الكتاب: الرسالة المؤلف: الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204هـ) المحقق: أحمد شاكر الناشر: مكتبه الحلبي، مصر الطبعة: الأولى، 1358هـ/1940م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الرسالة للشافعي الشافعي الكتاب: الرسالة المؤلف: الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204هـ) المحقق: أحمد شاكر الناشر: مكتبه الحلبي، مصر الطبعة: الأولى، 1358هـ/1940م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الرسالة للإمام المطلبي محمد بن ادريس الشافعي 150 - 204 عن أصل بخط الربيع بن سلمان كتبه في حياة الشافعي ((لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني، لانني رأيت رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له.)) عبد الرحمن بن مهدي بتحقيق وشرح أحمد محمد شاكر الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 1 هذا السفر القيم يضم بين دفتيه: 1 - المقدمة 2 - السماعات 3 - اللوحات المصورة 4 - كتاب الرسالة مشروحا محققا: الجزء الاول ص 005 - 203 الجزء الثاني 204 - 387 الجزء الثالث 389 - 601 5 - الاستدراك 603 - 608 6 - جريدة المراجع 609 - 610 7 - مفاتيح الكتاب: 1 - فهرس الايات 612 - 620 2 - فهرس الابواب 621 - 623 3 - فهرس الاعلام 624 - 646 4 - فهرس الاماكن 647 - 648 5 - فهرس الاشياء 649 - 654 6 - فهرس المفردات 655 - 658 7 - فهرس الفوائد اللغوية 659 - 662 8 - الفهرس العلمي 663 - 670 الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. هذا ال كتاب (الرسالة) للشافعي. وكفى الشافعي مدحا أنه الشافعي. وكفى (الرسالة) تقريظا أنها تأليف الشافعي. وكفاني فخرا أن أنشر بين الناس علم الشافعي. [مع إعلامهم نهيه عن تقليده وتقليد غيره] (1) . ولو جاز لعالم أن يقلد عالما كان أولى الناس عندي أن يقلد -: الشافعي. فإني أعتقد - غير غال ولا مسرف - أن هذا الرجل لم يظهر مثله في علماء الاسلام، في فقه الكتاب والسنة، ونفوذ النظر فيهما ودقة الاستنباط. مع قوة العارضة، ونور البصيرة، والايداع في إقامة الحجة وإفحام مناظره. فصيح اللسان، ناصع البيان، في الذروة العليا من البلاغة. تأدب بأدب البادية، وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر، حتى سما عن كل عالم قبله وبعده. نبغ في الحجاز، وكان الى علمائه مرجع الرواية والسنة، وكانوا أساطين العلم في فقه القران، ولم يكن الكثير منهم أهل لسن وجدل، وكادوا يعجزون عن مناظرة أهل الرأي، فجاء هذا الشاب يناظر وينافح، ويعرف كيف يقوم بحجته، وكيف يلزم أهل الرأي وجوب اتباع السنة، وكيف يثبت لهم الحجة في خبر الواحد، وكيف   (1) اقتباس من كلام المزني في أول مختصره بحاشية الام (ج 1 ص 2) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 5 يفصل للناس طرق فهم الكتاب على ما عرف من بيان العرب وفصاحتهم، وكيف يدلهم على الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، وعلى الجمع بين ما ظاهره التعارض فيهما أو في أحدهما. حتى سماه أهل مكة " ناصر الحديث ". وتواترت أخباره إلى علماء الاسلام في عصره، فكانوا يفدون إلى مكة للحج، يناظرونه ويأخذون عنه في حياة شيوخه، حتى إن أحمد بن حنبل جلس معه مرة، فجاء أحد إخوانه يعتب عليه أن ترك مجلس ابن عيينة - شيخ الشافعي -. ويجلس إلى هذا الاعرابي! فقال له أحمد: " اسكت، إنك إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول، وإن فاتك عقل هذا أخاف أن لا تجده، ما رأيت أحدا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى ". وحتى يقول داود بن علي الظاهري الامام في كتاب مناقب الشافعي: " قال لي إسحق بن راهويه: ذهبت أنا وأحمد بن حنبل الى الشافعي بمكة فسألته عن أشياء، فوجدته فصيحا حسن الادب، فلما فارقناه أعلمني جماعة من أهل الفهم بالقرآن أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد أوتي فيه فهما، فلو كنت عرفته للزمته. قال داود: ورأيته يتأسف على ما فاته منه ". وحتى يقول أحمد بن حنبل: " لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث ". ويقول أيضا: " كانت أقضيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع، حتى رأينا الشافعي، فكان أفقه الناس في كتاب الله، وفي سنة رسول الله ". ثم يدخل العراق، دار الخلافة وعاصمة الدولة (1) ، فيأخذ عن أهل الرأي علمهم ورأيهم، وينظر فيه، ويجادلهم ويحاجهم، ويزداد بذلك بصرا   (1) دخل الشافعي بغداد ثلاث مرات، الاولى وهو شاب سنة 184 أو قبلها في خلافة هرون الرشيد، والثانية في سنة 195 ومكث سنتين، والثالثة سنة 198 فأقام بها أشهرا، ثم خرج إلى مصر. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 6 بالفقه ونصرا للسنة، حتى يقول أبو الوليد المكي الفقيه موسى بن أبي الجارود: " كنا نتحدث نحن وأصحابنا من أهل مكة أن الشافعي أخذ كتب ابن جريح (1) عن أربعة أنفس: عن مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، وهذان فقيهان، وعن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وكان أعلمهم بابن جريح، وعن عبد الله بن الحرث المخزومي، وكان من الاثبات، وانتهت رياسة الفقه بالمدينة إلى مالك بن أنس، رحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه بالعراق إلى أبي حنيفة، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن جملا ليس فيها شئ إلا وقد سمعه عليه، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك، حتى أصل الاصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره، حتى صار منه ما صار ". ثم دخل مصر في سنة 199 فأقام بها إلى أن مات، يعلم الناس السنة وفقه السنة والكتاب، ويناظر مخالفيه ويحاجهم، وأكثرهم من أتباع شيخه مالك بن أنس، وكانوا متعصبين لمذهبه، فبهرهم الشافعي بعلمه وهديه وعقله، رأوا رجلا لم تر الاعين مثله، فلزموا مجلسه، يفيدون منه علم الكتاب وعلم الحديث، ويأخذون عنه اللغة والانساب والشعر، ويفيدهم في بعض وقته في الطب، ثم يتلعمون منه أدب الجدل والمناظرة، ويؤلف الكتب بخطه، فيقرؤن عليه ما ينسخونه منها، أو يملي عليهم بعضها إملاء، فرجع أكثرهم عما كانوا يتعصبون له، وتعلموا منه الاجتهاد ونبذ التقليد، فملا الشافعي طباق الارض علما. ومات ودفن بمصر، وقبره معروف مشهور إلى الان. وعاش 54 سنة،   (1) انتهت رياسة الفقه بمكة إلى ابن جريج. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 7 ولد سنة 150 بغزة، ومات ليلة الجمعة وذفن يوم الجمعة بعد العصر آخر يوم من رجب سنة 204 (1) (الجمعة 29 رجب سنة 204 يوافق 19 يناير سنة 820 ميلادية، 23 طوبة سنة 536 قبطية) . وليس الشافعي ممن يترجم له في أوراق أو كراريس، وقد ألف العلماء الائمة في سيرته كتبا كثيرة وافية، وجد بعضها وفقد أكثرها. ولعلنا نوفق إلى أن نجمع ما تفرق من أخباره في الكتب والدواوين، في سيرة خاصة به، إن شاء الله. وقد يفهم بعض الناس من كلامي عن الشافعي أني أقول عن تقليد أو عصبية، لما نشأ عليه أكثر أهل العلم من قرون كثيرة، من تفرقهم شيعا وأحزابا علمية، مبنية على العصبية المذهبية، مما أضر بالمسلمين وأخرهم عن سائر الامم، وكان السبب الاكبر في زوال حكم الاسلام عن بلاد المسلمين، حتى صاروا يحكمون بقوانين تخالف دين الاسلام، خنعوا لها واستكانوا، في حين كان كثير من علمائهم يأبون الحكم بغير المذهب الذي يتعصبون له ويتعصب له الحكام في البلاد. ومعاذ الله أن أرضى لنفسي خلة أنكرها على الناس، بل أبحث وأجد، وأتبع الدليل الصحيح حيثما وجد. وقد نشأت في طلب العلم وتفقهت على مذهب أبي حنيفة، ونلت شهادة العالمية من الازهر الشريف حنفيا، ووليت القضاء منذ عشرين سنة أحكم كما يحكم إخواني بما أذن لنا في الحكم به من مذهب الحنفية. ولكني بجوار هذا بدأت دراسة السنة النبوية أثناء طلب العلم، من نحو ثلاثين سنة، فسمت كثيرا وقرأت كثيرا، ودرست أخبار العلماء والائمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، لم أتعصب لواحد منهم، ولم أحد عن سنن الحق فيما بدا لي، فان أخطأت فكما يخطئ الرجل، وإن أصبت فكما يصيب الرجال. أحترم رأيي ورأي غيري، وأحترم ما أعتقده حقا قبل كل شئ وفوق كل شئ. فعن هذا قلت ما قلت واعتقدت ما أعتقد في الشافعي، رحمه الله ورضى عنه.   (1) ذكر المرحوم مختار باشا في التوفيقات الالهامية أن الشافعي مات في 4 شعبان، وهو خطأ. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 8 كتاب الرسالة ألف الشافعي كتبا كثيرة، بعضها كتبه بنفسه وقرأه على الناس أو قرؤه عليه، وبعضها أملاه إملاء، وإحصاء هذه الكتب عسير، وقد فقد كثير منها. فألف في مكة، وألف في بغداد، وألف في مصر. والذي في أيدي العلماء من كتبه الان ما ألفه في مصر، وهو كتاب (الام) الذي جمع فيه الربيع بعض كتب الشافعي، وسماه بهذا الاسم، بعد أن سمع منه هذه الكتب، وما فاته سماعه بين ذلك، وما وجده بخط الشافعي ولم يسمعه بينه أيضا، كما يعلم ذلك أهل العلم ممن يقرؤن كتاب (الام) . و (كتاب اختلاف الحديث) وقد طبع بمطبعة بولاق بحاشية الجزء السابع من الام. و (كتاب الرسالة) . وهما مما روى الربيع عن الشافعي منفصلين، ولم يدخلهما في كتاب (الام) . ولمناسبة الكلام عن كتب الشافعي وكتاب الام خاصة، يجدر بنا أن نقول كلمة فيما أثاره صديقنا الاديب الكبير الدكتور زكي مبارك حول كتاب (الام) منذ بضعة أعوام، فقد تعرض للجدل في هذا الكتاب، عن غير بينة ولا دراسة منه لكتب المتقدمين وطرق تأليفهم، ثم طرق رواية المتأخرين عنهم لما سمعوه، فأشبهت عليه بعض الكلمات في (الام) فظنها دليلا على أن الشافعي لم يؤلف هذه الكتب. واستند إلى كلمة رواها أبو طالب المكي في أخذه الربيع بعد موته فادعاه لنفسه. ثم جادل الدكتور زكي مبارك في هذا جدالا شديدا، وألف فيه كتابا صغيرا، أحسن ما فيه أنه مكتوب بقلم كاتب بليغ، والحجج على نقض كتابه متوافرة في كتب الشافعي نفسها. ولو صدقت هذه الرواية لارتفعت الثقة بكل كتب العلماء، بل لارتفعت الثقة بهؤلاء العلماء أنفسهم، وقد رووا لنا العلم والسنة، بأسانيدهم الصحيحة الموثوق بها، بعد أن نقد علماء الحديث سير الرواة وتراجمهم، ونفوا رواية كل من حامت حول صدقه أو عدله شبهة، والربيع المرادي من ثقات الرواة عند المحدثين، وهذه الرواية فيها تهمة له بالتلبيس والكذب، وهو أرفع قدرا وأوثق أمانة من أن نظن به أنه يختلس كتابا ألفه البويطي ثم ينسبه لنفسه، ثم يكذب على الشافعي في كل ما يروى أنه من تأليف الشافعي، بل لو صح عنه بعض هذا كان من أكذب الوضاعين وأجرئهم على الفرية! ! وحاش لله أن يكون الربيع الا ثقة أمينا. وقد رد مثل هذه الرواية أبو الحسين الرازي الحافظ محمد بن عبد الله بن جعفر المتوفى سنة 347، وهو والد الحافظ تمام الرازي، فقال: " هذا لا يقبل، بل الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 9 البويطي كان يقول: الربيع أثبت في الشافعي مني، وقد سمع أبو زرعة الرازي كتب الشافعي كلها من الربيع قبل موت البويطي بأربع سنين ". انظر التهذيب للحافظ ابن حجر (3: 246) . وقد يظن بعض القارئين أني أقسو في الرد على الدكتور، ومعاذ الله أن أقصد إلى ذلك، وهو الاخ الصادق الود، ولكن ماذا أصنع؟ وهو يرمي أوثق رواة كتب الشافعي - الربيع المرادي - بالكذب على الشافعي، ثم ينتصر لرأيه، ويسرف في ذلك، ويخونه قلمه، حتى ينقل عن الام نقلا غير صحيح، ينتهي به إلى أن يرمي الشافعي نفسه بالكذب! ! فيزعم في كتابه أن عبارة " أخبرنا " لا تدل على السماع في الرواية، وأن الاخبار معناه أحيانا النقل والرأي، ثم ينقل عن الام أن الشافعي قال في (ج 1 ص 117) " أخبرنا هشيم " ويقول: " إن الشافعي لم يلق هشيما، فقد توفي هشيم ببغداد سنة 183 والشافعي إنما دخل إلى بغداد سنة 195 ". وأصل هذا الاستدراك للسراج البلقيني، وهو مذكور بحاشية الام، ولكن تعليقا، وذلك أن يروي الرجل عمن لم يلقه من الشيوخ شيئا فيذكر اسمه فقط على تقدير " قال "، أو يقول صريحا " قال فلان ". وليس بهذا بأس، بل هو أمر معروف مشهور، ولا مطعن على الراوي به. ولذلك بين البلقيني الامر، فان لكلامه بقية حذفها الدكتور، وهي: " فلسكونه لم يسمع منه يقول بالتعليق: هشيم، يعني: قال هشيم ". ولكن الدكتور زكي مبارك فاته معنى هذا عند علماء المصطلح، فحذفه. ثم زاد فيما نقل عن الشافعي كلمة " أخبرنا " ليؤيد بها رأيه الذي اندفع في الاحتجاج له. * فائدة: أخطأ السراج البلقيني في هذا الموضع، في إيهامه أن الشافعي لم يدخل بغداد إلا سنة 195 لانه ثبت أنه دخلها سنة 184 وسمع من محمد بن الحسن كثيرا من العلم. كما أخطأ أيضا في حاشية أخرى كتبها بعد هذا الموضع (الام 1: 118) عند قول الشافعي " أخبرنا ابن مهدي " قال: " هكذا وقع في نسخة الام أن الشافعي يقول: أخبرنا ابن مهدي، والشافعي لم يجتمع بابن مهدي ". ووجه الخطأ أن الشافعي وابن مهدي تعاصرا، وكلاهما دخل بغداد، والغالب أن ابن المهدي كان يدخل الحجاز، والمعروف البديهي عند علماء الحديث أن الراوي العدل إذا قال " حدثنا " أو " أخبرنا " كان الحديث متصلا، وأنه إذا قال " عن فلان " لمن ثبت لقاؤه إياه ولو مرة واحدة حمل على الاتصال أيضا، لا يخالف أحد منهم في ذلك. (انظر الرسالة رقم 1032) وإنما اختلفوا فيمن يقول " عن فلان " لشخص عاصره ولم يثبت أنه لقيه ولو مرة، فالبخاري لا يحمله على الاتصال، ومسلم وأكثر أهل العلم يجعلونه متصلا أيضا، وهو الراجح الصحيح. ولا يخالف أحد من العلماء في أن الرواي الذي يقول " حدثنا " أو " أخبرنا " لما لم يسمع فانما هو كذاب وضاع، فالشافعي الصادق الامين إذا قال " أخبرنا ابن مهدي " فقد أخبره، لا يجوز فيه غير هذا. و (كتاب الرسالة) ألفه الشافعي مرتين. ولذلك يعده العلماء في فهرس مؤلفاته كتابين: الرسالة القديمة، والرسالة الجديدة. أما الرسالة القديمة فالراجح الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 10 عندي أنه ألفها في مكة، إذ كتب إليه عبد الرحمن بن مهدي (1) " وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القران. ويجمع قبول الاخبار فيه، وحجة الاجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القران والسنة. فوضع له كتاب الرسالة " (2) وقال علي بن المديني: " قلت لمحمد بن أدريس الشافعي أجب عبد الرحمن بن مهدي عن كتابه، فقد كتب إليك يسألك، وهو متشوق إلى جوابك. قال: فأجابه الشافعي، وهو كتاب الرسالة التي كتبت عنه بالعراق، وإنما هي رسالته إلى عبد الرحمن بن مهدي " (3) . وأرسل الكتاب إلى ابن مهدي مع الحرث بن سريج النقال الخوارزمي ثم البغدادي، وبسبب ذلك سمي " النقال " (4) . والظاهر عندي أن عبد الرحمن بن مهدي كان إذ ذلك في بغداد، دخلها سنة 180، ولكن الفخر الرازي يقول في كتاب مناقب الشافعي (ص 57) : " اعلم أن الشافعي رضى الله عنه صنف كتاب الرسالة ببغداد، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة، وفي كل واحد منهما علم كثير ". وأياما كان فقد ذهبت الرسالة القديمة، وليس في أيدي الناس الان إلا الرسالة الجديدة، وهي هذا الكتاب. وقد تبين لنا من استقراء كتب الشافعي الموجودة التي ألف بمصر أنه ألف هذه الكتب من حفظه، ولم تكن كتبه كلها معه. انظر إليه يقول في كتاب الرسالة (رقم 1184) . " وغاب عني بعض كتبي، وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظت، فاختصرت خوف طول الكتاب، فأتيت   (1) عبد الرحمن بن مهدي الحافظ الامام العلم، قال الشافعي: لا أعرف له نظيرا في الدنيا. ولد سنة 135 ومات في جمادي الاخرة سنة 198. (2) رواه الخطيب باسناده في تاريخ بغداد (2: 64 - 65) وسيأتي في السماعات برقم (52) ورواه أيضا البيهقي باسناده، نقله عنه ياقوت في معجم الادباء (6: 388 - 389) . (3) رواه الحافظ ابن عبد البر باسناده في الانتقاء (ص 72 - 73) . (4) الانتقاء (ص 72) والانساب (ورقة 576) وطبقات الشافعية (1: 249) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 11 ببعض ما فيه الكفاية، دون تقصي العلم في كل أمره ". ويقول في كتاب اختلاف الحديث (ص 252) : " وقد حدثني الثقة أن الحسن كان يدخل بينه وبين عبادة حطان الرقاشي، ولا أدري أدخله عبد الوهاب بينهما فزال من كتابي حين حولته من الاصل أم لا؟ والاصل يوم كتبت هذا الكتاب غائب عني ". والظاهر عندي أيضا أنه أعاد تأليف كتاب الرسالة بعد تأليف أكثر كتبه التي في (الام) ، لانه يشير كثيرا في الرسالة إلى مواضع مما كتب هناك، فيقول مثلا (رقم 1173) : " وقد فسرت هذا الحديث قبل هذا الموضع ". وهذه إشارة إلى ما في الام (6: 77) . والراحج أنه أملى (كتاب الرسالة) على الربيع إملاء، كما يدل على ذلك قوله في (337) : " فخفف فقال: علم أن سيكون منكم مرضى. قرأ إلى: فاقرؤا ما تيسر منه ". فالذي يقول " قرأ " هو الربيع، يسمع الاملاء ويكتب، فإذا بلغ إلى آية من القران كتب بعضها ثم يقول " الاية " أو " إلى كذا "، فيذكر ما سمع الانتهاء إليه منها، ولكن هنا صرح بأن الشافعي قرأ إلى قوله " فاقرؤا ما تيسر منه ". والشافعي لم يسم " الرسالة " بهذا الاسم، إنما يسميها (الكتاب) أو يقول " كتابي " أو " كتابنا ". وانظر الرسالة (رقم 96، 418، 420، 573، 625، 709، 953) وكذلك يقول في كتاب (جماع العلم) مشيرا إلى الرسالة " وفيما وصفنا ههنا وفي (الكتاب) قبل هذا ". (الام 7: 253) . ويظهر أنها سميت " الرسالة " في عصره، بسبب إرساله إياها لعبد الرحمن بن مهدي (1) .   (1) وقد غلبت عليها هذه التسمية، ثم غلبت كلمة " رسالة " في عرف المتأخرين على كل كتاب صغير الحجم، مما كان يسميه المتقدمون " جزءا ". فهذا العرف الاخير غير جيد، لان " الرسالة " من " الارسال ". الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 12 وهذا كتاب (الرسالة) أول كتاب ألف في (أصول الفقه) بل هو أول كتاب ألف في (أصول الحديث) أيضا. قال الفخر الرازي في مناقب الشافعي (ص 57) : " كانوا قبل الامام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معرضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع. فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطا طاليس إلى علم العقل ". وقال بدر الدين الزركشي في كتاب البحر المحيط في الاصول (مخطوط) : " الشافعي أول من صنف في أصول الفقه، صنف فيه كتاب الرسالة، وكتاب أحكام القران، واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب القياس ". وأقول: إن أبواب الكتاب ومسائله، التي عرض الشافعي فيها للكلام على حديث الواحد والحجة فيه، وإلى شروط صحة الحديث وعدالة الرواة، ورد الخبر المرسل والمنقطع، إلى غير ذلك مما يعرف من الفهرس العلمي في آخر الكتاب -: هذه المسائل عندي أدق وأغلى ما كتب العلماء في أصول الحديث، بل إن المتفقه في علوم الحديث يفهم أن ما كتب بعده إنما هو فروع منه، وعالة عليه، وأنه جمع ذلك وصنفه على غير مثال سبق، لله أبوه. و (كتاب الرسالة) بل كتب الشافعي أجمع، كتب أدب ولغة وثقافة، قبل أن تكون كتب فقه وأصول، ذلك أن الشافعي لم تهجنه عجمة، ولم تدخل على لسانه لكنة، ولم تحفظ عليه لحنة أو سقطة. قال عبد الملك بن هشام النحوي صاحب السيرة: " طالت مجالستنا للشافعي فما سمعت منه لحنة قط، ولا كلمة غيرها أحسن منها ". وقال أيضا: " جالست الشافعي زمانا، فما الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 13 سمعته تكلم بكلمة إلا إذا أعتبرها المعتبر لا يجد كلمة في العربية أحسن منها ". وقال أيضا: " الشافعي كلامه لغة يحتج بها ". وقال الزعفراني: " كان قوم من أهل العربية يختلفون إلى مجلس الشافعي معنا، ويجلسون ناحية، فقلت لرجل من رؤسائهم: إنكم لا تتعاطون العلم فلم تختلفون معنا؟ قالوا: نسمع لغة الشافعي ". وقال الاصمعي: " صححت أشعار هذيل على فتى من قريش، يقال له محمد بن إدريس الشافعي ". وقال ثعلب: " العجب أن بعض الناس يأخذون اللغة عن الشافعي، وهو من بيت اللغة! والشافعي يجب أن يؤخذ منه اللغة، لا أن يؤخذ عليه اللغة ". يعني يجب أن يحتجوا بألفاظه نفسها، لا بما نقله فقط. وكفى بشهادة الجاحظ في أدبه وبيانه (1) ، يقول: " نظرت في كتب هؤلاء النبغة (2) الذين نبغوا في العلم، فلم أر أحسن تأليفا من المطلبي، كأن لسانه ينظم الدر ". فكتبه كلها مثل رائعة من الادب العربي النقي، في الذروة العليا من البلاغة، يكتب على سجيته، ويملي بفطرته، لا يتكلف ولا يتصنع، أفصح نثر تقرؤه بعد القران والحديث، لا يساميه قائل، ولا يدانيه كاتب. وإني أرى أن هذا الكتاب (كتاب الرسالة) ينبغي أن يكون من الكتب المقرؤة في كليات الازهر وكليات الجامعة، وأن تختار منه فقرات لطلاب الدراسة الثانوية في المعاهد والمدارس، ليفيدوا من ذلك علما بصحة النظر وقوة الحجة، وبيانا لا يرون مثله في كتب العلماء وآثار الادباء. وقد عني أئمة العلماء السابقين بشرح هذا الكتاب، كما ظهر لنا من   (1) الجاحظ صنو الشافعي، ولد في أول سنة 150 التي ولد فيها الشافعي، وعمر نحوا من ضعفي عمره، مات في المحرم سنة 255 (2) " نبغة القوم " بفتح النون والباء: وسطهم. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 14 تراجم بعضهم ومن كتاب (كشف الظنون) ، والذين عرفت أنهم شرحوه خمسة نفر: 1 - أبو بكر الصديق محمد بن عبد الله، كان يقال: إنه أعلم خلق الله بالاصول بعد الشافعي، تفقه على ابن سريج، مات سنة 330 ذكر شرحه في كشف الظنون وطبقات الشافعية (2: 169 - 170) والزركشي في خطبة البحر. 2 - أبو الوليد النيسابوري الامام الكبير حسان بن محمد بن أحمد بن هرون القرشي الاموي، تلميذ ابن سريج، وشيخ الحاكم أبي عبد الله، وصاحب المستخرج على صحيح مسلم، ولد بعد سنة 270 ومات ليلة الجمعة 5 ربيع الاول سنة 349 (الطبقات 2: 191 - 192) ولم يذكر شرحه، وذكره الزركشي وكشف الظنون. 3 - القفال الكبير الشاشي، محمد بن علي بن إسماعيل، ولد سنة 291 ومات في آخر سنة 365 ذكره الزركشي وكشف الظنون والطبقات (2: 176 - 178) . 4 - أبو بكر الجوزقي النيسابوري الامام الحافظ محمد بن عبد الله الشيباني، تلميذ الاصم وأبي نعيم، وشيخ الحاكم أبي عبد الله، وصاحب المسند على صحيح مسلم، مات في شوال سنة 388 وله 82 سنة (الطبقات 2: 169) ولم يذكر شرحه، وذكره كشف الظنون. 5 - أبو محمد الجويني الامام، عبد الله بن يوسف، والد إمام الحرمين، مات سنة 438 (الطبقات 3: 208 - 219) ولم يذكر الشرح، وذكره الزركشي وكشف الظنون. ولعل غيرهم شرحه ولم يصل خبره إلي. ولكن هذه الشروح التي عرفنا أخبارها لم أسمع عن وجود شرح منها في أية مكتبة من مكاتب العالم في هذا العصر. نسخ الكتاب لم أر نسخة مخطوطة من (كتاب الرسالة) إلا أصل الربيع ونسخة ابن جماعة. ولكنا نجد في السماعات - التي سيراها القارئ - أن أكثر الشيوخ وكثيرا من السامعين كانت لهم نسخ يصححونها على أصل الربيع، وأن نسخة ابن جماعة قوبلت على أصول مخطوطة عديدة، فأين ذهبت كل هذه الاصول؟ ! لا أدري. وقد طبع الكتاب في مصر ثلاث مرات: الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 15 1 - الاولى بالمطبعة العلمية سنة 1312 بتصحيح (يوسف صالح محمد الجزماوي) ، في (160 صفحة) بقطع الثمن، وهي طبعة مملوءة بالاغلاط. وهي التي نشير إليها بحرف (ج) . 2 - الثانية بالمطبعة الشرفية سنة 1315 في (144 صفحة) بقطع الربع، وقد طبعت عن أصل الربيع بالواسطة، نقلها أولا (محمد مصطفى الكاتب بالكتبخانة الخديوية سنة 1308 ثم نسخت عنها نسخة فرغ منها كاتبها (في يوم الاحد 14 صفر سنة 1310) على ذمة ناشرها (الشيخ سليم سيد أحمد أبراهيم شرارة القباني) ، وهذه النسخة أقل من سابقتها أغلاطا في الجزء الاول من تقسيم الربيع، ثم يظهر أن مصححها عارض بنسخ أخرى أو بالطبعة السابقة، فكثرت مخالفته لاصل الربيع، وكثرت فيها الاغلاط، ولكن ميزتها أن فيها كل السماعات التي على الاصل، وإن أخطأ الناسخ في قراءة كثير منها، وهو في ذلك معذور. وهي التي نشير إليها بحرف (ش) . 3 - الثالية بمطبعة بولاق سنة 1321 عل نفقة السيد أتحمد بك الحسيني المحامي رحمه الله، في (82 صفحة) بالقطع الكبير، وهي مملوءة بالاغلاط أيضا، ومخالفة في كثير من المواضع لاصل الربيع، ولا أدري عن أي النسخ طبعت، وإن كنت أظن أن مصححي مطبعة بولاق رجعوا كثيرا إلى نسخة ابن جماعة. وهي التي نشير إليها بحرف (ب) . وقد ذكرنا في تعليقنا على الرسالة مواضع مخالفة هذه النسخ للاصل، ليكون القارئ على بينة من أمرها، فلا يظن أننا أخطأنا في مخالفتها، أو قصرنا في المقابلة، وليوقن أن هذه الطبعة أصح الطبعات وأجودها. ويجمل بي في هذه المناسبة أن أنوه بفضل إخواني (أنجال المرحوم السيد مصطفى البابي الحلبي) إذ ساروا على الخطة المثلى، خطة أبيهم رحمه الله، في إحياء الكتب العربية القيمة، وإخراجها للناس تملا العين وتسر القلب، محافظين على آثار سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فبذلوا ما بذلوا من جهد ومال، في سبيل إخراج هذا الكتاب، فكان لي من تشجيعهم وأناتهم عون كبير في تحقيقه وشرحه، حتى سلخت في ذلك نحو ثلاث سنين، والحمد لله على توفيقه. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 16 أصل الربيع من أول يوم قرأت في أصل الربيع من (كتاب الرسالة) أيقنت أنه مكتوب كله بخط الربيع، وكلما درسته ومارسته ازددت بذلك يقينا، فتوقيع الربيع في آخر الكتاب بخطه بإجازة نسخه إذ يقول: " أجاز الربيع بن سليمان صاحب الشافعي نسخ كتاب الرسالة، وهي ثلاثة أجزاء في ذي القعدة سنة خمس وستين ومائتين، وكتب الربيع بخطه " (1) -: نفهم منه أنه كان ضنينا بهذا الاصل، لم يأذن لاحد في نسخه من قبل، حتى أذن في سنة 265 بعد أن جاوز التسعين من عمره، وعبارة الاجازة تدل على ذلك، لمخالفتها المعهود في الاجازات، إذ يجيز العلماء لتلاميذهم الرواية عنهم، أما إجازة نسخ الكتاب فشئ نادر، لا يكون إلا لمعنى خاص، وعن أصل حجة لا تصل إليه كل يد. والخابر بالخطوط القديمة يجزم بأن هذه الاجازة كتبتها اليد التي كتبت الاصل، وأن الفرق بين الخطين إنما فرق السن وعلوها، فاضطربت يد الكاتب بعد أن جاوز التسعين، بما لم يوجد في خطه في فتوته لم يجاوز الثلاثين (2) ، وقد خشيت أن أثق برأيي وحدي في ذلك، فأردت أن أتثبت، فاستشرت أحد إخواني ممن لهم خبرة بينة وعلم بالخطوط، فوافقني على أن كاتب الاجازة وكاتب الاصل وكاتب عناوين الاجزاء الثلاثة شخص واحد، لا فرق بينها إلا أنه كتب العناوين بالخط الكوفي، وكتب الاجازة وهو شيخ كبير.   (1) انظر صورتها في اللوحة (رقم 9) وفي (ص 601) من الكتاب. (2) ولد الربيع سنة 174 ومات في 20 شوال سنة 270. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 17 وأنا أرجج ترجيحا قريبا من اليقين أن الربيع كتب هذه النسخة من إملاء الشافعي، لما بينت فيما مضى، ولانه لم يذكر الترحم على الشافعي في أي موضع جاء اسمه فيه، ولو كان كتبها بعد موته لدعا له بالرحمة ولو مرة واحدة، كعادة العلماء وغيرهم. وقد حاول الدكتور (ب. موريتس (1)) أن يدخل الشك على تاريخ هذه النسخة، فادعى في كتاب الخطوط العربية أنها مكتوبة سنة 350 تقريبا. فعن ذلك تردد بعض إخواني ممن تحدثت إليهم في أن الربيع كتبها، وزعموا أنها نسخة مكتوبة بعد الربيع بدهر، وأن ناسخها نقلها ونقل نص الاجازة، ثم لم يبين أنه نقلها! ! وهذا رأى لا يثبت على النقد، لان المعروف في نقل الكتب أن الناسخ إذا نسخ الكتاب وتاريخ كتابته وما كتب عليه من إجازة أو سماع مثلا -: أثبت أن هذا نص ما كان على النسخة التي ينقل منها. ثم الذي ينقضه نقضا ارتعاش القلم الظاهر في كتابة الاجازة، فلو كانت منقولة عن نسخة أخرى ما افترق خطها عما قبلها، ولكان الجميع على نسق واحد. وكان مما احتجوا به لرأيهم ورأي الدكتور موريتس أنها مكتوبة على الورق، أن الورق لم يكن معروفا في ذلك العهد كثيرا، بل كان جل الكتابة على البردي. وهذا مردود بأن الورق كثر وفشا في القرن الثاني من الهجرة. (انظر مثلا صبح الاعشى 2: 486) . واحتجوا أيضا بأن خطها ليس بالقلم الكوفي، الذي كان يكتب به أهل القرن الثاني والثالث. ومن العجب أن هذه الشبهة عرضت أيضا لبعض العلماء الاقدمين، وردها القلقشندي قال: " ذكر صاحب   (1) كان مديرا لدار الكتب المصرية من 25 اكتوبر سنة 1896 إلى 31 أغسطس سنة 1911. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 18 إعانة المنشئ أن أول ما نقل الخط العربي من الكوفي إلى ابتداء هذه الاقلام المستعملة الان -: في أواخر خلافة بني أمية، وأوائل خلافة بني العباس: قلت: على أن الكثير من كتاب زماننا يزعمون أن الوزير أبا علي بن مقلة (1) هو أول من ابتدع ذلك. وهو غلط، فانا نجد من الكتب بخط الاولين فيما قبل المائتين ما ليس على صورة الكوفي، بل يتغير عنه إلى نحو هذه الاوضاع المستقرة، وإن كان هو إلى الكوفي أميل لقربه من نقله عنه " (صبح الاعشي 3: 15) وكأن القلقشندي بهذا يصف نسخة الرسالة، ففي حروفها شبه بالخط الكوفي، ولم يكن الخط الكوفي مهجورا في تلك العصور، بل كانوا يكتبون به المهارق والوثائق، وكانوا يتأنقون به في كتابة المصحف وغيرها، ولذلك نرى الربيع يكتب في عناوين الاجزاء الثلاثة كلمات (الجزء الاول. الجزء الثاني. الجزء الثالث) بالخط الكوفي، ويكتب تحتها كلمات (من الرسالة رواية الربيع بن سليمان عن محمد بن إدريس الشافعي) بخط وسط بين الكوفي وبين خطه في داخل الكتاب (انظر اللوحات رقم 3، 4، 5 مقارنا برقم 6، 7، 8، 9) . والخطوط العربية القديمة التي وجدت في دور الكتب ودور الاثار تدل على أن هذا الخط كان معروفا في القرن الثاني، قبل ابن مقلة، كما قال القلقشندي. ومن مثل ذلك أن من الاوراق البردية الموجودة بدار الكتب المصرية ورقة مؤرخة سنة 195 يشبه خطها خط كتاب الرسالة، بل إن الشبهة بينهما قريب جدا، حتى ليكاد المطلع عليهما أن يظن أن كاتبيهما تعلما الخط على معلم واحد، وهذه الورقة منشورة في الجزء الاول من كتاب (أوراق البردي العربية) الذي ألفه المستشرق جروهمان وترجمه الدكتور حسن إبراهيم، وطبع بدار الكتب   (1) الوزير أبو علي محمد بن علي ابن الحسن، من وزراء الدولة العباسية، ولد سنة 272 ومات سنة 328 الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 19 سنة 19 وهي (برقم 51 في اللوحة رقم 8) وقد صورناها، وصورنا قطعة من (ص 36 من الاصل) ووضعناهما متجاورتين في صفحة واحدة (لوحة رقم 10، 11) ليسهل على القارئ المقارنة بينهما، ورسمنا سهما أمام تاريخ ورقة البردي (سنة 195) . ومما لا شك فيه أن خط الربيع يعتبر من خط أهل القرن الثاني، لانه ولد سنة 174 والشافعي دخل مصر في أواخر سنة 199 فاتخذ الربيع خادما له وتلميذا خاصا، وكان الشافعي يقول له: " أنت راوية كتبي ". وحين قدم الشافعي مصر كان الربيع مؤذنا بالمسجد الجامع بفسطاط مصر - جامع عمرو بن العاص - وكان يقرأ بالالحان، معنى هذا أنه كان كاتبا قارئا في أواخر القرن الثاني، فقد تعلم الخط والقراءة صغيرا كما يتعلم الناس. ثم يرفع كل شك في نسب هذه النسخة احتفال العلماء العظماء، والائمة الحفاظ الكبار بها، منذ سنة 394 إلى سنة 656 وإثبات خطوطهم عليها وسماعاتهم، بل إثبات أنهم صححوا نسخهم وقابلوها عليها، كما ترى فيما يأتي من السماعات والتوقيعات، ويحرصون على إثبات سماعهم فيها طلابا صغارا، ثم إسماعهم إياها لغيرهم شيوخا كبارا. وترى الاسر العلمية الكبيرة يتسابقون إلى سماعها، فيسجلون أسماءهم عليها. فانك ترى - مثلا - من أئمة الحفاظ الكبار من أهل العلم، الذين سمعوا الكتاب في هذه النسخة -: الحافظ الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين، وصديقه الحافظ الامير ابن ماكولا (في السماعات رقم 8 - 11) والحافظ أبا الفتيان الدهستاني (في رقم 12) والحافظ الكبير ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق (في رقم 18، 21) والحافظ عبد القادر الرهاوي (في رقم 22، 23) الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 20 والحافظ تاريخ الدين القرطبي (في رقم 24، 26، 27) والحافظ زكي الدين البرزالي (في رقم 27، 28) . وترى أن أسرة الحافظ ابن عساكر سمع منها في هذه النسخة أحد عشر رجلا: الحافظ ابن عساكر علي بن الحسن بن هبة الله، وأخواه محمد وأحمد، وابناه: القاسم والحسن ابنا علي، وحفيداه: محمد وعلي ولدا القاسم، وأبناء أخيه: عبد الله وعبد الرحمن ونصر الله وعبد الرحيم: أبناء محمد بن الحسن (انظر السماعات 18، 19، 21، 24، 25) . وأسرة الخشوعي سمع منها سبعة نفر: أولهم طاهر بن بركات بن إبرهيم الخشوعي، ثم ابنه إبرهيم، ثم بركات بن إبرهيم، ثم أولاده: إبرهيم وأبو الفضل وعبد الله أبناء بركات بن إبرهيم، ثم عثمان بن عبد الله بن بركات (انظر السماعات 12، 16، 18، 22 - 28) . ثم الحافظ ابن عساكر لا يكفيه أن يسجل اسمه في السماعات، فيكتب بخطه أربع مرات على النسخة: " سمع جميعه وعارض بنسخته علي بن الحسن بن هبة الله " (انظر التوقيع رقم 39) . وكذلك غيره من الحفاظ والعلماء، مما يظهر من التوقيعات (32 - 45) . ثم يثلج الصدر ويملؤه يقينا أن نجد شهادة بخط أحد العلماء الحفاظ الاثبات القدماء، يسجل فيها أن هذه النسخة بخط الربيع، فنرى هبة الله بن أحمد بن محمد بن الاكفاني (المتوفى في 6 محرم سنة 524 عن 80 سنة) يكتب بخطه ثلاثة عناوين للاجزاء الثلاثة، يسوق فيها إسناده إلى الربيع، ثم يكتب فوق عنوان الاول منها ما نصه: " الجزء الاول من الرسالة لابي عبد الله الشافعي بخط الربيع صاحبه ". ويكتب فوق عنوان الثالث ما نصه: " الجزء الثالث الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 21 من الرسالة بخط الربيع صاحب الشافعي ". وأما عنوان الجزء الثاني ففوقه: " الثاني من الرسالة " ويظهر أن باقي الكلام ممحو بعارض من عاديات الزمان. وتجد صورة عنوان الجزء الاول في (اللوحة رقم 1) فترى فيها في الزاوية العليا اليمنى خط الحافظ ابن عساكر، وبجواره خط شيخه ابن الاكفاني. وقد ظننت أول الامر أن هذه الشهادة بخط ابن عساكر، ثم تبين لي من دراسة خطوط السماعات والعناوين أنها خط ابن الاكفاني. ثم نرى أيضا أن هؤلاء العلماء - وهم أقرب منا عهدا بالربيع - يتلكفون النص في السماعات كلها أو أكثرها على اسم مالك النسخة، إشارة الى شدة العناية بها، وإشادة بما لمالكها من ميزة وفخر، أن حاز هذا الاثر الجليل النفيس. أفيظن ظان أو يتوهم متوهم أنهم يصنعون كل هذا لنسخة مزيفة مزورة؟ ! أو يخفى عليهم من شأنها ما لم يخف على الدكتور موريتس، وهم أخبر بالخطوط وأعلم بالعلم، وهم يروون الكتاب بأسانيدهم رواية سماع وقراءة؟ ! وكثيرا ما عجبت: لماذا عين تاريخها الذي زعم، سنة 350 تقريبا، ثم تبينت من أين الوهم. فوجدت في حاشية نسخة العماد ابن جماعة بجوار الفقرة (126 من الكتاب) ما نصه: " بلغ مقابلة على أصل سمع مرات، تاريخه من حين نسخ ثلاثمائة وثمان وخمسون سنة " ثم كتب بحاشيتها في مواضع أخر: " بلغ مقابلة على النسخة المذكورة ". فرجحت من هذا أنه رأى هذه الكتابة، وليس بدار الكتب نسخ قديمة من الرسالة غير أصل الربيع ونسخة ابن جماعة، فظن أن نسخة ابن جماعة قوبلت على نسخة الربيع، وأن هذا يدل على أن نسخة الربيع كتبت حول سنة 350 ولكن هذا النص الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 22 لا يؤدي هذا المعنى، فإن نسخة ابن جماعة نرجح أنها كتبت له قبيل قراءتها على جده سنة 856 وقوبلت على نسخة مضى عليها من حين كتابتها إلى حين مقابلة نسخة ابن جماعة عليها 358 سنة، أي أنها كتبت قبيل سنة 500 فالرقم (358) هو عدد السنين التي تفرق بين النسختين، لا تاريخ الاولى، فهي غير نسخة الربيع يقينا. وصف النسخة عدد أوراقها 78 ورقة، منها 62 ورقة هي أصل الذي بخط الربيع، والباقي أوراق زيدت في أوله وآخره ووسطه، كتبت فيها السماعات وغيرها، وغلفت النسخة بجلد قديم، لا أستطيع الجزم بتاريخه، ولعله في القرن السادس أو السابع الهجري. وطول الورقة من أصل الكتاب (8 و 25 سنتيمتر) وعرضها (14 س) والكتابة تملا الصفحة تقريبا، فإن طول السطر الواحد (5 و 12 س) وعدد السطور يختلف في الصفحات ما بين (27، 30) سطرا، تشغل من طولها نحو (8 و 24 س) . وقد صورنا صورا منها مصغرة قليلا إلى نحو الثلين، حتى تتسع لها مساحة الورق الذي تطبع عليه، وهي اللوحات (رقم 6 - 9) . والخط مقروء واضح لمن خبر هذه الخطوط القديمة، إلا في بعض المواضع النادرة، مما يتبين لقارئ الكتاب بما علقنا به عليه. وقواعد الرسم التي كتبت بها تختلف كثيرا عن القواعد التي يكتب بها المتأخرون، وإحصاء ذلك لا تسعه هذه المقدمة، ولكنا نذكر بعض أنواعها. فمن ذلك أنه يكتب كل ما ينطق ألفا في أواخر الكلمات بالالف، وإن كان مما يكتب بالياء، إلا كلمة، " هكذا " وحرفي " إلى " وعلى " فبالياء، فيكتب مثلا الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 23 " حتى " بالالف " حتا ". و" حكى " " حكا ". و" مستغنى " " مستغنا ". و" سوى " " سوا " الخ. وإذا كانت الكلمة تنطق بإمالة الالف لم يكتبها ألفا، بل كتبها ياء، إشارة إلى الامالة، مثل " هؤلاء " كتبها " هاولى " وكذلك " الايلاء " كتبها " الايلى ". ويحذف ألف " ابن " مطلقا، وإن لم تكن بين علمين، فيكتب مثلا " عن بن عباس ". ويكتب كلمة " ههنا " " هاهنا ". وكلمة " هكذا " برسمين: الاكثر: " ها كذى " والبعض: " هكذى ". ويقسم الكلمة الواحدة في سطرين إذا لم يسعها اخر السطر، فمثلا كلمة " استدللنا " كتب الالف وحدها في سطر وباقيها في السطر الاخر (ص 44 من الاصل س 10، 11) وكلمة " زوجها " الزاي والواو في سطر والباقي في سطر (ص 50 س 18، 19) . وهذا كثير فيها. وأما الثقة بها فما شئت من ثقة، دقة في الكتابة، ودقة في الضبط، كعادة المتقنين من أهل العلم الاولين. فإذا اشتبه الحرف المهمل بين الاهمال والاعجام، ضبطه بإحدى علامتي الاهمال: إما أن يضع تحته نقطة، وإما أن يضع فوقه رسم هلال صغير، حتى لا يشبه فيتصحف على القارئ. ومن أقوى الادلة على عنايته بالصحة والضبط، أنه وضع كسرة تحت النون في كلمة " النذارة " (رقم 35 ص 14 من الاصل) وهي كلمة نادرة، لم أجدها في المعاجم إلا في القاموس، ونص على أنها من الامام الشافعي. وهي تؤيد ما ذهبت إليه من الثقة بالنسخة، وتدل على أن الربيع كان يتحرى نطق الشافعي ويكتب عنه عن بينة. ومن الطرائف المناسبة هنا أنى عرضت هذه الكلمة على أستاذنا الكبير العلامة أمير الشعراء على بك الجارم، فيما كنت أعرض عليه من عملي في الكتاب، فقال لي: كأنك بهذه الكلمة جئت بتوقيع الشافعي على النسخة. وقد صدق حفظه الله. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 24 ومما يلاحظ في النسخة أن الصلاة على النبي لم تكتب عند ذكره في كل مرة، بل كتبت في القليل النادر، بلفظ " صلى الله عليه ". وهذه طريقة العلماء المتقدمين، في عصر الشافعي وقبله، وقد شدد فيها المتأخرون، وقالوا: ينبغي المحافظة على كتابة الصلاة والتسليم، بل زادوا أنه لا ينبغي للناسخ أن يتقيد بالاصل إذا لم توجد فيه. وقد ثبت عن أحمد بن حنبل أنه كان لا يكتب الصلاة، وأجابوا عن ذلك بأنه كان يصلي لفظا، أو بأنه كان يتقيد بما سمع من شيخه فلا يزيد عليه. والذي أختاره أن يتقيد الناسخ بالاصل الذي يعتمد عليه في النقل، أما إذا كتب لنفسه فهو مخير، وليس معنى هذا أن يفعل كما يفعل الكتاب " المجد دون! ! " في عصرنا، إذ يذكرون النبي باسمه " محمد " صلى الله عليه وسلم، ولا يكتبون الصلاة عليه، بل يذكره بصفد النبوة أو الرسالة أو نحوهما، لان الله سبحانه نهانا عن مخاطبته باسمه: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) ولان الله لم يذكره في القران إلا بصفة النبوة أو الرسالة، أو باسمه الكريم مقرونا بإحداهما. وانظر شرح العراقي على مقدمة ابن الصلاح (ص 174 - 175) وتدريب الرواي (ص 153) وشرحنا على ألفية السيوطي (ص 151) وشرحنا على مختصر علوم الحديث لابن كثير ص (158 - 159) وشرحنا على الترمذي (2: 354 - 355) . أصحاب النسخة تتبعت السماعات الاتية، وعرفت منها أكثر مالكي النسخة من أواخر القرن الرابع الى منتصف القرن السابع. فأول مالكيها فيما أظن الاخوان: علي وإبراهيم ابنا محمد بن إبرهيم بن الحسين الحناني أو أحدهما، إذ سمعا فيها الكتاب الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 25 من عبد الرحمن بن عمر بن نصر في سنتي (394 و 401) ولكن لم ينص في سماعاتهما على ذلك (رقم 1 - 6) . وإنما ظننت ذلك لان ابني أخيهما الحسين بن محمد الحنائي، وهما عبد الله وعبد الرحمن -: سمعا فيها على أبي بكر الحداد سنة 457 ونص في السماعات على أنهما صاحبا الكتاب (رقم 8 - 11) فظننت من هذا أن الكتاب كان في ملك عميهما علي وإبرهيم، ثم انتقل إليهما بالميراث أو غيره. ولكن سرعان ما انتقل من ملكهما إلى ملك الحافظ هبة الله بن الاكفاني، فسمع فيه على أبي بكر الحداد سنة 460 ويظهر أن النسخة بقيت في ملكه إلى حين وفاته سنة 524 أو على الاقل إلى آخر مجلس سمعت فيه عليه سنة 519 (رقم 19) . ثم لم يتبين لي في ملك من كانت إلى شهر رجب سنة 566 فقد كتب الفقيه العالم ضياء الدين علي بن عقيل بن علي التغلبي (المولود سنة 537) أنه سمع الكتاب من أبي المكارم عبد الواحد بن هلال في سنة 563 وأنه نقل سماعه إلى هذه النسخة في رجب سنة 566 (رقم 20) ثم سمعه مرة أخرى على الحافظ ابن عساكر سنة 567 ونص في مجلس السماع على أنه صاحب النسخة (رقم 21) ثم كذلك سمعه هو ابنه الحسن في سنة 571 على أبي المعالي السلمي وأبي طاهر الخشوعي (رقم 22، 23) . ثم لم يتبين أيضا في ملك من كانت، إلى أن ذكر في سنة 635 أنها في ملك الامام الحافظ تاج الدين القرطبي، وتاج الدين القرطبي سمع الكتاب هو وأخوه إسمعيل قبل ذلك بثمان وخمسين سنة، فقد سمعاه على أبي الطاهر الخشوعي في سنة 587 (رقم 24 - 27) فإما أن يكون أبوهما أبو جعفر القرطبي (ولد سنة 528 ومات سنة 596) ملك الكتاب فأسمعهما فيه على أبي طاهر، وإما أن يكون تاج الدين الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 26 نفسه ملكها بعد ذلك ثم سمعت عليه. ثم ثبت ملكها بعد في سنة 656 للقاضي محيي الدين عمر بن موسى بن جعفر (رقم 28) . وكل هؤلاء الذين ملكوها كانوا في دمشق، ولم نعرف ما كان من أمرها قبل ذلك من عهد الربيع (المتوفى سنة 270) إلى عصر عبد الرحمن بن نصر في اخر القرن الرابع. ولم نعرف أيضا ما كان من أمرها بعد القاضي محيي الدين بن جعفر، إلى أن دخلت في ملك الامير مصطفى باشا فاضل، وانتقلت مع مكتبته كلها إلى دار الكتب المصرية، فعادت إلى بلدها الذي فيه ألفت وكتبت وألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالاياب المسافر نسخة ابن جماعة لو انفردت لكانت أصلا جيدا للكتاب، ولكنها جاءت بجوار أصل الربيع، فكانت فرعا ضئيلا، إذ خالفته في مواضع كثيرة، وكان الاصل هو الاصل، وأين الثرى من الثريا. عنى كاتبها بتجويد الخط، ثم عنى صاحبها بمقابلتها وقراءتها، ولكنه لم يتقن ذلك. ولعل عذره أن النسخة التي قابل عليها لم تكن عمدة، وكتب بحاشيتها تقسيمها إلى أجزاء سبعة، ولكنه نسى من التقسيم الاول والخامس! فذكر عند الفقرة (551) " آخر الجزء الثاني " وعند (827) " آخر الجزء الثالث " وعند (1128) " آخر الجزء الرابع " وعند (1462) " آخر الجزء السادس ". وكتب بلاغات بالمقابلات على النسخة القديمة عند الفقرات (126، 275، 383، 511، 758) وسمعت على الجمال ابن جماعة، جد العماد، في ستة مجالس، كتبت بلاغات أربعة منها بالحاشية الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 27 أمام الفقرات (208، 569، 863، 1173) ولم يكتب الخامس، وأما السادس فينتهي بآخر الكتاب. وهي مكتوبة على ورق جيد، بخط نسخي جميل واضح، مضبوطة مشكولة في الاكثر. وعدد أوراقها 124 ورقة، في الصفحة منها 19 سطرا، وطول السطر (11 س) وتشغل السطور من طول الورقة (5 و 18 س) وطول الورقة (7 و 24 س) وعرضها (5 و 17 س) . وكانت أوراقها أكبر من ذلك، ولكن لا ندري من الذي أعطاها لاحد المجلدين، فانتقص من أطرافها، حتى أضاع بعض ما كتب في حاشيتها. وقد صورنا منها الصفحة الاولى والاخيرة مصغرتين، في اللوحتين (12، 13) وبعد: فلست بمستطيع أن أختم هذه المقدمة قبل أن أؤدي ما وجب علي من الشكر لاخواني الذين أثقلوا كاهلي بفضلهم، بما لقيت من معونتهم في إخراج هذا الاثر الجليل، والسفر النفيس: ابن عمتي السيد محمد السنوسي الانصاري. والاخ المخلص البار، صديقي وزميلي من أول طلب العلم، العالم المتقن المتفنن، الشيخ محمد خميس هيبة، وقد قرأت عليه الكتاب حرفا حرفا، ورجعت إليه في كل مشكل عرض لي فيه. والاخوان العالمان الجليلان: الشيخ محمد نور الحسن، والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، أستاذا العربية بكلية اللغة بالازهر، وقد عرضت عليهما كثيرا من مشكلات العربية في الكتاب. ثم القائمون على نشر الكتاب (أنجال المرحوم السيد مصطفى الحلبي) وقد أتاحوا لي فرصة إخراجه وتحقيقه وشرحه، فكانت منة لهم علي وعلى كل قارئ ومستفيد. واليد البيضاء التي لا تنسى، ما لقيت من معونة أستاذنا العظيم، العلامة الفيلسوف (الدكتور منصور فهمي بك) المدير العام لدار الكتب المصرية، فقد الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 28 أمر حفظه الله بأن تصور لي نسخة الربيع كلها، وأمر بإعارتي نسخة ابن جماعة، وبأن يسهل لي كل ما أريد من مصادر ومراجع. أحسن الله جزاءه، ووفقه لخدمة العلم والدين. ونسأل الله المبتدئ لنا بنعمه قبل استحقاقها، المديمها علينا، مع تقصيرنا في الاتيان على ما أوجب به من شكره بها، الجاعلنا في خير أمة أخرجت للناس: أن يرزقنا فهما في كتابه، ثم سنة نبيه، وقولا وعملا يؤدى به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيدة (1) . ونسأله سبحانه العصمة والتوفيق. عن كوبرى القبة ضحوة الجمعة (18 ذي القعدة سنة 1358) (29 ديسمبر سنة 1939) كتب أبو الاشبال أحمد محمد شاكر   (1) اقتباس من الرسالة (رقم 47) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 29 السماعات وما ألحق بها السماعات المثبتة في أصل الربيع تبدأ من سنة 394 وتنتهي في سنة 656 وهي متتالية متصلة بالاسانيد، أعني أن الشيوخ الذين يقرأ عليهم الكتاب أو يسمع منهم نجدهم سمعوه قبل ذلك من شيوخهم، وهكذا إلى عبد الرحمن بن عمر بن نصر الشيباني، أقدم الشيوخ الذين أثبت إسماعهم للكتاب. ثم نسخة ابن جماعة فيها سماع واحد، سنة 856 متصل الاسناد بسماعات الاصل، كما سيتبين القارئ. وقد جعلت لها أرقاما متتالية يشار إليها بها. وسماعات الاصل ثبت بعضها على عناوين الاجزاء الثلاثة التي بخط الربيع (لوحة رقم 3، 4، 5) وباقيها كتبت في أوراق ألصقت بالاصل وألحقت به في أوائل الاجزاء وأواخرها. وأكثرها تكرر إثباته ثلاث مرات في الاجزاء الثلاثة. وقد أثبتت كل السماعات مرتبة ترتيب وقوعها التاريخي، الاقدم فالاقدم. وتوخيا للاختصار ذكرت من كل سماع متكرر واحدا منه، مع الاشارة إلى غيره وما فيه من زيادة فائدة إن وجدت. ولم أستثن من ذلك إلا السماعات التي بخط عبد الرحمن بن نصر، لقيمتها التاريخية أولا، ولانها مصورة في اللوحات على عناوين الربيع ثانيا، ولان صيغتها مختصرة ثالثا. واستثنيت أيضا بعض السماعات حين وجدت ضرورة لذلك. والسماعات هي (رقم 1 - 28) ومن السماعات الاسانيد، وهي أسانيد كاتبيها من العلماء إلى الربيع راوي الكتاب رقم (29 - 31) ومن السماعات أيضا نوع مختصر، يسجل أحد العلماء فيه سماعه بخطه، كأن يقول " سمعه فلان " أو " سماع لفلان " ونحو ذلك. وكل الذين كتبوا ذلك ذكرت أسماؤهم في مجالس السماع إلا واحدا، هو أبو القاسم البورى هبة الله بن الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 30 معد الدمياطي المتوفى سنة 599 (انظر رقم 43) . وقد جمعتها كلها من ثنايا السماعات، وحذفت المكرر منها مع الاشارة إليه. ورتبتها الاقدم فالاقدم، وسميتها " التوقيعات " (رقم 32 - 45) . ومما ألحق بالسماعات في أصل الربيع، مما كتب العلماء بخطوطهم -: أحاديث وآثار رووها بأسانيدهم، ذكرتها أيضا بنصها (رقم 46 - 59) . ثم يتلو ذلك ما كتب على نسخة العماد ابن جماعة، من أسانيد وفوائد وسماعه على جده (رقم 60 - 68) . والاعلام المذكورون في هذه السماعات وما ألحق بها يزيدون على ثلاثمائة نفس، أحصيتهم كلهم في فهرس في آخر هذه المقدمة. فأما الذين ذكروا في أسانيد الاحاديث والاثار فلم أقصد إلى ذكر تراجمهم، خشية الاطالة، ولانه لا صلة بينهم وبين رواية الكتاب. وأما الاخرون: المذكورون في السماعات والتوقيعات فقد بذلت الوسع في البحث عن تراجمهم، فمن وجدت منه ترجمته، أشرت إليها بإيجاز، وأحلت القارئ إلى موضعها، ومن لم أجد سكت عنه، ولا أدعي في ذلك غاية الكمال، فما ذلك لاحد من الناس، ولكني اجتهدت وتحريت، وحسبي هذا أداء للواجب علي. وقد تكون ترجمة الرجل ممن لم أجد على طرف الثمام مني، ثم أخطها من حيث لا أدري. ومن وجدت ترجمته وضعت صورة نجم بجوار اسمه في الفهرس. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 31 وقد رمزت لكتب التراجم التي رجعت إليها بحروف طلبا للاختصار، وها هو اصطلاحي فيها: ع تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر المتوفى سنة 599. مخطوط بمكتبة تيمور باشا بدار الكتب المصرية. مع مختصر هذا التاريخ للمرحوم الشيخ عبد القادر بدران طبع منه 7 أجزاء بدمشق ش شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089 طبع مصر 8 أجزاء ك البداية والنهاية للحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 طبع منه بمصر 13 جزءا ح تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 طبع الهند 4 أجزاء ذ ذيول تذكرة الحفاظ للحسيني وابن فهد والسيوطي طبع مصر 1 ق طبقات القراء لابن الجزري المتوفى سنة 833 طبع مصر 2 خ الوفيات لابن خلكان المتوفى سنة 681 طبع بولاق 2 ط طبقات الشافعية لابن السبكي المتوفى سنة 771 طبع مصر 6 ل لسان الميزان للحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852 طبع الهند 6 در الدرر الكامنة للحافظ ابن حجر طبع الهند 4 ض الضوء اللامع للسخاوي المتوفى سنة 902 طبع مصر 12 نس الانساب للحافظ السمعاني المتوفى سنة 562 طبع تصوير بأوربة الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 32 أصل الربيع السماعات (1) 1 - سماع علي بن عبد الرحمن بن عمر بن نصر بخطه سنة 394 في الجزء الاول يقول عبد الرحمن بن عمر بن نصر بن محمد (2) : إن علي بن محمد بن إبرهيم بن الحسين الحنائي (3) ، بارك الله فيه، سمع مني هذا الجزء، وهو سماعي من أبي علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك الحصري (4) ، عن الربيع بن سليمان المرادي، في شعبان من سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، نفعنا الله بالعلم في الدنيا والاخرة، ولا جعله حجة، وحسبنا الله وحده، بقراءتي عليه من أصل كتابي. 2 - سماع آخر عليه بخطه سنة 401 في الجزء الاول وسمع هذا الجزء مني أبو عبد الله أحمد بن علي الشرابي، وإبرهيم بن محمد بن إبرهيم بن الحسين الحنائي (5) ، بقراءة أبي بكر محمد بن محمد بن عبد الله الشاشي،   (1) الارقام بالحاشية أرقام صحف الاصل وقد حافظنا على ألفاظ السماعات، وإن كانت خطأ، أو شاذة في الاعراب. (2) عبد الرحمن بن عمر بن نصر بن محمد البزار المؤدب، مات في 19 رجب سنة 410 (ش 3: 190) (ع 23: 119) (ل 3: 424) . (3) " الحنائي " نسبة إلى بيع الحناء، كما بينه السمعاني في الانساب في ترجمة أخيه " أبي عبد الله الحسين بن محمد " وعلى هذا مقرئ محدث حافظ، مات في ربيع الاول سنة 428 وله 58 سنة (ش 3: 238) . (4) الحصائري الفقيه راوي الام عن الربيع 242 - 338 (ش 2: 346) (ع 9: 395) (ط 2: 206) (ق 1: 209) . (5) مات في 17 ذي الحجة سنة 420 (ع 4: 329) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 33 حفظهم الله. وكتب عبد الرحمن بن عمر بن نصر بن محمد، في شهر رمضان من سنة إحدى وأربعمائة. وسمع هذا الجزء مني أيضا ظفر بن المظفر الناصري (1) حفظه الله (2) . 3 - سماع في الجزء الثاني بخطه أيضا سنة 394 يقول عبد الرحمن بن عمر بن نصر بن محمد: إن علي بن محمد بن إبرهيم الحنائي نفع الله به سمعه مني مع ما قبله، بما حدثني أبو علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك الحصري عن الربيع، وذلك في شعبان من سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وأنا قرأته عليه وعارضه بأصل كتابي. 4 - سماع في الجزء الثاني بخطه سنة 401 سمع هذا الجزء وما قبله أبو عبد الله أحمد بن علي الشرابي، وإبرهيم بن محمد بن إبرهيم الحنائي، وعلي بن الحسين بن صدقة الشرابي، وعبد الله بن أحمد بن الحسن النيسابوري، وأحمد بن إبرهيم النيسابوري، بقراءة الشيخ أبي بكر محمد بن محمد بن عبد الله الشاشي، في شهر رمضان من سنة إحدى وأربعمائة. وكتب عبد الرحمن بن عمر بن نصر بن محمد بخطه. وسمع هذا الجزء أيضا ظفر بن المظفر الناصري، ومحمد بن علي الحداد (3) ، حفظهما الله، وكتب بخطه (4)   (1) الحلبي التاجر الفقيه الشافعي، مات في شوال سنة 419 (ع 18: 526) (ط 3: 198) وذكر تاريخ الوفاة سنة 429. (2) يفهم مما يأتي في رقم (6، 9، 30 أن هذا السماع كان في سنة 408) . (3) محمد بن علي بن محمد بن موسى أبو بكر السلمي الحداد، مات سنة 460 (ع 39: 9 - 11) (ل 5: 311) . (4) لم يذكر هنا تاريخ هذا السماع، ولكن علمنا مما سيأتي في الاسناد (رقم 30) أن سماع ابن الحداد كان في سنة 408 الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 34 5 - سماع في الثالث بخطه (بدون تاريخ والمفهوم أنه سنة 394) سمع هذا الكتاب من أوله إلى آخره، بقراءتي ومعارضة كتابي بهذا الكتاب: أبو علي الحسين بن علي بن إبرهيم الاهوازي (1) حفظه الله، وعلي بن محمد بن إبرهيم الحنائي، نفعه الله بالعلم، ومحمد بن علي النصيبي كلاه الله، والحمد لله كثيرا، والصلاة على نبيه محمد وآله وسلم كثيرا، وحسبن الله وحده. وكتب عبد الرحمن بن عمر بن نصر بن محمد بخطه. 6 - سماع بخطه على الثالث سنة 401 وسمع هذا الكتاب من أوله إلى آخره أبو عبد الله أحمد بن علي الشرابي، وعبد الله بن أحمد النيسابوري الخفاف، وأحمد بن إبرهيم النيسابوري وأبو إسحق إبرهيم بن محمد بن إبرهيم الحنائي، بقراءة الشيخ أبي بكر محمد بن محمد بن عبد الله الشاشى، في شهر رمضان، من سنة إحدى وأربعمائة، وحسبنا الله وحده. وسمع ظفر بن المظفر الناصري هذا الكتاب من أوله إلى آخره (2)   (1) هو المحدث المقرئ، مقرئ أهل الشام، ولد في المحرم سنة 362 ومات في ذي القعدة سنة 446 (ش 3: 274) (ل 2: 237) (مع 4: 194) (ق 1: 220) . (2) لم يؤرخ هذا السماع، ويفهم من الاسناد الاتي (برقم 30) ومما مضى في (رقم 4) من سماع ابن المظفر مع ابن الحداد أن هذا كان في سنة 408 الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 35 7 - سماع علي أبي الحسن الحنائي بخط حمزة القلانسى سنة 416 سمع جميعه من الشيخ أبي الحسن على بن محمد الحنأ، رضي الله عنه، حمزة بن أحمد بن حمزة القلانسي (1) ، وذلك في ربيع الاول من سنة ست عشرة وأربعمائة. والحمد لله وحده، وصلواته على محمد رسوله وعبده، وعلى أئمة الهدى من بعده، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم كرر هذا بنحوه في (ص 103 أصل) وزاد في آخره (بعد القراءة والمعارضة بالاصل) . وتاريخه (جمادى الاخرة سنة 416) . ثم كرر ثالثا في (ص 111 أصل) ولكن ضاع أكثره وبقي منه سطران. 8 - سماع علي أبي بكر الحداد السلمي في سنة 457 بقراءة الحميدي سمع هذا الجزء من أوله إلى آخره على الشيخ الجليل أبو بكر محمد بن علي السلمي الحداد: أصحابه أبو الحسن عبد الله (2) ، وأبو الحسين عبد الرحمن، بقراءة   (1) كنيته أبو يعلى، مات يوم الاربعاء 4 جمادى الاخرة سنة 450 (ع 11: 495) (مع 4: 438) ويشتبه بأبي يعلى حمزة بن أسد بن علي القلانسي، صاحب التاريخ المطبوع في بيروت سنة 1908، فهذا متأخر، بدأ تاريخه من سنة 360 تقريبا إلى صفر سنة 555 ومات في ربيع الاول سنة 555 وهو في عشر التسعين، وله ترجمة في مختصر ابن عساكر (3: 439) . (2) هو عبد الله بن الحسين بن محمد الحنائي، كما سيأتي (رقم 9، 11) وله ترجمة في (مع 7: 368) وذكر أنه مات سنة 460 ولم يحدث إلا لعمر الدهستاني، يعني أبا الفتيان الاتي في السماع (رقم 12) . وأما أخوه عبد الرحمن فلم أجده. ولهما أخ ثالث اسمه " أبو طاهر محمد بن الحسين بن محمد الحنائي الدمشقي " من بيت الحديث والعدالة، مات في جمادى الاخرة سنة 510 عن 77 سنة (ش 4: 29) . ولابيهم " الحسين بن محمد بن إبرهيم الحنائي " ترجمة في (س ورقة 178) وذكر أنه من أهل دمشق وأنه مات سنة 405، وهو خطأ من الناسخ. وله ترجمة في (مع 4: 355) وأنه مات سنة 459 وهو الموافق (ش 3: 307) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 36 الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي (1) ، الرئيس أبو نصر هبة الله بن علي البغدادي (2) ، والشيخ أبو محمد عبد الله بن الحسن بن طلحة التنيسي (3) ، وولداه محمد وطلحة، وعبد الملك بن علي الحصري، ومعضاد بن علي الداراني، وحسين بن محمد المحوزي، وعبد الله بن أحمد السمرقندي (4) وحيدرة بن عبد الرحمن الدربندي، ومحمد بن محمد بن علي الطرسوسي، ومحمد بن أبي الوفاء السمرقندي. وذلك في سلخ صفر سنة سبع وخمسين وأربعمائة. وهو سماعه من تمام (5) وعبد الرحمن بن عمر بن نصر، جميعا عن ابن حبيب الحصائري، عن الربيع، في التاريخ المذكور والمدة.   (1) هو الحافظ الحجة، صاحب الجمع بين الصحيحين، مات في ذي الحجة سنة 488 وله نحو 70 سنة (ش 3: 392) (ح 4: 17) . (2) كذا في هذا السماع، ويوجد في هذا العصر (أبو نصر هبة الله بن علي بن محمد البغدادي الحافظ المتوفى سنة 488 عن 46 سنة) ولكن سيأتي في الثلاث سماعات بعده باسم (علي بن هبة الله بن علي) وهو الامير ابن ماكولا الحافظ الكبير المولود سنة 422 والمتوفى سنة 478 أو نحوها. وهو مترجم في (ش 3: 381) و (ح 4: 2) وهو الصواب، وكان ابن ماكولا صديقا للحميدي الحافظ القارئ في هذا السماع. (3) هو أبو محمد المعروف بابن النحاس، من أهل تنيس، قدم دمشق ومعه ابناه محمد وطلحة، ومات سنة 462 قاله ابن عساكر (مع 7: 363) وذكره ياقوت في البلدان (2: 423) وأنه ولد سنة 404. (4) عبد الله بن أحمد بن عمر بن أبي الاشعث أبو محمد السمرقندي، سمع من الخطيب، وأجاز لابن عساكر ببعض مسموعاته، مات يوم الاثنين 12 ربيع الاخر سنة 516 وله 72 سنة (ع 19: 629) (ش 4: 49) . (5) تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي الحافظ أبو القاسم، قال أبو بكر الحداد: " ما رأينا مثل تمام في الحفظ والخبرة ". مات في 3 محرم سنة 414 وله 84 سنة (ش 3: 200) (ع 7: 313) (ح 3: 243) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 37 9 - سماع آخر عليه في سنة 457 بقراءة الحافظ الحميدي وبخطه سمع جميعه من الشيخ أبو بكر محمد بن علي الحداد: أصحابه، وهم عبد الله وعبد الرحمن ابنا الحسين بن محمد الحنائي، والرئيس أبو نصر علي بن هبة الله البغدادي، بقراءة محمد بن أبي نصر بن عبد الله الحميدي، وأبو محمد عبد الله بن الحسن بن طلحة التنيسي، وولداه محمد وطلحة، ومعضاد بن علي الداراني. وهو سماعه من عبد الرحمن بن نصر وتمام بن محمد، عن الحسن بن حبيب. وذلك في جمادى الاولى من سنة سبع وخمسين وأربعمائة. 10 - سماع آخر عليه في سنة 457 بقراءة الحميدي بخطين مختلفين، ولكن كنى فيه (أبو عبد الله) سمع هذا الجزء من أوله إلى آخره على الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن موسى السلمي الحداد، بقراءة الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي: الشيخان أبو الحسين عبد الرحمن، وأبو الحسن عبد الله، والشيخ الرئيس أبي نصر علي بن هبة الله البغدادي. وذلك في شهر ربيع الاول من سنة سبع وخمسين وأربعمائة. وهو رواية الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي بن موسى السلمي الحداد عن أبي القاسم تمام بن محمد الرازي وأبي القاسم عبد الرحمن بن عمر بن نصر جميعا عن الحسن بن حبيب، عن الربيع بن سليمان، عن الشافعي. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 38 11 - سماع الكتاب علي ابن الحداد بخطه نفسه سنة 457 سمع مني هذا الجزء وما قبله من الاجزاء، وهي رسالة أبي عبد الله الشافعي رحمه الله، وهي روايتي عن الشيخين المذكورين المسميين أمام خطى هذا وعارض الشيخين (1) ... صاحباه أبو الحسن عبد الله، وأبو الحسين عبد الرحمن ابنا محمد الحنائي، والشيخ الرئيس أبي نصر علي بن هبة الله بن علي، بقراءة الشيخ أبي عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي. وذلك في ربيع الاول سنة سبع وخمسين وأربعمائة. حامدا لله ومصليا على رسوله وآله وسلم. 12 - سماع عليه أيضا بخط ظاهر بن بركات الخشوعي سنة 460 سمع جميعه علي الشيخ الحافظ محمد بن علي بن محمد الحداد السلمي: صاحبه أبو محمد هبة الله بن أحمد الاكفاني (2) ، بقراءة أبي الفتيان عمر بن أبي الحسن الدهستاني (3) ، وعبد العزيز بن علي الكازروني (4) ، وعبد الله بن أحمد السمرقندي، وأبو الكرم الخضر بن عبد المحسن الفراء (5) ، وكاتب الاسماء طاهر   (1) كذا بخطه، وموضع النقط كلمات لم أستطع قراءتها. (2) هو هبة الله بن أحمد بن محمد بن هبة الله الاكفاني الانصاري الدمشقي الحافظ، مات في 6 محرم سنة 524 وله 80 سنة (ش 4: 73) (تاريخ ابن الفلانسي ص 227) وابن الاكفاني سمع الجزء الاول أيضا سنة 458 وسجل سماعه بخطه (ص 9 أصل) كما سيأتي برقم (34) . (3) عمر بن أبي الحسن عبد الكريم الدهستاني أبو الفتيان الحافظ، ولد سنة 428 ومات في ربيع الاخر سنة 503 (ش 4: 7) (ع 32: 86) (ح 4: 33) . (4) عبد العزيز بن علي بن عبد الله أبو القاسم الكازروني، حدث بدمشق، ذكره (ع 24: 221) وسمع من تلميذه، ولم يذكر وفاته. (5) أبو الكرم الخضر بن عبد المحسن بن أحمد بن بكر القيسي الفراء، سمع منه أبو الفتيان. ذكره (ع 12: 502) ولم يذكر وفاته. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 39 بن بركات بن إبرهيم الخشوعي (1) . وسمع من أول الجزء إلى الزكاة إبرهيم بن حمزة الجرجرائي، وحيدرة بن عبد الرحمن الدربندي، ومحمد بن أحمد الدرابجردي، في شهر ربيع الاخر سنة ستين وأربعمائة. ثم كرر هذا السماع بنحوه (ص 62 من الاصل) بخط طاهر الخشوعي في التاريخ المذكور، ولم يذكر فيه " إبرهيم بن حمزة " ومن بعده. ثم كرر أيضا بنحوه في (ص 109 من الاصل) بخط طاهر، في جمادى الاولى سنة 460 وزيد فيه بين السطور: (وسمع مع الجماعة عبد الله بن أبي بكر السمرقندي بالتاريخ) لانه لم يذكر فيه. ثم كتب تحته بخط ابن الاكفاني (وعبد الله بن أحمد السمرقندي سمع مع الجماعة في التاريخ. وكتب هبة الله بن أحمد الاكفاني، وصح وثبت) . 13 - سماع علي هبة الله بن الاكفاني بخط عبد الرحمن بن صابر السلمي سنة 495 سمع جميع ما في هذا الجزء، وهو ما في الورقة البيضاء وعلى وجهها (الجزء الاول من رسالة محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله (2) علي الشيخ الفقيه الامين أبي محمد هبة الله بن أحمد بن محمد الاكفاني رضي الله عنه -: الشيخ الفقيه أبو الفتح نصر الله بن محمد بن عبد القوي المصيصي (3) ، وأبو المحاسن محمد بن الحسين   (1) طاهر بن بركات بن إبرهيم بن لعي بن محمد بن أحمد بن العباس بن هاشم، أبو الفضل القرشي المعروف بالخشوعي، سمع من الخطيب وغيره، وكتب عنه أبو الفتيان الدهستاني، سأل ابن عساكر ابنه: لم سموا الخشوعيين؟ فقال: كان جدنا الاعلى يؤم الناس، فتوفى في المحراب، فسمى الخشوعي. مات طاهر سنة 482 (مع 7: 47) (2) الورقة البيضاء هي (ص 4 من الاصل) وعليها عنوان الجزء الاول بخط ابن الاكفاني، وهي المصورة في اللوحة (رقم 1) وباطنها (ص 5 من الاصل) صفحة بيضاء. (3) سمع أيضا من الخطيب البغدادي، وهو آخر من حدث عنه بدمشق، مات سنة 542 في ربيع الاول وله 94 سنة (ش 4: 131) (ع 44: 424) (ط 4: 319) (ك 12: 223) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 40 بن الحسن الشهرستاني، بقراءة كاتب الاسماء عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر السلمي (1) ، في سنة خمس وتسعين وأربعمائة، في المسجد الجامع بدمشق. 14 - سماع عليه بخط محمد بن الحسين الشهرستاني سنة 496 سمع هذا الجزء، وهو الجزء الثاني من كتاب الرسالة، علي الشيخ الفقيه الامين جمال الامناء أبو محمد هبة الله بن أحمد بن محمد الاكفاني، بقراءة الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر السلمي، والشيخ الفقيه الامام أبو الفتح نصر الله بن محمد بن عبد القوي المصيصي، وكاتب السماع محمد بن الحسين بن الحسن القفنهي الشهرستاني. وذلك في التاسع والعشرين من رجب سنة ست وتسعين وأربعمائة، وصح وثبت. وسمع مع الجماعة علي بن الحسن بن أحمد الحوراني القطان، في تاريخه. 15 - سماع عليه أيضا بخط علي بن الحسن المري سنة 499 سمع جميع هذا الجزء من أوله إلى آخره علي الشيخ الفقيه الامين أبي محمد هبة الله بن أحمد بن محمد الاكفاني رضي الله عنه -: الشيخ الفقيه الامام أبي الفتح نصر الله بن محمد بن عبد القوي المصيصي، بقراءة أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد   (1) سمع منه الحافظ ابن عساكر، وسمع بقراءته كثيرا، وقال: " كان ثقة متحرزا ". ولد في رجب سنة 461 (ع 22: 299) وأرخ وفاته في 7 رمضان سنة 501 وهو خطأ قطعا من الناسخ، لانه سيأتي السماع بقراءته (رقم 17) في سنة 509 ولان ابن عساكر يقول " حضرت دفنه " وابن عساكر ولد سنة 499 ولم أجد ترجمته في موضع آخر لاصحح تاريخ وفاته. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 41 بن علي بن صابر السلمي، وأبو المعالي سعيد (1) بن الحسن بن المحسن الشهرستاني، وأبو المفضل محمد (2) ، وأبو المكارم عبد الواحد (3) ، ابنا محمد بن المسلم بن هلال، وأبو منصور عبد الباقي بن محمد بن عبد الباقي التميمي، وأبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بن زرعة، ومحمد بن عبيد بن منصور الهلالي، وسمع جميعه كاتب الاسماء علي بن الحسن بن أحمد بن عبد الوهاب المري. وذلك في شهر ربيع الاخر، وفي العشر الاول من جمادي الاولى سنة تسع وتسعين. وسمع النصف الاخير أبو الحسن أحمد بن عبد الباقي بن الحسين القيسي مع الجماعة في التاريخ المذكور. ثم كتب تحته بخط آخر: وسمع جميع الجزء مع الجماعة القاضي أبو المحاسن محمد بن الحسين بن الحسن الشهرستاني، وعارض بنسخته. 16 - سماع آخر عليه بخط عبد الباقي بن محمد التميمي سنة 509 سمع جميع ما في هذا الجزء، وهو ما في الورقة البيضاء وعلى وجهها (الجزء الاول من رسالة أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي) على الشيخ الفقيه الاجل الامين جمال الامناء أبي محمد هبة الله بن أحمد بن محمد الاكفاني رضي الله عنه، بقراءة الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر السلمي -: ابنه أبو المعالي عبد الله (4) ، والشيوخ أبو الفضل محمد، وأبو المكارم عبد الواحد، ابنا محمد بن المسلم بن الحسن بن هلال، وأبو البركات الخضر بن شبل بن الحسين   (1) لم أحسن قراءة هذا الاسم في الاصل، فكتبته كما ظننت! ! وقد يمكن أن يقرأ (أسعد) . (2) محمد بن محمد بن المسلم بن الحسن بن هلال أبو المفضل، ولد سنة 484 ومات ليلة الجمعة 5 أو 6 صفر سنة 537 (ع 39: 329) . (3) عبد الواحد بن محمد بن المسلم بن الحسن بن هلال أبو المكارم، ولد سنة 489 ومات في 10 جمادى الاخرة سنة 565 (ش 4: 215) (ع 25: 119) . (4) أبو المعالي بن صابر السملي ولد سنة 499 ومات في رجب سنة 576 (ش 4: 256) وقال: " لعب في شبابه، وباع أصول أبيه في شبابه بالهوان، توفى في رجب على طريقة حسنة " الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 42 الحارثي (1) ، وأبو طاهر إبرهيم بن الحسن بن طاهر بن الحصني، وأبو إسحق إبرهيم بن طاهر بن بركات الخشوعي (2) ، وأبو طالب بن محسن بن علي المطاردي، وتمام بن محمد بن عبد الله بن أبي جميل، وكاتب السماع عبد الباقي بن محمد بن عبد الباقي بن محمد التميمي الموصلي. وسمع مع الجماعة أبو المعالي عبد الصمد بن الحسين بن أحمد بن تميم التميمي (3) . وسمع من (الفرائض المنصوصة التي سن رسول الله صلى الله عليه معها) القاضي أبو الفوارس مطاعن بن مكارم بن عمار بن عجرمة الحارثي، وأبو الحسين أحمد بن راشد بن محمد القرشي، وأبو القاسم نصر بن المسلم بن مصر النجار، وابنه عبد الرزاق (4) ، وتمام (5) بن حيدرة الانصاري. وذلك في جمادي الاخرى سنة تسع وخمسمائة، بدمشق، حماها الله تعالى ورسوله. والحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. وسمع الجماعة المذكورون بأعلى ظهر الجزء الاول أيضا في التاريخ المذكور، والحمد لله وحده. وسمع من (باب فرض الله طاعة رسول الله مقرونة بطاعة الله ومذكورة وحدها) إلى آخر الجزء -:   (1) الفقيه الشافعي، عرف بابن عبد، ولد سنة 486 ومات في ذي القعدة سنة 562 (ش 4: 205) (ع 12: 498) (مع 5: 162) (ط 4: 218) (ق 1: 270) . (2) إبرهيم بن طاهر بن بركات بن إبرهيم بن علي بن محمد أحمد بن العباس بن هاشم، أبو إسحق القرشي المعروف بالخشوعي الرفا الصواف. (ع 4: 220) (مع 2: 220) وقال: " كتبت عنه، وكان ثقة خيرا، توفى ليلة الجمعة ودفن يوم الجمعة 22 شعبان سنة 543 وشهدت دفنه بباب الفراديس ". (3) عبد الصمد بن الحسين بن أحمد بن عبد الصمد بن محمد بن تميم غانم بن الحسن، أبو المعالي التميمي (ع 24: 135) وقال: " كان أمينا لم يعرف بتسمح في شهادة ". ولد في النصف من جمادي الاولى سنة 493 ومات في نصف رمضان سنة 561 (4) عبد الرزاق بن نصر النجار، مات في ربيع الاخر سنة 581 عن 84 سنة (ش 4: 272) ولم أجد ترجمة أبيه. (5) هنا بين السطور كلمة ممحوة ولعل أصله (وسيدهم بن تمام) وانظر ما سيأتي في رقم (17) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 43 أبو محمد عبد الهادي بن عبد الله الاتابكي (1) ، وأبو عبد الله محمد بن شبل بن الحسين الحارثي، في التاريخ المذكور. والحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وسلم. هذا السماع مكرر بنحوه في الجزء الثاني (ص 59 أصل) بخط أحمد بن راشد بن محمد القرشي في نفس التاريخ، وفيه (وسيدهم بن حيدرة الانصاري) وسيأتي الكلام عليه في السماع بعده. ثم كرر في الثالث كذلك (ص 109 أصل) وفيه زيادة (وأبو تمام كامل بن أحمد بن محمد بن أبي جميل) . 