الكتاب: مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها المؤلف: على أحمد مدكور الناشر: دار الفكر العربي الطبعة: 1421هـ - 2001م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها على أحمد مدكور الكتاب: مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها المؤلف: على أحمد مدكور الناشر: دار الفكر العربي الطبعة: 1421هـ - 2001م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمات تقديم ... تقديم: يعرض المؤلف في الفصل الأول من الكتاب المفاهيم الأساسية لمناهج التربية، مميزا بين المنهج والبرنامج، ومبرزا العلاقة بين مفهوم الدين ومناهج التربية وبين الفلسفة ومناهج التربية، وموضحا مفهوم النظريات التربوية. ويتناول في الفصل الثاني أسس مناهج التربية، ويناقش طبيعة المعرفة ومصادرها، ويبين أن التطبيق هو غاية العلم والمعرفة، وأن للعلم والمعرفة دورا في قيادة الإنسانية. ويختص الفصل الثالث بالطبيعة الإنسانية، ويوضح ضرورة دراسة الفطرة الإنسانية، ويشرح مكونات الإنسان، ويقارن بين علم النفس الإسلامي وعلم النفس الغربي، ويتناول النمو بالتعلم، وواجبات المنهج نحو الطبيعة الإنسانية، كما يوضح طبيعة التعلم. ويفرد المؤلف الرابع لطبيعة الحياة والمجتمع، فيوضح مفهوم الحياة وطبيعة المجتمع ومكوناته ودور المناهج التربوية، والعلم وتعليم الكبار، ويتناول مفهوم العدل في النظم والمؤسسات، وعلاقة العدل بمفهوم القيادة، وواجبات مناهج التربية نحو حقيقة المجتمع والحياة. ويخصص الفصل الخامس لأهداف المناهج التربوية، ومعايير تلك الأهداف، وأهمية التغيير، ومصادر التلقي في منهج التربية، كما يناقش العدالة بين الفرد والمجتمع. ويعالج الفصل السادس محتويات مناهج التربية وأنواعها. أما الفصل السابع فيعرض لطرائق التدريس الأساسية، ومراحل عملية التدريس ودور المدرس ووظيفة الوسائل التعليمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وفي الفصل الثامن تناول لطرائق وأساليب التقويم: أسسه وأنواعه ومستوياته وأدواته، وفيه معالجة للتقويم المرجعي المعيار والتقويم المرجعي المحك. والفصل التاسع والأخير يتحدث عن تطوير المناهج والتغيير وعوائقه، ومتطلبات المنهج ومراحل تطويره. والمؤلف في عرضه هذا حريص -وفي اقتدار- على أن يبين أن الإطار الإسلامي كفيل بأن يكون البلسم والعلاج للتناقض بين ما هو عالمي وما هو محلي، وبين ما هو عام وما هو فردي، وبين الأصالة والمعاصرة، وكفيل بالتخفيف من التوتر بين الاعتبارات الباقية أو الطويلة الأمد، والاعتبارات الزائلة أو القصيرة الأمد, وبين التوتر بين ما هو روحي وما هو مادي. ولقد قدم الدكتور مدكور هذا كله في أسلوب جزل وعبارة واضحة ومضمون خصب بحيث يعتبر الكتاب متعة فكرية للقارئ والدارس، جدير بالثناء والتقدير. وهو إثراء للمكتبة العربية في مجاله، وعطاء لا يستطيعه إلا من نذر نفسه للتعليم والبحث العلمي، وكرس جهده للتطوير وخدمة أمتنا العربية والإسلامية. وعلى الله قصد السبيل مدينة نصر في رجب 1418هـ نوفمبر 1997م د. جابر عبد الحميد جابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 سلسلة المراجع في التربية وعلم النفس : تصدر هذه السلسلة بغرض النهوض بمستوى المراجع والكتب في مجال التربية وعلم النفس والاجتماع بحيث تشتمل على أحدث ما صدر في هذا المجال عالميا مع معالجته بمنظور ورؤية عربية مدعمة بخبرات الخبراء. ويسر اللجنة الاستشارية أن يشارك أصحاب الفكر والكتاب وأساتذة الجامعات بنشر مؤلفاتهم المتميزة في تلك السلسلة. وتضم اللجنة الاستشارية التي تناقش هذه الأعمال قبل صدورها مجموعة من خيرة علماء التربية وعلم النفس في مصر والعالم العربي، وهم: أ. د. جابر عبد الحميد جابر. رئيس اللجنة أ. د. فؤاد أبو حطب. عضوا أ. د. عبد الغني عبود. عضوا أ. د. محمود الناقة عضوا أ. د. أمين أنور الخولي عضوا أ. د. عبد الرحمن عبد الرحمن النقيب عضوا أ. د. أسامة كامل راتب عضوا أ. د. علي خليل أبو العينين عضوا أ. د. أحمد إسماعيل حجي عضوا أ. د. عبد المطلب القريطي عضوا أ. د. علي أحمد مدكور عضوا أ. د. مصطفى رجب المنيلاوي عضوا أ. د. علاء الدين كفافي عضوا أ. د. علي محيي الدين راشد عضوا أ. د. علي حسين حسن عضوا أ. د. مصطفى عبد السميع عضوا مدير التحرير: الكيميائي: أمين محمد الخضري المهندس: عاطف محمد الخضري جميع المراسلات والاتصالات على العنوان التالي: دار الفكر العربي سلسلة المراجع في التربية وعلم النفس 94 شارع عباس العقاد-مدينة نصر-القاهرة ت: 2752984- فاكس: 2752735 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة : الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد: نحن نتعامل مع قضية التربية والتعليم في بلادنا -على مستوى الحوار والنقاش، وعلى مستوى الواقع المعاش- كمن لديه شجرة هزيلة ذابلة، تتساقط ثمارها المرة المعطوبة. فأخذ يهذب أغصانها، ويشذب أوراقها، وينظف ثمارها، ظنا منه أن هذا سيعالج ضعفها البادي، ويمنع سقوطها الوشيك، دون أن ينظر إلى جذع الشجرة المنخور، ولا إلى جذورها الممتدة خلال التربة البور! لقد أضعنا زمنا طويلا نناقش جزئيات القضية وأطرافها المختلفة دون تدبر عميق لإطارها الشامل وأصولها الكلية، فمنا من عاب المناهج المحشوة بالمعلومات والمعارف التي لا قيمة لها في عصر التفجر المعرفي، ومنا من رأى أن المعلم هو حجر الزاوية ولا يصلح التعليم إلا بإصلاحه، وثالث تكلم عن المباني المتهالكة وعن تمويل التعليم، ورابع تحدث عن الدروس الخصوصية ومجانية التعليم، وخامس ركز على ازدحام الفصول الدراسية بالتلاميذ، والتسرب، وعدم استيعاب الملزمين.. إلخ. والمؤكد أن هذه الأمور كلها وغيرها، هي الثمار العفنة والنتاج الرديء لأصول مغروسة في أرض غير صالحة للاستنبات. نحن يا سادة في حاجة إلى أن نسأل أنفسنا أولا: من نحن؟ وما نريد أن نكون؟ وأن نجيب عن هذين السؤالين، فالإجابة عنهما توضح لنا فلسفتنا الاجتماعية الشاملة: كيف نرى الله؟ وما حقيقة الكون غيبه وشهوده؟ وما حقيقة الإنسان من حيث مصدره، وغايته، ووظيفته في الحياة، وعلاقته بالكون من حوله، ومركزه في هذا الكون؟ وما حقيقة الحياة الدنيا والآخرة في نظرنا؟ وما المعايير التي تحكم نظم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ وما موجهات الثقافة والفنون والآداب والصحافة والإعلام والإعلان في هذه الحياة؟ وما أهدافها التي تعمل على تحقيقها في ضوء الرؤية الاجتماعية الشاملة المتكاملة؟ إنه بدون تحديد هذه "الفلسفة الاجتماعية" أو "الهوية الاجتماعية" لا يمكن تحديد "الفلسفة التربوية"، فالفلسفة التربوية تنبثق عن الفلسفة الاجتماعية الشاملة، تؤكدها وتعيدها إلى جادة الصواب إذا انحرفت أو انحرف بعض عناصرها عن الخط المرسوم لها. والفلسفة التربوية هي تحديد للأسس العقائدية والأسس الاجتماعية، والأسس النفسية التي على أساسها تصمم مناهج التربية والتعليم، ويعد المعلمون، ويمول التعليم، وعلى أساسها تقام المباني المدرسية المناسبة، وتنظم الإدارة المدرسية، وتخطط المناشط التربوية المختلفة.. إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 إن الفلسفة التربوية هي بمثابة قاعدة الانطلاق الموحدة، التي تحدد للنظام التعليمي غاياته المنشودة، التي تعمل الوسائل المختلفة والمتنوعة على تحقيقها، إنها تحديد واضح لطبيعة المجتمع الذي نريد بناءه، ولطبيعة الإنسان الذي يجب أن نربيه.. الإنسان القادر على أن يسهم بإيجابية وفاعلية في بناء هذا المجتمع. باختصار، إن الفلسفة التربوية الواضحة المنبثقة عن فلسفة اجتماعية شاملة أو عن تصور متكامل لحقائق الألوهية، والكون، والإنسان، والحياة، هي بداية أي إصلاح اجتماعي، فضلا عن أن يكون هذا الإصلاح متصلا بعملية حاسمة في بناء البشر وبناء المجتمعات الإنسانية كمناهج التربية والتعليم. إن هذا الكتاب هو محاولة لتصميم منهج التربية، انطلاقا من أسسه المعرفية والنفسية والاجتماعية، ومرورا بمكوناته المتمثلة في الأهداف والمحتوى وطرائق وأساليب التدريس، ووصولا إلى وسائل وأساليب التقويم والتطوير. وبذلك فسوف يتناول هذا الكتاب القضايا التالية: أولا: المفاهيم الأساسية لمناهج التربية، مثل: مفهوم الدين، ومفهوم العبادة، ومفهوم التربية، ومفهوم المنهج، والفرق بين مفهوم "المنهج" ومفهوم "البرنامج"، ومفهوم التعلم. إلخ، وهذا هو موضوع الفصل الأول. ثانيا: أسس بناء المنهج، حيث يتفق المنهجون في كل بلاد العالم تقريبا على أن للمنهج أسسا ثلاثة هي: طبيعة المعرفة، والطبيعة الإنسانية، وطبيعة الحياة والمجتمع. وسنتناول هذه الأسس في الفصول: الثاني، والثالث، والرابع على التوالي. ثالثا: انطلاقا من مفاهيم الفصل الأول والأسس التي تلت ذلك ستيم تحديد الأهداف العامة للمنهج، واختيار المحتوى، وطرائق وأساليب التدريس، وطرائق وأساليب التقويم، وسيكون ذلك في الفصول: الخامس والسادس والسابع والثامن على التوالي. رابعا: وأخيرا، نتناول موضوع تطوير المنهج: أسبابه، وأسسه، وكيفياته، في الفصل التاسع والأخير. ورجاؤنا في الله كبير، أن يهدي البصائر إلى فهم الواقع الذي نحن فيه، والحق الذي نرجوه، إنه على ما يشاء قدير. القاهرة: جمادى الأولى 1418هـ أكتوبر 1997م علي أحمد مدكور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الفصل الأول: المفاهيم الأساسية لمناهج التربية مدخل ... الفصل الأول: المفاهيم الأساسية لمناهج التربية مقدمة: إن تربية الإنسان المعاصر التي يمكن أن تحفظ له الاستقامة على الفطرة التي فطره الله عليها لن تأتي إلا عن طريق تصحيح منهج التلقي الذي يستقي منه الإنسان فهمه لطبيعة الكون والإنسان والحياة، وإدراكه لطبيعة مركزه في الكون ودوره في الحياة. كما تقتضي إدراكه للمفاهيم الحاكمة والمؤثرة في منهج التلقي. ومن أهم هذه المفاهيم، مفهوم الدين، ومفهوم العبادة، ومفهوم التربية، ومفهوم الفلسفة، ومفهوم اللغة، وعلاقة كل ذلك بمنهج التربية، لكننا نبدأ ب مفهوم المنهج وخصائصه ، مع التفريق بين مفهوم "المنهج" ومفهوم "البرنامج". إن أي منهج للتربية لا بد أن يعتمد على نظرية تربوية، والنظرية التربوية تعتمد بالضرورة على فلسفة تربوية، والفلسفة التربوية لمجتمع ما، لا بد أن تعتمد على عقيدة المجتمع وفلسفته وتصوره العام للكون والإنسان والحياة. وكل ذلك لا بد أن يعتمد على لغة قوية، هي في واقع الأمر للتفكير والتعبير والاتصال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 مفهوم المنهج وخصائصه : يعرف ابن منظور المنهج بأنه الطريق البين الواضح "ومنهج الطريق وضحه1 والمنهاج كالمنهج، وفي التنزيل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ، والمنهاج -كما يقول ابن كثير- هو: "الطريق الواضح السهل، والسنن والطرائق". لكن تعريف المنهج بأنه الطريق السهل الواضح، وأنه السنن والطرائق، هو تعريف عام يصلح لكل جوانب الحياة ومجالاتها، كالزراعة والصناعة والتجارة والتربية وغير ذلك. ومن هنا كان لا بد من السير خطوة نحو التخصص.. نحو التربية. ويرى كثير من المتخصصين في المناهج وطرائق التدريس، أن المنهج التربوي هو "مجموع الخبرات والأنشطة التي تقدمها المدرسة للتلاميذ بقصد تعديل سلوكهم وتحقيق الأهداف المنشودة"2.   1 ابن منظور: لسان العرب، الجزء الخامس، ص4554. 2 محمد عزت عبد الموجود، وزملاؤه: أساسيات المنهج وتطبيقاته، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1981م، ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ويلاحظ على هذا التعريف أمران: الأول: أنه فقد صفة النظام أو المنظومة، والثاني: أنه قصر المنهج على الخبرات والأنشطة ولم يشر إلى فلسفة المنهج وأسسه الموجهة للممارسة التربوية فيه، فهو تعريف ينحو منحي سلوكيا وضعيا. مفهوم منهج التربية: ومن هذا تظهر الحاجة إلى تعريف مناسب لمنهج التربية، وهنا يمكن القول: إن منهج التربية في تصورنا هو: "نظام متكامل من الحقائق والمعايير والقيم الثابتة، والخبرات والمعارف والمهارات الإنسانية المتغيرة التي تقدمها مؤسسة تربوية إلى المتعلمين فيها بقصد إيصالهم إلى مرتبة الكمال التي هيأهم الله لها، وتحقيق الأهداف المنشودة فيهم". الخصائص التي يتميز ويتفرد بمجموعة من الخصائص أهمها ما يلي: الخاصية الأولى: هي أن منهج التربية "نظام" أي: إنه بمفهومه، وخصائصه، وأسس بنائه، وعناصره، يكون كلا متكاملا، كل جزء فيه يتأثر ببقية الأجزاء ويؤثر فيها، وكل جزء يؤثر في الكل ويتأثر به. الخاصية الثانية: هي أن هذا المنهج "رباني" في مصدره وغايته، فهو يعتمد على الوحي؛ لذلك فهو يزود الإنسان "المتعلم" بمجموعة الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة التي توجه عمله وإسهامه، بل وتعينه على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله. إن من الضروري أن يفهم المتعلم الحقائق الثابتة كحقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة. فبدون فهم هذه الحقائق، لا يستطيع الإنسان أن يفهم حقيقة وجوده، ولا دوره في هذا الوجود فضلا عن مصدر وجوده وغاية وجوده. وخاصية الربانية التي تميز منهج التربية يراد بها هنا أمران: 1- ربانية المصدر والمنبع. 2- ربانية الوجهة والغاية1. ربانية المصدر والمنبع: إن أولى مقومات منهج التربية أنه صادر من التصور الإسلامي الذي هو نظام رباني "صادر من الله للإنسان، وليس من صنع الإنسان، تتلقاه الكينونة الإنسانية بجملتها من بارئها، وليست الكينونة الإنسانية هي التي تنشئه، كما تنشئ التصور   1 يوسف القرضاوي: الخصائص العامة للإسلام، مكتبة وهبة، ط2، 1401هـ-1981م، ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الوثني، أو التصور الفلسفي -على اختلاف ما بينهما- وعمل الإنسان فيه هو تلقيه وإدراكه والتكيف به، وتطبيق مقتضياته في الحياة البشرية"1. وإذا كان الفكر البشري لم ينشئ هذا النظام، فإن له وجودا قويا في مجاله للعمل فيه، "بيد أن عمله هو التلقي والإدراك والتكيف والتطبيق في واقع الحياة.. غير أن القاعدة المنهجية الصحيحة للتلقي.. هي هذه.. أنه ليس للفكر البشري أن يتلقى هذا التصور بمقررات سابقة، يستمدها من أي مصدر آخر، أو يستمدها من مقوماته هو نفسه، ثم يحاكم إليها هذا التصور ويزنه بموازينها.. إنما هو يتلقى موازينه ومقرراته من هذا التصور ذاته، ويتكيف به، ويستقيم على منهجه"2. "وفي الوقت ذاته يعتبر الفكر البشري -في ميزان هذا التصور- أداة قيمة وعظيمة، يوكل إليها إدراك خصائص هذا التصور ومقوماته -مستقاة من مصدرها الإلهي- وتحكيمها في كل ما حوله من القيم والأوضاع، دون زيادة عليها من خارجها، ودون نقص كذلك منها.. ويبذل منهج التربية لهذه الأداة العظيمة من الرعاية والعناية، لتقويمها وتسديدها وابتعاثها للعمل في كل ميدان هي مهيأة له.. الشيء الكثير"3. إذن فوظيفة الإنسان في هذا النظام هي التلقي في حدود طبيعته الإنسانية، وفي حدود وظيفته، "فالإنسان محكوم أولا بطبيعته: طبيعة أنه مخلوق حادث، ليس أزليا ولا أبديا، ومن ثم فإن إدراكه لا بد أن يكون محدودا بما تحدده طبيعته، ثم هو محدود بوظيفته، وظيفة الخلافة في الأرض لتحقيق معنى العبودية لله فيها.. ومن ثم فقد وهب من الإدراك ما يناسب هذه الخلافة بلا نقص ولا زيادة". ربانية الوجهة والغاية: أما ربانية الوجهة والغاية فنعني بها -كما يقول الدكتور القرضاوي: "أن الإسلام يجعل غايته الأخيرة وهدفه البعيد، هو حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، والحصول على مرضاته، فهذه غاية الإنسان، ووجهة الإنسان، ومنتهى أمله وسعيه وكدحه في الحياة"4. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق: 6] ، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] . الربانية والمنهج: إن منهج التربية هنا منهج رباني في مصدره وغايته، ولذلك فهو يزود الإنسان "المتعلم" بمجموعة الحقائق والمعايير والقيم الثابتة التي توجه عمله وإسهامه، بل وتعينه على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله. فلا مراء أنه من الضروري لكل   1 سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، بيروت، دار الشروق، 1402هـ-1982م، ص41. 2 المرجع السابق، ص45. 3 المرجع السابق، ص47. 4 يوسف القرضاوي، مرجع سابق، ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 إنسان "متعلم" أن يفهم الحقائق الثابتة في الوجود: كحقيقة الألوهية وحقيقة الربوبية، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة, وحقيقة الإنسان ... إلى آخره. فبدون فهم هذه الحقائق لا يستطيع الإنسان أن يفهم حقيقة وجوده، ولا دوره في هذا الوجود، فضلا عن مصدر وجوده وغايته. ومن الضروري أن يعرف الإنسان "المتعلم" المعايير التي يرجع إليها في إقامة الجوانب المختلفة لحياته على الأرض. فالشورى معيار لسياسة الحكم ونظامه، والعدالة الاجتماعية معيار للنظام الاقتصادي، والتراحم، والتكافل، والتعاون معايير لتنظيم الحياة الاجتماعية والعلاقات بين الناس.. وهكذا. ومن الضروري أن يفهم الإنسان "المتعلم" مجموعة القيم الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة الإنسانية الراقية، فالعلم واستخدامه في إعمار الحياة وترقيتها "لا في خرابها"، الإحسان والدقة في العمل، والنظام، والنظافة، وصدق الشعور في القول والعمل، كل هذه قيم ثابتة، لا يمكن أن يقوم نظام إنساني راق -في أي وقت- على وجه الأرض بدونها. الخاصية الثالثة: هي أن منهج التربية يعتمد أيضا على الخبرة، فالخبرة هي أساس بناء الإنسان وبناء المجتمع، والخبرة تقتضي من الفرد نشاطا ووعيا بأبعاد الموقف التعليمي وتفاعلا معه، والأصل هنا أن منهج التربية لا يعتمد في طرائقه وأساليبه على التلقين وحده، بل يهتم -بالدرجة الأولى- بالتعلم عن طريق الأحداث، وعن طريق الممارسة والعمل، وعن طريق الثواب والعقاب، وعن طريق القصة، وضرب المثل، والتجسيم والتصوير، والقدوة، وعن طريق استخدام قوى الإدراك الظاهرة والباطنة التي زود الله بها الإنسان، ليستخدمها إلى أقصى طاقاتها: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] . إن مجرد المعرفة النظرية، أو العلم الذي لا يؤثر في سلوك الإنسان وفي واقع حياته لا قيمة لهما ولا يعتد بهما منهج التربية، إن ذلك العلم خاو من المعنى ولا قيمة له، وتلك المعرفة سطحية ولا قيمة لها أيضا، لأنها مجرد معرفة "ذهنية"، لا تؤثر في سلوك الإنسان، ولا تغير شيئا في واقع حياته على الأرض. إن تلك المعرفة وذلك العلم -باختصار- لا يعينان الإنسان على أداء وظيفته في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله، ولهذا كان الوحي قاطعا في رده على المنافقين: إن كنتم مؤمنين حقا فآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 إيمانكم هي تنفيذ أحكام الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . الخاصية الرابعة: أن منهج التربية هذا منهج إيجابي، وواقعي، فهو "تصميم" لواقع مطلوب إنشاؤه على أساس هذا التصميم1 لإعداد الإنسان القادر على القيام بواجبات الخلافة في الأرض، فالإنسان هو المكلف بتنفيذ هذا "التصميم" عن طريق التفكر والتدبر والنشاط بإيجابية وفاعلية. وينسحب هذا -بطبيعة الحال- على الموقف التعليمي، فمجرد تقديم الخبرة للمتعلم لا يعني -بالضرورة- تعلمه، وتعديل سلوكه في الاتجاه المطلوب، فلا بد من أن ينشط الإنسان ويتفاعل مع الموقف التعليمي، بل ولا بد أن ينعكس أثر ذلك الموقف على سلوك الإنسان بعد ذلك. والأصل في هذا، أن التعلم لا يحدث وفقا لتصور منهج التربية الإسلامية إلا بعد تعلم خمس خطوات مرتبة ترتيبا سببيا، كما يلي: 1- وجود دافع فطري، أو حاجة من حاجات النفس الغريزية أو المكتسبة. 2- أن يحس الإنسان أو المتعلم بحاجته إلى الاستعانة بهدى الله، وهذه هي الخطوة الثانية. 3- فإذا كان لديه هذا الاتجاه وهذا الشعور، فإنه يدفعه إلى النشاط وإلى التفاعل والأخذ بكل الأسباب من أجل التعرف على تفاصيل ما يريد أن يعرف، وهذه هي الخطوة الثالثة. 4- ونتيجة للاستعانة بهدى الله، والأخذ بكل الأسباب الممكنة، يحدث الفهم، ويتم التحصيل، وهذه هي الخطوة الرابعة. 5- فإذا جاء السلوك بعد ذلك موافقا للفهم والإدراك والتحصيل -وهذه هي الخطوة الخامسة- فإن التعلم يكون قد تم. إن هذا ما نراه واضحا جليا في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] . {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 1-3] ، وهكذا، فما لم يتكون الشعور والاتجاه، ويتم النشاط، ويحصل   1 المرجع السابق، ص157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الإدراك والفهم، ويتحول ذلك إلى سلوك عملي في واقع الأرض، إذن، فالتعلم لم يقع. الخاصية الخامسة: التي تميز منهج التربية، هي خاصية الشمول والتكامل لكل من المتعلم والمنهج، فالمنهج هو الجانب التطبيقي للأصول التربوية، وبذلك فهو ليس غاية في ذاته، ولكنه وسيلة لتحقيق غاية، وهي تنمية شخصية الإنسان كله وإيصاله إلى درجة كماله التي هيأه الله لها، وهذا يقتضي أن يكون المنهج المعد لهذا الغرض شاملا متكاملا في حقائقه وفي خبراته وجميع أوجه مناشطه. ولا يعني ما سبق أن الجوانب المعرفية والوجدانية والحركية في الخبرة الإنسانية منفصلة بعضها عن بعض، فحقيقة الأمر أن كل فعل حلال يقوم الإنسان به في الأرض لا يخلو من الجوانب الثلاثة السابقة: فيه جانب الجسم، وجانب العقل، وجانب الوجدان، فالتحدث باللغة مثلا -وهو نشاط حركي- يستخدم فيه الإنسان عقله، وينفعل به أيضا، والرياضة البدنية يبدؤها الإنسان باسم الله، وينفعل بها، ويستخدم في أدائه لها عقله وجسمه، وكذلك القراءة والكتابة، وإجراء التجارب.. إلى آخره، فكل عمل تتوافر فيه العناصر الثلاثة، لكن مع الاختلاف في النسبة. وتكامل جوانب الخبرة الإنسانية في منهج التربية يتفق مع فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان، فالوجود كله صادر عن الإرادة المباشرة لله. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] . وهذا الوجود الصادر عن الإرادة المطلقة، وحدة متكاملة، كل جزء فيه متناسق ومتكامل مع بقية الأجزاء.. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] . {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] . {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] . {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3، 4] . وهكذا، فتكامل جوانب الخبرة الإنسانية في منهج التربية يجب أن يتماشى مع تصور الإسلام لوحدة الوجود، وتكامل أجزائه، لكونه صادرا عن الإرادة المباشرة للواحد المطلق وهو الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وتكامل جوانب الشخصية الإنسانية في مفهوم منهج التربية يجب أن يتفق أيضا مع تصور الإسلام لوحدة الإنسان الفرد، ووحدة الإنسانية جمعاء، فالإنسان الفرد وحدة متكاملة، وقواه المختلفة موحدة الاتجاه، فهو ليس جسما مستقلا بذاته عن الروح والعقل، وليس عقلا منفصلا لا علاقة له بالجسم والروح، وليس روحا هائمة بلا رابط من عقل وجسم. بل هو كيان واحد متكامل الأجزاء. ويتفق هذا أيضا مع فكرة الإسلام عن وحدة الإنسانية وتكاملها، "فلأن الوجود الموحد صادر من إرادة واحدة، ولأن الناس جزء من الكون متعاون متناسق مع سائر أجزائه، ولأن أفراد الإنسان خلايا متعاونة متناسقة فيما بينها، لذلك كان تصور الإسلام أن الإنسانية وحدة تفترق أجزاؤها لتجتمع، وتختلف لتتسق، وتذهب شتى المذاهب للتتعاون في النهاية بعضها مع بعض، كي تصبح صالحة للتعاون مع الوجود الموحد"1: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] . إذن، فهناك حكمة من وراء هذا الاختلاف والتجزؤ وهو التعاون والتكامل، وإلا فلو شاء الله لجعل الناس جميعا أمة واحدة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] . {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93] . وهكذا خلق الله الناس أمما وشعوبا مختلفة لا ليتصارعوا ويختلفوا، ولكن ليتعارفوا ويتكاملوا. ولكن الله لم يأخذ الناس قسرا إلى هذه الغاية، ولكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهجا، وخلق لكل منهم استعدادا، ولكل منهم مشربا، لقد خلق الله الناس باستعدادات متفاوتة، نسخا غير مكررة ولا معادة، ثم أنزل لهم نواميس الهدى والضلال، تمضي لها مشيئته في الناس، وتركهم يستبقون، وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون2. إذن، فالأصل في الوجود الوحدة والتعاون والتناسق في حدود منهج الله وشريعته، ومن شذ عن هذه السنة من المؤمنين فليرد إليها بكل وسيلة؛ لأن سنة الله في الكون أولى بالاتباع من أهواء الأفراد والجماعات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ   1 سيد قطب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، بيروت، دار الشروق، 1403هـ-1983، ص23. 2 سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، جـ6، ص903، وجـ14، ص219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] . إن من الأمور الواردة أن تتقاتل طائفتان من المؤمنين، وأن تبغي إحداهما على الأخرى، لكن الكارثة تحل لا محالة إذا غابت الطائفة الثالثة المؤمنة القادرة على إيقاف الباغي، ووضع الحق في نصابه. وهكذا تتفق وحدة الشخصية الإنسانية، ووحدة تكامل الخبرة الإنسانية في منهج التربية مع الأصل في الإسلام، وهو أنه دين التوحيد ودين الوحدة والتكامل بين القوى الكونية جميعا. الخاصية السادسة: أن منهج التربية هو منهج تربية "الإنسان"، الإنسان الصالح الذي يستطيع أن يعيش في كل مكان. وليس فقط "المواطن" المحصور في حدود المواطنة الضيقة، وتربية الإنسان ليس فيها بالطبع إغفال لتربية المواطن، ولكنها أشمل وأكمل، فالحقيقة أنه لا خوف أبدا على المواطن من الإنسان، ولكن الخوف كل الخوف على الإنسان من المواطن الذي انحصر فكره وانتماؤه وسلوكه داخل الحدود الجغرافية لوطنه. إننا في أمس الحاجة إلى تنمية النظرة "الإنسانية العالمية الشاملة" في التعليم، وتطوير المفهوم "الإنساني" في التربية، وهذا المفهوم لا تستطيع "فلسفة" أو "أيديولوجية" مرتبطة بمكان وزمان معينين تنميته وتطويره. إن منهج التربية في التصور الإسلامي دون مناهج الأرض كلها، هو الذي يستطيع تحقيق مفهوم "الإنسانية" في نفوس الناشئة، فتحقيق إنسانية الإنسان يتمشى مع إنسانية المنهج الإسلامي، وعالميته التي تقررت في القرآن في سورة هي من أوائل السور المكية، وهي سورة التكوير في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} ، وتقررت في خطاب الله -سبحانه- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] . لقد جنت الإنسانية ثمار التأكيد على "المواطنة الضيقة" في صورة صراعات دولية، وحروب عالمية وإقليمية، واستعمار واحتلال لأراضي الآخرين، واغتصاب لحقوقهم، وتسخير لجهودهم في خدمة غيرهم، وإذلال لآدميتهم وإنسانيتهم.. إلخ. إننا نعيش في عصر جديد تماما، عصر سبقت قوة الإنسان يقظة ضميره، عصر لا يملك الإنسان فيه القدرة على إدارة الصراعات والحروب العالمية أو الإقليمية، دون أن يمتد خطرها ودمارها إلى ما حولها، نحن -إذن- في عصر نحتاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فيه إلى تنمية وتطوير مفهوم "الإنسانية" بمعناه العالمي الشامل، لا إلى تنمية مفهوم "المواطنة" بمعناه الضيق المحدود بحدود المكان والزمان. فالوطنية الضيقة، وتربية المواطن المحدود في قيمه وولائه بين حدود دولته أثمر كثيرا من الشرور التي نعاني منها الآن، فمشكلة الحرب والسلام التي يتوقف عليها مصير البشرية كله، تشتد وطأتها، ويزداد غليانها كل يوم، حتى وصلت إلى مرحلة تنذر بالخطر الحقيقي، وما ذلك إلا لأنها تدار بيد "مواطنين" يريدون تسخير خيرات العالم كله لصالح شخصياتهم أو مواطنيهم على حساب الآخرين. وحتى بعد أن ظهرت نظرية استحالة الحروب النووية الساحقة الماحقة لكل شيء على وجه الأرض فقد بدأ الصراع يتحول من الحرب والقتال إلى صراع النظم والنماذج الاجتماعية والاقتصادية والعقائدية، وبمعنى آخر، فالصراع قد تحول من ميادين القتال إلى بيوت الناس، ومدارسهم وعقولهم. ولا نتجاوز إذا قلنا إنه لا عاصم لنا اليوم في عصر العولمة والكوكبة و"الكنتكة" و"المكدنة" إلا بالتمسك بالمنهج الذي كرم الإنسان، وحفظ له شخصيته المستقلة حين قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يكن أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا ألا تظلموا". إن الولاء للمواطن والوطنية الضيقة وليس "للإنسان" في كل مكان، هو الذي يعرض "السفينة العالمية" -إذا جاز هذا التشبيه- للخطر، فبعد ثورة الاتصالات وما ترتب عليها من تفجر معرفي أصبحت الكرة الأرضية كسفينة واحدة تتعرض لمخاطر جسيمة في عرض البحر. فيها من يشكو من التخمة، وفيها من يشكو من الجوع إلى حد الهلاك. فيها من يعانون وفرة الإنتاج. فماذا يصنعون وكيف يختزنون الفائض الهائل من الحبوب واللحوم والزبد والجبن والخضر؟! وفيها المحاصرون الذين يموتون جوعا، ويرجون فتوى تجيز لهم أكل الميتة ولحوم البشر! فيها الأغنياء الدائنون الذين يفرضون شروطهم، ويشرعون سياطهم، وفيها الفقراء المدينون الذين يخضعون لكل عمليات الابتزاز والاستغلال والظلم، فيها من يصنع سلاح الدمار ويبيعه ليزداد ثراء، وفيها من يشتري هذا السلاح ليقاتل به حتى الموت. وهكذا.. تحدق الأخطار "بالسفينة العالمية" من كل جانب، بسبب الأنانية، والشره والظلم، والطائفية، والعنصرية، والاستغلال، بسبب الحضور القوي "للمواطن" والغياب المستمر "للإنسان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 إن منهج التربية في التصور الإسلامي هو وحده بين كل مناهج الأرض الذي لا يفرق بين البشر على أساس طبقي أو عنصري أو طائفي، وإنما يتوجه إلى قلوبهم وضمائرهم مباشرة، حيث يكمن "الإنسان"، الجوهر الفذ، الذي تتكون منه الإنسانية. وهو بذلك الملجأ الوحيد الباقي لإنقاذ البشرية من الهول الرهيب المحدق بها. بناء على ما سبق، فإننا -فيما أرى- لا نحتاج إلى تربية "المواطن الصالح"، "فالمواطن الصالح" عادل، مجد، أمين، متواضع، قانع. في موطنه، لكنه عادة ما يتحول إلى ظالم، مستبد، غاصب، شره، في غير موطنه، وقد رأينا صور ذلك، وما زلنا نراها كل يوم. وخلاصة القول: إن المدرسة الإنسانية في التربية قديمة قدم الإسلام، فبينما كل مناهج الأرض تلتقي على أن هدف التربية هو إعداد "المواطن الصالح" نجد أن منهج التربية في التصور الإسلامي يسعى لتحقيق هدف أشمل وأعمق وهو إعداد "الإنسان الصالح"، "الإنسان على إطلاقه، بمعناه الإنساني الشامل، الإنسان بجوهره الكامن في أعماقه، الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث هو مواطن في هذه البقعة من الأرض أو من ذلك المكان"1. والإنسان الذي يهدف منهج التربية إلى بنائه هو الإنسان الذي يستمد منهج حياته وشعوره وسلوكه من منهج الله، وهو بالجملة الإنسان الذي يفي بشروط الخلافة التي فضله بها خالقه على كثير ممن خلق، فينشط في عمارة الأرض، وفق منهج الله، مستغلا كل الطاقات وقوى الإدراك الممنوحة له. مفهوما "المنهج" و"البرنامج": مما سبق يتضح أن مفهوم "المنهج" يتضمن الجانبين: النظري والتطبيقي، أو الأسس والمكونات فالمدرسة الإنسانية التي تستخدم مفهوم "المنهج أو المنهاج" تؤمن بأن وراء كل سلوك فكرة أو نظرية تحركه بشكل معين وفي اتجاه معين، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ، فالمنهج أو المنهاج مفهوم ذو شقين: شق فلسفي اعتقادي، وشق اجتماعي تطبيقي، وبناء على ذلك فعندما نقول: "منهج" فهذا يعني الانطلاق من الأسس والمصادر الفلسفية والإنسانية والاجتماعية التي تنعكس على المكونات التطبيقية للمنهج ابتداء بالأهداف، فالمحتوى فطرائق وأساليب التدريس والتقويم والتطوير. أما مفهوم "برنامج" فقد شاع على يد أنصار مدرسة علم النفس السلوكي, وأصحاب المدرسة المادية السلوكية، مثل واطسون واسكنر، وجثري وغيرهم ممن   1 محمد قطب: منهج التربية الإسلامية، الجزء الأول، بيروت، دار الشروق، الطبعة السادسة، 1402هـ-1982م، ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 لا يؤمنون بإمكانية الضبط الداخلي للسلوك الخارجي، ولا يؤمنون بالفلسفة أو الأفكار النظرية التي تحكم السلوك العملي، ويعتبرون أن مسائل مثل: حرية الإرادة، والحرية النفسية، ويقظة الضمير ذات إيحاءات دينية، وهي مسائل صوفية وغير علمية1، وعلى ذلك فالبرنامج عندهم ليست له أطر أو مرجعيات فلسفية أو أسس يستند إليها، وإنما هو يبدأ مباشرة بتحديد الأهداف، فالمحتوى، فطرائق وأساليب التدريس والتقويم، وأبرز أمثلة على ذلك هي التعليم المبرمج وأساليب البرمجة التي شاع استخدامها في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى ذلك فلينظر المنهجون أي مفهوم يستخدمون؟   1 جيمس ديز: أزمة علم النفس المعاصر، ترجمة وتقديم وتعليق الدكتور سيد أحمد عثمان، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1416هـ 1995م، ص167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 مفهوم الدين وعلاقته بمناهج التربية : ما المقصود بالدين؟ وما علاقة الدين بمناهج التربية والتعليم؟ الدين هو المنهج أو النظام الذي يحكم حركة الكون والإنسان والحياة، ويحكم العلاقات والارتباطات بين كلياتها وجزئياتها في تكامل واتساق، قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 1. وبناء على ذلك ينبغي أن نعلم أبناءنا في بيوتنا وفي مدارسنا أن "الدين" هو منهج الحياة، ونظام لتوجيه النشاط الإنساني في الحياة الدنيا، ولمجازاة الإنسان على عمله في الحياة الآخرة، وأن كل "دين" هو "منهج حياة"، وكل "منهج للحياة" هو "دين". وعليه فدين الجماعة من البشر هو المنهج أو النظام الذي يصرف حياة هذه الجماعة، فإن كان "الدين" أو "المنهج" الذي يصرف حياة الجماعة عبارة عن فلسفة من صنع البشر أو تصور من صنع القبيلة أو الحاكم، فهذه الجماعة تتبع غير دين الله. هذا التصور للدين وعلاقته بالكون والإنسان والحياة يجب أن تؤكده مناهج التربية الدينية، ومناهج العلوم الطبيعية، ومناهج العلوم الإنسانية كل حسب طبيعته. والدين باعتباره منهجا للحياة ذو شقين: الشق الأول هو العقيدة أو التصور الاعتقادي، والشق الثاني هو التصور الاجتماعي النابع من الشق الأول، فعقيدة الإنسان هي التي توجه سلوكه الاجتماعي ونشاطه في الحياة كلها، وبذلك فإن الدين الإسلامي بتصوره الشامل للألوهية والكون والإنسان والحياة هو الإطار المرجعي للإنسان المسلم وللحياة الإسلامية. يجب أن نؤكد لأبنائنا في مناهج التربية أن تعبير "لا إله إلا الله" إنما يعني أن الله المعبود وحده دون سواه، وأنه أنزل للخلق منهجا ونظاما، أي: دينا يسيرون   1 انظر: أبو الأعلى المودودي: معنى كلمة "دين" في كتاب "المصطلحات الأربعة"، وانظر أيضا سيد قطب: "المستقبل لهذا الدين"، دار الشروق، تحت عنوان: كل دين منهج حياة، ص12-15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 عليه في الحياة، وأن هذا النظام أو المنهج موجود في مواد العلوم الشرعية عموما، وفي القرآن والسنة على وجه الخصوص، وأنه موجود في مناهج العلوم الكونية أيضا مثل الطبيعة والكيمياء والأحياء، وخاصة أنه ينبغي أن ندرس الكون على أنه مخلوق من مخلوقات الله، وأن مهمة المناهج هي أن يقف التلاميذ على قوانين الله في الكون حتى يستطيعوا بعد ذلك تسخيرها وتطبيقها في إعمار الحياة. إن هذه المناهج عندما تفعل ذلك فهي تعلم "الدين" بأيسر أسلوب وبأجمل طريقة. إذا كان الدين قد أنزله الله لتنظيم حياة الإنسان، فما حقيقة الإنسان؟ لا بد أن توضح مناهج التربية للصغار والكبار أن الإنسان عبد الله، سيد الكون، وأن الله خلقه من طين الأرض، ثم نفخ فيه من روحه، فهو جسم وروح ممتزجان متكاملان، وأن الله قد خلقه ليفعل ذلك بإرادته الحرة، وأنه عائد إلى الله ليجازيه على قدر قيامه بالمهمة التي خلق من أجلها. إن الدين ينظم حركة الإنسان مع حركة الكون، ومهمة المناهج التربوية أن تعد الإنسان القادر على التعامل الحسن مع الكون الرحيب الذي صممه الله لخدمته، وسخره ليكون متناسقا مع حركته المستقيمة مع منهج الله، فإذا انحرفت حركة الإنسان عن استقامة فطرة الله فيه، اختلت حركة الكون من حوله، وحدث الجفاء بينه وبين النظام الكوني المصمم أصلا لخدمته. إن الإنسان يتعامل على سبيل المثال، مع الكون المشهود بهوائه ومائه، وبحاره، وأنهاره، وأرضه وسمائه، وجماده ونباته، ويتعامل مع الكون المغيب بروحه وملائكته وجنه وشياطينه. فإن تعامل مع كل هذا وفق ما أمر الله ونهى، دانت له كل مفردات الكون بالطاعة، وإن تعامل معها بما يخالف منهج الله حدث الخلل والاضطراب، وتحولت مظاهر الكون إلى أعداء للإنسان، وتحول الكون المسخر للإنسان إلى عدو لدود، ومن أمثلة ذلك خرق طبقة الأوزون، وتلوث الماء، وتلوث الهواء.. إلخ. إن الدين ينظم -أيضا- حركة الحياة الاجتماعية فالدين له نظام للسياسة، ونظام للاقتصاد، ونظام للعلاقات الاجتماعية، ونظام للتربية، ونظام للثقافة والحضارة، ونظام للأسرة، ونظام للفنون والآداب، ونظام للإعلام والإعلان، إلخ. فإذا تعامل الإنسان مع نظم الحياة بما يتسق مع دين الله ونظامه عمرت الحياة، وازدانت الأرض بالخير والنماء، وإذا انحرف في تعامله مع مفردات الحياة ونظمها عن منهج الله، سادت الفوضى، وعم الظلم والاستبداد والخراب والدمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 إن هذا يعني أن مناهج العلوم الشرعية ومناهج العلوم الاجتماعية ومناهج اللغات والفنون والآداب يجب أن تتعاون في إيضاح نظم الحياة السابقة بما يتفق مع دين الله ومنهجه للحياة. إن إهمال ذلك في مناهج التربية والتعليم إما أن يؤدى إلى الغلو في الدين واتهامه بما ليس فيه، وإما إلى الابتعاد عن دين الله وعبادة الشيطان. يجب علينا جميعا -آباء ومعلمين ومربين- أن نعلم أبناءنا أن الله إنما خلقهم لإعمار الدنيا وترقية الحياة. فلا معنى للعمل للآخرة ونسيان الدنيا، ولا معنى للاستغراق في الدنيا ونسيان الآخرة. فالحياة الدنيا ليست بديلا ولا نقيضا للحياة الآخرة، فمن حسنت دنياه حسنت آخرته، ومن ساءت دنياه ساءت آخرته. قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] . إن منهج تربية المسلم المعاصر لا بد وأن يأخذ في اعتباره عند تخطيطه، وتنفيذه، وتطويره، أن الإسلام هو الإطار المرجعي لهذه الأمة، وأنه وحده هو الكفيل بالحيلولة دون انسحاقها أو تبعيتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 مفهوم العبادة وعلاقته بمناهج التربية : تصور الإنسان للعبادة قد لازمه في تاريخه كله، منذ خلق الله آدم حتى الآن، فالعبادة عاطفة فطرية مركوزة في النفس الإنسانية بحكم فطرتها، فهي حاجة نفسية ضرورية كحاجة النفس إلى إشباع دوافع الجوع والعطش، والأمن والاطمئنان، والراحة، والجنس ... إلخ، إذن، العبادة عاطفة فطرية، مغروزة في الإنسان تدفعه إلى تلمس إله للعبادة، وإلى هذا الحد فالعبادة عاطفة فطرية لا يختلف حالها في نفوس البشر عن سائر العواطف الإنسانية الأخرى. لكن إشباع هذه الحاجة أو العاطفة الفطرية المغروزة في خلق الإنسان من يوم أن خلقه الله، تختلف باختلاف مراحل التاريخ الإنساني، وباختلاف الجماعات الإنسانية، وباختلاف الأفراد، فكما يختلف الناس في أساليب إشباعهم لحاجات الطعام والشراب واللباس والجنس.. إلخ، فكذلك يختلفون في تصوراتهم لعباداتهم ومعبوداتهم وآلهتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 العبادة تشمل كل نشاط الحياة: من أهم خواص منهج التربية أنه منهج عبادة لله، إن العبادة هي العبودية لله وحده، والتلقي من الله وحده، في كل أمور الدنيا والآخرة.. إنها الصلة الدائمة بالله في جميع الأحوال. والعبادة -على هذا النحو- تتمثل في أمرين: الأمر الأول: هو الاعتراف بوجود الله الواحد الأحد، الذي لا شيء غيره معه، وليس كمثله شيء، ولا حقيقة لوجود إلا وجوده، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته، ولا أثر لإرادة إلا إرادته، ولا توجه حقيقي في الرغبة والرهبة، في السراء والضراء، في النعماء والبأساء إلا إليه. الأمر الثاني: هو الأخذ بالسنن الإلهية، التي يسير الكون بموجبها، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفته في الأرض ليعمرها، ويرقى الحياة على ظهرها، ومقتضى العبادة أن يأخذ المؤمن بالأسباب التي تعينه على عمارة الأرض واستغلال ما أودع فيها من كنوز وثروات وطاقات1، على أن يستقر في عقله وقلبه في جميع الأحوال نفي فاعلية الأسباب الظاهرة، ورد كل شيء وكل حدث، وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت، وبه تأثرت، وقد عنى القرآن عناية كبيرة بتقرير هذه الحقيقة في التصور الإيماني، ولذلك فهو دائما ينحي الظاهرة، ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال: 10] ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} [التكوير: 29] ، وهكذا. والإسلام يوسع مفهوم العبادة لتشمل كل الحياة، ليس حياة الإنسان فقط، بل حياة كل المخلوقات: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . والإسلام بهذا المفهوم للعبادة لا يقصر العبادة التي يقوم بها الإنسان على لحظات المناسك القصيرة للصلاة والصيام والزكاة والحج، فهذه ليست إلا لحظات قصيرة عابرة في صفحة النفس وفي صفحة الكون، وقيمتها تكمن في آثارها على السلوك النفسي في كل وقت على طول الحياة، لكن "الإسلام يوسع مفهوم العبادة حتى تشمل كل الحياة، فكل عمل يتوجه به الإنسان إلى الله فهو عبادة، وكل عمل   1 سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، ص589-591. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 يتركه الإنسان تقربا لله واحتسابا فهو عبادة، وكل شعور نظيف في باطن النفس فهو عبادة، وكل امتناع عن شعور هابط من أجل مرضاة الله فهو عبادة، وكل ذكر لله في الليل والنهار فهو عبادة، ومن ثم تشمل العبادة الحياة، ويصبح الإنسان عابدا لله حيثما توجه إلى الله"1. وهكذا ... تصبح العبادة من مظاهر التجمع والتوجه في الكينونة الإنسانية، حيث يصبح النشاط الإنساني كله حركة واحدة متجهة إلى تحقيق غاية الوجود الإنساني وهي العبادة. مكافأة العبودية: والله -سبحانه- يكافئ كل خلقه على عبوديتهم له: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] . فالإنسان كما يساوي غير من الموجودات في هذا الكون في عبادة الله، يساويها كذلك في نيل المكافأة، وكل ما يرى من فروق في أشكال المكافأة التي ينالها الإنسان وتنالها الموجودات إنما ترجع إلى الفروق بينهما في القابلية والحاجات. فالفروق هنا من ناحية شكل المكافأة، لا أصل المكافأة. وينال المؤمن والكافر مكافأة العبودية لله إذا أخذ بالسنن الكونية، والمقصود بالعبودية هنا عبودية الفطرة التي فطر الله الناس عليها، التي عبر عنها ابن تيمية بـ"توحيد الربوبية"، وعبر عنها المودودي بـ"العبادة الفطرية"، لكن المكافأة لغير المؤمن هنا مقصودة على الحياة الدنيا فقط، على حين أنها تكون للمؤمن في الدنيا والآخرة. بل إن الكافر إذا فاق المؤمن في الأخذ بقانون الفطرة، كأن يكون أمهر منه في العمل، أو أكثر منه جدية فيه، أو أفضل منه أخذا بالأسباب، فإنه ينال مكافأته على تلك "العبادة" بأحسن مما يناله المؤمن2؛ لأنه أخذ بالسنن الإلهية التي يسير الكون بموجبها. لكن هذه المكافأة لا تعدو أن تكون في حقيقتها متاع الغرور؛ لأن غير المؤمنين ينسبون آثار الأعمال للأسباب الظاهرة، بينما المؤمن ينحي الأسباب الظاهرة، ويرد كل شيء إلى الله. إن المؤمن الذي يأخذ بالأسباب، بكل الدقة والمهارة المطلوبة للعمل، وهو في نفس الوقت يراقب الله في العمل، أو يحس بأن الله يراه، هذا المؤمن له متاع الحياة الدنيا خيرا، ونصرا، وقوة، وتمكينا في الأرض، وقيادة لها، وله في الآخرة جنات   1 محمد قطب: منهج الفن الإسلامي، بيروت دار الشروق، 1403هـ-1983م، ص67. 