقت. وقبض على عبد الله بن يونس، وعلي ابن شبيب وطولبا بأموال فلم يوجد عندهما ماظنه من يسعى بهما، فأخذ الساعي بابن يونس مال وكان كالشريك له. وصودرا على شيء يسير وأطلقا. وصودر ابن مقلة في شهر رمضان على مائة ألف دينار فإذا أداها أطلق، وضمن المال عنه ابن قرابة وحوله إلى داره. وتحقق ابن قرابة بأمر الوزير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الكرخي وغلب عليه، وورد الخبر في شهر رمضان بقتل ياقوت قتله غلمان اللوش البربري فاضطرب الحجرية فوجه الراضي يحلف أن ذلك قد ساءه، وما كان له إِذن. وضج الحنبلية فيه من أمر ابن شنبوذ، فحمل إلى دار السلطان ونوظر، والسلطان يسمع من وراء حجاب وتاب وحبس، واستتر الوزيرالكرخي يوم الاثنين لثمان خلون من شوال وأحضر سليمان بن الحسن فخلع عليه للوزارة وانصرف إلى منزله يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال. وفي هذا الشهر مات المعروف بزنجي الكاتب، وكان مقدماً في الكتبة مذ أيام أحمد بن محمد بن الفرات وهو الذي اصطنعه، وكان كاجو وينال انحدر إلى ابن رايق فوصلهما ورجعا ثم انحدر كاجو وما كرد وتكنجور وصافي قواد الساجية، وانحدر معهم أبو جعفر بن شيرزاد والحسن بن هارون وأبو بكر بن الصيرفي انحدروا بخلع السلطان على ابن رايق ليكون أمير الأمراء، فوافت الأخبار إلى بغداد يوم الجمعة لسبع خلون من ذي الحجة بأن ابن رايق قبض على قواد الساجية فحبسهم وحبس معهم الحسن بن هارون، وتقطع أصحابهم وفروا وسلبوا ونهبوا. وورد كتاب ابن رايق يعتد على السلطان بقتله أعداءه المارقة الطغاة قرئ على المنابر، ووافى بغداد لؤلؤ غلام المتهشم والياً الشرطة من قبل ابن رايق، فتسلم يوم الخميس لثمان بقين من ذي الحجة وبث خلفاءه فيه وعزل تتج وسخرباس، ودخل ابن رايق بغداد يوم السبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 لست بقين من ذي الحجة، وخلع عليه ونزل في الحلبة في دار السلطان وطالبه بالخروج إلى واسط ليتم تدبيره ويريحه من الحجرية. وورد خبر الطير من فاتك بأن صغار الساجية قصدوا داره لكبسها واستخراج قوادهم منها، وأنه رمى إليهم برءوسهم واستبقى الحسن بن هارون وصافيا وكان ابن رايق أنفذ محمد بن يحيى بن شيرزاد وقت قبضه على الساجية إلى بني البريدي في اشياء بينه وبينهم. سنة خمس وعشرين وثلاثمائة خرج الراضي إلى واسط لليلتين خلتا من المحرم، فوصل إلى واسط يوم الأربعاء لخمس خلون من المحرم، وابتدأ ابن رايق في عرض الحجرية فلم يصبروا على ذلك، واجتمعوا فحاربوه لأيام بقين من المحرم، وكانوا مستظهرين عليه حتى خرج بجكم كميناً عليهم، فوضع السيف فيهم فولوا منهزمين وأسر من رؤسائهم جماعة فيهم خمارجور أسر وبه ثلاث عشرة ضربة وسلحجور ويمن القرواني وبه ضربة قد ذهبت بإحدى عينيه وفارس بن ينال، وغرق خلق منهم وتقطعوا في الصحارى وسلبهم أهل القرى وقتلوهم. وكتب إلى لؤلؤ بالقبض على من ببغداد منهم وإحراق منازلهم وغنم بجكم وأصحابه غنيمة عظيمة من دوابهم وسلاحهم وأموالهم، وكان أبو الحسين علي بن محمد البريدي قد وافى واسط فأوصله ابن رايق إلى الراضي حتى خاطبه، وولاهم الأهواز والبصرة، وخلع عليه ابن رايق الخلع التي كان الراضي خلعها عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 حين ظفر بالحجرية وركب معه، ورجع السلطان إلى بغداد فدخلها يوم الاثنين لثمان خلون من صفر وقد ابن رايق معه فنزل دار مؤنس نزل بجكم دار محمد بن خلف النيرماني بشريعة سوق الدواب، ونزل القرامطة في البصلية وتفرق باقي أصحابه. وكان الحجرية ببغداد قد حاربوا لؤلؤاً قبل قدوم الخليفة فحاربهم في رحبة العامة من بعد العصر إلى المغرب فظفر بهم وتفرقوا وكان ابنا الصلحى قد نظرا في الأمور لكتبتهما لابن رايق، فلما قدم فسد أمرهما ودار أمر ابن رايق على الحسين بن علي النوبختي، وهو الذي دبر له جميع ما مضى وبلغه هذه الحال. ومات الجريري المحدث أبو أحمد لسبع خلون من المحرم. ومات القاضي ابن أبي الشوارب يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم. ومات بسر من رأي إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي المحدث الذي كان قدم بغداد وخلع علي بجكم ليوم الاثنين لسبع خلون من شهر ربيع الآخر، وولي إمارة بغداد وعقد له لواء لولاية المشرق إلى خراسان. وخلع على لؤلؤ لإمارة الكوفة، وخلع على عمر بن محمد لقضاء القضاة. وصلح أمر أبي علي بن مقلة لأنه طرح نفسه على ابن روح النوبختي فكلم له الحسين بن علي بن العباس كاتب ابن رايق فأصلح أمره، وأوصله إلى الأمير فأمره بفتح بابه. ومات ابن نزار في النصف من شهر ربيع الأول، وفيه تقلد الخصيبي أزمة جميع الدواوين وخلع على ينال وولي الجبل وجرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 جماعة من الحجرية مع هنكر للجبل واستحلفوا وأطلقت أرزاقهم فخرجوا إلى الدسكرة وهو نحو خمسمائة، فأوقعوا بأكراد وأعراب فغنموا غنيمة عظيمة ثم مضوا إلى بني البريدي فغلظ ذلك على السلطان وأمر بالنداء أنه إن وجد أحد من الحجرية بعد ثلاث قتل. ولحق من كان بقي من الساجية ببغداد بالموصل بأصحابهم فإن من كان منهم ببغداد في وقت الحادثة على قوادهم لحق بالحسين بن عبد الله بالموصل وأحسن إليهم وأرزقهم وصرفهم، فلحق بهم من كان ببغداد، وكان من رؤسائهم بالموصل شفيع الخف. ومات في شهر ربيع الآخر أبو بكر بن أبي الأزهر، وزعم أن مولده سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وكذبه أصحاب الحديث لادعائه السماع من أبي كريب وسفيان بن وكيع وإسحاق بن الضيف ونظرائهم. ووافى القرمطي الكوفة في آخر شهر ربيع الآخر فخرج ابن رايق لثلاث خلون من جمادى الأولى إلى مضربه بالياسرية في أحسن عدة وأكمل زي ومعه بجكم وأحمد بن نصر القشوري وجماعة من القواد ونفذ بجكم في المقدمة إلى القصر فوجدوا لؤلؤاً ولحقهم ابن رايق ومعه بجكم إلى النعمانية، ثم رحلوا إلى واسط ليزيلوا أمر ابن البريدي. ومات ابن ميسر المحدث بواسط وكان سيداً. ومات أبو يوسف كاتب أم المقتدر يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وأمر بلعن البريديين ببغداد، وأشهد الراضي القضاة والعدول على نفسه أن قد رد أمر البريديين في حربهم أو تركهم أو لعنهم أو مقاطعتهم إلى ابن رايق وأنه يرضى كل شيء يعمله في أمرهم وطلب أسبابهم ببغداد وكتب على أملاكهم صوافي. وقلد لؤلؤ بغداد يوم السبت خلون من رجب وخلع عليه. وصار إليه من عمل الكوفة إلى بغداد، ومن الأنبار إلى بغداد، ومن النعمانية إلى بغداد. ومات إبراهيم الجاثليق يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان وقبض أبو عبد الله الكوفي على ابن شيرزاد لتسع بقين من شعبان وظفر بفتنة جارية البريدي فعذبها ابن مقاتل، فقالت له وهو يعذبها يا ابن مقاتل من الرفش إلى العرش. وصار ابن رايق إلى دجلة البصرة فواقعه أصحاب البريدي فهزموهم وصارت البصرة لهم خالصة. وقطع أمر ابن شيرزاد على تسعين ألف دينار بخمسة وعشرين ألف دينار منها ضياع، وما بقي فبعضه معجل وبعضه مؤجل وأطلق إلى منزله لست بقين من رمضان وتألف لؤلؤ العيارين وأصحاب العصبية وأثبت بعض العيارين. ووصل أبو الفتح الفضل بن جعفر بن فرات إلى بغداد في شوال. ووصل إلى الخلفية، واستوزر يوم الخميس لسبع خلون منه. وكان بجكم قد هزم البريديين وملك الأهواز فصاروا إلى البصرة والأبلة وأقاموا بها ومعهم قوادهم وأكثر رجالهم قبل هذا الوقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وصار فاتك حاجب ابن رايق إلى دجلة البصرة ليأخذ البصرة فلقيه بالمفتح إقبال فهزمه ورده إلى الجامدة. ومات شيخ مسند يعرف بالزعفراني، نزل دار عمارة وانحدر الوزير والقاضي عمر بن محمد والكوفي في ذي القعدة إلى واسط، إلى ابن رايق. ومات أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى في ذي الحجة، وكان عنده إسناد ليس بالرفيع. ورجع الوزير إلى بغداد ولم يلق ابن رايق لأنه خاف أن يطالبه بمال. ودخل الكوفي بغداد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، خليفة لابن رايق فجمع مالاً وخرج إليه لثلاث بقين من ذي الحجة. سنة ست وعشرين وثلاثمائة رجع القاضي عمر بن محمد إلى بغداد لليلتين من المحرم. ونزل الوزير داره التي على دجلة بين القصرين، ووجه إلي يأمرني أن أحمل إليه كتاب الكتاب الذي ألفته فاستحسنه، وكان جميع من يدخل إليه ممن يأنس به ويعلم أنه يفهم يقول له: لقد سرني أنه بقي في الزمان من يحسن أن يؤلف مثل هذا! ووصلني بثلاثمائة دينار وأعطى الحشم رزقه وألحق اسمي بهم وأطل رزقي وزاده في جملة المال وكان ابن مقلة قد أخرجني من جملتهم وأفردني لما جالسه ابنا المنجم وشعثاني عنده فكاتبته بأشعار يغفر بها الكبائر من الذنوب فما عطف علي! منها أني مدحته بقصيدة ما مدح بمثلها قط، فما استمع الشعر مني، فأنفذته على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 يد أبي بكر بن الخياط النحوي، فلما قرأه قالا له قد هجاك في القصيدة فقال ابن الخياط أين الهجاء من هذه القصيدة. قالا قوله: مَا عَلَى الأَرْضِ مَادِحٌ لَكُمُ قَبْ ... لِي وَحَقِّي مَا بَيْنَكُمْ مَهْضُومُ وأنت فقد مدحك قبله عبيد الله بن عبد الله، وابن بسام فكيف صار هو أول من مدحك فقال ابن الخياط إنما عنى الرجل ما على الأرض ما بقي أحد مدحكم قبلي، ولم يقل ما تحت الأرض، وأعانه أبو عبد الله أخو الوزير وناظر فيه على حق وصواب، وهو لا يسمع إلا قولهما قال فلم يكن لنا حيلة. وأنا أذكر الشعر وإن كان طويلاً لخصال: منها أنه حسن، ومنها أنه ما مدح بمثل، ومنها تكذيب من زعم أني هجوته فيها وهو: أَنَا منْ بَيْنِ ذَا الْوَرَى مَظْلُومُ ... وَإِذَا مَا خَصَّمْتُهُمْ مَخْصُومُ تَتَخطَّانِيَ الْحُظُوظُ فَاسَى ... ومَكَانِي منْ عِلْمِهِمْ مَعْلُومُ كَمْ تُرَى في الزَّمَانِ مِثْلِيَ حَتَّى ... لَمْ يَرْمُنِي الْوَزِيرُ فِيمَنْ يَرُومُ قَدْ تَعَدَّانِيَ اخْتِيَارُ كَرِيمٍ ... وَهُوَ طَبٌّ بالاخْتِيَارِ عَلَيْمُ وَهُوَ أَعْلَى الْكُفَاةَ مَجْداً وفَضْلاً ... إنَّ ذَا ما عَلِمْتُ حَظٌّ جَسِيمُ لَيْسَ هذا إِلاَّ لتَأْخِيرِ حَظٍّ ... حَقُّه حينَ يُنْصَفُ التَّقْدِيمُ لَسْتُ أشْكُو أَبَا الْحُسَيْنِ وَحَاشا ... هُ لَهُ دُونَ ذَلِكَ التَّعْظِيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 أَنَا لَوْ لُمْتُهُ وَقَدْ خُصَّ غَيْرِيبِدُنُوٍّ مِنَ الْوَزِيرِ مُليمُ أَتُرَانِي أَخْلَلْتُ بالعِلْمِ حَتَّى ... شَدَّ مِنِّي التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لَوْ رَمَى بِي الزَّمَانُ عِزَّاً تَلِيداً ... لَمْ يَرُضْنِي الذَّكَاءُ وَالتَّعْلِيمُ كَيْفَ نُجْلِي عَلَيْهِ أَبْكَارَ لَفْظٍ ... وَلَهُ في الأَنَامِ مِثْلِي ندِيمُ أَتَظُنُّ النِّدَامَ تَرْضَى بِهذَا ... لاَ ومُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمُ أَيْنَ مَنْ جَالَسَ الخَلائِفَ قَبْلِي ... وَافِرٌ حينَ تُسْتَخَفُّ الْحُلُومُ طَائِرِي سَاكنٌ وفكْرِي عَزُوفٌ ... عَنْ فُضُولِ الْمُنَى وَلَحْظِي سَلِيمُ وكَلاَمِي قَدْرُ الكِفَايَة إِلاَّ ... شَرْحُ علْمٍ وَجَانِبي مُسْتَقِيمُ فأَعِينُوا عَلَى الزَّمانِ بِعَدْوِي ... إِنَّ ذَنْبَ الزَّمَانِ عِنْدِي عَظِيمُ لِيَ عِدَاتٌ طَيْرُ التَّقَاضِي عَلَيْهَا ... طَلَباً لِلنَّجَاحِ مِنْكُمْ تَحُومُ وَالْوَزِيرُ الصَّغِيرُ فِيَهَا زَعِيمٌ ... بالَّذِي أَرْتَجِي وَنعْمَ الزَّعِيمُ هِيَ دَيْنٌ عَلَيه وَهُوَ مَلِيءٌ ... مُنْصِفٌ مِنَ العِدَى وَدَهْرِي ظَلُومُ لِعَليٍّ عَلَى الأنَامِ اعتِلاَءٌ ... حَادِثٌ مِنْ جَلاَلِهِ وَقدِيمٌ وَرَثَ الْمَجْدَ مِنْ غَطَارِفَ شُمٍّ ... غُرَرٍ لاَ يُعَدُّ فِيهِمْ بَهِيمُ فَهُوَ يَنْحُو الْوَزِيرَ فِي كُلِّ فَضْلٍ ... لَيْسَ يَنْحُو الكَرِيمَ إِلاَّ كَرِيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أَنْفُسٌ تَعْشِقُ الْمَكَارِمَ وَقفاً ... فَرَّقَتْهَا عَلَى ائْتِلافِ جُسُومُ فعَلَيٌّ مُحَمَّدُ بنُ عَليٍّ ... طَابَ فَرْعَاهُمَا وَطَابَ الأُرُومُ ذَاكَ بَدْرٌ لَنَا وَهَذا هِلاَلٌ ... ذَا هَوَاءٌ لَنَا وَهذَا نَسِيمُ لَمْ تَلِدْ مِثْلَهُ الْمُلُوكُ كَمَالاً ... فَهُوَ ثَأْرٌ مِنَ الْعَدُوّ مُنِيمُ مَنْطِقً يَشْغَلُ اللِّحَاظَ بِحُسْنٍ ... فَهُوَ ثَاوٍ عَلَيْهِ لَيْسَ يَرِيمُ تَسْتَرِدُّ الْعُيُونُ حُسْناً إليهِ ... مِثْلَ مَا يَسْتَرِدُّ دَيْناً غَرِيمُ وَنَفَاذٌ يَقْرِي الْوَلِيَّ سُرُوراً ... وَيَرُدُّ الْعَدُوَّ وَهُوَ كَظِيمُ لَوْ تَمَنَّاُه وَالدٌ مَا عَدَاهُ ... وَإِلَيْهِ فِي أَمْرِهِ التَّحْكِيمُ لَمْ يُمَحِّضْ بِمِثْلِهِ مُقْرَبُ الدَّهْ ... رِ وَلاَ اسْتَامَ شِبْهَهُ مَنْ يَسُومُ لَوْ يُحَابَى النُّجُومُ فِي طَالِعِ الْمَجْ ... دِ لَقُلْنَا حَابَتْهُ فِيهِ النُّجُومُ لَيْسَ يَأْتِي بِمِثْلِهِ الدَّهْرُ فَضْلاً ... هُوَ عَنْ ذَاكَ غَيْرَ شَكٍّ عَقِيمُ كُلُّ رَهْنٍ فِي سُؤْدَدٍ أَغْلَقُوهُ ... فَلَهُ السَّبْقُ فِيهِ وَالتَّسْلِيمُ أَنْتُمُ يَا بَنِي عَلِيٍّ نُجُومٌ ... لِلْوَرَى فِي الضِّياء لَيْسَتْ تَغِيمُ خَيَّمَتْ فِيكُمُ مَحَاسِنُ حَظٍّ ... لاَحَ مِنْهَا لِلنَّاسِ دُرٌّ عَظِيمُ قَلَمٌ جَامِعُ بَيَاناً وَحُسْناً ... مَا حَوَى فِيهِ مِثْلَكُمْ إِقْلِيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 تَتَباهَى بِهِ القَرَاطِيسُ حُسْناً ... مِثْلَ وَشْيٍ تَرُوقُ مِنْهُ الرُّقُومُ وكَلامٌ كَأَنَّهُ زَهَرُ الرَّوْ ... ضِ بَدَتْ لِلنُّجُومِ مِنْهُ نُجُومُ قَدْ أَحَاطَتْ بِهِ عُيُونُ المَعَانِي ... وأضَاءَتْ في جَانِبَيْهِ الظُّلُومُ لَكُم إِنْ تَسْقِهِ الْجُودَ جَوْدٌ ... وَاقِعٌ دُرَاهُ وَخِصْبٌ مُلِيمُ وَسَحابٌ مِنَ النَوالِ وِسَاعٌ ... ضَاقَ عَنْهُ سَحابُهُ المَرْكُومُ مَدْحُكُمْ وَاجِبٌ عَلَيَّ كَفَرْضٍ ... لَيْسَ فِيهِ لَغْوٌ وَلاَ تَأْثِيمُ لَيْسَ لِي في تأَخُّرِي عَنْكُمُ ذَنْ ... بٌ مِنْ أَجْلِهِ مَهْمُومُ كُلَّمَا جئْتُ حَالَ دُونِي حِجَابٌ ... وَتَعالَتْ لَهُ عَلَيَّ الْهُمُمُ كُسِرَتْ دُنِيَ الْحَوَاجِبُ غَمْزاً ... وَبَدَا للْعُيُونِ لَمْحٌ ذَمِيمُ لَمَعتْ لِي بِخُلَّبِ الْوَمْضِ مِنْها ... بِنَوَاحِيَّ بِهِ لِحَاظٌ سَقِيمُ فَكَأَنِّي لَدَيْهِمُ شَخْصُ بَوٍّ ... لَمْ تُعَطَّفُ عَلَيْهِ ظِئْرٌ رَءومُ طَبْعُهُم ظَاهِرُ القَساوَةِ فَظٌّ ... لَيْسَ فِيهِمْ مَعَ الْبَلاءِ رَحِيمُ لَيْسَ لِي فِي الْوُصُولِ وَقْتُ اخْتِصَاصٍ ... وكَذَا فِي الْعُمُومِ مَالِي عُمُومُ فَأُسِيمُ الْكُرُوبَ فِي مَسْرَحِ الْقَلْ ... بِ وَمَرْعَى الْحِجَابِ مَرْعَى وَخِيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 مَالَهَا مَشْرَبٌ عَلَيْهِ مَعَ الظِّمْ ... ءِ وَوِرْدِ الإِخْمَاسِ إلاَّ الْحَمِيمُ وَالَّذِِي يُوجِبُ الْمَدِيحَ لِشَرْحِي ... جَمُّهُ الْفَاءُ وَالنَّبَاتُ الْجَمِيمُ لاَ تَكُرُّوا عَلَيَّ فِيهِمْ مَلاَماً ... فَعَذَابُ الْحِجَابِ عِنْدِي أَلِيمُ وكَذَا جَاءَ في التَّلاوَةِ نَصَّاً ... لَيْسَ بَعْدَ الْحِجَابِ إلاَّ الجَحِيمُ كُلُّهُمْ فِي أَوَانِ إِذْنِ عَدُوٌّ ... وَصَدِيقٌ فِي غَيْرِ إِذْنٍ حَمِيمُ وَنِيَامٌ عَنْهُمْ كَنَوْمةَ أَهْلِ ال ... كَهْفِ لَوْلاَ وَصِيدُهُمْ وَالرَّقِيمُ لَمْ يَلْدْهُمْ جِوَارُ سَعْدٍ كَمَا قَا ... لَ جَرِيرٌ وكُلُّهْمُ مَرْكُومُ مَا أُعَلِّي عَلَيْهِمُ اللَّوْمَ لكِنْ ... مُلْزِمِي فِيهِمُ المَلاَمَ ذَمِيمُ وَعَطَايَاكَ إِنَّهَا فَيْضُ بَحْرٍ ... إنَّ شَيْطَانَ مَنْعِهِمْ لَرَجِيمُ أَمِنَ الحَقِّ أَنْ يَجِفَّ ثَرَى رَبْ ... عِي مِنْكُم وغَيْثُهُمْ مَسْجُومُ لِيَ مِنْ غَيْثِهِ رَذَاذٌ وَطَلٌ ... وَلِغَيْرِي الأَجَشُّ مِنْهُ الْهَزِيمُ نَامَ حَظِّي فَأَيْقَظُوهُ بِجُودٍ ... إِنَّهُ بَعْدَ بَدْئِكُمْ تَتْمِيمُ قَدْ تَشَكَّيْتُ مَا أُلاَقِي إِلَيْكُمْ ... مِثْلَ مَا يَشْتَكِي الْوَصِيَّ يَتِيمُ كُلُّ مَنْ أَخْطَأْتْهُ رَحْمَةُ عَطْفٍ ... مِنْ نَدَاكُمْ وَأُنْسكُمْ مَزْحُومُ فِي زَمَانٍ طَرَّزْتُمُوهُ بِجُودٍ ... وَهُوَ لَوْلاَكُمُ زَمَانٌ لَئِيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 لِي بِكُمْ حُرْمَةٌ ثَلاثِينَ عَاماً ... غَيْرَ أَنِّي مُبَاعَدٌ مَرْجُومُ لَيْسَ لِي مِنْكُمُ اخْتِصَاصٌ بِأُنْسٍ ... بَلْ أُرَى ظَاعِناً وَغَيْرِي مُقِيمُ مَا عَلَى الأَرْضِ مَادِحٌ لَكُمُ قَبْ ... لِي وَحَقِّي ما بَيْنَكُمْ مَهْضُومُ حينَ سَيْفُ الْمَدِيح مُدَرَّعُ الْغِمْ ... دِ لَدَيْكُم مَا سَلَّهُ التّ؟ صْمِيمُ لِيَ مِنْهُ وَخْدُ الْمَسِيرِ وَنَصٌّ ... وَلَغِيرِي خِنَافُهُ وَالرَّسِيم وَعُيُونُ الآمالِ تُطْرَفُ عَنْكُمْ ... مَالَهَا نَحْوَكُمْ لِحَاظٌ تَدُومُ مِدَحِي سَبَّقٌ وإِذْني سُكَيْتٌ ... مَا قَضَى مِثْلَ ذَا الْقَضَاءِ سَذُومُ مِدَحٌ مُلَّكْت رِقَابَ الْمَعَانِي ... عُطِّلَتْ مِنْ حَلْيِهِنَّ الرُّسُومُ شَغَلَتْها عُلاَكُمُ مِنْ مَغانٍ ... سَئِمَتْ مَرَّها عَلَيْها السَّمُومُ فَهُوَ زَيْنٌ لِمُرْتَجِيكُمْ وَعِزٌّ ... وَنُجُومٌ عَلَى عِدَاكُمْ رُجُومَ وَلآلٍ لَكُمْ يُضِيءُ سَنَاها ... وَنُحُوسٌ لشانئيكُمْ حُسُوم حَرَّمَ اللهُ أَنْ يَكُونَ جِنابِي ... مُجْدِباً مِنْ نَدَاكُمُ وَالْحَرِيمُ ضَامَنِي الدَّهْرُ باجْتنَابِكُمُ قُرْ ... بِي وَمَنْ ضَامَهُ الزَّمَانُ مُضِيمُ أَنْصفُونِي فِي نَظْمِ مَا قُلْتُ فِيكُمْ ... هَلْ يُدَانِيهِ لُؤْلُؤٌ مَنْظُومُ هُوَ لَفْظٌ تَحَكَّمَ الطَّبعُ فِيهِ ... مِثْلُهُ لا عَدِمْتُكُمْ مَعْدُومٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وَتَخَطَّى عِرَاصَكُمْ بُؤْسُ دهْرٍ ... وَثَوَتْهَا مَسِرَّةٌ وَنَعِيمُ كُلُّكُمْ فِي مُعَجَّلِ الدَّهْرِ والآ ... جِلِ جَمُّ الْعُلَى مُعَافىً سَلِيمُ وبلغَ الراضي أمر القصيدة، فقال اكتبها لي حتى أنظر فيها، فلما قرأها قال لي: أنت والله معهم في هذا كما قال البحتري: إذَا مَحاسِنِيَ اللاَّئِي أُدِلُّ بِها ... كَانَتْ ذُنُوبِي فَقُلْ لِي كَيْفَ أَعْتَذرُ عَلَيَّ نَحْتُ الْقَوَافِي مِنْ مَعادِنِها ... ومَا عَلَى لَهُمْ أَنْ تَفْهَمَ الْبَقَرُ فما نفعني ذلك شيئاً بل ضرني. وإلى وقتي هذا أنا في خمار كأسهما التي أعدداها لي، فما يقبل علي من ولياً به عني وأحمد الله. وفي المحرم أمر رجل يعرف بالحواجبي، على خال سنكلا نصراني يعرف بأبي عمرو بن شريح بمعروف فشكا ابن سنكلا بعبد الله إلى الراضي فأمر بالقبض على الحواجبي، وأمر بإحضاره الدار، وأن يضرب بالسياط. فما زال إسحاق بن المعتمد وما زلت معه نكلمه فيه ونعلمه أن قتل هذا عظيم وسمع ضجة، فقال لذكي الحاجب: ما هذا؟ قال أهل باب الطاق في أمر الحواجبي. فقال لئن زادوا لأخرجنه إليهم مصلوباً هذا لم يرض أن وثب على كاتبي حتى تخطى إلى ذكرى فوجهنا وصرفناهم، ولم نزل حتى أمر بحبسه، وأفلت من غير ذلك وبلغ هذا البربهاري فعاتبني فيه وخاصمني، وجاءني أصحاب الحواجبي يشكروني فقلت أعفوني من هذا فإني في بلاء عظيم، وتكلم فيه كل جليل فما نفع. وشاورني أصحابه فعرفتهم أن الراضي لا يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 إلا ما يريده ابن سنكلا، وأشرت بأن يقصدوه في أمره فكلموه فيه غدوة يوم فأطلق في عشيته. وخرج الراضي معه الوزير متنزهاً وخرجنا معه فسار من الجانب الشرقي حتى حارتي بُزُوغَى ثم عبر إليها فأقام يومين ورجع. وورد لعشر خلون من المحرم رجل يعرف بالخلنجي كان يحمل الخريطة إلى مكة ويسبق بالأخبار فأخبر بسلامة الناس وتمام الحج. ومات يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم موسى من ولد الرضا، وكان من أسن ولد الحسين عليه السلام في وقته، ونودي في الطريق بحضور جنازته، وكان من الزهد والطهارة على طريقة سلفه رضي الله عنهم وعنه. وكثر الضجيج من تعنت أصحاب لؤلؤ للناس ووضع الجبايات. عليهم وإغرامهم، فعزل عن شرطة بغداد، ووليها محمد بن بدر الشرابي يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر. ومات شيخ بالكوفة محدث مسند، يعرف بسوداني كان عنده عن أبي كريب وعباد بن يعقوب، ووافى رسول ملك الروم بهدايا كثيرة منها صياغات وثياب ديباج ومقارم وآنية ذهب، طريفة الصياغة، فجلس الراضي يومهاً فعرضها علينا، ووهب لنا أكثرها، وما كان شيء ألذ عنده من شيء يهبه وطعام يؤكل بين يديه ما بخل بشيء قط، وما سمع بأكمل جود منه. وورد الخبر بوقعة كانت لابن رايق إلى دجلة البصرة، ودخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 نهر معقل فوافى البصرة، فعجل بعض أصحابه، فطرح حريقاً في جزيرة حيال البصرة، وكان يبلغ أهل البصرة أنه يريد قتلهم وإحراق بلدهم وخاطب بذلك بعض رؤساء البصرة ممن قصده، فلما رأى ذلك أهل البصرة أعانوا البريديين فهزم ابن رايق وأفلت هو وبجكم من أن يؤخذ ورجع إلى دجلة البصرة فعسكر بموضع يعرف بعسكر أبي جعفر حيال نهر معقل، فلما طال الأمر عليه رحل صاعد إلى واسط. وركب ابن الراضي في شعر ربيع الأول إلى أجمة بالثريا يطلب فيها خنازير، وركبنا معه فرأينا في الموكب فرساناً لا نعرفهم فطاف ساعة، ثم عدنا معه فتغدى وكان النهار قصيراً وصلينا الظهر وركب، فرأينا الفرسان قد زادوا وأنكرهم الحاجب ووافى محمد بن بدر الشرابي في مائة فارس، فلما رآه الفرسان تفرقوا فلم نر منهم أحداً فصاد خنزيرا وانصرفنا فقال لنا بعد من أي شيء أفلتنا يوم الخنازير، وإنا لبين يديه في الحجرة التي كان يجلس فيها، ونحن أربعة وكذا كانت نوبتنا إذ أدخل رجل مشدود العينين بذراعية وخف، فلما أقيم بين يديه قال مالنا نحن قرامطة فقال له الراضي يا بن الفاعلة: لو كنت محتاجاً لعذرتك، ولكن من رشحك لهذا قد أغناك وجعل إليك نقابة، ومولك فك الكلب النابح، فضربوا فكه وهو يقول: بتربة المقتدر ارحمني وإذا هو أبو عبد الله بن المنتصر والمنتصر جده. ثم قال له الراضي: والله ما طلبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 هذا الأمر فأما إذ دفعت إليه فوالله لا طلبه أحد في أيامي ساعياً علي فعاش. ثم أمر به فنحي وأدخل بيتاً حيال بركة السباع فعرفنا من الغد أنه قتل في ليلته، وأخذ جماعة بسببه فحبسوا منهم المعروف بالزهري وابن أبي الحناء وإبراهيم وغيرهم. ثم حدثنا الراضي بعد ذلك قال كان الفرسان الذين رأيتموهم بالثريا قد عزموا على الفتك بنا فلما جاء ابن بدر يئسوا فمضوا فقال واحد منهم لبعض من كان ندبه لهذا: لقد مددت يدي إلى سيفي مرات لأضربه به يعنيني فقال فهلا فعلت لعنك الله وأراد قائل هذا أن يكون وزيراً لابن المنتصر، وهو يريضه لهذا منذ مدو وقد أغناه ثم قرأ علينا رقعة جاءته من أبي علي بن مقلة: العجب من اتهام الناس إياي بسبب هذا الأمر، وتعجب الراضي من جهل من اتهمه بهذا الأمر أقرأنا جوابه إليه يصدقه في قوله، وبأنه ما سمع ما ذكره ولا وقف عليه إلا من رقعته وَيُسَكِّنُ منه. وأمر يطلب أولئك الفرسان نظفر ببعضهم فآمنهم ووصلهم، وفرق بينهم، وسمع كلام كل واحد منهم مفرداً، فحدثنا أنهم عرفوه كيف جرى الأمر من أوله إلى آخره حتى وقف على صحته، وجعل الراضي يوري عن ذكر الفاعل لهذا إذا حضرت جماعتنا، ويصرح به إذا حضر من يثق به منا واتصل هذا الخبر بابن رايق فقدم في آخر شعر ربيع الأول، وتلقاه ابنا الراضي، وأظهر أنه قلق لما جرى وخاف أن يسعى في مثله لبعده عن مولاه، وإنما جاء لضيق المال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 واستحقاق الجند وأن بجكم أقبل إلى واسط فلم يحب الاجتماع معه، ولم يزل يطالب الوزير بالمال وهو يجمعه له، وأخذت في هذا الوقت من الراضي آنية ذهب وفضة فضربت. أنفذ ابن رايق إلى بجكم من المال ما قدر عليه وزوج لوزير الفضل بن جعفر ابنه بابنة ابن رايق. وزوج أبا بكر بن طغج بابنة له أخرى وكان الوليمة في ذلك الوقت وخطب القاضي عمر بن محمد بحضرة الخليفة للجميع خطبة واحدة وكان مهر أبي بكر بن طغج ثلاثين ألف دينار ومهر ابن رايق نصفها وعزم الوزير على الخروج إلى الشام واستخلاف أبي بكر عبد الله بن علي النِّفَّري على العرض وإمضاء الأمور بالحضرة، فخرج لثلاث خلون من شعر ربيع الآخر وهجم بعقب خروجه على أبي عبد الله بن عبدوس وطولب بمال عظيم. ثم تقرر أمره على خمسة عشر ألف دينار أخذت منه بألوف منها جارية مغنية كانت له وترك له من أجلها الباقي. وقبل هذا بمديدة ما اشترى ابن رايق من ابنة عبد الله ابن حمدون جارية زوجة محمد بن عبد الله ابن حمدون جارية مغنية يقال لها شرين بأربعة عشر ألف دينار، فاستعظم الناس ذلك، وتسلمت الجارية، وحمل المال من عند أبي الحسن البريدي، وحملت هي إلى واسط. وطولب محمد بن يحيى بن شيرزاد بمال فحمل اثنتي عشر ألف دينار. وقبض على أبي إسحاق القراريطي واتهم بأنه تضمن أبا عبد الله الكوفي وابني مقاتل بمال عظيم، فسلم إلى أحمد بن علي الكوفي فجرى عليه من المكروه ما لم يجر مثله على أحد، حتى ظن الناس أنه تلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وغضب الراضي على جليسه محمد بن عبد الله بن حمدون أبي جعفر واتهمه بكلام بعض خدمه، وما كان لذلك أصل كما ظنه. وأمر ألا يوصل إليه فاختلت نوبتنا وكنا أربعة به فبقي إسحاق بن المعتمد والعروضي وأنا. ثم حدثنا بأنه فعل به ذلك لاتهامه إياه بتعريف ابن رايق ما يجري في مجلسه بسبب الجارية المشتراة منهم، وأنها سبب الوصلة بينهم، وكان يبلغه أن ابن حمدون يعاشر ابن رايق إذا خرجت نوبته. وكان انحراف الراضي عن ابن رايق في هذا الوقت يتبين في طرفه وقوالب لفظه، ثم صرح بذلك لي وللعروضي من بين الناس، فكنا نعتذر لابن حمدون من أمر الخادم الذي كان هو أعلم ببطلانه ثم نحلف له أنه مثلنا في جميع أموره مأمون السر والعلانية. إلى أن وثق بذلك، وتقرر عنده. وكان ابن رايق قد كلم الراضي في الرضا عنه فلم يجبه، وكتب ابن حمدن إلى الراضي بأبيات يعتذر فيها وهي: أَطَارَ الكَرَى عَنْ مُقْلَتَيَّ التَّعَتُّبُوَجَمْجَمْتُ مَا أَلْقَاهُ وَالْحُزْنُ يَعْزُبُ وَحُمِّلْتُ مَا بَيْنَ الْجَوَانِحِ وَالْحَشَاجَوىً غَيْرَ ما يُدْعَى لَهُ الْمُتَطَلِّبِ وَيُوشِكُ أَنْ يَدْعُو بيوْمِ مَنِيَّتِي ... سَرِيعاً إِلَى الأَعْدَاءِ نَاعٍ مُطَرِّبُ وَقَدْ عَلِمَ اللهُ: الَّذِي دُونَ عِلْمِهِعُلُومُ الْعِبَادِ فَهُوَ أَعْلَى وأَغْلَبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 بَرَائِيَ مِمَّا ظُنَّ إِنِّي اقْتَرَفْتُهُوَهَلْ يَغْمُرُ الإِحْسَانُ حُرَّاً فَيُذْنِبُ فَقُلْتُ كَمَا قَالَ الْمُقَدَّمُ قَوْلُهُلِنَنْقِمَ وَالأَمْثَالُ تُجْرَى وَتُضْرَبُ أَتَانِي أَبَيْتَ اللَّعْنَ أنَّكَ لُمْتَنِيوَتِلْكَ الَّتِي أَهْتَمُّ مِنْهَا وَأَنْصَبُ فَإِنْ أَكُ مَظْلُوماً فَعَبْدٌ ظَلَمْتَهُ ... وإنْ تَكُ ذَا عَتْبٍ فَمِثْلُكَ يَعْتِبُ وقررت أنا والعروضي في نفس الراضي عند وصول هذه الأبيات أن ابن رايق ليس بالصافي النية لابن حمدون، وعرفنا سبب ذلك فرضي وقال: قولوا له يسأل ابن رايق أن يكلمني في أمره أو يكاتبني فإنه يقبح أن أرضى عنه بغير مسئلته بعد أن كلمني في ذلك فأبيت عليه فكاتبه ابن رايق فأجابه وعاد إلى أمره. وظن الراضي أن ابن رايق قد اتهمه بتغير، له فدعاه إلى الزبيدية فأكل بين يديه مع ابنيه على مائدة كانت عن يمنة الراضي، وأكلنا نحن على مائدة أخرى، عن يساره وجعل يبره بالشيء يرفع من بين يديه. ثم جالسه على النبيذ ومد له بشارته حتى سمع وشرب. وخلع عليه وقت الظهر خلعة وشيء مثقلة بالذهب ومعممة كذلك، فجلس فيها ساعة. ثم خلع عليه عند العصر وقت انصرافه خلعة أخرى انصرف فيها بعد أن شرب نبيذاً كثيراً. واستكتب بجكم بواسط على بن خلف في جمادى الأولى. وزاد أمر البربهاري وأصحابه، فكتب ليه ابن رايق رقعة يحذره فيها وينذره فأظهر القبول وتضمن ترك المعاودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ورد رسول ملك الروم مع الوزير وقت خروجه بهدايا، وأجيب إلى الفداء وأمر الوزير أن يتم أمره من مال الشام، وحضر الناس الفداء وأخرج الراضي خادمه راغباً لحضور ذلك. وتحرك بعض عياري المخرم في أمر السعر، وكلم بقال في سوق الثلاثاء بعض أصحاب ابن رايق في شيء تجاذ باله فغضب ابن رايق من ذلك وأمر أصحابه فأحرقوا حوانيت كثيرة في سوق الثلاثاء إلى ناحية المخرم، وفعل فعلاً استقبحه الناس وكرهه الراضي وحقده عليه، وكان هذا في شعبان. وصودر شفيع المقتدري على أربعة آلاف دينار مصادرة ثانية. وتوفي أبو القاسم الحسن بن روح النوبختي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان. وكان الراضي ربما ذكره بأن الإمامية يحملون إليه الأموال، فنرد عنه ونكذب، فيقول لنا: وما في هذا؟ والله لوددت أن مثله ألفاً تحمل الإمامية أموالها إليه فيفقرهم الله ولا أكره غنى هؤلاء من أموالهم. ومات رجل يعرف بالطبري بدار كعب وخل مالاً عظيماً، وكان له أخر بطبرستان وابن أخ ببغداد فوجه ابن رايق فحمل من داره وحوانيته مالاً ومتاعاً كثيراً. فتكلم الناس في ذلك، ودخل العروضي وهو يلي المواريث ولاه الراضي إياها. وكان مرضياً ثقة فيها فعرفه أمر الرجل فأنكر الراضي ما فعله ابن رايق وأنفذ إليه بما أقلقه فأمره برد جميع ما أخذ إلى موضعه. وظفر بالدلا فحبس في دار ابن رايق ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أفلت وظفر به بعد مدة وقتل. وتحدث الناس في شوال بأن رقة ابن مقلة جاءت إلى الراضي يتضمن فيها ابن رايق وابني مقاتل بألفي دينار، وأنه يقبض عليهم بحيلة قريبة إذا أمر بغير كلفة، فوجه إليه الراضي: مثل هذا الأمر العظيم، والوقوف على ما يدبر فيه لا يجيء بالرقاع فصر إلى حتى تعرفني الوجه فيه، ويتفق الرأي على ما يعمل به. فصار إلى ذكي الحاجب ليلاً سراً فأعلم الراضي بأمره، فأمر الراضي بحبسه، وفي نفسه عليه أمر ابن المنتصر، وأنه الذي ريضه للخلافة. وكتب الخصيبي من وقته رقعة إلى ابن رايق يعلمه أن ابن مقلة عند الراضي، وأنه قد تضمن به وبابن مقاتل وأنه يستوزره، فركب ابن رايق مع قواده وجيشه إلى الدار، وقال: لا أبرح إلا تسليم ابن مقلة إلى. فأخرج فقطعت يده اليمنى، وانصرف ورد إلى محبسه بعد أن ناشده الله ألا يفعل ذلك، وأن ينفيه إلى حيث رأى فأبى إلا الفعل القبيح، الذي لم يأت أحد مثله. ونودي في جانبي بغداد بأن السلطان قد رضي عن بني البريدي وأسبابهم وأطلق ابن رايق لبناء دورهم. وبلغ ابن رايق أن بجكم يصعد إلى بغداد لطلب أرزا أصحابه وكان قدم قبله الترجمان في المطالبة بالمال، فلم يرجع بما أحب فخرج مصاعداً. فخرق ابن رايق نهر ديالي، وفعل أفعالاً كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 سبباً لبثق النهروان الذي خربت به الدنيا وافتقر الناس وغلت الأسعار إلى وقتنا هذا، وصار إلى الدار فضرب خيمة في الحلبة وأسكنها قواده. ووافى بجكم نهر دَيَالَى يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة. وحاربه ابن رايق فاحتال بجكم إلى أن عبَّر بعض أصحابه، وانهزم ابن رايق وأصحابه وجاء إلى السلطان ليدخل إليه فغلقت الأبواب دونه فصار إلى داره فحمل ما قدر عليه وخرج ومعه بدر الخرشني، وصاح الناس: هذا عقاب من الله لك، لاستكتابك الكوفي وتسليطك إياه على الناس. وكان قد استكتبه، وعزل به الحسين بن علي بن العباس النوبختي بعد أن بلغه المنزلة التي بلغها برأيه وتدبيره وهو الذي احتال على الساجية ودبر أمر الحجرية فصار ابن رايق إلا أوَانَا ثم خفي أثره. وكاتب السلطان بدراً الخرشني فرجع. واستتر الكوفي وابنا مقاتل ببغداد. ووصل بجكم إلى الراضي يوم الثلاثاء وخلع عليه يوم الخميس سبع خل وقال له: قد جعلتك أميراً وعقد له لواء له فقال: يا مولاي ما أريد إلا أن تزاح علتي في أرزاق أصحابي وقت استحقاقهم، ونزل في دار مؤنس. وأخذ لابن رايق ابن صغير فجربه إلى بجكم فبكى حين رآه وأجرى عليه جراية واسعة، ونودي إن من دل على الكوفي وابني مقاتل فله عشرة آلاف درهم، ومن وجد واحد منهم عنده فقد حل دمه وماله. وعقد لبجكم على المشرق وأشير على الراضي أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 يضم إلى حاجبه جيشاً من جيش الحضرة وقوادهم، وأن يفرد ما لم عن مال أصحاب بجكم وأن يوجهوا بكتاب الجيش ليحصوا أصحاب بجكم، ويحصلوا مبلغ مالهم ويعرفوا الراضي حتى يثبته عنده ولا يزيد أحد فيه شيئاً إلا بإذن منه فما قبل الراضي ذلك إلا في أمر حاجبه ولا في جيش بجكم، فما مضى لبجكم شهران حتى زاد أصحابه وزاد فيهم من اثبت بعشرين ألف دينار في السنة وأكثر، وجرى أمره على ذاك إلى أن قتل. وكان هذا مما عتب على الراضي إغفاله وظفر بالكوفي فحمل إلى الدار، وحمله غلام لذكي الحاجب يقال له خير، فرجمته العامة وأرادوا قتله فدفع خير عنه، وقال: تذهبون بمال السلطان فوصل به إلى الدار بعد تعب شديد، وصودر على مال وشملته عناية ابن سنكلا. وما رأيت أحداً قط ملك من حسن رأي صاحبه ما ملكه ابن سنكلا من الراضي وقد علم الله عز وجل أني ما قصرت في تقريظ الكوفي عند الراضي وتعريفه كفايته وأمانته، وأنه بخلاف ما عليه العمال من التصون والاجتزاء بالقليل، مما رأيته في ولايته، بعد أن كان محسناً إلى معنياً بي، عرف لي ذلك على طول الجوار وقديم المودة. وأخذ بجكم من مضحك كان لابن رايق يعرف بأبي الخير خمسة عشر ألف دينار. ووصل أصحاب البريديين إلى واسط، وقرب القرامطة منهم على وفاق وأمر عقدوه بينهم، ومات أبو طالب الكاتب وكان محدثاً يروي عن أبي موسى الراضي، وأحمد بن يحيى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 السوسي، وتوفي يوم الجمعة للنصف من ذي الحجة ومولده سنة سبع وثلاثين ومائتين. ووجدت أم ابن رايق فصودرت على عشرة آلاف دينار. وكان ابن القشوري أحمد بواسط حين زال عنها إقبال فورد كتابه يزعم أن البريديين يريدون واسط فوجه إليه بأبي نصر الترجمان في جماعة. ووجد يهودي مع مسلمة وكان غلاماً لجهبذ يهودي لابن خلف فضربه صاحب الشرطة بحضرة اليهودي في يوم جمعة، فافتتن البلد لذلك وكان الأمر قبيحاً. سنة سبع وعشرين وثلاثمائة خرج الراضي بالله في سحر يوم الثلاثاء لثلاث خلون من المحرم يريد س من رأي ليشخص منها إلى الموصل لمحاربة الحسن بن عبد الله وخرج بجكم في هذا اليوم وخرجنا مع الراضي فكان بجكم ينزل بين يديه بقليل وتعبث أهل عسكره بالناس وتأذى الراضي بذلك، وكان قبل خروجه يذكر أمره ونهوضه ويقول: لا بد لي منه. فنشير عليه ألا يفعل ذاك، وكان ممن يوافقني على الرأي في تركه الخروج عمر بن محمد القاضي فلم يلتفت إلى قول أحد ولا أظهر ما أراده وما عزم عليه. وأمر الراضي أن يكون عبد الله بن علي البغوني خليفة الوزير الفضل بن جعفر خارجاً معه وأن يكون عبيد الله بن محمد الكلوذاني خليفة الوزير على الأعمال والأموال مقيماً ببغداد. وأخرج أحمد بن علي الكوفي إلى تربة أم المقتدر ليؤذي ما فورق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 عليه. وكرهت العامة خروج السلطان إلى الموصل لمحبتهم للحسن بن عبد الله وعنايته بإنفاذ الدقيق إليهم ولبره بالأشراف وما يتصدق على الضعفى بسر من رأى وبغداد، ولكفاية أخيه على الناس أمر الثغور والغزو، وعنايته بغزو الصايفة وغيرها. وخرج القاضي عمر بن محمد الراضي واستخلف ابنه يوسف ابن عمر على بغداد مكانه. فركب إلى جامع الشرقي فقضى وقرأ السجلات وركب معه جميع العدول وحضر محمد بن بدر الشرابي صاحب الشرطة مجلسه ونثر عليه دراهم ودنانير في غير موضع، فوصل الراضي إلى سر من رأى وأنفق في أصحاب بجكم نفائس منيفة كان أعدها لنفسه ولهوه، وظن الناس أنه سيقيم بسر من رأى وينفذ بجكم إلى الموصل فإن احتاج إليه لحق به وإلا أقام بمكانه، وجعل كل من يصل إليه يشير عليه بذلك. وورد عليه الخبر بتحرك أمر ابن رايق وأنه يكاتب الناس للوثوب ببغداد فظننا مع ذلك أنه لا يبرح وانطلقت الألسن لأجل ذلك بالمشورة عليه ألا يبرح من سر من رأى وكان أشد الناس كراهة لخروجه ورحيله القاضي عمر بن محمد وذكي الحاجب، فكنا نجتمع على ما نقوله. وورد كتب الحسن بن عبد الله وإلى الراضي وإلى بجكم يتضمن لهما أكثر مما ظن أنه يبذله له وكتبه بذلك متصلة إلى القاضي وهو يتولى إيصالها عنه وينفذ الجواب، وكان يقرئني كل شيء يرد فأقام الراضي أياماً بسر من رأى وطمعنا في رجوعه، واتفقت مع القاضي على أن يكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الراضي كل واحد منا إذا خلا به ورأى وجهاً للكلام، فوصلت إليه بسر من رأى يوماً وحدي قبل أن يحضر أهل نوبتي فقلت يا أمير المؤمنين إن العبد المتفق لا يملك كتمان ما بقلبه لمولاه، ولا يدخر النصح. وما على المولى شيء من أن يسمع قول عبده، فإن كان صواباً أمضاه، وإن كان خطأ جعله بمنزلة ما لم يسمعه. فضحك وقال: هات ما عندك، فقلت: إن الناس يتحدثون بأن العسكر الذي رحلت قد رحلت لتزيله أشبه بعساكر الإسلام من العسكر الذي تقصده به من قوم لا يرون طاعتك وأشبه بعساكر آبائك. وقد تحدثوا بأن الحسن قد بذل أكثر مما أريد منه فإن رأي سيدنا أن يقبل هذا ويرجع إلى دار ملكه ويزول ما يخافه من وثوب ابن رايق فإنه غير مأمون. وكان الراضي قد أمر بأن ينادى على ابن رايق، ويطلب فكبست مواضع كثيرة - ومع هذا فإن الحسن بن عبد الله قد نظر إلى أقرب الناس من قبلك وهو قاضيك فجعله السفير له، والضامن عنه وإنه يلقاه فيتصرف بجميع ما يريده. وهاهنا أيضاً أمر آخر، قال: وما هو؟ قلت: إذا يئس الحسن من قبول سيدنا لما بذل لم نأمن أن يصرف أمره إلى غيره، ويلقى نفسه عليه ويتقرب إليه، ويحظيه ببعض ما بذله، فيجعله صنيعة له ومادة لدهره وعدة لجدته ويكلم من يلقى نفسه عليه سيدنا في أمره ويسأله له ما يريده فيقبل قوله ويهب له أمره، فيحظى بما أردنا أن نحظى به - أعرض ببجكم - فما رأيته أطال الفكر عند شيء سمعه أكثر مما أطاله بعقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 قولي هذا، وذكي واقف وحده يسمع بعض ما يجري. ثم قلت: أما النثر فقد قضي الحق فيه، وقد نظمت قصيدة إن أذن سيدنا أنشدته إياها، وهي في هذا المعنى فقال هات فأنشدته - وكان يقول إني سأسكن سر من رأى وأترك بغداد، وجعل يصور بيده ما يكتبه - فذكرت أيضاً مدح بغداد وأنشدته. مُتَيَّمٌ مُتْلِفُهُ تَلَدُّدُه ... بانَ لِبَيْنِ الْهَوَى تَجَلُّدُهُ طَالَ عَلَيْهِ مَدَى الصُّدُودِ فَمَا ... يُبْصِرُهُ مِنْ ضَنَاهُ عُوَّدُهُ قَدْ كَتَبَ الْحُبُّ بِالسَّقَامِ لَهُ ... نَظَّمَهُ بِمَنْ أَتَى يُفَنِّدُهُ أَوْرَدَهُ الْحَتْفَ مَا رِدٌ غَنِجٌ ... زَادَ عَلَى حُسْنِهِ تَمَرُّدُهُ يَكَادُ مِنْ لِينِهِ وَرِقَّتِهِ ... تَحِلُّهُ لَحْظَتِي وَتَعْقُدُه قَد ارْتَدَتْ بِالجَمَالِ جُمْلَتُهُ ... كَمَا ارتَدى بالنَّدَى مُحَمَّدُهُ خَلِيفَةٌ أُكْمِلَتْ فَضَائِلُهُ ... فَفَرْعُهُ طَيِّبٌ وَمَحْتِدُهُ تَعَبَّدَ المَجْدَ فَهُوَ يَمْلِكُهُ ... طَارِفُهُ عِنْدَهُ وَمُتْلَدُهُ قَدْ رَضِيَ الرَّاضِيَ الإِلهُ لإصْ ... لاَحِ زَمَانٍ سِوَاهُ مُفْسِدُهُ فَهُوَ بِتَفْوِيضِهِ الأُمورَ إلَى اللَّ ... هِ بِحُسْنِ التَّوْفِيقِ يَعْضُدُهُ أَمّا تَرَى مَا كَفَاهُ مِنْ خَطَرِ ... غَائِرُهُ مُعْجِزٌ وَمُنْجِدُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 لاَ يَبْلُغُ الْفِكْرُ كَشْفَ غُمَّتِهِ ... يَعُومُ فِي حَيْرَةٍ تُرَدِّدُه وَهُوَ عَلَيْهِ فِي ذاكَ مُتَّكِلٌ ... يَشْكُرُ إحْسَانَهُ وَيَحْمَدُهُ وَلَنْ يُضِيعَ الإِلهُ مُلْتَجِئاً ... إلَيْهِ فِي الْخَطْبِ بَلْ مُؤَيِّدُهُ يَسِلُّ رَأْياً كَالسَّيْفِ وَقْفَتُهُ ... وَيَحْتَوِي سَيْفَهُ وَيُغْمدُهُ تَمَسُّكاً فِيهِ بِالْوَفَاءَ وَمَا ... تَقْصُرُ عَمَّا يُرِيدُهُ يَدُهُ كفَايَةُ اللهِ تَسْتَطِيفُ بِهِ ... تُنْحِسُ أَعْدَاءَهُ وَتُسْعِدُهُ أَوْحَدَهُ اللهُ فِي فَضائِلِهِ ... فَهُوَ مِنْ بَدْءِ الْكَمَالِ أَوْجَدَهُ جَرَى عَلَى الصُّنْعِ وَالسَّعَادَة وَالْ ... يُمْنِ لَهُ سَيْرُهُ وَمَقْصَدُهُ جُيُوشُهُ حَوْلَهُ كَمَا حَدَقَتْ ... بِالْبَدْرِ بَدْرِ التَّمَامِ أَسْعُدُهُ يَسُوسُهُمْ بِالسَّدَادِ حَاجِبُهُ ... وَهُوَ بآرَائِهِ يُسَدِّدُهُ كَأَنَّهُ منْهُ لَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ ... يُشَبِّه مَوْلَىً في الْعِزِّ أَعْبُدُه لَكِنَّهُ فَايِتٌ بِهِمَّتِهِ ... كَمَا يَفُوتُ الهِلاَلَ فَرْقَدهُ وَأَيْنَ منْ زَاخِرِ العٌبابِ صَرىً ... يُحْفِي إذا جَاشَ فِيهِ مُزْبِدُهُ أَرَى ذَكِياً ذَكَتْ خَوَاطِرُهُ ... فَلَمْ يَخُنْ فَهْمَهُ مُتَلِّدُهُ سَيْفٌ عَلَى مَنْ عَصَاكَ مُتَّقِدٌ ... تُطْفِي بِهِ طُغْيَانَهُ وَتُغْمِدُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 يا خَيْرَ مَنْ لاَذَ ذُو الرَّجَاءِ بِهِ ... وَخَيْرَ مَنْ بالنَّوالِ يَرْفِدُهُ وَمَنْ يَفُوتُ الْمُنَى تَطُوُّلُهُ ... وَيَقْتَضِيهِ الإنْجَازَ مَوْعِدُهُ أَمْوالُهُ نَحْوَنا مُوَجَّهَةٌ ... بِنائِلٍ لاَ تُحَثُّ وُرَّدُهُ يُعْلَى لَنا الحالُ والمَحَلُّ بِهِ ... فَلاَ سُؤالٌ لَهُ نُرَدِّدُهُ لَوْ جازَ أَنْ يَعْبُدَ العِبادُ سِوَى الْ ... خالِقِ كُنَّا لِلْبِرِّ نَعْبُدُهُ عَبْدُكَ مَنْ قَدْ عَرَفْتَ نيَّتَهُ ... لَمْ يَنْتَقِصْ ساعَةً تَوَدُّدُهُ يَسْألُ أَنْ يَسْتَبِينَ سَيِّدُهُ ال ... رَّأْيَ بِفِكْرٍ لَهُ يُحَدِّدُهُ وَمُؤَثِرُ الْحَقْنِ للدَّماءِ فَقَدْ ... تَاقَتْ إلَيْهِ لِلْعَيْثِ شُرَّدُهُ مُسْتَيْقناً نِعْمَةَ الْمُطِيعِ لَهُ ... يَحْمِلُ مَا فِي الضَّمانِ يَعْقدُهُ يَقْبَلُ فِيهِ ضَمَانَ مَوْعِدِهِ ... فَلَيْسَ يُخْشَى مِنْهُ تَزَيُّدُهُ إِنْ قَالَ قَوْلاً وَفَّى بِهِ عَجِلاً ... يَهْدِيهِ لِلرَّأْيِ فِيهِ أَرْشَدُهُ فَكُلُّ وَقْتٍ لَهُ شَرِيطَتُهُ ... يُصْدِرُ هذَا مَا ذَاكَ يُورِدُهُ قَدْ يَسْمَحُ الْيَوْمَ بِالْمُرَادِ وَلاَ ... يُشْبِهُهُ فِي سَماحِهِ غَدُهُ فِي كُلِّ صُقْعٍ مِنَ الْبِلادِ لَظىً ... مُسَعَّرٌ وَالغُواةُ تُوقِدُهُ فَانْ نَجا بَعْضُها بِمَقْصِدِهِ ... هُدَّ مِنَ الْبَعْضِ ما يُشَيَّدُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَكُلُّهُمْ إِنْ أَقَامَ فِي يَدِهِ ... خِطامُهُ صَاغِراً وَمِقْوَدُهُ يَطْلُبُ هَذَا ما ذاكَ يَطْلُبُهُ ... بِشافِعٍ عِنْدَهُ يُؤَكِّدُهُ قَدْ يَسْتَحِيلُ الْوَلِيُّ ذَا عَنَتٍ ... تُقْدَحُ بِالْغِشِّ مِنْهُ أَزْنُدُهُ وَيُصْبِحُ المخْلِقُ الْوَلاَءَ لَهُ ... مِنْ طَاعَةٍ ثابِتٍ تُجَدِّدُهُ بَغْدادُ حِصْنُ الْمُلُوكِ تُؤْمِنُهُمْ ... مِنْ كُلِّ بَاغٍ يُخْشَى تَوَرُّدُهُ وَأَهْلُها فِي الْخُطُوبِ جَيْشُهُمُ ... بِغَيْرِ رِزْقٍ لِلْجَيْشِ يَنْقُدُهُ فَأَيْنَ لاَ أَيْنَ مِثْلُهَا بَلَدٌ ... بِحافِظٍ مُلْكُهُ يُؤَكِّدُهُ فَلا تُرِدْ غَيْرَهَا بِهَا بَلَداً ... أَسْلَمُ سَيْرِ الْمُغِذِّ أَحْمَدُهُ والأَمْرُ مِنْ بَعْد ذَا وذَاكَ إِلَى ... مُعَوَدٍ لِلصَّوابِ يُوجِدُهُ فَإنَّهُ أَعْلَمُ الْمُلُوكِ بِمَا ... يَفْعَلُ وَاللهُ فِيهِ يُرْشِدُهُ فقال نعم أنظر في هذا إن شاء الله. واستؤذن للقاضي فخرجت فلقيته وحدثته بما جرى وقال أنا اؤكد لهذا، فدخل فأطال ثم خرج فقال ما في هذا الرجل حيلة استمع مني كما قلت في نحو معناك فلما خرجت الساعة تقدم إلي ذكي بأن تقدم النوبة ليرحل نحو تكريت. ورحل من غد يومنا لك وصرنا في مرحلتين إلى تكريت، فنزل دور ني جابر النصراني وأقام أياماً، والأخبار واردة من بغداد بقوة أمر ابن رايق وكتب الحسن بن عبد الله متواترة بإزاحة العلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 في جميع ما يراد منه. فحدثنا الراضي بالله أنه سمع الديالم في المنزل الذي رحل منه إلى تكريت - وقد مرقوم منهم خلف مضربه فصاح بهم الخدم - يتكلمون بكلام قبيح، وقال أما لهؤلاء دين ولا عليهم طاعة وجرى ذكر ابن رايق وقوة أمره فغمزني ذكي الحاجب في كلامه وظننت أنه بما سمع من الديالمة قد فش عزمه، فقلت: يا أمير المؤمنين، بغداد دار المملكة وطن الخلافة وفتقها لا يتلافى، فقال إنما كانت بغداد كذا حيث كان في بيت المال بها عشرة آلاف ألف دينار في أيام المعتضد وضعف لها في أيام الكتفي، فأما ولا مال بها فهي كسائر البلدان، فقلت فيها ما هو أجل من المال، الأميران بلغ الله سيدنا ما يأمله في نفسه وفيهما، وفيها حرم الخلافة وذخائرهن. وأعانني العروضي بكلمة فصاح عليه فسكت، ثم أقبل علي فقال يا هذا كم تنصحني في هذا الأمر وما استنصحتك، وتشير علي وما استشرتك! فقلت خطأ والله من عبدك وفرط إشفاق، لا أعود لشيء من هذا أبداً. وقمت إلى ذكي فقلت له أومأت إلي بالقول فنالني ما رأيت، فقال لي ما بالصواب أن يعيد أحد من هذا شيئاً. وكانت نوبتنا هي النوبة التي تصل إليه ونأنس بها ويديم إعطاءها والإحسان إليها، ونوبة بني المنجم مجفوة لا يصلون إليه إلا في المدة البعيدة، فلما سار في الماء يريد تكريت سرنا نحن على الظهر وطلبنا فلم يجدنا، وسار بنو المنجم في الماء وتعرضوا له فجلسوا معه، فكايدنا بهم وساواهم بنا وقال: السفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 لا نوبة فيه لقوم دون قوم، وجعلوا إذا خلوا يشعثون حال من قدروا على ذكره منا عنده وهو يطلع بعض ذلك لنا، حضرنا وغابوا، يغري بعضنا ببعض ووصلهم سراً ولم يصلنا، فأجمع أصحابنا على أن أعمل شعراً في ذلك، فأوصلت إليه رقعة فيها - وكان أعطاهم خمسة دنانير لكل واحد في كل دينار عشرة دنانير -: يَا مُذِيقِي غُصَّةَ الْكَمَدِ ... مُشْعِلاً لِلنَّارِ في كَبِدِي أَلِذَنْبٍ كَانَ هَجْرُكَ لِي ... أَوْ دَلاَلَ الْغُنْجِ والْغِيَدِ حِيْنَ أَزْمَعْتَ الرَّحِيلَ ضُحىً ... أَزْمَعَتْ رُوحِي عَنِ الْجَسَدِ ما أُبالِي مَا يَفُوتُ إِذَا ... ظَفِرَتْ بِالوَصْلِ مِنْكَ يَدِي قُلْ لِخيْرِ النَّاسِ كُلِّهِم ... لا أُحاشِي فيهِ مِنْ أَحَدِ الَّذِي يَرْضَى الإِلهُ بِهِ ... مُذْهِباً لِلْغِيِّ بِالرَّشْدِ حَاسِدِي في حُسْنِ فِعْلِكِ بِي ... غَيْرُ مَعْذُولٍ عَلَى الْحَسَدِ قَدْ دَهَتْنِي الآنَ دَاهِيةٌ ... وَسْمُهَا بَاقٍ عَلَى الأَبَدِ أَنْتَ يَا أَعْلَى المُلُوكِ يَداً ... عُدتِي فِيهَا وَمُعْتَمَدِي تَوْبَتِي قَدْ ذَلَّ جانِبُهَا ... بِيعَ مِنْها النَّوْمُ بِالسُّهْدِ ضَعَّفَ لحرمَانُ قُوَّتَها ... بَعْدَ حُسْنِ الأَيْدِ والجَلَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 لا تُطِعْ فِينَا الْوُشَاةَ فَقَدْ ... جَعَلُونَا ضُحْكَةُ الْبَلَدِ حِينَ فَازُوا دُونَنَا بِيَدٍ ... مِنْكَ واسْتَوْلُوا عَلَى الأَمَدِ وَرَأَيْناهَا مُعَايَنَةً ... إِنَّ هَذَا مُنْتهَى الْكَمِدِ بَعْدَ أَنْ كُنَّا بِفَضْلِكَ فِي ... طِيبِ عَيْشٍ دُونَهُمْ رَغَدِ فَأَنِلْنا مَا أَنَلْتَهُمُ ... خَمْسَةً تُوفِي عَلَى الْعَدَدِ أوْ فَزِدْنَا مِثْلَ عَادَتِنا ... لَيْس غَمْرُ الْجُودِ كَالثَّمَدِ عِنْدَنا مِنْ فِعْلِهِمْ تِرَةٌ ... فَأَزِلْها الْيَوْمَ بِالْقَوَدِ لَمْ تَزَلْ بِالْبَذْلِ تَبْدَأُنَا ... فاجْعَلَنْها الآنَ دُونَ غَدِ وَلْيَكُنْ إِنْ شِئْتَ مُكْتَتماً ... إِنَّنا مِنْهُمْ عَلَى رَصَدِ وَأَزِلْ نَحْساً بِرُؤْيَتِهِمْ ... طَالعاً مِنْهُمْ بِمُفْتَقَدِ وَعَلَيْهِمْ لا عَلَيْكَ بِهِمْ ... دابرَاتُ السُّوءِ وَالنَّكَدِ فما عوضنا بشيء وأقام على كياده لنا، وأقام أياماً بتكريت، ثم رحل منها يريد الموصل، فنزل منزلاً على أربعة فراسخ. واستهل هلال صفر ودخل بجكم قبل ذلك إلى الموصل، ووافى الخبر بظهور ابن رايق يوم الأربعاء لليلتين أو لثلاث خلون من صفر وأنه دخل إلى بغداد كأنه لم يكن بها من ناحية باب قطربل ومعه ألف من القرامطة فيهم رافع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 كانوا في عسكر الراضي، فاستحقوا فلم يعطوا وأبطئ في أمرهم، وكان بجكم لا يحب كونهم مع الخليفة في جملة حاجبه، فانصرفوا إلى بغداد فكانوا سبب ظهور ابن رايق، وقصد داره فلم يصل إليها فخرج إلى المصلى وكان مستتراً في دار كاتبه السر من رآي ونادى مناديه أنه قد زاد الفرسان اللاحقين به خمسة دنانير كل واحد منهم، وأنه يطلق لهم عاجلاً رزقه كاملة ويزيد الرجالة ديناراً ديناراً ويطلق لهم نوبتين معجلتين ويكن ذلك بلا نقصان ولا مصارفة. ووافى جعفر بن ورقاء فنزل في الحلبة دار الخليفة ونزل معه أحمد بن خاقان وضبط أحمد ابن بدر الشرابي البلد جهده وكانت إليه الشرطة، وأعطت أم الراضي مالاً أنفق في رجاله وفرسانه وقصد أصحاب ابن رايق دار بجكم على دجلة فمنع عنها أصحاب كان لهم فيها ثم انهزموا وخرجوا هاربين يريدون سر من رأى وسلموا الدار فنهبت وأحرقت، وتحدث الناس بأن ابن مقاتل حمل إلى ابن رايق مالاً فأعطى الفرسان كل واحد منهم خمسة دنانير صله وهي الزيادة وأعطى الراجلة ديناراً ديناراً، وجاء إلى دار السلطان فقوتل عنها وقتل من الفريقين جماعة وانصرف ابن رايق إلى المصلى واستأمن قوم من البجكمية فيهم يارخ وصيغون فأحسن إليهما وتبع أصحاب ابن رايق من كان في دار بجكم ورئيسهم تكينك فأخذوا منهم دواب وتفرقوا، وجاء خبر محمد بن ينال الترجمان ومعه جماعة كانوا بواسط بأن يقصد بغداد فوافاها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 واجتمع مع ابن بدر الشرابي وحاربهم ابن رايق وأصابت ابن بدر ضربات وحمل إلى منزله وذلك لثمان ليال خلت من صفر فمات في منزله بعد ثلاث. وملك ابن رايق بغداد، وظهر ابن مقاتل وحمل إلى ابن رايق مالاً فأعطى القرامطة رزقة كاملة بزيادة خمسة دنانير لكل واحد منهم ودخل إلى داره المعروفة بدار مؤنس فأقام فيها وجه إلى دار الخليفة وإلى أم الراضي فسكن منهم، وقال لهم كونوا على أمركم. ونهبت دار علي بن خلف بن طياب في الجانب الغربي بقرب الجسر ودار أخ له وأخذ منها مال ومتاع ووجد لبجكم مال فأخذ وانحاز ابن ورقاء وقصد الموصل بعد أن قاتل أشد قتال وما أبلى أحد بلاءه وبلاء ابن بدر الشرابي ونادى ابن رايق بأمان البجكمية وولي شرطة بغداد ابن يزداد قائداً من قواده. وفرض قوماً من العيارين فأعطاهم ديناراً ديناراً وجاءه ساجية وحجرية فقبلهم ووعدهم ما أحبوا، ووجه إلى أبي القاسم الكلوذاني فأخذ مه مالاً كان قد جمعه للسلطان وملك العيارون البلد. وكتب لابن رايق في هذه الحال أبو غالب كاتب صافي الخازن وعلى جيشه ابن القلانسي. وطلب أبا العباس الأصبهاني فاستتر وكان ابنه ظاهراً بين يدي ابن رايق، وخلع على صيغون ويارج وركبا في شارع الجانب الشرقي حتى رآهم الناس وبين أيديهم بدور دارهم على أكتاف الرجال. ووجه إلى دار السلطان فأخذ ما وحد من الخزاين. ووصل محمد بن ينال الترجمان إلى النهروان ومعه أحمد بن نصر القشوري وسياتنكول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وإبراهيم بن خلف بن طياب وعبد الله الشيرازي ومؤنس غلام هنكر في خلق عظيم فتوجه إليهم ابن رايق فواقعهم يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر ثم حجز الليل بينهم وحاربهم يوم الاثنين لتسع بقين منه، فظفر بهم وغنم هو وأصحابه غنيمة عظيمة من الدواب والحلي والمال والأمتعة وكان ابن رايق قد رأى كثرتهم فزال طمعه في مقاومتهم فدس إليهم جماعة من القرامطة وواطأهم على أن يستأمنوا إليهم فإذا واقعهم صيحوا بهم من عسكرهم فكان هذا سبب الهزيمة وقتل سياتنكول وأصابت أحمد بن القشوري ضربة في وجهه وجيء به أسيراً إلى ابن رايق فمن عيه. وأسر مؤنس الهنكري فهجنه ابن رايق وشتمه فعدا عليه بعض القرامطة فقتله وهرب الترجمان فلم يعرف له خبر حتى وافى الموصل على حالة قبيحة وكان بجكم يظن أنه قتل فوجه إليه بما لبس وبدواب حتى دخل الموصل، ونادى ابن رايق بعد الوقعة ببراءة الذمة ممن آوى الترجمان، أو ابن خلف بن طياب أو عبد الله الشيرازي. ودخل البريدي إلى واسط في هذا الوقت، وعظم أمر العيارين ببغداد وأخذوا ثياب الناس من المساجد والطرقات إلى أن ركب ابن يزداد وأخذ جماعة منهم فضربهم بالسياط. ووجد لبجكم عشر بدر دنانير في درب الزعفران فأخذت ووافى فاتك صاحب ابن رايق في جيش فدخل من باب الأنبار في تعبئة حسنة، وذلك في يوم الخميس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ودخل معه لؤلؤ غلام المتهشم، وعلى أعلامه لؤلؤ الرائقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ولما ظفر ابن رايق وجاءه فاتك وصار إليه مال بجكم الذي ذكرناه أفكر في الأموال العظام وكاتب في أمر الخلافة جماعة، ووجه إلى الحسن والحسين ابني الفضل بن المأمون فأخذهما إلى داره وقدر مال البيعة فإذا هو على التقليل ثمانمائة ألف دينار فقال له ابن مقاتل: نحن لا نملك عدد هذه دراهم، فكيف نحتالها دنانير فرد ابني المأمون منازلهما وأضرب عن هذا الرأي. ووجه محمد بن يحيى بن شيرزاد إلى الموصل في أشياء أرادها فوصل إلى الراضي بالله وإلى بجكم ووجه الراضي بالله القاضي عمر بن محمد برسالة إلى ابن رايق ولزمه وكان يخلو به وبابن مقاتل وربما حضر ابن سنكلا وألزم ابن مقاتل الأمر وقال إن السلطان يعلم أن هذا يتصرف برأيك ومتى أعنتني على أمر الصلح وقع لك ذلك أجمل موقع، فاتفق الرأي على خروج ابن رايق إلى الشام والياً عليها. فاقتصر على من أراد من أصحابه وأخرج مضربه، وكان من استغنى عنه ابن رايق لحق بالبريدي مثل جنى الحمداني وجماعة قواد وفرسان وخرج ابن رايق عن بغداد يوم الأحد لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر، وركب بشري الأثرم غلام الراضي بالله، وكان أنفذه الراضي معه لشرطة بغداد إذا رحل ابن رايق عنها، فنادى في الذعار وأخذ جماعة من العيارين وطاف في الجانبين فسكن البلد بعد افتتان عظيم. وأظهر القاضي كتاباً ورد عليه من السلطان وأمر بأن يقرأه عدو له في مجالسهم بأن السلطان لم يؤاخذ أحداً من أهل بغداد بشيء مما جرى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وأنه إذا ورد أحسن إليهم كل الإحسان ولم يطلق يد بجكم عليهم وأمر أن لا يتبع أحد ولا يعنت فسكن الناس إلى ذلك وسروا به. رجعنا إلى أمر الراضي بالله رحيله، من تكريت ونزوله على أربعة فراسخ. ووافى الخبر بظهور ابن رايق وقصده الدار، وكان الراضي في طيار وقد طلبنا وما وصلنا إليه بعد ورود هذا الخبر، فجاء القاضي وابتدأ يكلمه ويشير عليه بالتوقف والنظر في الرجوع فأسبل غشاء الطيار بينه وبينه، وأمره بالانصراف فانصرف. ودعا بذكي حاجبه وقال: أنا أعبر إلى الجانب الغربي الساعة فاعبر بدوابي ودوابك ومن تبعك من الغلمان فإني أركب البر حتى ألحق بالموصل، وليس الناس في الماء ويكون الذي يسير بهم ويحفظهم سعيد بن حفيف السمرقندي ويشاور القاضي في جميع ما يفعله وعبر من وقته وعبر ذكي وجماعة من الغلمان والفرسان، فحدثنا هو لما وصلنا إليه إلى الموصل أنهم كانوا كلهم نحو خمسين ومائة وأن الهيبة حرسته بعد حفظ الله من أن يتخطف وأنه جاع في الطريق ويم يجد ما يأكل وأن خيراً غلام ذكي الحاجب كان ربما طبخ له القدر والقدرين فيأكلها إلى أن وافى الموصل في أربعة أيام وقد ماتت الدواب وهلك أكثر من كان معه، فنزل دار الحسن ابن عبد الله، وسار سعيد بن حفيف بالناس وحفظهم أحسن حفظ، على أنه ليس معه أحد ولا له معين، وكان بنفسه وغلمانه وغلمان من معه في الزواريق يمنع الأعراب والوزاقيل ويحرس الناس بنفسه ولا ينام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الليل، ويأمر بأيقاد النار وضرب الدبادب إلى أن يصبح. وكنا نسير في سفننا لصعوبة الطريق الفرسخين في اليوم وأقل وأكثر، وكنت أنا مع ابن حمدون في زورق وكان معه طيار ومعي سميرية بأربعة مجاذيف فغلط أصحاب السميريات ليلاً، فربطوا على بعد من العسكر وكبسهم القياقنة وأخذوا جميع ما كان في السميريات ولم يبق لي شيء كان في سميريتي إلا ذهب، ثم دخل بعد ذلك الماء إلى زورقنا حتى كاد يغوص وسقطنا إلى الماء، فمن الله علينا بأن رجالة كانوا معنا في الزورق وحملوني وحملوا ابن حمدون حتى صرنا إلى الشط وانتظرنا الطيار حتى جاءوا به وأخذ ما في الزورق ومد إلى الشط حتى أصلح وكان قد انتقب في عدة مواضع. ووافى راغب خادم الراضي بالله من الثغر، وكان قد شهد الفداء إلى الموصل فوجه به الراضي فلقينا بين الحديثة والسن فسلمنا عليه وكانت معه دواب فحمل القاضي عليها لأن الراضي أمره بذلك وأراد أن يتقدم وصوله وتبعه من كان له مركوب، وبقينا نحن أياماً كثيرة إلى أن وصلنا إلى الموصل، ودخلنا إلى الراضي بعد عشرين يوماً من مفارقتنا إياه وكان في نفسي ما قاله الراضي حين أنشده قصيدتي الضادية وقت جلوسه: هذه حمتك رميت بها. وأردت أن أعمل قصيدة أشكو فيها غرقنا وما نالنا فقلت والله لأجعلنها ضادية ليعلم أن تلك لم تكن حمتي، وأنه قد بقيت لي قصيدة وأنا في الزورق مع ابن حمدون، نحو تلك القصيدة في الطول وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أَبَغِضِتَهُ مِنْ بَعْدِمَا بُذِلَ الرِّضَا، ... هذَا تَجَنٍّ مِنْ حَبِيبٍ يُرتضَى لاَ تجْزَعَنْ للْبُعْدِ تُوعَدُهُ غَداً ... فاللهُ يَصْرِفُهُ بما فيهِ قضَا ظُلِمَ الحَبِيبُ فَأَظْلَمَ الْبَيْتُ الَّذِي ... أَمَّتْ مَطاياهُ بهِ ذات الأَضَا قَدْ قالَ بَشَّارٌ وكانَ مُسَدَّداً ... يَحْوِي المعَانِي إنْ رَمَى أَوْ أَنْبَضَا قَدْ ذُقْتُ أُلْفَتَهُ وذُقْتُ فِراقَهُ ... فَوَجَدْتُ ذَا عَسَلاً وذَا جَمْرَ الغَضا خُذْ مِنْ زَمانِكَ ما صَفَا لَكَ قَلَّما ... يُغْنِيكَ غُمُّكَ بِالتَّكدُّرِ إِذْ مَضا واصْبِرْ عَلَى غَرَقٍ بِنُعْمى نلْتَهَا ... إنَّ الزمانَ لَمُقْضٍ مَا أَقْرَضا فَهَوَيْتَ فِي لُجٍّ عَلاكَ عُبابُهُ ... لا بُدَّ أَنْ تَلْقَى الَّذِي لَكَ قُيِّضَا إنْ قُمْتَ فِيهِ لَمْ تَطُلْهُ لِغُزْرِهِ ... ورَأَيْتَ تَحْتَ الرِّجْلِ مِنْهُ مَدْحضَا وَتَسَرَّعَتْ مِنْهُ إلَيْكَ حِجَارَةٌ ... تَذَرُ الصَّحِيحَ مِنَ الْعِظَامِ مُرَضَّضَا وَكساكَ مِنء يَدِهِ وَلَمْ تَسْتَكْسِهِ ... عُشُراً يُؤلِّفُهُ المُدُودُ وَعِرْمضا نَجَّاكَ مَنْ نَجَّا بِلُطْفٍ يُونُساً ... مِنْهُ وكَانَ لِقَبْضِ رُوحِكَ مَعْرِضا هَذَا وَقَدْ ثَلَمَ الزَّواقِلُ جَانِبِي ... فَأَفْضْتُ دَمْعاً عنْدَ ذَاكَ مُغَيَّضَا أَبْكي كِساءً كانَ أَوْثَقَ عُدَّتِي ... إنْ أَخصرَ البَرْدُ العِظامَ ونَقَضَّا وَمِخَدَّةً قَدْ كانَ يَأْلفُ لِينُهَا ... خَدِّي فأَضْحى الْجِسْمُ مِنْها مُمْرَضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وَنَفِيسَ فَرْشٍ كالرِّياضِ نُقُوشُ ... ما كان من دُونِ الرِّياشِ مُرَحَّضَا وَمُجَمَّعاً قَدْ كُنْتُ أجْمَعُ آلةً ... فِيهِ وكَانَ مِنَ الْبَلاءِ مُفَضَّضَا والصُّفْرَ أَبْكِي كالنُّضارِ وَشَمْعَةً ... زانَتْ يَدُ الْمَاشِي بِهَا والْمِقْبَضَا صَرَّحْتُ بِالشَّكْوَى إليكَ تَأَنُّساً ... بِنَدى يَدَيْكَ إذا غَرِيبٌ عَرَّضا فَلأنْتَ أعْلَى فِي المُلُوكِ مَحِلَّةً ... وأَجَلُّ من رَاشُ العُبَيْدَ وَأنْهضا مِنْ بَعْدِ ما غالَ الْمَشِيبُ شَيْبَتِي ... وَنَضا لِباسَ تَجَمُّلِي فِيما نَضا وَأحارَنِي مَرَضاً وَأَوْهَنَ قُوَّتِي ... فَغَدَوْتُ مِنْهُ وَقَدْ صَحِحْتُ مُمَرَّضا وإذا دَنَتْ سَبْعُونَ مِنء مُتَأَمِّلٍ ... دانى وَلَمْ يَرَ فِي اللَّذاذَةِ مَرْكَضا وَجَفاهُ نَوْمٌ كانَ يَأْلَفُ جَفْنَهُ ... قِدْماً وَأَضْحى لِلحُتُوفِ مُعَرَّضا وإذا بَلَغْتُ إلى الأمامِ مُسَلِّماً ... ورَأَيْتُهُ زَالَ التَّخَوُّفُ وانْقَضى وَنَسِيتُ رَوْعَاتِ لإِرْجافٍ فَشا ... ما زلْتُ للإِشْفاقِ فِيهِ مُرْمَضا ذادَتْ مَوارِدُهُ الكَرى عَنْ مُقْلَتِي ... وَأَبَى عَلَيَّ حِذَارَهُ أَنْ أُغْمضا فَعَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ رَأَيْتُكَ سالماً ... صَوْمٌ وعِتْقٌ عاجِلٌ لا يُقْتَضَى بِمُحَمَّدٍ رَضِيَ الإلهُ خَلِيفَةً ... فِي الأَرْضِ فَهُو بِذاكَ راضٍ مُرْتَضَى جاءَتْهُ طَوْعاً لَمْ يُسَيِّرْ لَفْظَهُ ... فِيهَا ولاَ أَضْحى لَهَا مُتَعَرِّضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فَهُوَ الْحَقِيقُ بِهَا الْمَعانُ بِقُوَّةٍ ... فِيهَا بِحُكْمٍ فَاصِلٍ لَنْ يُدْحَضا أَللهُ أَقْبَلَ لشي بِوَجْهِ نَوالِهِ ... فَرَفَضْتُ وَجْهَ الدَّهْرِ لَمَّا اَعْرَضا بَدْرٌ يُضِيءُ دُجى الظَّلامِ وَلَمْ يَزَلْ ... لِسَوادِ ما تَجْني الخُطُوبُ مُبَيِّضا بِكْرُ الزَّمانِ فَلَيْسَ يُنْتَجُ مِثْلُهُ ... أَبداً وَلاَ يُلْفَى بِهِ مُتَمَخِّضا عَالِي الْمَحلِّ بنَى لَهُ آباؤُهُ ... شَرَفاً أَبَتْ أَرْكَانُهُ أَنْ يُنْقَضا مَنْ شَامَ عِزَكَ ذَلَّ دُونَ منَالِهِ ... أَوْ رامَ ما رَفَّعْتَ مِنْهُ تَخفضا أَحْسَنْتَ حَتَّى مَا نَرَى مُتَسَخِّطَا ... يَشْكُو الزَّمَانَ وَلاَ نرَى لَكَ مُبْغضا كَمْ مُبْغِضٍ حُطَّتْ إلَيْكَ ركَابُهُ ... نالَ الغنيّ عَجِلاً فَأَغْنَى المُبْغِضَا بِعُلُوِّ فَخْرِكَ فِي الْمَفَاخِرِ يُعْتَلَىوَبِنُورِ هَدْيِكَ في الدِّيانَة يُسْتضَا وَجليلِ خُطْبٍ عَابَ مِنْكَ عَزِيمَةً ... فَأَتَى إليَكَ بِمَا هَوِيتَ مُفَوِّضا وَمَضَتْ بُرُوقٌ في العِراقِ فَأَخْلَبَتْ ... وَرَأَيْتُ بُرْقَكَ صَادقاً إذْ أَوْمَضَا قَزَعٌ أَرَذّ فَما غَذَتْ أَخْلافُهُ ... غَرْساً وَلا هُوَ بالْجَمائلِ رُوِّضَا وَتَداءَبتْ بِذَوِي الضَّلالةِ هِبْوةٌ ... أَبْقَتْ لَهُمْ أَسَفاً وَخَوْفاً مُمْرِضا وَسَيكْشِفُ الْهَبَواتِ ربُّكَ نِقْمَةً ... تَدَعُ البِناءَ مِن الضَّلالِ مُقَوَّضا سَتَرى الْقِيامَ به قُعُوداً عاجِلاً ... فَزِعاً وَيَرْجِعُ ساكناً مَنْ حَرَّضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَيَصِحُّ مِنْ غَمَراته مَنْ لَمْ يَزَلْ ... فِيما قَضَيْتَ مِنَ الأُمورِ مُمَرَّضا وَيَعُودُ ساعٍ في الْجَهالةَ عاثِراً ... لا يَسْتَطِيعُ من النَّدامَةِ مَنْهَضا وَيَرَى غَوِيٌّ رُشْدَهُ فَيُشِيمُ ما ... قَدْ كانَ مِنْ نَعَمِ الضَّلالةِ رَبَّضا وَيَفُلُّ غَرْبَ جُمُوعِهِمْ لَكَ حاسِمٌ ... مِنْ جَيْشِ رَأْيكَ كَالسِّهامِ المُنْتَضى ويُذِيقُهُمْ جُرَعَ المَنايا بجَكَمٌ ... وَكَذاكَ عادَةُ بَجْكَمٍ فِيما مَضَى سَيْفُ الخِلافَةِ والْمُبِيرُ عَدُوَّها ... بِسَدِيدِ عَزْمٍ صائِبٍ إِنْ أَعْرَضَا أَنْحى عَلَيْهِمْ بِالسُّيُوفِ فَخِلْتَهُمْ ... لِتَناثُرِ الأعْضَاءِ حَصْباءَ الْفَضَا دَلَفَ الرِّجالُ إِلَيْهِمْ فَكَأَنَّما ... كانُوا نِساً حِينَ دُمُّوا حَُّضا فَعَفَوْتَ عَنْ طَلَبٍ لَهُمْ فَتَبَسَّطُوا ... ثِقَةً وَكانَ نَجاؤُهُمْ مُتَقَيَّضَا كيْفَ التَّورُّط فِي ظَلمِ ضَلالةٍ ... والصُّبْحُ فِي سُبْل الهِدايَةِ قَدْ أَضا يا واحِدَ الْكَرَمِ الَّذِي نَلْقَى بِهِ ... وَجْهَ الزَّمانِ إذا تَسَوَّدَ أَبْيَضَا خُذْها إلَيْكَ قَوافِياً قَدْ لُبّسَتْ ... رَقْماً أَبى تَحْسِينُهُ أَنْ يُرْفَضَا كانَتْ مُجَمَّعَةَ الظُّهُور نَوافِراً ... فَأَتَتْكَ لَيِّنَةَ المَقادَةِ رُيَّضَا لَفْظاً أَلِيفاً للْقُلُوب مُحَبَّباً ... لَمْ يُلْفِ وَقْراً فِي المَسامِعِ مُبْغَضا مِنْ شِعْرِ مَقْصُورِ الْمَدَى مُتَكَلَّفٍ ... إنْ رَامَ نَهْجاً في طَرِيقٍ أُدْحِضَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وكَأَنَّهُ ثِقْلاً فِرَاقُ أَحِبَّةٍ ... نَادى به داعِي الشّتاتِ وحَضَّضَا بَلْ مُرْسَلاً طَبْعاً فَسِيحاً ذَرْعُهُ ... قَدْ شَفَّ ذَا الباعِ القَصِيرِ وَأَرْمَضَا وإذَا أَمالَ إليْهِ سَمْعاً صاعَدَتْ ... أَنْفَاسُهُ أَسَفاً عَلَيْهِ واَبْغَضَا أَحْذاكَهُ مَنْ لاَ يَزالُ ضَمِيرُهُ ... عَمَّا كَرهْتَ مِنَ الْمَذَاهِبِ مُعْرضا أَفْنَى الزَّمانَ بِخدْمَةٍ لَكَ آمِلاً ... ما نلْتَهُ فَأَنْلُه غاياتِ الرِّضَا وَمَدائِحٍ سَبَقَتْ إلَيْكَ بأَسْرهَا ... يَأْتِيكَ قَائِلُهَا بِهَا مُتَعَرِّضَا مَا شَرَّفَتْهُ خِدْمَةٌ لَكَ قَبْلَهَا ... حَتَّى مَلَكْتَ فَدَسَّهُنَّ مُعَرِّضَا وَأَصَابَ مَرْعىً في فنَائِكَ مُمْرِعاً ... فَأَخَلَّ فيهِ بالْحُظُوظِ وَأحْمَضَا إذْ سَيْفُ عَزْمِكَ كَامِنٌ في جَفْنهِ ... أَرْجُو انْتضاكَ لَهُ وَلَمَّا يُنْتَضى هَذي سَوَابِقُ لا يمُتُّ بِمثْلَهَا ... مَنْ قَدْ أَتَى خَلْفَ السُّكَيْت مُرْكضا فَأَفدْ وَعَوِّضْ مَادِحاً لَكَ رَاجِياً ... فَلأَنْتَ أَكْرَمُ مَنْ أَقَالَ وَعَوَّضَا فلما أنشدته إياها قال: صدقت يا صولي قد بقيت لك حمات، وهذه الضادية أفحل كلاماً من تلك، وتلك أنعم لفظاً وكلتاهما في نهاية الجودة فقلت أنا والله يعلم سيدنا بالشعر أحترس إذا مدحته، فضحك. وأقمنا أياماً بالموصل وبجكم قد كان واقع الحسن بن عبد الله فهزمه ثم رجع بجكم إلى الموضع ووقع بين أصحابه وبين أهل الموصل حرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فقتل جماعة من التجار ونهبوا، فكان من بجكم وأصحابه أمر قبيح عظيم حتى وجه إليه الراضي في ذلك فأمر أصحابه أن يكفوا، وطولب علي بن خلف بن طياب بالأموال الذي ضمنها فما قدر إلا على الشيء اليسير الوتح فوجه إلى قرى بعيدة فيحمل حنطة وشعيراً ويعز عليه من يشتريه. وكان الطالقاني صاحب بجكم، ويكنى أبا حامد في يد الحسن بن عبد الله فأطلقه وفارقه على أن يصلح الأمر بينه وبين بجكم ففعل ذلك وكان بينهم ما غمض على الراضي فلم يعلم حقيقته، وكلم بجكم الراضي في الحسن بن عبد الله أن يقبل الضريبة التي عليه ويرحل إلى بغداد، فقال له إني قد اتفقت مذ غرمت على الحركة إلى وقتي هذا مائة ألف دينار. وأخذ ابن رايق مثلها من بغداد فلم يزل يسأله إلى أن أجابه. وكان الراضي بالله وصل الجلساء ولم يصلني، لما في قلبه على من تكلفي المشورة. وعزم على الرحيل فمنته الإضاقة، ثم فورق على مال سير قدروه لنفقته إلى بغداد، على أنه يجيء من عند الحسن بن عبد الله، فرحل عن الموصل وأقام على نحن فرسخين منها ينتظر المال، واستبان الصواب فيما كان أشير عليه به، وضاق بمقامه ذرعاً. وكان في حراقة يدخل إليه فيها، فأمر راغباً الخادم أن يدخلني إليه مفرداً قبل وقت مجيء الجلساء، فأوصلني إليه فقال لي: كأني بك، وقد قلت في نفسك إني خطوت الرأي، وتركت الصواب. فقلت والله ما دار لي هذا بفكر، ولقد شغلني الغم عن ذلك حتى أرى سيدنا في دار ملكه مداوماً لسروره على عادته، فقال أما كنت حدثتني أن يحيى بن خالد البرمكي، قال لا أحمد على رأي ابتدأته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 بخطأ فآل إلى صواب، لأني بالخطأ ابتدأته ولا علم لي بمآله. وكذلك لا أذمها على رأي ابتدأته بصواب فآل إلى خطأ فأنا كذلك ابتدأت أمري بصواب ولا أعلم المغيب. فقلت يوفق الله أمير المؤمنين ويعوضه ويبقيه، فقال الراغب أدفع إلى الصولي ما كان قبضه أصحابه ولم يقبضه، وزده مائة دينار، فأعطاني ألف درهم ومائتي دينار. وكان قبل أن يرحل من الموصل طلبني وقت الظهر فدخلت إليه، وكان قيد على كتاب بما كان من أمر ابن رايق مع ابني المأمون وكتب إلى ذكي كتاب مثله. ووردت كتب الناس بذلك. وكان الرجالة المصافية يطالبون بأرزاقهم فأخروا فغضبوا وصاحوا: قد مضى القرامطة ففازوا بابن رايق، ونمضي نحن فنأخذ بيعة ابن المأمون. إلى أن وجه الحاجب فردهم، وضمن لهم ما أرادوه فقال لي الراضي حين دخلت إليه: هناك يا صولي قد أجلس جارك ابن المأمون خليفة، وميل بين الاثنين فاختاروا الكبير، والله لأطمعن الطير لحماً، وذكي الحاجب يسمع ذلك وخدم قيام فقلت لا أحياني الله إلى أن أرى مكان سيدنا غيره، وما أبعد هذا يا سيدي في نفسي، أيصلح للخلافة من خاب سبعين سنة، ومع هذا فوالله ما يحسنان شيئاً ولا يفهمانه فلما سمع قولي هذا ضحك منه، فلما ضحك انبسطت في الكلام فقلت أعداء هؤلاء كثير والتشنيع عليهم عظيم، ولعل هذا شنعه أعداؤهم عليهم. فرمى إلي بفصل من كتاب قد ذكر ما قاله فيه. ودخل محمد بن حمدون ونحن في ذاك فأعاد عليه القول فسلك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الكلام طريقتي، وما زلنا نكلمه حتى سكن. وخرجت فقال لي ذكي الحاج بأحسن الله جزاءك، هل ورد عليك كتاب بما قاله سيدنا؟ قلت نعم قال وقد ورد علي مثله، فأعطاني كتابه ودفعت إليه كتابي فرمى بهما في دجلة. وجاءت الدراهم التي وعد بها الراضي ففرقها ورحل نحو بغداد لا يلوي على شيء، حتى دخل بغداد لثمان خلون من شهر ربيع الآخر ولقي الناس شدة في الطريق، وغرق خلق من أصحاب بجكم من باب يعرف بباب الهاشمي. وكان الناس يقولون: نالتهم عقوبة بطلبهم أهل المصل. وكان دخول الخليفة في الماء يوم السبت، حتى انتهى إلى داره ونزل بجكم دار مؤنس. وورد من الحسن بن عبد الله مال من مال المفارقة، حمل إلى خزانة بجكم. وكان فيما خاطبني به الراضي في حجته من خروجه أن قال نظرت فإذا الدنيا لا تفي برزق جند بجكم ومؤونتي، وأن هذه المستخلصة التي في يدي أحتاج أن ألمم منها مال أصحابه، فقلت نصير إلى الموصل وهي الناحية العامرة، وأكثرها ضياع آل حمدان فأقبضها كلها وأنفرد بأولئك وأجعلها لبجكم وأصحابه وهي كفاية وفاضلة عنهم ويخلص لي مال ضياعي فأوسع على الناس منه وأعطي من حرمت، وأجعل في بيت المال شيئاً يرجع الناس إليه. فقلت له إن هذه الناحية إنما عمرت بعناية ابن حمدان بها، ونزولهم فيها، ولو قد صارت إلى غيرهم لعادت خراباً كما عادت فارس بعد عمرو ابن الليث، وأصبهان ونواحيها بعد أبي دلف. ولما قدم الراضي بغداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 أمر فنودي في جانبيها ببراءة الذمة من جندي تعدى على عامي، وكذلك إن تعدى عامي على جندي فسكن الناس، وورد كتاب الحسن بن عبد الله على بجكم يخبره بأن ابن طياب كاتبه أخذ من الأموال بالموصل نحو ألف ألف دينار سراً وجهراً، فقبض بجكم على كاتبه علي بن خلف وعلى أخيه واستكتب أبا جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد. وكانت لبجكم دعوة عظيمة دعي فيها القواد، وأوقد فيها نيراناً عظيمة في يوم السبت لأيام بقين من شهر ربيع الآخر، وذلك في الصحراء التي أسفل النجمي على دكة كان بناها هناك وميدان أصلحه، قطع فيه نخل الناس وأخذ أملاكهم وذلك في وقت كان الفرس يصنعون فيه مثل هذا لدخول بهمن ماه وذهاب الشتاء. وخلع على ذكي الحاجب وعلى ابن ورقاء وعلى ابن جعفر الخياط وابن خاقان، ووصلهم وفعل بأصحابه مثل ذلك، وأنفق فيها مالاً عظيماً وتكلم بجكم في أمر محمد بن القاسم الكرخي فظهر. وقطع أبو جعفر بن شيرزاد أمر بني طياب على ألف ألف درهم. وقبض بجكم على لؤلؤ وكاتبه ابن سمعون وابن أعجى خليفته، كان على الشرطة، وقال له أتدخل بغداد بأعلام عليها لؤلؤ الرايقي؟ واتخذ بجكم دار ابن رايق ميداناً يقصده في كل جمعة وثلاثاء. وسفروا في الصلح مع بني البريدي على أن ابن شيرزاد يسفر فيه فقدم كاتبه طازاذ إلى واسط. وضبط بشرى الأثرم ضبطاً حسناً، وماتت أم موسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الهاشمية في شهر ربيع الأول ومات جماعة من المحدثين منهم الأدمي المقرئ بحرف حمزة في جامع المدينة وكان زاهداً. ومنهم علي بن العباس الهروي. ثم كثر عبث العامة وكبسوا الحمامات، وأخذوا ثياب الناس وكذلك صنعوا جنازة وغلت الأسعار. وولي أبو الحسين بن ميمون أزمة الدواوين، وأطلق البازعجي في غرة جمادى الأولى. ففورق عن مال يؤديه عن لؤلؤ. ومات أبو محمد يزداد بن محمد بن يزداد الكاتب - وكان قد حدث عن أبي سعيد الأشج والزبير بن بكار - يوم النصف من جمادى الأولى. وقبض الراضي على عبد الصمد بن المكتفي، وحمله إلى داره واتهمه بمكاتبة ابن رايق في البيعة له وقت ظهوره ببغداد. واتصل النداء برضاء السلطان عن البريديين، ووردت الكتب بموت الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر يوم الأحد، لثمان ليل خلون من جمادى الأولى، وأنه دفن في دار له بالرملة، وخرج القاضي والترجمان إلى بني البريدي في جمادى الآخرة، ووقع بين يدي الراضي أملاك لأبي الحسن بن عبد الله بابنة لبجكم صغيرة، وأنفذ بجكم بعقب هذا هدية عظيمة الخطر فيها خمسون ثوباً من فاخر الفرش والديباج، ومثلها من الخز عشرة مراكب على عشرة أفراس. وجاءت من الحسن هدية إلى بجكم تزيد على هذا، وعجل بجكم على رجل كان في داره من وجوه قواده فقتله ليلاً، ثم أصبح نادماً مغموماً وخبثت قلوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 أصحابه لذلك، وورد الخبر بأن البريديين دخلوا الأهواز بحرب الديلم وهزيمة لهم. وعاد القاضي والترجمان إلى بغداد، ونفذ راغب خادم الراضي بالخلع على أبي عبد الله البريدي للوزارة يوم الثلاثاء، لسبع خلون من رجب على أن يخلفه ببغداد أبو بكر النفري، وكان الكتاب نفذ إلى ابن أبي الفتح الوزير بأن يدبر ما كان يدبره أبوه بعد اسم الوزارة. وورد الخبر بأن ابن رايق رجع إلى الرقة فقبض على خزائن لابن حنزابة فوصل إليه منها ما قيمته خمسمائة ألف دينار. وخلع على الترجمان، لعشر بقين من رجب لولاية الجبل، وخرج إلى مضربه بصحراء ثلاثة أبواب وعقد له لواء. وسمعت راغباً الخادم يقول إن أبا عبد الله البريدي امتنع من الوزارة وقال: لو سست بعض دواب الخليفة لشرفت بذلك، فكيف بكتبته! ولكني بعيد عنه، ولا يحسن لي أثر عنده، لغلبة من قد غلب على الأمر، وأخاف أن ينسبني إلى عجز وتقصير. فإن أمنت هذا منه فأنا عبده يفعل بي ما شاء. فرجع إلى الراضي فأخبره بهذا من قوله. فرده إليه بأن يعذره. فلبس الخلع وركب فيها، ووصل راغباً من معه بمال عظيم. وقدم راغب فحدث الراضي بما جرى، وهو يدور في داره ونحن معه، فأقبل الراضي علينا كالآنف من طرحه الوزارة على من يشترط فيها! فقال لنا - وتكلم بأحسن كلام وأصوبه في معناه -: إن الوزارة قطعة من الخلافة، وروهنها ووهن الخلافة، وكنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 استكتبت الفضل بن جعفر، وكان كاتباً من بيت كتبة، وكان نائباً عني فحسن أثره عندي في جميع ما فعله، لم تنله مهنة من أصحاب بجكم تضع من الوزارة ومنه. فلما توفي نظرت إلى من بالحضرة فإذا هم من قد عرفت، وإن علقت هذا الاسم بواحد منهم لما مضى عليه أسبوع حتى يسأل مالاً يقدر عليه، ويمتهن كل الامتهان. فنظرت إلى أرفع من أعلمه في الزمان ممن يسلم من هذا ويبعد عنه، فلم أجد غير ابن البريدي، فاستكتبته لهذه العلة، وليبقى اسم الوزارة على حال صيانة ورفعة فدعونا له وقلنا: والله يا سيدنا ما سمعنها كلاماً أوضح بياناً، ولا أفلج حجة! وتتابعت هدايا الناس إلى الوزير ابن البريدي. ونالت بجكم على صعبة، ووافت الأخبار بأن الديلمي وافي واسط، فنزل الجانب الشرقي، وأن البريديين عبروا إلى الجانب الغربي. وكتب يستنجد بجكم، فخرج الراضي وبجكم على علته نحو واسط يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان ولم يخرج بجكم معه أحداً من الديالمة، خوفاً من أن يستأمنوا. ورجع الترجمان إلى بغداد، وأقام الراضي بالزعفرانية، ولحق به بجكم وهو عليل. وتعرض الحنبلية لمن قصد الحي للنصف من شعبان، فنودي فيهم: أنهم متى عرضوا لهم عوقبوا أشد معاقبة، فكفوا. وكان ابن إسماعيل بن أحمد قد ولي شرطة بغداد قبل هذا الوقت بشهر وأيام، فركب ووقع بين الحنبلية والضرابين والنخاسين قتال فأعان على الحنبلية. ورجع السلطان إلى بغداد لليلتين بقيتا من شعبان، لم اتصل به أن الديلمي قد رجع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الأهواز. ورجع بجكم وابن شيرزاد إلى بغداد يوم السبت لثمان ليال خلون من شهر رمضان. ومات البخاري خليفة البربهاري في شهر رمضان. وكبست منازل ولد أبي العباس بن الفرات، لسعاية غلام لهم بأن عندهم خزانة لابن رايق، وكذب، كانت خزائن لهم، فأخذ جميع ما ملكوه. وكبس ابن الصالحي وأخوه، لنهما اتهما بالسعاية في كتبة بجكم، فصودرا على مائة ألف درهم. وضرب بجكم دنانير وحشة، وحمل عليها حملاً كثيراً. وطلب ابن إسماعيل بن أحمد، صاحب شرطة بغداد البربهاري فاستتر. وقطع الأكراد على قافلة جاءت من خراسان في النصف من شوال، فأخذوا منها مالاً عظيماً وورد ابن حاتم والحاج من خراسان، فمنعهم بجكم من الحج خوفاً عليهم من القرامطة وكثر التخليط في أمر النقد ودار الضرب. وكان الدلاء صاحب البربهاري قد فر من الحبس في دار بجكم، فوجد وآل أمره إلى أن قتل. ومات أبو الوليد بن حمدان في ذي القعدة. ثم احتال الحاج في أن خرجوا فجاءهم ابن سنين، فوافقهم على أن يخفره وأخذ من جمل المتاع خمسة دنانير، ومن كل محمل ثلاثة دنانير، ومن كل زاملة دينارً. وقبض بجكم على سلامة أخي نجاح في غرة ذي الحجة وقطع أمره على خمسين ألف دينار، أخذ منها بستانه بالبردان. وبنى مسجد براثا. وأفتى بعض الفقهاء بنبش القبور وتحويلها - التي كان البربهاري وأصحابه أخذوا الناس بالدفن فيه - وأنفق عليه مال وصلى الناس فيه. وروى في جعفر الدقاق عن أبي خليفة حديثاً ما خلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الله له أصلاً. وكان من أخبار الجلساء بعد رجوع الراضي من الموصل أنه أعاد النوبة كما كانت يومين يومين، أربعة وأربعة، وكان بنو المنجم لا يصلون، وكان أحمد بن يحيى المنجم يحضر كل يوم في نوبته فلا يصل، وفي نوبتنا فيصرف، وربما استحيا الراضي منه، فجلس معنا في نوبتنا ثم امتدح الراضي بشعر وقال: أنا أريد أن أخدم سيدنا كل يوم، إلا يم الثلاثاء والجمعة بلا نوبة، وقام فسأل هذا وقبل الأرض فكان يجيء في كل. فطالبنا الراضي بأن نفعل مثل فعله، فعرفناه أن هذا ما كان مثله قط، وأن الأجسام لا تثبت عليه. وخوفنا أحمد بن يحيى منه. وقلنا له لا ترسم رسماً يعود ضرره على جماعتنا، فلم يقبل خوفاً من أن لا يصل متى تغير هذا، وكننا نحضر فنجلس إلى السحر ثم ننصرف فلا يجلس حتى يعود، ويطالب بالأكل والشرب، فما كنا نجلس في مجلس لكثرة عللنا، وكان ذلك سبب فساد مزاج الراضي ونفس الله عنا بشهر رمضان في سنة سبع، فلما جاء شوال عدنا إلى ما كنا فيه، فاعتللت أنا أياماً كثيرة، ولم يبق منا أحد إلا اعتل، واعتل أحمد بن يحيى على طالت، ووقع البلاء به كما جناه، فتوفي رحمه الله في ذي القعدة. وأمر الراضي بأن يتصدق بألف دينار من الصراة إلى نهر عيسى لعوز الماء من أجل البثق. فقلت أو يفعل سيدنا ما هو خير من هذا؟ قال: وما هو؟ قلت: نعم إن جرى على يد واحد من الناس. قال ومن هو؟ قالت أخشى لومه، قال: قل. قلت: راغب الخادم، هو والله أوثق الناس. ويغمه بعده عن الخدمة. فيروج العمل والعمال يرتزقون فيحبون أن يطول الأمر ليأخذوا أرزاقهم، وهذا لا يزيد رزقاً. فدعاه وأمره أن يضم إلى الألف الدينار ألفي دينار ويخرج، فأطل يده على جميع الناس، فعرف راغب أن هذا من جهتي، فقال لي أنت عرضتني لهذا؟ قلت نعم. رأيت الأستاذ يغزو ويحج على غرر، وهذا أفضل من الغزو والحج والجهاد بعد الفرض، فرضي عني وكان قد غضب. وخرج ففرغ من البثق بعد نيف وخمسين يوماً، وركب الراضي ونحن معه نتنزه بكرخايا، فأعد له القاضي بالصالحية ضيعته، فاكهة كثيرة، وطعاماً واسعاً، على أنه يتغدى فيها، فلم يمض إليها، وعاد إلى بستان ابن قرابة فتغدى فيه وانصرف من يومه ومعه بجكم، وعمل الجسر الفوقاني بمال أوصى به أبو الوليد من ثلثه، وأوصى بأن يعمل به الجسر. يحيى منه. وقلنا له لا ترسم رسماً يعود ضرره على جماعتنا، فلم يقبل خوفاً من أن لا يصل متى تغير هذا، وكننا نحضر فنجلس إلى السحر ثم ننصرف فلا يجلس حتى يعود، ويطالب بالأكل والشرب، فما كنا نجلس في مجلس لكثرة عللنا، وكان ذلك سبب فساد مزاج الراضي ونفس الله عنا بشهر رمضان في سنة سبع، فلما جاء شوال عدنا إلى ما كنا فيه، فاعتللت أنا أياماً كثيرة، ولم يبق منا أحد إلا اعتل، واعتل أحمد بن يحيى على طالت، ووقع البلاء به كما جناه، فتوفي رحمه الله في ذي القعدة. وأمر الراضي بأن يتصدق بألف دينار من الصراة إلى نهر عيسى لعوز الماء من أجل البثق. فقلت أو يفعل سيدنا ما هو خير من هذا؟ قال: وما هو؟ قلت: نعم إن جرى على يد واحد من الناس. قال ومن هو؟ قالت أخشى لومه، قال: قل. قلت: راغب الخادم، هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 والله أوثق الناس. ويغمه بعده عن الخدمة. فيروج العمل والعمال يرتزقون فيحبون أن يطول الأمر ليأخذوا أرزاقهم، وهذا لا يزيد رزقاً. فدعاه وأمره أن يضم إلى الألف الدينار ألفي دينار ويخرج، فأطل يده على جميع الناس، فعرف راغب أن هذا من جهتي، فقال لي أنت عرضتني لهذا؟ قلت نعم. رأيت الأستاذ يغزو ويحج على غرر، وهذا أفضل من الغزو والحج والجهاد بعد الفرض، فرضي عني وكان قد غضب. وخرج ففرغ من البثق بعد نيف وخمسين يوماً، وركب الراضي ونحن معه نتنزه بكرخايا، فأعد له القاضي بالصالحية ضيعته، فاكهة كثيرة، وطعاماً واسعاً، على أنه يتغدى فيها، فلم يمض إليها، وعاد إلى بستان ابن قرابة فتغدى فيه وانصرف من يومه ومعه بجكم، وعمل الجسر الفوقاني بمال أوصى به أبو الوليد من ثلثه، وأوصى بأن يعمل به الجسر. سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة أنكر بجكم على الترجمان دخوله بلا أمر ورجوع الديلم، فأظهر كتاباً عن تكنيك يخبره بأن الأمير أمره بذلك، فكان ذلك مما أنكره الأمير على تكينك وما زال الترجمان ملازماً بيته إلى أن رضي عنه بجكم ووافت الأخبار بمصالحة ابن طغج لابن رايق ووردت الخريطة بتمام الحج، إلا أن الحسنى قطع على قوم منهم، وقد فصلوا من المدينة راجعين. وصلى بالناس عمر بن الحسن بن عبد العزيز. وكان صيغون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 قد طرده ابن رايق ولم يرده، فصار إلى الحسن بن عبد الله، فلم يرض حاله عنده، فصار إلى بغداد يريد بجكم فخرج بجكم إلى النجاحي حتى تلقاه وأقدمه معه، وكانت ابنت الوزير ابن البريدي مسماة بابن أبي جعفر الكرخي، فزوجها من بجكم بحضرة الراضي، والخاطب القاضي، وابن شيرزاد الولي، وذلك في صفر. وكان ابن شنبوذ محبوساً فمات فوجه به إلى منزله وقد كانوا حذروه في وقت ثم ردوه. وقتل العيار المعروف بالمسلماني وصلب، أخذه رجل يعرف بأبي الحسين التودي فأمسكه وتكاثر العامة عليه. وولي الترجمان الشرطة، فاستخلف أبا بكر النقيب وقبض بجكم على ابن إسماعيل بن أحمد في شهر ربيع الأول. لأنه واطأ جماعة على الفتك ببجكم بعد أن كان دعاه قبل ذلك إلى منزله حيال قصر عيسى، وجميع قواده، وأنفق مالاً عظيماً على الطعام والشراب والحملان للقواد والهدايا حملت مع بجكم وأفراس قيدت معه. ومات أبو عبد الله بن العلاء الجوزجاني المحدث لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وكان مسنداً يروى عن أبي الأشعث ويوسف القطان وزيد بن أخزم الطائي. وصرف الحسن بن هارون عن الكوفة بأبي بكر البرجمالي. وحول بجكم الحبس السفلاني إلى دار دينار ليعقد هناك جسراً، وبنى دكتين ولم يتم ذلك. وأخرج الراضي ابنيه إلى داره بالرصافة ليركبا إليه، وبنى لهما طيارين كبيرين. واشتد أمر اللصوص وكبسهم الدور ليلاً، بالعدة والعدد، وظفر بجماعة منهم فقتلوا وصلبوا. وصرف لؤلؤ عن طريق الكوفة، وولي مكانه عدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 حاجب بجكم. وكان ابن شيرزاد قد خرج إلى واسط في استحثاث المال فقدم لثمان ليال بقين من ربيع الأول ومعه السكري صاحب أبي الحسين البريدي بمال وهدايا. واتصلت الأمطار وزادت دجلة زيادة عظيمة لم يعهد مثلها. وأوقد بجكم بالزبيدية ناراً عظيمة ليلة وبعض يوم، وشرب ودعا القواد. وتحدث الناس بأن السكري صار إلى دار البريديين التي خربت بسوق يحيى، فحفر موضعاً منها فاستخرج خمسة قماقم فيها دنانير فحدرها معه. وكتب أبو القاسم بن أبي حامد رقعة إلى بجكم تضمن فيها الخليفة وابن سنكلا وجماعة بخمسة آلاف ألف دينار بخطه، فأمر الراضي بضرب عنقه، فشهد له القاضي بفساد العقل، فضرب درراً، وطيف به على جانب بغداد. وأدخل يالبا لعشر بقين من جمادى الأولى على فانج بنقنق لأنه اتهم بمشايعة ابن إسماعيل على الفتك ببجكم، وكان سبب أخذه أنه موجه إليك بمدد فوجه بعدل فقبض عليه. وكبس الصقر بن محمد الكاتب وطولب بوديعة لبعض القرامطة، فحلف على بطلان ذلك، فسعى رجل بمال له مدفون في داره فأخذ، وكان عشرة آلاف دينار ذخراً له ولولده، فجرى عليه ظلم رثى له منه عدوه وصديقه. وأحضر بجكم يالبا فوبخه وقتله. وتوفي أبو سعيد الاصطخري الفقيه يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، ودفن بمقابل الدنر، كان رأساً في حفظ مذهب الشافعي وحدث وكان ثقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وتوفي بعد يومين أبو الفرج بن جعفر بن حفص الكاتب عن سبعين سنة وكان من أهل بيت كتبة. وأخرج بجكم الترجمان إلى الجبل ومعه جيش عظيم لأربع خلون من رجب. واتصلت مصادرة الناس فصودر ورثة أبي جعفر بن حفص على ثلاثة آلاف دينار. ومات أبو الحسين بن المغيرة الجوهري لتسع بقين من رجب، وقد حدث وكان ثقة. وأدخل جعفر بن ورقاء مائة نفس ونيفاً من القرامطة من بني سعد من طريق خراسان، فطيف بهم على جمال وحبسوا، وقدم رسول القرمطي مع عمر بن يحيى العلوي يطالب بمال عظيم كان أعطاه مثله البريدي في العام الماضي حتى يحج بالناس، وأن يده لا تنال في هذا العام. ووجه بجكم إلى أبي الحسن الكرخي وأبي عمرو الطبري فحضرا عنده في ليلة جمعة فسألهما مسألة في النبيذ وغير ذلك. وتوفي القاضي عمر بن محمد ليلة الخمسي لثلاث عشرة ليلة بقيت من شعبان وكانت سنة تسعاً وثلاثين سنة، وبلغ في العلوم مبلغاً عظيماً مع هذا السن، وكنت أنا كالمربي له، ولا أشك أنه قرأ علي من كتب اللغة والأخبار، وكتبي المصنفة ما يقارب عشرة آلاف ورقة، وكانت له أشعار ملاح وجوابات مني قد أفردت لذلك كتاباً فيه هذه الأشعار وفيه رسالة عملتها في وصفه ووصف أبيه، ومات تخلف عن جنازته أحد من الأجلاء، ووجد الراضي عليه وجداً شديداً، حتى كان يبكي عليه بحضرتنا ويصفه ويقول: كنت أضيق بالشيء ذرعاً حتى أراه فيوسعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 لي برأي يسير يشير به. وكنا ليلة بين يديه وستارته تغني فأمرهن بأن يضربن بالعيدان ففعلن وجعل يبكي حتى خفنا عليه، وجعلنا نعزيه ونقول ما يجب أن يقال مثله. فقال والله لا بقيت بعده، وصلى عليه ابنه أبو نصر في داره وغسله أبو بكر بن عبد العزيز الهاشمي. وولي الراضي ابنيه أبا نصر وأبا محمد وخلع عليهما فمرا في الشارع فجعل إلى أبي نصر قضاء بغداد إلى المداين، وولي أبا محمد القضاء من المداين إلى البصرة وصار أبو نصر إلى مسجد الجانب الشرقي في يوم الثلاثاء لليلة بقيت من شعبان فقرأ عهده، وحكم بين نفسين وانصرف وكان فيما كل به الراضي حين ولاه: قد استوفى سيدنا الأنعام وكمله وشي بآخره أوله، فثبت الله وطأته وأدام دولته. وأريد من أبي نصر مال لبجكم فغرم وباع، ووقف على العدول والأمناء حتى أدى. وكان النوروز يقع ليومين من شهر رمضان فقدم الخاصة إشعال النار قبل دخول رمضان، وأشعل العامة وصبوا الماء. وعزل غانم بن رحمة عن الشرقية للنصف من شهر رمضان، وصودر على مال. وقلد رجل يعرف بفضل فاضطرب الناس وعجبوا لذلك فعزل وولي رجل يعرق بالقابوس. وحمل مع رسول القرمطي مال ليحج الناس. واتصل ببجكم رجوع الديلم وأن الترجمان لما بلغه ذلك أقبل يريد حلوان فخرج مبادراً لإحدى عشرة بقيت من شهر رمضان، حتى لحق بالترجمان وقيل له أن بينه وبين الديالمة عقبة إن أخذوا مواضع منها لم يصل إليهم وإنه يحتاج أن يأخذ في طريق بعيد حتى تتم له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الحيلة فوافى بغداد على الجمازات لخمس خلون من شعبان، لنه اتصل به أن الراضي علي، وكان اعتل في هذا الوقت حتى طرح من فيه في يومين وليلتين من الدم أربعة عشر رطلاً، وشاهدنا بعض ذلك، وركب يوم الفطر إلى المصلى تكينك وأبو بكر النقيب، وانقطع الدم عن الراضي وصلح قليلاً. وأخرج ابن مقلة ليلة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال ميتاً من دار السلطان فدفن عند باب الفيل فسأل أهله فيه فنبش ليلة الجمعة للنصف من شوال وسلم إلى أهله فدفنوه في مقابرهم. وكان الراضي يقول لنا بالموصل أيام ظهور ابن رايق ببغداد: لو كان ذلك الفاعل حياً الساعة لأجلس خليفة، ولأخذ أموال التجار، فالحمد لله الذي حدث هذا وليس هو في الدنيا - يردد هذا مرات لئلا نعلم أنه حي في يده، وكذا كان يقول في أمر القاهر، وحدثنا كيف عذب وكيف مات - حتى وجد حياً بعد وفاته، وكثرت الرفايغ إلى بجكم من ظلم أصحابه للناس، فجلس للمظالم يوم الخميس لتسع بقين من شوال وبين يديه ابن شيرزاد فحمد في جميع ما أمر به ونهى عنه. وورد الخبر بهزيمة ابن طغج لابن رايق حتى صار إلى دمشق. ومات أبو عبد الله المطيعي يوم الأربعاء لأربع بقين من شوال، ومولده سنة ثلاث وثلاثين، وكان مسنداً ثقة. ومات أبو العباس الخصيبي لليلة بقيت من شوال فجأة بلا علة. وجلس بجكم للمظالم لليلتين بقيتا من شوال، ونظر في ثلاثين رقعة، فجرى أمره فيها على سداد. ورجع رسول القرمطي بهدايا لبجكم، فيها فرسان لم ير مثلهما، ووفاه بجكم ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 في ماله، وأهدى له هدايا. وخرج الحاج فلحقهم عطش، ثم أغاثهم الله بمطر عاشوا به. واستبطأ السلطان ابن البريدي في حمل المال وعزم بجكم على الانحدار، فقالوا كيف تقاتل من له اسم الوزارة! واستحضر سليمان بن الحسن للوزارة، وخلع عليه يوم السبت لثمان بقين من ذي القعدة، ومر في الشارع وهنأه الناس. وخرج بجكم يريد واسط، فوجه بأربعة فيهم رفيق يالبا فطرحوا للسباع في البركة التي بناها بالنجمي وقبض على ابن عبدوس بسبب غلام له يقال له بديع، كان في جملة البريدي، وعلى أبي الحسن بن سهل لمصاهرته لهم. وكاتب ابن شيرزاد البريدي بالخروج عن واسط، وأشار عليه ألا يحارب ففعل، ودخلها بجكم فخلع على ابن شيرزاد خلعة حسنة، وقلده سيفين وسر أهل وناسط ببجكم، وحدر حرمه غليه. ومات أبو بكر بن الأنباري يوم الأضحى ودفن في داره. ودخل الترجمان ولؤلؤ غلام التهشم من طريق الجبل، إلى بغداد يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة. وظهر أبو عبد الله الكوفي. وانحدر إلى واسط لسبع ليال. بقين من ذي الحجة وافى واسط من المستأمنة من عسكر البريدي اغبن صفراء فقلد يسكن وقطربل، ووافى حجرية، فأنفذوا إلى بغداد وقتل بجكم ابن الشابشتي الكاتب، وجد معه كتاب إلى أبي طاهر القاضي فانحدر أبو طاهر، وحلف أنه لا يعرف للكتاب سبباً وتكلم فيه فنجا، وهو أهل ذلك لعلمه وفضله. واستوحش أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي من القاضي أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 نصر، وأشهد على نفسه ثلاثين عدلاً أنه لا يشهد عنده أبداً، وكان انحرافه عنه أنه اتهمه بميل إلى أخيه أبي محمد، وأنه يسعى له في ولاية بغداد. وأخذ ابن أبي موسى خطوط العدول بتقريظه وتعديله، ولعهدي بأبي عبد الله بن أبي موسى وهو مجتهد ليله ونهاره، في أمر أبي نصر حتى تم له ما أراد. ما أعرته شهادة بذلك، ولكني عرفته مشاهدة ثم إن أبا نصر أحضر العدول فأخذ خطوطهم بأن ابن أبي موسى غير موضع للشهادة وأسقطه. وقبض على محمد بن القاسم بن سيما، بسبب أن ابن أخته مع البريديين فتكلم فيه وقيل: والله ما ابن أخته بقائد ولا محارب ولا كاتب، وإنما هو كالمضحك ومثل هذا لا يؤخذ أحد به، فخلى. واندر أبو محمد بن عمر بن محمد إلى واسط. واستحضر بجكم يحيى بن سعيد السوسي فأنفذه إلى السلطان يسأله إسعافه بمائتي ألف دينار فوصل ومعه جماعة من الكتاب فأمرهم الراضي أن يعملوا له عملاً من ضياعه المستخلصة بواسط ونواحيها بهذا المقدار ليأخذ ما فيها من غلة، فكان الأمر قريباً فأطلق الراضي ذلك له. سنة تسع وعشرين وثلاثمائة دخل أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد بغداد يوم الأحد لست خلون من المحرم مقبلاً من واسط واستكتب أبا عبد الله الكوفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 واستخلفه، ووافى قوم من الموسم فأخبروا بتمام الحج وسلامة الناس. وخلع على أبي محمد بن أبي الحسن القاضي، لقضاء المدينة لعشر خلون من المحرم، وكان ابن أبي موسى السبب في ذلك وغرم من ماله أربعة آلاف دينار أو نحوها، وهذا والله يدل على علو همته. وانحدر ابن شيرزاد إلى واسط، وكان جاء ليشير بانحدار السلطان فوعد بذلك. ومات زيرك الخصي غلام القاهر فدفن في دار اشتريت له بالرصافة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم، وكان أحسن الناس خدمة للراضي، وكان له موقع عظيم منه، وأقطعه أقطاعاً منه البستان المعروف بالشقيعي وأعطاه من المال والطيب والجوهر بمقدار موضعه منه، فاغتم عليه غماً عظيماً. فصاعد الخليفة إلى باب الشماسية، فسكن داراً اشتراها ابن سنكلا من ورثة اصطفى وركب فطاف كالمتفرج من الغم الذي ناله، وكان يقول: مات في مائة يوم قاضيّ وصاحب رأيي وخادمي الكافي خدمتي، وأمر فصب في دجلة أربعمائة دن للشراب العتيق الذي بقي من أيام المعتضد والمكتفي وكان لا يشرب إلا منه فحرص أبو الحسن بن أبي عمرو الشرابي على ألا يفعل ذلك - وكان مكيناً عنده قريباً من قلبه، لطيف المحل يحضر في كل وقت، كنا أو لم نكن وربما شاوره وخلا به، وإنه لموضع لذلك عندي - فما قبل ذلك منه، وندم بعد ذلك على صبها، وما كان والله الراضي ممن يذهب عليه هذا ولكن اضطرب رأيه، وكثر ضجره، لفساد مزاجه، وكثرة علله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فكان سنان بن ثابت - وكان قد لزمه، حتى جالسه معنا، وأكل وشرب بين يديه في آخر أيامه - يقول لي إذا رأي أخلاقه متغيرة، ما أحسن قول جالينوس: مزاج الروح، تابع لمزاج البدن، وأنا أفرد لهذا باباً إن شاء الله. وقد بجكم أبا بكر النقيب إلى الراضي ليخبره بما عزم عليه، ويعفيه من الخروج إليه، فقدم فدخل إلى الراضي ليلة الاثنين، وانحدر الراضي يوم الاثنين لتسع بقين من المحرم إلى داره. وجمع بجكم الكتاب ليعملوا أعمالاً للأموال في النواحي، وكانت حيلة منه فلما اجتمعوا قبض على ابن شيرزاد وعياله، وقبض النقيب يوم الاثنين بحيلة على طازاد وأبي الحسن أخي أبي جعفر وأسبابهما وعلى علي بن هارون الجهبذ اليهودي، وكان القبض بواسط وبغداد في وقت واحد. ودخل الكوفي بغداد غرة صفر للنظر في الأموال، وهو كاتب بجكم وصودر ابن شيرزاد عن نفسه وكتابه وعماله على مائة ألف وخمسين ألف دينار فتسلم أبن سنكلا طازاد وضمن ما عليه وهو خمسة آلاف دينار. وصودر ابن المشرف وابن أخيه ثابت على نيف وعشرين ألف دينار وعني ابن سنكلا وعلي بن يعقوب بطازاد بالبصرانية وعرض هذا على بجكم فكرهه وأثقله، وزاد على ابن شيرزاد مائة ألف دينار. وقبض على أبي بكر الصيرفي صاحب الجيش، وعلى أبي أيوب السمسار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وأخذ منهما عشرة آلاف دينار، ولم يؤخذ لابن الصيرفي مال وشهد الناس بثقته فأطلق، وقبض على جعفر بن ورقاء لأيام خلت من صفر فلم يترك له عين ولا ورق ولا دابة ولا مركب ولا فرش ولا آلة إلا بيع في مصادرته، على أنه يعول مائتي نفس وله معروف وكرم. وأنكر الترجمان على ابن خشيش المحتسب حيلة على جارية في دار ابن بنان الخلال حتى اخذ حلياً وثياباً، وذاك أنه دس من استعار منهم بيتاً وجعل فيه آلات لضرب الدراهم المعمولة، ثم كبسه فضربه وأطافه على جمل من الجانبين، وكانت قصته فيما فعل قبيحة جداً. وكتب الكوفي على ابن شيرزاد صكاكاً بأملاكه لبجكم، فتسلم ما كان بالقرب منها. وأخذ من علي بن هارون اليهودي بعد عذاب عظيم مائة ألف وعشرة آلاف دينار، ثم قتله بجكم بعد ذلك بمديدة، واجتمع للكوفي مال فأنفذه إلى واسط مع الترجمان من المصادرة وغيرها، قيل إنه أربعمائة ألف دينار. وجاءت بنو تميم لكبس الأنبار، فرجع الترجمان إليهم من واسط ففارقهم على أن يثبته لمحاربة البريدي. وقلد لؤلؤ طريق خراسان مكان ابن ورقاء وخلع عليه لثلاث خلون من شهر ربيع الأول، وطالب الكوفي الحسن ابن عبد العزيز بنحو مائتي كر بلغه أنه نقلها قبل مواقفة العامل وباعها، فقاطعه عنها على خمسة آلاف دينار وعزله عن الصلاة وولى مكانه أحمد ابن الفضل بن عبد الملك، وكان حقد عليه أنه أسمعه في أيام ابن رايق وقال له أنت ابن ذكرويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 انقضت الحوادث إلى غرة ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وفيه توفي الراضي بالله وأنا أذكر وفاته بعد إتمامي وأذكر مختار شعره. كان الراضي في آخر أيامه قد تغيرت أخلاقه وأفعاله التي ما كان أحد على مثلها في فضله وعقله وكرمه وأدبه وما اتهم في ذلك إلا ما قاله لي سنان من علته، وكان قد تغير لجميع الجلساء حتى ساوى بنا من لم يكن يساوينا عنده، وزاد الأمر حتى فضلهم علينا. وخص عبثه بإسحاق بن المعتمد وبي إلا أن إسحاقاً لثقل سمعه كان لا يسمع أكثر ما يمر، وكنت أنا أسمع ويكثر الخطاب لي وكنت أحتمل ضرورة، ولما أوجبه الله علي وربما أطلعت حجة تغيظه إذا زاد الأمر علي فيغضي عنها لكرمه لولا أنه كان أحسن الناس وفاء وأتمهم حلماً وكرماً، لظننت أنه سيمنعني من الوصول إليه، وكان يمدحني إذا غبت ولا يفعل ذلك إذا حضرت ولقد حدثني بعض الخدم أن أحمد بن يحيى المنجم ثلبني يوماً عنده فقال له أمسك عن هذا ولا تنظر إلى ما أفعله فإني أريد بما أجري إليه إصلاحه لي كم أريد، فقال له فلو قومه سيدي بحجته عنه أياماً. فقال قد هممت بذلك فخفت أن ينسبني الناس إلى قلة وفاء لقد خدمته لي، ولأنه حبب إلي الأدب وسنى لي قول الشعر وعرفني نقده وتعب معي فيه. ومع ذلك فيقال إذا حجب مثل الصولي فماله رغبة في الأدب، حدثني بذلك بعض الخدم قال فما سمعناه يعيد ذكره عنده. وكان يقول لي أبو الحسن بن أبي عمرو الشرابي لا يغمنك ما يجري فلا والله ما عن كراهة ولا بغض، ولكنه من عبث الملوك بمن يحبون من عبيدهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وخدمهم، وكان أبو الحسن البريدي يقول لي مثل هذا ويقول العروضي، ما بان لي أن أحداً كان آثر عنده مه. وكان إذا أراد عرض كتاب يسره أو غير ذلك أدخلنا جميعاً حتى يفرغ مما يريد ثم يدخل الباقين، على أنه ما سلم أحد منهم في عبثته، غير أني كنت مخصوصاً بذلك في حضوري، ولقد ذكر يوماً بعض مشايخ أهل البيت من ولد الحسن عليه السلام فشتمه فنظر بعض أصحابنا إلى بعض ثم ضحكوا وقمنا، فرجعت فقلت يا سيدي يمسي مالاً يمس أحد مثله، وهؤلاء إن ضحكوا بين يديك فإنهم يضمرون ويحكون، ويحفظون الذي ذكره سيدنا أمه فلانة بنت فلان، وأبوه فلان بن فلان فقال استغفر الله وقد أحسنت. وكان أول تغيره أنه كان يعيب غناء ابن طرخان ويحكيه ويذمه ويحلف أنه لا يحسن شيئاً وإن ذودة الزطى الطنبوري أحسن غناء منه ويدخ ذودة بحضرتنا وغير حضرتنا ويصله، فلم يزل به إلى أن أحضر ابن طرخان وغلب عليه وستحسن غناءه، حتى صار يجلسه بين أيدينا ويصل بصلات ويخصه بها ويلقى على ستارته الأصوات التي يستحسنها ثم زاد الأمر حتى وصل الجلساء ليلة الفطر ولم يصلني ولا وصل إسحاق فأما إسحاق فألقى نفسه على راغب وبكى، حتى أمر له بنصف ما أمر لكل واحد ممن وصله، وأما أنا فأمسكت، وشرب بعد ذلك فوهب لجميعهم معرقة معرقة إلا لي وللبريدين، وكان يجفوهما كثيراً. ووهب لهم قدحاً قدحاً من البلور ولم يهب لي مثلهم. ووعدني أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 أنسخ له أشياء ويصلني لها كعادته، وكان لا يعجبه أن لا ينظف في شيء إلا بخطى فلما تغيبت وفرغت منه لم يعطني شيئاً، فعملت شعراً ودخلت ف صبيحة الليلة التي أمر لهم فيها بما أمر مع الغداة فأنشدته: قُل لِلْخَلِيفةِ تِرْبِ الْعِلْمِ والأدَبِوأَفْضَلِ النَّاسِ مِنْ عُجْمٍ وَمِنْ عَرَبِ ومَنْ أَجَلَّ إلهُ النَّاسِ رُتْبَتَهُ ... حتَّى علاَ وهَوَى الأملاكُ في صَبَبِ قَدْ كان لِي مَوْعِدٌ في النَّسْخِ لَمْ أَرَهُوفاتَنِي القَدَحُ الْمَحْفُوفُ بِالطَّرَبِ وحازَ صَحْبِي دُنِي طِيبَ مَعِرقَةٍ ... لِباسُها أَفْخَرُ الأنْسابِ والحَسَبِ وليْلَةُ الفِطْرِ أَبْقَتْ لِي حزازَتُها ... ناراً تَرامى عَلَى الأحشاءِ باللَّهَبِ فَجازَنِي بِرُّ مَوْلىً كان يَبْدَأُنِي ... كأَنَّنِي ناقِصٌ فِي رُتْبَةِ الأدَبِ أَلَمَّ بِي طَيْفُ حِرْمَانٍ فَأَرَّقَنِي ... فَبِتُّ مُعْتَنِقاً للْهَمِّ والكُرَبِ هذَا عَلى خِدمَةٍ مَا ذُمَّ سالِفُهَا ... ودَوْلَةٍ لِي فِيها أَوْكَدُ السَّبَبِ وأنَّنا نُقَباءٌ شاعَ نَصْرُهُمُ ... نُلْقِي أَعادِيكُمُ في الحَرْبِ بِالحَرَبِ ويَوْمَ مَرْوانَ أُفرِدْنا بِمَشْهَدِهِ ... والفَخْرِ فِيهِ بِنَصْرِ السَّادَةِ النُّجَبِ مقالَةٌ تُوردُ الأخْبارُ صِحَّتَها ... مَوْجُودَةٌ فِي رِواياتٍ وفِي كُتُبِ إن كانَ ذلِكَ مَزْحاً مِنْ إمَامِ هدىً ... فَحَبَّذا هُوَ مِنْ مَزْحٍ وَمِنْ لَعِبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَسَوْفَ يأْتِي سَرِيعاً مِنْهُ لِي عِوَضٌ ... كَمَا أَتاهُمْ بِلا كَدٍّ وَلاَ تَعَبِ فَالْعَيْشُ إن كانَ هذَا عَنْ خَبِيٍّ رِضاًوالمَوْتُ إن كانَ كُلُّ الْمَوْتِ عَنْ غَضَبِ رَأَيْتُ وَجْهَ الرِّضَا أَعْلَى لطَالِبِهِ ... مِنَ الصِّلاتِ إذَا تُوبِعْنَ وَالرُّتَبِ لا تَجْعَلَنِّيَ نَهْباً للْهُمُومِ فَقَدْتَرَدَّدَ الظَّنُّ بَيْنَ الرَّغْبِ والرَّهَبِ أَقُولُ قَوْلَ امْرِئٍ صَحَّتْ قَرِيحَتُهُمَا زَالَ فِي الدَّهْرِ ذا كَدْحٍ وذَا دَأَبِ سُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ الآدَابَ في عُصَبٍ ... حَظَّاً وصَيَّرَها غَيْظاً عَلَى عُصَبِ ومِثْلُ شَكْوَى حَكِيمٍ عَضَّهُ زَمَنٌ ... كما اشْتَكَى غَارِبٌ مِنْ عَضَّة القِتْبِ أَفْضِلْ عِنانَكَ لاَ تَجْمَحْ بِهِ طلَباً ... فلا وعَيْشِكَ مَا الأرْزاقُ بِالطَّلَبِ قَدْ يُرْزَقُ المَرْءُ لَمْ تَتْعَبْ رَواحِلُهُويُحْرَمُ الرِّزْقَ مَنْ لَمْ يُؤْتَ مِنْ تَعَبِ مَا أَصْعَبَ الفَقْدَ لِلْعَادَاتِ مِنْ مَلِكٍتَقْدِيمُهُ فِي الْعَطَايَا أَشْرَفُ الرُّتَبِ لَوْ كُنْتُ أَمْلِكُ صَبْراً عَنْ مَحاسِنِهِونَشْرِهَا فِي الْوَرَى أمْعنْتُ فِي الْهَرَبِ ما لِي إذا لَمْ أَفُزْ مِنْهُ بِمَنْزِلَةٍوَعَوْدِهِ بِالرِّضَا في الْعَيْشِ مِنْ أَرَبِ إنِّي لآمُلُ مِنْهُ حُسْنَ عَطْفَتِهِ ... فالحَظُّ مُقْتَسِمٌ وَالدَّهْرُ ذُو عُقَبِ حَتَّى يُبَيِّضَ وَجْهِي مُذْهباً حَزَنِيبِالبَذْلِ لِلْفِضَّةِ الْبَيْضاء والذَّهَبِ كعادَةِ الدَّهْرِ فِي تَقْدِيمِهِ أبداً ... رَضَعْتُ مِنْهُ بَدَرٍّ طَيِّبِ الحلَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فَقَدْ سَبَقْتُ بِمَدْحٍ فِيهِ فُزْتُ بِهِ ... صِدْقٍ إذَا مُدِحَ الأمْلاكُ بِالْكَذِبِ فَاسْمَعَ لِمَدْحٍ يَلَذُّ السَّمْعَ مُنْشِدُهُلا تَجْعَل الرَّأْسَ فِي الأَشْعَارِ كَالذَّنَبِ مُشَبَّهٌ لَفْظُهُ فِي حُسْنِ مَذْهَبِهِ ... بِلَفْظِ شِعْرٍ بِنَارِ الحُسْنِ مُلْتَهِبِ يا مَنْ يُحَمِّلُ ذَنْبَ الرَّاحِ شَارِبَهَاأَقْبِلْ بوَجْهِ الرِّضَا فِي ساعة الغَضَبِ لا وَالَّذي أَنْتَ مِنْهُ نِعْمَةٌ مَلأَتْ ... عُرْضَ البِلادِ وحَلَّتْ حَبُوةَ النُّوَبِ ما فِي عَبِيدِكَ إِنْ فَتَّشْتَ أَمْرَهُمُ ... أَقَلُّ مِنِّيَ فِي رِزْقِي وَفِي نَشَبِي يا من يحمل ذنب الراح، هو بيت له من أبيات كانت تعجبه، فضمنت أنا هذا البيت ومدحته على وزن الأبيات وقافيتها. ومن ذلك ما ظهر منه في آخر أيامه عند موت زيرك القاهري، ثم عرف حالة ما خلف، فقال ارفعوه إلى فلان يتصدق به، فلما رأى فلان ذلك هاله واستعظمه، فوجه إليه ما أحسن أن أمس شيئاً من هذا دون أن تراه، فوجه إليه أنا أعلم به منك فبعه وتصدق بثمنه. فوجه إليه: هذا ليس لمثله مشتر إلا أمير المؤمنين أو الملوك من عبيده، فقال بعه وتصدق بثمنه عنه ولا تراجعني. فقال لي بعض الجلساء - وقد حدثنا الخدم بهذا - أتراه يأمل اجتماعاً معه في الآخرة حتى يخدمه! فقلت له حسبك من الكلام في هذا، فقال والله ما تكلمت حتى أبْلُغَ مُنىً وزعم الخدم أنه خلف عيناً وورقاً وطيباً وجواهر وبلوراً وثياباً ودواب وسروجاً ومناطقَ بقيمة مائة وخمسين ألف دينار فما أخذ منها إلى العين والورق وكانا أقله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أشعار الراضي بالله التي قرر النسخة عليها في آخر عمره في كل فن كان رضي الله عنه جمع شعره وأملاه علي، فكتبته بحضرة الجلساء في يوم وليلة، لا أقوم عنه إلا إلى صلاة فوصلني على ذلك. ونسخ الجلساء هذه النسخة وهي عندهم. فنظرت فيها فإذا فيها أشياء فقلت له من حيث لا يسمعني أحد: يا سيدي هذا شعر يبقى على الأبد، وقد بقت فيه حروف تحتاج إلى أن نغيرها فقد غير ابن المعتز شعره مرات وإن أمرتني نسخته نسخة أخرى وعرضته على سيدنا ويأمر بأمره. فقال افعل وأنا أصلك للنسخ وغيره فعلمت نسخة كتبتها وعرضتها عليه، وكان هذا في آخر أيامه، فسر بها وقال تأخذ نسخ أصحابنا منهم وتقرر النسخة على هذا، فطالبته بالصلة للنسخ الثاني فوعدني به، ولم يعطينيه. فهو قولي له في أبياتي البائية: قد كان لي موعد في النسخ لم أره ... وفاتني القدح المحفوف بالطرب فمن شعره على قافية الباء لَوْ أَنَّ ذَا حَسَبٍ نَالَ السَّمَاءَ بِهِ ... نِلْتُ السَّماءَ بِلاَ كَدٍّ وَلاَ تَعَبِ مَنَّا النَّبِيُّ رَسُولُ اللهِ لَيَْ لَهُشِبْهٌ يُقَاسُ بِهِ فِي الْعُجْمِ وَالْعَرَبِ فَإنْ صَدَقْتُمْ فَأَعْلَى الْخَلْقِ نَحْنُ وَإنْمِلْتُمْ عَنِ الصِّدْقِ اعْنقْتُمْ إلَى الْكَذِبِ وقال في الغزل ضَحِكَ الزَّمَانُ إِلَيَّ عَنْ إعْتَابِ ... وَاَعَارَنِي سَمْعاً لبَثِّ عِتَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 رَمَدٌ بِعَيْنِي صَرْفُهُ عَنْ لَحْظَتِي ... إِذْ كَانَ بِي فِي شِرَّتِي وشَبَابِي سَابِقْ بِلَذَّتِكَ الشَّبَابَ فَإِنَّنِي ... أصْبَحْتُ فِيهِ مُجَرِّراً أَثْوَابِي وَعلِمْتُ أَنَّ الدَّهْرَ حَرْبُ شَبِيبَتِي ... فَخَلَسْتُ فِي غَفَلاتِهِ آرَابِي وقال: أَلَذُّ وَأَشْفَى لَنَا مِنْ طَرَبْ ... وَأَطْيَبُ مِنْ رَشْفِ ماءِ العِنَبْ تَبَذَّبُ سَاقٍ أَدَارَ العُقَارَ ... يَكْفِيكَ بِالْبَذْلِ ذُلَّ الطَّلَبْ أَدَارَ لَنا ذَات ياقُوتَةٍ ... وَأَلْبَسَها خلَعاً مِنْ ذَهَبْ وعدَّلَ سائِرَ سَوْرَاتِها ... وذَرَّ عَلَيْهَا دُيُوبَ الحَبَبْ ومُعْتَدِلِ الحُسْنِ لكِنَّهُ ... يُخَطِّي الذُّنُوبَ وحُبَّ الرِّيبْ تَاَلَّفَ مِنْ خُدَعٍ كُلُّهُ ... بِسِحْرِ اللِّسانِ وظَرْفِ الأدَبْ لَهَوْنَا بِهَا وَنَعِمْنا بِهِ ... فَكانا جَمِيعاً عِنَانَ الطَّرَبْ فَلَمَّا تَرَنَّحَ مِنْ سُكْرِهِ ... وجَرَّعْتُهُ فَضْلَ مَا قَدْ شَرِبْ تَنَشَّرْتُ مِنْ نَشْرِهِ مسكَةً ... ونَاجَيْتُ فَتْكِي بِسِرٍّ عَجَبْ وَكَمْ مِنْ ليالٍ لَنا أَسْعَفَتْ ... مَطالِبَنا بِسُرُورِ الغَلَبْ وقال: يَلُومُنِي فِي لِحاظِ الطَّرْفِ غَيْرُكُمُوالذَّنْبُ ذَنْبُكَ إذا أَغْرَيْتَ سقْيَكَ بي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 يا مَنْ يُحَمِّلُ ذَنْبَ الرَّاحِ شَارِبَهَاأَقْبِلْ بِوَجْهِ الرَّضا فِي سَاعَةِ الْغَضَبِ وقال في قصيدة أولها: أَأَنْ قالَ لِي صَحْبِي تَسُلَّ بِغَيْرِهَاسَلَوْتُ وَهَلْ عَنْهَا أُصَادِفُ مَذْهَبا فقال فيها: وَلَيْلٍ أَضَاعَ الْخِلْوُ عِرْفَانَ طُولِهِتَرَى النَّجْمَ فِيهِ لاَ يَرُومُ تَغَيُّبَاً وَعَقْرَبَهُ فِي الْغَرْبِ تَهْوِي كَأنَّهَاتُشَكِّلُ فِي حَقِّ التَّشَابُهِ عَقْرَبَا قَطَعْتُ مدَاهُ بِالأَمَانِي أَكُرُّهاً ... إذَا قُلْتُ وَلَّى الْهَمُّ عَادَ فَاَنْصَبَا وَأَزْرَقَ خَفَّاقٍ تَلُوحُ كَأنَّمَا ... تَجَلَّدَ دَرْعاً أَوْ بِسَلْخٍ تَجَبَّبَا نَأَتْ عَنْهُ أَذْيَالُ السَّحَائِبِ فَأَخْتَلَىوَسَرَّبَ لِلتُّرْبِ الْقَذَى فَتَسَرَّبا وَيَلْمَحُهُ لَمْحض الرَّياَحِ بِطِيبِهِفَيُرْعَدُ مِنْهُ الْجِسْمُ لَمْحاً مُحَبَّبا وَإنِّي لَذُو صبْرٍ عَلَى رَغْمِ حَاسِدِي ... أفَلِّقُ هَامَ النّاَئِبَاتِ تَعَقُّبا وأُغْضِي عَلى بَعْضِ الأَذَى فَتُثِيرُنِيعَوَاصِفُ ذَنْبِ الْحلْمِ شَرْقاً وَمَغْرباً وَكَمْ مِنْ عَدُوٍّ قَدْ رَعَتْ لهَوَاتُهُ ... مُنَابِتَ عِرضِي فاسْتَجَابَ مُكَذِّبا وَثَبْتُ إلَيْهِ ذَا اعْتِزامٍ وَسَطْوَتِيعَلَى الظُّلْمِ لاَ يَزْدَادُ إلاًَّ تَوَثُّبا وَأَوْطَأْتُهُ ذُلاًّ يُبَاقِيهِ وسَمُهُ ... وَأَنْشَبَ كَيْدِي فِيهِ ناباً ومَخْلَبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وإنِّي امْرُؤٌ تَصْفُو مَوارِدُ رَأفَتِيوَتَحْرُبُ سَطْوَاتِ الْعَدُوَّ الْمُحَرَّبَا إذا عُدَّتِ الأَبْيَاتُ أَبْصَرْتَ بَيْتَنَا ... كَأَن الثُّرَيَّا بالْبَنِيِّ مُطَنَّبَا رُوَيْدَكَ إِنَّ النَّارَ تَظْهَرُ تَارَةً ... ويَكْمُنُ في الأَحْجارِ مِنْهَا تَغَيُّبَا وقال يهجو ابن رايق وأحسن: أَيَطْلُبُ كَيْدِي مَنْ يَهُونُ كِيَادُهُ ... فَيُوقِدُ نَاراً مِثْلَ نارِ الحُباحِبِ لَقَدْ رَامَ صَعْبًا لَمْ يَرُمْهُ شَبِيهُهُ ... وَرَاضَ شَمُوساً لا يَذِلُّ لِرَاكِبِ صَغُرْتَ عَنِ الأَمْرِ الَّذِي رُمْتَ فِعْلَهُفَطَالَعْتَنِي بِالضّغْنِ مِنْ كُلَّ جَانِبِ وَأَظْهَرْتَ لِي حُبَّاً يَطِيفُ بِهِ قِلىً ... كَخَائِبِ بَرْقٍ فِي عِراضِ سَحائِبِ أَتَعْقدُ لِي كَيْدَ النَّسَاءِ بِمَرْصَدٍوَإنِّي فَتِيُّ السِّنِّ شَيْخُ التَّجارِبِ أَلاَ رُبَّما عَزَّتْ عَلَى الْحازِمِ الَّذِي ... تَرَاهَا بِكَفَّيْهِ فَرِيسَةَ طالِبِ تُكَشّفُ لِي الأَيَّامُ مِنْكَ معَايِباًوَقَدْ جُرِّيَتْ لاَشَكَّ أَخْزَى المَعَايِبِ فَأَصْبَحْتَ مَقْهُوراً وََعادَتْكَ نَكْبَةٌتَشَكّي إليك الشَّوْقَ شَكْوَى الْحَبايِبِ وَكُنْتُ إذَا عَاتٍ تَعَبَّثَ جَهْلُهُ ... عَبَثْتُ لَهُ بِالمُرْهِفَاتِ القَوَاضِبِ وكَمْ مِنْ جَلِيدٍ رامَ مَا رُمْتَ فانثَنَى ... وَقَد لَبَسْتْهُ مُتْلِفَاتُ الْعَقَارِبِ وقال يفخر: سَقَى اللهُ أَطْلاَلاً رَعَيْتُ بِها الصَّبا ... سَحَابَةَ غَيْثٍ لاَ يَكِفُّ سَكُوبُها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 زَمَانَ مَغَانِي اللَّهْو مَأْنُوسَةُ الْحِمَىوَحُوزُ الْغَوانِي غُصْنُهَا وكَتَيبُها وَعُودُ الصِّبَا لَمْ يَذْوَ غَضُّ نَبَاتِهِوشَرَخُ الشَّبَابِ إِلْفُهَا وَقَرِينُهَا يَقُولُونَ كُفَّ النَّفْسَ عَنْ ظَبَيَاتَهاوَقَدْ مَرَدَتْ عَشْقاً وحارَتْ ذُنُوبُهَا ظَعَنْتَ وَقَدْ خَلَّفْتَنِي نُهْبَةَ الأَسَى ... لِعَّلةِ وَجْدٍ لاَ يُصابُ طَبِيبهُا لَتَهْنِكَ لَوْعَاتٌ تُرَدَّدُ فِي الحَشَا ... وعَصْيَانُ عَيْن مَا تُطِيعُ غُرُوبُهَا وَتَضْيِيعُ رَأْيٍ فِي اصْطِنَاعٍ مَعَاشِرٍ ... يُسَوِّدُ وَجْهَ الاِصْطِناع عُيُوبُهَا أَنَا ابْنُ الأُلَى مِنْ هَاشِمٍ زِنْتُ هاشِماًكَمَا زَانَهَا الْعَبَّاسُ قَبْلي نَسيبُهَا سَلِي تَخْبَرِي مَنْ كاَنَ طِفْلاً ويافِعاًفَعَزَّتْ بِهِ الدُّنْيَا وَذَلَّ خُطُوْبهَا أَلَمْ أَطِلِ الآمَالَ عِلْماً وسُؤْدَداً ... وتَفْخَرُ بِي شُبَّانُ فِهْرٍ وَشِيبُهَا لأَنِّي إِنْ ضَلَّ الغَرِيمُ غَرِيمُهَا ... وَإِنْ فُحِمَ الخُطَّابُ مِنْهَا خَطِيبُهَا وسَيْفِي عَلَى أَعْدَائِهَا سَيْفُ نِقْمَةٍ ... جَرِئٌ عَلَى الأَعْمَارِ فِيما يَنُوبُهَا وقال: يَوْمٌ أَتَى بدِيمَةٍ هَطَّالَةٍ ... تُبْرِزُ مِنْ نَبْتِ الرِّياضِ مَا احْتَجَبْ وَقَدْ كَسَتْ يَدُ النَّدَى وَجْهَ الثَّرَى ... ثِيَابَ زَهْرٍ مِنْ لُجَيْنٍ وَذَهَبْ وَنَهَرٌ شَقَّ الرِّيَاضَ جَرْيُهُ ... مَنْفَجِرٌ يَحْكِي لَنَا شَقَّ الطَّرَبْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 تَراهُ يَنْسابُ كأَفْعَى كَارهاً ... خَوْفَ طَلُوبٍ مُدْركٍ لِمَا طَلَبْ وَزادَنِي فِي طَرَبِي مَنْعِمٌ ... دَانِي الرِّضا مِنِّي ناءٍ بِالْغَضَبْ يُدِيرُ رَاحاً لمَعَتْ فِي كأْسِهِ ... وأُلْبِسَتْ فِي مَزْجِهِ تَاجَ ذَهَبْ كُلُّ سُرُورٍ فِيهِ مِنْ تَمامِهِ ... وَكَلُّ حُسْنٍ فإِلَيْهِ يَنْتَسِبْ يَرْكُضُ سَعْيِ إِنْ قَصَدْتُ فَتْكَةً ... وَإِنْ قَصَدْتُ النُّسْكَ فالسَّيْرُ خَبَبْ وقال: تَأوَّبَنِي طَارِقُ الْهَمِّ نَصْبَا ... وَأَبْدَلَ سِلْمَي للدَّهْرِ حَرْباً فقال فيها: ونارٍ عَلَى شَرَفٍ أَوقِدَتْ ... فَشَاهَدْتُ مَوقِدَهَا حِينَ شَبَّا فَلِلَّه مَا خَبَّأَ الدَّهْرُ لِي ... أَفِي كُلِّ قُطْرٍ عَدُوٌّ مَخَبَّا وَثَوْبَ ظَلاَمٍ تَدَرَّعْتُهُ ... أَهُبَّ لَهُ يَقِظاً حِينَ هَبَّا فَأَنْبَتَ مَزْعىً عَلَى دِمْنَةِ ... أُرَاقِبُ مِنْ عَطْفَةِ الدَّهْرِ وَثْبَا وَقَالُوا حَلِيمٌ وَلَمْ أَسْتَطِعْ ... لِرَايَةِ سَطْوٍ عَلَى الذَّنْبِ نَصْبا أَأُشْهِرُ سَيْفِي عَلَى نَابِحٍ ... وَأَفْرِسُ للِثَّأْرِ قِرْداً وَكَلْباً إذَا لأرْتَوَى مِنْ دَمٍ خَدُّهُ ... وَلاَ سَارَ بِالعَدْلِ شَرْقاً وغَرْبَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وكَمْ قَدْ وَطئْتُ عَلَى فِتْنَةٍ ... وَثُرْتُ بأُخْرَى فَقَضَّيْتُ نَحْبَا أَخَالُ إِذَا دَهَمَتْنِي الْخُطُ ... وب وَفِي كُلِّ عُضْوٍ بِجِسْمِي قَلْبَا وَمِنْ حَادِثٍ دُسْتُ أَمْثَالَهُ ... وَأَتْبَعْتُ نَكْبَ مَعانِيهِ نَكْبَا أَرَى مُسْتَكِيناً لأَقْرَانِهِ ... إِذاً لاَ اسَغْتُ مِنَ الْمَاءِ عَذْبَا وقال يعذر نفسه في خروجه إلى الموصل: أَمُغْنيَةٌ مَعَ الظُلْمِ الْخُطُوبُ ... فيُغْفرَ مَا جَنَتْهُ مِنَ الذَّنُوبِ عَجبْتُ لصَرْفِ دَهْرٍ صَافيَاتٍ ... مَكَارِهَهُ وَعَيْشٍ لِي مَشُوبِ كَأَنّ الدَّهْرَ يَطْلُبَنِي بِذَحْلِ ... فَحَظِّي مِنْهُ إِضْرَاءُ الْخُطُوبِ وَهَوَّنَ بَعْضَ مَا أَلْقَاهُ أَنِّي ... نَقِيُّ الْجَيْبِ مِنْ دَنَسِ الْعُيُوبِ إذاَ لَمْ أُوتَ مِنْ رَأْيِ مَصِيبٌ ... فَمَا عِلْمِي بإِضْمَارِ الْغُيُوبِ وكَمْ رَيْبَ لِصَرْفِ الدهرِ هَابٍ ... جَلاَهُ النَّصْرُ مِنْ رَبٍّ مَهُوبِ وقال وزعم أنه قصد بها اتباع علي بن محمد العلوي على هذا الوزن سَقْياً للذَّاتِ وَطِيبٍ ... بَيْنَ الشَّبَابِ إلَى الْمَشِيبِ ولنَظْرَةٍ مَهْتُوكَةٍ ... تَدْنِي الْبَرِيءَ مِنَ المُرِيبِ معْقُولَةٍ بِيَدِ الْهَوَى ... مَرْبُوبَةٍ بِيَدِ الرَّبِيبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 إذْ غَالَبَتْ كَفِّي الزمانَ ... وإِذْ شَربْتُ عَلَى الرَّقِيبِ بِخُيُول لَهْوٍ أَرْسِلَتْ ... سَحّاً بِهِ ذَيْلَ الْغُيُوبِ رَكَضَتْ بِنا وَشِعارُها ... لاَ حُكْمَ إلاَّ للْحَبِيبِ شَوْقٌ يُعَرِّمُ فِي الْحُضُو ... رِ فَكَيْفَ يَفْعَلُ فِي المَغِيبِ وقال: وَقَهْوَةٍ يَتَرامى ... شَعاعُها بِلَهِيبِ جَعَلْتُها حَظًّ نَفْسِي ... عِشْقاً لهَا وَنَصِيبِي بِيَوْمٍ سَعْدٍ مُصَفَّى ... مِنَ الزَّمانِ المَشُوبِ فَسَقِّنِي تِذْكاراً ... لِطَاعَةِ المَحْبُوبِ وَاعْصِ الرَّقِيبَ فإِنِّي ... أُحِلُّ قَتْلَ الرَّقِيبِ أَبَى شَبابِيَ إلاَّ ... عَصِيَّةً لِمَشِيبِي مَا سَوَّدَ النَّسْكُ مِنِّي ... إلاّ بَياضَ ذُنُوبي وقال في طريق الموصل: جَدَّد الْبَيْنُ كُرُوباً ... وَكَوَى الْفَقْدُ قُلُوبا باعَدَ المِقْدَارُ بَغْدَا ... دَ ضِرَاراً وَنُكُوبَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أوْجَبَ الْبَيْنَ أُناسٌ ... عَلَّمُوا قَلْبِي الْوَجِيبا لَهَفَ نَفْسِي لِزَمانٍ ... كانَ لِي غَضّاً رَطِيبَا رَبِّ خُذْ لِي مِنْ حَسُودٍ ... حَجَبَ الظَّبْيَ الرَّبِيبَا فَلِذاك النَّوْمُ فِي ... عَيْنِي قَدْ صارَ غَرِيبَا فَلِذا أَهْوى مَعَ ال ... رُّؤْيَةِ هَجْراً وَرَقِيبَا يا حَبِيبَيَّ وَهَلْ ... خَلْقٌ يُرى الْيَوْمَ حَبِيبَا أَعْفِيانيَ عَنْ مَلامٍ ... بِالَّذِي يَعْفُو الذُّنُوبا وَعُقارٌ ذَوْبُ شَمْسٍ ... جَمَعَتْ حُسْناً وَطِيبَا أَضْوَأَ اللَّيْلُ سَناها ... لَمَعاناً وَلَهِيبَا سَلَبَتْ عَقْلِيَ خَتْلاً ... وَسَرَتْ فِيَّ دَبِيبَا ضَحِكَتْ بِالْمَزْجِ كَرْها ... ونَفَى عَنْها الْقُطُوبَا ذَرَّ مِنْ دُرٍّ عَلَيْها ... حِينَ صافَاها جُيُوبَا قَدْ سَقانِيها غَزالٌ ... عَالِمٌ مِنِّي عُيُوباَ حَقَّقَ الرِّيبَةَ لَحْظٌ ... مِنْهُ خُلاَّنِي مُرِيبَا وَتَرَى الغُصْنَ لِعِطْ ... فَيْهِ إِذَا اهْتَزَّ نَسِيبَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 كَمْ تَحَمَّلْتُ حُرُوباً ... وَتَحَطَّيْتُ خُطُوبَا وَرَأَي الأَعْدَاءُ بَعْدِي ... لِمُداراتِي قَرِيبَا فَدَعِي اللَّوْمَ فَما رَبْ ... عِي لِذِي اللَّوْمِ خَصِيبَا وقال: كُلُّ دَاعٍ سِوَاي غَيْرُ مُجَابِ ... وَعَذَابُ الْهَوى أَشَدُّ عَذابِ كَمْ يَكُونُ الْخِلافُ وَالْبُعْدُ قَلْ لِي ... مَعَ ذُلِّي وَطَاعَتِي واقْتِرابِي؟ كُلَّ يَوْمٍ يَرُوعُنِي مِنْكَ وَعْدٌ ... مَطْمِعٌ لَمْعُهُ كَلَمْعِ السَّرَابِ وقال على قافية التاء وَمِنْ مَلِيحِ الذَّنُوبِ إِنْ ذُكَرِتْ ... لَثْمِيَ فَاهُ وَرَشْفُ رِيقَتِهِ فِي ثَوْبِ لَيْلٍ أَبْلَيْتُ جِدَّتَهُ ... وَجادَ لِي سَيْرُهُ بِزَوْرَتِهِ فَصِرْتُ بِالَّليْلِ ذَا مَؤَانَسَةٍ ... أَشْكُرُ مَا عِشْتُ فَضْلَ نِعْمَتِهِ وَأَعْطَتِ الرَّاحُ ما أُؤَمِّلَهُ ... قُوَّةُ حُكْمِي وَضَعْفُ قُدْرَتِهِ شُكْرِيَ وَقْفٌ عَلَى الْمُدامَة إِذْ ... ذَلَّلَتِ الصَّعْبَ لِي بِسَكْرَتِهِ وقال يعرض بابن رايق: مَا بَالُ إِحْسَانِي أَصْحَبْتُهُ ... خَلَلَ الرِّجالِ يَصِيرُ مِثْلَ إساءَتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ما إنْ كَفَفْتُ أَذيَّةً إلاَّ هَوْتَ ... نَحْوِي بِكَفِّ تَجاوُزِي وَأَنَاتِي فَلِذاكَ أَصْبِرُ عَافٍ عاقِلٍ ... وَأُهَتِّكُ الْمَذْعُورَ فِي وَثَباتِي فَإِذا غَفَلْتُ عَنِ الْكَفُور فإِنَّما ... أُهْدِي إِلَيْهِ الْحَتْفَ مِنْ غَفَلاتي وقال الْعَيْشُ رَاحٌ يُعاطِيها بِرَاحَتِهِ ... مَنَعَّمٌ يَقْتَضِي عِشْقاً بِلَحْظَتِهِ كَأنَّمَا لَوْنُها مِنْ لَوْنِ وَجْنَتِهِ ... وَطَعْمُ رِيقَتهَا مِنْ طَعْمِ رِيقَتِهِ إِنْ أَمْكَنَ الدَّهْرُ مِنْ عَيْشٍ بِشَهْوَتِهِفَأَنْعَمْ بِغَفْلَتِهِ مِنْ قَبْلِ فِطْنَتِهِ وقال حين اشتدت علته: وَلَمَّا رَأَيْتُ الدَّهْرَ يَخْطُبُ خُطْبَةً ... وَأَيَّامُهُ تَعْدُو عَلَيَّ بَنَوْباتِ عَصَيَتُ زَماناً قَدْ تَجاسرَ صَرْفُهُ ... وَأَتْبَعْتُ يَوْمَ الْهَمِّ يَوْمَ لَذَاذَاتِ وأَيْقَنْتُ أَنِّي مُهْجَةٌ مُسْتَعارَةٌ ... تُرَدُّ إلى مِلْكِ الْمُعِيرِ بِغُصّاتِ فَيا لَيْتَنِي أَمْضَيْتُ مَا كُنْتُ عازماً ... عَلَيْه ليَشْفِي دَاءَ صَدْري وَلَوْعاتي وقال على قافية الجيم وَنَاظِرٍ عَنْ دَعَجٍ ... مَحْكَمٍ فِي الْمُهَجِ يُدِيرُ كَأْسَاً فَرَّجَتْ ... هَمَّ الْفَتَى بِالْفَرَجِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قَدْ أُرْعدَتْ لِمزْجِهَا ... وَالْتَهَبَتْ كَالسُّرُجِ أَدارَها مُنْتَطِقٌ ... مُصَوَّرٌ مِنْ غَنَجِ أَطلَعَ مِنْ طُرَّتِهِ ... أَهِلَّةً مِنْ سَبَجِ تَكَشَّفَتْ ضَحْكَتُهُ ... عَنْ بَرَدٍ مُفَلَّجٍ يا مَجْلِساً جَعَلْتُهُ ... فِي مُدَّتِي أُنْمُوذَجِي كانَ كَلَحْظِ الطَّرْفِ ... فِي سُرْعَةِ مَرٍّ ومَجِي وقال وقد نالته جفوة من أبيه. قافية الحاء هَلاَّ رَدَدْتَ عَلَى الْعَدُوِّ الْكاشِحِ ... وَقَبِلْتَ مِنَ الصَّدِيقِ النَّاصِحِ الآن حِينَ مَلأتَ قَلْبِي رَغْبَةً ... أَعْقَبْتهَا ظُلْماً بِيَأْسٍ قادِحِ وتَكَلَّفَتْ نَفْسِي إلَيْكَ بِمُنْيَةٍ ... أَلْتَذُّها مِثْلَ الزُّلالِ التَّايِحِ أَبْعَدْتَ ظَنّي بَعْدَ مَا قَرَّبْتَهُ ... وَلَسَوْفَ تَذْكُرُ فِي فَسَادِي صالِحِي ما للإِمامِ تَنَكَّرَتْ أَخْلاَقُهُ ... مِنْ قَوْلِ هاجٍ فِي مَكانِ مدَائحِي فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْتَجي إِنْصافَ مَنْ ... يَجْرِي إلَى ظُلْمِي بِقَوْل الْكاشِحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 جَمْرِي إذَا ما شِئْتَ طافٍ خامِدٌ ... وَإذا تَشاءُ فَكَالشِّهابِ الَّلائِحِ وَالنَّارُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْكَ ضِياؤُها ... حَتَّى تُحَرِّكها بَنانُ القادِحِ قافية الدال بادِرْ بِلَهْوِكَ لَيْلَةً بَدْرِيَّةً ... وَاقْصُدْ بِما نَهْوَى بِرَغْمِ الْحُسَّدِ وَمُرِ الْغَرِيرَ يُدِيرُ بِكْرَ سُلافَةٍ ... لا تَسْمَعَنَّ لِعاذِلٍ وَمُفَنِّدِ يَهْتَزُّ فِي سُودِ الثِّيَابِ كَأَنَّهُ ... بَدْرٌ تَجَلَّى مِنْ غَمامٍ أَسْوَدِ ما زِلْتُ أَسْحَرُهُ بِلَحْظٍ خاتِلٍ ... وَأَسُومُهُ الإِنْجازَ قَبْلَ الْمُوعِدِ حَتَّى تَوَرَّدَ خَدُّهُ بِمُدَامَةِ ... كالْمِسْكِ ذَاتِ تَوَقُّدٍ وَتَوَرُّدِ وَتَبَيِّنَ الإِنْعامُ فِي أَلْحاظِهِ ... مُتَقَرِّبَ بالألْفاظِ بَعْدَ تَبَعُّدِ حَتَّى انْثَنَى فِي الأَرْضِ يَلْثِمُ خَدَّهُشَوْقاً إلى فَرْدِ الْمَلاَحَةِ أَوْحَدِ يا لَيْلَةً كانَتْ لِدَهْرِي غَرَّةً ... طَلَعَتْ عَلَيَّ نُجُومُها بِالأَسْعُدِ وقال في حبس القاهر فَقَدْتُ الْهَوى وَعَدِمْتُ الْوَدُودَا ... وَأَبْلَى الْجَدِيدَان مَنِّي الْجَدِيدَا وَقَدْ كُنْتُ دَهْراً أَطِيعُ الْهَوى ... وَأَجْرِي مَعَ اللَّهْوِ شَأْواً بَعِيداً فَحَرَّمْتُ كَأْسِي عَلَى لَذَّتِي ... وَأَزْمَعْتُ كُلَّ وِصَالٍ صُدُودَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 أَبَعْدَ إمامِ الْهُدى أَبْتَغِي ... سُلُوّاً وَأَمْلأُ طَرْفِي هُجُودَا وقَدْ قَتَلَتْهُ الْعِدا غرَّةً ... وَما صادَفَتْ مِنْهُ عَبَداً عَتِيداً كأَنْ لَمْ يَكُنْ قَطُّ فِي جَحْفَلٍ ... يُحِيرُ الرَّدَى وَيَجُدُّ الْجُنُودَا يَعِزُّ عَلَيْهِ وَأَنِي بِهِ ... يَرانِي لِفَضْلِي أَسِيراً فَرِيدَا تُباشِرُنِي ضَيِّقاتِ الْحُبُو ... سِ وَأَحْسَبُ مِنْ غَيْرِ فَقْدِ فَقِيدَا وَكُنْتُ بِهِ مَالِكاً للزَّمانِ ... أَسُرُّ الصَّدِيقَ وَأُشْجِي الْحَسُودَا فَأَفْرَشْتُ خَدِّي لِوَطْءِ الْعِدَا ... وَأَفْرَشَ أَهْلِي لأَجْلِي خُدُودَا وَعَرَّفَنِي فَقْدُهُ النَّائِباتِ ... وذَلَّلَ مِنِّيَ صَعْباً جَلِيدَا فَيا لَيْتَ رَكْباً إِليْنَا نَعَوْهُ ... نَعَوْنَا إِلَيْهِ وَنالَ الْخُلُودَا وقال: أفادِني وُدَّكَ بَعْدَ كَدِّ ... دَهْرٌ نَحانِي صَرْفُهُ بِقَصْدِ يَطْلُبُ نَفْسِي ثائِراً عَنْ عَمْدِ ... فَصِرْتُ إذ أَصْفَيْتَنِي بُوِدِّ عُذْرُ إساءَاتِ الزَّمانِ عِنْدِي ... وَهيَ كَثِيراتٌ تَفُوتُ عَدِّي قَدْ يَغْلُظُ الْحَتْرُ بِوَقْتِ سَعْدِ ... وَيَقْدَحُ الْقُرْبُ بِزَنْدِ البُعْدِ فَاجَي إِلى الْوَصْلِ ثَقِيلُ الصَّدِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وغناه يوماً عبد الرحمن بن طرخان بشعر لي وهو: لَيالِي صُدُودِيَ لَيْسَتْ تُضِي ... وَعُمْرُ تَجَنِّيكَ مَا يَنْقَضِي وَمَا تَأْلَفُ النَّفْسُ يَا مُنْيَتِي ... سِوَى ما تُحِبُّ وَما تَرْتَضِي تَقاضَيْتَ عَيْني بغُنْجِ اللِّحَا ... ظِ دُمُوعاً فَأَعْطَتْكَ ما تَقْتَضِي فأَنشدنا من غد ذلك اليوم: نِيرانُ هَجْري لَيْسَ تَخْمَدْ ... وَسُيُوفُ عَيْنِكَ لَيْسَ تُغْمَدْ وَالنَّفْسُ فيما ساءَها ... طَلَباً لَما يُرْضِيكَ تَجْهَدْ وَالْجُودُ مِنْكَ مَباعَدٌ ... وَالْبُخْلُ دانٍ لَيْسَ يَبْعُدْ مَنْ ذا يَكُونُ مُبَشِّرِي ... بِالْعَطْفِ مِنْكَ عَليَّ أَحْمَدْ وقال: أَثُمَّ وَشَمْسُ الْحُسْنِ حَلَّتْ قِناعَهاعَلَيْكِ وَأَنتِ الْبَدْرُ وَافَقَ أَسْعُدا تَصُدِّينَ إِدْلالاً وَما بِكِ قُدْرَةٌ ... عَلَى الصَّدِّ لَوْ أَنِّي مَلَكْتُ تَجَلُّدا وقال يذم الموصل ويمدح بغداد. قافية الراء أَعْذَرَ لَفْظُ الْمُحِّب بالْعُذْر ... وَاخْتَلَطَ السِّرُّ مِنْهُ بالْجَهْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وبِعْتُ أَرْضَ الْعِراقِ بَيْعَةَ مَغْ ... بُونٍ فَجَمَّتْ بلابِلُ الصَّدْرِ وَسَائِلٍ لاَ يَزَالُ عَنْ خَبَرِي ... إِسْمَعْ فَما بِي يَجِلُّ عَنْ قَدْرِ فَارَقْتُ مَغْنىً مُذَكَّراً بِهَوىً ... يَلْذَعُ قَلْبِي بِعارِضِ الذِّكْرِ وَجِئْتُ أَرْضاً تَسُوء سَاكِنَهَا ... وَتُبْدلُ الْيُسْرَ مِنْهُ بِالْعُسْرِ يَضْحي بِهَا ثَاكِلاً لِلذَّتِهِ ... مُقَلِّباً قَلْبَهُ عَلَى الْجَمْرِ عُرْضَةُ نَتْنٍ يَحُفُّهَا جَبَلٌ ... يَقْطُنُ فِيهَا الْهُمُومُ بالْقَطْرِ يَجِيءُ فِي غَيْرِ حِينِهِ أَبَداً ... وَالسَّهْلُ فِيها مَشَاكِلُ الْوَعْرِ شِتَاؤُهَا حَتْفُ مَنْ يَقَرُّ بِهَا ... بِثَلْجِهَا الْمُسْتَدَرِّ وَالْقَرِّ وَشَمْسُها فِي الْمَصِيفِ مَحْرِقَةٌ ... تَقِيدُ نِيرانُهَا عَلَى الصَّخْرِ عَجَزْتَ يَا مُحْصِيَ الْعُيُوبِ بِهَا ... قَدْكَ أَتُحْصِي عَجَائِبَ الْبَحْرِ سُمِّيتِ الْمُوْصِلَ الْمُوَاصِلَةَ الْ ... حُزْنِ لَمَّا جَاءَهَا عَلَى خُبْرِ إِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الرَّحِيلِ فَقَدْ ... أَعِيدَ طَيُّ السُّرُورِ ذَا نَشْرِ لأَقْتَضِي لَذَّةً مُطْلِتُ بِهَا ... يَعُودُ رِبْحِي فِيها إلَى خُسْرِ وَأَجْتَلِي الْخَمْر فِي غِلائِلِها ... حَتَّى يُفْرِّي غِلاَلَةَ الفَجْرِ وَشَادِنٍ مَلَكَتْهُ خَالِصَتِي ... إِباحَةً لاَ تُشانَ بِالْحَظْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 تَلْمَعُ كَاسَاتُهُ كَبَارِقَةٍ ... فِي كَفِّهِ أَوْ كَذَائِبِ التِّبْرِ فَدَيْتُ مَنْ بِعْثُ فِي مَحَاسِنِهِ ... دِينِيَ بِالإِثْمِ فِيهِ وَالْوِزْرِ وَلَيْلَةٍ يُنْتَجُ السُّؤَالُ بِهَا ... يَصْغُرُ قَدْراً عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ سَعِدْتُ فِيها بِذِي مُسَاعَدَةٍ ... أَقْبِضُ بِالْوَصْلِ مَهْجَةَ الْهَجْرِ أَغْتَرُّ بِالذَّنْبِ غَيْرَ مُعْتَمِدٍ ... مَوِّهَ صَحْوُ الْمُرادِ بِالسُّكْرِ يا لَكِ مِنْ لَيْلَةٍ مُحَسَّدَةٍ ... تُعَدُّ فِي الدَّهْرِ غُرَّةَ الدَّهْرِ أَحْيِ بِدَهْرِ الشَّبَابِ دَوْلَتَهُ ... فَمَا لِدَهْرِ المَشِيبِ مِنْ عُذْرِ وقال: قَضَّ بِالْخَمْرَةِ الْوَطَرْ ... واشْرَبِ الصَّفْوَ لاَ الْكَدَرْ صِدْ بِهَا شَارِدَ السَّرُو ... رِ وَمَنْ صَدَّ إِذْ نَفَرْ لَيْلَتِي لاَ عِدْمتُ مِثْ ... لَكِ يا غَلْطَةَ الْقَدَرْ حَجَبَ اللهُ مِنْكِ فِطْ ... نَةَ دَهْرٍ لَهُ غِيَرْ قَدْ تَمَرَّغَتْ فِي النَّعِي ... مِ وَأُسْعِدْتُ بِالظَّفَرْ أَمْرُنا نافِذٌ وَلَيْ ... لَتُنا كُلُّها سَحَرْ وقال: اشْرَبْ غَبُوقاً فالْغَرْبُ قَدْ نَوَّرْ ... وَجاءَ وَالِي الظَّلامِ فِي عَسْكَرْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَلَّى نَهارُ الْمَصِيفِ مُشْتَمِلاً ... غَضَّاً وَجاءَ الظَّلامُ يَسْتَبْشِرْ فَبادِرِ العَيْشَ عِنْدَ فُرْضَتِهِ ... أنَّ زَمَانَ السُّرُورِ مَسْتَقْصَرْ قُولا لَمْكْتُومَ أَوْلنِي حَسَناً ... مِنْكَ وَما تُولِهِ فَلَنْ يُكْفَرْ أَيُّ عَذُولٍ يَرَاكَ كالْغُصْنِ ال ... نَّاعِمِ تَمْشِي بِالرَّاحِ لا يَعْذرْ وقال: وَمِمَّا شَجانِي أَنَّهُ حِينَ جاءَنِي ... يَزِفُّ عُقاراً فِي غِلالَةِ نُورِ تَحاشَ باسْمِيَ كَيْ يُرِينِي مَوَدَّةً ... فَخادَعْتُ نَفْسِي قائِلاً بِسُرُورٍ وفاضَتْ عَلَى خَدَّيْهِ حُمْرَةُ خَجْلَةٍ ... وَرَصَّفَ لَفْظاً مِنْ صِنَاعَةِ زُورِ أَلَمْ تَرَني أَرْغَمْتُ بِالْفَتْكِ عاذِلِيوَأَسْبَلْتُ مِنْ دُونِ الْحَيَاءِ سُتُوري وعاقَرْتُ رِيقَ الرِّيمِ مُرْوِي غُلَّةٍ ... وَرَقَّصْتُ كاساتِي لِمَاءِ غَدِيرٍ فَيا لَيْتَ لِي كَانَتْ مِنَ الدَّهْرِ خُلْسَةٌ ... أَبُثُّ لَها بالرَّغْمِ كُلَّ غَيُورِ وقال في غلام نصراني يَا رُبَّ زَوْرٍ مُنْعِمٍ مزَارُهُ ... يَلْحَفُهُ مِنْ لَيْلِهِ إزارُهُ بَشَّرَبِي بِبَذْلِهِ زُنَّارُهُ ... وَحُسْنُ خَدٍّ نَصَعَ احْمِرارُهُ يُفيتُ بِالْحُمْرَة جُلّنارُهُ ... يُطْلِعُ مِنْها قَمْراً أَزْرَارُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 عَذِّرَ فِي عارِضِهِ عِذارهُ ... فَأَعْجَلَ المُهْلَةَ لِي بِدارُهُ جَرْيَ جَوَاد لَمْ يُخْفَ عِثارُهُ ... يُؤْخَذُ مِنْ بُعْدِ بِقُرْبٍ ثارُهُ لا كانَ جَرْيٌ لَمْ يُثَرْ غُبارُهُ وقال: فَدَيْتُكَ ما أَظْهِرُ ... قَليلاً لِمَا أُضْمِرُ وَلِي بَدَنٌ ناحِلٌ ... عَلَى الْهَجْرِ لا يَصْبِرُ أَحاطَ بِجْسمِي الْهَوى ... فَحَوْلي لَهُ عَسْكَرُ لِسانِي لَهُ كاتِمٌ ... وَدَمْعِي لَهُ مُظْهِرُ وقال: طَرِبْتُ إلى عَمّي وعاوَدَنِي ذِكْرِي ... وَقَسَّمَ شَوَّالٌ بِقَدْمَتِهِ فِكْرِي فَكَمْ فَتْكَةٍ لِي فِي ذُرَى عَرَصَاتِها ... أَرُوحُ عَلى سُكْرٍ وأَغْدُو عَلَى سُكْرٍ طَرَقْتُ بِهَا الْخَمَّارَ والنَّجْمُ طالِعٌ ... طُلُوعَ سِنانٍ قَاصِدٍ ثَغْرَة النَّحْرِ فأَنْكَحَنِي خَمْراً رَضِيتُ نِكاحَها ... وأَغْلَيْتُ بِالسَّوْمِ المُبالِغَ وَالمَهْرِ وَقُلْتُ لِساقِينا أَدِرْ لِيَ خَمْرَةً ... تُنِيلُ المُنى وافْجُرْ بِطَلْعَتِها فَجْرِي فَقامَ خَلُوبُ الدَّلِّ يَجْلُو سُلاَفَةً ... تُشَبِّهُ فِي كَاساتِهَا ذائِبَ التِّبْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 كَأَنَّ أَبارِيقَ اللُّجَيْنِ إذا انْحَنَتْ ... رِقابُ غرَانِيقٍ تَطَلَّعُ مِنْ وَكْرِ لَهُ مُقْلَةٌ تَسْبِي الْعُقُولَ وَفِتْنَةٌتُسَقِّطُنِي مِنْ حَيْثُ أَدْرِي وَلاَ أَدْرِي عَليِمٌ بِوَحْيِ الطَّرْفِ حَتَّى كَأنَّما ... يُخاطِبُهُ فِكْرِي بِما ضَمَّهُ صَدْرِي فَحَطَّ عَلَى حُكْمِي رِحالَ إِجابَةٍ ... وَسار بِما أَهْواهُ طَوْعاً إلَى أَمْرِي فَيا لَيْلَةً قَدْ أَسْعَفَتْنِي بِطِيبِهاوَقَفْتُ عَلَيْها الدَّهْرَ أَلْسِنَةَ الشُّكْرِ وقال: دَاوِ الخمارَ بِخَمْرَهِ ... وَصِلِ الصَّبُوحَ بِفَجْرهِ وَاطْرَبْ لِفِطْرٍ زائرٍ ... أَهْلاً بِهِ وَبِزَوْرِهِ مَأْسُورُ آبٍ فَكَّ أَي ... لُولٌ لَنا عَنْ أَسْرِهِ يَأْتِي كمَعْشُوق محا ... بِالْوَصْلِ أَسْطُرَ هَجْرِهِ يا لَيْلَتِي بِالقَفْصِ جا ... دَ لَكِ الْعَذُولُ بِعُذْرِهِ لَمَّا رَأَى رَشَأ يُذِي ... بُ الْعَقْلَ ذائِبُ تبْرِهِ مُتَمَرِّداً في سُكْرِهِ ... مُتَمايِلاً فِي خَطْرِهِ كَالْبَدْرِ إلاَّ أَنَّهُ ... بَدْرٌ لِسائِرِ شَهْرِهِ فَشَرِبْتُ خَمْرَةَ كَأْسِهِ ... وَرَشَفْتُ خَمْرَةَ ثَغْرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وَوَشا إلَيَّ بِبَذْلِهِ ... زُنَّارُهُ فِي خَصْرِهِ وقال: قَدْ ضاعَ فيكَ صَبْرِي ... يا راغِباً فِي الغَدْرِ فَلَيْسَ فِيكَ أَدْرِي ... مَنْفَعَتِي مِنْ ضُرِّي فَهَلْ أَراكَ عُمْرِي ... مُهاجِراً لِهَجْرِي وَقَهْوَةٍ كَالجَمْرِ ... تِبْرٌ وَلكِنْ تَجْرِي أَدارَها فِي الْفَجْرِ ... مُقَرْطَقٌ كَالْبَدْرِ يَضْحَكُ لِي عَنْ ثَغْرِ ... مِثْلِ صِغارِ الدُّرِّ أَصْبَحَ فِيهِ سِرِّي ... مَخْتَلِطاً بالْجِهْرِ مُفْتَتِناً بِالْخَمْرِ ... أَظْلِمُ فِيها وَفْرِي وقال: وَلَعْتُ بِبَيْضاءَ شابَتْ أسْوَدَ الشَّعَرِ ... أَشَيْبَةٌ أَمْ خَيالٌ خالَهُ نَظَرِي فَقُلْتُ هذَا اعْتِداءُ الدَّهْر عَاجَلَنِيلِطُولِ مَطْلِكَ لِي فِي أَقْصَرِ الْعُمُرِ لا تَأَمَنِي فِي زَمانِ السُّوءِ غَدْرَتَهُ ... فَإِنَّهُ مُولَعٌ بالْغَدْرِ وَالْغِيَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 كَونِي ولاَ تَثقِي مِنْهُ عَلَى حَذَرِ ... وَمَنْ يَفُوتُ صُرُوفَ الدَّهْرِ بِالحَذَرِ فاسْتَعْبَرَتْ ثُمَّ قالْت جَدَّ هَزْلُكَ بِيإِذْ تَدَعِي غَلَبَ الأَحْزانِ وَالْفِكَرِ وَلَمْ يَزَلْ حُبُّها صَعْباً عَلَى أَرَبِي ... فِيهِ المَنِيَّةُ إيراداً بِلا صَدَرِ وكَيْفَ أَعْطِفُ بِالشَّكْوَى وَرِقَّتِهاقَلْباً أَشَدُّ لَدَى الشَّكْوَى مِنَ الْحَجَرِ وقال: أَيا مَنْ خانَ مَخْبَرُهُ ... وَعَزَّ الصَّبَّ مَنْظَرُهُ وَمَنْ أُخْفِي هَوَايَ لَهُ ... وَدَمْعُ الْعَيْنِ يُظْهُرهُ أَنِلْنِي مالِكِي وَصْلاً ... حَقِيراً لَسْتُ أَحْقِرُهُ وَلا يَمْنَعْكَ قِلَّتُهُ ... أقَلُّ الْوَصْلِ أَكْثَرُهُ وقال يرثي جارية مغنية، كان لها موقع من قلبه: قافية السين وقَالُوا اصْطَبِرْ فَالصَّبْرُ شَيْءٌ عَدِمْتُهُلِفَقْدِي صَفْوَ الْعَيْشِ مِنْ مُنْيَةِ النَّفْسِ عَدِمْتُ الكَرَى لَمَّا عَدِمْتُ بَدائِعاًجَعَلْنَ قِرَى نَفْسِي بِحَلْقِكِ وَالْجَسِّ أَرَقُّ مِنَ الشَّكْوَى وَأَحْلَى مِنَ المُنَىوَأَرْوَحُ مِنْ أَمْن وَأَلْطَفُ مِنْ حِسِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 لَعَمْرِي لَئِنْ أَصْبَحْتِ سَعْدِي وَفِيكِ لِيرَجاءٌ لَقَدْ أَمْسَيْت بِاليَأْسِ لِي نَحْسِي فَلَوْ كَانَ يَفْدِي الْمَيْتَ حَيٌّ فَدَيْتُهَابِنَفْسِي وَفَاءً غَيْرَ نَقْصٍ وَلاَ بَخْسٍ وقال: طَلَعَتْ شَمْسُ عُقارِ ... وَسُقاةٌ كَالشُّمُوسِ فَتَلَقَّوْها بِبِشْرٍ ... وَاغْتِباطٍ بِالأَنِيسِ وَلْيَدُرْ كَأْسُ بُدُورٍ ... فِيهِ أَهْواءُ النُّفُوسِ وَاصِلٌ بَعْدَ جَفَاءٍ ... ضاحِكٌ بَعْدَ عُبُوسِ قَرِّبُونِي مِنْ نَعِيمٍ ... مُبْعَدٍ عَنْ كُلِّ بُوسِ أَطْيَبُ الْعَيْشِ بُدُورٌ ... تَتَمَّشى بِشُمُوسِ أَنْجُمُ الْمَحْرُومِ هذَا ... طالِعاتٌ بِنُحُوسِ قافية الضاد وَلَيْلٍ كَأَنَّ الدُّجْنَ يَجْرِي بِبَدْرِهِ ... عَدَلْتُ بِهِ لَهْوِي بِمْعتَدِلٍ غَضِّ وَمَشْمُولَةٍ دَسَّتْ خَوادِمُها بِها ... فأَغْرَتْ بِتَوْبَاتِي وَسائلِ لِلنَّقْضِ ظباءٌ لَها في النَّفْس أَمْرٌ مُحَكَّمٌوَغَمٌّ جِريُّ الْجَوْرِ في الْبِسْط وَالْقَبْضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وقال يرثي أباه: قافية العين يا تُرْبُ ضَمَّنكَ المَماتُ مُسَوَّداً ... كادَتْ لهُ نَفْسِي تَزُولُ تَقَطُّعا قدْ كُنْتُ آمُلُ أَنْ يَقِيكَ الدَّهْر لِي ... صَرْفَ الحُتُوفِ وأَنْ تكُونَ مُفَجَّعا حَتَّى رأَيْتُ المُشْفِقِينَ تَقَطَّعَتْ ... لَما لهمْ ورَأَيْتُ يَوْمَكَ مُقْطِعا إِنْ كانَ غَيَّرَ مِنْ مَحاسِنِكَ البِلَى ... ورَمى فَلمْ يتْرُكْ لِسَهْمٍ مَنْزَعا فلَقَدْ فَقْدْتُ مَحاسِنَ الدُّنْيا بِهِ ... وَكَذا الزَّمانُ مُفَرِّقٌ ما جَمَّعا قافية القاف يا مَنْ أرِيحَ مِنَ الْفِراق ... وفِراقُهُ بِالْهَجْرِ باقِي أَهْوَى الْفِراقَ وَإنْ رَأَيْ ... تُ المَوْتَ فِي شَخْصِ الفِراقِ لِتَقارُبٍ عِنْد الْوَداعِ ... وَقُبْلَةٍ عِنْدَ العِناقِ وكتب إلى أخيه هارون: سَيِّدِي أَنْتَ ومَنْ لَمْ ... يَزَلِ الدَّهَرَ يُوَفَّقْ عِنْدَنا أَطْيَبُ مَنْ يَخْ ... تارُهُ السَّمْعُ وَأَحْذَقْ وَأَرَى جامِعَ شَمْلي ... كُلَّما غبْتَ مُفَرَّقْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وقَمِيصَ الدَّهْرِ مِنْ بَعْ ... دِكَ قَدْ أَوْدَى وَأَخْلَقْ إيتنا قَدْ كَسَدَتْ ... سُوقُ اللَّذاذاتِ لِتَنْفَقْ أَرْكِبِ الكاسَاتِ كَ ... فَّ الرِّيمِ بِالْخَمْرِ المُعَتَّقِ وقال يصف اللنيوفر سَقانِيَ صَفْواً مِنْ سُلافٍ كَرِيقِهِ ... وحَيَّا فَأَحْيا قَلْبَ لَهْفانَ وامِقِ بِنَيْلُوفَرٍ مِثْلِ الكُؤُوسِ شَمَمْتُهُ ... حَكْتِ رِيحُهُ رِيحَ الْحِبِيبِ المُوافِقِ حَكَى رَقْدَةَ المَعْشُوقِ قَبْلَ انْفتاحِهِوَبَعْدَ انْفِتاحِ الجَفْنِ تَسْهِيدَ عاشِقِ قافية الكاف مَنَحْتُكَ الْوُدَّ مِنِّي ... فَجازِ بِالُودِّ مِنْكا لَوْ كانَ قَلْبِي مُطِيعاً ... طَمِعْتُ في الصَّبْرِ عَنْكا لكِنَّهُ فِيكَ عاصٍ ... يَكُفُّ إِنْ لَمْ يُعِنْكا إِنْ خُنْتَ بِالْغَيْبِ عَهْدِي ... فأَنَّنِي لَمْ أَخُنْكا وقال: وَزِقٍ صَرِيعٍ قَطِيعِ الْيَدَيْنِ ... قَتَلْناهُ وَلَمْ نَبْكِهِ سَفَكْتُ دَماً مِنْهُ لَمْ يُؤْذِهِ ... وكانَ لِي الحَظُّ فِي سَفْكِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 مَعِي طَرَبٌ لا يُطِيعُ المَلامَ ... وَلَيْسَ يُقَصِّرُ عَنْ فَتْكِهِ قافية اللام وَمُحَجَّبٍ نَبَّهْتُهُ ... وَالشَّمْسُ تَقْرُبُ لِلأُفُولِ نَظَرَتْ إلَى أُفُقِ الشُّرُو ... قِ تَلَهُّفا نَظَرَ الْعَلِيلِ والضَّوْءُ يُنْحِلُ جِسْمَهُ ... وَسِقامُها سَبَبُ النُّحُولِ ما نَغَّصَتْهُ وَصْلَها ... حَتَّى تَرَدَّتْ بِالأَصِيلِ فأَفَاقَ مَعْقُولَ اللِّسا ... نِ وَما تمَتَّعَ بِالْمَقِيلِ يَرْنُو بِمُقْلَةِ جُؤْذَرٍ ... لَمْ يَخْلُ يَوْماً مِنْ قَتِيلِ لَحَظَ الضِّياءُ ظَلامَهُ ... مِنْ ناظِرَيْ فَجْرٍ ضَئِيلِ قُلْتُ اهْدِني سُبُلَ اللذَّا ... ذَةِ بِالرَّحيقِ السَّلْسَبِيل وقال يمدح أباه: يا مُلْزمِي بِالذَّنْبِ ما لَمْ أَفْعَل ... وموليّا عَنْ وَجْهِ وُدٍّ مُقْبل أَوَ ما نَهاكَ جَمالُ وَجْهِكَ أَنْ تَرَى ... مُتَعالِياً فِي الظُّلْمِ غَيْرَ المُجْملِ عَدَلَ الخَلِيفَةُ جَعْفَرٌ فِي مَلْكِهِ ... وعَلَيَّ فِي مُلْكِ الْهَوَى لَمْ يَعْدِلِ مَلِكٌ يُسابِقُ وَعْدَهُ إِنْجازُهُ ... وَيَجُودُ مُبْتَدِئاً بِما لَمْ يُسْأل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 سَمَّاهُ مُقْتَدِراً إلهٌ قادِرٌ ... وَعَلا بِهِ عِزٌّ الْعَلِي وَالمُعْتَلَي طالَ المُلوكَ بِعَفْوِهِ ونَوالِهِ ... وكَذا يَطُولُ لَهُمْ بِعُمْرٍ أَطْوَلِ وقال: طابَ عَيْشِي بِرَغْمِ أَنْفِ الْعَذُولِ ... وَتَمتَّعْتُ مِنْ وِصالِ وَصُولِ وَأَتانا الهَواءُ عَنْ غَيْرِ وَعْدٍ ... فَرَأَيْنا تِشْرِينَ فِي أَيْلُولِ فأَقْبَلَ الْكأْسَ يا خَلَيلَي مِنْ سا ... قٍ مَلِيحٍ دلالُهُ مَقْبُولِ زادَ طِيبَ الأَقْداحِ كَفَّاهُ طِيباً ... وَأَعارَ الشَّمُولَ طِيبَ الشَّمُولِ وقال: لِحاظُهُ تُطْمِعُ فِي نَيْلِهِ ... وَتِيهُهُ يُؤْيِسُ مِنْ وَصْلِهِ أَفْدِي الَّذِي أَسْرَفَ فِي جُودِهِ ... فَأَيَسَ الْعاشِقَ مِنْ عَذْلِهِ قُلْتُ لَهُ وَالْغَنْجُ كُحْلٌ لَهُ ... وَالشَّكْلُ مَنْسُوبٌ إلى شَكْلِهِ تُنْكِرُ ظُلْمَ النَّاسِ عُشَّاقَهُمْ ... وَأَنْتَ تَجْرِي بِي إلى مِثْلِهِ؟ وقال يمدح سر من رأى ويزعم أنه سيسكنها قافية الميم كُرِّي المَلامَ فَباغِي اللَّوْمِ مَخْصُومُوالدَّهْرُ مُذْ كانَ مَحْمُودٌ وَمَذْمُومٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فقال فيها: بِسُرَّ مَنْ رَى بِلادِ المُلْكِ طابَ لَنا ... مُعَرَّسٌ عَيشُهُ بِالَّلهْوِ مَنْظُومُ أَرْضٌ مَتى اخْتُلِسَتْ أَلْحاظُها نَظَراً ... اهْتاجَ ذُو طَرَبٍ وارتاح مَهْمُومُ وَالْحَيْرُ والْقَصْرُ والفاطُولُ جَنَّتُهاوالْجَعْفَرِيُّ بِكَفِّ الدَّهْرِ مَزْمُومُ مَنازلٌ آنَسَتْ دَهْراً فَأَوْحَشَها ... ظُلْمُ الزمَّانِ فَمَثْلُوم ومَهْدُومُ عَفَتْ وغَيَّرَها وَصْلُ الرِّياحِ لَها ... والوَصْلُ مِنْهَا بِحَبْلِ الهَجْرِ مَحْتُومُ أَنَّى أَرَى رَجْعَةً لِلدَّهْرِ يَلْحَظُهاغَنِمْتُها إِنْ وَفَتْ والْعَيْشُ مَغْنُومُ وَسَوْفَ يَنْزِعُ بِي ذِكْرٌ يُشَوِّقُنِي ... إِلَى ذُراكِ فَيَبْدُو مِنْهُ مَكْتُومُ وَإنْ أَحُلُّكِ لا آسى عَلَى بَلَدٍ ... وَحَبْلُهُ مِنْ حِبالِي فِيكِ مَصْرُومُ أَرَجْعَةَ الدَّهْرِ هَلْ وَعْدٌ فَامُلُهُ ... أَمْ عَطْفُ عَدْلِكِ مَفْقُودٌ وَمُعْدُومُ وَما شَجانِي كَذِكْرَى خِلْتُها حُلُماً ... كَأَنَّ قَلْبِي لَها بِالذَّكْرِ مَكْلُومُ أَيْنَ الزَّمانُ الَّذِي أَسْهَرْتُ عاذِلَتِي ... فِيهِ وغُودِرَ خَصْمِي وَهُوَ مَخْصُومُ بَيْنَ الصَّراةِ وكَرْخايا تَمَرُّدُهُ ... وَالْعَيْشُ مِنْ نَكباتِ الدَّهْرِ مَعْصُومُ والغَضْبُ دِينٌ وَشُرْبُ الرّاحِ مُفْتَرضٌوَالْهَتْكُ مُسْتَعْمَلٌ والصَّوْنُ مَثْلُومُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وقال يفخر: مَنْ ذا يُقِيمُ دَعائِمَ الإِسْلامِ ... وَيَعُمّ بِالإفْضالِ والإِنْعامِ فِينا النُّبُوَّةِ والخِلافَةُ حُكْمُنا ... ماضٍ كما شِئْنا عَلَى الأيَّامِ لاَ يَنْقُضُ الأَعْدَاءُ مُبْرَمَ أَمْرِنا ... وَبِنا تَمامُ النَّقْضِ وَالإِبْرامِ أَمْضِي منَ الأَجَلِ المُعَجَّلِ أَمْرُنا ... يَأْتِيكَ قَبْلَ الفِكْرِ والأَوْهَامِ قافية النون حَبيبٌ لَيْسَ يَنْصِفُنِي ... وَمَوْلىً لَيْسَ يَرْحَمُنِي أَمُرُّ بِهِ فَيُبْعِدُنِي ... وَأُنْصِفُهُ فَيَظْلِمُنِي وَلِي أَمَلٌ يَلُوذُ بِهِ ... يُعَنِّينِي وَيُطْمِعُنِي يَضِنُّ بِوَعْدِهِ فإِذا ... أجابَ إلَيْهِ أَخْلَفَنِي أَما تَرْثِي لِمُكْتَئِبٍ ... أسِيرٍ فِي يَدِ الْحَزَنِ قافية الهاء وَابأَبِي مَنْ لَسْتُ أَنْساهُ ... وَمَنْ عَلَى الهِجْرانِ أَهْواهُ إِنْ واصَلَ النِّسْيانَ لِي فِي الْهَوى ... فَإِنَّيِ وَاصَلْت ذِكْراهُ قال الصولي: وشعر الراضي كثير، وقد جئت بالمختار منه وفي بعضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أغان أجودها وأحسنها ما عمله عبد الواحد بن طرخان. وفاة الراضي وتوفي الراضي ليلة السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وغسله أبو الحسن بن عبد الواحد الهاشمي وقد ولي القضاء. فحدثني أنه ما رأى ميتاً أحسن منه ولا أطيب عرضا ولا أنظف جسداً منه، وأنه كان يصب الماء عليه خادم أسود وأن القاضي أبا نصر كان واقفاً يعينه على قلبه إذا أراد أن يقلبه لا يعينه من أمره على غير ذلك، وأنه لم يؤت بحنوط من الدار لأن الخزائن كلها أقفل عليها، وكل بها فوجه القاضي إلى الكرخ إلى المعروف بابن أبي ذكرى العطار، حتى حمل من دكانه حنوط وجميع ما يحتاج إليه، وصلى عليه القاضي أبو نصر وحمل في طيار في دجلة إلى بين القصرين. وأخرج ثم حمل مع الخدم إلى الرصافة. فحدثني من رأى مع الجنازة عشر شمعات بأيدي عشرة من الخدم، ودفن في ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول. فكان جلوسه في الخلافة من يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة إلى يوم وفاته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام. وكان مولده في شهر رمضان سنة سبع وتسعين ومائتين، فكان عمره إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر. وتوفي والوزير له سليمان بن الحسن، وحاجبه أبو الفهم ذكي غلامه. وقاضيه أبو نصر يوسف بن عمر بن محمد، وصاحب شرطته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الترجمان محمد بن ينال، والأمير على الجيش، والغالب على الأمور بجكم التركي، وكان قبل وفاته مقيماً بواسط، وكانت به علل كثيرة، وكان يقول أنا مذ حبسني القاهر عليل إلى وقتي هذا وتزايدت علته قبل وفاته بسنة وفسد مزاجه، وكان ذلك أصعب علله. وكان يلقي من فمه دماً كثيراً، حتى ألقَى من فمه في يومين وليلتين - على ما قال سنان - أربعة عشر رطلاً، وكان أكثر ذلك بحضرتنا. ولقد أعطاه سنان دواء يأَخذهُ بملعقة فبقيت الملعقة في يده ساعة، كلما أومأ بها إلى فيه غلبه الدم، حتى أمسك قليلاً فرمى بما على الملعقة على فيه، ثم عاوده الدم. وكان هذا في جوفه غلظ تزايد في آخر أيامه. وكان كثير الخلاف على من يطبه، لا يقبل مشورته، ويضمن أن يحتمي ولا يفي بضمانه وكان الجماع والشراب أعظم آفاته مع عشاء يديمه كل يوم إلى غير حاجة إليه، وهذا ما ذكرت من أخباره أنه لم يكن فيه عيب إلا مسامحته نفسه فيما يشتهيه، وما كان أكله بالكثير ولا شربه، ولكن شهوته زادت على طاقة جسمه وقوته. ومن شعره عند زيادة علته. أَيا نفْسُ كُونِي بَعْدَ عِلْمِكِ وَالْفَحْصِعَلَى حَذَرٍ وَارْضَيْ مِنَ الْكُلِ بِالشِّقْصِ ثِقِي وَاعْلمِي أَنَّ المَماتَ مُعَجَّلٌ ... إلَى كُلِّ ذِي زَهْدٍ عَزُوفٍ وَذِي حِرْصِ وَلا تَطْلُبي حالَ التَّمامِ فَإِنَّهُ ... إذا تَمَّ المَرْءِ آذَنَ بالنَّقْصِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ومن شعره: كُلُّ صَفْوٍ إلى كَدَرْ ... كُلُّ أَمْرٍ إلى حَذَرْ ومَصِيرُ الشَّبابِ لِلْ ... مَوْتِ فِيهِ أَوْ كِبَرْ دَرَّ دَرُّ المَشِيبِ مِنْ ... وَاعِظٍ يُنْذِرُ الْبَشَرْ أَيُّها الآمِلُ الَّذِي ... تاهَ فِي لُجَّةِ الغَرَرْ أَيْنَ مَنْ كانَ قَبْلَنا ... ذَهَبَ الشَّخْصُ وَالأَثَرْ سَيُرَدُّ المُعارُ مِنْ ... عُمْرٍ كُلِّهُ خَطَرْ رَبِّ إنِّي ذَخَرْتُ عِنْ ... دَكَ أَرْجُوكَ مُدَّخَرْ إِنَّنِي مُؤْمِنٌ بما ... بَيَّنَ الْوَحْيُ وَالسُّوَرْ واعْتِرافِي بِتَرْكِ نَفْ ... عِي وَإِثارِي الضَّرَرْ رَبِّ فاغْفِرْ لِيَ الخَطِيَّ ... ةَ يا خَيْرَ مَنْ غَفَرْ تمت أخبار الراضي بالله، يتلوه أخبار المتقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بسم الله الرحمن الرحيم أخبار المتقي لله قال أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله الصولي قد فرغنا من عمل أخبار الراضي بالله وذكر وفاته، وكانت ليلة السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول، سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ودفن في التربة ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت منه. في هذه الليلة دخل أحمد بن علي الكوفي من واسط إلى بغداد. وهو كاتب الأمير أبي الحسين بجكم ومدبر أمر الدولة. وكان محمد بن ينال الترجمان قد عاد من الأنبار، فولي أبو القاسم سلامة أمر الدار ورسم بحجبة من يستخلف وتقدم إليه بحفظ الدار، فولي ذلك أبو الحسين القشوري فضبط أحسن ضبط، ختم على دواوين المستخلصة وعلى جميع الخزائن، ووكل بذكي حاجب الراضي وبراغب خادمه أحسن توكيل أراهما أنه يريدهما لمعاونته، وكان معهما في مكان واحد إلى أن تسلم من الأمر. وذكر للخلافة جماعة فزعموا أن بعضهم أبى والتدبير إلى غيره وكان أبو الحسين أحمد بن محمد بن ميمون بن هارون الأنباري يكتب للأمير أبي إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله، وأمه أم ولد. فسعى له في الأمر، وتضمن عنه كلما يراد منه ووصفه بتوق وصلاح، وأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 لا يشرب النبيذ، وشاع له هذا في الناس، وكتب به إلى بجكم فكتب أن يعقد الأمر له، بعد أن يجمع مشايخ بني هاشم من ولد علي والعباس صلوات الله عليهما، ومشايخ الكتبا ووجوه العدول والتجار، ليقع إجماعهم عليه. ولا يكون هو المنفرد بهذا الرأي، ولا المختار دونهم. فوقف الأمر بهذا السبب أياماً إلى يوم الأربعاء لعشر ليالٍ بقين من شهر ربيع الأول فقال لي البرجمالي في عشية الثلاثاء اختر للخليفة اسما فكتبت له رقعة فيها ثلاثون اسماً وكتبت مثلها ودفعت واحدة إليه وأنفذت الأخرى إلى أحمد بن محمد بن ميمون، وضمنا لي إخراج حق التسمية، وما وفيا لي من ذلك بقليل ولا كثير، ولا عوضاني ولا شفعا لي ولا أذكراني. واجتمع الناس في يوم الأربعاء لعشر ليال بقين منه في دار الأمير بجكم، وحضر أبو الحسن علي بن عيسى تاج الدولة وجمالها، وشيخ الإسلام، وحضر الكرخي محمد بن القاسم، وأبو بكر عثمان بن سعيد الصيرفي صاحب ديوان الجيش، وتخلى أحمد بن علي الكوفي في حجرة في الدار مملوءة بوجوه الناس، فوجه إلى جماعة من الأشراف فوصلوا إليه مع علي بن عيسى فخوطبوا، فكان أول من تكلم وتبع الناس قوله أبو الحسن علي بن عيسى، فأنه قال: الله مطلع على النيات، عالم بالخفيات وليس لنا إلا الظاهر، ليس فيمن أسمى أحد يبلغنا عنه ما يبلغنا عن أبي إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله، فإن كنتم عازمين علي فاستخيروا الله جل وعز، وأمضوا أمره. فقال له أحمد بن علي الكوفي: إن الأمير أعزه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الله أمر أن يسمع منك، وأن يقبل رأيك، ونحن نعمل على هذا. فقال جميع من حضر مثل قوله. فمضى ابن ميمون والترجمان ليحدراه من داره التي بحضرة دار البطيخ فدخلا إليه وهنآه وأخرجاه فسار في الماء إلى الحسنى دار الخلافة. والناس حوله يدعون له إلى صعد. وقد نظر في رقعة الأسامي فاختار منها المتقي لله، وصعد إلى رواق الخورنق فصلى ركعتين على الأرض، ثم جلس على السرير، وبايعه الناس باقي ينومه وأياماً بعد ذلك، وكل من بايعه أحلف على طاعته ونصيحته، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه. ودخلت من الغد أنا وجماعة من المرسومين بالمجالسة فبايعناه، وحجبه أبو القاسم سلامة أخو نجاح الطولوني، فوقف موضع الوزير عند ابن ميمون، فاستأذنته في الإنشاء فأذن فأنشدته: شَهِيداهُ إنْ لَمْ تَظْلِمِيهِ نُحُولُ ... وَدَمْعٌ لَهُ فِي وَجْنَتَيْهِ هُمُولُ وهي قصيدة كنت مدحت بها المكتفي بالله، فلما دخلت قال لي ابن ميمون أما عملت شعراً؟ وما كنت عملت - فقلت أعمل الساعة فقلبت مواضع القصيدة وكتبتها: أَيُرْضِيكِ أَنْ تَضْني فَدامَ لَك الرِّضا ... سَيَقْصُرُ عَنْهُ حاسِدٌ وَعَذُلُ تَقُولُ وَقَدْ أَفنَى هَواها تَصَبُّرِي ... فَوَجْدِي عَلَى طُولِ الزَّمَانِ يَطُولُ تَجاوَزْتَ في شَكْوَى الْهَوى كُنْهَ قَدْرِهِ ... وَما هُوَ إلاَّ زَفْرَةٌ وَغَلِيلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ومَا أَرِقَتْ عَيْنٌ لَها فِيهِ لَيْلَةً ... فَخَفَّ عَلَيْها الحُبُّ وَهُوَ ثَقِيلُ وَجَدْتِ إلَى قَتْلِي سَبِيلاً وَلَيْسَ لِيإلى الصَّبْرِ وَالسُّلْوانِ عَنْكِ سَبِيلُ فَدُونَكِ نَفْسِي فَاجْعَلِي تُحْفَةَ الرَّدَى ... حُشاشَتَها إذْ حانَ مِنْكِ رَحِيلُ وَيَكْبُرُ مَنْ يُلْقِي إلَيْكِ بِوُدِّهِ ... وإنَّ هَوانِي فيكُمُ لقَلِيلُ وما ازدادَ إلاَّ صحَّةً بَعْدِكِ الهَوى ... وَلكنَّ قَلْبِي ما نَأَيْتِ عَلِيلُ لَعَمْرُكِ لا أَتْبِعْتُ ما فاتَ بِالأَسَى ... وَرَأْيُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ جَمِيلُ هُوَ الدّينُ وَالدُّنْيا فَلَيْس لِطالِبٍ ... وَلا راغِبٍ عَمّا لَدَيْهِ مُمِيلُ سَميَّ خَلِيلِ اللهِ لا زِلْتَ مُقْبِلاً ... عَلَيْكَ بِنُعْمى ذِي الجَلاَلِ قَبُولُ وَقاكَ الَّذِ سَمّاكَ مُتَّقِياً لَهُ ... فَأَنْتَ مِنَ الدَّهْرِ الغَشُومِ تُدِيلُ مُطِيعُكَ أَنِّي حَلَّ فَالْعِزُّ جارُهُ ... وَعاصِيكَ لْ نالَ النُّجُومَ ذَلِيلُ فَأَضْحَتْ عُيُونُ الْعَدْلِ تَسْمُوا بِلحْظِهاوأَصْبَحَ طَرْفُ الْجَوْرِ وَهُوَ كَلِيلُ أَضَاءَتْ بِكَ الدُّنْيا فَأَشْرَقَ نُورُها ... وَأَنْتَ الَّذِي يُذْكِي سَناهُ أُفُولُ فَكُلُّ عَلاءٍ إِنْ سَمَوْتَ مُقَصِّرٌ ... وَكُلُّ فَخارٍ إنْ فَخَرْتَ ضَئِيلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وكُلُّ سَناءٍ مِنْ طَرِيفٍ وتَالِدٍ ... إلَيْكَ مُشِيرٌ بَلْ عَلَيْكَ دَلِيلُ ولَوْلا بَنُو العَبَّاسِ عَمّ مُحَمَّدٍ ... لأصْبحَ نُورُ الْحَقِّ فِيهِ خُمُولُ لَكُمْ جَبَلا اللهِ اللَّذانِ اصْطَفاهُما ... يَقُومانِ بالإِسْلامِ حِينَ يَمِيلُ نُبُوَّته ثُمَ الخِلافَةُ بَعْدَها ... وما لَهُما حَتَّى اللِّقاءِ حَوِيلُ أَتَتْكَ اخْتِيَاراً لاَ احْتِلاباً خِلافَةٌ ... لَكَ اللهُ فِيها حافِظٌ وَوَكِيلُ حَباكَ بِها مَنْ صانَها لَكَ إنَّهُ ... بِإتمامِ نُعْماهُ عَلَيْكَ كَفِيلُ وَلَوْ حِدْتَ عَنْها قادَها بِزِمَامِها ... إلَيْكَ اصْطِفاهُ اللهِ وَهِيَ نَزِيلُ ثَوَتْ حَيْثُ أَثْواها المَلِيكُ بِحُكمِهِ ... وَلَيْسَ لِمَا أَثْوى المَلِيكُ حَوِيلُ وَلا زال مَوْصُولاً إلَيْكَ حَنِينُها ... كَما حَنَّ فِي إثْرِ الخَلِيلِ خَلِيلُ لِيَهْنيكَ يا خَيْرَ الْبَرِيَّة ناصِحٌ ... لَهُ خَطَرٌ فِي الْعالَمِينَ جَلِيلُ لَقَدْ شَدَّ أَزْرَ الدِّينِ مَوْلاكَ بَجْكَمٌ ... بِهِ يَتَسامى مُلْكُكُمْ وَيَطُولُ هُوَ الحَتْفُ مَصْبُوباً علَى كُلِّ ناكِثْ ... يظَلُّ بِهِ أَيْدِي الشَّقاءِ نُحُلُ فَما لَكُمْ فِي المُنْعِمِينَ مُعانِدٌ ... وَلَيْسَ لَهُ فِي النَّاصِحِينَ عَدِيلُ فَلا زِلْتَ مَحْرُوساً لَكَ المُلْكُ دائماً ... بَقاؤُكَ ما واصى الغُدُوَّ أَصِيلُ لِعَبْدِكَ إذْ سَمّاكَ رَسْمٌ مُشَهَّرٌ ... بِهِ يَتَسامى فِي الْوَرَى وَيَصُولُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ومِثْلُكَ أَعْطى رَسْمَهُ مُتَنَوِّلاً ... فَما زِلْتَ تُعْطِي مُنْعِماً وَتُنِيلُ فجعلت إذكاري له تسميتي آخر القصيدة ليفهمه، فوالله ما وصل إلي منه عاجل ولا آجل شيئاً، حتى انقضت أيام ولايته. وليس هذا الشعر كجودة أشعاري في الراضي بالله، لأن ذلك كان أعلم الناس بالشعر فكنت أتنخل له الألفاظ، وأختار علوي الكلام وولي الخلافة المتقي لله وجعل صاحبه سلامة، وكان سليمان بن الحسن المرسوم بالوزارة. وأمره المتقي لله أن يركب إليه فركب مرات، ثم إنه ارتعد يوماً وهو واقف بين يديه ونالته خطرة من رطوبة فخرج يهادي بين اثنين ولزم منزله. وعقد المتقي لله لبجكم لواء وجعله أمير الأمراء ونفذ به سعيد بن خفيف الحاجب إلى واسط، وخرج أمر بجكم أن يلي أبو عبد الله محمد بن أبي موسى قضاء الشرقية والجانب الشرقي من مدينة السلام، وكانا إلى أبي نصر يوسف بن عمر وإلى أخيه. ثم وجه السلطان إلى أبي نصر وقد أقررت على عملك، فحكم في آخر شهر ربيع الآخر وعرف منه سداد ورشد، ووقع في القضاء تخليط بسبب أبي عبد الله ابن أبي موسى الهاشمي وشهادة العدول له ثم عليه شهادتين متضادتين، فسفر في إبطال أمر أبي نصر فعزل، وولي أبو عبد الله محمد بن عيسى الضرير قضاء الجانب الشرقي والشرقية، وولي أبو طاهر بن نصر قضاء المدينة وخلع عليهما يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الآخرة وجلسا وقرآ عهدهما وحكما. وصرف ابن بريه عن الصلاة بالجامع الغربي، وولي ذلك حمزة لتسع بقين من شهر ربيع الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وقرئ كتاب عن الخليفة يأمر الناس بالاستسقاء، فخرج الناس يوم الاثنين لست بقين من شهر ربيع الآخر أهل الجانب الشرقي إلى المصلى، وأهل الجانب الغربي إلى ميدان الأشنان ومعهم حمزة الإمام. وحكي أن المتقي لله ما زال يصلي في داره على الأرض، ويلصق خده بالتراب ويدعو. وخرج الأمر بأن يصلي أحمد بن الفضل بمسجد براثا، وجعل فيه منبر مكتوب عليه مما أمر به الرشيد سنة اثنتين وتسعين ومائة، على يد الفضل بن الربيع وجعلت الصلاة بالجانب الرقي إلى احمد بن الفضل أيضا، وكان يصلي هو بالناس فيه ويصلي ابنه بمسجد براثا، ثم صرف أحمد بن الفضل بن عبد الملك عن مسجد الرصافة بأبي الحسن بن عبد العزيز. وكان من أول الحوادث أنه قطع على القافلة الخارجة من مدينة السلام إلى خراسان في جمادى الأولى، قطع عليها أكراد الشادنجان، وكان لؤلؤ يحميها ومعه جماعة من الأتراك فكثر عليه الأكراد ودام المطر فلم تعمل قسي الأتراك شيئاً وإنما هي عدتهم فتمكن الأكراد منهم بالسيوف والرماح فملكوها كلها، وكان فيها من العين والورق ما مبلغه ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن الأمتعة ما قيمتها نحون ذلك، وكان أكثر المال لأصحاب بجكم أنفذوه إلى بلدانهم بخراسان. ولقد حدثني بعض من يخبر الأمر، وهو المعروف بعدل حاجب بجكم أنه كان له وحده ثلاثون ألف دينار، ولسائر قواده أموال جليلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وحدثني من أثق به من التجار أن تاجراً من قطيعة الربيع حمل أمتعة في هذه القافلة لزمه لكرى أحماله نحو ألفي دينار، فما ظنك بمتاع هذا مبلغ كرائه! وكم تظن أن قيمته تبلغ؟ وإنما كثر المال فيها والمتاع لن قوماً من مياسير التجار خرجوا بجميع أملاكهم هرباً من جور تكينك التركي صاحب أمر بجكم كله، فإنه أفرط في ذلك وأسرف وبجكم لا يعلم بما يفعله بالناس، فلما صح ذلك عنده وجه بأبي حامد الطالقاني من واسط حتى قبض عليه، فلما وصل إليه حبسه وأخذ منه مالاً وكان بجكم يزعم أنه قد فقد مما كان عنده أموالاً جليلة. ولما رأيت أنا أن المتقي لله لا يريد جليساً، وما سمع بخليفة قد قال: لا أريد جليساً، أنا أجالس المصحف أفتراه ظن أن مجالسة المصحف خص به دون آبائه وأعمامه الخلفاء. وكان وحده دونهم، أو أن هذا الرأي غمض عليهم وفطن هو وحده له؟ فاستأذنت في الخروج فأذن لي. ولقد كنا وقوفاً بين يدي المتقي فقال لنا بعض الخدم: ليس هذا مثل الراضي هذا لا يريد الجلساء، فقلت لهم لئن كان هذا الأمر كما زعمتم فإنه رديء لنا ورديء لكم، وأعظم الأمر أنه رديء على الخليفة وعائد بخلاف ما يهواه ويقدره، فما زال بعض الخدم يقصدني ويقول لي كان الأمر كما قلت لنا. ولما وصلت إلى واسط دخلت إلى بجكم فأكرمني وقربني وأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أن يؤخذ لي منزل بقربه، وأدخلني في جملة ندمائه وذوي أنسه، ووصلني سراً وعلانية، وكان ربما وجه إلي بالعشيات إذا خلا، فأدخلني أنا وقاضي واسط المعروف بالعسكري، فربما شاورنا في الشيء. وأنا أجمل وصفه ووصف حسن أخلاقه وجميل عشرته وعلو همته ومحبته، لأن تبقى آثاره بعده، كما بقيت آثار أجلاء الملوك. فجملة أمره أن كان عقله أكثر شيء فيه، فسأله جماعة من أهل واسط أن يأمرني بالجلوس لهم في المسجد الجامع يوم الجمعة، فتقدم إلي بذلك، فقلت له قد جعلت لهم مجلسين في مسجد على بابي في كل أسبوع، وأنا ما جلست ببغداد وهي بلدي ومولدي بعد في المسجد الجامع! فقال لي إني أحب أهل واسط وقد أحبوني وأنا حريص على عمر أن بلدهم وتبليغهم جميع ما يحبونه، فاجلس لهم في الجامع ففعلت. وكان ربما شغلوني عن خدمته والأوقات التي يريدني فيها لمواكلته ومجالسته، وكنا نخدمه في كل يوم بلا نوبة، فجعل لنا من أجل مجلس الجمعة يومين في الأسبوع والثلاثاء والجمعة نجلس فيهما في بيوتنا فكنت مباركاً في ذلك على الجماعة المجالسين له. ولقد قال يوماً وكان يفهم العربية كلها إذا خوطب، ويحسن الجواب، ولكنه كان يقول أخاف أن أتكلم بالعربية لأخطئ في لفظي، والخطأ من الرئيس قبيح، فلذلك أدع الكلام. فقال لي يوماً أتدري ما كتب به إلي بعض أصحاب الأخبار - وما رأيتهم قط مع أحد أكثر منهم معه - ففزعت والله وقلت وما هو أيد الله الأمير؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 قال: طلبتك فلما قمت من المسجد قالوا بعدك أعجله الأمير ولم يتم مجلسنا، أفتراه يقرأ عليه شعراً أو نحاً ويسمع من الحديث! وقد ذهب عليهم أمري أنا إنسان وإن كنت لا أحسن العلوم والآداب أحب أن لا يكون في الأرض أديب ولا عالم ولا رأس في صناعة إلى كان في جنبتي وتحت اصطناعي، وبين يدي لا يفارقني، كلاماً يشبه هذا أو هذا معناه. فما زلنا في أرغد عيش وأحسن حال حتى قدم واسط بعض الجلساء طالباً خدمته، فكرهت ذلك من جهات. فوصل إليه وأهدى إليه أشياء يتقرب بها، وكانت كراهتي له أن يجتمع الجلساء فيقال له في ذلك، ووافق قدومه قدوم أحمد بن علي الكوفي واسط بعده بمال اجتمع له، فقال له ما أحب أن يكون جلساء الخلافة عندك، الصواب أن يكونوا على بابه. فدعاني عشية، وقال لي قد أجريت عليك ألفي درهم في أيامكم وهي خمسة وأربعون يوماً، وكذلك عل إسحاق بن المعتمد وابن حمدون علي بن هارون - وهو الذي كان قدم عليه - وقد حضر خروجي إلى المذار وقد أمرت لكم بمائة دينار. وهذه رقة لك بألفي درهم صلة إذا وصلت إلى بيتك إلى بغداد فأوصلها إلى أبي عبد الله وخذها من وقتك، فإنه لا يعطيكم الرزق إلا بعد مضي أيامكم، ولا تقم أكثر من شهر، أو حتى تقبض رزقك حتى تعود إلي، وجئني بخطبة أمير المؤمنين معك، وكان القاضي العسكري قرأها عليه منتخبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 غير تامة، ثم قال وأنا بعد هذا أحسن إلى جماعتكم حتى لا تفقدوا بقاء الراضي فقلت له فما بال العروضي والبربريين وهم في جملتنا؟ فقال لي إذا قدمت بغداد فأجرى عليهم، وكان معه كتاب قد أمر بكتبه إلى الكوفي بمبلغ أرزاقنا فقلت له قد كرهت أن يكون الجلساء سبعة فاحمل أرزاق أربعة واترك ثلاثة، فدفع الكتاب إلى القاسم بن أبي القاسم الخواري وكان يكتب بين يديه، وقال له ادفع الكتاب إلى ابن المنجم، فدفعه إليه فكان معه وخرج يوم الأربعاء وقال لي متى تخرج؟ قالت: يوم السبت فمضى إلى باذبين فبات بها ليلة الخميس. ودفع أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي كتابه في ليلة الجمعة بأنه مقيم. وأن الخبر ورد عليه بهزيمة بني البريدي من المذار وأخذ أسرى من أصحابه، وقال له اعط الكتاب للصولي حتى يقرأه على الناس يوم الجمعة في مجلسه فدفعه فإلي ففعلت ما أمر، وأقمت مستملياً لي على شيء عال حتى قرأه، فكثر ضجيج الناس بالدعاء له، وظنوا أنه سيرجع ونووا صدقات كثيرة، ثم ورد الخبر بالترحل عن باذبين يوم الجمعة. وخرجت أنا من واسط يوم السبت، وقدمت بغداد يوم الجمعة وبكرت يوم السبت لأوصل الرقعة التي معي إلى أحمد بن علي الكوفي فوجدته مضطرباً لطير سقط في يوم الجمعة يخبر بأن الأمير قتله بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الأكراد غرة، فبطل أمرنا في الرزق وغيره، وقوي الخبر. وكان أحمد ابن علي قد ابتدأ في مطالبة الناس بالخراج في النيروز الأول، فخرج أمر بجكم بتأخير الافتتاح إلى النوروز المعتضدي. وكنا بين يدي بجكم حتى ورد الخبر عليه بالقطع على القافلة بطريق خراسان، فامتنع من الطعام غماً بذلك واضطرب له، وقال: لو ساغ لي أن أسير أنا في طلبه لسرت، وأمر الترجمان بأن يخرج في طلبهم وقوي أمره فخرج، فما صنع شيئاً. ورجع في النصف من رجب بأديم كان وجد مطروحاً وحمير، فقال بجكم لما بلغه: هو رجل جيد لغير الحرب. وانحدر الترجمان من بغداد إلى واسط لعشر بقين من رجب فوافاها وقد شخص إلى المذار. وورد الخبر بإيقاع صاحب خراسان بأخي مرداويج وهزيمته إياه. وقد كان ورد على بجكم قتل ما كان فاحتجب ثلاثة أيام عنا غماً بما ظهر فقلنا له في ذلك فقال: هو مولاي، كنت أقدر أن يرى ما صرت إليه، ثم أجلسه في مكاني وأكون معه وما رأيت فارساً مثله قط. ولما صح قتل بجكم حمل أحمد بن علي الكوفي مالاً كان قد اجتمع عنده إلى المنقى لله، ووجد المنقى في دار بجكم أموالاً كثيرة مدفونة في مواضع منها، حول البستان في خوابي ودنان كثيرة، فاستخرجها وحملها إليه. ووجد القاهر - وكان فيما زعم يعذب في أيام الراضي - فصرفه إلى منزله، وصرف أبا جعفر محمد بن يحيى بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 شيرزاد إلى منزله، بعد أن أدى مائتي ألف دينار، ولم يبق له شيء إلا باعه وتمحل واقترض. وظهر سعيد بن عمرو بن سنكلا، وكان كاتب الراضي فصادره أحمد بن علي على خمسين ألف دينار وأحسن معاملته وكافأه، لأن ابن سنكلا كان أحسن إليه حين صودر، إلا أنا كنا نسمع بجكم يعجب من هذه المصادرة ويغتاظ إذا ذكرها، ويقول أقوالاً لا أحب إعادتها. وظهر علي بن يعقوب، وكان يكتب لذكي الحاجب فصودر على سبعين ألف دينار. وكتب المتقي لله بإحدار تركة بجكم والمصير بها إليه وبالأتراك، وأن تخلى عن الديلم فلا يأتي منهم بأحد، ففعل ذلك. فانحاز الديلم إلى عدل الحاجب كان لبجكم وصاروا معه، واحتال تكينك حتى قبض على بعض الخزائن وعلى الترجمان وأقبل نحو بغداد، وورد من قبل الحسن بن عبد الله مال إلى بجكم، فحمله الكوفي إلى المتقي لله، وأطلق المتقي لله للفرسان الذين بالحضرة رزقة واحدة، وللرجال رزقتين. وهاج الحنبلية عند موت بجكم فقالوا طهرت ألسنة، وحاولوا هدم مسجد براثا، والإيقاع بالضرابين وأهل درب عيون. فأخرج توقيع من المتقي لله بأخذ قوم من الحنبلية فأخذوا وضربوا ونودي عليهم وأمر ابن جعفر الخياط بحفظ مسجد براثا، وأن يضرب عنق من تعرض لهدمه وكان الترجمان وجد تكينك مقيداً في دار بجكم بواسط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فخلاه. فاحتال عليه تكينك حتى أخذ فكتب السلطان إلى تكينك في أمره فولى إمارة بغداد، ونادى ببراءة الذمة ممن تعرض لأحد من الجند الواردين من واسط، فدخل الجند بغداد في أول شعبان، ودخل تكينك ومعه مال في صناديق محمول على خمسة وعشرين جملاً. فسلمه إلى السلطان ونزل دار علي بن هارون اليهودي الجهبذ على قرن الصراة، بلصق دار المادراني وإبراهيم بن أيوب النصراني، وخلع على جماعة من قواد الأتراك وأخر تكينك إلى يوم بعد ذلك، وطالب الأتراك ببيعة فقيل لهم ليس إلى رزقة، فقالوا لا نرضى إلا ببيعة ورزقة. وخاصم توزون أبا الأسوار قائد الديلم فلما رأى الديلم ذلك اجتمعوا وكثر عددهم، وأمروا عليهم أبا شجاع جورغيز بن القاراهي وورد الخبر بدخول أبي الحسين علي بن محمد البريدي واسط وخلع على أبي الحسين أحمد بن محمد بن ميمون للوزارة لعشر خلون من شعبان وجلس أحمد بن علي الكوفي بين يديه، وكان يكتب على رقاعه إليه عنده أحمد بن علي. ووجه السلطان بمي يقبض على تكينك في داره، وكان الخبر قد وقع إليه فخرج على الظهر وركب إلى واسط أبي ابن البريدي، وأفلت معه مال كثير. ووجه بأبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد إلى البريديين برسالة وقد وصلوا إلى واسط، ووصل تكينك إلى البريديين بواسط، فأكرموه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وقودوه، ولحق الجند بهم واستفحل أمرهم. وخلع على أبي النصر يوسف بن عمر لقضاء يوم الاثنين لست بقين من شعبان واشترط أن لا يقبل أصحاب السيوف، ولا يقبل في حكم شفاعة، ولا يركب إلى دار الخليفة ودار وزيره فقط. وخرج سلامة الحاجب وقواد الأتراك معه إلى الزعفرانية، لقصد البريديين ومحاربتهم، وذلك يوم الثلاثاء لثمان ليال بقين من شعبان ومعه الترجمان فأحس سلامة منهم بغدر ومكيدة فاستتر، ومضى وجوه الأتراك إلى البريديين بواسط، وبعضهم إلى الحسن بن عبد الله. وخلع على أحمد بن إسحاق الخرقي، وولي قضاء مصر والشامات والحرمين، ومر في الشارع والجيش معه، لاختصاص كان له بالمتقي لله قبل الخلافة. ووافى البريديان أبو عبد الله وأبو الحسين، ومعهما أبو جعفر محمد ابن يحيى بن شيرزاد وكاتب الخليفة عنهما بسمعهما وطاعتهما، وأنهما جاءا ليصلح إليه أموره كلها بخدمتهما له، ثم نزلوا الشفيعي يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان، ومعهما جيش عظيم في الظهر والماء ولقيهما الناس مسلمين وظهر الناس جميعاً فلم يستتر إلا محمد بن القاسم الكرخي وسلامة الحاجب وابنه وأحمد بن علي الكوفي، وأشار البريديان على المتقي لله أن يستحجب غلامه المعروف بابن خزري ففعل ذلك. وطلب أبو عبد الله البريدي من الخليفة مالاً لرجاله فوجه إليه بمائة ألف وخمسين ألف دينار، وسفر بينهما في ذلك ابن ميمون الوزير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وأحمد بن عبد الله بن إسحاق القاضي، وأبو العباس أحمد بن عبد الله الأصبهاني، وكان هذا حين نزل أبو عبد الله النجمي ونزل أبو الحسين دار مؤنس المظفر، وما زال يستزيد من الخليفة مالاً لرجاله حتى وجه إليه بتتمة أربعمائة ألف دينار. وصرف البريدي عمال الكوفي، وولي عماله. ووكل أبو عبد الله بن البريدي بابن ميمون الوزير في داره بالنجمي توكيلاً جميلاً، وأعلمه أن القواد لم يرضوا به وزيراً وأرادوا الفتك به، فمنعهم من ذلك وأعلمه أن القواد لم يرضوا به وزيراً وأرادوا الفتك به، فمنعهم من ذلك واعتقله إشفاقاً عليه. وولي أبو عبد الله البريدي الوزارة فأمر بمحاسبة ابن ميمون فوجده قد اختان وضيع فصالحه على خمسين ألف دينار بحساب وموافقه ورخصت الأسعار. ونبل الترجمان عند البريدي وذاك أنه هو الذي فض عسكر الزعفرانية، وأعمل الحيلة على الحاجب سلامة حتى استتر، وكاتب البريدي بذلك فجعله الترجمان بينه وبين الأتراك والديلم وخص به. وحدر أبو الحسين أحمد بن محمد بن ميمون إلى واسط لينظر في الأعمال وهرب قوم من الأتراك إلى الموصل فوظفوا على أهل تكريت مالاً عظيماً، تجاوز مائة ألف دينار، فلقوا منهم عنتاً وأغرقوا زواريق الدقيق. وزوج الوزير البريدي ابنته من عبد الواحد أبي منصور بن المتقي لله، وركب إليه إلى النجمي فنثر عليه دنانير كثيرة، يقال إنها كانت بدرة وقيل خمسة آلاف دينار ومائة ألف درهم، وأنشدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 للوزير في عشية ذلك اليوم: قُلْ لِخَيْرِ الكُفاةِ أَحْمَدَ الْ ... خَلْق جُوداً وَأعْظَمِ النَّاسِ قَدْرا والَّذِي يَعْشَقُ المَكارِم وَال ... مَجْدَ وَيَشْرِي بالمالِ حَمْداً وشُكْرَا مَا رَأَى الناسُ بالْوَزِيرِ الْبُرَيْ ... دِي كَذَا الْيَوْمِ حُسْناً وَفَخْرَا أَمْطَرَتْنَا السَّماءُ فِيهِ بِيُمْنٍ ... وَسَماحٍ مِنْهُ لُجَيْناً وَتِبْرَا فَالدَّنَانِيرُ هاوِياتٌ تُحَاكِي ... أَنْجُمَا في السَّماءِ تَنْقَضُّ زُهْرَا وَتَلِيها دَرَاهِمٌ مُشْبِهاتٌ ... أَبْرُداً تَمْلأُ الأماكِنَ نَثْرَا نَافِعاتٌ لِلْحَرْثِ لاَ يَذْهَبُ الْحَرْ ... ثُ فَساداً وَلاَ يُصاحِبُ قَطْرا غَيْرَ أَنِّي انْصَرَفْتُ كَاسِفَ بالٍ ... آسِفاً خالِياً مِنَ الْكُلِّ صِفْرَا مُضْمِراً حَسْرَةً لِذاكَ وَغَمَّاً ... وَاجِداً فِي العِظَامِ مِنِّيَ فَتْرَا سَاكِتاً إنْ سُئِلْتُ عَنْ قَدْرِ حَظِّي ... لَمْ أَجِدْ لِلسُّؤالِ عِنْدِيَ خُبْرَا جَمَعَ اللهُ ذَا عَلَيَّ وَعَيْذاً ... سَالِكاً بِي مِنَ التَّقَلُلِ وَعْرَا شَاهِراً لِلْغَنِيِّ سَيْفاً وَقَتَّاً ... لاَ بِهِ رَأْيٌ يُعَالِجُ فَقْرَا فَاغْتِنِ كَيْمَا عُهِدْتُ عَلَيْهِ ... بِعَطَايَا أَكْرَمَ النَّاسِ طُرَّاً وتحدث الناس بأن الوزير البريدي عازم على أن يدخل في يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الفطر إلى الخليفة المتقي لله، وتحدثوا بأن الديلم قد عزموا إذا دخل الدار يفتكوا به، فأضرب عن هذا الرأي وتشكك فيه. فخاف الديلم - وقد شاع عنهم هذا - أن يقع عليهم حيلة، فكانت لهم حرجة وتجمع في يوم الأحد بالعشي بالجانب الشرقي، فصاحوا خليفة يا منصور، وشتموا البريدي، وما ظهر في الشرقي من أصحاب البريدي أحد إلا شلح وأخذ ما معه، وأصبحوا في يوم الاثنين فملأ واشطوط الجانب الشرقي يشتمون البريديين واستشر فنهم العامة فأعانوهم، وما كانوا يطيقون العبور لأن أصحاب البريديين كانوا يرمونهم من الماء إلى أن عبر أهل فرضة جعفر بسميريات فعبروا فيها، وظهر ما كان ساكناً في الجانب الغربي، وانضم إليهم وأعانهم العامة وكثروا معهم، وقصد الجميع النجمي فجلس الوزير في طيار، وانحدر جميع أصحابه في طياراتهم وزبازبهم، ووقعت الحراقة وتشبث بها قوم من الملاحين فظفروا بمال وطلب أسبابهم ووقع بدر الخرشني بأيدي العامة بناحية الزياتين فضربته العامة واستخفت به، وجرى عليه ما لم يجر على مثله ولا شبيه له قط، وتخلصه من أيديهم بعض أسباب السلطان وقد قارب الموت وكان انحدارهم في يوم الاثنين سلخ شهر رمضان وأحضر أبو الحسن على بن عيسى للوزارة فأباها، وتقدم إلى أخيه أبي علي عبد الرحمن بأن يكتب عن الخليفة إلى الآفاق بجميع ما أراد، ومنع أبو الحسن أخاه من أن يعرض للوزارة وقد كان الناس فرحوا بذلك واستبشروا ليخلع عليهما، وجعل الناس يركبون إلى دار الخليفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقالوا يكون الأمير ابن الخليفة أبو منصور، ثم لم يتم ذلك. وولي الوزارة أبو إسحاق محمد بن أحمد بن إبراهيم الإسكافي المعروف بالقرامطي وأشار على الخليفة أن ينصب أمر الجيش ويكون معاملتهم معه، فخلع على كورتكين الديلمي وكنى أبا الفوارس للإمارة في يوم الخميس لثلاث خلون من شوال، ولبس الخلع وسار في الشوارع إلى أن صار إلى الدر التي يكنها على دجلة وهي دجار نصر الحاجب. ولع على بدر الخرشني للحجبة لثلاث بقين من شوال، وأخرج كورتكين ابن أخته أصبهاني إلى، واسط وكان فتى حسن الوجه معه جيش فورد الخبر بدخوله إلى واسط وانحدار البريديين عنها. ووردت قافلة من خراسان إلى حلوان، فولى أبو محمد بن جعفر بن ورقاء طريق خراسان فمضى فتلقى القافلة وأوصلها مسلمة إلى بغداد وقبض على الحسن بن أحمد الشجري العلوي من الدار التي كان يسكنها وهي دار علي بن هارون بن علان اليهودي الجهبذ على قرن الصراة وكان هو وأصحابه قد آذوا الجيران غاية الأذى إلى أن انتقل أكثرهم ونبت الدار، واجتمع جيرانها فأحرقوها، وقالوا نستريح من أن يكنها أحد يؤذينا، فبقيت النار فيها أياماً وكان ابن الشجري قد اتهم بأنه قد واطأ جماعة على أن يجلسوا في الخلافة عبد الله بن الراضي بالله بعد أن يوقعوا حيلة على كورتكين وكان سعيد بن عمرو بن سنكلا النصراني قد حمل إلى القراريطي مالاً قيل إنه خمسة آلاف دينار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فركب إليه واثقاً مع علي بن يعقوب كاتب ذكي الحاجب، فلما صار إلى داره قبض عليهما، ووجه بابن سنكلا إلى دار السلطان، وقال له قد ضمنت مال بيعة فهاته فقطع أمره على ثلاثة عشر ألف دينار منها على ابن سنكلا عشرة آلاف دينار وورد رسول القرمطي الهجري يطالب بضريبته التي رسمت له في كل سنة لحفظ الحاج فوجه إليه منها بعشرين ألف دينار وخرج الحاج لأيام خلت من ذي الحجة، وقرب محمد بن رايق من بغداد وخرجت مضارب كورتكين إلى الشماسية مع المختار القرمطي فأخذها مع الجمال ونفذ إلى ابن رايق، ومطالب كورتكين السلطان بالخروج معه فأخرجه مضربه وأنفذ إلى ابن رايق مع خادم من خدمه كتاباً فيه خطه يأمره فيه بأن يقيم حيث أحب ولا يقدم، وكان عمارة القرمطي قد خالف علي ابن رايق وحاربه فقلت وجيء برأسه إلى ابن رايق، واجتمع من جند بغداد حجرية وساجية وغيرهم نحو ألفين خرجوا إلى ابن البريدي وقبض على الوزير أبي إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي لخمس ليال بقين من ذي الحجة. وخلع على أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي لأربع بقين منه ووردت كتب الحاج يشكرون أبا علي عمر بن يحيى العلوي كل الشكر لما أولاهم في طريقهم من حفظهم وإعانة ضعيفهم والتوقف عليهم. وكتب كورتكين إلى ابن أخته وهو بواسط بأن يصير إليه لقتال ابن رايق وكان كورتكين قد ولى لؤلؤاً غلام التهشم واسط فشخص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 إليها فلما بلغه موافاة البريدي إليها رجع إلى بغداد في ذي الحجة، وعيد الناس الأضحى على سكون وسلامة. وطالب الديلم التجار بأموال فصار إليهم رجل يعرف بعبدون المتضمن كان لأمر الزواريق المصعدة والمنحدرة من مدينة السلام والبصرة ففتح على الناس أبواباً من البلاء عظاماً، فلحقه قوم من غلمان التمارين وغيرهم وهو في سميرية فقتلوه وأخذوا رأسه، فنصبوه في التمارين فاضطرب الديلم لذلك وحملوا السلاح وقصدوا التمارين ليحرقوه ويتعدوا ذلك إلى ما يليهم من أسواق الكرخ فمنعهم كورتكين من ذلك، وضبط الديلم وجه إلى التمارين أن لا يعاودوا مثل هذا الفعل، فعد الناس هذا من أفضل آراء كورتكين وترتب في قلوب الناس من يعقل منهم، ويفهم مرتبة العقلاء. ودخل كورتكين إلى المتقى لله ليستبين ما في نفسه قال إن أمرتني بحرب هذا الرجل حاربته وإن أمرتني بطاته أطعته، وإن أمرتني بأن أنصرف إلى المكان الذي ترسمني به فقال له بل حاربه، وأنا معك فقد جاء محارباً لأمري فخرج كورتكين فأقام بنواحي عكبرا بموضع يعرف بالأنابين. وجاء جيش ابن رايق فحاربوهم أياماً فما أغنوا شيئاً، وكان الديلم مستظهرين عليهم. وولي لؤلؤ إمارة جانبي بغداد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة ولما رأى محمد بن رايق أنه لا حيلة له في الديلم وأنها قد عزت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 عليه وأن القليل منهم يفي بالكثير من أصحابه احتال إلى أن سلك العراض، ودار بالموصل إلى بغداد ووصل إليها من تخلص من أصحابه كالمنهزمين. ووصل أبو بكر بن مقاتل إلى مجلس الشرطة من الجانب الغربي فرأى الجسر مقطوعاً فأطلق من وقته دنانير وأقام من أصلحه وكان معه قواد ابن رايق ابن لأبي مسافر محمد بن ديوزان. فلقي ابن مقاتل السلطان واستأذن لابن رايق فأذن له فدخل بغداد بعد يومين والديالم على جملتهم بموقفهم ونادى لؤلؤ صاحب الشرطة في جانبي مدينة السلام: يا معاشر العامة إن أمير المؤمنين قد أباحكم دماء الديلم وأموالهم فما عرف أحد من شذاذ بغداد وملاحيهم وعياريهم موضع أحد من الديالم إلا نهبوه وقتلوه وأخذوا جميع أملاكه، ثم وافى الديلم ودخل كورتكين من باب الشماسية وذلك في يوم الخميس لتسع بقين من ذي الحجة فجعل العامة يدعون له وهو يرد عليهم ومنع أصحابه أن يعرضوا لعامي فما زال يسلك الشارع الأعظم من الجانب الشرقي إلى أن وافى دار الخليفة وهو لا يشك أنه معه على ما فارقه عليه فوجد الأبواب مغلقة فجاء من جهة الشط فرمى من التاج بالنشاب فرجع، وخيبه الله عز وجل حتى صار إلى جزيرة حيال قصر عيسى لا يوصل إليها من الشارع إلا بسلوك دروب ضيقة فأقام بها وجعل سواده وبغاله في الاصطبل الذي بالمخرم وهذا كله بين يدي وأنا أراه من داري بقصر عيسى ورمى أصحابه بالنشاب من دجلة، ورأيت ابن رايق قد جاء في سميرية ومعه غلامان يرميان حتى أعان من كان يرميهم من دجلة. وكثرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 عليهم سميريات العامة يشتمونهم ويلعنونهم وهرب أصحاب ابن رايق حتى وافى بعضهم الأنبار وبعضهم المداين. وجاءني بعض قواده في تلك الليلة فرموا أسلحتهم عندي ومضوا مخفين لا يشكون في أن كورتكين إن صار إلى الشماسية وبات بها ليلة لن يبق من أصحاب ابن رايق أحد. فما هداهم الله لهذا الرأي وأقاموا بمكانهم حتى أدركهم الليل فولوا يريدون الشارع مبادرين، فصارت هزيمة وضاربهم من في الدجلة ورموهم ورميت عليهم الستر في الدروب من فوق السطوح وازدحموا فكان منى الواحد منهم أن يخلص إلى الشارع وظفر قوم من أصحاب ابن رايق ومن العامة بجماعة منهم في الجزيرة فقتلوهم وأخذوا دوابهم وأسلحتهم وعبر العامة إلى الأسطبل فوجدوا من سوادهم بقية فنهبوها، وفروا هاربين على وجوههم يريدون النهروان، إلا من اغتر منهم واستتر عند جار وعند صديق. وكشف الله عز وجل عن الناس أمراً عظيماً مما أشرفوا عليه وخافوه، وأصبح الناس يطلبونهم ولا يظفرون بأحد إلا قتلوه أوحش قتل، وأمر ابن رايق بإتباعهم فوجدوا قد عبروا جسر النهروان وقطعوه. وظفر منهم بنحو ثلاثمائة فحبسوا في دار الفيل في ظهر سور الحسنى وأدخل إليهم الرجالة السودان فخبطوهم حتى أتى عليهم، وكان جماعة منهم في دار فاتك حاجب ابن رايق فجعل يرمي بهم من الأروقة إلى السطوح، ويقال للعامة خذوهم، فيبادر العامة بقطع آنافهم وآذانهم وأصابعهم وهم قيام إحياء، واستفظع الناس هذا الفعل واستعظموا وكرهوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وكانوا أودعوا في ليلة الثلاثاء أقواماً أموالاً ففازوا بها، وظهر لهم يسار بعد أن كانوا فقراء وجعل العامة لا يلقون أحداً متشبهاً بالديالم إلا قتلوه، وإن لم يكن منهم، ولا يرون مع أحد منهم دراهم إلا قالوا له أنت كنت مع الديلم، وأنت تدري أين هم فدلنا عليهم، ويقتلونه في الطريق بحضرة الناس. وكان ذلك مما لم يعهد فعل مثله أحد، وهذا كله فإنما جرى لركاكة مدبري أمر ابن رايق، وجهل من معه، وأن الخليفة ليس معه من يشير عليه ويعرفه الواجب من غيره، وقد كان يبلغ من هؤلاء الأعداء ما يجب عليها، بقتل أحسن من هذا، كما أمر رسول لله صلى الله عليه وبنهي العامة بعد أن ظفر بهم أن يتولوا بأيديهم قتل أحد حتى يصيروا بهم إلى سلطانهم. وكان قتل الديالم في دار الفيل في يوم الاثنين لخمس بقين من ذي الحجة. وأخبر يوسف بن يعقوب البازعجي خليفة لؤلؤ على الشرطة بمكان كورتكين، فركب فاستخرجه من درب سليمان بقرب الجسر من الجانب الغربي، وصار به إلى ابن رايق فحمله إلى دار السلطان، وقبض على أخته أم أصبهان فطولبا بالأموال فلم يعترفا بشيء فحبسا ونحن نعيد أمره. وخلع على محمد بن رايق في يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجة، وجعل أمير الأمراء، وطوق بطوق عظيم مكلل، بالجوهر وسور بسوارين، وجعل يشكو ثقل الطوق إلى أن نزل في دار مؤنس المظفر، ولزم الشرب ليله ونهاره أياماً متوالية. وظهر أبو القاسم سلامة الحاجب، وظهر أحمد بن علي الكوفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وصار إلى ابن رايق. فأما خبري أنا في آخر شهر رمضان وقت انحدار البريديين من النجمي، فإن الديالم في يوم الاثنين صاروا إلى دار ابن ينال الترجمان وهي ملاصقتي بقصر عيسى فنهبوها، وصعدوا سطوحها فوجدوها كالمتصلة بسطوحي، فنزلوا على من فوق سطوحي وأنا غافل ولي مجلس وعندي خلق من أصحاب الحديث وأهل الأدب فوثبنا إليهم وكلمناهم فما نفعنا شيئاً، وخرج حرمنا هاربات ولم يتركوا لي شيئاً من ذخائر وغيرها، إلا أتوا عليها وأخذوا لي نحو مائتي قطعة من الثياب أكثرها من كسى الخلفاء وخلعهم، وأخذوا من الزجاج الفاخر والصيني ما لا يضبطه عددي، ووجدوا قطيعة من دفاتري فنهبوها، وأخذوا كل ذخيرة لعيالي وثوب وجدوه لهم، وجعل من كان عندي يخرج فيلقاه قوم منهم على بابي فيفتشه ويأخذ شيئاً إن وجد معه. ولقد حدثني بعض جيراننا أنه رآهم يتجاذبون على بعض الثياب حتى تخرق فيأخذ كل واحد قطعة منها، وأنه رآهم فعلوا هذا بمناديل دبيقية، وظفروا بصندوق فيه طيب قد ذخرته فكسروه في الأرض فما وصلوا إلا إلى اليسير منه، وكذلك غالية كانت فيه وعنبروند وأخذوا لي سرجين أحدهما ثقيل وحماراً من اصطبلي حتى اشتريته بعد ذلك بعشرة دنانير، وأشد ما بقي على أن بعض ضعفى أصحاب الحديث كان يجيئني بعد ذلك فيقول كانت معي نفيقة فأخذت في دارك وأحتاج أن أعوضه من ذلك، فكانت قيمة ما ذهب لي نحو ثلاثة آلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 دينار كلها لي ولعيالي، ما لأحد فيها شيء إلا لأبي الحسين بن القشوري فإن صاحباً له يعرف بابن الرايض كان معه سرج له فتركه في داري وكان يسكن عندي ليرجع فيأخذه، فنهب فوالله ما اكتسيت ولا عيالي إلى وقتنا هذا، وإني لفقير مذ ذاك لا رزق لي ولا اتصال بمن يصلني وينفعني، أتقوت أثمان دفاتري وثمن بستان لي كان عيشي وجنتي، كل ذلك بشؤم مجاورة الترجمان لي. فسبحان من أفقرني وأغنى غيري من جيرانه حتى اعتقد به العقد وبعت عقدتي، وملك أمواله وذهب مالي!. وأعجب من هذا كله أني ظننته أنه سيترثى لي مما جرى علي إذا عرف أمري، فلما عاد إلى داره ناصبني العداوة، وأراد مني أن يملك ما يجاوره من دوري، ويتسع به وبعشر ثمنه، وأن يشتري بستاني بدوران وقد أعطيت به نحو عشرة آلاف درهم، فراسلني في ذلك مرات فقلت لأبي الحسين القشوري - ولم يكن معه من يشبهه دراية وفهماً - صاحبك هذا مجنون حين يعطيني هذا العطية. فقال لي: كذا قومه بعض جيرانك له. وزعم أنه أكثر ما أعطى به. قلت فلم لا تصدقه أنت؟ قال: الذي قال له ذاك أخص به مني، وآثر عنده. ولقد استدعى في أول ما جاورني مخالطتي وأن أنغمس في أموره فأبيت ذلك خوفاً من العواقب. ولقد كلفني غير مرة أن أشتري له أشياء وأكتبها باسمي أو اسم من أثق به لئلا يعلم أنه هو المشتري، فأبيت ذلك عليه منذ أيام بجكم، لما في مثل هذا من عاقبة السوء، ووجد غيري ممن يريد هذا ويتمناه ويتصنع له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ولولا خوفي من إطالة الكتاب بما لا يحتاج الناس إليه، ولا يبالغون بعلمه لذكرت ما أتفرج به فإني كالمصدور، يستريح إلى النفث وكالإناء ينضح بما فيه. والحمد الله على كل حال وهو حسبي وعليه متكلي، وأقول ما قاله عبد الله بن طالب الكاتب وأنشدنيه لنفسه: أحَلْتُ بِرِزْقِي عَلَى رازِقِي ... وَوَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى خالِقِي وَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ فِيما مَضَى ... كَذَلِكَ يُحْسِنُ فِيما بَقَي وقد أتيت على جميع ما كان من الحوادث في سنة تسع وعشرين إلى انقضائها. فلم يبق إلا ذكر من توفي فيها من أهل العلم الذين كان الناس ينتفعون بحياتهم، فأما الجهال فلا نبالي بأغنيائهم ولا فقرائهم. ومن أهل الشرف والفضل توفي ابن الفدان العلوي يوم الأحد لسبع خلون من شعبان وحمل فدفن بالحير. وقبل موته بأيام مات البربهاري، فسبحان من سر المؤمنين بموته وفجعهم بموت ابن الفدان وهو في وقته من أكرم الأشراف وأسمحهم كفاً. وتوفي القاضي أبو الأسود بن موسى بن إسحاق الأنصاري، وكان قد حدث. ومات أبو علي بن إدريس الحمال في آخر يوم من رجب، وكان من قدماء العدول وقد سمع حديثاً كثيراً، كنت أراه عند الحارث ابن أبي أسامة وكان يقدمه ويؤثره. ومات رجل يعرف بجعفر البارد وكان قد حدث، وسمع الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 منه، ومات منهم رجل يعرف بالسواق في شوال. ومات منهم رجل يعرف بأبي عبد الله الأبلي، ومات المروزي المعروف بحامض رأسه، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وقد سمع الناس منه حديثاً كثيراً. ومات لأربع بقين من ذي الحجة أبو بكر المعروف بابن بهلول الأزرق، وقد كان حدث وازدحم الناس عليه، وكان عالي السن وله إسناد. ثم دخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة ألزم محمد بن القاسم الكرخي بيته، واستكتب ابن رايق أحمد بن علي الكوفي. ووافى من البصرة سفن كثيرة من سفن التمر، فرخص حتى بلغ الألف سبعة دنانير. وظهر عند إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل صاحب خراسان ديلم فأخذوا وأفلت منهم قوم فقتلهم العامة، وظهر على كورتكين لثمان ليال خلون من المحرم في دور سليمان، فأوصل إلى ابن رايق فوبخه وسلمه إلى دار السلطان، وكاتبت أخته ابن رايق وسألته أن يؤمنها فآمنها، فصارت إلى أخيها كورتكين وطولبا بأموال، وضرب كورتكين، وأخذ منه مال قليل وقال كل شيء كنت أفيده كنت أعطيه الديالم. وقد صدق في هذا ما كان يدخر شيئاً. وانحدر ابن رايق إلى واسط لإحدى عشرة ليلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 خلت من المحرم بعد أن فرق على جلسائه جملة دنانير فكان ممن نادمه في ذلك الوقت على بن هارون المنجم فأمر له بألف دينار، وصرت أنا إليه لأودعه وهو في الزبيدية فقال لي ألست معي في هذا السفر؟ قلت إن أمر الأمير، فجذب الدواة ووقع لي بخمسمائة دينار بخطه فقلت لأبي عبد الله الكوفي إلى من هذه؟ فقال إلى أبي بكر بن مقاتل. وانحدر من ليلته وبكرت بالرقعة إلى ابن مقاتل فقال هذه مبهمة يعطي خمسمائة دينار مبهمة، ولو كانت إلي لخاطبني. فأخذتها وانحدرت من وقتي إلى المداين فعرضتها عليه فوقع: يا أبا بكر أطال الله بقاءك ادفع إليه خمسمائة دينار، فدفع إلي مائة وخمسين ديناراً، وقال أنا أدفع إليك الباقي بواسط فأضفت إلى ما أعطاني مثله، وتحملت وخرجت إلى واسط فما دفع إلى ابن مقاتل شيئاً، وكلما وقع إليه بتوقيع قال أفعل ونحن في إضافة إلى أن صالح البريديين وشخص عن واسط، ولزمتني مؤن أحوجتني إلى أن بعت شيئاً كان لي بالبصرة وأنفقته انتظاراً لوعده، فما وفى بشيء، ولا أطلق لي درهماً واحداً، فجئت إليه في اليوم الذي صاعد فيه وقد تقدمه ابن مقاتل إلى بغداد، فقلت أنهضني أعز الله الأمير إلى بغداد كما أخرجني أمرك عنها، قال الحقني بنهر سابس، فعلمت أنه لا يفعل شيئاً فجلست مضطراً. ووافى أبو الحسين فصرت إليه فأكرمني وقربني، وكذلك أبو يوسف وتكفل بأمري كله، ووصلني سراً وعلانية أبو القاسم عبد الله بن أبي عبد الله الوزير، وأما الوزير أبو عبد الله فإني لم أجده كما عهدت، على أني نكبت بعده، إلا أني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 أرجع منه إلى عشرة ثم إن أبا الحسين لم يدعه حتى وصلني وأضاف إلى ذلك صلة منه، ووصلني أبو يوسف وأمرني بملازمته ووصفني وقال قد سألني أهل البصرة أن أقدمك عليهم، وزعموا أن علومهم مجتمعة عندك، فتضمنت له ذلك. وتغير الوزير وجعل يثلبني قوم عنده يختصون به، لست منهم في شيء، وخاصة لما شخص أبو الحسين يريد بغداد فإنه كان يكلمه في أمري ويقوم بنصرتي إلى أن حجبني أياماً، ثم أذن لي وأراد أن يمنعني من الجلوس في الجامع للناس، وتقدم بذلك إلى المعتمدي فقيل له إن الخلق كثير، وليس المنع من حديث رسول الله صلى الله عليه يحسن عند الناس. فأضرب عن ذلك وكنت أتأخر فيعتب علي وأحضر فيعنتنى فإن سأل عن شيء فأصبت فيه خالفني، وأعانته العصبة التي حوله فقال لي يوماً - ولولا أن ما أحكيه داخل في باب العلم والإفادة ما حكيته -: كم بالبصرة من قبيلة ليست بالكوفة، وكم بالكوفة من قبيلة ليست بالبصرة؟. فقلت بالبصرة المهالبة، والمسامعة، والجاروديون، وباهلة. وبالكوفة بنو أسد عدة مواضع وليس بالبصرة إلى مكان زعموا أنه سمي بغيرهم، وبها الإشاعثة. وبها المقيثون. فقال ذهب عليك الأعظم وبنو حمان بالكوفة وليس هم بالبصرة! فقلت بلى هم بالبصرة فقال كذبت، فقلت والله الذي لا إله إلا هو ما كذبت منذ عرفت قبيح الكذب، فقال يا يانس هات مائتي دينار فجاء بها في صرة، فقال إن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بالبصرة بنو حمان فهي لك وإلا غرمتك نصفها ووهبته، فقلت الوزير أعزه الله يتفضل علي ويهب لي أضعاف هذه وما كنت لآخذ على هذه الجهة شيئاً ولو كانت ألفي دينار ولكني أحدث الوزير أعزه الله بشيء يتفضل باستماعه ثم يأمر بما شاء، قال هات. قلت رميت وأنا صبي في سنة خمس وسبعين بالبصرة مع إنسان يعرف بابن طاهر الهاشمي وهو يعيش، فكان رمينا: خرجه عندي فأجذبه إلى العتيك وخرجه عنده فيجذبني إلى هدف بني حمان، ويحضرنا ألوف من الناس ولقد أنشدني ابن ذكرويه لنفسه: حِزْبُ الْعَلاءِ نَضَلْتُهُمْ فَتَرَحَّلُوا ... طابَ الرَّحِيلُ إلَى بَنِي حِمَّانِ هَذا أَبُو ساسانَ قَدْ أَشْجَاكُمُ ... ماذا لَقِيتُمْ مِنْ أَبِي ساسانِ وهؤلاء بنو المثنى وبنو عبد السلام، فأن شاء الوزير أن يستعلم هذا منهم فليفعل فما رد جواباً وأمر بدفع الدنانير. وقال لي يوماً من الذي أكل تمراً وهو رمد من إحدى عينيه فنهاه النبي صلى الله عليه، فقال إنما آكل من شق عيني الصحيحة؟ فقلت هذا صهيب، فقال أخطأت والله هذا عامر بن فهيرة. فقال له بعض من كان عنده وهو اليوم ببغداد: هذا مشهور عن عامر، فقلت أعز الله الوزير لا تلتفت إلى قول من لا يدري. حدثني عون بن محمد الكندي قال حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا عبد الله بن المبارك عن عبد الحميد بن صفي عن أبيه عن جده عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 صهيب قال قدمت على النبي صلى الله عليه وبين يديه خبز وتمر وقد رمدت إحدى عيني، فقال ادن فكل فجعلت آكل التمر فقال يا صهيب أتأكل التمر وبك رمد؟ فقلت إني أمضغ من الناحية الأخرى! فتبسم صلى الله عليه. وحدثني عون قال حدثنا يعقوب بن محمد قال حدثنا عاصم بن سويد عن ابن إسماعيل بن مجمع عن عبد الحميد بن زياد بن صهيب عن صهيب قال جئت والنبي صلى الله عليه في بيت كلثوم بن هرم بعد ما قدم من قباء بثلاث وبين أيديهم تمر أو زطب قد كاد يتمر وإحدى عيني شاكية فأكلت منه فقال لي رسول الله صلى الله عليه أتأكل التمر وبعينك ما بها؟ فقلت إنما آكل من شق عيني الصحيحة؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه حتى بدت نواجذه. فقال أرني هذا في كتاب، فقلت ما معي أصل ثم قلت لمن يجيئني من أصحاب الحديث انظروا من عنده مسند فليجئني بمسند صهيب، فجاءوا به فحملته إليه. فقال له صاحب الكلام فلعله قد قال هذا لعامر أيضاً! فقلت هذا مسند عامر وهو كله ثلاثة أحاديث - وكنت قد استظهرت بأخذه - فنظر فلم يجد فيه شيئاً فذهب المعترض يتكلم فقال له حسبك، الكلام في هذا بعد ما وقفنا عليه قلة حياء وقحة، إلى غير هذا من أشباهه. ولما أراد أبو يوسف الرجوع من واسط إلى البصرة جذبني إليها ووعدني وتضمن لي ما يرغب في بعضه، فأعلمته أنه لا أصل معي من أصول الحديث ولا غيره وأني ألم ببغداد وأحمل ذلك معي وأقصد البصرة. فقال لي فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 تقيمن بعدي بواسط ساعة واحدة، فعرفت أن تحت هذا الكلام ما هو أعرف به وأعلم، وأنه قد نصح لي فشيعته ثم صاعدت من وقتي إلى بغداد فوجدت أبا الحسين بها والخليفة خارج عنها فاستأذنت عليه فلم يأذن لي، وإذا كتاب الوزير قد ورد عليه: لا يدخلن الصولي إليك. فكنت مجفواً محجوباً، فلما شخص إلى بغداد احتجب إذ أستتر يوماً أو يومين لمعرفة الناس بكوني عندهم وثنائي عليهم، فكنت عند السيد الشريف أبي عبد الله الموساني ثم خرجت لتلقي سيف الدولة لأنه كان في حداثته يلزمني وقد قرأ علي علماً كثيراً. فجمع بعض جيراني بقصر عيسى جماعة من العيارين ووهب لهم دراهم وكان له سكان في مثل حمام ودكان وبثهم في نواحي بغداد يصيحون ألا إن الصولي قد خرج مع البريدي وكان هو مع ابن قرابة آفة الناس معه ووجه بهم إلى بستاني الذي بحضرة بستان حميد فكسروا دواليبه وجمروا نخله وهدموا أبنية أنفقت عليها ألفي دينار ولم يدعوا سقفاً ولا خزانة إلا نهبوه، وفعلوا مثل ذلك ببستان بدوران، وهو الذي كان لغج بن جاخ، وقد أنفق على أبنيته ألوف دنانير وما ترك فيه شيء، ورجعت من عكبرا فرأيت ذلك، وعلم به سيف الدولة، فقال ضع يدك على من شئت، فكرهت أن أصدقه عن الحال في فعل جاري، وجاءني أهل الناحية فعينوا لي جماعة فذكرتهم له، فأمر بقطع أيديهم فنظرت فإذا ما مضى لا يعود وما أفعله بهم يحقد على أمثالهم، وفي زمان يتصنع كل قوم بألوان ويحدث في الشهر منه دول، فأطلقت عنهم. فيا عجباً لقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 حجبت عنهم وكان رئيسهم لي على هذه الحال، أتهم فيهم بهذه التهمة، ويفعل بي مثل هذا الفعل، ثم يضرني ذلك عند بعضهم إلى الآن!. قد قضيت وطراً من ذكرى حالي وإعلامي من يعلم حقيقتها، وما جرت عليه، تفرجاً بذلك واستراحة إلى شكواه إلى الناس. وأنا أعود إلى شرح الحوادث وما جرى إن شاء الله. ولما انقضى أمر الديالم وخلع على ابن رايق للإمارة ظهر أحمد بن علي الكوفي من استتاره فاستكتبه ابن رايق لنفسه والخليفة، وأراد أن يخلع عليه للوزارة فامتنع من قبول اسم الوزارة، وعمل ما كان يعمله الوزراء، ودبر أمر الناس كله أبو بكر محمد بن علي بن مقاتل، وصرف أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي إلى منزله فكانت وزارته للمتقي اثنين وثلاثين يوماً. وشخص ابن رايق إلى واسط فدخلها، وانحدر البريديون إلى البصرة، وكانت لابن رايق بواسط أمور عظام من تشاغله بالنبيذ ليله ونهاره، حتى أن رؤساء أصحابه لا يرونه إلا لحظة في كل مدة. وحضرت له دعوة عظيمة في يوم صادفه فيه بعض الأتراك إلى غير هذا مما يترك ذكره، ثم راسل البريديين وواقفهم على حمل، ورحل عن واسط إلى بغداد وتجدد لهم رأي في رد الوزارة إلى أبي عبد الله البريدي فعقد ذلك له في يوم الخميس للنصف من شهر ربيع الآخر، في هذه السنة، وهي سنة ثلاثين وثلاثمائة. واستخلف له بالحضرة على خدمة السلطان وتدبير الطساسيج أبو جعفر محمد بن شيرزاد، وحملت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الخلع إلى واسط، فلبسها الوزير، وركب فيها بين يدي داره وكنت أنا بواسط فقال لي: أعملت شيئاً في أمرنا هذا؟ فأنشدته شعراً والله ما مدح أحد منهم قط بمثله فيه وهو: هَنِيئاً لِلْوَزِيرِ قَضَاءُ دَيْنٍ ... بِهِ أَضْحَى الزَّمَانُ قَرِيرَ عَيْن وَعَوْدُ وِزارَةٍ سِيقَتْ إلَيْهِ ... كَعَوْدَةِ قُرْبِ حِبِّ بَعْدَ بَيْنِ أَبِي عَبْدِ الإلِهِ أَجَلَّ كَافٍ ... تَسَمَّحَ بِالنضُّارِ وَباللُّجَيْنِ وَيَهْنِي ذَاكَ يَعْقُوباً أَخَاهُ ... وَصِنْوَهُمَا الْكَرِيمَ أَبَا الْحُسَيْنِ هُمَا قَمَرَا الزَّمَانِ وَغُرَّتَاهُ ... مُرِيحاً الْمُلْكِ مِنْ عَارٍ وَشَيْنِ أَحَلاَّ مِنْهُ نُصْحاً وافْتِقَاداً ... مَصالِحَهُ مَحَلَّ النَّاظِرَيْن وَما كانَ الْفَسادُ وَقَدْ تَعَلَّى ... ليَخْفِضَهُ سِوَى إصْلاحِ ذَيْنِ وَيَهْنِي ذَاكَ عَبْدَ اللهِ فيه ... فَتاهُ فَهُوَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ هلاَلٌ لَمْ تُبَدِّدَهُ اللَّيالِي ... فَيَنْقُصَهُ مُرُورُ الفَرْقَدَيْنِ تُرادِفُه السِّيادَةُ غَيْرَ وَانٍ ... وَيُشْبِهُهُ تَشَابُهَ قَرَّتَيْنِ كَما أَوْدَعْتَ سَطْراً مِنْ كِتابٍ ... ولَمْ تَنْقُطْهُ غَيْناً بَعْدَ عَيْنِ وَزِيرٌ مُقْبِلُ الأَيَّام عالٍ ... عَلَى أَعْدائِهِ طَلْقُ الْيَدَيْنِ يُهِيُن المَالَ بالأفضالِ جُوداً ... وَمَرْقَى الجُودِ صَعْبٌ غَيْرُ هَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 سَيَقْضِيهِ الزَّمانَ بِطُولِ عُمْرٍ ... وَتَمْلِيكُ الرِّياسَةِ كُلُّ دَيْنِ غَدَتْ خِلَعٌ عَلَيْهِ تَائهاتٌ ... بِعالِي النَّفْسِ عَالِي الذَّرْوَتَيْنِ جَلَتْ بِسَوادِها ظُلَمَ اللَّيالِي ... كَما تَجْلُو سَوادَ المُقْلَتَيْنِ بِمَنْطِقِهِ يَلُوحُ الحَلْى فِيهَا ... كَما لاَحَتْ نُجُومُ الشِّعْرَيَيْن تُباطُ مَعلِقٌ مِنْهَا رِقَاقٌ ... بِمَصْقُولٍ رَقِيقِ الشَّفْرَتَيْنِ كَرَأْيٍ مِنْهُ يَفْعَلُ في اللَّيالِي ... وَفِي الأَيَّامِ فِعْلَ النَّيِّرَيْنِ فَأَعْلَى اللهُ سَادَتَنَا جَمِيعاً ... وَأَبْقاهُمْ بَقاءَ الفَرْقَدَيْنِ وقَلَّمَ عَنْهُمْ ظُفُرَ المَنايَا ... بِقُرْبِ مُناهُمُ وَبِبُعْدِ حَيْنِ ومِلْكٍ لْلَوَرَى وَصَفاءِ دَهْرٍ ... يَرينَ عَلَى عِداهُمُ أَيَّ رَيْنِ فَكَمْ عُذِلُوا عَلَى إْفَراطِ بَرٍ ... فَمَا أصْغَوْا لِعَذْلِ العاذِلَيْنِ أَقولُ بِمَا عَلِمْتُ مَقالَ صِدْقٍ ... بَعِيدِ الشَّأْوِ مِنْ كَذِبٍ وَشَيْنِ لَقَدْ صَانُوا الوِزارَةَ بَعْدَ هَتْكٍ ... وَزانُوهَا وَكانَتْ غَيْرَ زَيْنِ بِرَأْيٍ مُسْتَنِيرٍ لِلْمَوالي ... وَصَعْبٍ لِلمْعُادِي غَيْرِ لَيْنِ وَأَقْلاَمٍ تُحَكَّمُ فِي الأَعادِي ... كَحُكْمِ السَّيْفِ وَالرُّمْحِ الرُّدَيْنِي وَيَغْنَى الرُّمْحُ فِيها عَنْ ثِقافٍ ... وَيَغْنَى السَّيْفُ عَنْ إِصْلاحِ قَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وَتَخْفُقُ بِالذَّي نَهْواهُ كُتْبٌ ... تَكُونُ بِها صلاحُ الخْافِقَيْنِ تَرَى الأَقْدارْ مُصْعِدَةً إلَيْهِ ... تَسَحَّبُ بَيْنَ تَسْجِيَةٍ وَطَينِ ثَوابُكُمُ عَلَى إصْلاحِ مُلْكٍ ... ثَوابُ شُهُودٍ أَحْدٍ أَوْ حُنَيْنِ فَرَعْتُمْ فِي بَنِي الأَحْرارِ طَوْراً ... يَطُولُ الرَّعْنُ فيه ذا رُعَيْنِ وَزادَكُمُ مُحَمدَّكُمُ عُلُوّاً ... وَيَعْقُوبٌ شَرِيفُ الجْانِبَيْنِ وَرِثْتُمْ عَنْهُمَا كَرَماً وَفَضْلاً ... كَذَاكَ يَجِيءُ نَجْلُ الْفاضِلَيْنِ لَقَدْ أَصْلَحْتُمْ ما بَيْنَ دَهْرِي ... عَلَى رَغْمِ الْعدَى كَرَماً وَبَيني سَأَقَضِي فِي مَدِيحكُمُ حُقُوقاً ... كَمَا يُقْضَى حُقُوقُ الوْالِدَيْنِ فوصلني الجماعة على هذا وشكروني سوى الوزير، فإنه كان عنده بمنزلة أردإ الشعر وأوضع المدح. ثم رأى السلطان وابن رايق أن يحلوا ما عقدوه من أمر البريدي وينقضوا ما أبرموه، فخلع على أبي إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي للوزارة، يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادي الأولى، وصرف به أبو جعفر بن شيرزاد إلى منزله. وصح عند السلطان عزم البريدي على قصد الحضرة في جميع رجاله، وذلك لمهانة ابن رايق ومطالبة ألف من الأتراك البجكمية له بأرزاقهم فلم يحسن أن يتلافاهم وترفق بهم، حتى شذوا عنه ومضوا إلى البريدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 إلى واسط، وكان الترجمان يزعم أنه هو الذي أصلحهم له وأفسدهم على السلطان، فقووا نفسه وزينوا له ورود الحضرة، فركب المتقي الله الظهر في يوم الثلاثاء، ثاني اليوم الذي خلع على القراريطي فيه للوزارة وأمر بالنداء في العامة بلعن البريديين، وتحريضهم على قتالهم. وبين يديه مصاحف منشورة فسار من داره إلى الجسر وركب الماء وعاد إلى قصره وأمر بإصلاح العرادات والمنجنيقات حوالي داره، وحفر خندق والحاجب في الوقت سلامة. واستدعى ابن رايق العيارين، فكان ذلك خطأ من رأيه عظيماً. وخرج أبو الحسن علي بن محمد البريدي من واسط يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادي الآخرة ولما قرب من بغداد بلغ الخبز في عسكره رطلاً بدرهم ثم لم يوجد. وفتح العيارون السجون، وكان هذا من فعل ابن رايق توطئة لما يريد البريدي، لكثرة العيث من العامة وغلبتهم على التجار وأهل البيوتات. وعبر أصحاب البريدي نهر ديالي، فحاربهم القرامطة وبدر الخرشني ساعة ثم انهزموا. وفي الوقت الذي ركب الخليفة الماء من الجسر ورجع إلى قصره انقطع الجسر وانخلع الكرسي وهو مملوء بالنظارة، فغرق خلق كثير من رجال ونساء وصبيان. وفي يوم الخميس لسبع بقين من جمادي الآخرة انهزم جيش ابن رايق والعامة، وغرق من العامة بين يدي النجمي خلق كثير لا يضبطهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 العدد، وخرج الخليفة وابن رايق إلى باب الشماسية وتبعهم الناس فباتوا بالبردان. وغرق أبو محمد بن سلامة الحاجب وكان فتى نفيساً قد تأدب وسمع حديثاً كثيراً. وملك البريدي الدار، ووجه بابن أبي داود الأواني إلى الخليفة يحلف له أنه لا يريد إلا خدمته والانتهاء إلى ما يريده ويأمره به، فلم يلتفت إلى ذلك ورحل إلى سر من رأى، ولحقه الحسين بن سعيد بن حمدان في عسكره. ونزل أبو الحسين البريدي دار مؤنس الخادم، ووجه إلى خدم الدار فأحضرهم. وأمرهم بحفظ الحرم، ووعدهم أنه يجرى عليهم جراية واسعة، وضبط أبو عبد الله الأعمال كلها. ولقي الناس من الديالم وتنزلهم عليهم بلاء عظيماً، وقال بعض من عاين الأمر في ذلك الوقت: أي شيء كان أحسن من أن يوجه بألف فارس، ويضمن لهم مال حتى يردوا الخليفة وابن رايق فيجلس الخليفة في داره ويوسع عليه، وعلى حرمه وحشمه في النفقات، ويخلع على ابن رايق ويخرج إلى الشام على أجمل الحال، فيكون الظفر القبيح أحسن ظفر، وتحسن الأحدوثة. وركب السكري حاجب أبي الحسين البريدي ونادى ألا ينزل أحد من الجند على الحد فكف البلاء قليلاً. وخطب الخاطب يوم الجمعة فدعا للمتقي لله، ونودي إن وجد مع عامي سلاح قتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ووافت من ابن طغج هدية سرية للخليفة إلى الأنبار فلما علم بما جرى ردها إلى هيت، ورخصت الأسعار بمدينة السلام وسر الناس بذلك، وحصل السلطان بالموصل في رجب، وقد كان العباس بن شقيق صاحب أمير خراسان وافى فأقام بالنهروان حتى يؤذن له في الدخول فأذن له ووصل وجاء معه برأس ما كان الديلمي، وشهر في دجلة في غرة شهر ربيع الأول، وكان ركوب الخليفة إلى بثق النهروان يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول فصلى عليه، فما انصرف جنده حتى تهور السكر وعاد البثق إلى حاله. ولما ملك جيش البريدي الدار نهبوا جميع ما وجدوا فيها، وداروا في صحونها، وفعلوا ما لم يفعله أحد قبلهم، فقد كان الخلفاء يقتلون بسر من رأى ودورهم محفوظة مصونة، ولما دخل الحاج بغداد في أول صفر سالمين دخل معهم أبو العباس أحمد بن سعيد بن عقبة الكوفي وكان أحفظ الناس للحديث وأكثرهم كتاباً له، فوعد الناس لجلوسه فجلس يوم السبت لست خلون، في مسجد الشرقية فأملى وقرئ عليه وجلس بعد ذلك في الجامعين الشرقي والغربي، وحدث وجلس في براثا مجلسين، وأملى فضائل كثيرة. وعز الدقيق بمدينة السلام فلم يوجد فبعث المتقي لله بأبي الفرج المالكي القاضي إلى الحسن بن عبد الله يأمره بإدرار حمل الدقيق، وقد كان المكوك بلغ ستة دراهم، فجاء الدقيق في شهر ربيع الآخر فصلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 السعر. وأخذ رجل يعرف الكرخي يقطع في طريق واسط حتى انقطع الطريق من أجله فقتل. وصرف القضاء من الجانبين ببغداد وتقلد القضاء بهما أبو الحسن أحمد بن إسحاق والخرقي لأيام بقين من شهر ربيع الآخر. وخلع عليه في يوم الخميس، فنزل في جامع الرصافة وقرأ عهده. وقيل للحسن بن عبد الله إن ابن رايق قد عزم على قتلك، فبادره ففتك به وقد عبر إليه. ووافى بغداد الخبر بقتله لأربع بقين من رجب وأن السلطان زاد الفارس عشرة دنانير، وزاد الراجل ديناراً، وقبضوا أرزاقهم على ذلك وتسحب الديالم على أبي الحسين البريدي، فلما رأى ذلك أمرهم باللحاق بواسط، وأن الوزير يريدهم فخرج أكثر رؤسائهم. وأخبر أبو الحسين البريدي أن جماعة من الأتراك قد عزموا على الفتك به. وأن الأمير أبا الوفاء توزون التركي رأس ذلك وصاحب التدبير فيه، وعلم توزون بأن الخبر قد فشا فبادر فكبس دار مؤنس ليلاً. ونقب فيها نقوباً كثيرة فلم يصل إلى ما أراد وحاربه الديلم وأصبح فكثر الجيش عله، ولم يخرج إليه من كان وعده أن يكون معه فصار إلى البردان ثم صار إلى عكبرا وقبض على العمال وأخذهم بجباية المال، فقصده جماعة من القواد فناوشهم فلما رأى كثرتهم صار إلى سر من رأى، وتأخرت أرزاق الديلم أياماً فصاروا إلى الشماسية وصاحوا: خليفة يا منصور، فوجه إليهم فأرضاهم وعادوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وولى ناصر الديلمي شرطة الجانب الشرقي مكان توزون فالتزم وأنصف. وتواترت الأخبار بإقبال السلطان إلى بغداد، وأن الأمير أبا الوفاء حركهم وقال كلوا الأمر إلى وكونوا من ورائي فأخرج البريدي المضارب إلى الشماسية ليقاتلهم، وعيد السلطان بحبة من طريق ووافى، الموصل تكريت وأخرج البريدي الأتراك والديلم إلى المضارب بباب الشماسية وأنفذ أبا طاهر القاضي، برسالة إلى السلطان، بأن يجيء إلى داره، وينصرف هو والجيش عنه فعاد بجواب لم يحبه البريدي. وهرب قائدان من قواد الديالمة في أربعمائة نفس إلى السلطان. ووجه البريدي بالترجمان من واسط في عدة ورجال، مدداً لأخيه أبي الحسين، فدخل بغداد يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال واتهم ابن شقيق صاحب أمير خراسان بأنه يضرب الجيش فأنفذه إلى واسط بعد أن أراد حبسه وتقييده، فمنعه الأتراك من ذلك عصبية له. وخاف أبو الحسين البريدي أصحابه ولم يثق بهم فأرى الناس أنه مصاعد لقتال السلطان، ثم انحدر هو وأصحابه ليلاً ورمى بعضهم العامة. ووافى الحسن بن عبد الله بغداد ومعه مال أعده لعمارة بغداد وضياع السواد، وذهب لتوزون مال عظيم فعوضه الحسن من ذلك رزق عشرة آلاف دينار كل شهرين برسم المماليك، وضج الناس بالدعاء وضربت مائة قبة ودخل الخليفة بغداد يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال، وكان خروجه عنها يوم السبت، لسبع ليال بقين من جمادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الآخرة فكانت غيبته ثلاثة أشهر وعشرين يوماً. وحمل البريدي عماله. معه حين انحدر وصادر بعضهم وقلد الأمير توزون جانبي بغداد، وخلع على أبي إسحاق القراريطي للوزارة في في يوم الاثنين، لست بقين من شوال. وقال الحسن بن عبد الله: مادة البريديين ضرائب التمر فتقدم بالنداء ألا يحمل أحد من التجار مالاً إلى أسفل فغلا الثمن وبلغ ما لم يبلغ مثله قط. ونزل الحسن وأخوه عند الشفيعي لينحدروا وغلت الأسعار فتشاءم الناس بتلك الأيام، وقالوا: كان الرخص مع البريدي. وخلع على الحسن ابن عبد الله وطوق وسور بسوارين وسمي ناصر الدولة. وخلع على أخيه أبي الحسن وعمل به مثل ذلك، ولقب سيف الدولة وقرئت الكتب وأنشئت بذلك. وصرف الحسن بدراً الخرشي وولى أبا بكر أحمد بن خاقان الحجبة وقد ذكرنا ذلك، وخرج أبو الحسين البريدي يريد بغداد، وخرج توزون في مقدمة السلطان ووقعت الحرب لليلة خلت من ذي الحجة بموضع يعرف بالجال أسفل المدائن، فانكشف جيش البريدي وكان سبب ذلك انهزام الترجمان وأسر جماعة أحدهم يانس وقد ذكرنا هذا. وشهر ناصر الدولة أسر البريديين في الجانب الغربي يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الجمعة، وصلى بجامع المدينة. وجرت بينه وبين الصيارف بمدينة السلام خطوب كثيرة في عيار الدنانير، حتى عمل عيار كالسندي أو مقارباً له، وزاد في سكة الدينار - عند ذكره محمد رسول الله - صلى الله عليه، كأنه زاد صلى الله عليه، والوفاء زيادة حسنة جميلة وفضيلة له في الدنيا والآخرة. وولى ناصر الدولة عيسى جال وكان في المستأمنة ميفارقين. ووافى سيف الدولة واسط، فأراد قوم من الديالمة أن يفتكوا به فظفر بهم فوجههم إلى بغداد في زورقين، فقتل بعضهم ممن أقر وحبس من لم يقر وسقطت خضراء مدينة المنصور في جمادي الآخرة فاغتم لذلك ولد العباس، وحدثني جماعة من التمارين أن ناصر الدولة خاطبهم فقال ما أعوض للضريبة على شيء سوى التمر، وبارك الله لكم في كل شيء غيره يعني ضريبة ما حصل ببغداد قالوا فقال له رجل إلى جانبه ونحن نسمع: والدبس فقال والدبس، فقال له والبسر فقال والبسر. وقال الذي أومأوا إليه أشرت بثلاثة ألوان فما قبلت مني: أشرت بأن يبادر الخليفة عند موت بجكم إلى واسط، وينفذ الجيوش إلى البصرة فلم يقبل، وأشرت بالقبض على تكينك وأخذ ماله وهو حم تام فلم يفعل. وأشرت بأن لا يوجه بابن شيرزاد إلى البريديين فإن ذهابه ينفعهم ويضرنا فلم يفعل، فجعلت على نفسي ألا أشير بشيء بعد هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ولما استوزر محمد بن أحمد الإسكافي في المرة الأولى استخلف الحسن ابن أحمد الماوردي على النظر في أمر العمال وعلى سائر الأعمال، وقلد أحمد ابن نصر البازيان أبا علي الرقام إلى ما كان قلده إياه أحمد بن علي الكوفي من ديوان المغرب، وأقر الباقين على حالهم، إلا أبا عبيد الله بن عبد الوهاب فإنه قلده الدواوين التي كانت إلى جماعة من خواصه لاستئثاره عنده، ثم قلدها الأوارجي كاتب محمد بن علي بن مقاتل. هذا جميع ما كان من الحوادث في سنة ثلاثين وثلاثمائة ونذكر الآن من مات فيها. مات أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي القاضي يوم الخميس لثمان ليال بقين من شهر ربيع الآخر ونودي على حضور جنازته في جانبي بغداد، وما كان بقي على الأرض محدث أسند منه، مع صدقه وثقته وستره رحمه الله. ومات في صفر جعفر الدقاق لسبع خلون منه وكان حافظاً للحديث فسبحان من بعد في الستر والصدق بين الاثنين. وتوفي العباس بن المقتدر بالله يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادي الآخرة. ومات أبو بكر الشافعي الفقيه صاحب علي بن عيسى يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول. ومات علي بن محمد بن عبيد الله الحافظ لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، وكان قد سمع حديثاً كثيراً، وكان مولده سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وقد ذكرنا قتل ابن رايق، وورد الخبر بأن يانساً المؤنسي وعلي بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 خلف بن طياب قاتلا ابن مقاتل الصغير، المكنى أبا الحسن فقتلاه. انقضت سنة ثلاثين وثلاثمائة بأحداثها ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة اشتد فيها ناصر الدولة على الذعار لعيثهم وإفسادهم فكحل وقتل وعاقب فاستوى البلد قليلاً. وأنفذ أحمد بن علي الكوفي للعمارة والنظر في مصالحها وليوافيه على المال المفرق على الجند. وقدم المرسوم بأنه سابق الحاج لثمان ليال خلون من المحرم وأخبر بأن بني هلال بن عامر بن صعصعة وقفوا بالحاج، فقتلوهم ونهبوهم. ودخل الحسن بن بويه الرى، وهزم ابن محتاج صاحب ابن إسماعيل بن أحمد. وفي المحرم من هذه السنة ضرب ناصر الدولة دنانير بعيار اختاره لم يضرب قط مثله إلا السندي بن علي. وكان الناس يكتبون على الدينار لا إله إلا الله من جانب محمد رسول الله من الجانب الآخر، ويذكرون بعده نعت الخليفة فزاد ناصر الدولة في السكة - بعد محمد رسول الله - صلى الله عليه، فكانت هذه عندي أجل منقبة لآل حمدان ما كان لهم مثلها تفرد بها ناصر الدولة. وبلغه مع ذلك أن الصيارف يربون رباء ظاهراً، فأحضرهم وحذرهم وأحلفهم، فتحسن قبيح أمرهم قليلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وخلع على أبي عبد الله الحسين بن سعيد حمدان لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم، وولى أرمينية وآذربيجان وعقد له لواء. وصاح المسجنون بناصر الدولة واستغاثوا إليه من الضر والجوع والسجن، إلى جانب داره. فتأذى بهم وجلس لهم جلوس غضبان فأطلق وقتل وقطع وكحل، وكل هذا من الإجراء عليهم، فأخلى السجون فلم يترك فيها أحداً. وخلع في أول صفر على العباس بن شقيق رسول نصر بن أحمد أخي إسماعيل وعقد لصاحبه لواء، فحمله غير منشور، ودفع إليه سيف وخلع سرية لصاحبه، وقد كانت لابن شقيق هذا خطوب من اتهام أبي عبد الله البريدي له وكتابه من واسط إلى أخيه ببغداد، أن يحذره فزعم العباس لما أفلت ورجع أنه أراد قتله، فمنعه وجود الأتراك من ذلك وأنه أخذ أكثر ما كان اشتراه لصاحبه من فاخر الثياب والفرش وغير ذلك، واحتج عليه بالإضافة والحاجة إلى مثل هذا. ثم إن ابن شقيق جد في الخروج إلى صاحبه، وقد كان ورد عليه الخبر بموته فاحتال أن كتب كتباً ونصب نبوخاً ببطلان موت صاحبه، خوفاً أن يعطف السلطان على ما بقي معه وما استنفده بعد فيأخذه، فخرج عن بغداد وتبعه ناس كثيرون، فاله ثلج في الطريق بقرب همذان، فمات أكثر الناس وذهبت أمتعتهم، وكان ابن شقيق أسوأهم حالاً. وورد الخبر بغلبة الروم على أرزن وميافارقين، ومجيئهم إلى دارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وسبيهم الرجال والنساء، فعظم ذلك على الناس. وقصد ناصر الدولة المولدين من المرتزقة فأسقط أرزاقهم، ووفر المال على المقيمين بواسط لحرب البريديين، وأخرج كاتبه النصراني المعروف بسهلون إلى ابن طغج في صفر بهدايا كثيرة، وطلب مال للسلطان فخرج إلى هيت وركب البرية إلى دمشق، ومعه خلق عظيم فهلك أكثرهم ونهب ما كان معهم. وغلب البريديون على نواحي الجامدة، لخلاف وقع بين سيف الدولة، وبين توزون التركي. وصار أحمد بن بويه أبو الحسن الديلمي إلى دجلة البصرة، فأقام حيال نهر معقل يحارب البريديين، فوردت كتبهم على ناصر الدولة يسألون الصلح وأن يولوا ويقاطعوا على مال يحملونه، فلم يجابوا. وورد كتاب الديلمي يسأل مثل ذلك فأجيب إليه وأنفذت الكتب جوابات كتبه، وخلع طمعاً في أن يزيل أمر البريديين، واتصلت الحرب بينهم إلى أن استأمن إلى البريديين قائد للديلمي فحمل البريديون بين يديه مالاً عظيماً وأعطوه من الثياب والطيب وسائر ما يعطاه مثله. ما عظم وشاع ذلك واستعظم إلى أن خاف ابن بويه أن يستأمن من رؤساء عسكره، لما اتصل بهم من الخبر بما عمل بالمستأمن، فرحل راجعاً إلى الأهواز. وتحدث الناس بأن القرمطي الهجري ولد له مولود فأهدى إليه أبو عبد الله البريدي هدايا عظيمة فاخرة فيها مهد ذهب مرصع بالجواهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وزوج الخليفة المتقي ابنه أبا منصور بابنة ناصر الدولة في شهر ربيع الأول. ووقع الإملاك في يوم سبت، ووكل ناصر الدولة، أبا عبد الله بن أبي موسى العباسي في قبول ذلك عليه والقيام به عنه وجعل الصداق خمسمائة ألف درهم، وجعل النحلة مائة ألف دينار. وصاعد ابن الخليفة بعد الأملاك إلى ناصر الدولة إلى داره بباب خراسان فنثرت عليه بدرتا دنانير التقطها من كان معه وأصحاب ناصر الدولة، وتغدى عنده في اليوم الثالث جماعة من قواده وتجاره فرأيت الناس كالمجتمعين على أنه كان طعاماً ناقصاً عن المقدار، مقصر الشرط والكمال والآلة. وكثرت المتلصصة ببغداد