17 - سماع آخر عليه بخط أحمد بن راشد القرشي سنة 509 سمع من أول هذا الجزء إلى آخره (الفرائض المنصوصة التي سن رسول الله صلى الله عليه معها) على الشيخ الفقيه الامين جمال الامناء أبي محمد هبة الله بن أحمد بن محمد الاكفاني، صان الله قدره ورضي عنه، بقراءة الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر السلمي، أبو الرضا سيدهم بن تمام بن حيدرة الانصاري (2) ، وأبو المجد عبد الواحد بن مهذب التنوخي (3) ، وأبو بكر محمد بن الفقيه أبي الحسن علي بن المسلم السلمي (4) ، وكاتب الاسماء أحمد بن   (1) مما يلاحظ من دقة التوثيق في السماع: أن الاتابكي هذا كتب في أصل السماع بعد الخشوعي، ثم ضرب الكاتب على اسمه، لانه لم يسمع الجزء جميعه. (2) هكذا أرجح قراءة هذا الاسم، بعد مقارنته في خطوط السماعات، وقد ذكر في بعضها باسم " سيدهم بن حيدرة " كأنه نسب إلى جده، ولم أجد له ترجمة، وقد يستغرب اسم " سيدهم "، ولكني رأيت في كتب التراجم هذا الاسم لبعض العلماء المتقدمين. (3) عبد الواحد بن محمد بن المهذب بن المفضل بن محمد بن المهذب التنوخي، مات سنة 554 (ع 25: 121) . (4) هو محمد بن علي بن المسلم بن الفتح السلمي، لم أجد ترجمته، وسيأتي سماعه مع أبيه في (رقم 18) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 44 راشد بن محمد القرشي المكبري، في رجب سنة تسع وخمسمائة. وكمل له سماع الجزء جميعه. 18 - سماع آخر على سنة 518 بخط عبد الكريم بن الحسين الحصني سمع جميع هذا الجزء، وهو الجزء الاول، على الشيخ الفقيه الامين جمال الامناء أبي محمد محمد هبة الله بن أحمد بن محمد الاكفاني رضي الله عنه، وعورض به نسخة فيها ذكر سماعه -: الفقيه الاجل الاوحد أبو الحسن علي بن المسلم بن محمد بن الفتح السلمي (1) ، وولده أبو بكر، وسمع الشيوخ أبو القاسم النجيب يحيى بن علي بن محمد بن زهير السملي (2) ، وأبو علي الحسن بن مسعود بن الوزير (3) ، وأبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله (4) ، وأبو عبد الله الحسين بن الخضر بن الحسين بن عبدان، وأبو التمام كامل بن محمد بن كامل التميمي، وأبو بكر محمد بن علي بن أحمد بن منصور الغساني (5) ،   (1) ذكره النووي ي المجموع (5: 367) فقال: " الامام أبو الحسن علي بن المسلم بن محمد بن الفتح بن علي السلمي الدمشقي، من متأخرى أصحابنا " وله ترجمة في (ط 4: 283) و (ش 4: 102) ولقباه " جمال الاسلام " مات في صلاة الفجر ساجدا في ذي القعدة سنة 533. (2) مات ليلة الثلاثاء 3 رمضان سنة 542 ودفن بمقبرة الفراديس، وسمع منه الحافظ ابن عساكر شيئا يسيرا (ع 46: 347) . (3) الحسن بن مسعود بن الحسن بن علي بن الوزير، مات بمرو، في 17 محرم سنة 543 (ع 10: 301) . (4) هو الامام الحافظ الكبير، محدث الشام، فخر الائمة، ثقة الدين أبو القاسم بن عساكر مؤلف (تاريخ دمشق) في 48 مجلدا، ولد في أول سنة 499 ومات في 11 رجب سنة 571 (ش 4: 239) (ط 4: 273) (ح 4: 118) (5) ترجم له ابن عساكر (ع 38: 497) وقال " الفقيه الشافعي، ابن شيخنا أبو الحسن المالكي، وكان متميزا في العلم، سمعت بعض أصحابنا يفضله على أبيه، وتوفى في حداثته " الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 45 وأبو القاسم الحسين بن أحمد بن عبد الواحد (1) الاسكندراني، وأبو الثناء محمود بن معالي بن الحسن بن الخضر الانصاري النجار، وأبو بكر عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين القيسي (2) ، وكاتب السماع عبد الكريم بن الحسن بن طاهر بن يمان الحصني ثم الحموي (3) ، بقراءة الفقيه أبي القاسم وهب بن سلمان بن أحمد السلمي (4) ، وذلك في العشر الثاني من رمضان سنة ثمان عشرة وخمسمائة. وسمع مع الجماعة المذكورين أبو محمد إسمعيل بن إبرهيم بن محمد أحمد (5) القيسي، وعيسى بن نبهان الضرير البرداني، وأبو طاهر يونس بن سلمان بن أحمد السلمي، وبركات بن إبرهيم بن طاهر الخشوعي (6) ، وعمر بن ناصر النجار، وأبو عمر عثمان بن علي بن الحسن اليوسي الربعي، في التاريخ.   ثم ذكر أنه ولد في غرة جمادى الاخرة سنة 463 ونقل عن أبي محمد بن الاكفاني أنه مات في يوم الاربعاء 3 جمادى الاولى سنة 494 وهذا خطأ في تاريخ الوفاة، أرجح أنه من الناسخين. لان سماعه ثابت هنا في سنة 518 ولم أجد له ترجمة في غير ابن عساكر، وأما أبوه أبو الحسن المالكي النحوي الزاهد فهو شيخ دمشق ومحدثها، مات سنة 530 وله ترجمة في (ش 4: 95) (1) لم أجد له ترجمة، وذكر في سماع الجزء الثاني باسم " الحسين بن أحمد بن عبد الوهاب ". (2) لم أجده، وذكر في الثاني باسم " عبد الرحمن بن أبي الحسين القيسي القرشي " وفي الثالث " عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الباقي القيسي ". (3) المقرئ التاجر، مات سنة 554 (ع 24: 319) . (4) المعروف بابن الزيف الفقيه الشافعي، ولد سنة 498 كما ذكره ابن عساكر، ولم يذكر تاريخ وفاته. وسيأتي ذكر تسجيل سماعه بخطه برقم (40) . (5) كذا هنا وفي الثالث. وذكر في الثاني باسم " إسمعيل بن إبرهيم بن أحمد بن محمد " ولم أجد ترجمته. (6) بركات بن إبرهيم بن طاهر الخشوعي أبو طاهر، مسند الشأم، ولد في صفر سنة 510 ومات في 7 صفر سنة 598 (ش 4: 335) (ق 1: 176) . وذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه في وفيات سنة 597 (ك 13: 32) وقال: " شارك ابن عساكر في كثير من مشيخه، وطالت حياته بعد وفاته بسبع وعشرين سنة، فألحق فيها الاحفاد بالاجداد ". الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 46 19 - سماع عليه بخط عبد الكريم أيضا سنة 519 وسمع جميعه مع الجماعة المذكورة الشيخ الفقيه أبو القاسم علي بن الحسن بن الحسن الكلابي (1) ، والشيخ أبو العباس أحمد بن أبي القاسم بن منصور في العشر الثاني من ربيع الثاني من سنة تسع عشرة وخمسمائة. وسمع من أوله إلى أول (باب الناسخ والمنسوخ الذي تدل عليه السنة بالاجماع) أبو عبد الله محمد، وأبو الفضل أحمد، ابنا الحسن بن هبة الله بن عبد الله (2) في التاريخ. هذا السماع والذي قبله تكرر في مجلس واحد في الجزء الثاني (ص 60 أصل) بخط عبد الكريم الحصني أيضا في العشر الاخير من رمضان سنة 518 وفي آخره: أن محمدا وأحمد ابنا الحسن بن هبة الله، وهما أخوا الحافظ ابن عساكر، سمعا نصف الجزء الثاني فقط، فيظهر أنهما سمعاه على الشيخ ثم سمعا في السنة التالية بعض الجزء الاول. ونص أول هذا السماع: " سمع جميع ما في هذا الجزء على الشيخ الفقيه الامين جمال الامناء أبي محمد هبة الله بن أحمد بن محمد بن الاكفاني رضي الله عنه، وهو الجزء الثاني من الرسالة، بعد وقوفه على ذكر سماعه من أبي بكر السلمي الحداد: الشيوخ الفقيه الاجل الامام جمال الاسلام أبو الحسن علي بن المسلم بن محمد بن الفتح السلمي وولده أبو بكر محمد " الخ وزيد من السامعين " أبو القاسم علي بن محمد بن أبي العلاء المصيصي، وعيسى بن قحطان بن عبد الله الشرواني، وأبو محمد عبد الله بن عثمان السقلي، وأبو بكر وأخوه عمر ابنا ناصر النجار، ومحمد بن بريعس (3) الوزيري، وأبو الفضل بن صرمة بن علي بن محمد الحراني التاجر، وأبو محمد عبد الرحمن بن عبد الواحد بن مرة ". ثم كرر مختصرا في الثالث (ص 109 أصل) بخط " وهب بن سلمان بن أحمد السلمي " في شهر ربيع الاخر سنة 519.   (1) في سماع الجزء الثاني " علي بن الحسين بن الحسن " وهو خطأ، قال ابن السبكي: " المعروف بجمال الائمة ابن الماسح " ولد سنة 488 ومات سنة 562 (ط 4: 272) . (2) محمد وأحمد هذان أخوا الحافظ ابن عساكر، ولم أجد ترجمتهما، وسيأتي ذكر تسجيل محمد سماعه بخطه برقم (41) وسيأتي ذكر أولاده في السماع رقم (21) ووجدت ترجمة لحفيده " محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن ابن عساكر " وقد سمع من الحافظ ابن عساكر عم والده، مات سنة 643 (ش 5: 226) . (3) هكذا هو بدون نقط، ولا أجزم بصحته؟ الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 47 20 - سماع على أبي المكارم عبد الواحد بن هلال بخط علي بن عقيل بن علي سنة 563 وكتب سنة 570 قرأت جميع كتاب رسالة الشافعي رحمه الله على الشيخ الامام أبي المكارم عبد الواحد بن محمد بن المسلم بن هلال، بحق سماعه من ابن الاكفاني، فسمع ابنه أبو البركات، وحفيده أبو الفضل. وكتب علي بن عقيل بن علي بن هبة الله الشافعي (1) ، وذلك في مجالس، آخرها يوم الاحد تاسع عشر جمادي الاخرة سنة ثلاث وستين وخمسمائة، بدار الشيخ بدمشق. وصح وثبت. ونقلت سماعي إلى هنا في رجب سنة ستين وست وخمسمائة (2) . هذا السماع كرر بنصه تقريبا بنفس الخط في (ص 103 أصل) . 21 - سماع علي الحافظ ابن عساكر بخط عبد الرحمن بن أبي منصور سنة 567 سمع جميع هذا الجزء على سيدنا الشيخ الفقيه الامام العالم الحافظ الثقد ثقة الدين صدر الحفاظ ناصر السنة محدث الشأم أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله   (1) علي بن عقيل بن علي بن هبة الله بن الحسن بن علي، أبو الحسن التغلبي الفقيه الدمشقي، ولد سنة 537 (ط 5: 125) ولم يذكر تاريخ وفاته. (2) يظهر من كلام علي بن عقيل هنا أنه سمع علي أبي المكارم عبد الواحد في نسخة أخرى سنة 563 ثم ملك هذه النسخة (أصل الربيع) بالشراء أو غيره فنقل سماعه إليها تسجيلا له. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 48 الشافعي أيده الله: - صاحبه الشيخ الفقيه الامام العالم ضياء الدين أبو الحسن علي بن عقيل بن علي (1) الشافعي نفعه الله بالعلم (2) ، وحافده (3) أبو طاهر محمد بن الشيخ الفقيه أبي محمد القاسم، وبنو أخيه أبو المظفر عبد الله (4) ، وأبو منصور عبد الرحمن (5) ، وبو المحاسن نصر الله، وأبو نصر عبد الرحيم (6) ، بنو أبي عبد الله محمد بن الحسن (7) ، بقراءة القاضي بهاء الدين أبي المواهب الحسن (8) ، وأخوه الشيخ الفقيه أبو القاسم الحسين، ابنا القاضي أبي الغنائم هبة الله بن محفوظ بن صصري (9) ، والشيخ الفقيه أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعد الله الحنفي، والامير أبو الحرث عبد الرحمن بن محمد بن مرشد بن منقذ   (1) هنا في سماع الجزء الثاني زيادة، (بن هبة الله التغلبي) . (2) هنا في سماع الثاني وسماع الثالث زيادة: (وابنا المسمع الشيخ الفقيه أبو محمد القاسم، وأخوه أبو الفتح الحسن) . والقاسم بن علي بن الحسن هو ابن الحافظ ابن عساكر، وهو الحافظ أبو محمد، قال ابن السبكي: " كتب الكثير، حتى إنه كتب تاريخ والده مرتين، وكان حافظا له ". وفي الشذرات: " كان محدثا فهما، كثير المعرفة، شديد الورع، صاحب مزاح وفكاهة، وخطه ضعيف عديم الاتقان ". ولد في جمادي الاولى سنة 527 ومات في 9 صفر سنة 600 (ط 5: 148) (ش 4: 347) (ح 4: 155 - 158) وأما أخوه الحسن فلم أجده. (3) " حافده " يعني حافد المسمع الحافظ ابن عساكر، فهو ابن ابنه، ولم أجد ترجمته. (4) هو ابن أخي الحافظ ابن عساكر، ولد سنة 549 ومات في ربيع الاول سنة 591 (ط 4: 236) . (5) هو فخر الدين أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، ابن أخي الحافظ ابن عساكر، وهو شيخ الشافعية بالشأم، تفقه عليه جماعة، منهم العز بن عبد السلام، ولد سنة 550 ومات في رجب سنة 620 (ش 5: 92) (ط 5: 66) (فوات الوفيات 1: 333) . (6) أبو المحاسن نصر الله لم أجد ترجمته. وأخوه أبو نصر عبد الرحيم مات في شعبان سنة 631 (ش 5: 141) . (7) بنو أخي الحافظ هؤلاء لم يذكروا في سماع الجزء الثاني، وذكر في الثالث الاولان فقط. (8) الحسن بن هبة الله بن صصري ممن لزم الحافظ ابن عساكر وتخرج به، ولد سنة 537 ومات سنة 586 (ش 4: 285) (ح 4: 147) . (9) الحسين بن هبة الله مسند الشأم شمس الدين، ولد بعد سنة 530 ومات في 23 محرم سنة 626 (ش 5: 118) وسمي فيه " الحسن " وهو خطأ مطبعي. وأبوهما هبة الله مات سنة 563 (ش 4: 210) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 49 الكناني (1) ، وأبو عبد الله محمد بن شيخ الشيوخ أبي حفص عمر بن أبي الحسن الحموي (2) ، وأبو الحسين عبد الله بن محمد بن هبة الله، والفقيه أبو نصر محمد بن هبة الله بن محمد (3) ، الشيرازيان، وخالد بن منصور بن إسحق الاشنهي، وعبد الرحمن بن عبد الله (4) ، وأبو عبد الله الحسين بن عبد الرحمن بن الحسين بن عبدان، وأبو العليان الحسين بن محمد بن أبي نصر الهداري (5) ، والحسن بن علي بن عبد الله الباعيثاني (6) ، والخطيب بن عبد الوهاب بن أحمد بن عقيل السلمي، وعلي بن خضر بن يحيى الارموي، وأبو بكر محمد بن الشيخ (7) الامين أبي الفهم عبد الوهاب بن عبد الله الانصاري (8) ، والوجيه أبو القاسم بن محمد بن معاذ الحرقاني (9) ، ومسعود بن أبي الحسن بن عمر التفليسي، وإسمعيل بن   (1) يظهر أنه ابن أخي الامير " أسامة بن مرشد بن علي بن منقذ " مؤلف كتاب (لباب الاداب) . وقد ترجمت لاسامة ترجمة وافية في مقدمة الكتاب، وترجم ياقوت في معجم الادباء لكثير من أعلام هذه الاسرة العظيمة (2: 173 - 197) . (2) في الثاني والثالث زيادة: (والقاضي أبو المعالي محمد بن القاضي أبي الحسن علي بن محمد بن يحيى القرشي وابن أخيه عبد العزيز بن القاضي أبي علي) . (3) هو القاضي شمس الدين محمد بن هبة الله بن يحيى الدمشقي الشافعي، ولد سنة 549 روى عنه المنذري والبرزالي وغيرهما، وكان يصرف أكثر أوقاته في نشر العلم، مات في جمادي الاخرة سنة 635 (ش 5: 174) (ط 5: 43 - 44) . (4) الثالث زيادة: (الحلبي) . (5) بدله في الثاني والثالث: (وأبو علي الحسن بن علي بن أبي نصر الهداري) ولعله ابن عمه، و " الهداري " واضحة في المواضع الثلاثة بالدال ثم الراء، وأظنها نسبة إلى " الهدار " بتشديد الدال، ويسمى به ثلاثة مواضع، ذكرها ياقوت. (6) بدله فيهما: (وأبو علي الحسن بن محمد بن عبد الله الباعيثاني) وهذه النسبة غريبة، لا أدري أصلها، وهي واضحة بهذا في المواضع الثلاثة. (7) فيهما: (وأبو المكارم عبد الواحد، وأبو بكر محمد، ابنا الشيخ) الخ. (8) هو فخر الدين بن الشيرجي الدمشقي، أحد المعدلين بها، كان ثقة أمينا كيسا متواضعا، ولد سنة 549 ومات يوم عيد الاضحى سنة 629 (ابن كثير 13: 133) . (9) " الحرقاني " لم تنتقط في الاجزاء الثلاثة، ولم أجد ترجمة هذا الرجل، وفي الانساب " الحرقاني " بضم الحاء المهملة وفتح الراء، نسبة إلى " الحرقات " من جهينة، و " الخرقاني " الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 50 عمر بن أبي القاسم الاسفند ابادي (1) ، وموسى بن علي بن عمر الهمداني، وعبد الرحمن بن علي بن محمد الجويني، الصوفيون، وحسن بن إسمعيل بن حسن الاسكندراني، وفضالة بن نصر الله بن حواش العرضي، وعيسى بن أبي بكر بن أحمد الضرير (2) ، وأبو بكر بن محمد بن طاهر (3) البروجردي، ومكارم بن عمر بن أحمد (4) ، وحمزة بن إبرهيم بن عبد الله، وأبو الحسين بن علي بن خلدون، وبركاسنا بن فرجاوز بن فريون الديلمي، وعثمان بن محمد بن أبي بكر الاسفرايني، وعبد الله بن ياسين بن عبد الله اليمني، وفارس بن أبي طالب بن نجا، وفضائل بن طاهر بن حمزة، وإسحق بن سليمان بن علي، وأحمد بن أبي بكر بن الحسين البصري، وأحمد بن ناصر بن طعان البصراوي (5) ، وإبرهيم بن مهدي بن علي الشاغوري، وعبد القادر، وعبد الرحمن، ابنا أبي عبد الله محمد بن الحسن العراقي (6) ، وعبد الرحمن بن أبي رشيد بن أبي نصر الهمداني (7) وعثمان بن إبراهيم بن الحسين، وكاتب الأسماء عبد الرحمن بن أبي منصور   بفتح الخاء المعجمة مع سكون الراء، نسبة إلى " خرقان " من قرى سمرقند، فالله أعلم لاي النسبتين هو؟ وانظر تلقيب هذا الرجل بالوجيه، إذ لم يجز لقبا علميا يعرف به، كأنه ممن نسميهم الان " الأعيان "، وكما يفعل أصحاب الصحف في عصرنا من إطلاق هذا اللقب على الذين ليست لهم ألقاب رسمية من ألقاب الدولة! ! (1) هكذا رسمت بدون نقط، ولا أعرف هذه النسبة، والذي في البلدان والانساب " أسفيذابان " بفتح الهمزة وسكون السين وكسر الفاء وفتح الذال المعجمة وآخرها نون، قرية من أصبهان، أو نيسابور. (2) في الثالث: (العراقي) بدل " الضرير ". (3) في الثالث: (وأبو بكر بن طاهر بن محمد) . (4) في الثاني: (ومكارم بن عمر بن أحمد الموصلي) . وفي الثالث: (وأبو المكارم سعيد بن عمر بن أحمد الموصلي) . (5) في الثاني بدله: (الحوراني) . (6) بدله في الثالث: (البغدادي) . (7) في الثاني والثالث زيادة: (وعبد الرحمن بن حصين بن حازم الاموي) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 51 بن نسيم بن الحسين بن علي الشافعي. وذلك في يومي الخميس والاثنين ثامن صفر سنة سبع وستين وخمسمائة، بالمسجد الجامع بدمشق حرسها الله تعالى، وحده، وصلواته على محمد وآله. كرر هذا السماع في الجزء الثاني (ص 60 أصل) بتارخ (الخميس والاثنين حادي عشر وخامس عشر صفر) . ثم كرر في الجزء الثالث (ص 110 أصل) بتاريخ (الخميس والاثنين ثامن عشر وثاني وعشرين صفر) من السنة المذكورة، وكلاهما بخط الكاتب نفسه. وقد بينا الفروق بينهما وبين سماع الجزء الاول هذا في الحاشية. 22 - سماع علي أبي المعالي عبد الله بن عبد الرحمن بن صابر السلمي وأبي طاهر بركات بن إبرهيم الخشوعي بخط عبد القادر الرمادي؟ سنة 571 سمع جميع هذا الجزء، وهو الاول من (كتاب الرسالة) وما في بطن القائمة البيضاء التي على أول الجزء (1) ، على الشيخ أبي المعالي عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر السلمي، بروايته عن الامين أبي محمد هبة الله الاكفاني في سنة تسع وخمسمائة، وعلى الشيخ أبي طاهر بركات بن إبرهيم الخشوعي -: الجزء دون الورقة التي في أوله البيضاء (2) ، بروايته عن الشيخ الامين أبي محمد هبة الله في سنة ثماني عشرة وخمسمائة،   (1) القائمة البيضاء هنا غير الورقة البيضاء المذكورة في السماع رقم (13) . فالمراد بالقائمة البيضاء هنا (ص 8 من الاصل) وما في باطنها هو الاثار التي بخط هبة الله بن الاكفاني، (ص 9 من الاصل) وسيأتي نص ما كتب فيها برقم (52 - 57) (2) انظر دقة التوثيق في تحرير السماع، فان أبا المعالي سمع الجزء وما في باطن الورقة بقراءة أبيه عبد الرحمن بن صابر علي ابن الاكفاني، كما مضى في السماع (رقم 16) . وأما أبو طاهر الخشوعي فانه سمع الجزء دون الورقة، وقد مضى سماعه (برقم 18) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 52 بقراءة صاحب النسخة الشيخ الاجل الامين ضياء الدين أبي الحسن علي بن عقيل بن علي التغلبي -: ولده أبو عبد الله الحسن جبره الله، والشريف إدريس بن حسن بن علي الادريسي، وعبد الخالق بن حسن بن هياج، وأبو إسحق إبرهيم بن علي بن إبرهيم الاسكندراني، وإبرهيم بن بركات بن إبرهيم الخشوعي (1) ، وأحمد بن علي بن يعلى السلمي، وأحمد بن عساكر بن عبد الصمد، وأبو الحسن علي بن عسكر الحموي المعروف بابن زين النجار، وكاتب السماع عبد القادر بن عبد الله الرهاوي (2) . وصح ذلك في جامع دمشق، في العشر الاوسط من شهر رمضان إحدى وسبعين وخمسمائة. والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا. ثم كرر هذا السماع على الجزء الثاني (ص 103 أصل) بخط الكاتب في التاريخ، ولكنه أخطأ فيه فجعل الشيخ أبا طاهر بركات الخشوعي أحد السامعين، مع أنه أحد الشيخين اللذين قرئ عليهما الكتاب. ثم كرر ثالثا بزيادات، فرأينا إثباته بنصه، وهو: 23 - سماع على أبى المعالي وأبي طاهر بخط عبد القادر الرهاوي سنة 571 سمع جميع هذا الجزء على الشيخ أبى المعالي عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر السلمي بحق سماعه فيه من الامين أبي محمد هبة الله   (1) إبرهيم بن بركات بن إبرهيم الخشوعي، " آخر من سمع من عبد الواحد بن هلال " مات في رجب سنة 640 وله 82 سنة (ش 5: 207) . (2) الحافظ عبد القادر الرهاوي - بضم الراء - أبو محمد الحنبلي، شيخ ابن الصلاح والبرزالي، ولد في جمادي الاخرة سنة 536 ومات في 2 جمادي الاولى سنة 612 (ش 5: 50) (ج 4: 174) الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 53 الاكفاني في سنة تسع وخمسمائة، وعلى الشيخ أبي طاهر بركات بن إبرهيم بن طاهر الخشوعي، بحق سماعه فيه من الامين أبي محمد هبة الله سنة تسع عشرة وخمسمائة -: أبو عبد الله الحسن، بن صاحب النسخة الشيخ الاجل الامين أبي الحسن علي بن عقيل بن علي التغلبي جبره الله، وإبرهيم، وأبو الفضل، ابنا بركات بن طاهر الخشوعي، وعبد الكريم بن محمد بن محلى الكفرطابي (1) ، وإبرهيم بن علي بن إبرهيم الاسكندراني، والشريف إدريس بن حسن بن علي الادريسي، وعبد الخالق بن حسن بن هياج، وجامع بن باقي بن عبد الله التميمي، وأحمد بن علي بن يعلى السلمي، وعبد الغني بن سليمان بن عبد الله المغربي، وأحمد بن عساكر بن عبد الصمد، وكاتب السماع عبد القادر بن عبد الله الرهاوي، بقراءته. وصح ذلك بجامع دمشق، في العشر الاوسط من شهر رمضان من سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وكذلك سمع أبو عبد الله بن ضياء الدين أبي الحسن علي بن عقيل الجزءين اللذين قبل هذا، وصح الاول بقراءة أبيه، والثاني بقراءة الرهاوي في التاريخ المذكور. 24 - سماع علي بن أبي طاهر الخشوعي بخط بدل بن أبي المعمر سنة 587 سمع جميع هذا الجزء، وهو الاول، على الشيخ الامين أبي طاهر بركات بن إبرهيم بن طاهر القرشي الخشوعي، بحق سماعه فيه من ابن الاكفاني، بقراءة الفقيه أبي محمد عبد القوي بن عبد الخالق بن وحشي، وأبو القاسم علي   (1) بفتح الكاف والفاء وسكون الراء نسبة إلى " كفر طاب " وهي بلدة بالشأم، بين المعرة وحلب. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 54 بن الامام الحافظ أبي محمد القاسم علي بن الحسن بن هبد الله بن عبد الله الشافعي (1) ، وأبو الحسن محمد، وأبو الحسين إسمعيل، ابنا الشيخ أبي جعفر أحمد بن علي بن أبي بكر بن إسمعيل القرطبي (2) ، والفقيه أبو الفضل جعفر بن عبد الله بن طاهر، ومثبت السماع بدل بن أبي المعمر بن إسمعيل التبريزي (3) ، وآخرون بفوات. وذلك في شهور سنة سبع وثمانين وخمسمائة، بجامع دمشق حرسها الله تعالى، وصح. وسمع جميع هذا الجزء مع الجماعة في التاريخ أبو إسحق إبرهيم بن محمد بن أبي بكر بن محمد القفصي (4) . ثم كرر هذا السماع في الجزء الثاني (ص 103 أصل) بخط بدل بن أبي المعمر (في مجالس آخرها في صفر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة) وفيه (بحق إجازته) بدل (بحق سماعه فيه) ثم كرر في الثالث بزيادات، فرأينا إثبات نصه، وهو:   (1) أبو القاسم علي بن القاسم هذا حفيد الحافظ ابن عساكر، ولد في ربيع الاخر سنة 581، فقد أسمعوه هنا وهو ابن ست سنين. مات في 13 جمادي الاولى سنة 616 (ش 5: 69) (ط 5: 126) . (2) لم أجد ترجمة إسمعيل. وأما محمد فهو تاج الدين أبو الحسن القرطبي، إمام الكلاسة وابن إمامها، ولد في دمشق في أول سنة 575، قال ابن ناصر الدين: كان حافظا مشهورا، وإماما مكثرا مذكورا. مات في جمادي الاولى سنة 643 (ش 5: 226) وقال ابن كثير في تاريخه: " مسند وقته وشيخ الحديث في زمانه رواية وصلاحا ". (ك 13: 171) وذكره الذهبي في وفيات سنة 643 (ح 4: 316) وأبوهما هو " أبو جعفر القرطبي المقرئ الشافعي " ترجم له (ش 4: 323) وقال: " إمام الكلالسة وأبو إمامها " ولد بقرطبة سنة 528 ثم قدم دمشق فأكثر عن الحافظ ابن عساكر، وكان عبدا صالحا خبيرا بالقراءات، مات سنة 596. (3) أبو الخير المحدث الحافظ الثقة الرحال، ولد بعد سنة 550 ومات في جمادي الاولى سنة 636 (ش 5: 180) . (4) لم أجد ترجمته، وينظر في نسبته: فإما " القفصي " بضم القاف مع سكون الفاء، نسبة إلى " قفص " بالضم، قرية من متنزهات بغداد، وإما " القفصي " بفتح القاف مع سكون الفاء، نسبة إلى " قفصة " بالفتح، بلدة بالمغرب. والله أعلم. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 55 25 - سماع علي بن أبي طاهر الخشوعي بخط بدل سنة 588 سمع جميع هذا الجزء، وهو الثالث، على الشيخ الامين أبي طاهر بركات بن إبرهيم بن طاهر القرشي الخشوعي، بحق سماعه فيه من ابن الاكفاني، بقراءة الشيخ أبي محمد عبد القوي بن عبد الخالق بن وحشي السلمي -: أبو القاسم علي بن الامام الحافظ أبي محمد القاسم بن أبي القاسم علي بن الحسن بن هبد الله بن عبد الله، وأبو الحسن محمد، وأبو الحسين إسمعيل، ابنا الامام جعفر بن علي بن أبي بكر القرطبي، والفقيه أبو بكر بن حرز الله بن حجاج، وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن محمد القفصي، وابنه إبرهيم، ومثبت السماع بدل بن أبي المعمر بن إسمعيل التبريزي. وسمع الجزء سوى خمس قوائم من أوله: أبو منصور بن أحمد بن محمد صصري، وأبو عبد الله محمد بن راشد بن عبد الكريم بن الهادي، وآخرون بفوات. وذلك في شهر صفر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، بدمشق. وفي هذا السماع من الفوائد: أن إبرهيم بن محمد بن أبي بكر القفصي سمع الاجزاء الثلاثة، ولكن أباه محمد بن أبي بكر لم يسمع إلا الجزء الثالث. وأن الكاتب سمى أوراق الكتاب (قوائم) . 26 - سماع على تاج الدين محمد بن أبي جعفر القرطبي، وعز الدين الاربلي، وإبرهيم بن أبي طاهر الخشوعي، وزكي الدين البرزالي بخط عبد الجليل الابهري سنة 635 سمع جميع هذا الجزء من (رسالة الشافعي رضي الله عنه) على المشايخ الاجلة الثقات، صاحب الكتاب الامام العالم الحافظ تاج الدين أبي الحسن محمد بن الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 56 أبي جعفر بن علي القرطبي، والفقيه الامام عز الدين أبي محمد عبد العزيز بن عثمان بن أبي طاهر الاربلي، وزكي الدين أبي إسحق إبرهيم بن بركات بن إبرهيم الخشوعي، بسماع الخشوعي فيه من والده ومن ابن صابر كما ترى (1) ، وبسماع الامام تاج الدين القرطبي وعز الدين الاربلي من أبي طاهر بركات حسب، بقراءة الامام الحافظ زكي الدين أبي عبد الله محمد بن يوسف بن محمد البرزالي (2) -: الولد تقي الدين أبو بكر محمد بن الامام تاج الدين المسمع المبدوء بذكره، والحاج أبو علي حسن بن أبي عبد الله بن صدقة الصقلي (3) ، وأبو المرجا سالم بن تمام بن عنان العرضي، وابنه عبد الله، وعبد الرحمن اليونسي بن يونس بن إبرهيم، وآباء عبد الله: محمد بن يوسف بن أحمد النحاني (4) ومحمد بن علي بن محمد اليمني، ومحمد بن صديق بن بهرام الصفار، ومحمد بن يوسف بن يعقوب الاربلي (5) ، وأبو الفضل يوسف بن محمد بن عبد الرحمن الناسخ، وإبرهيم بن داود بن ظافر الفاضلي (6) ، ومخلص بن المسلم بن عبد الرحمن التكروري، والشمس أبو محمد   (1) هذا السماع مكتوب في صفحة فيها سماع إبرهيم بن بركات من أبيه أبي طاهر، ومن أبي المعالي بن صابر، وقد أشرنا إليه فيما مضى في السماع (رقم 22) ولذلك قال هنا " كما ترى ". (2) هو الحافظ الرحال محدث الشأم، ولد سنة 577 تقريبا. ومات ليلة 14 رمضان سنة 636 (ش 5: 182) (ح 4: 208) (ك 13: 153) وهو جد الحافظ علم الدين البرزالي. (3) هو الازدي المقرئ الرجل الصالح، إمام زاهد كبير القدر، ولد سنة 590 ومات بدمشق في 22 ربيع الاخر سنة 669 (ش 5: 328) (ق 1: 219) . (4) هكذا بدون نقط، ولم أعرف من هو. (5) محمد بن يوسف الاربلي هذا شيخ الحافظ الذهبي، روى عنه كثيرا في التذكرة حديثا باسناده (4: 209) قراءة عليه عن الحافظ البرزالي. ولد سنة 624 ومات في ربيع الاول سنة 704 (ش 6: 11) وفي الدرر الكامنة أنه مات في رمضان (4: 315) وعز الدين الاربلي أحد المسمعين عم أبيه. (6) هو جمال الدين أبو إسحق العسقلاني ثم الدمشقي المقرئ، صاحب السخاوي، إمام حاذق مشهور، ولد سنة 622 ومات ليلة الجمعة أول جمادي الاولى سنة 692 (ش 5: 420) (ق 1: 14) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 57 عبد الواسع بن عبد الكافي بن عبد الواسع الابهري (1) ، وابن عمه كاتب السماع عبد الجليل بن عبد الجبار بن عبد الواسع الابهري (2) ، عفا الله عنه. وسمع ربيبه إبرهيم بن عبد الوهاب بن علي الهمداني، والعماد أحمد بن يحيى بن عبد الرزاق، جميعه سوى الجلس العاشر، وهو معلم في الحاشية بخط الامام تاج الدين المسمع، أوله (باب النهي عن معنى دل عليه معنى) . وسمع الشرف يوسف بن الحسن بن بدر النابلسي (3) ، والضياء أبو الحسن علي بن محمد بن علي البالسي (4) ، ومحمد بن سيد بن إبرهيم الحلاوي: جميعه سوى من أول المجلس الثاني عشر إلى آخر الجزء، وهو ... (5) وفات البيضاء البالسي المجلس السابع أيضا، وهو معلم أيضا بخط الامام تاج الدين. وسمع ... (6) وصح لهم ذلك في مجالس، آخرها في جمادي الاخرة سنة خمس وثلاثين وستمائة بالاشرفية. هذا السماع مذكور في الجزء الاول (ص 51 أصل) ولكن آخره ضاع بتأكل الكتابة في ذيل الصفحة، ولذلك اكتفينا باثباته من الجزءين الثاني والثالث. وفي الجزء الاول زيادة بعد " محمد بن تاج الدين القرطبي ": (ويوسف بن الامام زكي الدين البرزالي القارئ) وزيادة (عبد الرحيم بن) مخلص بن المسلم، بعد ذكر أبيه. ثم كرر في الثالث ورأينا إثبات نصه، وهو:   (1) القاضي شمس الدين الابهري، نسبة إلى الحافظ المنذري، مات في شوال سنة 690 (ش 5: 414) . (2) لم أجد ترجمته، وذكر (ك 13: 171) في وفيات سنة 643 " المحدث الكبير تاج الدين عبد الجليل الابهري " فلعله هذا. (3) هو الحافظ أبو المظفر الدمشقي، كان فهما يقظا حسن الحفظ مليح النطم، ولد بعد سنة 600 ومات في 11 محرم سنة 671 (ش 5: 335) . (4) " البالسي " باللام، كما هو واضح في السماع، نسبة إلى " بالس " مدينة بين الرقة وحلب، وفي (ش 5: 310) " البالسي " وهو تصحيف. والضياء البالسي محدث خطيب ولد سنة 605 ومات في صفر سنة 662. (5) هنا كلمتان لم تقرأ. (6) هنا سطران لم يقرأ. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 58 سماع على المشايخ الاربعة أنفسهم بخط عبد الجليل الابهري سنة 635 سمع جميع هذا الجزء الثالث من (كتاب الرسالة، للامام المعظم الشافعي المطلبي رضي الله عنه) على المشايخ الثلاثة الاجلة الامناء: صاحب النسخة الامام العالم الحافظ تاج الدين شرف الحفاظ أبي الحسن محمد بن أبي جعفر بن علي القرطبي، والفقيه الامام عز الدين أبي محمد عبد العزيز بن عثمان بن أبي طاهر الاربلي، وزكي الدين أبي إسحق إبرهيم بن بركات بن إبرهيم الخشوعي، بحق سماعهم من أبي طاهر بركات الخشوعي، وبسماع ولده أيضا من أبي المعالي بن صابر، بسماعهما عن ابن الاكفاني، بقراءة الامام العالم الحافظ زكي الدين أبي عبد الله محمد بن يوسف بن محمد البرزالي -: الولد النجيب تقي الدين أبو بكر محمد بن الامام تاج الدين القرطبي، أحد المسمعين المبدوء بذكر اسمه، والحاج أبو علي حسن بن أبي عبد الله بن صدقة الصقلى، وأبو القاسم عبد الرحمن اليونسي بن يونس بن إبرهيم، وأبو الفضل يوسف بن محمد بن عبد الرحمن المصري الناسخ، والشمس أبو عبد الله محمد بن يوسف بن أحمد بن خلف المحاني، والعماد أحمد بن يحيى بن عبد الرزاق المقدسي، وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن يعقوب الاربلي، ابن ابن أخي الشيخ عز الدين الاربلي أحد المسمعين، ومحمد بن صديق بن بهرام الصفار، وأبو إسحق إبرهيم بن داود بن ظافر الفاضلي، والشمس أبو محمد عبد الواسع بن عبد الكافي بن عبد الواسع الابهري، وابن عمه كاتب السماع عبد الجليل بن عبد الجبار الابهري عفا الله عنه. وسمع ربيبه إبرهيم بن عبد الوهاب بن علي الهمداني من أوله إلى آخره المجلس الرابع عشر، الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 59 وهو معلم بخط الامام تاج الدين، وهو خمسة أوراق من أوله. وسمع سالم بن تمام بن عنان العرضي وابنه عبد الله جميعه سوى أربعة أوراق من آخره، وهو المجلس التاسع عشر، المجلس الاخير. وسمع عثمان بن أبي محمد بن بركات الخشوعي (1) سوى خمسة أوراق من أوله، مثل ما سمع إبرهيم الهمداني. وسمع مخلص بن المسلم بن عبد الرحمن التكروري وولده عبد الرحيم من أوله إلى آخر المجلس السابع عشر المعلم بخط الامام تاج الدين، وسمع الشهاب أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد اليمني جميعه سوى المجلسين الخامس عشر والسادس عشر. وبلاغ المجالس كلها معلم في الاجزاء الثلاثة بخط الامام الحافظ تاج الدين القرطبي أدام الله توفيقه، يكشف منه عدد المجالس لاصحاب الفوات. وقراءة الكتاب كله في تسعة عشر مجلسا، آخرها يوم الجمعة ثامن عشر شهر شعبان المبارك سنة خمس وثلاثين وستمائة، بالكلاسة بزاوية الحديث الاشرفيه الفاضلية بجامع دمشق المحروسة. وصح. 28 - سماع على إسمعيل بن شاكر التنوخي، وشرف الدين الاربلي، وشمس الدين بن مكتوم، وعبد الله بن بركات الخشوعي بخط علي بن المظفر الكندي سنة 656 سمع جميع هذا الكتاب على المشايخ الاربعة: الامام تقي الدين أبي محمد إسمعيل بن إبرهيم بن أبي اليسر شاكر بن عبد الله التنوخي (2) ، والامام   (1) أبوه " أبو محمد " اسمه " عبد الله " كما سيأتي في (رقم 28) . (2) هو تقي الدين مسند الشأم، له شعر جيد وبلاغة، وكان مشكور السيرة، أثنى عليه غير واحد، ولد سنة 589 ومات في 26 صفر سنة 672 (ش 5: 338) (ك 13: 267) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 60 الاديب شرف الدين أبي عبد الله الحسين بن إبرهيم بن الحسين الاربلي (1) ، والمقرئ شمس الدين أبي الحجاج يوسف بن مكتوم بن أحمد القيسي (2) ، والاصيل أبي محمد عبد الله بن بركات بن إبرهيم الخشوعي (3) ، بسماعهم لجميعه، سوى الاربلي فإن سماعه من الجزء الثالث من الاصل، من أبي طاهر الخشوعي وهو محدد فيه -: صاحبه الامام العالم القاضي الزاهد محيي الدين أبو حفص عمر بن موسى بن عمر بن موسى بن محمد بن جعفر الشافعي، والامام العالم المفتي شمس الدين أبو الحسن علي بن محمود بن علي الشهرزوزي (4) ، وابناه محمد وأحمد، والامام سيف الدين داود بن عيسى بن عمر الهكاري، بعضه بقراءته وأكثره بقراءتي، والامام العالم الحافظ فخر الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد النوفلي المعروف بالكنجي (5) ، وابنه جعفر حاضر، والمفيد شرف الدين؟ أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن أبي طالب الانصاري، وشمس الدين محمد (6) ، ومحيي الدين يحيى، ابنا كمال الدين أحمد بن نعمة بن أحمد المقدسي، وعبد اللطيف بن الامام المفتي تقي الدين محمد بن رزين الحموي (7) ، وجمال الدين   (1) ولد يوم الاثنين 17 ربيع الاول سنة 568 بإربل، وسمع بدمشق من الخشوعي وغيره، وكان يعرف اللغة معرفة جيدة، وكان أديبا فاضلا، مات يوم الجمعة 2 ذي القعدة سنة 656 بدمشق (ش 5: 274) (بغية الوعاة ص 2312) . (2) روى عنه الزكي البرزالي مع تقدمه، مات في ربيع الاول سنة 665 عن 81 سنة (ش 5: 321) . (3) مات في صفر سنة 658 (ش 5: 292) . (4) هكذا نقطت الزاي الثانية في الاصل، والمعروف " شهرزور " بفتح الشين وسكون الهاء وفتح الراء وضم الزاي وآخرها راء. ولم أحد ترجمة على هذا ولا ترجمة ابنيه. (5) لم أجد ترجمة ولا ترجمة ابنه جعفر. (6) هو مدرس الشامية، برع في مذهب الشافعي، وجمع بين العلم والدين المتين، مات في 12 ذي القعدة سنة 682. وأما أخوه يحيى فلم أجده، ولهما أخ ثالث اسمه " أبو العباس شرف الدين أحمد " كان إماما في الفقه والاصول والعربية مات في رمضان سنة 694 (ش 5: 379 - 380) . (7) هو بدر الدين أبو البركات عبد اللطيف، بن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 61 أحمد بن عبد الله بن الحسين، وإبرهيم بن المسمع الاول (1) ، وأحمد وعبد الكريم، ابنا الامام كمال الدين عبد الواحد الزملكاني (2) ، وعبد القادر بن مجد الدين يحيى بن يحيى الخياط، وأخوه لامه يوسف بن الامام شمس الدين محمد بن إبرهيم (3) ، أسباط المسمع الاول، ومحمد بن مجد الدين بن عبد الله بن الحسين، وأبو بكر بن محمد بن أبي الفضل الاخلاطي، الشافعيون، والفقيهان أبو العباس أحمد بن سليمان الزواوي، وأبو محمد عبد الله بن نصرون بن أبي الوليد الاندلسي، المالكيان، ومحمود بن علي بن أبي الغنائم المعروف بابن الغسال الحنبلي، وآخرون أسماؤهم على نسخة الامام فخر الدين، منهم كاتب السماع علز بن المظفر بن إبرهيم الكندي، وصح ذلك في مجالس، آخرها في يوم الاثنين سادس عشر رمضان سنة ست وخمسين وستمائة، بجامع دمشق، تحت قبة النسر، وأجاز المسمعون لمن سمى مالهم روايته.   رزين العامري الحموي الاصل، ثم المصري الشافعي، كان من صدور الفقهاء وأعيان الرؤساء، ولى القضاة في حياة أبيه، وخطب بالازهر، ولد بدمشق سنة 649 ومات بالقاهرة في 18 جمادى الاخرة سنة 710 (ش 5: 26) (ط 6: 130) (در 2: 409) . (1) هو إبرهيم بن إسمعيل بن ابرهيم بن أبي اليسر التنوخي، مات في جمادى الاولى سنة 702 (در 1: 18) . (2) كمال الدين الزملكاني عبد الواحد بن عبد الكريم، كان قوي المشاركة في فنون العلم، مات في المحرم سنة 651 وأما ابناه أحمد وعبد الكريم فلم أجدهما. وله ولد آخر هو " علاء الدين علي بن عبد الواحد " الامام المفتى، مات في ربيع الاخر سنة 690 وقد نيف على الخمسين. ولعلى هذا ابن هو واسطة عقدهم، وهو " كمال الدين أبو المعالي محمد بن علي بن عبد الواحد الحافظ " شيخ الحافظ الذهبي، ولد في شوال سنة 667 وقبل سنة 666، ومات ببليس في رمضان سنة 727 (ش 5: 254 و 417 و 6: 78) . (3) هو يوسف بن محمد بن إبرهيم بن عيسى الكردي، سبط ابن أبي اليسر، ولد سنة 652، سمع منه العز ابن جماعة وآخرون، مات بأذرعات في ذي الحجة سنة 727 (در 4: 468) فقد أسمعوه الرسالة وهو ابن أربع سنين. وسيأتي اتصال إسناد العماد ابن جماعة به في رواية الكتاب في نسخته (رق م 61) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 62 الأسانيد 29 - إسناد في عنوان الجزء الاول بخط هبة الله بن الاكفاني وهو مصور في اللوحة رقم (1) وقد سمع منه سنة 458 كما سيأتي برقم (34) وسنة 460 كما مضى برقم (12) الجزء الاول من كتاب الرسالة عن أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس الشافعي رحمة الله عليه، رواية أبي محمد الربيع بن سليمان المرادي المؤذن عنه، رحمهما الله، مما أخبرنا به الشيخ أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن موسى السلمي الحداد رضي الله عنه، عن أبوى القاسم تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي الحافظ، وعبد الرحمن بن عمر بن نصر بن محمد الشيباني، رضي الله عنهما، كلاهما عن أبي علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك الفقيه الحصائري رحمه الله، عن الربيع بن سليمان المرادي، عن أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، سماع لهبة الله بن أحمد بن محمد بن هبة الله الاكفاني، نفعه الله بالعلم. ثم كتب ابن الاكفاني بخطه في الذيل الايمن من الصفحة ما نصه: توفى شيخنا أبو بكر محمد بن علي بن محمد السلمي الحداد رحمه الله ليلة الاحد، وصلى عليه يوم الاحد الظهر في الجامع، وذلك في اليوم العاشر من شهر رمضان من سنة ستين وأربعمائة، ودفن في باب الصغير، زحمه الله ورضي عنه. وقد تكرر العنوان وحده بهذا الاسناد في الجزءين الثاني والثالث بخطه أيضا (ص 58 و108 أصل) وكتب على بن عقيل بن علي تحت السطر الاخير من عنوان الجزء الثالث ما نصه: (مما أخبرنا به عنه الشيخ الامين أبو المكارم عبد الواحد بن محمد بن المسلم بن هلال) ثم كتب تحت ذلك: (سماع منه لعلي بن عقيل بن علي نفع به آمين) . وعلي بن عقيل سمع الكتاب من عبد الواحد بن هلال سنة 563 كما مضى بخطه في السماع رقم (20) ثم سجل سماعه أيضا بخطه في (ص 11 أصل) كما سيأتي برقم (30) ثم كتب الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 63 بخطه أيضا عنوانا للجزء الثاني وآخر للجزء الثالث كما سيأتي برقم (31) وأرجح أنه كتب كل هذا بعد أن ملك النسخة في سنة 566 كما بينته في حاشية السماع (رقم 20) وانظر ما يأتي برقم (42) . 30 - إسناد الكتاب بخط علي بن عقيل بن علي بسم الله الرحمن الرحيم. إسناد الرسالة: أنا الشيخ الامين أبو المكارم عبد الواحد بن محمد بن هلال، قال: أخبرنا الشيخ الامين أبو محمد هبة الله بن أحمد بن محمد بن هبة الله الانصاري الاكفاني رحمه الله، قراءة عليه في سنة تسع وخمسمائة، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن موسى السلمي الحداد، قراءة عليه، في شهر ربيع الاخر من سنة ستين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو القاسم تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي الحافظ، قراءة عليه في بيته في سنة ست وأربعمائة، وأبو القاسم عبد الرحمن بن عمر بن نصر بن محمد الشيباني، قراءة عليه في سنة ثمان وأربعمائة، قالا: حدثنا أبو علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك الفقيه الحصايري، قال: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي المؤذن، قال: أخبرنا الامام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان الشافعي رضي الله عنه. 31 - إسناد في عنوان الجزء الثاني بخط علي بن عقيل الجزء الثاني من كتاب الرسالة. عن أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي. رواية الربيع بن سليمان المرادي عنه. رواية أبي علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك الفقيه عنه. رواية أبوى القاسم تمام بن محمد بن عبد الله الرازي. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 64 وعبد الرحمن بن عمر بن نصر بن محمد الشيباني. كليهما عنه. رواية أبي بكر محمد بن علي بن محمد بن موسى السلمي الحداد عنهما. رواية الامين أبي محمد هبة الله بن أحمد الاكفاني عنه. أخبرنا به عنه الشيخ الامين أبو المكارم عبد الواحد بن محمد بن هلال. والامام العالم الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي. سماع منهما لعلي بن عقيل بن علي الشافعي نفع به آمين. وكرر هذا العنوان أيضا في الجزء الثالث بخطه (ص 106 أصل) ويظهر من هذا أنهما كتبا بعد سماع علز بن عقيل من الحافظ ابن عساكر علي بن الحسن بن هبة الله سنة 567 كما مضى في السماع (رقم 21) . وقد كتب الحسن بن علي بن عقيل تحت خط أبيه في الجزءين سماعه أيضا بما نصه: (ولابنه الحسن بن علي من الشيخ أبي المعالي عبد الله بن عبد الرحمن بن صابر بن علي الاكفاني) والحسن سمع مع أبيه في سنة 571 كما مضى برقم (22 و 23) . التوقيعات نريد بالتوقيعات السماعات المختصرة التي يكتبها السامعون من العلماء بخطهم تسجيلا لسماعهم على الكتاب، وهذه مثلها مرتبة ترتيبا تاريخيا، الاقدم فالاقدم: 32 - " رواية أبي القاسم عبد الرحمن بن عمر الحنفي عن أبي علي الحسن بن حبيب عنه. سماع لعلي وإبرهيم ابني محمد بن إبرهيم الحنائي، نفعهما الله بالعلم ". هذا التوقيع مكتوب تحت عنوان الثالث الذي يخط الربيع (ص 112 أصل، لوحة رقم 5) والظاهر أنه بخط أحد هذين السامعين، وقد سمع أولهما من عبد الرحمن بن عمر بن نصر في سنة 394، والثاني في سنة 401 كما مضى في السماعات (1 - 6) وقد كتب نحوه في (ص 12 أصل، لوحة رقم 3) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 65 33 - " سمع الكتاب كاملا محمد السمرقندي " هذا التوقيع مكتوب في (ص 12 أصل، لوحة رقم 3) ، وهو محمد بن أبي الوفاء السمرقندي، مضى سماعه برقم (8) سنة 457. 34 - " بلغت سماعا وطاهر بن بركات الحشوعي وسلمان بن حمزة الحداد وأخواه هبة الله وعبد الكريم (1) . وذلك في رجب من سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. وصح " هذا التوقيع في (ص 9 أصل) وكلها بخط هبة الله بن الاكفاني. 35 - " سماع لهبة الله بن أحمد الاكفاني نفعه الله به، من الشيخ أبي بكر محمد بن علي الحداد، رضى الله عنه ". هذا التوقيع بخط هبة الله بن الاكفاني الذي سمع الكتاب سنة 460 كما مضى برقم (12) وقد كتبه على عناوين الاجزاء الثلاثة بخط الربيع، وهي (ص 12، 62 و 112 أصل، لوحات 3، 4، 5) . 36 - " فرغ من جميعه نسخا وسماعا وعرضا عبد الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر ". هذا التوقيع مكتوب على الجزء الثالث (ص 112 أصل، لوحة رقم 5) وكتب أيضا على الجزءين الاول والثاني (ص 12، 62 أصل، لوحة رقم 3، 4) ولكن ضاع بعضه فيهما، وعبد الرحمن بن صابر سمع سنة 495 كما مضى في رقم (13) . 37 - " سمع جميعه وعارض بنسخته محمد بن محمد بن المسلم بن هلال " هذا التوقيع مكتوب على الصفحات (12، 62، 112 أصل، لوحات 3، 4، 5) وسماعه في سنة 499 وقد مضى برقم (15) .   (1) عبد الكريم بن حمزة السلمي الحداد أبو محمد مسند الشأم، مات سنة 526 في ذي القعدة (س 4: 78) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 66 38 - " سمع جميعه وعارض بنسخته محمد بن علي بن المسلم بن الفتح السلمي ". وهذا مكتوب في (ص 62 أصل، لوحة رقم 4) ومكرر في (ص 12، 112 أصل) بشئ من الاختصار. وسماعه سنة 509 وقد مضى برقم (17) . 39 - " سمع جميعه وعارض بنسخته علي بن الحسن بن هبة الله " هو الحافظ ابن عساكر، وقد كتب هذه العبارة بخطه أربع مرات: على عنوان الاول والثاني اللذين بخط ابن الاكفاني، وعلى العنوانين اللذين بخط الربيع (ص 4، 12، 58، 62 من الاصل) ولكن ليس في الاخيرة لفظ " جميعه "، ولم يكتبها على عنواني الثالث، أو لعله كتبها على طرف الصفحة ثم محاها البلى، وانظر اللوحات (رقم 1، 3، 4) . 40 - " سمع جميع هذا الجزء من أوله إلى آخره على الشيخ الفقيه الامين أبي محمد هبة الله بن أحمد الاكفاني وهب بن سلمان بن أحمد السلمي بقراءته في آخرين، في شهر رمضان ... " هذا التوقيع مكتوب في (ص 62 أصل، لوحة رقم 4) وتاريخ السنة غير واضح، ولكنه مذكور في السماع الذى مضى برقم (18) وأنه في سنة 518 41 - " سمع أكثره وعارض نسخته محمد بن الحسن به هبة الله ". هذا أخو الحافظ ابن عساكر، وهو مكتوب في (ص 12 أصل، لوحة رقم 3) وقد مضى سماعه برقم (19) في سنة 519 42 - " سماع لعلي بن عقيل بن علي نفع به " وهذا مكتوب على العنوان الاول الذي بخط الاكفاني (ص 4 أصل، لوحة رقم 1 وقد كرره في عنواني الثاني والثالث، وزاد في الثالث " آمين " (ص 18، 108 أصل) وله توقيعات أخرى أشرنا إليها في (رقم 29، 31) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 67 43 - " سمع هذا الكتاب وقابل به نسخة أبو القاسم هبة الله بن معد بن عبد العزيز بن عبد الكريم القرشي الدمياطي ". كتب هذا التوقيع في (ص 12 أصل، لوحة رقم 3) ولم يبق ذكر هبة الله هذا في السماعات، فهو فائدة جديدة. وهبة الله بن معد فقيه شافعي عرف بابن البورى، نسبة إلى " بورة " وهي بلد قرب دمياط، ينسب إليها السمك البورى، تفقه علي ابن أبي عصرون وابن الخل، ثم استقر بالاسكندرية، ودرس بمدرسة السلفي " ومات سنة 599 وله ترجمة في (ش 4: 348) (ط 4: 322) ولم يذكر اسم جده " عبد العزيز " فيستفاد من خطه هنا. 44 - " سمعه وما بعده على غير واحد، وله نسخة: محمد بن يوسف بن محمد النوفلي القرشي المعروف بالكنجي، وحضر ابني أبو الفضل جعفر جبره الله ". هذا التوقيع مكتوب في الجزء الاول (ص 4 أصل، لوحة رقم 1) وقد كتب أيضا بنحوه في (ص 62، 112 أصل، لوحة رقم 4، 5) وسماعه مضى برقم (28) سنة 656 45 - " الله خير حافظا وهو أرحم الراحمين (1) . إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. الحافظ الله. نعم القادر الله. فقدرنا فنعم القادرون. وديعة محمد بن أبي جعفر، كتب الله سلامته ".   اقتباس من الاية (64) من سورة يوسف. وقد قرأها حفص وحمزة والكسائي " حافظا " وقرأ باقي السبعة " حفظا " بكسر الحاء وسكون الفاء، وقد كتبها تاج الدين القرطبي بدون الالف على هذه القراءة. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 68 هذه العبارة مكتوبة في رأس (ص 8 أصل) وهي بخط الامام تاج الدين محمد بن أبي جعفر القرطبي المتوفي سنة 643، وقد سمع الكتاب في سنتي 578، 588 ثم سمع عليه بعد دخول الاصل في ملكه في سنة 635، كما مضى في السماعات (24 - 27) ويظهر من هذه العبارة أنه كتبها عند دخول الاصل في ملكه، أي قبل سنة 635 الأحاديث والآثار (1) أحاديث رواها أحد السامعين من عبد الرحمن بن نصر عنه في سنة 401 46 - حدثنا أبو القاسم بن نصر، قال: ثنا أبو علي الحسن بن حبيب قال: ثنا ابن أبي سفيان بقيسارية، قال: ثنا الفريابي، قال: نا إسرائيل عن سماك بن حرب بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نضر الله وجه امرئ سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع " (2) . 47 - وقال: أخبرنا عبد الرحمن بن حبيش بن شيخ الفرغاني، قال: حدثنا زكريا بن يحيى السجزي، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: حدثنا شعبة، قال الشيخ: حدثني أبو يوسف يعقوب بن المبرك (3) ، قال: حدثنا   (1) لم تذكر في الفهرس من رجال هذه الاثار إلا من ترجمنا له فقط. (2) الحديث رواه أحمد في المسند (رقم 4157 ج 1 ص 436 - 437) من طريق شعبة وإسرائيل عن سماك بن حرب، ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (ج 1 ص 40) من طريق شعبة عن إسرائيل. ورواه الشافعي في الرسالة عن سفيان بن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن عن أبيه (رقم 1102 و 1314) . (3) هكذا كتب الاسم، فرسمته كما كتب، ولم أعرف ضبطه ولا ترجمة صاحبه. وكنت أظن أنه يقرأ " المبارك " ولكني وجدت في الشذرات (5: 232) اسم " المبرك " بهذا الرسم في نسب أحد العلماء، فتركت ماهنا كما هو. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 69 عبد الرحمن بن إسحق المكي، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة عن علي بن مدرك، قال: سمعت أبا زرعة يحدث عن خرشة عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، قلت: من هم يا رسول الله؟ خابوا وخسروا، قال: المسبل إزاره، والمنان والمختال " (1) 48 - وقرئ على الشيخ: حدثكم أبو إسحق إبرهيم بن أبي ثابت، قال: حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: " كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وأبو بكر، فقال: يا غلام؟ هل من لبن؟ قال: نعم، ولكني مؤتمن، فقال: هل من شاة لم ينز عليها فحل؟ فأتيته بها، فمسح ضرعها، فنزل اللبن، فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال: للضرع: اقلص، فقلص، فأتيته بعد هذا فقلت له: يا رسول الله، علمني من هذا القول، فمسح يده على رأسي، وقال: يرحمك الله، إنك لغليم معلم " (2) هذه الاحاديث الثلاثة مكتوبة في الصفحة التي فيها عنون الجزء الثالث المكتوب بخط الربيع (ص 112 أصل، لوحة رقم 5) ، وهي بخط أحد الرواة عن أبي القاسم عبد الرحمن بن عمر بن نصر، كما هو ظاهر، وكتب الكاتب بعدها: (قرئ على الشيخ جميعه، وسمع من بلغ له بخطه في الثاني) . ثم كتب تحتها هبة الله بن الاكفاني بخطه ما نصه: (سماع لهبة الله بن أحمد   (1) الحديث رواه الطيالسي في مسنده عن شعبة (رقم 9 467 ورواه أحمد في المسند بأسانيد كثيرة (ج 5 ص 148، 151، 153، 158، 162، 168، 177 - 178) ورواه مسلم (1: 41) والترمذي (2: 227 من شرح المباركفوري) وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وفي رواياتهم كلها: " المنفق سلعته بالحلف الكاذب " بدل " المختال ". (2) " غليم " بضم الغين المعجمة، تصغير " غلام " ويدل عليه ما في بعض الروايات " غلا معلم ". والحديث رواه أحمد بن أبي بكر بن عياش (رقم 3598) . ورواه أيضا عن عفان عن حماد بن سلمة عن عاصم (3599، 4412) (ج 1 ص 379 و 462) رواه الطيالسي (رقم 353) عن حماد بن سلمة، ورواه أبو نعيم في الدلائل (ص 113) من طريق الطيالسي. ونسبه ابن كثير في التاريخ (6: 102) للبيهقي. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 70 بن محمد الاكفاني من الشيخ أبي بكر محمد بن علي الحداد رضي الله عنه) . فالظاهر من هذا ومن مقارنة الخط بخط أبي بكر الحداد في السماع الماضي برقم (11) (ص 111 أصل) أن هذه الاحاديث بخط أبي بكر الحداد، وأنه هو الذي سمعها من عبد الرحمن بن نصر مع من سمع منه في السماع الثاني سنة 401 كما مضى في السماعات (رقم 2، 4، 6) خصوصا وقد ثبت من السماعات أن ابن الاكفاني لم يسمع الكتاب في هذا الاصل إلا من ابن الحداد وحده. أثران رواهما أحد السامعين في السماع (رقم 8 سنة 457) 49 - حدثنا الشيخ أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الكتاني رضي الله عنه لفظا. قال: أخبرنا أبو المعمر المسدد بن علي بن عبد الله الاملوكي إمام جامع حمص قدم علينا، إجازة، قال: حدثنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن عمرو الرحبي سنة ثمان وستين وثلاثمائة، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن منصور بن محمد الشيرازي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن عبد الله الفرغاني بنيسابور يقول: سمعت أبا بكر الشافعي يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله، بما جوزي الشافعي عن ذكره لك في كتاب الرسالة؟ قال: جوزي ألا يوقف للحساب. 50 - ثنا أبو العباس الشيرازي (1) ، قال: حدثنا عبد الواحد بن الحباب، قال: سمعت أبا الحسن بن أبي صغير يقول: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: من تعلم القران عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.   (1) هذا الاسناد تابع لما قبله، والذي يقول " حدثنا أبو العباس الشيرازي " هو القاضي أبو بكر الرحبي. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 71 51 - وحدثني بعض فقهاء الشافعيين أن هذه رسالة الشافعي إلى عبد الرحمن بن مهدي سأله فيها. هذه الاثار الثلاثة مكتوبة في (53 أصل) وتحتها السماع على أبي بكر الحداد سنة 457 الذى مضى برقم (8) ويظهر أنها كلها بخط كاتب السماع في ذلك المجلس. والشيخ المروي عنه هذه الاثار هو الحافظ عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن علي التميمي الصوفي " الامام المحدث مفيد دمشق ومحدثها " كما وصفه الذهبي في التذكرة، وهو من شيوخ عبد الكريم بن حمزة السلمي الحداد الذي سمع الرسالة سمة 458 كما مضى برقم (34) وهبة الله بن الاكفاني الذي سمعها سنة 460 كما مضى برقم (12) وحدث عنه أيضا الخطيب البغدادي والامير ابن ماكولا. ولد سنة 389 ومات في جمادى الاخرة سنة 466 وله ترجمة في تذكرة الحفاظ (3: 342) والانساب للسمعاني (ورقة 475) والشذرات (3: 325) . والاثر الاول روى نحوه ابن السبكي في الطبقات (1: 98) باسناده عن ابن بيان الاصبهاني أنه رأى مناما مثله. والاثر الثاني سيأتي نحوه باسناد آخر رواه ابن الاكفاني عن الخطيب البغدادي (برقم 55) ونقل الحافظ ابن حجر في (توالى التأسيس ص 72 طبعة بولاق) نحوه بدون إسناد، وكذلك ابن السبكي في الطبقات (1: 241) . آثار مكتوبة في (ص 9 أصل) بخط هبة الله بن الاكفاني 52 - بسم الله الرحمن الرحيم. حدثنا الشيخ الامام أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب من لفظه في رجب من سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، قال أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن رزقويه، قال: أخبرنا دعلج بن أحمد قال: سمعت جعفر بن أحمد الشاماتي (1) يقول: سمعت جعفر بن أخي أبي ثور يقول: سمعت عمي (2) يقول: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القران، ويجمع قبول الاخبار فيه، وحجة   (1) " الشامات " كورة كبيرة من نواحي نيسابور، وجعفر هذا مات في ذي القعدة سنة 272 وله ترجمة في أنساب السمعاني (ورقة 327) ومعجم البلدان (5: 217) . (2) هو أبو ثور إبرهيم بن خالد الكلبي الفقيه البغدادي، له ترجمة في تاريخ بغداد (6: 65) والتهذيب وغيرهما. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 72 الاجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القران والسنة، فوضع له كتاب الرسالة. قال عبد الرحمن بن مهدي: ما أصلي صلاة إلا وأدعوا للشافعي رحمه الله فيها. 53 - أخبرنا محمد، قال: أنا دعلج، قال أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: ثنا الحرث بن سريج النقال، قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما أصلي صلاة إلا وأدعو الله تعالى فيها للشافعي رحمه الله تعالى. 54 - أخبرنا محمد، قال: أخبرنا دعلج، قال: سمعت جعفر الشاماتي يقول: سمعت المزني يقول: كتبت كتاب الرسالة منذ زيادة على أربعين سنة، وأنا أقرأه وأنظر فيه ويقرأ على، فما من مرة قرأت أو قرئ على إلا واستفدت منه شيئا لم أكن أحسنه ثم كتب ابن الاكفاني التوقيع الذي مضى برقم (34) بعد هذا، ثم كتب: 55 - وحدثنا الشيخ الامام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قراءة من لفظه، قال: أخبرني أبو القاسم الازهري، قال: ثنا الحسن بن أحمد الصوفي، قال: ثنا النيسابوري، وهو عبد الله بن محمد بن زياد، قال: سمعت المزني، ح وحدثنا أبو طالب يحيى بن علي بن الطيب الدسكري لفظا بحلوان، قال: ثنا أبو عروبة محمد بن جعفر النصيبي بجرجان، قال: ثنا عبد الله بن أبي سفيان بالموصل، قال: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: من تعلم القران عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن تعلم اللغة - وقال الدسكري: من نظر في اللغة - رق طبعه، ومن نظر في الحساب - وقال الازهري: ومن تعلم الحساب - تجزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه. بلغت سماعا والحمد لله وحده، وصح. 56 - ونا الشيخ الامام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت من لفظه في التاريخ، قال: أنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن رزقويه، قال: سمعت أبا بكر الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 73 أحمد بن علي بن محمد بن الفامي النيسابوري يقول: سمعت غسان بن أحمد يقول: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: أردت مالك بن أنس، وقد حفظت الموطأ، فقدمت عليه، فقال لي، اطلب من يقرأ لك، فقلت له: إن أعجبك قراءتي؟ فقرأت عليه الموطأ كله حفظا. 57 - وبه قال سمعت الشافعي يقول: إذا قرأت على العالم فقل أخبرنا، وإذا قرأ عليك فقل حدثنا. [وسمع] (1) الجماعة المسمون أعلى هذا، وصح. هذه الاثار كلها في (ص 9 أصل) بخط هبة الله بن الاكفاني، سمعها من الخطيب البغدادي صاحب التاريخ من كتاب (تاريخ بغداد) وقد بحثت عنها فوجدت الاثر الاول منها، وهو (رقم 52) في ترجمة الشافعي (ج 2 ص 64 - 65) ووجدت أيضا (رقم 56) في ترجمة ابن الفامي (ج 4 ص 313) ولم أحد باقيها، ولعلها مفرقة في مواضع منه يطول البحث عنها. والاثر (56) نقل نحوه ابن حجر في توالي التأسيس (ص 51) عن أبن أبي حاتم عن الربيع. كلمة لابي حاتم (ص 4 من الاصل) 58 - قال أبو حاتم إذا قال الشافعي رحمه الله في كتبه " أخبرني الثقة عن ابن أبي ذئب " فهو ابن أبي فديك. وإذا قال " أخبرني الثقة عن الليث بن سعد " فهو يحيى بن حسان. وإذا قال " أخبرنا الثقة عن الوليد بن كثير " فهو عمرو (2) بن أبي سلمة. وإذا قال " أخبرنا الثقة عن ابن جريج " فهو مسلم بن خالد الزنجي. وإذا قال " أنا الثقة عن صالح مولى التوأمة " فهو إبرهيم بن [أبي] يحيى (3) . هذه الفائدة مكتوبة فوق عنوان الاصل الذي بخط ابن الاكفاني، وأظنها بخطه أيضا، وقد نقلها العلماء عن أبي حاتم وغيره، ونقلوا نحوها معم بعض اختلاف، وانظر تدريب الرواي للسيوطي (ص 113 - 114) .   (1) الزيادة ضائعة من الاصل بتأكل طرف الورقة، فزدناها لحاجة الكلام إليها. (2) في الاصل " عمر " وهو خطأ، وانظر الرسالة (رقم 1093) . (3) في الاصل " بن يحيى " وهو خطأ. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 74 شعر للصنوبري في مدح أبي الحسن بن يزيد الحلبي 59 - علي بن محمد بن إسحق بن يزيد الحلبي أبو الحسن الفقيه (1) قرات بخط الحافظ أبي القاسم بن عساكر: أنا الشيخ الامام أبو السعود أحمد بن علي بن المجلي (2) ، أنا الشيخ أبو منصور عبد المحسن بن محمد بن علي (3) قراءة من لفظه، في المحرم سنة سبع وستين وأربعمائة، أنشدني أبو الحسن بن يزيد الحلبي (4) لابي بكر الصنوبري (5) فيه يمدحه: يزيد الفقه والفقهاء حبا * * إلى [قلبي] (6) ففيه بني يزيد تناهى ثم زاد عن التناهى * * وأشرف أن يزيد على المزيد أبا الحسن ابتدى عمرا مداه * * مدى لبد وليس مدى لبيد وعش عيشا جديدا كل يوم * * قرير العين بالعمر المديد فكم من مستفاد منه علما (7) * * يمد إليك كف المستفيد هذه القطعة مكتوبة في الاصل في (ص 8) ولم أعرف كاتبها، وقد أجبت دعوة الشاعر للعالم، فعاش مائة سنة.   (1) لم أجد هذه الترجمة في تاريخ ابن عساكر المحفوظ بالمكتبة التيمورية بدار الكتب، لان فيها نقصا في مواضع كثيرة، منها هذا الموضع، فترجمة " علي بن أبي طالب " تبدأ في (ج 29 ص 196) وتنتهي في (ج 30 ص 184) ثم بعدها ترجمة " علي بن هبة الله " فسقط من آباء من اسمه " علي " من باقي حرف العين إلى حرف الهاء. (2) له ترجمة في (ش 4: 73) ومات سنة 525 (3) هو أبو منصور الشيحي البغدادي، ولد سنة 411 ومات سنة 489 (ش 3: 392) (ق 1: 564) (ن 4: 215) . (4) هو الفقيه أبو الحسن بن يزيد الحلبي القاضي الشافعي، المحدث الكبير، نزيل مصر، مات سنة 396 عن 100 سنة (ش 3: 147) (قضاة مصر ص 595) . (5) هو أحمد بن محمد بن الحسن الصنوبري، شاعر معروف، له ترجمة في (ع 3: 209) (مع 1: 456) (نس ورقة 355) (فوات الوفيات 1: 77) ولم يذكروا تاريخ وفاته. وذكر في معجم البلدان في مادة " حلب " باسم " محمد بن الحسن " وهو خطأ في طبعتي أو ربه ومصر. (6) في الاصل " إلى " والزيادة ضرورية لوزن البيت، فزدناها. (7) هكذا في الاصل بالنصب، وهو شاهد آخر على إنابة الجار والمجرور مناب الفاعل مع نصب المفعول، كما تكرر في الرسالة (انظر رقم 45 من فهرس الفوائد اللغوية) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 75 نسخة العماد بن جماعة (1) 60 - عنوان النسخة (لوحة رقم 12) كتاب الرسالة من تصانيف الامام الشافعي رضي الله عنه. رواية حرملة بن يحيى التجيبي (2) ، والربيع بن سليمان المؤذن المصري، رحمهما الله، عنه. 61 - إسناد العماد إسمعيل بن جماعة بالكتاب (لوحة رقم 12) أخبرنا بها إجازة معينة المسند عبد الرحيم بن محمد المصري (3) ، بإجازته المعينة لها من الحافظ أبي عمر عبد العزيز بن محمد بن جماعة (4) ، بروايته لها   (1) هو عماد الدين إسمعيل بن إبرهيم بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، وسيأتي باقي نسبه في ترجمة جده، كنيته أبو الفداء، وعرف كأسلافه بابن جماعة، ولد ببيت المقدس في 23 رمضان سنة 825: قرأ على الحافظ ابن حجر والجلال المحلي وغيرهما. ترجم له (ص 2: 284) ولم يذكر تاريخ وفاته، وأظنه مات بعد السخاوي. (2) " التجيبي " بضم التاء، وحرملة كنيته أبو حفص، وهو المصري الحافظ، صاحب الشافعي وابن وهب، روى عنه مسلم في صحيحه، صنف المبسوط والمختصر، وروى كتب الشافعي، ولد سنة 166 ومات في شوال سنة 243 (التهذيب 2: 229) (ح 2: 63) (ش 2: 103) (ط 1: 257) (خ 1: 195) . (3) هو عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم بن علي، ناصر الدين بن الفرات المصري الحنفي، ولد بالقاهرة سنة 759، أخذ عن كثير من علماء عصره، وأخذ عنه السخاوي وغيره، مات يوم السبت 26 ذي الحجة سنة 851، قال ابن حجر: " قد جاوز التسعين ممتعا بسمعه وبصره ... وهو الان مسند الديار المصرية " (ص 4: 186 - 188) وأخطأ السخاوي فذكر إسمعيل بن ابرهيم بن جماعة في شيوخ ابن الفرات، مع أنه تلميذه كما هو ظاهر. والصواب ما ذكره بعد ذلك أنه " أجاز له في عاشر شعبان سنة 765 العز أبو عمر بن جماعة فهرست مروياته بالسماع والاجازة ". (4) هو عبد العزيز بن محمد بن إبرهيم بن سعد الله بن جماعة بن صخر الكناني، عز الدين قاضي المسلمين، ولد في 9 محرم سنة 694، وولى قضاء الديار المصرية سنة 738 ومات بمكة في 10 من جمادي الاولى سنة 767 (ش 6: 208) (در 2: 378) (ط 6: 123) (ذ 141، 363) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 76 عن أبي المحاسن يوسف بن محمد بن إبرهيم الدمشقي (1) مشافهة، قال: أنا الحسين بن إبرهيم الاربلي، ويوسف بن مكتوم القيسي، وعبد الله بن بركات القرشي، وإسمعيل بن إبرهيم التنوخي، قالوا: أنا أبو طاهر بركات بن إبرهيم الخشوعي سماعا، قال الاربلي: خلا الجزء الاول فإجازة منه، بسنده باطنها، إسمعيل بن جماعة. 62 - إسناد آخر له وأخبرني جدي عبد الله بن جماعة عن جمع من أصحاب البدر بن جماعة عنه (2) ، أنا الحسين بن إبرهيم التنوخي، عن بركات الخشوعي، بسنده. 63 - إسناد آخر له وأخبرني به الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي إجازة (3) ، بسماعه للنصف الثاني منه من العلامة بهاء الدين أحمد بن حمدان الاذرعي (4) ، أنا عبد المؤمن   (1) هو سبط الامام إسمعيل بن إبرهيم بن شاكر التنوخي، وقد مضى سماعه منه ومن الثلاثة معه في أصل الربيع برقم (28) . (2) سيأتي الكلام على هؤلاء في (رقم 68) . (3) هو الحافظ أبو الوفاء إبرهيم بن محمد بن خليل الطرابلسي الحلبي، سبط ابن العجمي، لكون أمه بنت عمر بن محمد بن أحمد بن العجمي الحلبي. ولد في 22 رجب سنة 753 وأخذ عن علماء عصره، منهم البلقيني وابن الملقن والفيروز ابادي والعراقي، وكتب بخطه الحسن الدقيق شرح ابن الملقن على البخاري في مجلدين، وأصله في 20 مجلدا، وشرح هو البخاري في مجلدين أيضا. مات بحلب يوم الاثنين 26 شوال سنة 841 (ض 1: 138 - 145) (ش 7: 237) (ذ 308 و 379) . (4) هو شهاب الدين الاذرعي بفتح الراء، نسبة إلى أذرعات، بكسر الراء، ناحية بالشأم. ولد سنة 707، وله مؤلفات كثيرة، مات بحلب في 15 جمادى الاخرة سنة 783 (ش 6: 278) (در 1: 124) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 77 بن عبد العزيز الحارثي، أنا إسمعيل بن إبرهيم التنوخي، ويوسف بن مكتوم بسندهما. 64 - إسناد آخر له وأخبرني به جمع عن ابن أميلة (1) ... عن أبي الحسن علي بن أحمد بن البخاري (2) إجازة، بإجازة من أي طاهر بركات بن إبرهيم، بسنده. العنوان (رقم 6) مكتوب بخط نسخي هو خط كاتب النسخة، ولم أعرفه، ولم يذكر تاريخ كتابتها، والراجح عندي أنها كتبت للعماد إسمعيل بن جماعة ليقرأها على جده الحافظ عبد الله بن محمد بن جماعة، وسيأتي مجلس السماع (برقم 68) وأما الاسانيد (رقم 61 - 64) فانها كلها بخط العماد إسمعيل (لوحة رقم 12) . 65 - فائدة مكتوبة على العنوان (لوحة رقم 12) قال: أبو القاسم عثمان بن سعيد الانماطي أخذ الفقه عن المزني والربيع، وأخذ عنه ابن سريج، وكان سبب نشاط الناس في كتب الشافعي. قال عن المزني: أنا أنظر في كتاب الرسالة عن الشافعي منذ خمسين سنة، ما أعلم أنى نظرت فيه مرة إلا وأنا أستفيد منه شيئا لم أكن عرفته.   (1) هو عمر بن حسن بن مزيد بن أميلة بن جمعة المراغي ثم الحلبي ثم الدمشقي ثم المزري، المشهور بابن أميلة، مسند العصر، ولد في 18 رجب سنة 679 قال ابن حجر: " ووهم من أرخه بعد ذلك ". حدث بالكثير، ورحل إليه الناس، وحدث نحوا من 50 سنة، مات في 8 ربيع الاخر سنة 778 وقد كاد يتم 100 سنة (ش 6: 258) (در 3: 159) (2) هو الفخر بن البخاري، مسند الدنيا، علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي، ولد في آخر سنة 595، وحدث بمصر ودمشق وبغداد وغيرها، روى الحديث فوق ستين سنة، وسمع منه الائمة الحفاظ، منهم المنذري والدمياطي وابن دقيق العيد وتقي الدين بن تيمية. مات يوم الاربعاء 2 ربيع الاخر سنة 690 (ش 5: 414) (أ 13: 324) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 78 فائدة مكتوبة بقلم ثخين، وأظنها بخط إسمعيل بن جماعة أيضا، لقرب الشبه بين خطها وخط ما قبلها مع اختلاف القلم. وأبو القاسم الانماطي المذكور مات ببغداد في شوال سنة 288 وهذه الفائدة مذكورة بنصها تقريبا في ترجمته (خ 1: 392) وله ترجمة أيضا في تاريخ بغداد (11: 292) وفي (ش 2: 198) . صورة أول النسخة 66 - بسم الله الرحمن الرحيم. وهو حسبنا ونعم الوكيل. أخبرنا الامين الثقة أبو طاهر بركات بن إبرهيم بن طاهر الخشوعي قراءة عليه، قال: أخبرنا الشيخ الامين أبو محمد هبة الله بن أحمد الاكفاني قراءة عليه وأنا أسمع، في شهور سنة ثمان عشرة وخمسمائة، قال: أخبرنا الشيه أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن موسى السلمي الحداد قراءة عليه في شهر ربيع الاخر سنة ستين وأربعمائة، قال: أخبرنا الحافظ أبو القاسم تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي قراءة عليه في بيته سنة ست وأربعمائة، وأبو القاسم عبد الرحمن بن عمر بن نصر بن محمد الشيباني قراءة عليه سنة ثمان وأربعمائة، قالا: أخبرنا أبو علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك الفقيه الحصايري، قال: أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي، قال: حدثنا الشافعي رضي الله عنه قال. هذا الاسناد مكتوب في أول الصفحة الثانية من النسخة عند بدء الكتاب، كعادة المتقدمين في ذكر أسانيدهم إلى المؤلفين في أوائل الكتب، ويظهر من هذا أن هذه النسخة كتبت عن نسخة لاحد السامعين من أبي طاهر الخشوعي، ممن وصل إسمعيل بن جماعة إسناده بهم، في الاسانيد الماضية (رقم 61 - 64) . وهذا الاسناد مصدق كل التصديق للسماعات المذكورة على أصل الربيع، فانظر سماع أبي طاهر من ابن الاكفاني سنة 518 (رقم 18) وسماع ابن الاكفاني من أبي بكر الحداد سنة 460 (رقم 12) وسماع أبي بكر من تمام وعبد الرحمن سنتي 406 و 408 (رقم 4، 30) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 79 إسناد آخر 67 - طريق آخر، بسم الله الرحمن الرحيم. أنا الشيخ أبو غالب أحمد بن الحسن بن أحمد بن البنا الفقيه (1) رحمه الله قراءة عليه وأنا أسمع، في جمادي الاخرة سنة إحدى وعشرين [وخمسمائة] ، قيل له: أخبركم الشيخ أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد الابنوسي (2) قراءة عليه وأنت تسمع فأقر به، قال: أخبرنا أبو حفص عمر بن إبرهيم بن أحمد الكتاني المقرئ (3) ، قال: أنا أبو الحسن موسى بن جعفر بن محمد بن قرين العثماني (4) ، قال: أنا الربيع بن سليمان المرادي، قال أنا الامام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه. هذا الاسناد مكتوب بحاشية الاسناد الذي قبله في النسخة، وكلمة " وخمسمائة " مكتوبة فوق السطر بالحمرة. وهو إسناد لا يتصل بأسانيد أصل الربيع، بل في طريق مغاير لها.   (1) هو مسند العراقي البغدادي الحنبلي، مات في صفر سنة 527 وله 82 سنة (ق 1: 45) (ش 4: 79) وذكر فيه باسم " أحمد بن علي " وهو خطأ، فأبوه الفقيه الزاهد المقرئ اسمه " الحسن بن أحمد بن عبد الله أبو علي بن البنا " له ترجمة في (ش 3: 338) وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (ص 397) . (2) لم أجد تاريخ وفاته، وذكر في (ق 2: 87) وأنه روى القراءة عن أحمد بن عبد الله السوسنجردي سنة 390 وروى عنه القراءة الاخوان أحمد ويحيى ابنا الحسن بن أحمد بن عبد الله. يعني أبا غالب بن البنا وأخاه. ثم وجدت الابنوسي هذا في تاريخ بغداد (1: 356) وأنه سمع من الدارقطني، ولد سنة 381 ومات في شوال سنة 457 (3) هو صاحب أبي بكر بن مجاهد، قرأ عليه وسمع منه كتابه في القراءات، ولد سنة 300 ومات في 11 رجب سنة 390 (ش 3: 134) (ق 1: 587) (تاريخ بغداد 11: 269) . (4) هو من شيوخ الدارقطني، وكان ثقة، ولد في المحرم سنة 246 ومات يوم الاربعاء 12 ذي القعدة سنة 328 (تاريخ بغداد 13: 60) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 80 السماع على الجمال ابن جماعة سنة 856 (لوحة رقم 13) 68 - الحمد لله وحده. قرأت جميع (كتاب الرسالة) هذا، على مولانا شيخ الاسلام الخطيبي الجمالي أبي محمد عبد الله بن جماعة (1) ، فسح الله في مدته، وأخبر به قراءة عن العلامة أبي إسحق إبرهيم بن أحمد بن عبد الواحد الشامي (2) ، والشرف أبي بكر بن الحافظ عز الدين عبد العزيز بن جماعة (3) إجازة، قالا: أنا قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبرهيم بن جماعة (4) ، أنا الحسين بن إبرهيم الاربلي،   (1) هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن ابرهيم بن عبد الرحمن بن إبرهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صخر بن عبد الله، الكناني الحموي المقدسي الشافعي، ولد في ذي القعدة سنة 780 ببيت المقدس، من أسرة نبغ فيها كثير من العلماء الكبار، عرف كل منهم بابن جماعة. أخذ عن شيوخ عصره، منهم ابن الجزري وابن الملقن والعراقي والهيثمي، وكان خيرا ثقة متواضعا، كثير التلاوة والعبادة والتهجد، مذكورا باجابة الدعوة، مات بالرملة في ذي القعدة سنة 865 (ض 5: 51) (ش 7: 305) . (2) هو التنوخي البعلي الاصل، الدمشقي المنشأ، نزيل القاهرة، ولد سنة 709 وأخذ عن العلماء الكبار، منهم البرزالي والمزي وأبو حيان، ومهر في القراءات، وهو ممن أخذ عنه الحافظ ابن حجر ولازمه طويلا، وكان يعرف بالبرهان الشامي الضرير، لما ذهب بصره، مات ليلة الاثنين 8 جمادى الاخرة سنة 800 (در 1: 11) (ش 6: 363) (ق 1: 13) (3) هو أبو بكر بن عبد العزيز بن محمد بن ابرهيم بن سعد بن جماعة، يعرف كسلفه بابن جماعة، ولد في 3 ذي القعدة سنة 728، قال الحافظ ابن حجر: " كان يكتب خطا حسنا، ولديه فضائل، رأيته يتناول الكتاب المكتوب المطوي، فيقرأ ما فيه، وهو في كمه، من غير أن يشاهد باطنه ... وكان يدري أشياء عجيبة صناعية ". مات في 14 جمادى الاولى سنة 803 (ض 11: 47) (ش 7: 27) . (4) هو شيخ الاسلام، قاضي القضاة بمصر والشأم، محمد بن إبرهيم بن سعد الله بن جماعة، بدر الدين أبو عبد الله الحموي المصري الشافعي، ولد عشية الجمعة، ربيع الثاني سنة 639 الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 81 وإسمعيل بن إبرهيم التنوخي، إجازة، قالا: أنا أبو طاهر بركات بن إبرهيم الخشوعي، بسنده في أوله (1) . فسمع جميع الكتاب والدى الخطيبى الامامي العالمي برهان الدين أبو إسحق إبرهيم ابن المسمع (2) ، وأخواه محمد وموسى، والاخوان العلامي النجمي محمد (3) ، ومحب الدين أحمد (4) ، والفضلاء زين الدين عبد الكريم بن أبي الوفاء، وشمس الدين محمد بن الجمال يوسف بن الصفي المصري (5) ، وزين الدين عمر بن عبد المؤمن الحلبي (6) ، وعلي بن خليل بن أبي قيس، وسمع مفوتا جماعة، فسمع الاخر عز الدين من أوله، وكذلك ناصر الدين محمد بن غرس الدين خليل الترجمان، إلى (باب العلل في الاحاديث) ، والعز عبد العزيز فقط من (باب الاجتهاد) إلى آخر الكتاب، وزين الدين   = بحماة وتبحر في العلوم، وتميز في التفسير والفقه، وجمع وصنف، وولى قضاء الاقليمين، فحمدت سيرته، أضر بآخر عمره، فانقطع للعبادة قريبا من ست سنين، ومات في جمادى الاولى سنة 733 (در 3: 280) (ش 6: 105) (ذ 10 7) (ط 5: 230) (1) يشير الى الاسناد الماضي برقم (66) . (2) هو والد إسمعيل، وابن المسمع عبد الله، عرف كباقي أسرته بابن جماعة، ولد سنة 805 ببيت المقدس، وولى قضاء بلده وخطابتها، مات في آخر صفر سنة 872 (ض 1: 72) . (3) هو أخو العماد إسعميل بن جماعة، وهو أبو البقاء نجم الدين محمد بن إبرهيم بن جماعة، قاضي القضاة، شيخ الاسلام، ولد بالقدس في أواخر صفر سنة 833، سمع من جده ومن الحافظ ابن حجر وغيرهما، مات بالقدس سنة 901 (ش 8: 9) (ض 6: 255) . (4) هو أخو العماد بن جماعة أيضا، كان خطيبا بالمسجد الاقصى، مات ليلة السبت 5 رمضان سنة 889 وقد زاد على 50 سنة (ض 1: 195) . (5) هو أبو الغيث محمد بن يوسف بن أحمد القاهري الشافعي، ولد سنة 824، ولازم الحافظ ابن حجر وسمع عليه الكثير، مات في ذي الحجة سنة 892 (ض 10: 89) . (6) ترجم له في (ض 6: 99) وقال " الخليلي " بدل " الحلبي ". ولد سنة 789 ولم يذكر تاريخ وفاته. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 82 عبد الرحمن بن أحمد بن غازي (1) من (باب الصنف الذي يبين سياقه معناه) إلى آخر الكتاب، وكذلك علي حسن بن الوزان، وغرس الدين خليل بن الشهاب أحمد بن مطسا (2) [سمع الكتاب خلا (3) ] من قوله في (باب الحجة بتثبيت خبر الواحد) : " قال الشافعي ثنا سفيان " فذكر حديث عمر " أذكر الله امرءا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا " الحديث، إلى حديث سعيد بن جبير " قال قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل " الحديث، ويوسف وإيرهيم ولدا تاج الدين عبد الوهاب قاضي الصلت (4) ، من (باب كيف البيان) إلى (باب الصنف الذي يبين سياقه معناه) ، وسمع إبرهيم فقط من (باب العلل في الاحاديث) إلى (باب الاجتهاد) ، وشرف الدين موسى بن شيخ التنكزية من (باب النهي عن معنى أوضح من معنى قبله) إلى (باب الاجتهاد) ، وعلاء الدين علي بن إبرهيم الغزى (5) من أول الكتاب إلى (باب الصنف الذي يبين سياقه معناه) ،   (1) هو الزرعي المقدسي، سبط المسمع عبد الله بن جماعة، لازم الكمال بن أبي شريف، مات قبل الكهولة سنة 889 (ض 4: 55) . (2) هكذا في السماع بدون نقط، ولم أعرف من هو؟ (3) الزيادة مثبتة بحاشية السماع بخطه وسيشير إلى توكيدها في آخره. (4) لم أجد ترجمة يوسف، أما إبرهيم فقد ذكره السخاوي، وأنه رآه في مكة مجاورا على خير في سنة 897 ولم يذكر وفاته. وأبوهما عبد الوهاب بن أبي بكر بن أحمد بن محمد الدمشقي الشافعي، ولد سنة 833 تقريبا، وولى قضاء الصلت، مات سنة 893 (ض 1: 73، 5: 99) ويظهر من هذا أن يوسف وإبرهيم كانا طفلين وقت السماع، لان أباهما كان شابا في سنة 856 (5) ذكره السخاوي فقال: " نزيل بيت المقدس المتوفى به في " ولم يذكر تاريخ الوفاة (ض 5: 160) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 83 وزين الدين عبد القادر بن قطلوشاه من حديث ابن عمر (1) " أذكر الله امرءا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا) إلى آخر الكتاب. وأجازهم المسمع رواية الكتاب وما يجوز له روايته، لافظا قوله عقب القراءة، وكان في ستة مجالس، آخرها نهار الخميس سابع عشر صفر سنة 856 قاله وكتبه إسمعيل بن جماعة والمحلق على الهامش [سمع الكتاب خلا] صحيح إسمعيل بن جماعة. ثم كتب الشيخ المسمع بخطه تحت ذلك ما نصه: " صحيح ذلك. كتبه عبد الله بن محمد بن جماعة، غفر الله تعالى له ". هذا مجلس السماع المثبت بخط إسمعيل بن جماعة في آخر نسخته المقروءة على جده الجمال بن جماعة، وتحته خط جده إثباتا لصحته، وهو المصور هنا (لوحة رقم 13) .   (1) كذا بخطه في السماع، والحديث حديث عمر. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 84 لوحة رقم - 1 (ص 4 من الاصل) وهو عنوان الجزء الاول بخط هبة الله بن الاكفاني المتوفى سنة 524 وعليه بخطه أيضا شهادته بأن الاصل بخط الربيع الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 93 لوحة رقم - 2 (ص 7 من الاصل) وفيها السماعات (رقم 18، 19، 21) الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 95 لوحة رقم - 3 (ص 12 من الاصل) وهو عنوان الجزء الاول بخط الربيع الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 97 لوحة رقم - 4 (ص 62 من الاصل) وهو عنوان الجزء الثاني بخط الربيع الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 99 لوحة رقم - 5 (ص 112 من الاصل) وهي عنوان الجزء الثالث بخط الربيع الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 101 لوحة رقم - 6 (ص 13 من الاصل) وهي أول الجزء الاول من الكتاب بعد العنوان الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 103 لوحة رقم - 7 (ص 63 من الاصل) وهي أول الجزء الثاني من الكتاب بعد العنوان الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 105 (ص 113 من الاصل) وهي أول الجزء الثالث من الكتاب بعد العنوان الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 107 لوحة رقم - 9 (ص 154 من الاصل) وهي آخر صفحة من الكتاب وعليها إجازة الربيع وتوقيعه الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 109 لوحة رقم - 10 قطعة من الزاوية اليمنى من (ص 36 من الاصل) لمقارنة خطها بخط اللوحة رقم - 11 المصورة عن ورقة من البردي لوحة رقم - 11 الصورة رقم (51) من اللوحة (رقم 7) من الجزء الاول من (كتاب الاوراق البردية) وهي قطعة من مكتوب مؤرخ سنة 195 الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 111 لوحة رقم - 12 عنوان نسخة ابن جماعة الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 113 لوحة رقم - 13 الصفحة الاخيرة من نسخة ابن جماعة وفيها ثبت السماع في مجالس آخرها نهار الخميس 17 صفر سنة 856. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 115 الرسالة للإمام المطلبي محمد بن ادريس الشافعي 150 - 204 ((لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني، لانني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لاكثر الدعاء له)) . عبد الرحمن بن مهدي بتحقيق وشرح: أبي الاشبال أحمد محمد شاكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس. فانظر هل لهذين من خلف، أو منهما عوض؟ ! (الامام أحمد بن حنبل) طالت مجالستنا للشافعي، فما سمعت منه لحنة قط. ولا كلمة غيرها أحسن منها. (عبد الملك بن هشام النحوي صاحب السيرة) الشافعي كلامه لغة يحتج بها. (ابن هشام أيضا) ألم تر آثار ابن إدريس بعده ... دلائلها في المشكلات لوامع معالم يفنى الدهر وهي خوالد ... وتنخفض الاعلام وهي فوارع مناهج فيها للهدى متصرف ... موارد فيها للرشاد شرائع فمن يك علم الشافعي إمامه ... فمرتعه في باحة العلم واسع (أبو بكر بن دريد صاحب الجمهرة) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي، وهو شاب، أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة: فوضع له كتاب " الرسالة ". قال عبد الرحمن بن مهدي: ما أصلى صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها. وقال أيضا: لما نظرت " الرسالة " للشافعي أذهلتني، لانني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له. قال المزني [أبو إبرهيم إسمعيل بن يحيى، صاحب الشافعي، مات سنة 264] : قرأت كتاب "الرسالة" للشافعي خمسمائة مرة، ما من مرة منها إلا واستفدت فائدة جديدة لم أستفدها في الأخرى. وقال أيضا: أنا أنظر في كتاب "الرسالة" عن الشافعي منذ خمسين سنة، ما أعلم أني نظرت فيه من مرة إلا وأنا أستفيد شيئا لم أكن عرفته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الجزء الأول من الرسالة رواية الربيع بن سليمان عن محمد بن إدريس الشافعي هذا العنوان صورة من عنوان الجزء الأول من الأصل وهو بخط الربيع بن سليمان صاحب الشافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 رموز نسخ الرسالة الأصل: نسخة الربيع بن سليمان، مخطوطة بدار الكتب المصرية، وهي أقدم الكتب الثابت تاريخها. وقد كتب الربيع بخطه في آخرها إذنا بنسخها في ذي القعدة سنة 265 وأنا أجزم بأنها كلها بخط الربيع، وأنه كتبها في حياة الشافعي، أي قبل آخر رجب سنة 204 س: نسخة مطبوعة بمصر بالمطبعة الشرفية في سنة 1315 عن نسخة منقولة عن أصل الربيع. ج: نسخة مطبوعة بمصر بالمطبعة العلمية في سنة 1312 ب: نسخة مطبوعة بمصر بالمطبعة الأميرية ببولاق في سنة 1321 مع كتاب " الأم " للشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 قُرَان (اللغة التي استعملها الإمام الشافعي) : انظر "قرآن" (وهو الهجاء حسب المصطلح العصري) بسم الله الرحمن الرحيم . . . الربيع بن سليمان قال: بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبدِ يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبيُّ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. والحمد لله الذي لا يُؤدى شُكر نعمة من نِعَمِهِ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 إلا بنعمة منه توجب على مؤدي ماضي نعمه بأدائها نعمةً حادثةً، يجب عليه شكره بها. ولا يبلغ الواصفون كُنه عظمته. الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه. أحمده حمداً كما ينبغي لكرم وجهه وعِز جلاله. وأستعينه استعانةَ من لا حول له ولا قوة إلا به. وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه. وأستغفره لما أَزلفت وَأَخرت: استغفار من يُقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. بعثه والناس صنفان: أحدهما: أهل كتاب بدّلوا من أحكامه، وكفروا بالله، فافتعلوا كذبا صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أَنزل إليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 فذكر تبارك وتعالى لنبيه من كفرهم، فقال: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب، لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.) (سورة آل عمران / 78) ثم قال: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون) . وقال تبارك وتعالى: (وقالت اليهود: عُزَيرٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابنُ الله. ذلك قولهم بأفواههم. يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله! أنى يؤفكون؟! اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابن مريم. وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون) (التوبة 30 - 31) . وقال تبارك وتعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك الذين لَعَنَهم الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً) (النساء 50 - 52) وصنف كفروا بالله، فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وَخُشُبَاً، وَصُوَرَاً استحسنوا، ونبزوا أسماء افتعلوا، ودعوها آلهة عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا منها، ألقوه ونصبوا بأيديهم غيره، فعبدوه: فأولئك العرب. وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا، وفي عبادة ما استحسنوا من حوت، ودابة، ونجم، ونار، وغيره. فذكر الله لنبيه جواباً من جواب بعض مَن عبد غيره من هذا الصنف، فحكى جل ثناؤه عنهم قولهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون. وحكى تبارك وتعالى عنهم: (لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن وداً ولا سواعاً، ولا يغوث ويعوق ونسرا، وقد أضلوا كثيرًا) (نوح 23 - 24) [ص: 11] وقال تبارك وتعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم. إنه كان صدّيقاً نبياً إذ قال لأبيه: يا أبت! لم تعبد ما لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئا؟!) (مريم 41 - 42) وقال: (واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه: ما تعبدون؟ قالوا: نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال: هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم، أو يضرون؟!) (الشعراء 69 - 70) وقال في جماعتهم، يذكّرهم مِن نِعَمِهِ، ويخبرهم ضلالتهم عامة، ومَنَّه على مَن آمن منهم: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها. كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) (آل عمران 103) قال: فكانوا قبل إنقاذه إياهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أهلَ كفر في تفرقهم، واجتماعهم. يجمعهم أعظم الأمور: الكفرُ بالله، وابتداع ما لم يأذن به الله. تعالى عما يقولون علواً كبيراً. لا إله غيره، وسبحانه، وبحمده ربُّ كل شيء وخالقهُ. [ص: 12] من حيَّ منهم فكما وَصَفَ حاله حياً: عاملاً قائلاً بسخط ربه مزداداً من معصيته. ومن مات فكما وَصَفَ قولَه وعملَه: صار إلى عذابه. فلما بلغ الكتاب أجله فَحَقَّ قضاء الله بإظهار دينه الذي اصطفى بعد استعلاء معصيته التي لم يرض: فَتَحَ أبواب سماواته برحمته، كما لم يزل يجري - في سابق علمه عند نزول قضائه في القرون الخالية -: قضاؤه. فإنه تبارك وتعالى يقول: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) (البقرة 213) فكان خِيرتُهُ المصطفى لوحيه، المنتخبُ لرسالته المفضلُ على جميع خلقه، بفتحِ رحمته، وختمِ نبوته، وأعمِّ ما أرسل به مرسلٌ قبله المرفوعُ ذِكرُهُ مع ذِكرِه في الأولى، والشافعُ المشفَّعُ في الأخرى، أفضلُ خلقه نفساً، وأجمعُهُم لكل خُلُق رَضِيَهُ في دينٍ ودنيا. وخيرُهم نسباً وداراً محمداً عبدَه ورسولَه. [ص: 13] وَعَرَّفَنَا وَخَلقَهُ (1) نِعَمَهُ الخاصةَ، العامةَ النَّفعِ في الدين والدنيا. فقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم) (التوبة 128) وقال: (لتنذر أم القرى ومَن حولها) (الشورى 7) ، وأمُّ القرى: مكة، وفيها قومُه. وقال: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (الشعراء 214) وقال: (وإنه لَذِكر لك ولقومك وسوف تُسألون) (الزخرف 44)   (1) أي عرفنا مع خلقه، والعطف على الضمير المتصل المنصوب من غير توكيد أو فصل جائز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد في قوله: (وإنه لذكر لك ولقومك) قال: يقال: ممن الرجل؟ فيقال: من العرب. فيقال: من أي العرب؟ فيقال: من قريش. [ص: 14] قال الشافعي: وما قال مجاهدٌ من هذا بيّنٌ في الآية مستغنى فيه بالتنزيل عن التفسير. فخص جل ثناؤه قومَه وعشيرَتَه الأقربين في النِّذَارة، وعمَّ الخلقَ بها بعدهم، ورفع بالقُرَآن ذِكر رسول الله، ثم خص قومه بالنِّذارة إذ بعثه فقال: (وأنذر عشيرتك الأقربين) [ص: 15] وزعم بعض أهل العلم بالقُرَآن (1) أن رسول الله قال: يا بني عبد مناف! إن الله بعثني أَن أُنذرَ عشيرتي الأقربين، وأنتم عشيرتي الأقربون. (2) [ص: 16] قال الشافعي: أخبرنا بن عيينة عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قوله: (ورفعنا لك ذكرك) قال: لا أُذكَرُ إلا ذُكِرتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدأ رسول الله. يعني - والله أعلم - ذكرَه عند الإيمان بالله، والآذان. ويَحتمل ذكرَه عند تلاوة الكتاب، وعند العمل بالطاعة، والوقوف عن المعصية. فصلى الله على نبينا كلما ذكره الذاكرون، وَغَفَل عن ذكره الغافلون، وصلى عليه في الأولين والآخرين، أفضلَ وأكثرَ وأزكى ما صلى على أحد من خلقه. وزكانا وإياكم بالصلاة عليه أفضل ما زكى أحداً من أمته بصلاته عليه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته، وجزاه الله عنا أفضل ما جزى مرسلاً عن من أُرسل إليه؛ فإنه أنقذنا به من الهلكة، وجعلنا في خير أمة أخرجت للناس، دائنين بدينه الذي ارتضى، واصطفى به ملائكته ومن أنعم عليه من خلقه. فلم تُمس بنا نعمة ظهرت ولا بَطَنَت، نلنا بها حظاً في دين ودنيا أو دُفِعَ بها عنا مكروه فيهما، وفي واحد منهما: إلا ومحمد صلى الله عليه سببها، القائدُ إلى خيرها، والهادي إلى رشدها، الذائدُ عن الهلكة وموارد السَّوء في خلاف الرشد، المنبِّهُ للأسباب التي تورد الهلكة، القائمُ بالنصيحة في الإرشاد والإنذار فيها. فصلى الله على محمد وعلى آل محمد كما صلى على إبراهيم وآل إبراهيم إنه حميد مجيد. [ص: 17] وأنزل عليه كتابه فقال: (وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. تنزيل من حكيم حميد) (فصلت 41 - 42) فنقلهم من الكفر والعمى إلى الضياء والهدى، وبيَّن فيه ما أَحَلَّ: مَنَّاً بالتوسعة على خلقه، وما حَرَّمَ: لما هو أعلم به من حظهم في الكفِّ عنه في الآخرة والأولى. وابتلى طاعتهم بأن تَعَبَّدَهُم بقول، وعمل وإمساك عن محارمَ حَمَاهُمُوها، وأثابهم على طاعته من الخلود في جنته، والنجاة من نقمته: ما عَظُمَت به نعمته جل ثناؤه. [ص: 18] وأَعلَمَهُم ما أَوجب لأهل طاعته. وَوَعَظَهُم بالأخبار عمن كان قبلهم، ممن كان أكثرَ منهم أموالاً وأولاداً، وأطولَ أعماراً، وأحمدَ آثاراً، فاستمتعوا بخلاقهم في حياة دنياهم، فأذاقهم عند نزول قضائه مناياهم دون آماله، ونزلت بهم عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في أنف الأوان، ويتفهموا بِجَلِيَّة التبيان، ويتنبهوا قبل رَين الغفلة، ويعملوا قبل انقطاع المدة حين لا يُعتِب مذنب، ولا تؤخذ فدية، و (تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً) (آل عمران 30) [ص: 19] فكل ما أَنزل في كتابه - جل ثناؤه - رحمة وحجة، عَلِمه من علمه، وجهله من جهله، لا يعلم من جهله، ولا يجهل من علمه.   (1) قال الشيخ أحمد شاكر: ضبطناه هنا وفي كل موضع ورد فيه في الرسالة بضم القاف وفتح الراء محققة وتسهيل الهمزة. وذلك اتباعاً للإمام الشافعي في رأيه وقراءته. ا. هـ وانظر تاريخ بغداد 2/62 (2) ورد بمعناه في البخاري ومسلم وانظر الدر المنثور 5/95 - 98 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 والناس في العلم طبقات، موقعُهم من العلم بقدْر درجاتهم في العلم به. فحقَّ على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدِهم في الاستكثار من علمه، والصبرُ على كل عارض دون طَلَبِه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرَك خيرٌ إلا بعونه. فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علِم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونَوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة. فنسأل اللهَ المبتدئَ لنا بنعمه قبل استحقاقها، المديمَها علينا مع تقصيرنا في الإتيان إلى ما أوجب به من شكره بها، الجاعِلَنَا في خير أمة أخرجت للناس: أن يرزقنا فهماً في كتابه، ثم سنة نبيه، وقولاً وعملاً يؤدي به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيدة. [ص: 20] قال الشافعي: فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها. قال الله تبارك وتعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) (إبراهيم 1) وقال: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون) (النحل 44) وقال: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمةً وبشرى للمسلمين) (النحل 89) وقال: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا، ما كنتَ تدري ما الكتابُ، ولا الإيمانُ، ولكن جعلناه نوراً نَهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) (الشورى 52) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 باب: كيف البيان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 قال الشافعي: والبيان اسم جامع لمعاني مجتمعةِ الأصول، متشعبةِ الفروع: فأقلُّ ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة: أنها بيانٌ لمن خوطب بها ممن نزل القُرَآن بلسانه، متقاربة، الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشدَّ تأكيدَ بيانٍ من بعض. ومختلفةٌ عند من يجهل لسان العرب. قال الشافعي: فجِمَاع ما أبان الله لخلقه في كتابه، مما تَعَبَّدَهم به، لما مضى من حكمه جل ثناؤه: من وجوه. فمنها ما أبانه لخلقه نصاً. مثلُ جمُل فرائضه، في أن عليهم صلاةً وزكاةً وحجاً وصوماً وأنه حرَّم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن، ونصِّ الزنا (1) والخمر، وأكل الميتة والدم، ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فَرْضُ الوضوء، مع غير ذلك مما بين نصاً. [ص: 22] ومنه: ما أَحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيه؟ مثل عدد الصلاة، والزكاة، ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه. ومنه: ما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصُّ حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه، فمَن قبل عن رسول الله فبِفَرْضِ الله قَبِل. ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهادَ في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم. فإنه يقول تبارك وتعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين، ونبلوَ أخباركم) (محمد 31) [ص: 23] وقال: (وليَبْتَلِيَ الله ما في صدوركم وليمحِّص ما في قلوبكم) (آل عمران 154) وقال: (عسى ربكم أن يهلكَ عدوكم، ويستخلفَكم في الأرض فينظرَ كيف تعملون؟) (الأعراف 129) قال الشافعي: فوجَّههم بالقبلة إلى المسجد الحرام، وقال لنبيه: (قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلَنُوَلِّيَنَّك قبلة ترضاها، فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (البقرة 144) وقال: (ومن خرجت فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، لئلا يكونَ للناس عليكم حجةٌ) (البقرة 150) . فَدَلهَّم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد الحرام على صواب الاجتهاد، مما فرَض عليهم منه، بالعقول التي رَكَّب فيهم، المميزةِ بين الأشياء، وأضدادها، والعلامات التي نَصَب لهم دون عين المسجد الحرام الذي أمرهم بالتوجه شطره. [ص: 24] فقال: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) (الأنعام 97) ، وقال: (وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون) (النحل 16) فكانت العلامات جبالاً وليلاً ونهاراً، فيها أرواح (2) معروفة الأسماء، وإن كانت مختلفة المَهابِّ. وشمسٌ وقمر، ونجوم معروفةُ المطالع والمغارب، والمواضعِ من الفلك. ففرض عليهم الاجتهاد بالتوجه شطر المسجد الحرام، مما دلهم عليه مما وصَفْتُ، فكانوا ما كانوا مجتهدين غيرَ مُزايِلين أمرَه جلَّ ثناؤه. ولم يجعل لهم إذا غاب عنهم عين المسجد الحرام أن يُصلُّوا حيث شاؤوا [ص: 25] وكذلك أخبرهم عن قضائه فقال: (أيحسب الإنسان أن يُترَك سُدى) (القيامة 36) والسُّدى: الذي لا يُؤمر ولا يُنهى. وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال بما وصفت في هذا، وفي العَدل، وفي جزاء الصيد، ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيءٌ يُحدِثه لا على مثالٍ سبق فأمرهم أن يُشهدوا ذوَي عدل، والعدل: أن يعمل بطاعة الله، فكان لهم السبيلُ إلى علم العدل والذي يخالفه. وقد وُضِع هذا في موضعه، وقد وضعت جملاً منه رجوت أن تدل على ما وراءها مما في مثل معناها. [ص: 26]   (1) أي ومثل النص الوارد في الزنا والخمر. (2) الأرواح: جمع ريح. انظر الصحاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 باب البيان الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 قال الله تبارك وتعالى في المتمتع: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم. تلك عشَرَة كاملة. ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجدِ الحرام) (البقرة 196) فكان بيِّناً عند مَن خوطب بهذه الآية أن صوم الثلاثة في الحج، والسبع في المَرجِع عشرةُ أيام كاملة. قال الله: (تلك عشرة كاملة) فاحتملت أن تكون زيادةً في التبيين، واحتملت أن يكون أعلَمَهُم أن ثلاثة إذا جُمعت إلى سبع كانت عشرة كاملة. [ص: 27] وقال الله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة، وأتممناها بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة) (الأعراف 142) فكان بيِّنا عند من خوطب بهذه الآية أن ثلاثين، وعشراً أربعون ليلة. وقوله: (أربعين ليلة) يحتمل ما احتملت الآية قبلها: من أن تكون: إذا جُمعت ثلاثون إلى عشر كانت أربعين، وأن تكون زيادة في التبيين. وقال الله: (كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياماً معدودات، فمن كان منكم مريضا، أو على سفر فعدة من أيام أُخَرَ) (البقرة 183 - 184) وقال: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القُرَآن هدى للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر، فعِدَّة من أيام أخر) (البقرة 185) فافترض عليهم الصومَ، ثم بيَّن أنه شهر، والشهر عندهم ما بين الهلالين، وقد يكون ثلاثين، وتسعاً وعشرين. [ص: 28] فكانت الدلالة في هذا كالدلالة في الآيتين، وكان في الآيتين قبله: في ابن جماعة ((زيادةٌ تبيِّن جماع العدد)) . وأشبهُ الأمور بزيادة تبيين جُملة العدد في السبع، والثلاث، وفي الثلاثين والعشر: أن تكون زيادةً في التبيين؛ لأنهم لم يزالوا يعرفون هذين العددين وجماعة، كما لم يزالوا يعرفون شهر رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 باب البيان الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 قال الله تبارك وتعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين، وإن كنتم جُنُبَاً فاطَّهروا) (المائدة 6) وقال: (ولا جُنُبَاً إلا عابري سبيلٍ) (النساء 43) [ص: 29] فأتى كتاب الله على البيان في الوضوء دون الاستنجاء بالحجارة، وفي الغسل من الجنابة. ثم كان أقل غسل الوجه، والأعضاء مرة مرة، واحتمل ما هو أكثر منها، فبين رسول الله الوضوء مرة، وتوضأ ثلاثاً، ودل على أن أقل غسل الأعضاء يجزئ، وأن أقل عدد الغسل واحدة. وإذا أجزأت واحدة فالثلاث اختيار. ودلت السنة على أنه يجزئ في الاستنجاء ثلاثة أحجار، ودل النبي على ما يكون منه الوضوء، وما يكون منه الغسل، ودل على أن الكعبين والمرفقين مما يغسل؛ لأن الآية تحتمل أن يكونا حدين للغسل، وأن يكونا داخلين في الغسل. ولما قال رسول الله ((ويل للأعقاب من النار)) دلَّ على أنه غسل لا مسح. قال الله: (ولأبويه لكل واحد منهما السُدُسُ مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولدٌ وَوَرِثَه أبواه، فلأمه الثلث، فإن كان له أخوة فلأمه السدس) (النساء 11) [ص: 30] وقال: (ولكم نصفُ ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنَّ ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربُع مما تركن من بعد وصية يُوصين بها أو دين، ولهن الربُع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمُن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دَين، وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأةٌ، وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدُسُ، فإن كانوا أكثرَ من ذلك، فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غيرَ مضارٍّ وصيةً من الله، والله عليم حليم) (النساء 12) فاستُغنِي بالتنزيل في هذا عن خبرٍ غيرِه، ثم كان لله فيه شرطٌ أن يكون بعد الوصية والدَّين، فدل الخبر على أن لا يُجَاوَزَ بالوصية الثلثُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 باب البيان الثالث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 قال الله تبارك وتعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) (النساء 103) وقال: (وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة) (البقرة 43) وقال: (وأتموا الحج والعمرة لله) (البقرة 196) ثم بين على لسان رسوله عدد ما فرض من الصلوات، ومواقيتَها وسننها، وعددَ الزكاة ومواقيتَها، وكيف عملُ الحج والعمرة، وحيث يزول هذا ويثبُتُ، وتختلف سننه وتَاتَفِقُ (1) ، ولهذا أشباهٌ كثيرة في القُرَآن والسنة. [ص: 32]   (1) ايتفق ياتفق فهو موتفق. في لغة أهل الحجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 باب البيان الرابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قال الشافعي: كل ما سنَّ رسول الله مما ليس فيه كتاب، وفيما كتبنا في كتابنا هذا، من ذِكرِ ما مَنَّ الله به على العباد من تَعَلُّم الكتاب والحكمة: دليلٌ على أن الحكمة سنة رسول الله. مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله، وبيَّن من موضعه الذي وضعه الله به من دينه: الدليلُ على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه. منها: ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه، فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره ومنها: ما أتى على غاية البيان في فرضه وافترض طاعة رسوله، فبين رسول الله عن الله كيف فرْضُهُ؟ وعلى من فرْضُهُ؟ ومتى يزول بعضه وَيَثبُتُ وَيَجِبُ؟ [ص: 33] ومنها: ما بينه عن سنة نبيه بلا نص كتاب. وكل شيء منها بيانٌ في الكتاب الله. فكل من قَبِلَ عن الله فرائضه في كتابه: قَبِلَ عن رسول الله سننه بفرْض الله طاعةَ رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قَبِلَ عن رسول الله، فمن الله قَبِلَ لِمَا افترض الله من طاعته. فيجمع القبول لما في كتاب الله، ولسنة رسول الله: القبولَ لكل واحد منهما عن الله، وإن تفرقت فروع الأسباب التي قُبِل بها عنهما، كما أحل وحرم، وفرض وحدَّ بأسباب متفرقة، كما شاء جل ثناؤه، (لا يُسأل عما يفعل، وهم يسألون) (الأنبياء 23) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 باب البيان الخامس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 قال الله تبارك وتعالى: (ومن حيث خرجتَ فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (البقرة 150) ففرض عليهم حيث ما كانوا أن يُوَلُّوا وجوههم شطره، وشطرُهُ جِهَتُهُ في كلام العرب. إذا قلتَ أقصد شطر كذا، معروف أنك تقول: أقصد قصدَ عَينِ كذا، يعني قصدَ نفسِ كذا، وكذلك ((تلقاءه)) جهتَهُ، أي أستقبل تلقاءه، وجهته، وإنَّ كلَّها معنىً واحدٌ، وإن كانت بألفاظ مختلفة. وقال خُفَافُ بن نُدْبة: ألا من مبلغ عَمراً رسولاً ... وما تغني الرسالة شَطر عمرو [ص: 35] وقال ساعدة بن جُؤَيَّة: أقول لأم زِنْبَاعٍ أَقيمي ... صدور العِيس شطر بني تميمِ وقال لقيط الأيادي: وقد أظلكُمُ من شطر ثغركُمُ ... هولٌ له ظُلَمٌ تغشاكُمُ قِطَعَا وقال الشاعر: إن العسير بها داءٌ مُخامرُها ... فشطرَها بَصَرُ العينين مسحورُ [ص: 36] قال الشافعي: يريد تلقاءها بَصَرُ العينين، ونحوَها: تلقاءَ جهتها. وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين أن شطر الشيء قَصْدُ عين الشيء: إذا كان معايناً فبالصواب، وإذا كان مُغَيَّبَاً فبالاجتهاد بالتوجه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه. [ص: 38] وقال الله: (جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) (الأنعام 97) (وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون) (النحل 16) فَخَلَقَ لهم العلامات، ونصب لهم المسجد الحرام، وأمرهم أن يتوجهوا إليه. وإنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركَّبها فيهم، التي استدلوا بها على معرفة العلامات. وكل هذا بيان، ونعمة منه جل ثناؤه. (وأشهدوا ذَوَي عدل منكم) (الطلاق 2) ، وقال: (ممن ترضون من الشهداء) (البقرة 282) أبان أن العدلَ العاملُ بطاعته، فمن رأوه عاملاً بها كان عدلاً، ومن عمل بخلافها كان خلاف العدل. وقال جل ثناؤه: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُمٌ، ومن قتله منكم متعمداً، فجزاءٌ مثلُ ما قتل من النَّعَم، يحكمُ به ذوا عدل منكم هدياً بالغَ الكعبة) (المائدة 95) [ص: 39] فكان المِثل - على الظاهر - أقربَ الأشياء شَبَهَاً في العِظَمِ من البدن. واتفقت مذاهب مَن تكلم في الصيد من أصحاب رسول الله على أقرب الأشياء شبهاً من البدن. فنظرنا ما قُتِلَ من دوابِّ الصيد: أيُّ شيء كان من النَّعَم أقربَ منه شَبَهَاً فديناه به. ولم يحتمل المِثل من النَّعَم القيمةَ فيما له مِثلٌ في البدن من النعم: إلا مستكرهاً باطناً. فكان الظاهر الأعمُّ أولى المعنيين بها. وهذا الاجتهاد الذي يطلبه الحاكم بالدلالة على المثل. وهذا الصنف من العلم: دليلٌ على ما وصفْتُ قبلَ هذا على أنْ ليس لأحد أبداً أن يقول في شيء حلَّ ولا حرُم إلا من جهة العلم. وجهةُ العلم الخبرُ: في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس. ومعنى هذا البابِ معنى القياس؛ لأنه يُطلب فيه الدليل على صواب القبلةِ، والعَدلِ، والمِثل. [ص: 40] والقياس ما طُلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم، من الكتاب أو السنة؛ لأنهما عَلَمُ الحق المفتَرَضِ طَلَبُهُ، كطلب ما وَصَفتُ قبله، من القبلة والعدل والمثل. وموافقته تكون من وجهين: أحدهما: أن يكون الله أو رسوله حرم الشيء منصوصاً، أو أحله لمعنى، فإذا وجدنا ما في مثل ذلك المعنى فيما لم يَنُصَّ فيه بعينه كتابٌ ولا سنة: أحللناه أو حرمناه؛ لأنه في معنى الحلال أو الحرام. أو نجد الشيء يشبه الشيءَ منه، والشيءَ من غيره، ولا نجد شيئاً أقربَ به شَبَهَاً من أحدهما: فنلحقه بأَولى الأشياء شَبَهَاً به، كما قلنا في الصيد. قال الشافعي: وفي العلم وجهان: الإجماع والاختلاف. وهما موضوعان في غير هذا الموضع. ومن جماع علم كتاب الله: العلمُ بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب. [ص: 41] والمعرفةُ بناسخ كتاب الله، ومنسوخة، والفرْضِ في تنزيله، والأدبِ، والإرشادِ، والإباحةِ. والمعرفةُ بالموضع الذي وضع الله به نبيه من الإبانة عنه، فيما أحكم فرضه في كتابه، وبينه على لسان نبيه. وما أراد بجميع فرائضه؟ ومن أراد: أكلَّ خلقه أم بعضهم دون بعض؟ وما افترض على الناس من طاعته، والانتهاء إلى أمره. ثم معرفةُ ما ضرب فيها من الأمثال الدوالِّ على طاعته المبيِّنة لاجتناب معصيته، وتركُ الغفلة عن الحظ، والازديادُ من نوافل الفضل. فالواجبُ على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا. وقد تكلم في العلم مَن لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساكُ أولى به، وأقربَ من السلامة له إن شاء الله. فقال منهم قائل: إن في القُرَآن عربياً وأعجميًا [ص: 42] والقُرَآن يدل على أنْ ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب. ووجد قائل هذا القول مَن قَبِلَ ذلك منه تقليداً له، وتركاً للمسألة عن حجته، ومسألةِ غيره ممن خالفه. وبالتقليد أغفلَ من أغفلَ منهم، والله يغفر لنا ولهم. ولعل من قال: إن في القُرَآن غيرَ لسان العرب، وقُبِلَ ذلك منه ذَهَبَ إلى أن من القُرَآن خاصاً يجهل بعضَه بعضُ العرب. ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه. والعلمُ به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيءٌ. [ص: 43] فإذا جُمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فُرّق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم ما كان ذهب عليه منها موجوداً عند غيره. وهم في العلم طبقات منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقلَّ مما جمع غيره. وليس قليلُ ما ذهب من السنن على من جمع أكثرَها: دليلاً على أن يُطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم، بل يُطلب عن نظرائه ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله - بأبي هو وأمي - فيتفرَّد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وَعَوا منها. [ص: 44] وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها. لا يذهب منه شيء عليها، ولا يُطلب عند غيرها، ولا يعلمه إلا من قَبِله عنها، ولا يَشرَكها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها. وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله. وعِلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعمُّ من علم أكثر السنن في العلماء. فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؟ فذلك يحتمل ما وصفتُ من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجدُ ينطقُ إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه، فهو تبع للعرب فيه. ولا ننكر إذ كان اللفظُ قِيل تعلماً، أو نُطِق (45) به موضوعاً: أن يوافقَ لسانُ العجم، أو بعضُها قليلاً من لسان العرب، كما يَاتَفِقُ القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبُعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها. فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب، لا يخلِطُه فيه غيره؟ فالحجة فيه كتابُ الله قال الله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) (إبراهيم 4) فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمداً بُعث إلى الناس كافة، فقد يحتمل أن يكون بُعث بلسان قومه خاصة، ويكونَ على الناس كافة أن يتعلموا لسانه، وما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بُعث بألسنتهم: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟ [ص: 46] فإن كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتَّبَع على التابِع. وأولى الناس بالفضل في اللسان مَن لسانُهُ لسانُ النبي. ولا يجوز - والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسانٍ غيرِ لسانه في حرف واحد، بل كلُّ لسان تَبَع للسانه، وكلُّ أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه. وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه: قال الله: (وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (الشعراء 192 - 193) وقال: (وكذلك أنزلناه حكماً عربياً) (الرعد 37) وقال: (وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى، ومَن حولها) (الشورى 7) [ص: 47] وقال: (حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) (الزخرف 1 - 3) وقال: (قرآناً عربياً غيرَ ذي عِوَجٍ لعلهم يتقون) (الزمر 28) قال الشافعي: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه - جل ثناؤه - كلَّ لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه. فقال تبارك وتعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر. لسانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين) (النحل 103) وقال: (ولو جعلناه أعجمياً لقالوا: لولا فُصِّلت آياته، أعجمي وعربي؟!) (فصلت 44) قال الشافعي: وعرَّفَنَا نعمه بما خصَّنا به من مكانه، فقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤفٌ رحيم) [التوبة 128] وقال: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) " [الجمعة] . وكان مما عرَّف اللهُ نبيَّه من إنْعامه، أنْ قال: " وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (44) " [الزخرف] ، فخَصَّ قومَه بالذكر معه بكتابه. وقال: " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) " [الشعراء] ، وقال: " لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا (7) " [الشورى] ، وأمُّ القرى: مكة، وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه خاصة، وأدخلهم مع المنذَرين عامة، وقضى أن يُنْذِروا بلسانهم العربي، لسانِ قومه منهم خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يَشْهَد به أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، ويتلوَ به كتابَ الله، وينطق بالذكر فيما افتُرِض عليه من التكبير، وأُمر به من التسبيح، والتشهد، وغيرِ ذلك. [ص: 49] وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعله الله لسانَ مَنْ خَتَم به نُبوته، وأنْزَلَ به آخر كتبه: كان خيراً له. كما عليه يَتَعَلَّمُ (1) الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيتَ، وما أُمِر بإتيانه، ويتوجه لِما وُجِّه له. ويكون تبَعاً فيما افتُرِض عليه، ونُدب إليه، لا متبوعاً. [ص: 50] وإنما بدأت بما وصفتُ، من أن القُرَآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم مِن إيضاح جُمَل عِلْم الكتاب أحد، جهِل سَعَة لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجِماعَ معانيه، وتفرقَها. ومن علِمه انتفَتْ عنه الشُّبَه التي دخلَتْ على من جهِل لسانَها.   (1) حذف ((أن)) في مثل هذا الموضع جائز قياساً والأكثرون على رفع الفعل حينئذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فكان تَنْبيه العامة على أن القُرَآن نزل بلسان العرب خاصة: نصيحةً للمسلمين. والنصيحة لهم فرضٌ، لا ينبغي تركه، وإدْراكُ نافلة خيْرٍ لا يَدَعُها إلاَّ مَن سفِهَ نفسَه، وترَك موضع حظِّه. وكان يَجْمع مع النصيحة لهم قيامًا بإيضاح حقٍّ. وكان القيام بالحق، ونصيحةُ المسلمين من طاعة الله. وطاعةُ الله جامعة للخَير. أخبرنا "سُفيان" عن "زِياد بن عِلاَقة"، قال: سمعتُ "جَرير بن عبد الله" يقول: " بَايَعْتُ النَّبِيَّ عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ " (1) . [ص: 51] أخبرنا "ابن عيينة" عن "سُهَيْل ابن أببي صالح"، عن "عطاء بن يزيد" عن "تَمِيم الدَّارِي"، أنَّ النَّبيَّ قال: " إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِنَبِيِّهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ " (2) .   (1) البخاري: كتاب الإيمان/55؛ مسلم: كتاب الإيمان/84. (2) مسلم: كتاب الإيمان/82؛ النسائي: كتاب البيع/4138؛ أبوداود: كتاب الأدب/4293؛ الترمذي: كتاب البر والصلة/1849. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قال "الشافعي": فإنما خاطب الله بكتابه العربَ [ص: 52] بلسانها، على ما تَعْرِف مِن معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساعُ لسانها، وأنَّ فِطْرَتَه أنْ يخاطِبَ بالشيء منه عامًّا، ظاهِرًا، يُراد به العام، الظاهر، ويُسْتغنى بأوَّل هذا منه عن آخِرِه. وعاماً ظاهراً يراد به العام، ويَدْخُلُه الخاصُّ، فيُسْتَدلُّ على هذا ببَعْض ما خوطِبَ به فيه؛ وعاماً ظاهراً، يُراد به الخاص. وظاهراً يُعْرَف في سِياقه أنَّه يُراد به غيرُ ظاهره. فكلُّ هذا موجود عِلْمُه في أول الكلام، أوْ وَسَطِهِ، أو آخِرَه. وتَبْتَدِئ الشيءَ من كلامها يُبَيِّنُ أوَّلُ لفظها فيه عن آخره. وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظِها منه عن أوَّلِهِ. وتكلَّمُ بالشيء تُعَرِّفُه بالمعنى، دون الإيضاح باللفظ، كما تعرِّف الإشارةُ، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جَهَالتها. وتسمِّي الشيءَ الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمي بالاسم الواحد المعانيَ الكثيرة. وكانت هذه الوجوه التي وصفْتُ اجتماعَها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها -: مَعْرِفةً (1) واضحة [ص: 53] عندها، ومستَنكَراً عند غيرها، ممن جَهِل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتابُ، وجاءت السنة، فتكلَّف القولَ في علمِها تكلُّفَ ما يَجْهَلُ بعضَه. ومن تكَلَّفَ ما جهِل، وما لم تُثْبِتْه معرفته: كانت موافقته للصواب - إنْ وافقه من حيث لا يعرفه - غيرَ مَحْمُودة، والله أعلم؛ وكان بِخَطَئِه غيرَ مَعذورٍ، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بيْن الخطأ والصواب فيه.   (1) أي معروفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 باب: بيان ما نزل من الكتاب عاماً يُراد به العام، ويدخله الخصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 قال الله تبارك وتعالى: " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) " [الزمر] ، وقال تبارك وتعالى: " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ [ص: 54] وَالْأَرْضَ (32) " [إبراهيم] ، وقال: " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا (6) " [هود] ، فهذا عام، لا خاصَّ فيه. قال "الشافعي": فكل شيء، من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك: فالله خَلَقَه، وكل دابة فعلى الله رزقُها، ويَعْلم مُستقَرَّها ومُسْتَوْدعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وقال الله: " مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ (120) " [التوبة] . وهذا في معنى الآية قَبْلَهَا، وإنما أُرِيد به مَن أطاق الجهاد من الرجال، وليس لأحد منهم أن يرغب بنفسه عن نفس النبي: أطاق الجهاد، أو لم يُطِقْه؛ ففي هذه الآية الخصوص والعموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وقال: " وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا (75) " [النساء] . [ص: 55] وهكذا قول الله: " حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا (77) " [الكهف] . وفي هذه الآية دلالةٌ على أنْ لم يستطعما كل أهل قرية، فهي في معناهما. وفيها، وفي: " الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا (75) " [النساء] : خصوص، لأن كل أهل القرية لم يكن ظالماً، قد كان فيهم المسلم، ولكنهم كانوا فيها مَكْثُورِين، وكانوا فيها أقل. وفي القُرَآن نظائر لهذا، يُكْتَفَى بها إن شاء الله منها، وفي السنة له نظائر، موضوعةٌ مَوَاضِعَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 باب: بيان ما أنْزِل من الكتاب عامَّ الظاهرِ، وهو يجمع العام والخصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 قال الله تبارك وتعالى: " إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) " [الحجرات] ، وقال تبارك وتعالى: " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (184) " [البقرة] ، وقال: " إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) " [النساء] ، قال: فبيَّنَ في كتاب الله، أنَّ في هاتين الآيتين العمومَ والخصوصَ: [ص: 57] فأمَّا العموم منهما، ففي قول الله: " إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (13) " [الحجرات] ، فكل نفس خوطبت بهذا، في زمان رسول الله، وقبله وبعده، مخلوقةٌ من ذكر وأنثى، وكلها شعوب وقبائل. والخاص منها في قول الله: " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) " [الحجرات] ؛ لأن التقوى تكون على من عَقَلَها، وكان من أهلها من البالغين من بني آدم، دون المخلوقين من الدوابّ سِواهم، ودون المغلوبين على عقولهم منهم، والأطفال الذين لم يبلغوا وعُقِل التقوى منهم. فلا يجوز أن يُوصف بالتقوى وخلافها إلا من عَقَلها وكان من أهلها، أو خالفها فكان من غير أهلها. والكتاب يدل على ما وصفتُ، وفي السنة دلالة [ص: 58] عليها، قال رسول الله: " رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَة: النَّائِمُِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، والصَّبِيُِّ حتى يَبْلُغَ، وَالمَجْنُونُِ حَتَّى يُفِيقَ " (1) . وهكذا التنزيل في الصوم والصلاة: على البالغين العاقلين، دون من لم يبلغ، ومن بلغ ممن غُلِبَ على عقله، ودون الحُيَّضِ في أيام حَيْضِهِنَّ.   (1) الترمذي: كتاب الحدود/1343؛ أبو داود: كتاب الحدود/3822؛ ابن ماجه: كتاب الطلاق/2031؛ مسند أحمد: مسند العشرة/940، 956، 1183، 1327؛ الدارمي: كتاب الحدود/2194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 باب: بيان ما نزل من الكتاب عامَّ الظاهر، يراد به كلِّه الخاصُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وقال الله تبارك وتعالى: " الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) " [آل عمران] . [ص: 59] قال "الشافعي": فإذْ كان مَن مع رسول الله ناسً (1) ، غيرَ مَن جمَعَ لهم من الناس، وكان المخبرون لهم ناسً غيرَ مَن جمُع لهم، وغيرَ من معه ممن جمُع عليه معه، وكان الجامعون لهم ناساً، فالدلالة بيِّنة مما وصفت من أنه إنما جمع لهم بعضُ الناس دون بعض. والعلم يحيط أنْ من لم يَجمع لهم الناسُ كلهم، ولم يُخبرهم الناسُ كلهم، ولم يكونوا هم الناسَ (2) كلَّهم. ولكنه لما كان اسم الناس يقع على ثلاثة نفر، [ص: 60] وعلى جميع الناس، وعلى مَن بين جمعهم وثلاثةٍ منهم، كان صحيحاً في لسان العرب أن يقال: " الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ (173) " [آل عمران] ، وإنما الذين قال لهم ذلك أربعةُ نفر " إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ (173) " [آل عمران] ، يعنون المنصرفين عن أُحُدٍ. وإنما هم جماعة غيرُ كثير من الناس، الجامعون منهم، غيرُ المجموع لهم، والمخبرون للمجموع لهم غيرُ الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غيرُ الجامعين، ولا المجموع لهم ولا المخبرين.   (1) هكذا رُسمت في الموضعين بغير ألف وهي منصوبة والرسم بغير ألف جائز وقد ثبت في أصول صحيحة عتيقة من كتب الحديث. انظر تعليق شاكر ص 59 (2) الصواب أن هذا الضمير للفصل لا محل له من الإعراب ويكون ما بعده خبراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وقال: " يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) " [الحج] . قال: فمَخْرَجُ اللفظ عامٌّ على الناس كلهم. وبيِّنٌ عند أهل العلم بلسان العرب منهم: أنه إنما يُراد بهذا اللفظ العامِّ المخرجِ بعضُ الناس، دون بعض؛ لأنه لا يُخاطَب بهذا إلا من يدعو من دون الله إلَهًا، تعالى عما يقولون عُلُوًّا كبيرا؛ لأن فيهم من المؤمنين [ص: 61] المغلوبين على عقولهم، وغير البالغين ممن لا يدعو معه إلها. قال: وهذا في معنى الآية قبلها عند أهل العلم باللسان، والآية قبلها أوضحُ عند غير أهل العلم، لكثرة الدلالات فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 قال "الشافعي ": قال الله تبارك وتعالى: " ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ (199) " [البقرة] ، فالعلم يحيط - إن شاء الله - أن الناس كلهم لم يحضروا عرفة في زمان رسول الله، ورسول الله المخاطبُ بهذا ومَن معه، ولكنَّ صحيحاً من كلام العرب أن يقال: " ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ "، يعني بعضَ الناس. وهذه الآية في مثل معنى الآيتين قبلها، وهي عند العرب سواء. والآية الأولى أوضح عند من يجهل لسان العرب من الثانية، والثانيةُ أوضح عندهم من الثالثة، وليس يختلف عند العرب وضوح هذه الآيات معا؛ لأن أقل البيان عندها كاف من أكثره، إنما يريد السامعُ فَهْمَ قول القائل، فأقل ما يفهمه به كافٍ عنده. [ص: 62] @ وقال الله جل ثناؤه: " وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (24) " [البقرة] ، فدل كتاب الله على أنه إنما وقودها بعضُ الناس، لقول الله: " إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى. أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) " [الأنبياء] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 باب: الصِّنْف الذي يُبَيِّن سياقُه معناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قال الله تبارك وتعالى: " وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا، وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ. كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) " [الأعراف] . فابتدأ - جل ثناؤه - ذِكرَ الأمر بمسألتهم عن القرية الحاضرة البحر، فلما قال: " إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْت "الآية، دل على أنه إنما أراد أهلَ القرية؛ لأن القرية لا تكون عادِيَةً، ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره، وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية الذين بَلاَهم بما كانوا يفسقون. وقال: " وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً، وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) " [الأنبياء] . وهذه الآية في مثل معنى الآية قبلها، فذَكَر قَصْمَ القرية، فلما ذكر أنها ظالمة بَانَ للسامع أن الظالم إنما هم أهلها، دون منازلها التي لا تَظلم، ولما ذكر القوم المنشَئِين بعدها، وذكر إحساسَهم البأسَ عند القَصْم، أحاط العلمُ أنه إنما أحسَّ البأس من يعرف البأس من الآدميين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الصنف الذي يدل لفظه على باطنه، دون ظاهره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قال الله تبارك وتعالى، وهو يحكي قول إخوة يوسف لأبيهم: " مَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) ، وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) " [يوسف] . فهذه الآية في مثل معنى الآيات قبلها، لا تختلف عند أهل العلم باللسان، أنهم إنما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير، لأن القرية والعير لا يُنْبِئَانِ عن صدقهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 باب: ما نزل عاماًّ، دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 قال الله - جل ثناؤه -: " وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ (11) " [النساء] . [ص: 65] وقال: " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ امْرَأَةٌ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ، وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) " [النساء] . فأبان أن للوالدين والأزواج مما سمى في الحالات، وكان عامَّ المخرج، فدلت سنة رسول الله على أنه إنما أريد به بعض الوالدين والأزواج، دون بعض، وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحداً، ولا يكون الوارث منهما قاتلاً ولا مملوكاً. وقال: " مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ ". فأبان النبي أن الوصايا مقتَصَرٌ بها على الثلث، لا يُتَعدى، ولأهل الميراث الثلثان؛ وأبان أن الدَّين قبل الوصايا [ص: 66] والميراث، وأن لا وصية ولا ميراث حتى يستوفي أهل الدَّين دينهم. ولولا دلالة السنة، ثم إجماعُ الناس، لم يكن ميراثٌ إلا بعد وصية أو دين، ولم تعد الوصية أن تكون مُبَدَّاةً على الدين أو تكون والدين سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وقال الله: " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (6) " [المائدة] . فقصد - جل ثناؤه - قصْدَ القدمين بالغسل، كما قصد الوجه واليدين، فكان ظاهر هذه الآية أنه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من الغسل، أو الرأس من المسح؛ وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين أو مسحهما، بعضُ المتوضئين دون بعض. فلما مسح رسول الله على الخفين، وأمر به من أدخل رجليه في الخفين، وهو كامل الطهارة، دلت سنة رسول الله على أنه إنما أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعضُ المتوضئين دون بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وقال الله تبارك وتعالى: " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ (38) " [المائدة] . [ص: 67] وسن رسول الله أن: " لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ " (1) ، وأن لا يقطع إلا من بلغت سرقته ربع دينار، فصاعداً.   (1) الترمذي: كتاب الحدود/1369؛ النسائي: كتاب قطع السارق/4874؛ أبو داود: كتاب الحدود/3815؛ مسند احمد: مسند المكثرين/15243؛ مالك: كتاب الحدود/1320؛ الدارمي: كتاب الحدود/2202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وقال الله: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) " [النور] . وقال في الإماء: " فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ (25) " [النساء] . فدل القُرَآن على أنه إنما أريد بجلد المائة: الأحرارُ، دون الإماء. فلما رجم رسول الله الثيب من الزناة، ولم يجلده: دلت سنة رسول الله على أن المراد بجلد المائة من الزناة: الحُرَّان البِكْرَان، وعلى أن المراد بالقطع في السرقة: من سرَق من حِرْز، وبلغت سرقته ربع دينار، دون غيرهما ممن لزمه اسم سرقة وزنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وقال الله: " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [ص: 68] فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (41) " [الأنفال] . فلما أعطى رسول الله بني هاشم وبني المطلب سهم ذي القربى: دلت سنة رسول الله أن ذا القربى الذين جعل الله لهم سهماً من الخمس: بنو هاشم وبنو المطلب، دون غيرهم. وكل قريش ذو قرابة، وبنو عبد شمس مساويةُ بني المطلب في القرابة، هم مَعًا بنو أب وأم، وإن انفرد بعض بني المطلب بولادة من بني هاشم دونَهم. فلما لم يكن السهم لمن انفرد بالولادة من بني المطلب دون من لم تصبه ولادة من بني هاشم منهم: دل ذلك على أنهم إنما أعطُوا خاصة دون غيرهم بقرابة جذم النسب، مع كَيْنُونَتِهِمْ معًا مجتمعين في نصر النبي بالشِّعْب وقبله وبعده، وما أراد الله - جل ثناؤه - بهم خاصًّا. [ص: 69] ولقد وَلَدَتْ بنو هاشم في قريش فما أعطي منهم أحد بولادتهم من الخمس شيئاً، وبنو نوفل مُسَاوِيَتُهُمْ في جِذْمِ النسب، وإن انفردوا بأنهم بنوا أم دونهم. [ص: 70] قال الله: " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ (41) " [الأنفال] . فلما أعطى رسول الله السلَبَ القاتلَ في [ص: 71] الإقبال: دلَّت سنة النبي على أن الغنيمة المَخْمُوسَة في كتاب الله، غيرُ السلب، إذْ كان السلب مَغْنُوماً في الإقبال، دون الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال، وأن الأسلاب المأخوذة في غير الإقبال غنيمةٌ تُخمس مع ما سواها من الغنيمة بالسنة. [ص: 72] ولولا الاستدلال بالسنة، وحُكْمُنا بالظاهر [ص: 73] : قطعنا من لزمه اسمُ سرقة، وضربنا مائةً كلَّ مَنْ زَنَى، حُراًّ ثيباً، وأعطينا سهم ذي القربى كل من بينه وبين النبي قرابة، ثم خلص ذلك إلى طوائف من العرب، لأن له فيهم وَشَايِجَ أرحام، وَخَمَسْنا السَّلَب، لأنه من المَغْنم مع ما سواه من الغنيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بيان فرضِ الله في كتابه اتباعَ سنة نبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 قال: "الشافعي": وضع الله رسوله من دينه وفرْضِه وكتابه، الموضعَ الذي أبان - جل ثناؤه - أنه جعله عَلَمًا لدينه، بما افترض من طاعته، وحرَّم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قَرَن من الإيمان برسوله مع الإيمان به. فقال تبارك وتعالى: " فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا: ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ. إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ (171) " [النساء] . [ص: 75] وقال: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ (62) " [النور] . فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تَبَع له: الإيمانَ بالله ورسوله. فلو آمن عبد به، ولم يؤمن برسوله: لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبداً، حتى يؤمن برسوله معه. وهكذا سَنَّ رسولُ الله في كل من امتحنه للإيمان. أخبرنا "مالك" عن "هلال بن أسامة" عن "عطاء بن يسار" عن "عُمَر بن الحَكَم" قال: " أتَيْتُ رسولَ اللهِ بِجَارِيَةٍ، فَقُلْتُ: ياَ رَسُولَ اللهِ، عَلَيَّ رَقَبَةٌ، أَفَأَعْتِقُهَا؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ: أَيْنَ اللهُ؟ فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَقَالَ: وَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: فَأَعْتِقْهَا " (1) . [ص: 76] قال "الشافعي": وهو"معاوية بن الحكم"، وكذلك رواه غيرُ مالك، وأظن مالكً (1) لم يحْفَظ اسمَه. قال "الشافعي: " ففرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله. فقال في كتابه: " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) " [البقرة] . وقال جل ثناؤه: " كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا، وَيُزَكِّيكُمْ، وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) " [البقرة] . [ص: 77] وقال: " لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) " [آل عمران] . وقال جل ثناؤه: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) " [الجمعة] . وقال: " وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ (231) " [البقرة] . وقال: " وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) " [النساء] . وقال: " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ [ص: 78] اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) " [الأحزاب] . فذكر الله الكتاب، وهو القُرَآن، وذكر الحِكْمَة، فسمعتُ مَنْ أرْضى من أهل العلم بالقُرَآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال، والله أعلم. لأن القُرَآن ذُكر وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذكرَ الله منَّه على خَلْقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يَجُزْ - والله أعلم - أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنةُ رسول الله. وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتَّم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرضٌ، إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله. لِمَا وصفنا، من أنَّ الله جَعَلَ الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به. [ص: 79] وسنة رسول الله مُبَيِّنَة عن الله معنى ما أراد، دليلاً على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله.   (1) موطأ مالك: كتاب العتق والولاء/1269؛ مسند أحمد: باقي مسند الأنصار/22645؛ سنن النسائي: كتاب الوصايا/3593. (2) هكذا رُسم منصوباً بغير ألف وهو جائز على لغة بني ربيعة وقدمنا التعليق عليه ص 59 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 باب: فرْض الله طاعةَ رسول الله مقرونةً بطاعة الله، ومذكورةً وحدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 قال الله: " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) " [الأحزاب] . وقال: " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) " [النساء] . فقال بعض أهل العلم: أولوا الأمر: أمراء سرايا رسول الله - والله أعلم - وهكذا أُخبرنا. [ص: 80] وهو يُشْبِه ما قال - والله أعلم -، لأن كلَّ من كان حوْل مكة من العرب لم يكن يعرف إمارة، وكانت تأنَف أن يُعْطِيَ بعضُها بعضا طاعةَ الإمارة. فلما دانت لرسول الله بالطاعة، لم تكن ترى ذلك يَصلح لغير رسول الله. فأُمِروا أن يُطِيعوا أولي الأمر الذين أَمَّرَهم رسول الله، لا طاعةً مطلقة، بل طاعة مُسْتَثْناة، فيما لهم وعليهم، فقال: " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ (59) " [النساء] ، يعني: إن اختلفتم في شيء. وهذا - إن شاء الله - كما قال في أولي الأمر، إلا أنَّه يقول: " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ "، يعني - والله أعلم - هم وأُمَراؤهم الذين أُمِروا بطاعتهم، " فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ "، يعني - والله اعلم - إلى ما قال الله [ص: 81] والرسول إن عرفتموه، فإن لم تعرفوه سألتم الرسولَ عنه إذا وصلتم، أو من وَصَلَ منكم إليه. لأن ذلك الفرضُ الذي لا مُنَازَعَة لكم فيه، لقول الله: " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (36) [الأحزاب] . ومن تنازع (1) ممن بعد رسول الله رَدَّ الأمر إلى قضاء الله، ثم قضاء رسوله، فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء، نصًّا فيهما ولا في واحد منهما، رَدُّوه قِياساً على أحدهما، كما وصفْتُ مِنُ ذكر القبلة والعدل والمثل، مع ما قال الله في غير آية مثلَ هذا المعنى. وقال: " وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا (69) [النساء] . [ص: 82] وقال: " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (20) " [الأنفال] .   (1) رسمت في النسخة المعتمدة بالياء وسكون آخره ورفعه، وبالتاء وفتح آخره وسكونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 باب: ما أمر الله من طاعة رسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قال الله - جل ثناؤه -: " إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) " [الفتح] . وقال: " مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ (80) " [النساء] . فأعْلَمَهم أنَّ بَيْعَتهم رسولَه بيعتُه، وكذلك أعْلمهم أنَّ طاعتَهم طاعتُه. وقال: " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) " [النساء] . [ص: 83] نزلت هذه الآية فيما بلغنا - والله أعلم - في رجل خاصَمَ "الزُّبَيْر" في أرضٍ، فقضى النبي بها "للزبير". وهذا القضاء سنة من رسول الله، لا حُكْمٌ منصوص في القُرَآن. والقُرَآن يدل - والله أعلم - على ما وصفْتُ، لأنه لو كان قضاءً بالقُرَآن كان حُكماً منصوصاً بكتاب الله، وأشبَهَ أن يكونوا إذا لم يُسَلِّموا لحكم كتاب الله نصًّا غيرَ مُشْكِل الأمر، أنَّهم ليسوا بِمُؤمنين، إذا رَدُّوا حكمَ التنزيل، إذا لم يسلموا له. وقال تبارك وتعالى: " لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [ص: 84] ، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) " [النور] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وقال: " وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) . وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51) . وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ، فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (52) " [النور] . فأعلم اللهُ الناسَ في هذه الآية، أنَّ دعاءهم إلى رسول الله ليحكم بينهم: دعاء إلى حكم الله، لأن الحاكم بيْنهم رسولُ الله، وإذا سلَّموا لحكم رسول الله، فإنما سلموا لحكمه بفرض الله. وأنَّه أعْلَمَهم أن حكمَه: حكمُه، على معنى افتراضه حكمَه، وما سبق في علمه - جل ثناؤه - مِن إسْعاده بعِصْمته وتوفيقه، وما شَهِد له به من هِدايتِه واتباعِه أمْرَه. [ص: 85] فأَحْكَمَ فرضَه بإلزام خَلْقِه طاعةَ رسوله، وإعْلامِهم أنها طاعتُه. فَجَمَعَ لهم أنْ أعْلمَهم أنَّ الفرض عليهم اتباعُ أمره، وأمرِ رسوله، وأن طاعة رسوله: طاعتُه، ثم أعلمهم أنه فَرَضَ على رسوله اتباعَ أمرِه - جل ثناؤه -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 باب: ما أبان الله لخلْقه من فرضه على رسوله اتباعَ ما أَوْحَى إليه، وما شَهِد له به من اتباع ما أُمِرَ به، ومِنْ هُداه، وأنه هاد لمن اتبعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قال "الشافعي": قال - الله جل ثناؤه - لنبيه: " يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) " [الأحزاب] . وقال: " اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ (106) " [الأنعام] . [ص: 86] وقال: " ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) " [الجاثية] . فأعْلَمَ اللهُ رسولَه منَّه عليه بما سبق في علمه، من عِصْمته إيَّاه من خلقه، فقال: " يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ (67) " [المائدة] . وشهد له - جل ثناؤه - باستمساكه بما أمره به، والهدى في نفسه، وهدايةِ مَنْ اتبعه، فقال: " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي: مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) " [الشورى] . وقال: " وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ، وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ، وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ [ص: 87] ، وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) " [النساء] . فأبان الله أنْ قدْ فرَضَ على نبيه اتباعَ أمره، وشهِدَ له بالبلاغ عنه، وشهد به لنفسه، ونحن نَشْهَدُ له به، تَقَرُّبًا إلى الله بالإيمان به، وتوَسُّلاً إليه بِتَصْديق كَلِمَاتِه. أخبرنا "عبد العزيز" عن "عمرو بن أبي عمرو" مَوْلى "المُطَّلِب" عن "المطلب بن حَنْطَبٍ" أنَّ رسول الله قال: " مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أمَرَكُمْ اللهُ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلاَ تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمْ اللهُ عَنْهُ إلاَّ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ " (1) .   (1) مسند الشافعي: 673. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قال "الشافعي": وما أعلمنا الله مما سبق في علمه، وحتْمِ قضائه الذي لا يُرَدُّ، من فضله عليه ونعمته: أنه منعه من أنْ يَهُمُّوا به أن يُضلُّوه، وأعلمه أنهم لا يضرونه من شيء. [ص: 88] وفي شهادته له بأنه يهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله، والشهادة بتَأدية رسالته، واتباع أمره، وفيما وصفتُ من فرضه طاعتَه، وتأكيدِه إياها في الآي ذكرتُ: ما أقام الله به الحجة على خلقه، بالتسليم لحكم رسول الله واتباع أمره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 قال "الشافعي": وما سَنَّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكمٌ، فبِحُكْم الله سنَّه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: " وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ ... (53) " [الشورى] . وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسنَّ فيما ليس فيه بعَيْنه نصُّ كتاب. وكل ما سن فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنُود عن اتباعها معصيتَه التي لم يعذر بها خَلْقاً، [ص: 89] ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مَخْرجاً، لما وصفتُ، وما قال رسول الله. أخبرنا "سفيان" عن "سالم أبو النضْر" مولى "عُمَر بن عبيد الله" سمع "عبيد الله بن أبي رافع" يحدِّثُ عن أبيه، أنَّ رسول الله قال: " لاَ أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأُمْرُ مِنْ أمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ به، أَوْ نَهَيْتُ عنه، فيقولُ: لاَ أَدْرِي، ماَ وَجَدْنَا فِي كِتَاِب اللهِ اتَّبَعْناَهُ " (1) . [ص: 90] قال "سفيان": وحَدَّثَنِيه "محمد بن المُنْكَدِر" عن النبي مُرْسلاً. قال "الشافعي": الأريكة: السرير.   (1) الترمذي: كتاب العلم/2587؛ أبو داود: كتاب السنة/3989؛ ابن ماجه: المقدمة/13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وسُنَنُ رسول الله مع كتاب الله وجهان: أحَدُهما: نص كتاب، فَاتَّبَعَه رسول الله كما أنزل الله، والآخر: جملة، بَيَّنَ رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرَضَها عامَّاً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد، وكلاهما اتبع فيه كتاب الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قال: فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سُنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين. والوجهان يجْتَمِعان ويتفرَّعان: أحدهما: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبَيَّنَ رسول الله مثلَ ما نصَّ الكتاب، والآخر: مما أنزل الله فيه جملةَ كتاب، فبيَّن عن الله معنى ما أراد؛ وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما. والوجه الثالث: ما سنَّ رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب. فمنهم من قال: جعل الله له، بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن يَسُنَّ فيما ليس فيه نص كتاب. ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سُنَّته لتبيين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنَّ من البُيُوع وغيرها من الشرائع، لأن الله قال: " لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (29) " [النساء] ، وقال: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) [البقرة] ، فما أحلَّ وحرَّم فإنما بيَّن فيه عن الله، كما بَيَّن الصلاة. ومنهم من قال: بل جاءته به رسالةُ الله، فأثبتتْ سنَّتَه. [ص: 93] ومنهم من قال: أُلْقِيَ في رُوعه كلُّ ما سَنَّ، وسنَّتُه الحكمةُ: الذي أُلقي في رُوعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سنتَه. أخبرنا "عبد العزيز" عن "عمرو بن أبي عمرو" عن "المطلب" قال: قال رسول الله: " إنَّ الرُّوحَ الأمِيَن قَدْ ألْقَى فِي رُوعِي أنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزُْقَهَا، فَأجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ " (1) . [ص: 103] فكان مما ألقَى في روعه سنَّتَه (2) ، وهي الحكمة التي ذكَرَ اللهُ، وما نَزَل به عليه كتابٌ، فهو كتاب الله، وكلٌّ جاءه من نِعَمِ الله، كما أراد الله، وكما جاءته النِّعَم، تَجْمعها النعمة، وتَتَفَرَّقُ بأنها في أمورٍ بعضُها غيرُ بعض، ونسأل الله العصمة والتوفيق. [ص: 104] وأيُّ هذا كان، فقد بيَّن الله أنه فرَضَ فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذراً بخلاف أمرٍ عرَفَه من أمر رسول الله، وأنْ قد جعل الله بالناس الحاجةَ إليه في دينهم، وأقام عليهم حجتَه بما دلَّهم عليه من سنن رسول الله مَعَاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليعلم مَن عرَف منها ما وصَفْنا أن سنته - صلى الله عليه - إذا كانت سنة مبيِّنة عن الله معنى ما أراد من مَفْروضه فيما فيه كتابٌ يتْلونَه، وفيما ليس فيه نصُّ كتاب أخْرَى (3) ، فهي كذلك أيْنَ كانت، لا يختلف حكمُ الله ثم حكمُ [ص: 105] رسوله، بل هو لازم بكلِّ حال. وكذلك قال رسول الله في حديث "أبي رافع" الذي كتبنا قبْل هذا. وسأذكر مما وصفنا من السنة مع كتاب الله، والسنةِ فيما ليس فيه نص كتاب، بعضَ ما يدل على جملة ما وصفنا منه، إن شاء الله.   (1) ابن ماجه: كتاب الجارات/2135؛ مسند الشافعي: 674. (2) هكذا ضُبطت في الأصل وهو صحيح ويتوجه على أن (من) زائدة - وإنْ في الإثبات على مذهب من يجيز ذلك - و (ما) اسم كان و (سنته) خبرها. (3) أي سنة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فأوَّل ما نبدأ به من ذِكْر سنة رسول الله مع كتاب الله: ذِكرُ الاستدلال بسنته على الناسِخ والمَنْسوخ من كتاب الله، ثم ذِكر الفرائض المَنْصوصة التي سن رسول الله معها، ثم ذكر الفرائض الجُمَل التي أبان رسول الله عن الله كيف هي ومواقيتَها، ثم ذكر العام من أمر الله الذي أراد به العام، والعامَّ الذي أراد به الخاصَّ، ثم ذِكرُ سنته فيما ليس فيه نص كتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ابتداء الناسخ والمنسوخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 قال "الشافعي: ": إنَّ الله خلَق الخلْق لِما سَبَق في علمه مما أراد بخلقهم وبهم، لا مُعَقِّبَ لحُكْمه، وهو سريع الحِساب. وأنزل عليهم الكتاب تِبْياناً لكل شيء، وهُدًى ورحمةً، وفرض فيه فرائض أثبتها، وأُخْرَى نسَخَها، رحمةً لِخَلْقه، بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به مِن نِعَمه. وأثابَهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم: جَنَّتَه، والنجاة من عذابه؛ فعَمَّتْهم رحمتُه فيما أثبت ونسخ، فله الحمد على نعمه. وأبان الله لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأن السنةَ لا ناسخةٌ للكتاب، وإنما هي تَبَع للكتاب، يُمَثِّلُ ما نَزل نصاً، ومفسِّرةٌ معنى ما أنزل الله منه جُمَلاً. قال الله: " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ. قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ [ص: 107] أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي؛ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ. إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) " [يونسٍ] . فأخبر الله أنه فرَضَ على نبيه اتباعَ ما يوحَى إليه، ولم يجعل له تبديله مِن تِلْقاء نفسه. وفي قوله: " مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي (15) " [يونس] ، بيانُ ما وصفتُ، مِن أنه لا يَنْسخ كتابَ الله إلا كتابُه، كما كان المُبْتدىءَ لفرضه، فهو المُزيلُ المثبت لِما شاء منه، جل ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه. وكذلك قال: " يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) " [الرعد] . وقد قال بعضُ أهل العلم: في هذه الآية - والله أعلم - دِلاَلة على أن الله جعَل لرسوله أنْ يقولَ مِن تِلقاء نفسه بتوفيقه فيما لم يُنْزِلْ فيه كتاباً، والله أعلم. وقيل في قوله: " يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ... (39) " [الرعد] : يمحو فَرْض ما يشاء، ويُثبت فرض ما يشاء، وهذا يُشبه ما قيل، والله أعلم. [ص: 108] وفي كتاب الله دِلالة عليه، قال الله: " مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) " [البقرة] . فأخبر الله أنَّ نسْخَ القُرَآن، وتأخيرَ إنْزالِه لا يكون إلا بِقُرَآن مثلِه. وقال: " وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ: قَالُوا: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ (101) " [النحل] . وهكذا سنة رسول الله، لا يَنْسَخُها إلا سنةٌ لرسول الله؛ ولو أحدث الله لرسوله في أمر سنَّ فيه، غيَر ما سنَّ رسول الله: لَسَنَّ فيما أحدث الله إليه، حتى يُبَيِّنَ للناس أن له سنةً ناسخةَ لِلَّتي قّبْلَها مما يخالفها. وهذا مذكور في سنته - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فإن قال قائل: فقد وجدنا الدِّلالة على أنَّ القُرَآن يَنْسخ القُرَآن، لأنه لا مثلَ للقرآن، فأوْجِدْنا ذلك في السنة؟ قال "الشافعي": فيما وصفتُ مِن فرْضِ الله على الناس [ص: 109] اتباع أمر رسول الله: دليلٌ على أن سنة رسول الله إنما قُبِلَتْ عن الله، فَمَنْ اتبعها فبِكتاب الله تَبِعَها، ولا نجد خبراً ألزمه الله خلْقَه نصاً بَيِّناً إلا كتابَه ثم سنةَ نبيه. فإذا كانت السنة كما وصفتُ، لا شِبْهَ لها مِنْ قول خَلْقٍ من خلق الله: لَمْ يَجُزْ أن ينسخها إلا مثلُها، ولا مثل لها غيرُ سنة رسول الله، لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له، بل فرَض على خلقه اتباعَه، فألزمهم أمره، فالخلْق كلهم له تبعٌ، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فُرِضَ عليه اتباعُه، ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافُها، ولم يقُمْ مَقامَ أنْ ينسخ شيئاً منها. فإن قال: أفيَحْتَمِلُ أنْ تكون له سنة مأثورة قد نُسِخَتْ، ولا تُؤْثَرُ السنة التي نَسَخَتْها؟ فلا يحتمل هذا، وكيف يَحْتَمِلُ أنْ يُؤثر ما وُضِع فرضُه، ويُتْرَكَ ما يَلْزَم فرضُه؟! ولو جاز هذا خرجتْ عامةُ السنن من أيدي الناس، بِأنْ يقولوا: لَعَّلها مَنْسوخَة، وليس يُنْسَخُ فرضٌ أبداً إلا أُثْبِتَ مكانَه فرضٌ. كما نُسختْ قِبْلة بيْت المَقْدِس، فأُثْبِتَ [ص: 110] مكانَها الكعبةُ، وكلُّ منسوخ في كتاب وسنة هكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فإن قال قائل: هل تُنْسَخ السنةُ بالقُرَآن؟ قيل: لو نُسخَت السنة بالقُرَآن، كانت للنبي فيه سنةٌ تُبَيِّنُ أنَّ سنته الأولى منسوخة بسُنته الآخِرة حتى تقوم الحجةُ على الناس، بأنَّ الشيء يُنْسَخ بِمِثْله. [ص: 111] فإنْ قال: ما الدليل على ما تقول؟ فما وصَفْتُ مِنْ مَوْضعه من الإبانة عن الله معنى ما أراد بفرائضه، خاصاً وعاماً، مما وصفت في كتابي هذا، وأنه لا يقول أبداً لِشيء إلا بحُكْم الله. ولو نسخ الله مما قال حكْماً، لَسنَّ رسول الله فيما نسخه سنة. ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله ثم نسخ سنتَه بالقُرَآن، ولا يُؤْثَرُ عن رسول الله السنةُ الناسخةُ: جاز أن يقال فيما حرم رسول الله من البُيوع كلِّها: قد يحتمل أن يكون حرَّمَها قبل أن يُنزل عليه: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) " [البقرة] ؛ وفيمن رجَم مِن الزناة: قد يحتمل أن يكون الرجم منسوخاً لقول الله: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) " [النور] ؛ وفي المَسْح [ص: 112] على الخُفَّيْن: نَسَخت آيةُ الوُضوء المسحَ؛ وجاز أن يقال: لا يُدْرَأُ عن سارق سرق من غير حِرْزٍ، وسرِقَتُهُ أقلُّ من ربع دينار، لقول الله: " السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (38) " [المائدة] ، لأن اسم {السرقة} يَلْزَم من سرَق قليلاً وكثيراً، ومن حِرز، ومن غيِر حرز؛ ولجاز رَدُّ كل حديث عن رسول الله، بأن يقال: لم يقله، إذا لم يَجِدْه مثلَ التنزيل؛ وجاز رد السنن بهذين الوجهين، فتُرِكَتْ كلُّ سنة معها كتابٌ جملةً تحتمل سنتُه أنْ تُوَاِفقه، وهي لا تكون أبداً [ص: 113] إلا موافِقة له، إذا احتمل اللفظ فيما رُوِي عنه خلافَ اللفظ في التنزيل بوجه، أو احتمل أن يكون في اللفظ عنه أكثرُ مما في اللفظ في التنزيل، وإنْ كان مُحتمِلا أن يخالفه من وجه. وكتابُ الله وسنةُ رسوله تدل على خلاف هذا القول، وموافِقةٌ ما قلنا. وكتاب الله البيانُ الذي يُشْفى (1) به من العَمى، وفيه الدلالة على موضع رسول الله من كتاب الله ودينه، واتباعِه له وقيامه بتَبْيِينِه عن الله.   (1) في النسخة المعتمدة بالياء والنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه، والسنة على بعضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قال "الشافعي": مما نَقَل بعضُ مَن سمعتُ مِنه مِن أهل العلم، أن الله أنزل فَرْضاً في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، [ص: 114] فقال: " يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ القُرَآن تَرْتِيلًا (4) " [المزمل] ، ثم نَسَخَ هذا في السورة معه، فقال: " إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ القُرَآن، عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (20) " [المزمل] . ولما ذكر الله بعد أمْره بقيام الليل نصْفِه إلا قليلاً، أو لزيادة عليه، فقال: " أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ (20) " [المزمل] ، فخَفَّفَ، فقال: " عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى " قرأ إلى: " فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (20) " [المزمل] . قال "الشافعي": فكان بيِّناً في كتاب الله نسخُ [ص: 115] قيام الليل ونصفِه والنقصانِ من النصف، والزيادة عليه بقول الله: " فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (20) " [المزمل] . فاحتمل قول الله: " فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (20) " [المزمل] : معنيين: - أحدهما: أن يكون فرضاً ثابتاً، لأنه أزِيل به فرض غيره. - والآخر: أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره، كما أُزيل به غيره، وذلك لقول الله: " وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) " [الإسراء] ، فاحتمل قوله: " وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ "، أن يتهجَّد بغير الذي فُرِض عليه، مما تَيَسَّرَ مِنه. قال: فكان الواجب طلبَ الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله تدل على ألاَّ واجب من الصلاة إلا الخَمسُ، فصِرنا إلى أن الواجب الخمسُ، وأن ما سواها من واجب [ص: 116] مِن صلاة قبلَها، منسوخ بها، استدلالاً بقول الله: " فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ (79) " [الإسراء] ، وأنها ناسخة لقيام الليل ونصفِه وثلثِه وما تيسر. ولَسْنَا نُحِبُّ لأحد تركَ أن يتهجد بما يسره الله عليه من كتابه، مُصَلِّيًا به، وكيف ما أكْثَرَ فهو أحبُّ إلينا. أخبرنا "مالك" عن عمه "أبي سُهَيْل بن مالك" عن أبيه، أنه سمع "طلحة بن عبيد الله" يقول: " جَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الإسْلَامِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَة، قاَلَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولَ اللهِ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَان، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غّيْرُهُ؟ قَالَ: لاَ، إلاَّ أنْ تَطَّوَّعَ، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُوُل اللهِ: أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ " (1) . [ص: 117] ورواه "عُبادة بن الصامِت" عن النبي، أنَّهُ قال: " خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا، اْسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ: كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا (2) أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ " (3) .   (1) البخاري: كتاب الإيمان/44؛ مسلم: كتاب الإيمان/12؛ النسائي: كتاب الصلاة/454؛ أبو داود: كتاب الصلاة/331؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/382. (2) هكذا هي النصب وتقدم توجيه نحوها ص 103 غير أن ذاك التوجيه لا يصلح هنا وانظر توجيه الكلام في ص 158 (3) النسائي: كتاب الصلاة/457؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1210؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1391؛ أحمد: باقي مسند الأنصار/21635؛ مالك: كتاب النداء إلى الصلاة/248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 باب: فرض الصلاة الذي دلَّ الكتاب ثم السنة على من تزول عنه بعذر، وعلى من لا تُكتب صلاته بالمعصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قال الله تبارك وتعالى: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ؟ قُلْ: هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) " [البقرة] . قال "الشافعي": افترض الله الطهارةَ على المُصَلِّي، فِي الوُضوء والغسل مِن الجنَابَة، فلم تكن لغير طاهر صلاةٌ. وَلَمَّا [ص: 118] ذكر اللهُ المَحِيضَ، فأمَرَ باعتزال النساء حتى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرْنَ أُتِينَ: استدلَلْنا على أنَّ تَطَهُّرَهُنَّ بالماء: بعد زوال المحيض، لأن الماء موجود في الحالات كلها في الحَضَر، فلا يكون للحائض طهارة بالماء، لأن الله إنما ذكَرَ التَّطَهُّرَ بعد أنْ يَطْهُرْنَ، وَتَطَهُّرُهُنَّ: زَوالُ المحيض، في كتاب الله ثم سنة رسوله. أخبرنا "مالك" عن "عبد الرحمن بن القاسم" عن أبيه، عن "عائشة"، وذَكَرَتْ إحرامَها مع النبي، وأنَّها حاضتْ، فأمَرَها أن تَقْضي ما يقضي الحاجُّ: " غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي " (1) . [ص: 119] فاستدللنا على أنَّ الله إنَّمَا أراد بفرض الصلاة مَنْ إذا تَوَضَّأ واغتسل طَهُرَ؛ فأما الحائض، فلا تَطْهر بواحد منهما، وكان الحيض شيئاً خُلِقَ فيها، لم تَجْتَلِبْهُ على نفسها فتكون عاصية به، فزال عنها فرض الصلاة أيام حيضها، فلم يكن عليها قضاءُ ما تركتْ منها في الوقت الذي يزول عنها فيه فرضُها.   (1) البخاري: كتاب الحيض/294؛ مسلم: كتاب الحيض/2115؛ أحمد: مسند باقي الأنصار/25139؛ مالك: كتاب الحج/821. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وقلنا في المُغْمى عليه، والمغلوب على عقله بالعارض من أمر الله، الذي لا جَنابة له فيه، قِياساً على الحائض، إن الصلاة عنه مرفوعة، لأنه لا يعْقِلها، ما دام في الحال التي لا يعقل فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وكان عامًّا في أهل العلم أن النبي لم يأمر الحائض بقضاء الصلاة، وعاماً أنها أُمِرَتْ بقضاء الصوم، فَفَرَقْنَا بَيْنَ الفَرْضَيْنِ، استدلالاً بما وصفتُ مِن نقْل أهل العلم وإجماعهم. [ص: 120] @وكان الصوم مفارقَ الصلاة في أن للمسافر تأخيرَه عن شهر رمضان، وليس له ترك يوم لا يصلي فيه صلاة السَّفر، وكان الصوم شهراً مِن اثني عشر شهراً، وكان في أحدَ عشر شهراً خَلِيًّا مِن فرض الصوم، ولم يكن أحد من الرجال - مطيقاً بالفعل للصلاة - خَلِيًّا من الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قال الله: " لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (43) " [النساء] . فقال بعض أهل العلم: نزلتْ هذه الآية قبْلَ تحريم الخمر (1) . فدل القُرَآن - والله أعلم - على ألا صلاة لسكرانَ حتى يعلمَ ما يقول، إذْ بدأ بنهيه عن الصلاة، وذكر معه الجُنُبَ، فلم يختلف أهل العلم ألا صلاة لجُنُب حتى يَتَطَهَّرَ. [ص: 120] وإن كان نَهْيُ السكران عن الصلاة قبل تحريم الخمر: فهو حين حُرِّم الخمرُ أَوْلى أن يكون منهياً، بأنه عاصٍ من وجهين: أحدهما: أن يُصَلِّيَ في الحال التي هو فيها مَنْهِيٌّ، والآخر: أنْ يَشْرَبَ الخمرَ. والصلاة قول وعمل وإمساكٌ، فإذا لم يَعْقِل القول والعمل والإمساك، فلم يأت بالصلاة كما أُمر، فلا تُجْزئ عنه، وعليه إذا أفاق القضاءُ. ويُفارق المغلوبُ على عقله بأمر الله الذي لا حِيلة له فيه: السكرانَ، لأنه أدخل نفسه في السُّكر، فيكون على السكران القضاء، دون المغلوب على عقله بالعارض الذي لم يَجْتَلِبْه على نفسه فَيَكون عاصياً باجتلابه.   (1) ثبت ذلك في حديثين عند أبي داود والترمذي والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وَوَجَّهَ اللهُ رسوله للقبلة في الصلاة إلى بيت المقدس، فكانت القبلةَ التي لا يحلُّ - قبل نسخها - استقبالُ غيرها، ثم نسخ [ص: 122] الله قبلة بيت المقدس، ووجَّهَه إلى البَيْت، فلا يحل لأحد استقبال بيت المقدس أبداً لَمَكْتوبةٍ، ولا يحل أن يستقبل غير البيت الحرام. قال: وكلٌّ كان حقًّا في وقته، فكان التوجه إلى بيت المقدس - أيامَ وجَّه اللهُ إليه نبيه - حَقًّا، ثم نَسَخَه، فصار الحقُّ في التوجه إلى البيت الحرام أبداً، لا يحل استقبال غيره في مكتوبة، إلا في بعض الخوْف، أو نافلةٍ في سفرٍ، استدلالاً بالكتاب والسنة. وهكذا كلُّ ما نسخ الله، ومعنى (نَسَخَ) : تَرَكَ فَرْضَه: كان حقًّا في وقته، وترْكُه حقًّا إذا نسخه الله، فيكون من [ص: 123] أدرك فرضَه مُطيعاً به وبتركه، ومَن لم يُدْرِك فرضَه مُطيعاً باتِّباع الفرْضِ الناسِخ له. قال الله لنبيه: " قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (144) " [البقرة] . فإن قال قائل: فأين الدلالة على أنهم حُوِّلوا إلى قِبْلةٍ بعد قبلة؟ ففي قول الله: " سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا؟ قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) " [البقرة] . "مالك" عن "عبد الله بن دينار" عن "ابن عمر" [ص: 124] قال: " بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إذْ جَاءَهمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرَآن، وَقَدْ أَُمِرَ أنْ يَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ، فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلىَ الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إلىَ الكَعْبَةِ " (1) . "مالك" عن "يحيى بن سعيد" عن "سعيد بن المُسَيِّب" [ص: 125] أنه كان يقول: " صَلَّى رَسُولُ اللهِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ حُوِّلَتْ القِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ " (2) .   (1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4134؛ النسائي: كتاب القبلة/737. (2) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4132؛ النسائي: كتاب الصلاة/484؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1000؛ أحمد: مسند بني هشام/2140؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/412. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 قال: والاستدلال بالكتاب في صلاة الخوف قولُ الله: " فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (239) " [البقرة] ، وليس لِمُصَلي المكتوبةِ أن يُصَلِّيَ رَاكِبًا إلا في خوْف، ولم يذْكر الله أن يتَوجه القبلةَ. (1) [ص: 126] وروى "ابن عمر" عن رسول الله صلاةَ الخوفِ، فقال في روايته: " فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالاً وَرُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبلِيهَا " (2) . وصلى رسول الله النافلةَ في السَّفَرِ على راحلته أيْن تَوجَّهتْ به؛ حَفِظَ ذلك عنه "جابر ابن عبد الله"، و"أنس بن مالك" وغيرهما، وكان لا يصلي المكتوبة مُسافِراً إلاَّ بالأرض مُتوجِّهاً للقبلة. "ابن أبي فُدَيْك" عن "ابن أبي ذِئْبٍ" عن "عثمان بن عبد الله بن سُراقة" عن "جابر بن عبد الله": " أنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُوَجِّهَةً بِهِ قِبَلَ المَشْرِقِ فِي غَزْوَةِ بَنِي أنْمَارٍ " (3) .   (1) منصوب بنزع الخافض: إلى القبلة. (2) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4171؛ مالك كتاب النداء للصلاة/396. (3) مسند الشافعي: 192، 194؛ مسند أبي حنيفة: كتاب المغازي/3909 وروي من طرق عن جابر رواه أحمد والالبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي يألفاظ مختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قال الله: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) " [الأنفال] . ثم أبان في كتابه: أنه وضَع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة، وأَثْبَتَ عليهم أنْ يقوم الواحد بقتال الاثنين، فقال: " الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) "بالأنفال] . أخبرنا "سفيان" عن "عمرو بن دينار" عن "ابن عباس" قال: " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: " إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ [ص: 128] يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ (65) " [الأنفال] ، كُتِبَ عَلَيْهِمْ ألاَّ يَفرَّ العِشْرِونَ مِنَ المِائَتَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللهُ: " الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا " إلى: " يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ "، فَكَتَبَ أنْ لاَ يَفِرَّ المِائَةُ مِنَ المِائَتَيْنِ " (1) . قال: وهذا كما قال "ابن عباس" إن شاء الله، وقد بيَّن اللهُ هذا في الآية، وليستْ تَحْتاج إلى تَفْسِيرٍ.   (1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4285؛ الشافعي: كتاب الجهاد/386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 قال: " وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ [ص: 129] يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا، فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) " [النساء] . ثم نَسَخ الله الحبسَ والأذى في كتابه، فقال: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) " [النور] . فدلت السنة على أن جلد المِائة للزَّانِيَيْنِ البِكْرَيْن. أخبرنا "عبد الوهاب" عن "يونس بن عُبَيْد" عن "الحَسَن" عن "عُبادَة ابن الصامِت"، أنَّ رسولَ الله قال: " خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " (1) . أخبرنا الثقة من أهل العلم، عن "يونس بن عُبَيْد" [ص: 130] عن "الحسن" عن "حِطَّانَ الرَّقَاشِيِّ" عن "عُبادة بن الصامت"، عن النبي مِثْلَهُ. [ص: 131] قال: فدلّتْ سنةُ رسول الله أنَّ جَلْدَ المائة ثابت على البِكْرين الحُرَّيْن، ومنسوخ عن الثَّيِّبَيْنِ، وأن الرجْمَ ثابِت على الثَّيِّبَيْنِ الحُريْن. لأنَّ قولَ رسول الله: " خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ [ص: 132] لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ باِلبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ "، أوَّلُ ما نَزَلَ، فنُسخ به الحبسُ والأذى عن الزانِيَيْن. فلَمَّا رجَمَ النبي "ماعِزاً" ولمْ يجْلِده، وأمر "أُنَيْسًا" أن يَغْدُوَ على امرأة "الأسْلَمِي"، فإنْ اعترَفَتْ رَجَمَهَا: دلَّ على نَسْخِ الجَلْد عن الزانيين الحُرَّيْن الثَّيِّبَيْنِ، وثبتَ الرجمُ عليهما، لأن كل شيء أبداً بعد أوَّلٍ فهو آخِرٌ. [ص: 133] فدل كتاب الله، ثم سنة نبيه، على أن الزانيين المَمْلوكَيْن خارِجان من هذا المعنى.   (1) مسلم: كتاب الحدود/1690؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2540؛ أحمد: مسند المكثرين/15345؛ مسند الشافعي: 252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 قال الله - تبارك وتعالى - في المَمْلوكات: " فَإِذَا أُحْصِنَّ: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ (25) " [النساء] . والنِّصْف لا يكون إلا من الجَلْدِ، الذي يَتَبَعَّضُ، فأما الرَّجْم - الذي هو قتل - فلا نصفَ له، لأن المرجوم قد [ص: 134] يموت في أوَّل حَجَرٍ يُرْمى به، فلا يُزاد عليه، ويُرْمى بألفٍ وأكثر فيُزادُ عليه حتى يموت، فلا يكون لهذا نِصف محدود أبداً. والحدود مُوَقَّتة بإتْلاف نفْسٍ، والإتلاف مُوَقَّتٌ بِعَدَدِ ضَرْبٍ أو تحديد قطعٍ، وكل هذا معروف، ولا نصف للرجمِ مَعْروفٌ. [ص: 135] وقال رسول الله: " إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا " (1) ، ولم يقل: (يَرْجُمْهَا) ، ولم يختلف المسلمون في ألاَّ رَجْمَ على مَمْلُوكٍ في الزِّناَ. وإحصانُ الأمة إسلامُها. وإنما قلنا هذا استدلالاً بالسنة وإجماعِ أكْثرِ أهْل العِلْم. ولَمَّا قال رسول الله: " إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ فَتَبَيًّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا "، ولم يقل: (مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةً) ، استدللنا [ص: 136] على أنَّ قول الله في الإماء: " فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ (25) " [النساء] ، إذا أسْلَمْنَ، لا إذا نُكِحْنَ فأُصِبْنَ بالنكاح، ولا إذا أَعتَقْنَ وإنْ لَمْ يُصَبْن. فإن قال قائل: أراكَ تُوقِع الإحْصان على معاني مختلف؟ قيل: نَعَم، جِماعُ الإحصان أن يكون دون التحصين مانعٌ من تناول المُحَرَّم. فالإسلام مانع، وكذلك الحُرية مانعة، وكذلك الزوجُ والإصابةُ مانع، وكذلك الحبس في البيوت مانع، وكلُّ ما مَنَعَ أَحْصَنَ. قال الله: " وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ (80) " [الأنبياء] ، وقال: " لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ (14) " [الحشر] ، يعني: ممنوعة. قال: وآخِرُ الكلام وأوَّلُه يَدُلان على أن معنى الإحصان، المذكورِ عامًّا في موضع دون غيره: أن الإحصان [ص: 137] هاهُنَا الإسلامُ، دون النكاح والحرية والتحصينِ بالحبس والعفاف. وهذه الأسماءُ التي يَجْمعها اسم الإحصان.   (1) البخاري: كتاب البيوع/2080؛ مسلم: كتاب الحدود/3215؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/7088. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الناسخ والمنسوخ الذي تدلُّ عليه السنة والإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 قال الله - تبارك وتعالى -: " كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) " [البقرة] . قال الله: " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ [ص: 138] أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) " [البقرة] . فأنزل الله ميراثَ الوالِدَيْن ومن ورث بعدَهما ومَعَهما من الأقْرَبِين، وميراثَ الزوج من زوجته، والزوجةِ من زوجها. فكانت الآيتان محتملتين لأن تُثْبِتا الوصيةَ للوالدَيْن والأقربين، والوصيَّةَ للزوج، والميراثَ مع الوصايا، فيأخذون بالميراث والوصايا، ومحتملةً بأن تكون المواريث ناسخةً للوَصَايَا. فلَمَّا احتملتْ الآيتان ما وصفنا كان على أهل العلم طَلَبُ الدِّلالة من كتاب الله، فما لم يجدوه نصاً في كتاب الله، طَلَبُوه [ص: 139] في سنة رسول الله، فإن وَجَدوه فما قَبِلُوا عن رسول الله، فَعَنْ اللهِ قَبِلُوهُ، بما افْتَرَضَ مِن طاعته. ووَجدْنا أهلَ الفُتْيَا، ومَنْ حَفِظْنَا عنه مِنْ أهل العلم بالمَغَازِي، مِنْ قُريش وغيرهمْ: لا يختلفون في أنَّ النبي قال عامَ الفَتْحِ: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ "، ويَأْثُرُونه عَنْ مَنْ حَفظوا عنه مِمَّنْ لَقُوا من أهل العلم بالمغازي. فكان هذا نَقْلَ عامَّةٍ عنْ عامَّة، وكان أقوى في بعض الأمْرِ من نقْلِ واحد عن واحد، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مُجتمعين. قال: ورَوَى بعضُ الشَّامِيِّين حديثاً ليس مما يُثْبِتُه أهل الحديث، فيه: أنَّ بعضَ رِجاله مجهولون، فَرَوَيْناه عن النبي منقطِعًا. [ص: 140] وإنما قَبِلْنَاه بما وَصَفْتُ من نقْل أهل المغازي وإجماع العامة عليه، وإن كُنَّا قد ذكرنا الحديث فيه، واعتمدنا على حديثِ أهل المغازي عامًّا وإجماع الناس. أخْبَرنا "سفيان" عن "سليمان الأحْوَل" عن "مجاهد"، أنَّ رسولَ الله قال: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " (1) . [ص: 142] فاستدللنا بما وصفتُ، من نقْلِ عامَّة أهل المغازي عن النبي أن: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "، على أنَّ المواريث ناسخة للوصية للوالدين والزوجة، مع الخبر المُنْقَطع عن النبي، وإجماعِ العامَّة على القول به. وكذلك قال أكثرُ العامَّة: إن الوصية للأقربين [ص: 143] منسوخة زائلٌ فَرْضُها، إذا كانوا وارثين فبالميراث، وإن كانوا غَيْرَ وارثين فليس بِفَرض أنْ يُوصي لهم. إلاَّ أنَّ "طاوسًا" وقليلاً معه قالوا: نُسِخت الوصية للوالدين، وَثَبَتَتْ للقرابة غير الوارثين، فَمَنْ أوْصَى لغير قرابة لم يَجُزْ. فلَمَّا احتملت الآية ما ذهب إليه "طاوس"، مِن أنَّ الوصيَّة للقرابة ثابتة، إذْ لم يكن في خبر أهل العلم بالمغازي إلاَّ أنَّ النبي قال: " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "، وَجَبَ عِندنا على أهل العلم طلبُ الدِّلالة على خِلاف ما قال "طاوس" أو مُوَافَقَتِه: فوجدنا رسول الله حَكَمَ في سِتَّةِ مَمْلُوكِينَ كانوا لرجل لا مالَ له غيرُهم، فَأَعْتَقَهُم عند الموت، فَجَزَّأَهُم النبيُّ ثلاثةَ أجزاء، فَأَعْتَقَ اثنين، وَأَرَقَّ أربعةً. [ص: 144] أخْبَرَنا بذلك "عبد الوهاب" عن "أيوب" عن "أبي قِلابَة" عن "أبي المُهَلَّبِ" عن "عِمران بن حُصَينٍ" عن النبي. قال: فكانت دِلالة السنة في حديث "عِمران بن حُصَيْنٍ" بَيِّنَةً بأن رسول الله أَنْزَلَ عِتْقَهم في المرض وصيَّةً. [ص: 145] والذي أعْتَقَهُمْ رجل من العَرَب، والعربيُّ إنَّما يَمْلِكُ مَن لا قَرابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِن العَجَم، ِ فأجازَ النبي لهم الوصيةَ. فدلَّ ذلك على أن الوصية لو كانت تَبْطُلُ لِغير قرابة: بَطَلَتْ لِلْعبيد المُعْتَقين، لِأنَّهم ليسوا بِقَرَابة للمُعْتِق. ودلَّ ذلك على أنْ لا وصيةَ لِمَيِّت إلا في ثُلُثِ ماله، ودل ذلك على أنْ يُرَدَّ ما جَاوَزَ الثلثَ في الوصية، وعَلَى إبْطال الاستسعاء، وإثْبَات القَسْمِ والقُرْعَة. وبَطَلَتْ وصية الوالدين، لأنهما وارِثان، وثَبَتَ مِيراثُهما. ومَن أوْصَى له المَيِّتُ مِن قَرَابةٍ وغيرِهِم، جَازَتْ الوصيةُ، إذا لم يكن وارِثاً. وأحَبُّ إليَّ لوْ أوْصى لِقَرابَته.   (1) الترمذي: كتاب الوصايا/2046؛ النسائي: كتاب الوصايا/3581؛ أبو داود: كتاب الوصايا/2486؛ ابن ماجه: كتاب الوصايا/2704. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وفي القُرَآن ناسخٌ ومنسوخٌ غيرُ هذا، مُفَرَّقٌ في مَواضِعِهِ، في كتاب (أحكام القُرَآن) . وإنما وصفتُ مِنه جُمَلًا يُسْتدل بها على ما كان في [ص: 146] معناها، ورأيت أنها كافِيَةٌ في الأصل مِمَّا سَكَتُّ عنه، وأسْألُ اللهَ العِصْمةَ والتوْفيقَ. وأتْبَعْتُ ما كتبتُ منها علمَ الفرائض التي أَنْزلها الله مُفَسَّرَاتٍ وجُمَلًا، وسُنَنَ رسول الله معها وفيها لِيَعْلَمَ مَنْ عَلِم هذا مِن علم (الكتاب) ، الموضعَ الذي وَضَعَ الله به نَبِيَّه مِن كتابِه ودينِه وأهلِ دينِه. ويَعْلمون أن اتِّباعَ أمْره طاعةُ الله، وأنَّ سُنَّتَه تَبَعٌ لكتاب الله فيما أنْزَلَ، وأنها لا تخالف كتاب الله أبداً. ويَعْلَمُ مَنْ فَهِمَ (هذا الكتاب) أنَّ البيان يكون من وجوه، لا مِن وَجْهٍ واحد، يَجْمَعُها أنها عند أهل العلم بَيِّنَةٌ ومُشْتَبِهَةُ البَيَانِ، وعند مَن يُقَصِّرُ عِلْمُه مُخْتلفة البَيَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 باب: الفرائض التي أنزل الله نصاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قال الله - جل ثناؤه -: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4) " [النور] . قال "الشافعي": فالمُحْصنَات هاهنا البَوَالِغ الحرائر. وهذا يدل على أن الإحصان اسم جامع لمعاني مختلفة. وقال: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ (9) " [النور] . [ص: 148] فلما فَرَقَ اللهُ بَيْن حُكم الزوجِ والقاذِف سِواه، فَحَدَّ القاذِفَ سِواه، إلا أنْ يَأْتِيَ بأربعة شُهَدَاء، على ما قال، وأخرجَ الزوجَ بالِّلعَان من الحَدِّ: دل ذلك على أنَّ قَذَفَةَ المُحْصَنات، الذين أُريدوا بالجلد: قذفةُ الحرائرِ البوالِغِ غير الأزْواجِ. وفي هذا الدليلُ على ما وصفتُ، مِن أنَّ القُرَآن عَرَبي، يكون منه ظاهِرُه عامًّا، وهو يراد به الخاص، لا أنَّ واحِدَة من الآيتين نَسَخَتْ الأُخْرى، ولكن كلُّ واحدة منهما على ما حَكَمَ اللهُ به، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهما حيث فَرَقَ اللهُ، ويُجْمَعان حَيْث جَمَعَ اللهُ. فإذا الْتَعَنَ الزوجُ خرج من الحد، كما يَخرج الأَجْنَبِيُّون بالشُّهود، وإذا لم يَلتعنْ - وزوجتُه حُرةٌ بالغة - حُدَّ. قال: وفي "العَجْلَانِيِّ" وزوجتِهِ أُنزلت آيةُ اللَّعان، ولاَعَنَ النبيُّ بَيْنَهما، فَحَكَى اللعانَ بَيْنهما "سهل بن سعد الساعِدي"، [ص: 149] وحَكاه "ابن عباس"، وحَكَى "ابن عمر" حضورَ لِعانٍ عندَ النبيِّ، فَمَا حَكَى مِنهم واحد كيفَ لَفْظُ النبيِّ في أمْرِهما باللِّعانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وقد حَكَوْا معًا أحكاماً لرسول الله ليست نصًّا في القُرَآن، منها: تَفْريقه بَيْن المُتَلاعِنين، ونَفْيُه الولدَ، وقولُه: " إنْ جَاءَتْ بِهِ هَكَذَا فَهُوَ لِلَّذِي يَتَّهِمُهُ " فَجاَءَتْ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ، وَقَالَ: إنَّ أَمْرَهُ لَبَيِّنٌ لَوْلاَ مَا حَكَى اللهُ "، وحكى "ابن عباس" أنَّ النبي قال عند الخامسة: " قَفُوهُ فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ " (1) . فاستَدْلَلْنا على أنهم لا يَحْكُونَ بَعضَ ما يُحتاج إليه مِن الحديث، ويَدَعُون بعضَ ما يُحتاج إليه مِنه، وأَوْلاَهُ أنْ يُحْكَى مِن ذلك، كيْفَ لاَعَنَ النبيُّ بَيْنهما: إلاَّ عِلماً بأنَّ أحَداً قَرَأ كتابَ [ص: 150] الله، يَعْلم أنَّ رسولَ الله إنَّمَا لاَعَنَ كما أَنْزل اللهُ. فَاكْتَفَوْا بإبانَةِ اللهِ اللعانَ بالعَدَد والشهادةِ لكلَّ واحدٍ مِنهما، دون حِكايةِ لفظِ رسول الله حِينَ لاَعَنَ بَيْنَهما. قال "الشافعي": في كتاب الله غايةُ الكِفَايَة عَن اللعانِ وعدَدِهِ. ثم حَكَى بعضُهم عَن النبيِّ في الفُرْقَة بَيْنهما كما وَصَفْتُ. وقد وصفْنا سننَ رسولِ الله مَعَ كتابِ اللهِ قَبْلَ هذا.   (1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4378؛ الترمذي: كتاب تفسير القُرَآن/3103؛ النسائي: كتاب الطلاق/3415؛ أبو داود: كتاب الطلاق/1923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قال الله: " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ... (184) " [البقرة] ، " فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا (185) " [البقرة] . ثم بَيَّن أيَّ شهر هو، فقال: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرَآن هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) " [البقرة] . قال "الشافعي": فما علمتُ أحداً مِن أهل العلم بالحديث [ص: 158] قَبْلنا تكلَّفَ أنْ يرْوِيَ عن النبي أنَّ الشهر المفروض صومه شهرُ رمضان الذي بَيْن شعبان وشوالٍ، لمعرفتهم بشهر رمضان مِن الشهور واكتفاءً منهم بأن الله فَرَضَهُ. وقد تَكَلَّفوا حفظَ صومه في السفر وفطرِه، وتكلَّفوا كيف قَضَاؤه، وما أشبهَ هذا، مما ليس فيه نص كتاب. ولا علمْتُ أحداً من غير أهل العلم احْتَاجَ في المسألة عن شهر رمضان: أيُّ شهرٍ هو؟ ولا: هل هو واجب أم لا؟ وهكذا ما أنزل الله من جُمَل فَرَائضه، في أنَّ عليهم صلاةً وزكاةً وحجًا على مَنْ أطاقه، وتحريِمِ الزنا والقتل وما أشْبَهَ هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قال: وقد كانت لرسول الله في هذا سُنَنًا (1) ليست [ص: 159] نصًّا في القُرَآن، أبان رسولُ الله عَنْ الله معنى ما أراد بها، وتكلَّم المسلمون في أشياءَ مِن فُروعها، لمْ يَسُنَّ رسولُ الله فيها سُنَّة مَنْصوصةً. - فمِنها: قولُ الله: " فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا (230) " [البقرة] . فاحتمل قولُ الله: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) : أن يتزوجها زوجٌ غيرُه، وكان هذا المعنى الذي يَسْبِق إلى مَنْ خوطب به: أنها إذا عُقِدَتْ عليها عُقْدةُ النكاحِ فقد نَكَحَتْ. واحتمل: حتى يُصِيبها زوجٌ غيرُه لأن اسْم (النكاح) يَقَعُ بالإصابة، ويقع بالعقد. فلَمَّا قال رسولُ الله لامْرأة طلَّقَها زوجُها ثَلَاثًا ونَكَحَها بَعْدَه رجلٌ: " لاَ تَحِلِّينَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ [ص: 160] وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ "، يعني: يُصيبك زوج غيره؛ والإصابة: النكاح. فإن قال قائل: فاذْكر الخبَرَ عَنْ رسولِ الله بما ذكرْتَ. قيل: أخبرنا "سفيان" عن "ابن شهاب" عن "عروة" عن "عائشة": " أنَّ امْرَأةَ رِفَاعَةَ [ص: 161] جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ، فَقَالَتْ: إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وَإنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ تَزَوَّجَنِي، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ (2) ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لاَ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ " (3) . قال "الشافعي": فَبَيَّن رسولُ الله، أنَّ إحلالَ الله إيَّاها للزوج المُطَلِّقِ ثلاثاً بَعْدَ زَوْجٍ بالنكاح: إذا كانَ مَع النِّكاحِ إصابَةٌ مِن الزوجِ.   (1) هكذا ضُبط بالنصب ومضى نحو هذا ص 103 و 117 وسيأتي ص 174 وهذا يجعل تخطئته مجازفة كبيرة. قال الشيخ أحمد شاكر في التعليق على ص 174 ((والذي يبدو لي أن تكون هناك لغة غريبة لم تنقل إلينا ... والظاهر أنه بنصب معمولي كان)) وهو ما أميل إليه. (2) شَبَّهتْ ذَكَرَه - في الاسترخاء وعدم الانتشار عند الإفضاء -، بهدبة الثوب. [المصباح المنير - الفيومي] . (3) البخاري: كتاب الشهادات/2445؛ مسلم: كتاب النكاح/2587؛ النسائي: كتاب الطلاق/3356؛ أبو داود: كتاب الطلاق/1965؛ الترمذي: كتاب النكاح/1037؛ ابن ماجه: كتاب النكاح/1922. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الفَرائض المَنْصُوصة التي سَنَّ رسول الله معها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 قال الله - تبارك وتعالى -: " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [ص: 162] وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا (6) " [المائدة] . وقال: " وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا (43) " [النساء] . فأبان أنَّ طهارَةَ الجُنُب الغُسْلُ دُون الوُضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وسَنَّ رسولُ الله الوضوءَ كما أَنْزَلَ اللهُ: فَغَسَلَ وَجْهه ويَدَيْه إلى المِرْفَقَيْن، ومسح بِرَأسه، وغسَلَ رِجْليه إلى الكَعْبَيْن. أخْبَرَنا "عبد العزيز بن محمد" عن "زيد بن أسْلَمَ" عن "عطاء بن يَسَارٍ" عن "ابن عباس" عن النبي: " أنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً " (1) . أخْبَرنا "مالك عن عمرو بن يحيى" عن أبيه، أنه قال "لعبد الله بن زيد"، وهو جد "عمرو بن يحيى": " هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ [ص: 163] تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ "عَبْدُ اللهِ": نَعَمْ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إلَى المِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاه، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ " (2) . [ص: 164] فَكان ظاهِرُ قولِ الله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، أقلَّ ما وَقع عليه اسم الغَسْل، وذلك مَرَّةٌ، واحْتَملَ أكثرَ. فسَنَّ رسولُ الله الوُضوءَ مَرَّةً، فَوافَقَ ذلك ظاهرَ القُرَآن، وذلك أقلُّ ما يَقع عليه اسمُ الغَسْل، واحتمل أكثر، وسنَّهُ مَرَّتَيْن وثلاثاً. فلمَّا سنَّهُ مرة استدللنا على أنَّه لوْ كانتْ مرَّةٌ لا تُجْزِئ: لم يتوضأْ مرةً ويُصَلي، وأنَّ ما جاوَزَ مرةً اخْتِيَارٌ، لا فرضٌ في الوضوء لا يجزئ أقلُّ مِنْه. [ص: 165] وهذا مثلُ ما ذكرتُ مِن الفرائض قَبْله: لو تُرِك الحديث فيه اسْتُغْنِيَ فيه بالكتاب، وحين حُكِيَ الحديثُ فيه دلَّ على اتباعِ الحديث كتابَ الله. ولعلَّهم إنما حَكَوُا الحديثَ فيه لأنَّ أكثرَ ما تَوَضَّأَ رسولُ الله ثلاثاً، فأرادوا أن الوضوءَ ثلاثاً اختيارٌ، لا أنه واجبٌ لا يجزئُ أقلُّ منه، ولما ذُكِرَ منه في أنَّ " مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوءَه هَذَا - وَكَانَ ثَلاَثاً - ثُمَّ صَلَّى رَكعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ فِيهِمَا، غُفِرَ لَهُ " (3) ؛ فأرادوا طَلَبَ الفَضْل في الزيادة في الوضوء، وكانتْ الزيادةُ فيه نافِلَةً. وغَسَلَ رَسُولُ الله في الوضوء المِرْفَقَيْنِ والكَعْبَين، وكانت الآية محتملةً أن يكونا مَغْسولين وأن يَكُونَ مغْسولاً إليهما، ولا يكونان مغسولَيْن، ولعلهم حَكَوا الحديثَ إبانَةً لهذا أيضاً. وأشْبَهُ الأمريْن بظاهر الآية أن يكونا مغسولَيْن. [ص: 166] وهذا بيانُ السُّنَّة مع بَيانِ القُرَآن. وسَوَاءٌ البيانُ في هذا وفيما قَبْله، ومُسْتَغْنىً بِفرْضه بالقُرَآن عند أهْل العلْم، ومُخْتلِفان عند غيْرِهم.   (1) الترمذي: كتاب الطهارة/40؛ النسائي: كتاب الطهارة/79؛ أبو داود: كتاب الطهارة/119؛ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها/404؛أحمد: مسند العشرة المبشرين/144. (2) النسائي: كتاب الطهارة/96؛ أبو داود: كتاب الطهارة/103؛ ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها/428؛ أحمد: مسند المدنيين/15836؛ مالك: كتاب الطهارة/29. (3) البخاري: كتاب الوضوء/155؛ مسلم: كتاب الطهارة/332؛ النسائي: كناب الطهارة/83؛ أبو داود: كتاب الطهارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وسن رسول الله في الغسل من الجَنابَةِ غُسْلَ الفَرْج والوُضوءَ كوُضوءِ الصلاةِ ثم الغُسْلَ، فكذلك أحْبَبْنَا أنْ نَفْعلَ. ولم أعلم مُخَالفًا حفظْتُ عنه مِن أهل العلم في أنَّه كيْف ما جاء بِغُسْلٍ وأتَى على الإسْباغ: أجْزَأهُ، وإنْ اختاروا غيْرَه، لأن الفرضَ الغُسْلُ فيه، ولم يُحَدَّدْ تحديدَ الوُضوءِ. وسنَّ رسولُ الله فيما يَجِبُ منه الوضوءُ، وما الجنابةُ التي يَجِبُ بها الغُسْلُ، إذْ لم يكنْ بعضُ ذلك منصوصاً في الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الفرْضُ المنصوص الذي دلَّتْ السنةُ على أنه إنما أراد الخاصَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 قال الله - تبارك وتعالى -: " يَسْتَفْتُونَكَ. قُلْ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ، إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ، وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ (176) " [النساء] ، وقال: " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) " [النساء] . وقال: " وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ. آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً [ص: 168] مِنْ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ (12) " [النساء] . وقال: " وَلَهُنَّ الرُّبُعُ (12) " [النساء] ، مع آيِ المَوارِيثِ كلِّها. فدلَّتْ السنة على أن الله إنما أراد مِمَّنْ سمَّى له المواريثَ، من الإخوة والأخواتِ، والولد والأقارب، والوالدَيْنِ والأزواج، وجَمِيع مَنْ سمَّى له فريضةً في كتابه، خاصَّا مِمَنْ سمى. وذلك أن يجتمع دينُ الوارثِ والمَوْروث، فلا يختلفان، ويكونان مِن أهْل دار المسلمين، ومن له عَقْدٌ من المسلمين يَأْمَنُ به على ماله ودَمِه، أو يكونان من المُشْركين، فيَتَوَارَثان بالشِّرْك. أخْبَرَنا "سفيان" عن "الزهري" عن "علي بن حسين" [ص: 169] عن "عمرو بن عثمان بن أسامة بن زيد"، أنَّ رسولَ الله قال: " لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ " (1) . [ص: 170] وأن يكون الوارِثُ والمَوْرُوثُ حُرَّيْنِ مع الإسلام.   (1) البخاري: كتاب الفرائض/6267؛ مسلم: كتاب الفرائض/3027؛ الترمذي/2033؛ أبو داود: كتاب الفرائض/2521؛ ابن ماجه: كتاب الفرائض/2719. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أخبرنا "ابن عُيَيْنَة" عن "ابن شهاب" عن "سالم" عن أبيه، أنَّ رسولَ الله قال: " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالُ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلاَّ أنْ يَشْتَرِطَهُ المُبْتَاعُ " (1) . قال: فلما كان بَيِّنًا في سنة رسول الله أنَّ العبدَ لا يَمْلِكُ مالاً، وأن مَا مَلَكَ العبدُ فإنما يَمْلِكُهُ لِسَيِّدِهِ، وأن اسمَ المالِ له إنما هو إضافةُ إليه، لأنه في يَدَيْهِ، لاَ أنَّهُ مالكُ لَه، ولا يكون مَالِكًا له وهو لا يَمْلِك نفْسَهُ، وهو مملوكٌ، يُبَاعُ ويُوهَبُ ويُورثُ، [ص: 171] وكان الله إنما نَقَلَ مِلْكَ الموْتَى إلى الأحياءِ، فملكوا منها ما كان الموْتى مالكِينَ، وإنْ كان العبدُ أبًا أو غيرَه مِمَنْ سُمِّيَتْ له فَريضةٌ، فكان لوْ أُعْطِيَهَا مَلَكَها سيِّدُهُ عليه، لم يكن السيدُ بِأَبِي الميِّتِ ولا وارثاً سُميتْ له فريضةٌ، فَكُنَّا لو أعْطَيْنَا العبدَ بأنه أب، إنما أعْطَيْنَا السيدَ الذي لا فريضةَ له، فَوَرَّثْنَا غيرَ مَن وَرَّثَهُ اللهُ، فلم نُوَرِّثْ عبداً لِمَا وصفتُ، ولا أحداً لم تجتمعْ فيه الحُرِّيَّةُ والإسلامُ والبراءةُ من القتل، حتى لا يكونَ قاتلاً. وذلك أنه رَوَى "مالك" عن "يحيى بن سعيد عن عمرو بن شُعَيْبٍ"، أنَّ رسول الله قال: " ليس لقاتل شيء " (2) . [ص: 172] فلم نُوَرِّثْ قاتِلاً ممن قتل، وكان أخفُّ حالِ القاتل عَمْداً أنْ يُمْنَعَ الميراثَ عُقُوبةً، مع تَعَرُّضِ سَخَط اللهِ، أنْ يُمْنَعَ ميراثُ مَنْ عَصَى اللهَ بالقتل.   (1) مسلم: كتاب البيوع/2854؛ الترمذي: كتاب البيوع/1165؛ النسائي: كتاب البيوع/4557؛ أبو داود: كتاب البيوع/2977؛ أحمد: مسند المكثرين من الصحابة/4324؛ مالك: كتاب البيوع/1119. (2) أبو داود: كتاب الديات/3955؛ أحمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة/329؛ مالك: كتاب العقول/1365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وما وصفتُ، مِنْ ألا يَرِثَ المُسلمَ إلا مسلمُ حرٌّ غيرُ قاتلٌ عَمْداً، مَا لاَ اختلافَ فيه بَيْنَ أحدٍ مِن أهل العلم حفظتُ عنه بِبَلدنا ولا غَيْرِهِ. وفي اجتماعهم على ما وَصَفْنَا مِنْ هذا حجةٌ تَلْزمهم [ص: 173] ألا يَتَفَرَّقوا في شيء مِنْ سُنَنِ رسولِ الله، بأنَّ سننَ رسول الله إذا قامتْ هذا المَقام فيما لِلَّهِ فيه فرضٌ منصوص، فدلتْ على أنه على بعضِ من لَزِمَهُ اسمُ ذلك الفرْضِ دون بعض: كانت فيما كان مِثْلَه مِن القُرَآن: هكذا، وكانت فيما سَنَّ النبيُّ فيما ليسَ فيه لله حُكْمٌ منصوص: هكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وأوْلَى أنْ لا يَشُكَّ عالمٌ في لزومها، وأنْ يعْلم أنَّ أحكامَ اللهِ ثمَّ أحكامَ رسولِه لا تختلف، وأنها تجري على مثال واحد. قال الله - تبارك وتعالى -: " لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (29) " [النساء] . وقال: " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) " [البقرة] . ونَهَى رسولُ الله عَن بُيُوعٍ تَرَاضَى بِها المُتَبَايِعان، [ص: 174] فحُرِّمتْ، مثلُِ الذَّهَبِ بِالذهبِ إلا مِثْلاً بِمِثلٍ، ومثلُِ الذهب بالوَرِق وأحدُهُما نَقْدٌ والآخر نَسِيَّةٌ (1) ، وما كان في معنى هذا، مما ليس في التَّبَايعِ به مُخَاطَرَة، ولا أمرٌ يَجْهَلُه البائِع ولا المُشْتَرِي. فدلتْ السنةُ على أنَّ الله - جل ثناؤه - أرادَ بإحْلالِ البَيْعِ ما لم يُحَرِّمْ مِنْهُ، دون ما حَرَّمَ على لسان نَبِيِّه. ثم كانت لرسول الله فِي بيوعٍ سِوَى هذا سُنَنًا (2) مِنْها: [ص: 175] العبدُ يُباعُ، وقد دلَّسَ البائعُ المُشْتَرِيَ بِعَيْبٍ، فَلِلْمُشترِي ردُّه، وله الخَراجُ بِضَمَانِهِ. ومنها: أنَّ مَن باع عبْداً وله مال، فمالُهُ للبائِعِ إلا أن يشترطه المبتاعُ. ومنها: من باع نَخْلًا قدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرُها للبائعِ إلا أن يشترط المبتاع، لَزِمَ الناسَ الأخذُ بِها، بما ألْزَمَهم اللهُ مِن الانتهاءِ إلى أمره.   (1) أي نسيئة سُهِّلت وقرأ ورش وأبو جعفر (إنما النَّسِيُّ) [التوبة 37] (2) تقدم توجيه هذا ونحوه من العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 جُمَلُ الفَرَائِضِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 قال الله - تبارك وتعالى -: " إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) " [النساء] . وقال: " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (43) " [النساء] . وقال لِنَبِيِّهِ: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (103) " [التوبة] . وقال: " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (97) " [آل عمران] . قال "الشافعي": أحكمَ اللهُ فرضَه في كتابِهِ [ص: 177] في الصَّلاةِ والزكاةِ والحجِّ، وَبَيَّنَ كيْف فَرَضَهُ على لسان نَبِيِّهِ. فأخْبَرَ رسولُ اللهِ أنَّ عَدَدَ الصلواتِ المفروضاتِ: خَمْسٌ، وأخبر أن عدد الظهر والعصر والعشاء في الَحَضَرِ: أرْبَعٌ أرْبَعٌ، وعددَ المغرب: ثلاثٌ، وعددَ الصبْح: ركعتان. وسَنَّ فيها كلِّها قِراءةً، وسنَّ أنَّ الَجْهَر مِنها بالقِراءة: في المغرب والعشاء والصبح، وأنَّ المخافتةَ بالقِراءة: في الظهر والعصر. وسَنَّ أنَّ الفرْضَ في الدخول في كلِّ صلاة بِتَكْبِير، والخُروجَ مِنها بتَسْليمٍ، وأنه يُؤْتَى فيها بتكبير، ثم قِراءةٍ، ثم رُكُوعٍ، ثم سَجْدَتَيْن بعد الرُّكوع، وما سِوَى هذا مِنْ حُدُودِها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وسَنَّ في صلاة السفر قَصْرًا، كلَّما كان أرْبَعًا من الصلواتِ، إنْ شاءَ المُسافِرُ، وإثباتَ المَغْرب والصبح على حالها في الحضر. وأنها كلَّها إلى القِبْلَة، مسافراً كان أوْ مُقِيماً، إلا في حالٍ مِن الخَوْفِ واحدةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وسن أنَّ النَّوَافِلَ في مِثْل حالها، لا تَحِلُّ إلاَّ بِطُهُورٍ، ولا تجوز إلا بقِراءة، وما تجوز به المكتوباتُ من السجود والركوع واستقبال القبلة في الحَضر وفي الأرْض وفي السفر، وأنَّ للرَّاكِب أنْ يصلِيَ في النَّافِلة حيث توجَّهَتْ بِه دابَّتُهُ. أخْبَرَنا "ابن أبي فُدَيْكٍ" عن "ابن أبي ذِئْبٍ" عن "عثمان بن عبد الله بن سُراقَةَ" عن "جابر بن عبد الله": " أنَّ رسولَ اللهِ فِي غَزْوَةِ بَنِي أنْمَارٍ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا قِبَلَ المَشْرِقِ " (1) . أخبرنا "مسلم (2) " عن "ابن جُرَيْجٍ" عن "أبي الزبير" عن "جابر" عن النَّبِيِّ مِثْلَ مَعْناه، لا أدْرِي، أسَمَّى بَنِي أنْمَارٍ أو لا؟ أو قال: " صَلَّى فِي سَفَرٍ ".   (1) مسند الشافعي: 192، 194؛ مسند أبي حنيفة: كتاب المغازي/3909. (2) هو ابن خالد الزنجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وسنَّ رسولُ الله في صَلاة الأعْيَاد، والاسْتِسْقَاءِ سنة الصلوات في عدد الركوع والسجود، وسنَّ في صلاة الكسوف، فزاد فيها ركعةً على ركوع الصلوات، فجَعَلَ في كل ركعة ركعتَيْنِ. قال: أخبرنا "مالك" عن "يحيى بن سعيد بن عَمْرَةَ" عن "عائشة" عن النّبِيِّ. وأخبرنا "مالك" عن "هشام" عن أبيه، عن "عائشة" عن النبي. قال: "مالكٌ" عن "زيد بن أسْلَمَ" عن "عطاء بن يَسَار" عن "ابن عباس" عن النبي مِثْلَه. قال: فَحُكِيَ عن "عائشة"، و"ابن عباسٍ" في هذه الأحاديث، صلاةُ النبي بِلَفْظٍ مختلفٍ، واجتمع في حديثهما معاً على أنه صَلَّى صلاةَ الكُسُوفِ ركعتين، في كل ركعة ركعتين. [ص: 180] وقال الله في الصلاة: " إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) " [النساء] . فَبَيَّنَ رسولُ الله عَن الله تِلك المَوَاقيتَ، وصلى الصلوات لوقتها، فحُوصرَ يومَ الأحْزابِ، فلم يَقْدر على الصلاة في وقتها، فأخَّرَها للعُذْر، حتى صَلَّى الظهرَ والعصرَ والمغرِبَ والعشاءَ في مَقَامٍ واحِدٍ. أخبرنا "محمد بن إسماعيلَ بن أبي فُدَيْكٍ" عن "ابن أبي ذِئْبٍ" عن "المَقْبُرِيِّ" عن "عبد الرحمن بن أبي سعيد" عن أبيه، قال: " حُبِسْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، حَتّى كَانَ بَعْدَ المَغْرِبِ بِهَوِيٍّ (1) مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: " وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) " [الأحزاب] ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ بِلَالاً فَأَمَرَهُ، فَأَقَامَ الظُّهْرَ فَصَلَّاها، [ص: 181] فَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا، كَمَا كَانَ يُصَلِيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ العَصْرَ فَصَلَّاهَا هَكَذَا، ثُمَّ أَقَامَ المَغْرِبَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ العِشَاءَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ أَيْضًا، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ فِي صَلَاةِ الخَوْفِ: " فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا (239) " [البقرة] (2) . قال: فَبَيَّنَ "أبو سعيد" أنَّ ذلك قَبْل أنْ يُنَزِّلَ اللهُ على النبي الآيةُ التي ذُكرتْ فيها صلاةُ الخوْف. والآيةُ التي ذُكِرَ فيها صَلَاةُ الخوف قوْلُ اللهِ: " وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا [ص: 182] لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) " [النساء] ، وقال: " وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ، فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ (102) " [النساء] . أخبرنا "مالك" عن "يزيد بن رُومَانَ" عن "صالح بن خَوَّاتٍ" عَنْ مَنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَاةَ الخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقاَعِ: " أنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وُجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وُجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَت الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ الرَّكعَةَ التَّيِ بَقِيَتْ مِنْ َصَلاَتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ " (3) . [ص: 183] أخبرني مَنْ سَمِعَ "عبدَ الله بن عمر بن حَفْصٍ" يَذْكُرُ عن أخيه "عُبَيْدِ الله بن عمرَ" عن "القاسم بن محمد" عن "صالح بن خَوَّاتٍ" عن أبيه "خوَّات بن جُبَيْرٍ" عن النبي مِثْلَ حديثِ "يزيد بن رومان".   (1) بفتح الهاء ويجوز ضمها. (2) أحمد: باقي مسند المكثرين/10769؛ الدارمي: كتاب الصلاة/1483؛ مسند الشافعي: 553. (3) البخاري: كتاب المغازي/3817؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1390؛ النسائي: كتاب صلاة الخوف/1519؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1049؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وفي هذا دلالة على ما وصفتُ قبْلَ هذا في (هذا الكتاب) : مِنْ أن رسول الله إذا سَنَّ سنةً فأحدَثَ اللهُ إليه [ص: 184] في تلك السنَّةِ نَسْخَهَا أو مَخْرَجًا إلى سَعَةٍ منها: سنَّ رسولُ الله سنةً تقومُ الحجةُ على الناس بها، حتى يكونوا إنَّمَا صاروا من سُنَّتِهِ إلى سُنَّتِهِ التي بَعْدَهَا. فنَسَخَ اللهُ تأخير الصلاة عَنْ وَقْتِها في الخوف إلى أنْ يُصَلُّوها - كما أنزل الله وسنَّ رسولُه - في وَقْتها، ونسخ رسول اللهُ سنتَه في تأخيرها بِفَرْض الله في كتابه ثم بِسُنته، صَلاها رسول الله في وقتها كما وصفتُ. أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر"، أُرَاهُ عن النبي، [ص: 185] فَذَكَرَ صلاةَ الخوف، فقال: " إنْ كَانَ خَوْفٌ أشَدَّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالاً وَرُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي القِبْلِةِ أوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا " (1) . أخبرنا رجلٌ عن "ابن أبي ذِئْب" عن "الزهري" عن "سالم"، عن أبيه، عن النبي مِثْلَ مَعْناه، ولم يَشُكَّ أنه عن أبيه، وأنه مَرْفوع إلى النبي. [ص: 186] قال: فدلتْ سنةُ رسول الله على ما وصفتُ، مِن أن القِبلة في المكتوبة على فَرْضِها أبَداً، إلا في الموضع الذي لا يُمْكِن فيه الصلاةُ إليها، وذلك عند المُسَابقَةِ والهَرَب وما كان في المعنى الذي لا يُمْكن فيه الصلاة إليها. وثبتت السنة في هذا، ألاَّ تُتْرَكَ الصلاةُ في وَقْتها، كيف ما أمْكَنَتْ المُصَلِّي.   (1) البخاري: كتاب تفسير القُرَآن/4171؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 في الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قال الله: " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (43) " [البقرة] ، [ص: 187] وقال: " وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ (162) " [النساء] ، وقال: " فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) " [الماعون] . فقال بعضُ أهل العلم: هي الزكاةُ المفْروضة. قال الله: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ؛ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) " [التوبة] . فكان مَخْرَجُ الآية عاماً على الأمْوال، وكان يحتمل أن تكون على بعض الأموال دون بعض، فدلتْ السنة على أن الزكاة في بعض الأموال دون بعض. فلما كان المال أصنافاً، منه الماشِيَةُ، فأخَذَ رسولُ الله [ص: 188] مِن الإبل والغَنَم، وأمَر - فيما بَلَغنَا - بالأخْذ من البقر خاصة، دون الماشية سِواها، ثم أخَذ منها بِعَدَدٍ مُخْتلف، كما قَضَى اللهُ على لسان نبيه، وكان للناس ماشيةٌ مِن خَيْل وحُمُر وبِغَال وغيرها، فلَمَّا لم يأخذْ رسولُ الله مِنها شيئاً، وسَنَّ أنْ ليس في الخيل صدقةٌ: استدللنا على أن الصدقة فيما أَخَذَ مِنه وأمر بالأخذ منه، دون غيره. وكان للناس زَرْع وغِراس، فأخَذَ رسولُ الله من النَّخْل والعِنَب الزكاةَ بِخَرْصٍ (1) غيرُ مختلفٍ ما أَخَذَ منهما، [ص: 189] وأخَذَ منهما مَعًا العُشْرَ إذا سُقِيَا بِسَماء أو عَيْنٍ، ونصْفَ العُشر إذا سُقِيَا بِغَرْبٍ (2) . وقد أخَذَ بعضُ أهل العلم مِن الزيتون، قياساً على النخل والعنب. ولم يَزَلْ للناس غِراسٌ غيرُ النخل والعنب والزيتون كثيرٌ، مِن الجَوْز واللَّوْز والتين وغيره، فلما لم يأخذ رسول الله منه شيئاً، ولم يأمر بالأخذ منه، استدللنا على أن فرْضَ الله الصدقةَ فيما كان مِن غِراس: في بعضِ الغِرَاس دون بعضٍ. وَزَرَعَ الناسُ الحِنْطَةَ والشعير والذُّرةَ، وأصْنافاً سِواها، فَحَفِظْنا عَن رسول الله الأخْذَ مِن الحِنطة والشعير والذُّرة، وأَخَذَ مَن قَبْلَنَا مِن الدُّخْنِ والسُّلْت [ص: 190] والعَلَس والأُرْزِ (3) وكُلِّ ما نَبَّتَهُ (4) الناسُ وَجَعَلُوهُ قُوتًا، خُبْزًا وعَصِيدَةً وسَوِيقًا وأُدْمًا، مثل الحِمَّصِ والقَطَاني (5) ، [ص: 191] فهي تصلح خبزاً وسويقاً وأدماً، اتِّباعاً لِمَنْ مَضَى، وقياساً على ما ثَبَتَ أنَّ رسول الله أَخَذَ مِنه الصدقةَ، وكان في معنى ما أخذ النبيُّ، لأن الناس نَبَّتُوه لِيَقْتَاتُوه. وكان للناس نَبَاتٌ غيرُه، فلم يأخذ منه رسولُ الله، ولا مَنْ بَعْدَ رسولِ الله عَلِمْناه، ولم يكن في معنى ما أَخَذَ منه، وذلك مثل الثُّفَّاءِ [ص: 191] والأَسْبيوش والكُسْبرة وحَبِّ العُصْفُر (6) ، وما أشبهه، فلم تكن فيه زكاة: فدلَّ ذلك على أن الزكاة في بعض الزَّرْعِ دون بعض.   (1) الخَرْصُ: حرز على النخل من الرطب تمراً [مختار الصحاح] . (2) الغَرْبُ: الدَّلْوُ العظيمة [مختار الصحاح] . (3) الدُّخْنُ: حَبُّ الجَاوَرْسِ [القاموس المحيط] ، والجَاوَرْسُ: حب يشبه الذُّرة [النهاية في غريب الحديث] . السُّلْتُ: الشعير، أو ضرب منه، أو الحامض منه [القاموس المحيط] . العَلَسُ: ضرب من الحِنْطة، تكون حبتان في قشر، وهو طعام أهل صَنْعاء [مختار الصحاح] . (4) نبَّته: غرسه وزرعه. (5) القَطَانِيُّ: جمع قُطْنِيَّة مثلث القاف: حبوب الأرض، أو ما سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر، أوهي الحبوب التي تطبخ [القاموس المحيط] . (6) الثُّفَّاءُ: الخردل [مختار الصحاح] . الأسبيوش كلمة أعجمية: بزر معروف. الكُسْبرة وفي نسخة الكزبرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وفرض رسول الله في الوَرِق (1) صدقةً، وأَخَذَ المُسْلمون في الذهب بعده صدقةً، إمَّا بخبر عن النبي لمْ يَبْلُغْنا، جص 193> وإما قياساً على أن الذهب والورِق نَقْدُ الناس الذي اكْتَنَزُوه وأجازوه [ص: 194] أثْمَاناً على ما تَبَايَعوا به في البلدان قَبْل الإسلام وبعده. وللناس تِبْرٌ (2) غيرُه، مِن نحُاس وحَدِيد ورَصَاصٍ، فلما لم يأخذ منه رسولُ الله ولا أحدٌ بعده زكاةً، تركناه، اتِّباعاً بِتَرْكه، وأنه لا يجوز أن يقاس بالذهب والوَرِقِ، الَّذَيْنِ هما الثمن عاماً في البلدان على غيرهما، لأنه في غيرِ مَعْناهما، لا زكاةَ فيه، ويَصْلُح أن يُشْتَرَى بالذَّهَب والورِق غيرُهما من التِّبْر إلى أجَلٍ مَعْلوم وبِوَزْن مَعْلُوم.   (1) الوَرِقُ: الدراهم المضروبة [مختار الصحاح - الرازي] . (2) التِّبْرُ: الذهب والفضة، أو فتاتهما قبل أن يُصاغا [القاموس المحيط - فيروزابادي] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وكان الياقوتُ والزبرجدُ أكثرَ ثَمَنًا مِن الذهب والورِق، فلَمَّا لم يأخذ منهما رسول الله، ولم يأمُرْ بالأخذ ولا مَن بَعْدَه عَلِمْناه، وكانا مالَ الخاصَّةِ، وما لا يُقَوَّمُ به على أحد في شيء استهلكه الناسُ، لأنه غيرُ نَقْدٍ، لم يأخذ منهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ثم كان ما نَقَلَتْ العامَّةُ عَنْ رسولِ الله في زَكاة الماشية والنَّقْد، أنه أخذها في كلِّ سنةٍ مرةً. وقال الله: " وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ (141) " [الأنعام] ، فسَنَّ رسولُ الله أن يُؤخَذَ مما فيه زكاةٌ مِن نَبَاتِ الأرض، الغِراسِ وغيْرِه، على حُكْمِ اللهِ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ -، يومَ يُحْصَدُ، لا وَقْتَ له غيرُه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وسنَّ في الرِّكَازِ الخُمُسَ، فدَلَّ على أنه يَوْمَ يُوجَدُ، لا في وَقْتٍ غيْرِه. [ص: 196] أخبرنا "سفيان" عن "الزهري" عن "ابن المسيَّب" و"أبي سَلَمَةَ" عن "أبي هُرَيْرَة"، أنَّ رسولَ الله قال: " وَفِي الرِّكّازِ الخُمُسُ " (1) . ولولا دِلالةُ السُّنَّةِ كان ظاهرُ القُرَآن أنَّ الأمْوالَ كلَّها سَوَاءٌ، وأنَّ الزكاةَ في جَمِيعِهَا دون بعْضٍ.   (1) البخاري: كتاب الزكاة/1403؛ مسلم: كتاب الحدود/3226؛ الترمذي: كتاب الزكاة/581؛ النسائي: كتاب الزكاة/2428؛ أبو داود: كتاب اللقطة/1455؛ مالك: كتاب الزكاة/520. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 [فِي الحَجِّ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وفَرَضَ اللهُ الحجَّ على من يَجد السبيلَ، فَذُكِر عن النبي: أن السبيلَ الزَّادُ والمَرْكَب، وأخْبَرَ رسولُ الله بمَواقيتِ الحج وكيف التَّلْبِيَةُ فيه، وما سَنَّ، وما يَتَّقِي المُحرمُ مِن لُبْسِ الثِّياب والطِّيب، وأعمالِ الحج سِواها، مِن عرفةَ والمزدلفةِ والرَّميِ والحِلاَقِ والطواف، وما سِوى ذلك. فلو أن امْرَأً لم يعْلم لرسول الله سنةً مع كتاب الله إلا ما وصَفْنا، مما سن رسول الله فيه معنى ما أنْزله الله جُمْلةً، وأنه إنما [ص: 198] اسْتدرك ما وصفْتُ من فَرْض الله الأعمالَ، وما يُحَرِّم وما يُحِلُّ، ويُدْخَلُ به فيه ويُخْرَجُ منه، ومواقِيتِه، وما سَكَتَ عنه سِوى ذلك من أعماله: قامَتْ الحجَّة عليه بأن سنة رسول الله إذا قامت هذا المقام مع فرضِ الله في كتابه مرَّةً أو أكثرَ، قامتْ كذلك أبداً. واستُدِلَّ أنه لا تُخالِف له سنة أبداً كتابَ الله، وأن سنَّتَه، وإنْ لم يكن فيها نصُّ كتاب: لازِمةٌ، بما وصفتُ من هذا، مع ما ذكرتُ سِواه، مما فَرَضَ اللهُ مِن طاعة رسولِهِ. ووَجَبَ عليه أن يَعْلَمَ أن اللهَ لم يجْعل هذا لخلقٍ غيرِ رسولِه. وأن يجعل قولَ كلِّ أحدٍ وفعْلَه أبَداً تَبعاً لِكِتاب الله ثم سنةِ رسوله. وأن يَعْلمَ أنَّ عالِمًا إن رُوِيَ عنه قولٌ يُخالِف فيه شيْئًا [ص: 199] سنَّ فيه رسولُ الله سنةً، لوْ عَلِمَ سنةَ رسولِ الله لمْ يُخالِفْها، وانْتَقَلَ عَنْ قَوْلِهِ إلى سنَّةِ النبي - إنْ شاءَ الله - وإنْ لم يَفْعل كان غيْرَ مُوَسَّعٍ له. فكيف والحُجَجُ في مثل هذا لِلَّهِ قائمَةٌ على خَلْقِه، بما افْتَرَضَ مِن طاعة النبي، وأبانَ مِنْ مَوْضِعِه الذي وَضَعَهُ به مِن وحْيِه ودِينِه وأهْلِ دِينِه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 [في العِدَدِ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قال الله: " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (234) " [البقرة] ، وقال: " وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ (228) " [البقرة] . وقال: " وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ [ص: 200] إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (4) " [الطلاق] . فقال بعضُ أهلِ العلم: قد أوْجَبَ اللهُ على المُتَوَفَّى عنْها زوْجُها أربعةَ أشهُرٍ وعشْرًا، وذَكَرَ أن أجَلَ الحامِلِ أن تَضَعَ، فإذا جَمَعَتْ أنْ تكون حامِلا مُتَوَفَّى عنها، أتَتْ بالعِدَّتَيْنِ مَعًا، كما أجدها في كلِّ فرضَيْن جُعِلا عليها أتَتْ بهما معاً. قال: فلَمَّا قال رسولُ اللهِ "لِسُبَيْعَة بنْتِ الحرثِ"، ووضَعَتْ بعْدَ وَفَاةِ زوْجِها بأيامٍ: " قَدْ حَلَلْتِ فَتَزَوَّجِي " (1) ، دلَّ هذا على أنَّ العِدة في الوفاة والعدةَ في الطلاق بالأقراءِ والشُّهور، إنما أرِيد بِهِ مَن لا حَمْلَ به من النساء، وأن الحمْلَ إذا كان فالعِدة سِواه ساقطةٌ.   (1) البخاري: كتاب المغازي/3770؛ مسلم: كتاب الطلاق/1484؛ النسائي: كتاب الطلاق/3451؛ أبو داود: كتاب الطلاق/2306؛ أحمد: مسند القبائل/26167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 [في محرمات النساء] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 قال الله: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) " [النساء] . فاحتملت الآية مَعْنَيَيْن: أحدُهما: أنَّ ما سَمَّى اللهُ مِن النِّساء مَحْرَمًا مُحَرَّمٌ، وَما سَكَتَ عنه حَلالٌ بالصَّمْت عنه، وبقول الله: [ص: 202] " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ "، وكان هذا المعنى هو الظاهرَ مِن الآيَة. وكان بَيِّناً في الآية تحريمُ الجمْع بمعنىً غيرِ تحريم الأمَّهات، فكان ما سَمَّى حَلالاً حَلالٌ، وما سمى حراماً حرامٌ، وما نهى عن الجمع بَيْنه مِن الأخْتَيْنِ كما نهى عنه. وكان في نهيه عن الجمع بينهما دليلٌ على أنه إنما حرَّم الجمعَ، وأنَّ كلَّ واحدة منهما على الانفراد حلالٌ في الأصْلِ، [ص: 203] وما سِواهُنَّ مِن الأُمَّهاتِ والبَنَات والعَمَّات والخالاتِ: مُحَرَّمَاتٌ في الأصل. وكان معنى قوله: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ "، مَنْ سَمَّى تَحْريمَه في الأصْل، ومَنْ هو في مِثْلِ حالِه بالرَّضَاعِ: أنْ يَنْكِحوهنَّ بِالوَجْه الذي حَلّ به النِّكاحُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الجزء الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 [ ... قال أنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي قال:] بسم الله الرحمن الرحيم. فإن قال قائلٌ: ما دلَّ على هذا؟ فإن النِّساءَ المُباحاتِ لا يَحلُّ أن يُنْكح مِنهنَّ أكثرُ مِن أرْبَعٍ، ولو نَكَحَ خامِسةً فُسِخ النِّكاحُ، فَلا تحلُّ مِنهن واحدةٌ إلا بنِكاحٍ صحيحٍ، وقَدْ كانت الخامسةُ مِن الحَلالِ بِوَجْهٍ، وكذلك الواحِدة، بِمَعْنَى قول الله: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ "، بالوجه الذي أُحِلَّ به النكاحُ، وعلى الشرط الذي أحَلَّه به، لا مُطْلَقًا. فيكون نكاحُ الرجلِ المرأةَ لا يُحَرِّمُ عليه نكاحَ عمَّتها ولا خالَتِها بكُلِّ حال، كما حَرَّمَ اللهُ أمَّهاتِ النساءِ بِكُلِّ حال، فتكون العَمَّةُ والخالةُ داخِلَتَيْنِ في معنى مَنْ أَحَلَّ بالوجْه الذي أحلَّها به. [ص: 206] كما يَحِلُّ له نكاحُ امرأةٍ إذا فارَق رابِعَةً: كانت العمَّةُ إذا فُورِقَت ابْنَتُ أخيها، حَلَّتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 [في محرمات الطعام] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وقال الله لنبيه: " قُلْ: لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ، فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ (145) " [الأنعام] . فاحتملتْ الآيةُ مَعْنَيَيْنِ: أحدُهما: أنْ لا يَحْرُمَ على طاعِمٍ أبَداً إلا ما اسْتَثْنَى اللهُ. وهذا المعنى الذي إذا وُجِّهَ رجلٌ مُخَاطَبًا به كانَ الذي [ص: 207] يَسْبِقُ إليه أنَّه لا يَحْرُمُ غيرُ ما سَمَّى اللهُ مُحَرَّمًا، وما كان هكذا فهو الذي يقولُ له: أظْهَرُ المعاني وأعمُّها وأغْلَبُها، والذي لو احتملت الآيةُ معنى سِواه كان هو المعنى الذي يَلْزَمُ أهلَ العِلْم القوْلُ به، إلا أنْ تأتِيَ سنةُ النبي تدُلُّ على معنىً غيْرِهِ، مما تحتمله الآية، فيقولَ: هذا معنى ما أراد الله تبارك وتعالى. ولا يقال بخاصٍّ في كتاب الله ولا سُنةٍ إلا بِدِلالةٍ فيهما أو في واحِدٍ مِنهما. ولا يقال بخاصٍّ حتى تكون الآية تحتمل أن يكون أُرِيدَ بها ذلك الخاصُّ، فأمَّا ما لم تكنْ مُحْتَمِلةً له فلا يقال فيها بما لم تحتمل الآيةُ. ويحتمل قولُ الله: " قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ (145) " [الأنعام] ، من شيء سُئِلَ عنْه رسولُ الله دون غَيْرِه. [ص: 208] ويَحْتمل: مِمَّا كُنْتُمْ تأكُلُونَ. وهذا أَوْلَى مَعَانِيه، استدلالاً بالسُّنة عليه، دون غَيْرِه. أخبرنا "سفيان" عن "ابن شهاب" عن "أبي إدريسَ الخَوْلَانِيِّ" عن "أبي ثَعْلَبَةَ": " أنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ " (1) . أخبرنا "مالك" عن "إسماعيلَ بن أبي حَكِيم" عن عَبِيدَةَ بن سفيان الحَضْرَمِيِّ" عن "أبي هُرَيْرَةَ"، عن النبي قال: " أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ " (2) .   (1) البخاري: كتاب الذبائح والصيد/5101؛ مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوانات/3570؛ الترمذي: كتاب الصيد/1397؛ النسائي: كتاب اليد والذبائح/4251؛ أبو داود: كتاب الأطعمة/3308؛ ابن ماجه: كتاب الصييد/3223؛ أحمد: مسند العشرة/1179. (2) مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوانات/3573؛ النسائي: كتاب الصيد والذبائح/4250؛ ابن ماجه: كتاب الصيد/3224؛ مالك: كتاب الصيد/940. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 [فيما تُمْسَكُ عَنْه المُعْتَدَّةُ مِن الوَفَاةِ] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 قال الله: " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) " [البقرة] . فذَكَر اللهُ أنَّ على المُتَوَفَّى عَنْهُنَّ عِدَّةً، وأنهُنَّ إذا بَلَغْنَهَا فَلهُنَّ أنْ يَفْعلْنَ في أنْفُسهِنَّ بالمَعْروف، ولم يَذْكر شيئاً تجتنبه في العِدة. قال: فكان ظاهرُ الآية أنْ تُمْسِكَ المعتدَّةُ في العِدَّة عَن الأزواج فَقَطْ، مع إقامتها في بَيْتها -: بالكِتاب. وكانتْ تَحْتمل أن تُمْسِكَ عن الأزواج، وأن يكون عليها في الإمساك عن الأزواج إمساكٌ عَنْ غَيْرِه، مِمَّا كان مُباحا لها قَبْلَ العِدَّة مِنْ طِيبٍ وَزِينَة. [ص: 210] فلَمَّا سَنَّ رسولُ الله على المُعْتَدَّة مِن الوفاة الإمساك عن الطِّيبِ وغَيْرِه، كان عليها الإمساكُ عن الطيب وغيره بِفَرْض السُّنَّة، والإمساكُ عن الأزواج والسُّكْنَى في بَيْت زوْجها بالكتاب ثم السُّنة. واحتملت السنةُ في هذا المَوْضِع ما احتملتْ في غيره: مِنْ أن تكونَ السنةُ بَيَّنَتْ عَنِ الله كَيْف إمساكُها، كما بَيَّنَت الصلاةَ والزكاةَ والحَجَّ، واحتملتْ أنْ يكونَ رسولُ الله سَنَّ فيما ليس فيه نصُّ حُكْمٍ لِلَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 باب العلل في الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 قال "الشافعي": قال لِي قائِلٌ: فَإنَّا نَجِدُ مِن الأحاديثِ عَن رسولِ الله أحاديثَ في القُرَآن مِثْلُها نَصًّا، وأخْرَى في القُرَآن مثلُها [ص: 211] جُمْلةً، وفي الأحاديث منها أكثرَ مِمَّا في القُرَآن، وأخرى ليس منها شيء في القُرَآن، وأخرى مُوتَفِقَةٌ، وأخرى مُخْتلفةٌ: ناسِخة ومَنْسوخَة، وأخرى مختلفة: ليس فيها دِلالةٌ على ناسخٍ ولا منسوخ، وأخرى فيها نَهْيٌ لِرسول الله، فتقولون: ما نَهَى عنْه حَرَامٌ، وأخرى لرسول الله فيها نهْيٌ، فتقولون: نَهْيُه وأمره على الاختيار لا على التَّحْريمِ، ثم نَجِدُكم تذهبون إلى بعْض المُخْتَلِفة مِن [ص: 212] الأحاديث دون بعْضٍ، ونجدكم تَقِيسُون على بعْضِ حَديثه، ثم يَخْتَلِف قِياسُكم عليها، وتَتْرُكون بعْضاً فلا تَقِيسون عليه، فَمَا حُجَّتُكُمْ في القياس وتَرْكِه؟ ثم تفْتَرِقون بعدُ: فمِنكُمْ مَنْ يَتْرُك مِن حديثه الشيءَ ويَأْخُذ بمثل الذي تَرَكَ وأَضْعَفَ إسْنادًا مِنه. قال "الشافعي": فقلتُ له: كلُّ ما سَنَّ رسولُ الله مَعَ كِتاب الله مِن سنةٍ فهي مُوَافِقة كتابَ الله في النصِّ بِمِثْلِهِ، وفي الجُمْلة بالتَّبْيِينِ عَن الله، والتبيينُ يكون أكثرَ تَفْسِيراً مِن الجُمْلة. وما سَنَّ مِمَّا ليس فيه نصُّ كتابِ الله فبِفرض الله طاعتَه عامَّةً في أمْرِه تَبِعْنَاه. وأما الناسِخةُ والمنسوخة مِنْ حديثه فهي كما نَسَخَ اللهُ الحُكْمَ في كِتابه بالحكم غيْرِه من كتابه عامةً في أمْرِه، وكذلك سنةُ رسولِ الله تُنْسَخُ بِسنتِه. [ص: 213] وذَكَرْتُ له بعضَ ما كتبْتُ في كِتابي قَبْلَ هذا مِن إيضَاح ما وَصَفْتُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 فأمَّا المُخْتَلِفةُ التي لا دِلالةَ على أيِّها ناسِخٌ ولا أيِّها مَنْسوخٌ، فكُلُّ أمْرِه مُوتَفِقٌ صحيح، لا اختلافَ فيه. ورسولُ الله عَرَبِيُّ اللِّسان والدَّار، فقدْ يقولُ القولَ عامًّا يُريدُ به العامَّ، وعامًّا يريدُ به الخاصَّ، كما وصفتُ لك في كتاب الله وسُنَنِ رسولِ الله قَبْلَ هذا. ويُسْئَلُ عَن الشيءِ فَيُجيب على قَدر المَسْألَةِ، ويُؤَدِّي عنه المُخْبِرُ عنه الخَبَرَ مُتَقَصًّى، والخَبَرَ مُخْتَصَرًا، والخبَر فيأتِيَ بِبَعْض مَعْناه دون بعض. ويُحَدِّثُ عنه الرجلُ الحَدِيثَ قَدْ أدْرَكَ جَوَابَه ولم يُدْرك المسألَةَ فيَدُلَّه على حَقِيقَة الجَوَابِ، بِمَعْرِفَته السَّبَبَ الذي يَخْرُجُ عليه الجواب. [ص: 214] ويَسُنُّ في الشَّيْء سُنَّة وفيما يُخَالِفه أخْرَى، فلا يُخَلِّصُ بَعْضُ السَّامِعِين بَيْنَ اختلاف الحالَيْنِ اللَّتَيْنِ سَنَّ فيهما. ويسُنُّ سنَّةً في نصٍّ معناه، فَيَحْفَظُها حافِظٌ، ويَسُنُّ في مَعْنًى يُخَالِفُهُ في معنى ويُجَامِعُه في معنى، سنةً غيرَها، لاختلاف الحالَيْنِ، فيَحْفَظُ غيرُه تِلْكَ السنةَ، فإذا أدَّى كلٌّ ما حَفِظَ رَآهُ بعضُ السامِعِينَ اختلافًا، وليس منه شيءٌ مختلفٌ. ويَسنُّ بِلَفْظٍ مَخْرَجُهُ عَامٌّ جملةً بتحريم شيء أو بتَحْليله، ويسنُّ في غيره خلافَ الجمْلة، فَيُسْتَدَلُّ على أنه لم يُرِدْ بما حَرَّمَ ما أحَلَّ، ولا بما أحَلَّ ما حَرَّمَ. ولكل هذا نظيرٌ فيما كَتَبْنَا مِن جُمَل أحكامِ الله. ويسُنُّ السنةَ ثم يَنْسَخُهَا بِسُنَّتِهِ، ولم يَدَعْ أنْ يُبَيِّنَ [ص: 215] كلَّمَا نَسَخَ مِن سنته بسنته، ولكن ربما ذَهَبَ على الذي سَمِعَ مِن رسولِ الله بعضُ علمِ الناسِخ أو عِلمِ المَنْسوخ، فَحَفِظَ أحدُهما دون الذي سمِع مِن رسولِ الله الآخَرَ، وليس يذهب ذلك على عامَّتهم، حتى لا يكون فيهم موْجوداً إذا طُلِبَ. وكلُّ ما كان كما وصفْتُ أُمْضِيَ على ما سَنَّهُ، وفُرِّقَ بَيْنَ ما فَرَّقَ بينه منه. وكانتْ طاعَتُه في تَشْعِيبِه على ما سَنَّهُ واجِبةً، ولم يقل: ما فَرَّقَ بَيْنَ كذا كذا؟ لأنَّ قولَ: مَا فَرَّقَ بَيْنَ كَذَا كَذَا؟ فيما فَرَّقَ بينه رسولُ الله، لا يَعْدُو أنْ يكونَ جَهْلًا ممن قاله، أو ارتِياباً شَرًّا مِن الجَهْل، وليس فيه طاعةُ الله باتِّباعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وما لم يوجد فيه إلا الاختلافُ: فلا يعدو أن يكونَ لم يُحْفَظْ مُتَقَصًّى، كما وصفتُ قَبْلَ هذا، فَيُعَدُّ مُخْتَلِفًا، ويَغِيبَ عنَّا مِنْ سبَبِ تَبْيِينِهِ ما علِمْنا في غَيْرِهِ، أو وَهمًا مِنْ مُحَدِّثٍ. ولم نجِدْ عنه شَيْئًا مُخْتَلِفاً فَكَشَفْنَاه: إلا وجَدْنا له وجهاً يحتمل به ألاَّ يكونَ مُخْتَلِفاً، وأن يكون داخلاً في الوجوه التي وصفتُ لك. أو نَجِدُ الدِّلالةَ على الثابِتِ منه دون غيره، بِثُبُوتِ الحديثِ، فلا يكون الحديثان اللذان نُسِبَا إلى الاختلاف مُتَكَافِيَيْنِ، فنَصِيرُ إلى الأثْبَتِ مِن الحَدِيثَيْنِ. أو يكونُ على الأثبَتِ منهما دِلالةٌ مِن كتاب الله أو سنة نبيه أو الشَّوَاهِدِ التي وَصَفْنا قَبْلَ هذا، فنصير إلى الذي هو أقْوَى وأَوْلَى أنْ يَثْبُتَ بالدلايل. ولم نجد عنه حَدِيثَيْنِ مُخْتلِفَيْن إلاَّ ولهما مَخْرَجٌ أو على أحَدِهما دِلالةٌ بأحَدِ ما وصفْتُ: إما بِمُوَافَقَةِ كتابٍ [ص: 217] أو غَيْرِه من سنته أو بعض الدلايل. وما نهى عنه رسولُ الله فهو على التحْرِيمِ، حتى تَأْتِيَ دلالةٌ عنه على أنه أراد به غَيْرَ التحْريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 قال: وأما القياس على سنن رسول الله فأصْلُهُ وَجْهَانِ، ثم يَتَفَرَّعُ في أحَدِهما وجوه. قال: وما هُمَا؟ قلت: إنَّ اللهَ تَعَبَّدَ خَلْقَهُ في كتابه وعلى لسان نبيه بما سَبَقَ في قَضَائِه أنْ يَتَعَبَّدَهُمْ به، ولِمَا شاءَ، لا مُعَقِّبَ لحُكْمه فيما تعبَّدَهم به، مما دلَّهم رسولُ الله على المعنى الذي له تعبَّدَهم به، أو وَجَدُوه في الخبر عنه لم يُنْزَلْ في شَيْءٍ في مِثْلِ المعنى الذي له تعبَّد خلقَه، [ص: 218] ووجب على أهل العلم أن يُسْلِكُوهُ سبيلً السنَّةِ، إذا كان في معناها، وهذا الذي يتَفَرَّعُ تفرعاً كثيراً. والوجه الثاني: أن يكونَ أحَلَّ لهم شيئاً جُمْلَةً، وحَرَّمَ منه شيئاً بِعَيْنِهِ، فيُحِلُّونَ الحلالَ بالجُمْلَةِ، ويُحَرِّمون الشيءَ بعَيْنِهِ، ولا يَقِيسُونَ عليه: على الأقَلِّ الحَرَامِ، لأنَّ الأكْثَرَ مِنْهُ حلالٌ، والقِياسُ على الأكْثَرِ أوْلَى أنْ يُقَاسَ عليه مِن الأقَلِّ. وكذلك إنْ حَرَّمَ جُمْلَةً وأحَلَّ بعضَها، وكذلك إنْ فَرضَ شيْئاً وخصَّ رسولُ الله التَّخْفيفَ في بعضه. وأمَّا القِياسُ فإنَّما أخَذْناه استدلالاً بالكتاب والسنة والآثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وأمَّا أنْ نُخالِفَ حَديثا عن رسول الله ثابِتًا عنه: فأرْجُو أنْ لا يُؤْخَذَ ذلك علينا إن شاء اللهُ. وليس ذلك لأحد، ولكن قدْ يَجْهَلُ الرجُلُ السنةَ فيكونُ له قوْلٌ يُخالِفُهَا، لا أنَّهُ عَمَدَ خِلافَها، وَقَدْ يَغْفُلُ المرْءُ ويُخْطِئ في التَّأْوِيلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 قال: فقال لي قائلٌ: فَمَثِّلْ لِي كُلَّ صِنْفٍ مِمَّا وصفْتَ مِثالاً، تَجْمَعُ لي فيه الإتْيانَ على ما سَألْتُ عَنْهُ، بأمْرٍ لا تُكْثِرُ علَيَّ فأنْساهُ، وابدأ بالناسِخ والمَنْسوخ مِن سُنَنِ النبي، واذكر منها [ص: 220] شيئاً مِمَّا معه القُرَآن، وإنْ كَرَّرْتَ بعْضَ ما ذَكَرْتَ. فقلتُ له: كان أوَّلُ ما فَرَضَ اللهُ على رسوله في القِبْلة أن يَسْتقبِل بيْتَ المَقْدِس للصَّلاة، فكان بَيْتُ المَقْدِس القِبْلَةَ التي لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يُصَلِّيَ إلا إليها. في الوقْتِ الذي اسْتَقبَلَها فيه رسولُ الله، فَلَمَّا نَسَخَ اللهُ قِبلةَ بيْتِ المقدس ووَجَّهَ رسولَه والناسَ إلى الكَعْبَةِ: كانت الكعبةُ القِبلةَ التي لا يحلُّ لمُسْلم أنْ يسْتَقْبِلَ المكتوبَة في غيْرِ حالٍ مِن الخوْفِ، غيْرَها، ولا يحل أن يستقبل بيتَ المقدِس أبداً. وكلٌّ كان حَقًّا في وَقْتِه، بيتُ المقدس مِن حينِ اسْتَقْبَلَهُ النبيُّ إلى أنْ حُوِّلَ عنه: الحَقُّ في القِبْلَة، ثم البيتُ الحَرامُ - الحق في القبلة إلى يوْم القيامة. وهكذا كلُّ منسوخ في كتابِ اللهِ وسنَّةِ نَبِيِّه. قال: وهذا - مع إبانته لك الناسخَ والمنسوخ من الكتاب والسنة -: دليلٌ لك على أن النبي إذا سن سنَّةً حوَّلَهُ اللهُ [ص: 221] عنْها إلى غَيْرِها، سنَّ أخرى يَصِيرُ إليها الناسُ بعْدَ التي حُوِّلَ عنها، لِئَلاَّ يذْهَبَ على عامَّتِهِم الناسِخُ فَيَثْبُتُونَ على المَنْسوخِ. ولئلا يُشَبَّهَ على أحَدٍ بأن رسولَ اللهِ يَسُنُّ فيكون في الكتاب شيء يَرَى مَنْ جَهِلَ اللِّسَانَ أو العِلْمَ بموقع السنة مع الكتاب أو إبانَتِها مَعانِيه: أنَّ الكتاب يَنْسَخُ السُّنَّةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فقال: أفَيُمْكِنُ أنْ تخالفَ السنَّةُ في هذا الكتاب؟ قلت: لا، وذلك: لأنَّ اللهَ - جلَّ ثَنَاؤُه - أقام على خَلْقِهِ الحُجَّةَ من وجْهَيْن، أصْلُهُما في الكتاب: كتابُه، ثم سنةُ نبيه، بفرْضِه في كِتَابِه اتِّبَاعَهَا. فلا يجوزُ أنْ يَسُنَّ رسولُ الله سنَّةً لازِمَةً فَتُنْسَخَ فلا يَسُنَّ ما نَسَخَها، وإنما يُعْرَفُ الناسِخُ بالآخِرِ مِن الأمْرَيْن، [ص: 222] وأكثَرُ الناسخ في كتاب الله إنما عُرِفَ بِدِلالة سُنَنِ رسولِ الله. فإذا كانت السنة تدلُّ على ناسِخِ القُرَآن، وتُفَرِّقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ منسوخِهِ: لم يَكُنْ أن تُنْسَخَ السنَّةُ بِقُرَآن إلا أحْدَثَ رسولُ الله مَعَ القُرَآن سنَّةً تَنْسَخُ سنَّتَهُ الأُولَى، لِتَذْهَبَ الشُّبْهةُ عَنْ مَن أقامَ اللهُ عليه الحُجَّةَ مِن خَلْقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 قال: أفَرَأَيْتَ لَوْ قال قائل: حَيْثُ وَجَدْتُ القُرَآن ظاهِراً عامًّا، ووَجَدْتُ سنةً تحْتَمِلُ أنْ تُبَيِّنَ عَن القُرَآن، وتحتمل أن تكون بخلاف ظاهره، عَلِمْتُ أنَّ السنةَ منسوخَةٌ بالقُرَآن؟ فقلتُ له: لا يقولُ هذا عالِمٌ. قال: وَلِمَ؟ قلت: إذا كان الله فَرَضَ على نبيه اتِّباعَ ما أُنْزِل إليه، وشَهِدَ له بالهُدَى، وفرض على الناس طاعَتَه، وكان اللِّسانُ - كما وصفْتُ قبل هذا - مُحْتَمِلاً للمعاني، وأن يكون كتابُ الله يَنْزِلُ عامًّا يُرَادُ به الخاصَّ، وخاصاً يراد به العام، وفرْضًا جُمْلَةً بَيَّنَه رسولُ الله، [ص: 223] فقامت السنةُ مع كتاب الله هذا المقامَ: لم تكن السنةُ لِتُخَالِفَ كتابَ الله، ولا تكونُ السنةُ إلا تَبعًا لِكتاب اللهِ، بِمِثْلِ تَنْزِيلِه، أو مُبَيِّنَةً معنى ما أرادَ اللهُ، فهي بكل حالٍ مُتَّبِعَةٌ كتابَ اللهِ. قال: أفَتُوجِدُنِي الحُجَّةَ بما قلتَ في القُرَآن؟ فذكَرْتُ له بعضَ ما وصفتُ في كتاب: (السنَّةُ مع القُرَآن) (1) ، مِن أنَّ الله فَرَضَ الصلاةَ والزكاة والحجَّ، فَبَيَّنَ رسولُ اللهِ كيفَ الصلاةُ، وعَدَدَها، ومواقيتَها، وسُنَنَها، وفي كَمْ الزكاةُ مِن المال وما يَسْقُطُ عنه مِن المالِ ويَثْبُتُ عليه، ووقتَها، وكيف عَمَلُ الحجِّ، وما يُجْتَنَبُ فيه ويُبَاحُ. قال: وذكرتُ له قولَ الله: " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (38) " [المائدة] ، و" الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) " [النور] ، وأنَّ رسولَ الله لَمَّا سَنَّ القطْعَ على مَنْ بَلَغَتْ سَرِقَتُهُ [ص: 224] ربع دينار فصاعِداً، والجَلْدَ على الحُرَّيْنِ البِكْرَيْنِ دون الثَّيِّبَيْنِ الحريْن والمملوكيْنِ: دلَّتْ سنةُ رسولِ الله على أنَّ الله أراد بها الخاصَّ من الزُّناة والسُّرَّاق، وإن كان مَخْرَجُ الكلام عاماً في الظاهر على السراق والزناة. قال: فهذا عنْدِي كما وصفْتَ، أفَتَجِدُ حُجَّةً على مَنْ رَوَى أنَّ النبي قال: " مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوُه عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَمَا وَافَقَهُ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَمَا خَالَفَهُ فَلَمْ أَقُلْهُ " (2) . [ص: 225] فقلْتُ له: ما رَوَى هذا أحدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ في شيء صَغُرَ وَلَا كَبُرَ، فيُقالَ لنا: قدْ ثَبَّتُّمْ حَدِيثَ مَنْ رَوَى هَذا في شَيْءٍ. وهذه أيضاً رِوايةٌ مُنْقَطِعة عَن رَجُلٍ مَجْهولٍ، ونحن لا نَقْبَلُ مِثْلَ هذه الرِّوايَةِ في شيْءٍ.   (1) لا أعرف له كتاباً بهذا الاسم ولعله يريد ما ذكر على الجملة من أحوال السنة مع القرآن من هذا الكتاب والله أعلم. (2) في "كشف الخفاء" لِلْعَجْلُونِيِّ: هذا حديث مِن أوْضَعِ المَوْضُوعَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قال: فَهَلْ عَن النبي رِوايةٌ بما قُلْتُم؟ فقلتُ له: نعم. أخبرنا "سفيان" قال: أخبرني "سالمٌ أبو النَّضْر" أنَّه سمِع [ص: 226] "عُبَيْد الله بن أبي رافِعٍ" يُحَدِّثُ عن أبيه: أنَّ النبيَّ قال: " لاَأُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولَ: لاَ أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ " (1) . قال "الشافعي": فَقَدْ ضَيَّقَ رسولُ الله على الناسِ أنْ يرُدُّوا أمْرَهُ، بِفَرْضِ اللهِ عليهم اتِّباعَ أَمْرِهِ.   (1) الترمذي: كتاب العلم/2587؛ أبو داود: كتاب السنة/3989؛ ابن ماجه: المقدمة/13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قال: فَأَبِنْ ليِ جُمَلًا أجْمَعَ لك أهلُ العِلم، أو أكثَرُهم عليه مِن سنَّةٍ مع كتاب الله، يَحْتمل أنْ تكون السنةُ مع الكتابِ دَليلاً على أنَّ الكتابَ خاصٌّ وإنْ كانَ ظاهِرُه عامًّا. فقُلْتُ له: نَعَمْ، ما سمِعْتَني حَكَيْتُ في كتابي. قال: فَأَعِدْ منه شيئاً. قلتُ: قال الله: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [ص: 227] وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (24) " [النساء] . قال: وذَكَرَ اللهُ مَنْ حَرَّمَ، ثم قال: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ "، فقال رسولُ الله: " لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلاَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا " (1) ، فلمْ أَعْلَمْ مُخالِفًا في اتِّباعِه. [ص: 228] فكانَتْ فيه دِلالَتَانِ: دِلالَةٌ عَلَى أنَّ سنةَ رسول الله لا تكون مُخالفةً لِكتاب اللهِ بِحَالٍ، ولكنَّها مُبَيِّنَةٌ عامَّهُ وخاصَّهُ. ودِلالةٌ على أنهم قَبِلوا فيه خَبَرَ الواحِدِ، فلا نَعْلَمُ أحَداً رَواهُ مِن وَجْهٍ يَصِحُّ عَن النبي إلاَّ "أبا هُرَيْرَة".   (1) البخاري: كتاب النكاح/4718؛ مسلم: كتاب النكاح/2514؛ الترمذي: كتاب النكاح/1045؛ النسائي: كتاب النكاح/3236؛ أبو داود: كتاب النكاح/1769؛ مالك: كتاب النكاح/977. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 قال: أفيحتمل أن يكونَ هذا الحديثُ عِنْدَك خِلَافًا لشيْءٍ مِن ظاهِرِ الكتاب؟ فقلتُ: لا، ولا غَيْرُهُ. قال: فما مَعْنى قول الله: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ "، فقد ذَكَرَ التحريمَ وقال: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ "؟ [ص: 229] قلتُ: ذكَرَ تحريمَ مَنْ هو حَرامٌ بِكلِّ حالٍ، مثل: الأُمِّ والبِنْت والأخْت والعَمَّة وبَنَاتِ الأخ وبنات الأخْت، وذكَرَ مَنْ حَرَّمَ بكل حال من النَّسَب والرَّضاعِ، وذكر مَن حَرَّم مِن الجَمْعِ بَيْنَهُ وكان أصْلُ كلِّ واحدٍ منهما مُباحًا على الانْفِرادِ، قال: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ "، يعني: بالحال التي أحلَّها بِه. ألاَ تَرَى أنَّ قوله: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ " بمعنى: ما أحَلَّ به، لا أنَّ واحِدَةً مِن النَّساءِ حَلالٌ بِغيرِ نِكاحٍ يَصِحُّ، ولا أنه يجوز نِكاحُ خامِسَةٍ على أرْبعٍ، ولا جَمْعٌ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، ولا غيرُ ذلِك مِمَّا نَهَى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فذكرتُ له فرْض اللهِ في الوُضوء، ومَسْحَ النبي على الخُفَّيْنِ، وما صارَ إليه أكثرُ أهْلِ العِلم مِن قَبُول المَسْحِ. فقال: أفيُخالِفُ المسْحُ شيئا مِن القُرَآن؟ قلت: لا تخالفه سنةٌ بحالٍ. قال: فما وَجْهُهُ؟ قلت: لَمَّا قال: " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (6) " [المائدة] ، دلَّت السنةُ على أنَّ مَن كان على طَهارَةٍ ما لمَْ يُحْدِثْ فقامَ إلى الصلاةِ لم يكنْ عليه هذا الفَرْضُ، فكذلك دلت على أن فَرْضَ غَسْل القَدَمَيْنِ إنما هو على المُتَوَضِّئ لا خُفَّيْ عليه لَبِسَهُمَا كاملَ الطهارةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وذكرتُ له تحريمَ النبيِّ كلَّ ذِي نابٍ مِن السِّباعِ، وقدْ قال الله: " قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) " [الأنعام] ، ثم سَمَّى ما حَرَّمَ. فقال: فما معنى هذا؟ قلنا: معناه: قل لا أجد فيما يوُحَى إلَيَّ مُحَرَّمًا مما كنتم تأكلون إلا أن يكون مَيْتَةً وما ذُكِر بعدها، فأما ما تَرَكْتم أنكم لم تَعُدُّوه مِن الطَّيِّبات فلم يُحَرِّم عليكم مما كنتم تستحلون إلا ما سَمَّى اللهُ، ودلت السنةُ على أنه حرَّم عليكم منه ما كنتم تُحَرِّمون، لِقول الله: " وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ (157) " [الأعراف] . [ص: 232] قال: وذكرتُ له قولَ الله: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) " [البقرة] ، وقولَه: " لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (29) " [النساء] ، ثم حَرَّم رسولُ الله بيوعاً، منها الدنانيرُ بالدَّراهم إلى أجلٍ، وغيرُها: فحرَّمَها المُسْلِمون بتحريم رسولِ اللهِ، فليس هذا ولا غيره خلافاً لكتاب الله. قال: فَحُدَّ لي معنى هذا بأجْمَعَ منه وأخْصَرَ. فقلتُ له: لَمَّا كان في كتاب الله دِلالة على أنَّ الله قد وضَعَ رسولَه مَوْضع الإبانَةِ عنه، وفَرَض على خَلْقِه اتِّباعَ أمره، فقال: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) " [البقرة] ، فإنما يعْني: أحَلَّ اللهُ البيْعَ إذا كان على غير ما نهى الله عنه في كتابه أو على لسان نبيه، وكذلك قوله: " وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ (24) [النساء] ، بما أحَلَّه اللهُ به [ص: 233] مِن النكاح ومِلْك اليمين في كتابه، لا أنه أباحَهُ بكلِّ وجهٍ، وهذا كلام عربي. وقلت له: لوْ جازَ أنْ تُتْرَكُ سنةٌ مما ذهب إليه من جَهِلَ مكانَ السنَنِ مِن الكتاب، تُرك ما وصفْنا مِن المسح على الخُفَّيْنِ، وإباحَةُ كلِّ ما لَزِمه اسمُ بيْعٍ، وإحلالُ أنْ يُجْمَعَ بين المرْأَةِ وعَمَّتها وخالتها، وإباحةُ كلِّ ذي نابٍ مِن السِّباع، وغيرُ ذلك. ولَجاز أن يقال: سنَّ النبيُّ ألاَّ يُقْطَعَ مَن لمْ تبلغ سرِقَتُه ربعَ دينارٍ قبْلَ التَّنْزيلِ، ثم نَزَل عليه: " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (38) " [المائدة] ، فمن لزِمه اسمُ سَرِقةٍ قُطِعَ. ولجاز أن يقال: إنما سن النبي الرجمَ على الثَّيِّب حتى نزلتْ عليه: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ [ص: 234] جَلْدَةٍ (2) " [النور] ، فيُجْلَد البِكرُ والثيبُ، ولا نرْجُمُهُ. وأن يقال في البيوع التي حرَّم رسولُ الله: إنما حرَّمَها قبْل التنزيل، فلما أُنْزِلتْ: " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) [البقرة] ، كانت حَلالاً. والرِّبا: أن يكونَ للرَّجُل على الرجلِ الدَّيْنُ فَيَحِلُّ فيقولُ: أَتَقْضِي أمْ تَرْبِي؟ فيُؤَخِّرُ عنه ويزيده في ماله. وأشباهٌ لهذا كثيرةٌ. فمن قال هذا كان مُعَطِّلاً لِعَامَّة سنَنِ رسولِ الله، وهذا القولُ جَهْلٌ مِمَّنْ قاله. قال: أجَلْ. وسنةُ رسولِ الله كما وصفْتُ، ومَنْ خالفَ ما قلْتُ فيها فقد جمَعَ الجْهَل بالسنة والخَطَأَ في الكلام فيما يَجْهَلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 قال: فاذْكُرْ سنةً نُسِختْ بسنةٍ سِوى هذا. [ص: 235] فقلتُ له: السننُ الناسِخَةُ والمنسوخةُ مُفَرَّقَةٌ في مَواضِعِها، وإنْ رُدِّدَتْ طالَتْ. قال: فيكفي منها بعضُها، فاذْكره مُخْتَصَرًا بَيِنًا. فقلتُ: أخبرنا "مالك" عن " عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْمٍ" عن "عبد الله بن واقِدٍ" عن "عبد الله بن عُمر"، قال: " نَهَى رَسُوُل اللهِ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ "، قال "عبد الله بن أبي بكر": فَذَكَرْتُ ذَلِكَ "لِعَمْرَةَ"، فَقَالَتْ: صَدَقَ، سَمِعْتُ "عَائِشَةَ" تقول: " دَفَّ (1) نَاسٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ حَضْرَةَ الأَضْحَى فِي زَمَانِ النَّبِيِّ، فَقَاَل النَّبِيُّ: ادَّخِرُوا لِثَلاَثٍ وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ. قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِضَحَايَاهُمْ، يُجْمِلُونَ [ص: 236] مِنْهَا الوَدَكَ (2) وَيَتَّخِذُونَ الأَسْقِيَةَ، فَقَالَ رسولُ اللهِ: ومَا ذَاكَ، - أوْ كَمَا قَالَ -، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَهَيْتَ عَنْ إمْسَاكِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ حَضْرَةَ الأَضْحَى، فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وادّخِرُوا " (3) . وأخبرنا "ابن عُيَيْنَة" عن "الزهري" عن "أبي عُبَيْد" مولى "ابن أزْهَرَ"، قال: شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ "علي بن أبي طالب" فسَمِعتُهُ يقول: لاَ يَأْكُلَنَّ أحَدُكُمْ مِنْ لَحْمِ نُسُكِهِ بَعْدَ ثَلاَثٍ. أخْبَرَنا الثِّقة عن "مِعْمَرٍ" عن "الزهري" عن "أبي عبيد" [ص: 237] عن "علي" أنه قال: قال رسول الله: " لاَ يَأْكُلَنَّ أحَدُكُمْ مِنْ لَحْمِ نُسُكِهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ " (4) . أخبرنا "ابن عيينة" عن "إبراهيم بن مَيْسَرَةَ" قال: سمعت "أنس بن مالك" يقول: إنَّا لَنَذْبَحُ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ ضَحَايَانَا، ثُمَّ نَتَزَوَّدُ بَقِيَّتَهَا إلىَ البَصْرَةِ. قال "الشافعي": فهذه الأحاديث تَجْمع معانِيَ، منها: [ص: 238] أنَّ حديث "علي" عن النبي في النهي عَنْ إمْساك لُحُوم الضَّحايا بعْد ثلاثٍ، وحديث "عبد الله بن واقِدٍ"، مُوتَفِقَانِ عن النبي. وفيها دِلالة على أنَّ "عَلِيَّاً" سمع النهيَ مِن النبي، وأنَّ النهيَ بَلَغَ "عبدَ الله بن واقد". ودلالةٌ على أن الرُّخْصَةَ مِن النبي لم تبلُغْ "علياً" ولا "عبدَ الله بن واقد"، ولو بَلَغَتْهمَا الرُّخْصَةُ، مَا حَدَّثاَ بالنهي، والنَّهْيُ منسوخ، وتَرَكا الرخصةَ، والرخصةُ ناسخة، والنهي منسوخ لا يَسْتَغْنِي سامِعُه عَنْ علم ما نَسَخَهُ. وقولُ "أنس بن مالك": كنا نَهْبِطُ بِلحوم الضحايا البَصْرَةَ، يَحْتَملُ أنْ يكونَ "أنس" سَمِعَ الرخصةَ ولم يسمَعْ النهيَ قَبْلَهَا، فَتَزَود بالرخصة ولم يسمع نهياً أو سمع الرخصةَ والنهيَ، فكان النهيُ منسوخاً، فلم يذكرْهُ. فقال كلُّ واحِدٍ من المُخْتَلِفَينَ بما عَلِمَ. وهكذا يجب على مَنْ سَمِعَ شيئاً مِن رسول الله، أو ثَبَتَ له عنه: أنْ يقولَ بما سَمِعَ، حتى يعلَمَ غيرَه.   (1) دَفَّ: (دَفَّت) الجماعةُ (تَدِفُّ) مِن باب: ضرب، (دَفِيفًا) : سارتْ سيراً لَيِّنًا، فهي (دَافَّةٌ) [المصباح المنير - الفَيُّومي] . (2) الوَدَكُ: الدَّسَمُ [القاموس المحيط - فيروز آبادي] . (3) مسلم: كتاب الأضاحي/3643؛ أبو داود: الضحايا/2429؛ مالك: كتاب الضحايا/918. (4) مسلم: كتاب الأضاحي/3639؛ النسائي: كتاب الضحايا/4347؛ أحمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة/1131؛ مسند الشافعي/470. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 قال "الشافعي": فلما حَدَّثَتْ عائشةُ عَن النبي بالنهي عَنْ إمْساك لُحوم الضحايا بعد ثلاثٍ، ثم بالرخصة فيها بعد النهي، وأنَّ رسولَ الله أخْبَرَ أنَّه نهى عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث للدَّافَّة: كان الحديث التَّام المحفوظ أوَّلُه وآخِرُه وسَبَبُ التحريم والإحلال فيه: حديثُ عائشة عن النبي، وكان على مَنْ عَلِمَهُ أنْ يصيرَ إليه. وحديثُ عائشة مِنْ أبْيَنِ ما يوجَدُ في الناسخ والمنسوخ مِن السُّنَنِ. وهذا يَدل على أنَّ بعض الحديث يُخَصُّ، فيُحْفظ بعضُه دون بعض، فيُحفظ منه شيء كان أوَّلاً ولا يُحفظ آخِرًا، ويُحْفظ أخِراً ولا يُحفظ أوَّلاً، فيُؤَدِّي كلٌّ ما حَفِظَ. فالرخصةُ بعْدَها في الإمساك والأكْل والصدقة مِن لحوم الضحايا إنما هي لواحدٍ من مَعْنَيَيْنِ، لِاخْتِلَاف الحالَيْن: فإذا دَفَّت الدَّافَّةُ ثَبَتَ النهيُ عَن إمْساك لحوم الضحايا بعد ثلاثٍ، وإذا لم تَدِفَّ دافَّة فالرخصةُ ثابِتة بالأكْل والتَّزَوُّدِ والادِّخارِ والصَّدَقَةِ. [ص: 240] ويُحتمل أنْ يكونَ النهي عَن إمْساك لحوم الضَّحايا بَعْد ثلاث منسوخاً في كلِّ حالٍ، فيُمْسك الإنسان مِن ضحيَّتِه ما شاء، ويتَصَدَّق بما شَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وجهٌ آخَرُ مِن الناسخ والمنسوخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أخبرنا "محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيْكٍ" عن "ابن أبي ذِئْبٍ" عن "المَقْبُرِيِّ" عن "عبد الرحمن بن أبي سعيد" عن "أبي سعيد [ص: 243] الخُدْرِي"، قال: " حُبِسْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ المَغْرِبِ بِهَوِىٍ مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ: " وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) " [الأحزاب] ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ بِلاَلاً، فَأَمَرَهُ فَأَقامَ الظُّهْرَ، فَصَلَّاهَا فَأَحْسَنَ صَلاَتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ العَصْرَ فَصَلاَّهاَ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقاَمَ المَغْرِبَ فَصَلاَّهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أقَامَ العِشَاءَ، فَصَلاَّهَا كَذَلِكَ أيْضًا، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أنْ أَنْزَلَ اللهُ فِي صَلاَةِ الخَوْفِ: " فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا (239) " [البقرة] " (1) . "الشافعي": فَلمَّا حَكَى "أبو سعيد" أنَّ صَلاة النبي عامَ الخنْدَق كانت قَبْل أنْ يُنْزَلَ في صلاة الخوف: " فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا (239) " [البقرة] ، استدللنا على أنه لم يصل صلاة الخوف إلا بعدها، إذْ حضرها "أبو سعيد"، وحكى تأخيرَ الصَّلَوات حتى خَرَجَ مِن وَقْت عامَّتها، وحكى أنَّ ذلك قبْل نُزُول صلاةِ الخوْفِ. [ص: 244] قال: فلا تُؤَخَّر صلاةُ الخوف بحالٍ أبداً عَن الوقت إن كانتْ فِي حَضَرٍ، أو عن وقت الجَمْعِ في السَّفَرِ، بخوفٍ ولا غيره، ولكن تُصَلَّى كما صَلَّى رسولُ الله. والذي أخَذْنا به في صلاة الخوف أنَّ "مالكاً" أخبرنا عن "يزيد بن رُومان" عن "صالح بن خَوَّاتٍ" عَن مَن صَلَّى مَعَ رسولِ الله صلاة الخوف يوم ذات الرِّقاع: " أنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وُجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بالذين مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قاَئِمًا وأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا وُجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَت الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ الرَكعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاِتِه، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ " (2) . قال: أخبرنا مَنْ سمع عبدَ الله بن عمر بن حفص" يُخْبِر عن أخيه "عبيد الله بن عمر" عن "القاسم بن محمد" عن "صالح بن خوات بن جبير" عن أبيه عن النبي مِثْلَهُ. [ص: 245] قال: وقَدْ رُوِىَ أنَّ النبي صَلَّى صَلاة الخوف على غَيْرِ ما حَكَى "مالك". وإنما أخذْنَا بهذا دونَه لأنه كان أشْبَهَ بالقُرَآن، وأقوى في مكايدة العدوِّ. وقد كتبنا هذا بالاختلاف فيه، وتَبَيُّنِ الحجَّة في {كتاب الصلاة} ، وتركْنا ذكْرَ مَنْ خالَفَنا فيه وفي غيره من الأحاديث، لِأنَّ ما خُولِفْنَا فيه منها مُفْتَرِقٌ في كتبه.   (1) أحمد: باقي مسند المكثرين/10769؛ الدارمي: كتاب الصلاة/1483؛ مسند الشافعي: 553. (2) البخاري: كتاب المغازي/3817؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1390؛ النسائي: كتاب صلاة الخوف/1519؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1049؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وجه آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 قال الله - تبارك وتعالى: " وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا (16) " [النساء] . فكان حدُّ الزانيين بهذه الآية الحبْسَ والأذى، حتى أنزلَ اللهُ على رسوله حَدَّ الزنا، فقال: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) " [النور] ، وقال في الإماء: " فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ (25) " [النساء] ، فَنُسِخ الحبس عَن الزُّناة، وثَبَتَ عليهم الحُدُودُ. ودلَّ قولُ الله في الإماء: " فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ (25) " [النساء] : على فَرْقِ اللهِ بَيْنَ حدِّ المَماليك والأحْرار في الزِّنا، وعلى أنَّ النصفَ لا يكونُ إلاَّ مِنْ جلْد، لأن الجلْدَ بِعَدَدٍ، ولا يكون مِن رَجْمٍ، لأن الرَّجمَ إتْيانٌ على النِّفْس بلا عدد، لأنه قد يُؤْتىَ عليها بِرَجْمَةٍ واحِدة، وبألفٍ وأكثرَ، فلا نِصْف [ص: 247] لمِا لا يُعْلَمُ بعدد، ولا نصف للنفس فيؤتى بالرجم على نِصْف النفس. واحتمل قولُ الله في سورة النور: " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) "، أن يكونَ على جميع الزُّناةِ الأحْرار، وعلى بَعْضِهِم دُون بعض، فاسْتَدللنا بسنة رسولِ الله - بِأَبي هو وأُمِّي - على مَنْ أُريدَ باِلمائة جَلدةٍ. أخبرنا "عبد الوهاب" عن "يونس بن عُبَيْدٍ" عن " الحسن" عن "عُبادَة بن الصَّامِت" أنَّ رسولَ الله قال: " خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً: البِكْرُ بِاْلبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَِّّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " (1) . قال: فدلَّ قولُ رسولِ الله: " قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً "، على أنَّ هذا أولُ ما حُدَّ به الزُّناةُ، لأنَّ اللهَ يقول: " حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) " [النساء] . [ص: 248] ثم رَجَمَ رسولُ الله "ماعِزاً" ولم يَجْلِده، وامْرَأة "الأسْلَمي" ولم يجْلدها، فدلتْ سنة سول الله على أن الجلد منسوخ عن الزانيين الثيبين. قال: ولم يكن بين الأحرار في الزنا فَرْق إلا بالإحصان بالنكاح وخلافِ الإحصان به. وإذ كان قولُ النبي: " قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ "، ففي هذا دِلالة على أنَّه أوَّل ما نُسِخَ الحبْسُ عَن الزانيين، وحُدَّا بعد الحبس، وأنَّ كلَّ حَدٍّ حَدَّهُ الزانيين فلا يكون إلا بعد هذا، إذْ كان هذا أوَّلَ حَدِّ الزانيين. أخبرنا "مالك" عن "ابن شهاب" عن "عُبَيْد الله [ص: 249] بن عبد الله" عن "أبي هُرَيْرَةَ" و"زيد بن خالد" أنهما أخْبَرَاهُ: " أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللهِ! اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ؟ وَقَالَ الآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا -: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَائْذِنْ لِي فِي أنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: تَكَلَّمْ، قَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا (2) عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأُخْبِرْتُ أنَّ عَلَى اِبْنِي الرَّجْمُ، (3) فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وإنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ [ص: 250] بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، أمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ إِلَيْكَ. وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ "أَنِيسً (4) الأَسْلَمِيَّ" أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا " (5) . أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر": " أَنَّ النَّبِيَّ رَجَمَ يَهُودِيَيْنِ زَنَيَا " (6) . قال: فثبت جلدُ مائة والنفيُ على البِكْرين الزانيين، والرجمُ على الثيبين الزانيين. وإنْ كانَا ممن أُرِيدا بالجلد فقد نُسِخ عنهما الجلد مع الرجم، وإنْ لم يكونا أريدا بالجلد وأريد به البِكْران: فهُما مخالفان لِلثَّيِّبَيْنِ. [ص: 251] ورَجْمُ الثيبين بَعْد آية الجلد، بما رَوَى رسولُ الله عن الله، وهذا أشْبَهُ مَعانِيه وأوْلاَها به عندنا، واللهُ أعْلَمُ.   (1) مسلم: كتاب الحدود/1690؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2540؛ أحمد: مسند المكثرين/15345؛ مسند الشافعي: 252. (2) العسيف: الأجير. (3) هكذا ضُبطت بالرفع ولها وجهٌ فيكون الاسم ضمير الشأن. (4) رسمها هكذا جائز وقدمنا شرحه. (5) البخاري: كتاب الحدود/6337؛ النسائي: كتاب آداب القضاة/5315؛ مالك: كتاب الحدود/1293، قال مالك: العسيف: الأجير. (6) البخاري: كتاب الحدود/6330؛ مسلم: كتاب الحدود/3211؛ الترمذي: كتاب الحدود/1356؛ ابن ماجه: كتاب الحدود/2546. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وجه آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 أخبرنا "مالك" عن "ابن شهاب" عن "أنس بن مالك": " أنَّ النَّبِيَّ رَكِبَ فَرَسًا، فَصُرِعَ عَنْهُ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ (1) ، فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَصَلَّيْنَا وَرَاءَه قُعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قال: إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، [ص: 252] فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ " (2) . أخبرنا "مالك" عن "هشام بن عُرْوة" عن أبيه، عن "عائشة"، أنها قالتْ: " صَلَّى رَسُولُ اللهِ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَه قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ: أنْ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا " (3) . قال: وهذا مثل حديث "أنس"، وإنْ كان حديث "أنس" مُفَسَّرًا وأوْضَحَ مِن تَفْسيرِ هذا. أخبرنا "مالك" عن "هشام بن عروة" عن أبيه: " أنَّ رَسُولَ اللهِ خَرَجَ فِي مَرَضِهِ، فَأَتَى "أبَا بكر" وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَاسْتَأْخَرَ "أبو بكر"، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ، [ص: 253] فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ إِلَى جَنْبِ "أبي بكر"، فَكَانَ "أبو بكر" يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ، وَكَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ "أبي بكر" " (4) . وبه يأخذ "الشافعي". قال: وذَكَرَ "إبراهيم النَّخَعِيُّ" عن "الأسود بن يزيد" عن "عائشة" عن رسول الله "وأبي بكر" مِثْل معنى حديث عروة: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى قَاعِدًا، و"أَبُو بَكْرٍ" قَائِمًا،، يُصَلِّي بِصَلاَةِ النَّبِيِّ، وَهُمْ وَرَاءَه قِيَامًا " (5) . [ص: 254] قال: فلما كانتْ صلاة النبي في مرضه الذي مات فيه، قاعِداً والناس خلفه قياماً، استدللنا على أنَّ أمرَه الناسَ بِالجُلوس في سَقْطَته عن الفرس: قبل مرضه الذي مات فيه، فكانت صلاته في مرضه الذي مات فيه، قاعداً والناس خلفه قياماً: ناسخةً، لأنْ يجلسَ الناس بجلوس الإمام. وكان في ذلك دليلٌ بما جاءت به السنة وأجمع عليه [ص: 255] الناس، مِن أن الصلاة قائماً إذا أطاقها المُصَلِّي، وقاعداً إذا لم يُطق، وأنْ ليس للمطيق القيامَ مُنفرداً أنْ يُصَلِّيَ قاعداً. فكانت سنةُ النبي أنْ صلَّى في مَرَضه قاعداً ومَنْ خلْفه قِياماً، مع أنها ناسخة لِسنته الأُولَى قبْلها: مُوافِقةً سنتَه في الصحيح والمريض، وإجماعَ الناس أنْ يُصلي كلُّ واحد مِنهما فرْضَه، كما يُصلي المريضُ خلْفَ الإمام الصحيح قاعدا والإمام قائماً. وهكذا نقول: يصلي الإمامُ جالِساً ومَنْ خلْفه مِن الأصِحَّاء قِياماً، فيُصَلي كلُّ واحِد فرْضَه، ولوْ وَكَّلَ غَيْرَه كان حَسَنًا.   (1) أي: انْخَدَشَ جِلْده [النهاية - ابن الأثير] . (2) البخاري: كتاب الأذان/648؛ مسلم: كتاب الصلاة/622؛ النسائي: كتاب الإمامة/823؛ أبو داود: كتاب الصلاة/509؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1228؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/280. (3) البخاري: كتاب الأذان/647؛ أحمد: مسند الأنصار/23994. (4) البخاري: كتاب الأذان/642؛ مسلم: كتاب الصلاة/635؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1223؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وقد أوْهَمَ بعضُ الناس، فقال: لا يَؤُمَّنَّ أحَدٌ بعد النبي جالساً، واحتجَّ بحديثٍ رواه مُنْقَطِعٍ عن رجل مَرْغوب [ص: 256] الرِّواية عنه، لا يَثْبُتُ بمثله حجة على أحدٍ، فيه: " لاَ يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا " (1) .   (1) البيهقي: كتاب الصلاة/باب ما روي في النهي عن الإمامة جالسا، ج 3/ص 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قال: ولهذا أشباهٌ في السنة مِن الناسخ والمنسوخ. وفي هذا دلالة على ما كان في مثل معناها، إنْ شاء الله. وكذلك له أشباهٌ في كتاب الله، قد وصفنا بعضها [ص: 259] في كتابنا هذا، وما بقي مُفَرَّق في أحكام القُرَآن والسنة في مواضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 قال: فقال: فاذكر من الأحاديث المُخْتلِفة التي لا دِلالة فيها على ناسخ ولا منسوخ، والحجة فيما ذهبْتَ إليه منها دون ما تركتَ. فقلت له: قد ذكرتُ قبل هذا (1) : أنَّ رسولَ الله صَلَّى صَلَاة الخوف يوم ذات الرِّقاع، فَصَفَّ بِطائفة، وطائفةٌ في غير صلاة بِإزَاءِ العدُوِّ، فصلى بالذين معه ركعة، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فوقفوا بإزاء العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقِيَتْ، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم، ثم سَلَّمَ بهم. قال: وروى "ابن عمر" عن النبي: أنَّهُ صَلَّى [ص: 260] صَلاَةَ الخَوْفِ خِلاَفَ هَذِهِ الصَّلاَةِ فِي بَعْضِ أمْرِهَا، فَقَالَ: صَلَّى رَكْعَةً بِطَائِفَةٍ، وَطَائِفَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي وَرَاءَه، فَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ مَعَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ الرّكعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ، وَسَلَّمَ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَقَضَوْا مَعًا. قال: وروى "أبو عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ": " أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى يَوْمَ عُسْفَانَ و"خالدُ بن الوليد" بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ، فَصَفَّ بِالنَّاسِ مَعَهُ مَعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعُوا مَعًا، ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، [ص: 261] وَحَرَسَتْهُ طَائِفَةٌ، فَلَمَّا قَامَ مِنَ السُّجُودِ سَجَدَ الَّذِينَ حَرَسُوهُ، ثُمَّ قَامُوا فِي صَلاَتِهِ " (2) . وقال "جابِرٌ" قَرِيباً مِنْ هذا المعنى. قال: وقد رُوِيَ ما لا يَثْبُتُ مِثلُه بخلافها كلِّها.   (1) في ص 182. (2) النسائي: كتاب صلاة الخوف/1531؛ أبو داود: كتاب الصلاة/1047. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 فقال لي قائل: وكف صِرْتَ إلى الأخذ بصلاة النبي ذات الرِّقاع دون غيرها؟ فقلت: أمَّا حديث "أبي عَيَّاش" و"جابر" في صلاة الخوف فكذلك أقول، وإذا كان مثْلُ السبب الذي صلى له تلك الصلاةَ. قال: وما هي؟ قلت: كان رسولُ الله في ألفٍ وأربعمائة، وكان "خالد بن الوليد" في مائتين، وكان منه بعيداً في صحراءَ واسعةٍ، لا يُطْمَعُ فيه، لقلةِ مَنْ معه، وكثرة مَنْ مع رسول الله، وكان الأغْلَب منه أنَّه مَأْمون على أن يَحْمِل عليه، ولو حمَل مِن بيْن يديْهِ رآه، وقد حُرِسَ منه في السجود، إذْ كان لا يَغِيبُ عنْ طَرْفِهِ. فإذا كانت الحال بِقِلة العدو وبُعْدِه، وأن لا حائلَ دونه يستره، كما وصفتُ: أمَرْتُ بصلاة الخوف هكذا. [ص: 263] قال: فقال: قد عرفتُ أن الرواية في صلاة ذات الرِّقاع لا تُخالف هذا، لاختلاف الحاليْن، قال: فكيف خالفْتَ حديث "ابن عمر"؟ فقلت له: رواه عن النبي "خوَّات بن جُبَيْر"، وقال "سهل بن أبي حَثْمَة" بِقريب مِن معناه، وحُفِظ عن "علي بن أبي طالب" أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهَرِيرِ كما روى "خوات بن جبير عن النبي، وكان "خواتٌ" مُتَقَدِّمَ الصُّحْبَة والسِّنِّ. فقال: فهل من حجة أكثرُ مِن تقدُّمِ صحبته؟ [ص: 264] فقلت: نعم، ما وصفْتُ: فيه مِن الشَّبَه بمعنى كتاب الله. قال: فأيْنَ يُوافق كتابَ الله؟ قلت: قال الله: " وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ، وَخُذُوا حِذْرَكُمْ (102) " [النساء] . وقال: " فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) " [النساء] ، يعني - والله أعلم -: فأقيموا الصلاة كما كنتم تصلون في غير الخوف. فلما فرَّقَ الله بيْن الصلاة في الخوف وفي الأمْنِ، حِياطَةً لأهل دينه أنْ يَنال منهم عدوُّهم غِرَّة: فتعقَّبْنا حديث "خوات بن جبير" والحديث الذي يخالفه، فوجدنا حديث "خوات بن جبير" [ص: 265] أوْلَى بالحَزْمِ في الحَذَر منه، وأحْرَى أن تَتَكَافَأ الطائفتان فيها. وذلك أنَّ الطائفة التي تصلي مع الإمام أوَّلاً مَحْروسة بطائفة في غير صلاة، والحارس إذا كان في غير صلاة كان مُتَفَرِّغًا مِن فرض الصلاة، قائماً وقاعداً، ومنحرفاً يميناً وشمالاً، وحاملاً إنْ حُمِل عليه، ومتكلِّما إنْ خاف عَجَلَةً مِن عَدُوه، ومُقاتِلاً إنْ أمكنته فرصة، غير محُول بيْنه وبين هذا في الصلاة، ويُخَفِّفُ الإمام بمن معه الصلاةَ إذا خاف حمْلةَ العدُوِّ، بكلام الحارس. قال: وكان الحقُّ للطائفتين مَعًا سَواءً، فكانت الطائفتان في حديث "خوات" سَواءً، تَحْرُس كلُّ واحِدة مِن الطائفتين الأُخْرى، والحارسة خارِجَة مِن الصلاة، فتكون الطائِفَة الأُولَى قد أعْطَتْ الطائفةَ التي حرستْهَا مِثلَ الذي أخذتْ منها، فحَرَسَتْها خَلِيَّةً مِن الصلاة، فكان هذا عدْلًا بيْن الطائفتين. قال: وكان الحديث الذي يخالف حديث "خوات بن جبير"، على خِلاف الحَذَر، تَحْرسُ الطائفةُ الأُولى في ركعةٍ، ثم تنصرف المحروسة قبْلَ تُكْمِلَُ (1) الصلاة، فتَحْرُس، ثم تصلي [ص: 266] الطائفة الثانية محروسةً بطائفة في صلاة، ثم يقْضيان جميعاً، لا حارس لهما، لأنه لم يخرج من الصلاة إلا الإمام، وهو وحْده ولا يُعني شيئاً، فكان هذا خِلاف الحذر والقوَّة في المكيدة. وقد أخبرنا الله أنه فرَّق بين صلاة الخوف وغيرها، نَظَرًا لأهل دينه أنْ لا ينال منهم عدوُّهم غِرَّةً، ولم تأخذ الطائفة الأولى مِن الآخرة مثلَ ما أخذتْ مِنها. ووجدتُ اللهَ ذكَرَ صلاةَ الإمام والطائفتين مَعًا، ولم يَذْكر على الإمام ولا على واحدة من الطائفتين قَضَاءً، فدل ذلك على أن حال الإمام ومَنْ خلْفه، في أنَّهم يخرجون من الصلاة لا قضاءَ عليهم، سواءٌ. [ص: 267] وهكذا حديث "خوات" وخلافُ الحديث الذي يخالفه.   (1) هكذا هي بحذف (أن) وهو شاذ عند البصريين، منقاس عند الكوفيين وأجازه الأخفش بشرط رفع الفعل ولذلك ضبطناه بالوجهين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 قال "الشافعي": فقال: فهل للحديث الذي تركتَ وجهٌ غيرَ ما وصفْتَ؟ قلت: نعم، يحتمل أن يكونَ لَمَّا جازَ أنْ تُصَلَّى صلاةُ الخوف على خِلاف الصلاة في غير الخوف: جاز لهم أن يُصلُّوها كيْفَ ما تيَسَّر لهم، وبقدر حالاتهم وحالات العدو، إذا أكمَلُوا العَدَدَ، فاختلف صلاتُهم، وكلُّها مُجْزِيَةٌ عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وجه آخر من الاختلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قال "الشافعي": قال لي قائل: قد اختُلِفَ في التَّشَهُّدِ، فرَوَى "ابن مسعود" عن النبي: " أنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ [ص: 268] السُّورَةَ مِنَ القُرَآن "، فقال في مُبْتَدَاهُ ثلاث كلماتٍ: " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ "، فَبِأيِّ التشهد أخَذْتَ؟ فقلت: أخبرنا "مالك" عن "ابن شهاب" عن "عروة" عن "عبد الرحمن بن عبدٍ القارِيِّ" أنَّه سمع "عمر بن الخطاب" يقول على المنبر، وهو يُعَلِّمُ الناس التشهُّدَ، يقول: قولوا: " التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ، الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " (1) . قال "الشافعي": فكان هذا الذي عَلَّمَنا مَنْ سبَقَنا بالعلم مِنْ فُقهائنا صِغاراً، ثم سمعناه بإسنادٍ وسمعنا ما خالَفَه، فلم نسمع إسناداً في التشهد، يخالِفه ولا يُوافقه: أثْبَتَ عِندنا منه، وإنْ كان غيرُه ثابِتًا. [ص: 269] فكان الذي نذهب إليه: أنَّ "عمر" لا يُعلِّم الناس على المنبر بيْن ظَهْرَانَيْ أصحاب رسول الله، إلا على ما علَّمَهم النبي. فلَمَّا انتهَى إلينا مِن حديث أصحابنا حديثٌ يُثْبِته عن النبي صِرْنا إليه، وكان أوْلَى بِنا. قال: وما هو؟ قلت: أخبرنا الثقة، وهو "يحي بن حسَّان" عن "الليث بن سعد" عن "أبي الزبير المكي" عن "سعيد بن جبير" و"طاوس" عن "ابن عباس" أنَّه قال: " كَانَ رَسُولُ اللهِ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا القُرَآن، فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، [ص: 270] سَلاَمٌ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، سَلاَمٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ " (2) .   (1) مالك: كتاب النداء للصلاة/189. (2) مسلم: كتاب الصلاة/610؛ الترمذي: كتاب الصلاة/267؛ النسائي: كتاب التطبيق/1161؛ أبو داود: كتاب الصلاة/828. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قال "الشافعي": فقال: فأنَّى تَرَى الروايةَ اختلفَتْ فيه عَن النبي؟ فرَوَى "ابن مسعود" خِلافَ هذا، ورَوَى "أبو موسى" خِلاف هذا، و"جابِرٌ" خلاف هذا، وكلُّها قد يُخالِف بعضُها بعْضاً في شيء مِنْ لفْظِه، ثم علَّمَ "عمر" خلاف هذا كلِّه في بعض لفظه، [ص: 271] وكذلك تشهُّدُ عائشة، وكذلك تشهد "ابن عمر"، ليس فيها شيء إلا في لفظه شيء غيرُ ما في لفْظ صاحبِه، وقد يزيدُ بعضُها الشيءَ على بَعْضٍ. فقلت له: الأمرُ في هذا بَيِّنٌ. قال: فأبِنْهُ لي. قلت: كلٌّ كلامٌ أريدَ به تعْظيمُ الله، فعَلَّمَهُمْ رسولُ الله، فلعلَّه جَعَلَ يعلِّمُه الرجلَ فيحفَظُهُ، والآخرَ فيحفظه، [ص: 272] وما أُخذ حفظاً فأكثرُ ما يُحْترس فيه منه إحالةُ المعنى، فلم تكن فيه زيادة ولا نقصٌ ولا اختلافُ شيء مِن كلامه يُحِيل المعنى فلا تَسَعُ إحالتُه. فلعل النبي أجاز لِكل امرئٍ منهم كما حَفِظَ، إذ كان لا معنى فيه يحيل شيئاً عن حكمه، ولعل من اختلفت روايته واختلف تشهده إنما توسَّعوا فيه فقالوا على ما حفِظوا، وعلى ما حَضَرَهُم وأُجِيزَ لهم. قال: أفَتَجِدُ شيئا يدلُّ على إجازة ما وصفْتَ؟ فقلت: نعم. قال: وما هو؟ [ص: 273] قلت: أخبرنا "مالك" عن "ابن شهاب" عن "عروة" عن "عبد الرحمن بن عبدٍ القارِيِّ" قال: سمعت "عمر بن الخطاب" يقول: " سَمِعْتُ "هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ" يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأُهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أعْجَلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ، ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ (1) فَجِئْتُ بِهِ إلَى النَّبِيِّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: اقْرَأْ، فَقَرَأَ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، إنَّ هَذَا القُرَآن أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ " (2) . [ص: 274] قال: فإذ كان الله لِرَأْفته بخلْقِه أنزل كتابَه على سبْعة أحْرف، معرفةً منه بأنَّ الحفْظَ قدْ يَزِلُّ، لِيُحِلَّ لهم قراءته وإنْ اختلف اللفظُ فيه، ما لم يكن في اختلافهم إحالةُ معنى: كان ما سِوَى كتابِ الله أوْلَى أنْ يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يُحِلْ معْناه. وكل ما لم يكن فيه حُكْمٌ، فاختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه. [ص: 275] وقد قال بعضُ التابعين: لَقِيتُ أُناساً مِن أصحاب رسول الله، فاجتمعوا في المعنى واختلفوا عليَّ في اللفظ، فقلْتُ لبعضهم ذلك، فقالَ: لا بأس ما لمْ يُحِيلُِ (3) المعنى.   (1) لَبَّبْتُهُ: أخذتُ مِن ثيابه، ما يقع على اللُّبة، وهي المَنْحَر [المصباح المنير - الفيومي] . (2) البخاري: كتاب الخصومات/2241؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1354؛ الترمذي: كتاب القراءات/2827؛ النسائي: كتاب الافتتاح/928. (3) هكذا هو بالياء على صورة المرفوع ويجوز رفعُه على إهمال (لم) كما هي لغة قومٍ، وكسرُه تخلصاً من التقاء الساكنين والياء إشباع لحركة الحاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 قال "الشافعي": فقال: ما في التشهد إلا تعظيم الله، وإنِّي لأرْجو أن يكون كلُّ هذا فيه واسِعاً، وأن لا يكون الاختلافُ فيه إلاَّ مِن حيْثُ ذكرْتَ، ومثلُ هذا _ كما قلْتَ _ يُمْكِن في صلاة [ص: 276] الخوف، فيكون إذا جاء بكمال الصلاة على أي الوجوه رُوِيَ عن النبي أجْزَأَهُ، إذ خالَفَ اللهُ بيْنها وبيْن ما سِواها مِن الصلوات، ولكن كيْف صِرْتَ إلى اختيار حديث "ابن عباس" عن النبي في التشهد دون غيره؟ قلتُ: لَمَّا رأيته واسعا، وسمعتُه عن "ابن عباس" صحيحاً، كان عندي أجمعَ وأكثرَ لفْظًا مِن غيْرِه، فأخذْتُ به، غيرَ مُعَنِّفٍ لِمَن أخذ بغيره مما ثبت عن رسول الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 اختلاف الرواية على وجهٍ غير الذي قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "أبي سعيد الخدري" أنَّ رسولَ الله قال: " لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا (1) بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الوَرِقَ (2) بِالوَرِقِ إلاَّ مِثْلًا [ص: 277] بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا شَيْئًا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ (3) " (4) . أخبرنا "مالك" عن "موسى بن أبي تميم" عن "سعيد بن يسار" عن "أبي هريرة" أنَّ رسولَ الله قال: " الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا " (5) . أخبرنا "مالك" عن "حُمَيْد بن قَيْسٍ" عن "مجاهد" عن "ابن عمر" أنه قال: " الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا، هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا، وَعَهْدُنَا إِلَيْكُمْ " (6) . قال "الشافعي": وروَى "عثمان بن عفَّان" و"عبادة [ص: 278] بن الصَّامِت" عن رسول الله النَّهْيَ عَنِ الزِّيادَةِ فِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، يَدًا بِيَدٍ (7) . قال "الشافعي": وبهذه الأحاديث نأخذ، وقال بمثل معناها الأكابِرُ مِن أصحاب رسول الله، وأكثرُ المُفْتِيِّيَن بِالبُلدان.   (1) الشِّفُّ: الربح والزيادة [النهاية - ابن الأثير] . (2) الوَرِقُ: الدراهم المضروبة [مختار الصحاح - الرازي] . (3) النَّاجِزُ: الحاضر [القاموس المحيط - فيروزآبادي] . (4) البخاري: كتاب البيوع/2031؛ مسلم: كتاب المساقاة/2964؛ الترمذي: كتاب البيوع/1162؛ النسائي: كتاب البيوع/4494؛ مالك: كتاب البيوع/1145. (5) مسلم: كتاب المساقاة/2974؛ النسائي: 4491؛ ابن ماجه: كتاب التجارات/2247؛ مالك: كتاب البيوع/1144. (6) النسائي: كتاب البيوع/4492؛ مالك: كتاب البيوع/1146. (7) مسلم: كتاب المساقاة/2970؛ الترمذي: كتاب البيوع/1161؛ النسائي: كتاب البيوع/4484؛ أبو داود: كتاب البيوع/2907. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 أخبرنا "سفيان" أنه سمع "عبيد الله بن أبي يزيد" يقول: سمعت "ابن عباس" يقول: أخبرني "أسامة بن زيد" أن النبي قال: " إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيَّةِ (1) " (2) . [ص: 279] قال: فأخذ بهذا "ابن عباس" ونفَرٌ من أصحابه المكيين وغيرُهم. قال: فقال لي: قائل هذا الحديث مخالف للأحادِثِ قبْلَه؟ قلت: قد يحتمل خِلافها ومُوافقَتَها. قال: وبأي شيء يحتمل موافقتها؟ قلت: قد يكون "أسامة" سَمِعَ رسولَ الله يُسأَلُ عن [ص: 280] الصِّنفَيْن المختلفين، مثل الذهب بالوَرِقِ، والتمر بالحِنْطَة أو ما اختلف جِنْسه مُتَفاضِلاً يداً بيد، فقال: " إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيَّةِ "، أو تكونُ المسألة سبقَتْهُ بهذا وأدْرَكَ الجوابَ، فرَوَى الجواب ولم يَحْفظ المسألة، أو شكَّ فيها، لأنه ليس في حديثه ما يَنْفِي هذا عن حديث "أسامة"، فاحتمل موافقتها لهذا. فقال: فلِمَ قلْتَ: يحتمل خلافها؟ قلت: لأن "ابن عباس" الذي رَواه، وكان يذهب فيه غيرَ هذا المَذْهب، فيقول: لا ربا في بيعٍ يداً بيد، إنما الربا في النسِيَّة. فقال: فما الحجة إن كانت الأحاديث قبله مخالِفةً: في تركِه إلى غيرِه؟ فقلت له: كل واحد ممن روى خلافَ "أسامة"، وإن لم يكن أشهرَ بالحفظ للحديث من "أسامة"، فليس به تقصير عن حفظه، و"عثمانُ بن عفان" و"عبادة بن الصامت" أشدُّ تقَدُّمًا بالسِّن [ص: 281] والصُّحْبة من "أسامة"، و"أبو هريرة" أسَنُّ وأحفَظُ مَنْ روَى الحديث في دَهْرِهِ. ولَمَّا كان حديثُ اثنين أوْلَى في الظاهر بالحفظ، وبأن يُنْفَى عنه الغَلَطُ من حديثٍ واحد: كان حديثُ الأكثر الذي هو أشبه أن يكون أوْلَى بالحفظ مِن حديث مَن هو أحدَثُ منه، وكان حديث خمسةٍ أولى أن يُصارَ إليه مِن حديث واحد.   (1) النَّسِيئَةُ: التأخير [المصباح المنير - الفيومي] . (2) مسلم: كتاب المساقاة/2991؛ الترمذي: كتاب البيوع/1162؛ النسائي: كتاب البيوع/4505؛ ابن ماجه: كتاب التجارات/2248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وجه آخر مما يُعَد مختلفاً، وليس عندنا بمختلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أخبرنا "ابن عيينة" عن "محمد بن العَجْلانِ" عن "عاصم بن عمر بن قَتَادَةَ" عن "محمود بن لَبِيد" عن "رافع بن خَدِيج" أنَّ رسولَ الله قال: " أسْفِرُوا بِالفَجْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أعْظَمُ لِلْأَجْرِ، أَوْ: أَعْظَمُ لأُجُورِكُمْ " (1) . [ص: 283] أخبرنا "سفيان" عن "الزهري" عن "عروة" عن "عائشة" قالت: " كُنَّ النِّسَاءُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ يُصَلِّينَ مَعَ النَّبِيِّ الصُّبْحَ، ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ وَهُنَّ مُتَلَفِّعاتٌ بِمُرُوطِهِنَّ (2) ، مَا يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ مِنَ الغَلَسِ (3) " (4) . قال: وذكَرَ تَغْلِيسَ النبي بالفجر "سهلُ بن سعد" وزيد بن ثابت" وغيرُهما مِن أصحاب رسول الله، شبيهٌ بمعنى "عائشة".   (1) الترمذي: كتاب الصلاة/142؛ النسائي: كتاب المواقيت/545؛ أحمد: مسند الشاميين/16641. (2) تَلَفَّعَتِ المرأة بِمِرطِهَا: مثلُ: تَلَحَّفَتْ به - وزناً ومعنى -؛ والمِرْطُ: كساء من صوف أو خَزٍّ، يُؤْتَزَرُ به، وتتلفع المرأة به [المصباح المنير - الفيومي] . (3) الغَلَسُ: ظلام آخر الليل [المصباح] . (4) البخاري: كتاب الصلاة/359؛ النسائي: كتاب المواقيت/543؛ أحمد: مسند الأنصار/22967. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 قال "الشافعي": قال لي قائل: نحن نرى أن نَسْفِرَ [ص: 284] بالفجر اعتماداً على حديث "رافع بن خديج" ونزْعُمُ أن الفضْل في ذلك، وأنت ترى أنْ جائِزًا لنا إذا اختلف الحديثان أنْ نأخذَ بأحدهما، ونحن نَعُدُّ هذا مخالفاً لحديث "عائشة". قال: فقلت له: إن كان مخالفاً لحديث "عائشة"، فكان الذي يَلْزَمنا وإيَّاكَ أن نصير إلى حديث "عائشة" دونه، لأن أصل ما نبْنِي نحن وأنتم عليه: أن الأحاديث إذا اختلَفَت لم نذهب إلى واحد منها دون غيره إلا بسبب يدل على أن الذي ذهبنا إليه أقوى من الذي تَرَكْنا. قال: وما ذلك السبب؟ قلت: أن يكون أحدُ الحديثين أشْبَهَ بكتاب الله، فإذا أشبه كتابَ الله كانت فيه الحجةُ. قال: هكذا نقول. قلنا: فإن لم يكن فيه نصُّ كتاب كان [ص: 285] أوْلاهما بِنا الأثبتُ منهما، وذلك أن يكون مَن رواه أعرفَ إسنادا وأشهرَ بالعلم وأحفظَ له، أو يكونَ رُوِيَ الحديثُ الذي ذهبنا إليه مِن وجهين أو أكثرَ، والذي تركْنا مِن وجهٍ، فيكونَُ الأكثر أولى بالحفظ مِن الأقل، أو يكونَ الذي ذهبنا إليه أشبهَ بمعنى كتابِ الله، أو أشبهَ بما سِواهما مِن سُنَنِ رسول الله، أوْ أَوْلى بما يَعرف أهلُ العلم، أو أصحَّ في القياس، والذي عليه الأكثرُ مِن أصحاب رسول الله. قال: وهكذا نَقول ويقول أهلُ العلم. قلت: فحديث "عائشة" أشبه بِكتاب الله، لأن الله يقول: " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى (238) " [البقرة] ، فإذا حَلَّ الوقت فأَوْلَى المُصلِّين بالمحافظة المُقَدِّمُ الصلاةِ. [ص: 286] وهو أيضاً أشهرُ رجالاً بالثِّقة وأحْفَظُ، ومع حديث "عائشة": ثلاثةٌ كلُّهم يَرْوُونَ عن النبي مثلَ معنى حديث "عائشة": "زيدُ بن ثابت" و"سهل بن سعد". وهذا أشبه بسنن النبي مِن حديث "رافع بن خَدِيج". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 قال: وأيُّ سننٍ؟ قلت: قال رسول الله: " أَوَّلُ الوَقْتِ رِضْوَانُ اللهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللهِ " (1) . [ص: 287] وهو لا يُؤْثِر على رضوان الله شيئاً، والعفو لا يحتمل إلا معنيَيْنِ: عفْوٌ عن تقْصيرٍ، أو توْسِعَةٌ، والتوسعة تُشْبِه أن يكون الفضْل في غيرِها، إذْ لم يُؤْمَرْ بترك ذلك الغير الذي وُسِّع في خلافها. قال: وما تريد بهذا؟ [ص: 288] قلت: إذْ لم نؤمر بترك الوقت الأول، وكان جائزاً أنْ نُصَلِّيَ فيه وفي غيره قبْلَهُ، فالفضْل في التَّقْديم، والتأخيرُ تقصيرٌ مُوَسَّعٌ. وقد أبانَ رسولُ الله مثْلَ ما قلنا، وسُئِلَ: أيُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فقال: " الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا " (2) . وهو لا يدع موضع الفضل، ولا يأمر الناس إلا به. وهو الذي لا يجهله عالم: أنَّ تقديمَ الصلاة في أول وقتها أولى بالفضل، لِمَا يَعْرِضُ للآدمِيِّينَ مِن الأشغال والنِّسْيان والعِلَل. [ص: 289] وهذا أشبه بمعنى كتاب الله. قال: وأيْن هو من الكتاب؟ قلت: قال الله: " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى (238) " [البقرة] ، ومَن قدَّمَ الصلاةَ في أوَّل وقْتِها كان أولى بالمحافظة عليها ممن أخَّرَها عَن أوَّل الوقت. وقد رأينا الناس فيما وجب عليهم وفيما تَطَوَّعُوا به يُؤْمَرُون بتعجيله إذا أمْكَن، لِمَا يعرض للآدميين من الأشغال والنِّسْيان والعلل، الذي لا تَجْهَلُه العُقول. وإن تقديم صلاة الفجر في أوَّل وقتها عن "أبي بكر" و"عمر" و"عثمان" و"علي بن أبي طالب" و"ابن مسعود" "وأبي موسى الأشْعَرِي" و"أنس بن مالك" وغَيْرِهم: مُثْبَتٌ.   (1) الترمذي: كتاب الصلاة/158. (2) أبو داود: كتاب الصلاة/362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فقال: فإن "أبا بكر" و"عمر" و"عثمان" دخلوا في الصلاة مُغَلِّسِيَن وخرجوا منها مُسْفِرِينَ، بإطالة القِراءة؟ [ص: 290] فقلت له: قد أطالوا القراءة وأوْجَزُوهَا، والوقتُ في الدخول لا في الخروج مِن الصلاة وكلُّهم دخل مُغَلِّسًا، وخرج رسول الله منها مُغَلِّسًا. فخالفتَ الذي هو أولى بك أنْ تصير إليه، مما ثَبَتَ عَنْ رسول الله، وخالفْتَهم، فقلْتَ: يدخل الدَّاخل فيها مُسْفِرًا ويخرج مُسْفِرًا ويُوجِز القِراءة، فخالفتهم في الدخول وما احْتَجَجْتَ بِهِ مِنْ طُولِ القراءة، وفي الأحاديث عن بعضهم أنه خرجَ منها مُغلِّساً. قال: فقال: أفَتَعُدُّ خَبَرَ "رافع" يُخالِف خبَرَ "عائشة"؟ فقلتُ له: لا. فقال: فبِأيِّ وجْهٍ يُوافقه؟ فقلت: إن رسول الله لَمَّا حَضَّ الناسَ على تقديم الصلاة، وأخبر بالفضل فيها: احتمل أن يكون من الرَّاغِبِين مَنْ يُقَدِّمها قبْل الفجر الآخِرِ، فقال: " أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ "، يعني: حتى يَتَبَيَّنَ الفَجْرُ الآخِر مُعْتَرِضًا. [ص: 291] قال: أفيحتمل معنىً غيرَ ذلك؟ قلت: نعم، يحتمل ما قلتَ، وما بَيْنَ ما قُلْنا وقلْتَ، وكلَّ معنى يقع عليه اسم {الإسفار} . قال: فما جعَلَ معْناكم أوْلَى مِنْ معْنانا؟ فقلت: بما وصفْتُ مِنَ التَّأويل، وبأنَّ النبي قال: " هُمَا فَجْرَانِ، فَأَماَّ الَّذِي كَأَنَّهُ ذَنَبُ السِّرْحَانِ (1) ، فَلَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلاَ يُحَرِّمُهُ، وَأَمَّا الفَجْرُ المُعْتَرِضُ فَيُحِلُّ الصَّلاَةَ وَيُحَرِّمُ الطَّعَامَ " (2) ، يعني: على مَنْ أرادَ الصِّيام.   (1) السِّرْحَانُ: الذئب وقيل: الأسد، ويقال للفجر الكاذب: سرحان - على التشبيه [المصباح المنير - الفيومي] . (2) سنن البيهقي: كتاب الصلاة/باب: الفجر فجران، ج 2/ص 377. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وجه آخر مما يُعَدُّ مختلفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 أخبرنا "سفيان" عن "الزهري" عن "عطاء بن يزيد اللَّيْثِيِّ" عن "أبي أيُّوبَ الأنْصاري" أنَّ النّبِيَّ قَالَ: " لاَ تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا لِغَايِطِ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا. قَالَ أَبُو أَيُّوب: فَقَدِمْنَا الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ صُنِعَتْ، فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ " (1) . أخبرنا "مالك" عن "يحيى بن سعيد" عن "محمد بن يحيى بن حَبَّانَ" عن عَمِّهِ "واسع بن حبانط عن "عبد الله بن عمر" أنَّه كان يقول: " إنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلاَ تَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَلاَ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَقَالَ "عبد الله": لَقَدْ ارْتَقَيْتُ عَلَى [ص: 293] ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأْيْتُ رَسُولَ اللهِ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ المَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ " (2) . قال "الشافعي": أدَّبَ رَسولُ الله مَن كان بيْن ظَهْرَانَيْهِ، وهم عَرَب، لا مُغْتَسَلاَتِ لَهُمْ أو لأكثرهم في منازلهم، فاحتمل أدَبُه لهم معنيين: - أحدهما: أنهم إنما كانوا يذهبون لحوايجهم في الصحراء، فأمرهم ألاَّ يستقبلوا القبلة ولا يستدبروها، لِسَعَة الصحراء، ولِخِفَّةِ المَؤُونَةِ عليهم، لسعة مذاهبهم عن أنْ تُسْتقبل القبلة أو تُستدبر لحاجة الإنسان مِن غايط أو بول، ولم يكن لهم مِرْفَقٌ (3) في استقبال القبلة ولا استدبارِها أوْسَعَ عليهم مِنْ تَوَقِّى ذلك. [ص: 294] وكثيراً ما يكون الذاهبون في تلك الحال في غير سِتْر عن مصلِّي (4) ، يرى عوراتهم مُقبلين ومُدْبرين، إذا استقبل القبلة، فأُمِروا أن يُكْرموا قِبْلَةَ الله ويستروا العورات مِنْ مُصَلي، إنْ صلَّى حيث يراهم، وهذا المعنى أشبه معانيه، والله أعلم. وقد يحتمل أن يكون نهاهم أن يستقبلوا ما جُعِلَ قِبْلةً في صحراء لغائط أو بول، لِئَلاَّ يُتَغَوَّطَ أو يُبالَ في القِبلة، فتكونَ قَذِرَةً بِذلك، أوْ مِن وَرَائِها، فيكونَ مِنْ ورائِها أذًى للمصلين إليها. قال: فسمع "أبو أيوب" ما حَكَى عن النبي جُمْلَةً، فقال [ص: 295] به على المذهب في الصحراء والمنازل، ولم يُفَرِّقْ في المذهب بين المنازل التي للناس مَرَافِقُ في أنْ يضعوها في بعض الحالات مُسْتَقْبِلَةَ القِبلة أو مستدبرتها، والتي يكون فيها الذاهبُ لحاجته مُسْتَتِرًا، فقال بالحديث جملةً، كما سمعه جملةً. وكذلك ينبغي لمن سمع الحديث أن يقول به على عُمُومِه وجملته، حتى يجد دِلالة يُفَرِّق بها فيه بينه.   (1) البخاري: كتاب الصلاة/380؛ مسلم: كتاب الطهارة/388؛ الترمذي: كتاب الطهارة/8؛ النسائي: كتاب الطهارة/21. (2) البخاري: كتاب الوضوء/142؛ النسائي: كتاب الطهارة/23؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/408. (3) مرفق بوزن مجلس ومنبر: مصدر رفق به. (4) هكذا هي في الأصل بإثبات الياء. قال الشيخ أحمد شاكر: وهو جائز فصيح خلافاً لما يظنه أكثر الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 قال "الشافعي": لما حكى "ابن عمر" أنه رأى النبي مستقبلاً بيت المقدس لحاجته، وهو إحدى القبلتين، وإذا استقبله استدبر الكعبة: أنْكَرَ على مَنْ يقول لا يستقبِلِ القِبْلَةَ ولا [ص: 296] تستدبِرْها لحاجة، ورَأَى أنْ لا ينبغيَ لأحد أن يَنْتَهِيَ عَن أمْرٍ فعله رسول الله. ولم يسمع - فيما يُرَى - ما أمَرَ به رسولُ الله في الصحراء، فَيُفَرِّقَ بيْن الصحراء والمنازل، فيقولَ بالنهي في الصحراء وبِالرخصة في المنازل، فيكون قد قال بما سمع ورأى، وفرَّقَ بالدلالة عن رسول الله على ما فرق بينه، لافتراق حال الصحراء والمنازل. وفي هذا بَيانُ أن كُلَّ مَن سَمِعَ مِن رسول الله شيئاً قَبِلَه عنه وقال به، وإن لم يُعرف حيثُ يَتَفَرَّقُ لمْ يتفرَّقْ بيْنَ ما لمْ يُعْرَفْ إلاَّ بِدِلالةٍ عن رسول الله على الفرق بَيْنَهُ. [ص: 297] ولهذا أشباهٌ في الحديث، اكتفينا بما ذَكَرْنَا مِنها مِمَّا لم نَذْكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وجه آخر من الاختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 أخبرنا "ابن عيينة" عن "الزهري" عن "عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَة" عن "ابن عباس" قال: أخبرني "الصَّعْبُ بن جَثَّامَةَ" " أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِ الدَّاِر مِنَ المُشْرِكِينَ يُبَيَّتُونَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: هُمْ مِنْهُمْ ". وَزَادَ "عمرو بن دينار" عن "الزهري" " هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ " (1) . [ص: 298] أخبرنا "ابن عيينة" عن "الزهري" عن "ابن كَعْب بن مالك" عن عَمِّهِ: " أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا بَعَثَ إِلَى "ابن أبي الحُقَيْقِ"، نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ " (2) . قال: فكان "سفيان" يذهب إلى أنَّ قولَ النبي: " هُمْ مِنْهُمْ " إباحَةٌ لِقَتْلِهم، وأنَّ حديث "ابن أبي الحُقَيْقِ" ناسخ له، وقال: كان "الزهري" إذا حدَّثَ حَديثَ "الصَّعْب بن جَثَّامَةَ"، أتْبَعَهُ حديث "ابن كعب". [ص: 299] قال "الشافعي": وحديث "الصَّعْب بن جَثَّامَةَ" في عُمْرَةِ النبي، فإنْ كان في عُمرته الأولى فقد قيل: أمرُ "ابن أبي الحُقَيْقِ" قَبْلَهَا، وقيل: في سَنَتِها، وإنْ كان في عُمرته الآخِرة، فهو بعْدَ أمْرِ "ابن أبي الحُقَيْقِ" غَيْرَ شَكٍّ، والله اعلم. ولم نَعْلَمْه - صلى الله عليه - رخَّص في قتل النساء والوِلْدان ثم نهى عنه. ومعنى نهيه عندنا - والله أعلم - عن قتل النساء والوِلدان: أن يَقْصِدَ قَصْدَهُمْ بِقتل، وهم يُعْرفون مُتَمَيِّزين ممن أمَرَ بقتله منهم. ومعنى قوله: هُمْ مِنْهُمْ: أنهم يجمعون خَصْلَتَيْنِ: أنْ [ص: 300] ليس لهم حُكْم الإيمان الذي يُمْنَع به الدَّمُ، ولا حكمُ دار الإيمان الذي يُمنع به الإغارةُ على الدَّارِ. وإذْ أباحَ رسولُ الله البَيَاتَ والإغارة على الدار، فأغار على بني المُصْطَلِقِ غارِّين: فالعلم يحيط أن البيات والإغارة إذا حَلَّ بإحلال رسول الله لم يمتنع أحدٌ بَيَّتَ أوْ أغارَ مِن أن يُصيب النساء والوِلدان، فيسقط المَأْثَمُ فيهم والكفارةُ والعقْلُ والقَوَدُ عَن من أصابهم، إذ أُبيح له أن يُبَيِّتَ ويُغير، وليست لهم حُرْمة الإسلام. ولا يكون له قتْلُهم عامِداً لهم متميزين عارفاً بهم. فإنما نهى عن قتل الوِلدان: لأنهم لم يَبْلُغوا كُفْرًا فيَعملوا به، وعن قتل النساء: لأنه لا معنى فيهن لقتالٍ وأنهن والوِلدان يُتَخَوَّلُون (3) فيكونون قوَّةً لأهل دين الله.   (1) البخاري: كتاب الجهاد والسير/2790؛ مسلم: كتاب الجهاد والسير/3281؛ أبو داود: كتاب الجهاد/2298؛ ابن ماجه: كتاب الجهاد/2829. (2) أبو داود: كتاب الجهاد/2298؛ مالك: كتاب الجهاد/856. (3) يُتَّخذون خولاً أي عبيداً وإماءً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فإن قال قائل: أبِنْ هذا بغيره. قيل: فيه ما اكتفى العالم به مِنْ غَيْرِه. فإن قال: أفتجد ما تَشُدُّه به غيرَه، وتُشَبِّهُهُ مِنْ كتاب الله؟ قلت: نعم، قال الله: " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ، وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) " [النساء] . قال: فأوجب الله بقتل المؤمن خطأً الدِّية وتحريرَ رقبةٍ، وفي قتل ذي الميثاقِ الديةَ وتحريرَ رقبةٍ، إذا كانا معاً ممنوعَي الدم، بالإيمان والعهد والدار معاً، فكان المؤمن في الدار غيرِ [ص: 302] الممنوعة وهو ممنوعٌ بالإيمان، فَجُعِلَتْ فيه الكفارة بإتلافه، ولم يُجْعَلْ فيه الدِّيةُ، وهو ممنوع الدم بالإيمان، فلما كان الوِلْدانُ والنساء مِن المشركين لا ممنوعين بإيمان ولا دار: لم يكن فيهم عَقْلٌ ولا قَوَدٌ ولا دية ولا مأثم - إن شاء الله - ولا كفارةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 في غسل الجمعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 فقال: فاذْكر وجوهاً مِن الأحاديث المختلفة عند بعض الناس أيضاً. فقلت: أخبرنا "مالك" عن "صفوان بن سُلَيْم" عن "عطاء بن يسار" عن "أبي سعيد الخُدري"، أنَّ رسولَ الله قال: " غُسْلُ يَوْمِ الجُمْعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ " (1) . أخبرنا "ابن عيينة" عن "الزهري" عن "سالم" عن أبيه، [ص: 303] أنَّ النبي قال: مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ الجُمْعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ " (2) . قال "الشافعي": فكان قولُ رسول الله في: ((غسل يوم الجمعة واجب)) ، وأمْرُه بالغسل، يحتمل معنيين: الظاهرُ منهما أنه واجب، فلا تجزئ الطهارَةُ لِصَلاة الجُمْعَةِ إلاَّ بالغسل، كما لا يجزئ في طهارة الجُنُبِ غيْرُ الغسل، ويحتمل واجبٌ في الاختيار والأخْلاق والنَّظافة. أخبرنا "مالك" عن "الزهري" عن "سالم" قال: " دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ يَوْمَ الجُمْعَةِ، و"عُمُرُ بْنُ الخَطَّابِ" يَخْطُبُ، فَقَالَ "عُمَرُ": أَيَّتُ سَاعَةٍ هَذِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، انْقَلَبْتُ مِنَ السُّوقِ، فَسَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَمَا زِدْتُ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ "عُمَرُ": [ص: 304] الوُضُوءُ أَيْضًا! وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ؟! " (3) . أخبرنا الثِّقة عن "مَعْمَرٍ" عن "الزهري" عن "سالم" عن أبيه مثلَ معنى حديث "مالك"، وسَمَّى الدَّاخِلَ يَوْمَ الجمعة بِغَيْرِ غُسل: "عثمان بن عَفَّانَ". قال: فلَمَّا حَفِظَ "عمر" عن رسول الله أنه كان يأمر بالغُسْلِ، وعلم أنَّ "عثمان" قد عَلِمَ مِنْ أمْر رسول الله بالغسل، ثم ذكر "عمر" "لعثمان" أمْرَ النبي بالغُسل، وعلِمَ "عثمان" ذلك: فلو ذهب [ص: 305] على مُتَوَهِّمٍ أنَّ "عثمان" نسِيَ، فقد ذكَّرَه "عمر" قبْلَ الصلاة بِنسيانِه، فلَمَّا لم يتركْ "عثمان" الصلاة للغسل، ولمَّا لمْ يأمره "عمر" بالخروج للغسل: دلَّ ذلك على أنهما قد عَلِمَا أن أمْرَ رسول الله بالغسل على الاختيار (4) ، لا على أنْ لا يُجْزِئَ غيُره، لأن "عمر" لم يكن لِيَدَعَ أمْرَه بالغسل، ولا "عثمان" إذْ علمنا أنه ذاكِرٌ لِترك الغُسل، وأمرِ النبي بالغسل: إلاَّ والغُسْلُ - كما وصفْنَا - على الاختيار. قال: ورَوَى "البصْرِيُّونَ" أنَّ النبي قال: " مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمْعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَةْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالغُسْلُ أَفْضَلُ " (5) . [ص: 306] أخبرنا "سفيان" عن "يحيى" عن "عَمْرةَ " عن "عائشة" قالت: " كَانَ النَّاسُ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا يَرُوحُونَ بِهَيْآتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوْ اغْتَسَلْتُمْ " (6) .   (1) البخاري: كتاب الجمعة/830؛ مسلم: كتاب الجمعة/1397؛ النسائي: كتاب الجمعة/1360؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/210. (2) البخاري: كتاب الجمعة/845؛ مسلم: كتاب الجمعة/1394. (3) البخاري: كتاب الجمعة/829؛ مسلم: كتاب الجمعة/1395. (4) لم ينفرد الشافعي بهذا التأويل فقد ذهب إليه مالك أيضاً وغيره. وردَّه ابن حزم في المحلى 2/19 وابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام 2/109، 111 رداً بليغاً ومال إليه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة ص 306 وفرَّق بين وجوبه وبين شرطيته لصحة الصلاة فأثبت الأول ونفى الثاني. (4) الترمذي: كتاب الجمعة/457؛ النسائي: كتاب الجمعة/1363؛ أبوداود: كتاب الطهارة/300؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1081. (5) البخاري: كتاب الجمعة/853؛ أبو داود: كتاب الطهارة/298؛ أحمد: باقي مسند الأنصار/23203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 النهي عن معنىً دلَّ عليه معْنًى في حديثٍ غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 أخبرنا "مالك" عن "أبي الزِّنَاد" و"محمد بن يحيى بن حَبّان" عن "الأعرج" عن "أبي هريرة" أنَّ رسولَ الله قال: " لاَ يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ " (1) . أخبرنا مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر" عن النبي، أنه قال: " لاَ يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ " (2) . قال "الشافعي": فلو لم تأت عن رسول الله دِلالة على أن نهيه عن أنْ يَخْطُب عَلَى خطبة أخيه على معنى دون معنى: [ص: 308] كان الظاهِرُ أنَّ حراماً أنْ يخطب المرء على خِطبة غيره مِن حينِ يبتدئُ إلى أنْ يدعَها. قال: وكان قول النبي: " لاَ يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ " يحتمل أن يكون جوابًا أراد به في معنى الحديث، ولم يسمع مَنْ حدَّثَه: السببَ الذي له قال رسول الله هذا، فأدَّيَا بَعْضَهُ دون بعْض، أو شَكَّا في بعْضه وسَكَتَا عَمَّا شَكَّا فيه. فيكون النبي سُئل عن رجل خطب امرأة فَرَضِيَتْهُ وأذِنت في نكاحه، فخَطَبَها أرْجَحُ عندها منه، فرجعت عن الأول الذي أذِنَتْ في إنْكاحه، فنهى عن خِطبة المرأة إذا كانت بهذه [ص: 309] الحال، وقد يكون أن ترجع عن من أذنت في إنكاحه، فلا يَنْكحُها من رجعت له، فيكونُ فَسَاداً عليها وعلى خاطبها الذي أذنت في إنكاحه.   (1) البخاري: كتاب النكاح/4747؛ النسائي: كتاب النكاح/3188؛ أبو داود: كتاب النكاح/1782؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/9572. (2) مالك: كتاب النكاح/965. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فإن قال قائل: لِمَ صِرت إلى أن تقول إنَّ نهي النبي أنْ يخطب الرجل على خطبة أخيه: على معنىً دون معنىً؟ فبِالدِّلالة عنه. فإن قال: فأين هي؟ قيل له - إن شاء الله -: أخبرنا "مالك" عن "عبد الله بن يزيد" مولى "الأسود بن سفيان" عن "أبي سَلَمَةَ بن عبد الرحمن" عن "فاطمة بنت قَيْسٍ": " أنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ أنْ تَعْتَدَّ فِي [ص: 310] بَيْتِ "ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ"، وَقَالَ: إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلَتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ "مُعَاوِيَةَ بن أبي سُفْيَانَ" و"أبَا جَهْمٍ" خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: فَأَمَّا "أَبُو جَهْمٍ" فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وأمَّا "مُعَاوِيَةُ" فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ، اِنْكِحِي "أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ"، قَالَتْ: فَكَرِهْتُهُ، فَقَالَ: اِنْكِحِي" أُسَامَةَ"، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا، واغْتَبَطْتُ بِهِ " (1) . قال "الشافعي": فبهذا قُلْنَا. ودلَّت سنةُ رسول الله في خِطبته "فاطمةَ" على "أسامة" بعد إعْلامِها رسولَ الله أنَّ "معاوية" و"أبا جهم" خطباها، على أمْرين: - أحدهما: أنَّ النبي يعلم أنهما لا يخطُبانها إلاَّ وخِطبةُ أحدهما بعد خطبة الآخر، فَلَمَّا لم يَنْهَهَا ولم يَقُلْ لها ما كان لِواحِدٍ [ص: 311] أنْ يَخْطُبَكِ حتى يترك الآخَرُ خِطْبَتَكِ، وخطبها على "أسامة بن زيد" بعد خطبتهما: فاستدللنا على أنها لم ترضى، (2) ولو رَضِيَتْ واحِداً منهما أمرها أن تتزوج مَنْ رضيت، وأن إخبارَها إياهُ بمن خطبها، إنما كان إخباراً عَمَّا لم تأذن فيه، ولعلها استشارةٌ له، ولا يكون أن تستشيره وقد أذِنَتْ بأحدهما. فلما خطبها على "أسامة" استدللنا على أنَّ الحال التي خطبها فيه غيرُ الحال التي نهى عن خطبتها فيها، ولم تكن حالٌ تُفَرِّقُ بين خطبتها حتى يَحِلَّ بعضها ويحرُمَ بعضها، إلا إذا أذنت للولي أن يزوجها، فكان لزوجها - إن زوَّجها الولي - أن يُلْزِمها التزويجَ، وكان عليه أن يُلزمَه، وحَلَّتْ له، فأما قبل ذلك فحالها واحدة: ليس لوليها أن يزوجها حتى تأذن، فرُكُونها وغيرُ ركونِها سَواءٌ.   (1) مسلم: كتاب الطلاق/2709؛ النسائي: كتاب النكاح/3193؛ أبو داود: كتاب الطلاق/1944؛ مالك: كتاب الطلاق/1064. (2) هكذا هو في الأصل بإثبات الألف وقد قدَّمنا توجيه نحوه وأنه جائز في التعليق على ص 275 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فإن قال قائل: فإنها راكِنةً مخالِفَةٌ لِحَالِها غيرَ راكِنة. فكذلك هي لو خُطِبتْ فَشَتَمَت الخاطب وتَرَغَّبَتْ عنه ثم عاد عليها بالخطبة فلم تشتمه ولم تظهر تَرَغُّبًا ولم تركن: كانتْ حالها التي تَرَكَتْ فيها شَتْمه مخالفةً لحالها التي شتمته فيها، وكانت في هذه الحال أقربَ إلى الرضا، ثم تنتقلُ حالاتُها، لأنها قبل الرُّكون إلى مُتَأَوَّلٍ، بعضُها أقْرَبُ إلى الرُّكون منْ بعض. [ص: 313] ولا يصح فيه معنى بحال - والله أعلم - إلاَّ ما وصفْتُ مِن أنه نهى عن الخطبة بعد إذنها للولي بالتزويج، حَتَّى يَصِيرَ أمْرُ الولي جائزاً، فأما ما لم يَجُز أمر الولي فأوَّلُ حالها وآخرُها سواءٌ، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 النهي عن معنىً أوضحَ من معنىً قَبْلهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر" أنَّ رسولَ الله قال: " المُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إلاَّ بَيْعَ الخِيَارِ " (1) . [ص: 314] أخبرنا "سفيان" عن "الزهري" عن "سعيد بن المسيب" عن "أبي هريرة" أنَّ رسولَ الله قال: " لاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ " (2) . قال "الشافعي": وهذا معنى يُبَيِّنُ أن رسول الله قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا"، وأنَّ نهيه عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه، إنما هو قبل أن يتَفَرَّقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه. وذلك أنهما لا يكونان متبايعين حتى يَعْقدا البيْعَ معاً، فلو كان البيع إذا عَقَداه لزم كلَّ واحد منهما، ما ضَرَّ البائِعَ أن يبيعه رجلٌ سِلْعَةً كسلعته أو غيرَها، وقد تمَّ بيعه لِسِلْعته، ولكنه لَمَّا كان لهما الخِيار كان الرجل لو اشترى من رجلٍ ثَوْبًا بِعشرة دنانِيرَ فجاءه آخر فأعطاه مثله بتسعة دنانير: أشْبَهَ أن يَفْسَخَ البيعَ، إذا كان له الخيارُ قبل أن يفارقه، ولعله يفسخه ثم لا يَتِمُّ [ص: 315] البيع بينه وبَيْنَ بَيِّعِهِ الآخر، فيكونُ الآخَرُ قد أفسد على البائع وعلى المشتري، أو على أحدهما. فهذا وجْهُ النهي عن أن يبيع الرجلُ على بَيْعِ أخيه، لاَ وَجْهَ له غيرُ ذلك. ألاَ تَرَى أنه لوْ باعَهُ ثوباً بعشرة دنانيرَ، فلزمه البيع قبل أن يتفرقا من مقامهما ذلك، ثم باعه آخر خيراً منه بدينار: لم يَضُرَّ البائِعَ الأوَّلَ، لأنه قد لَزِمَهُ عَشْرَةُ دنانيرَ لا يستطيع فسخَها؟! قال: وقد رُوِيَ عن النبي أنه قال: "لاَ يَسُومُ أَحَدُكُمْ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ " (3) ، فإن كان ثابتاً، ولسْتُ أحفظه ثابتاً، فهو مثل: " لاَ يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ "، لا يسوم على سومه إذا رضي البيعَ وأذِنَ بأن يُباعَ قبل البيع، حتى لوْ بِيعَ لَزِمَهُ. فإن قال قائل: ما دل على ذلك؟ فإن رسول الله باع فيمن يزيد، وبيْعُ مَنْ يَزيدُ سَوْمُ رجُلٍ على سوم أخيه، ولكن البائع لم يرْضَ السَّوْمَ الأوَّلَ حتى طَلَبَ الزِّيَادَةَ.   (1) البخاري: كتاب البيوع/1969؛ مسلم: كتاب البيوع/2721؛ النسائي: كتاب البيوع/4404؛ مالك: كتاب البيوع/1177. (2) البخاري: كتاب البيوع/1996؛ الترمذي: كتاب النكاح/1053؛ النسائي: كتاب البيوع/4430. (3) مسلم: كتاب النكاح/2519؛ الترمذي: كتاب البيوع/1213؛ ابن ماجه: كتاب التجارات/2163؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/8966. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 النهي عن معنى يُشْبِه الذي قبلَه في شيء ويفارقه في شيء غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 أخبرنا "مالك" عن "محمد بن يحيى بن حَبَّان" عن "الأعرج" عن "أبي هريرة": " أنَّ رَسُولَ اللهِ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَعَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ " (1) . أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر" أن رسول الله قال: [ص: 317] " لاَ يَتَحَرَّى (2) أَحَدُكُمْ بِصَلاَتِهِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ عِنْدَ غُرُوبِهَا " (3) . أخبرنا "مالك" عن "زيد بن أسلم" عن "عطاء بن يسار" عن "عبد الله الصُّنَابِحِيِّ"، أنَّ رسولَ الله قال: " إنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ [ص: 320] وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا، فَإِذَا زَالَتْ فَارَقَهَا، ثُمَّ إذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرُبَتْ فَارَقَهَا، وَنَهَى رَسُولُ اللهِ عَنِ الصَّلاَةِ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ " (4) . فاحتمل النهي من رسول الله عن الصلاة في هذه الساعات معنيين: - أحدهما: - وهو أعَمُّهما - أنْ تكون الصلوات كلها، واجِبها الذي نُسي ونيم عنه، وما لزم بوجه من الوجوه منها: مُحَرَّمًا في هذه الساعات، لا يكون لأحد أن يُصلي فيها، ولو صلى لم يؤدي (5) ذلك عنه ما لزمه من الصلاة، كما يكون مَنْ قدَّم صلاةً قبْل دخول وقتها لم تُجْزي عنه. [ص: 321] واحتمل أن يكون أراد به بعض الصلاة دون بعض. فوجدنا الصلاة تتفرق بوجهين: أحدهما: ما وجب منها فلم يكن لمسلم تركُه في وقته، ولو تركه كان عليه قَضَاهُ، والآخر: ما تقرب إلى الله بالتنقل فيه، وقد كان للمتنقل تركُه بلا قَضًا له عليه. ووجدنا الواجب عليه منها يُفارق التَّطَوُّع في السَّفر إذا كان المرء راكباً، فيصلي المكتوبة بالأرض، لا يجزئه غيرُها، والنافلةَ راكباً مُتَوجهاً حيث شاء. ومُفَرَّقان في الحضر والسفر، ولا يكون لِمَنْ أطاق [ص: 322] القيامَ أن يصلي واجِبًا من الصَّلاة قاعداً، ويكون ذلك له في النافلة. فلَمَّا احتمل المعنيين، وجب على أهل العلم أن لا يحملوها على خاصٍّ دون عامٍّ إلا بدِلالة، مِن سنة رسول الله، أو إجماع علماء المسلمين، الذين لا يمكن أنْ يُجْمِعُوا على خلاف سنةٍ له.   (1) البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/553؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1366؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/461. (2) هكذا هو بإثبات الألف وتكرر غير مرة نحوه وتمحّل الشرّاح في تأويله فعدوا (لا) نافية وهو غير سديد وقدّمنا توجيه نحوه في التعليق على ص 275 وأنه إشباع للحركة قبل الحرف. (3) البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/550؛ مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها/1369؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/460. (4) النسائي: كتاب المواقيت/556؛ مالك: كتاب النداء للصلاة/457. (5) هكذا ثبت بالياء وانظر التعليق على ص 275 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 قال: وهكذا غير هذا من حديث رسول الله، هو على الظاهر من العامِّ حتى تأتي الدِّلالة عنه كما وصفْتُ، أو بإجماع المسلمين: أنه على باطنٍ دون ظاهِرٍ، وخاصٍّ دون عامٍّ، فيجعلونه بما جاءت عليه الدلالة عليه، ويطيعونه في الأمرين جميعاً. أخبرنا "مالك" عن "زيد بن أسلم" عن "عطاء بن يسار" وعن "بُسْر بن سعيد" وعن "الأعرج" يحدثونه عن "أبي هريرة" أنَّ رسول الله [ص: 323] قال: " مَنْ أَدْرَكَ رَكعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكعْةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ " (1) . قال "الشافعي": فالعلم يحيط أن المُصلي ركعةً من الصبح قبل طلوع الشمس والمصلي ركعة من العصر قبل غروب الشمس، قد صلَّيَا معًا في وقتين يجمعان تحريمَ وقتين، وذلك أنهما صليا بعد الصبح والعصر، ومع بُزُوغ الشمس ومَغِيبها، وهذه أربعةُ أوْقات مَنْهِيٌّ عن الصلاة فيها. لَمَّا جعَلَ رسول الله المصلين في هذه الأوقات مُدْرِكين لصلاة الصبح والعصر، استدللنا على أن نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات على النوافل التي لا تَلْزَمُ، وذلك أنه لا يكون [ص: 324] أن يُجْعل المَرْءُ مُدْرِكًا لصلاةٍ في وقتٍ نُهِيَ فيه عن الصلاة. أخبرنا "مالك" عن "ابن شهاب" عن "ابن المسيب" أنَّ رسولَ الله قال: " مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: " أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي (14) " [طه] " (2) . وحدّثَ "أنس بن مالك" و"عمران بن حصين" عن النبي مِثل معنى حديث "ابن المسيب"، وزاد أحدُهما: " أوْ نَامَ عَنْهَا ". قال "الشافعي": فقال رسول الله: " فَلْيُصَلِّهَا إذَا [ص: 325] ذَكَرَهَا "، فجعل ذلك وقتاً لها، وأخبر به عن الله - تبارك وتعالى - ولم يستثني (3) وقتاً مِن الأوقات يَدَعُها فيه بعْد ذكرها. أخبرنا "ابن عيينة" عن "أبي الزبير" عن "عبد الله بن باباه" عن "جبير بن مُطْعِمٍ" أن النبي قال: " يَا بَنِي عَبْدِ منَاَفٍ، مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَلاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بَهَذَا البَيْتِ وَصَلَّى، أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ " (4) . أخبرنا "عبد المجيد" عن "ابن جريج" عن [ص: 326] "عطاء" عن النبي مثل معناه، وزاد فيه: " يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ "، ثم ساق الحديث. قال: فأخبر "جُبَيْرٌ" عن النبي، أنَّهُ أَمَرَ بِإِبَاحَةِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَالصَّلاَةِ لَهُ فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ الطَّائِفُ وَالمُصَلِّي. وهذا يبين أنه إنما نهى عن المواقيت التي نهى عنها، عن الصلاة التي لا تلزم بوجه من الوجوه، فأما ما لزم فلم يَنهَ عنه، بل أباحه، صلى الله عليه.   (1) مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة/956؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/9575؛ مالك: كتاب وقوت الصلاة/4. (2) البخاري: كتاب مواقيت الصلاة/562؛ النسائي: كتاب المواقيت/615؛ أبو داود: كتاب الصلاة/371؛ ابن ماجه: كتاب الصلاة/689؛ الدارمي: كتاب الصلاة/1201. (3) هكذا هي بالياء وكثر مجيء نحوها كثرة يُطمأن إلى صحتها ويُركن إلى مذهبها. وانظر ص 275 (4) الترمذي: كتاب الحج/795؛ النسائي: كتاب المواقيت/581؛ أبو داود: كتاب المناسك/1618؛ ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها/1244؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وصلى المسلمون على جنائزهم عامةً بعد العصر والصبح، لأنها لاَزِمة. وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن "عمر بن الخطاب" [ص: 327] طاف بعد الصبح، ثم نَظَرَ فلم يرى (1) الشمْسَ طلعتْ، فركِب حتى أتى ذا طوًى وطلعت الشمس، فأناخ فصلى: فنهى عن الصلاة للطواف بعد العصر وبعد الصبح، كما نهى عما لا يلزم مِن الصلاة. قال: فإذا كان "لِعُمر" أن يؤخر الصلاة للطواف، فإنما تركها لأن ذلك له، ولأنه لو أراد منزلاً بذي طوى لحاجةٍ كان واسعاً له - إن شاء الله -، ولكن سمع النهيَ جملةً عن الصلاة، وضرب "المنكدِرَ" عليها بالمدينة بعد العصر، ولم يسمع ما يدل على أنه [ص: 328] إنما نهى عنها للمعنى الذي وصفنا، فكان يجب عليه ما فعل. ويجب على من علم المعنى الذي نَهَى عنه والمعنى الذي أبيحت فيه: أن إباحتها بالمعنى الذي أباحها فيه خلاف المعنى الذي نهى فيه عنها، كما وصفتُ مما رَوَى "علي" عن النبي مِن النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاثٍ، إذْ سمع النهي ولم يسمع سبب النهي.   (1) انظر الحاشية (3) من المقطع السابق مباشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 قال: فإن قال قائل: فقد صنع "أبو سعيد الخدري" كما صنع "عمر"؟ قلنا: والجواب فيه كالجواب في غيره. [ص: 329] قال: فإن قال قائل: فهل مِن أحد صَنَعَ خِلاف ما صَنَعَا؟ قيل: نعم، "ابنُ عمر"، و"ابن عباس"، و"عائشة"، و"الحسن"، و"الحسين"، وغيرهم، وقد سمع "ابن عمر" النهي من النبي. أخبرنا "ابن عيينة" عن "عمرو بن دينار" قال: رأيت أنا و"عطاء بن أبي رَباحٍ" "ابنَ عمرَ" طاف بعد الصبح، وصلى قبل أن تطلع الشمس. "سفيان" عن "عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ" عن "أبي شعبة": أنَّ "الحسن" و"الحسين" طافا بعد العصر وصَلَّيَا. [ص: 330] أخبرنا "مسلم" و"عبد المجيد" عن "ابن جريج" عن "ابن أبي مُلَيْكَةَ" قال: رأيتُ "ابن عباس" طاف بعد العصر وصلَّى. قال: وإنما ذكرْنا تَفَرُّقَ أصحاب رسول الله في هذا ليَسْتَدِلَّ مَن عَلِمَهُ على أنَّ تفرُّقهم فيما لرسول الله فيه سنةٌ: لا يكون إلا على هذا المعنى، أو على أنْ لا تبلغ السنة مَن قال خلافها منهم، أو تأويلٍ تحتمله السنة، أو ما أشبه ذلك، مما قد يرى قائله له فيه عُذْرًا، إن شاء الله. وإذا ثَبَتَ عن رسول الله الشيءُ فهو اللازم لجميع مَنْ عَرَفَهُ، لا يُقَوِّيه ولا يُوهِنُه شيءٌ غيره، بل الفرْضُ الذي على الناس اتِّباعه، ولم يجعل اللهُ لِأَحَدٍ معه أمْرًا يخالف أمْرَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 باب آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر": " أَنَّ رَسُولَ اللهِ نَهَى عَنِ المُزَابَنَةِ. والمُزَابَنَةُ: بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا، وَبَيْعُ الكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً " (1) . أخبرنا "مالك" عن "عبد الله بن يزيد" مولى "الأسود [ص: 332] بن سفيان" أنَّ "زيْدًا أبا عيَّاشٍ" أخبره عن "سعد بن أبي وقاص": " أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ سُئِلَ عَنْ شِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ قاَلُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ " (2) . [ص: 333] أخبرنا "مالك" عن "نافع" عن "ابن عمر" عن "زيد بن ثابت": أنَّ رَسُولَ اللهِ رَخَّصَ لِصَاحِبِ العَرِيَّةِ أنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا " (3) . أخبرنا "ابن عيينة" عن "الزهري" عن "سالم" عن أبيه عن "زيد بن ثابت": " أنَّ النَّبِيَّ رَخَّصَ فِي العَرَايَا " (4) . [ص: 334] قال "الشافعي": فكان بيع الرُّطَبِ بالتَّمْرِ مَنْهِيًّا عنه، لنهي النبي، وبَيَّنَ رسولُ الله أنه إنما نهى عنه لأنه ينقص إذا يَبِسَ، وقد نهى عن التمر بالتمر إلاَّ مثلاً بمثل، فلَمَّا نظَرَ في المُتَعَقَّبِ مِن نُقْصان الرطب إذا يبس، كان لا يكون أبداً مثْلاً بمثل، إذْ كان النُّقْصَانُ مُغَيَّبًا لا يُعْرَفُ، فكان يجمع معنيين: أحدهما التَّفاضُل في المَكِيلَة؛ والآخر المُزَابَنَة، وهي بيع ما يُعْرف كيْلُه بما يُجْهل كيْله مِنْ جنسه، فكان مَنْهِيًّا لمعنيين فَلَمَّا رخَّصَ رُسولُ الله في بيع العَرَايَا بالتمر كيْلاً لم تعْدُوا العرايا أن تكون رخصة مِن شيء نُهِيَ عنه، أو لم يكن النهي عنه: عن المزابنة والرطب بالتمر: إلاَّ مَقْصُوداً بهما إلى غير [ص: 335] العرايا، فيكونَ هذا مِن الكلام العام الذي يراد به الخاصُّ.   (1) البخاري: كتاب البيوع/2026؛ مسلم: كتاب البيوع/2846؛ مالك: كتاب البيوع/1140. (2) الترمذي: كتاب البيوع/1146؛ النسائي: كتاب البيوع/4469؛ أبو داود: كتاب البيوع/2915؛ ابن ماجه: كتاب التجارات/2255؛ مالك: كتاب البيوع/1139. (3) البخاري: كتاب البيوع/2039؛ مسلم: كتاب البيوع/2838؛ مالك: كتاب البيوع/1131. (4) البخاري: كتاب البيوع/2028؛ مسلم: كتاب البيبوع/2043؛ النسائي: كتاب البيوع/4460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وجه يشبه المعنى الذي قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وأخبرنا "سعيد بن سالم" عن "ابن جُرَيْجٍ" عن "عطاء" عن "صفوان بن مَوْهَبٍ" أنه أخبره عن "عبد الله بن محمد بن صَيْفِيِّ" عن "حكيم بن حِزَامٍ" أنه قال: " قَالَ لِي [ص: 336] رَسُولُ اللهِ: أَلَمْ أُنَبَّأْ، - أَوْ أَلَمْ يَبْلُغْنِي، أَوْ كَمَا شَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّكَ تَبِيعُ الطَّعَامَ؟ قال "حكيم": بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: لاَ تَبِيعَنَّ طَعَامًا حَتَّى تَشْتَرِيَهُ وَتَسْتَوْفِيَهُ " (1) . أخبرنا "سعيد" عن "ابن جُرَيج" قال: أخبرني "عطاء" ذلك أيضاً عن "عبد الله بن عِصْمَة" عن "حكيم بن حزام" أنه سمعه منه عن النبي. أخبرنا الثقة عن "أيوب بن أبي تميمة" عن "يوسف [ص: 337] بن مَاهَكَ" عن "حكيم بن حزام" قال: " نَهَانِي رَسُولُ اللهِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي" (2) . يعني بيعَ ما ليس عندك، وليس بمضمونٍ عليك. أخبرنا "ابن عيينة" عن "ابن أبي نَجِيحٍ" عن "عبد الله بن كثير" عن "أبي المِنْهَالِ" عن "ابن عباس" قال: " قَدِمَ رَسُولُ اللهِ [ص: 338] المَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: مَنْ سَلَّفَ فَلْيُسَلِّفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ووزن معلوم وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ " (3) . قال "الشافعي": حِفْظِي: " وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ ". وقال: غَيْرِي قَدْ قال ما قلْتُ، وقال: " أوْ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ". [ص: 339] قال: فكان نهي النبي أنْ يَبِيعَ المَرْءُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، يحتمل أن يبيع ما ليس بحضرته يراه المشتري كما يراه البائع عند تَبَايُعِهِمَا فيه، ويحتمل أن يبيعه ما ليس عنده: ما ليس يملك بعينه، [ص: 340] فلا يكون موصوفاً مضموناً على البائع يُؤْخَذُ به، ولا في مِلْكِهِ: فيلزم أن يُسَلِّمَهُ إليه بعينه، وغيْرَ هذين المعنيين. فَلَمَّا أَمَرَ رسولُ الله مَنْ سلَّف أن يُسَلِّفَ في كيْلٍ معلوم ووَزْنٍ معلوم وأجَلٍ معلوم، أو إلى أجل معلوم: دخل هذا بيعُ ما ليس عند المرء حاضراً ولا مملوكاً حين باعه. ولَمَّا كانَ هذا مضْموناً على البائع بصفة يؤخذ بها عند مَحَلِّ الأجل: دلَّ على أنه إنما نهى عن بيع عين الشيء في ملك البائع، والله أعلم. وقد يحتمل أو يكون النهيَ عن بيع العين الغائبة، [ص: 341] كانتْ في ملك الرجل أو في غير ملكه، لأنها قد تَهْلِكُ وتنقص قبل أن يراها المشتري.   (1) النسائي: كتاب البيوع/4523؛ أحمد: مسند المكثرين/14789. (2) الترمذي: كتاب البيوع/1153؛ أحمد: مسند المكيين/14774. (3) البخاري: كتاب السلم/2085؛ مسلم: كتاب المساقاة/3010؛ الترمذي: كتاب البيوع/1232؛ النسائي: كتاب البيوع/4537. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 قال: فكل كلام كان عاماً ظاهراً في سنة رسول الله فهو على ظهوره وعمومه، حتى يُعْلَمَ حديثٌ ثابِتٌ عن رسول الله - بأبي هو وأمي - يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعضُ الجملة دون بعض، كما وصفتُ من هذا وما كان في مثل معناه. ولزم أهلَ العلم أنْ يُمْضُوا الخبرين على وجوههما، ما وجدوا لإمضائهما وجهاً، ولا يَعُدُّونهما مختلفين وهما يحتملان أن يُمْضيَا، وذلك إذا أمكن فيهما أن يُمْضَيَا مَعًا، أو وُجِد السبيلُ إلى إمضائهما، ولم يكن منهما واحد بأوْجَبَ مِن الآخر. [ص: 342] ولا يُنْسَب الحديثان إلى الاختلاف، ما كان لهما وجهاً (1) يمضَيَان معاً، إنما المختلِف ما لم يُمْضَى (2) إلا بسقوط غيره، مثل أن يكون الحديثان في الشيء الواحد، هذا يُحِلُّهُ وهذا يُحَرِّمه.   (1) هكذا بالنصب وهو تِرْبٌ لشواهد سبقت انظر ص 158 (2) هذا من الكثرة التي أشرنا إليها في التعليق على ص 325 وانظر ص 275 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 [صفة نهي الله ونهي رسوله] (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 فقال: فصِفْ لي جِمَاع نهي الله - جل ثناؤه - ثم نهي النَّبِيِّ: عامًّا، لا تُبْقِ منه شيئاً. فقلت له: يجمع نهيه معنيين: - أحدهما: أن يكون الشيء الذي نهى عنه مُحَرَّمًا، لا يحل إلا بوجه دل الله عليه في كتابه، أو على لسان نبيه. فإذا نهى رسولُ الله عن الشيء من هذا فالنهيُ مُحرِّم، لا وجه له غيرُ التحريم، إلا أنْ يكون على معنى، كما وصفْتُ. قال: فصِفْ لي هذا الوجه الذي بدأت بذكره من [ص: 344] النهي، بمثال يدل على ما كان في مثل معناه. قال: فقلتُ له: كلُّ النساء مُحَرَّمَاتُ الفُرُوج، إلا بواحد من المعنيين: النكاحِ والوطْئِ بمِلْكِ اليَمين، وهما المعنيان اللذان أَذِنَ اللهُ فيهما. وسنَّ رسولُ الله كيْفَ النكاح الذي يَحِلُّ به الفرج المُحَرَّمُ قبله، فسَنَّ فيه ولِيًّا وشهوداً ورِضًا مِنَ المنْكوحة الثيِّب، وسنته في رضاها دليلٌ على أنَّ ذلك يكون بِرضا المُتَزَوِّج، لا فرق بينهما. فإذا جمَعَ النكاحُ أرْبعاً: رضا المُزَوَّجَةِ الثيِّبِ، والمُزَوَّجِ، وأن يُزَوِّج المرأةَ وليُّها بشهود: حَلَّ النكاحُ، إلا في حالات سأذكرها، إن شاء الله. وإذا نقص النكاحَ واحدٌ مِن هذا كان [ص: 345] النكاحُ فاسداً، لأنه لم يُؤْتَ به كما سنَّ رسول الله فيه الوجهَ الذي يحل به النكاح. ولو سَمَّى صَدَاقًا كان أحبَّ إليَّ، ولا يَفْسد النكاح بترك تسمية الصَّداق، لأن الله أثْبَتَ النكاحَ في كتابه بغير مهر، وهذا مكتوب في غير هذا الموضع. قال: وسواء في هذا المرأةُ الشريفة والدَّنِيَّةُ، لأن كلَّ واحِدٍ منهما، فيما يَحِلُّ به ويحرم، ويجب لها وعليها، مِن الحلال والحرام والحدود، سواء.   (1) زاد هذا العنوان الشيخ أحمد شاكر تأسياً بالشافعي في تسميته أحدَ كتبه الملحقة بالأم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 والحالات التي لو أُتِيَ بالنكاح فيها على ما وصفْتُ [ص: 346] أنه يجوز النكاحُ، فيما لم يُنْهَ فيها عنها من النكاح. فأما إذا عُقد بهذه الأشياء كان النكاح مفسوخاً، بنهي الله في كتابه وعلى لسان نبيه عن النكاح بحالات نهى عنها، فذلك مفسوخ. وذلك: أن ينْكِحَ الرجل أختَ امرأتِه، وقد نهى الله عن الجمع بينهما، وأن ينكح الخامسةَ، وقد انْتَهَى اللهُ به إلى أربع، فَبَيَّنَ [ص: 347] النبي أن انتهاءَ اللهِ به إلى أربع حَظْرٌ عليه أن يجمع بين أكثر منهُنَّ، أو ينكحَ المرأةَ على عمتها أو خالتها، وقد نهى النبي عن ذلك، وأنْ يَنْكِحَ المرأةَ في عِدَّتِهَا. فكلُّ نكاح كان من هذا لم يصِحَّ، وذلك أنه قد نُهِيَ عن عقدِه، وهذا ما لا خلاف فيه بيْنَ أحد من أهل العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ومثله - والله أعلم - أن النبي نهى عن الشِّغَارِ (1) ، وأن النبي نهى عن نكاح المُتْعَةِ (2) ، وأن النبي نهى المُحْرِمَ أنْ يَنْكِحَ أو يُنْكِحَ. فنحن نفسخ هذا كلَّه من النكاح، في هذه الحالات التي نهى عنها، بمثل ما فسخنا به ما نهى عنه مما ذُكِرَ قبْلَه. [ص: 348] وقد يخالفنا في هذا غيْرُنا، وهو مكتوب في غير هذا الموضع. (3)   (1) الشِّغارُ: بالكسر نكاح كان في الجاهلية، وهو أن يقول الرجل لآخر: زوِّجني ابنتك أو أختك على أن أزَوِّجك ابنتي أو أختي، على أنَّ صداق كلِّ واحِدَة منهما بُضْعُ الأخرى، كأنهما رَفَعَا المهرَ وأخليا البُضْعَ عنه [مختار الصحاح - الرازي] (2) نكاح المتعة: النِّكاح إلى أجَلٍ مُعَيَّن [النهاية - ابن الأثير] . (3) انظر اختلاف الحديث للشافعي والأم 5/68 - 72 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ومثله: أن يَنْكِح المرأةَ بغير إذنها، فتُجِيزَ بعدُ، فلا يجوز، لأن العقْدَ وقَعَ مَنْهِيًّا عنه. ومثل هذا ما نهى عنه رسول الله مِن بيع الغَرَرِ، وبيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، أو غير ذلك مما نهى عنه. وذلك أن أصلَ مالِ كلِّ امْرِئٍ محرَّم على غيره، إلاَّ بما أُحَلَّ به، وما أُحل به من البيوع ما لم ينْه عنه رسول الله، ولا يكون ما نهى عنه رسول الله من البيوع مُحِلًّا ما كان أصله محرماً [ص: 349] من مال الرجل لأخيه، ولا تكون المعصية بالبيع المنهي عنه تُحِلُّ مُحَرَّمًا، ولا تَحِلُّ إلا بما لا يكون مَعْصِيَةً، وهذا يدخل في عامة العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 فإن قال قائل: ما الوجه المباح الذي نُهِيَ المرْءُ فيه عن شيء، وهو يخالف النهيَ الذي ذكرتَ قبْلَه؟ فهو - إن شاء الله - مثل نهي رسول الله أن يشتمل الرجل على الصَّمَّاءِ (1) ، وأن يَحْتَبِيَ في ثوب واحد مُفْضِيًا بِفَرْجِه [ص: 350] إلى السماء، وأنه أمر غُلاماً أن يأكل مما بين يديه، ونهاه أن يأكل مِن أعلى الصَّحْفَةِ، ويُرْوَى عنه، وليس كثبوت ما قبله مما ذكرنا: أنه نهى عن أن يَقْرُِن الرجل إذا أكل بين التمرتين، وأن يكْشِف التمْرة عمَّا في جَوْفِها، وأنْ يُعَرِّسَ على ظهر الطريق. [ص: 351] فَلما كان الثوب مباحاً لِلاَّبِسِ، والطعامُ مباحًا لآكِلِه، حتى يأتيَ عليه كلِّه إنْ شاء، والأرض مباحة له إذا كانت لله لا لآدمي، وكان الناس فيها شَرَعاً، (2) فهو نُهِيَ فيها عن شيء أن يفعله، وأُمِر فيها بأن يفعل شيئاً غير الذي نُهِيَ عنه. والنهي يدل على أنه إنما نَهَى عن اشتمال الصماء والاحتباء مُفضياً بفرجه غيرَ مُسْتَتِرٍ: أنَّ في ذلك كشفَ عورته، قيل له يسترها بثوبه، فلم يكن نهيُهُ عن كشف عورته نهيَه عن لُبس ثوبه فيحرمَ عليه لبسُه، بل أمره أن يلبسه كما يستر عورته. [ص: 352] ولم يكن أمْرُه أن يأكل مِن بين يديه ولا يأكل من رأس الطعام، إذا كان مباحاً له أن يأكل ما بين يديه وجميعَ الطعام: إلاَّ أدَبًا في الأكل من بين يديه، لأنه أجملُ به عند مُوَاكِلِه، وأبعَدُ له من قُبْح الطَّعْمَة والنَّهَم، وأَمَره ألا يأكل من رأس الطعام لأن البركة تنزل منه له، على النظر له في أن يُبارَك له بَرَكَةً دائِمة يدوم نزولها له، وهو يبيحُ له إذا أكل ما حوْلَ رأس الطعام أن يأكل رأسه. وإذا أباح له المَمَرَّ على ظهر الطريق فالممرُّ عليه إذْ كان مُباحاً [ص: 353] لأنه لا مالِكَ له يمنع الممر عليه فيحرُم بمنعه: فإنما نهاه لمعنى يُثْبِت نظراً له، فإنه قال: " فَإِنَّهَا مَأْوَى الهَوَامِّ، وَطُرُقُ الحَيَّاتِ " (3) ، على النظر له، لا على أن التعريس محرَّم، وقد ينهى عنه إذا كانت الطريق مُتَضايقاً مسْلوكاً، لأنه إذا عرَّس عليه في ذلك الوقت منع غيره حقه في الممر.   (1) اشْتِمالُ الصَّمَّاءِ: أن يَرُدَّ الكِساءَ من قِبَلِ يَمينِهِ على يَدِهِ اليُسْرَى وعاتِقِهِ الأَيْسَرِ، ثم يَرُدَّهُ ثانِيَةً من خَلْفِهِ على يَدِهِ اليُمْنَى وعاتِقِهِ الأَيْمَنِ، فَيُغَطِّيَهُما جميعاً، أو الاشتِمالُ بثَوب واحِدٍ ليس عليه غيرُهُثم يضَعُهُ من أحَدِ جانِبَيْهِ، فَيَضَعُهُ على مَنْكِبِهِ، فَيَبْدو منه فَرْجُه [القاموس المحيط - فيروزآبادي] . (2) أي سواء. (3) مسلم: كتاب الإمارة/3553؛ الترمذي: كتاب الأدب؛ أحمد: باقي مسند المكثرين/8563. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فإن قال قائل: فما الفرق بين هذا والأوَّل؟ قيل له: مَن قامت عليه الحجة يَعْلَم أن النبي نهى عمَّا وصفْنا، ومَنْ فَعَل ما نُهِيَ عنه - وهو عالم بنهيه - فهو عاصٍ بفعله ما نُهِيَ عنه، وليَسْتَغْفِرِ الله ولا يَعودُْ (1) . فإن قال: فهذا عاص، والذي ذكرتَ في الكتاب [ص: 354] قبْله في النكاح والبيوع عاص، فكيْف فرَّقْتَ بين حالهما؟ فقلتُ: أمَّا في المعْصِية فلم أفرِّقْ بينهما، لأنِّي قد جعلتهما عاصيين، وبعضُ المعاصِي أعظمُ مِنْ بعض. فإن قال: فكيف لم تُحَرِّمْ على هذا لُبْسَهُ وأكلَه ومَمَرَّه على الأرض بمعصيته، وحرَّمْتَ على الآخر نِكاحَه وبيعه بمعصيته؟ قيل: هذا أُمِرَ بِأمْرٍ في مباحٍ حلال له، فأحللْتُ له ما حلَّ له، وحرَّمتُ عليه ما حُرِّم عليه، وما حرِّم عليه غيرُ ما أُحل له، ومعصيته في الشيء المباح له لا تحرمه عليه بكل حال، ولكن تُحَرِّم عليه أن يفعل فيه المعصيةَ. فإن قيل: فما مثل هذا؟ قيل له: الرجل له الزوجة والجارية، وقد نُهِيَ أنْ يَطَأهما حائضتين وصائمتين، ولوْ فَعَلَ لم يحلَّ ذلك الوطء له [ص: 355] في حاله تلك، ولم تُحَرَّمْ واحدة منهما عليه في حالٍ غير تلك الحال، إذا كان أصلُهُما مباحاً وحلالاً. وأصلُ مال الرجل محرَّم على غيره إلا بما أبيح به مما يَحِلُّ، وفروجُ النساء محرمات إلا بما أُبيحتْ به مِن النكاح والمِلْك، فإذا عقد عُقْدة النكاح أو البيع مَنْهِيًّا عنها على محرَّم لا يَحِلُّ إلا بما أُحلَّ به، لم يَحِلَّ المحرَّمُ بِمُحَرَّمٍ، وكان على أصل تحريمه، حتى يؤتى بالوجه الذي أحلَّه الله به في كتابه، أو على لسان رسوله، أو إجماع المسلمين، أو ما هو في مثل معناه. قال: وقد مَثَّلْتُ قبْل هذا: النهيَ الذي أُريد به غيرُ التحريم بالدلائل، فاكْتَفَيْتُ مِن ترْدِيدِه، وأسأل الله العِصْمة والتَّوْفيق.   (1) هكذا هي بإثبات الواو وقدَّمنا في غير موضع جوازه مع حرف الجزم ويجوز أن تكون (لا) نافية مع إرادة النهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 [باب العلم] (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 قال "الشافعي": فقال لي قائل: ما العِلْمُ؟ وما يَجِبُ على الناس في العلم؟ فقلت له: العلم عِلْمان: علمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالِغاً غيرَ مغلوب على عقْلِه جَهْلُهُ. قال: ومِثْل ماذا؟ قلت: مثلُ الصَّلَوَاتِ الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهْر رمضانَ، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرَّمَ عليهم الزِّنا والقتْل والسَّرِقة والخمْر، وما كان في معنى [ص: 358] هذا، مِمَّا كُلِّفَ العِبادُ أنْ يَعْقِلوه ويعْملوه ويُعْطُوه مِن أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حرَّمَ عليهم منه. وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، وموْجوداً (2) عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، ينقله عَوَامُّهم عن مَن مضى من عوامِّهم، يَحْكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم. [ص: 359] وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط مِن الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوز فيه التنازعُ. قال: فما الوجه الثاني؟ قلت له: ما يَنُوبُ العِباد مِن فُروع الفرائض، وما يُخَصُّ به مِن الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نصُّ كتاب، ولا في أكثره نصُّ سنَّة، وإن كانت في شيء منه سنةٌ فإنما هي مِن أخْبار الخاصَّة، لا أخبارِ العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُسْتَدْرَكُ قِياسًا. قال: فيَعْدُو هذا أن يكون واجِبًا وجوبَ العلم قبله؟ أوْ مَوْضوعاً عن الناس عِلْمُه، حتَّى يكونَ مَنْ عَلِمَهُ مُنْتَفِلاً، [ص: 360] ومَنْ تَرَكَ علْمَه غيرَ آثِمٍ بِتركه، أو مِنْ وَجْهٍ ثالثٍ، فتُوجِدُنَاهُ خَبَرًا أو قياسا؟ فقلت له: بلْ هو مِن وجه ثالثٍ. قال: فصِفْهُ واذْكر الحجَّةَ فيه، ما يَلْزَمُ منه، ومَنْ يَلْزَمُ، وعنْ مَنْ يَسْقُطُ؟ فقلت له: هذه درجةٌ مِن العلم ليس تَبْلُغُها العامَّةُ، ولم يُكَلَّفْهَا كلُّ الخاصَّة، ومَن احتمل بلوغَها مِن الخاصة فلا يَسَعُهُمْ كلَّهم كافةً أنْ يُعَطِّلُوهَا، وإذا قام بها مِن خاصَّتِهم مَنْ فيه الكفايةُ لم يَحْرَجْ غيرُه ممن تَرَكَها، إن شاء الله، والفضْل فيها لمن قام بها على مَنْ عَطَّلَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 فقال: فأوْجِدْنِي هذا خبراً أو شيئاً في معناه، ليكون هذا قياساً عليه؟ [ص: 361] فقلتُ له: فَرَضَ اللهُ الجِهادَ في كتابه وعلى لسانِ نبِّيه، ثم أكَّدَ النَّفِير مِن الجهاد، فقال: " إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالقُرَآن، وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) " [التوبة] . وقال: " وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) " [التوبة] . وقال: " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) " [التوبة] . وقال: " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [ص: 362] مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) " [التوبة] . أخبرنا "عبد العزيز" عن "محمد بن عمرو" عن "أبي سَلَمَةَ" عن "أبي هريرة" قال: قال رسولُ الله: " لاَ أزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ " (1) . وقال الله - جَلَّ ثناؤه -: " مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؟ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ؟ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) " [التوبة] . وقال: " انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ [ص: 363] وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) " [التوبة] . قال: فاحتملت الآيات أن يكون الجهاد كلُّه والنفيرُ خاصة منه: على كل مُطِيقٍ له، لا يَسَعُ أحَدًا منهم التخَلُّف عنه، كما كانت الصلوات والحجُّ والزَّكاة، فلم يخرج أحَدٌ وَجَبَ عليه فرْضٌ منها مِنْ أنْ يؤدِّيَ غيرُهُ الفرْضَ عن نفسه، لأنَّ عَمَلَ أحَدٍ في هذا لا يُكْتب لغيره. واحتملت أن يكون معنى فرْضِها غيرَ معنى فرْضِ الصلوات، وذلك أن يكون قُصِدَ بالفرض فيها قصْدَ الكِفاية، فيكونَُ مَن قام بالكفاية في جهاد مَنْ جُوهِدَ مِن المشركين مُدْرِكًا تأديةَ الفرض ونافِلَةَ الفضْل، ومُخْرِجًا مَن تَخَلَّفَ مِن المَأْثَمِ. ولمْ يُسَوِّي (2) اللهُ بينهما، فقال الله: " لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 364] بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ، فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) " [النساء] ، فأما الظاهر في الآيات فالفَرْضُ على العامَّة.   (1) البخاري: كتاب الإيمان/24؛ مسلم: كتاب الإيمان/32؛ الترمذي: كتاب تفسير القُرَآن/3264؛ النسائي: كتاب تحريم الدم/3908. (2) هكذا هي بإثبات الياء وقدمنا مراراً أنه جائز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 قال: فأبِنِ الدِّلالة في أنه إذا قام بعضُ العامَّةِ بالكِفاية أخْرَجَ المُتَخَلِّفينَ مِنَ المَأْثَمِ؟ فقلت له: في هذه الآية. قال: وأين هو منها؟ [ص: 365] قلتُ: قال اللهُ: " وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى "، فوَعَدَ المتخلفين عن الجِهاد الحُسْنَى على الإيمان، وأبان فضيلةَ المجاهدين على القاعِدين، ولو كانوا آثمين بالتخلف إذا غَزَا غيرُهم: كانت العقوبة بالإثم - إن لم يعفو اللهُ - أوْلَى بهم مِنَ الحُسنى. قال: فهل تجد في هذا غيرَ هذا؟ قلت: نعم، قال الله: " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) " [التوبة] ، وغَزَا رسولُ الله، وَغَزَّى معه مِن أصْحابه جماعةً وخَلَّفَ أُخْرَى، حتى تَخَلَّفَ [ص: 366] "علي بن أبي طالب" في غزوة تبوك، وأخْبَرَنا اللهُ أنَّ المسلمين لم يكونوا لِيَنْفِرُوا كافَّةً: " فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ "، فأخْبَرَ أنَّ النَّفِيرَ على بعضهم دون بعضٍ، وأنَّ التَّفَقُّهَ إنما هو على بعضهم دون بعض. وكذلك ما عَدَا الفرْضَ في عُظْمِ الفرائض التي لا يَسَعُ جَهْلُها، والله أعْلَمُ. وهكذا كلُّ ما كان الفرْضُ فيه مَقْصوداً به قصْدَ الكِفاية فيما يَنوبُ، فإذا قام به من المسلمين مَنْ فيه الكفاية خَرَجَ مَنْ تَخَلَّفَ عنه مِنَ المَأْثَمِ. ولو ضَيَّعُوهُ مَعًا خِفْتُ أنْ لا يَخرج واحِدٌ منهم مُطِيقٌ فيه مِن المأثم، بَلْ لا أشُكُّ، إن شاء الله، لِقوْله: " إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ". [ص: 367] قال: فَمَا معناها؟ قلت: الدِّلالة عليها أنَّ تخلُّفَهمْ عَن النَّفير كافَّةً لا يَسَعُهم، ونَفِيرَ بعْضهم - إذا كانت في نفيره كفايةٌ - يُخْرِجُ مَنْ تَخَلَّفَ مِن المأثم، إن شاء الله، لأنه إذا نَفَرَ بعضُهم وقع عليهم اسم "النَّفِير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 قال: ومثلُ ماذا سِوى الجِهادِ؟ قلت: الصلاة على الجنازة ودفْنُها، لا يحل تركها، ولا يجب على كُلِّ مَنْ بِحَضْرَتِهَا كلِّهم حُضورُها، ويُخْرِجُ مَن تَخَلَّفَ مِن المأثم مَن قام بكِفايتها. [ص: 368] وهكذا رَدُّ السلام، قال الله: " وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) " [النساء] . وقال رسولُ الله: " يُسَلِّمُ القَائِمُ عَلَى القَاعِدِ " (1) ، و" إِذَا سَلَّمَ مِنَ القَوْمِ وَاحِدٌ أَجْزَأَ عَنْهُمْ " (2) ، وإنما أُريدَ بهذا الرَّدُّ، فَرَدُّ القليل جامِعٌ لاسم "الرَّدّ"، والكفاية فيه مانعٌ لِأنْ يكونَ الرَّدُّ مُعَطَّلاً. ولم يَزَلِ المسلمون على ما وصفْتُ، مُنْذُ بعثَ اللهُ نَبِيَّهُ - فيما بَلَغَنا - إلى اليوم، يَتَفَقَّهُ أقَلُّهُمْ، ويَشْهَدُ الجنائِزَ بعضُهم، ويجاهدُ ويرُدُّ السلامَ بعضُهم، ويتخلف عَنْ ذلك غيرُهم، فيعرفون [ص: 369] الفضْلَ لمن قام بالفقه والجهاد وحضورِ الجنائز وردِّ السلام، ولا يُؤَثِّمُونَ مَنْ قَصَّرَ عن ذلك، إذا كان بهذا قائمون بكِفَايَتِهِ.   (1) بلفظ: "يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير" في: الالبخاري: كتاب الاستئذان/5774؛ مسلم: كتاب السلام/4019؛ الترمذي: كتاب الإستئذان والآداب/2627. (2) مالك: كتاب الجامع/1512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 [باب خبر الواحد] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 فقال لي قائل: احْدُدْ لي أقلَّ ما تقوم به الحجة على أهل العلم، حتى يَثْبَتَ عليهم خبرُ الخاصَّة. فقلت: خبرُ الواحد عن الواحد حتى يُنْتَهَى به إلى [ص: 370] النبي أو مَنْ انتهى به إليه دونه. ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يَجْمَعَ أُموراً: - منها أن يكون مَنْ حدَّثَ به ثِقَةً في دينه، معروفاً بالصِّدق في حديثه، عاقِلاَ لِمَا يُحَدِّثُ به، عالمِاً بما يُحيل مَعَانِيَ الحديث مِنَ اللفظ، وأن يكون ممن يُؤَدِّي الحديث بحروفه كما سَمِعَ، لا يحدث به على المعنى، لأنه إذا حدَّث على المعنى وهو غيرُ [ص: 371] عالمٍ بما يُحِيلُ به معناه: لم يَدْرِ لَعَلَّهُ يُحِيل الحَلاَلَ إلى الحرام، وإذا أدَّاه بحروفه فلم يَبْقَ وجهٌ يُخاف فيه إحالتُهُ الحديثَ، حافظاً إن حدَّث به مِنْ حِفْظِه، حافظاً لكتابه إن حدَّث مِنْ كتابه. إذا شَرِكَ أهلَ الحفظ في حديث وافَقَ حديثَهم، بَرِيًّا مِنْ أنْ يكونَ مُدَلِّساً، يُحَدِّثُ عَن من لقي ما لم يسمعْ منه، ويحدِّثَ عن النبي ما يحدث الثقات خلافَه عن النبي. ويكونُ هكذا مَنْ فوقَه ممَّن حدَّثه، حتى يُنْتَهَى بالحديث مَوْصُولاً إلى النبي أو إلى مَنْ انْتُهِيَ به إليه دونه، لأنَّ كلَّ [ص: 372] واحد منهم مثْبِتٌ لمن حدَّثه، ومثبت على من حدَّث عنه، فلا يُسْتَغْنَى في كل واحد منهم عمَّا وصفْتُ. فقال: فأوْضِحْ لي مِن هذا بشيء لعَلِّي أكونُ به أعرَفَ مِنِّي بهذا، لِخِبْرَتي به وقِلَّة خبْرَتي بما وصفْتَ في الحديث؟ فقلت له: أتريد أن أخبرك بشيء يكون هذا قياساً عليه؟ قال: نعم. قلت: هذا أصلٌ في نفْسِهِ، فلا يكون قياساً على غيره، لأن القياس أضْعَفُ مِن الأصْل. قال: فلسْتُ أريد أن تجعله قياساً، ولكنْ مَثِّلْه لي على شيء من الشهادات، التي العِلْم بها عامٌّ. قلت: قد يخالف الشهاداتِ في أشْياءَ، ويُجَامِعُها في غيرها. [ص: 373] قال: وأيْن يُخالِفها؟ قلت: أقْبَلُ في الحديث الواحدَ وَالمَرْأَةَ، ولا أقْبل واحِداً منهما وحْدَه في الشهادة. وأقبلُ في الحديث: (حدَّثَنِي فُلانٌ عَنْ فُلاَنٍ) ، إذا لم يكن مُدَلِّسًا، ولا أقبل في الشهادة إلا: (سَمِعْتُ) أو (رَأيْتُ) أو (أَشْهَدَنِي) . وتختلف الأحاديث، فآخُذُ بِبَعْضها، استدلالاً بكتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، وهذا لا يُؤْخَذُ به في الشهادات هكذا، ولا يُوجد فيها بحال. ثم يكون بشرٌ كلُّهم تجوز شهادتُه ولا أقْبَلُ حديثَه، مِنْ قِبَلِ ما يَدْخُلُ في الحديث مِنْ كثْرة الإحالة، وإزالة بعض ألفاظ المعاني. ثم هو يُجَامِعُ الشهاداتِ في أشياءَ غيْرِ ما وصفْتُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 فقال: أمَّا ما قُلْتَ مِن ألاَّ تَقْبَلَ الحديثَ إلاَّ عنْ ثِقَةٍ حافِظٍ عالِمٍ بما يُحِيلُ معنى الحديث: فكَما قلْتَ، فَلِمَ لمْ تَقُلْ هكذا في الشهادات؟ فقلْتُ: إنَّ إحالةَ معنى الحديث أخْفَى مِن إحالة معنى الشهادة، وبهذا احْتطتُ في الحديث بأكثرَ مما احتطتُ به في الشهادة. قال: وهكذا كما وصفْتَ، ولكِنِّي أنْكرْتُ - إذا كان مَنْ يُحَدَّثُ عنه ثِقةً فحَدَّثَ عنْ رجلٍ لم تعرِفْ أنْت ثقتَه -: [ص: 375] امْتِناعَكَ من أنْ تُقَلِّدَ الثقةَ، فَتُحْسِنَ الظَّنَّ به، فلا تترُكَه يَرْوِي إلاَّ عن ثقةٍ، وإنْ لم تعْرِفْهُ أنْتَ؟! فقلتُ له: أرأيْتَ أربعَةَ نَفَرٍ عُدولٍ فُقَهاءَ شَهِدوا على شهادة شاهدَين بِحَقٍّ لِرَجُلٍ على رجل: أكنْتَ قاضِيًا به ولم يقل لك الأربعةُ: إنَّ الشاهدَين عَدْلانِ؟ قال: لا، ولا أقطع بشهادتهما شيئاً حتى أعْرِفَ عدْلَهُما، إمَّا بتعديل الأربعة لهما، وإمَّا بتعديل غيرِهم، أو مَعْرِفَةً مِنِّي بِعدْلهما. فقلتُ له: ولِمَ لَمْ تَقْبَلْهُما على المعنى الذي أمرْتني أن أقْبَلَ عليه الحديثَ، فتقولَ: لم يكونوا لِيَشْهَدوا إلاَّ عَلَى مَنْ هو أعْدَلُ عندهم؟ فقال: قد يَشْهدون على مَنْ هو عدْلٌ عنْدهم، ومَنْ [ص: 376] عَرَفوه ولمْ يَعْرِفوا عدْلَه، فلَمَّا كان هذا موْجوداً في شهادَتهم لم يكن لي قبولُ شهادةِ مَنْ شهِدوا عليه حتى يُعَدِّلوه، أوْ أعرِفَ عدْلَه وعدْلَ مَنْ شَهِدَ عِنْدي على عدْل غيْرِه، ولا أقْبَلُ تعديلَ شاهِدٍ على شاهدٍ عَدَّلَ الشاهدُ غيرَه ولمْ أعْرف عدْلَهُ. فقلتُ: فالحجة في هذا لكَ الحُجَّةُ عليك: في ألاَّ تَقْبَلَ خبَرَ الصَّادِق عَن منْ جَهِلْنا صدْقَه. والناس مِن أنْ يشْهَدوا على شهادَة مَنْ عرَفوا عدْلَه: أشَدُّ تَحَفُّظًا مِنْهُمْ مِنْ أنْ يَقْبَلُوا إلاَّ حديثَ مَنْ عرَفوا صِحَّةَ حديثه. وذلك: أنَّ الرجل يَلْقَى الرجُلَ يَُرَى عليه سِيما الخير، فيُحْسنُ الظنَّ به، فيَقْبلُ حديثَه، ويقْبَلُه وهو لا يَعْرِف [ص: 377] حالَه، فيَذْكُرُ أنَّ رجُلاً يُقال له: (فلان) حدَّثَنِي كذا، إمَّا على وجْهٍ يرْجو أنْ يجِدَ عِلْمَ ذَلِك الحديث عنْدَ ثِقة فيقبَلَه عن الثقة، وإمَّا أن يحدث به على إنكاره والتعجب منه، وإمَّا بِغفْلةٍ في الحديث عنه. ولا أعْلَمُنِي لَقِيتُ أحَداً قَطُّ بَرِيًّا مِن أنْ يحدث عنْ ثِقةٍ حافِظٍ وآخَرَ يُخَالِفه. ففَعَلْتُ في هذا ما يجبُ عليَّ. ولم يكن طَلَبِي الدَّلائلَ على معرفة صِدق مَنْ حدَّثني بأوْجَبَ عليَّ مِن طلبي ذلك على معرفة صدْقِ مَن فَوْقَه، لأني أحتاجُ في كلهم إلى ما أحتاج إليه فيمن لقِيتُ مِنهم، لأنَّ كلَّهم مُثْبِتٌ خَبَرًا عن من فوقه ولِمَنْ دونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فقال: فما بالُك قبِلْتَ ممن لم تعرفه بالتَّدْليسِ أن يقول: (عن) ، وقد يُمْكِنُ فيه أنْ يكونَ لمْ يسْمَعْه؟ فقلت له: المسلمون العُدول عُدولٌ أصِحَّاءُ الأمْر في أنفسهم، وحالُهُم في أنفسهم غيرُ حالهم في غيرهم، ألا ترى أنِّي إذا عرَفتهم بالعدل في أنفسهم قَبِلْتُ شَهادَتهم، وإذا شَهِدوا على شهادة غيرِهم لمْ أقْبلْ شهادَة غيرِهم حتى أعرف حاله؟! ولم تكن معرفتي عدْلَهم معرفتي عدلَ من شَهِدوا على شهادَتِه. وقولُهم عن خبر أنفسهم وتسميتُهم: على الصِّحة، حتى نسْتَدِلَّ مِنْ فِعلهم بما يخالف ذلك، فَنَحْتَرِسَ منهم في الموضع الذي خالَف فِعْلُهم فيه ما يجب عليهم. ولم نَعْرِفْ بالتدليس بِبَلدنا، فيمن مضى ولا مَنْ [ص: 379] أدْرَكْنا مِن أصحابنا، إلاَّ حديثاً فإن منهم من قبله عن من لو تركه عليه كان خيراً له. وكان قول الرجل: (سمعتُ فلاناً يقول سمعت فلاناً) وقولُه: (حدّثَني فلانٌ عنْ فُلان) : سَواءً عنْدهم، لا يحدِّثُ واحد منهم عن من لَقِيَ إلاَّ ما سَمِع منه ممن عَنَاه بهذه الطريق، قَبِلْنا منه: (حدثني فلان عن فلان) . ومَن عرَفْناه دلَّس مَرَّةً فقَدْ أبَان لَنَا عوْرَته في رِوايتِه. وليستْ تلك العورةُ بالكذب فنَرُدَّ بها حديثَه، ولا النَّصيحَةِ في الصِّدق، فنقْبَلَ مِنه ما قَبِلْنا مِن أهل النصيحة في الصدق. [ص: 380] فقلْنا: لا نقبل مِن مُدَلِّسٍ حديثاً حتى يقولَ فيه: (حدثني) أو (سمعْتُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فقال: قَدْ أراكَ تقْبَل شهادَة من لا يُقْبَل حديثُه؟ قال: فقلتُ: لِكِبَرِ أمْر الحديث ومَوْقِعه مِن المسلمين، ولمعنى بَيِّنٍ. قال: وما هو؟ قلت: تكون اللَّفْظةُ تُتْركُ مِن الحديث فتُحيلُ معناه، أو يُنْطَقُ بها بِغير لَفْظَة المُحَدِّث، والناطِق بها غيرُ عامِدٍ لإحالة الحديث: فيُحِيلُ معْناه. فإذا كان الذي يحملُ الحديثَ يجهَلُ هذا المعنى، كان غيرَ عاقِل للحديث، فلمْ نقْبَل حديثَه، إذا كان يحمل ما لا يَعْقِلُ، إن [ص: 381] كان ممن لا يُؤَدِّي الحديثَ بِحُروفِه، وكان يَلْتَمِس تأديته على معانيه، وهو لا يعقِلُ المعنى. قال: أفيكونُ عَدْلًا غَيْرَ مَقْبول الحديث؟ قلت: نَعَمْ، إذا كان كما وصفْتُ كان هذا مَوْضِعَ ظِنَّةٍ بَيِّنَةٍ يُرَدُّ بها حدُيثه، وقد يكون الرجل عدلاً على غيره ظَنِينَاً في نفسه وبعض أقْرَبِيه، ولعلَّه أنْ يَخِرَّ من بُعْدٍ أهْوَنُ عليه مِن أنْ يَشْهَد بِبَاطلٍ، ولكنْ الظِّنَّةُ لَمَّا دَخَلَتْ عليه تُرِكَتْ بها شهادتُه، فالظِّنَّةُ ممن لا يؤدي الحديث بحروفه ولا يعقل معانيه: أبْيَنُ منها في الشَّاهِد لمن تُرَدُّ شهادتُه فيما هو ظَنِينٌ فيه بحال. وقد يُعْتَبَرُ على الشُّهود فيما شهدوا فيه، فإن استدللنا على مَيْلٍ نسْتَبِينُهُ أو حِيَاطَةٍ بمُجاوزة قصْدٍ للمشهود له: [ص: 382] لمْ نَقْبَلْ شهادَتهم، وإنْ شهِدوا في شيء مما يَدِقُّ ويذْهَبُ فَهْمُه عليهم في مِثْل ما شهِدوا عليه: لمْ نقْبَلْ شهادَتهم، لأنهم لا يعقلون معنى ما شهدوا عليه. ومَنْ كَثُرَ غَلَطُه مِن المحدثين ولم يكن له أصْلُ كِتَابٍ صحيح: لم نقبل حديثَه، كما يكون مَنْ أكْثَرَ الغَلَطَ في الشهادة لم نقبل شهادَته. وأهلُ الحديث مُتَبَايِنُونَ: - فمِنْهم المعروف بعِلْمِ الحديث، بطلَبه وسماعه مِن الأب والعمِّ وذَوِي الرَّحِمِ والصَّدِيقِ، وطُولِ مُجالَسَة أهلِ التَّنازُع فيه، ومَنْ كان هكذا كان مُقَدَّمًا في الحِفْظ، إنْ خالَفه مَنْ يُقَصِّرُ [ص: 383] عنه كان أوْلَى أنْ يُقْبَل حديثُه ممن خالفه مِنْ أهل التقصير عنه. ويُعْتَبَرُ على أهْلِ الحديث بأنْ إذَا اشْتَرَكُوا في الحديث عن الرَّجُل بِأنْ يُسْتَدَلَّ على حِفْظ أحدِهم بِمُوَافَقَةِ أهْل الحِفْظ، وعلى خلاف حِفْظه بخلاف حفظ أهْلِ الحِفْظِ له. وإذا اختلفَت الروايةُ استدللنا على المحفوظ منها والغَلَط بهذا، ووُجُوهٍ سِواه، تدُلُّ على الصدق والحفظ والغلط، قد بيَّناها في غير هذا الموضع، وأسأل الله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 فقال: فما الحجَّةُ لك في قَبول خبر الواحد وأنْتَ لا تُجِيز شَهادَة واحِدٍ وحْده؟ وما حجتك في أنْ قِسْتَهُ بالشهادَة في أكْثَرِ أمْره، وفَرَّقْتَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الشهادَةِ في بعْض أمْره؟ [ص: 384] قال: فقلْتُ له: أنتَ تُعِيدُ ما قد ظَنَنْتُكَ فَرَغْتَ مِنه!! ولمْ أَقِسْهُ بالشَّهادَة، إنَّمَا سألْتَ أنْ أمَثِّلَهُ لَكَ بشيء تعرفه، أنتَ به أخبرُ منك بالحديث، فَمَثَّلْتُهُ لك بذلك الشيء، لا أنِّي احْتَجْتُ لأنْ يكون قياساً عليه. وتَثْبِيتُ خبر الواحد أقْوى مِنْ أنْ أحْتاج إلى أنْ أُمَثِّلَهُ بغيره، بَلْ هُوَ أصْلٌ في نفْسِه. قال: فكيف يكون الحديث كالشهادة في شيء، ثم يفارِقُ بعْضَ معانِيها في غيره؟ فقلت له: هو مخالف للشهادة - كما وصفْتُ لك - في بعض أمْره، ولو جَعَلْتُهُ كالشهادة في بعض أمره دون بعضٍ كانت الحجة لي فيه بَيِّنَةً، إنْ شاء الله. [ص: 385] قال: وكيْف ذلك، وسبيلُ الشهادات سبيلٌ واحِدة؟ قال: فقلْتُ: أتعني في بعض أمرها دون بعض؟ أمْ في كلِّ أمْرها؟ قال: بلْ في كلِّ أمْرِها. قلتُ: فَكَمْ أقَلُّ ما تَقْبَلُ علَى الزِّنا؟ قال: أربعة. قلتُ: فإن نَقَصُوا واحِد جَلَدْتَهم؟ قال: نعم. قلت: فكم تقبل على القتل والكفر وقطع الطريق الذي تَقْتُلُ به كلِّه؟ قال: شاهِدين. قلت له: كم تقْبل على المال؟ [ص: 386] قال: شاهِدًا وامْرأتَيْنِ. قلت: فكَمْ تقبل في عُيوب النِّساء؟ قال: امْرَأةً. قلت: ولَوْ لم يُتِمُّوا شاهِدَيْن وشاهِدًا وامْرأتين: لم تَجْلِدْهُم كما جَلَدْتَ شُهودَ الزِّنا؟ قال: نعم. قلت: أفَتَراها مُجْتَمِعَةً؟ قال: نعم، في أنْ أقْبَلَهَا مُتَفَرِّقَةً في عَدَدِهَا. وفي أنْ لاَ يُجْلَدَ إلاَّ شاهِدُ الزِّنا. قلت له: فلَوْ قلْتُ لك هذا في خَبَرِ الواحِدِ، وهو مُجَامِعٌ للشَّهادة في أنْ أقْبَلَه، ومُفَارِقٌ لها في عَدَدِهِ، هلْ كانتْ لك حجَّةٌ إلاَّ كَهِيَ عَلَيْكَ؟! [ص: 387] قال: فإنما قلْتُ بالخلاف بَيْنَ عدَد الشهادات خَبَرًا واستدلالاً. قلت: وكذلك قلْتُ في قبول خبر الواحد خبًرا واستدلالاً. وقلتُ: أَرأيْتَ شهادَة النِّساء في الوِلادَة، لِمَ أَجَزْتَهَا ولا تُجِيزُهَا في دِرهمٍ؟ قال: اتِّبَاعًا. قلتُ: فإنْ قيل لك: لَمْ يُذْكَرْ في القُرَآن أقَلُّ مِنْ شاهد وامرأتين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الجزء الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 قال "أبو القاسم عبد الرحمن بن نصر"قال: نا "أبو علي الحسن بن حبيب" قال: نا "الربيع بن سليمان"قال: أنا الشافعي: بسم الله الرحمن الرحيم قال: ولمْ يُحْظَرْ أن يجوزَ أقلُّ مِن ذلك، فأجَزْنَا ما أجاز المسلمون، ولم يكن هذا خِلافاً لِلْقرآن. قلنا: فهكذا قلْنَا في تثبيت خبر الواحد، استدلالاً بأشياءَ كلُّها أقْوَى مِن إجازة شَهادَةِ النِّساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فقال: فهل مِن حُجَّةٍ تُفَرِّقُ بين الخبر والشهادة سِوى الاتِّباع؟ قلتُ: نعم، ما لا أعْلَمُ مِن أهل العلم فيه مُخالِفًا. [ص: 391] قال: وما هو؟ قلت: العدْلُ يكون جائزَ الشهادَة في أمورٍ، مَرْدُودُهَا في أُمور. قال: فأيْنَ هو مَرْدُودُها؟ قلت: إذا شَهِدَ في مَوْضعٍ يَجُرُّ به إلى نَفْسِه زيادةً، مِنْ أيِّ وَجْهٍ ما كان الجَرُّ، أو يَدْفَع بها عن نفسه غُرْمًا أو إلى ولَده أو والِده، أو يدْفَع بها عنْهما، ومواضِعِ الظِّنَنِ سِواها. وفيه في الشهادة: أنَّ الشاهِد إنما يَشْهَدُ بها على واحِدٍ لِيُلْزِمَهُ غُرْمًا أو عُقُوبةً، وللرجل ليُؤْخَذَ له غُرْمٌ أو عقوبة، [ص: 392] وهو خَلِيٌّ مما لَزِمَ غيْرَه مِن غُرْم، غيرُ داخِل في غُرْمِه ولا عقوبته، ولا العارِ الذي لزمه، ولعله يجرُّ ذلك إلى مَن لَعَلَّهُ أن يكون أشدَّ تَحامُلاً له منه لوَلَده أو والِده، فيُقْبَلُ شهادتُه، لأنه لا ظِنَّةَ ظاهِرةًٌ كظِنَّته في نفْسِه وولده ووالده، وغيرِ ذلك مما يَبِينُ فيه مِن مَواضع الظِّنَنِ. والمُحَدِّثُ بما يُحِلُّ ويحرِّم لا يجرُّ إلى نفسه ولا إلى غيره، ولا يَدْفع عنها ولا عن غيره، شيئاً مما يَتَمَوَّلُ الناسُ، ولا مما فيه عقوبةٌ عليهم ولا لهم، وهو ومَنْ حدَّثه ذلك الحديث من المسلمين: سواءٌ، إن كان بأمرٍ يُحِلُّ أو يُحرِّم فهو شريكُ العامَّة فيه، لا تختلف حالاته فيه، فيكونَ ظَنِينًا مرَّةٍ مَرْدُودَ الخبر، وغيرَ ظنينٍ أُخْرَى مَقْبُولَ الخبر، كما تختلف حال الشاهِد لعوامِّ المسلمين وخواصِّهِمْ. [ص: 393] وللناس حالاتٌ تكون أخبارُهم فيها أصحَّ وأحْرَى أن يَحْضُرَها التَّقْوَى منها في أُخرى، ونِيَّاتُ ذوي النِيَّات فيها أصحُّ، وفِكرُهم فيها أدْوَمُ، وغفلتُهم أقلُّ، وتلك عند خوْف الموْت بالمرض والسفر، وعند ذِكْرِه، وغير تلك الحالات من الحالات المُنَبِّهَةِ عَن الغفْلة. فقلتُ له: قد يكون غيرُ ذي الصِّدْق مِن المسلمين صادقاً في هذه الحالات، وفي أن يُؤْتَمَنَ على خبر، فيُرَى أنه يُعْتَمَدُ على خبره فيه، فيَصْدُقُ غايَةَ الصِّدْقِ، إن لم يكن تقْوى فحَيَاءً مِن أن يُنْصَبَ لأمانَة في خبر لا يَدْفَعُ به عن نفسه ولا يَجُرُّ إليها: ثم يَكْذِبُ بعْدَه، أو يَدَعُ التحَفُّظَ في بعض الصدق فيه. [ص: 394] فإذا كان موجوداً في العامة وفي أهل الكذب الحالاتُ يَصْدُقون فيها الصدقَ الذي تَطِيب به نفسُ المحدثين: كان أهل التقوى والصدق في كل حالاتهم أولى أن يتحفظوا عند أولى الأمور بهم أن يتحفظوا عندها، في أنهم وُضِعُوا مَوْضِع الأمانة، ونُصِبُوا أعْلامًا لِلدين، وكانوا عالِمِين بما ألْزَمَهُم اللهُ مِن الصدق في كلِّ أمْر، وأن الحديث في الحلال والحرام أعْلى الأمور وأبْعَدُها مِن أن يكون فيه موضعُ ظِنَّةٍ، وقد قُدِّمَ إليهم في الحديث عن رسول الله بشيء لم يُقَدَّم إليهم في غيره، فوُعِدَ على الكذب على رسول الله النارُ. "عبد العزيز" عن "محمد بن عَجلان" عن "عبد الوهَّاب بن [ص: 395] بُخْتٍ" عن "عبد الواحد النَّصْرِي" عن "واثلة بن الأسْقَعِ" عن النبي قال: " إنَّ أَفْرَى الفِرَى مَنْ قَوَّلَنِي مَا لَمْ أَقُلْ، ومَنْ أرَى عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَى، وَمَنِ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ " (1) . [ص: 396] "عبد العزيز" عن "محمد بن عمرو" عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة" أنَّ رسول الله قالَ: " مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " (2) . "يحيى بن سُلَيْمٍ" عن "عبيد الله بن عمر" عن "أبي بكر بن سالم" عن "سالم" عن "ابن عمر" أن النبي قال: " إنَّ الَّذِي يَكْذِبُ عَلَيَّ يُبْنىَ لَهُ بَيْتٌ فِي النَّارِ " (3) . [ص: 397] حدثنا "عمرو بن أبي سلمة" عن "عبد العزيز بن محمد" عن "أُسِيدٍ بن أبي أُسيد" عن أمه قالتْ: قلتُ "لأبي قتادة": مَا لَكَ لاَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسثولِ اللهِ كَمَا يُحَدِّثُ النَّاسُ عَنْهُ؟ قالت: فقال: "أبو قَتادةَ" سمعت رسول الله يقول: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلْتَمِسْ لِجَنْبِهِ مَضْجَعًا مِنَ النَّارِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ يَقُولُ ذَلِكَ وَيَمْسَحُ الأَرْضَ بَيَدِهِ " (4) . "سفيان" عن "محمد بن عمرو" عن "أبي سلمة" عن "أبي هريرة" أنَّ رَسُولُ اللهِ قَالَ: " حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، [ص: 398] وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلاَ تَكْذِبُوا عَلَيَّ " (5) . وهذا أشدُّ حديثٍ رُوِيَ عن رسول الله في هذا، وعليه اعْتَمدنا مع غيره في أنْ لا نقبَلَ حديثًا إلاَّ مِنْ ثِقة، ونعْرِفَ صدقَ مَنْ حَمَلَ الحديثَ مِن حينِ ابْتُدِئَ إلى أن يُبْلَغَ به مُنْتَهَاه.   (1) رواه البخاري كتاب المناقب. باب: نسبة اليمن إلى إسماعيل. رقم 3318، وأحمد في مسند الشاميين 4/106 والشافعي في المسند 650. (2) هذا حديث متواتر روي بألفاظ كثيرة عن عدد من الصحابة. (3) إسناده صحيح ورواه أحمد من هذا الطريق رقم 4742 - 5798 - 6309 (4) ذكره في كنز العمال وعزاه للشافعي والبيهقي في المعرفة (29226) (5) روي عن عدد من الصحابة بأسانيد صحاح رواه أحمد عن أبي هريرة 11108 ومواضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فإن قال قائل وما في هذا الحديث من الدلالة على ما وصفت؟ قيل: قد أحاط العلم أن النبي لا يأمر أحداً بحال أبداً أن يكذب على بني إسرائيل، ولا على غيرهم، فإذ أباح الحديث [ص: 399] عن بني إسرائيل أن يقبلوا الكذب على بني إسرائيل أباح، وإنما أباح قبول ذلك عن من حدَّث به ممن يُجهل صدقه وكذبه. ولم يُبِحْه أيضاً عن من يُعرف كذبه لأنه يُروى عنه أنه "مَن حدَّث بحديث، وهو يُرَاه كذباً فهو أحد الكاذِبَين " (1) ومَن حدَّث عن كذاب لم يبرأ من الكذب؛ لأنه يرى الكذاب في حديثه كاذباً ولا يُستدل على أكثرِ صدق الحديث وكذبه إلا بصدق اُلمخبِر وكذبه، إلا في الخاصِّ القليل من الحديث، وذلك أن يُستدل على الصدق والكذب فيه بأن يُحَدِّث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أَثبتُ وأكثرُ دلالاتٍ بالصدق منه. [ص: 400] وإذ فرق رسول الله بين الحديث عنه، والحديث عن بني إسرائيل فقال: "حدثوا عني ولا تكذبوا علي ": فالعلم - إن شاء الله - يحيط أن الكذب الذي نهاهم عنه هو الكذب الخفي. وذلك الحديث عمن لا يُعرف صدقه؛ لأن الكذب إذا كان منهياً عنه على كل حال، فلا كذب أعظم من كذبٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الحجة في تثبيت خبر الواحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 قال "الشافعي: "فإن قال قائل: اذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد بنصِّ خبر أو دلالةٍ فيه أو إجماعٍ. فقلت له أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن النبي قال: "نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيه ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاثٌ لا يَُغِلُّ [ص: 402] (1) عليهن قلبُ مسلم: إخلاصُ العمل لله، والنصيحةُ للمسلمين، ولزوم، جماعتهم، فإنّ دعوتهم تحيط من روائهم". (2) فلما نَدَب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظِها وأدائها امرأً يؤديها، والامْرُءُ واحدٌ: دلَّ على أنه لا يأمر [ص: 403] أن يُؤدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يُؤدَّى عنه حلال وحرام يُجتَنَب، وحدٌّ يُقام، ومالٌ يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دينٍ ودنيا. ودل على أنه قد َححمل الفقهَ غيرُ فقيه، يكون له حافظاً، ولا يكون فيه فقيهاً. وأمْرُ رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يُحتج به في أن إجماع المسلمين - إن شاء الله - لازمٌ. أخبرنا سفيان قال أخبرني سالم أبو النضر أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قال: قال النبي: "لا أُلفِيَنَّ أحدكم متّكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما نهيت عنه [ص: 404] أو أمرت به، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" (3) قال ابن عيينة: وأخبرني محمد بن المنكدر عن النبي بمثله مرسلاً. وفي هذا تثبيتُ الخبر عن رسول الله وإعلامُهم أنه لازم لهم، وإن لم يجدوا له نصَّ حكمٍ في كتاب الله، وهو موضوع في غير هذا الموضع. أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: أن رجلاً قبَّل امرأته وهو صائم، فَوَجَد من ذلك وجْداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة أمِّ المؤمنين، فأخبرتها، فقالت أم سلمة: إن رسول الله يقبِّل وهو صائم. فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثلَ رسول الله، يُحِل الله لرسوله ما شاء. فرجعت المرأة إلى [ص: 405] أم سلمة فوجدت رسول الله عندها، فقال رسول الله: ما بال هذه المرأة؟ فأخبرته أم سلمة، فقال: ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ فقالت أم سلمة: قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرتْه فزاده ذلك شراً، وقال: لسنامثل رسول الله، يُحل الله لرسوله ما شاء. فغضب رسول الله ثم قال: والله إني لأتقاكم لله، ولأعلمكم بحدوده" وقد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذِكر مَن وصله. (3)   (1) يغل بفتح الياء وضمها مع كسر العين فالفتح من الغل وهو الحقد، والضم من الإغلال وهو الخيانة. (2) رواه البيهقي في المدخل. ورواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي عن زيد بن ثابت. كما في مشكاة المصابيح. (3) وصله عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء عن رجل من الأنصار وأحمد في المسند 5/434 وانظر مجمع الزوائد 3/166 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 قال "الشافعي: "في ذكر قول النبي صلى الله عليه: " ألَّا أخبرتيها أني أفعل ذلك" دلالةٌ على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله؛ لأنه لا يأمرها بأن تخبر عن النبي إلا وفي خبرها ما تكون الحجةُ لمن أخبرتْه. وهكذا خبرُ امرأته إن كانت من أهل الصدق عنده. أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "بينما الناس بقُباءٍَ في صلاة الصبح إذ أتاهم آت، فقال: إن رسول الله قد أُنزل عليه قُرَآن وقد أُمر أن يستقبل القبلة فاستقبَِلوها وكانت وجوههم إلى الشأْم فاستداروا إلى الكعبة" وأهلُ قباءٍَ أهلُ سابقة من الأنصار وفقه، وقد كانوا على قبلةٍ فرض الله عليهم استقبالها. [ص: 407] ولم يكن لهم أن يَدَعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة، ولم يلقوا رسول الله، ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة، فيكونون مستقبلين بكتاب الله وسنة نبيه سماعاً من رسول الله ولا بخبر عامّةٍ، وانتقلوا بخبر واحد، إذا كان عندهم من أهل الصدق: عن فرضٍ كان عليهم، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي أنه أَحدث عليهم من تحويل القبلة. ولم يكونوا ليفعلوه - إن شاء الله - بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبُت بمثله، إذا كان من أهل الصدق. [ص: 408] ولا ليُحدثوا أيضاً مثل هذا العظيم في دينهم إلا عن علم بأن لهم إحداثَه. ولا يدعون أن يخبروا رسول الله بما صنعوا منه. ولو كان ما قَبلوا من خبر الواحد عن رسول الله في تحويل القبلة، وهو فرض: مما يجوز لهم، لقال لهم - إن شاء الله - رسول الله: قد كنتم على قبلةٍ، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة من سماعكم مني، أو خبرِ عامةٍ أو أكثرَ من خبر واحد عني. أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة [ص: 409] عن أنس بن مالك قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجرَّاح وأُبيَّ بن كعب شراباً من فضيخٍ (1) وتمرٍ، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حُرِّمت. فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجِرار فاكسرها، فقمت إلى مِهْراسٍ (2) لنا، فضربتُها بأسفلِه حتى تكسَّرت". (3) وهؤلاء في العلم والمكان من النبي وتَقَدُّمِ صحبته بالموضع الذي لا يُنكِره عالم. وقد كان الشراب عندهم حلالاً يشربونه، فجاءهم آت وأخبرهم بتحريم الخمر، فأمر أبو طلحة - وهو مالك [ص: 410] الجرار - بكسر الجرار، ولم يقل هو، ولاهم، ولا واحد منهم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله مع قربه منا أو يأتينا خبر عامَّة. وذلك أنهم لا يُهرِيقون حلالاً، إهراقُه سَرَفٌ، وليسوا من أهله. والحال في أنهم لا يدَعون إخبار رسول الله ما فعلوا، ولا يَدَع - لو كان قبِلوا من خبر الواحد ليس لهم -: أن ينهاهم عن قبوله. وأمر رسول الله أنيساً أن يغدو على امرأة رجل ذكر أنها زَنَت، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها. وأخبرنا بذلك مالك وسفيان عن الزهري [ص: 411] عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وساقا عن النبي. وزاد سفيان مع أبي هريرة وزيد بن خالد: شِبْلاً. (4) أخبرنا عبد العزيز عن ابن الهاد عن عبد الله بن أبي سلمة عن عمرو بن سليم الزُّرَقي عن أمه قالت: "بينما [ص: 412] نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جملٍ يقول: إن رسول الله يقول: إن هذه أيامُ طعام وشراب، فلا يصومنَّ أحد، فاتبع الناسَ وهو على جمله يصرخ فيهم بذلك. ورسول الله لا يبعث بنهيه واحداً صادقاً إلا لزم خبرُه عن النبي، بصدقه عن المنهيين عن ما أخبرهم أن النبي نهى عنه. ومع رسول الله الحاجُّ، وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافهَهُم، أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق. وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمةٌ بقبول خبره عن رسول الله.   (1) شراب يُتّخذ من البسر المشدوخ. (2) حجر مستطيل منقور يُتَوضأ منه ويدقّ فيه. (3) رواه البخاري: في الأشربة، وفي خبر الواحد، ومسلم: في الأشربة. (4) شِبل بن معبد وقيل: ابن خليد وقيل: غير ذلك. وانفرد بذكر (شبل) ابن عيينة. قال ابن حجر في التهذيب: ((ولم يتابع على ذلك. رواه النسائي والترمذي وابن ماجه، وقال النسائي: الصواب الأول، قال: وحديث ابن عيينة خطأ، وروى البخاري حديث ابن عيينة فأسقط منه شبلاً)) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 فإذا كان هكذا مع ما وصفتُ من مقدرة النبي على بعثه جماعةً إليهم: كان ذلك - إن شاء الله - فيمن بعده ممن لا يمكنه ما أمكنهم، وأمكن فيهم: أولى أن يَثبت به خبر الصادق. أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن عبد الله بن صفوان عن خالٍ له - إن شاء الله - يقال له: يزيد بن شيبان قال: كنا في موقف لنا بعرفة يُباعده عمروٌ من موقف الإمام جداً، فأتانا ابن مِرْبَع الأنصاري فقال لنا: أنا [ص: 414] رسول رسول الله إليكم: يأمركم أن تقفوا على مشاعركم، فإنكم على إرثٍ من إرث أبيكم إبراهيم. وبعث رسول الله أبا بكر والياً على الحج في سنة تسع، وحضره الحج من أهل بلدان مختلفة، وشعوب متفرقة، فأقام لهم مناسكهم، وأخبرهم عن رسول الله بما لهم وما عليهم. وبعث عليَّ بن أبي طالب في تلك السنة، فقرأ عليهم في مجمعهم يوم النحر آيات من {سورة براءة} ، ونبذ إلى قوم على سواءٍ وجعل لهم مدداً، ونهاهم عن أمور. [ص: 415] فكان أبو بكر وعليٌّ معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين والصدق، وكان من جَهِلَهما أو أحدَهما من الحاجّ وجد من يخبره عن صدقهما وفضلهما. ولم يكن رسول الله ليبعث إلا واحداً الحجةُ قائمة بخبره على من بعثه إليه، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وقد فرَّق النبي عمّالًا على نواحي، عرفنا أسماءهم، والمواضع التي فرّقهم عليها. فبعث قيسَ بن عاصم والزِّبرقانَ بن بدر وابن نُوَيرة إلى عشائرهم بعلمهم بصدقهم عندهم. [ص: 416] وقدِم عليهم وفد البحرين، فعرفوا من معه، فبعث معهم ابن سعيد بن العاص. وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وأمره أن يقاتل مَن أطاعه مَن عصاه، ويعلِّمهم ما فرض الله عليهم، ويأخذ منهم ما وجب عليهم لمعرفتهم بمعاذ، ومكانِه منهم وصدقِه. وكل من ولَّى فقد أمره بأخذ ما أوجب الله على من ولَّاه عليه. ولم يكن لأحد عندنا في أحدٍ ممن قدِم عليه من أهل [ص: 417] الصدق: أن يقول: أنت واحد وليس لك أن تأخذ منا ما لم نسمع رسول الله يذكر أنه علينا. ولا أحسبه بعثهم مشهورين في النواحي التي بعثهم إليها بالصدق: إلا لِمَا وصفتُ من أن تقوم بمثلهم الحجةُ على من بعثه إليه. وفي شبيهٍ بهذا المعنى أمراءُ سرايا رسول الله: فقد بعَث بَعْث مؤتةَ فولَّاه زيدَ بنَ حارثة، وقال: فإن أصيب فجعفرٌ، فإن أصيب فابنُ رواحة. وبعث ابنَ أُنيس سريَّةً وحدَه. وبعث أمراء سراياه، وكلُّهم حاكم فيما بعثه فيه؛ لأن عليهم أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة، ويقاتلوا من حلَّ قتاله. وكذلك كلُّ والي بعثه أو صاحبِ سريَّة. [ص: 418] ولم يزل يمكنُه أن يبعث واليين وثلاثة وأربعة وأكثر. وبعث في دهرٍ واحد اثنى عشر رسولاً إلى اثنى عشر ملكاً، يدعوهم إلى الإسلام، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة، وقامت عليه الحجة فيها، وألاّ يكتب فيها دلالاتٍ لمن بعثهم إليه على أنها كتُبُهُ. وقد تحرّى فيهم ما تحرى في أمرائه: من أن يكونوا معروفين، فبعث دَِحْية إلى الناحية التي هو فيها معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 ولو أن المبعوث إليه جهل الرسول كان عليه طلبُ علمِ أن النبي بعثه ليستبرىء شكَّه في خبر رسول الله، وكان على الرسول الوقوفُ حتى يستبرئه المبعوثُ إليه. [ص: 419] ولم تزل كتب رسول الله تَنْفُذ إلى ولاته بالأمر والنهي، ولم يكن لأحد من ولاته تركُ إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولاً إلا صادقاً عند من بعثه إليه. وإذا طلب المبعوثُ إليه عِلمَ صدقه وَجَدَه حيث هو. ولو شك في كتابه بتغييرٍ في الكتاب أو حالٍ تدل على تهمةٍ، من غفلة رسولٍ حَمَلَ الكتابَ: كان عليه أن يطلب علم ما شك فيه حتى يُنفِذَ ما يَثبت عنده من أمر رسول الله. وهكذا كانت كتب خلفائه بعده وعمالُهم، وما أجمع المسلمون عليه: من أن يكون الخليفة واحداً والقاضي واحدٌ، والأمير واحدٌ، والإمامُ. فاستخلفوا أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمرَ، [ص: 420] ثم عمرُ أهلَ الشورى ليختاروا واحداً، فاختار عبدُ الرحمن عثمانَ بن عفان. قال: والولاة من القضاة وغيرهم يقضون، فتَنفُذُ أحكامهم، ويقيمون الحدود، ويُنفِذُ مَن بعدهم أحكامهم، وأحكامُهم أخبارٌ عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ففيما وصفتُ من سنة رسول الله، ثم ما أجمع المسلمون عليه منه: دلالةٌ على فرقٍ بين الشهادة والخبر والحكم. ألا ترى أن قضاء القاضي على الرجل للرجل إنما هو خبر يخبر به عن بينة تثبت عنده، أو إقرار من خصمٍ به أقر عنده، [ص: 421] وأنفذ الحكم فيه، فلما كان يلزمه بخبره أن يُنفِذَهُ بعلمه كان في معنى المخبِرِ بحلال وحرام، قد لزمه أن يُحِلَّه ويحّرمه بما شهد منه. ولو كان القاضي المخبرُ عن شهودٍ شهدوا عنده على رجل لم يُحاكَم إليه، أو إقرارٍ من خصم لا يلزمه أن يحكم به، لمعنى أنْ لم يُخاصَم إليه، أو أنه ممن يُخاصَم إلى غيره، فحكم بينه وبين خصمه ما يلزم شاهداً يشهد على رجل أن يأخذ منه ما شُهِدَ به عليه لمن شُهِدَ له به: كان في معنى شاهدٍ عند غيره، فلم يقبل - قاضياً كان أو غيرَه - إلا بشاهد معه كما لو شهد عند غيره لم يقبله إلا بشاهد، وطلب معه غيره، ولم يكن لغيره إذا كان شاهداً أن يُنفِذَ شهادته وحده. [ص: 422] أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيَّب: أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمسَ عشرة، وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تلي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست. قال "الشافعي": لما كان معروفاً - والله أعلم - عند عمر أن النبي قضى في اليد بخمسين وكانت اليد خمسة أطراف مختلفةِ الجمال والمنافع: نزَّلها منازِلَها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقَدْره من دية الكفِّ، فهذا قياس (1) على الخبر. فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم فيه: أن رسول الله قال: وفي كل إصبع مما هنالك عشرٌ من الإبل صاروا إليه. ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - [ص: 423] حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله. وفي الحديث دلالتان: أحدهما: قبول الخبر، والآخر: أن يُقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمضي (2) عمل من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا. [ص: 424] ودلالةٌ على أنه مضى أيضاً عملٌ من أحد من الأئمة، ثم وَجَدَ خبراً عن النبي يخالف عملَه لترك عمله لخبر رسول الله. ودلالةٌ على أن حديث رسول الله يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده. ولم يقل المسلمون قد عَمِل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافَه ولا غيرُكم، بل صاروا إلى ما وجب عليهم، من قبول الخبر عن رسول الله، وترك كل عمل خالفه. ولو بلغ عمرَ هذا صار إليه - إن شاء الله - كما صار إلى غيره فيما بلغه عن رسول الله، بتقواه لله وتأديته الواجبَ عليه، في اتباع أمر رسول الله، وعلمه وبأنْ ليس لأحد مع رسول الله [ص: 425] أمرٌ، وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله.   (1) أي استنباط مبني على التعليل، وليس معناه القياس الاصطلاحي. (2) هكذا بإثبات الياء وقدّمنا مراراً توجيهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 فإن قال قائل: فادلُلْني على أن عمر عمل شيئاً، ثم صار إلى غيره بخبرٍ عن رسول الله. قلت: فإن أوجدْتُكَهُ؟ قال: ففي إيجادكَ إياي ذلك دليل على أمرين: أحدهما: أنه قد يقول من جهة الرأي إذا لم توجد سنة، والآخر: أن السنة إذا وُجدت وجب عليه ترك عمل نفسه، ووجب على الناس ترك كل عمل وُجدت السنة بخلافه، وإبطالُ أن السنة لا تثبت إلا بخبرٍ بعدها، [ص: 426] وعُلم أنه لا يُوهِنُها شيء إن خالفها. قلت: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً. حتى أخبره الضّحّاك بن سفيان أن رسول الله كتب إليه: أن يُوَرِّث امرأة أَشْيَمَ الضِّبَابيِّ من ديته، فرجع إليه عمر. وقد فَسَّرت هذا الحديث قبل هذا الموضع. (1) سفيان عن عمرو بن دينار وابن طاوس عن [ص: 427] طاوس: أن عمر قال: أُذَكِّرُ اللهَ امرأً سمع من النبي في الجنين شيئاً، فقام حَمَلُ بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جارتين لي - يعني ضرتين - فضربت إحداهما الأخرى بِمِسْطَح (2) فألقت جنيناً ميتاً، فقضى فيه رسول الله بِغُرَّةٍ (3) . فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره. وقال غيره: إن كِدْنا أن نقضي في مثل هذا برأينا. (4) [ص: 428] فقد رجع عمر عما كان يقضي به لحديث الضّحّاك إلى أن خالف حكم نفسه، وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع هذا لَقَضَى فيه بغيره، وقال: إن كِدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا. قال "الشافعي": يخبر - والله أعلم - أن السنة إذا كانت موجودة بأن في النفس مائةً من الإبل، فلا يعدو الجنين أن يكون حياً فيكونَ فيه مائةٌ من الإبل، أو ميتاً فلا شيء فيه. فلما أُخبر بقضاء رسول الله فيه سَلَّمَ له، ولم يجعل لنفسه إلا اتِّبَاعه، فيما مضى بخلافه، وفيما كان رأياً منه لم يبلغه عن رسول الله فيه شيء، فلما بَلَغَه خلاف فعله صار إلى حكم رسول الله، [ص: 429] وترك حكم نفسه، وكذلك كان في كل أمره. وكذلك يلزمُ الناسَ أن يكونوا. أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم: أن عمر بن الخطاب إنما رجع بالناس عن خبر عبد الرحمن بن عوف. قال "الشافعي": يعني حين خرج إلى الشام، فبلغه وقوع الطاعون بها. [ص: 430] مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن عمر ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لَسَمِعت رسول الله يقول: سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب. (5) سفيان عن عمرو: أنه سمع بَجَالَةَ يقول: ولم [ص: 431] يكن عمر أخذ الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي أخذها من مجوس هَجَرٍَ.   (1) يريد في كتاب الأم 6/77 والحديث رواه أحمد 3/452 وأبو داود والترمذي وابن ماجه. (2) المسطح: عود من أعواد الخباء والفسطاط الذي يُخبز به. (3) الغرة العبد أو الأمة. (4) إسناد الشافعي هنا مرسل فطاوس لم يدرك عمر والحديث رواه أبو داود والنسائي ورواه متصلاً أحمد وأبو داود وابن ماجه عن طاوس عن ابن عباس عن عمر. (5) رواه مالك في الموطأ 1/264 وهذا إسناد منقطع؛ لأن محمداً لم يلقَ عمر ولا عبد الرحمن بن عوف. لكن معناه متصل من وجوه حسان. انظر شرح الزرقاني على الموطأ 2/73 وفتح الباري 6/186 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 قال "الشافعي"وكل حديث كتبته منقطعاً، فقد سمعته متصلاً أو مشهوراً عن من رُوي عنه بنقل عامةٍ من أهل العلم يعرفونه عن عامةٍ، ولكني كرهت وَضع حديثٍ لا أتقنه حفظاً، وغاب عني بعض كتبي، وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظتُ، فاختصرت خوف طول الكتاب، فأتيت ببعض ما فيه الكفايةُ دون تقصِّي العلم في كل أمره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فقبل عمر خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس، فأخذ منهم وهو يتلو القُرَآن {من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} ، ويقرأ القُرَآن بقتال الكافرين حتى يسلموا، وهو لا يعرف فيهم عن النبي شيئاً، وهم عنده من الكافرين غيرِ أهل الكتاب، فقبل خبر عبد الرحمن في المجوس عن النبي فاتبعه. [ص: 432] وحديث بَجَالة موصول، قد أدرك عمر بن الخطاب رجلاً، وكان كاتباً لبعض ولاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فإن قال قائل: قد طلب عمر مع رجل أخبره خبراً آخر؟ قيل له لا يطلب عمر مع رجلٍ أَخبَرَه آخرَ إلا على أحد ثلاث معاني: [ص: 433] إما أن يحتاط فيكونَ، (1) وإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد، فخبر اثنين أكثر، وهو لا يزيدها إلا ثبوتًا. وقد رأيت ممن أثبت خبر الواحد مَن يطلب معه خبراً ثانياً، ويكونُ في يده السنة من رسول الله من خمس وجوه فَيُحَدِّثُ بسادس فيكتبُهُ، لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كان أثبتَ للحجة، وأطيبَ لنفس السامع. وقد رأيت من الحكام مَن يَثبت عنده الشاهدان العدلان والثلاثةُ، فيقول للمشهود له: زدني شهوداً وإنما يريد بذلك أن يكون أطيبَ لنفسه، ولو لم يَزِده المشهود له على شاهدين لَحَكَمَ له بهما. ويحتمل أن يكون لم يعرف المخبر فيقفَ عن خبره حتى يأتي مخبرٌ يعرفه. [ص: 434] وهكذا ممن أخبر ممن لا يُعرف لم يُقبل خبره. ولا يُقبل الخبر إلا عن معروف بالاستئهال له، لأن يُقبل خبره. ويحتمل أن يكون المخبر له غير مقبول القول عندَه، فيَرُدُّ خبره حتى يجد غيره ممن يَقبل قولَه.   (1) خبر يكون محذوف للعلم به من السياق، والمعنى: فيكون أوثق عنده. وربما تكون الجملة بعدها هي الخبرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 فإن قال قائل: فإلى أي المعاني ذهب عندكم عمر؟ قلنا: أما في خبر أبي موسى فإلى الاحتياط، لأن أبا موسى ثقة أمين عنده، إن شاء الله. فإن قال قائل: ما دل على ذلك؟ قلنا: قد رواه مالك بن أنس عن ربيعة عن غير [ص: 435] واحد من علمائهم حديثَ أبي موسى، وأن عمر قال لأبي موسى: وأَمَا إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يَتَقَوَّلَ الناس على رسول الله. فإن قال: هذا منقطع. فالحجة فيه ثابتة، لأنه لا يجوز على إمام في الدين - عمرَ ولا غيرِهِ -: أن يقبل خبر الواحد مرة، وقبولُه له لا يكون إلا بما تقوم به الحجة عنده، ثم يَرُدُّ مثله أخرى. ولا يجوز هذا على عالم عاقل أبداً، ولا يجوز على حاكم أن يقضي بشاهدين مرة، ويمنع بهما أخرى، إلا من جهة جَرحهما أو الجهالَةِ بِعَدلهما. وعمر غايةٌ في العلم والعقل والأمانة والفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وفي كتاب الله تبارك وتعالى دليل على ما وصفتُ: قال الله: {إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه} [نوح 1] وقال: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه} [هود 25 والمؤمنون 23 والعنكبوت 14] وقال: {وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل} [النساء 163] وقال: {وإلى عاد أخاهم هوداً} [الأعراف 65 وهود 50] وقال: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً} [الأعراف 73 وهود 61] وقال: {وإلى مَدْينَ أخاهم شعيباً} [الأعراف 85 وهود 84 والعنكبوت 36] وقال: {كذَّبت قومُ لوطٍ المرسلين. إذ قال لهم أخوهم لوطٌ: ألا تتقون. إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون} [لشعراء 160 - 163] وقال لنبيه محمد صلى الله عليه: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} [النساء 163] وقال: {وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران 144] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فأقام جل ثناؤه حجته على خلقه في أنبيائه في الأعلام التي باينوا بها خلقه سواهم، وكانت الحجة بها ثابتة على من شاهد أمور الأنبياء ودلائلهم التي باينوا بها غيرهم، ومَن بعدهم، وكان الواحد في ذلك وأكثرُ منه سواءً، تقوم الحجة بالواحد منهم قياماً بالأكثر. قال: {واضرب لهم مثلاً أصحابَ القرية إذ جاءها المرسلون. إذ أرسلنا إليهم اثنين، فكذبوهما، فَعَزَّزنا بثالث، فقالوا: إنا إليكم مرسلون. قالوا: ما أنتم إلا بشرٌ مثلُنا، وما أنزل الرحمن من شيءٍ. إن أنتم إلا تَكْذبون} [يس 13 - 15] قال "الشافعي": فَظَاهَرَ الحُجَجَ عليهم باثنين، ثم ثالثٍ، وكذا أقام الحجةَ على الأمم بواحد، وليس الزيادة في [ص: 438] التأكيدِ مانعةً أن تقوم الحجة بالواحد، إذ أعطاه ما يبايِنُ به الخلْق غيرَ النبيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 أخبرنا مالك عن سعد بن إسحاقَ بن كعبِ بن عُجْرَةَ عن عمته زينبَ بنتِ كعبٍ: أن الفُرَيْعةَ بنت مالك بن سنانٍ أخبرَتْها أنها جاءت إلى النبي تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرَةَ، فإن زوجها خرج في طَلَبِ أَعْبُدٍ له، حتى إذا كان بِطَرَفِ القدوم لَحِقَهُم، فقتلوه، فسألتُ رسول الله أن أَرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكنٍ يملكه، قالت: فقال رسول الله: نعم. فانصرفْتُ، حتى إذا كنتُ في الحُجرة أو في المسجد دعاني، أو أمر بي فَدُعِيت له، فقال: كيف قُلتِ؟ فَرَدَدْتُ عليه القصة التي [ص: 439] ذكرت له من شأن زوجي، فقال لي: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجلَهُ. قالت: فاعتددت فيه أربعةَ أشهر وعشراً، فلما كان عثمانُ أرسل إلي، فسألني عن ذلك، فأخبَرْتُهُ، فاتَّبَعَهُ، وقضى به. (1) وعثمان في إمامته، وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار.   (1) رواه في الأم أيضاً 5/208 ورواه أبو داود والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك انظر شرح الزرقاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 أخبرنا مسلم عن ابن جُريج قال: أخبرني الحسن [ص: 440] بن مسلم عن طاوسٍ قال: كنت مع ابن عباس إذ قال له زيد بن ثابت: أَتُفتي أن تَصْدُِرَ الحائض قبل أن يكون آخرُ عهدها بالبيت؟ فقال له ابن عباس: إما لى (1) فاسأل فلانة الأنصارية: [ص: 441] هل أمرها بذلك النبي؟ فرجع زيد بن ثابت يضحك، ويقول ما أراك إلا قد صدقت. (2) قال "الشافعي": سمع زيدٌ النهي أن يَصْدُِر أحد من الحاجِّ حتى يكون آخرُ عهده بالبيت، وكانت الحائض عنده من الحاجِّ الداخلين في ذلك النهي، فلما أفتاها ابن عباس بالصَّدَر إذا كانت قد زارت بعد النحر: أنكر عليه زيد، فلما أخبره عن المرأة أن رسول الله أمرها بذلك فسألها فأخبرته، [ص: 442] فصدَّق المرأة، ورأى عليه حقاً أن يرجع عن خلاف ابن عباس، وما لابن عباس حجة غيرُ خبر المرأة.   (1) أصلها: (إما لا) ، وأصل (إما) : (إن ما) فأُميلت (لا) إمالة صغرى لتضمّنها معنى الجملة فالقاس أن الحروف لا تُمال والإمالة لغة قريش وهي لغة الشافعي. ومعناها: إن لم يكن هذا فاسأل فلانة ... ومعناه عامةً: إن لم تفعل هذا فليكن هذا. (2) روى الحديث الشيخان وغيرهما وروى القصة أحمد رقم 1990 و 3256 والبيهقي 5/163 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 سفيان عن عمرو عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفً البَِكَاليَّ يزعم أن موسى صاحبَ الخضر ليس موسى بني إسرائيل؟ فقال ابن عباس: كذب عدو الله! أخبرني أبيّ بن كعب قال: خطبنا رسول الله، ثم ذكر حديث موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحبُ الخضر. فابن عباس مع فقهه وورعه يُثبت خبر أبي [ص: 443] بن كعب عن رسول الله حتى يُكَذِّبَ به امرأ من المسلمين، إذ حدثه أبي بن كعب عن رسول الله بما فيه دلالة على أن موسى بني إسرائيل صاحبُ الخضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 أخبرنا مسلم وعبد المجيد عن ابن جريج أن طاوساً أخبره أنه سأل ابن عباس عن الرَّكعتين بعد العصر؟ فنهاه عنهما (1) ، قال طاوس: فقلت له: ما أدعهما، فقال ابن عباس: {ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكونَ لهم الخِيَرَةُ من أمرهم، ومَن يَعْصِ اللهَ ورسوله، فقد ضل ضلالاً مبيناً} [الأحزاب 36] [ص: 444] فرأى ابن عباس الحجةَ قائمةً على طاوس بخبره عن النبي، ودَلَّهُ بتلاوة كتاب الله على أن فرضاً عليه أن لا تكونَ له الخِيَرَةُ إذا قضى الله ورسوله أمرًا. وطاوس حينئذ إنما يَعلم قضاء رسول الله بخبر ابن عباس وحده، ولم يدفعه طاوس بأن يقول: هذا خبرك وحدك، فلا أُثبته عن النبي، لأنه يمكن أن تنسى. فإن قال قائل: كره أن يقول: هذا لابن عباس؟! فابن عباس أفضل من أن يَتَوَقَّى أحد أن يقول له حقاً رآه، وقد نهاه عن الركعتين بعد العصر، فأخبره أنه لا يدعهما، [ص: 445] قبل أن يُعْلمه أن النبي نهى عنهما.   (1) ظاهر هذا أن ابن عباس نهى طاوساً من نفسه أي برأيه وبهذا لا يكون ثمة حجة على طاوس مع استشكال إيراد الآية على لسان ابن عباس! لكن عند البيهقي 2/453 من طريق آخر أن ابن عباس قال: ((إنه قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاةٍ بعد العصر)) وعلى لا إشكال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 سفيان عن عمرو عن ابن عمر قال: كنا نُخَابِرُ، (1) ولا نرى بذلك بأساً، حتى زعم رافع أن رسول الله نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك. فابن عمر قد كان ينتفع بالمخابَرة، ويراها حلالاً، ولم يتوسع، إذ أخبره واحد لا يتهمه عن رسول الله أنه نهى عنها: أن يُخَابِرَ بعد خَبَرِهِ، ولا يستعملَ رأيه مع ما جاء عن رسول الله، ولا يقولَ: ما عاب هذا علينا أحد، ونحن نعمل به إلى اليوم. [ص: 446] وفي هذا ما يبين أن العمل بالشيء بعد النبي إذا لم يكن بخبر عن النبي لم يُوهِن الخبر عن النبي عليه السلام.   (1) المخابرة: مُزارَعَة الأرض بجزء منها، كالثلث أو الربع أو بجزء معين من الخارج وفيها خلاف منتشر تُنظَر في مظانِّها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سِقَايةً من ذهب أو وَرِق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذا، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأساً! فقال أبو الدرداء: مَن يَعذِرُني من معاوية! أُخبره عن رسول الله، ويخبرني عن رأيه؟! لا أساكنك بأرض. (1) [ص: 447] فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم على معاوية بخبره، ولما لم يَرَ ذلك معاوية فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها، إعظاماً لِأَنْ تَرَكَ خبر ثقة عن النبي.   (1) الحديث رواه النسائي مختصراً عن مالك. قال الزرقاني في شرح الموطأ 3/115 ((قال أبو عمر: لا أعلم أن هذه القصة عَرَضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من هذا الوجه، إنما هي محفوظة لمعاوية مع عبادة بن الصامت، والطرق متواترة بذلك اهـ والإسناد صحيح والجمع ممكن)) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وأُخبرنا أن أبا سعيد الخدري لقي رجلاً، فأخبره عن رسول الله شيئاً، فذكر الرجل خبراً يخالفه، فقال أبو سعيد: والله لا آواني وإياك سقف بيت أبداً. قال "الشافعي": يرى أن ضَيِّقاً على المخبر أن لا يقبل خبره، وقد ذكر خبراً يخالف خبرَ أبي سعيد عن النبي، ولكنْ في خبره وجهان: أحدهما: يحتمل به خلافَ خبر أبي سعيد، والآخر: لا يحتمله. [ص: 448] أخبرنا من لا أتهم عن ابن أبي ذئب عن مَخلد بن خُفَاف قال: ابتعت غلاماً، فاستغللته، ثم ظَهَرتُ منه على عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي بِرَدِّهِ، وقضى علي بِرَدِّ غَلَّتِه، فأتيت عروة، فأخبرته، فقال: أروح عليه العَشِيَّة، فأُخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله قضى في مثل هذا أن الخراج بالضّمان، فَعَجِلت إلى عمر، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي، فقال عمر: فما أَيسرَ عليَّ من قضاء قضيتُه، الله يعلم أني لم أُرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنة رسول الله، فأَرُدُّ قضاء عمر، [ص: 449] وأُنَفِّذ سنة رسول الله. فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له. (1)   (1) رواه البهقي في السنن 5/321 من طريق الشافعي. وحديث ((الخراج بالضمان)) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فأخبرته عن النبي بخلاف ما قضى به، فقال سعد لربيعة: هذا بن أبي ذئب، وهو عندي ثقة، يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيتُ به؟ فقال له ربيعة: قد اجتهدتَ، ومضى حكمك، فقال سعدٌ: واعَجَبَا! أُنْفذ قضاء سعد بن أم سعد وأردُّ قضاء رسول الله؟! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله، فدعا سعد بكتاب القضية فَشَقَّه وقضى للمقضيِّ عليه. قال "الشافعي": أخبرني أبو حنيفة بن سمِاك بن الفضل الشهابي قال حدثني ابن أبي ذئب عن المقْبُري عن أبي شريح [ص: 452] الكعبي أن النبي قال عام الفتح: ((من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخَذَ العقلَ، وإن أحب فله القَوَدُ)) (1) قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري، وصاح علي صياحاً كثيراً، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله، وتقول تأخذ به؟! نعم آخذ به. وذلك الفرض عليَّ، وعلى من سمعه، إن الله اختار محمداً من الناس، فهداهم به، وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له، وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخِرين، لا مَخرج لمسلم من ذلك. قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت. [ص: 453] قال: وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث، يكفي بعضُ هذا منها. ولم يزل سبيل سلفنا والقرونِ بعدهم إلى من شاهدنا هذا السبيل. وكذلك حُكي لنا عمن حُكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان.   (1) رواه أحمد وابن ماجه وروي عن ابي هريرة معناه رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة. والعقل الدية والقود القصاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 قال "الشافعي": وجدنا سعيدً (1) بالمدينة يقول: أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي في الصَّرف (2) فَيُثَبِّت حديثه سنّةً. ويقول: حدثني أبو هريرة عن النبي، فيُثَبت حديثه سنّةً، ويروي عن الواحد غيرهما فيثبت حديثه سنّةً. ووجدنا عروة يقول: حدثتني عائشة: ((أن رسول الله قضى أن الخراج بالضمان)) (3) فَيُثَبِّته سنَّة، ويروي عنها عن النبي شيئاً كثيراً فيثبتها سنناً يُحِل بها ويحرم. [ص: 454] وكذلك وجدناه يقول: حدثني أسامة بن زيد عن النبي. ويقول: حدثني عبد الله بن عمر عن النبي وغيرُهما، فيُثَبِّت خبر كل واحد منهما على الانفراد سنة. ثم وجدناه أيضا يَصير إلى أن يقول: حدثني عبد الرحمن بن عبدٍ القاريُّ عن عمر، ويقول: حدثني يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر. ويثبت كلَّ واحد من هذا خبرً عن عمر. ووجدنا القاسم بن محمد يقول: حدثتني عائشة عن النبي، ويقول في حديث غيره: حدثني ابن عمر عن النبي. ويثبت خبر كل واحد منهما على الانفراد سنة. ويقول حدثني عبد الرحمن ومجمِّع ابنا يزيد بن جاريةَ عن خنساءَ بنت خِدَامِ عن النبي. فيثبت خبرها سنة، وهو خبر امرأة واحدة. [ص: 455] ووجدنا علي بن حسين يقول: أخبرنا عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن النبي قال: "لا يرث المسلم الكافر ". (4) فيثبتها سنة، ويثبتها الناس بخبره سنة. ووجدنا كذلك محمد بن علي بن حسين يخبر عن جابر عن النبي، وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي. فيثبت كل ذلك سنة. ووجدنا محمد بن جبير بن مطعم، ونافع بن جبير بن مطعم، ويزيدَ بن طلحة بن رُكَانة، ومحمد بن طلحة بن ركانة، ونافعَ بن عُجَير بن عبد يزيدَ، وأبا أسامة بن عبد الرحمن، وحُميدَ [ص: 456] بن عبد الرحمن، وطلحةَ بن عبد الله بن عوفٍ، ومصعبَ بن سعد بن أبي وقاص، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن كعب بن مالك، وعبد الله بن أبي قتادة، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وغيرهم من محدثي أهل المدينة: كلُّهم يقول: حدثني فلان لرجل من أصحاب النبي عن النبي، أو من التابعين عن رجل من أصحاب النبي. فنُثَبِّت ذلك سنة. ووجدنا عطاءً، وطاوسً، ومجاهدً، وابن أبي مليكة، وعكرمة بن خالد، وعبيد الله بن أبي يزيد، وعبد الله بن باباه، وابن أبي عمارٍ، ومحدثي المكيين، ووجدنا [ص: 457] وهب بن مُنَبِّهٍ هكذا، ومكحولً بالشأم، وعبد الرحمن بن غنم، والحسن، وابن سيرين بالبصرة، والأسود، وعلقمة، والشعبي بالكوفة، ومحدثي الناس، وأعلامَهم بالأمصار: كلُّهم يُحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله، والانتهاء إليه، والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عن من فوقه، ويقبله عنه مَن تحته. ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أحمع المسلمون قديما وحديثاً على تثبيت خبر الواحد، والانتهاء إليه، بأنه لم يُعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبَّته جاز لي. ولكنْ أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين [ص: 458] أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفتُ من أن ذلك موجوداً (5) على كلهم.   (1) هكذا بالتنوين من غير ألف وقدمنا مراراً أنه فصيح. (2) تقدم ص 276 (3) تقدم ص 448 (4) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي. (5) تقدم توجيه نحوه وأنه على لغة من ينصب معمولي (أن) وهو قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 قال: فإن شُبِّه على رجل بأن يقول: قد روي عن النبي حديث كذا، وحديث كذا، وكان فلان يقول قولاً يخالف ذلك الحديث. فلا يجوز عندي عن عالم أن يُثبت خبر واحد كثيراً، ويُحِل به، ويحرم، ويردَّ مثله: إلا من جهة أن يكون عنده حديث يخالفه، أو يكونَ ما سمع ومَن سمع منه أوثقَ عنده ممن حدَّثه خلافه، أو يكونَ من حدثه ليس بحافظ، أو يكونَ متهماً عنده، أو يَتَّهِمَ من فوقه ممن حدثه، أو يكونَ الحديث محتملا [ص: 459] معنيين، فيتأوّلَُ فيذهبَُ إلى أحدهما دون الآخر. فأما أن يتوهَّم متوهِّم أن فقيهاً عاقلاً يُثبت سنة بخبر واحد مرةً ومراراً، ثم يدعُها بخبرِ مثلِهِ وأوثق بلا واحدٍ من هذه الوجوه التي تُشَبَّه بالتأويل كما شُبِّه على المتأولين في القُرَآن، وتُهَمَةِ المخبِر، أو علمٍ بخبر خلافه، فلا يجوز إن شاء الله. فإن قال قائل: قلَّ فقيه في بلد إلا وقد روى كثيراً يأخذ به وقليلاً يتركه؟ فلا يجوز عليه إلا من الوجه الذي وصفتُ [ص: 460] ومن أن يروي عن رجل من التابعين أو مَن دونهم قولاً لا يلزمه الأخذ به، فيكونَ إنما رواه لمعرفة قوله، لا لأنه حجة عليه وافقه أو خالفَه. فإن لم يسلك واحداً من هذه السبل فيُعذرَ ببعضها، فقد أخذ خطأ لا عذر فيه عندنا والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 فإن قال قائل: هل يفترق معنى قولك: حجة؟ قيل له: إن شاء الله نعم. فإن قال: فَأَبِنْ ذلك؟ قلنا: أما ما كان نصَّ كتاب بيِّن أو سنةٍ مجتمع عليها فيها مقطوع، ولا يسع الشكُّ في واحد منهما، ومن امتنعَ من قبوله استُتِيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملاً للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد: فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم ردُّ ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطةٌ كما يكون نص الكتاب وخبرُ العامة عن رسول الله. ولو شك في هذا شاكّ لم نقل له: تب، وقلنا: ليس لك - إن كنت عالماً - أن تشك، كما ليس لك الا ان تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم. فقال: فهل تقوم بالحديث المنقطع حجة على مَن علمه؟ وهل يختلف المنقطع؟ أو هو وغيره سواءٌ؟ قال "الشافعي": فقلت له: المنقطع مختلف: فمن شاهدَ أصحاب رسول الله من التابعين، فحدَّث حديثاً منقطعاً عن النبي: اعتُبر عليه بأمور: [ص: 462] منها: أن ينظر إلى ما أَرسل من الحديث، فإن شَرِكَه فيه الحفاظ المأمونون، فأسندوه الى رسول الله بمثل معنى ما روى: كانت هذه دلالةً على صحة مَن قبل عنه وحفظه. وإن انفرد بإرسال حديث لم يَشركه فيه من يُسنده قُبِل ما ينفرد به من ذلك. ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسِل غيره ممن قُبل العلم عنه من غير رجاله الذين قُبل عنهم؟ فإن وُجد ذلك كانت دلالةً يَقوى له مرسلُه، وهي أضعف من الأولى. وإن لم يُوجَد ذلك نُظر إلى بعض ما يُروى عن بعض أصحاب رسول الله قولاً له، فإن وُجد يُوافق ما روى عن [ص: 463] رسول الله كانت في هذه دلالةٌ على أنه لم يأخذ مرسَلَه إلا عن أصل يصح إن شاء الله. وكذلك إن وُجد عوامُّ من أهل العلم يُفتون بمثل معنى ما روى عن النبي. قال "الشافعي": ثم يُعتبر عليه: بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسمِّي مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فيُستدل بذلك على صحته فيما روى عنه. ويكون إذا شَرِك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه، فإن خالفه وُجد حديثه أنقصَ: كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه. [ص: 464] ومتى ما خالف ما وصفت أضرَّ بحديثه، حتى لا يسع أحداً منهم قبول مرسله قال: وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله. ولا نستطيع أن نزعُم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالموتَصِل. ِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وذلك أن معنى المنقطع مُغَيَّب، يحتمل أن يكون حمُل عن من يُرغب عن الرواية عنه إذا سُمّي وإن بعض المنقطعات - وإن وافقه مرسل مثله - فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحداً، من حيث لو سمي لم يُقبل، وأن قول بعض أصحاب النبي - إذا قال برأيه لو وافقه - يدل على صحة مَخرج الحديث، دلالةً قوية إذا نُظر فيها، [ص: 465] ويمكن أن يكون إنما غلِط به حين سمِع قول بعض أصحاب النبي يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 فأما مَن بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله: فلا أعلم منهم واحداً يُقبل مرسله لأمور: أحدها: أنهم أشد تجوّزاً فيمن يروون عنه، والآخر: أنهم يوجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه. والآخر: كثرةُ الإحالة. كان أمكن للوَهَم وضعفِ مَن يُقبل عنه. [ص: 466] وقد خَبَرْت بعض من خَبَرْتُ من أهل العلم، فرأيتهم أُتُوا من خصلة وضدِّها: رأيت الرجل يَقْنع بيسير العلم، ويريد إلا أن يكون مستفيداً إلا من جهة قد يتركه من مثلها أو أرجحَ، فيكون من أهل التقصير في العلم. ورأيت من عاب هذه السبيلَ، ورغب في التوسع في العلم، مَن دعاه ذلك الى القبول عن من لو أمسك عن القبول عنه كان خيراً له. ورأيت الغفلة قد تدخل على أكثرهم، فيقبلُ عن من يَردُّ مثله وخيراً منه. ويُدخَل عليه، فيقبلُ عن من يعرف ضعفه، إذا وافق قولاً يقوله! ويردُّ حديث الثقة إذا خالف قولاً يقوله! ويُدخَل على بعضهم من جهات. [ص: 467] ومن نظر في العلم بخِبْرة وقلةِ غفلة، استوحش من مرسَلِ كلِّ مَن دون كبار التابعين، بدلائل ظاهرة فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 قال: فلمَ فرَّقت بين التابعين المتقدمين الذين شاهدوا أصحاب رسول الله، وبين من شاهد بعضهم دون بعض؟ فقلت: لبعد إحالة من لم يشاهد أكثرهم. قال: فلم لم تقبل المرسَل منهم، ومن كل فقيه دونهم؟ قلت: لما وصفت. ُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 قال: وهل تجد حديثاً تبلغ به رسولَ الله مرسلاً عن ثقة لم يقل أحداً من أهل الفقه به؟ قلت: نعم، أخبرنا سفيان عن محمد بن المنكدر: أن رجلاً جاء الى النبي، فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً وعيالاً، وإن لأبي مالاً وعيالاً، وإنه يريد أن يأخذ مالي، فيُطعِمَهُ عياله. فقال رسول الله: "أنت ومالك لأبيك". (1) [ص: 468] فقال: أما نحن فلا نأخذ بهذا، ولكن من أصحابك من يأخذ به؟ فقلت: لا، لأن مَن أخذ بهذا جعل للأب الموسر أن يأخذ مال ابنه. قال: أجل، وما يقول بهذا أحد. فلمَ خالفه الناس؟ قلت: لأنه لا يَثبت عن النبي، وأن الله لما فرض للأب ميراثه من ابنه، فجعله كوارثٍ غيرِه، فقد يكون أقلَّ حظاً من كثير من الورثة: دلَّ ذلك على أن ابنه مالكٌ للمال دونه. قال: فمحمد بن المنكدر عندكم غاية في الثقة؟ قلت: أجل، والفضلِ في الدين والورع، ولكنا لا ندري عن من قَبِل هذا الحديث. وقد وصفت لك الشاهدين العدلين يشهدان على [ص: 469] الرجل فلا تُقبل شهادتهما حتى يُعَدِّلاهما أو يُعدلهما غيرهما.   انظر الجامع الصغير 2712 ورواه أحمد في المسند من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده 2/179، 214، 204 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 قال: فتذكرُ من حديثكم مثل هذا؟ قلت: نعم، أخبرنا الثقة عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب: "أن رسول الله أمر رجلاً ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة". فلمْ نَقبل هذا، لأنه مرسل. ثم أخبرنا الثقة عن مَعْمَر عن بن شهاب عن سليمان بن أرقَمَ عن الحسن عن النبي: بهذا الحديث وابن شهاب عندنا إمام في الحديث والتخيير وثِقةِ الرجال، إنما يُسمي بعض أصحاب النبي، ثم خيارَ التابعين، ولا نعلم محدثا يسمي أفضل ولا أشهر ممن يحدِّث عنه ابن شهاب. قال: فأنى تُرَاه أتى في قبوله عن سليمان بن أرقم؟ [ص: 470] رآه رجلاً من أهل المروءة والعقل، فَقَبِل عنه، وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه إما لأنه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله مَعْمر عن حديثه عنه، فأسنده له. فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروي عن سليمان مع ما وصفت به ابن شهاب: لم يُؤمَن مثل هذا على غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 قال: فهل تجد لرسول الله سنة ثابتة من جهة الاتصال خالفها الناس كلهم؟ قلت: لا، ولكن قد أجد الناس مختلفين فيها: منهم من يقول بها، ومنهم من يقول بخلافها. فأما سنةٌ يكونون مجتمعين على القول بخلافها، فلم أجدها قط، كما وجدت المرسَل عن رسول الله. قال "الشافعي": وقلت له: أنت تسأل عن الحجة [ص: 471] في رد المرسل وترده، ثم تجاوز فتردُّ المسنَدَ الذي يلزمك عندنا الأخذ به!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 [باب الإجماع] : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 قال "الشافعي": فقال لي قائل: قد فهمتُ مذهبك في أحكام الله، ثم أحكام رسوله، وأن من قَبِل عن رسول الله، فعن الله قَبِل، بأن الله افترض طاعة رسوله، وقامت الحجة بما قلتَ بأن لا يحلَّ لمسلم عَلِمَ كتاباً ولا سنة أين يقول بخلاف واحد منهما، وعلمتُ أن هذا فرضُ الله. فما حجتك في أن تَتْبع ما اجتمع الناس عليه مما ليس فيه نص حكم لله، ولم يحكوه عن النبي؟ أتزعُمُ ما يقول غيرك أن إجماعهم لا يكون أبداً إلا على سنة ثابتة، وإن لم يحكوها؟! [ص: 472] قال: فقلت له: أمَّا ما اجتمعوا عليه، فذكروا أنه حكاية عن رسول الله، فكما قالوا، إن شاء الله. وأما ما لم يحكوه، فاحتمل أن يكون قالوا حكايةً عن رسول الله، واحتمل غيره، ولا يجوز أن نَعُدَّه له حكايةً، لأنه لا يجوز أن يحكي إلا مسموعاً، ولا يجوز أن يحكي شيئاً يُتَوَهَّم، يمكن فيه غير ما قال. فكنا نقول بما قالوا به اتباعاً لهم، ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله لا تَعزُبُ عن عامتهم، وقد تعزُبُ عن بعضهم. ونعلم أن عامّتهم لا تجتمع على خلافٍ لسنة رسول الله، ولا على خطأ، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 فإن قال: فهل من شيء يدل على ذلك، وتشدُّه به؟ قيل: أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه: أن رسول الله قال: " نَصَّرَ الله عبداً " (1) أخبرنا سفيان عن عبد الله بن أبي لبيد عن ابن سليمان بن يسار عن أبيه: " أن عمر بن الخطاب خطبَ الناسَ [ص: 474] بالجابية، فقال: إن رسول الله قام (2) فينا كمَقَامي فيكم، فقال: أكرموا أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب، حتى إن الرجل لَيَحْلف ولا يُستحلف، ويَشهد ولا يُستشهد، ألا فمن سرَّه بَحبَحَة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفَذّ وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلُوَنَّ رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهم، ومن سَرَّته حسنته، وساءته سيئته، فهو مؤمن" (3) . [ص: 475] قال: فما معنى أمر النبي بلزوم جماعتهم؟ قلت: لا معنى له إلا واحد. قال: فكيف لا يحتمل إلا واحداً؟ قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان، فلا يقدر أحدٌ أن يلزم جماعةَ أبدانِ قومٍ متفرقين، وقد وُجِدَت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفُجَّار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئاً فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما. ومن قال بما تقول به جماعةُ المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعةُ المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أُمِرَ [ص: 476] بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفُرقة، فأما الجماعة فلا يمكن فيها كافةً غفلةٌ عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس، إن شاء الله.   (1) سبق ص 401 (2) في الأصل ((قام الله فينا)) ! (3) الحديث مرسل فسليمان بن يسار لم يدرك عمر والحديث صح عن عمر رواه أحمد 1/18، 26 والطيالسي ص 7 والترمذي، أبواب الفتن، باب لزم الجماعة، والحاكم 1/113 - 115 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 [القياس] (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 قال: فمن أين قلت: يقال بالقياس فيما لا كتابَ فيه ولا سنةَ ولا إجماعَ؟ أفالقياس نصُّ خبٍر لازمٍ؟ قلت: لو كان القياس نصَّ كتاب أو سنة قيل في كل ما كان نصَّ كتاب "هذا حُكمُ الله "، وفي كل ما كان [ص: 477] نصَّ السنة " هذا حكم رسول الله "، ولم نَقُل له: "قياس". قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما مفترقان؟ قلت: هما اسمان لمعنىً واحد. قال: فما جِماعهما؟ قلت: كل ما نزل بمسلم فقيه حكم لازم، أو على سبيل الحقِّ فيه دلالةٌ موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكمٌ: اتباعُه، وإذا لم يكن فيه بعينه طُلِب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد. والاجتهادُ القياسُ. 0 قال: أفرأيت العالمين إذا قاسوا، على إحاطةٍ هم من أنهم أصابوا الحقَّ عند الله؟ وهل يسعهم أن يختلفوا في القياس؟ وهل [ص: 478] كُلفوا كل أمر من سبيل واحد، أو سبل متفرقة؟ وما الحجةُ في أن لهم أي يقيسوا على الظاهر دون الباطن؟ وأنه يسعهم أن يتفرقوا؟ وهل يختلف ما كُلفوا في أنفسهم، وما كُلفوا في غيرهم؟ ومن الذي له أن يجتهد فيقيس في نفسه دون غيره؟ والذي له أن يقيس في نفسه وغيره؟ فقلت: له العلم من وجوه: منه إحاطةٌ في الظاهر والباطن، ومنه حق في الظاهر. فالإحاطة منه ما كان نصَّ حكم لله أو سنة لرسول الله نقلها العامة عن العامة. فهذان السبيلان اللذان يُشهد بهما فيما أُحل أنه حلال، وفيما حُرم أنه حرام. وهذا الذي لا يَسَع أحداً عندنا جَهْلُه ولا الشكُّ فيه. وعلمُ الخاصة سنةً من خبر الخاصة يعرفها العلماء، [ص: 479] ولم يُكَلَّفها غيرهم، وهي موجودة فيهم أو في بعضهم، بصدق الخاص المخبِرِ عن رسول الله بها. وهذا اللازم لأهل العلم أن يصيروا إليه، وهو الحق في الظاهر، كما نقتل بشاهدين. وذلك حق في الظاهر، وقد يمكن في الشاهدين الغلطُ. وعلمُ إجماع. وعلمُ اجتهادٍ بقياسٍ، على طلب إصابة الحق. فذلك حق في الظاهر عند قايِسِه، لا عند العامة من العلماء، ولا يعلم الغيب فيه إلا الله. وإذا طُلب العلم فيه بالقياس، فقيس بصحةٍ: اِيْتَفَقَ المقايسون في أكثره، وقد نجدهم يختلفون.   (1) هذا العنوان زاده الشيخ أحمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 والقياس من وجهين: أحدهما: أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه. وأن يكون الشيء له في الأصول أشباهٌ، فذلك يُلحق بأولاها به وأكثرِها شَبَهاً فيه. وقد يختلف القايسون في هذا. قال: فأوجِدني ما أعرف به أن العلم من وجهين: أحدهما: إحاطةٌ بالحق في الظاهر والباطن، والآخر إحاطةٌ بحق في الظاهر دون الباطن: مما أعرفُ؟ فقلت له: أرأيت إذا كنا في المسجد الحرام نرى الكعبة: أَكُلِّفْنا أن نستقبلها بإحاطة؟ قال: نعم. قلت: وفُرِضَت علينا الصلوات والزكاة والحج، وغير ذلك: أَكُلِّفنا الإحاطةَ في أن نأتي بما علينا بإحاطةٍ؟ قال: نعم. قلت: وحين فُرِض علينا أن نجلدَ الزاني مائة، ونجلدَ القاذف ثمانين، ونقتلَ مَن كَفَرَ بعد إسلامه، ونقطع من سرق: أَكُلِّفْنا أن نفعل هذا بمن ثبت عليه بإحاطةٍ نعلم أنا قد أخذناه منه؟ قال: نعم. [ص: 481] قلت: وسواءٌ ما كُلِّفنا في أنفسنا وغيرِنا، إذا كنا ندري من أنفسنا بأنّا نعلم منها ما لا يعلم غيرنا، ومن غيرنا ما لا يدركه علْمُنا كإدراكنا العلمَ في أنفسنا؟ قال: نعم. قلت: وكُلِّفْنا في أنفسنا أين ما كُنا أن نَتَوَجه إلى البيت بالقبلة؟ قال: نعم. قلت: أفتجدنا على إحاطةٍ من أنا قد أصبنا البيت بتوجهنا؟ قال: أما كما وجدتكم حين كنتم ترون فلا، وأما أنتم فقد أدَّيتم ما كُلِّفتم. قلت: والذي كُلفنا في طلب العين المغيَّب غيرُ الذي كُلِّفنا في طلب العين الشاهد. ِ [ص: 482] قال: نعم. قلت: وكذلك كُلفنا أن نقبل عدل الرجل على ما ظهر لنا منه، ونناكحَه ونوارثَه على ما يظهر لنا من إسلامه؟ قال: نعم. قلت: وقد يكون غير عدل في الباطن؟ قال: قد يمكن هذا فيه، ولكن لم تُكَلفوا فيه الا الظاهر. قلت: وحلالٌ لنا أن نناكحه، ونوارثه، ونجيز شهادته، ومحرمٌ علينا دمه بالظاهر؟ وحرامٌ على غيرنا إن عَلم منه أنه كافر إلا قتلَه ومنعَه المناكحةَ والموارثةَ وما أعطيناه؟ قال: نعم. قلت: وُجِدَ الفرض علينا في رجل واحد مختلفاً على مبلغ علمنا وعلم غيرنا؟ [ص: 483] قال: نعم، وكلكم مؤدي ما عليه على قدر علمه. قلت: هكذا قلنا لك فيما ليس فيه نص حكم لازمٍ، وإنما نطلب باجتهادِ القياسِ، وإنما كُلفنا فيه الحقَّ عندنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 قال: فتجدُك تحكم بأمر واحد من وجوه مختلفة؟ قلت: نعم، إذا اختلفت أسبابه. قال: فاذكر منه شيئاً. قلت: قد يُقِرّ الرجل عندي على نفسه بالحق لله، أو لبعض الآدميين، فآخذه بإقراره، ولا يقر، فآخذه بِيَنِّة تقوم عليه، ولا تقوم عليه بينة، فَيُدَّعى عليه، فآمره بأن يحلف ويَبرَْأَ، فيَمتنعُ، فآمر خصمَه بأن يحلف، ونأخذُه بما حلف عليه خصمه، إذا أبى اليمين التي تُبرِئه، ونحن نعلم أن إقراره على نفسه - بِشُحِّه على [ص: 484] ماله، وأنه يُخاف ظَلمُه بالشحِّ عليه -: أصدَقُ عليه من شهادة غيره، لأن غيره قد يَغلِط ويكذب عليه، وشهادةُ العدول عليه أقربُ من الصدق من امتناعه من اليمين ويمينِ خصمه، وهو غيرُ عدل، وأُعطي منه بأسبابٍ بعضُها أقوى من بعض. قال: هذا كله هكذا، غيرَ أنا إذا نَكِل عن اليمين أعطينا منه بالنكول. قلت: فقد أعطيتَ منه بأضعفَ مما أعطينا منه؟ قال: أجل، ولكني أخالفك في الأصل. قلت: وأقوى ما أعطيتَ به منه إقرارُه، وقد يمكن أن يُقِر بحق مسلم ناسياً أو غلطاً، فآخذُه به؟ قال: أجل، ولكنك لم تُكَلف إلا هذا. [ص: 485] قلنا: فلستَ تراني كُلِّفت الحقَّ من وجهين: أحدهما: حقٌّ بإحاطةٍ في الظاهر والباطن، والآخر: حق بالظاهر دون الباطن؟ قال: بلى، ولكن هل تجد في هذا قوةً بكتاب أو سنة؟ قلت: نعم، ما وصفتُ لك مما كُلفت في القبلة وفي نفسي وفي غيري. قال الله: {ولا يحيطونَ بشيء من علمِهِ إلا بما شاءَ} [البقرة 255] فآتاهم من علمه ما شاء، وكما شاء، لا مُعَقِّبَ لحُكمه، وهو سريعُ الحساب. وقال لنبيه: {يسئلونك عن الساعة أَيَّانَ مُرْساها فيمَ أنتَ من ذِكراها إلى ربك مُنْتَهَاها} [النازعات 42 - 44] سفيانُ عن الزُّهري عن عُروة قال: " لم يَزَل رسول الله يَسأل عن الساعة، حتى أنزل الله عليه {فيم أنت من ذكراها} فانتهى". [ص: 486] وقال الله: {قل لا يعلمُ من في السماوات والأرضِ الغيبَ إلا اللهُ} [النمل 65] وقال الله تبارك وتعالى: {إن الله عنده عِلمُ الساعةِ، ويُنزِّلُ الغيث، ويَعلمُ ما في الأرحامِ، وما تَدري نفسٌ ماذا تَكْسِبُ غداً، وما تدري نفس بأيِّ أرض تموت، إن الله عليمٌ خبير} [لقمان 34] فالناس مُتَعَبَّدون بأن يقولوا ويفعلوا ما أُمروا به، وينتهوا إليه، لا يُجاوزونَه، لأنهم لم يُعطوا أنفسَهم شيئاً، إنما هو عطاء الله. فنسأل الله عطاءاً مؤدِّياً لحقه، موجِباً لمزيده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 [باب الاجتهاد] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 قال: أفتجد تجويز ما قلت من الاجتهاد، مع ما وصفتَ فتذكرَه؟ قلت: نعم، استدلالاً بقول الله: {ومن حيثُ خرجْتَ فَوَلِّ وجهَكَ شَطْرَ المسجدِ الحرامِ، وحيث ما كنتم فولُّوا وجوهَكم شَطْرَهُ} [البقرة 150] قال: فما شطره؟ قلت: تلقاءَه قال الشاعر: إن العسيبَ بها داءٌ مُخامِرُها فشَطْرَها بَصَرُ العَينين مَسجُورُ (1) [ص: 488] فالعلم يحيط أن مَن تَوَجه تلقاء المسجد الحرام ممن نَأَت داره عنه: على صواب بالاجتهاد للتوجه الى البيت بالدلائل عليه، لأن الذي كُلف التوجُّهُ إليه، وهو لا يدري أصاب بتوجهه قصْدَ المسجد الحرام أم أخطأه، وقد يَرَى دلائل يعرفها فيَتَوجه بقدر ما يعرف [ويعرف غيره دلائل غيرها، فيتوجه بقدر ما يعرف] وإن اختلف توجههما. قال: فإن أجزتُ لك هذا أجزتُ لك في بعض الحالات الاختلافَ. قلت: فقل فيه ما شئتَ. قال: أقول. لا يجوز هذا. قلت: فهو أنا وأنت، ونحن بالطريق عالمان، [ص: 489] قلت: وهذه القبلةُ، وزعمتَ خِلافي على أيِّنا يتبع صاحبه؟ قال: ما على واحد منكما أن يتبع صاحبه. قلت: فما يجب عليهما؟ قال: إن قلتُ لا يجب عليهما أن يصليا حتى يعلما بإحاطة: فهما لا يعلمان أبداً المغيَّب بإحاطة، وهما إذاً يَدَعان الصلاة، أو يرتفع عنهما فرضُ القبلة، فيصليان حيث شاءا، ولا أقول واحداً من هذين، وما أجد بُدَّاً من أن أقول: يصلي كل واحد منهما كما يرى، ولم يُكَلفا غير هذا، أو أقولَ كُلف الصوابَ في الظاهر والباطن، ووُضع عنهما الخطأ في الباطن دون الظاهر. قلت: فأيَّهما قلتَ فهو حجة عليك، لأنك فرَّقت بين حكم الباطن والظاهر، وذلك الذي أنكرتَ علينا، وأنت: تقول إذا اختلفتم قلتُ ولا بد أن يكون أحدهما مخطئً؟ قلت: أجل. قلت: فقد أجزتَ الصلاة وأنت تعلم أحدَهما [ص: 490] مخطئً، وقد يمكن أن يكونا معاً مخطئين. وقلت له: وهذا يلزمك في الشهادات وفي القياس. قال: ما أجد من هذا بُدَّاً، ولكن أقول: هو خطأ موضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فقلت له: قال الله: {ولا تقتلوا الصيدَ وأنتم حُرُم، ومَن قَتَلَه منكم متعمداً، فَجَزاءٌ مثلُ ما قَتَل من النَّعَم، يحكمُ به ذَوَا عَدْلٍ منكم، هَدْياً بالغَ الكعبةِ} [المائدة 95] فأمرهم بالمِثل، وجعل المثل الى عدلين يحكمان فيه، فلما حُرِّم مأكولُ الصيد عامّاً كانت لِدَوَابِّ الصيد أمثالٌ على الأبدان. فحَكَمَ مَن حَكَمَ من أصحاب رسول الله على ذلك، [ص: 491] فقضى في الضَّبُع بكَبْشٍ، وفي الغزال بعَنْز، وفي الأرنب بعَنَاق، وفي اليَربوع بجَفْرَةٍ. (1) والعلم يحيط أنهم أرادوا في هذا المثلَ بالبدن، لا بالقِيَم، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم لاختلاف أثمان الصيد في البلدان وفي الأزمان، وأحكامُهم فيها واحدة. والعلم يحيط أن اليربوع ليس مثل الجَفرة في البدن، ولكنها كانت أقربَ الأشياء منه شَبَهَاً، فجُعلت مثله، وهذا من القياس يَتَقَارب تقاربَ العنز والظَّبي، ويَبعد قليلاً بُعْد الجفرة من اليربوع. ولما كان المثل في الأبدان في الدوابِّ من الصيد دون الطائر: لم يَجُز فيه إلا ما قال عمر - والله أعلم - من أن يُنظر الى المقتول من الصيد، فيُجزى بأقرب الأشياء به شَبَهَاً منه في البدن، [ص: 492] فإذا فات منها شيئاً (2) رُفِع إلى أقرب الأشياء به شَبَهَاً، كما فاتت الضَّبُع العنز، فرُفِعت الى الكبش، وصَغُرَ اليربوع عن العَنَاق فخُفِضَ الى الجَفْرة. وكان طائر الصيد لا مثل له في النَّعَم لاختلاف خِلقته وخلقته، فجُزِي خبراً وقياساً (3) على ما كان ممنوعاً لإنسان فأتلفه إنسان، فعليه قيمته لمالكه. قال "الشافعي": فالحكم فيه بالقيمة يجتمع في أنه يُقَوَّم قيمةَ يومه وبلده، ويختلف في الأزمان والبلدان، حتى يكون الطائر ببلد ثمنَ درهمٍ، وفي البلد الآخر ثمنَ بعضِ ردهم.   (1) العَنَاق: ما لم يتم له سنة من أنثى أولاد المعز. والجَفْرة: ما بلغ أربعة أشهر وفُصل عن أمه وأخذ في الرعي. (2) أي جاوز شيئاً. (3) أي فجزي استدلالاً بالخبر والقياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وأمرنا بإجازة شهادة العدل، وإذا شُرط علينا أن نقبل العدل ففيه دلالة على أن نردَّ ما خالفه. وليس للعدل علامة تفرِّق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه، وإنما علامة صدقه بما يُختَبر من حاله في نفسه. فإذا كان الأغلب من أمره ظاهرَ الخير: قُبِلَ، وإن كان فيه تقصير عن بعض أمره، لأنه لا يُعَرَّى أحد رأيناه من الذنوب. وإذا خَلَطَ الذنوب والعمل الصالح، فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره، بالتمييز بين حَسَنه وقبيحه، وإذا كان هذا هكذا، فلا بد من أن يختلف المجتهدون فيه. وإذا ظهر حَسَنه فقبلنا شهادته، فجاء حاكم غيرُنا، فعلم منه ظهور السّيّء كان عليه ردُّه. [ص: 494] وقد حكم الحاكمان في أمر واحد برَدٍّ وقبولٍ، وهذا اختلاف، ولكن كلٌّ قد فعل ما عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 قال: فتذكر حديثاً في تجويز الاجتهاد؟ قلت: نعم، أخبرنا عبد العزيز عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بُسْر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله يقول: " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر" [ص: 495] أخبرنا عبد العزيز عن ابن الهاد قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة (1) فقال: هذه رواية منفردة، يردُّها علي وعليك غيري وغيرك، ولغيري عليك فيها موضعُ مطالبة. قلت: نحن وأنت ممن يثبتها؟ قال: نعم. قلت: فالذين يردونها يعلمون ما وصفنا من تثبيتها وغيرِه. [ص: 496] قلت: فأين موضعُ المطالبة فيها؟ فقال: قد سمى رسول الله فيما رويتَ من الاجتهاد "خطأً" و "صواباً"؟ فقلت: فذلك الحجةُ عليك. قال: وكيف؟ قلت: إذ ذكر النبي أنه يثاب على أحدهما أكثرَ مما يُثاب على الآخر، ولا يكون الثواب فيما لا يسع، ولا الثواب في الخطأ الموضوع. لأنه لو كان إذا قيل له: اجتهد على الخطأ، فاجتهد على [ص: 497] الظاهر كما أُمر كان مخطئا خطأ مرفوعاً، كما قلت -: كانت العقوبة في الخطأ - فيما نُرى والله أعلم - أولى به، وكان أكثرَُ أمره أن يُغفر له، ولم يُشبه أن يكون له ثواب على خطأ لا يسعه. وفي هذا دليل على ما قلنا: أنه إنما كُلف في الحكم الاجتهادَ على الظاهر دون المغيَّب، والله أعلم. قال: إن هذا ليحتمل أن يكون كما قلتَ، ولكن ما معنى "صواب" "خطأ"؟ قلت له: مثل معنى استقبال الكعبة، يصيبها من رآها بإحاطة، ويتحراها من غابت عنه، بَعُدَ أو قَرُبَ منها، فيصيبها بعضٌ ويخطئها بعضٌ، فنفس التوجه يحتمل صواباً وخطأ، إذا قَصَدتَ بالإخبار عن الصواب والخطأ قَصْدَ أن يقول: فلان أصاب [ص: 498] قَصْد ما طلب فلم يخطِئْه، وفلان أخطأ قصد ما طلب وقد جهِد في طلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 فقال: هذا هكذا، أفرأيت الاجتهاد، أيقال له "صواب " على غير هذا المعنى؟ قلت: نعم على أنه إنما كُلف فيما غاب عنه الاجتهادَ، فإذا فعل فقد أصاب بالإتيان بما كُلف، وهو صواب عنده على الظاهر، ولا يعلم الباطن إلا الله. ونحن نعلم أن المختلفَين في القبلة، وإن أصابا بالاجتهاد إذا اختلفنا يريدانِ عيناً: لم يكونا مصيبَين للعين أبداً، ومصيبان في الاجتهاد. وهكذا ما وصفنا في الشهود وغيرهم. قال: أفتوجدني مثل هذا؟ قلت: ما أحسِب هذا يُوضَح بأقوى من هذا! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 قال: فاذكر غيره؟ قلت: أحل الله لنا أن ننكح من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت أيماننا، وحرّم الأمهات والبنات والأخوات. قال: نعم. قلت: فلو أن رجلاً اشترى جارية، فاستبرأها أَيحَلُّ له إصابتها؟ قال: نعم. قلت: فأصابها وولَدَت له دهراً، ثم علم أنها أختُه، كيف القول فيه؟ قال: كان ذلك حلالاً حتى علم بها، فلم يَحِل له أن يعود إليها. قلت: فيقال لك في امرأة واحدة حلالٌ له حرامٌ [ص: 500] عليه، بغير إحداث شيء أحدثه هو ولا أحدثَتْه؟ قال: أما في المغيَّب فلم تزل أختَه أولاً وآخراً، وأما في الظاهر، فكانت له حلالاً ما لم يعلم، وعليه حرامٌ حين علم. وقال: إن غيرنا ليقول: لم يزل آثماً بإصابتها، ولكنه مأثَم مرفوع عنه. فقلت: الله اعلم، وأيَّهما كان، فقد فرَّقوا فيه بين حكم الظاهر والباطن، وألغوا المأثم عن المجتهد على الظاهر، وإن أخطأ عندهم، ولم يُلغوه عن العامد. قال: أجل. وقلت له: مَثَلُ هذا الرجل ينكح ذاتَ مَحرَم منه، ولا يعلم، وخامسةً وقد بلغته وفاة رابعة كانت زوجة له، وأشباهٌ لهذا. [ص: 501] قال: نعم أشباه هذا كثير. فقال: إنه لَبَيِّن عند من يثبت الرواية منكم أنه لا يكون الاجتهاد أبداً إلا على طلب عينٍ قائمة مُغَيَّبة بدلالة، وأنه قد يسع الاختلاف مَن له الاجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 فقال: فكيف الاجتهاد؟ فقلت: إن الله جل ثناؤه مَنَّ على العباد بعقول، فدلهم بها على الفَرْق بين المختلف، وهداهم السبيل إلى الحق نصاً ودلالةً. قال: فَمَثِّل من ذلك شيئاً؟ قلت: نَصَبَ لهم البيت الحرام، وأمرهم بالتوجه إليه إذا رأوه، وتَأَخِّيه إذا غابوا عنه، وخَلَقَ لهم سماء وأرضاً وشمساً وقمرا ونجوماً وبحاراً وجبالاً ورياحاً. [ص: 502] فقال: {وهو الذي جَعَلَ لكم النجومَ لتهتدوا بها في ظلمات البر ِّوالبحرِ} [الأنعام 97] وقال: {وعلاماتٍ وبالنجمِ هم يهتدون} [النحل 16] فأخبر أنهم يهتدون بالنجم والعلامات. فكانوا يعرفون بمنِّه جهة البيت بمعونته لهم، وتوفيقه إياهم، بأن قد رآه من رآه منهم في مكانه، وأخبر من رآه منهم من لم يره، وأبصر ما يُهتَدَى به إليه، من جَبَل يُقصد قَصده، أو نجمٍ يُؤْتمّ به وشمال وجنوبٍ، وشمسٍ يُعرف مَطلِعُها ومَغرِبها، وأين تكون من المصلَّى بالعشي، وبحورٍ كذلك. وكان عليهم تَكَلف الدلالات بما خلق لهم من العقول التي رَكَّبها فيهم، ليقصدوا قصد التوجه للعين التي فرض عليهم استقبالها. [ص: 503] فإذا طلبوها مجتهدين بعقولهم وعلمهم بالدلائل، بعد استعانة الله، والرغبةِ إليه في توفيقه، فقد أدَّوا ما عليهم. وأبان لهم أن فرْضَه عليهم التوجُّه شطر المسجد الحرام، والتوجه شطره لا إصابةُ البيت بكل حال. ولم يكن لهم إذا كان لا تُمْكنهم الإحاطة في الصواب إمكانَ مَن عايَنَ البيت: أن يقولوا نتوجه حيث رأينا بلا دلالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 [باب الاستحسان] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 قال: هذا كما قلتَ، والاجتهاد لا يكون إلا على مطلوب، والمطلوب لا يكون أبداً إلا على عين قائمة تُطلب بدلالةٍ [ص: 504] يُقصد بها إليها، أو تشبيهٍ على عين قائمة، وهذا يبين أن حراماً على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسانُ الخبرَ، والخبرُ - من الكتاب والسنة - عينٌ يتأخَّى معناها المجتهدُ ليصيبه، كما البيتُ يتأخَّاه مَن غاب عنه ليصيبه، أو قَصَدَه بالقياس، وأن ليس لأحد أن يقول إلا من جهة الاجتهاد، والاجتهادُ ما وصفتَ من طلب الحق. فهل تجيز أنت أن يقول الرجل: أستحسنُ بغير قياس؟ فقلت: لا يجوز هذا عندي - والله أعلم - لأحد، وإنما كان لأهل العلم أن يقولوا دون غيرهم، لأن يقولوا في الخبر باتباعه فيما ليس فيه الخبرُ بالقياس على الخبر. [ص: 505] ولو جاز تعطيلُ القياس جاز لأهل العقولِ من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خبر بما يحضرهم من الاستحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وإن القول بغير خبر ولا قياس لَغَير جائز، بما ذكرتُ من كتاب الله وسنة رسوله، ولا في القياس. فقال: أما الكتاب والسنة فيدلان على ذلك، لأنه إذا أمر النبي بالاجتهاد، فالاجتهاد أبداً لا يكون إلا على طلب شيء، وطلبُ الشيء لا يكون إلا بدلائل، والدلائلُ هي القياس، قال: فأين القياس مع الدلائل على ما وصفتَ؟ قلت: ألا ترى أن أهل العلم إذا أصاب رجل [ص: 506] لرجل عبداً لم يقولوا لرجل: أقم عبداً ولا أمةً إلا وهو خابرٌ بالسوق، ليُقيم معنيين: بما يُخبر كَم ثمنُ مثله في يومه؟ ولا يكون ذلك إلا بأن يَعتبر عليه بغيره، فيقيسه عليه، ولا يقال لصاحب سلعة: أقم إلا وهو خابرٌ. [ص: 507] ولا يجوز أن يقال لفقيه عدلٍ غيرِ عالم بقِيَم الرقيق: أقم هذا العبدَ، ولا هذه الأمةَ ولا إجازةَ هذا العاملِ، لأنه إذا أقامه على غير مثال بدلالةٍ على قيمته كان متعسفاً. فإذا كان هذا هكذا فيما تَقِلّ قيمته من المال ويَيْسُرُ الخطأ فيه على المُقَام له والمقام عليه -: كان حلالُ الله وحرامه أولى أن لا يقال فيهما بالتعسُّف والاستحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 وإنما الاستحسان تلذُّذ. ولا يقول فيه إلا عالم بالأخبار، عاقلٌ للتشبيه عليها. وإذا كان هذا هكذا، كان على العالم أن لا يقول إلا من جهة العلم، - وجهةُ العلم الخبر اللازم - بالقياس بالدلائل [ص: 508] على الصواب حتى يكون صاحب العلم أبداً متبعاً خبراً، وطالبَ الخبر بالقياس، كما يكون متبعَ البيت بالعِيان، وطالبً قصْدَه بالاستدلال بالأعلام مجتهداً. ولو قال بلا خبر لازم وقياسٍ كان أقربَ من الإثم من الذي قال وهو غير عالم، وكان القول لغير أهل العلم جائزاً ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علمٍ مضى قبله، وجهةُ العلمِ بعدُ الكتابُ والسنةُ والإجماعُ والآثارُ، وما وصفتُ من القياس عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 ولا يقيس إلا من جمع الآلةَ التي له القياسُ بها، [ص: 510] وهي العلم بأحكام كتاب الله: فرضِه، وأدبِه، وناسخِه، ومنسوخِه، وعامِّه، وخاصِّه، وإرشاده. ويَستدل على ما احتمل التاويل منه بسنن رسول الله، فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماعٌ فبالقياس. ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب. ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرِّق بين المشتبه، ولا يَعْجَلَ بالقول به دون التثبيت. ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه، لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزدادُ به تثبيتاً فيما اعتقده من الصواب. [ص: 511] وعليه في ذلك بلوغُ غاية جهده، والإنصافُ من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك. ولا يكون بما قال أَعنَى منه بما خالفه، حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك، إن شاء الله. فأما مَن تمَّ عقله، ولم يكن عالماً بما وصفنا، فلا يحلُّ له أن يقول بقياس، وذلك أنه لا يعرف ما يقيس عليه، كما لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه. ومن كان عالماً بما وصفنا بالحفظ لا بحقيقة المعرفة: فليس له أن يقول أيضاً بقياس، لأنه قد يذهب عليه عَقْل المعاني. وكذلك لو كان حافظاً مقصِّرَ العقلِ، أو مقصِّراً عن علم لسان العرب: لم يكن له أن يقيس من قِبَلِ نقص عقله عن الآلة التي يجوز بها القياس. ولا نقول يَسَع - هذا والله أعلم - أن يقول أبداً إلا اتباعاً ولا قياساً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 فإن قال قائل: فاذكر من الأخبار التي تقيس عليها، وكيف تقيس؟ قيل له إن شاء الله: كل حكم لله أو لرسوله وُجِدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنه حُكِم به لمعنى من المعاني، فنزلت نازلة ليس فيها نص حكمٍ: حُكم فيها حكمُ النازلة المحكومِ فيها، إذا كانت في معناها. والقياس وجوه يجمعها "القياس "، ويتفرَّق [ص: 513] بها ابتداءُ قياسِ كل واحد منهما، أو مصدرُه، أو هما، وبعضُهما أوضحُ من بعض. فأقوى القياس أن يحرِّم الله في كتابه أو يحرم رسول الله القليل من الشيء، فيُعْلمَ أن قليله إذا حُرِّم كان كثيره مثلَ قليله في التحريم أو أكثرَ، بفضل الكثرة على القلة. وكذلك إذا ُحمِد على يسير من الطاعة، كان ما هو أكثرُ منها أولى أن ُيحمد عليه. وكذلك إذا أباح كثيرَ شيء كان الأقل منه أولى أن يكون مباحاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 فإن قال: فاذكر من كل واحد من هذا شيئاً يبين لنا ما في معناه؟ [ص: 514] قلت: قال رسول الله: "إن الله حرّم من المؤمن دمه وماله، وأن يُظَن به إلا خيراً" (1) فإذا حرّم أن يُظن به ظناً مخالفاً للخير يُظهره: كان ما هو أكثر من الظن المُظهَر ظناً من التصريح له [ص: 515] بقول غير الحق أولى أن يحُرَّم، ثم كيف ما زِيد في ذلك كان أحرَم. َ قال الله: {فمَن يعملْ مثقالَ ذَرَّةٍ خيراً يَرَهُ، ومَن يعملْ مثقالَ ذرَّة شراً يَرَهُ} [الزلزلة 7، 8] فكان ما هو أكثر من مثقال ذرة من الخير أحمَدَ، وما هو أكثر من مثقال ذرةٍ من الشر أعظمَ في المأثم. وأباح لنا دماءَ أهل الكفر المقاتِلين غيرِ المعاهَدين، وأموالهَم، ولم يحَظُرْ علينا منها شيئاً أذكرُهُ، فكان ما نِلْنا من أبدانهم دون الدماء، ومن أموالهم دون كلِّها: أولى أن يكون مباحاً.   (1) (به) نائب فاعل (يُظن) وهو جائز عند الكوفيين ولا يجيزه الجمهور وسيأتي نظائر هذا في كلام الشافعي نستغني بالإشارة هنا عن إعادتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وقد يمتنع بعض أهل العلم من أن يسمي [ص: 516] هذا " قياساً " ويقول: هذا معنى ما أحل الله، وحرم، وحمِد، وذمّ، لأنه داخل في جملته، فهو بعينه، ولا قياسٌ على غيره. ويقول مثل هذا القول في غير هذا، مما كان في معنى الحلال فأُحل، والحرام فحُرم. ويمتنع أن يُسمَّى" القياس " إلا ما كان يحتمل أن يُشَبَّه بما احتمل أن يكون فيه شَبَهاً (1) من معنيين مختلفين، فَصَرَفَه على أن يقيسه على أحدهما دون الآخر. ويقول غيرهم من أهل العلم: ما عدا النصَّ من الكتاب أو السنة، فكان في معناه فهو قياس، والله اعلم.   (1) استعمل الشافعي هنا وفي مواضع اسم كان منصوباً إذ تقدم عليه الجار والمجرور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 فإن قال قائل: فاذكر من وجوه القياس ما يدل على اختلافه في البيان والأسبابِ، والحجة فيه سوى هذا الأولِ، الذي تدرِك العامة علمه؟ قيل له إن شاء الله: قال الله: {والوالداتُ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حَولين كاملين لمن أرادَ أن يتمَّ الرَّضاعةَ وعلى المولودِ له رزقُهنَّ وكِسوتهُنَّ بالمعروف} [البقرة 233] وقال: {وإن أردتم أن تَسترضعوا أولادَكم، فلا جُناحَ عليكم إذا سَلَّمتم ما آتيتم بالمعروف} [البقرة 233] فأمر رسول الله هندَ بنت عتبة أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدَها - وهم ولده - بالمعروف بغير أمره. قال: فدلَّ كتاب الله وسنة نبيه أن على الوالد رَضاعَ ولده، ونفقتَهم صغاراً. [ص: 518] فكان الولد من الوالد فجُبر على صلاحه في الحال التي لا يُغني الولد فيها نفسه، فقلت: إذا بلغ الأب ألا يغني نفسه بكسبٍ ولا مالٍ، فعلى ولده صلاحُه في نفقته وكسوته قياساً على الولد. وذلك أن الولد من الوالد، فلا يضيِّع شيئاً هو منه، كما لم يكن للولد أن يضيع شيئاً من ولده، إذ كان الولدُ منه، وكذلك الوالدون وإن بَعُدُوا، والولدُ وإن سَفَلُوا في هذا المعنى، والله أعلم، فقلت: ينفق على كل محتاج منهم غيرِ محترِف، وله النفقة على الغني المحترف. وقضى رسول الله في عبدٍ دُلِّس للمبتاع فيه بعيب [ص: 519] فظهر عليه بعد ما استغلَّه أن للمبتاع ردَّه بالعيب، وله حبسُ الغلّة بضمانه العبد. َ فاستدللنا إذا كانت الغلة لم يقع عليها صفقةُ البيع، فيكونَ لها حصة من الثمن، وكانت في ملك المشتري في الوقت الذي لو مات فيه العبد مات من مال المشتري: أنه إنما جعلها له لأنها حادثة في ملكه وضمانه، فقلنا: كذلك في ثمر النخل، ولبن الماشية وصوفها وأولادها، وولدِ الجارية، وكلِّ ما حدث في مِلك المشتري وضمانه، وكذلك وطءُ الأمة الثيِّب وخدمتُها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 قال: فتفرَّق علينا بعض أصحابنا وغيرُهم في هذا. فقال بعض الناس: الخراجُ والخدمة والمتاع غيرُ الوطء من المملوك والمملوكةِ لمالكها الذي اشتراها، وله ردُّها بالعيب، وقال: لا يكون له أن يردَّ الأمة بعد أن يطأها، وإن كانت ثيباً، ولا يكون له ثمر النخل، ولا لبن الماشية، ولا صوفها، ولا [ص: 520] ولد الجارية، لأن كل هذا - من الماشية والجارية والنخل والخراج -: ليس بشيء من العبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 فقلت لبعض من يقول هذا القول: أرأيت قولك: الخراجُ ليس من العبد، والثمرُ من الشجر، والولدُ من الجارية: أليسا يجتمعان في أن كل واحد منهما كان حادثاً في ملك المشتري، لم تقع عليه صفقة البيع؟ قال: بلى، ولكن يتفرقان في أن ما وصل إلى السيد منهما مفترق، وتمر النخل منها، وولد الجارية والماشية منها، وكسبُ الغلام ليس منه، إنما هو شيء تحَرَّف فيه فاكتسبه. [ص: 521] فقلت له أرايت إن عارضك معارض بمثل حجتك فقال: قضى النبي أن الخراج بالضمان، والخراج لا يكون إلا بما وصفت من التحرُّف، وذلك يشغله عن خدمة مولاه، فيأخذ له بالخراج العِوَض من الخدمة ومن نفقته على مملوكه، فإن وُهِبَت له هبة، فالهبة لا تشغله عن شيء: لم تكن لمالكه الآخر، ورُدَّت إلى الأول؟ قال: لا، بل تكون للآخِر الذي وُهبت له، وهو في ملكه. قلت: هذا ليس بخراج، هذا من وجه غير الخراج. قال: وإنْ، فليس من العبد. قلتُ: ولكنه يفارق معنى الخراج، لأنه من غير وجه الخراج؟ [ص: 522] قال: وإن كان من غير وجه الخراج، فهو حادث في ملك المشتري. قلت: وكذلك الثمرة والنِّتاج حادث في ملك المشتري، والثمرة إذا باينت النخلة، فليست من النخلة، قد تباع الثمرة، ولا تتبعها النخلة، والنخلةُ ولا تتبعها الثمرة، وكذلك نِتاجُ الماشية. والخراجُ أولى أن يُرد مع العبد، لأنه قد يُتكلف فيه ما تبعه من ثمر النخلة، ولو جاز أن يُرد واحد منهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وقال بعض أصحابنا بقولنا في الخراج، ووطء الثيب، وثمر النخل، وخالفنا في ولد الجارية. وسواءٌ ذلك كله، لأنه حادث في ملك المشتري، لا يستقيم فيه إلا هذا، أو لا يكون لمالك العبد المشتري شيء [ص: 523] إلا الخراجُ والخدمة، ولا يكون له ما وُهب للعبد، ولا ما التَقط، ولا غيرُ ذلك من شيء أفاده من كَنز ولا غيره، إلا الخراجُ والخدمة، ولا ثمرُ النخل، ولا لبن الماشية، ولا غير ذلك، لأن هذا ليس بخراج. ونهى رسول الله عن الذهب بالذهب، والتمر بالتمر، والبُرِّ بالبر، والشعير بالشعير إلا مثلاً بمثل يداً بيد. فلما خَرَجَ رسول الله في هذه الأصناف المأكولة التي شَحّ الناس عليها، حتى باعوها كيلاً: بمعنيين: أحدهما: أن يباع [ص: 524] منها شيء بمثله أحدُهما نقد، والآخر دَين، والثاني: أن يُزاد في واحد منهما شيء على مثله يداً بيد: وكان ما كان في معناها محرّما قياساً عليها. وذلك كل ما أُكل مما بيع موزوناً، لأني وجدتها مجتمعةَ المعاني في أنها مأكولة ومشروبة، والمشروبُ في معنى المأكول، لأنه كلَّه للناس إما قوت وإما غذاء وإما هما، ووجدت الناس شَحّوا عليها حتى باعوها وزناً، والوزنُ أقربُ من الإحاطة من الكيل، وفي معنى الكيل، وذلك مثل العسل والسمن والزيت والسكر وغيره، مما يؤكل ويُشرب ويباع موزوناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 فإن قال قائل: أفيحتمل ما بيع موزوناً أن يقاس [ص: 525] على الوزن من الذهب والوَرِق، فيكونَ الوزن بالوزن أولى بأن يقاس من الوزن بالكيل؟ قيل - إن شاء الله - له: إن الذي منعنا مما وصفتَ - من قياس الوزن بالوزن - أن صحيح القياس إذا قِست الشيء بالشيء أن تحكم له بحكمه، فلو قست العسل والسمن بالدنانير والدراهم، وكنت إنما حرّمت الفضل في بعضها على بعض إذا كانت جنساً واحدا قياساً على الدنانير والدراهم: أكان يجوز أن يُشترى بالدنانير والدراهم نقداً عسلاً وسمناً إلى أجل؟ فإن قال: يجيزه بما أجازه به المسلمون. [ص: 526] قيل إن شاء الله: فإجازة المسلمين له دلتني على أنه غير قياس عليه، لو كان قياساً عليه كان حكمُه حكمَه، فلم يحل أن يباع إلا يداً بيد، كما لا تحل الدنانير بالدراهم إلا يداً بيد. فإن قال: أفتجدك حين قسته على الكيل حكمتَ له حكمه؟ قلت: نعم، لا أفرّق بينه في شيء بحال. قال: أفلا يجوز أن تشتري مُدّ حِنطة نقداً بثلاثة أرطال زيت إلى أجل. [ص: 527] قلت: لا يجوز أن يُشترى، ولا شيءٌ من المأكول والمشروب بشيء من غير صنفه إلى أجل. حكمُ المأكول المكيلِ حكمُ المأكول الموزون. ِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 قال: فما تقول في الدنانير والدراهم؟ قلت: محرَّمات في أنفسها، لا يقاس شيء من المأكول عليها، لأنه ليس في معناها، والمأكولُ المكيلُ محرَّم في نفسه، ويقاس به ما في معناه من المكيل والموزون عليه، لأنه في معناه. فإن قال: فافرُق بين الدنانير والدراهم؟ قلت: لم أعلم مخالفاً من أهل العلم في إجازة أن يُشترى بالدنانير والدراهم الطعامُ المكيلُ والموزون إلى أجل، وذلك لا يحل في الدنانير بالدراهم، وإني لم أعلم منهم مخالفاً في أني لو علمت مَعدِناً فأدّيت الحق فيما خرج منه، ثم أقامت فضته أو ذهبه عندي دهرِي: كان علي في كل سنة أداءُ زكاتها، ولو حصدت [ص: 528] طعامَ أرضي، فأخرجت عُشره أقام عندي دهرَه: لم يكن علي فيه زكاة، وفي أني لو استهلكت لرجل شيئاً قُوِّم علي دنانيرَ أو دراهمَ، لأنها الأثمانُ في كل مالٍ لمسلم إلا الديات. فإن قال: هكذا. قلتُ: فالأشياء تتفرق بأقل مما وصفت لك. ووجدنا عامّاً في أهل العلم أن رسول الله قضى في جناية الحر المسلم خطأً بمائة من الإبل على عاقلة الجاني وعامَّاً فيهم أنها في مُضِيّ ثلاث سنين، في كل سنة ثلثُها، وبأسنانٍ معلومة. فدَلَّ على معاني من القياس، سأذكر منها - إن شاء الله - بعض ما يحضرني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 إنا وجدنا عاماً في أهل العلم أن ما جنى الحرُّ المسلم من جنايةِ عمدٍ أو فسادِ مال لأحد على نفس أو غيره: ففي ماله دون عاقلته، وما كان من جنايةٍ في نفسٍ خطأً فعلى عاقلته. ثم وجدناهم مجمعين على أن تَعقل العاقلة ما بلغ ثلث الدية من جناية في الجراح فصاعداً. ثم افترقوا فيما دون الثلث: فقال بعض أصحابنا: تعقل العاقلة الموضِحَة (1) وهي نصف العشر فصاعداً، ولا تعقل ما دونها. فقلت لبعض من قال: تعقل نصف العشر، ولا تعقل ما دونه: هل يستقيم القياس على السنة إلا بأحد وجهين؟ [ص: 530] قال: وما هما؟ قلت: أن تقول: لما وجدت النبي قضى بالدية على العاقلة قلت به اتباعاً، فما كان دون الدية ففي مال الجاني، ولا تقيس على الدية غيرها، لأن الأصل: الجاني أولى أن يَغْرَمَ جنايته من غيره، كما يغرمها في غير الخطأ في الجراح، وقد أوجب الله على القاتل خطأً ديةً ورقبةً، فزعمت أن الرقبة في ماله، لأنها من جنايته، وأخرجت الدية من هذا المعنى اتباعاً، وكذلك أتَّبع في الدية، وأصرف بما دونها إلى أن يكون في ماله، لأنه أولى أن يَغرم ما جنى من غيره، وكما أقول في المسح على الخفين: رخصةٌ: بالخبر عن رسول الله، ولا أقيس عليه غيرَه.   (1) الموضحة: الجرح الذي يبدي وضح العظم أي بياضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 أو يكونَ القياس من وجه ثاني؟ قال: وما هو؟ [ص: 531] قلت: إذ أخرج رسول الله الجناية خطأً على النفس مما جنى الجاني على غير النفس، وما جنى على نفس عمداً، فجعل على عاقلته يضمنونها، وهي الأكثر: جَعَلْت على عاقلته يضمنون الأقل من جناية الخطأ، لأن الأقل أولى أن يضمنوه عنه من الأكثر، أو في مثل معناه. قال: هذا أولى المعنيين أن يقاس عليه، ولا يُشْبهُ هذا المسحَ على الخفين. فقلت له: هذا كما قلت - إن شاء الله - وأهل العلم مجمعون على أن تغرم العاقلة الثلث وأكثر، وإجماعهم دليل على أنهم قد قاسوا بعضَ ما هو أقلُّ من الدية بالدية! قال: أجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 فقلت له: فقد قال صاحبنا: أحسنُ ما سمعت أن تَغرم العاقلة ثلث الدية فصاعداً، وحكى أنه الأمرُ عندهم، أفرأيت إن احتجّ له محتجّ بحجتين؟ قال: وما هما؟ قلت: أنا وأنت مجمعان على أن تغرم العاقلة الثلث فأكثر، ومختلفان فيما هو أقل منه، وإنما قامت الحجة بإجماعي وإجماعك على الثلث، ولا خبر عندك في أقلَّ منه: ما تقول له؟ قال: أقول إن إجماعي من غير هذا الوجه الذي ذهبتَ إليه، إجماعي إنما هو قياس على أن العاقلة إذا غَرِمت الأكثر ضَمنَت ما هو أقلُّ منه، فمن حَدّ لك الثلث؟ أرأيت إن قال لك غيرك: بل تغرم تسعةَ أعشار، ولا تغرم ما دونه؟ قلت: فإن قال لك: فالثلث يَفدح مَن غَرِمه، [ص: 533] قلت: يُغرم معه أو عنه لأنه فادح، ولا يُغرَم ما دونه غيرُ فادح. قال: أفرأيت من لا مال له إلا درهمين، أما يَفدحه أن يَغرم الثلث والدرهمَ، فيبقى لا مال له؟ أرأيت من له دنيا عظيمةٌ، هل يفدحه الثلث؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 فقلت له: أفرأيت لو قال لك: هو لا يقول لك "الأمر عندنا" إلا والأمر مجتمَعٌ عليه بالمدينة. [ص: 534] قال: والأمر المجتَمَع عليه بالمدينة أقوى من الأخبار المنفردة؟! قال: فكيف تَكلّفَ أن حكى لنا الأضعفَ من الأخبار المنفردة، وامتنع أن يحكيَ لنا الأقوى اللازمَ من الأمر المجتَمَع عليه؟! قلنا: فإن قال لك قائل: لقلة الخبر وكثرة الإجماع عن أن يحُكى، وأنت قد تصنع مثل هذا، فتقول: هذا أمر مجتَمَع عليه! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 قال: لستُ أقول ولا أحدٌ من أهل العلم "هذا مجتمع عليه ": إلا لما تَلْقى عالماً أبداً إلا قاله لك وحكاه عن من قبله، كالظهرُ أربعٌ، وكتحريم الخمر، وما أشبه هذا، وقد أجده [ص: 535] يقول: "المجمع عليه" وأجد من المدينة من أهل العلم كثيراً يقولون بخلافه، وأجد عامة أهل البلدان على خلاف ما يقول: "المجتمع عليه" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 قال: فقلت له: فقد يلزمك في قولك "لا تعقل ما دون الموضِحَة "مثلُ ما لزمه في الثلث. فقال لي: إن فيه علةً بأن رسول الله لم يقض فيما دون الموضحة بشيء. فقلت له: أفرأيت إن عارضك معارِض فقال: لا أقضي فيما دون الموضحة بشيء، لأن رسول الله لم يقض فيه بشيء؟ قال: ليس ذلك له، وهو إذا لم يقض فيما دونها بشيء، فلم يَهدُر ما دونها من الجِرَاح. قال: وكذلك يقول لك: هو إذا لم يقل: لا تعقِل العاقلة ما دون الموضحة، فلم يحرِّم أن تعقل العاقلة ما دونها، ولو قضى في الموضحة، ولم يقضِ فيما دونها على العاقلة ما منع ذلك العاقلةَ أن تَغرَم ما دونها، إذا غَرِمت الأكثرَ غرمت الأقلَّ، كما قلنا نحن وأنت، واحتججتَ على صاحبنا، ولو جاز هذا لك، جاز عليك. ولو قضى النبي بنصف العُشر على العاقلة: أن يقول قائل: تغرم نصف العشر والديةَ، ولا تغرم ما بينهما، ويكون ذلك في مال الجاني؟! ولكن هذا غيرُ جائز لأحد، والقول فيه أن جميع ما كان خطأ فعلى العاقلة، وإن كان درهماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 وقلت له: قد قال بعض أصحابنا: إذا جنى الحر على العبد جنايةً فأتى على نفسه أو ما دونها خطأ، فهي في ماله دون [ص: 537] عاقلته، ولا تعقل العاقلة عبداً، فقلنا: هي جناية حر، وإذ قضى رسول الله أن عاقلة الحر تحمل جنايته في حر إذا كانت غُرْماً لاحقاً بجناية خطأ، وكذلك جنايتُه في العبد إذا كانت غُرْماً من خطأ، والله أعلم، وقلتَ بقولنا فيه، وقلتَ: من قال لا تعقل العاقلة عبداً احتمل قوله لا تعقل جناية عبدٍ، لأنها في عنقه دون مال سيده غيرِه (1) فقلتَ بقولنا، ورأيتَ ما احتججتُ به من هذا حجةً صحيحةً داخلة في معنى السنة؟ قال: أجل.   (1) (غيره) بدل من (سيده) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 قال: وقلتُ له: وقال صاحبك وغيره من [ص: 538] أصحابنا: جِرَاح العبد في ثمنه كجِرَاح الحر في ديته، ففي عينه نصفُ ثمنه، وفي موضحته نصفُ عشر ثمنه، وخالفْتَنَا فيه، فقلتَ: في جراح العبد ما نَقَصَ من ثمنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 قال: فأنا أبدأ، فأسألك عن حجتك في قول جِرَاح العبد في ديته: أخبراً قلته أم قياساً؟ قلت: أما الخبر فيه، فعن سعيد بن المسيب. قال: فاذكره؟ قلت: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال: عَقْلُ العبد في ثمنه، فسمعته منه كثيراً هكذا، وربما قال: كجراح الحر في ديته، قال ابن شهاب: فإن ناساً يقولون: يُقَوَّم سلعةً. فقال: إنما سألتك خبراً تقوم به حجَّتُك. فقلت: قد أخبرتك أني لا أعرف فيه خبراً عن أحدٍ أعلى من سعيد بن المسيب. قال: فليس في قوله حجة. قال: وما ادعيتُ ذلك فتردَّه عليّ! قال: فاذكر الحجة فيه؟ قلت: قياساً على الجناية على الحر. قال: قد يفارق الحرَّ في أن دية الحر مؤقَّتة، [ص: 540] وديتُه ثمنُهُ، فيكونُ بالسِّلَع من الإبل والدواب وغير ذلك أشبهَ، لأن في كل واحد منهما ثمنَه. ُ فقلت: فهذا حجة لمن قال: لا تعقل العاقلة ثمن العبد: عليك. قال: ومن أين؟ قال: يقول لك: لمَ قلتَ تعقل العاقلة ثمن العبد إذا جنى عليه الحر قيمته، وهو عندك بمنزلة الثمن؟ ولو جنى على بعير جناية ضمِنها في ماله؟ قال: فهو نفسٌ محرمة. قلت: والبعير نفس محرمة على قاتله؟ قال: ليست كحرمة المؤمن. قلت: ويقول لك، ولا العبدُ كحرمة الحر في كل أمره. [ص: 541] فقلت: فهو عندك مجُاَمِعُ الحرِّ في المعنى، أفتعقله العاقلة؟ قال: ونعم. قلت: وحَكَمَ الله في المؤمن يُقتل خطأً بديةٍ وتحريرِ رقبة؟ قال: نعم. قلت: وزعمتَ أن في العبد تحريرَ رقبةٍ كهي في الحر وثمنً، وأن الثمن كالدية؟ قال: نعم. قلت: وزعمتَ أنك تقتل الحرَّ بالعبد؟ قال: نعم. [ص: 542] قلت: وزعمنا أنا نقتل العبدَ بالعبد؟ قال: وأنا أقوله. قلت: فقد جامَعَ الحرَّ في هذه المعاني عندنا وعندك، في أن بينه وبين المملوك قصاصاً في كل جُرح، وجامَعَ البعير في معنى أن ديتَه ثمنُهُ، فكيف اخترتَ في جراحته أن تجعلها كجراحة بعيرٍ، فتجعل فيه ما نَقَصَه، ولم تجعل جراحته في ثمنه كجراح الحر في ديته؟ وهو يجُامع الحر في خمسة معاني، ويفارقه في معنى واحد؟ أليس أن تقيسه على ما يجامعه في خمسة معاني أولى بك من أن تقيسه على جامعه على معنى واحد؟! مع أنه يجُامع الحر في أكثرَ من هذا: أن ما حُرم على الحر حُرم عليه، وأن عليه الحدودَ والصلاةَ والصوم وغيرها من الفرائض، وليس من البهائم بسبيل!! قال: رأيتُ ديتَه ثمنَه؟ [ص: 543] قلت: وقد رأيتَ دية المرأة نصف دية الرجل، فما منع ذلك جراحَهَا أن تكون في ديتها، كما كانت جراح الرجل في ديته؟! وقلت له: إذا كانت الدية في ثلاث سنين إبلاً أفليس قد زعمتَ أن الإبل لا تكون بصفة دَيناً؟ فكيف أنكرت أن تُشترى الإبل بصفة إلى أجل؟ ولم تقيسه (1) على الدية، ولا على الكتابة ولا، على المهر، وأنت تجيز في هذا كله أن تكون الإبل بصفة دَيناً؟! فخالفت فيه القياس، وخالفتَ الحديث نصاً عن النبي: أنه استسلف بعيراً، ثم أمر بقضائه بعد؟! [ص: 544] قال: كرهه ابن مسعود. فقلنا: وفي أحد مع النبي حجة؟! قال: لا، إن ثبت عن النبي. قلت: هو ثابت باستسلافه بعيراً وقضاه خيراً منه، وثابت في الديات عندنا وعندك، هذا في معنى السنة.   (1) (لم) إما أن تكون مهملة على لغة أو أن تكون عاملة والياء إشباع للكسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 قال: فما الخبر الذي يقاس عليه؟ قلت: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي رافع: " أن النبي استسلف من رجل بعيراً فجاءته إبل، فأمرني أن أقضيه إياه، فقلت: لا أجد في الإبل إلا جملاً خِياراً، فقال: أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً " (1)   (1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك في الموطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 قال: فما الخبر الذي لا يقاس عليه؟ قلت: ما كان لله فيه حكمٌ منصوص، ثم كانت لرسول الله سنة بتخفيفٍ في بعض الفرض دون بعض: عُمِلَ بالرخصة فيما رخَّص فيه رسول الله دون ما سواها، ولم يُقَس ما سواها عليها، وهكذا ما كان لرسول الله من حكم عام بشيء، ثم سَن سنة تفارق حكم العام. قال: وفي مثل ماذا؟ قلت: فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة من نومه، فقال: {إذا قمتم إلى الصلاةِ، فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤسكم وأرجلَكم إلى الكعبين} [المائدة 6] فقصد قصْد الرجلين بالفرض، كما قَصَدَ قصْد ما سواهما في أعضاء الوضوء. [ص: 546] فلما مسح رسول الله على الخفين لم يكن لنا - والله أعلم - أن نمسح على عمامة، ولا بُرْفُع، ولا قُفَّازين: قياساً عليهما، وأثبتنا الفرض في أعضاء الوضوء كلها، وأرخصْنا بمسح النبي في المسح على الخفين، دون ما سواهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 قال: فتعدُّ هذا خلافاً للقُرَآن؟ قلت: لا تخالف سنة لرسول الله كتاب الله بحال. قال: فما معنى هذا عندك؟ قلت: معناه أن يكون قَصَدَ بفرض إمساس القدمين الماءَ مَن لا خُفَّي عليه لَبِسَهما كاملَ الطهارة. قال: أوَ يجوز هذا في اللسان؟ قلت: نعم، كما جاز أن يقوم إلى الصلاة من هو [ص: 547] على وضوء، فلا يكون المراد بالوضوء، استدلالاً بأن رسول الله صلى صلاتين وصلوات بوضوء واحد. وقال الله: {والسارقُ والسارقةُ، فاقطعوا أيديَهما جزاءً بما كسبا نَكالاً من الله، والله عزيز حكيم} [المائدة 38] فدلت السنة على أن الله لم يرد بالقطع كل السارقين. فكذلك دلت سنة رسول الله بالمسح أنه قصد بالفرض في غسل القدمين من لا خُفَّي عليه لبسهما كاملَ الطهارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 قال: فما مثلُ هذا في السنة؟ قلت: نهى رسول الله عن بيع التمر بالتمر إلا مِثْلاً بمثل "وسئل عن الرُّطَب بالتمر؟ فقال: أينقص الرُّطَب إذا يبس؟ فقيل: نعم، فنهى عنه". و " نهى عن المزابنة "، وهي كل ما عُرِف كيلُه منه، وهذا كله مجتَمِع المعاني، "ورخص أن تُبَاع العرايا بخَرْصها تمراً يأكلها أهلها رُطَبَاً" (1) [ص: 548] فرخَّصنا في العرايا بإرخاصه، وهي بيع الرطب بالتمر، وداخلةٌ في المزابنة بإرخاصه، فأثبتنا التحريم محرماً عاماً في كل شيء من صنف واحد مأكول، بعضُهُ جُزَاف وبعضه بكيل: للمزابنة، وأحللنا العرايا خاصة بإحلاله من الجملة التي حَرَّم، ولم نبطل أحد الخبرين بالآخر، ولم نجعله قياساً عليه. قال: فما وجه هذا؟ قلت: يحتمل وجهين: أولاهما به عندي - والله أعلم - أن يكون ما نهى عنه جملةً أراد به ما سوى العرايا، ويحتمل أن يكون أَرْخص فيها بعد وجوبها في جملة النهي، وأيَّهما كان فعلينا طاعته بإحلال ما أحل، وتحريم ما حَرَّم.   (1) انظر ما مضى ص 331 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 وقضى رسول الله بالدية في الحر المسلم يُقتل خطأ مائة من الإبل، وقضى بها على العاقلة. وكان العمد يخالف الخطأ في القَوَد والمأثَم، ويوافقه في أنه قد تكون فيه دية. فلما كان قضاء رسول الله في كل امرئ فيما لزمه، إنما هو في ماله دون مال غيره، إلا في الحر يُقتل خطأ: قضينا على العاقلة في الحر يُقتل خطأ ما قضى به رسول الله، وجعلنا الحر يُقتل عمدا إذا كانت فيه دية: في مال الجاني، كما كان كل ما جنى في ماله غيرَ الخطأ، ولم نقس ما لزمه من غُرْم بغير جراح خطأٍ على ما لزمه بقتل الخطأ. فإن قال قائل: ما الذي يَغرم الرجلُ من جنايته، وما لَزِمَه غيرُ الخطأ؟ [ص: 550] قلت: قال الله: {وآتوا النساءَ صَدُقَاتهنَّ نِحْلةً} [النساء 4] وقال: {وأقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ} [البقرة 43] وقال: {فإن أُحْصِرتم فما استيسرَ من الهَدْي} [البقرة 196] وقال: {والذين يُظاهرون من نسائهم، ثم يعودون لما قالوا، فتحريرُ رَقَبَةٍ من قبل أن يَتَمَاسّا} [المجادلة 3] وقال: {ومَن قَتَلَه منكم مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثلُ ما قتل من النَّعَم يحكُمُ به ذَوَا عدْلٍ منكم هَدْياً بالغَ الكعبةِ، أو كفَّارةٌ طعامُ مساكين، أو عَدْلُ ذلك صياماً ليذوقَ وبالَ أمرِه، عفا الله عما سَلَفَ، ومَن عاد فينتقمُ الله منه، والله عزيز ذو انتقام} [المائدة 95] [ص: 551] وقال: {فكفَّارتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ من أوسط ما تُطعمون أهليكم، أو كِسوتهم أو تحريرُ رقبة، فمن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيام} [المائدة 89] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 وقضى رسول الله على " أن على أهل الأموال حِفظَهَا بالنهار، وما أفسَدَت المواشي بالليل، فهو ضامن على أهلها" (1) . فدل الكتاب والسنة وما لم يختلف المسلمون فيه: أن هذا كله في مال الرجل، بحقٍّ وجب عليه لله، أو أوجبه الله عليه للآدميين، بوجوهٍ لَزِمَته، وأنه لا يُكَلف أحدٌ غُرْمَه عنه. ولا يجوز أن يجني رجل، ويَغرم غير الجاني، إلا في الموضع الذي سَنَّه رسول الله فيه خاصة من قتل الخطأ وجنايته على الآدميين خطأً. [ص: 552] والقياس فيما جنى على بهيمة أو متاع أو غيره - على ما وصفت -: أن ذلك في ماله، لأن الأكثر المعروفَ أن ما جنى في ماله، فلا يقاس على الأقل، ويُترك الأكثر المعقول، ويُخَص الرجل الحر يَقتل الحرَّ الخطأ، فتعقله العاقلة، وما كان من جناية خطأً على نفس وجُرح: خبراً وقياساً.   (1) رواه مالك في الموطأ 2/220 وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن حبان وصححه الحاكم والبيهقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 وقضى رسول الله في الجنين بغُرَّة عبد أو أمة، وقَوَّم أهلُ العلم الغرة خمساً من الإبل. قال: فلما لم يُحكَا أن رسول الله سأل عن الجنين: أَذَكَر هو أم أنثى؟ إذ قضى فيه سَوَّى بين الذكر والأنثى [ص: 553] إذا سقط ميتا، ولو سقط حياً فمات جَعَلوا في الرجل مائة من الإبل، وفي المرأة خمسين. فلم يجز أن يقاس على الجنين شيء من قِبَل أن الجنايات على من عُرِفَت جنايته مُوَقَّتاتٌ معروفات. مفروقٌ فيها بين الذكر والأنثى. وأن لا يختلف الناس في أن لو سقط الجنين حياً، ثم مات كانت فيه دية كاملة، إن كان ذكراً فمائةٌ من الإبل، وإن كانت أنثى فخمسون من الإبل، وأن المسلمين - فيما علمت - لا يختلفون أن رجلاً لو قَطَعَ الموتى لم يكن في واحد منهم دِيَة، ولا أرْش، والجنينُ لا يعدو أن يكون حياً أو ميتاً. فلما حكم فيه رسول الله بحكمٍ فارق حكم النفوس، الأحياءِ والأمواتِ، وكان مغيَّبَ الأمر: كان الحكمُ بما حَكَمَ به على الناس اتباعاً لأمر رسول الله. [ص: 554] قال فهل تعرف له وجهاً؟ قلت: وجهاً واحداً، والله أعلم. قال: وما هو؟ قلت: يقال: إذا لم تُعرف له حياة، وكان لا يُصلى عليه، ولا يرث: فالحكمُ فيه أنها جناية على أمه، وقَّت فيها رسول الله شيئاً قوَّمه المسلمون، كما وقَّت في الموضِحة. قال: فهذا وجه. قلت: وجهٌ لا يُبين الحديثُ أنه حَكَمَ به له، فلا يصح أن يقال: إنه حكم به له، ومن قال: إنه حكم به لهذا المعنى قال: هو للمرأة دون الرجل، هو للأم دون أبيه، لأنه عليها جُنِي، ولا حكم للجنين يكون به موروثاً، ولا يُورَث مَن لا يَرِث. قال: فهذا قول صحيح؟ [ص: 555] قلت: الله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 قال: فإن لم يكن هذا وجهَه، فما يقال لهذا الحكم؟ قلنا: يقال له: سنةٌ تُعُبِّد العبادُ بأن يحكموا بها. وما يقال لغيره مما يدل الخبر على المعنى الذي له حُكم به؟ قيل: حُكْمُ سنة تُعُبِّدوا بها لأمر عرفوه بمعنى الذي تُعُبِّدوا له في السنة، فقاسوا عليه ما كان في مثل معناه. قال: فاذكر منه وجهاً غيرَ هذا إن حضرك تجمع فيه ما يقاس عليه، ولا يقاس؟ [ص: 556] فقلت له: قضى رسول الله في المُصَرَّاة (1) من الإبل والغنم إذا حَلَبَها مشتريها: " إن أحبَّ أمسكها، وإن أحب ردَّها وصاعاً من تمر" (2) ، وقضى " أن الخراج بالضمان" فكان معقولاً في " الخراج بالضمان " أني إذا ابتعت عبداً فأخذت له خَرَاجاً ثم ظهرْتُ منه على عيب يكونُ لي ردُّه: فما أخذت من الخراج والعبدُ في مِلْكي ففيه خصلتان: إحداهما: أنه لم يكن في ملك البائع، ولم يكن له حصة من الثمن، والأخرى: [ص: 557] أنها في ملكي، وفي الوقت الذي خرج فيه العبد من ضمان بائعه إلى ضماني، فكان العبد لو مات مات من مالي وفي ملكي، ولو شئتُ حبسته بعيبه، فكذلك الخراج. فقلنا بالقياس على حديث "الخراج بالضمان " فقلنا: كل ما خرج من ثمرِ حائطٍ اشتريته، أو وَلَدِ ماشيةٍ أو جاريةٍ اشتريتها، فهو مثل الخراج، لأنه حدث في مِلك مشتريه، لا في ملك بائعه. وقلنا في المُصَرَّاة اتباعاً لأمر رسول الله، ولم نقس عليه، وذلك أن الصفقة وقعت على شاة بعينها، فيها لبنٌ محبوس مغيَّب المعنى والقيمة، ونحن نحيط أن لبن الإبل والغنم يختلف، وألبانُ كل واحد منهما يختلف، فلما قضى فيه رسول الله بشيء مؤقَّت، وهو صاعٌ من تمر: قلنا به اتباعاً لأمر رسول الله. [ص: 558] قال: فلو اشترى رجل شاة مُصَرَّاة، فَحَلَبها ثم رَضِيَهَا بعد العلم بعيب التصْرِيَة، فأمسكها شهراً حَلَبَها، ثم ظهر منها على عيب دلَّسه له البائعُ غيرِ التصرية: كان له ردُّها، وكان له اللبنُ بغير شيء، بمنزلة الخراج، لأنه لم يقع عليه صفقةُ البيع، وإنما هو حادث في مِلك المشتري، وكان عليه أن يرد فيما أخذ من لبن التَّصْرية صاعاً من تمر، كما قضى به رسول الله. فنكونُ قد قلنا في لبن التصرية خبراً، وفي اللبن بعد التصرية قياساً على " الخراج بالضمان" ولبنُ التصرية مفارقٌ لِلَّبن الحادثِ بعده، لأنه وقعت عليه صفقةُ البيع، واللبنُ بعده حادث في ملك المشتري، لم تقع عليه صفقة البيع.   (1) هي الشاة التي ُيحبس اللبن في ضرعها. (2) رواه مالك في الموطأ 2/170 والشيخان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 فإن قال قائل: ويكون أمرٌ واحدٌ يؤخذ من وجهين؟ قيل له: نعم، إذا جمَعَ أمرين مختلفين، أو أموراً مختلفة. [ص: 559] فإن قال: فَمَثِّل من ذلك شيئاً غيرَ هذا؟ قلت: المرأة تبلغها وفاة زوجها، فتعتد، ثم تتزوج، ويدخل بها الزوج، لها الصَّدَاق، وعليها العِدَّة والولد لاحق، ولا حَدَّ على واحد منهما، ويُفَرَّق بينهما، ولا يتوارثان، وتكون الفُرقة فَسخاً بلا طَلاق. يُحكم له إذا كان ظاهره حلالاً حكمَ الجلال، في ثبوت الصداق والعدة ولحُوق الولد ودَرءِ الحد، وحُكِم عليه إذ كان حراماً في الباطن حُكم الحرام في أن لا يُقَرَّا عليه، ولا تحل له إصابتُها بذلك النكاح إذا علما به، ولا يتوارثان، ولا يكون الفسخُ طلاقاً، لأنها ليست بزوجة. ولهذا أشباهٌ، مثلُ المرأة تَنكح في عدتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 [باب الاختلاف] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 قال: فإني أجد أهل العم قديماً وحديثاً مختلفين في بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك؟ قال: فقلت له: الاختلاف من وجهين: أحدهما: محرم، ولا أقول ذلك في الآخر. قال: فما الاختلاف المحرم؟ قلت: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً: لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه. وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويُدرك قياساً، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره: لم أقل أنه يُضَيَّق عليه ضِيقَ الخلاق في المنصوص. [ص: 561] قال: فهل في هذا حجة تُبَين فرقك بين الاختلافين؟ قلت: قال الله في ذم التفرق: {وما تَفَرَّق الذين أوتوا الكتابَ إلا من بعد ما جاءتهم البينةُ} [البينة 4] وقال جل ثناؤه: {ولا تكونوا كالذين تَفَرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران 105] فَذَمَّ الاختلاف فيما جاءتهم به البينات. فأما ما كُلِّفوا فيه الاجتهاد، فقد مَثَّلته لك بالقبلة والشهادة وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 قال: فَمَثِّل لي بعض ما افترق عليه من رُوي قوله من السلف، مما لله فيه نصُّ حكم يحتمل التأويل، فهل يوجد على الصواب فيه دلالة؟ [ص: 562] قلت: قَلَّ ما اختلفوا فيه إلا وجدنا فيه عندنا دِلالة من كتاب الله أو سنة رسوله، أو قياساً عليهما، أو على واحد منهما. قال: فاذكر منه شيئاً؟ فقلت له: قال الله: {والمطلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأنفسِهِنَّ ثلاثةَ قُرُوْء} [البقرة 228] فقالت عائشة: "الأقراء الأطهار"، وقال بمثل معنى قولها زيدُ بن ثابت، وابن عمر، وغيرهما. وقال نفر من أصحاب النبي: " الأقراء الحيض"، فلا يُحِلُّوا المطلقةَ حتى تغتسل من الحيضة الثالثة. [ص: 563] قال: فإلى أي شيء ترى ذهب هؤلى وهؤلى؟ قلت: تجُمع الأقراء أنها أوقات، والأوقاتُ في هذا علامات تمرُّ على المطلقات، تحُبس بها عن النكاح حتى تستكملها. وذهب من قال" الأقراء الحيض" - فيما نُرى والله أعلم - إلى أن قال: إن المواقيت أقلُّ الأسماء، لأنها أوقات، والأوقات أقل مما بينها، كما حُدُوُد الشيء أقلُّ مما بينها، والحيضُ [ص: 564] أقل من الطُّهر، فهو في اللغة أَولى للعِدَّة أن يكون وقتاً، كما يكونُ الهلال وقتاً فاصلاً بين الشهرين. ولعله ذهب إلى أن النبي أمر في سَبيْ أوطاسٍ أن يُسْتَبْرَينَ قبل أن يُوطَينَ بحيضة، فذهب إلى أن العِدة استبراء، وأن الاستبراء حيضٌ، وأنه فرَقَ بين استبراء الأمة والحرة، وأن الحرة تُستبرأ بثلاث حِيَض كواملَ، تخرج منها إلى الطُّهر كما تُستبرأ الأمة بحيضة كاملة، تخرج منها إلى الطُّهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 فقال: هذا مذهب، فكيف اخترتَ غيره، والآية محتملة للمعنيين عندك؟ [ص: 565] قال: فقلت له: إن الوقت برؤية الأهِلَّة إنما هو علامة جعلها الله للشهور، والهلالُ غير الليل والنهار، وإنما هو جِماع لثلاثين، وتسعٍ وعشرين، كما يكون الهلال الثلاثون والعشرون جماعاً يُستأنف بعده العدد، وليس له معنى هنا، وأن القُرْء وإن كان وقتاً فهو من عدد الليل والنهار، والحيضُ والطهر [ص: 566] في الليل والنهار من العدة، وكذلك شُبِّه الوقت بالحدود، وقد تكون داخلة فيما حُدَّت به، وخارجةً منه غيرَ بائن منها، فهو وقت معنى. قال: وما المعنى؟ قلت: الحيض هو أن يُرخِيَ الرَّحمُ الدمَ حتى يظهر، والطُّهر أن يَقْري الرَّحِمُ الدمَ فلا يظهرُ، ويكون الطهر والقَرْي [ص: 567] الحبس لا الإرسال، فالطهر - إذ كان يكون وقتاً - أولى في اللسان بمعنى القُرء، لأنه حبْس الدم. وأمر رسول الله عمرَ حين طلَّق عبدُ الله بن عمر امرأته حائضاً أن يأمره برَجعتها وحَبسِها حتى تطهر، ثم يطلِّقُها طاهراً من غير جماع، وقال رسول الله: " فتلك العِدَّةُ التي أمر الله أن يُطلَّق لها النساءُ" (1) . يعني قول الله - والله أعلم - إذا طلَّقتُمُ النساءَ فطلِّقوهنَّ لِعِدَِّتهِنَّ} [الطلاق 1] ، فأخبر رسول الله أن العدةَ الطهرُ دون الحيض. وقال الله: {ثلاثة قروء} وكان على المُطَلَّقة أن تأتي بثلاثة قروء، فكان الثالثُ لو أبطأ عن وقته زماناً لم َتحِلَّ حتى يكون، أو تُويَسَ من المحيض، أو ُيخافَ ذلك عليها، فتَعْتَدَّ بالشهور، لم يكن للغُسل معنى، لأن الغسل رابعٌ غيرُ ثلاثة، ويلزم مَن قال: " الغسل عليها " أن يقول: لو أقامت سنةً وأكثر لا تغتسل لم تحِلَّ!! [ص: 569] فكان قول من قال" الأقراء الأطهار " أشبهَ بمعنى كتاب الله، واللسانُ واضح على هذه المعاني، والله أعلم. [ص: 571] فأما أمر النبي أن يُستبرأ السَّبْي بحيضة فبالظاهر، لأن الطهر إذا كان متقدِّماً للحيضة ثم حاضت الأمة حيضة كاملة صحيحة بَرِئَت من الحَبَلِ في الطهر، وقد ترى الدمَ فلا يكون صحيحاً، إنما يصح حيضةً بأن تُكمل الحيضة فبأي شيء من الطهر كان قبل حيضة كاملة فهو براءة من الحَبَل في الظاهر.   (1) رواه مالك 2/96 والشيخان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 والمعتدة تَعْتدُّ بمعنيين: استبراءٌٍ، ومعنى غيرُِ [ص: 572] استبراءٍ مع استبراء، فقد جاءت بحيضتين وطُهرين وطهرٍ ثالث، فلو أريد بها الاستبراء كانت قد جاءت بالاستبراء مرتين، ولكنه أريد بها مع الاستبراء التَعَبُّد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 قال: أفتوجدوني في غير هذا ما اختلفوا فيه مثل هذا؟ قلت: نعم، وربما وجدناه أوضحَ، وقد بيَّنا بعض هذا فيما اختلفت الرواية فيه من السنة، وفيه دلالة لك على ما سألتَ عنه، وما كان في معناه إن شاء الله. وقال الله: {والمطلقاتُ يَتَرَبَّصْن بأنفسهن ثلاثةَ قروء} [البقرة 288] وقال: {واللائي يَئِسْن من المحيض من نسائكم إن ارتَبتُم، فعِدَّتهُنَّ ثلاثةُ أشهرٍ، واللائي لم يحِضْنَ، وأولاتُ الأحمالِ أجلُهُنَّ أن يضعْنَ حملَهن} [الطلاق 4] [ص: 573] وقال: {والذين يُتَوَفَّون منكم، ويَذَرون أزواجاً يَتَرَبَّصن بأنفسهن أربعةَ أشهر وعَشراً} [البقرة 234] فقال بعض أصحاب رسول الله: ذكر الله المطلقاتِ أن عدة الحوامل أن يضعْن حملَهن، وذكر في المتوفَّى عنها أربعةَ أشهر وعشراً، فعلى الحامل المتوفى عنها أن تعتدَّ أربعة أشهر وعشراً، وأن تضع حمْلَها، حتى تأتي بالعدتين معاً إذا لم يكن وضعُ الحمل انقضاءَ العدة نصاً إلا في الطلاق. كأنه يذهب إلى أن وضع الحمل براءةٌ، وأن الأربعة الأشهر وعشراً تَعَبُّدٌ، وأن المتوفى عنها تكون غيرَ مدخول بها، فتأتي بأربعة أشهر، وأنه وجب عليها شيءٌ من وجهين، [ص: 574] فلا تسقط أحدهما، كما لو وجبَ عليها حقَّان لرجلين لم يُسقط أحدُهما حقَّ الآخر، وكما إذا نَكَحَت في عدتها، وأُصيبت اعتدَّت من الأول، واعتدَّت من الآخِرِ. قال: وقال غيره من أصحاب رسول الله: إذا وضعَتْ ذا بطنِها، فقد حَلَّت، ولو كان زوجها على السرير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 قال "الشافعي": فكانت الآية محتملةَ المعنيين معاً، وكان أشبهَهَما بالمعقول الظاهرِ أن يكون الحملُ انقضاءَ العدة. قال: فدلت سنة رسول الله على أن وضعَ الحمل آخرُ العدة في الموت، مِثلُ معناه الطلاق. ُ أخبرنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن [ص: 575] عبد الله عن أبيه "أن سُبَيْعَةَ الأسلَمِية وضعت بعد وفاة زوجها بليالٍ، فمَرَّ بها أبو السَّنابل بن بَعْكَكٍ، فقال: قد تَصَنَّعتِ للأزواج! إنها أربعةَ أشهر وعشراً، فذكرت ذلك سُبَيعة لرسول الله، فقال: كذب أبو السنابل، أَو ليس كما قال أبو السنابل، قد حَلَلتِ فتزوجي". (1)   (1) رواه الشيخان وأحمد وظاهره أنه مرسل لكن سياقه عند من ذكرت يرد ذلك فعند البخاري " أن ابن شهاب كتب إليه أن عبيد الله بن عبد الله أخبره عن أبيه أنه كتب إلى ابن الأرقم أن يسأل سبيعة الأسلمية ... " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 فقال: أما ما دلت عليه السنة فلا حجة في أحد خالف قولُه السنةَ، ولكن اذكُرْ من خلافهم ما ليس فيه نصُّ سنة مما دل عليه القُرَآن نصاً واستنباطاً، أو دلَّ عليه القياس؟ فقلت له: قال الله: {للذين يُؤْلون من نسائهم [ص: 577] تَرَبُّصُ أربعة أشهر، فإن فاؤوا، فإن الله غفور رحيم، وإن عَزَمُوا الطلاقَ، فإن الله سميع عليم} [البقرة 226، 227] فقال الأكثر ممن رُوي عنه من أصحاب النبي عندنا: إذا مضت أربعة أشهر وُقف المُولي، فإما أن يفيء، وإما أن يُطَلِّق. وروي عن غيرهم من أصحاب النبي: عزيمةُ الطلاق انقضاءُ أربعة أشهر. [ص: 578] ولم ُيحفظ عن رسول الله في هذا - بأبي هو وأمي - شيئاً (1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 قال: فأي القولين ذهبتَ؟ قلت: ذهبت إلى أن المُولي لا يلزمه طلاقٌ، وأن امرأته إذا طلبت حقها منه لم أَعرِض له حتى تمضي أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر قلت له: فِئ أو طلِّقْ، والفيئةُ الجماعُ. قال: فكيف اخترتَه على القول الذي يخالفه؟ قلت: رأيته أشبه بمعنى كتاب الله وبالمعقول. قال: وما دل عليه من كتاب الله؟ [ص: 579] قلت: لما قال الله: {للذين يُؤلون من نسائهم تَرَبُّصُ أربعةَ اشهر} : كان الظاهر في الآية أن من أنظَرَه الله أربعة أشهر في شيء، لم يكن له عليه سبيل حتى تمضي أربعةُ أشهر. قال: فقد يحتمل أن يكون الله عز وجل جعل له أربعة أشهر يفيءُ فيها، كما تقول: قد أجَّلتك في بناء هذه الدار أربعة اشهر تفرُغُ فيها منها؟ قال: فقلت له: هذا لا يتوهمه مَن خوطب به حتى يُشترط في سياق الكلام، ولو قال قد أجلتك فيها أربعة أشهر: كان إنما أجله أربعة أشهر لا يجد عليه سبيلاً حتى تنقضي ولم يفرُغ منها، فلا يُنسب إليه أن لم يفرغ من الدار، وأنه أخلف في الفراغ منها ما بقي من الأربعة الأشهر شيء، فإذا لم يبقَ منها شيء لَزِمَه اسم الخُلْف، وقد يكون في بناء الدار دلالةٌ على أن يقارِبَ [ص: 580] الأربعةَ، وقد بقي منها ما يحيط العلم أنه لا يبنيه فيما بقي من الأربعة. وليس في الفيئة دلالةٌ على أن لا يفيء الأربعة إلا مُضِيُّها لأن الجماع يكون في طَرفة عين، فلو كان على ما وصفتَ تَزَايَلَ حاله حتى تمضي أربعة أشهر، ثم تَزَايل حاله الأولى، فإذا زايلها صار إلى أن الله عليه حقاً، فإما أن يفيء وإما أن يطلِّق. فلو لم يكن في آخر الآية ما يدل على معناها غيرُ ما ذهبتَ إليه، كان قوله أَولاهما بها، لما وصفنا، لأنه ظاهرها.   (1) الشافعي يجعل الجار والمجرور نائباً للفاعل مع وجود المفعول وهي لغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 والقُرَآن على ظاهره، حتى تأتي دلالة منه أو سنة أو إجماع بأنه على باطن دون ظاهر. [ص: 581] قال: فما في سياق الآية ما يدل على ما وصفتَ؟ قلت: لما ذكر الله عز وجل أن للمُولي أربعةَ أشهر، ثم قال: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} ، فذكر الحُكمين معاً بلا فصل بينهما: أنهما إنما يقعان بعد الأربعة الأشهر، لأنه إنما جَعَل عليه الفيئة أو الطلاق، وجعل له الخيار فيهما في وقت واحد، فلا يتقدم واحد منهما صاحبه، وقد ذُكرا في وقت واحد، كما يقال له في الرهن افْدِهِ أو نبيعَه عليك بلا فصل، وفي كل ما خُيرِّ فيه: افعل كذا أو كذا، بلا فصل. ولا يجوز أن يكونا ذُكرا بلا فصل، فيقالَ: الفيئة فيما بين أن يُولي أربعة أشهر وعزيمةُ الطلاق انقضاءُ الأربعة الأشهر، فيكونان حكمين ذكرا معاً، يُفسخ في أحدهما، ويُضيَّق في الآخر. [ص: 582] قال: فأنت تقول: إن فاءَ قبل الأربعة الأشهر فهي فيئة؟ قلت: نعم، كما أقول: إن قضيتَ حقاً عليك إلى أجل قبل محله، فقد برئتَ منه، وأنت محسن متسرِّع بتقديمه قبل يحلَُّ عليك. فقلت له: أرأيت من الإثم كان مُزمَعَاً على الفيئة في كل يوم إلا أنه لم يجامع حتى تنقضي أربعة أشهر؟ قال: فلا يكون الإزماع على الفيئة شيءً حتى يفيء، والفيئة الجماعُ إذا كان قادراً عليه. قلت: ولو جامع لا ينوي فيئة خرج من طلاق الإيلَى، لأن المعنى في الجماع؟ [ص: 583] قال: نعم. قلت: وكذلك لو كان عازماً على ان لا يفيء، يحلفُ في كل يوم ألا يفيء، ثم جامع قبل مُضِي الأربعة الأشهر بطرْفة عين: خرج من طلاق الإيلَى؟ وإن كان جماعه لغير الفيئة خرج به من طلاق الإيلى؟ قال: نعم. قلت: ولا يصنعُ عزمُهُ على ألا يفيء؟ ولا يمنعه جماعه بلذَّة لغير الفيئة، إذا جاء بالجماع: مِن أن يخرج به من طلاق الإيلى عندنا وعندك؟ قال: هذا كما قلتَ، وخروجُهُ بالجماع على أي معنى كان الجماع. [ص: 584] قلت: فكيف يكون عازماً على أن لا يفيء في كل يوم، فإذا مضت أربعة أشهر لزمه الطلاق، وهو لم يعزم عليه، ولم يتكلم به؟ أترى هذا قولاً يصح في العقول لأحد؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 قال: فما يُفسده من قبل العقول؟ قلت: أرأيت إذا قال الرجل لامرأته: والله لا أقربُك أبداً: أهو كقوله: أنت طالق إلى أربعة أشهر؟ قال: إن قلتُ نعم؟ قلتُ: فإن جامع قبل الأربعة؟ قال: فلا، ليس مثلَ قوله: أنتِ طالق إلى أربعة أشهر. قال: فتكلُّمُ المُولي بالإيلى ليس هو طلاقً، [ص: 585] إنما هي يمين، ثم جاءت عليها مُدة جعلتها طلاقاً، أيجوز لأحد يعقل من حيث يقولُ أن يقول مثل هذا إلا بخبر لازم؟! قال: فهو يدخل عليك مثلُ هذا. قلت: وأين؟ قال: أنت تقول إذا مضت أربعة أشهر وُقف، فإن فاء وإلا جُبر على أن يُطلِّق. قلت: ليس من قِبَل أن الإيلى طلاق، ولكنها يمين جعل الله لها وقتاً مَنَعَ بها الزوجَ من الضِّرار، وحكم عليه إذا كانت أن جَعَل عليه إما أن يفيء، وإما أن يُطَلق، وهذا حكم حادث بمُضِي أربعة الأشهر، غيرُ الإيلى، ولكنه مؤتَنَف ُيجبر صاحبه على أن يأتي بأيهما شاء: فيئةٌٍ أو طلاقٌٍ، فإن امتنع [ص: 586] منهما أُخذ منه الذي يُقدر على أخذه منه، وذلك أن يُطلَّق عليه، لأنه لا يحل أن ُيجامَعَ عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 واختلفوا في المواريث، فقال زيد بن ثابت ومن ذهب مذهبه: يعطى كل وارث ما ُسمِّي له، فإن فَضَل فضل ولا عَصَبَة للميت ولا ولاءَ: كان ما بقي لجماعة المسلمين. وعن غيره منهم: أنه كان يردُّ فضل المواريث على ذوي الأرحام، فلو أن رجلاً ترك أخته، ورثَتْه النصفَ ورُدَّ عليها النصفُ. [ص: 587] فقال بعض الناس: لمَ لم تردَّ فضل المواريث؟ قلت: استدلالاً بكتاب الله. قال: وأين يدل كتاب الله على ما قلت؟ قلت: قال الله: {إنِ امرؤٌ هلك ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصفُ ما ترك، وهو يرِثها إن لم يكن لها ولدٌ} [النساء 176] وقال: {وإن كانوا أخوةً رجالاً ونساءً، فللذَّكر مثلُ حظِّ الأنثيين} [النساء 176] فذكر الأخت منفردةً، فانتهى بها جل ثناؤه إلى النصف، والأخَ منفرداً، فانتهى به إلى الكلِّ وذكر الأخوة والأخوات، فجعل للأخت نصفَ ما للأخ. وكان حكمه - جل ثناؤه - في الأخت منفردةً ومع الأخ سواءً، بأنها لا تساوي الأخَ، وأنها تأخذ النصف مما يكون له من الميراث. فلو قلتَ في رجل مات، وترك أخته: لها النصفُ [ص: 588] بالميراث وأردُدُ عليها النصف: كنتَ قد أعطيتها الكل منفردة، وإنما جعل الله لها النصف في الانفراد والاجتماع. فقال: فإني لست أعطيها النصف الباقي ميراثاً، إنما أعطيها إياه رداً. قلت: وما معنى "رداً" أشيء استحسنته، وكان إليك أن تضعه حيث شئتَ؟ فإن شئتَ أن تعطيه جيرانه أو بعيدَ النسب منه، أيكون ذلك لك؟! قال: ليس ذلك للحاكم، ولكن جعلتُهُ رداً عليها بالرَّحِم. ميراثاً؟ قال: فإن قلتُه؟ قلت: إذن تكون ورَّثتها غيرَ ما ورَّثها الله. [ص: 589] قال: فأقول: لك ذلك، لقول الله: {وأُولوا الأرحام بعضُهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال 75] فقلت له: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} نزلت بأن الناس توارثوا بالحِلف، ثم توارثوا بالإسلام والهجرة، فكان المهاجر يرث المهاجر، ولا يرثه من ورثته مَن لم يكن مهاجراً، وهو أقرب إليه ممن وَرِثه، فنزلت {وأولوا الأرحام} الآية على ما فُرِضَ لهم. قال: فاذكر الدليل على ذلك؟ قلت: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى [ص: 590] ببعض في كتاب الله} : على ما فُرِضَ لهم، ألا ترى أن من ذوي الأرحام من يرث، ومنهم من لا يرث، وأن الزوج يكون أكثرَ ميراثا من أكثر ذوي الأرحام ميراثاً؟ وأنك لو كنت إنما تُوَرِّث بالرحم كانت رحم البنت من الأب كرحم الابن؟ وكان ذوو الأرحام يرثون معاً، ويكونون أحقَّ من الزوج الذي لا رحم له؟! ولو كانت الآية كما وصفتَ كنتَ قد خالفتها فيما ذكرنا، في أن يترك أخته ومَوَاليَه فتُعطيَ أخته النصف، ومواليه النصف، وليسوا بذَوِي أرحام، ولا مفروضًٍ لهم في كتاب الله فرضٌ منصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 واختلفوا في الجد، فقال زيد بن ثابت، وروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود: يُوَرَّث معه الأخوة. وقال أبو بكر الصديق وابن عباس، وروي عن عائشة وابن الزبير وعبد الله بن عُتبة: أنهم جعلوه أباً، وأسقطوا الإخوة معه. فقال: فكيف صرتم إلى أن ثبَّتم ميراث الإخوة مع الجد؟ أَبِدِلالةٍ من كتاب الله أو سنةٍ؟ قلت: أما شيء مبيَّنٌ في كتاب الله أو سنةٍ فلا أعلمه. قال: فالأخبارُ متكافئة، والدلائلُ بالقياس مع من جعله أباً وحَجَبَ به الأخوةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 قلت: وأين الدلائل؟ قال: وجدت اسم الأُبُوَّة تلزمه، ووجدتكم مجتمعين على أن تحجُبُوا به بني الأم، ووجدتكم لا تنقُصونه من السدس، وذلك كله حكمُ الأب. فقلت له: ليس باسم الأبوة فقط نُوَرِّثه. قال: وكيف ذلك؟ قلت: أجد اسم الأبوة يلزمه، ولا يرث. قال: وأين؟ قلت: قد يكون دونه أبٌ، واسم الأبوة تلزمه، وتلزم آدمَ، وإذا كان دون الجد أبٌ لم يرث، ويكون مملوكاً وكافراً وقاتلاً فلا يرث، واسم الأبوة في هذا كله لازم له، فلو كان باسم الأبوة فقط يرث وَرِث في هذه الحالات. [ص: 593] وأما حَجْبُنا به بني الأم، فإنما حجبنا به خبراً، لا باسم الأبوة، وذلك أنا نحجب بني الأم ببنت ابن ابنٍ مُتَسَفِّلةٍ. وأما أنا لم نَنْقصه من السدس، فلسنا نَنقص الجدة من السدس. وإنما فعلنا هذا كلَّه اتباعاً، لا أن حكم الجد إذ وافق حكم الأب في معنى كان مثلَه في كلِّ معنىً، ولو كان حكم الجد إذا وافق حكم الأب في بعض المعاني كان مثلَه في كل المعاني: كانت بنتُ الابن المتَسَفِّلة موافقةً له، فإنا نحجب بها بني [ص: 594] الأم، وحكمُ الجدة موافق له، فإنا لا ننقصها من السدس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 قال: فما حجتكم في ترك قولنا نحجُبُ بالجد الإخوة؟ قلت: بُعدُ قولكم من القياس. قال: فما كنا نراه إلا بالقياس نفسه؟ قلت: أرأيت الجدَّ والأخَ؟ أيُدلي واحد منهما بقرابة نفسه، أم بقرابة غيره؟ قال: وما تعني؟ قلت: أليس إنما يقول الجد: أنا أبو أبي الميت؟! ويقول الأخ: أنا ابن أبي الميت؟! قال: بلى. قلت: وكلاهما يُدلي بقرابة الأب بقدْر موقعه منها؟ قال: نعم. [ص: 595] قلت: فاجعلِ الأب الميت، وتَرَكَ ابنه وأباه، كيف ميراثهما منه؟ قال: لابنه خمسةُ أسداس، ولأبيه السدسُ قلت: فإذا كان الابن أولى بكثرة الميراث من الأب، وكان الأخُ من الأب الذي يُدلي الأخُ بقرابته، والجدُّ أبو الأب من الأب الذي يُدلي بقرابته كما وصفتَ: كيف حجبتَ الأخ بالجد؟! ولو كان أحدهما يكون محجوباً بالآخر انْبَغَى أن ُيحجب الجد بالأخ، لأنه أولاهما بكثرة ميراث الذي يُدليان معاً بقرابته، أو ُتجعلَ للأخ خمسةَ أسداس، وللجد سدسًٌ. قال: فما منعك من هذا القول؟ قلت: كلُّ المختلفين مجتمعون على أن الجد مع [ص: 596] الأخ مثلُه أو أكثر حظاً منه، فلم يكن لي عندي خلافُهم، ولا الذهابُ إلى القياس، والقياسُ مخرِج من جميع أقاويلهم. وذهبتُ إلى اثبات الإخوة مع الجد، أَولى الأمرين، لما وصفتُ من الدلائل التي أوجدنيها القياسُ مع أن ما ذهبتُ إليه قولُ الأكثر من أهل الفقه بالبلدان قديماً وحديثاً. مع أن ميراث الإخوة ثابت في الكتاب، ولا ميراث للجد في الكتاب، وميراث الإخوة أَثبتُ في السنة من ميراث الجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 [أقاويل الصحابة] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 فقال: قد سمعت قولك في الإجماع والقياس، بعد قولك في حكم كتاب الله وسنة رسوله، أرأيت أقاويل أصحاب رسول الله إذا تفرقوا فيها؟ [ص: 597] فقلت: نصير منها إلى ما وافق الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو كان أصحَّ في القياس. قال: أفرأيت إذا قال الواحد منهم القولَ لا ُيحفظ عن غيره منهم فيه له موافقةً، ولا خلافاً أتجد لك حجة باتباعه في كتاب أو سنة أو أمر أحمع الناس عليه، فيكونَ من الأسباب التي قلتَ بها خبراً؟ قلت له: ما وجدنا في هذا كتاباً ولا سنةً ثابتة، ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحدهم مرة، ويتركونه أخرى، ويتفرقوا في بعض ما أخذوا به منهم. قال: فإلى أي شيء صرتَ من هذا؟ [ص: 598] قلت: إلى اتباع قول واحد، إذا لم أجد كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا شيئاً في معناه ُيحكم له بحكمه، أو وُجد معه قياس. وقلَّ ما يُوجَد من قول الواحد منهم، لا يخالفه غيره من هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 [منزلة الإجماع والقياس] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 قال: فقد حكمتَ بالكتاب والسنة، فكيف حكمتَ بالإجماع، ثم حكمتَ بالقياس، فأقمتها مع كتابٍ أو سنة؟ فقلت: إني وإن حكمتُ بها كما احكم بالكتاب والسنة: فأصلُ ما أحكم به منها مفترقٌ. قال: أفيجوز أن تكون أصولٌ مفرَّقة الأسباب [ص: 599] ُيحكم فيها حكماً واحداً؟ قلت: نعم، ُيحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها، الذي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن. وُيحكم بالسنة قد ُرويت من طريق الانفراد، لا يجتمع الناس عليها، فنقول حكمنا بالحق في الظاهر، لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث. ونحكم بالإجماع ثم القياسِ، وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلةُ ضرورة، لأنه لا يحل القياسُ والخبرُ موجودٌ، كما [ص: 600] يكون التيمم طهارةً في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارةً إذا وُجد الماء، إنما يكون طهارةً في الإعواز. وكذلك يكون ما بعد السنة حجةً إذا أَعوَزَ من السنة. وقد وصفتُ الحجة في القياس، وغيره قبل هذا. قال: أفتجد شيئا شبهه. قلت: نعم، أقضي على الرجل بعلمي أنَّ ما ادُّعي عليه كما ادُّعي، أو إقرارِه، فإن لم أعلم ولم يُقِرَّ قضيتُ عليه بشاهدين، وقد يغلِطان ويهِمَان، وعلمي وإقرارُه أقوى عليه من شاهدين، وأقضي عليه بشاهد ويمين، وهو أضعف من شاهدين، ثم أقضي عليه بنكوله عن اليمين ويمينِ صاحبه، وهو أضعف من شاهد ويمين، لأنه قد ينكُل خوفَ الشهرة واستصغارَ ما يحلف عليه، ويكون الحالف لنفسه غيرَ ثقة وحريصاً فاجراً. آخر كتاب الرسالة والحمد لله وصلى الله على محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598