2 أبو الأعلى المودودي: مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، جدة، 1405هـ-1985م، ص7-14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وعيون، ومقام عند الله كريم: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15، 16] . إن قصر مفهوم العبادة على الشعائر التعبدية من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، تؤدى في لحظات قصيرة لا أثر لها في صفحة النفس ولا في صفحة الكون، هذا المفهوم الذي دلف إلى حياة المسلمين في القرون الأخيرة هو الذي أدى إلى حياة الذل والهوان، والتخلف الذي تعاني منه الأمة الآن. إن نسيان تعاليم القرآن التي تقرر بجلاء -كما يقول الشيخ محمد الغزالي- أن الأرض مخلوقة للناس، وأن التمكين فيها جزء من رسالة الحياة الأولى والأخرى ... إن هذا هو الذي أغرى الكثيرين من أبناء الأمة بالتمسك بأحاديث ضعيفة في سندها ومتنها تغري بالتجرد والفقر. إننا الآن -بالمقارنة بشعوب العالم- شعوب مستهلكة لا منتجة، تأخذ أكثر مما تعطي، ويستحيل أن تنجح رسالة كبرى يوم يكون حملتها في هذا المستوى، إن امتلاك الحياة الدنيا عن علم وقدرة وخبرة هو السبيل الأوحد لنصرة المبادئ والمذاهب. إن العالم عندما يرانا نتسول أرزاقنا من غرس أعدائنا الذين يصنعون لنا الطعام والكساء والدواء والسلاح، فلن يسمع منا، ولن يرتضينا له قادة، فلا يجوز أن يكون الإمام أجهل من المأموم. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] . فالاستخلاف في الأرض، والتمكين، والأمن، والقيادة، والريادة، والنصر.. كل هذا مرهون بالعبادة الحقيقة لله، وحيث إننا أعرضنا عن العبادة الحقيقية، فلماذا ننتظر الاستخلاف، والريادة، والقيادة، والنصر؟ هذا هو المحور الذي يجب أن يدور حوله، ويركز عليه منهج تربية الإنسان المعاصر.. وإلا فلن يكون إنسانا، ولن يكون أصيلا، ولن يكون معاصرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 مفهوم التربية : الإنسان عبد الله وسيد الكون، وهو خليفة الله في الأرض، فهو مستخلف من الله فيها للعبادة، ومقتضى العبادة أن يسهم الإنسان -بإيجابية وفاعلية- في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله، ولكي يقوم الإنسان بواجبات الخلافة على نحو رباني وإيجابي وواقعي، فلا بد من تربيته تربية إيمانية. والتربية هنا عملية متشعبة، ذات نظم وأساليب متكاملة، تنبع من التصور الإيماني لحقائق الألوهية والكون والإنسان والحياة، وتهدف إلى إعداد الإنسان للقيام بحق الخلافة عن الله في الأرض، عن طريق إيصاله إلى درجة كماله التي هيأه الله لها. وبالرجوع إلى الأصول اللغوية نجد أن لكلمة "التربية" أصولا لغوية ثلاثة: أ- ربا يربو، بمعنى: زاد ونما: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] . ب- ربا يربي، بمعنى: نشأ وترعرع. جـ- رب يرب، بمعنى: أصلحه وتولى أمره، وساسه وقام على رعايته. وقد اشتق بعض المفكرين المسلمين من هذه الأصول اللغوية تعريفا اصطلاحيا للتربية، قال الإمام البيضاوي في تفسيره "أنوار التنزيل وأسرار التأويل": الرب: في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثم وصف به تعالى للمبالغة. وفي كتاب "المفردات" للراغب للأصفهاني: "الرب: في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام". وقد استند الأستاذ الباني1 من هذه الأصول اللغوية، ومما قاله البيضاوي والأصفهاني، أن التربية تتكون من مجموعة من العناصر، أهمها ما يلي: 1- المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها. 2- تنمية مواهبه واستعداداته كلها، وهي كثيرة ومتنوعة. 3- إيصال كل مربي إلى درجة كماله الخاصة التي هيأه الله لها. 4- توجيه هذه الفطرة وهذه المواهب للعمل في الأرض والقيام بحق الخلافة فيها عن الله. 5- التدرج في هذه العملية، وهو ما يشير إليه البيضاوي بقوله: "شيئا فشيئا" والراغب الأصفهاني بقوله: "حالا فحالا..".   1 عبد الرحمن الباني: مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام، المكتب الإسلامي، بيروت، 1403هـ-1983م، 7-14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 من هذه العناصر يمكن استخلاص مجموعة من النتائج الأساسية في فهم عملية التربية أهمها ما يأتي: النتيجة الأولى: أن التربية عملية هادفة، فهي تهدف إلى تحقيق أغراض الإسلام ومقاصده في المتعلم، وفي مجتمعه. النتيجة الثانية: أن المربي الحق على الإطلاق هو الله الخالق، خالق الفطرة، وواهب المواهب، الذي سن سننا وقوانين لنموها، وتدرجها، وتفاعلها ... وشرع شرعا لتحقيق كمالها وصلاحها وسعادتها. النتيجة الثالثة: أن عمل المربي تال وتابع لخلق الله وإيجاده، كما أنه تابع لمنهج الله وشريعته1. النتيجة الرابعة: أن "التربية" هي حيثية إيماننا بالله، فنحن آمنا بالله معبودا لأننا آمنا به ربا، فنحن نوجه الحمد لصاحب النعمة قائلين: "الحمد لله" وحيثية ذلك أنه "رب العالمين". النتيجة الخامسة: أن التربية تقتضي خططا متدرجة، تسير فيها الأعمال التربوية، وفق منهج منظم صاعد، ينتقل مع الناشئ من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى أخرى، حتى يصل كل إلى درجة كماله الخاصة به. التربية علم، وفن، وصناعة: وإذا كانت التربية هي إيصال المربي إلى درجة الكمال التي هيأه الله لها، عن طريق مراعاة فطرته، وتنمية مواهبه، وقدراته وطاقاته -بطرق متدرجة، وتوجيهها للعمل في إعمار الحياة على عهد الله وشروطه، فإن ذلك كله يتم وفق وسائل وغايات العلم، والفن، والصناعة. فالتربية علم "إخبار" من حيث إنها إخبار عن الحقائق الكلية، والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، التي يتلقاها الإنسان، فيؤمن بها إيمان تسليم ويتكيف معها. وهي علم إخبار -أيضا- من حيث إنها معرفة بقوانين الله في الكون التي تم اكتشافها في الزمن الماضي. والتربية علم "إنشاء" من حيث إنها محاولة للكشف عن "الحقيقة"، ومعرفة للقوانين والسنن التي خلق الله الكون عليها، والتي يكتشفها الإنسان من آن لآخر، كلما ارتقى في سلم المعرفة، فالتربية هنا علم من علوم البحث، ومناهج البحث التي تعين الإنسان على الاكتشاف والاختراع والإبداع، ويدخل فيها "العلم" في العلوم الإنسانية، التي تكتسب فيها المعرفة عن طريق الملاحظة، والتفكير، وإدراك العلاقات،   1 عبد الرحمن النحلاوي: أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، دار الفكر العربي، بدون تاريخ، ص12-14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ويدخل فيها "العلم" في العلوم الطبيعية والكونية، الذي يهدف إلى الوصول إلى معرفة آيات الله وقوانينه بالملاحظة والتجربة والتطبيق من أجل إعمار الحياة وفق منهج الله. إذن فالعلم وسيلة من وسائل التربية، وإذا كان ذلك كذلك، فإن من السفاهة المزرية جعل العلم أو العقل مصدرا للمعرفة، فالمصدر هو الله، ومن الجهل القول بأن العلم قد انتصر على الطبيعة أو قهرها، فالعلم ما هو إلا الوصول إلى القانون الطبيعي الذي طبع الله الكون عليه، والطبيعة ما خلقها الله لتقهر، بل لتكون في خدمة الإنسان، والإنسان لا يستطيع أن يقهرها، ولكنه يستطيع أن يتلطف معها بالتعرف على قوانين الله فيها، واستثمار ذلك في عمارة الأرض، وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج الله، وهذه مهمة المناهج التربوية. والتربية "فن"، وعندما نتكلم عن التربية كفن، فإننا لسنا بإزاء مجرد الإخبار عن واقع، أو الكشف عن حقيقة، ولسنا بإزاء مجرد تحقيق أهداف عملية لسد حاجتنا الإنسانية، وإنما نحن أيضا أمام تحقيق أهداف تتصل بتحسين الحياة وترقيتها وتجميلها كما يقول الإمام الشاطبي، فالفن تعبير موح هادف عن تجارب إنسانية منبثقة عن التصور الإيمان للكون والإنسان والحياة، فهو ذو أثر يمتع أنفسنا ويغني حياتنا، ويزيح عنا آثار البلادة والرتابة التي تصيبنا نتيجة اتصالنا الدائم بقبضة الطين التي هي جزء من طبيعتنا. والتربية كفن، تهدف إلى الوصول بالمربي إلى درجة الإتقان أو الإحسان في الأداء، فقيمة كل إنسان بما يحسن، والوصول بالإنسان إلى درجة أن يكون محسنا، هو أعلى درجات الفن، وأرقى ما يهدف إليه العمل التربوي. والتربية "صناعة"، فقد عقد ابن خلدون فصلا في "مقدمته" بعنوان: "فصل في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع"، فالتربية عملية ذات قواعد وأصول، وهي تسير وفق منهج لتحقيق أهداف معينة، والتربية -بهذا المعنى- مهة أو صناعة تهدف إلى إقدار المتعلم على عمل معين، بحيث يتناوله بالتغيير والتعديل والتطوير والمعالجة ليصير على شكل معين. وبهذا المعنى تكلم ابن خلدون عن التعليم باعتباره صناعة أو مهنة ذات مهمة عملية لها أصولها وقواعدها المحكمة التي تتحقق بمراعاتها أهداف المجتمع الإنساني ومقاصده. بين التربية والتعليم: إذن "فالتربية" -كما سبق أن رأينا- هي عملية تهدف إلى إيصال المربي إلى درجة الكمال التي هيأه الله لها، فهي تشمل جميع جوانب النفس الإنسانية، أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 جميع جوانب الشخصية الإنسانية، وهي تستعين بوسائل منها "التعليم" فالتعليم وسيلة للتربية، ومدلوله أضيق من مدلولها؛ لأنه مرتبط بموضوع معين. و"التعليم" قد يهدف إلى تحصيل المعرفة، أو إلى التدريب على مهارة، أو إلى حفظ نص من النصوص الأدبية، أو قانون من القوانين الرياضية أو الطبيعية، و"التربية" تتخذ كل ذلك وسيلة لتربية المشاعر، وتنمية الإحساس بالذوق والجمال في الكون الذي صنعه الله، وتربية الضمير والوجدان، وتربية الإرادة الحرة الواعية، والقيم الإيمانية والقيم الخلقية النابعة منها، وأنماط السلوك التابعة لها. ومع ذلك "فإن كل عمل تعليمي جيد لا بد أن يكون له هدف تربوي.. أي: أن التعليم المثالي إنما هو تربية، ولكنه -في الاصطلاح- يظل مرتبطا "بموضوع ما"، في حين أن التربية تتناول النفس الإنسانية أو الشخصية الإنسانية كلها. إذن فالتربية والتعليم ليسا متعارضين ولا منفصلين، بل هما متآزران ومتكاملان، ويترتب على هذه العلاقة تطبيقات كثيرة في تخطيط المناهج وتطويرها، وفي إعداد الكتب وتصميم الوسائل، واختيار طرق ووسائل التدريس والتقويم، وممارسة العمل التربوي عموما مع الناشئين في البيت والمدرسة والمجتمع. الأصالة والمعاصرة في التربية: لا شك أن مفهوم الأصالة والمعاصرة يختلف من منظومة حضارية إلى منظومة حضارية أخرى، ففي المعاجم العربية نجد أن الأصالة في الرأي: جودته والأصالة في الأسلوب: ابتكاره، والأصالة في النسب: عراقته، وأصل الشيء: أساسه الذي يقوم عليه، ومنشؤه الذي ينبت منه، وأصول العلم: قواعده التي تبنى عليها أحكامه، وبناء على ذلك فالأصالة في التربية اعتمادها على القواعد والأسس الأصيلة التي تقوم عليها، والأرض التي تنبت فيها، وأصالة التربية تعني أن يجيء التفكير التربوي بجميع ألوانه وأنماطه متسقا مع التصور الإيماني لحقيقة الألوهية وحقيقة الكون، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة، فهذه هي القواعد التي تقيم نظم التربية وتهدي إلى مثلها، وطرائقها وأساليبها. أما المعاصرة في التربية، فهي تحقيق التربية لأهدافها في زمن معين وفق معطيات الزمان والمكان وحاجات الناس في ذلك الزمن، ومع استخدام ما توافر لها من الوسائل والأدوات في ذلك الزمن. وتتخذ النظم التربوية من هذا المفهوم للمعاصرة أحد الموقفين التاليين: فبعض النظم التربوية تجعل من "المعاصرة" معيارا أساسيا، فتتغير تغيرا كبيرا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقت لآخر وفقا لمعطيات الزمان والمكان وحاجات الناس، وقد يجرف هذا التغير ضمن ما يجرف بعض القواعد والأصول الأساسية في فلسفتها ... فهذه النظم تصنع فلسفتها، وتقوم بتغييرها. وهناك من النظم التربوية ما يتغير مع العصر انطلاقا من قواعده الأصيلة، وأسسه الثابتة، وذلك كالتربية الإسلامية التي تعمل على بناء الإنسان المسلم والمجتمع في كل زمن انطلاقا من قواعدها الربانية، مع استخدام كل ما هو مفيد ونافع من معطيات الإنسان والزمان والمكان، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "الحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحق الناس بها". والخلاصة، هي أن الأصالة في كل منظومة حضارية، هي أن يجيء العمل نابعا من الأصول الفلسفية والبنى التحتية لكل منها، والمعاصرة هي الأخذ بالوسائل والأساليب وطرائق التفكير والعمل التي تحقق أهداف التربية في كل منظومة، وفقا لمعطيات الزمان والمكان والإنسان. وإذا كانت التربية ثابتة فيما يتصل بأهدافها العامة كبناء الإنسان العابد لله، القادر على القيام بحق الخلافة في الأرض وفق منهج الله، وإذا كانت ثابتة أيضا فيما يتصل بمحتواها الخاص بالحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، فإنها متغيرة فيما يتصل بالخبرات والمعارف والمهارات الإنسانية المتطورة، حيث إنها تعد الإنسان الذي يعمر الحياة ويرقيها في كل زمان وفي كل مكان وفق ظروف الزمان والمكان ومعطيات الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 مفهوم الفلسفة وعلاقته بمناهج التربية : تعتمد مناهج التربية كلها تقريبا على نظريات تربوية، والنظريات التربوية تعتمد بدورها على فلسفات عامة، فما الفلسفة، وما النظرية، وما العلاقة بينهما، وهل يحتاج منهج التربية إلى فلسفة أو إلى نظرية؟ ما المقصود بالفلسفة؟ وما علاقة الفلسفة بمناهج التربية؟ لقد اعتدنا أن نقول للشخص الذي يقول كلاما كثيرا بلا معنى: لا داعي لهذه الفلسفة! وأن نرد على الإنسان الذي يقول كلاما غير مفهوم: هذه فلسفة لا فائدة من ورائها! فهل الفلسفة كلام بلا معنى، وحديث بلا فائدة؟ إن الحقيقة غير ذلك. إن الفلسفة تفسير شامل للوجود، يتعامل الإنسان على أساسه مع هذا الوجود، ويتكون هذا التفسير من خمس حقائق جوهرية هي: حقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة، وحقيقة العلاقات والارتباطات الوثيقة بين الحقائق الأربع السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 إنه بناء على فهم الإنسان لذلك التفسير الشامل للوجود "الفلسفة"، وعلى فهمه لحقيقة مركزه في الوجود الكوني، ولغاية وجوده الإنساني، يحدد منهج حياته، ونوع النظام الذي يحقق هذا المنهج، والفرق بينه وبين المناهج الأخرى. فالفلسفة في الحقيقة هي تصور للألوهية والكون والإنسان والحياة، وكل فلسفة وجدت منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومرورا بالفلسفات الإيمانية، والإسلام أبرز مثال لها، والفلسفات الإلحادية، والماركسية أبرز مثال لها، هي كلها تصورات للألوهية والكون والإنسان والحياة، وكل فلسفة منها تختلف عن الأخرى باختلاف رؤية أصحابها لأصل الكون، وطبيعة الإنسان، وغاية الحياة. فالفلسفة الإسلامية -مثلا- تستمد تصوراتها من القرآن والسنة. لذلك فهي تؤمن بأن الله واحد أحد، منه صدر كل شيء، وإليه يعود كل شيء، وأنه خلق الكون وجعله غيبا وشهودا، وخلق الإنسان لعبادته، وجعله خليفة في الأرض لإعمارها وترقية الحياة على ظهرها, وفق منهجه تعالى وشريعته, وخلق الحياة دنيا وآخرة، وجعلهما متكاملتين، لا بديلتين ولا نقيضتين. أما الفلسفات المادية كالماركسية -مثلا- فهي تؤمن بأنه لا إله موجود والحياة مادة، وتؤمن بالكون المشهود، وتنكر الكون المغيب، وترى أن الإنسان مخلوق من مخلوقات الطبيعة وحتمية من حتيمات المادة، وأن الحياة ميلاد وموت، لا شيء قبل ذلك ولا شيء بعد ذلك؛ فهي تنكر الحياة الآخرة! والفلسفة بهذا المعنى هي منهج ونظام للحياة، فهي توجه حياة الإنسان وحياة المجتمع في سلوكه وعلاقاته وارتباطاته، ونظمه ومؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الثقافية والفنية والأدبية والتربوية، والإعلامية والإعلانية.. إلخ. فهل بعد كل هذا يستطيع إنسان أو يستطيع مجتمع أن يعيش بلا فلسفة؟ الإجابة بالقطع: لا يستطيع. وهذه مهمة مناهج التربية، فمناهج العلوم الدينية بصفة خاصة، ومناهج العلوم الكونية بصفة عامة لا بد أن تتعاون في رسم التصور الفلسفي للإنسان والمجتمع، فعلوم الدين تزود الإنسان والمجتمع بالتصور العقيدي، والتصور الاجتماعي النابع منه، والعلوم الكونية تزود الفرد والمجتمع بالنظريات والمعلومات والمهارات, التي يقيمون على أساسها النظم والمؤسسات وحدود العلاقات والارتباطات. إن فلسفة المجتمع هي هويته الخاصة وشخصيته المتميزة، فإذا أغفلت مناهج التربية هذا الهدف فإن المجتمع يصبح قابلا للاستلاب الثقافي والانحراف عن استقامة فطرة الله فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فلو قامت مناهج العلوم الشرعية بدورها الكامل في ترسيخ عقيدة أن الله خلق الإنسان ليكون عبدا لله وسيدا للكون، وأن الكون مسخر لخدمة الإنسان، لو تعامل الإنسان معه وفق توجيهات الله، لما وجدنا ذلك الأديب الذي يتصور الكون كتابا مغلقا لا يستطيع الإنسان أن ينفذ إلى سطر واحد من سطوره، وغيبا مجهولا وظلاما دامسا لا يعرف الإنسان فيه من أين جاء، ولماذا جاء؟ ولا يدري أين يذهب، ولا يستشار في الذهاب! لبست ثوب العيش لم أستشر ... وحرت فيه بين شتى الفكر وسوف أنضوه برغمي ولم ... أدرك لماذا جئت أين المقر! ولو تعاونت نصوص الأدب والقراءة وعلوم النفس والفلسفة والاجتماع في رسم صورة الحياة الإنسانية بنظمها ومؤسساتها التي ينبغي أن يجاهد الإنسان في إعمارها وفق منهج الله، لما وجدنا ذلك الأديب الذي يصور الإنسان مجهول المصدر والمصير مسلوب الوعي والإرادة. جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت.. ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت.. وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت.. كيف جئت، كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!! ولو تعاونت مناهج العلوم الدينية مع مناهج العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية في ترسيخ قيم الإنسان على اعتبار أنه مخلوق لإعمار الأرض وترقية الحياة، وفي إبراز طبيعة الحياة وطبيعة العلاقات والارتباطات فيها بين الإنسان والكون، لاختلفت قيم الحياة في حس الأدباء والفنانين، واختلف اتجاههم الفني والأدبي، فلو علمنا كلا منهم مثلا أنه قطرة في نهر الحياة، ولكنها قطرة تحس بأهداف النهر من المضي والتدفق والإرواء والإحياء؛ لكان للحياة في نظرهم قيم أخرى، ولو رسخنا في شعر كل منهم أنه نفخة من روح الله تلبست جسده، ليكون خليفة الله في الأرض، ينشئ فيها ويبدع، لكان للحياة في نظره قيم أخرى، ولما قال أحدهم: جايين الدنيا ما نعرف ليه ... ولا رايحين فين، ولا عايزين إيه مشاوير مرسومة لخطاوينا ... نمشيها في غربة ليالينا يوم تفرحنا، ويوم تجرحنا ... وإحنا ولا احنا عارفين ليه!!! من كل ما سبق يتبين لنا أن مفهوم الفلسفة ما زال يحمل طابعا فرديا، وأن مذاهبها ما تزال مجرد إشارات تحمل وجهات نظر أصحابها إلى يومنا هذا1 وأن   1 توفيق الطويل: أسس الفلسفة، ط5، القاهرة، دار النهضة العربية، 1967م، ص38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 هناك علاقة وثيقة بين الفلسفات الاجتماعية العامة وبين فلسفات التربية، فمن ينظر في أسماء مدارس فلسفة التربية يجد أنها ذات المدارس الفكرية التي يتحدث عنها الفلاسفة "فهناك فلسفة مثالية عامة، وهناك فلسفة مثالية في التربية"1، وهناك فلسفة براجماتية عامة، وهناك فلسفة براجماتية في التربية.. وهكذا. مفهوم النظرية التربوية: النظرية التربوية هي مجموع المبادئ المترابطة التي توجه العملية التربوية وتحكم الممارسات التعليمية2. فوظيفة النظرية التربوية -كما يقول "بول هيرست"- هي التشخيص والعلاج، فهي تصف وتقرر ما ينبغي عمله مع الناشئة، وتوجه وترشد الممارسات التربوية. ومن هذا المنطق، فإن بول هيرست وغيره "من المربين الغربيين يدعون إلى إعطاء الفلسفة دورا رئيسيا في بناء النظرية التربوية؛ لأنها تمدهم بالقيم التي يريدون غرسها في الناشئة"3. اعتماد النظرية على الفلسفة: يوضح "مور" العلاقة بين الفلسفة والنظرية التربوية، فيشبه العملية التربوية بالبناء المكون من عدة طوابق، ففي الطابق الأول توجد مختلف الأنشطة والممارسات التعليمية، كالتدريس، والتدريب والتخطيط، وكل الممارسات التي يشترك فيها المدرسون والطلاب والإدارة المدرسية، وفي الطابق الثاني توجد النظرية التربوية التي يمكن اعتبارها مجموعة من المبادئ والإرشادات التي تهدف إلى توجيه وإرشاد الممارسات التعليمية الجارية في الطابق الأول. وفي الطابق الثالث أو الأعلى، توجد فلسفة التربية التي تعنى بكل ما يدور في الطابقين الموجودين أسفل منها، إنها تحلل المفاهيم مثل التربية، والتعليم، والخبرة، وتحدد المعاني التي تدخل في بناء النظرية في الطابق الثاني، وتوجه الممارسات التربوية في الطابق الأول4. إذن فكل مناهج التربية الغربية تعتمد على نظريات ترشدها وتوجه سلوكها، وكل نظرية تعتمد على فلسفة أو أكثر تستمد مبادئها ومفاهيمها منها. والتربية الإسلامية بمناهجها المتنوعة تعتمد على التصور الإسلامي لحقائق الألوهية والكون والإنسان والحياة، فهو يقوم منها مقام الفلسفة في المناهج الأخرى، ومقام النظرية. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] . هذا هو صراط الله، وهذا هو سبيله.. وليس وراءه إلا السبل التي تتفرق بمن يسلكونها عن سبيله.   1 عبد الرحمن صالح عبد الله: المنهاج الدراسي، أسسه وصلته بالنظرية التربوية الإسلامية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض 1405هـ-1985م، ص38. 2 ت، مور: النظرية التربوية، ترجمة محمد أحمد الصادق وعبد الرحمن عبد التواب شيحة، القاهرة، ط1، مكتبة النهضة المصرية، 1986، ص17. 3 عبد الرحمن صالح عبد الله، مرجع سابق، ص74. 4 ت، مور: مرجع سابق، ص22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 اللغة العربية ومناهج التربية : ما المقصود باللغة؟ وما العلاقة العربية ومناهج التربية؟ اللغة نظام صوتي رمزي دلالي، تستخدمه الجماعة في التفكير والتعبير والاتصال. لقد درجنا على سماع أن اللغة وسيلة للتعبير أو أن اللغة وعاء ثقافي.. إلخ. وهذه كلها تعبيرات غير دقيقة. فاللغة ليست مجرد وسيلة للتفكير والتعبير والاتصال، وإنما هي منهج ونظام للتفكير والتعبير والاتصال. وهي ليست مجرد شكل لموضوع، أو مجرد وعاء خارجي لفكرة، أو لعاطفة، أو لقيمة.. إنها علاقة دالة داخل الكلمة المفردة، أو بينها وبين غيرها من الكلمات بما يشكل نظاما ونسقا خاصا له قوانينه الداخلية الخاصة. وهذا هو السر في أن أهل كل لغة يهتمون بدرجات متفاوتة في تعليم الناشئة قواعد لغتهم أي: نظامها الرمزي والصوتي والدلالي. واللغة سمة إنسانية لجنسنا البشري. فهي منهج ونظام، وهي خاصية إنسانية بدليل أنك لو أتيت بثلاثة أشخاص: مثقف عربي، ومثقف فرنسي، ومثقف إنجليزي، وقارنت بين طريقة كل منهم في التفكير والتعبير والاتصال لوجدت أنهم يمثلون مناهج ثلاثة في التفكير والتعبير والاتصال اللغوي حتى لو كان الثلاثة مسلمين أو غير مسلمين. وهذا هو السبب الحقيقي في حرصنا على الاهتمام بتطوير مناهج تعليم اللغة العربية، وتعليم كل المواد بها، وإعادة تعريب الطب والعلوم في المستوى العالي والجامعي، وهذا هو السر أيضا وراء إصرار بلاد الاستعمار القديم والحديث على فرض لغاتها في البلاد المستعمرة؛ لأن في ذلك فرضا غير مباشر لنظمها ومناهجها الثقافية والحضارية والاجتماعية، وتيسيرا للهيمنة على هذه المستعمرات من بعد. إذن فاللغة منهج للتفكير ونظام للتعبير والاتصال. إن اللغة لا تعبر فقط عن الأفكار، بل تشكل الأفكار، فالتفكير ليس إلا لغة صامتة، فاللغة تولد الفكر، والأفكار تولد مكسوة لا عارية. لذلك فنحن عندما نعلم أبناءنا منذ الصغر بلغة غير العربية فإننا بذلك ننقلهم رويدا رويدا وبالتدريج إلى منهج غير منهجنا وإلى عقيدة غير عقيدتنا وإلى تصور للكون والإنسان والحياة غير تصورنا ... إنا بذلك نجعلهم قابلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 للاستلاب الثقافي والحضاري، بل إننا نهيئهم للخروج على منهجنا ونظامنا الاجتماعي الذي جاءوا أصلا لحمايته وتطويره وترقيته. واللغة نظام دقيق يتطلب الكثير من المعارف والمهارات، فعملية الاتصال بين المتكلم والمستمع أو الكاتب والقارئ تمر بعدة خطوات في غاية الدقة، وهي على النحو التالي: فالمتكلم أو الكاتب لا بد أن تكون لديه فكرة يريد التعبير عنها؛ ثم يختار لها الرموز أي الكلمات المناسبة للتعبير عن الفكرة، ثم يضع هذه الكلمات في نظام معين للجمل والعبارات والفقرات، ثم ينطق المتكلم أو يكتب الكاتب الأفكار التي لديه مراعيا حسن الإلقاء أو قواعد الكتابة الصحيحة، ومراعيا أيضا في كل ما سبق نوع المستمع أو القارئ ومستواه العمري والثقافي، وعنئذ تنتقل الفكرة أو الرسالة إلى المستمع أو القارئ؛ فيتعرف المستمع على الرموز "الكلمات" المسموعة، ويتعرف القارئ على الرموز المكتوبة، ثم يترجمان الرموز إلى معان يظنان أنها المقصودة، ثم يقومان بفهم هذه المعاني وتحليلها وتفسيرها ونقدها وتقويمها. وعندئذ يمكن أن نقول: إن الفكرة قد وصلت من المتكلم إلى المستمع أو من الكاتب إلى القارئ. ومن الجدير بالقول هنا أن كل خطوة من خطوات عملية الاتصال السابقة تحتاج إلى تعليم وتدريب بطريقة مباشرة وغير مباشرة في الأسرة، ومن خلال المناهج المدرسية، فاختيار الكلمات للتعبير عن الأفكار -مثلا- من أدق المهارات التي يمكن أن يدرب عليها الأبناء بواسطة الآباء في المنزل، ويدرب المدرس تلاميذه عليها من خلال مناهج القراءة والأدب والتعبير وغيرها في المدرسة. وكل ما سبق يصدق على اللغة العربية وعلى غيرها من اللغات، لكن اللغة العربية لغة غنية ودقيقة إلى حد كبير، فقد استوعبت التراثين العربي والإسلامي، كما استوعبت ما نقل إليها من تراث الأمم والشعوب ذات الحضارات القديمة كالفارسية واليونانية والرومانية والمصرية.. إلخ، كما نقلت إلى البشرية في فترة ما أسس الحضارة وعوامل التقدم في العلوم الطبيعية والرياضيات والطب والفلك والموسيقى، وما تزال تنقل إلى العالم اليوم أصول العقيدة العالمية الشاملة ممثلة في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم. فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، وهذه حقائق يجب ترسيخها في عقول الناشئة، كما ينبغي أن تكون أهدافا ثابتة لعلوم اللغة والأدب والفنون خاصة، والعلوم الإنسانية والاجتماعية عامة. وهي لغة موسيقية شاعرة، فإذا تكلم ذو بيان، فإنك تطرب لسماعها، وتفهم بيانها، وترتاح لمعانيها وأصواتها، وهي بهذا الجرس والرنين منحت العربي التفوق في الأداء كلاما وكتابة، وغناء وشعرا على وزن وقافية، لذلك يجب التركيز في مناهج تعلمها على تدريب المتعلم على التذوق الأدبي والفني، وعلى الإحساس بالجمال في الأداء اللغوي، وعلى حسن الإلقاء. وهي لغة متميزة من الناحية الصوتية؛ فقد اشتملت على جميع الأصوات في اللغات السامية، وأصواتها تستغرق كل جهاز النطق عند الإنسان، ابتداء بما بين الشفتين في نطق حروف كالباء والميم والفاء، وانتهاء بجوف الناطق في حروف كالألف والواو والياء، لذلك فإن تدريب الأبناء على إخراج الحروف من مخارجها، ونطق الأصوات بطريقة سليمة يعتبر من أهم أهداف مناهج تعليم اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الخلاصة : في نهاية هذا الفصل -الأول- يفترض أن يكون القارئ قد أدرك مفهوم المنهج، وهو أنه نظام متكامل من الحقائق والمعايير والقيم الثابتة، والخبرات والمعارف والمهارات الإنسانية المتغيرة، التي تقدمها مؤسسة تربوية إلى المتعلمين فيها، بقصد إيصالهم إلى درجات كمالهم وتحقيق الأهداف المنشودة فيهم، وأن من أهم خواص منهج التربية أنه نظام متكامل، وأنه نابع من التصور الإسلامي للألوهية والكون والإنسان والحياة، وأنه يعتمد على الوحي كما يعتمد على الخبرة الإنسانية والعقل، وأنه إيجابي وواقعي، وأنه متكامل في مدخلاته وعملياته ومخرجاته، وأنه يهتم بتربية "الإنسان" وليس مجرد "المواطن". ولا بد أن يدرك القارئ أيضا الفوارق بين مفهوم "المنهج" ومفهوم "البرنامج"، فمفهوم "المنهج" يتبع المدرسة الإنسانية التي تؤكد على ضرورة أن يبدأ البناء المنهجي من الفلسفة والأسس النظرية التي تتحول إلى تطبيق عملي في صورة أهداف ومحتوى وطرائق وأساليب للتدريس والتقويم والتطوير. أما مفهوم "البرنامج" فهو يتسق مع المدرسة المادية السلوكية التي لا تهتم كثيرا بالفلسفات والنظريات وتبدأ البناء المنهجي بالجانب العملي ابتداء بالأهداف فالمحتوى ... إلخ. ولا بد أن يكون القارئ قد أدرك علاقة مناهج التربية -بما أنها تبدأ بالفلسفة والأسس النظرية- بالدين، باعتباره منهجا ونظاما للحياة، وبالعبادة، باعتبارها تستغرق النشاط الإنساني كله في الحياة، وبالفلسفة، باعتبارها تصورا شاملا كليا للألوهية والكون والإنسان والحياة، نابعا من "التصور العقيدي" و"التصور الاجتماعي" للفرد والجماعة. ولا بد أن يكون القارئ قد أدرك مفهوم التربية وعلاقتها بمناهج التربية، وأدرك أيضا الدور الهام والحيوي للغة العربية في العملية التربوية عموما، وفي عملية تصميم وتنفيذ وتقويم المناهج التربوية وتطويرها، باعتبار أن اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتعليم والتعلم، ولكن باعتبارها منهجا متكاملا للتفكير والتعبير والاتصال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الفصل الثاني: أسس مناهج التربية مدخل ... الفصل الثاني: أسس المناهج و طبيعة المعرفة يتفق علماء المناهج في معظم بقاع الأرض على أن للمناهج التربوية أسسا ثلاثة يقوم عليها بناؤها وهي: طبيعة المعرفة. The Nature of Knowledge طبيعة الإنسان. The Nature of Man طبيعة المجتمع. The Nature of Society وسوف نقصر هذا الفصل على عرض الأساس الأول، وهو طبيعة المعرفة في التصورات الفلسفية المختلفة. والحديث عن طبيعة المعرفة يعني الإجابة عن الأسئلة الثلاثة التالية: 1- ما مصادر المعرفة؟ 2- كيف يعرف الإنسان؟ أو ما كيفية المعرفة؟ 3- ما مهمة المعرفة للحياة والمجتمع؟ الإجابة عن السؤال الأول: ما مصادر المعرفة؟ تعني ضرورة التعرض للرؤى الفلسفية المختلفة للألوهية والكون: فالرؤية التي تؤمن بالله الواحد الخالق لكل شيء، تجعل الوحي هو المصدر الأول للمعرفة، وتجعل الكون مصدرا ثانيا للمعرفة، والإسلام خير شاهد على هذا التصور. وهناك من الرؤى من يؤمن بوجود الله، لكنه يعزله في ملكوت السماء، ولا يجعل له -سبحانه- دخلا في تصريف ملكوت الأرض. وهنا يصير الوحي مجرد مصدر من مصادر المعرفة التي تتم بإرادة الإنسان وحده، دون دخل لإرادة الله، وتجعل المصدر الرئيسي للمعرفة هو الكون، والعلمانية مثال صادق لهذه الرؤى. وهناك من الرؤى من لا يؤمن بوجود الله أصلا، ويرى أن الحياة مادة، ويرى أن الكون هو فقط هذا الكون المشهود بمفرداته المرئية المحسوسة! وينكر الكون المغيب ابتداء بالروح وانتهاء بمفردات الملأ الأعلى! وهذه الرؤى لا تؤمن إلا بمصدر واحد للمعرفة هو المادة في صورها المختلفة! والماركسية أبرز مثال على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 إذن، فالإجابة عن السؤال الأول: ما مصادر المعرفة؟ تقتضي تحديد تصورين مهمين في بناء التربية، هما على الترتيب في الأهمية والأولوية: - حقيقة الألوهية في التصورات الفلسفية المختلفة. - حقيقة الكون في التصورات الفلسفية المختلفة. وللإجابة عن السؤال الثاني: كيف يعرف الإنسان؟ أو كيف يحدث التعلم للإنسان؟ يقتضي هذا بيان حقيقة الإنسان في التصور الإسلامي وفي التصورات الأخرى، وبيان حقيقة فطرته، وطبيعة الإنسانية، وبيان حقيقة النفس في التصور الإسلامي وفي التصورات الأخرى، ثم بيان مطالب النمو وحاجاته، مع التركيز على طبيعة الإنسان الكبير وحاجاته ومطالبه, وأثر كل ذلك في مناهج التربية والتعليم. وعلى هذا فإن الإجابة عن هذا السؤال الثاني في طبيعة المعرفة: كيف يعرف الإنسان؟ أو كيف يحدث التعلم؟ تقتضي تحديد تصور آخر مهم في بناء منهج التربية ألا وهو: - حقيقة الإنسان، من حيث مصدره، ومركزه في الكون، ووظيفته في الحياة، وغايته. وللإجابة عن السؤال الثالث: ما مهمة العلم والمعرفة لكل من الإنسان والمجتمع والحياة؟ يقتضي الأمر بيان طبيعة المجتمع في التصور الإسلامي، وفي التصورات الأخرى، وبيان أهم المعايير التي تحكم سلوكيات الأفراد فيه، وتحكم نوعيات الروابط والصلات والنظم الاجتماعية والمؤسسات، وتوجهها إلى غاياتها المنشودة، ومثلها المرجوة، كما يقتضي هذا بيان نوعية الموجهات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية، والأدبية، والتربوية، والإعلامية.. إلخ. وبيان العلاقة بين العلم والمعرفة، وأهيمتهما في بناء المجتمع، وبيان العلاقة بين الثبات والتغير، وبين التربية والتغير الاجتماعي، والتقدم الحضاري.. إلخ. وهكذا نكون قد وصلنا إلى الأساس الثالث والأخير من أسس بناء منهج التربية للكبار والصغار على السواء، وهذا الأساس هو: - حقيقة الحياة والمجتمع من حيث: العقيدة والموجهات، والروابط والصلات، والنظم والمؤسسات، والعلم والمعرفة ودورهما الفاعل في كل ذلك. هذه الأسس الثلاثة السابقة تمثل التصور المعرفي والتصور الاعتقادي الفلسفي للإنسان والمجتمع والحياة، فهي تمثل التفسير الشامل للوجود الذي يتعامل الإنسان على أساسه مع هذا الوجود، وبما أن المنهج نظام تربوي اجتماعي، فإن المناهج التربوية تختلف باختلاف النظم الاجتماعية وتصوراتها الاعتقادية والفلسفية للألوهية، والكون والإنسان والحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وعلى هذا، فإن الممارسة المنهجية التي تتمثل في أهداف المنهج ومحتواه، وطرائق وأساليب تدريسه، وطرائق وأساليب تقويمه وتطويره، تختلف هي أيضا باختلاف حقائق التصور الفلسفي الاعتقادي السابقة، التي تمثل أسس المنهج والتي تختلف من مجتمع إلى آخر. من العرض السابق لطبيعة المعرفة، يتضح لنا أن للمنهج -وفقا لطبيعة التصورات الفلسفية والاعتقادية المختلفة- أسسا ثلاثة هي: - طبيعة المعرفة، ونتحدث فيها عن مصادر المعرفة: الوحي والكون، وعن التصورات المختلفة في ذلك، وعن علاقة كل ذلك بمواد المناهج المدرسية. - الطبيعة الإنسانية، وطبيعة الإنسان الذي نود بناءه من خلال المناهج المدرسية، ونموه وحاجاته. - طبيعة الحياة والمجتمع بمعاييره ونظمه ومؤسساته، وعلاقة كل ذلك بالأساسين السابقين، وبالمناهج المدرسية. "انظر الشكل رقم1". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 طبيعة المعرفة : شكل رقم "1" أسس المناهج وتطبيقاتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 مصادر المعرفة مدخل ... مصادر المعرفة: الألوهية والوحي: الوحي هو المصدر الأول للمعرفة، وتختلف المناهج التربوية باختلاف تصورها للألوهية والوحي، فحقيقة الألوهية حقيقة إيجابية فاعلة في الكون والإنسان، "فالتصور الإسلامي" يبدأ من الحقيقة الإلهية التي يصدر عنها الوجود كله، ثم يسير مع هذا الوجود في كل صوره وأشكاله وكائناته وموجوداته، ويعنى عناية خاصة بالإنسان -خليفة الله في الأرض- فيعطيه مساحة واسعة من الصورة، ثم يعود بالوجود كله مرة أخرى إلى الحقيقة الإلهية التي صدر عنها وإليها يعود. والتصور الإسلامي "في هذه الجولة الواسعة من الله وإليه، يشمل كل دقائق الكون، لا يغادر منها شيئا يقع في محيطه، سواء منها ما تدركه الحواس وما لا تدركه، وما تدركه الروح فيما وراء الوعي. ويشمل كل نشاط الإنسان وكل طاقاته. سواء نشاطه المادي ونشاطه الروحي، وسواء حياته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وسواء عمله في الحياة الدنيا وفيما وراء هذه الحياة"1. أما الحقيقة الإلهية في الفكر الأفلاطوني والأرسطي فأمرها غريب، فإله أفلاطون وإله أرسطو لا عمل لهما ولا إرادة، وإذا كان أرسطو يرى أن من كمال إلهه ألا يشعر إلا بذاته، وألا يفكر إلا في ذاته، فإن أفلاطون يزعم أن من كمال إلهه ألا يشعر حتى بذاته، لأنه يتنزه عن ذلك الشعور! وقد أثر هذا اللون من الفلسفة فيما يتصل بحقيقة الألوهية على المدارس الفكرية والتربوية التي أتت بعد أفلاطون وأرسطو. فتوماس الإكويني المتأثر بأرسطو، وهو أحد أبرز المؤسسين للفلسفة الواقعية المدرسية، قد شارك في إقامة هذه الفلسفة على الاعتراف بكل من الطبيعة، والقوة الخارقة للطبيعة ممثلة في الإله الذي خلق الوجود، فهذه الفلسفة ذات طبيعة ثنائية بين الإله والطبيعة. فلكل منهما صفات خاصة به, لا تنسب إلى الآخر, فالزمان والمكان والتغير والنمو من خصائص الحوادث الطبيعية، في حين أن الأزلية، وعدم التغير، وعدم التقيد بالزمان والمكان من خصائص الإله2. فإذا كانت وظيفته مناهج التربية -في التصور الإسلامي للحقيقة الإلهية- هي أن تغرس في المتعلم الإيمان بالله -ذاتا وصفات- والإيمان بمنهج الله للكون والإنسان والحياة، وأن توصل هذا المتعلم إلى درجة كماله التي تمكنه من الإسهام في تنفيذ منهج الله في الحياة -إذا كان ذلك كذلك في التصور الإسلامي، فإن سلبية الإله في التصور الأفلاطوني الأرسطي، والازدواجية بين الإله والطبيعة لدى تلاميذ   1 محمد قطب: منهج الفن الإسلامي، بيروت، دار الشروق، 1403هـ-1983م، ص16. 2 علي أحمد مدكور: نظرية المناهج العامة، عمان، دار الفرقان، 1991، ص333-335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 المدرسة الواقعية المدرسية، بالإضافة إلى عوامل أخرى- كان كل ذلك هو الخطوة الأولى نحو فصل حقيقة الحياة عن الحقيقة الإلهية. وفصل الدين عن الحياة، وظهور النظام "العلماني" الغربي، هذا النظام الذي يقوم على أساس فصل الدين عن الحياة، وأن لله ملكوت السماء، وللإنسان ملكوت الأرض، وأن ما لقيصر لقيصر وما لله لله! وعلى ذلك الأساس قامت معظم الدراسات النفسية ودراسات الأصول التربوية في الغرب، وجاءت النظرية الموسوعية غير بعيدة عن هذا التصور لحقيقة الألوهية، فالحقيقة الإلهية هي إحدى مكونات الكون، مع الطبيعة والإنسان، وأصبح من مهام التربية الأساسية في النظرية البراجماتية، تكييف المتعلم مع البيئة، والطبيعة من حوله، لا على أساس أنهما من خلق الله، بل على أساس أن الطبيعة خالقة، ومن مهام التربية أن يفهم المتعلم القوانين التي تحكم العالم المادي من حوله، لا على أساس أن هذه القوانين -نواميس وسننا- خلق الله الكون عليها، وإنما على أساس أن الطبيعة هي صانعة قوانينها، فإدراك الحقائق والقوانين العلمية للطبيعة هو وسيلة للمعرفة الجوهرية الكاملة، وبذلك أغفلت تماما برامج ومناهج التربية الدينية. ولقد كانت هذه الحلقة قبل الأخيرة، حيث جاءت الحلقة الأخيرة على يد أنصار النظرية التطبيقية الماركسية، التي وضعت النهاية المتوقعة لهذا التطور الأخرق، فآمنت بأنه "لا إله موجود والحياة مادة"! فتطور المادة، وحتمية التاريخ، وحتمية الاقتصاد، كل هذه الحتميات هي التي تصنع كل شيء، وتخلق كل شيء: الكون، والإنسان والحياة. وجاءت النظرية التربوية لتكريس هذا الفكر النظري الذي يتصادم مع طبيعة الفطرة الإنسانية، والحياة الإنسانية، والرقي الإنساني. وجاءت النتيجة في صورة أجيال من أكثر خلق الله بؤسا وضياعا على وجه الأرض. والخلاصة، أن الهاربين من الكنيسة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان كل همهم إنكار "الله"! ولكن "المثاليين" منهم اختاروا "العقل" ليعطوه كل خصائص الله وصفاته! و"الماديين" منهم اختاروا "الطبيعة" ليعطوها هذه الخصائص والصفات؛ لأنه لم يكن لهؤلاء وهؤلاء مفر من افتراض شيء فوق طاقة البشرية يكلون إليه تفسير هذا الوجود وما يجري فيه. لكنهم في كل الأحوال كانوا يريدون إنكار الله! لقد تقلب العالم، وتغير تصوره لهذه الحقيقة -حقيقة الألوهية- أما في التصور الإسلامي فقد بقيت هي الحقيقة الأولى والكبرى، والأساسية والفاعلة؛ لأن الحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 -سبحانه- قد قال فيها ما لا يملك أحد أن يقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] . هذه هي قاعدة التصور الإسلامي الأساسية، فالتصور الإسلامي "يفصل فصلا تاما بين طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية، فهما لا تتماثلان ولا تتداخلان، كذلك يبين التصور الإسلامي بيانا حاسما: من هو "الله" صاحب الألوهية ومن هم "العبيد" الذين تتمثل فيهم العبودية"1. فعن مشيئة الله الواحد -سبحانه- صدرت كل الخلائق، وبقدر الله تقوم وتتحرك، لا شريك له في هذه الألوهية، لا في حقيقتها ولا في خصائصها، ولا في سلطانها. "إن المنهج القرآني يجلي هذه الحقيقة بآثارها الفاعلة في هذا الوجود. في الخلق والتدبير، في تصريف هذا الكون وما فيه ومن فيه، في تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، في إيلاج النهار في الليل، وإيلاج الليل في النهار، في إرسال الرياح لواقح، وإنزال الماء من السماء، في انبثاق الحياة من الموت، وانبثاق الصبح من الظلام، في إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، في بدء الخلق وإعادته، في القبض والبسط، في البعث والنشور، في النعمة والنقمة، في الجزاء والحساب، في النعيم والحساب، في كل حركة وكل انبثاقة، وكل تغير وكل تحور في عالم الغيب أو في عالم الشهادة، في هذا الوجود الكبير"2. جوهر العقيدة التوحيد: عقيدة الإسلام تشمل الإيمان بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وكل ركن من هذه الأركان وثيق الصلة بسائر الأركان، فهي تكون كلا واحدا متكاملا، لكن سائر الأركان مرتبط بالركن الأول ارتباط صدور، وارتباط غاية. فكل شيء صادر من الله، وكل شيء عائد إليه. والتوحيد هو جوهر دين الله للبشر، من آدم -عليه السلام- إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .   1 سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، ص81. 2 المرجع السابق: ص43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 والتوحيد ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الذات والصفات. أما توحيد الربوبية، أو ما يسمى بتوحيد الله بأفعاله كالخلق والرزق والإحياء.. والإماتة.. والإيمان بوجوده ذاتا وصفات، فهذا الإيمان فطرة مستكنة في خلق الله للإنسان، وعهد مقطوع على بني البشر منذ خلهم الله، وهم بعد في ظهر الغيب: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . أما توحيد الألوهية، فيسمى توحيد الله بأفعال العباد، وهذه الوحدانية هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي كله، وينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها، بنظمها السياسة والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية، فمن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة، فلا يكون الإنسان عبدا إلا لله، ولا يتجه بالعبادة إلا لله، ولا يلتزم إلا بطاعة الله، وعند هذا التصور تنشأ قاعدة الحاكمية لله وحده، فيكون الله وحده هو المشرع للعباد، بحيث تجيء التشريعات البشرية من شريعة الله.. وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم الخلقية، والعلمية والمعرفية كلها من ميزان الله.. وبذلك فلا شرعية لنظام أو لقانون أو لتغير سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو تربوي يخالف منهج الله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] . وعلى هذا فالذين يقولون إنهم يؤمنون بالله، ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية، حين يتحاكمون إلى شريعة من صنع غيره، وحين يطيعون من لا يتبع رسوله وكتابه، وحين يتلقون التصورات والقيم والموازين والأخلاق والآداب من غيره.. هذه الأمور كلها تناقض القول بأنهم يؤمنون بالله، ولا تستقيم مع شهادة الله -سبحانه- بأنه لا إله إلا هو، ولا تستقيم مع صفة الإسلام ووظيفتها وهي أنها أمة "وسط" شاهدة على الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الوحي مصدر المعرفة : إن الوحي الذي نزل على رسول الله وفي كتبه هو المصدر الأساسي الثابت للمعرفة.. والإيمان بكتب الله المنزلة على رسله جزء من الإيمان بعقيدة التوحيد: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23] . إن كتاب الله هو كل ما نزل على رسله، وقرر وحدة ألوهيته ووحدة قوامته، فهو كتاب واحد في حقيقته، أوتي اليهود نصيبا منه وهو التوراة، وأوتي النصارى نصيبا منه وهو الإنجيل، وأوتي المسلمون الكتاب كله، وهو القرآن، باعتبار القرآن جامعا لأصول الدين كله، ومصدقا لما بين يديه من الكتاب: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] . {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [ص: 87] . لقد خلق الله البشر، وهو أعلم باحتياجاتهم، فتكفل برزقهم: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] . وتكفل بتعليمهم وتربيتهم؛ فأودع فيهم قوى الإدراك الظاهرة والباطنة: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . وتكفل بهدايتهم، فأرسل إليهم الأنبياء والرسل لإقامتهم على أمر الله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو صاحب الرسالة الخاتمة التي بها تمام الدين وتمام النعمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] . ويقول -صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين" , رواه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 الوحي والمنهج وحرية الإرادة: إن منهج التربية يجب أن يركز في أذهان المتعلمين أن حريتهم إنما تكون في عبادة الله وحده. وإن الحرية الإنسانية إنما تقوم على قاعدتين أساسيتين: القاعدة الأولى: هي إفراد الله بالعبودية. القاعدة الثانية: هي اصطفاء الله للإنسان بحرية الاختيار وحرية الإرادة، والمسئولية في تطبيق منهج الله في الأرض. إن المؤمن الذي يشهد أن لا إله إلا لله، وأن محمدا رسول الله، اعتقادا في الضمير، وسلوكا في الواقع، هو الذي يفرد الله بالعبودية، ومن ثم يفرده بالحاكمية، إن هذا المؤمن هو الشخص الوحيد الحر؛ لأنه لا يعبد طواغيت الأرض، ولا يرجو منها شيئا، ولا يخافها، وكلما استغرق الإنسان في عبوديته وحده، كان أكثر حرية، وأكثر أمنا واطمئنانا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] . والإنسان في عبوديته لله على ثلاث مراتب: المرتبة الأولى هي مرتبة عبودية الإنسان لله خضوعا لقانون الفطرة، وانقيادا لعهد الله وميثاقه الذي أخذه على بني آدم وهم بعد في ظهر الغيب السحيق حين سألهم: ألست بربكم؟ فاعترفوا له بالربوبية وأقروا بالوحدانية. إن المشهد الفريد لتلك الحقيقة الهائلة العميقة، المستكنة في أعماق الفطرة الإنسانية وفي أعماق الوجود، تصوره الآية الكريمة: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . إن هذه الرتبة من العبودية قد لا يختلف فيها الإنسان عن الحيوان الذي لا يعقل، والشجر الذي يتحرك، والملائكة الذين يفعلون ما يؤمرون، والإنسان على هذه الدرجة من العبودية لله لا يمتاز عن غيره من المخلوقات، وهذه هي درجة العبودية غير الإرادية لله أو عبودية الفطرة. المرتبة الثانية من عبودية الإنسان لله، هي تلك التي يستخدم الإنسان فيها ما منحه الله من قوى الإدراك الظاهرة والباطنة في معرفة الله وعبادته، فالإنسان حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 يستخدم عقله وقلبه وسمعه وبصره وعلمه في تدبر آيات الله ومنهجه المنزل في كتابه وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الكون المفتوح، وحين يصل من كل ذلك إلى معنى العبودية الحقة لله، فإنه يكون قد تحول من عبودية الفطرة غير الإرادية لله إلى العبودية المقصودة، القائمة على العلم، وحرية الإرادة والاختيار التي خص الله بها الإنسان دون غيره من المخلوقات. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] . {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] . {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . المرتبة الثالثة: وهي تلك التي يستخدم فيها الإنسان قواه المدركة الواعية وعلمه وحريته في الاختيار، وكل قواه ومواهبه في عبادة غير الله! فالإنسان في هذه الدرجة لا يفقد فقط شرف التفوق على سائر المخلوقات، بل ويصبح أحط مكانة وأسوأ شأنا من الحيوانات: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] . {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 123-126] . نعم، هؤلاء أحط من الدرجة الحيوانية؛ لأن الحيوان لم يكن ضالا، في حين أن هؤلاء ضلوا وغووا، ولم يكن الحيوان منكرا جاحدا، بينما هؤلاء أنكروا وجحدوا، ولم يكن الحيوان كافرا ومشركا في حين أن هؤلاء كفروا وأشركوا. ومن هذا نصل إلى أن الدرجة الثانية هي أسمى وأعمق درجات العبودية لله؛ لأنها عبودية قائمة على العلم والمعرفة بالله وعلى الاختيار الحر والإرادة الواعية، إن حرية الاختيار والتصرف، والإرادة الطليقة هما أسمى ما منحه الله للإنسان، وحين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 تقوم عبادة الإنسان لله على أساس من حرية الاختيار والإرادة الواعية، فإن هذه هي أسمى وأعمق درجات إفراد الله بالعبودية، كما أنها أسمى وأعمق درجات الحرية والإنسانية. هنا نصل إلى القاعدة الثانية التي تقوم عليها حرية الإنسان المسلم وهي: المسئولية، فالإنسان الذي اصطفاه ربه -دون سائر مخلوقاته- بالحرية، والإرادة الطليقة والقدرة على الاختيار، ذلك الإنسان هو المخلوق الوحيد الخليق بأن تناط به مسئولية فهم منهج الله وتنفيذه في واقع الأرض، فالحر هو الوحيد الذي يمكن أن يكون مسئولا، والحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة، واصطفاه الله للإنسان كي تناط به مسئولية حمل أمانة فهم وتنفيذ منهجه في الأرض، هو منتهى التكريم للإنسان: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] . إن السموات والأرض والجبال وما بينهما من خلائق، تعرف ربها بلا محاولة، وتهتدي إلى سنته وناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها، وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبير ولا واسطة، وتؤدي وظيفتها غير شاعرة ولا مختارة، فالشمس تدور في فلكها بطريقة لا تختل جزاء من ثانية، وتؤدي وظيفتها ودورها الكوني -كما قدر لها- أداء كاملا، والأرض تدور دورتها، تخرج زرعها وتفجر ينابيعها، وتجري المياه في بحارها وأنهارها وفق سنة الله بلا إرادة منها، وكذلك القمر والنجوم والكواكب والجبال والوهاد.. كلها تمضي لشأنها بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة. لقد أشفقت هذه الخلائق من أمانة التبعة، وأمانة الإرادة، أمانة المعرفة الذاتية والمحاولة الخاصة، وهناك من يقول: إن المقصود بالأمانة هنا هي فهم منهج الله وتنفيذه في واقع الأرض، ولا أرى تعارضا بين التفسيرين، حيث إن معرفة الإنسان لربه بإدراكه وشعوره، والاهتداء إلى ناموسه وسنته بالتدبر والتبصر. كل هذا يقتضي العمل وفق هذا الناموس في عمارة الأرض، أي: إن المعرفة الإنسانية، والتربية والتعليم والتعلم من تصميم وتنفيذ المناهج المختلفة، كل هذا يهدف إلى الوصول إلى غاية كبرى، هي فهم منهج الله وتنفيذ مقتضياته في واقع الأرض. لقد ظلم الإنسان نفسه حين حمل الأمانة وهو على ما هو عليه من الضعف، وضغط الشهوات والميول والنزعات، وقصور العلم، وقصر العمر، وحواجز الزمان والمكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 لكن الإنسان الذي يصل إلى معرفة الله بإدراكه وشعوره، ويهتدي إلى منهجه بتدبيره وتفكيره، ويعمل وفق هذا المنهج بفكره وجهده، ويقاوم انحرافاته ونزعاته، ويجاهد أهواءه وشهواته، حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة وهو مدرك واع مريد، فإنه يصل حقا إلى مقام كريم، ومكان بين خلق الله فريد1. إنها إذن -الإرادة الحرة، والإدراك الواعي والاختيار الطليق، والمحاولة المستمرة لفهم منهج الله وتطبيق مقتضياته في واقع الأرض، وحمل تبعة كل هذا ومسئوليته هذه -إذن- هي ميزة الإنسان الفريدة، على سائر خلق الله، فهي سر التكريم، ومناط التكليف: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] . {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53] . إن منهج التربية الذي يفوته تعميق هذه القضية في نفوس المتعلمين صغارا كانوا أم كبارا فإنه يكون قد فاته خير كثير.. بل فاته كل الخير. والخلاصة: أن هذا الأساس من أسس بناء المنهج لا بد أن ينعكس على المناهج التربوية على النحو التالي: 1- التأكيد على أن الوحي هو المصدر الأول للعلم والمعرفة في التصور الإسلامي، وأن هذا المصدر يتمثل في القرآن والسنة، وليس في المذاهب أو الفرق الإسلامية. 2- التأكيد على إيضاح حقيقة الألوهية في التصور الإسلامي والفوارق بينها وبين حقيقة العبودية، ومقتضيات ذلك من الإنسان. 3- التأكيد على مفهوم التوحيد، على أساس أنه جوهر العقيدة في التصور الإسلامي، وأن التوحيد قرين الحرية، وأن الشرك قرين الاستبداد والظلم. 4- التأكيد على أن الله أرسل بالإسلام رسلا لأقوام خاصة في طفولة البشرية، وأنه -سبحانه- ختم بالإسلام -الرسالة العالمية الشاملة- حينما بلغت الإنسانية مرحلة النضح والرشد.   1 سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، ص2884-2885. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 5- التأكيد على أن كتاب الله -كتاب الإسلام- واحد، أوتي اليهود نصيبا منه، وأوتي النصارى نصيبا منه، وجاء القرآن بالكتاب كله، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] . 6- بيان مفهوم "الدين" في التصور الإسلامي, والتأكيد على أنه منهج شامل، ونظام للحياة. 7- التأكيد على مفهوم "العبادة" وبيان أنها تشمل النشاط الإنساني كله، طالما توجه به الإنسان إلى الله. الكون هو المصدر الثاني للمعرفة. الكون آية الله الكبرى، ومعرض قدرته المعجزة المبهرة، أراده الله فكان، وقدره تقديرا محكما، وجعل كل شيء فيه خاضعا لإرادته وتدبيره. والكون -في التصور الإسلامي- غيب وشهود. وهو من خلق الله "عالم الغيب والشهادة" والكون المغيب كالروح، والملائكة، والجن.. إلخ، نحن نؤمن به إيمان تسليم بوجوده كما علمنا الله، ونتكيف بذلك، وواجب الباحثين والمعلمين والمتعلمين والمناهج التربوية كلها أن يتأدبوا بأدب القرآن، وأن يقفوا عند حد ما جاء به، ولا يتركوا العقل يسبح فيه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] . أما الكون المشهود فهو كل ما نحسه حولنا، كالشمس والقمر، والسماء والأرض، والبحار والأنهار، والشجر والدواب.. إلخ.. وقد عرض لها الإسلام على أنها دلائل قدرة الله، وعلائم صنعه الدقيق الحكيم، ولتكون نبراسا يهدي الناس إلى معرفة الله، وفهم منهج الله، والعيش وفقا له. وواجب مناهج التربية أن تتناول هذا الجانب من الكون بالدراسة والتفكير والتدبر، واكتشاف قوانين الله ونواميسه وسننه فيه، وأن تعلم الصغار والكبار كيف يتلطفون في التعامل مع هذا الكون المادي، ومع البيئة المادية من حولهم ويبعدون عنها التلوث والنفايات والإشعاعات، وبذلك يستثمرون خيراتها لخدمة أنفسهم ولخدمة البشر جميعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الكون هو المصدر الثاني للمعرفة : الكون آية الله الكبرى، ومعرض قدرته المعجزة المبهرة، أراده الله فكان، وقدره تقديرا محكما، وجعل كل شيء فيه خاضعا لإرادته وتدبيره. والكون -في التصور الإسلامي- غيب وشهود. وهو من خلق الله "عالم الغيب والشهادة" والكون المغيب كالروح، والملائكة، والجن.. إلخ، نحن نؤمن به إيمان تسليم بوجوده كما علمنا الله، ونتكيف بذلك، وواجب الباحثين والمعلمين والمتعلمين والمناهج التربوية كلها أن يتأدبوا بأدب القرآن، وأن يقفوا عند حد ما جاء به، ولا يتركوا العقل يسبح فيه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] . أما الكون المشهود فهو كل ما نحسه حولنا، كالشمس والقمر، والسماء والأرض، والبحار والأنهار، والشجر والدواب.. إلخ.. وقد عرض لها الإسلام على أنها دلائل قدرة الله، وعلائم صنعه الدقيق الحكيم، ولتكون نبراسا يهدي الناس إلى معرفة الله، وفهم منهج الله، والعيش وفقا له. وواجب مناهج التربية أن تتناول هذا الجانب من الكون بالدراسة والتفكير والتدبر، واكتشاف قوانين الله ونواميسه وسننه فيه، وأن تعلم الصغار والكبار كيف يتلطفون في التعامل مع هذا الكون المادي، ومع البيئة المادية من حولهم ويبعدون عنها التلوث والنفايات والإشعاعات، وبذلك يستثمرون خيراتها لخدمة أنفسهم ولخدمة البشر جميعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 حقيقة الكون لدى بعض التصورات الفلسفية: أما الكون المادي في نظر المثاليين فهو ممثل في العقل؛ فالعقل -الممثل بعقل الله- هو سبب وجود الكون، فالكون عملية عقلية عظيمة، فالله أوجد العقل الإنساني الذي أدرك الكون، فكان سببا في وجوده، وبما أن العقل الإنساني هو الذي أدرك الطبيعة أو الكون، فإنه يشارك في طبيعة العقل المطلق -عقل الإله- ويعد جزءا منه، أو صورة مصغرة له! ومهمة التربية أن تتيح الفرصة للعقل كي يدرك الأشياء، فكل شيء لا يكون موجودا إلا إذا أدرك بالعقل -فالأشياء ليس لها وجود في ذاتها- وإنما لا بد أن تدرك بالعقل كي تكون موجودة. وبناء على هذه النظرة فالتعلم ليس ابتكارا ولا إبداعا، ولكنه تحقيق الفكرة المطلقة بالنسبة للحقيقة والخير والمثل التي وضعت سلفا، وليست قيمة الأفكار مبنية على ما لها من أهمية في حياة المتعلمين أو ضرورة في إنجاز مشروعاتهم، أو في ترقية حياتهم، بل إن قيمة الأفكار في ذاتها، حيث إنها تصور الواقع الممثل للحقائق اللانهائية، ومن أجل ذلك فالأفكار جديرة بالتعلم، وهي تستحق أن يكون تعلمها هدفا في حد ذاته. ولقد أثر هذا اللون من الفكر على كل المدارس التي كونت الروافد الأساسية للنظريات التربوية التقليدية في الغرب، فأوجدت الازدواجية بين العقل والجسم في الطبيعة الإنسانية، وبما أن خاصية التفكير هي جوهر الطبيعة الإنسانية، فلقد كان الهدف الرئيسي للمنهج متمركز حول تربية العقل وتدريبه على التفكير الصحيح، من خلال الفلسفة والعلوم التي لا تتطلب الملاحظة والممارسة والتجريب والعمل الميداني. ولقد أدى التفريق بين العقل واعتباره صورة مصغرة للعقل المطلق "الإله" وبين الجسم، وتركيز التربية على العقل، أدى هذا إلى تكوين المجتمعات الطبقية، التي تسود فيها الطبقات الأرستقراطية؛ حيث خرجت المدرسة مجتمعا طبقيا مكونا من: طبقة التربية العقلية والفلسفية, وهي طبقة الحكام؛ وطبقة أخرى تعمل في الصناعة والتجارة؛ حيث يقل التركيز في تربيتها على العقل؛ ثم طبقة الجنود والعمال الذين تعلموا عن طريق العمل اليدوي والعمل الميداني والملاحظة والتجريب. وصنفت المدارس على هذا الأساس الطبقي. وفي بعض النظريات تم التحرك بعيدا عن العقل قليلا، واعتبر "الكون" كلا كبيرا مشتملا على جزئيات متناسقة، وأهم هذه الجزئيات: الطبيعة، والإنسان، والإله، بل لقد اعتبر الإنسان في أهم مرحلة من مراحل تطوره أحد مكونات الطبيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 هنا بدأت الفلسفة الواقعية الطبيعية تطفو على السطح إلى درجة أن صار الإنسان أحد مكونات الطبيعة، لكنه يمتلك طاقات وقدرات بشرية هائلة، ومهمة التربية تربية الطاقات والقدرات هذه منذ الصغر، حتى يستطيع الإنسان السيطرة على الطبيعة ويقترب من مرحلة الكمال الإلهي. وبالرغم من أن فكرة الكونية والطبيعة أتت في المقدمة في فكر كومينيوس وديكارت، وبيكون، وجون هس، وغيرهم، إلا أنهم لم يكونوا قد تخلصوا من الفكرة المثالية بعد؛ فالإنسان قد صنع في صورة إله، وإنسانية الإنسان قد بنيت على العقل، فلا سلطة سواه، ولا مقياس للحقيقة إلا بالمبادي والمعايير التي يضعها، وقد ألقى هذا على عاتق مناهج التربية تبعة تعليم الناس وتنمية مواهبهم الطبعية، كما ألقى على عاتق الناس تبعة الاستمرار في التربية للوصول إلى الكمال. ولقد انقلب مفهوم "الكون" رأسا على عقب في النظريتين: النفعية "البراجماتية" والتطبيقية "الماركسية"، فهاتان النظريتان تعتمدان على الفلسفتين: الطبعية والواقعية وأفكار دارون المتطورة عنها، وعلى الفلسفة التجريبية الميدانية. فالواقعية تتمسك بأن الكون هو هذه الأشياء الموجودة في هذا العالم المحسوس، وأن هذا العالم المحسوس هو عالم حقيقي في حد ذاته، وأن هذا العالم والأشياء الموجودة به لا يعتمد في وجوده على إدراك عقل الله أو عقل الإنسان، فالواقعيون الطبعيون يرفضون أي شيء وراء الطبيعة! والحياة الإنسانية بكل أبعادها الجسمية والعقلية والروحية والخلقية هي حدث طبيعي عادي، يمكن عزوه في كل أبعاده إلى العمليات العادية للطبيعة، فالطبيعة خالقة للإنسان والحياة، فهي مصدر الإنسان، ومصدر المعرفة، ومصدر الحياة. وعلى هذا فالتربية تعتمد على الخبرة والتجربة والملاحظة، والطبيعة هي مصدر مناهج التربية، فهي تحتوي على الصدق؛ فالصدق حقيقة يمكن ملاحظتها، وهذا الصدق يمكن الحصول عليه بواسطة الفحص العلمي للطبيعة. وقد أثر هذا الفكر على حركة التربية والمناهج في أمريكا، ثم انتقل إلى أوربا على يدي عدد من المفكرين من أمثال هيربارت سبنسر وشيلر وغيرهما، حتى إن الملاحظ الآن لحركة التربية والمناهج في أوربا يجد أنها أقرب إلى هذا المنظور منها إلى نظريتها التقليدية القديمة التي كانت تستحوذ على التفكير التربوي الأوربي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الكون في التصور الإسلامي: والآن نعود إلى صفاء التصور الإسلامي لحقيقة الكون. والكون في التصور الإسلامي هو آية الله الكبرى ومعرض قدرته المعجزة المبهرة، أراده الله فكان، وقدره تقديرا محكما، وجعل كل شيء فيه خاضعا لإرادته وتدبيره: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] . {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] . {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] . "إن الكون -كما يقرر المنهج القرآني- كون مخلوق حادث، وليس بالقديم الأزلي، كما أنه لم ينشأ من ذات نفسه، لقد خلقه الله -سبحانه- خلقا، وأنشأه إنشاء، بعد أن لم يكن، سواء في ذلك مادة بنائه الأساسية، أو الصورة التي ظهرت فيها، ولم يشارك الله -سبحانه- أحد في خلق هذا الكون، ولا في خلق شيء منه، سواء في ذلك مادته أو صورته. إن الله سبحانه هو الذي أعطى كل شيء خلقه، وأعطى كل شيء صورته، وأعطى كل شيء وظيفته"1. القرآن والحقائق العلمية: وإذا كان القرآن قد أشار إلى بعض الحقائق الكونية، فإن هذا ليس مبررا لأن نلتمس الموافقات بين النصوص القرآنية التي تشير إلى بعض الحقائق الكونية وبين النظريات والكشوف العلمية الحديثة؛ لأن هذا خطأ من الناحية الاعتقادية، ومن الناحية المنهجية العلمية أيضا، أما من الناحية الاعتقادية فالنصوص القرآنية صحيحة وصادقة بذاتها لا بشهادة من خارجها عليها، والمؤمن لا يجوز أن تدركه الهزيمة أمام علم البشر، فيستشهد به على صدقها وصحتها2. إن الحقائق القطعية المطلقة لا يملكها إلا الله -سبحانه- بحكم ألوهيته المهيمنة على الكون كله، أما "الحقائق العلمية" فهي -كما يقرر العلماء- مجرد احتمالات راجحة، لا قطعية الدلالة ولا مطلقة الدلالة، وطبيعة المنهج العلمي التجريبي لا تسمح بغير هذا، فالإنسان هو الذي يقوم بالتجربة، ومن ثم فهو لا يعتمد على نتائج إحصائية "بمعنى استقرائية"، وإنما يعتمد على نتائج قياسية، فهو يجري تجاربه على عدد محدود -مهما كثر- من المادة التي هي موضوع التجربة، ثم يقيس ما لم تتناوله تجاربه على ما تناولته هذه التجارب3.   1 سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، ص320. 2 انظر المرجع السابق، ص322-324. 3 المرجع السابق، ص329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الكون المادي: والكون في التصور الإسلامي قسمان: كون محسوس، وكون غير محسوس. شهادة وغيب، ولقد تناول الإسلام الكون المادي المنظور، وعرض لكثير من ظواهره، كالشمس، والقمر، والسماء، والأرض، والمطر، والنبات، والبحار، والأنهار، والجبال، والشجر، والدواب.. إلى آخره، وقد تكلم الإسلام عنها في بدء خلقها وتكلم عنها في عوارض وجودها، وتكلم عنها في بعض نهاياتها، وقد عرض لهذه النواهي لا ليعالج أمرها علاجا فنيا تحليليا، فيكون كتاب هيئة، وكتاب حيوان، ولكن عرض لها؛ لأنها دلائل قدرة الله -تبارك وتعالى- وعلائم صنعه الدقيق الحكيم، ولتكون نبراسا يهدي الناس لمعرفة الله1. وهذا الكون جميل المظاهر، جميل المشاعر، صديق للإنسان، وليس عدوا له كما يقول بعض العلماء الطبيعيين الذي يعدون كل كشف لقانون من قوانين الله في الكون، وكل تسخير لطاقة من طاقات الكون المذخورة فيه "انتصارا" على الطبيعة وقهرا لها! أو هكذا يعبر ورثة الوثنية الإغريقية والرومانية في أوربا وأمريكا! "ثم إنه كون صديق للحياة والأحياء.. إن الحياة لم تنشأ في الأرض فلته عابرة ليس بها من سند في نظام الكون! وإلا فكيف نشأت في كون معاد، والكون أكبر منها وأقوى.. وبخاصة أنهم يفترضون أن ليس وراء الكون ووراء الحياة إله، ولا إرادة إلهية أنشأت الكون وأنشأت الحياة؛ لأن نشأة الحياة في هذا الكون تكذب هذا الزعم، كما تكذب أن الكون عدو للحياة"2. وهذا ما تقرره النصوص الكثيرة والمتنوعة في القرآن الكريم: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2-4] . وهكذا نرى أن القرآن الكريم لم يتناول الكون المشهود من الناحية الفنية؛ لأن القرآن كتاب للتوجيه، يصل الإنسان بالله، ولو تعرض لهذه النواحي لما انتهى أمره. ومن ناحية أخرى يدرك القرآن ضرورة ترك الحرية للعقل الإنساني كي ينمو ويتقدم   1 حسن البنا: حديث الثلاثاء، القاهرة، مكتبة القرآن، سجلها وأعدها للنشر أحمد عيسى عاشور، بدون تاريخ، ص34-45. 2 المرجع السابق، ص343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 حتى يدرك مكونات الكون، ويدرك صورها بسبب تدرجه في قوته واكتماله. فكلما ارتقى العقل الإنساني اكتشف ناحية من نواحي الدقة، وجانبا من جوانب القدرة، التي يصعب أن تتجلى للإنسان في طور واحد من أطوار حياته. وواجب مناهج التربية والتعليم أن تتناول هذا الجانب من الكون بالدراسة والتفكر والتدبر واكتشاف قوانين الله فيه عن طريق الملاحظة والتجربة. كما أن هذا الجانب من الكون لا يمكن قهره -كما يقال- وإنما يمكن التلطف معه واستثمار خيراته لخير الناس جميعا. الكون المغيب: أما القسم الآخر من الكون، فهو الكون المغيب، أو غير المحسوس، وهو الذي يسمى "عالم الغيب"، فهو عالم لا يدخل في حدود الكون المادي، الذي يمكن أن ندرك مكوناته بالحواس، ومن هذا العالم الروح، والملائكة، والجن، والملأ الأعلى، والتخاطر عن بعد، وتأويل الأحلام.. إلخ1. وقد أنكر المثاليون والماديون عالم الغيب، فالذين ينكرون "الله" لا يؤمنون بالغيب ولا بالدار الآخرة! فهناك شيء اسمه الروح، وهو مكون من مكونات الإنسان، وهو من الله -تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] . ومن الكون غير المرئي الملائكة: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] . وهناك من عالم الغيب، الجن، وقد وصفوا بأنهم كانوا يسترقون السمع، وأن فيهم القدرة على تصريف الأمور أكثر من قدرة البشر: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] . ومن الجن صنف من الشياطين، وأنهم الذين يزينون للناس الأعمال الضارة والمعاصي المهلكة، وعلاقة الجن بإبليس قوية، فإنه كبيرهم، إنهم كانوا يعلمون الكتب المقدسة، وكانوا يوازنون بينها موازنة دقيقة: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} [الجن: 1-4] .   1 المرجع السابق، ص32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ومن الكون المغيب الملأ الأعلى، ومن عوالم الملأ الأعلى: سدرة المنتهى، والعرش، والكرسي، واللوح المحفوظ، والبيت المعمور.. وغيرها مما لا يعلمه إلا الله: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69] . "وأخيرا، فهو كون مسلم طائع لربه، مؤمن عابد لمولاه.. إنه كون ذو روح تعرف ربها الحق، فتستسلم له طائعة، وتسجد له خاشعة، وتسبح له عابدة، وتغار على جلاله، وتنتقض لمهابته، وتغضب للشرك به من بعض البشر الجهال"1. {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] . {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] . واجب المنهج: وهكذا تناول القرآن الكريم هذا الكون غير المرئي بإيجاز بليغ دون تعرض لحقائقه، وإن كان قد تعرض لبعض خواصه، فلم يذكر -مثلا- كيف خلق الله الملائكة، ولم يذكر شيئا عن أصل الروح، ولا عن هياكل الملأ الأعلى. وواجب الباحثين أن يتأدبوا بأدب القرآن، وأن يقفوا عند حد ما جاء به، ولا يتركوا العقل يسبح فيها: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] . إن القرآن لم يتناول هذا الجانب المغيب من الكون بالتفصيل؛ لأن القرآن جاء للفائدة، ولا فائدة تعود على البشر من الخوض في هذا العالم، وإننا نتخاطب بلغتنا، وبحسب ما نعرف، وما نفهم، واللغة عندنا لا تتناول إلا ما يقع في دائرة المتكلمين بها حسا ومعنى. فكيف تصور جوانب هذا العالم المغيب وتفصيلاته؟! إن الخوض في هذه النواحي لن يوصل إلى شيء سوى الفرقة والجدل. وعلى مناهج التربية والتعليم أن توطد كل صلات الوحدة وعلاقات الترابط بين الكبار وبين مفردات الكون والحياة من حولهم، فالله الواحد الأحد الفرد الصمد، خلق الكون والإنسان والحياة في انسجام كامل، فالكون صديق للإنسان إذا عرف نواميسه عن طريق التعلم والمعرفة، وفي عناصر الكون ما يناسب استمرار الحياة ما شاء الله لها أن تستمر إذا عرف الإنسان ذلك، وتعلم كيف يكيف بيئته لتناسب هذه   1 سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، ص348-349. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الحياة، فبين الكون والإنسان والحياة صداقة طبعية وانسجام أصيل، وليس عراك مستمر، وصراع مخيف1. والخلاصة مما سبق أن على مناهج التربية أن تأخذ في الاعتبار ما يلي: 1- التأكيد على أن الكون كتاب الله المفتوح، وأنه هو المصدر الثاني من مصادر العلم والمعرفة بعد الوحي. 2- التأكيد على أن الكون مخلوق حادث، وليس أزليا، وأنه لم ينشأ من ذات نفسه، بل أنشأه الله بعد أن لم يكن. 3- بيان أن الطبيعة مخلوقة لله، وأنه سبحانه نظمها، وخلق فيها قوانينها التي ينبغي أن يجد الإنسان في اكتشافها، ويستغلها في عمارة الأرض وترقية الحياة. 4- التأكيد على أن الكون غيب وشهود، وأن الإيمان بالغيب هو أول صفات المتقين، وأن مكان عالم الغيب يعلمه عالم الغيب وحده. 5- التأكيد على أن الإنسان يتعامل مع مفردات عالم الغيب كما أمر الله. ويتعامل مع مفردات عالم الشهادة بالدراسة والبحث واكتشاف قوانين الله فيها وتسخيرها لإعمار الحياة. 6- التأكيد على أن "النظريات العلمية" وما تعارف الناس على أنه "حقائق علمية" كلاهما ليس قطعي الدلالة، ولا مطلق الدلالة، بل هي احتمالات راجحة في أحسن الأحوال. 7- التأكيد على أن النصوص القرآنية قطعية الدلالة، ومطلقة الدلالة، ونهائية في تقرير الحقيقة التي تقررها، ومن ثم لا يجوز أن يستشهد على صدقها بالقوانين والنظريات العلمية المتصلة بالدراسات الكونية. 8- التأكيد على أن الكون مقدر ومسخر، ومخلوق بحكمة، ومخلوق لغاية، وأن كل شيء فيه محسوب بحساب دقيق ليؤدي وظيفته، ويحقق الغاية من خلقه. 9- التأكيد على أن عنصر الجمال مقصود قصدا في بناء الكون في ظواهره، وفي الحياة المبثوثة فيه، وأن إيقاظ حاسة الجمال في البشر مقصود قصدا في المنهج القرآني، وفي الثقافة الإسلامية، وفي مناهج التربية. 10- التأكيد على أن الكون بمفرداته المختلفة صديق للحياة والأحياء، وليس عدوا لها، فقد أعده خالقه لاستقبال الحياة وحضانتها وكفالتها.   1 انظر فصل: "حقيقة الكون" في كتاب "مقومات التصور الإسلامي"، والمرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 11- التأكيد على أن أقوات الأرض مقدرة فيها منذ خلقها الله، وأن فيها الكفاية، إذا تم استثمار ما فيها بالعلم والعدل وفق منهج الله. 12- التأكيد على أن الكون مسلم طائع لربه، مؤمن عابد لمولاه وخالقه، وأنه كون ذو روح تعرف ربها الحق، فتستسلم له طائعة، وتسجد له خاشعة، وتسبح له عابدة، وتغار على جلاله، وتنتفض لمهابته، وتغضب للشرك به من البشر الجهال1.   1 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 العلم والمعرفة ومفهوم التعلم : مما سبق يتبين لنا أن المعرفة عن طريق الوحي، والمعرفة عن طريق العقل والكون يتكاملان ولا يتعارضان، فالعقل الإنساني قادر على التفاعل مع الكون والتأمل فيه، والتجريب على الأشياء الموجودة فيه، والمعرفة العقلية الصحيحة لا تقع خارج دائرة المعرفة التي تدعو إليها الشريعة، وصريح المعقول لا يتعارض مع صريح المنقول كما يقول ابن تيمية. المعرفة الإنسانية كالعلم، وسيلة وليست غاية في ذاتها، فغاية المعرفة إقدار الإنسان على الإسهام بإيجابية وفاعلية في عمارة الأرض، وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج الله. والفرق بين العلم والمعرفة -كوسائل للتربية- يرجع -كما يقول الراغب الأصفهاني- إلى أن المعرفة تستخدم للدلالة على ما تدرك آثاره وإن لم تدرك ذاته، أما العلم فلا يكاد يطلق إلا على ما تدرك ذاته، ولهذا يقال: إن الإنسان يعرف ربه، ولا يقال: إنه يعلم ربه، فكأن المعرفة تأتي من خلال التعامل غير المباشر بالموضوع المدرك، ومن هنا فإنها تكون أقل دقة من العلم، ولهذا يوصف الحق -تبارك وتعالى- بأنه "عالم"، ولا يوصف بأنه "عارف"، والعلم لا يكون عن جهل، بينما المعرفة قد تسبق بجهل. والعلم والمعرفة في منهج التربية لا بد أن يسيرا إلى تطبيق عملي، والتطبيق العملي هذا لا بد أن يكون في المربي الأسوة، بحيث لا يفهم المربى أن هناك علما تحشى به الرءوس، وهناك سلوك آخر ينفصل عن مبدأ ذلك العلم، فإذا انفصل العلم عن أنماط السلوك المتصلة به، انهدرت قيمة العلم، وانهدمت قيمة المعرفة، وحينئذ يكون الفساد المطبق الذي يصعب، بل يستحيل، علاجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 مفهوم التعلم: التعلم هو تغير في السلوك الإنساني نتيجة للتعليم بوسائله المختلفة، والتعلم عملية تبدأ بدافع فكري، أو بحاجة من حاجات النفس الفطرية أو المكتسبة، مادية كانت أو وجدانية، يصاحب ذلك عند الإنسان إحساس بحاجته إلى الاستعانة بهدي الله وعونه، هذا الإحساس، مع الاستعانة بهدي الله، يدفعان الإنسان إلى النشاط، وبذل الجهد المناسب من أجل الوصول إلى إشباع الحاجة أو حل المشكلة، أي: من أجل الوصول إلى إشباع الحاجة أو حل المشكلة، أي: من أجل الوصول إلى الفهم، ثم يتعدل السلوك طبقا لهذا الفهم. وهنا نقول: إن الإنسان قد تعلم. إذن فالتعلم يحدث وفقا للخطوات التالية: 1- الإحساس بالحاجة، أو المشكلة. 2- الاستعانة بهدي الله، وعونه، على قضاء هذه الحاجة أو حل المشكلة. 3- بذل الجهد والنشاط المناسبين، أي: الأخذ بالأسباب بدقة ومهارة والإحسان في الأداء. 4- الوصول إلى الفهم الذهني، أو الحل. 5- تحويل الفهم الذهني إلى سلوك عملي في واقع الحياة. إسقاط أية خطوة من هذه الخطوات يخل بالعمل كله، ولا يوصل إلى العلم، ومع ذلك فهناك شرطان أساسيان لحدوث التعلم في منهج التربية: الأول هو الاستعانة بهدي الله وعونه، فإن الشعور والاتجاه لدى الإنسان يدفعه إلى التعرف على موجهات المنهج الإلهي في العمل والنشاط، فيسهل العمل، ويتم الفهم، والشرط الثاني لحدوث التعلم هو تطبيق الفرد وممارسته لما وعى وفهم، يقول -سبحانه- في وصف المتقين: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 1-3] . فالمتقون لا يوصفون بهذا الوصف إذا لم يتحول إيمانهم إلى حركة ونشاط في واقع الأرض. وسائل التعلم: أما الوسائل والمناشط التي تؤدى إلى العلم فهي أربع، وهي من البسيط إلى المعقد على النحو التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الوسيلة الأولى: هي الأخذ بما يرد على ألسنة الناس، والاعتقاد بأنه الحق، وهذا هو أسلوب العوام من البشر. والوسيلة الثانية: هي الخبرة المباشرة، وتسمى أحيانا بأسلوب التعلم الفطري وبها يتعلم الإنسان عن طريق المحاولة والخطأ، والعمل، والملاحظة والتجربة، واستخدام الحواس: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . والوسيلة الثالثة: الخبرة غير المباشرة، ويسميها الغزالي "التفكير"، ويحدث إذا غلب نور العقل على أوصاف الحس، وهنا يستغني المتعلم بقليل من التفكير عن كثير من إدراكات الحواس. الوسيلة الرابعة: هي "الإلهام"، والإلهام هو تنبيه الله للنفس البشرية، وإلهامها بالأفكار والعلاقات على قدر صفاتها وقبولها وقوة استعدادها، ومقدار سعيها، وتعلم الإنسان عن طريق الإلهام واضح لا يحتاج إلى دليل في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] فالآية دعوة صريحة إلى المؤمنين بتقوى الله، فهو الذي يعلمهم ويرشدهم، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة، وتهيئ عقولهم للتعلم. ويؤكد هذا الأسلوب أيضا، قول الحق تبارك وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] ، فالإلهام إذن وسيلة من وسائل الإنسان عن طريق القوة الكامنة التي أودعها الله في النفس لتوجيه استعداداتها وطاقاتها المدركة إلى طريق الخير أو إلى طريق الشر سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 التطبيق غاية العلم والمعرفة ... التطبيق هو غاية العلم والمعرفة: إن حديث: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة"، حديث صحيح، لكن حقيقة "لا إله إلا الله" التي تدخل الجنة، هي صلتها التي لا تنفصم عن الحكم بما أنزل الله، وتطبيق شريعة الله ومنهجه، ولذلك كان من أنواع الشرك التحاكم إلى غير شريعة الله. وكان الوحي قاطعا في رده على المنافقين: إن كنتم مؤمنين حقا فآية إيمانكم هي تنفيذ أحكام الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . وينعى القرآن على فئة من المؤمنين يقولون ما لا يفعلون، ويصف هذا السلوك بأنه ممقوت عند الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] . إن منهج التربية الرشيد لا توجد فيه تلك الفجوة المعهودة بين العلم والعمل، أو بين المثال والواقع، أو بين النظرية والتطبيق، فلا بد أن تكون المناهج نظرية وعملية معا، وأن ترتبط مناهج الرجال بالورش والمصانع والمزارع، وأن ترتبط مناهج البنات بإدارة البيوت، ومدارس البنات، ورياض الأطفال، ومستشفيات أمراض النساء، وبذلك يتعلم الجميع حيث يعملون، ويعملون حيث يتعلمون. إن العلم في منهج التربية هو معرفة قوانين الله في الكون، وتطبيقاتها في عمارة الأرض، فالعلم الصحيح -إذن- هو الذي يؤدي إلى معرفة الله، وهذا العلم فريضة مقدسة: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" "رواه ابن ماجه"، وبذلك الجهد في طلب العلم جهاد، أي: عبادة، "من سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة" "رواه مسلم". نحن إذن حيال منهج فذ، فريد، شامل، متكامل لتربية الإنسان كله: جسمه وعقله ووجدانه، تربية شاملة متكاملة، تربية الإنسان القوي القادر على الإسهام في عمارة الحياة وترقيتها، الإنسان التواق إلى العدل، المناضل من أجل الظفر بالحرية، الذي تحركه الأشواق إلى الخير، والحق، والجمال، الإنسان الذي يعمر قلبه الإيمان، وحب الآخرين، والرغبة في إسعادهم، الإنسان الذي يتحدى الخطر والفقر، ويقتحم المجهول في جسارة مستعينا بالله، ليصوغ لنفسه وللناس عالما أفضل. إن ذلك المنهج الذي يربي الإنسان الموصول القلب دائما بالله، الذي يربط بين الدنيا والآخرة، كما يربط بين ملكوت الأرض بملكوت السماء. ذلك المنهج هو هويتنا التربوية، لأنه وسيلتنا إلى تحقيق هويتنا الكلية، وهي أن نكون مسلمين حقا. إن تطبيق هذا المنهج، حسب المفهوم السابق، يتطلب -بصورة أساسية- وبإيجاز شديد -مجموعة من الإجراءات لعل أهمها ما يأتي: أولا: إعادة تصميم مناهج التربية في جميع مراحل التعليم العام بطريقة تتكامل فيها العلوم الشرعية -التي تشكل محورا ثابتا- مع العلوم الإنسانية والكونية، كما تتكامل كل هذه العلوم مع طبيعة المتعلمين في كل مرحلة تعليمية من حيث مطالبهم وحاجاتهم ونوعية المشكلات التي يواجهونها في حياتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ثانيا: إعادة تصميم مناهج العلوم الطبيعية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا، والسياسة والاقتصاد والفنون والآداب بحيث تسهم في إدراك النائشة لقوانين منهج الله في الكون وتطبيقاتها في واقع الحياة. إن الفصل التعسفي بين العلوم الشرعية على أساس أنها علوم للدين، وبين العلوم الأخرى على أساس أنها علوم للدنيا، قد أحدث كثيرا من الخلط والتشويش والمتاعب التي تعاني منها الأجيال الحالية، فالإسلام نظام يحكم الحياة، والعلم في هذا النظام هو العلم بقوانين الله في الكون وتطبيقاتها في واقع الأرض، فسواء كانت هذه القوانين لحكم وتوجيه سلوك الإنسان أم كانت لحكم العلاقات بين سائر مكونات الكون، فهي كلها صادرة من الله، وهي كلها جزئيات في نظام متماسك لا يمكن أن يختل. ليس من المعقول -إذن- تدريس هذه العلوم بشكل يصب في أذهان الناشئة تصورا للحياة والأحياء، خاليا من كل أثر لله وللقدرة الإلهية، فهذا قد يعني لدى الكثيرين منهم انفصال الدين عن الحياة، لأن ما تغرسه علوم العقيدة والشريعة، تقتلعه العلوم الأخرى، وتظل الناشئة في تيه شديد! ثالثا: إنشاء مدارس للدراسات العليا، تنطلق من التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة في توجيه كل البحوث والدراسات لتشخيص المشكلات وعلاجها في مختلف الأقطار الإسلامية والعربية، أما الاستمرار في إرسال الباحثين والدارسين إلى الجامعات الأمريكية والغربية لدراسة العلوم والفنون والآداب والعلوم الإنسانية عموما فهو استمرار في سياسة التغريب القائمة التي نعاني من آثارها في مجمل حياتنا عامة، وفي حياتنا الثقافية والتربوية الخاصة. إن الإسلام لا يتسامح: "أن يتلقى المسلم أصول عقيدته ولا مقومات تصوره، ولا تفسير قرآنه وحديثه وسيرة نبيه، ولا منهج تاريخه وتفسير نشاطه ولا مذهب مجتمعه، ولا نظام حكمه، ولا منهج سياسته، ولا موجبات فنه وأدبه وتعبيره.. من مصادر غير إسلامية، ولا أن يتلقى "في كل هذا" عن غير مسلم يثق في دينه وتقواه". {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100] . والواقع أن الإسلام يفرق في هذا الأمر بين نوعين من العلوم: العلوم التي تتصل بتفسير النشاط الإنساني كله: كالفنون والآداب والعلوم الإنسانية والتربوية عموما، فهذه يجب على المسلم ألا يتلقاها إلا على يد مسلم يوثق في علمه ودينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أما ما يردده بعض مفكرينا من آن لآخر، من أن الفنون والآداب يجب أن تدرس كفنون جميلة في حد ذاتها، دون ربطها بالعقائد والأخلاقيات، فهذا رأى غير مقبول، فلا يجب أن نعترف بنظريات "العلم للعلم" و"الفن للفن". فالعلوم والفنون ما هي إلا وسائل وأدوات خلقها الله ليتعلمها الإنسان ويستخدمها في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله. أما العلوم البحتة كعلوم الكيمياء والفيزياء والأحياء وعلوم الصناعة والزراعة. إلخ فالأصل أن يسعى المجتمع المسلم لتوفير الكفايات فيها، باعتبار تعلمها فرض كفاية، فإذا لم يوفر الكفايات أثم المجتمع كله، وإلى أن تتوفر الكفايات في هذا الميدان فإن للمسلم أن يتلقى هذه العلوم عن المسلم وغير المسلم. وليس معنى ما تقدم أنني أدعو إلى الانغلاق، لكنه الانفتاح الذي ينشد الحكمة ويزن كل شيء وفقا لمعايير وقواعد منهج الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 العلم والمعرفة وقيادة الإنسانية ... العلم والمعرفة وقياة الإنسانية: إن الإسلام هو النظام الذي يحكم الحياة. وقد أنزله الله سبحانه لتكون له السيادة، وتحكم به الأرض، لكن سنة الله في الكون تقتضي أن يسود الإسلام ويحكم العالم، حينما يكون المسلمون أقدر من غيرهم على عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها بالكشف عن سنن الله وقوانينه في الكون، التي هي العلم، ومعرفة تطبيقاتها في واقع الحياة، التي نعبر عنها بالتقانة، وحينما يكون المسلم مثلا يحتذى في الأخلاق والسلوك. عندئذ يكون المسلمون قلب العالم، وقادة القافلة الإنسانية، هذا ما حدث، وما نرجو أن يحدث مرة أخرى.. سنة الله، ولن تجدوا لسنة الله تبديلا. إذن، فالعلاقة قوية بين استخدام قوى الإدراك الظاهرة والخفية التي أودعها الله في الإنسان، للكشف عن سنن الله في الكون، وتطبيقاتها في وقاع الحياة -التي نعبر عنها بالعلم والتطبيقات التقنية- وبين قيادة القافلة الإنسانية أو السير تبعا لذيلها. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . إن هذه العلاقة تكمن -كما يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي- في سر هذه الكلمات الثلاث: "السمع" و"البصر" و"الفؤاد". إن هذه الكلمات لم ينزل بها الوحي في كتاب الله لتعني فقط مجرد القدرة على السمع والرؤية والتفكير، لأن "السمع" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 معناه هنا استخدام هذه الطاقة بفاعلية وكفاءة لإحراز العلم والمعرفة التي اكتسبها الآخرون. و"البصر" معناه تنميتها بما يضاف إليها من ثمرات الملاحظة والتجربة والبحث، و"الفؤاد" معناه تنقيتها من أدرانها وأوشابها، ثم استخلاص النتائج منها، وتقويمها وترقيتها. إن هذه القوى الثلاث: السمع والبصر والفؤاد، إذا ما تضافرت بعضها إلى بعض، نجم عنها ذلك العلم، وتلك المعرفة اللذان منّ الله بهما على بني آدم، وبهما استطاع أن يتعامل مع سائر المخلوقات ويسخرها لإرادته. ولو أردت التعمق في تأمل هذه الحقيقة لاهتديت في النهاية إلى أن هؤلاء الذين لا يستخدمون هذه القوى، أو يستخدمونها في حدود ضيقة، هم الذين كتب عليهم العيش في حالة من التأخر والانحطاط تحت كنف الآخرين وسلطانهم، أما الذين يوظفون هذه القوى بكفاءة وفاعلية، فهم الذين يظفرون بالسيادة والسيطرة, وهم الذين يصبح لهم حق قيادة البشرية وتوجيهها1. ومجمل القول "أن زعامة الجنس البشري والأخذ بقياده إلى الخير أو إلى الشر، إلى لجنة أو إلى النار، من نصيب هؤلاء الذين يتفوقون على سواهم في الانتفاع بنعم السمع والبصر والفؤاد، تلك سنة الله، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ولا تحويلا، وأيما جماعة من البشر -بغض النظر عن كونها مؤمنة أو كافرة- تحقق الغاية من هذه المنح الإلهية، فإنها تتولى عامة غيرها من الشعوب التي تجبر على الطاعة والإذعان. والسؤال الآن هو: ما حقيقة هذه القوى: السمع والبصر والفؤاد؟ وما طبيعتها؟ وما فائدتها؟ وكيف يمكن تربيتها وتدريبها وصقلها لدى الإنسان المعاصر صغيرا كان أو كبيرا، حتى يتمكن من استخدامها بكفاءة وفاعلية في عمارة الأرض وترقية الحياة؟ إن هذه الإجابة عن هذه الأسئلة هي مهمة مناهج التربية عامة، ومناهج اللغات واللسانيات على وجه الخصوص. ومما سبق يمكن إجمال ما يجب أن تراعيه مناهج التربية فيما يلي: 1- التأكيد على أن المعرفة عن طريق الوحي أو عنت طريق العقل والكون يتكاملان ولا يتعارضان، فصريح المعقول لا يتعارض مع صريح المنقول. 2- التأكيد على أن المعرفة كالعلم، وسيلة وليست غاية في ذاتها، وأن غاية العلم والمعرفة هي إعمار الأرض وترقية الحياة وفق منهج الله. 3- التأكيد على أن غاية العلم والمعرفة التطبيق في واقع الحياة، إلا انهدمت   1 أبو الأعلى المودودي: المنهج الإسلامي الجديد للتربية والتعليم، جمعه وقدم له وعلق عليه محمود مهدي الإسلامبولي، ط2، بيروت، المكتب الإسلامي، 1402هـ 1982م، ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قيمة العلم وانهدرت قيمة المعرفة. 4- التأكيد على أن العلم الذي لا ينفع والمعرفة النظرية التي لا تقبل التطبيق لا يجب أن تتضمنها مناهج التربية؛ لأن في ذلك إضاعة للجهد والوقت والمال. 