وكبست دور المياسير، وخرج الناس عن بغداد هاربين إلى كل وجه، على انسداد طرقهم، ولو أمنوا لخرج أضعاف من خرج. وراسل أبو الحسين علي بن محمد بن مقلة ناصر الدولة، في أن يستوزره وضمن مالاً عظيماً، على أن يطلق يده على الناس، وأسمى قوماً منهم سلامة أخو نجاح وعبد الله بن علي النفري الكاتب، والقاضي ابن الأشناني، وأبو العباس الأصهباني، وابن بلال الدقاق حتى أتت التسمية على سبعين نفساً فيما يقال، فأجيب إلى ذلك مع ما ضمنه من مال أبي إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي وأصحابه. ثم أخر ناصر الدولة أمر ابن مقلة واستوزر أبا العباس أحمد بن عبد الله الأصهباني، وهذا برأي أحمد بن علي الكوفي، فلم يكن له في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الوزارة إلا التسمية والكوفي ينظر في الأعمال والأموال، فكان على ذلك إلى أن هرب ناصر الدولة فصرفه المتقي لله صرفاً جميلاً، وأقره على ما كان في يده ن تدبير أمر ضياع والدته وضياعه، واستوزر أبا الحسين بن مقلة، وخلع عليه في شهر رمضان بعد خروج ناصر الدولة لولا أن ناصر الدولة لم يخرج، حتى نكب سلامة الحاجب وابن الأشناني القاضي وابن بلوا المعطى، وعذبه عذاباً شديداً ما سمع بمثله وذكر جماعة وسن من الضرائب على الناس ما لم يسمع بمثله. وأتى قبل ذلك على التمارين بأخذ أموالهم، فحدثني جماعة منهم قالوا دخلنا عليه هو بالقرب من مضربه، فقال لنا ما آخذ ضريبة إلا من التمر وأنتم أعلم وما لكم بعده، فسررنا بذلك قليلاً، فالتفت إليه بعض من يدبر أمره، فقال والدبس فقال والدبس، فقال له والبسر فقال والبسر، فأتى بقوله هذا علينا. وضيق ناصر الدولة على المتقي لله في نفقاته، وعلى أهل داره وانتزع ضياعه وضياع والدته فجعلها في جملته، واقتصر به على أجزاء يسيرة. وخاطب أبا الحسن بن أبي عمرو الشرابي في أمر السكنجبين بخطاب شهره الناس وتحاكوه، وقال إنما يكفي دار الخليفة خماسية سكنجين في كل يوم، ولأطالبنك بمال ما كنت تأخذه. وتحدث الناس من فعله هذا وصنعه بالخليفة، ما كثر به الشاكي له والداعي عليه، وتمنى الناس بني البريدي وغيرهم، مع ما نالهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الضر والضرائب والغلاء ونكبات الناس، وأخذ أموالهم. وشكى مع ذلك أن أمر الرفض قد علن ببغداد، فنادى مناد في جانبي بغداد عن السلطان ببراءة الذمة ممن سمع بذكر أحد من الصحابة بسوء. وأراد غلام من غلمان ناصر الدولة أن يسمه ففطن له، وزعموا أن سبب ذلك فاتك حاجب ابن رائق كان محبوساً في دار ناصر الدولة، وكان يعرف هذا الغلام فواطأه على ذلك وضمن له مالاً. وغلت الأسعار في جمادي الآخرة غلاء عظيماً، ومات الناس جوعاً ووقع فيهم الوباء، فكانوا يبقون على الطريق أياماً لا يدفنون حتى أكلت الكلاب بعضهم. وأنفذ ناصر الدولة حاجبه يرفع مدداً لأخيه على سيف الدولة ليمضي إلى الجامدة، وحدر معه أحمد بن علي الكوفي واتهم ابن جعفر الخياط بأنه كاتب البريديين فقبض عليه ناصر الدولة وأقطع الخليفة ضياعه فاستبشع أن يكون هو المقطع للخليفة، وأن يدون الكتب بذلك. وخرج الناس إلى المصلى يوم الاثنين مع الإمام ابن عبد العزيز الهاشمي. فدعوا الله وسألوه أن يكشف البلاء والضر عنهم. وفي جمادي هرب جماعة من رؤساء الديلم والبربر من بغداد إلى البريدي، فلم يتبعهم ناصر الدولة بطلب، وقال من اختار المقام معنا وإلا فليمض مضياً ظاهراً فما أحد يتبعه. وورد الخبر بقبول علي بن بويه خلع السلطان بفارس، ولبسه لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وإحضاره القضاة والعدول ليشهدوا ذلك ويكتبوا به. وصحت الأخبار بموت نصر بن أحمد خراسان وأن ابنه نوح ابن نصر قام مقامه بعد أن تنازع هو وأخوه إسماعيل عند الاياس من أبيهما أمر الامرة فأفاق أبوهما، فأمر بقتل ابنه إسماعيل وأن يجدد البيعة لنوح، وأوصى أن يجلس في الثغور لقتال الأتراك ألف دابة من دوابه، وأعتق ألف غلام. وأرجف الناس بأن ابن طغج وافى دمشق لينفذ جيشاً لأخذ الموصل فكتب إليه السلطان في الرجوع إلى مصر فرجع. ووقعت منازعة بين الطالبيين والعباسيين في رجل طالبي زعموا أن أصحاب ابن عبد العزيز قتلوه، فجرت فيه خطوب ثم سكن الأمر وذلك في رجب. وكثر الجراد في هذا الوقت فصاده الناس، وانتفع الضعفاء بأكله وصيده، وكان نعمة من نعم الله جل وعلا. ووافى رسل صاحب خراسان إلى ناصر الدولة فحجبهم أياماً، ثم أدخلهم وقال لهم صاحبكم في يده نصف الدنيا، ينال السلطان ما ناله فلا يسعفه بمال ولا ينجده بجيش، ولم يروا عنده ما يحبون، ثم أجابهم بجواب جميل وصرفهم، وغلت الأسعار وعز كل شيء من سائر الأطعمة والملبوس. وقبض على أبي إسحاق القراريطي في رجب وعلى كاتبه ابن جبرويه وعلى خليفته أبي محمد الحسين بن أحمد المادراني وتولى مناظرتهم أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ابن علي الكوفي وابن مقاتل بميل وحقد، وكان الكوفي عقد على المادراني كلاماً كلمه قبل هذا بمديدة بحضرة أبي إسحاق قال فيه ما شهره الناس من وضع منه وإزراء عليه، فصح عند ناصر الدولة إن المادراني ما ظلم أحداً قط في معاملة، ولا ارتفق من عمل ولا عامل فانصرف إلى بيته موقوراً بعد توكيل ومناظرة ومطالبة. وقد ذكرنا أنه خلع على أحمد بن عبد الله الأصهباني للوزارة برأي الكوفي، لأنه كان مستتراً عنده، وأرزق مائتي دينار في الشهر، وكانت الخلع عليه يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب. وأغرى ابن مقاتل العمال بالناس، فأجروا معهم كل ظلم، وأراد فتح الخراج قبل وقته فضج الناس. فنودي بتأخير الافتتاح إلى النوروز المعتضدى ورفع الجور وإزالة الظلم فتنفس الناس قليلاً وما وقع وفاء بذلك. وكان ناصر الدولة يحمل في كل شهرين خمسمائة ألف دينار لاستحقاق من بواسط، وكان يضجره ذلك فيتكلم ويضج، وعقد عليه بما يتكلم به، إلى أن تحدث الناس أن يرصد بحيلة توقع عليه، فيا ليت ما كان يضر من تبرم رجل يحمل في كل شهرين هذا المال الجليل، ما الذي أريد منه حتى أو حشوه فخرج؟ وكان من أول ذلك أن المتقي لله ما أحب القبض على وزيره أبي إسحاق ولا أراده، فأرضوه بأن أقاموا مكانه كاتبه على ضياعه أبا العباس الأصبهاني، وأنفذ سيف الدولة من واسط في هذا الوقت جماعة من الديلم إلى بغداد، كان اتهمهم وخافهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وتواترت الأخبار باضطراب الأتراك على سيف الدولة وترك بعضهم الركوب إليه على فرط إحسانه إليهم. وإعطائه إياهم جميع ما يملكه من مال ودواب وثياب. ولم يناصح الأتراك في حرب البريديين، ولا أعانوا الديلمي عليهم حين جاء إلى فرات البصرة فأقام حيال نهر معقل. وضج الحشم إلى ناصر الدولة القبض على أبي إسحاق القراريطي، وأعلموه أنه لن يطلق لهم شيئاً، فقال قد أطلقت لكم ثلث رزق، وأحضر أبا إسحاق واشتد عليه في القول، فأحضره أبو إسحاق رقاعاً بخط المتقي لله بأنه قبض المال منه وأعطى من أراد اليسير منه واستبد بالباقي. فقال ناصر الدولة كيف اصنع أنا، أطلق مثل هذه الأموال الجليلة تحمل على نفسي، ومالي وظلم الناس، وهذا يهجنه ويقبح فعلي، ويغري بي حشمه وجنده. ووافق هذا ورود كتاب أخيه عليه بأن البريديين دخلوا الجامدة وأن الأتراك نهبوا جميع ما كان له من ذخيرة وسلاح ودواب، وما كان ذخره منذ أيام أبيه، وأنهم طلبوه فهرب في نحو مائتين من أصحابه إلى أن تلاحقوا به وأفلت، فغضب من ذلك وأمر من وقته فصوعد بالسفن التي فيها خزائنه. وقال لا أقمت ببغداد، فضج الناس من ذلك واجتمعوا إليه وسألوه ألا يباعد إلى الموصل فيضيع البلد فضمن لهم ألا يصاعد، وقال لحقتني ضجرة. وكان وجه في شعبان فطلب من الخليفة مالاً، وقال إنه يأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 مما أطلقه لحشمه وغلمانه، فيجمعه إلى ما يستفضله من نفقاته وغلاته، فما وجه إليه بشيء، فاستوحش كل واحد منهما من صاحبه. وطولب الناس بأداء الخراج في شعبان، ولم ينتظر بهم النوروز المعتضدى. وورد على ناصر الدولة دخول عدل حاجب بجكم نصيبين واستيلاؤه على الرحبة وأعمالها، فشغل ذلك قبله. وورد كتاب ياروخ بهزيمته البريديين وإخراجهم عن الجامدة. وضج الأشراف الغلوية من عاملهم أبي علي الحسن بن هارون الهمذاني على الكوفة وخاصة عمر بن يحيى وهو الرجل الفاضل المنتفع به الناس بماله وجاهه والناصب نفسه لهم حتى يحج بهم، ولولاه ما تم حج فعزل الحسن بن هارون، وولى المعروف بأبي بكر عبد الله بن عبيد الله البرجمالي. وكتب ناصر الدولة إلى ابن عمه أبي عبد الله الحسين بن سعيد يأمره بالاحتيال على عدل وقصده، فكبسه وأسره وابناً له وأنفذه إلى بغداد، فكحل وشهر على جمل في يوم الخميس لأربع بقين من شعبان، وألبس برنساً وابنه على جمل بين يديه على برنس، وكان في الموكب خلفه الوزير أبو العباس الأصبهاني والقاضي ابن الخرقي يتسايران. وكان يانس غلام البريدي في يد ناصر الدولة فتكاتبوا في أن يوجه به إليه، ويوجه البريدي بعيال توزون وابنه، وأن يقوم بذلك أبو علي عمر بن يحيى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ووجه ناصر الدولة بأحمد بن علي الكوفي إلى واسط. ومعه من الاستحقاق أربعمائة ألف دينار فوجد الأتراك قد شغبوا، فرجع والمال معه، حتى عاد إلى ناصر الدولة، فدخل به بغداد أول يوم من شهر رمضان. وصرف أبو إسحاق القراريطي إلى منزله في آخر شعبان بعد أدائه أكثر ما فورق عليه. وضرب لناصر الدولة مضرب بباب الشماسية، واصطنع عيسى جال الديلمي فزاد في رزقه ألف دينار ووصله بألفي دينار. وزاد الفارس من أصحابه عشرة دنانير في رزقه، وزاد الراجل ديناراً. وعزم ناصر الدولة على الرحيل إلى الموصل فوجه إليه الخليفة أن يتوقف عليه ليصاعد معه، فكره ذلك وركب إليه الخليفة في يوم الخميس، فنزل إليه ناصر الدولة إلى دجلة حتى تلقاه وصعد معه إلى داره وقال له تتوقف يوماً على أو يومين فكأنه علق القول وانصرف. وأصبح الناس في يوم الجمعة لأيام خلت من شهر رمضان، وقد صاعد ناصر الدولة وقطع الجسر، وسار من الجانب الغربي، وتبعه جميع من كان في الجانب الغربي من أصحابه، ونفر ممن كان من أصحابه في الجانب الشرقي، فمضى بعضهم إلى سر من رأى، ورجع الترجمان وجماعة من الأتراك مع أخي ابن إسماعيل بن أحمد إلى الدار، وأرجف الناس أن الخليفة راسل الترجمان في القبض على ناصر الدولة والمجيء به الدار، فأمكنه غير مرة فلم يمكنه لأنه جاهل جبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وصعب على التجار خروج ناصر الدولة عن بغداد، ووافى سيف الدولة إلى المداين، ثم صار إلى بغداد فنزل في الجانب عند باب قطربل ووده إليه المتقي لله بثياب وطيب ودراهم لنفقته. وطالب الوزير ابن مقلة بأن يحمل إليه مالاً فكان يجمع ما قدر عليه فلما اجتمع حمله إليه ليعطي أصحابه واستوحش السلطان منه ثم رحل إلى القفس ولحق به إبراهيم بن أحمد الخراساني في نفر من أصحاب أخيه ببغداد. وورد الخبر عليه بأن أخاه ناصر الدولة وصل إلى الموصل سالماً فلحق به لا يلوي على شيء، فقيل إن جملة ما صار إليه من المال أربعمائة ألف درهم. ودخل الأمير يومئذ توزون بغداد في يوم الخميس لست بقين من شهر رمضان، وتلقاه أهل الدولة فدخل إلى الخليفة فسلم عليه ونزل الدار المعروفة بمؤنس وتأذى الناس بنزول الأتراك عليهم. ثم كان يوم الأربعاء فقبض توزون على كاتبه سعيد بن داود المسيحي وعلى أخيه فهد وابن خالته، فطالبهم بالأموال بضرب مبرح، وكان الترجمان حمله على ذلك واستكتب محمد بن القاسم. وخلع السلطان في يوم الاثنين لست خلون من شوال على الأمير توزون وصيره أمير الأمراء وأمر بتكنبته. وحرص توزون بالمتقي لله أن يتركه يصالح البريديين على مال يحملونه ويفرغه لابن حمدان فأبى عليه، وكان البريديون قد صاروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 إلى واسط فوجه بخمسمائة غلام في الظهر والماء إلى واسط. وقبض على ابن العزيز الهاشمي وجماعة من التجار والعدول وطولبوا بمال. وحدر الأمير توزون تكين الشيرزاذي إلى واسط، ووافى أبو دلف سيما الساجي إلى بغداد، وهو صاحب القرمطي الهجري ليأخذ مال الموافقة التي فورق القرامط عليها. وكبس أهل القطيعة في أول ذي القعدة فأخذ منهم عشرون كراً دقيقاً وأحيلوا بثمنه على الترجمان في أول ذي القعدة، ثم مضى جماعة من أصحاب توزون إلى القطيعة ليأخذوا دقيقاً كما كانوا أخذوا، فوثب بهم العامة وقتلوا نفسين وغلا السعر بهذا السبب، ودخل الحاج من خراسان وخرجوا مع ابن حاتم. وانحدر الأمير توزون إلى واسط وهرب البريديون، ونودي ببغداد من أراد الخروج إلى واسط فليخرج. وقبض المتقي على رجل يعرف بابن المطلب من أهل باب الطاق وحمله إلى داره وقيده وحبسه وقال له أنت رئيس الرافضة، ثم لم يتركه بعض خدمه حتى قتله من غير حجة تقوم عليه، ونفذ ابن أبي موسى الهاشمي في يوم الاثنين لست بقين من ذي القعدة برسالة السلطان إلى ناصر الدولة، ومعه تكين الماكاني وخادم من خدم الخليفة. واتصل قطع رجل يعرف بابن جمدي على السميريات النافذة إلى واسط والمصاعدة منها، وصار إليه من ذلك مال عظيم وأمتعة لها مقدار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وفي ذي القعدة أقبل يوسف بن وجيه صاحب عمان من عمان، ومعه مراكب كثيرة فيها عدة وعديد، لتغليظ البريديين الضرائب على ما يحمل من البحر، فلقي البريدي في دجلة البصرة بقرب الأبلة، فهزمهم أول يوم ثم احتالوا بنار حملت في زيازب وجعلت في زجاج ورموا مراكبهم بها فانهزم وقتل خلق من أصحابه، وأسر بعض وأحرقت له ستة مراكب، وكانت هزيمتهم له في أول يوم من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وصرف الكرخي عن كتبة الأمير توزون واستكتب أبو إسحاق القراريطي ابن أبي الترجمان، وظفر بجماعة من أصحاب ابن جمدي فقتلوا وصلبوا. ودخل أخو الأمير توزون إلى تكريت ومعه جيشه فدخلها لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فنهبها ونهب زواريق كانت بها، فيها أمتعة التجار، وذبحوا بها من البقر والغنم نحو ألفين، ونهب الناس في سائر طرقهم إلى تكريت. وعزت الفاكهة ببغداد لأنهم أخذوها ظاهراً وباطناً وأجلوا أهل القرى. وركب الخليفة في يوم السبت، لتسع بقين من ذي الحجة الظهر إلى باب الشماسية ورجع في الماء فدعا الناس له. ووافى صافي غلام الأمير توزون يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي الحجة بغداد من واسط فقبض على أبي إسحق القراريطي، وأخبر أن أبا جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد وافى واسط في زبازب كثيرة، كالهارب من يد البريديين لما اشتغلوا بمحاربة ابن وجيه، وأسرع السير فوجهوا في طلبه، فلحق واستكتب للأمير توزون، فاشتد ذلك على السلطان فأغروه بالقول فيه، فكاتبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 في صرفه فلم يقبل. ومن عجيب الأخبار، وما يستدل به على علو همة الأمير توزون أن أبا جعفر اختار له كاتباً، وأبو جعفر إذ ذاك يكتب لبجكم، فكأنه لم يرضه فقال له أبو جعفر أنا كاتبك فقال له وأنت تكتب لي ولكن ليس على هذه الجهة، ولا الآن! وتوفي في هذه السنة في غرة ذي القعدة منها سنان بن ثابت المتطبب وكان متقدماً في الطب وفي علوم أخر كثيرة. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة كان أول المحرم يوم الاثنين قعد فيه كازاذ كاتب أبي جعفر، وظهر أبو الحسن بن شيرزاد. وخرج أبو بكر محمد بن جعفر النقيب وصيغون المرداويجي في جماعة من أصحابهما إلى ناصر الدولة إلى الموصل، وانحدر صافي مع جماعة من الأتراك والديلم إلى واسط. وورد الخلنجي السابق بسلامة الحاج قدام الحج لسبع خلون من المحرم. وفي يوم أخذ سبعة من أصحاب ابن جمدى فضربوا وطيف بهم وقتلوا وصلبوا في الجسر، وقتل أيضاً رجل يعرف ببرغوث كان يقطع بناحية المزرقة. ووجه الترجمان وهو محمد بن ينال، وكان يلي الشرطة ببغداد والأمر كله له إلى الحسين العلوي الديلمي، فقبض عليه لأنه بلغه أنه يريد الفرار إلى ناصر الدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ووافى اسكورج الديلمي بغداد يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم وهو أكبر قوادهم، وقلده الأمير عمل سر من رأى وعكبرى وأمره أن يكون بسر من رأى، فإن جاء أحد من ناحية ابن حمدان حاربه، والأمير توزون مقيم على أرز بالجامدة ليستنطقه. ووافى من عسكر البريديين إلى الأمير توزون في الأمان أبو المهدي البربري فأنفذه إلى بغداد، وأغارت خيل الروم على نواحي نصيبين، واستغاثوا بناصر الدولة فلم يغثهم، لأنه كان قد جرب خيانته مع ابن عمه أبي عبد الله ليصيروا إلى بغداد ليخرج الخليفة معهم. ووافى أبو جعفر محمد بن يحيى ابن شيرزاد بغداد لأربع بقين من المحرم فجلس في داره وجاءه الناس، وهو كاتب الأمير توزون فاستأمن بعض أصحاب اسكورج وصافى إلى واسط وأبو المهدي، وأبو طالب أخو المظفر بن حمدان الميدمان، وإبراهيم أخو الأمير توزون. واستتر أصحاب أبي جعفر بن شيرزاد، ووافى الحسين بن أبي العلاء بن حمدان في صفر، فنزل حيال الشماسية ومع أبي العلاء هذا عيسى جال الديلمي وأبو وائل ويروخ الناصري، فوجه إليه المتقي لله أن يدخل بغداد ليخرج معه فقال لم أومر بهذا، واستوحش وقال إن خرج إليّ أمير المؤمنين اليوم وإلا رجعت. وأشير على المتقي ألا يخرج عن بغداد فما تركه الترجمان، وكان قد استوحش من الأمير توزون لأشياء اختانها وتعدى فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 ولقد حدثني بعض الخدم أن بعض الرؤساء المتقي لله يا سيدي خروجك إلى ابن حمدان أشد على توزون من ضرب عنقه، وفي خروجك انحلال أمره وأعظم المكيدة له. ولا والله ما نصحوه وإنما خافوا على أنفسهم من توزون، فخوفوا الخليفة منه ولو كان معه من ذوي نصحه من كان يعرف حقيقة الرأي ما تركه يخرج. وذلك أن توزون ما خالفه في شيء أراده، وما زال ساعياً في مراده ومحبوبه، كان أمره جارياً مع البريدي ببغداد على أفضل إرادته فلأجل الخليفة ما احتال في أخذ البريدي، فلم يمكنه ذلك لخذلان قوم كانوا وعدوه أن يكونوا معه، فحارب ليله ونهاره ثم صار إلى سر من رأى وكتب إلى الموصل يشير بالانحدار إليه وأنه يتضمن حرب القوم فما فعلوا، حتى خرج إليهم فحشرهم وأنهضهم، وقد كان أشار بمصالحة البريدي، وأخذ أموال منه، ثم يكون بعد ذلك على رأس أمره، فأبى الخليفة عليه، فاتبع أمره وانحدر وكان كاتبه في الحيلة على بني حمدان، فأخرج سيف الدولة عن واسط فما الذي أوجب أن يستوحش منه؟. ولقد صرت إلى القاضي أبي الحسين، فقلت له إن هذا الخليفة ما يجالسنا، وزعم أنه لا يريد جليساً، يخالف الناس جميعاً في هذا إلى عصره، وليس له رزق على، ولكن نصحه واجب، وهو يقبل رأيك فاتق الله ولا تدعه يخرج، فإنه إن خرج لم يعد وخربت بغداد، وأضر بالعامة، فتضمن لي ذلك. وما ظننت أن أحداً فعل هذا معه غيري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 حتى حدثني القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى أنه صار إليه فأشار عليه بمثل مشورتي فأبى الله عز وجل إلا ما أراد. ولقد حدثني بعض الخدم ممن أثق به أن المتقي لله اضطرب من الخروج، فقال له الترجمان ومساعدوه على هذا الرأي: إنا قد تحدثنا بالقبض عليك فامتنعنا من ذلك، وأشرنا بالخروج عليك، وقد كشفنا الأمر لك. فلما سمع هذا خرج غداة يوم الخميس وركب على الظهر، ووافى الشماسية، وخرج معه وزيره علي بن محمد بن مقلة والحاجب أحمد بن خاقان ولؤلؤ صاحب الشرطة وأبو جعفر الخياط، وتبعه حاشية الدار وجماعة من وجوه البلد. وجلس المتقي لله في الخراقة، وتلاحق به من بقي من حاشيته وخرج معه قاضيه وأسبابه، وجاء ابن أبي العلاء وجميع من معه فقبلوا يده وعرفوه سرور ناصر الدولة بمصيره إليه. وركب الترجمان يوم الجمعة من الجانب الغربي بمطارد مذهبة ومعه أصحابه، وأودع جميع ما كان له قبل خروجه أياماً متوالية، حتى أودع أصناف النبيذ فوجد بعد ذلك فما بقي الله منه شيئاً. وصلى صاحب الصلاة بالناس في المعسكر يوم الجمعة لثلاث خلون من صفر، ومدت خراقات الخليفة بعد الصلاة ودخل الناس معه، وخلت بغداد واستوحش أهلها. وكتب الخليفة إلى صاحب الشرقية أحمد بن جعفر الزطي بكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 يأمره أن ينادي بما فيه فنادى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بالنداء ببراءة الذمة ممن فتح من العمال والمتصرفين شيئاً من الدواوين، أو نظر في الأعمال أو طالب بخراج أو تصرف في عمل من الأعمال السلطانية بعد شخوص أمير المؤمنين، فقد أحل بنفسه العقوبة الموجعة وهجم داره وإباحة ماله، فقد أحب أمير المؤمنين ترقية رعيته، والاحتياط لهم، وترك إعناتهم فليحذر المخالفون لذلك، وليلحق بأمير المؤمنين سائر عماله وأوليائه، ولا يتأخروا عن معسكره، وليبلغ سامع هذا النداء الغائب عنه فنودي من جانبي بغداد. ولم يدع المتقي لله بعض خدمه حتى ضرب يوم الجمعة قبل الصلاة عنق ابن المطلب، المتهم بالرفض، وكان ناصر الدولة وأسبابه يعنون به ورمى بجسمه في أزقة الشماسية فبكر الناس يوم السبت، فأخذوه وغسلوه وكفنوه بعد أن صلى عليه بمسجد براثا ودفن هناك. وضبط صاحب الشرقية عمله ضبطاً حسناً، وكذلك العروضي وهو إبراهيم بن شيخون وكان إليه الجانب الشرقي. ووافى من عسكر توزون بغداد جماعة فلحقوا بالخليفة، ووافى بغداد يوم الثلاثاء بشرى حاجب توزون واسكورج، وصاروا إلى دار أبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد، وظهر في داره فأمر ونهى وولى، وما التفت الناس إلى شيء مما أمر الخليفة بالنداء به. وكان الأمير وجه من واسط بالميدمان بن حمدان البريدي في جيش كثيف إلى ناحية المذار، فهزمه أصحاب البريدي، فوافى نحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 واسط منهزماً، وصلى الناس بسر من رأى يوم الجمعة في معسكره. ووافى بغداد ينال البكراني وتكيز الشيرزادي وأخو الأمير توزون، وجماعة من القواد فنزلوا باب الشماسية ومعهم طياراتهم وزبازبهم. ونزل السلطان تكريت ونفذ الترجمان ولؤلؤ وابن الخياط إلى الموصل على طريق البرية، لأخذ أرزاقهم وحدره إلى تكريت لمحاربة توزون، وكثرت الكبسات ببغداد في الليل دور المياسر. ووافى عكبرى ابن بلال من قواد ابن حمدان فكبس عكبرى وبها أصحاب اسكورج فقتل جماعة منهم وانهزموا وأقاموا بنواحي عكبرى فوجه اسكورج بخيل فهزمت ابن بلال وملكوا عكبرى. وظهر ابن جمدى العيار، وكان حمالاً بنواحي سوق الحديد باب درب الشوك بحضرة المزملة ثم صار لصاً ببغداد، فولاه أبو جعفر بن شيرزاد طريق واسط، وخلع عليه، وطالب أبو جعفر بن شيرزاد التجار بأموال فاستتر أكثرهم. وورد الحاج في النصف من صفر شاكرين لأبي علي محمد بن يحيى العلوي لحفظه لهم ورفقه بهم، وكانوا حجوا والوقت ضيق عليهم فمات أكثرهم في الطريق، ولولا أن الله أغاثهم في مصعدهم بسحابة أرسلها، فمطرت حتى عاشوا بها وعاشت جمالهم ما بقي منهم أحد. وكان رسول الله ابن طغج قد وافى بهدايا إلى ناحية الانبار، فلما علم بأمر السلطان صار إلى تكريت، فأوصل الهدايا إلى المتقي لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وكبس الروم رأس عين، فأخذوا جميع ما كان فيها ونهبوها ووجدوا فيها قوافل مصعدة ومنحدرة، فيها أمتعة لا يدري قيمتها فأخذت كلها، ونال المسلمين ما لم ينلهم مثله قط، فلما أراد العدو الرحيل أحرق البلد، وفتحت الحوالى لسنة اثنتين في شهر ربيع الأول، فلحق أهل الذمة خبط عظيم وظلم قبيح. ووافى توزون بغداد فقدم جماعة من أصحابه إلى سر من رأى ووافى ملهم بن دينار الأسود المستأمن، وكان حاجب رافع القرمطي وانضم إلى ابن حمدان إلى حيال باب الشماسية فجعل يشتم توزون هو وأصحابه، فأمر توزون حينئذ بأن يصير إليه عسكر بخيمهم ومضاربهم إلى الجانب الغربي، ورجع ملهم إلى تكريت، ووافى الخبر لخمس بقين من شهر ربيع الأول بدخول البريدي واسط. ووقع على التجار ببغداد ظلم عظيم وخبط شديد، وتهارب الناس وخرج عن بغداد جماعة من مياسير اليهود والمجوس إلى الشام وكاتب توزون البريدي ووافقه على مال بعينه فوجه إليه البريدي بمال، ووافى جميع من كان من جيش توزون في طريق واسط إلى معسكره بباب الشماسية، وفر بعض غلمان توزون إلى تكريت فركب فلحق بعضهم فقتل من كان قبض رزقه وفر، ومنَّ على من لم يقبض رزقه. وانحدرت من عسكره زبازب إلى البريدي في الأمان من الديلم، وغلت الأسعار ببغداد وإمارة بغداد، من قبل أن يقدم توزون إلى هذا الوقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وأمر صافي غلامه وحاجبه، فوظف على أصحاب الشرطة أموالاً وأخذها. ووجه ابن فتان بمائة جمل إلى تكريت عليها هدايا أكثرها فاكهة للسلطان. ورحل توزون من معسكره إلى عكبرى يوم الثلاثاء لأيام بقين من شهر ربيع الآخر، وخلف بباب الشماسية أخاه وكيغلغ وارتمش في ثلاثمائة من الأتراك، ونودي ببغداد براءة الذمة ممن تخلف من الجند عن الأمير توزون، وأطلق دعلج العدل وهو من أجل الشهود لعشر بقين من شهر ربيع الآخر، بعد أن أدى مائة ألف درهم، وولى اسكورج إمارة بغداد. وواقع القرامطة أصحاب ناصر الدولة بجماعة من الأتراك، كانوا طلائع لتوزون بنواحي سر من رأى، وقتلوا قائداً لهم فحمل في تابوت إلى بغداد ودفن فيها. وعبر الأمير توزون من سر من رأى إلى جانب الغربي، ليكون مع ناصر الدولة على أرض واحدة، وكان ناصر الدولة لما وافى تكريت أعطى الناس أرزاقهم في شهر ربيع الآخر، وكان بتكريت نحو مائة وخمسين زورقاً فيها دقيق وحنطة وشعير وسقط وشحم وعسل وثياب وغير ذلك فأمنوا بناصر الدولة. ولما قبض الناس أرزاقهم تقدم سيف الدولة فعسكر أسفل تكريت على الإسحاقي وأنفذ ناصر الدولة أبا منصور عبد الواحد بن المتقي لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وحرمه إلى الموصل قبل الوقعة، وأراد إنفاذ المتقي معهم فكره ذلك واختار المقام مع ناصر الدولة، فأشفق عليه فقدمه إلى موضع يعرف بالأعمى فوق تكريت بستة فراسخ، وأقام ناصر الدولة فوق تكريت قليلاً بازاء الدير ووجه بقواده كلهم مع أخيه سيف الدولة منهم يروخ وعيسى جال والترجمان ولؤلؤ وأرسلان وإبراهيم بن أحمد بن أمير خراسان. فواقع سيف الدولة توزون، يوم الأربعاء لخمس بقين من شهر ربيع الآخر، ثم تحاجزوا، وقد وقعت بأسكورج ضربات. ولم يشك سيف الدولة أنه ظافر لأنه قاتل في يومه ذاك أشد قتال، فبكر على القتال يوم الخميس لأربع بقين من الشهر. وكان سيف الدولة كمن بين قشير ونمير، ليخرجوا إذا احتدت الحرب على أصحاب توزون، فلما علق بعض القوم ببعض عطفت قشير ونمير على سواد سيف الدولة فنهبوه، تعصباً زعموا للمضرية على الربعية، فظن سيف الدولة أن توزون كاده بذلك، وكمن كميناً خلفه ليتبعه إلى تكريت، فرجع إليهم فوجد أعرابه وكمينه قد نهبوا سواده، فأوقع بهم فطاروا بين يديه. وكان غلام سيف الدولة يمك التركي مما يلي دجلة في عدة، فمال عليهم توزون فهزمهم واقتطع نحو خمسمائة ديلمي، كانوا في الميسرة فاستأمنوا وأمرهم بطرح السلاح. وكان شغل سيف الدولة بالأعراب سبب الهزيمة، وتقطر بيمك التركي غلام سيف الدولة فرسه فأسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ووجه توزون بالديالم إلى بغداد في زواريق، بعد أن قيد جماعة منهم. وصار سيف الدولة إلى أعالي تكريت فوجد أخاه ناصر الدولة قد رحل وتلاحق به العسكر، فملك توزون تكريت ونزل بالدير الأعلى في المكان الذي كان فيه ناصر الدولة، ونهب أصحاب توزون تكريت حتى منعهم بنفسه ونهبوا زواريق شعير كانت لسيف الدولة وزواريق للتجار وحاز توزون أكثرها، وزواريق دقيق ففرقها على أصحابه وجمعهم، فقال لهم: أنا واحد منكم، وهذا الأمر أريده لكم. وامتنع أبو جعفر ابن شيرزاد من الجلوس للناس قبل الوقعة بيومين. فلما جاءه الخبر جلس، وأمر بالنداء بما فتح الله على الأمير، وأنه ورد كتابه يجتهد في أن يرخص الأسعار بمدينة السلام. ولما رحل ناصر الدولة إلى المنزل المعروف بالأعمى وجد الخليفة المتقي لله به، فرحله معه وأقام بالسن يوماً حتى تلاحق به أصحابه، ورحل إلى الجونية وقدم الخليفة قبله إلى الموصل، ثم لحق به وترك الجونية بعض غلمانه وبالسن طلائع له من القرامطة. ولحق سيف الدولة بنمير وقشير فقتل منهم مقتلة عظيمة واسترجع بعض ما كان أخذوه، ولما اجتمع الناس بالموصل أعطاهم ناصر الدولة رزقة كاملة وأمر المعطين، ألا يحتسبوا بها عليهم. وصار إليه جماعة من عسكر توزون فقبلهم، وخلع عليهم ونزلهم بما أرادوا. ولما عاث أصحاب توزون بتكريت ركب بنفسه فأخرجهم منها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فكثر شكرهم له ثم رجع عليهم الأموال. فكثر دعاؤهم عليه، فكان كما قال مسلم بن الوليد: وَلاَ غَرْوَ لَمْ تَدْرِكْكَ مِنَّي مَلاَمَةٌأَسَأْتَ بِنَا عَوْداً وَأَحْسَنْتَ بادِياً وكما قال رجل في صديق له كان أحسن الناس فعلاً مبتدءاً، وأقبحهم آخراً، فقال فيه: أَوَّلُهُ يُرْضِي وَلكِنَّهُ ... لاَ يُتْبِعِ الأَوَّلَ بِالآخرِ سبحان الله ما أعجب البركة والحظوظ؟ هذا أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد ما كتب لأحد قط إلا بلغ أعلى المراتب وأجل المنازل ما زال جد ابن الخال يعلو ما دام يكتب له، فلما تركه أدبر وانحل أمره، وكتب لبجكم فبلغه ما لم يبلغ أمير من المال والهيبة، وأصلح له قلوب أصحابه. وكتب لتوزون فبلغ به ما لم يظن الناس أن توزون يبلغه أبداً. ووافى اسكورج بغداد يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من جمادي الأول وهو أمير الشرطة. ووافى قبله خمسمائة من الديالم الأسرى في زواريق، فكان توزون قد رد أمرهم إليه. فحبس بعضاً وبقي بعضاً وأطلق بعضاً. ووافى إقبال الشيرزادي مع زواريق دقيق إلى بغداد، وبزواريق سقط فقيل هذا لابن حمدان وأخذ مستهلكاً. وغمز بخزانة لأبي الحسين علي بن محمد بن مقلة بناحية سوق العطش فوجه أبو جعفر بن شيرزاد بابن جمدى، فأخذ جميع ما فيها ونزل ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 جمدى داره بمربعة أبي عبد الله، وأخذ جميع ما كان فيها، وسفر في الصلح بين توزون وناصر الدولة على أن يرجع إلى داره ويحمل ابن حمدان إليه فضلاً مما كان على أن الإمارة تكون لعبد الواحد ابن المتقي لله، فكان ناصر الدولة أسرع الناس إجابة وأشهاهم لتمامه. فكره أخوه وأصحابه ذلك، وكرهه الخليفة. فقال لهم ناصر الدولة أنتم تهربون ولا تقفون، ومالكم عندي رزق إن عزمتم على القتال إلا بعد أن أعرف أمركم، وإلا فانصرفوا إلى حيث شئتم، فحلفوا له أنهم يجتهدون ولا يقصرون. وورد الخبر عل توزون أن ناصر الدولة، على أن يواقعه وقعة ثانية وكان توزون في وقت هرب الترجمان قد قبض على ختنه المعروف بحبة التركي وحبسه وكان شجاعاً، فتكلموا فيه وضمنه أبو عمران موسى بن سليمان اصبهلان، فأخرجه وخلع عليه ووصله وحمله على دواب كثيرة ووهب له بغالاً، وسفر أبو عبد الله محمد بن أبي موسى في الصلح وأحبه واجتهد فيه، وهو من الرجال الزمان ومن أهل الخير مع ذلك وكثرة الصدقة واصطناع المعروف، فتردد في الصلح وقرب الأمر على يده، ثم عارضه قوم فأفسدوا الأمر. وصح عزم الخليفة وناصر الدولة على محاربة توزون ثانية فصار سيف الدولة في الجيش كله إلى تكريت، لأيام خلت من رجب وبلغ توزون خبرهم، فشخص إليهم في عدته، فلما صافتهم الحرب استأمن ارتمش التركي، وهو من أجل قواده، وكان غلاماً لسيف الدولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 إلى سيف الدولة في جماعة من الأتراك فاضطرب عسكر توزون لذلك فخاف أن يهزم، فحمل عليهم في نحو ثلاثمائة غلام وحقق وحققوا معه، فما هابوا سيفاً ولا رمحاً حتى أزالوهم وهزموهم، فولوا هاربين وتبعهم ولم يوغل ولا أبعد، خوفاً على اضطراب باقي عسكره وسواده. وقد كان ناصر الدولة قال لأصحابه: إن انهزمتم فلا يريني أحد منكم وجهه فما قبلوا ذلك، وصاروا إلى الموصل وأصحابهم معهم. وظهر أبو جعفر، بعد أن كان استتر يوماً، وهنأه الناس بالفتح. ورأى توزون أن يمضي إلى الموصل، وكاتب الخليفة بأنه عبده ولا خلاف عليه منه، فما قبل ذلك فرحل الأمير توزون إلى الموصل لا يلوي على شيء، وبلغ الخليفة وابن حمدان ذلك، فرحل إلى نصيبين، وحوى توزون الموصل وما فيها من الأطعمة وعسكر خارجها على أن يقصد نصيبين، ويوقع بمن فيها، وكتب إلى ابن حمدان في إنفاذ الخليفة إليه فكره الخليفة أن يصير إليه بعد ما فعله فأسرع من نصيبين إلى الرقة في أصحابه الذين خرجوا من بغداد معه، ومعه من الكتاب وزيره علي بن محمد مقلة وأبو إسحاق القراريطي وأحمد بن عبد الله الأصهباني والحسن بن هارون وأبو محمد الحسن بن أحمد المادراني وعبد الجبار بن الحسن النفري كاتب دار السلطان مستنجداً بابن طغج وكتب بذلك إليه. وكتب الأمير توزون إلى أبي جعفر بن شيرزاد في اللحاق به فلحق به إلى الموصل واعتمد في خلافته ببغداد على أبي عبيد الله أحمد بن محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ابن عبد الوهاب، وعلى طازاذ بن عيسى النصراني، وكان رأى ناصر الدولة أن يرجع الخليفة إلى بغداد، ويفارق هو الأمير توزون على مال يحمله ويصرفه إلى بغداد، فخالفه المتقي لله، وخرج من أعماله معتمداً على ابن طغج أبي بكر الأخشيد. وكاتب ناصر الدولة الأمير توزون في الصلح، وعلم توزون أنه أشار على المتقي لله بما أراده توزون فلم يقبل المتقي منه ولا تركه بعض من كان معه يقبل ذلك. وسفر بين ناصر الدولة وبين توزون أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي وأبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي، ولما صار أبو جعفر إلى الموصل رأى أن الأموال الذي يحملها ابن حمدان أوفى مما يؤخذ من الموصل مع التغرب وانتشار الأعراب. وكان خروج أبي جعفر من بغداد في شعبان، فتم أمر الصلح بين توزون وبين ناصر الدولة برأي أبو جعفر، وما زالت السفارة بينهما طول شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وتم الصلح في أول شوال ورجع توزون إلى بغداد وأبو جعفر معه، فكان دخوله إليها لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال، وكان حرص أبي جعفر على الصلح لما بلغه من موافاة ابن بويه الديلمي إلى واسط، وأخذ الضرائب والخراج، وأن ابن بويه دخلها في شهر رمضان. واتهم المتقي لله بمكاتبة ابن بويه بأن يصير إلى الحضرة، وصلحت سيرة ابن بويه بواسط، وخفف عنهم كاتبه محمد بن أحمد الصيمري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 المكنى أبا جعفر من الضرائب، وعدل عليهم في الخراج. وكان أمير بغداد أبو العباس اسكورج قد اصطنع ابن جمدى وأمل أن يرتدع ويقصر ويعرف به جميع المتلصصة، فكان يرسل أصحابه على الناس، فلهم في كل يوم حادثة عظيمة، وكبس وإغارة على الأموال. ووقف اسكورج على أنه أصل ذلك كله، وقيل الأمير توزون فيه غير مرة، وعرف أبو جعفر الأمير حقيقة خبره، فأمر به فضرب وسطه في دار الأمير توزون، وحمل إلى الجسر على جمل، ونودي عليه هذا ابن جمدى اللص فاعرفوه. وظفر بجماعة من أصحابه فقتلوا وصلبوا، فسر الناس بذلك وقالوا ما أمنا على أنفسنا وأموالنا إلى الآن، بقتل ابن جمدى وأصحابه، وكثر الدعاء للأمير توزون، وكان قتله برأي أبي جعفر بن يحيى بن شيرزاد الكاتب. وفاة البريدي قد ذكرنا وثوب أبي عبد الله البريدي بأخيه يعقوب أبي يوسف وقبله له حين منعه، وكان ذلك في النصف من صفر سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة. ووافى الخبر إلى بغداد أول يوم من ذي القعدة، سنة اثنتين بأن أبا عبد الله أحمد بن محمد بن يعقوب البريدي توفي لأيام بقيت من شوال سنة اثنتين بقولنج عرض له، وقام بالأمر أخوه أبو الحسين علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ابن محمد أياماً، ثم