5- التأكيد على أن التعلم إنما يحدث إذا أحس الإنسان بحاجة أو بمشكلة، فاستعان بهدي الله، وأخذ بالأسباب المناسبة، ووصل إلى الفكرة، فحولها إلى تطبيق عملي. 6- التأكيد على مصممي مناهج التربية بضرورة تحديد مصادر المعرفة وأسس المنهج قبل البدء في عملهم؛ لأنهم إما أن يكونوا مؤمنين بأن الوحي والكون ما مصدر المنهج، وإما أن يقصروا مصادر المنهج على الكون فقط، فكل ذلك سينعكس بالضرورة على تحديدهم لأهداف المنهج، واختيارهم لمحتواه وتنظيمهم لهذا المحتوى، واختيارهم لطرائق وأساليب التدريس والتقويم والتطوير المناسبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الفصل الثالث: الطبيعة الإنسانية وطبيعة المتعلم الإنسان والفطرة الإنسانية ... الفصل الثالث: الطبيعة الإنسانية الإنسان والفطرة الإنسانية: الإنسان عبد الله، وسيد الكون، وهو مخلوق من طين الأرض، وفيه نفخة علوية من روح الله، فالإنسان هو هذان العنصران المختلفان، مترابطان ممتزجان في كيان كلي واحد: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28، 29] . وهو كان من كائنات الملأ الأعلى، لأن إنسانيته لم تتكون ولم تتشكل إلا بعد أن نفخ الله فيه من روحه، فقد نشأ في الملأ الأعلى، ثم هبط على الأرض اختيارا: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124] . وقد عقدت له الخلافة في الأرض ليعمرها ويرقيها وفق منهج الله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] . وهو معان من الله على القيام بحق الخلافة، فالكون كل مسخر له: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] . {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وهو أكرم خلق الله على الله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] . ولأن الإنسان كريم على الله، ومعقودة له خلافة الأرض، فهو محسوب حسابه في تصميم الكون قبل أن يكون: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 15] . {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65] . {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] . {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 95-97] . والإنسان -كما أسلفنا- يكون في أرفع مقاماته، وفي خير حالاته، حين يحقق مقام العبودية لله، إذ إنه -في هذه الحالة- يكون في أقوم حالات فطرته، وأحسن حالات كماله، وأصدق حالات وجوده1. والبشر جميعا من أصل واحد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] . ولقد خلق الله البشر أمما، وقبائل، وشعوبا؛ ليتعارفوا، ويتعاونوا، لا ليتنافروا ويتناحروا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .   1 سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، مرجع سابق، ص132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 والعقل الإنساني هو مناط التكليف، وهو شرف الإنسان وامتيازه، وقدرة الإنسان على التفكير والاختيار، هي التي أهلته لهذا الاستخلاف، ولحمل مسئولية تنفيذ منهج الله في الأرض، فالعقل هو مناط التكليف والمسئولية. الحرية فطرة: والعقيدة هي رابطة التجمع الإنساني الرئيسية، وليس الجنس، ولا القوم، ولا اللغة، ولا الأرض، ولا اللون، ولا الطبقة الاجتماعية أو المصالح السياسية أو الاقتصادية؛ ذلك لأن العقيدة مرتبطة بحرية الإنسان واختياره وإرادته، أما روابط القوم، والأرض أو اللحم، والدم، والطين، فلا إرادة للإنسان فيها، فالإنسان ليس حرا في اختيار بلده أو أهله وقومه، ولكنه حر تماما في اختيار عقيدته وفكرته ومنهجه. والإنسان حر لأنه مسئول، فالحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة، فالحرية تستلزم المسئولية، والمسئولية تستلزم الحرية. وحرية الإنسان ليست حقا من حقوقه، يمكن أن يمنح له أو يمنع عنه، وإنما هي فطرة في طبيعته، وجزء من إنسانيته، بها يصير إنسانا مسئولا، وبدونها يهبط إلى درجات أدنى بكثير من الحيوان، فهو حر حتى في العقيدة التي يؤمن بها: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] ، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] . وقد عبر سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن فطرة الحرية في الطبيعة الإنسانية، عندما قال: "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار؟! ". إن الحرية من أثمن ما جاء به الإسلام، فالتوحيد قرين التحرير، وشهادة "لا إله إلا الله" إعلان عن ميلاد الإنسان الحر في هذا الكون الذي يسجد لله وحده، ويخشى الله وحده، ومن هذا المنطلق فإن الاستبداد يصبح قرين الشرك، لأنه يحيل الناس عبيدا لآلهة من البشر، ويدفعهم إلى السجود لغير الله! الشعور بألوهية الله شعور فطري: وشعور الإنسان بألوهية الله، وبوجود الله الواحد الأحد هو شعور فطري مستقر في أساس تكوينه، فالإنسان في تكوينه نفخة من روح الله، وعلاقته بخالقه هي علاقة المخلوق بخالقه الرحمن الرحيم، وهي علاقة لا يستطيع أي مخلوق دفعها، أو الحياد عنها1.   1 حسن البنا: مرجع سابق، ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فشعور الإنسان بوجود الله خالقه، هو قانون من قوانين وجوده الروحي، وضرورة من ضروراته التي لا يستطيع أن يتخلى عنها، فحاجة الإنسان إلى الإيمان بالله كحاجته إلى التنفس، وإلى الطعام والشراب، والراحة، فإذا كانت حاجاته هذه قانونا من قوانين وجوده المادي، فإن إيمانه بالله الخالق، الرحمن، الرحيم، هو قانون من قوانين وجوده الروحي، وضرورة من ضروراته. إذنن فشعور الإنسان بوجود الله فطرة، في الطبيعة الإنسانية: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] . فالإيمان بالله، والشعور بوجود الله، فطرة مستكنة في الطبيعة الإنسانية، أصلها الروح التي هي جزء في كل تكوينه، وهي شيء من روح الله. ولذلك لا غرابة أن نجد الإنسان يلجأ إلى الله حين ييأس من كل الأسباب الظاهرة، حين يمسه الضر، وحين ييأس من حوله وقوته، ومن حول الناس وقوتهم، فهذا اللجوء هو هتاف تهتف به الفطرة الإنسانية من جوانب نفسه.. أن يلجأ إلى الله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] . {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22] . ضرورة دراسة الفطرة الإنسانية: إن التقدم العلمي الهائل في علوم الطبيعة والكيمياء والفلك وعلوم الجماد عموما يتسم بعدة أمور، أهمها ما يلي: أنه لا يتبع أية خطة معينة، إنه يتطور دون إدراك للنتائج المترتبة عليه إنسانيا. أنه لا يتحرك تبعا للرغبة في تحسين أحوال البشر. أنه لا تحكمه قيم من خارجه. إن هذا التقدم العلمي الهائل في علوم الجماد قد تزامن مع تقدم علمي بطيء، لم يكد يتعدى كثيرا حد الجهل في دراسة علوم الإنسان والطبيعة الإنسانية، أو العلوم الحيوية عموما، وقد تمخض هذا عن حضارة إنسانية معاصرة، زودت الناس بكل وسائل الحياة الحديثة، لكنها أهدرت -في نفس الوقت- القيم الخلقية، وأخفقت في النهوض، بالمستويات الروحية والأدبية والعقلية لعامة الناس وخاصتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فكيف أمكن الحصول على هذه النتيجة المتناقضة؟ إن الإجابة البسيطة عن هذا السؤال تجيء على لسان أحد علماء هذه الحضارة والمشاركين في صنعها، هو "ألكسيس كاريل" حيث يقول: "إن الحضارة الحديثة تجد نفسها في موقف صعب؛ لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقة؛ إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشلكنا". لقد أدى تطبيق الاكتشافات العلمية إلى تغير العوالم المادية والعقلية بصورة هائلة، لكن التأثير التعس لهذه التغيرات إنما هو نتيجة لأنها نمت وتطورت دون أدنى تفكير في فطرتنا. "لقد أهمل تأثير المصنع على الحياة الفسيولوجية والعقلية للعمال إهمالا تاما عند تنظيم الحياة الصناعية، إذ إن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ: "الحد الأقصى من الإنتاج بأقل التكاليف"، حتى يستطيع فرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال، وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة البشر الذين يديرون الآلات، ودون اعتبار للتأثيرات التي تحدثها طريقة الحياة الصناعية التي يفرضها المصنع على الأفراد وأحفادهم.."1. وتشكل التقانات الحديثة من مجالات نقل واستزراع الأنسجة والأعضاء البيولوجية، وتلقيح البويضات في الأنانيب، أو زرع الأجنة بالأرحام، والتلقيح الصناعي، والعلاج الجيني، وتجارب اختبار فاعلية العقاير المستحدثة وغيرها، آفاقا جديدة لدعم صحة الإنسان ومقومات استمرارية حياته على الأرض، إلا أنه تجدر الإشارة إلى ما ينطوي على العبث بالمجين البشري، وطمس معالم تأصيل الأنساب من تهديد خطير للجنس البشري، ومعالمه الأسرية، كما تجدر الإشارة إلى بعض الممارسات الطبية الدوائية التي تتعارض مع الأسس الأخلاقية للمهن الطبية التي يجدر الالتزام بها، الأمر الذي تترب عليه مشكلات أخلاقية خطيرة وافتئات على قوانين الفطرة، الأمر الذي أدى إلى إثارة الجدل حول مدى أحقية الطبيب في الإنهاء العمري لحياة المرضى اليائسين من الشفاء بعد الحصول على الموافقة منهم أو من ذويهم، وحول مفهوم الموت! أهو توقف جذع المخ والغيبوبة الطويلة، أم توقف نبض القلب..؟! 2. إن الإنسان يجب أن تعلو قيمته على كل شيء، كما يجب أن يكون مقياسا لكل شيء، لكن الواقع عكس ذلك، فهو غريب في العالم الذي ابتدعه؛ لأنه لم يستطع   1 ألكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول، تعريب شفيق أسعد فريد، بيروت، مكتبة المعارف 1407هـ-1986م، ص37. 2 علي أحمد مدكور: "التربية الدينية والضوابط الأخلاقية للممارسات البيولوجية" اللجنة الوطنية المصرية للتربية والعلوم والثقافة، "يونسكو-أليسكو-إسيسكو" بالتعاون مع اليونسكو، الندوة المصرية عن أخلاقيات الممارسات البيولوجية, وإسهامات في حماية حقوق الإنسان ودعمها للتنمية المتواصلة، معهد الليرز، جامعة القاهرة، 27-30 سبتمبر 1997. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 تنظيم العالم وفقا لطبيعته، لأنه لا يملك معرفة علمية دقيقة بفطرته التي فطره الله عليها. وصفوة القول: إن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي تعاني منها الإنسانية، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التي شيدها العلم حولها. وإن العلاج الوحيد لهذا الشر المستطير هو معرفة أكثر عمقا بأنفسنا وبفطرتنا الإنسانية، وبذلك نتعلم كيف نكيف أنفسنا للمتغيرات المناسبة، وكيف نغير الظروف المحيطة بحيث تصبح الحياة حولنا ملائمة لفطرتنا الإنسانية، وعلى هذا فإن هذا الجزء هو رحلة عبر هذا الإنسان، ومحاولة لفهم فطرته الإنسانية التي فطره الله عليها. الفطرة الإنسانية: التربية عملية تهدف إلى إيصال المربي إلى درجة الكمال التي هيأه الله لها، والإنسان هو محور العملية التربوية، فالعملية التربوية بكل ما تشتمل عليه من أصول تربوية، ونظريات، ومناهج، وممارسات، ومربين، كلها تعمل وتتفاعل من أجل تهيئة الجو المناسب للمتعلم كي ينمو إلى درجة كماله الإنساني. لكن المنهج التربوي يتأثر إلى حد بعيد بنظرة المخططين له والقائمين على تنفيذه إلى الفطرة الإنسانية، أو الطبيعة الإنسانية، والفطرة الإنسانية في الإسلام تختلف في مفهومها، وفي مصدرها، وفي غايتها عن الطبيعة الإنسانية في الفلسفات ومدارس علم النفس المختلفة. يختلف مفهوم الفطرة الإنسانية في الإسلام عن مفهوم الطبيعة الإنسانية لدى الفلسفات ومدارس علم النفس المختلفة، ففي القاموس: فطر ناب البعير، أي: شق اللحم وطلع، وفطر النبات، أي: شق الأرض ونبت منها، وفطر الأمر، أي: ابتدأه واخترعه1، وفطر الله العالم، أي: أوجده ابتداء، وفي القرآن يقول الحق -تبارك وتعالى- على لسان سيدنا إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] . والفطرة هي الخلقة التي يكون عليها كل موجود أول خلقه، والفطرة هي الخلقة السليمة لم تشب بعيب، وفي التنزيل العزيز: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] .   1 مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، مادة "فطر" ص694. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 والفطرة في المفهوم الإسلامي هي خلق الله الإنسان على الإسلام، أي: شاهدا بعبوديته لله، ومقرا بربوبيته، ومزودا بالاستعدادا والطاقات الظاهرة والكامنة التي تمكنه من إصابة الحكم، والتمييز بين الحق والباطل وفقا لمعايير منهج الله. أما مفهوم الطبيعة، ففي القاموس: طبع الشيء طبعا، وطباعة، أي: صاغه في صورة ما، ويقال: طبع الله الخلق1، أي: أنشأه. والطبيعة الإنسانية، أي: السجية، ومزاج الإنسان المركب من الأخلاط، والقوة والسارية في الأجسام التي يصل بها الجسم إلى كماله الطبعي الذي هيأه الله له، فالطبيعة الإنسانية بهذا المعنى هي مجموعة الخصال والسجايا التي خلق الله الناس وفطرهم عليها، سواء كان ذلك من خلق الله للإنسان في البداية، أو بتهيئة الإنسان كي يقوم بذلك في نفسه، أو من خلال البيئة والأشياء المحيطة به. أما الطبيعة في المصطلح الغربي الذي قامت عليه مدارس علم النفس هناك، فهي الأشياء المادية المحسوسة حولنا من جماد وحيوان ونبات، ففي الاصطلاح اليوناني: "الفيزيقا" هي الطبيعة. و"الميتافيزيقا" ما وراء الطبيعة، أي: الأمور الغيبية وغير المحسوسة. وكما يقول الدكتور محمد رشاد خليل: فقد أخذت الطبيعة معاني فلسفية لدى فلاسفة الإغريق، وأصبحت هي الأساس في الفكر الغربي الحديث. فالطبيعة هو الجوهر المادي الأول الذي تصنع منه الأشياء، وهذا الجوهر المادي هو أصل الوجود، والعلة الأولى في وجود هذا الكون، وهي عند أفلاطون المثال، وعلة الوجود، والنفس الكلية، وعند أرسطو هي أصل الأشياء، ومصدر الحركة، والمادة التي تصنع منها الأشياء. وقد استخدمت الفلسفات الغربية مفهوم الطبيعة، بهذا المعنى الإغريقي القديم، فالطبيعيون والمثاليون والواقعيون والدارونيون يرون "الطبيعة هي الأشياء، وهي القانون الطبيعي الذي يعمل في الأشياء، والطبيعة هل أصل الأشياء"2. إذن فالطبيعة في الفلسفات الغربية ومدارس علم النفس القائمة عليها ليست من خلق الله، بل هي خالقة الكون وسبب وجوده الأول، وبذلك يتصادم مفهوم الطبيعة في هذه المدارس مع مفهوم الطبيعة في الإسلام. مكونات الإنسان: لقد بين القرآن أن الله خلق الإنسان من طين الأرض، ثم نفخ فيه من روحه ومن الطين تكون جسد الإنسان: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71، 72] .   1 المرجع السابق مادة "طبع" ص549. 2 محمد رشاد خليل: علم النفس الإسلامي العام والتربوي، دراسة مقارنة، الكويت، دار القلم، 1407هـ-1987، ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عوف، حدثنا أسامة بن زهير عن أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك" "رواه أبو داود والترمذي"1. كان هذا بالنسبة لآدم عليه السلام، أما بالنسبة لذريته فإن الروح تخلق لكل جنين بعد أن يتم تخليق النطفة في الرحم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12-16] . قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أي: ثم نفخنا فيه الروح فتحرك، وصار خلقا آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . ويقال: إن نفخ الروح في النطفة إنما يكون بعد أربعة أشهر. قال الإمام أحمد في مسنده، إنه روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن أحدكم ليجمع خلقه "نطفة" في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح" إلى آخر الحديث الذي أخرجه الشيخان. ففي الإسلام إذن، الإنسان كائن مخلوق لله خلقا مستقلا متميزا متفردا، وهو أكرم خلق الله على الله، وقد نوه الله بذلك، حين جعل الإنسان خليفته في الأرض: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، لكن الإنسان في معظم الدراسات النفسية في الغرب ليس هو المخلوق من الله، بل هو الحيوان المتطور عن الطبيعة التي هي أصل الأشياء وسبب وجودها، وهذا ما تدعيه نظرية التطور التي لا تعدو -كما يقول الدكتور محمد رشاد خليل- "أن تكون أسطورة يونانية قديمة قال بها الطبعيون اليونان، وأحياها ملاحدة التطوريين الطبعيين حديثا، وزيفوا لها الأدلة، أو لووا أعناق بعض النتائج التي أسفرت عنها البحوث الطبعية والحيوية"2. إذن فالإنسان هنا ليس مخلوقا لله، مكونا من جسد وروح كما هو الشأن في الإسلام، وإنما مرده إلى وحدة الأصل الحيواني للإنسان، فوحدة الإنسان في علم النفس الحديث ترجع إلى كون الإنسان قد جاء نتيجة تطور الأحياء من الطبيعة، وهنا يتصادم الإسلام مرة أخرى مع الفلسفات التي تقوم عليها مدارس على النفس الحديثة فيما يتصل بمفهوم الإنسان.   1 تفسير ابن كثير، جـ3، ص240. 2 محمد رشاد خليل، مرجع سابق، ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 مكونات النفس الإنسانية : والنفس في الإسلام هي جماع شخصية الإنسان: "والروح هي أصل النفس ومادتها، فالنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن"1. والنفس الإنسانية واحدة لا ثلاث كما يقول ابن القيم، فقد قسم بعض العلماء النفس إلى: نفس مطمئنة ونفس لوامة، ونفس أمارة بالسوء. "والتحقيق أنها نفس واحدة لها صفات فتسمى باعتبار كل صفة باسم معين، فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته والإنابة إليه، والنفس اللوامة كثيرة التقلب والتردد وهي من أعظم آيات الله، فهي تتلون وتتقلب بأشكال مختلفة، فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتتقي وتفجر، وهي على هذا طوال العمر، أما النفس الأمارة بالسوء، فإنها تأمر بكل سوء، وهذا من طبيعتها إلا ما وفقها الله وأعانها، فما تخلص أحد من شر هذه النفس إلا بتوفيق من الله، قال تعالى على لسان امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53] . وتمتد وحدة النفس في الإسلام لتشمل الإنسان كله، بما فيه جسمه وروحه، فالنفس في الإسلام هي الإنسان كله، وبما أن الروح في الإسلام لا تعمل مستقلة عن الجسم -رغم أن لها وجودا مستقلا عنه، فهو ليس سجنا لها- فكذلك النفس لا تعمل مستقلة خارج مركب الروح والجسد. أما في علم النفس الحديث، فليس للإنسان نفس مخلوقة، وإنما له نفس طبيعية، تصنعها الظروف والمؤثرات الخارجية، فالسلوكيون يرون أن النفس تصنعها التربية والمؤثرات الخارجية، والتحليليون وعلى رأسهم فرويد يرون أن النفس بأجزائها الثلاثة عنده وهي: الـ"هي"، والـ"أنا"، والـ"أنا الأعلى"، يصنعها الكبت، "فالكبت هو النفس بمختلف أجزائها، وعليه فنحن لسنا أمام علم النفس، وإنما نحن أمام فلسفة طبعية إلحادية في النفس تقابل الفلسفة المثالية الإلحادية في النفس عند أفلاطون وأرسطو، وهي أسوأ منها، إذ لا تعترف بمصدر للنفس خارج العالم، فليس هناك في هذه الفلسفة إذن روح ولا عقل مخلوق، ولا نفس تكونت من الروح والجسد وحصلت على صفاتها وأحوالها بالخلق والفطر كما هو الشأن في الإسلام"2.   1 تفسير ابن كثير، جـ2، ص61. 2 محمد رشاد خليل، مرجع سابق، ص130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 علم النفس الإسلامي وعلم النفس الغربي: بناء على ما سبق فإن علم النفس الإسلامي يتصادم مع علم النفس الغربي لاختلافهما في المصدر وفي الغاية, حيث إن علم النفس الإسلامي يتعامل مع الإنسان المخلوق الذي هو من خلق الله، في حين يتعامل علم النفس الغربي مع الإنسان الطبيعي الذي جاء نتيجة تطور الأحياء، وعلم النفس الإسلامي يتعامل مع النفس المخلوقة من مركب الروح والجسد متفاعلين، ولكن علم النفس الحديث يتعامل مع النفس الطبيعية التي تصنعها الظروف والمؤثرات الخارجية، أو النفس التي صنعها الكبت. وإذا كان علم النفس العام والتربوي قد جاءا متلازمين من مصدر واحد هو كتاب الله وسنة رسوله، فإنهما قد جاءا وبينهما فاصل زمني في علم النفس الغربي, بسبب اعتمادها على تطور الفكر في مصادر ونظريات شتى مختلفة ومتناقضة. وإذا كان علم النفس الإسلامي العام والتربوي قد صدرا من علم شامل محيط بالنفس الإنسانية من الأزل إلى الأبد؛ لأنه صادر من الخالق الذي يعلم من خلق, وما تكون عليه أحواله في كل زمان ومكان، فإنه في علم النفس الغربي قد اعتمد على آراء ونظريات شتى، وهو وإن استعان بالتجريب فإن التجريب في العلوم الإنسانية مختلف تماما عن التجريب في العلوم الطبعية، كاختلاف الإنسان عن الجماد والحيوان. والخلاصة، أنه لما كانت التربية هي تطبيق لمفاهيم علم النفس، فإن التربية في الإسلام تختلف عن التربية في الغرب بقدر الاختلاف بين علم النفس الإسلامي وعلم النفس الغربي في حقيقة النفس. "وبمعنى آخر فإن علم النفس التربوي هو تطبيق لنظريات التحليليين والسلوكيين والجشتلطيين وغيرهم من المؤمنين بالمذهب الطبيعي على اختلاف أشكالهم.. وهذه المدارس كلها لا تعرف الإنسان المخلوق، وإنما تتكلم عن إنسان طبيعي لا روح له"1. وهذا كله سوف ينعكس على نظريات التعلم والممارسات التربوية التابعة لها، كما سينعكس على دوافع السلوك وغاياتها وما يترتب عليها من نتائج وآثار.   1 المرجع السابق، ص114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قواعد الفطرة الإنسانية : تقوم الفطرة الإنسانية على مجموعة من القواعد أهمها ما يلي: 1- أن الإنسان مفطور على الإيمان بربوبية الله ووحدانيته. 2- أن الفطرة الإنسانية ذات تكوين مزدوج. 3- أن الإنسان مخلوق باستعدادات متساوية للخير والشر. 4- أن الإنسان مزود بقدرة واعية كامنة فيه، قادرة على الاختيار الحر للخير والشر سواء. 5- أن الإنسان حر، لذلك فتبعة أعماله ومسئولياته تقع عليه وحده. 6- أن النفس الإنسانية هي جماع شخصية الإنسان. الذي لا شك فيه، أن الإنسان خلق مفطورا على الإيمان، وحب الخير، فالله سبحانه أحسن كل شيء خلقه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 4-6] . فالحقيقة الرئيسية في هذه الآيات، هي حقيقة الفطرة القويمة التي فطر الله الإنسان عليها، واستقامة طبيعتها مع طبيعة الإيمان، والوصول بها إلى كمالها المقدور لها، وهبوط الإنسان وسفوله حين ينحرف عن سواء الفطرة واستقامة الإيمان. وتتضح نفس هذه الحقيقة في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . فحقيقة التوحيد مركوزة في الفطرة الإنسانية، يخرج بها كل مولود إلى الوجود، فلا يميل عنها إلا أن يفسد فطرته عامل خارجي عنها، عامل يستغل الاستعداد البشري للهدى والضلال، وهو استعداد كامن تخرجه إلى حيز الوجود الملابسات والظروف التي ينشأ فيها الإنسان، كما يوضح هذا صراحة قول الرسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تولد بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ " "رواه البخاري ومسلم". والفطرة الإنسانية في الإسلام ذات تكوين مزودج: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71، 72] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فالإنسان مخلوق من طين الأرض، ومن عناصرها تكون، لكن النفخة العلوية هي التي جعلت منه إنسانا، وصنفته ضمن مخلوقات الملأ الأعلى. فالإنسان -إذن- مكون من جسم ومن روح، والجسم مكون من جميع الأجهزة والأعضاء، بما في ذلك السمع، والبصر، والعقل.. نعم العقل، فالعقل ما هو إلا جهاز من الأجهزة التي خلقها الله في الجسم؛ لتقوم بوظيفة من وظائف الجسم مثله في ذلك مثل جهاز السمع، وجهاز البصر، وجهاز النطق، وجهاز الهضم، إلى آخره. إلا أن هذا الجهاز مسيطر ومنظم لأجهزة الجسم الأخرى، ومع ذلك فأداؤه لوظيفته يتأثر بمدى صحة الأجهزة الأخرى وكفاءتها في العمل. ولقد نفخ الله فيه من روحه؛ لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة لله في الأرض، وأن يتسلم مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها الله له، وتتطلبها مقتضيات العمارة من قوى وطاقات. والإنسان يرتقي في معرفته وفي إعماره للكون، كلما اتصل بمصدر النفخة العلوية فيه، واهتدى به في استقامة، أما حين ينحرف عن ذلك المصدر فإن تيارات المعرفة في كيانه وفي حياته لا تتناسق، بل وتصبح خطرا على سلامة اتجاهه، وتقوده إلى نكسة في خصائصه الإنسانية، مهما تضخمت علومه وتجاربه في الحياة. ولقد خلق الله الإنسان مزودا باستعدادات متساوية للخير والشر، كما خلقه مزودا بقدرات كامنة فيه قادرة على توجيهه إلى الخير وإلى الشر سواء، وجعل تبعة أعماله ومسئولياته تقع عليه وحده، ولقد أكد القرآن هذه القاعد في كثير من الآيات: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8-10] . {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] . {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] . من خلال الآيات السابقة يتضح لنا ما يأتي: أن الإنسان كائن مخلوق مزدوج الفطرة، مزدوج الاستعداد، مزدود الاتجاه. أنه بطبيعة تكوينه المزدوجة "من طين الأرض، ومن نفخة الله فيه من روحه" مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال. أنه قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير والشر سواء، وأن هذه القدرة على التمييز والتوجيه كامنة في كيانه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 يعبر عنها تارة بالإلهام: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس، 7، 8] ويعبر عنها تارة أخرى بالهداية: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] ، وما الرسالات والعوامل الخارجية إلا إيقاظ وشحذ وتوجيه لهذه القدرة الكامنة. إن هذه القدرة الواعية الكامنة في كيان الإنسان وفي صميمه، والقادرة على التمييز والتوجيه الحر، هي التي يناط بها التبعة والمسئولية، فمن استخدمها في تزكية نفسه، فقد أفلح، ومن خبأها وأضعفها، فقد خاب، فهي حرية تقابلها تبعة، وقدرة يقابلها تكليف، ومنحة يقابلها واجب1.   1 سيد قطب: في ظلال القرآن، ط10، دار الشروق، 1403هـ-1983، ص3917-3918. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 دافع السلوك ... دوافع السلوك: السلوك الإنساني ذهنيا كان أو معرفيا أو وجدانيا أو حركيا، لا بد له من دوافع تحركه نحو غايات يحققها، فدوافع السلوك هي كل ما يدفع إلى السلوك من أجل تحقيق هدف أو أهداف معينة. نظرية الغرائز: يرى مكدوجل أن جميع الدوافع التي تثير نشاط الفرد يمكن أن ترد إلى دوافع أساسية نهائية هي الغرائز. فالغرائز هي المحركات الأولى لكل نشاط حركي أو عقلي أو وجداني، فردى أو جماعي، وهي لا تزود الإنسان بالقوة الدافعة فقط، بل تحدد غايات سلوكه أيضا. والغريزة كما يعرفها هي استعداد فطري نفسي جسمي يدفع الفرد إلى أن يدرك ويتنبه إلى أشياء من نوع معين، وأن يشعر بانفعال خاص عند إدراك هذه الأشياء، وأن يسلك نحوها مسلكا خاصا، إذن فلكل غريزة مثير ينشطها، وانفعال يصاحبها، وسلوك يصدر عنها. ويشترك الإنسان مع الثدييات العليا في مجموعة من الغرائز كالتماس الطعام، والراحة، والتنفس، والجنس، والإخراج، والوالدية، والاستطلاع، والاجتماع والسيطرة، والمقاتلة.. إلخ. والغرائز عامة يشترك فيها الناس جميعا، في كل سلالة، وفي كل حضارة، وفي كل عصر، وهي دوافع فطرية لا تكتسب ولا يمكن استئصالها أو القضاء عليها. وتتعدل الغرائز عند الإنسان، فتشتق منها العواطف والعادات والميول والحاجات الفرعية المختلفة، فهي ليست المحركات الوحيدة للسلوك، لكنها المحركات الأساسية الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 إن ارتقاء الحيوان وزيادة ذكائه نتيجة للنمو والتدريب لا يؤدي إلى ضمور الغرائز أو زوالها، بل إلى زيادة قدرة الحيوان على التحكم فيها. المدرسة السلوكية: إن مدرسة الغرائز فرع "مكدوجل" خاصة هي أقرب مدارس النفس إلى علم النفس الإسلامي بسبب تأكيدها على أن الغرائز هي دوافع فطرية موروثة لا تكتسب، ولا يمكن استئصالها أو القضاء عليها، وهي لهذا السبب قد تعرضت لهجوم شرس من المدرسة السلوكية, أدى إلى اختفائها تقريبا من كتب علم النفس الغربي. وهجوم المدرسة السلوكية على نظرية الغرائز لا يقوم على أساس أن هناك حقائق علمية موضوعية تصادم هذه النظرية، بل يقوم على أساس أن المدرسة السلوكية لا تؤمن بالفطرة، ولا تؤمن بالسجايا التي فطر الله الناس عليها، بل تؤمن بأن البيئة هي التي تصنع الإنسان، وهي التي تكسبه دوافع وميوله وشخصيته، فالنقد قائم إذن على أساس اعتقاد معين, وليس على أساس حقائق قررها العلم، وهذا الاعتقاد يقوم أساسا على إنكار أن الله خلق كل إنسان بقدرات واستعدادات كامنة فيه تجعله يختلف عن غيره، وأن لكل إنسان كماله الخاص به، الذي وهبه الله له. إذن فالمدرسة السلوكية تنطلق من إنكار الخلق والفطرة التي فطر الله الناس عليها، وذلك لحساب البيئة والمجتمع، وسيادة هذه المدرسة في ميدان علم النفس الغربي لا يرجع إلى تفوقها العلمي, وإنما يرجع إلى التفوق الأمريكي والروسي، وإلى الإمكانيات الهائلة التي وضعت في خدمة هذه المدرسة من أجل تحقيق السيطرة على العالم. إن المدرسة السلوكية تنكر كل دوافع خارج حدود البيئة والمجتمع، وبذلك تنكر وجود قوى داخلية في النفس التي هي -كما سبق أن قلنا- جماع شخصية الإنسان بروحه وجسمه، وبذلك تنكر الإيمان بالله كدافع للسلوك، وكذلك كل ما هو غيبي، كالجن، والملائكة، والنفس الأمارة، والنفس اللوامة، والضمير الإنساني، والإرادة. وتتبنى المدرسة السلوكية بدلا من الغرائز ما يسمى بالحوافز، فالحافظ هو نمط من الاستثارة الملحة تنتج عن حاجة في الجسم أو في الأنسجة.. وكل الحوافز تنشأ من ظروف جسمية فسيولوجية مثل الجوع والعطش وغيرها، ترى ما هي الحاجة الملحة التي تدفع لصا ليس جائعا إلى السرقة؟ والحافظ الجسمي الذي يدفع الأمريكي الأبيض إلى قتل الأسود وسرقته؟ وما المثير البدني الذي دفع الروس إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قتل الأفغان واحتلال أرضهم؟ ترى ما الذي يدفع المتعبد إلى العبادة، والمتدين إلى التدين، والشاعر إلى الشعر، والكريم للبذل، والأمين للأمانة، والصادق للصدق.. إلخ؟ إن موضوع التربية -بناء على مفاهيم هذه المدرسة- هو الإنسان والحيوان، التي لا تربو تصرفاته عن أن يكون ردود أفعال أو استجابات آلية لمثيرات خارجية، فلا ضمير ولا حرية، ولا إرادة إنسانية، ولا إرادة إلهية، ولا نفس أمارة بالسوء، ولا نفس لوامة، ولا شيء غير التفاعلات الكيميائية والنبضات الكهربائية؟ وأهداف التعليم كلها منصبة على تكوين عادات ذهنية وحركية واجتماعية، تمكن الإنسان الحيوان من أن يعيش في القطيع الاجتماعي، وأن يتصرف مع الأشياء حسب مفاهيم الفلسفة البراجماتية النفعية، التي ترى أن المصلحة هي المقياس لكل شيء، فلا أخلاق خارج حدود المصلحة الاجتماعية القومية، ولا معايير ثابتة للحكم على السلوك والأخلاق! مدرسة الإسلام: في علم النفس الإسلامي هناك عوامل غيبية، وهناك عوامل مشهودة, كلها تعمل كدوافع للسلوك، وإذا أخذنا التقسيم المشهور للدوافع إلى دوافع غريزية، ودوافع مكتسبة، ودوافع غير شعورية، فإننا نجد ما يلي: أولا: بالنسبة للدافع الغريزية, فإن مدرسة الغرائز وإن كانت قد اتفقت مع الإسلام في أنها فطرية وموروثة, إلا أنها لم تقل بأن الله غرزها في النفس الإنسانية، وإنما هي مغروزة في الإنسان بحكم الطبيعة، لكن الإسلام يقول إن الله قد أودعها في خلق النفس وفطرتها: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] . ثانيا: بالنسبة للدوافع المكتسبة، فإن الإسلام يفرق بين العواطف والميول مثل الحب والكره والرضا والسخط.. إلخ، فكل هذه غرائز فطرية خلقها الله في الإنسان: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] ، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وهكذا، فالعواطف والميول خلقها الله في النفس، لكن توجيهها إلى أشخاص أو أشياء بعينها هو المكتسب، فالإنسان مفطور على الحب، لكن البيئة قد توجهه إلى حب الله ورسوله، وقد توجهه إلى حب الأصنام أو دجال أو فنان.. إلخ. ثالثا: يطلق على الدوافع غير الشعورية عموما بأنها الدوافع التي لا يشعر الفرد بها أثناء قيامه بالسلوك مثل الحاجات الوجدانية والاتجاهات المعرفية والعادات القوية، ومستوى الطموح.. إلخ. ويرى بعض المفكرين أنه لا يوجد "لا شعور" في النفس، وإنما هناك جانب مغيب في النفس، وهو الجانب الذي لا نعرف عنه إلا القليل -لأن النفس أصلها الروح، وهي علمها عند الله- وقد بين الإسلام أن النفس تتأثر بالمؤثرات الخارجية, وأن الأحداث تترك أثرها في النفس، وأن هذا الأثر قد يكون حميدا وقد يكون سيئا، كما ضرب لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمثالا حسية لهذا الأثر بالنكتة البيضاء والنكتة السوداء، كما ضرب لنا المثل في حديث القلوب الثلاثة والتي هي الأحوال الثلاثة للنفس، فالقلوب تمرض ويكون من أمراضها الكره والحقد والغيرة والحسد والقلق والاكتئاب، كما أنها تصح ومن علامات صحتها حب الخير، والإيثار، والاطمئنان والرضا، وأساس ذلك كله أن الله قد ابتلى الإنسان بالخير والشر فتنة: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وأنه أمد الإنسان بأسباب هذا وذاك، فمن سلك طريق الخير صحت نفسه، ومن سلك طريق الشر مرضت نفسه. وعلى هذا فليس هناك ما يسمى "باللاشعور" وليس هناك ما يسمى "بالعقد المكبوتة" وإنما هي أمراض تغلب على النفس من أحوال الشر التي تصيبها، وأنه يستعان عليها بالأدوية التي وصفها العلماء بعلاج النفوس والقلوب كما يقول ابن تيمية في الحسد والغيرة وغيرهما. ضبط الدوافع لا كبتها: ليس الضبط في الإسلام هو الكبت لدى مدرسة التحليل النفسي، وإنما الضبط هو عملية نفسية: عقلية وإرادية، وليس مجرد عملية بيولوجية شعورية أو غير شعورية، فقصر الضبط على الجانب البيولوجي يعني قصر الضبط على الجسم وحده، في حين أن الأصول الصريحة تدل على أن الضبط هو وظيفة النفس التي هي جماع شخصية الإنسان فيما في ذلك عقله وإرادته: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ويشبه ابن القيم ضبط الدوافع الفطرية بالنهر الذي يهدد حياة قرية مجاورة، ويختلف أهلها حول ما يجب عمله لدرء خطره، الفئة الأولى ترى ترك النهر على ما هو عليه، وهذه سوف يجرفها النهر عاجلا أو آجلا، وهذه الفئة حالها كحال من يسمح للدوافع الفطرية بالتعبير عن نفسها بغير ضبط ولا تهذيب. وترى الفئة الثانية درء الخطر عن طريق سد منابع النهر تماما، وهؤلاء حالهم كحال من يكبت الدوافع الفطرية التي هي غريزة في خلق الإنسان وفطرته، وكبتها لا يعني القضاء على وجودها، ولذلك تظل تتحين الفرص للظهور والإشباع، فإذا ما قاومها الإنسان طويلا فإنها قد تورث الأمراض النفسية أو الجسمية أو العقلية. وتعتقد الفئة الثالثة أن درء الخطر يكون عن طريق بناء سد في مجرى النهر لحجز المياه فترة من الزمن، وهؤلاء يؤجلون الغرق بعض الوقت، وقد ينهار السد ويصبح الانهيار محققا. والفئة الرابعة ترى درء الخطر عن طريق تحويل مجرى النهر إلى مكان آخر صالح للزراعة، وهذا هو الاقتراح الذي ينجي القرية من الغرق، فقد حولوا المياه "أو الدوافع الفطرية" عن طريق الضبط إلى قوة مثمرة خيرة. وهكذا نرى أن هناك فرقا جوهريا بين الكبت الذي يمنع الدوافع الفطرية من التعبير عن نفسها مما يؤدي إلى الأمراض النفسية، وبين الضبط الذي يوجه الدوافع إلى التعبير عن نفسها بطريقة فيها خير الإنسان والناس جميعا. إن العقل هو الأداة الأساسية في النفس للضبط، "ولذا سماه العرب عقلا.. لأنه يكف ويضبط.. يضبط الأهواء والشهوات والغرائز.. وتمده من الداخل النفس اللوامة بما فطرت عليه من كراهية الفجور والشر، وتمده من الخارج الشريعة والتربية السليمة"، لذا كان من السنة أن يكون أول ما يستقبل الطفل وأول صوت يسمعه هو صوت التكبير، الذي يسن التأذين به في أذنه، لأنه ينزل مدركا واعيا، لكنه يحتاج إلى نمو الأعضاء الجسمية التي تسمح له بالتعبير عن وعيه وإدراكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الحاجات الإنسانية : ترتبط حاجات الإنسان بأهداف الحياة الإنسانية وغاياتها عموما، لكن الناس يختلفون في طرق إشباع حاجاتهم، كما يختلفون في أهدافهم، وفي طرق تحقيقها تبعا لاختلاف عقائدهم التي من خلالها يرون الكون والحياة، وعلى أساسها يفسرون السلوك الإنساني وغاياته. وتندرج الحاجات الأساسية للإنسان في مجموعتين: مجموعة الحاجات العضوية المتصلة بجانب الجسم، وإن كان لها بعض الغايات الوجدانية، ومجموعة الحاجات الشعورية والانفعالية المتصلة بجانب الوجدان والضمير. وهذان النوعان من الحاجات ضروريان لقوة النفس وأمنها واستقرارها: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4] ، فالحرمان منهما لون من ألوان العقاب والفزع للنفس الإنسانية: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] . الحاجات العضوية: إن إشباع الحاجات العضوية -كالحاجة للطعام والشراب والإخراج والجنس والراحة- أمر ضروري لا يمكن الاستغناء عنه، لكن الإسلام لا يعتبر إشباع هذه الحاجات غاية في ذاته، بل لإمداد الإنسان بالمتعة والقوة اللتين تحققان له التوازن وتعينانه على عبادة الله، عن طريق أدائه لوظيفة الخلافة في الأرض أحسن الأداء، فإشباع الحاجة الجنسية -مثلا- ليس من أجل المتعة فقط، بل أيضا من أجل ضمان حفظ النوع البشري، وتنظيم حياة الفرد والأسرة والمجتمع: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72] . إن إشباع الحاجات العضوية يؤدي إلى تحقيق بعض غايات النفس الإنسانية، وهي تحقيق المتعة والقوة والطاقة والحيوية اللازمة لتحقيق أهداف الحياة كما أرادها الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] . الحاجات الوجدانية: أما الحاجات الوجدانية فهي حاجات ضرورية أيضا، ويستحيل إغفال إشباعها مع الإبقاء على توازن الكل الإنساني أو النفس الإنسانية، ومن أهم هذه الحاجات وأولاها هي الحاجة إلى الإيمان بوحدانية الله وألوهيته، وإلى الاعتماد عليه، والاستنجاد به، فهذه حاجة فطرية في النفس البشرية، فطر الله الناس عليها: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . فالإنسان مفطور على الإيمان بالله الواحد، وهو لا يميل عن التوحيد إلا إذا فسدت فطرته بعوامل خارجية، ومهما طالت فترة الانحراف عن الفطرة، فلا بد من العودة إليها، وإلا انعدم التوازن النفسي. ومن الحاجات الوجدانية الهامة: الحاجة إلى الأمن والاستقرار، والحاجة إلى الحب وتقدير الآخرين، والحاجة إلى التقدير الذاتي والاجتماعي، والحاجة إلى تحقيق الذات، فالحاجة للأمن والاستقرار أساسية لعطاء الإنسان وإنتاجه ومساهماته في عمارة الأرض، ولذلك أمر الله الإنسان أن يحسن إلى الناس كما أحسن الله إليه، وألا يلجأ إلى الإفساد في الأرض، فمن شأن هذا أن يوفر الأمن والاستقرار في نفوس الناس: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] . ويهدف إشباع الحاجة إلى الحب إلى تحقيق الود والتعاون، وتخليص النفس من أوشابها وأدرانها، ولقد حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما هاجر إلى المدينة أن يقيم مجتمعا على أساس المحبة والإخاء، فكان أول شيء فعله هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فكان ذلك الحب والإخاء في الله الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا، وقد كانت النتيجة هي العزة والقوة والمنعة والنصر: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62، 63] . أما حاجة تحقيق الذات، فهي من أهم الحاجات، وإشباعها ضرورة ملحة للشخصية السوية. والهدف من إشباعها هو تحقيق إنسانية الإنسان، عن طريق احترام الفرد لذاته، وشعور الآخرين معه بإيجابية دوره وفعاليته في واقع الأرض. ولقد يسر الإسلام كل السبل أمام الإنسان كي يحقق ذاته: - فزوده بالاستعدادات الكامنة فيه والقابلة للخير والشر. - وزوده بالقدرات الكامنة والموجهة لاستعداداته. - سخر له ما في البر والبحر لخدمته وتيسير مهمته في عمارة الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 - كرمه وفضله على كثير ممن خلق: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] . - زوده بالإرادة الحرة التي تعمل في إطار المشيئة الإلهية الكبرى. - جعله خليفته في الأرض ليعمرها ويرقيها. إن هذا أكثر مما يحتاجه أي مخلوق كي يحقق ذاته، وقد وفره الإسلام للإنسان، إن هذا يلقى على عاتق التربية -بصفة خاصة- تبعة كبيرة، وتتمثل هذه التبعة في كيفية استثمار كل هذه الاستعدادات والإمكانات والطاقات الكامنة في ذات الإنسان، وفي الأرض حوله من أجل تحقيق ذات الإنسان، وتحقيق ذات الإنسان يتمثل في حسن أدائه لوظيفته كخليفة لله في الأرض، وفق الفطرة التي فطره الله عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 النمو والتعلم : إن نمو الإنسان إلى درجة الكمال التي هيأه الله لها هو الهدف الأسمى لمنهج التربية، فلكل إنسان درجة كمال يمكن أن يصل إليها لو توافرت له الظروف البيئية والتربوية المناسبة. إذن فالنمو ليس غاية في ذاته، لكنه وسيلة لغاية هي: إيصال كل فرد إلى درجة كماله المهيأ له من قبل الله، وعلى العكس من ذلك يقف جون ديوي -أحد أبرز المؤسسين للفلسفة البراجماتية- فهو يرى أن "الفكرة القائلة بأن النمو والتقدم يرميان إلى هدف نهائي لا يتغير ولا يتبدل، هي آخر أمراض العقل البشري في انتقاله من نظرة جامدة إلى الحياة إلى نظرة مفعمة بالحركة"، فليس للتربية هدف نهائي على حد زعم جون ديوي؛ فالتربية -في رأيه- هي عملية نمو، ولا شيء يحدد النمو سوى مزيد من النمو! لكن النمو قد يسير في اتجاهات غير مرغوب فيها، فعصابات المافيا والحكومات العنصرية تنمى لدى أعضائها المهارة والقدرة على السرقة والاغتصاب والاحتيال، وكلما زاد نموهم في هذا الاتجاه ازداد قيامهم بمؤامرتهم بسهولة ويسر. إذن فلا بد من وجود ميعار للحكم على قيمة النمو واتجاهه. "ولا يستطيع المرء إصدار حكم على نوعية النمو في قدرة معينة، إلا إذا توافرت لديه معايير تقع خارج تلك القدرة. فالنمو في حد ذاته ليس قيمة، وإنما تعرف قيمته بعد تحديد الاتجاه الذي يسير فيه"1.   1 محمد قطب: منهج التربية الإسلامية، الجزء الأول، بيروت، دار الشروق، 1402هـ-1982م، ص104-105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ومن أهم خصائص النمو ما يلي: - أنه نتيجة للتفاعل بين العوامل الوراثية والخبرات المكتسبة من البيئة المحيطة، بما في ذلك الخبرات التربوية، وبذلك فالإنسان لا يصل بالنمو إلى درجة كماله الإنساني نتيجة للعوامل الوراثية وحدها، بل لا بد من تفاعل هذه العوامل مع العوامل البيئية بصفة عامة، والعوامل التربوية بصفة خاصة. - أنه متصل اتصالا وثيقا بالنضج، فالنمو لا يسير في الاتجاه الصحيح ولا بالسرعة المطلوبة إلا إذا وصل الإنسان إلى مرحلة النضج المناسبة لذلك، فنمو الطفل في تعلم المشي أو القراءة أو الكتابة لا يسير في سهولة ويسر إلا إذا وصلت الأعضاء الخاصة بذلك إلى مرحلة النضج المناسبة. - أنه يتجه من العام إلى الخاص، فكل الحيوانات والنباتات بدأت خلية واحدة، ثم انقسمت إلى أعضاء متمايزة. - أن هناك فروقا فردية في النمو، فالأفراد جميعا لا ينمون بدرجة واحدة، كما أن درجات النمو الجسمي والعقلي والنفسي للفرد الواحد لا تسير بسرعة واحدة. مراحل النمو: تتشابه مراحل النمو والتطور لدى بني الإنسان، ولا عجب في ذلك، فالخالق واحد هو الله سبحانه وتعالى، والأب واحد هو آدم عليه السلام، الذي خلقه الله من طين، ونفخ فيه من روحه، ويمكن القول: إن التصنيف العام لمراحل النمو الإنساني واحد تقريبا، والاختلافات الموجودة بين العلماء في تفسير السلوك والعوامل الكامنة خلفه في كل مرحلة من هذه المراحل إنما ترجع إلى العوامل الاعتقادية والاختلافات الثقافية والاجتماعية. وعملية النمو تتصف بالتدرج والاستمرار، ويمكن تقسيم مراحل النمو وفق المنهج الإسلامي إلى ما يأتي: - مرحلة الحمل. - مرحلة الرضاعة. - مرحلة الطفولة. - مرحلة البلوغ والمراهقة. - مرحلة الشباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 - مرحلة الرجولة والنضج. - مرحلة الشيخوخة. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5] . العلاقة بين النمو والتعلم: يختلف العلماء في تفسير العلاقة بين النمو والتعلم، فبينما يهتم برونر Bruner وبياجيه بالنمو للمتعلم ومراحل تفكيره المختلفة، فإن جانييه Robert Gagne يهتم أكثر بشروط التعلم، وبالمحتوى المنهجي، وبكيفية ترتيب الموضوعات بحيث تلائم المتعلم. فالاستعداد للتعليم عند جانييه يعتمد على كمية ما لدى المتعلم من معلومات وخبرات سابقة، كما يعتمد على طريقة تنظيم الموضوع أو المعلومات الجديدة، فالشخص يكون مستعدا لتعلم فكرة أو مفهوم ما إذا كانت لديه أفكار أو خبرات أو معلومات سابقة متصلة بالمفهوم أو الفكرة التي يريد تعلمها. كما أن طريقة تنظيم وعرض الأفكار أو المفهومات أو المعلومات الجديدة له دخل كبير في إظهار استعداد المتعلم للتعلم، ولذلك فنظرية جانييه لا تنظر إلى مراحل النمو العقلي، وإنما تنظر إلى أنواع التعلم التي تعتمد إلى حد كبير على نوعية الموضوع المعروض للتعلم، وعلى الخبرات السابقة لدى المتعلم. والأمر على عكس ذلك عند بياجييه وبرونر، فالاستعداد للتعلم عندهما يعتمد على النضج العقلي للشخص وطريقة تفكيره بغض النظر عن كمية المعلومات التي لديه، فالشخص يكون مستعدا لتعلم فكرة أو مفهوم ما إذا كان لديه القدرة العقلية عن استيعاب هذه الفكرة، يعني إذا كانت طريقة تفكيره ملائمة لتقبل الفكرة أو المفهوم الجديد. وهكذا يقف أبرز علماء هذا العصر من المربين الغربيين على طرفي نقيض في تفسير العلاقة بين نمو الشخص المتعلم، ومحتوى التعلم أو الموضوع المراد تعلمه، وحدوث عملية التعلم ذاتها، فبينما يرى البعض أن الاستعداد للتعلم وحدوث عملية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 التعلم تتم اعتمادا على الموضوع المراد تعلمه، ومدى الخبرات السابقة الموجودة لدى المتعلم والمتصلة بهذا الموضوع، تجد البعض الآخر يركز على درجة النمو العقلي التي وصل إليها المتعلم وطريقة تفكيره، بغض النظر عن الموضوع المراد تعلمه والخبرات السابقة المتصلة به. إننا لا نرى لهذا الاختلاف سببا ولا داعيا، فالتعلم يحدث لو توافرت الشروط التالية: - أن يكون المتعلم في مرحلة النمو المناسبة. - أن يستخدم طريقة التفكير المناسبة لموضوع التعلم. - أن تتوافر لديه الخبرات السابقة التي تعينه على فهم الموضوع الجديد. - أن ينظم الموضوع ويعرض بالشكل المناسب لدرجة النمو العقلي للمتعلمين ولنوعية الموضوع نفسه. إن الإنسان ليس جهازا أو حاسبا آليا، تزوده بالمعلومات والمواد الدقيقة من جانب ليعطيك النتائج من جانب آخر، إنه كائن عظيم، خلقه الله في أحسن تقويم، وبث فيه من روحه، فهو يتعلم عن طريق العمل والخبرة المباشرة، ويتعلم عن طريق استخدام العقل في التفكير، ويتعلم أيضا عن طريق الإلهام، يقول العلماء في تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] ، أن القرآن يعبر بالقلب ويعبر بالفؤاد عن مجموع مدارك الإنسان الواعية، وهي تشمل ما اصطلح على أنه العقل، وتشمل كذلك قوى الإلهام الكامنة المجهولة الكنة والعمل. فالإنسان مخلوق عظيم، أعده الله ليكون خليفته في الأرض، وزوده بقوى وإمكانات وقدرات للعمل والتوجيه، نعلم عنها شيئا ونجهل منها أشياء كثيرة. والخلاصة: أنه يجب علينا عند إعدادنا للمناهج والمواقف التربوية أن تكون مناسبة لمراحل النمو والنضج والحاجات ودوافع المتعلمين، وأن نعد المناهج والمواقف بحيث تناسب نوعية الموضوعات والخبرات، وأن نهيئ ظروفا للتعلم تعين الجميع على تحقيق الأهداف المنشودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 واجبات المنهج نحو الطبيعة الإنسانية وطبيعة المتعلم : وفي كل الأحوال فإنه يجب على مناهج التربية -في هذا السياق- التأكيد على الحقائق التالية1: 1- التأكيد على عرض النفس البشرية على أنها حقيقة كونية، وليست مذهبا فلسفيا أو تصورا تختلف فيه المذاهب. 2- التأكيد على أنه لا يمكن إدراك حقيقة الإنسان إدراكا واضحا إلا إذا أدركنا مصدره، ووظيفته الأساسية، ومركزه في الكون، وغاية وجوده الإنساني. 3- النظر إلى الإنسان على أنه مخلوق خاص، ذو كيان متميز، مستخلف في الأرض، ومجهز للنهوض بوظيفة الخلافة على عهد الله وشرطه. 4- التأكيد على أن الإنسان كائن كريم على الله، ذو مركز عظيم في تصميم الوجود، وهو أكرم من كل ما هو مادي؛ لأن كل ما هو مادي مخلوق له. 5- التأكيد على أن الإنسان كائن يتعامل مع الكون كله؛ فهو يتعامل مع ربه، ومع الملأ الأعلى من الملائكة، ومع الجن والشياطين، ومع نفسه، ومع سائر الأحياء الكونية، وهو مجهز بوسائل التعامل مع كل هذا. 6- التأكيد على أن الإنسان مستعد -حسب تكوينه الذاتي- لأن يرتفع إلى أرقى من آفاق الملائكة المقربين، كما أنه مستعد لأن ينحط إلى أدنى من دركات الحيوان البهيم. 7- النظر إلى الإنسان على أنه مصمم على قاعدة الزوجية التي هي خاصية كونية وحيوية، وعلى قاعدة التكامل بين الزوجين لا التماثل، وهي أيضا خاصية كونية وحيوية. 8- التأكيد على أن آصرة التجمع الرئيسية بين أفراد هذا الكائن هي "العقيدة" ذلك أنها العنصر المتعلق بالعنصر الفريد في الإنسان، والذي صار به إنسانا صاحب إرادة واختيار. 9- التأكيد على الأخوة الإنسانية في حس المسلم وشعوره فيما يتعلق بالمشاعر والمعاملة الشخصية، والعدل والقسط والبر ببني آدم جميعا، بل بالأحياء جميعا.   1 انظر سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، فصل "حقيقة الإنسان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 10- التأكيد على العلاقة بين نشاط الإنسان في الدنيا ومصيره في الآخرة، فالثواب في الآخرة موقوف على إحسان القيام بواجبات الخلافة في الدنيا. 11- التأكيد على أن تنمية الحياة الدنيا وترقيتها عن طريق كشف النواميس والأرزاق والمدخرات في الأرض وتوزيعها بالعدل الذي قرره الله هي العبادة، وهي جواز المرور إلى رضوان الله والجنة. 12- التأكيد على أن الله قد كرم الإنسان بجعله مخيرا في شطر من حياته، وجعله مسيرا في شطر آخر، وأن الإنسان لا يحسن القيام بالخلافة في الأرض إلا حين يتناسق شطره الاختياري مع شطره الإجباري، فيخضعان معا لمنهج الله الذي يحكم الكون والحياة. 13- التأكيد على أن الفطرة الإنسانية مؤمنة، وأن الإيمان حاجة فطرية، كما أنه حاجة عقلية لا يملك الإنسان أن يستغنى عنها؛ لأنها مركوزة في كينونته، وهو مفطور عليها. 14- التأكيد على أن أفراد الجنس الإنساني متساوون في عبوديتهم لله، والمؤمنون بالله منهم هم الذين يرضاهم الله بين عباده، وأقربهم إليه وأعلاهم مكانا أتقاهم. 15- التأكيد على الإنسان ذو فاعلية إيجابية في مصيره كله -في إطار المشيئة الإلهية- فاعلية في نفسه، وفيما حوله ومن حوله، وفاعلية في حاضره ومستقبله. 16- التأكيد على أن المؤمن يستطيع أن يرتقي في الحياة الدنيا حتى يصبح قدرا من قدر الله، يحقق مشيئة الله -من خلال حركته الذاتية- في نفسه وفيمن حوله وفيما حوله. 17- التأكيد على أن الإنسان يكون في خير حالاته وأقومها حين يكون في سلام مع الله، ويكون في أسوأ حالاته حين ينحرف عن محوره الفطري ومداره الكوني، حيث يفسد، وتفسد حياته، وينشر الفساد في كل ما يحيط به. 18- التأكيد على أن بشرية الرسل تكريم للجنس الإنساني كله، وأنهم جميعا جاءوا برسالة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 19- التأكيد على أن سنة الله التي لا تتخلف هي التمكين في الأرض لأوليائه المستقيمين على منهجه، والتدمير على أعدائه المخالفين عن سنته، وتعتبر هذه السنة قاعدة أساسية من قواعد التفسير الإسلامي للتاريخ. 20- التأكيد على أنه إذا كانت المبادئ والأسس ثابتة، فإن الإسلام يسمح باختلاف النماذج والأنماط للطبائع الإنسانية في إطاره، كذلك يسمح باختلاف الوسائل وأنماط الحركة في خط سيره، وفي أشكال الأوضاع الاجتماعية للحياة في إطار المبادئ والثوابت. 21- التأكيد على أنه لا توجد خطيئة موروثة؛ وإنما هناك تبعة فردية، ومعصية، وتوبة بابها مفتوح على الدوام. 22- التأكيد على أن الغرائز عامة يشترك فيها الناس جميعا، وهي تعمل كدوافع فطرية لا تكتسب، ولا يمكن استئصالها أو القضاء عليها. 23- التأكيد على أن ضبط الدوافع عملية نفسية عقلية إرادية وليس مجرد عملية بيولوجية شعورية أو غير شعورية. 24- التأكيد على أن إشباع الحاجات النفسية، جسمية ووجدانية ليس غاية في ذاته، بل لإمداد الإنسان بالمتعة والقوة اللتين تحققان له التوازن وتعينانه على القيام بواجبات إعمار الأرض وترقية الحياة. 25- التأكيد على ضرورة إعداد المناهج والمواقف التعليمية المناسبة لمراحل النمو والنضج ولحاجات المتعلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الفصل الرابع: طبيعة الحياة والمجتمع مفهوم الحياة ... الفصل الرابع: طبيعة الحياة والمجتمع في هذا الفصل نتناول الأساس الثالث من أسس بناء مناهج التربية، وهو طبيعة الحياة والمجتمع، وسنحاول هنا الإجابة عن الأسئلة التالية: ما مفهوم الحياة؟ وما العلاقة بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة؟ وما مفهوم المجتمع، وما مكوناته؟ وما المعايير التي يجب أن توجه السلوك الفردي والجمعي في المجتمع؟ وكيف يتغير المجتمع، وما دور التربية في هذا؟ وما المبادئ التي يجب أن تراعيها مناهج التربية في كل كذلك. مفهوم الحياة: الحياة دنيا وآخرة، شهود وغيب، والحياة الدنيا هي دار التكليف والعمل وعمارة الأرض، والآخرة هي دار القرار، فيها يكون الثواب والعقاب على مقدار حسن الأداء في الدنيا. والحياة الدنيا هي مجموع أنشطة الكائنات التي خلقها الله خلال أعمارها الزمنية، وعمارة الأرض، وترقية الحياة على ظهرها إنما تكون باستثمار ما أودعه الله في الكائنات من طاقات استثمارا صالحا، وتوجيه ألوان النشاط البشري لاستخدام تلك الطاقات بالرفق واللطف وفق منهج الله، وبذلك يتحقق التناسق والتكامل بين أنشطة الكائنات من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد في أعمارها الزمنية من أجل إعمار الحياة. وكل شأن من شئون الحياة ينبغي أن يسير وفق منهج الله، فسياسة الاقتصاد والمال، ونظام السياسة، ونظام الأسرة، وجميع ألوان التشريعات المدنية والإدارية، يجب أن تسير وفق هذا المنهج حتى تكون الحياة إنسانية حقا، إن الضابط الوحيد للحركة البشرية، والتطورات الحيوية، حتى لا تمضي شاردة على غير هدي، هو أن تسير كل هذه الأوضاع وفق الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، ومع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 اعتبار الخبرات الإنسانية المتغيرة تبعا لمقتضيات الزمان والمكان والناس: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] . تربية الإنسان وعمارة الأرض: لا شك أن هناك علاقة ضرورية بين إعداد الإنسان وتربيته وفق منهج الله, وبين عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها1. ويمكن تأصيل هذه العلاقة من عدة جوانب: الجانب الأول: أن الله قد كرم الإنسان وجعله مفضلا على كثير من مخلوقاته: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] وسخر له كل ما في السموات وما في الأرض لخدمته: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] . الجانب الثاني: أن الإنسان ليس مستهلكا فقط، بل هو منتج لنفسه ولغيره، فالأمة التي يعمل أبناؤها بجد وإتقان -ولا أقول يحسن أبناؤها العمل، فالإحسان في العمل أدق وأشمل من مجرد الجد والإتقان فيه- تكفي نفسها وتصدر فائض إنتاجها للآخرين من الجهلة والكسالى والمتواكلين، والأمثلة على ذلك كثيرة، فألمانيا بدأت من الصفر بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الآن من أقوى الدول اقتصاديا على الأقل، واليابانيون وصلوا بجدهم وإتقانهم إلى درجة أن حولوا العالم كله إلى سوق لتصريف منتجاتهم, وكوريا وهونج كونج وتايوان وغيرهم في سباق على نفس الطريق. الجانب الثالث: هو أن الله قد أودع الإنسان طاقات كثيرة، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو خفي، ليستخدمها في العمارة وترقية الحياة، كما أنه قد أودع الكون من الخيرات ما يكفي حاجة البشر وزيادة، وما الندرة النسبية للموارد الطبيعية إلا نتيجة للفقر في استخدام الطاقات الإنسانية بكفاءة وفاعلية في استخراج طاقات الكون، وكنوزه المذخورة فيه. ويسود الحياة -عموما- نظامان متكاملان: نظام اجتماعي، ونظام بيئي، وهذا يحتم علينا ضرورة تحديد طبيعة المجتمع العربي، وطبيعة المعرفة التي يجب أن تسود هذا المجتمع، وفي هذا الفصل نفصل القول في القضية الأولى:   1 هذه العلاقة يشار إليها هذه الأيام عادة بـ"التربية والتنمية" وهي عبارة قاصرة عن إدراك المعاني التي نتحدث عنها هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 طبيعة المجتمع ومكوناته : لقد فطر الله الإنسان على الاجتماع، فليس بوسع إنسان أن يعيش وحده، أو ينفرد بنفسه انفرادا تاما، وليس هناك حداثة نفسية واحدة يمكن أن تتم دون أن تكون لها صلة بأفراد المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، فكل حادثة نفسية، لا بد لها من مجال اجتماعي تتم فيه، والعكس صحيح أيضا، فكل حادثة اجتماعية لا بد لها من أصل نفسي1. وعلى هذا الأساس فإن المجتمع الإنساني يتكون من أربعة عناصر: الأول: هو الأفراد الذين يكونون الجماعة. الثاني: هو ما ينشأ بالضرورة من صلات بين أفراد الجماعة، فالجماعة نسيج مكون من صلات اجتماعية. الثالث: هو النظام، فالصلاة الاجتماعية تنظم وتنسق وفق نظام غايته أن يضبط سلوك الجماعة ويوجهه الوجهة المنشودة. الرابع: هو العقيدة، أو الفلسفة، وهي أعظم العناصر المكونة للمجتمع على الإطلاق، وأكثرها خطرا، ذلك أنها تتحكم فيها كلها، وتوجهها جميعا الوجهة التي ترضاها، فهي التي تحدد الصلات الاجتماعية، وهي التي توجد الشعور بالانتماء، وهي التي ترسم نهج السلوك، وهي التي تضع قواعد المجتمع، وتقيم نظمه، وتهدي إلى مثله. والعقيدة تتمثل في شريعة الله، كما هو الحال في الإسلام، كما تتمثل في الفلسفات الوضعية، والنظريات التي توجه الفكر والسلوك العملي في كثير من المجتمعات الأخرى. مقارنة بين المجتمعات: المجتمع الإسلامي مجتمع متفرد بنظامه الخاص، الذي لا يتفق في شيء مع النظم الاجتماعية الأخرى التي عرفتها البشرية، فبينما عرفت البشرية نظم الرق، فالإقطاع، فالرأسمالية، فالاشتراكية، فالشيوعية -التي لم تتحقق في واقع الحياة بعد، ولن تتحقق أبدا، لأنها تتصادم مع مقتضيات الفطرة في الطبيعية الإنسانية- وهي نظم أقامها بعض العباد لبعض، فإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع رباني، يقوم على شريعة محكمة من عند الله، قوامها كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم. وبالرغم من أن هناك بعض أوجه الشبه بين النظام الإسلامي وبين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، كحق الملكية الفردية، وحق الاستثمار الفردي، وحق الإرث   1 محمد أمين المصري: المجتمع الإسلامي، الكويت، دار الأرقم، 1400هـ/1980م، ص8-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 في النظام الأول، وكضرورة ضمان حد أدنى لائق للأفراد في التربية والعمل والمسكن والصحة، وعدم القضاء المطلق على الملكية الفردية، والتقريب بين طبقات المجتمع. إلخ. في النظام الثاني -بالرغم من أوجه الشبه هذه، إلا أنها ظواهر جزئية تقوم على أصول مختلفة، بل ومتناقضة. فالربا والاحتكار -مثلا- قاعدتان أساسيتان من قواعد الملكية الفردية، ومن قواعد الاستثمار الفردي والجماعي في النظام الرأسمالي، والربا والاحتكار محرمان تحريما قاطعا في النظام الإسلامي. والنظام الاجتماعي في الإسلام قائم على أصول ربانية تضمنتها الشريعة الإسلامية يوم جاءت قبل أكثر من أربعة عشر قرنا. فهو مجتمع قائم على هذه الشريعة، وليس نتيجة للتطورات الاجتماعية أو تابعا لها، كما هو الحال بالنسبة للنظم الأخرى. فإذا كانت النظم البشرية قد نشأت نشوءا قاصرا، ثم تطورت وفقا لحاجات أرضية واقعية، وثمرة للصراع بين الطبقات والمصالح المتعارضة داخل المجتمعات البشرية، فإن شريعة الله، التي قام على أساسها المجتمع الإسلامي "وجدت كاملة منذ نشأتها غير مدرجة تدرجا تاريخيا"1. "ومن ثم كانت جميع الأحكام والقوانين التي تنطبق على نشأة النظم الاجتماعية الغربية وتطورها غير منطبقة على المجتمع الإسلامي؛ لاختلاف نشأته عن نشأة تلك النظم، ولاختلاف القاعدة التي ترتكز عليها نشأته، ولاختلاف القانون الذي يحكم نموه وتطوره". وإذا كانت المجتمعات القائمة على تشريعات وضعية تقوم فترة من الزمان ثم تنتهي، فإن المجتمع الإسلامي، الذي عاش أربعة عشر قرنا من الزمان، سيعيش، بل سيكون هو مجتمع المستقبل؛ "لأن سياج الشريعة سيظل يحرس هذا المجتمع، مهما كانت عوامل المقاومة والعداء"2. وإذا كانت المجتمعات البشرية القائمة على تشريعات وقوانين وضعية ومؤقتة هي مجتمعات محلية، وقومية، وعنصرية، قائمة على أساس الحدود الجغرافية، فإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع عالمي مفتوح لجميع بني الإنسان دون نظر إلى جنس أو لون أو لغة، "بل دون نظر إلى دين أو عقيدة"، فغير المسلمين يعيشون مع المسلمين في ظل المجتمع الإسلامي، على أنه لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. وعالمية الدعوة الإسلامية، وبالتالي النظام الاجتماعي القائم عليها، مقررة بوضوح في قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 27] . {وَمَا   1 سيد قطب: نحو مجتمع إسلامي، ط6، بيروت، دار الشروق، 1403هـ/1983م. 2 المرجع السابق، ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] . وأخيرا، فإن أهم ما يجب أن يظل ماثلا في الذهن هنا حقيقتان: الأولى هي أن مبادئ الإسلام العليا "التي تسبق آخر ما وصلت إليه البشرية في خلال أربعة عشر قرنا، كانت قائمة فيه منذ اليوم الأول، وأنه منذ ذلك اليوم قد أخذ بيد البشرية في طور الترقي إلى الآفاق المرسومة خطوة خطوة فكان التطور، لا في مبادئه وأهدافه، ولكن في قرب البشرية يوما بعد يوم من هذه المبادئ والأهداف، وهذا ما ينفي فكرة التطور التاريخي من أساسها، بالقياس إلى الفكرة الإسلامية، وإلى نظام المجتمع الإسلامي"1. الحقيقة الثانية التي يجب أن تظل ماثلة في الذهن هي "أن النظام الإسلامي ليس هو الرق، وليس هو الإقطاع، وليس هو الرأسمالية، وليس هو الاشتراكية، وليس هو الشيوعية. إن النظام الإسلامي هو فقط، النظام الإسلامي"2. مقومات المجتمع: إذن فالقاعدة الأساسية التي يقوم عليها مجتمعنا هي أنه نظام رباني، عالمي، يقوم على أساس القواعد العامة والأصول الكلية لشريعة الله، والمنصوص عليها في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم. ومن هذه القاعدة العريضة للنظام الاجتماعي, تنبثق أربعة مقومات رئيسية يعتمد عليها البناء الاجتماعي كله، وتؤثر في كل خلاياه وجزئياته الداخلية، وهذه المقومات أو العمد الأربعة هي: العلم، والعدل، والعمل، والحرية المنضبطة بقواعد منهج الله، ونتناول كل مقوم من هذه المقومات الأربعة بشيء من التفصيل فيما يلي:   1 المرجع السابق، ص75. 2 المرجع السابق، ص91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 العلم والمعرفة ومكونات المجتمع : العلم شعار الإسلام وفطرة الله في الإنسان، فالإنسان هو خليفة الله في الأرض ليعمرها ويرقيها وفق منهج الله، وهي منزلة اشرأبت لها أعناق الملائكة وتشوفت إليها نفوسهم، فلن يعطوها، ومنحها الله للإنسان1. وعمارة الأرض وترقيتها لا تكون إلا بالعلم، ولذلك عندما أراد الله أن يعد الإنسان لحمل أمانة تنفيذ منهجه في الأرض، هيأه لها بالعلم: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ   1 يوسف القرضاوي: الخصائص العامة للإسلام، ط3، القاهرة، مكتبة وهبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31-33] . ولا عجب في أن العلم هو شعار الإسلام الأول، فأولى الآيات التي نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ، كما جعل الإسلام طلب العلم فريضة. وطالب العلم مجاهد في سبيل الله، كما أكد الإسلام هذا الشعار في كل مناسبة حتى يذكر الإنسان، ويحرك أحاسيسه، ويثير مشاعره كلما تبلد أو ابتعد عن منهج الله، والآيات والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى في هذا المقام. أما كون العلم فطرة الله في الإنسان، فهذا يمكن فهمه من القرآن في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . فالآية ترجع مسألة العلم بوحدانية الله، والاعتراف بربوبيته إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وأخذ بها عليهم الميثاق في ذات أنفسهم وذات تكوينهم، ولقد شهد الكيان البشري على نفسه بهذه الحقيقة، وذلك بحكم وجوده، فوجوده يعني هذه الحقيقة. فإذا كان العلم بوحدانية الله، والاعتراف بربوبيته -وهما غاية كل علم- فطرة في الكيان البشري، فإن تعلم كل العلوم القديمة والحديثة يجب أن تكون الغاية منه هي الحفاظ على فطرة الله في الإنسان، وحتى الرسالات والكتب السماوية ما هي إلا تذكير وتحذير وتقويم لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى، فقد اقتضت رحمة الله ألا يكل الناس إلى أنفسهم، فقد تنحرف عن الفطرة، وألا يكلهم إلى عقولهم فقد تضل، وأن يبعث إليهم رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. دور المناهج التربوية: هنا يأتي دور المناهج التربوية، فالعلم ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة للحفاظ على فطرة الله في الإنسان حتى لا تنحرف عن العلم بوحدانية الله، والاعتراف بربوبيته، والمعرفة ما هي إلا وسيلة لإقدار الناس على القيام بحق الخلافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 في الأرض بإيجابية وفاعلية. فالتقاعس عن التعليم والتعلم، وانتشار الجهل هما سير ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وضد مقتضيات القيام بحق الخلافة في الأرض؛ لأنها سبيل الخراب والتخلف لا العمار والرقي، وهنا ترتبط قضية العلم، بقضية الإيمان بالألوهية والوحدانية، وبقضية خلافة الإنسان في عمارة الأرض وترقيتها برباط واحد، وأي منهج للتربية لا تظهر فيه هذه العلاقة الوطيدة فهو منهج منحرف، ولا علاقة له بالإسلام1. والخلاصة، أن المجتمع المتحضر يتخذ العلم وسيلة للحفاظ على فطرة الله في الإنسان وهي العلم بالألوهية والوحدانية، والاعتراف بالربوبية، كما يتخذه وسيلة لإقدار أبنائه على المساهمة بإيجابية وفاعلية في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله. التدفق المعرفي: يتلقى الإنسان معرفته من الوحي والنص، ومن الكون والحياة، فالإسلام يرد كل شيء ابتداء إلى إرادة الله وتدبيره، ويرد الخلق كله بما في ذلك الكون، والإنسان، والمعرفة إلى إرادة الله الواحد، ومن ثم فلا تناقض في أن يكون الكون أو "الطبيعة"، وأن تكون الحياة بأوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية مصدرا آخر للمعرفة بجانب الوحي، وعن طريق العقل، وسائر المدارك والطاقات فيه، باعتبار أن هذا كله من صنع الله، فهي من عنده، كما أن الوحي من عنده أيضا. ولكي يقوم الإنسان بحق الخلافة كاملا، لا بد من إعداده وتربيته من خلال مناهج مخططة ومنظمة, بحيث يكون قادرا على مواجهة التدفق المعرفي الهائل الذي نتج عن الثورة الهائلة في تكنولوجيا الاتصالات. ويلزم لذلك ثلاث مهارات رئيسية. 1- القدرة على الاختيار والانتقاء من المعارف المتدفقة. 2- القدرة على إعادة تنظيم المعرفة في نسق علمي ومنطقي. 3- القدرة على الاستخدام الأمثل للمعرفة في إنتاج الأفكار والأشياء. العلم وتعليم الكبار: لقد بدأ تعليم الكبار في تاريخ البشرية بتعليم الله لآدم الأسماء كلها: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 31، 32] .   1 محمد متولي الشعراوي: منهج التربية في الإسلام، القاهرة، دار المسلم، بدون تاريخ، ص11-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وكانت بداية الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] "هو حادث ضخم بحقيقته، وضخم بدلالاته، وضخم بآثاره في حياة البشرية، وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد -بغير مبالغة- هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل"1، ولهذا فليس من المبالغة القول بأن العلم هو شعار الإسلام الأول. ولقد رفع الإسلام -من اللحظة الأولى- شعار العلم لتحقيق الفطرة، فالعلم فطرة الله في الإنسان، وهذا واضح في قول الحق -تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . فهذه الآية ترشدنا في وضوح إلى مجموعة من الأمور أهمها ما يلي: أولا: أن العلم بالألوهية والوحدانية -وهو غاية كل علم- فطرة الله في الإنسان، وأن الانحراف عن هذا العلم هو انحراف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها. ولهذا يجب مقاومته بجميع الوسائل لرد الإنسان إلى الفطرة. ثانيا: يترتب على أولا، أن الأخذ بأسباب العلم فريضة لازمة لتأكيد الفطرة والحفاظ عليها وعدم الانحراف عنها؛ لأن الانحراف عنها يتبعه الانحراف عن الإيمان بوحدانية الله، وما يترتب عليه من انحراف الإنسان عن وظيفته، ألا وهي عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله. ثالثا: وبما أن العلم فطرة الله في الإنسان، وهو سبيل الإنسان إلى معرفة الله وخشيته {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وهو وسيلته إلى عمارة الأرض وترقيتها، فإنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالاستمرار في عملية التعليم والتعلم من الصغر إلى الكبر. إن حاجات الحياة متغيرة متجددة بتغير الحياة نفسها، وهذا يتطلب -بطبيعة الحال- استمرار الإنسان في التعلم لينفض عن نفسه، وعن مشاعره، ما يكون قد علق بها من صدأ أو بلادة، نتيجة الانغماس في الحياة تحت وطأة قبضة الطين ومطالبها. رابعا: إن عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها، عملية مستمرة دائمة، وهي بالتالي تتطلب معلومات متجددة، وهذا كله يتطلب التربية والتعليم والتدريب للكبار بصفة دائمة ومستمرة، إن الإنسان الذي يقوم بحق الخلافة في الأرض، هو   1 سيد قطب: في ظلال القرآن: مرجع سابق، مجلد 6، ج30، ص3936. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الذي يأخذ بكل الأسباب التي تساعده في أداء هذه الغاية بطريقة حسنة، فالمسلم مطالب بحسن الأداء، لا بمجرد الأداء، وهذا يتطلب أن يكون الإنسان متجددا ومترقيا وملما بكل ما يجد في ميدان عمله من معارف وخبرات ومهارات، إذن فترقية الحياة وفق منهج الله تتطلب التربية المستمرة، بل وحسن التربية. المناهج ومصادر العلم: تختلف مصادر منهج التربية في الإسلام عن مصادر المناهج الأخرى، فمنهج التربية يستمد أصوله وموجهاته من منهج الله الكلي للكون والإنسان والحياة، والمتمثل في شريعة الله، أما معظم المناهج الأخرى فتستمد أصولها من الفلسفات والنظريات التابعة لها. فالشريعة الإسلامية كفت القائمين على بناء منهج التربية في الإسلام شر اللجوء إلى الفلسفات والنظريات البشرية. فالفلسفات يلجأ إليها غير المسلمين لعدم وجود شريعة عاملة لديهم، وفي ذلك يقول ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله": "إن أهل الفلسفة قد قسموا العلوم إلى علم أعلى، وعلم أوسط، وعلم أسفل. وجعلوا الفلسفة هي العلم الأعلى؛ لأن هذا العلم عندهم يرتبط بأمور قد أغنت عن الكلام فيها كتب الله الناطقة بالحق، المنزلة بالصدق، وما صح عن الأنبياء صلوات الله عليهم"1. إننا لا يجب أن نحيد عن القرآن والسنة, كأصول وموجهات لمنهج التربية، فما ضياعنا إلا نتيجة مباشرة لهذا الحياد عن أصول منهج الله، ولقد كان المسلمون الأول يدركون هذه الحقيقة حتى إن عمر رضي الله عنه كما يقول ابن القيم: "كان يمنع الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم، وزبد أفكارهم، وزبالة أذهانهم عن القرآن والحديث؟ "2. هذه هي طبيعة هذه المنهج، يجب أن نعرفها، وألا نحاول تغييرها لرغبات معجلة مهزومة أمام أزياء الفلسفات والنظريات البشرية، فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة، وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد فيها أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود كما أخرجها الله أول مرة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] . وتختلف مصادر العلم في منهج التربية باختلاف نوع المعلوم. فالكون محسوس وغير محسوس، شهود وغيب، فالغيب مصدر العلم به هو الوحي الصادق من صاحب الغيب -سبحانه وتعالى، وتحقيق هذا العلم يكون بتحقيق نسبة الخير إلى الله عز وجل، والمحسوس سبيل العلم به الملاحظة، والتجربة، والخير أيضا، ويكون تحقيق الخير بالاستقراء والاستنباط والملاحظة والتجربة3.   1 ابن عبد البر النمري القرطبي: جامع بيان العلم وفضله، جـ2، ص37-387. 2 ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق، ص376. 3 محمد رشاد خليل، مرجع سابق، ص38-39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 العدل بين الأفراد والنظم والمؤسسات : وظيفة العلم -إذن- هي عمارة المجتمع الإنساني وترقيته، لكن العلم إذا لم يكن مستندا إلى عدل الله، ينقلب إلى وسيلة للخراب والدمار للمجتمع البشري كله! فالعدل -إذن- هو القيمة التي توجه غايات العلم، نحو خير الإنسان والبشرية جميعا. والعدل كما وضحه بعض الفقهاء والمفسرين هو تنفيذ حكم الله، أي: أن يحكم الناس وفقا لما جاءت به الشرائع السماوية، ولما كانت الشريعة الإسلامية هي كمال هذه الشرائع، فإن العمل بها إذن هو تحقيق للعدل الذي أمر الله به، ويندرج تحت هذا المعنى العام للعدل معانيه الخاصة, فهناك العدل في الحكم, والعدل في النظام الاجتماعي, والعدل في القضاء، والعدل الاقتصادي، والعدل بين الرجل والمرأة، والعدل في الحقوق والواجبات والمعاملة.. إلخ. فالعدل من الحكام فرض لا يستقيم الحكم إلا به: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] . والعدل واجب حتى للأعداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] . وتقوم العدالة في السياسة الاقتصادية على ثلاثة أسس مهمة: الأول: أن المال مال الله، والناس مستخلفون فيه: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] . والثاني هو أن الإسلام كره أن يحبس المال في أيدي فئة قليلة من الناس، بينما يمنع عن الآخرين: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] . والثالث، هو الملكية الفردية، فالمال مال الله، والناس مستخلفون في مليكة التصرف والانتفاع به، الذي لا يصل إلى السفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 العدل بين الأفراد والصلات الاجتماعية: وتقوم العدالة بين الفرد والمجتمع على أساس حركة الفرد، ونوعيتها، وعلاقتها بغيرها داخل المجتمع: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] . فالفرد في المجتمع مرفوع فيما يجيد وفيما يحسن، ومرفوع عليه غيره فيما لا يجيده ولا يحسنه، إذن فكل فرد فاضل في جهة ومفضول عليه في جهة أخرى. فالمفضول عليه يسخر الفاضل لخدمته. كما كفل الإسلام المساواة للمرأة مع الرجل في الجنس والحقوق الإنسانية. ولم يقرر التفاضل إلا في بعض الملابسات الخاصة بالاستعداد والخبرة والدربة والتبعة، مما لا يؤثر على حقيقة الوضع الإنساني للجنسين، فحيثما تساوى الاستعداد والدربة والتبعة تساويا، وحيثما اختلف شيء من ذلك كان التفاوت بحسبه. فالرجل والمرأة من ناحية العمل والثواب والعقاب يتساويان: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] . {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] . وفي أحقية كل منهما وأهليته في الملك والتصرف الاقتصادي يتساويان: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] . {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 العمل أساس التملك : الأساس الثالث من أسس بناء المجتمع، وعمارة الحياة وترقيتها فيه -بعد العلم والعدل- هو العمل. فباستثناء الميراث، جعل الإسلام العمل هو الوسيلة الوحيدة لنيل حق التملك: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] ، "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من عمل يده" "رواه البخاري". وكره أن يلد المال المال، وإنما يلد المال الجهد، وعلى أساس هذه القاعدة حرم الإسلام الربا؛ لأن المرابي يمتص نتيجة جهد الآخرين وعرقهم بينما هو قاعد، وهذا يورث العداوة والبغضاء ويؤدي إلى هدم الحياة الاجتماعية النظيفة، ومن هنا -أيضا- جاءت كراهية الإسلام للترف وجعله مصدر الشر والفساد للفرد والجماعة معا. {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] . العمل ومفهوم العبادة: وليس المراد بالعمل على كل حال الانصراف عن أمور الدنيا وقضاياها والكدح فيها والاشتغال بأمور ثانوية في الدين، كالخلافات المذهبية والدروشة -كما يسميها الأستاذ فهمي هويدي- وبحث مدى إخلاص أو عدم إخلاص بعض المفكرين من أعلام المسلمين. وليس من العمل الجاد الذي تعمر به الحياة وترقى أن يترك كل ذي تخصص تخصصه في الطب والهندسة والعمارة والطبيعة والكيماء وعلوم الجهاد وعلوم الإدارة وعلوم ارتياد الفضاء، وكل العلوم التي نحن فقراء إلى النابغين فيها -إلى الاشتغال بأحكام التلاوة وعلامات الساعة والخلافات المذهبية1. إن العمل الجاد الذي تعمر به الحياة وترقى، هو أن ينصر كل منا الإسلام في ميدان تخصصه بالإنجاز فيه والإنتاج والإبداع، يقول الشيخ محمد الغزالي: "من المستحيل إقامة مجتمع ناجح الرسالة إذا كان أصحابه جهالا بالدنيا عجزة عن الحياة. وإنه لفشل دفعنا ثمنه باهظا عندما خبنا في ميادين الحياة، وحسبنا أن مثوبة الله في كلمات تقال، ومظاهر تقام. إن الله لا يقبل تدينا يشينه هذا الشلل المستغرب، ولا أدري كيف نزعم الإيمان والجهاد ونحن نعاني من هذه الطفولة التي تجعل غيرنا يداوينا، ويمدنا بالسلاح إذا شاء"2. وربما كان من أهم أسباب هذه المشكلة عدم فهم معنى "العبادة" في الإسلام، فالبعض لا يفهم من معنى العبادة إلا أنها الصلاة والصوم والزكاة والحج والصدقة وبعض الأذكار والأدعية، مع أن هذا جانب واحد فقط من جوانب العبادة، فالعبادة تشمل النشاط الإنساني كله؛ لأن نشاط الإنسان المسلم كله حركة واحدة متجه نحو تحقيق غاية وجوده، وغاية وجود الإنسان هي العبادة عن طريق القيام بحق الخلافة في الأرض، والقيام بحق الخلافة في الأرض يعني عمارتها وترقيتها وفق منهج الله. وبهذا المعنى الشامل تصبح العبادة هي الصلة الدائمة بين المسلم وربه، وتصبح هي التربية الدائمة للإنسان كله، جسمه وعقله وضميره ووجدانه. واجبات مناهج التربية: وبهذا المعنى يصبح من الواجب على منهج التربية أن يتنازل عن تقسيم النشاط الإنساني إلى "عبادات" و"معاملات"، وهو التقسيم الذي ورد في التأليف   1 فهمي هويدي: هؤلاء الدراويش، الأهرام في 25/ 8/ 1987م. 2 محمد الغزالي: مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، ص36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الفقهي في مرحلة متأخرة، قد أنشأ آثارا ضارة في التصور الإسلامي، تبعته -بعد ذلك- آثار ضارة في الحياة الإسلامية كلها. إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن معنى "العبادة" إنما هو خاص بالنوع الأول من النشاط الذي يسمى "فقه العبادات" بينما أخذ المعنى ينزوي رويدا رويدا عن النوع الثاني من النشاط الذي يتناوله "فقه المعاملات"1 وهو انحراف بالتصور الإسلامي لمفهوم العبادات لا شك فيه. إن منهج التربية يجب أن يتناول كل النشاط الإنساني بالدراسة، ابتداء من الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والزكاة والحج إلى البرامج الدراسية في نظام الحكم ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية والمدنية، ونظام الأسرة، ونظام الإدارة، إلى المواد المختلفة في الرياضيات والطبيعة والكيماء، والعوم الإنسانية إلى آخره؛ يجب أن يتناول المنهج كل هذه المواد والبرامج على أساس أنها لا تهدف إلا إلى غاية واحدة، هي تحقيق معنى "العبادة" كما سبق إيضاحه. إن غياب المناهج التربوية التي تقوم على هذا الأساس في معظم أقطار العالم العربي والإسلامي هو من أهم أسباب البلاء والتخلف الذي نعاني منه، وحتى المناهج التي تحاول على هذا الطريق يشوب بعضها الخلط، ويعوز بعضها الآخر الكثير من التخطيط الدقيق، ففي الأزهر مثلا، كنا -حتى في الستينيات من هذا القرن الميلادي- نتخصص مع بداية المرحلة الثانوية في أحد المذاهب الأربعة، حيث يقسم الطلاب على هذه المذاهب، فالبعض يدرس المذهب الحنفي، والبعض يدرس المذهب الشافعي والبعض يدرس المذهب المالكي، وهكذا كان الطلاب في هذه المرحلة من العمر، يتعلمون التعصب للمذاهب، والغوص في الخلافات والجزئيات والتفصيلات التي لا تجدى، وهم بعد لم يفهموا أصول ومقومات التصور الإسلامي العام! إن أئمة المذاهب الأربعة لم يختلفوا على أصل من الأصول, ولا في أية مسألة ورد فيها نص من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، وإنما اختلفوا في الجزئيات والتفصيلات التي لا يضر معه الخلاف، وحتى أبو حنيفة -وهو المشهور بالقياس- قد بنى مذهبه, كما يقول ابن القيم في "إعلام الموقعين" على أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي"2. فمنهج التربية لا يجب أن يركز على الخلافات، ولا على التفصيلات التي لا قيمة لها، وخاصة في مراحل التعليم قبل الجامعي، وإنما يهتم بالأصول، وبالمجرى العام لمنهج الله في حكم الحياة، ويترك هذا الترف العقلي والعلمي، وهو الخوض في الجزئيات والثانويات والاختلاف حولها، لخاصة المتخصصين في هذا الميدان.   1 سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، مرجع سابق، ص109. 2 ضعيف الحديث عند المتقدمين وما يسميه المتأخرون بالحديث الحسن، انظر ذلك في ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، بيروت، دار الجيل، جـ1، ص230 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الحرية المسئولة أساس العلاقة بين الفرد والمجتمع 1: الحرية هي الأساس الرابع الذي قام عليه بناء المجتمع الإسلامي، لقد فطر الله الإنسان على الحرية، فالحرية فطرة في الطبيعة الإنسانية، فالله -سبحانه- خلق الإنسان حرا؛ لأنه جعله مسئولا عن تنفيذ منهجه في الأرض، فالإنسان حر؛ لأنه مسئول، فالحرية تستتبع المسئولية، والمسئولية تستلزم الحرية، فنشاط الإنسان المسلم كله حر، وهو كله عبادة لله، ما دام الإنسان متجها بنشاطه نحو هذه الغاية. ومعنى كون الحرية فطرة فطر الله الإنسان عليها، أنها ليست مجرد منحة يمنحها النظام الاجتماعي للإنسان، أو يمنعها عنه، وإنما هي قيمة غريزية غرزها الله في خلق الإنسان حين خلقه. ويعبر عن هذا المعنى قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟! ". فالحرية حاجة أساسية من حاجات النفس لا بد من إشباعها، وهي حق من حقوق الإنسان لا بد من ممارسته، فلا عجب -إذن- أن ينحرف سلوك الإنسان ويسوء عمله، وتهبط أخلاقه، ويتدهور حال مجتمعه كله، إذا حوصر ومنع من ممارسة حريته, أو إذا انفلت في ممارستها دون ضبط أو تنظيم وفق معايير المنهج الإلهي. والإسلام يسير في هذا مع مقتضى فكرته عن فطرة الإنسان على الإيمان بالله وحده، فالإنسان غير المسلم الذي تصل إليه فكرة الإسلام واضحة جلية دون ضغوط أو حصار أو رفض قائم على مقدرات سابقة، لا بد أن يعود إلى فطرته السليمة التي فطر الله الناس عليها، لكن الإسلام يريده أن يعود إلى الله بإرادته الحرة الواعية. فهذا هو الطريق الوحيد الذي يستوجب المسئولية.   1 انظر تفصيل موضوع "الحرية بين الشورى والديمقراطية" في كتاب "منهج التربية في التصور الإسلامي" للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 التغير الثقافي والحضاري 1: تتكون الثقافة في التصور الإسلامي من شقين: شق معياري ويتمثل في شريعة الله ومنهجه لحكم الحياة، وشق تطبيقي، ويتمثل في التطبيق العملي الواقعي الصحيح للشق المعياري. وعليه يمكن تعريف الثقافة بأنها الأسلوب الكلي لحياة الجماعة التي يتسق مع تصورها لحقائق الألوهية والكون والإنسان والحياة، وتتمثل مقومات الثقافة في شريعة الله الشاملة لأصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول المعرفة، وأصول الأخلاق والسلوك، وكل التشريعات والنظم والقوانين التي تخضع لها، وجميع أشكال التطبيق العملي الواقعي، وأنماط السلوك الفردي والجمعي التي تتسق معها نصا وروحا.   1 انظر تفصيل موضوع "الثقافة والحضارة في التصور الإسلامي" في كتاب "منهج التربية في التصور الإسلامي" للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وعندما يكون الجانب التطبيقي في الثقافة الإسلامية ترجمة واقعية صحية للجانب المعياري فيها، مع استخدام كل معطيات الإنسان والزمان والمكان.. تكون الحضارة. والتغير في الأنماط الثقافية والحضارية إنما يخضع لقاعدة ثابتة تمثلت في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وقوله -سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] . فالآيتان السابقتان تدلان دلالة قاطعة على أن التغير الاجتماعي إنما يبدأ من الداخل، أي: من داخل النفس، وذلك بتغيير الأنماط العقائدية والمعيارية والقيمية والفكرية للإنسان، فإذا ما تغير ذلك، فإنه ينعكس على النظم والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية.. إلخ، وهذا ما عبر عنه الأستاذ حسن البنا في إيجاز بليغ، حين قال: "أقيموا الإسلام في أنفسكم يقم على أرضكم". مفهوم الأمية: تعرف الأمية بأنها عدم القراءة والكتابة، ويعرف الأمي بأنه من لا يقرأ ولا يكتب، وبأنه الشخص العيي، الجاف، الجاهل؛ وفي ذلك تضييق لمفهوم الأمية، بالإضافة إلى الخلط والتلبيس بين الأمية وبين الجهالة. فالأمي نسبة إلى الأم، أو الأمة، وهو من ليس عنده نسبة أصلا، أما الجاهل، فهو من عنده نسبة خاطئة، ولذلك وصف القرآن الكريم الناس في عصر ما قبل الإسلام بأنهم "جاهلون" وعصرهم هو عصر "الجاهلية" وذلك لأنهم كانوا يعرفون الله، ولكن بطريقة خاطئة، فهم رغم إقرارهم بوجود الله إلا أنهم يعبدون الأصنام والأوثان: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38] . فالجهل إذن ضد العلم؛ لأن الجهل أن تدرك نسبة خاطئة، مجزوما بخطئها، ولا دليل على صحتها، ويكذبها الواقع. أما العلم فهو أن تدرك نسبة صحيحة، مجزوما بها، وعليها دليلها، ويصدقها الواقع1. وعلاج الجاهل أقسى وأشق من علاج الأمي، لأن الأمي يحتاج إلى عملية واحدة وهي تزويده بالنسبة الصحيحة، أما الجاهل فهو يحتاج إلى عمليتين: انتزاع النسبة الخاطئة من نفسه، ثم تزويده بنسبة أخرى صحيحة.   1 علي أحمد مدكور، راشد بن حمد الكثيري: تقويم برامج محو الأمة وتعليم الكبار في منطقة الرياض في ضوء أهدافها، معهد البحوث وإحياء التراث الإسلامي، مركز البحوث التربوية والنفسية، مكة المكرمة، 1409هـ/1989م، ص57 وما بعدها. وانظر أيضا: علي أحمد مدكور، منهج تعليم الكبار: النظرية والتطبيق، القاهرة، دار الفكر العربي، 1416هـ-1996م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وللأمية والجهالة مظهران في حياتنا: 1- مظهر في الأفراد ويتمثل في عدم قدرتهم على القراءة، والكتابة والحساب، وهو ما يسمى بالأمية الهجائية. 