أحس بأن جماعة من الغلمان والقواد قد عزموا على الفتك به، فهرب في الليل مع غلام له حتى خرج من سور البصرة من ناحية سيحان، ثم لحق بالقرامطة المقيمين بالجعفرية على فرسخ من البصرة فعرفهم نفسه وما جرى عليه، فحمل إلى البحرين ثم رد باختياره إلى البصرة، وكان أبو القاسم عبد الله بن أخيه قد ملك الأمر بعده، فلما وافى البصرة تكلم قوم في أمره بفنون فأبى أبو القاسم إلا أن يخيره ما يريد، فاختار الخروج من البصرة، فخرج ووافى بغداد، وذلك كله أو أكثره في سنة ثلاث وثلاثين ثلاثمائة. ذكر قتل الترجمان جملة أمره كان جباناً مضرباً منتقلاً، بخيلاً قصير الرأي رديء الاختيار، وكان سيف الدولة يتهمه بأنه هو الذي ضرب الأمير توزون عليه، حتى كان منه إليه بواسط ما كان، وأنه أطمع المتقي لله في الاحتيال على ناصر الدولة وراسله في ذلك، يحصله في داره فيطالبه بالأموال، وأن الرسل بينهما اختلفت بذلك. ولقد أمكنه ذلك من ناصر الدولة مرات، خاصة عند قرب خروجه من بغداد فما اضطلع بذلك، ولا كانت له نفس تفي به، إلى أن خرج ناصر الدولة، وهو أوثق الناس به وعنده أنه في جملته ثم غدر به، فرجع وكان بالرقة قد تمكن من المتقي لله، يصل إليه متى أراد ويأكل معه ويسمع منه، وكان يثلب سيف الدولة. وكاتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الأخشيد ابن طغج في إنفاذ جيش إلى الرقة لأخذ الخليفة من يد سيف الدولة فركب يوماً إلى سيف الدولة، وقال له قد ضرب الجند علي، فإن كان في نفسك شيء علي، فأنا بين يديك، وتغضب وزاد في الكلام، فنصحه سيف الدولة. وقال له: لا يركب معك غيري، حتى يؤديك إلى منزلك، فركب وخرج من بابه وأغلق غلمان سيف الدولة باباً خلف سيف الدولة، وضربوا الترجمان - وكان خلفه - بالسيوف واحتزوا رأسه، وبلغ أمره الخليفة فغضب وتكلم، وقال: ابن رايق بالأمس، والترجمان اليوم! وأشير إليه ألا يعيد في هذا شيئاً وأن يرى سيف الدولة أن الذي حكاه حق، ويستصيب رأي الغمان فيما فعلوه. وفاز جميع من كانت له عنده ودائع مال فهو في أيديهم، واعتل الأمير توزون في ذي القعدة علة صعبة شديدة من قولنج وغير ذلك، ثم أقاله الله ووهب له العافية فاستحجب فتاه صافياً، خلع عليه خلعاً، ركب فيها حتى رآه الناس. ثم اتصل بتوزون أن الديلمي الذي بواسط يريد بغداد، فقدم مقدمته إلى المداين، وخرج في أثرهم وذلك في ذي القعدة لإحدى عشرة ليلة بقيت منه. ووقع في هذا الشهر بالكرخ حريق عظيم من حد طاق التكك إلى السماكين، وعطف على أصحاب الكاغد وأصحاب النعال، وذهبت النيران بأمتعة البزازين وأموال خطيرة، وكان وقوع الحريق ليلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فبادر الناس ليخلصوا أمتعتهم فكان كل من أخرج شيئاً نهبه الخرابون ومن يعينهم من العيارين، فما وصل الناس إلى شيء من أمتعتهم. وسار أحمد بن بويه الديلمي يريد بغداد، وحدر أبو جعفر إقبالاً غلامه في الماء ومعه الطيارات والزبازب، ليمنع الديلمي من الماء، وكان ذلك من أجل الآراء وكان ذلك سبب الفتح وهزيمة الديلمي، ووقعت الحرب في الجانب الغربي من حدود قباب حميد أياماً متوالية والأمير توزون يرى أن يستجرهم إلى قرب بغداد، لتقرب عليه الميرة إلى أن عبر بهم نهر ديالي، فصيره بينه وبينهم، وذلك برأي أبي جعفر بن شيرزاد، وجاء الديلمي حتى نزل حياله وهو بلا زاد، وقد ذبح جماله وجاع أصحابه ومنع مع ذلك من الماء، وكان المعروف بابن أبي علي اللص قد صار في جملة الديلمي. وجمع أبو جعفر أموالاً فحملها إلى الأمير توزون فقويت بها نفوس أصحابه، وأثبت جماعة من العيارين فأنفذهم في الماء، ليرموا بالمقاليع، فكانوا يعطعطون بالديلم ويمنعونهم مع إقبال من الماء حتى هلكوا جوعاً وعطشاً، وعلم الأمير بما هم فيه من ذلك. وأمر أبا الدفين الأعرابي أن يعبر إليهم، وعبر جماعة من الأكراد ومتسرعة من قواد الأمير توزون وغلمانه، فولى الديالم هاربين في الساعة الخامسة من يوم الأحد لأربع خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة. واستأمن إلى الأمير جماعة من وجوه الديلم وقوادهم، وظفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 بجماعة منهم، وأخذ فيمن أخذ ابن قرابة العطار، فأمر الأمير توزون فيه بأمر عظيم، فتكلم فيه الحر الجليل أبو جعفر حتى تخلصه، وكان تخلص ابنه قبل ذلك، لأنه ذكروا أنه وجد له كتاب إلى أبيه، فيه ما لا يجوز فأمر الأمير بقتله حتى استنقذه أبو جعفر. ولما اشتد أمر الديالم وظن الناس أن الأمر أهم، انتدب جماعة وعزموا على الفتك بأبي جعفر في داره والوثوب ببغداد، ليبادر جيش الأمير إلى منازلهم فيكون هزيمة ويركبهم الديالم. واتصل خبرهم بأبي جعفر، فوجه بمن قبض على من وجد منهم وأحضر أبو العباس بن عبد الرحمن بن جعفر الخياط، والمعروف بابن أبي الرديني وطلب يمن البري فلم يوجد. وهرب جماعة ذكروا في هذا الأمر، فوبخ أبو جعفر ابن الخياط وذكره إحسانه إليه وأنكر أنه فعل ذلك، فأمر بحبسهم بعد أن صح عنده أمرهم، فحلم ولم يسلمهم فيقتلوا، وكان هذا من فضله وتوقيه. وكان ظفره بهؤلاء علامة للإقبال، لأنه أخذهم لليلتين خلتا من ذي الحجة، وهزم الديلمي بعد يومين. ولقد اجتمعت على أبي جعفر في هذا الوقت أمور، لو اجتمعت على أوسع الناس صدراً وأشدهم بأساً وأكملهم شجاعة لبعل بها، ولم يتسع للفكر فيها، وكان يلجأ إلى هرب واستتار، فصبر على ذلك كله واضطلع به، حتى بلغه الله ما أراده وأظفره ببغيته. منها مجيء الديلم إلى قرب بغداد في الجيش الذي لا يقام لمثله ومعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 كتب يقرأها على الناس بمكاتبة المتقي لله له يأمره بقصد بغداد، وذلك ما لا يكذب به أحد ممن سمعه لهرب الخليفة، وما أظهره من عداوته للأمير. فمنها علة الأمير توزون، التي اشتدت في هذا الوقت، فما خرج عن بغداد إلا وهو عليل رقيد. ومنها قلة المال وأنه لا يرجع إلى شيء معد ولا يقدر على استسلاف من التجار على شيء يرد، ولا مطالبة للمستظهرين منهم، بقرض، لئلا تنفر عامة البلد مع حاجته إلى تسكينهم وإلى الرفق بهم. ومنها مجيء القرامطة إلى الكوفة يطالبون بمائة وخمسين ألف دينار، وورد المكنى بأبي دلف بغداد مستحثاً لذلك. ومنها شذوذ الخليفة وتباعده إلى الرقة، يورى الناس أن توزون قد عصاه، وأراد إتلافه فيهرب منه، وأن الترجمان يهتف بذلك ويجاهر به ويكاتب الناس من أهل الشرق والغرب بمعونة الخليفة وإغاثته واستنقاذه. ومنها أن ناحية ناصر الدولة التي كانت مغوثة بالأموال الموكفة والأقوات الواردة قد أفسدها الخليفة ومن معه، فانقطعت مواردها وغلت الأسعار بها ويئس الجند منها: إلى أشياء بعد هذا لعله لا يجوز ذكرها. فصبر أبو جعفر على هذا كله، حتى كشفه الله لمناصحته، ويمن تدبيره. ومن أعجب العجب أن قوماً يظنون أنهم يقومون مقامه ويغنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 غناءه، وأن أعداءه يرجفون به ويحتالون المعايب له. وقد نسوا ما كان منه وما كان يعانيه ويقاسيه في هذا الوقت من الأمور والملابس بها. والله الذي لا إله إلا هو إنه بالرحمة له منها أولى من الاغتباط بها له ولا تعمل إلا على أن واحداً قام مقامه وفعل فعله، من أين يملك مثل طبعه حتى يجلس سائر نهاره وأكثر ليله، لا يأكل ولا يشرب ولا يتشاغل بشيء من جميع الملاذ التي لا يصبر الناس عن شيء واحد منها، ولا يحجب واحد عنه، ولا ينصرف ذو حاجة أتاه راضياً إما بقضائها وإما بوعد فيها يقنع به، وإما بولاية يرى نفعها على ما أمله من حاجته وملتمسه، أو تعويض له من ماله، بصدر رحب ووجه طلق وخلق واسع، لا يقدر المتخلق على مثله. وسل أين من كتب لبجكم وهو في أدنى أمره فبلغ به أعلاه فربى بمعرفته، وتكهل الشاب بخدمته، وشاخ الكهل ولا يعرف غيره. فهو لجماعتهم كالوالد الحدب له هايب طائع. ومن أين يوجد رجل ما كتب لأحد قط واتصل به إلا علت مرتبته، وزادت حالته وطغى يساره، ثم يكون مفارقته له فيه سبب حتفه وسقوط حاله. هذا ابن الخال هارون، مازالت حالته متوسطة إلى أن كتب له فبلغ به أقصى ما يبلغه مثله، إلى أن تغير له وفارقه فساق نفسه إلى حينه. ولقد حدثني بعض أسبابه أن كتاب أبي جعفر نفذ إليه مطلقاً بالرأي عليه بأن يقبل ما كاتبه به الراضي بالله ويرجع ويتركه حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 يسعى له فيما يريد على رفق وتأيد فخالف وبادر. وهذا الأمير بجكم، ما زال وهو يكتب له مصحح البدن بآمن الحال موفر الأصحاب، ما قتل أحداً من أتباعه ولا أنكر شيئاً من أمره، حتى قبض عليه وصادره، واستكتب غيره. ففسدت عليه حاشيته، وقتل جماعة منهم، وتندم على ذلك، وحالفه سقم في جسمه، فوالله ما قتل إلا وهو مستسقم فاسد المزاج. ولقد كنت أقول لسنان بن ثابت ما ترى لون الأمير واستحالته والغلظ الذي يشكوه في جوفه؟ فيقول لي لعله يصلح إذا احتمى، قول آيس منه، فما عمره بعد مفارقته له مع تنغص عيشه إلا مديدة. وهذا الأمير المظفر أبو الوفاء توزون، ما كان أصحابه قبل أن يكتب له يفي عدتهم بثلثي عدتهم في هذا الوقت، ولا نفقاته تفي بنصف بعضه في هذا الوقت، فهو بركة عليه في نفسه وجيشه واتساع نفقاته. والله يعلم أن ما تحريت بقولي هذا إلا الحق والمناصحة ولا يراني الله - في شيء مما أرويه وأؤلفه - أريد صديقاً لصداقته، ولا رئيساً لإحسانه، ولا أتزيد على عدو لعداوته، ولما أعتقده من بغضه، ومن لزم الحق سلم في عاجله وآجله، وكان الله ولى توفيقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ذكر رجوع الأمير أبي الوفاء توزون إلى داره، بعد هزيمة الديلمي وركوبه الظهر ورجوعه في الماء. ولما فتح الله على الأمير المظفر أبي الوفاء توزون، وأظفره بالديلم وأقام في عسكره أياماً، وأنفذ في طلب المنهزمة من يقتل ويأسر، ولم يعجل برحيل ليتبين آخر أمر عدوه، وما زال هذا من فعل الحزمة ذي الرأي المصيب، والعزم الصحيح. وأمر أصحابه بالرجوع إلى منازلهم، مسرورين بما صار إليهم من سلب الديالمة وسوادهم، بعد أن كثر عند الأمير على بعضهم، فما نفس بذلك عليهم، ولا سأل عنه، ولا عرض به. ثم رحل إلى بغداد وركب على الظهر في يوم الأربعاء لسبع خلون من ذي الحجة، فمضى في شارع المخرم إلى الجسر، ودعا الناس له، ثم انصرف في الماء إلى داره، وكانت ركبته هذه ركبة ما ركب أحد مثلها قط إلى خليفة، لأنه كان بين يديه مائة جنيبة ودابة وبغل بالسروج المذهبة والمفضضة، وبين يديه وخلفه من الغلمان الأتراك، بألوان الثياب وأحسن السيوف والمناطق وأفره الدواب، وهم عدة، ما اجتمع لأحد منذ مدة طويلة مثلهم. وما من قائد من قواده بعد هذا إلا وهو مساو بعدته وعدته قربه لأجل أمراء النواحي وأصحاب الأطراف الممتنعين بها. ووافى في ذي الحجة أبو علي الحسن بن هارون بغداد برسالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الخليفة المتقي لله وكتابه إلى الأمير أبي الوفاء المظفر. وهذا رجل من رؤساء كتاب الزمان ممن خدم الأمراء السادة، وهو حدث لم يتكهل فحسن خبره، وحمد أثره. كتب ليوسف بن ديوذاذ أبي الساج، وهو الأمير الذي لا تدفع شجاعته ولا يجهل قديمه ورياسته ولا يشك في عقله وأدبه ونفاذه في جميع الأمور، فبلغ به ومعه الغاية التي لا تبلغها الآمال وهو مع كتبته رابط الجأش قوى الشجاعة حسن الفروسية، شهد مع يوسف بن أبي الساج وقعة القرمطي بالكوفة، فما زال ضارباً بالسيف إلى أن علم بأمر صاحبه فحمى نفسه بإقدامه وغلمانه، حتى أفلت جريحاً. وكتب لعلي بن يلبق وهو هني لا يعد، فجعل إليه بتلطفه أمر المغرب كله وشرطة بغداد وحجبة الخليفة، إلى أن خلط عليه فتركه، فآل أمره إلى ما آل إليه، وإنما ذكرت أمر ابن يلبق معه لشيء أجيء به بعد. سمعت الراضي يقول في خلافته: إنما كتب الحسن بن هارون لابن يلبق رحمة من الله لنا لنبقى، ولولاه لقتلنا القاهر كلنا! ولكنه كان يمنع منا ويحمل ابن يلبق على المناضلة عنا والدفع عن أنفسنا، وكان يصفه كثيراً. ولقد غنت ستارته يوماً بشعر مليح، فقال أتعرف هذا اللحن؟ قلت لا، قال فالشعر؟ قلت لا، قال هذا الشعر كتب به إلى الحسن بن هارون وعمل هذا اللحن فيه، وكان عنده بمنزلة لطيفة. فلما قدم برسالة الخليفة وكتابه بلطف للأمير ابن المظفر إلى أن جمع الناس عنده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 في يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، وفيهم خليفة القاضي أحمد بن إسحاق سهل بن إبراهيم والعدول، وأحضر من العدول من يحسن أن يتكلم بالفارسية، حتى أخذوا على الأمير ما رضي به من القول. وحضر الهاشميون ووقع الصلح، وانصرف الناس مسرورين، وأنفذ الحسن بن هارون كتاب الأمير إلى الخليفة. ومعه كتابه بما جرى، وانتظر الناس ورود الجواب. وخلع الأمير على ينال المحتاجي يوم الاثنين لثلاث بقين من ذي الحجة، وولاه طريق خراسان، فخرج مبادراً في عدة واستظهار، واتصل به وهو يعبر نسا أن الأعراب قطعوا على قافلة فخرج مبادراً ولم ينتظر أصحابه استهانة بالأعراب، وكان قد أطلق لصاً يقال أبو الفرج بن مياح بعشرة آلاف درهم أخذها، وكان من حقه أن يقتل لقطعه الطريق فنظر إليه ابن مياح هذا، وهو في خف فطمع فيه وحرض عليه إلى أن انبرى له، فطعنه فقتله. فسلط الله عليه اللص الذي أطلقه ظالماً لنفسه، عاصياً لله في إطلاقه حتى قتله، فورثه الأمير أبو الوفاء وأخذ غلمانه ودوابه وأثاثه وضياعه وولى مكانه الفتح اللشكري فطلب الأعراب فهربوا منه ولم يقفوا له. وورد ابن الغمر صاحب القرمطي الذي كان أدخل أيام القاهر مشهوراً ببرنس مع الشريف أبي علي عمر بن يحيى العلوي بغداد مطالباً بمال المفارقة، فكتب له أبو جعفر بن شيرزاد على عمال الكوفة كل ذلك، ليأمن على الحاج وهو يعلم ما عليه في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وكان أبو بكر النقيب قد هرب من بغداد إلى ناصر الدولة، قبل شخوص الخليفة عن بغداد فقبله أحسن قبول وخلع عليه وعلى ولده، وبلغ برزقه ألفي دينار، ومثلها لولده وغلمانه، ثم خرج مع الخليفة إلى الرقة، ثم رجع إلى ناصر الدولة فأقام يأخذ رزقه، ثم كاتب أبا جعفر في مصيره إلى الحضرة واحتال حتى قدم. وكان أبو جعفر قد وجد على أسكروز الديلمي عامل الشرطة ببغداد في أشياء أنكرها عليه من أخذ الدراهم، وقبالة ثقيلة يلزمها ولاة الشرطة فكاتب الأمير فيه فعزله، وولى مكانه أبا بكر النقيب، وهذا في المحرم ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. ولما رجع الأمير أبو الوفاء من نهر ديالي ظافراً أنشد شعراً في وصف ما كان منه ومن أبي جعفر في العزم والرأي، فما وقع عند من حضر الموقع المرضي. فنطقوا بأجمعهم وقالوا لي: مثل هذا الخطب العظيم والفتح الجليل، لا يكون له مدح يشهره الناس ويرويه؟ فقلت في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة. نَعِمَ الْوَرَى بِسَوابِغِ النَّعْماءِ ... وَنَجَوْا مِنَ الْبأْساءِ والضَّرَّاءِ عَضَدَ الآلهُّ أَبا الْوَفاءِ بِنَصْرِهِ ... عَضُدَ الخْلافَةِ سَيِّدَ الأُمَراءِ فأُرِيحَ قَلْبِي مِنْ جَوَى الْبُرَحاءِ ... وَلَهيبِ نَارِ الْوَجْدِ وَالأدْواءِ عَادَ الزَّمانُ إلىَ نَضارَةِ عَيْشِهِ ... وَأُزِيلَتِ الْبَأساءُ بالسَّرَّاءِ قَدْ واصَلَ النَّصْر للتْابِعَ سَيْفُهُ ... كَوِصالِ حِبٍّ كارِهٍ لِجفَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فِي كُلِّ يَوْمٍ للأَعادِي وَقْعَةٌ ... مِنْهُ تُبِيدُهُمُ وَسَيْفُ فَناءِ فَتَراهُمُ لَمَّا رَأَوْهُ مُقْبِلاً ... كَالشَّاءِ يَنْفُرِ مِنْ أُسُودِ ضِرَاءِ صَرْعَى وَقَتْلَى وَالَّذِي فاتَ الرَّدَى ... مِنْهُمُ حَلِيفُ الذُّلِّ في الأُسَراءِ ضَحِكَتْ بِه الأَيَّامُ بَعْدَ قُطُوبِها ... وَجَلا الضِّياءُ بِهِ دُجَى الظَّلْماءِ فَصلُوا السُّرُور قَضَاءَ ما عايَنْتُمُوا ... بِالأَمْسِ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ بُرَحاءِ قَدْ عُوفِي اللَّيْثُ الْمُطِلُّ عَلى الغْدِا ... مِنْ كُلِّ مَا يَشْكُو مِنْ الَّلأْواءِ وَأَتاهُ نَصْرٌ مِنْ إلهٍ مُنْعِمٍ ... يَقْضِي لَهُ أَبَداً بِخَيْرِ قَضاءِ أَعْيَيْتَ حيلَتَهُمْ وَفُتَّ مَدَاهُمُ ... مِنْ غَيْرِ إِتْعابٍ وَلا إِعْيَاءِ نَثَرَتْ سُيُوفُكَ بِالْفَضاءِ أَكُفَّهُمْ ... فَكَأَنَّهُمْ فِيهِ حَصَى الْبَطْحاءِ وَعطَفْتَ خَيْلَكَ خاطِفاً أَرْوَاحَهُمْ ... مِنْ غَيْرِ إمْهَالٍ وَلا إِبْطاءِ أَنْتَ الْمُعَظَّمُ فِي الزَّمانِ وَمَنْ لَهُ ... ذَلَّتْ رِقابُ السَّادَةِ الْعُظَماءِ أَبَتِ الإمارَةُ أَنْ تَزَوَّجَ غَيْرَهُ ... مِنْ بَعْدِ ما خُطِبَتْ أَشَدَّ إِباءِ وَعَصَى الْمَدِيحُ فَلَيْسَ يُعْطي طَاعَةً ... إلاَّ لَهُ فِي سُؤْدَدٍ وثَنَاءِ يَلْهُو بِأَبْطالِ الرُجِّالِ شَجاعَةً ... لَهْوَ الْمُلاعِبِ فازَ بِالأهَوْاءِ مَلِكٌ أَبَرَّ عَلَى الْمُلُوكِ بِبَأْسِهِ ... وَقَبُولِهِ مِنْ سَيِّدِ النُّصَحاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 أَحيا مُحَمَّدٌ بْنُ يَحْيى دَوْلةً ... بِصَحِيحِ عَزْمٍ صائِبِ الأراءِ زَيْنُ الكِتابَةِ وَابْنُ مَنْ ذَلَّتْ لَهُ ... وَعَلَيْهِ قِدْماً كِتْبَةُ الْخُلَفاءِ مِنْ بَعْدِ ما ظَنَّ الأَعادِي أَنَّهُ ... سَيَكُونُ مَنْ نَاوَاهُ ذا اسْتِعلاءِ إذْ ساوَرَ الإسْلامَ سُقْمٌ قاتِلٌ ... لَوْ لَمْ يُدارِكْ سُقْمَهُ بِشِفاءِ فَرَماهُمُ مِنْ رَأْيِهِ بِنَوافِذٍ ... تُهْدَى بِلا هادٍ إلَى الأَحْشاءِ وَرَأَى حَبَالَى رَأْيِهِ شَرَكاً لَهُمْ ... فَهُوَوْا لَحْمئَتِهِ هُوىَّ دِلاءِ في كارَ يُرْجَى عَيْنُ رَأْى مُجَرِّبٍ ... مَاضِي الْحُسامِ لِحَسْمِ هَذَا الدَّاءِ سَلْ بِالأمِيرِ وَسَيْفِهِ مَنْ رَامَهُ ... أَوْ هاجَهُ فِي حَوْمَةِ الْيجَاءِ ضِرْغامُهُ دَامي الأظَافِرِ كُلَّمَا ... عَرَتِ النَّوائِبُ مِن دَمِ الأَعْدَاءِ فَكَأَنَّهُ فِي سَرْجِهِ يَوْمَ الْوغَا ... بَدْرٌ تَلأْلأَ فِي سُعُودِ سَمَاءِ وكَأَنَّما قُوَّادُهُ مِنْ حَوْلِهِ ... مُسْتَلِئْمِيَن كَواكِبَ الْجَوْزاءِ مُتَلَبِّسٌ جِلْبَابَ صَبْرٍ تَحْتَهُ ... قَلْبٌ كَمِثْلِ الصَّخْرَةِ الصَّمّاءِ شَرَدَ الأَعادِي خَوْفُهُ فَكَأَنَّهُمْ ... خَرِقُ النَّعامِ بِقَفْرَةٍ بَيْدَاءِ أَوْ كُدْرُ سِرْبِ قَطاً أَضَرَّ بِها الصَّدى ... فَتَساقَطَتْ عَطَشاً إلَى الأَحْشاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 عَطَفَ الرِّجالُ إلَيْهِمْ فَتَعَطَّفُوا ... لِلأْسْرِ وَالإِذْلالِ فِعْلَ نِساءِ وَأَتَى الأَمِيرُ بِعِزَّةٍ وَمَهابَةٍ ... يَخْتالُ بَيْنَ غِنىً وَبَيْنَ غنَاءِ خَصِبَتْ بِهِ بُغْدادُ بَعْدَ جُدُوبِها ... وَتَلَبَّسَتْ مِنْهُ ثِيابَ رَخاءِ هذا وَفِي أَيَّامِ بَجْكَمَ كَمْ لَهُ ... مِنْ صِدْقِ عارِفَةٍ وَحُسْنِ بَلاءِ تَسْوَدُّ أَيْدي غَيْرِهِ فِي حَرْبِهِ ... فَيُضِيئُها قَيدٍ لَهُ بَيْضاءِ أَطْنابُ بَأْسِكَ يَوْمَ حَرْبِكَ عُلِّقَتْ ... لِعُلُوِّها بِكَواكِبِ الْعَوَّاءِ فَضَلَتْ كَفَضْلِ بَنِي النَّبِيِّ وصَهْرِهِ ... فِي نُبْلِ قَدْرِهِمُ بَنِي الطَّلقَاءِ فَرَقِيتَ فِي دَرَجَ الْمَعالِي صاعِداً ... تَعْلُو عَلَى الْعظُمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ ولما استكتب الأمير أبو الوفاء توزون أبا جعفر محمد بن يحيى، وقدم بغداد، دخلت إليه فأنشده: عَذَلْتُ امْرَءاً فِي عِشْقِهِ لَيْسَ يَعْذُرِكْأمَا عَاشَ أنْ يَنْهاكَ عَنْهُ وَيَزْجُرُكْ مَتَى لَمْ تَحْطِ خُبْراً بِما صَنَعَ الْهَوىبِمَنْ فارَقَ الأَحْبَابَ فَالدَّمْعُ يُخْبِرُكْ أَما لَوْ بَلَوْتَ الْحُبَّ واقْتَادَكَ الْهوَىإلَى هَجْرِ مَحْبُوب لَقَلَّ تَصَبُّرُكْ شَرِبْتُ كُؤُوسَ الْحُبِّ صِرْفاً ودُونَ ماشَرِبْتُ مِنَ الْمَمْزُوجِ ما لاَ يُسَكِّرُكْ عَلَى الْيَمْنِ وَالتَّوْفِيقِ أُلْبِسْتَ خِلْعَةًبِها المُتَّقِي لِلِه بِالْحَقِّ يُؤْثِرُكْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وَفِي خَصْرِها قاضٍ كَرَأْيكَ في الْعِدَا ... بِهِ تَنْقَضِي أَعْمَارُهُمْ وَيُعَمِّرُكْ رَآكَ أَحَقَّ النّاسِ بالإِمْرَةِ الَّتي ... يَمازِجُ فِيها جَوْهَرَ الْمُلْكِ جَوْهَرُكْ يُقَدَّمُ لْلمَقْدُورِ دَهْرٌ مُعانِدٌ ... سِواكَ إلَيْها ظالِماً وَيُؤَخِّرُكْ إلَى أَنْ وَفا بِالْوَعْدِ فِيكَ أَبُو الوْفَافَكُلُّ أَمِيرٍ بِالصَّغارِ يُؤَمِّرُكْ لَئِنْ كانَ لِلأَتْراكِ فَخْرٌ بِهاشِمٍفَقَدْ زادَهُمْ فِي الْبَأْسِ وَالفَخْرِ مَفْخَرُكْ مَلَكْتَ فَمَلَّكْتَ الْمُنَى كُلَّ راغِبٍفَمَوْرِدُكَ الإِحْسانُ وَالحَقُّ مَصْدَرُكْ إذا كاثَرَ الأَتْراكُ يَوْماً بِسَيِّدٍ ... فَما أحَدٌ فِي سالِفِ الدَّهْرِ يَكْثُرُكْ وَمَنْ كانَ مِنْهُمْ مَاجداً مُتَقَدِّماًفَهُمْ رَهْطَكُ الْغُرُّ الكِرَامُ وَمَعْشَرُكْ طُبِعْتَ عَلَى عَقْلٍ وَجُودٍ وَنَجْدَةٍ ... فَما تَسْتَطِيعُ الْحادِثاتُ تُغَيِّرُكْ وَسِيّان فِي الأَعْداء مَخْبَرُكَ الَّذِي ... بِهِ يَنْصُرُ اللهُ الْوَليَّ وَيَنْصُرُكْ وَهَلْ تَجِدُ الأَعْدَاءُ عِنْدَكَ غِرَّةًوَأَبْيَضُكَ الْمَوتُ المُرَجَّى وَأَسْمَرُكْ وَما نَصَرَ اللهُ امْرَءاً أَنْتَ حَرْبُهُوَأَنّى لَهُ بِالنَّصْرِ وَاللهُ يَنْصُرُكْ تَخَيَّرَكَ الْبارِي أَمِيراً مُظَفَّراً ... تَبارَكَ فِي تَدْبِيرِهِ مُتَخَيِّرُكْ رَأَيْتُكَ لِلسُّلْطانِ مُحْييَ دَوْلَةٍفَهَذا اسْمُكَ الأَوْلَى بِوَصْفِكَ يُشْهِرُكْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 تَسَمَّ بِهِ تَكْبِتْ عَدُوّاً وَحاسِداًكما قَدْ تَسَمَّى قَبْلُ مَنْ لَيْسَ يَعْشُرُكْ إذا الْتَفَّتِ الأَقْرانُ وَاحْتَدَمَ الوْغَافَسَيْفُكَ بِالنَّصْرِ الْقَرِيبُ يُبَشِّرُكْ عُرِفْتَ بِإقْدامٍ وَفَتْكٍ وَجُرْأَةٍ ... فَما أَحَدٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ يُنْكِرُكْ وَإنْ جَرَّ يَوْماً عَسْكَراً ذُو تَجَمُّع ... فَسَيْفُكَ فَرْداً في قتَالِكَ عَسْكَرُكْ تُدَبِّرُ في تُرْبِ السِّنين أُمُورَنا ... بِرَأْيٍ مُصِيبٍ وَالإلهُ يُدَبِّرُكْ وَعَدْتُكَ هذَا لأَمْرَ مِنْ قَبْل كَوْنِهِوَوَعْدُكَ لِي بِالبذْلِ لاَ شَكَّ يُنْذِرُكْ وَهذَا مَسِيحِيٌّ بقَوْلِي شاهِدٌ ... وَحَسْبِي بِهِ عَدْلاً بِوَعْدِكَ يُذْكِرُكْ وَمَا زِلْتُ مُذْ عَايَنْتُ شَخْصَكَ دَائبِاًلَما نِلْتَهُ أُثْنى عَلَيْكَ وَأَشْكُرُكْ لَقَدْ ظَفِرَتْ كَفَّاكَ بِالْمَالِ وَالْعِدابَرِأْي ابْنِ يَحْيَى الْقَرْمِ وَاللهُ يُظْفِرُكْ وَثِقْتُ بِادْبارِ النُّحُوسِ عَنِ الوْرَى ... وَإقبْال سَعْدٍ حينَ صارَ يُدَبِّرُكْ أَبُو جَعْفَرٍ فِي الرَّأْي وَالْعَقْلِ وافِرٌبِهِ اللهُ بَعْدَ الانِتقاصِ يُوَقِّرُكْ سَيُورِدُكَ الْعَذْبَ الزُّلالَ مُجَرِّبٌعَليمٌ بِتَدْبِيرِ الوْرَى كَيْفَ يُصْدِرُكْ لَقَدْ ظَفَرَتْ كَفّاكَ مِنْهُ بِفاصِلٍ ... بِهِ اللهُ مِنْ بَعْدِ القْلَيلِ يُكَثِّرُكْ فَلا زَالتِ الأَيّامُ سِلْماً مُطِيعَةً ... تُوَقِّيكَ ما تَخْشاهُ فِيها وتَخَفْرُكْ وَفُزْتَ بِما تَهْوى وَصالَتْ عَلَى الْعِدَاسُنُوكَ بِتَمْلِيكٍ عَلَيْهِمْ وَأَشْهرُكْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وكان الناس قد سروا بولاية أبي بكر النقيب محمد بن جعفر، فنادى برفع المؤن واشترط ذلك، فلما استهل شهر المحرم طولب بسنة اسكورج فعقد على إبراهيم بن شمحور الفروقي الجانب الشرقي والصحراء والأبواب بسبعة آلاف درهم في كل شهر. وتضمن محمد بن محمد تازى البيض وأعماله بثلاثة آلاف درهم، وعقدت الشرقية وما فيها من الأعمال على أحمد بن جعفر المعروف بابن الشرطي بثمانية آلاف سوى الاستثناءات فإنها خمسة آلاف درهم وضمنت دجلة والماصر الأعلى بخمسمائة دينار، وعقد القيار بألفي درهم، فصار الجميع نيفاً وثلاثين ألف درهم في الشهر. فلقي الناس من ذلك عنتاً، وتعرم أصحاب الارياع والمصالح على الناس، والنقيب كاره لذلك لا يعرف مثله. وكثرت الكبسات، ووثق اللصوص بالمصانعات والغرم، فكبسوا الناس ليلاً ولم يهابوا نهاراً، واجتمعوا فكان يوافي دار الرجل المقصود جيش اللصوص بالليل بالسيوف والنشاب، لو حوربوا لما وفاهم القليل. واستلب كيس رجل يعرف بغلام ابن الأبواري الصيرفي مع المغرب، وفيه خمسة آلاف دينار ليلة الجمعة لأربع بقين من المحرم وكان الكيس على رأس حمال، فصاح الرجل والحمال، فرماهم الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 بالآجر، ورماهم اللصوص بالنشاب، فتفرقوا عنهم، وبادروا ناحية دار علي بن عيسى، ونزلوا الشط إلى سميريات أعدت لهم، فأقر حارس الموضع أنهم أصحاب المعروف بابن بغرة النازل بدار الترجمان، في قصر عيسى، فأخذوا فأقر بعضهم أنه دفع المال إليه، وجحد هو أن يكون يعرف ذلك، وتعصب له بعض الأتراك وطاح المال. وكان رجل يعرف بممراج استأمن من عسكر البريدي ومعه من اللصوص البطارقة الحذاق جماعة، فصار يخدم في دار أبي جعفر هو وأصحابه، يكبسون الناس ليلاً ويعترضونهم في دجلة ويجتمع هو وأصحابه وكاتبه البصراني المعروف بسكباج لعنه الله، على النفقات والقيان والأنبذة والفسق. وكان معه كلابزي قواد وكان مع زباشي التركي كلابزي مثله، فتغايرا على قحبة وأعان كل واحد صاحبه، فجرت بينهما حرب وأمور قبيحة، ثم كانت خطوب، وقتل ممراج هذا والحمد لله. وظهر سعيد بن داود المسيحي، وعاد أخوه إلى خدمة الأمير والتطبب له، وكان طيبه قديماً وذلك في المحرم. ووجه ناصر الدولة بأبي عبد الله الحسين بن سعيد أبي العلاء مع غلام أبي بكر بن مقاتل إلى الشام، في جيش كثيف بعد أن أزاح عللهم لمحاربة ابن طغج ودفعه عن الشام، فمضى حتى تجاوز حلب فلقيه جيش ابن طغج الأخشيذ فهزموه وأسروا رجاله وغنموا أمواله، وولى هارباً في قلة يريد الرقة، فلما شارفها تقدم الخليفة المتقي لله بغلق أبوابها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ومنعه من دخولها فأقام أياماً. ووجه إلى الخليفة برسالة غليظة فأذن له ووبخه على تسريحه لقتال من لم يأمر بقتاله. ووافى ابن طغج في أثره فخرج ابن عمه سيف الدولة وقد كان ابن عمه تنحى عن الرقة فأعطى المتقي لله مالاً وفرق على جميع من معه مالاً على أقدارهم، فأمسك بذلك أرماقهم، ولولا فعله ما كان بهم نهوض ثم رجع ابن طغج إلى حلب فيقال إنه أعطى الخليفة مائة ألف دينار سوى الآلة والثياب. ووجه إلى الوزير بثلاثين ألف دينار، وإلى الحاجب أحمد بن خاقان بعشرة آلاف دينار، هذا تأدى إلينا ولم نشاهده. وزاد غلاء السعر على الناس فشغبوا في الجانب الغربي يوم الجمعة وتكلموا بالعظائم، ومنعوا الإمام الصلاة، حتى انصرف أكثر الناس، ثم صلى الإمام بمن بقي صلاة خفيفة. وخرج الأمير أبو الوفاء إلى البثق بنهر عيسى، ومعه قواده، ومال من خاص ماله مؤملاً سده، وذلك في أول المحرم فأقام أياماً عليه، واجتهد هو وأبو جعفر في النفقة، وإطلاق المال. ثم إن الله عز وجل لن يأذن في ذلك، فحمل الماء أكثر العمل، واغتم الأمير لذلك غماً شديداً. ولما وصل كتاب الحسن بن هارون إلى المتقي لله بما صنع، وجه المتقي لله بأحمد بن عبد الله بن إسحاق القاضي من الرقة إلى الأمير أبي الوفاء المظفر لتوكد الإيمان عليه، وموافقته على شرائط شرطها له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ويشهد عدوله عليه، ووجوه الهاشميين. فوصل القاضي إلى بغداد يوم الخميس، لأربع خلون من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، ففعل جميع ما تقدم به المتقي لله إليه، وكان قد وجه معه بخلع، وطوق ذهب، ليخلعها على الأمير إذا فرغ ما بينه وبينه، ففعل هذا كله إلا أمر الخلع. وأمر الأمير بعمارة دار الخليفة، وبناء ما استهدم منها، وكان يركب بنفسه حتى يشاهد ذلك ويعاينه، وكان في الرسالة أن يخرج الأمير إلى واسط، فقال: هذا لا أجيب إليه، يعمل على أبي ابن طغج إذا قرب من بغداد خرجت وتلقيته، وأزلت كل ما في نفسه، فإذا صار في داره أمرني بما شاء حتى أفعله، وإن خرجت ولم أره كنت عند الناس عاصياً! وامتنع من أن يلبس الخلع بحضرة الخليفة إذا رآه، وكتب القاضي إلى الخليفة بإحكامه له جميع ما أراد، وأشار عليه بالمبادرة إلى الحضرة. وعظم أمر اللصوص، وكبس الناس في منازلهم وقتلهم، وأخذ أموالهم. فولى الأمير أبو الوفاء الطوف رجلاً أعجمياً، وضم إليه جماعة فأفرط في أمر الطوف، وجرى إلى أشياء عظيمة، حتى تمنى الناس أنهم أعفوا منه. ووجه الأمير بقوم من أصحابه، فأمرهم أن يكبسوا أهل الريف من النباذين والقوادين، وتعطيل ما يجري من أمر النباذين بدار الروم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 بالجانب الشرقي، ونسب ذلك إلى الجاثليق، وان له عليهم قائماً، وأنه يرسل أهل نحلته فيعوز بهم، وصادره على خمسين ألف درهم بوساطة طازاذ وابن سنكلا، وعطف بعد ذلك على النباذين والقوادين، فحبس منهما وعاقب، وسكن أمر البلاء قليلاً. وانكسف القمر ليلة السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر، وغاب كله. وتحدث الناس بمجيء الخليفة المتقي لله إلى هيت، وخرج القاضي الخرقي إليه فعرفه جميع ما جرى، فسكن إلى ذلك ورجع القاضي إلى الأمير يعرفه فدخل بغداد يوم الثلاثاء للنصف من صفر. وركبت مع أبي جعفر في الطيار، فأعلم الأمير أنه يتلقى الخليفة بالأنبار، فقدم الأمير الطيارات إلى باب الشماسية، وقال للقاضي تعبر بالخليفة من المزرقة وهي قرية بأعلى قطربل بفرسخين، حتى يدخل بغداد من الماء، ونصب الناس القباب بباب الطاق، وأخرج الأمير توزون أثقاله وجماله إلى باب الأنبار، وخرج يوم الأربعاء، وأقام في الطريق وسار يوم الخميس. ولا والله ما سمعت بأعجب من أفعال المتقي لله كلها، أول خطئه، وتركه الرأي، وركوبه العوز: تركه دار مملكته، وخروجه عنها برأي الترجمان وأشباهه لغير سبب أوجب ذلك. ولا اضطرار دعا إليه. والأمير توزون إلى وقته ذاك مطيع له تابع لما يشتهيه، عالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 مع ذلك أن الصواب والرأي غير ما تكلفه. فمن ذلك: أن الأمير أقام بواسط، ليستنطف الأموال بها، فكتب إليه: دع كل شيء، وصر إلي، ولعن الله المال! فراجعه فألح عليه فقدم، فخلع عليه وأمره. وأشار الأمير عليه أن يصالح بني البريدي إذ كانوا قد ظفروا بمجيئه بكثير من المال. وقال: نستعجل الأموال منهم، ونحن على أمرنا بعد ذلك. فخالفه، وقال لا بد من محاربتك لهم، وإزالة أمرهم، وكان رأي الأمير صواباً، في هذا فترك الرأي ولم يخالفه. وانحدر هذا بعد أن قد كان كتب قبل ذلك بالإيقاع بسيف الدولة ليريحه الله هو بذلك من ناصر الدولة ببغداد، ولكرم الأمير توزون وحسن عهده، ما ترك سيف الدولة حتى جاء لأسباب دعاها له، ولو أراده ما فاته، ثم ما عامله من الخروج عن بغداد يرى الناس أنه فزع منه، وأن الأمير عاص له. ثم ما حمل ابن حمدان عليه من محاربته مرة بعد مرة، على كراهة ابن حمدان للحرب، كل ذلك طمعاً من المتقي في إزالة الأمير عن مرتبته. ومنها أنه كاتب صاحب خراسان يستنجده عليه، والأخشيذ بن طغج بمثل ذلك، كل هذا هو فيه ظالم للأمير توزون، ثم إقباله بعد ذلك حتى وضع يده في يده، ظن أن الأمير هو حدث أعجمي نسى هذا كله، والله لو فعل الرشيد هذا بالمأمون في حلمه وعقله، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ابن له ما احتمله!. وأعجب من ظنه بأنه لا ذنب له ونسيانه ما فعله: ذهاب الرأي عن جميع من معه ممن يدبره، وما ذهب على العقلاء، ولا على أهل الرأي. فلقد رأوا الذي فعله الأمير بالرأي قبل كونه. أخر أمر المتقي لله فكان قبض الأمير على المتقي لله يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر، وكان هذا كله غير علم أبي جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد ولا إطلاع عليه، ولا مشاورة له فيه، ولا علم به إلا في وقته. ولما توثق من المتقي لله في المضرب، نهب أصحاب الأمير عسكره، فلم يفلت من جميع من كان معه أحد، وخرج قوم لتلقيه فنهبوا. ووجه الأمير بصافي الخازن إلى دار ابن طاهر، لإحضار أبي القاسم عبد الله بن المكتفي بالله، وأخذ الخاتم من يد المتقي وسلمه إلى صافي. فصار صافي إلى دار ابن طاهر، واستخرج عبد الله بن المكتفي بالله فألبسه ثياباً جاء بها معه ودفع الخاتم وقلد سيف حمايل، وصار إلى مضرب الأمير، فعقد له الأمر، وكحل المتقي لله فصاح فأمر أصحاب الدبادب فضربوا بها، فصاح فلم يسمع صياحه، بعد أن خلع نفسه وسلم الأمر إلى الخليفة عبد الله. وكان هذا كله يوم السبت بالعشى، لإحدى عشرة ليلة بقيت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 صفر، بل وجه في طلب الخليفة أبي القاسم قبل أن يقبض على المتقي. وكان المتقي لله لما قرب الأمير منه، ولقيه ركب فيه قبة نمور أهداها ابن طغج له، فلما رآه الأمير أكب على الأرض فقبلها بين يديه مرتين فقال له: اصعد معي، فلم يصعد وكان عديله خادم له، فلما سايره وصار إلى السندية أحدق به الديلم، فقبض بعضهم على لجام بغلته العمارية، وعدل به، فأنزل المضرب، وتسلمت دوابه وجنائبه التي كانت تقاد بين يديه، وأخذت خزائنه، ونهب عسكره كله. وكان من أمره ما ذكرناه، فكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهراً، أولها يوم الأربعاء، لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وآخرها يوم السبت لإحدى عشرة ليلة من صفر، سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وما أعجب ما اتفق له من صحة الأخبار فيه، جاءت الرواية أن عمر الحادي والعشرين من أقل من ثلثي عمر الذي كان قبله وأكثر من نصفه، فكان كذلك. وذكر بليناس في كتابه الذي ذكر فيه الكسوفات، وهو كتاب قديم قد ألف في قديم الدهر أمر ملك بابل فقال وأنا أحكي لفظه من كتابه، ومن طلب هذا الكتاب وجد ما ذكرته فيه على ما شرحته إن شاء الله. قال بليناس: انظر إلى سر غامض في الكسوفات، إذا كانت الشمس في الميزان، ووقع كسوف القمر، وهو في الحمل، وزحل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 السرطان والمريخ في الجدي هلك ملك بابل. فاتفق هذا الكسوف على هذه الصفة بعينها، فكان بين الكسوف وبين هلاك المتقي لله أسبوع. ذكر عمال المتقي لله وقت زوال أمره أمير الأمراء: المظفر أبو الوفاء توزون. وكاتبه المدبر للأمور: أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد. وعلى وزارته: أبو الحسين علي بن محمد بن مقلة. وعلى شرطته ببغداد من قبل الأمير توزون: أبو بكر محمد بن جعفر النقيب. وعلى قضائه: أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقي. وعلى كتبة ضياعه أبو العباس أحمد بن عبد الله الأصبهاني. وعلى الحسبة ببغداد: المعروف بالأسمر من أصحاب الأمير. وعلى حجبته: أبو العباس أحمد بن خاقان المفلحي، مولى أمير المؤمنين. وإلى الأخشيذ أبي بكر أحمد بن طغج مولى أمير المؤمنين: مصر والشامات. وإلى الحسن بن عبد الله بن حمدان أبي محمد: الموصل وديار ربيعة وديار بكر وقردى وبزيذى وبهذرا. وإلى نوح بن نصر بن أحمد الخراساني: خراسان. وبفارس والأهواز وكورما وقسمين ومناذر وسرق وأرجان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 علي بن بويه. وأصبهان: الحسن بن بويه الديلمي، وكانا يقيمان الخطبة له. وعلى الصلاة بالجانب الشرقي بمسجدي الرصافة ودار السلطان: الحسن بن عبد العزيز العباسي وولده. وعلى الصلاة بالجانب الغربي في الجامع بمدينة أبي جعفر المنصور: ابن بريه الهاشمي من ولد المنصور. وعلى الصلاة بمسجد براثا: أبو الحسن أحمد بن الفضل بن عبد الملك الهاشمي وابنه. تمت أخبار المتقي لله، وهو آخر ما عمله الصولي من أخبار الخلفاء. والحمد لله العدل الذي لا يجور، وصلى الله على محمد وآله وسلم وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285