2- مظهر في المجتمع ويتمثل في ضعف الفكرة، والمنهج، والتصور. وقد أدى هذا إلى ضعف الإنتاج، وسوء استخدام أدواته، والتمسك بالخرافات والأوهام، وسوء الإدارة والنظام، إلخ، وهذا ما يسمى بالأمية الوظيفية كما يتمثل في سوء التفكير، وانحراف القيم والمفاهيم، وسوء العلاقات الاجتماعية وتعقدها، وهذا هو المظهر الحضاري للأمية. والحقيقة أن الأمية ظاهرة مركبة، ولا يمكن الفصل منهجيا بين مظاهرها الثلاثة السابقة، فالأمية الحضارية هي المناخ الاجتماعي لنمو وانتشار واستمرار الأمية الهجائية، والأمية الوظيفية. إن الجهالة قرينة التخلف، فكلما كان المجتمع متخلفا، كانت الجهالة أحد تعبيراته الاجتماعية، فالمجتمع المتخلف لا يستشعر الحاجة إلى ترقية نمط حياته، بل إنه يقاوم عملية الترقي. والمجتمع المتحضر الإسلامي لا يقبل الأمية والجهالة، وهو يستخدم التربية في القضاء على أي مظهر لهما، وخاصة بين الكبار، فالقرآن الكريم ينعى على البعض عدم استخدام الحواس والطاقات المدركة في التفكير والتدبر ويسميهم "الغافلون": {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] . فالغافلون هنا لهم حواس وأجهزة سليمة من حيث تركيبها العضوي، وبالرغم من هذا فهم "غافلون" ومأواهم جهنم؛ لأن حواسهم لا تؤدي وظيفتها النفسية، وبذلك فهي لا تعين الإنسان على أداء وظيفته التي خلق من أجلها، وهي عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج الله. وهنا يأتي دور منهج التربية الإسلامية في تربية الحواس عن طريق التفكر والتدبر، وفي إيقاظ المجتمع وإثارة وعيه بضرورة الرقي، ومواجهة المتغيرات، وتوجيه النافع منها في عمارة الحياة عن طريق ترقية أنماط الاعتقاد والسلوك والعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 العولمة والكوكبة والقدرة على التكيف: إن عملية التكيف مع بعض المتغيرات، وتكييفها وتوجيه بعضها الآخر، هي عملية حضارية لا بد أن تخضع للمعايير والقيم التي يؤمن بها المجتمع، كما تخضع للتقاليد القديمة العهد، والأعراف المجربة. والمتأمل في مجتمعات الأمة الإسلامية هذه الأيام يرى أن المتغيرات الواقعة عليها أكبر من قدرتها على استيعابها، وهي بالتالي غير قادرة على القيام بعمليات التكيف والتنسيق للمتغيرات، فضلا عن تكييفها وتوجيهها، والسبب في ذلك هو غياب القواعد الحضارية، والأسس المعيارية للمجتمع المتحضر الإسلامي، والتي على أساسها يتم القبول، أو الرفض، أو التوجيه للمتغيرات. إن التغير والتطور على طريقة ترقية الحياة الاجتماعية لن يحدث إلا إذا شعر أبناء المجتمع بالحاجة إليه، واستطاعوا أن يتصوروه في إطاره الأوسع وضمن تغيرات كثيرة، وتعرفوا على طبيعة التغير ومكان حدوثه, والفنون والمهارات التي يتطلبها، واستعدوا لذلك، رغبة في إحداثه وقيادته، والسيطرة على حركة عناصره المادية والمعنوية معا. إن صراع الأجيال الذي بدأنا نعاني مشاكله سببه الأساسي أننا أصبحنا نجري وراء النظريات والأفكار الغربية التي تضع المجتمع كله على خط التغير السريع المتلاحق، فالناس يلهثون وراء المتغيرات، فلا يكادون يلحقون بها حتى تظهر لهم أخرى فيلهثون وراءها.. وهكذا لا يستقر لهم قرار، ويصبح ما كان مرغوبا بالأمس لا قيمة له اليوم، وما هو مجرب اليوم، يصبح بلا معنى غدا.. وهكذا نشأ ما يسمي بـ"صراع الأجيال". لكن المجتمع المتحضر يربي الصغار والكبار على السواء, في ظل الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، والخبرات الإنسانية المتغيرة التي لا تخرج عن نطاق الثوابت في منهج الله، وبذلك ينشأ "اختلاف الأجيال" الناتج عن اختلاف مظاهر الحياة ومطالبها باختلاف الزمان والمكان. وهذا شيء طبعي.. محبوب ومرغوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 واجب واجبات المناهج التربوية 1: مما سبق يتضح أن على منهج التربية مراعاة ما يلي: 1- التأكيد على أن الحياة ليست إلها؛ وليست قوة مدبرة في ذاتها تنشأ وتنشئ وفق إرادتها المستقلة! وأنها ليست تلقائية وجدت مصادفة، وتمضي خبط عشواء؛ إنما هي خليقة أنشأها الله بقدر، وتمضي كذلك وفق قدر، وهي مودعة خصائصها الذاتية التي تفرقها عن الموات. 2- التأكيد على أن الطبيعة ليست إلها، وليست هي التي خلقت الحياة، كما أنها ليست هي التي خلقت نفسها، إنما هو الله الذي خلقها، وجعلها مناسبة لظهور الحياة، وهيأ الأرض لهذا النوع من الحياة التي نشأ فيها، الأصل والقاعدة، وأودع في الأرض أقواتها وأرزاقها، وجعل الكون كله مسخرا ومساعدا. 3- التأكيد على أن الحياة ناشئة بإرادة الله من أصل واحد هو الماء: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] ، {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] . 4- التأكيد على حقيقة أن الحياة مقدرة أقواتها في بنية الأرض، وفي نظام الكون. وهي حقيقة واقعة تكذب كل ادعاء آخر، وتسخر من نظريات المتشائمين والداعين إلى تحديد النسل. 5- التأكيد على أن كل ما يدب على وجه الأرض من أحياء أمم ذات تنظيمات كأمة الإنسان، وعلى أن الله هو الذي أودع هذه الأمم فطرتها وضوابطها، وأن الإنسان هو قمة هذه المخلوقات، وأنها مسخرة له. 6- التأكيد على أن الحياة كما أنها تقوم على قاعدة النشأة من الماء وعلى قاعدة الأمم المنظمة، فهي تقوم كذلك على قاعدة الزوجية، التي تشمل الأحياء والأشياء.. {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] . 7- التأكيد على أن الأحياء مكفولون برزق الله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] محاطون بعلم الله ورعايته: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] خاضعون لسلطان الله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] . 8- التأكيد على أن الأحياء كلهم في عبادة.. {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49] .   1 انظر سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، فصل "حقيقة الحياة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 9- التأكيد على أن هناك عوالم أخرى من الأحياء غير مرئية، وهي عوالم أخبرنا الله بوجودها وهي الملائكة والجن، ومن الجن الشياطين، وإبليس على رأس الشياطين، والإنسان يتعامل مع هذه المخلوقات ويتأثر بها في الدنيا والآخرة. 10- التأكيد على بيان مقومات النظام السياسي في التصور الإسلامي, مع الاهتمام بصفة خاصة بالشورى، والعدل وحرية الاختيار، وإصدار القرار. 11- التأكيد على مقومات النظام الاقتصادي في التصور الإسلامي، مع الاهتمام بصفة خاصة بإيضاح أن المال مال الله والناس مستخلفون فيه، والملكية الخاصة، والميراث، والزكاة، والإنفاق في سبيل الله وحرمة الربا. 12- التأكيد على مقومات النظام الاجتماعي في التصور الإسلامي، مع إبراز أهمية العلاقات بين الفرد والمجتمع، والرجل والمرأة، وعلاقات العمل والإنتاج القائمة على التكامل والإحسان في العمل. 13- التأكيد على بيان مقومات النظام الثقافي والتربوي في التصور الإسلامي، ومقتضياتها في بناء النظم والمؤسسات الثقافية والتربوية في المجتمع. 14- التأكيد على الموجهات الإسلامية للفنون والآداب ومقتضياتها في الإنتاج والنشر للفنون والآداب والعلوم عموما. 15- التأكيد على القيم والمفاهيم الأساسية للإعلام والإعلان في التصور الإسلامي، ومتطلباتها في الإنتاج الإعلامي والإعلاني، في كل ما يذاع وينشر على الناس. 16- التأكيد على أهمية وحدة أبناء الأمة على أساس أنها ضرورة لنصرة دين الله, وإعلاء كلمة الحق ونصرة المقهورين والمستضعفين حيثما وجدوا. 17- التأكيد على أن الجهاد الذي يبدأ بالنفس وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضرورة من أهم ضرورات الحياة القويمة. وبنهاية هذا الفصل نكون قد انتهينا من أسس المنهج الثلاثة وهي طبيعة المعرفة، والطبيعة الإنسانية، وطبيعة الحياة والمجتمع، وبينا طبيعة العلاقات والارتباطات بين كلياتها وجزئياتها. "انظر الشكل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الفصل الخامس: أهداف المناهج مدخل ... الفصل الخامس: مكونات المنهج وأهدافه في الفصول السابقة تم استعراض أسس مناهج التربية المتمثلة في طبيعة المعرفة، والطبيعة الإنسانية، وطبيعة المجتمع والحياة، كما استخلصنا المبادئ التي يجب أن تراعيها المناهج في بنائها وتنفيذها وتقويمها وتطويرها. وفي الفصول التالية نقدم عناصر المنهج أو مكوناته وهي: الأهداف: والمحتوى: وطرائق وأساليب التدريس؛ وطرائق التقويم، لكننا في هذا الفصل الخامس نبدأ بالأهداف: فنحدد معنى الهدف، وأنواع الأهداف، ومعايير جودتها، ثم نعرض بعد ذلك الأهداف التي ينبغي أن تعمل مناهج التربية, بكل محتوياتها ومقرراتها وخبراتها على تحقيقها في المتعلمين, على اختلاف أنواعهم ومستوياتهم، حتى تقدرهم على المساهمة الفعالة في تحقيق مقتضيات الخلافة في الأرض وفق منهج الله. أهمية تحديد الأهداف: إن من أهم عوامل فشل المناهج التربوية في أي مكان هو عدم تحديد أهدافها تحديدا يتسق مع الإنسان من حيث مصدر خلقه، ومركزه في الكون، ووظيفته في الحياة، وغاية وجوده، إن هذه المناهج لا تجانب الطريق السليم في إعداد الإنسان فحسب، بل إنها تحدث الخلل والفساد في فطرته وإنسانيته، ومن ثم في عمارة الأرض. الأهداف بين الثبات والتغير: لا شك أن تعلم كل الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، يمثل أهدافا ثابتة لمنهج التربية، كما أن الدقة والمهارة في إجراء كل ما تقتضيه صور التطبيق الثقافي والحضاري في المجتمع يمثل أهدافا متغيرة لهذا المنهج. وهناك من المفكرين الغربيين من لا يروق لهم القول بوجود أهداف ثابتة للمنهج "جون ديوي" على سبيل المثال, يؤكد بشكل قاطع أن "الفكرة القائلة بأن النمو والتقدم يرميان إلى هدف نهائي لا يتغير ولا يتبدل، هي: آخر أمراض العقل البشري في انتقاله من نظرة جامدة إلى نظرة مفعمة بالحركة والتغير"1. ولكن هذا القول يجانبه الصواب. فالحقيقة التي يؤكدها واقع عالمنا المعاصر أن جعل الأهداف التربوية كلها متحركة ومتغيرة قد أطاح بكثير من القيم الخلقية   1 جون ديوي: الديمقراطية والتربية، ترجمة متى عقراري وزكريا ميخائيل، ط2، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1954م، ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 التي تتفق مع مقتضيات الفطرة الإنسانية ومتطلباتها، والنتيجة هي أن الحياة الإنسانية في عالمنا المعاصر قد أصبحت كقشة معلقة في الهواء تسيرها أهواء التغير كيف شاءت، وحياة كتلك لا يطمئن لها الإنسان، ولا يستمر فيها ولا يعمرها. تعريف الأهداف وأنواعها: الهدف التربوي هو وصف للسلوك المتوقع من المتعلم نتيجة لاحتكاكه بمواقف التعلم. وللأهداف التربوية تقسيمات من حيث الشكل، ومن حيث المضمون، أما من حيث الشكل فهي تنقسم إلى أهداف عامة، وأهداف خاصة، فالهدف العام هو وصف للتغير السلوكي المتوقع من المتعلم, نتيجة لاحتكاكه وتفاعله مع مضمونات وخبرات منهجية واسعة ومتنوعة، فمن أهدف الأهداف العامة لمنهج التربية مثلا: "إعداد الإنسان الصالح القادر على المساهمة بإيجابية وفاعلية في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله". إن هذا هدف عام يمكن تحقيقه من خلال كل المناهج والدراسات الإسلامية، وقولنا: إن الهدف من تعليم اللغة العربية هو "إكساب المتعلم القدرة على التعبير الواضح الجميل كلاما وكتابة" أو "تربية الملكة اللسانية لدى المتعلم" هذا هدف عام أيضا, ويمكن تحقيقه من خلال دراسة مناهج اللغة العربية المختلفة. وهكذا، فإن الأهداف العامة إنما توضع للمناهج والبرامج والكتب الدراسية المختلفة، حيث تسهم المحتويات المختلفة والمتنوعة في تحقيقها، وهذه الأهداف يجب أن تكون في كل الأحوال واضحة ومحددة. "انظر الشكل المرفق". أما الأهداف الخاصة فهي تلك التي تصاغ في بداية وحدة دراسية أو في بداية درس معين أو موضوع من الموضوعات، وهذا النوع من الأهداف هو الذي يمكن وصفه بأنه "هدف إجرائي" ومن أهم صفات الهدف أنه يمكن ملاحظته، ويمكن قياسه. وهذا النوع من الأهداف يصاغ عادة وفقا للمعادلة التالية: أن + فعل سلوكي + المتعلم + مصطلح من المادة + الحد الأدنى للأداء، ومثال ذلك قولك: "أن يقرأ التلميذ الفقرة الأولى من الدرس قراءة جهرية بما لا يتجاوز ثلاثة أخطاء نحوية". وقولك: "أن يحفظ التلميذ الربع الأول من سورة البقرة بما لا يتعدى ثلاثة أخطاء من أي نوع", وهكذا نرى أن هذا النوع من الأهداف لا يصاغ إلا لدرس معين أو لوحدة دراسية خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أما تقسيم الأهداف من حيث المضمون، فلقد صنف "بنجامين بلوم" هذا النوع من الأهداف إلى ثلاثة أنواع، هي: 1- الأهداف المعرفية: وتركز على الجانب السلوكي العقلي، ولها ستة مستويات يمكن وضعها على النحو التالي: فمستويات الجانب المعرفة هي: التذكر، والفهم، والتطبيق، والتحليل، والتركيب -ويسمى أحيانا بالقياس- التقويم، وهو أعلى مستويات المجال المعرفي، والمستويات الثلاثة الأولى هي المستويات الدنيا، أما المستويات الثلاثة الأخيرة فهي المستويات العليا، لأهداف الجانب المعرفي، وكل مستوى من هذه المستويات يعتمد على المستوى الأقل منه وليس العكس، فالفهم يعتمد على التذكر، والتطبيق يعتمد على الفهم والتذكر وهكذا. 2- أهداف الجانب الوجداني: وهذه تتعلق بالجانب العقيدي والشعوري، كالإيمان بالله ورسوله، والإيمان بأهمية تنفيذ منهج الله في الحياة، والاقتناع بالحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، وكل مشاعر الحب والتقدير والميول والاتجاهات، والتذوق الأدبي والجمالي.. إلخ. ويشيع هذا النوع من الأهداف الوجدانية عموما في دراسة القرآن والسنة، وعلوم التشريع، وعلوم الآداب والفنون والإنسانيات عموما. 3- الأهداف الحركية: وتتعلق بكل أنواع السلوك الحركي والمهاري ابتداء من البسيط غير الإرادي كسماع صوت، أو طرفة عين، إلى المهارة الحركية مثل الاستماع، والكلام، والقراءة، والكتابة، إلى قيادة السيارات والطائرات والأقمار الصناعية. وتشيع هذه الأهداف بصفة عامة في كل التطبيقات العلمية للفكر الإنساني، وتشيع بصفة خاصة في مناهج التربية الرياضية، والاقتصاد المنزلي، وتعليم اللغات، والمواد المهنية عموما كمناهج علوم الصناعة والزراعة والتجارب، والتدريب المهني.. إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 معايير جودة الأهداف أولا: الوضوح ... معايير الأهداف: وسواء كانت عامة أو خاصة فإنها يجب أن تتوافر فيها المعايير التالية: أولا: الوضوح يجب أن تكون الأهداف العامة والخاصة للمنهج محددة تحديدا واضحا؛ بحيث لا يكون هناك اختلاف في تفسيرها؛ ومن ثم في اختيار الخبرات أو المحتويات التي تتحقق من خلالها1. إن منهج التربية الجيد -كما سبق أن قلنا- لا يعترف بالمعرفة الذهنية، بل يعتبرها معرفة ميتة لا قيمة لها إلا إذا ترجمت إلى سلوك عملي وإيجابي فاعل في واقع الأرض، وهذا لا يتأتى إلا إذا كانت أهداف المنهج واضحة ومحددة. والهدف الخاص يكون واضحا ومحددا إذا توفرت فيه الشروط التالية: 1- أن يمكن ملاحظة الهدف التدريسي الخاص في أثناء تحقيقه وفي نتائجه وبذلك يمكن تعديل وتطوير العملية التربوية. 2- أن يمكن قياس الهدف التدريسي؛ لأن ذلك يساعد على قياس مدى تحقيقه، أو مدى تعلم التلميذ وتعديل سلوكه. 3- أن يتضمن الهدف التدريسي الخاص ما يعرف بالحد الأدنى للأداء، حيث إن ذلك يساعد في قياس مدى تعلم التلميذ ومدى تحقق الهدف فيه.   1 محمد عزت عبد الموجود وزملاؤه: أساسيات المنهج وتنظيماته، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1981م، ص96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ثانيا: الشمول إن الدين في المفهوم الإسلامي -كما سبق أن قلنا- هو النظام العام أو المنهج الذي يحكم الحياة، فلا يوجد عمل، أو فكر، أو سلوك؛ ولا توجد صغيرة، ولا كبيرة في هذا الكون، وفي هذه الحياة إلا وتخضع للأصول، أو الروح المنظمة للكليات والجزئيات في هذا النظام أو المنهج. والأهداف التربوية "كلها" والتي تكون جزئية في النظام أو المنهج هي أهداف دينية، فتدريب التلميذ على تلاوة آية من القرآن أو حفظها، أو فهمها هو هدف ديني، وقراءة المتعلم لحديث من أحاديث الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفهمه هو هدف ديني، وتدريب التلميذ على حل مسألة حسابية هو هدف ديني، وإعانة المتعلم على فهم معادلة رياضية أو إجراء عملية هو هدف ديني، ومساعدة المتعلم في عمل تدريبات في الرياضة البدنية، أو في إتقان مهارة رياضية هي هدف ديني، وتدريب التلاميذ على القراءة الصامتة مع السرعة، أو على القراءة الجهرية مع الطلاقة هو هدف ديني ... وهكذا. إنه -باختصار- لا يوجد في منهج التربية هدف ديني، وهدف غير ديني، إنه ليحلو للكثيرين في مدارسنا أن يقسموا الأهداف إلى أهداف دينية، وهي تلك التي تتصل بالقرآن والحديث والسيرة والنبوية وأمثال ذلك. وإلى أهداف أخرى، وهي تلك التي تتصل بأهداف تعليم كل المواد الأخرى كاللغات، والمواد الاجتماعية، والعلوم والرياضيات.. إلى آخره، إن هذه النظرية لا تمت إلى الدين الإسلامي بصلة, ولا علاقة لها به, لأنها ببساطة تفصل بين الدين والدنيا, وهذا ليس من الإسلام في شيء. ذلك لأن نشاط الإنسان كله عبادة الله، ما دام متجها به إلى الله. إن مفهوم العبادة كما سبق أن ذكرنا، مفهوم شامل، فكل عمل أو فكر أو سلوك يقوم به الإنسان في ليل أو نهار، يبتغي به وجه الله، فهو عبادة لله، فالعبادة في الإسلام تشمل الشعائر والشرائع معا. أي: إنها تشمل ما درج الفقهاء على تسميته -عادة- بالعبادات والمعاملات. إن العبادة في الإسلام تشمل كل فكر وسلوك الإنسان لأن الإسلام وحدة لا تتجزأ. وعلى هذا، فكل هدف يقصد من ورائه تدريب التلميذ على تعلم شعيرة أو تشريع، أو مهارة، أو فكرة، أو اتجاه، فهو هدف ديني، ما دام القصد هو إقدار المتعلم على المساهمة في عمارة الأرض وترقيتها بإيجابية وفاعلية وفق منهج الله. إن تقسيمنا للأهداف إلى أهداف دينية، وأهداف أخرى غير دينية، ما هو إلا أثر من آثار اتباعنا لمناهج الغرب التي تفصل بين الدين والدنيا، وبالتالي بين تعليم الأمور الخاصة بالعلوم الشرعية، والأمور التي تتصل بالعلوم الكونية, وهذا التقسيم لا يتفق مع الإسلام جملة وتفصيلا. وإذا كان الشمول يعني كل جوانب النشاط الإنساني، المعرفي والوجداني والحركي، فإنه يشمل أيضا كل جوانب النفس الإنسانية: العقلية، والوجدانية، والجسمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ثالثا: التكامل إن تكامل أهداف منهج التربية ، يعتمد على أساسين هما: 1- تكامل جوانب النفس الإنسانية، فالأهداف يجب ألا تركز على العقل دون الجسم أو الشعور والوجدان أو العكس، فإن ذلك يحدث الخلل وعدم التوازن في النفس. 2- تكامل جوانب المعرفة الإنسانية، وهذا يتطلب أن تكون أهداف منهج التربية مشتملة على الجانب المعرفي في الخبرة الإنسانية، وعلى الجانب الوجداني، وعلى الجانب الحركي. إن إغفال أي جانب من هذه الجوانب في أهداف المنهج يؤدي إلى إغفال المحتوى، والخبرات الخاصة به، وهذا يؤدي بدوره إلى تركيز المنهج على جانب من جوانب الطبيعة الإنسانية وإغفال جانب آخر، أو الجانبين الآخرين، مما يؤدي إلى الخلل وعدم التوازن في طبيعة الفرد، وهو الأمر الذي يؤدي إلى عدم قدرة الإنسان على المساهمة الفعالة في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله، وهو الهدف الأسمى في هذا المنهج. وتكامل الأهداف في منهج التربية لا يقف عند حد تكامل الجوانب الثلاثة السابقة للمعرفة الإنسانية، وهي الجانب المعرفي، والجانب الوجداني، والجانب الحركي، إنه لا بد من تكامل المستويات المتضمنة داخل كل جانب من هذه الجوانب، فالتركيز في الجانب المعرفي ليس منصبا على مستوى التذكر، أو الفهم، أو التطبيق، أو التحليل، أو التركيز، أو التقويم وحده؛ بل هو منصب على جميع المستويات، بحيث تتكامل فيما بينها، والتركيز على الجانب الحركي ليس منصبا على التدريب على المهارة البسيطة وحدها، ولا على المهارة المركبة وحدها، ولا على مهارة التناول، بل هو منصب على جميع هذه المهارت التي تكون الجانب الحركي في المعرفة الإنسانية بطريقة متكاملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أهداف منهج التربية إدراك مفهوم "الدين" ومفهوم "العبادة" والعمل بمقتضاهما ... أهداف مناهج التربية: سبق أن قلنا إن مناهج التربية التي لا تدرك الغاية من وجود الإنسان، لا تستطيع أن تسهم في إعداده لوظيفته, وتحقيق غاية وجوده، وهذا يعني أن هذه المناهج تكون ضالعة في إحداق الخلل في فطرة الإنسان، ومن ثم في عمارة الأرض. إن الهدف الشامل لمنهج التربية في التصور الإسلامي هي: إيصال الإنسان المسلم إلى درجة كماله التي هيأه الله لها، حتى يكون قادرا على القيام بحق الخلافة في الأرض عن طريق الإسهام بإيجابية وفاعلية في عمارتها وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج الله. ولكي يكون الإنسان قادر على القيام بهذا الدور فلا بد أن تتحقق فيه -هو بذاته- مجموعة كبيرة من الأهداف أهمها ما يلي: 1- إدراك مفهوم "الدين" ومفهوم "العبادة" والعمل بمقتضاهما: لا بد أن يدرك الطلاب أن "الدين" هو المنهج أو النظام الذي يحكم الحياة. وأن كل "دين" هو تصور اعتقادي ينبثق منه نظام اجتماعي، وبما أن كل "دين" هو منهج حياة، فإن كل منهج للحياة هو "دين"؛ فدين الجماعة من البشر هو المنهج الذي يصرف حياة هذه الجماعة، فإذا كان من صنع الله، فهذه الجماعة في "دين الله"، وإن كان من صنع غير الله فهذه الجماعة في دين غير الله. ولا بد أن يدركوا أيضا أن "العبادة" ليست مقصورة على مناسك التعبد المعروفة من صلاة وصيام وزكاة وحج.. إلخ, بل إن العبادة هي العبودية لله وحده، والتلقي من الله وحده في كل أمور الدنيا والآخرة، إنها الصلة الدائمة لله في كل قول أو عمل أو شعور، فالإنسان عابد لله حيثما توجه إلى الله، ومن ثم تشمل "العبادة" الحياة، ويصبح الإنسان عابدا في كل حين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 2- ترسيخ عقيدة الإيمان بالله والأخوة في الله : الهدف الأساسي هو الإيمان بالله والأخوة في الله، وهذا الهدف يشتمل على ركيزتين تقوم عليهما الأمة الإسلامية، وتتحقق بهما وسطيتها وشهادتها على الناس. الركيزة الأولى: هي الإيمان بالله وتقواه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . وإذا كان المعنى المحدد للتقوى هو فعل ما أمر الله به، والانتهاء عما نهى عنه، فإن معناها بلا تحديد كما ورد هنا في الآية "يدع القلب مجتهدا في بلوغها كما يتصورها وكما يطيقها. وكلما أوغل القلب في هذا الطريق تكشفت له آفاق وجدت له أشواق، وكلما اقترب بتقواه من الله، تيقظ شوقه إلى مكان أرفع مما بلغ، وإلى مرتبة وراء ما اتقى، وتطلع إلى المقام الذي يستيقظ به قلبه فلا ينام"1. وعلى أساس هذه الركيزة توجد الجماعة الإسلامية لتؤدي دورها الراشد في قيادة البشرية، وبدون هذه الركيزة لا يكون هناك منهج لله تجتمع عليه أمة، بل فلسفات ومناهج لا تؤدي إلا إلى الهبوط والخراب. الركيزة الثانية: هي ركيزة الأخوة: والأخوة في الله، ولتحقيق منهج الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] ، فهي أخوة إذن تنبثق من الإيمان بالله وتقواه.. من الركيزة الأولى التي أساسها الاعتصام بحبل الله -أي: عهده ومنهجه- وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة! فهي أخوة تجمع القلوب في الله، وتصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية، يهودية كانت أو صليبية أو شيوعية.. أخوة يتجمع الصف فيها تحت لواء الله الكبير المتعال.   1 سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، ص442-443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 3- تحقيق الإيمان والفهم لحقيقة الألوهية : إن تعميق الإيمان بالله في نفوس الأجيال يتوقف -بلا شك- على فهمهم لحقيقة الألوهية، وبالرغم من أن الحقيقة الإلهية الكلية المطلقة أكبر من مجال إدراك الكينونة البشرية الجزئية المحدودة الحادثة الفانية، لكن حسب الإنسان منها ما يصلح به تصوره، وما يستقيم به فكره، وما يصلح به ضميره، وما تنتظم به حياته، وما يعرف به حقيقة مركزه، ودائرة سلطانه، ومقتضيات عبوديته لهذه الألوهية1. إن منهج التربية يربي "الإنسان".. "والإنسان لا يملك أن يكون شيئا في واقع هذه الأرض، ولا يملك أن يكون شيئا في حساب هذا الوجود.. سواء في عالم الغيب أو في عالم الشهادة.. ولا يستطيع أن يكون قوة فاعلة، وأن يكون له دور إيجابي، وأن يحقق غاية وجوده الإنساني -كما أرادها الله- إلا أن يمتلئ حسه وضميره، وقلبه وعقله، وكينونته كلها بحقيقة الألوهية، وما لم يدرك على وجه اليقين الواضح، والجزم الحاسم، ما تتطلبه منه علاقته بهذه الحقيقة فإنه لن يقوى على الكفاح والصمود، والمضي قدما في الطريق الكئود، لإنشاء الواقع الجديد، ويشهد في نفسه وفي غير ميلاد الإنسان الجديد. "إنه مطلوب منه أن يغير وجه العالم، وأن يقيم عالما آخر، يقر فيه سلطان الله وحده، ويبطل سلطان الطواغيت، عالما يعبد فيه الله وحده -بمعنى العبادة الشامل-   1 سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، ص187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ولا يعبد معه أحد من العبيد، عالما يخرج فيه الناس.. من شاء الله منهم.. من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده -كما قال ربعي بن عامر، رسول قائد المسلمين، لرستم قائد الفرس الشهير- ومطلوب منه أن يقف في وجه الباطل والظلم والفساد، وأن يغير تصورات وأوضاعا، وقيما وموازين، وشرائع وقوانين، وأن يتعرض للغربة والوحشة، والأذى والابتلاء.. وهو لا يوجه هذا كله إلا إذا امتلأ كيانه كله بحقيقة الألوهية، بحيث ترجح في حسه كل شيء، وإلا إذا امتلأت نفسه "بوجود" الله سبحانه و"حضوره" في حسه وضميره، وقلبه وعقله، وفي كيانه كله، وحياته كلها"1. إن مناهج التربية عموما ومناهج العلوم الشرعية على وجه الخصوص يجب أن تعتمد على المنهج القرآن في توضيح هذه الحقيقة للأجيال الناشئة: "إن المنهج القرآني يجلي هذه الحقيقة بآثارها الفاعلة في هذا الوجود.. في الخلق والتدبير، في تصريف هذا الكون وما فيه ومن فيه, في تسخير الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم, في إيلاج الليل وفي النهار, وإيلاج النهار في الليل, في إرسال الرياح لواقح، وإنزال الماء من السماء، في انبثاق الحياة من الموت, وانبثاق الصبح من الظلام, في إخراج الحي من الميت, وإخراج الميت من الحي، في بدء الخلق وإعادته، في القبض والبسط، في البعث والنشور, في النعمة والنقمة, في الجزاء والحساب, في النعم والثواب, في كل حركة وكل انبثاقة, وكل تغير وكل تحور في عالم الغيب أو في عالم الشهادة, في هذا الوجود الكبير, ونادرا ما يتحدث المنهج القرآني عن الذات الإلهية والصفات في الصورة التجريدية التي تتحدث بها الفلسفة واللاهوت وعلم الكلام"2. إن غياب التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة -عموما- في مناهج التربية وعدم فهم حقيقة الألوهية، وعدم التفريق بينها وبين حقيقة العبودية، قد أحدث كثير من الجهالات والانحرافات جهالات وانحرفات في العقيدة، وجهالات وانحرافات في الفكر والشعور، وجهالات وانحرافات في القول والعمل والسلوك، وجهالات وانحرافات في الثقافة، والفن، والأدب، والتربية! إن غياب التصور الإسلامي، في تربية الإنسان، وعدم فهم حقيقة الألوهية والتفريق بينها وبين حقيقة العبودية، قد جعل كثيرا من الفنانين والأدباء يشعرون أنهم فلتة ضائعة في الكون الوسيع، وفي الحياة المجهولة والمصدر والمصير! فها هو ذا إيليا أبو ماضي يقول: جئت لا أعلم من أين أتيت ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت وعلى هذا النمط الضائع المضيع.. سار كثير من الشعراء والأدباء والفنانين والعلماء والمثقفين والمربين!   1 المرجع السابق، ص188. 2 راجع نماذج النصوص القرآنية التي سبق عرضها عند الحديث عن "الألوهية والوحي" في الفصل الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 4- إدراك حقيقة الكون غيبه وشهوده: الهدف الرابع لمنهج التربية عموما، ولمنهج العلوم الشرعية بصفة خاصة هو أن تدرك الأجيال الناشئة حقيقة الكون الذي يعيشون فيه، وحقيقة مركز كل منهم فيه كإنسان، وأن يدركوا -أيضا- طبيعة العلاقة بينهم وبين مفردات هذا الكون غيبه وشهوده. وإذا كان الحق -سبحانه- قد تكفل للإنسان ببيان أصول عقيدته، ونظام حياته؛ لأن علم الإنسان المحدود لا يكفي في هذا المجال الأساسي الذي تقوم عليه حياته، فإنه -سبحانه- قد ترك للعقل والإدراك البشري والضمير الإنساني أن يبحث وأن ينقب عن سنن الكون، وقوانينه، وأن يعرف منها ما هو مقدر له أن يعرف، لينتفع به في تنمية الحياة وترقيتها، لقد ترك الله للإدراك البشري معرفة الحقائق العلمية عن طريق الكد والكدح، والبحث والتجربة، والمحاولة والخطأ، ولم يتكفل -سبحانه- ببيان تفصيلاتها له، لأنها داخلة في طوقه بالقدر الذي يلزم له في أداء وظيفته الأساسية وهي الخلافة في الأرض. وهذا يعني أننا لا يجب أن نسارع إلى تعليق مدلولات النصوص القرآنية بما وصل إليه علم البشر، وأو ما سيصل إليه علمهم في المستقبل. إن أقصى ما يمكن أن نتوقعه من علم البشر أن يصلوا إلى بعض الحقائق التي تتفق مع الحقائق النهائية المطلقة التي حدث بها خالق الكون العليم الخبير1. أما شق الكون الآخر، فهو الكون المغيب، ومنه الروح، والملائكة، والجن والشياطين وإبليس، والجنة والنار، الملأ الأعلى.. إلخ، فهذا الجانب من الكون قد استأثر الله بعلمه، ويجب على المناهج التربوية وعلى الدارسين والباحثين عدم الخوض فيه. وقد وصف الله بعض مظاهر هذا الكون بالقدر الذي يمكن الإنسان من التعامل معه, والتفكير فيه والقرب منه أو الابتعاد عنه. "إن عنصر الجمال مقصودا قصدا في بناء الكون، وفي ظواهره، وفي الحياة المبثوثة فيه، وإيقاظ حاسة الجمال في البشر مقصود كذلك قصدا في المنهج القرآني،   1 سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، ص329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وفي التربية بهذا المنهج.. فالله سبحانه وتعالى جعل الجمال عنصرا من عناصر بناء الكون والحياة، والكمال في صنعته الباهرة يحقق هذا الجمال"1. والمنهج القرآني يوجه أنظار البشر إلى "المنفعة" الحاصلة لهم من هذا الخلق الجميل للكون، وإلى دلالة هذا الخلق على خالقه. {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس: 5] . {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] . {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 47-49] . ويوجه الأذهان إلى تنوع الألوان، وجمال هذا التنوع، وتوزعه بين الجوامد والأحياء سواء: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27، 28] . {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] . هذا هو الكون الذي خلقه الله لنتعرف عليه، ونتلطف معه، لا لنتصارع معه. فالسلام مع الكون مسألة ذات قيمة شعورية في حياة الإنسان الواقعية، فذلك يجعل الإنسان يمضي مطمئنا في هذا الكون لكشف سنن الله فيه، وجعلها كلها للخير. إن هذا الهدف يجب أن يوجه مناهج التربية عامة ومناهج علوم الشريعة خاصة إلى نوعية النصوص التي تقرر وتدرس في كل مرحلة وفي كل عمر، وإلى   1 المرجع سابق، ص338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 نوعية الخبرات المرتبطة بها في واقع الحياة, وهذا بالإضافة إلى أنه يوجه الناشئة إلى كيفية التعامل مع مفردات الكون، بمعرفتهم لطبيعته، وفهمهم لعلاقتهم به ودورهم فيه. إن مناهج التربية التي لا تأخذ في اعتبارها تحقيق هذا الهدف في الناشئة سوف تخرج أجيالا يرددون بلا وعي ما قاله الخيام: لبست ثوب العيش لم استشر ... وحرت فيه بين شتى الفكر وسوف أنضوه برغمي ولم ... أدرك لماذا جئت أين المفر! أفنيت عمري في اكتناه القضاء ... وكشف ما يحجبه في الخفاء فلم أجد أسراره وانقضى عمري ... وأحسست دبيب الفناء أفق وصب الخمر أنعم بها ... واكشف خبايا النفس من حجبها ورو أوصالي بها قبلما ... يصاغ دن الخمر من تربها سأنتحي الموت حثيث الورود ... وينمحي اسمي من سجل الوجود هات اسقنيها يا منى خاطري ... فغاية الأيام طول الهجود "لقد تصور الكون مغلقا لا ينفذ العلم البشري إلى سطر واحد من سطوره، وغيبا مجهولا يقف الإنسان أمام بابه الموصد يدقه بلا جدوى، وفي هذا التيه لا يعلم الإنسان من أين جاء، ولماذا جاء؟ ولا يدري أين يذهب، ولا يستشار في الذهاب! "1. كما يرى أن هذه الحياة المجهولة المصدر والمصير، في هذا العماء الذي يعيش فيه الإنسان, لا يستحق أن يحفل بها الإنسان أو يكدح من أجلها.. وإذن فلا ضرورة للوعي الذي لا يؤدي إلى شيء! فهل يقبل المربون والمنهجون عندنا أن يتخرج على أيديهم أجيال بهذه الرؤية وبهذا التصور؟!   1 سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج، الطبعة السابعة، بيروت، دار الشروق، 10-1407هـ 1987م، ص12-13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 5- فهم حقيقة الحياة الدنيا والآخرة : لا بد أن تعمل التربية على تفهم الأجيال الناشئة حقيقة الحياة: غيبها وشهودها، دنياها وأخرها. ولا بد أن يفهموا أن "الحياة ليست إلها! ليست قوة مدبرة في ذاتها تنشأ وتنشئ وفق إرادتها المستقلة، كذلك هي ليست تلقائية، وجدت مصادفة وتمضي خبط عشواء! إنما هي خليقة أنشأها الله -سبحانه- بقدر، وتمضي كذلك وفق قدر، وهي مودعة خصائصها الذاتية التي تفرقها من الموت، أعطاها هذه الخصائص الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، والذي يتوفى الأنفس حين موتها، والذي خلق الموت والحياة، والذي يبدأ الخلق ثم يعيده1. كذلك لا بد أن تفهم الأجيال أن "الطبيعة ليست إلها، ليست هي التي خلقت نفسها, وليست هي التي خلقت الحياة، إنما الله -سبحانه- هو الذي خلق الطبيعة, وجعلها مناسبة لظهور الحياة، وهيأ الأرض لنوع الحياة الذي نشأ فيها، وجعل التناسق بين الطبيعة والحياة، وبين الأحياء بعضها وبعض، هو الأصل والقاعدة. كذلك لا بد أن تفهم الناشئة أنه كما أن الحياة حادثة وصادرة عن إرادة الله وحده وبقدره، فهي ناشئة -بتلك الإرادة وهذا القدر- من أصل واحد وهو الماء: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .. {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] . أما كيف تسلسلت الحياة، وهل تطورت عبر الزمان أم نشأت واحدة هكذا أنواعا، فهذا مما لم يتعرض له القرآن.. ومجال الدراسة فيه مفتوح. على أن ذلك لا يجب أن يختلط بنشأة الإنسان الصريحة القاطعة. فالنصوص القرآنية ترينا كيف خلق الله الإنسان، وإن كانت لم تدلنا متى كان ذلك. فخلق الله للإنسان صريح في قوله -سبحانه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71، 72] . وكما تقوم الحياة على قاعدة النشأة من الماء، وكذلك تقوم على قاعدة "الزوجية" التي لا تشمل الأحياء فقط، ولكنها كذلك تشمل الأشياء {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] . وتقدير الزوجية هذا، واشتمال الحياة على الضمانات التي تجددها وتكثرها عن طريق هذه الزوجية، وتوافر الجنسين في كل نوع بالنسبة الكافية للبقاء والتكاثر دليل على القصد والتدبير، يكرر القرآن ذكره، وهو دليل لا يواجهه المنكرون إلا بالإنكار أو الهروب في كل حال. "وهذه الحياة مقدرة أقواتها في بنية الأرض، وفي نظام الكون.. وهي حقيقة واقعة تكذب كل ادعاء آخر، وتسخر من نظريات المتشائمين والداعين إلى تحديد   1 سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، ص358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 النسل "نظرية مالتوس".. فهناك موافقات في كيان الحياة ذاته، وفي الظروف المحيطة بها، تجعل حقيقة تقدير الأقوات أوسع من مادة الأقوات ذاتها.. وتمد محيطها إلى ما في بنية الكون من طاقات ومدخرات، وما في تكامل الأحياء من عمليات تعويض، وما في ضوابط الحياة من ضمانات للتناسق بين بعض الأحياء وبعض، وبين الأحياء جميعا والأقوات المدخرة"1. وكما تقوم الحياة على قاعدة النشأة من "الماء" وعلى قاعدة "الزوجية" كذلك تقوم على قاعدة "الأمة المنظمة" فكل ما يدب على الأرض من أحياء أمم ذات تنظيمات كأمة الإنسان، فهي كلها من أصل واحد، وهي كلها تخضع للخالق العظيم الذي أودع هذه الأمم فطرتها وضوابطها، والإنسان هو قمة هذه المخلوقات، وهي كلها مسخرة له.. "لكنه إنما يرتفع إلى مقامه هذا باحتفاظه بسبب امتيازه، وهو اتصال روحه بمصدر امتيازه، فإذا فارق هذا المقام صار أضل من الحيوان"! والأحياء مكفولون برزق الله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ، محاطون بعلم الله ورعايته: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] ، وخاضعون لسلطان الله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] . والأحياء كلها في عبادة الله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49] . {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] . {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] . "هناك عوالم أخرى من الأحياء -غير دواب الأرض التي تشمل الإنسان- وهي عوالم أخبرنا الله بوجودها. وليس لنا من مصدر آخر للعلم بها إلا ما أخبر الله عنها، هي الملائكة والجن، ومن الجن الشياطين، وإبليس على رأس الشياطين! والإنسان يتعامل مع هذين الخلقين، ويتأثر بهما في الدنيا والآخرة"2. هذه هي حقيقة الحياة التي يتعامل معها "الإنسان" خليفة الله فيها، ومهمة مناهج التربية هي ترسيخ هذه الحقيقة في عقول وقلوب الناشئة، حتى يفهموا أن مهمتهم في الحياة -كخلفاء الله في الأرض- هي إعمارها وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج الله.. وأن وسيلتهم في ذلك بمعايير العلم، والعدل، والحرية والشورى والإحسان في العمل.   1 المرجع السابق، ص359. 2 المرجع السابق، ص359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 6- تحقيق وسطية الأمة وشهادتها على الناس : إن مناهج التربية عموما، ومناهج العلوم الشرعية فيها على وجه الخصوص، تستطيع -بعد تحقيق أهداف الإيمان بالله والأخوة في الله، وفهم حقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وعن طريقها- إيصال المربي إلى درجة كماله التي تقدره على المساهمة بإيجابية وفاعلية في تحقيق وسطية الأمة وشهادتها على الناس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] . والأمة الوسط، هي الأمة الأعلى والأشرف بين الأمم، لأنها تقوم على طريق الحق والعدل، ولها صفة "الوسط"؛ لأن لها صفة "الرئاسة" بين شعوب العالم، وعلاقتها مع الجميع علاقة حق وصدق بدرجة واحدة، وليس بينها وبين غيرها صلة تخالف الحق والصدق والشرعية1. فأمة الإسلام "أمة وسطا". لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي.. تعمل لترقية الحياة ورفعتها. "أمة وسطا".. في التفكير والشعور.. لا تجمد على ما عملت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة.. ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك.. إنما تتمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها أخذها، في تثبت ويقين. "أمة وسطا".. في الارتباطات والعلاقات.. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة. "أمة وسطا".. في المكان.. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. "أمة وسطا".. في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها، وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها، وتستمر به في طريق النماء والرقي2. إن ما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، هو أنها قد تخلت في كثير من أمور حياتها عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها. والآن كيف نربي المسلم المعاصر كي يسهم في تحقيق وسطية الأمة وشهادتها على الناس، وهو مقتضى من أهم مقتضيات الخلافة في الأرض؟   1 أبو الأعلى المودودي: الحكومة الإسلامية، جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، 1404هـ، 1984م، ص161. 2 انظر: مفهوم الوسطية في سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، المجلد الأول، الجزء الثاني، ص130-132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] . من الضروري أن يكون من أهداف مناهج التربية بناء الإنسان المؤمن بالله، والتابع لرسوله، الشاهد على ذلك، والشهيد في سبيل ذلك، لا بد من تربية الإنسان على أنه مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين، شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء، لخير الجماعة ولخير البشرية كلها. وهو لا يستطيع أن يؤدي هذه الشهادة إلا إذا جعل من نفسه ومن خلقه، ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين. صورة يراها الناس فيرون فيها مثلا رفيعا يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمة وأوضاع ومؤسسات. لابد من تربية الإنسان الذي يفهم أنه لا يستطيع أن يؤدي هذه "الشهادة" حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياته، ونظام مجتمعه وشريعة نفسه وقومه، وأن يجاهد في سبيل ذلك، ويؤثر الموت في سبيله على الحياة في ظل مجتمع آخر لا يحقق منهج الله في حياة الجماعة البشرية.. إن هذا الإيثار، وهذا الجهاد في سبيل منهج الدين هو شهادة من المسلم بأن هذا الدين خير من الحياة ذاتها، وأنه أعز ما يحرص عليه في حياته، ومن ثم يدعى "شهيدا" إذا عاش مجاهدا في سبيل تحقيق ذلك، أو مات مجاهدا في سبيل تحقيقه سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 7- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : الهدف الثامن: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الهدف هو "صفة" أمة الإسلام، وهو في ذات الوقت "وظيفة" هذه الأمة وسبيلها إلى تحقيق الأهداف السابقة. فالله سبحانه وتعالى يصف الأمة المسلمة لنفسها، ليعرفها مكانها وحقيقتها، ويطمئنها من جانب عدوها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ، لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 110، 111] . يقول بعض المفسرين: "إن التعبير بكلمة "أخرجت" المبني لغير الفاعل، تعبير يلفت النظر، وهو يكاد يشي باليد المدبرة اللطيفة، تخرج هذه الأمة إخراجا، وتدفعها إلى الظهور دفعا من ظلمات الغيب.. إلى مسرح الوجود"1.   1 المرجع السابق، ص446-447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وإذا كان الله سبحانه وتعالى يكرم هذه الأمة, ويرفع مقامها ويفردها بمكان خاص لا تبلغ إليه أمة أخرى، فهو يضع على كاهلها واجبا ثقيلا، فهي أمة ذات دور خاص، ولها حساب خاص. "في أول مقتضيات هذا المكان أن تقوم على صيانة الحياة من الشر والفساد.. وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي أمة أخرجت للناس.. "لتقوم بهذا" العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يحدد المعروف والمنكر: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] 1. وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو "صفة" الأمة الإسلامية -كما سبق أن رأينا- فهو أيضا وظيفتها التي عن طريقها تقيم منهج الله في الأرض وتغلب الحق على الباطل، والمعروف على المنكر، والخير على الشر.. هذه الوظيفة التي من أجلها أنشئت الجماعة المسلمة بيد الله وعلى عينه، ووفق منهجه.. هذه الوظيفة يقررها الله في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] . فلا بد من جماعة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والذي يقرر أنه لا بد من سلطة، هو مدلول النص القرآني ذاته. فهناك "دعوة" إلى الخير، ولكن هناك كذلك "أمر" بالمعروف. وهناك "نهي" عن المنكر. وإذا أمكن أن يقوم "بالدعوة" غير ذي سلطان، فإن "الأمر والنهي" لا يقوم بهما إلا ذو سلطان2. ومن ثم فلا بد من جماعة تتلاقى على هاتين: الإيمان بالله، والأخوة في الله، لتقوم على هذا الأمر العسير الشاق بقوة الإيمان والتقوى، ثم بقوة الحب والألفة. وكلتاهما ضرورة من ضرورات هذا الدور الذي ناطه الله بالجماعة المسلمة، وكلفها به هذا التكليف. وجعل القيام به شريطة الفلاح، فقال عن الذين ينهضون به: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .   1 المرجع السابق، ص447. 2 المرجع السابق، ص444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 8- استعادة تميز الأمة : الهدف التاسع: هو استعادة تميز الأمة. إن الإنسان المعاصر إذا أراد أن يعيش كريما، معززا على هذه الأرض، فلا بد له من أن يعمل على استعادة تميز هذه الأمة في عقيدتها، وفي منهجها، وفي اتجاهها. إن هذه العقيدة منهج حياة كامل، وهذا المنهج الذي يميز الأمة المستخلفة الوارثة لتراث العقيدة، الشهيدة على الناس، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى الله.. وتحقق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان، وفي الأهداف والاهتمامات، وفي الراية والعلامة، وهو الذي يمنحها مكان القيادة الذي خلقت له، وأخرجت للناس من أجله، وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت من أزياء ودعوات وأعلام!. إذن فالإنسان العربي لا بد أن تميز أمته كي يتميز هو ويتخصص هو بعقيدته ومنهجه واتجاهه.. فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد، كما أنه بدوره ينشئ شعورا بالامتياز والتفرد. "ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبيه بمن دون المسلمين في خصائصهم، التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة، كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء، ولم يكن هذا تعصبا ولا تمسكا بمجرد شكليات، وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات، وكان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة، وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورا عن تصور، وضميرا عن ضمير، وخلقا عن خلقا، واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه"1. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد خرج على جماعة فقاموا له: "لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا" "رواه أبو داود وابن ماجه". نهى عن تشبه في مظهر أو لباس، ونهى عن تشبه في حركة أو سلوك، ونهى عن تشبه في قول أو أدب.. لأن وراء هذا كله ذلك الشعور الباطن الذي يميز تصورا عن تصور، ومنهجا في الحياة عن منهج، وسمة للجماعة عن سمة. ونهى عن التلقي من غير منهج الله الخاص الذي جاءت هذه الأمة لتحقيقه في الأرض. يقول الله -سبحانه- عن الهدف النهائي لليهود والنصارى في شأن المسلمين بصفة عامة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109] .   1 المرجع السابق، ص128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 9- العمل على تحقيق وحدة الأمة : الهدف العاشر: هو أن الحفاظ على وسطية الأمة وتميزها وفق قاعدة الإيمان بالله، والأخوة في الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يكتمل إلا بالعمل على وحدة هذه الأمة، والحفاظ على هذه الوحدة. إن العقيدة الإسلامية، هي عقيدة التوحيد التي تشهد بها سنن الكون، وناموس الوجود، وفي تصوير هذا الهدف الشامل للأمة، يقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] . "إن أمتكم. أمة الأنبياء أمة واحدة تدين بعقيدة واحدة وتنهج نهجا واحدا، هو الاتجاه إلى الله دون سواه، أمة واحدة في الأرض، ورب واحد في السماء، لا إله غيره ولا معبود إلا إياه، أمة واحدة، وفق سنة واحدة، تشهد بالإرادة الواحدة في الأرض والسماء"1. وكما تجتمع أمة الإسلام حول إله واحد، ومنهج واحد، ورسول واحد؛ فإنها تجتمع وتتوجه حول قبلة واحد.. قبلة تجمع هذه الأمة وتوحد بين أبنائها على اختلاف مواطنهم، واختلاف مواقعهم، واختلاف أجناسهم وألسنتهم وألوانهم، فيحسون أنهم جسم واحد، وكيان واحد، يتجه نحو هدف واحد، ولتحقيق منهج واحد. وهكذا وحد الله هذه الأمة، وحدها في إلهها، ورسولها، ودينها، وقبلتها، ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من قواعد الوطن أو الجنس أو اللون، ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها، ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها.. إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان؛ فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب، ومنهج الفكر، وقبلة العبادة، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ والسياج والحظيرة2. ولا بد من تربية الإنسان المعاصر على الإيمان بضرورة التجمع والتكتل حتى تستعيد الأمة ما كان لها من قيادة وريادة للإنسانية. فقد كان الأستاذ حسن البنا يقول: "إن عصر الكيانات الصغيرة قد ولى، وإن الأمم الصغيرة لا تستطيع أن تعيش حياة كريمة في عصر التجمعات الكبيرة والقارات، وكان يمثل الوحدة بالعدسة التي تجمع الأشعة المتفرقة من أشعة الشمس فتحرق بها الجسم الذي يتعرض لها.. فاجتماع الأشعة في بؤرة واحدة، قد أكسبها قوة وشدة وبأسا وتأثيرا3. نحن إذن في حاجة إلى منهج لتربية الإنسان المعاصر القادر على الإسهام بإيجابية وفاعلية في تقوية الروابط التي تعيد لهذه الأمة وحدتها، وقيادتها، وسيادتها، المسلم الذي يعمل تحت شعار "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".   1 المرجع السابق، ص2395-2396. 2 المرجع السابق، ص134. 3 حسن البنا: حديث الثلاثاء، سجلها وأعدها للنشر أحمد عيسى عاشور، مكتبة القرآن القاهرة، ص364-365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 10- إعانة الطالب على تحقيق ذاته : لكن حسن أداء الإنسان لرسالته في الأرض وفق منهج الله، أي: تحقيقه لذاته يقتضي إعداد الإنسان إعدادا جيدا، وشحذ كل استعداداته وقواه المدركة، الظاهرة والباطنة، إلى أقصى حد هيأها الله له، فالولد لا بد أن يعد ويهيأ كي يكون رجلا يقوم بمسئولياته كرجل في العمل والإنتاج والبناء والتشييد وعمارة الحياة وترقيتها. والبنت لا بد أن تعد وتهيأ كي تكون أنثى، وأما، ومربية، ومدبرة لمنزلها وأسرتها، وعاملة أيضا، أو موظفة، فيما يناسبها من الأعمال. ويتم إعداد الإنسال كي يحقق ذاته، ويحسن أداء رسالته وفق منهج الله، عن طريق التربية في الأسرة، والمدرسة، والنادي، والمجتمع. فإذا كان البيت هو أقوى هذه الوسائل الأربعة -بحكم التصاق الناشئة به، وقضائهم فيه أطول فترة من طفولتهم وصباهم وشبابهم- فإنه الآن قد تفكك أو في طريقه إلى التفكك بسبب غياب عماد هذا البيت، وهو الأم في العمل خارج البيت. هنا تبرز المدرسة، بمناهجها المخططة وفق نظام دقيق لتحقيق أهداف محددة وواضحة، كأبرز مؤسسة تربوية في عصرنا الحاضر. إن هذا يلقي على عاتق المنهج المدرسي عموما، ومنهج العلوم الإنسانية واللغات على وجه الخصوص تبعة تربية البنت تربية تؤهلها لكي تكون زوجة وأما ومدبرة بيت، ومربية أجيال في المقام الأول، ثم يأتي شيء آخر بعد ذلك. فمنهج التربية الإسلامية -في المجتمع المسلم الذي يلتزم بتنفيذ شريعة الله- هو ذلك المنهج الذي يساعد الفتاة على تحقيق ذاتها وفق الفطرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ، وذلك عن طريق إعدادها في مرحلة الشباب الباكر لمهمتها العظيمة المرتقبة، فإذا جاء الزواج كانت مهيأة لدورها بطريقة ملائمة. إن ما أراده الله فطرة لا ينبغي للبشر أن يحيدوا عنه، لأنهم حين يحيدون عنه يفسدون لا محالة، وبتحقيق فطرة الله في الإنسان، تتحقق الذات الإنسانية، وهذه هي المهمة الرئيسية لمنهج التربية في التصور الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 والخلاصة أنه مما يشكل عظمة أمة الإسلام، وشرفها وامتيازها هو أن الله جعلها "أمة وسطا".. قائمة على الإيمان بالله والأخوة في الله.. داعية إلى الخير.. آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر.. أمة موحدة، متميزة بالتزامها بالقيام بمقتضيات كل هذا، وتبعاته، وتكاليفه. لكن علاقة الأمة بالكون لا تستقيم أبدا ما دامت علاقتها بخالق الكون لا تسير في مسارها السليم، فعندها تفقد أمة حيثيات العظمة والشرف والامتياز التي أنيطت بها من قبل الله، فإنها تعزل عن قيادة الدنيا وزعامتها، كما حدث لبني إسرائيل عندما عزلهم الله عن القيادة وأسندها لأمة الإسلام, التي توافرت فيها هذه الحيثيات اللازمة لإمامة الدنيا، وإقامة منهج الله في الأرض، وهو الهدف النهائي الذي من أجله أنشئت الجماعة المسلمة الأولى بيد الله وعلى عينه. إن المسلم المعاصر بحاجة إلى أن يكون قادرا على المساهمة بإيجابية وفاعلية في تحقيق هذه الأهداف التي بها تعلو أمة الإسلام كما كانت، وتقيم منهج الله في الأرض، إن ذلك هو ما تقتضيه خلافة الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 11- إعداد الإنسان للجهاد في سبيل الله : لا بد من إدراك الأجيال لمفهوم الجهاد في سبيل الله، هل هو مجرد قتال الكافرين وحرب المعتدين، ودفاع عن المظلومين؟ أم أنه مفهوم أكبر وأشمل من كل هذا، إن مهمة مناهج التربية هي إيضاح هذا المفهوم نظريا وإعداد الإنسان -عمليا- لتطبيق مفهوم الجهاد بمعناه السليم، وهذا يعني ما يلي: أولا: إن الإسلام هو رسالة السلام الحقيقية والعدل والطمأنينة. فالإسلام من السلام، وقد وضع للسلام، فتحية المسلمين ونهاية صلاتهم السلام، وتحيتهم في الجنة السلام، فالإسلام دين السلام: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16] . والسلام الذي جاء الإسلام لإقراره في الأرض إنما جاء ليعالج ناحيتين هامتين، وبين للناس فيهما وجه الحق، وهاتان الناحيتان -كما يقول الشيخ حسن البنا- هما: الناحية الأخوية الإسلامية والناحية الأخوية الإنسانية العامة1. لقد جاء الإسلام فرأى الناس يتفاضلون ويتمايزون على أساس من اللحم والدم والقوم،   1 المرجع السابق، ص426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 والأرض والطين، فقرر أن هذا وهم باطل، وأن الناس جميعا لآدم، وآدم من تراب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] . ثانيا: إن الإسلام هو خاتم الرسالات الإلهية للإنسان، وقد جاء حينما بلغت البشرية سن الرشد. إن الاعتقاد بأن هذه الرسالة هي الخاتمة قد بث في الإنسان روح الثقة ببلوغه سن الرشد، وحفزه على التقدم في مضمار عمارة الأرض، وترقية الحياة على ظهرها، والاعتماد على العلم والتجربة في الحياة اليومية، فالإنسان ليس في حاجة اليوم إلى أن ينتظر وحيا جديدا من السماء فيرفع بصره إليها في حالة انتظار وترقب، وإنما حاجته اليوم أن يفكر وأن يستخدم مواهبه في استثمار طاقات الكون وكنوز الأرض لسعادته وترقية حياته. إن الاعتقاد بأن الرسالة المحمدية هي خاتمة الرسالات يبعث في الإنسان روح الطموح والتقدم، ويحثه على استخدام مواهبه بكفاءة، ويعين له المجال السليم لكفاحه وكدحه1. إنه لولا هذا الاعتقاد لفقد الإنسان ثقته بنفسه، وبقي في ريب دائم، وظل شاخصا إلى السماء، بدلا من أن يعمر في الأرض، وفقد ثقته بمستقبله، وثارت شكوك وشبهات حوله، ووقع فريسة المتنبئين على الدوام! ووظيفة الجهاد هنا هي الحفاظ على الرسالة الخاتمة. وتثبيت حاكميتها في الأرض، فهي ما نزلت إلا لتحكم الحياة، وتنظم شئون الناس على أساسها، ويعم خيرها البشرية جميعا. والجهاد حماية للرسالة الخاتمة من أصحاب الفلسفات والنظريات التي تنفي وجود الله أصلا، أو في أحسن الأحوال تجعل لله ملوكت السماء، وتتصرف هي في ملكوت الأرض! الحقيقة أن الجهاد في الميدان ما هو إلا لون من ألوان الجهاد الكثيرة: فطلب العلم النافع الذي تعمر به الحياة وترقى جهاد في سبيل الله، لذلك كان رسوله -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويقول: "اللهم علمني ما ينفعني، وانفعني بما علمتني". وكان -عليه الصلاة والسلام- يعتبر طالب العلم مجاهدا في سبيل الله: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع" [رواه الترمذي] . ويربط الحق -سبحانه- التفقه في الدين -وهو قمة العلم- بالحركة الإيجابية الفاعلة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ   1 أبو الحسن علي الحسيني الندوي: النبوة والأنبياء في ضوء القرآن، الطبعة السادسة، دمشق، دار القلم، 1404هـ-1984م، ص244-245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . "إن المؤمنيون لا ينفرون كافة، ولكن ينفر من كل فرقة منهم طائفة -على التناوب- لتتفقه في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة، وتنذر الباقين من قومهم إذا رجعت إليهم بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة". "وجهاد النفس لون من أشق ألوان الجهاد؛ لأنه جهاد ضد النفس الأمارة بالسوء، والهوى الغلاب، والغريزة الطاغية، والشهوة المنحرفة، والمواريث الساقطة، والتقاليد الهابطة، والعادات السيئة، والثقافات المنحرفة الوافدة"، والصبر على الفترات التي يعلو فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر؛ والصبر على طول الطريق وبعد المشقة وكثرة العقبات في طريق محفوف بالمكاره. إن هذا اللون من الجهاد هو الذي يحدث تفاعلا داخليا وخارجيا يتولد عنه إنسان متميز متبوعا لا تابعا، ورأسا لا ذليلا، ومغيرا بإرادته وطاقاته التي منحه الله إياها، وليس مجرد ترس في عجلة الحتمية التاريخية أو الحتمية المادية أو أية حتمية أخرى! وحين يفقد الإنسان هذا اللون من جهاد النفس، فإنه يتحول إلى مسخ مشوه للإسلام ولكل الفلسفات والنظريات الأخرى، فتجد المسلم الاشتراكي، والمسلم الشيوعي، والمسلم الرأسمالي، والمسلم الوجودي، وهلم جرا..! ومن أهم ألوان الجهاد المطلوبة اليوم، الجهاد الاجتماعي، أي: الجهاد من أجل تعديل أوضاع المجتمع المسلم التي انحرفت عن طريق الله. ويكون ذلك عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة, إنه من الضروري أن نتعامل بإيجابية وفاعلية من أجل تصحيح الأوضاع الاجتماعية التي لا تستقيم مع منهج الله. فالاستغلال -ضد التوحيد- والتفاوت الاجتماعي البغيض ضد التوحيد. والجوع الكافر قد لا يترك للمرء لحظة يتذكر فيها الله، ولذلك كان التوحيد النقي دائما حربا على الجوع والاستغلال. والاستبداد يتنافى مع منهج الله تماما، لأن الاستبداد في جوهره تقزيم للذات البشرية وحصر لدائرة تطلعاتها، وإنكار لمبدأ المساواة والعدالة بين الناس.. القهر السياسي يتصادم بالضرورة مع تكريم الله للإنسان؛ لأنه يحرم الإنسان من اكتشاف حقيقة الوجود، والاستقامة مع مقتضياتها، فالإنسان -حينئذ- يستبدل الخوف من الله بالخوف من البوليس، واستشعار رقابة الله، بالاحتياط من رقابة المخابرات1. وإذا كان المجتمع الإنساني كله في كل مكان وزمان هو موضع للدعوة، والجهاد في سبيلها فإن ذلك يستوجب ضرورة أن يتسع مفهوم الجهاد طبقا لظروف المجتمع ومتطلبات العصر وحاجات الناس ومشكلاتهم، فهو ليس مجرد قتال من أجل الدعوة في ميدان القتال، وإنما هو أيضا جد في طلب العلم، وإحسان في العمل، وإحسان في تربية الأجيال، وبذل للنفس، وبذل للمال.. وهكذا كل نشاط تستقيم به حياة الإنسان على منهج الله، هو جهاد في سبيل الله.   1 علي أحمد مدكور: "الثقافة والحضارة في التصور الإسلامي ودورهما في محتوى المناهج التربوية "دراسات تربوية"، المجلد السابع، الجزء "41"، 1992م، ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 12- إدراك أهمية العلم وقيمته في إعمار الحياة : لا بد أن يؤمن الناشئة بأن العلم هو شعار الإسلام، وهو وسيلة الإنسان في القيام بواجبات الخلافة في الأرض. وهذه منزلة اشرأبت لها أعناق الملائكة، وتشوفت إليها نفوسهم فلم يعطوها، ومنحها الله للإنسان1. لذلك عندما أراد الله أن يجعل الإنسان خليفة في الأرض لتنفيذ منهج الله فيها، هيأه بالعلم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 30-33] . وتستمر رسالة العلم السابقة من آدم عليه السلام إلى محمد عليه الصلاة والسلام، لتكون أولى كلمات الوحي عليه هي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] . وإذا كان طلب العلم -شرعيا كان أو كونيا- فريضة في التصور الإسلامي، وطالب العلم مجاهد في سبيل الله، فإن من نافلة القول: "إن التفكير في خلق الله، والتدبر في كتاب الكون المفتوح، وتتبع يد الله المبدعة، وهي تحرك هذا الكون، وتقلب صفحات هذا الكتاب.. هو عبادة لله من صميم العبادة، وذكر لله من صميم الذكر. ولو اتصلت العلوم الكونية، التي تبحث في صميم الكون، وفي نواميسه وسننه، وفي قواه ومدخراته، وفي أسراره وطاقاته.. لو اتصلت هذه العلوم بتذكر الخالق لهذا الكون وذكره، والشعور بجلاله، وفضله، لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة, ولاستقامت الحياة بهذه العلوم واتجهت إلى الله. ولكن الاتجاه المادي الكافر، يقطع ما بين الكون وخالقه، ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية، ومن هنا يتحول العلم -أجمل هبة من الله للإنسان- إلى لعنة تطارد الإنسان، وتحيل إلى جحيم منكر، وإلى حياة قلقة مهددة، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار"2.   1 يوسف القرضاوي: الخصائص العامة للإسلام، ط2، القاهرة، مكتبة وهبة، 1401هـ-1981م، ص67. 2 سيد قطب: في ظلال القرآن، المرجع السابق، ص1216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 13- تعميق شعور الإيمان بالعدل كقيمة لا تعمر الحياة بدونها : لا بد أن تدرك الأجيال الناشئة أنه إذا كانت وظيفة العلم هي إعمار الأرض وترقية الحياة، فإن هذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا كان مستندا إلى عدل الله. فالعلم إذا لم يستند إلى عدل الله ينقلب إلى وسيلة للخراب والدمار للمجتمع البشري كله. فالعدل -إذن- هو القيمة التي توجه غايات العلم نحو خير الإنسان والإنسانية جميعا. والعدل كما وضحه بعض الفقهاء والمفسرين هو تنفيذ حكم الله، أي: أن يحكم الناس وفقا لما جاءت به الشرائع السماوية. ولما كانت الشريعة الإسلامية هي كمال هذه الشرائع. فإن العمل بها إذن تحقيق للعدل الذي أمر الله به. وتندرج تحت هذا المعنى العام للعدل معانيه الخاصة: فهناك العدل في الحكم، والعدل في النظام الاجتماعي للأمة، والعدل في القضاء، والعدل في سياسة الاقتصاد، والعدل بين الرجل والمرأة، والعدل في الحقوق والواجبات، والعدل في التربية والتعليم، والعدل في القول، والعدل في العمل.. إلخ. ولما كان العدل على هذه الدرجة من الأهمية في التصور الإسلامي، جعله الله واجبا حتى على الأنبياء: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] . والعدل واجب حتى للأعداء. وهذه من أعظم فضائل الإسلام. وقد ورد النص على ذلك صريحا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 14- تأكيد شعور الطلاب بأن الحرية فطرة إنسانية : من الضروري أن يدرك الناشئة أن الله قد فطر الإنسانية على الحرية، فالحرية فطرة في الطبيعة الإنسانية، فالله -سبحانه- خلق الإنسان حرا، لأنه جعله مسئولا عن تنفيذ منهجه في الأرض، فالإنسان حر لأنه مسئول. فالحرية تستتبع المسئولية، والمسئولية تستلزم الحرية. فنشاط المسلم كله حر، وهو كله عبادة لله، ما دام هذا النشاط حركة واحدة موجهة نحو هذه الغاية. ومعنى كون الحرية فطرة فطر الله الإنسان عليها، أنها ليست مجرد منحة يمنحها النظام الاجتماعي للإنسان، أو يمنعها عنه، وإنما هي قيمة غريزية غرزها الله في خلق الإنسان حين خلقه. ويعبر عن هذا المعنى قول عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". فالحرية حاجة أساسية من حاجات النفس لا بد من إشباعها، وهي حق من حقوق الإنسان لا بد من ممارسته، فلا عجب -إذن- أن ينحرف سلوك الإنسان ويسوء عمله، وتهبط أخلاقه، ويتدهور حال مجتمعه كله إذا حرم ومنع من ممارسة حريته، أو إذا انفلت في ممارستها دون ضبط أو تنظيم وفق معايير المنهج الإلهي. وللحرية مظاهر كثيرة في التصور الإسلامي: فهناك حرية النصح والإرشاد، وإبداء الرأي، والنقد وفق معايير سليمة، وهناك حرية التملك والتصرف، وحرية العمل والكسب المشروع. وهناك حرية التفكير والاختيار وهو جوهر الحرية الإنسانية. والإسلام يسير في مفهوم الحرية مع مقتضى فكرته عن فطرة الإنسان على الإيمان بالله وحده، فالإنسان غير المسلم الذي تصل إليه فكرة الإسلام واضحة جلية دون ضغوط أو حصار أو رفض قائم على مقدرات سابقة، لا بد أن يعود إلى فطرته السليمة التي فطر الله الناس عليها. لكن الإسلام يريده أن يعود إلى الله بإرادته الحرة الواعية. فهذا هو الطريق الوحيد الذي يستوجب المسئولية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 15- إدراك مفهوم الشورى وتطبيقاته : لا بد أن يدرك الناشئة أن نظام الشورى في التصور الإسلامي واجب ابتداء وملزم انتهاء. وأن الشورى تقوم على أساس الحاكمية لله وحده، فهو المشرع وحده دون البشر؛ لذلك فهي ليست كالديمقراطيات في النظم العلمانية التي تفصل الدين عن المجتمع والدولة. لا بد أن يدرك شباب الأمة أن الشورى جزئية في النظام الإسلامي العالمي النزعة، الذي يرمي إلى ضم البشرية تحت لوائه متساوية متآخية متكاملة، وذلك على أساس وحدة الإنسانية في الجنس والطبيعة والنشأة. لذلك فنظام الشورى لا يقوم على أساس قومي أو شعوبي أو عنصري، يحلل الحرام لأمته، ويحرم الحلال لغيرها. ونظام الشورى لا يتبع مبدأ "الأكثرية" لو كانت على ضلال، لأن شريعة الله هي المعيار سواء تبعها الأكثرية أو الأقلية. فالأكثرية الضالة عن منهج الله ليست حجة، وأكثر الناس غالبا على ضلال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] .. {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] . لا بد من فهم الناشئة أن نظام الشورى جزئية في النظام الإسلامي الكبير الذي يجعل السيادة لشريعة الله، ثم للأمة إذا ارتضت تطبيق منهج الله، ثم للحاكم إذا نفذ شروط التعاقد بينه وبين الأمة التي تطبق شرع الله. وبذلك فنظام الشورى حصن الأمة ضد الطغيان، حين جعل التشريع الإسلامي مستقلا في جوهره عن الدولة، ففصل بذلك بين السلطة التشريعية ممثلة في شرع الله، وبين السلطة التنفيذية بما فيها السلطة القضائية. وبذلك أبعد الإسلام السلطة التنفيذية عن أشخاص القائمين عليها، وذلك لخضوعهم في ممارستهم لها لدستور مسبق هو شرع الله. وبذلك حمى المجتمع من طغيان هذه السلطات. فعلى منهج التربية أن يوضح للناشئة أصول الحكم في الإسلام على أساس الشورى، ويوضح لهم صور الحكم التي يمكن أن تقوم على أساس الشورى. ويقارن ذلك بالديمقراطية العنصرية التي تحلل الحرام لأهلها، وتحرم الحلال لغير أهلها، كما يقارن الشورى أيضا بنظم الحكم الجماعية التي تقوم على أفكار تناهض الفطرة الإنسانية ومقتضياتها، فتلغي القيمة الحاسمة لحرية الإنسان واختياره وإرادته في تغيير الحياة. فكل هذه النظم لا يمكن أن تنمو الحياة الإنسانية في ظلها نموا سليما، وترقى ترقيا صحيحا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 16- أن يتأكد لدى الطلاب المفهوم الصحيح للعمل : لا بد أن يفهم الناشئة أنه ليس المراد بالعمل الانصراف عن أمور الدنيا وقضاياها والكد والكدح فيها والاشتغال بأمور ثانوية في الدين، كالخلافات المذهبية، والدروشة، ومناقشات مدى إخلاص أو عدم إخلاص بعض الناس العاديين أو المفكرين. وليس من العمل الجاد الذي تعمر به الحياة وترقى، أن يترك كل ذي تخصص تخصصه في الطب والهندسة والعمارة والطبيعة والكيمياء والرياضيات وعلوم الحرب، وعلوم الإدارة وعلوم ارتياد الفضاء، وكل العلوم التي نحن فقراء إلى النابغين فيها، إلى الاشتغال بأحكام التجويد وعلامات الساعة، وإطالة اللحى وتقصير الثياب ... إلخ. لا بد أن نعمق في شعور الناشئة أن العمل الذي تعمر به الحياة وترقى، هو أن ينصر كل منهم الإسلام في ميدان تخصصه بالإنجاز فيه والإبداع. يقول الشيخ الغزالي: "من المستحيل إقامة مجتمع ناجح الرسالة إذا كان أصحابه جهالا بالدنيا، عجزة عن الحياة.. وإنه لفشل دفعنا ثمنه باهظا عندما خبنا في ميادين الحياة. وحسبنا أن مثوبة الله في كلمات تقال، ومظاهر تقام.. إن الله لا يقبل تدينا يشينه هذا الشلل المستغرب, ولا أدري كيف نزعم الإيمان والجهاد ونحن نعاني من هذه الطفولة التي تجعل غيرنا يداوينا، ويمدنا بالسلاح إذا شاء"1. لا بد أن تدرك الناشئة ارتباط العمل بالعبادة، فالإنسان المسلم عابد لله ما دام متجها بعمله ونشاطه كله لله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل، الصائم النهار". "رواه الشيخان". وعن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع النبي في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر. قال: فنزلنا منزلا في يوم حار، أكثرنا ظلا صاحب الكساء. فمنا من يتقي الشمس بيده، قال فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله" "أخرجه الستة". إن الأجيال المسلمة لا بد أن تدرك أن المقصود ليس مجرد "العمل" وإنما "الإحسان في العمل": {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] . والإحسان في العمل ذو شقين: الشق الأول هو استخدام أقصى درجة المهارة والإتقان فيه. يؤكد هذا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" [رواه الستة] . ولكن هل يكفي الإتقان في العمل لبناء حضارة إنسانية راقية؟ الإجابة الصحيحة أن ذلك لا يكفي. وهنا نصل إلى الشق الثاني لمعنى "الإحسان في العمل" وهو أن تتوجه بالعمل لله، لأنك ترى الله في العمل، وتؤمن بأن الله يراك"2. وهكذا.. فإن العامل المحسن لن يسمح باستخدام نتاج عمله ومهارته في خراب الدنيا، لأنه خلق للعمل على إعمارها على عهد الله وشرطه. فهذا هو مقتضى الخلافة في الأرض وهو مفهوم العبادة.   1 محمد الغزالي: عقيدة المسلم، ط4، دمشق، دار القلم 1403هـ 1983، ص180. 2 علي أحمد مدكور: نظريات المناهج التربوية، القاهرة، دار الفكر العربي، 1417هـ-1997م، ص205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 17- إدراك مفهوم التغير الاجتماعي : لا بد أن يدرك الطلاب أن التغير الذي يحدثه الإنسان في الأرض أو في المجتمع، يتم وفق الإرادة المطلقة لله. وهذا التغير إما أن يكون في اتجاه يهدف إلى تدبير شئون الخلق وفق منهج الله، وإما أن يكون في أي اتجاه آخر. وفي كل الأحوال فإن التغير الاجتماعي الذي يحدثه الإنسان، إنما يخضع لقاعدة ثابتة تمثلث في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] . إن الآيتين السابقتين تدلان دلالة قاطعة على أن التغير الاجتماعي إنما يبدأ من الداخل، أي: من داخل النفس، وذلك بتغيير الأنماط العقائدية والمعيارية والقيمية والفكرية للإنسان، فإذا ما تغير ذلك، فإنه ينعكس على السلوك الخارجي للفرد والمجتمع على السواء. أي: إنه ينعكس على النظم، والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية. إلى آخره. لكن العكس غير صحيح. فتغيير النظم والمؤسسات على غير أسس معيارية واضحة وعميقة في نفوس الناس، هو تغير سطحي هش، يطير مع أول نسمة هواء. إن المنهج القرآني في التغير الاجتماعي، هو ما طبقه النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أقام العقيدة قوية راسخة في مكة، ثم أقام النظام على أساسها في المدينة. ومما يؤثر في هذا المقام عند الأستاذ حسن البنا قوله: "أقيموا الإسلام في أنفسكم يقم على أرضكم". ما يستفاد من قاعدة التغير: مما سبق تتضح لنا مجموعة من الحقائق أهمها ما يلي: أولا: أن كل تغير في الكون يتم في إطار الإرادة المطلقة لله، بما في ذلك حركة الإنسان بالطبع، وهذا أصل ثابت بالنص {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ} ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا} ، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وحول هذه القاعدة تدور حركة الإنسان في جميع اتجاهاتها، فحركة الإنسان -كحركة كل شيء في الكون- تدور وفق الإرادة المطلقة لله. ثانيا: تقرر الآيتان السابقتان "عدل الله في معاملة العباد، فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم، ويبدلوا سلوكهم، ويقلبوا أوضاعهم، ويستحقوا أن يغير الله ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ثالثا: تفيد الآيات تكريم الإنسان إلى حد بعيد، إذ جعل الله قدره ينفذ بالإنسان عن طريق حركة الإنسان نفسه، وعلمه هو. وجعل التغير القدري في حياة الناس مبنيا على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم العملي وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم. رابعا: إن الله يلقي على الإنسان تبعة عظيمة، تقابل التكريم العظيم الذي منحه له، فالإنسان وحده -دون كل خلق الله- يملك أن يستبقي نعمة الله عليه، وأن يزاد له عليها، إذا هو عرف فشكر، كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا أنكر وبطر، وانحرفت نواياه، فانحرفت خطاه. وهنا تظهر إيجابية الإنسانية في صياغته لمصيره -وفق الإرادة المطلقة لله "وتنتقي عنه تلك السلبية الذليلة التي تفرضها عليه المذاهب المادية، التي تصوره عنصرا سلبيا إزاء الحتميات الجبارة: حتمية الاقتصاد، وحتمية التاريخ، وحتمية التطور.. إلى آخر الحتميات التي ليس للكائن الإنساني إزاءها حول ولا قوة. ولا يملك إلا الخضوع المطلق لما تفرضه عليه وهو ضائع خانع مذلول"1. خامسا: إن هناك تلازما بين العمل والجزاء في حياة الإنسان ونشاطه الوجداني والعملي، فمن عدل الله المطلق أن جعل هذا التلازم سنة وقاعدة يجري بها قدره وإرادته: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} . سادسا: إن الإسلام عقيدة وشريعة، وشريعة الإسلام من عقيدته.. "بل إن شريعته هي عقيدته.. إذ هي الترجمة الواقعية لها"2. وهذا يعني أن إحياء الشريعة لا يمكن أن يحدث بصورة فعالة إلا بإحياء العقيدة أولا، فالمستوى الاعتقادي يجب أن يسبق في الإحياء المستوى التشريعي. والخلاصة: أنه يمكن الخروج من هذه المناقشة بأمرين الأمر الأول: إن تطبيق المجتمع لمنهج الله، دون فهم أصول الاعتقاد فهما صحيحا، والاقتناع بأصوله التشريعية في حكم الحياة، كثيرا ما يؤدي إلى نكسة للنظام كله، وإلى إلصاق تهم الضعف، والقصور، والبعد عن الحياة به، وهو منها بريء. وكثيرا ما تأتي هذه النكسات على يد هؤلاء المسلمين غير الفاهمين أو بواسطتهم. الأمر الثاني: إن عملية بناء العقيدة الإسلامية في نفوس الناشئة. وتصحيح مفاهيمها نظريا وعمليا في نفوس الكبار، هي عملية مستمرة لا ينبغي أن تتوقف. وأن هذا لا يمنع أن تقوم المجتمعات المسلمة الحاضرة بتطبيق مبادئ الشريعة في حياتها العملية بطريقة تدريجية ومتوازنة، ابتداء من المبادئ التي رسخت في ضمائر الناس وعقولهم.   1 محمد الغزالي: علل وأدوية، دمشق، دار القلم، 1405هـ-1985م، ص46. 2 سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، ص322-323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 18- إدراك مصادر المعرفة والعلاقات بينها : للمعرفة في منهج التربية مصدران رئيسيان, فهناك معرفة مصدرها تفكر الإنسان وتدبره في كتاب الكون المفتوح, وفي علوم الكون والحياة وكل ما يتصل بأحوال الناس المادية، وشئونهم المعيشية. وهذا اللون من المعرفة لا يقبل منه منهج التربية إلا ما جاء نتيجة للمنطق التجريبي أو الرياضي. أو التفكير العلمي والتجارب العلمية والصحيح من تشريعات الفقهاء واجتهادتهم في كل عصر في ضوء التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة. أما إذا كانت المعارف والمعلومات متصلة بما وراء المادة وبما وراء خبرات الإنسان في الأمور المادية والمعيشية، فإن كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- هما السبيل الفذة التي لا يقبل منهج للتربية سبيلا غيرها1. أما ما تركه الفلاسفة والعلماء الذين بحثوا فيما وراء المادة أو فيما وراء الطبيعة، فهو خليط عجيب من النظريات والأفكار والآراء التي تستطيع تمييز الصحيح من السقيم فيها. فهم ينتمون إلى كثير من الشرائع والنحل، فجاءت فروضهم خاطئة، وبحوثهم حائرة، وآراؤهم متناقضة، فورثوا لأتباعهم الحيرة وعدم الاستقرار في كل حال. إذن فالإسلام هو القرآن والسنة. وما عداهما من الاجتهادات في ضوئهما هو فقه إسلامي، تسترشد به الأجيال المتعاقبة، فيساعدها على الفهم والاستنتاج والتطبيق. ومما سبق يمكن استنتاج أمرين: الأمر الأول: هو أنه لما كانت الحالات الاجتماعية لا تتكرر أبدا في التاريخ، إنما تتشابه مجرد تشابه؛ فإن أي حكم تطبيقي في حالة مضت -ليس من شرع الله ولا من عمل رسول الله, صلى الله عليه وسلم- إنما يصلح للاسترشاد به والاستشهاد في الحالات المشابهة التي تعرض للأجيال المتجددة، ولكنه لا يبلغ حد الإلزام المطلق؛ لأنه مجرد رأي بشري في شريعة الله، ليس جزءا من الشريعة الثابتة الصادرة من الله"2. الأمر الثاني: هو أن الصور التاريخية للمجتمع الإسلامي لا تحدد ولا تستوعب كل الصور الممكنة للمجتمع الإسلامي، ولكل جيل أن يبدع نظمه الاجتماعية في حدود المبادئ الإسلامية، وأن يلبي حاجات زمانه باجتهادات فقهية قائمة على الأصول   1 محمد عمارة: "تعدد مصادر المعرفة بين الحضارتين الإسلامية والغربية" في "المسلمون" العدد 243، في 29 صفر 1410هـ-29/ 11/ 1989م، ص7. 2 المرجع السابق، ص7-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الأصول الكلية للشريعة، على شرط اتباع مناهج صحيحة في الاجتهاد، واتفاق بين جمهرة فقهاء الأمة الإسلامية في كل جيل، بحيث لا ندع الأمر فوضى لكل من شاء كيف شاء. والحادث في معظم أقطار الأمة الإسلامية أننا تركنا استيحاء مقومات المجتمع الإسلامي ونظمه السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية من الشريعة والفقه معا، وارتمينا في أحضان النظم الوضعية غربية كانت أم شرقية. إن منهج التربية عندما يلجأ إلى تدريس مذاهب الفقه المختلفة لأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن تيمية، وابن حزم وغيرهم، فإنه يدرسها "على أنها وجهات نظر متساوية القيمة". وأنها تعبر عن حاجات الناس ومطالب المجتمع في أزمنة وأمكنة مختلفة، فهي ليست ملزمة للناس بطريقة مطلقة في كل عصر ولكل مكان، وعلى هذا فهي تناقش، وتوزن "بحياد علمي وصدر مفتوح، لا مكان فيه للخصومة، والجفاء وتفريق الأمة". مصادر التلقي في منهج التربية: إن الحق -سبحانه وتعالى- يوجه الخطاب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول له: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147] . ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما امترى يوما ولا شك. وحينما قال له ربه في آية أخرى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] .. قال: "لا أشك ولا أسأل". ولكن توجيه الخطاب هكذا إلى شخصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحمل إيحاء قويا إلى من وراءه من المسلمين. سواء منهم من كان في ذلك الحين يتأثر بأباطيل اليهود وأحابيلهم، ومن يأتي بعده ممن تؤثر فيهم أباطيل اليهود وغير اليهود في أمر دينهم. وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير؛ ونحن -في بلاهة منقطعة النظير- نروح نستفتي المستشرقين والشيوعيين في أمر ديننا. وقد يهون الأمر لو اقتصر تلقينا عنهم على العلوم البحتة كالرياضيات، والعلوم الطبيعية، وعلوم الصناعة، والزراعة وعلوم الحرب وفنون القتال.. إلى آخر ذلك من العلوم التي لا تتأثر كثيرا بالفلسفة وتفسير السلوك الإنساني. ولكن الكارثة هي أننا نتلقى عنهم -أيضا- تاريخنا، وفنوننا، وآدابنا، وسياستنا، واقتصادنا، واجتماعنا وتربيتنا. ونأمنهم على القول في تراثنا، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا، وسيرة أوائلنا. ونرسل إليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 بعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام، ويتخرجون في جامعاتهم، ثم يعودون إلينا مدخولي العقل والضمير! إن هذا القرآن قرآننا. قرآن الأمة الإسلامية. وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعلمه وما تحذره: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] .. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] . والخلاصة: منهج التربية يجب أن يعتمد أساسا على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو عندما يتعرض للاجتهادات الفقهية القديمة، لا يتحرج من وزنها على أساس موضوعي، فيقبل ما يراه مناسبا للاسترشاد به، ويدع ما لا يتناسب مع معطيات الزمان، والمكان، وحاجات الناس، والتلقي في هذا المنهج لا يتم فيما يتصل بعلوم الشريعة، والفنون والآداب والتربية، وكل العلوم الإنسانية -لا يتم إلا على يد مسلم يوثق في علمه وتقواه. أما فيما يتصل بالعلوم البحتة فيجوز التلقي فيها على يد غير المسلمين عند الضرورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 19- إدراك الطلاب الفرق بين الإسلام والتراث الإسلامي : يجب أن تفرق مناهج التربية بين الإسلام من جانب، وبين التراث عموما، والتراث الإسلامي على وجه الخصوص، من جانب آخر. فالتراث عموما، بجميع جوانبه وألوانه -من آداب وفنون وآثار تاريخية وجغرافية، اقتصادية وسياسية واجتماعية، مادية وفكرية، نظرية وعلمية- هو صناعة إنسانية، تاريخية ومتحفية. والتراث الإسلامي هو كل ما تركه المسلمون من اجتهادات في الآداب، والفنون، والعلوم، والفقه، والتنظيمات والطرائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ. التي تتفق مع الإسلام نصا أو روحا، أو لا تختلف معه على الأقل. والتراث في كلتا الحالتين السابقتين هو صناعة إنسانية تاريخية ومتحفية، نامية ومتطورة، والفرق بين التراث الإسلامي وغيره. هو أن التراث الإسلامي اجتهادات وابتكارات في جميع جوانب الحياة ووسائلها في ضوء التصور الإسلامي. فهو تراث على درجة عالية من الثبات في الاتجاه؛ فهو لا ينقل من النقيض إلى النقيض، بل يرتقي صعودا بالحياة الإنسانية وفق منهج الله. أما بالنسبة للتراث العام، فتراث كل أمة إنما ينمو ويتطور صعودا أو هبوطا -وقد ينتقل من النقيض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 إلى النقيض- في ضوء معتقداتها المتغيرة، وفلسفاتها البشرية. ونظرياتها التي تتبناها لتوجيه حياتها. أما الإسلام -قرآنا وسنة- فهو منهج الله لحكم الحياة كلها، في كل زمان، وفي كل مكان. ومن ثم فهو ليس صناعة إنسانية، وإنما هو وحي ثابت من الله. وهو لأنه صناعة ربانية، وليس صناعة إنسانية، فهو ليس آثارا متحفية أو تاريخية، يمكن أن نتعامل معه أو نقننه كوثائق متحفية يستشهد بها في المناسبات والمواسم، كما يريد المستشرقون. فالمستشرقون ومن هم على شاكلتهم يريدون أن يصبغوا الإسلام بهذه الصبغة، لتتم زخرفة الحياة رويدا رويدا بعيدة عنه.. وبذلك يمكن تحنيطه بعد ذلك، وتحويله إلى تراث متحفي! والمهم هنا أن نفهم أن التراث عموما -بما في ذلك التراث الإسلامي- هو عملية ثقافية وحضارية نامية ومتطورة بصورة نسبية من مجتمع لآخر. فكل مجتمع يطور تراثه الثقافي والحضاري وينميه كما وكيفا وفقا لتصوراته الثابتة والمتغيرة. أما الإسلام -قرآنا وسنة- فهو منهج إلهي، اكتمل بناؤه في ثلاث وعشرين سنة، ابتداء من إشراقه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء، إلى وفاته عليه الصلاة والسلام، فالنقطة المركزية هنا هي أن الإسلام ليس ناميا ولا متطورا في ذاته، وإنما المسلمون، بل والبشرية كلها هي التي تنمو ويرقى فهمها للإسلام على مر العصور. مما سبق يتضح لنا أننا يجب أن نصمم مناهجنا ونربي أجيالنا على أساس أن الإسلام -قرآنا وسنة- هو "أصول" إلهية، تشتمل على منهج إلهي لحكم الحياة، كل الحياة. وعليه فنحن ملزمون بهذه "الأصول" الإلهية إلزاما مطلقا في كل شيء، وفي كل زمان، وفي كل مكان. وأما التراث الإسلامي بكل ما يحتويه من آداب وفنون وعلوم، وفقه، واجتهادات في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية، والتاريخ والجغرافيا والفلك.. إلخ، وكل الجوانب النظرية والممارسات العملية المتراكمة على مر العصور، هذه كلها يجب على مناهجنا أن تدرسها دراسة تحليلية تفسيرية تقويمية في ضوء المعايير والقيم الأصولية الثابتة لمنهج الله. كما يجب دراسة التراث الإسلامي أيضا في ضوء معطيات العلوم الحديثة. فوظيفة معطيات هذه العلوم هي -بالإضافة إلى ترقية فهمنا لنظام الله ومنهجه ونواميسه الكونية -مساعدتنا على دراسة وفهم تراثنا وتقويمه من أجل تطويره وترقيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وهنا تبرز نقطة في غاية الأهمية والخطورة، وهي أننا يجب أن نفرق بين لي ذراع الأصول الإسلامية -كآيات القرآن مثلا- لتوافق معطيات العلوم الحديثة، وبين الاستفادة من المعطيات المتجددة لهذه العلوم في ترقية فهمنا لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم. فالموقف الأول خطأ في المنهج، وانهزام في المأخذ، لا يصح ولا يتناسب مع جلال كتاب الله وعالميته وشموله. أما الموقف الثاني فهو موقف المجتهدين الذين يتحلون باستعلاء الإيمان اللائق بمنهجهم الرباني، بينما هم يساهمون بإيجابية وفاعلية في عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج الله. إذن فالغرض من دراساتنا لتراثنا هو أن نطور هذا التراث ونرقيه. ونستأنس ونسترشد بما فيه من أفكار حية، وقيم باقية، وطرائق وأساليب صالحة. فنحن قد نتفق مع بعض موضوعات هذا التراث، وقد نختلف مع بعضها الآخر؛ لذلك لسنا ملزمين به إلزاما، وذلك على العكس مع "الأصول" كما رأينا. وليس معنى ما سبق أن نهمل دراسة التراث الإنساني العام. إذ لا بد من دراسة هذا التراث دراسة واعية ناقدة وفقا لمعايير الإسلام وقيمه الإنسانية الشاملة. وبذلك نستطيع أن نأخذ منه ما يتمتع بالمصداقية، ويتسق مع نواميس الله الكونية، وندع منه كل ما يتصل بتفسير السلوك الإنساني القائم على الولاءات المحدودة والانتماءات العنصرية المتصلة باللحم والدم، أو الأرض والطين. ونحن إذ نقوم بدراسة التراث الإنساني، يجب أن نتمسك بعدة اعتبارات: الأول أن ديننا دين رباني، عالمي، ثابت، شامل، الثاني أن "الوسطية" و"الشهادة على الناس" قد عقدهما الله لهذه الأمة، ما دامت متمسكة بدين الله، وأن تدرك الأمة أن تمكين الله لها في الأرض، ومن ثم قيادتها وريادتها في مسيرة الارتقاء الإنساني مرهون بهذا التمسك بدين الله. الاعتبار الثالث هو أن تدرك الأمة أنها أمام تراث إنساني معاد للإسلام، وساع إلى ابتلاعه، فإذا لم تقم مناهج تربية الأجيال بدراسة هذا التراث دراسة علمية موضوعية على أساس من نواميس الله وسننه الكونية، فسوف تجد الأمة نفسها في حالة دفاع مستمر عن النفس. لا وسطية لها، ولا شهادة على الناس! والخلاصة: أن مناهج التربية أمامها ثلاثة مستويات للدراسة والفهم: المستوى الأول: هو مستوى الإسلام، أو "الأصول" الإسلامية غير التراثية، المتمثلة في القرآن والسنة. وهذا هو المستوى الرباني العالمي الثابت الشامل. ووظيفة مناهج التربية هي الاجتهاد في تنمية فهمنا له، وتجديد وترقية هذا الفهم دائما وأبدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 والمستوى الثاني: هو مستوى التراث الإسلامي، الذي هو عبارة عن اجتهادات المسلمين على مر العصور في كل جوانب الحياة الإنسانية. وواجب مناهج التربية حيال هذا الجانب، هو أن تتناوله بالدراسة والتقويم في ضوء القيم والمعايير الأصولية، وفي ضوء المعطيات المتجددة للعلوم الحديثة، التي لا تتناقض مع الإسلام. والمستوى الثالث: هو مستوى التراث الإنساني العام، ودور مناهج التربية حيال هذا التراث، هو دراسة أهم معالمه، وأبرز معطياته في ضوء قيم الإسلام ومعاييره الإنسانية، ونواميسه الكونية، والاستفادة من كل ما هو مفيد فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 20- إدراك مفهوم الثقافة والحضارة : إن إدراك الطلاب لمفهوم الثقافة والحضارة أمر في غاية الأهمية. وهنا يجدر الإجابة عن الأسئلة التالية: ما معنى الثقافة؟ ومن هو المثقف؟ وما علاقة الثقافة بمناهج التربية؟ الثقافة هي الأسلوب الكلي لحياة المجتمع، الذي يتسق مع تصوره العام للكون والإنسان والحياة. وهذا المفهوم يشتمل على شقين رئيسيين: الشق الأول عام لا يختلف باختلاف المجتمعات. فالثقافة هي طريقة المجتمع -أي مجتمع- في الحياة، فالطريقة التي يفكر بها الناس في مجتمع ما، ويعملون بها، وتقوم عليها نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية, والطريقة التي يتحدثون بها, ويسيرون بها في الشوارع، ويقودون بها السيارات، ويتعاملون بها مع بعضهم البعض داخليا، ومع الآخرين خارجيا، وعاداتهم وتقاليدهم.. إلخ كل هذا يطلق عليه الأسلوب الكلي لحياة الجماعة، فكل جماعة لها أسلوبها الكلي وطريقتها الشاملة في الحياة. وعند هذا الحد لا يختلف مجتمع عن آخر في أن له أسلوبا وطريقة للحياة. ولكن ما الذي يجعل المجتمع المصري -مثلا- يختلف عن المجتمع الأمريكي أو المجتمع الروسي؟ الإجابة هي أن كل مجتمع له أسلوب للحياة وله طريقة للعيش تتسق مع عقيدته أو مع فلسفته، والفلسفات المختلفة هي سبب اختلاف الثقافات واختلاف أساليب الحياة وطرائق المعيشة. ووظيفة مناهج التربية هنا هي أن تعد أبناء المجتمع المصري -مثلا- لعيشوا الحياة المصرية التي تتسق مع الرؤية المصرية التي تتسق مع دستور مصر وعقيدتها ورؤيتها للكون والإنسان والحياة. وهذا الدور لا تقوم به مناهج التربية الدينية والتربية الوطنية فقط، وإنما ينبغي أن تقوم به أيضا مناهج اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا والاجتماعيات والإنسانيات خصوصا، والعلوم التطبيقية على وجه العموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ومفهوم الثقافة على النحو السابق يقودنا إلى الإجابة عن سؤال: من هو المثقف؟ فالمثقف -وفقا لما سبق- هو الشخص الذي يدرك بوضوح رؤية مجتمعه للألوهية والكون والإنسان والحياة ويؤمن بها، ويدافع بوعي عنها. ومفهوم المثقف هذا يعني ثلاثة أمور: الأول: أن الشخص الذي ليس له رؤية لا يعد مثقفا، حتى لو كان عالما في مجال تخصصه الصرف في الرياضيات أو الكيمياء أو الفيزياء أو التاريخ أو اللغات، حتى لو كان حائزا على أعلى الجوائز الدولية في مجال تخصصه، أو كان حائزا على شهادات عالية علمية أو ألقاب أكاديمية من جامعات عالمية شهيرة. فالمثقف شخص له رؤية. الثاني: أن الإنسان السلبي أو المترف أو المتردد أو الصامت أو المنعزل لا يعد مثقفا مهما كان عالما؛ فالمثقف لا بد أن يسهم بفكره وعمله وعلمه ونشاطه في تغيير المجتمع وفقا لرؤيته, ورؤية المجتمع التي تتسق مع فلسفته وعقيدته. وعلى ذلك، فهؤلاء الذين يرفضون التدخل في القضايا غير العلمية البحتة في مجال تخصصهم والتي تمس الحياة العامة للناس، والذين يرفضون إبداء الرأي في المفاهيم الثقافية والفكرية والأيديولوجية، والذين يرفضون النزول إلى الشارع وإبداء الرأي في الأفكار والقيم والمشكلات والسلوكيات المطروحة ليسوا بمثقفين مهما كانت إنجازاتهم في تخصصاتهم العلمية البحتة. الثالث: أن يكونوا قادرين على التعبير عن رؤى نظرية واجتماعية متقدمة، وفكرا وثقافيا متحددا في مستقبل مجتمعاتهم، وفي أبعاد نشاطهم -وبذلك يمكنهم الخروج عن إطار تخصصهم العلمي الضيق. وواجب مناهج التربية هنا أن تسهم في إعداد المثقف الأصيل والمتجدد في نفس الوقت. فهي تعد المثقف القادر على الحفاظ على أصالته وأصالة مجتمعه، وعلى الحفاظ على هويته وهوية مجتمعه، وذلك عن طريق إمداده بأسس ثقافته من منابعها الأصيلة. وإمداده بمجموعة الحقائق والمعايير والخبرات والمهارات التي تجعل منه إنسانا متميزا في مجتمع متميز. كما يجب أن تمده أيضا بمجموعة الخبرات والرؤى والتصورات التي تعينه على التفكير الابتكاري وعلى استشراف آفاق المستقبل وتحديد معالمه، وتعينه أيضا على المشاركة الإيجابية في القضايا والتحولات والمنجزات الكبرى التي تسهم في تغيير مجرى الحياة، وتؤثر في مسار واتجاه المجتمعات، وتقودهما نحو الحق والخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 والجمال، وأن على مناهج التربية أن تنمي شعور المتعلمين وإدراكهم للمسؤلية الاجتماعية بعناصرها الثلاثة: الاهتمام، والفهم، والمشاركة. وتنمية الاهتمام تعني تنمية الارتباط العاطفي بالجماعة, بالحرص على استمرارها وتقدمها وتماسكها وبلوغها أهدافها. أما تنمية المناهج للفهم فيكون عن طريق فهم الفرد لتاريخ الجماعة ولعقيدتها وفلسفتها، وعاداتها وقيمها وللظروف المؤثرة في حاضرها ومستقبلها، وتكون أيضا عن طريق إقدار الفرد على فهم المغزى الاجتماعي لأفعاله، وإدراكه لآثار أفعاله وتصرفاته وقراراته على الجماعة. وعلى المناهج أن تنمي في الفرد الرغبة والقدرة على المشاركة مع آخرين في الجماعة, في إنجاز الأعمال التي يمليها الاهتمام ويتطلبها الفهم، بما يساعد الجماعة على إشباع حاجاتها وحل مشكلاتها، والوصول إلى أهدافها، والمحافظة على تقدمها واستمرارها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 21- إدراك الفرق بين الغزو الثقافي والتفاعل الثقافي : لا بد أن يدرك الطلاب -على جميع مستوياتهم- الفرق بين الغزو الثقافي والتفاعل الثقافي. وذلك يقتضي التفكير فيما يلي: أولا: إن الإسلام هو المنهج الوحيد الباقي بلا تحريف ولا تزييف, وأنه منهج كامل شامل، لا يحتاج إلى "قطع غيار" من خارجه؛ وذلك لأنه منهج رباني من خلق الله الذي خلق الكون، والإنسان، والحياة: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] إذن فلا عجب ألا يهزم الإسلام عقائديا ولا حضاريا، في الوقت الذي هزمت فيه أمته -المنحرفة عنه- سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا! إن من سنن الله في الكون أن يقوم بناء النظم والمؤسسات المختلفة كالمصنع والمدرسة والمزرعة إلى آخره على أساس تصور معين للكون، والحياة والإنسان، ومركز الإنسان في الكون، ووظيفته في الحياة. والعقيدة والإنسان في هذا التصور هما أهم ما فيه. فالنظم والمؤسسات على أهميتها البالغة تظل فاقدة للوعي. قابلة للانهيار. إذا فقدت العقيدة التي توجهها والإنسان الذي يحرسها من الضياع والتلف والانهيار عن طريق حمايته للعقيدة التي تمثل القاعدة التي يقوم عليها بناء هذه المؤسسات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وعليه فإننا عندما نبني نظاما من نظم الحياة في السياسة أو الاقتصاد أو التربية إلى آخره، فإننا لا يجب أن نخلط بين التصور الإسلامي ومنظومته الحضارية الربانية العالمية الثابتة، وبين غيره من التصورات ذات المنظومات الحضارية البشرية المتغيرة، التي تخضع في مسيرتها لكثير من نزوات البشر وشهواتهم. لكن هذا لا يقتضينا أن نتطرف فننظر إلى مناهج الآخرين على أنها شر كلها لا ينبغي الاقتباس منها في شيء؛ فسنن الله في خلقه لا تتبدل ولا تتخلف، فمن أخذ بها وصل إلى نتائجها، وهذه السنن لا تجامل مسلما لإسلامه، ولا تعادي كافرا لكفره، كما لا ينبغي الاعتقاد أنه لا نهضة لأمتنا إلا بتقليد الغرب في كل شيء وقبول دور التابع له، فإن هذا من شأنه أن يذيب شخصية الإنسان المسلم، والأمة الإسلامية! ثانيا: مما سبق يمكن القول: إننا نحن المسلمين لا نستطيع أن نعيش في عالم اليوم، وأن نتعامل مع الآخرين، مع الاحتفاظ في نفس الوقت بكامل كرامتنا الإنسانية، دون التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، أي: تصورا اعتقاديا، وتصورا اجتماعيا. إن هذا هو السبيل الوحيد الذي يجعل الأمة الإسلامية تقف في مصاف القوى الكبرى بمناهجها المتصارعة. وإلا فالبديل هو الذوبان في إحدى هذه القوى. وفي اعتقادي أنه لن يصلح حاضر هذه الأمة ومستقبلها إلا بما صلح به ماضيها، مع الأخذ في الاعتبار عوامل الزمان والمكان، وحاجات الناس ومطالبهم في كل زمان ومكان. وعليه فإن "التصور الاعتقادي" الإسلامي لا يمكن السماح بالخلط والتلبيس فيه، كما لا يمكن اقتباس شيء من خارجه لإدخاله فيه؛ وذلك لأنه تصور رباني، عالمي، ثابت، شامل. أما مناهج الآخرين الحالية، فأقل ما يمكن أن يقال فيها، إنها أزياء فصلت وطرزت لتناسب أقواما معينين في زمان ومكان معينين! أما بالنسبة "للتصور الاجتماعي" النابع من "التصور الاعتقادي" الإسلامي فلا بد من النظر فيه: فما هو ثابت قد فصله الإسلام، وهذا لا مجال فيه للاقتباس من مناهج أخرى. وما هو متغير قد أجمله الإسلام، وهذا هو الباب المفتوح للاقتباس والتعلم من الآخرين. ثالثا: إننا يجب أن نستعين بما يمكن الاستعانة به في مجال العلوم التقنية فقط، ودون التأثر بنمطه الحضاري العام. ويجب في هذا الإطار أن نفرق بدقة بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الخصوصيات الحضارية وبين العموميات الإنسانية، وإلا فالنتيجة هي الإمعية الحضارية والتبعية الذليلة! ومن العبث في هذا الصدد أن يقال: وماذا يملك المسلمون من خصوصيات حضارية كي يتعاملوا مع الآخرين من موقف القوة؟! ولنا في الماضي عبرة في الرد على هذا العبث المحبط اليائس: فماذا كان يملك ربعي بن عامر غير الإيمان، واستعلاء الإيمان، والرغبة في الموت في سبيل عقيدته، حينما دخل بثياب صفيقة وترس وقوس قصيرة على رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم قبيل موقعة القادسية، وكان رستم يجلس على سرير من الذهب، وقد زين مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير، واليواقيت واللآلئ الثمينة. وعندما أقبل ربعي على رستم، قالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا، وإلا رجعت. فقال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام! رابعا: إن الناس جميعا هم خلق الله، وقد جعلهم الله شعوبا وقبائل ليتعارفوا، لا ليتصارعوا ويتباعدوا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] . ففكرة الإسلام هي أن الوجود واحد، وأن الإنسانية وحدة متكاملة. فالحكمة من وراء الاختلاف والتنوع، هي التعاون والتكامل وإلا فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] . لكن الله لم يشأ أن يأخذ الناس قسرا إلى هذه الغاية، لكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهجا، وتركهم يستبقون، وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون. إذن فتواصل الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم يجب أن يظل قائما، على أن يظل التقارب الوثيق أو التباعد إلى حد القطيعة محكوما بنواميس الهدى والضلال التي تمشي بها مشيئة الله في الناس. وعليه فإنه في سبيل إقامة علاقات تفاهم وتعاون مع الآخرين لحفظ السلام في العالم، لا يجب أن نتجاهل المبادئ والسنن الكونية في الحق والعدل في فلسطين وفي البوسنة وغيرهما، فمثل هذا التجاهل لا يؤدي إلى التفاهم الدولي ولا إلى الإسلام العالمي، بل إلى التنازل عن الحقوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الإنسانية الضرورية، تنازل المقهور بقوة قاهره. وهذا -في النهاية- لن يؤدي إلى إقامة حق ولا عدل ولا سلام. خامسا: إن الغرب يقيم تصوره للكون والإنسان والحياة على أساس السيطرة على الأرض واستغلال ثرواتها، واحتكار طاقات أبنائها، وقد تمت هذه السيطرة أولا عن طريق الاحتلال العسكري. وتتم هذه السيطرة الآن وتعمق تقنيا عن طريق وسائل السيطرة عن بعد كالراديو والتلفاز، والفيديو، والبث التليفزيوني الدولي المباشر عن طريق الأقمار الصناعية. كما تتم السيطرة الثقافية والفكرية عن طريق عرض النظريات العقائدية ذات النظم الاجتماعية الناجحة ماديا واقتصاديا، وعن طريق الاحتلال الثقافي والفكري بالواسطة، عن طريق من سبق تسميتهم في الغرب "بسلسلة القياد" وهم مجموعات الشباب والمثقفين الذين درسوا في الغرب، ثم عادوا إلى بلادهم -وهم ما يزالون يعيشون داخل المنظومة الغربية- ليحتلوا مواقع المسئولية، ويقودوا الحياة الاجتماعية بموجبات غربية! إننا في هذا الصدد لا بد من أن نفرق بين التفاعل الثقافي والغزو الثقافي. فالتفاعل الثقافي يتم بين طرفين متعادلين، يأخذ كل منهما من الآخر ويعطيه. وهذا التفاعل مرغوب. بل ومطلوب. أما الغزو الثقافي فيتم بين طرفين أحدهما قوى غالب، والآخر ضعيف مغلوب على أمره. وهذا المغلوب -عادة- ما يتحول إلى مبهور، ثم إلى مقهور بقوة قاهره.. فيؤخذ منه كل شيء.. ما يريد، وما لا يريد. إنه لا عاصم لنا اليوم من هذه الهجمة العاتية إلا العودة إلى الإسلام عقيدة وشريعة وتنظيما حياتيا كاملا. وإذا كان الآخرون متقدمين ماديا واقتصاديا، فهم مفلسون إلى حد كبير في عالم "القيم"، القيم التي يمكن أن تنشأ في ظلها حياة إنسانية كريمة، وتوظف في ظلها نتائج العلم في عمارة الأرض وترقية الحياة الإنسانية، وليس في السيطرة والاحتكار! إننا في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط، نستطيع أن نتعامل مع الآخرين ليس من موقف الضعيف المغلوب، بل من موقف القوى العادل. إن الآخرين قد يعطوننا المنتجات الصناعية ولكنهم لن يعطونا المصانع، وقد يعطوننا الأجهزة التكنولوجية، ولكنهم لا يعطوننا أسباب التكنولوجيا؛ لأن هذه ببساطة إحدى أهم وسائلهم في السيطرة. إنني أومن إيمانا راسخا أننا لا نحتاج إلى التكنولوجيا أولا، بل نحتاج أولا إلى أن نحول الإسلام إلى عقيدة راسخة، وحركة إيجابية فاعلة في كل جوانب حياتنا، ساعتها، وساعتها فقط، سوف نملك أسباب التقانة في زمن قصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 جدا. وأمامنا الآن نماذج لبلدان كانت خرابا يبابا من عشرين سنة فقط، وقد تحولت في هذه الفترة القصيرة إلى عملاق اقتصادي وثقافي يهدد كل السابقين عليه! سادسا: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها"؛ فقد يكون من الحكمة أن نرسل أبناءنا الآن إلى الغرب -بعد أن نسلحهم بفهم منهج الله للكون والإنسان والحياة- لدراسة العلوم البحتة والتطبيقية. كالرياضيات والعلوم، وكل علوم الصناعة والزراعة والإدارة، وعلوم الحرب وفنون القتال، وكل العلوم الأخرى التي ليس لها صبغة فلسفية، ولا علاقة لها بتفسير السلوك الإنساني. لكن الأمر المجافي للحكمة تماما، ولا يتسامح فيه الإسلام هو أن يتلقى المسلم أصول عقيدته، أو مقومات تصوره، أو تفسير قرآنه وحديثه وسيرة نبيه، أو منهج تاريخه وتربيته، أو تفسير نشاطه، أو مذهب مجتمعه، أو نظام حكمه، أو منهج سياسته، أو موحيات فنه وأدبه وتعبيره من مصادر غير إسلامية، أو يتلقى في كل هذا من غير مسلم يوثق في دينه وتقواه. يقول الله -سبحانه- عن الهدف النهائي لليهود والنصارى في شأن المسلمين بصفة عامة: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] . مما سبق يمكن تلخيص موقف الأمة في مستقبل علاقاتها مع الآخرين فيما يلي: 1- الأمة الإسلامية -بحكم رسالتها، وبحكم وسطيتها وشهادتها على الناس لا بد من أن تتصل بالغرب وتتعامل معه. وهي إذ تقوم بذلك إما أن تكون بكامل إرادتها وسيادتها، فيكون لها التمكين والنصر والريادة، وإما أن يتم ذلك وهي مفككة، مسلوبة الإرادة فيكون مصيرها الانهيار والذوبان في الآخرين أو فقدان الشخصية الفاعلة على الأقل! 2- ولكي تتعامل الأمة مع الغرب بكامل إرادتها، لا بد من أن تتوحد إرادة أبنائها من خلال تجسيد المنهج الإسلامي في مجتمعاتها، باعتبار المنهج الإنساني العالمي الأخير لتحرير الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. إن هذا هو طريق العزة الوحيد لهذه الأمة، وقد صور ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: "لقد أعزكم الله بالإسلام، فإن ابتغيتم العزة في غيره أذلكم الله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 3- لا بد أن يكون للأمة الإسلامية بأقطارها المتنوعة استراتيجية ثابتة في التعامل مع بعضها البعض، وفي التعامل مع الآخرين، بحيث يكون التعامل فيما بينها قائما على أساس الإيمان بالله، والاعتصام بحبل الله المتين، ويكون تعاملها مع الآخرين على أساس الأخوة في الإنسانية، والتعاون، والتكامل، والتآزر في إقامة العدل، ونبذ الاستغلال والاحتكار والربا والظلم في كل مكان. على أن يكون واضحا للجميع أن سلوك الأمة هذا نابع من تصورها العقدي، وتصورها الاجتماعي المشتق منه. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 22- ترسيخ مفاهيم العدل والسلام في عقول الطلاب : إنه لا بد من ترسيخ مفاهيم العدل والسلام في عقول الطلاب وضمائرهم وسلوكياتهم. إن إنسان هذا العصر يعاني من الفقر الشديد في السلام مع نفسه، ومن فقر مماثل في السلام مع الكون من حوله. ومن أوضح مظاهر الفقر في السلام مع النفس، انتشار الأمراض النفسية والعقلية والعصبية نتيجة عدم الإيمان بالله، وعدم وضوح المنهج والهدف، وكثرة الإضلال والتضليل. وما ترتب على ذلك من شيوع الإدمان، والانتحار والاغتصاب -رغم الإباحية الجنسية- والإيدز والمخدرات والتلوث ... إلخ. ومن أوضح مظاهر الفقر في السلام مع الكون، الاختلال الواضح الآن في توازن البيئة، بسبب الكم الهائل من مخلفات المصانع والمواد الكيماوية المنطلقة في الجو، وما أدى إليه من تآكل طبقة "الأوزون" في الغلاف الجوي المحيط بالأرض مما يعتبر خطرا داهما يهدد البشرية كلها بآثار لا يفوقها في المخاطر والأهوال سوى النتائج المترتبة على قيام حرب نووية تبيد سكان هذا الكوكب، وتقضي على حضارة الإنسان. ويمكن الإضافة إلى هذا تلاحق الحوادث الخطيرة التي باتت تهدد الإنسان مثل كوارث المفاعلات النووية، ودفن النفايات الكيماوية السامة في قيعان البحار أو في بلاد العالم الفقيرة! والحقيقة أنه إذا كان كل نذر الفوضى والخراب والدمار تندلع شرارتها من عقول البشر، فإن استحكامات العدل والأمن والسلام ودفاعاتها يمكن أن تبنى أيضا في عقول البشر وضمائرهم. ومنهج التربية في الإسلام هو المنهج الوحيد القادر على بناء قواعد العدل واستحكامات السلام في عقول البشر وضمائرهم. فالذي لا شك فيه أنه إذا اكتملت تربية الإنسان واكتمل تأهيله وفق منهج الله، فإن الاستقامة على العدل والسلام تصبح طابعه الحضاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 إن إرساء قواعد العدل والسلام في العالم وإيقاف الحروب والصراعات والمؤامرات حفاظا على الأجيال الحالية من البشر، والحفاظ على البيئة ووقف استنزافها، وتجريم تخريبها حماية لمستقبل الإنسانية -كل هذا لا يمكن أن يتم دون تصحيح تصور الإنسان للكون والإنسان والحياة، وفهم مركز الإنسان في الكون ووظيفته في الحياة. إن بناء قيم العدل والسلام في عقول البشر وضمائرهم لا يمكن أن يتم من خلال مناهج للتربية تقوم على أساس عدم الإيمان بالله، وإنكار حقيقة الألوهية، واعتبار الطبيعة خالقة، وأنها الجوهر الأول، وأصل كل شيء، ومصدر كل شيء كما يعتقد أنصار المدرسة المادية التي تنكر الغيب ولا تعترف بغير القوى المادية المحسوسة. كما لا يمكن أن يتم هذا من خلال مناهج تقوم على أساس فصل الدين عن الحياة، واعتبار أن للبشر ملكوت الأرض، ولله ملكوت السماء! إنه لا ضمان لعدل ولا أمل في الإسلام عندما يعزل الدين عن الحياة، أو تغتصب الحاكمية والسيادة من شريعة الله لحساب النظام العالمي الجديد، أو لحساب الرغبة في الهيمنة والاحتكار والقهر كما تفعل ذئاب الكون المعاصرة. إن شريعة الله التي سنها لتنظيم حياة البشر، هي شريعة كونية متصلة بناموس الكون العام، ومتناسقة معه؛ ومن ثم فإن الالتزام بها ناشئ عن ضرورة تحقيق التناسق بين حياة الإنسان، وحركة الكون الذي يعيش فيه، وبذلك فإن العمل بهذه الشريعة واجب حتمي لتحقيق هذا التناسق. إن هذا التناسق يحقق للإنسان السلام مع نفسه، كما يحقق له السلام مع الكون المحيط به. أما السلام مع النفس فينشأ من توافق حركته مع دوافع فطرته الصحيحة، وبذلك تنتظم حركة الإنسان الظاهرة مع فطرته المضمرة. وأما السلام مع الكون فينشأ من تطابق حركة الإنسان مع حركة الكون المحيط به في الاتجاه والغاية. بذلك يتحقق الخير للبشرية عن طريق هدايتها وتعرفها في يسر إلى أسرار هذا الكون، والطاقات المكنونة فيه والكنوز المذخورة في أطوائه، واستخدام هذا كله وفق شريعة الله لتحقيق الخير البشري العام، بلا تعارض ولا اصطدام. ولهذا فإنه عندما يحيد الإنسان عن هذه الشريعة فإنه يحدث نوعا من الشقاق الذي يؤدي حتما إلى كوارث نفسية وكونية، فالحياد عن شريعة الله يحدث الشقاق بين الإنسان وفطرته السليمة التي فطره الله عليها، فيصاب بأبشع الأمراض النفسية والجسمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 والحياد عن شريعة الله يحدث الشقاق بين الإنسان من جانب، وبين الكون من حوله الخاضع لله بفطرته من جانب آخر؛ فتحدث الكوارث الطبيعية التي تدمر الإنسان في كل مكان؛ حيث تنقلب طاقات الكون وذخائره وقواه من وسائل لتعمير الحياة وترقيتها إلى عوامل تدمير وخراب وشقاء للإنسان والبيئة والكون جميعا. وعلى هذا فإننا إذا أردنا بناء العدل والسلام في عقول البشر وضمائرهم، فعلينا ألا نسمح بالحياد عن رابطة العقيدة في مناهج التربية لحساب الروابط والولاءات الجغرافية والتاريخية، والسياسية والاجتماعية والشعوبية.. وما إلى ذلك من الروابط المتصلة بنواحي العنصرية البغيضة والعصبية المنتنة. إنه لا يمكن بناء معايير العدل والسلام في عقول البشر عندما تختفي من مناهج التربية قيمة إعداد "الإنسان" ليكون خليفة لله في عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها لحساب إعداد "المواطن" المقطوع الصلة بالله، الذي لا يتسع ولاؤه لأكثر من جماعة من الناس على رقعة ضيقة من الأرض في زمان ومكان معينين! إن هذا المواطن المقطوع الصلة بالله، مهما أتقن العمل وأقام المصانع والمزارع، ومهما اخترع وابتكر، فسوف تتحول نتائج أعماله وابتكاراته إلى عوامل تخريب وتدمير وشقاء؛ لأنه ابتغى العلم والعمل لغير وجه الله، والعلم يأبى أن يكون إلا الله. إنه لا يمكن بناء العدل والسلام في عقول البشر وضمائرهم، عندما تختفي من مناهج التربية في العالم قيمة بناء الأسرة المتخصصة في العمل بين الزوجين. الأسرة التي تعتبر أن مهمتها الأساسية تربية الناشئة على أساس قويم من الإيمان بالله، والأخوة في الله، والأخوة في الإنسانية. إنه عمدما تختفي هذه القيمة لحساب العلاقات الجنسية "الحرة"! واختلاط الأنساب، وفقدان الولاء للأسرة، وإفراغ طاقة المرأة في الأعمال التي لا تناسب فطرتها.. إنه عندئذ لا ضمان لعدل، ولا أمل في سلام. وباختصار إن العالم كله -ونحن في مقدمته- في حاجة إلى منهج الإسلام للتربية. فهذا المنهج هو المنهج الوحيد القادر على تربية الأجيال على أساس الإيمان بالله والأخوة في الله، والأخوة في الإنسانية، إنه المنهج الوحيد الذي يستطيع بناء عقول البشر وضمائرهم من خلال مفاهيم وقيم وسلوكيات إنسانية عادلة. وما ذلك إلا لأنه المنهج الوحيد الباقي، الذي يبدأ بسلام الإنسان مع الله، وسلامه مع نفسه، ومع المحيطين به.. وصولا للسلام مع البيئة والطبيعة والعالم كله من حوله، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 23- الاهتمام بالسيطرة على مهارات اللغة العربية : يجب أن تهتم المناهج بتعليم اللغة العربية وإعطائها الأولوية في التعليم قبل أية لغة أخرى، فاللغة العربية هي لغة مقدسة فوق أنها لغة قومية. إننا عندما كنا ندرس في بلاد الإنجليز كنا نغبطهم بسبب غيرتهم على لغتهم. فكثيرا ما كانوا يصححون لنا لغتنا -بطريقة ذكية- ونحن نتحدث معهم. وفي العام الماضي حقق وزير التربية البريطاني انتصارا سياسيا بعد أن استجاب المسئولون عن التربية والتعليم في المدارس الابتدائية البريطانية لقراره الذي يدعو إلى ترك العاميات إلى اللغة السليمة، بحيث يصبح جميع تلاميذ المدارس الابتدائية قادرين على القراءة والكتابة باللغة الإنجليزية الفصيحة. وعلى العكس من ذلك نتصرف نحن مع لغتنا في بلادنا. فلا أعتقد أن أمة سوانا تمارس عدوانا على لغتها مثلما نفعل. وقد يكون مفهوما أن تجد العربية خارج حدودها أعداء يكيدون لها، لكن المؤلم حقا أن يكون بعض هؤلاء الأعداء من بنيها، عن قصد أو عن غير قصد، لذلك فالعربية اليوم تجاهد في جبهتين أقربهما أمرهما وأقساهما؛ لأنها تقاتل حينئذ قطعا من نفسها، وظلم ذوي القربى أشد مرارة على النفس. ولو كتب لها النصر في هذه المعركة فإن ما عداها يهون. لقد أصبنا "بالإيدز اللغوي"؛ أي: فقدان المناعة اللغوية، لدرجة أن العدوان على لغتنا لا يستوقف معظمنا! فهناك من صك الغرب عقولهم، وطبع على قلوبهم، ثم ابتعد وتركهم يؤدون دوره، وهم أناس من جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، لكنهم يحترمون كل تراث إلا التراث الإسلامي، ويؤثرون كل لغة إلا العربية، ويلوون ألسنتهم برطانات الغرب، ويفاخرون بها. هؤلاء هم من يؤدي الغرب عن طريقهم الدور المطلوب، البطيء الخطوات، الأكيد المفعول! وهؤلاء عادة ما يصيحون -كما يقول الشيخ محمد الغزالي- ما للغة العربية وعلوم الطب والهندسة والصيدلة؟ إن تعريب هذه العلوم مستحيل! وهم -عادة- لا يعيرونك آذانا صاغية عندما تقول لهم: إن اللغة العربية يجب أن تعود لغة العلم والتأليف العلمي كما كانت من قبل. إن اليهود قد نقلوا العلوم الحديثة إلى العبرية، وهي لغة ميتة؛ استخرجت من المقابر، وحررت من الأكفان، فهل تعجز العربية -وهي لغة حية راقية- لغة الوحي الإلهي -عما حققته العبرية؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 إننا نريد تعريب المعرفة لا دعم التغريب وتكريسه. وإذا فشلنا في تعريب العلوم وإنشاء مصطلحات جديدة تناسب الارتقاء العلمي في كل المجالات، فإن هذا يعني أمرا واحدا هو أننا متسولون في ميادين الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء.. إلخ. وسنبقى متسولين أبدا. إننا نملك ناصية المعرفة عندما ننقلها إلى لساننا، أما عندما ننتقل نحن إلى ألسنة الآخرين، فسنكون عالة عليهم، وسنبقى أتباعا ضائعي الهوية، لا قيمة لنا في الأرض، ولا وزن لنا في السماء! إن وضع اللغة العربية في أقطار العالم العربي مؤسف إلى حد الإبكاء. أقطار كاملة من أملاك العربية لا تكاد تسمع فيها العربية على الإطلاق، فقد أسلمت قيادها للهجة أو عدة لهجات محلية طاغية على كل ما فيها ومن فيها، في البيت والشارع ووسائل الإعلام والإعلان.. إلخ. وليت الأمر يتوقف عنه هذا الحد، بل إنك لتجد المعلمين في المدارس، والأساتذة في الجامعات يدرسون ويحاضرون باللهجات العامية. فإذا سألت أحدهم: لماذا لا تدرس باللغة العربية؟ فإذا كان عربي التخصص فقد يعتذر بأنها "العادة" التي طغت على تدريسه، وقد يعد بأنه سوف يحاول. وإذا كان معلما لمادة غير العربية وآدابها، فربما جاء اعتذاره أقبح من الذنب قائلا: وما أهمية ذلك؟ أنا لست "بتاع" عربي! وهنا يحس المرء حقيقة أن اللغة العربية ليست بحاجة إلى الاهتمام بتعليمها وممارستها فقط، بل هي بحاجة إلى الحب أولا وقبل كل شيء. فهل نستطيع أن نعلم أبناءنا وشبابنا حب لغتهم والاعتزاز بها؟! وهناك أقطار كاملة أخرى من أملاك العربية تحتلها رطانات أسيوسية وأوربية تصر على أن تملأ آذان الحياة بضوضائها ولغوها. وقد تسللت هذه الرطانات والضوضاء إلى داخل البيوت، والمخادع، وتولت تربية الأطفال، وفرضت أصواتها ونبراتها ولكنتها على الأسرة العربية، وروجت أذواقها وأفكارها، كما روجت بضائعها ومنتجاتها.. حتى ليتذكر المرء وهو ضائع بين هذه الرطانات والعناصر الثقافية الغربية قول المتنبي في شعب بوان: ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان إننا نتطلع إلى اليوم الذي يتحول فيه كل العرب إلى عشاق مغرمين بلسانهم، ذائبين في حرفه، يحسنون درسه، ويجيدون نطقه، ويلزمون غرزه، فلا ينطقون على أرض العرب إلا بالعربية، وعلى من أراد أن يعيش بين ظهرانيهم من الأجانب أن يتعلم لسانهم، ويعاملهم بكلامهم. عندئذ سوف تكون لنا مكانة في الأرض وذكر في السماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 24- إدراك أهمية التفكير العلمي وفهم مناهجه، والتدريب على أساليبه : لا بد أن يدرك الطلاب أن المنهج الترجيبي قد نشأ على يد علماء المسلمين لخدمة أغراض البحث العلمي في العلوم الطبيعية والحيوية. وكانت مهمة البحث عن طريق هذا المنهج هي اكتشاف قوانين الله في الكون، ثم استخدام هذه القوانين في إعمار الأرض وترقية الحياة على ظهرها. وقد انتقل هذا المنهج إلى أوربا، ثم انتشر هناك إبان عصر النهضة على يد مجموعة من العلماء وعلى رأسهم "روجرز بيكون". وقد غطى هذا المنهج على المنهج الذي كان سائدا هناك حتى ذلك الوقت، وهو المنهج القياسي لأرسطو. لكن الفصام النكد بين الكنيسة والحياة -والذي حدث في بداية عصر النهضة في أوربا كرد فعل للهيمنة والمظالم التي فرضتها الكنيسة هناك بغيا وعدوا باسم الله- جعل الباحثين يفصلون بين هذا المنهج وأصله الاعتقادي، ويتحررون من المقولة الدينية وهي: أن غاية البحث فهم قوانين الله في الكون والإنسان والحياة، ويستبدلون بها مقولة أخرى مؤداها أن المعارف تأتي وتنمو عن طريق الملاحظة والتجربة وحدهما. وأن الطريق الصحيح لتكوين المعارف هو طريق التحليل، أي: الملاحظة والتجربة، لا التركيب؛ أي: الاستقراء والبرهنة. ويستوي في ذلك العلوم الطبيعية والحيوية، والعلوم المتصلة بتفسير السلوك الإنساني مثل علوم النفس والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية، واللغات والفنون والآداب ... إلخ. وأخذ أنصار هذه المدرسة المحدثون يدعون إلى فهم حركة الكون على أساس أن في طبيعة الظواهر الطبيعية قوانين حتمية لا تتخلف وأن هناك "جبرية" طبيعية في خلق الكون وتسيير حركته. فالطبيعة هنا خالقة وليست مخلوقة لله! وغاية البحث في العلوم الطبيعية والحيوية هي كشف القوانين والنظريات التي تحكم الظواهر الحيوية والطبيعية بغية تفسير الأحداث، والتنبؤ بها والتحكم فيها. لذلك فإن "المنهج التجريبي" لدى أصحاب النزعة الوضعية في أوربا هو المنهج الوحيد القادر على إثمار المعارف اليقينية، والصالح للبحث العلمي، والمستحق لاحترام العلماء والمفكرين. فأصحاب هذه النزعة قد اختزلوا الكون إلى الكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 المشهود، وأنكروا الكون المغيب، واختزلوا عالم الإنسان إلى "عالم الشهادة" وأنكروا الحياة الآخرة؛ واختزلوا مصادر المعرفة الصحيحة إلى الظواهر المادية فقط دون غيرها، ومن ثم اختزلوا أدوات المعرفة وقصروها على الحواس فقط. لكن المنهج الإسلامي لا يقف بمصادر المعرفة عند المنهج التجريبي وحده.. إنه لا يهمله ولا يغض من شأنه، ولا من شأن ثمراته المعرفية -فهو أحد إبداعات الحضارة الإسلامية، فيها تبلور وأعطى ثمراته، قبل أن ينتقل ويتطور لدى الغرب- ولكنه لا يقول بتفرده كسبيل للمعرفة، ولا يرى أنه سبيل للمعرفة القطعية المطلقة، فهناك المعرفة اليقينية المتمثلة في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، وهناك المنهج الاستقرائي الذي يستنبط به الإنسان من الجزئيات المادية معارف تقطع بضرورة وجود غير مادي1. وهناك المنهج العلمي للنظر العقلي، ويسميه الغزالي بمنهج "التفكير"، ويحدث إذا غلب نور العقل على أوصاف الحس، وهنا يستغني العالم بقليل من التفكير على كثير من إدراكات الحواس. ويتطلب المنهج العلمي للنظر العقلي من الباحث المسلم أو المفكر المسلم أن يعمل على تمحيص الحقيقة، وعدم التأثير بمقررات سابقة، ولا مقررات ذاتية لا برهان عليها، ولا بمجرد الظن: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] . {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] ، "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" [رواه البخاري] . وهو منهج يحث العقل على طلب الدليل في كل اعتقاد: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف: 15] .. وقال -صلى الله عليه وسلم: "قيدوا العلم بالعقل، وقيدوا العقل بالكتاب". كما يوجه العقل إلى عدم التسرع في إصدار الأحكام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] . وإلى عدم نشر ما يسمع قبل دراسة المختصين له، وإصدار الحكم عليه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .   1 سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، مرجع سابق، ص180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وهناك "الإلهام" والإلهام هو تنبيه الله للنفس الإنسانية وإلهامها بالأفكار والعلاقات على قدر صفاتها وقبولها وقوة استعدادها، ومقدار سعيها، وتعلم الإنسان عن طريق إلهام الله له يمكن إدراكه في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] فالآية دعوة صريحة إلى المؤمنين بتقوى الله، فهو الذي يعلمهم ويرشدهم، وأن تقوى الله تفتح قلوبهم للمعرفة، وتهيئ عقولهم للتعلم. ويؤكد هذا أيضا قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] . فالإلهام -إذن- وسيلة من استعداداتها وطاقاتها المدركة إلى طريق الخير أو إلى طريق الشر. إهمال دراسة المنهج العلمي للبحث في التصور الإسلامي: لكن الباحثين والمفكرين المسلمين قد أهملوا في القرون الأخيرة -للأسف الشديد- دراسة مناهج البحث العلمي في التصور الإسلامي، وأهملوا بالتالي تطبيقاتها في حياتهم الفكرية والاجتماعية. وساروا بدلا من ذلك وراء المدارس الوضعية الغربية التي تنكر الوحي، وتتنكر لفكرة الرسالات والنبوات، وترفض التعامل مع الغيب، ولا تؤمن إلا بعالم الشهادة، وبذلك تسقط كل المعارف التي لا تخضع للتجريب المعملي وملاحظة المحسوسات! ولقد كان من أهم آثار استخدام منهج البحث في العلوم الطبيعية والحيوية في العلوم الاجتماعية والتربوية، أن رسخ في أذهان الأجيال من العلماء والباحثين: "أن المعرفة العلمية المنضبطة في المجالات الاجتماعية والتربوية لا بد أن تكون نتاج التجريب والتحليل، وأن المعارف التي تفرزها عقول البشر وإبداعاتهم عن غير هذا الطريق ليست معارف، وأن ما تركب منها ليس علما"1. ولا شك أن هذا يمثل مفهوما متخلفا للعلم والمعرفة على سواء. والذين يشجعون استخدام منهج التجريب والتحليل في البحوث الاجتماعية والتربوية يبنون نظريتهم على افتراضات أساسية يصعب الدفاع عنها، كالحياد العلمي، وموضوعية الحقيقة، وصدق الملاحظة، إلخ. وقد سبق أن قلنا إن "الحقائق العلمية" ليست أكثر من مجرد افتراضات راجحة، ليست قطعية الدلالة ولا مطلقة الدلالة، وقد بدأ كثير من علماء الغرب يقللون من شأن التجريب ويؤكدون أنه لا توجد نظرية محايدة، وأن ملاحظة أي باحث تتأثر إلى درجة كبيرة بنظريته، وفروضه، وإطار عمله، وخلفيته المعرفية. وأن الحياد العلمي والملاحظة الموضوعية اللذين كثر الكلام عنهما أمران مشكوك فيهما. وقد أكد "جون   1 أحمد المهدي عبد الحليم: "نحو صيغة إسلامية للبحث الاجتماعي التربوي" العدد 23، السنة الثامنة، 1408هـ-1987م، ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ديوي" أن الإدراك وهو أول ثمرة الملاحظة الحسية، ولا يمكن أن يكون محايدا، وإنما هو متأثر -دائما- بالمعرفة السابقة للملاحظ وذكائه. وبدون هذا يكون الإدراك مجرد استثارة حسية يستوي فيها الإنسان والحيوان. ثم إن الصيغة التجريبية التحليلية إذا كان من الممكن الاعتماد عليها -كما يقول الدكتور أحمد المهدي عبد الحليم- في الحصول على المعارف الخاصة بالماهيات "Know What "S والكيفيات "Know how "S، فإنها تحمل تحديد المسارات والأهداف والغايات، وبذلك تهمل المعتقدات والقيم الإنسانية والقيم الخلقية النابعة منها. ولقد أدى تبني هذا المنهج في البحث التربوي إلى مساوئ كثيرة من أهمها ما يلي1: 1- تركيز البحث على اكتشاف العلاقة بين متغيرين أو ثلاثة -غالبا- في ظاهرة من الظواهر التربوية، مع أن الظواهر التربوية معقدة، ولا يمكن اختزال المتغيرات فيها إلى عاملين أو ثلاثة. 2- إن الإجراءات المفتعلة في التحديد المسبق لمتغيرات التصميم التجريبي في العلوم الاجتماعية والتربوية منها على وجه الخصوص، قد أدى إلى تسييد تقنيات البحث وأدواته، وإلى أن تتم مواءمة مشكلات الدراسة لتخدم هذه التقنيات والأدوات، وليس العكس، وهو ما يجب أن يكون. وبذلك أصبحنا نرى بحوثا تجرى لخدمة صنعة البحث وأدواته وتقنياته، أكثر مما تخدم الإنسان أو المجتمع الذي أجري البحث من أجله أصلا. وقد أدى شيوع هذا في مجال البحث التربوي إلى الفصام النكد الموجود حاليا بين البحوث التربوية والممارسات التربوية. 3- لقد أدى استخدام هذا المنهج إلى التأكيد على المغزى الإحصائي للفروق، بدلا من التركيز على المعنى الاجتماعي والتربوي، ولقد أدى هذا بدوره إلى نماء الاتجاه نحو الاستخدام الإحصائي على حساب التفكير والمناقشة والبرهنة. 4- لقد أدى هذا الاتجاه في البحث التربوي والاجتماعي عموما إلى عدم الإيمان بقيمة البحث إلا إذا كان إمبريقيا، وإلى تركيز الجهود والطاقات في البحث على دراسة الواقع بطريقة مباشرة، والتحديد الإجرائي للمصطلحات، ودراسة العلاقة بين متغيرين أحدهما مستقل والآخر تابع، وتصميم الاستبانات على هيئة تحقيقات جنائية في معظمها!   1 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ولقد أدى كل هذا إلى إهمال التنظير، فلا البحوث تبدأ من نظرية معينة، ولا هي تنتهي إلى بلورة نظرية خاصة بنا.. وبمرور الوقت نمت الاتجاهات المعادية للتنظير، على أساس أنه "كلام إنشائي" أو "عبارات خطابية"! "واعتبرت دراسة الماجستير والدكتوراه تدريبا على استخدام أدوات البحث، كأن التنظير لا يحتاج إلى تدريب، ولهذا اختلطت الأمور، واتجهت البحوث إلى معالجة الأعراض على أنها الأمراض، واهتمت بالموضوعات المحدودة الصغيرة، لأنها أكثر مناسبة لاستخدام أدوات البحث1. والخلاصة: أن التصور الإسلامي لمناهج البحث العلمي لا يقف بمصادر المعرفة عند المنهج التجريبي وحده، إنه لا يهمله، ولا يقلل من شأنه ولا من شأن ثمراته المعرفية وإنجازاته التقانية الرائعة، فهو أحد ثمرات الحضارة الإسلامية الرائعة للإنسانية كلها. لكنه لا يقول بأنه السبيل الوحيد للمعرفة؛ فهناك المعرفة الربانية اليقينية المتمثلة في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، وهناك المنهج الاستقرائي الاستنباطي، وهناك المنهج العلمي للنظر العقلي، وهو منهج التفكير القائم على العلم والخبرة، وتمحيص الحقائق، وعدم التأثر بمقررات سابقة لا برهان عليها، وعدم الاعتماد على الظن، وطلب الدليل في كل اعتقاد.   1 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 25- إدراك الطلاب لمفهوم الفن والأدب : الفنون تجارب شعورية نقلت إلينا عبر تجارب لفظية أو عملية بطريقة موحية. والتجارب الفنية هي تعبير عن تصور الفنان لحقائق الألوهية والإنسان والحياة. فإن كانت التجارب الفنية -أدبية كانت أو غير ذلك- متسقة مع التصور الإسلامي فهذه فنون إسلامية، وإن كانت غير ذلك فهي بحسب ذلك. والأدب في ذلك كالفنون الأخرى؛ حسنه حسن، وقبيحه قبيح. إن الفن الحقيقي إحياء للوقت وليس قتلا للوقت، وهو ثقافة فنية وليس مجرد تسلية. ولقد يكون الأدب أشد المؤثرات في تكوين فكرة وجدانية عن الحياة، وفي طبع النفس البشرية بطابع خاص، ومن هنا يجب أن يكون لنا أدب نابع من التصور الإسلامي. ومن العبث محاولة تجريد الأدب أو الفنون عامة من القيم التي تحاول الذود عنها، كذلك من العبث محاولة فصل تلك القيم عن التصور الكلي للوجود والحياة. ولو أفلحنا في هذا الفصل -وهذا مستحيل- فلن نجد سوى عبارات خاوية، أو جوفاء، أو أصوات غفل، أو إشكال بلا معنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 والإسلام تصور معين للحياة، تنبثق منه قيم خاصة لها. فمن الطبيعي إذن أن يكون التعبير عن هذه القيم، أو عن وقعها في نفس الفنان، ذا لون خاص1. وأهم خاصية للإسلام أنه عقيدة ضخمة جادة فاعلة خالقة منشئة، تملأ فراغ النفس والحياة، وتستنفد الطاقة البشرية في الشعور والعمل، وفي الوجدان والحركة، فلا تبقي فيها فراغا للقلق والحيرة، ولا للتأمل الضائع الذي لا ينشئ سوى الصور والتأملات. وأبرز ما فيه هو الواقعية العملية حتى في مجال التأملات والأشواق، فكل تأمل هو إدراك أو محاولة لإدراك طبيعة العلاقات الكونية أو الإنسانية وتوكيد الصلة بين الخالق والمخلوق، أو بين مفردات هذا الوجود. وكل شوق هو دفعة لإنشاء هدف، أو لتحقيق هدف، مهما علا واستطال. وقد جاء الإسلام لتطوير الحياة وترقيتها، لا للرضى بواقعها في زمان ما أو في مكان ما، ولا لمجرد تسجيل ما فيها من دوافع وكوابح، ومن نزعات وقيود، سواء في فترة خاصة أو في المدى الطويل. مهمة الإسلام دائما أن يدفع بالحياة إلى التجديد والنمو والترقي، وأن يدفع بالطاقات البشرية إلى الإنشاء والانطلاق والارتفاع. ومن ثم فالأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي للحياة، قد لا يحفل كثيرا بتصوير لحظات الضعف البشري، ولا يتوسع في عرضها، وبطبيعة الحال لا يحاول أن يبررها، فضلا عن أن يزينها بحجة أن هذا الضعف واقع، فلا ضرورة لإنكاره أو إخفائه. إن الإسلام لا ينكر أن في البشرية ضعفا، ولكنه يدرك كذلك أن في البشرية قوة. ويدرك أن مهمته هي تغليب القوة على الضعف، ومحاولة رفع البشرية وتطويرها وترقيتها، لا تبرير ضعفها أو تزيينه. والنظرية الإسلامية لا تؤمن بسلبية الإنسان في هذه الأرض، ولا بضآلة الدور الذي يؤديه في تجديد الحياة وترقيتها. ومن ثم فالأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي لا يهتف للكائن البشري بضعفه ونقصه وهبوطه، ولا يملأ فراغ مشاعره وحياته بأطياف اللذائذ الحسية، أو بالتشهي الذي لا يخلق إلا القلق والحيرة والحسد والسلب، إنما يهتف لهذا الكائن بأشواق الاستعلاء والطلاقة، ويملأ فراغ حياته ومشاعره بالأهداف البشرية التي تجدد الحياة وترقيها، سواء في ضمير الفرد أو في واقع الجماعة.   1 سيد قطب: نحو مجتمع إسلامي، مرجع سابق، ص65، 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 كذلك ليست وظيفة هذا الأدب تزوير الشخصية الإنسانية أو الواقع الحيوي، وإبراز الحياة البشرية في صورة مثالية لا وجود لها. بل الصدق في تصوير المقدرات الكامنة أو الظاهرة في الإنسان، والصدق كذلك في تصوير أهداف الحياة اللائقة بعالم البشر، لا بقطيع من الذئاب. والأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي أدب أو فن موجه باتجاه أن الإسلام حركة تجديد وترقية مستمرة للحياة، فهو لا يرضى بالواقع في لحظة أو جيل، ولا يبرره أو يزينه لمجرد أنه واقع، فمهمته الرئيسية تطهير هذا الواقع وتحسينه، والإيحاء الدائم بالحركة الخالقة المنشئة لصور متجددة من الحياة. إنه لمن الأهمية بمكان "أن نقرر هنا أن الأدب أو الفن الإسلامي أدب أو فن موجه، موجه بطبيعة التصور الإسلامي للحياة وارتباطات الكائن البشري فيها، وموجه بطبيعة المنهج الإسلامي ذاته، وهي طبيعة حركية دافعة للإنشاء والإبداع، وللترقي والارتفاع. ولست أعني التوجيه الإجباري على نحو ما يفرضه أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ، وإنما أعني أن تكيف النفس البشرية بالتصور الإسلامي للحياة، هو وحده سيلهمها صورا من الفنون غير التي يلهمها إياها التصور المادي، أو أي تصور آخر، لأن التعبير الفني لا يخرج عن كونه تعبيرا عن النفس كتعبيرها بالسلوك في واقع الحياة. وأخيرا فالإسلام لا يحارب الفنون ذاتها، ولكنه يعارض بعض التطورات والقيم "المنحرفة" التي تعبر عنها هذه الفنون. ويقيم مكانها -في عالم النفس- تصورات وقيما أخرى، قادرة على الإيحاء بحركات جمالية إبداعية، وعلى إبداع صور فنية أكثر جمالا وطلاقة، تنبثق انبثاقا ذاتيا من طبيعة التصور الإسلامي، وتتكيف بخصائصه. ولا ينبغي أن نفهم من هذا تحريم الآداب الأوربية على الناشئة المسلمة. فالذي نعنيه هو مجرد الاختيار والانتقاء. ففي هذه الآداب ما تلتئم روحه من بعض الجوانب مع الروح الإسلامية، لا لأنه حث على الفضائل وتقبيح للرذائل، فالأدب ليس منبرا خطابيا للوعظ والإرشاد. ولكن لأنه ينظر إلى الحياة نظرة روحية أرفع من المادة، ولأنه يعترف بالقيم المعنوية للحياة. فهذا اللون من الأدب يتفق في روحه مع المنهج الإسلامي في عمومه. ويمكن دراسته مع حسن الاختيار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 26- بناء الشخصية القوية الكادحة لا الشخصية المترفة : يلفت القرآن الكريم النظر بشدة إلى كراهية الإسلام للترف، وحبه للكد والكدح، فبالمقارنة بين الكد والكدح، والإحسان في العمل، والإتقان فيه، وعمارة الأرض وترقية الحياة، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل ما يؤدي إلى بناء الحياة النظيفة من جانب، وبين الربا، وقلة الإنتاج، والترف، والكسل، والترهل، والنعومة؛ وقلة الرجولة، وسقوط الهمة، وسيطرة الشهوات، وشيوع العداوات.. إلى آخر القائمة البغيضة التي تؤدي إلى هدم الحياة النظيفة من جانب آخر ... بالمقارنة تتضح مفارقات عجيبة: لقد اتضح أن تنمية مجموعة المفاهيم الأولى في نفوس الناشئة بواسطة مناهج التربية تعتبر المهمة الرئيسية لهذه المناهج؛ لأن في ذلك تحقيقا لمقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة، وهي: الحفاظ على الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال. كما أن هذه المفاهيم تتسق مع طبيعة مركز الإنسان في الكون، ومع مقتضيات وظيفته في الحياة. لقد كرم الله الإنسان، وفضله على سائر خلقه، وآية ذلك أنه -سبحانه- جعل الإنسان خليفته في الأرض؛ ليقوم على عمارتها، وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج الله. والخلافة في الأرض تقتضي الحركة الإيجابية، التي تنشئ وتبدع في عالم المادة ما يتم به قدر الله في الأرض والحياة والناس. وعمارة الأرض وترقية الحياة فيها تتطلب العمل والكد بصورة مستمرة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] . {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق: 6] . والمطلوب في عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها ليس مجرد العمل والكد والكدح، بل الإحسان في العمل؛ أي: المهارة والإتقان فيه، والاتجاه به إلى الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] . ويقول الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه". "إن الإسلام دين للواقع. دين للحياة. دين للحركة. دين للعمل والإنتاج والنماء، دين تطابق تكاليفه للإنسان فطرة هذا الإنسان، بحيث تعمل جميع الطاقات الإنسانية عملها الذي خلقت من أجله، وفي الوقت ذاته يبلغ الإنسان أقصى كماله الإنساني المقدر له، عن طريق الحركة والعمل، وتلبية الطاقات والأشواق، لا كبتها أو كفها عن العمل، ولا إهدار قيمتها واستقذار دوافعها.."1.   1 المرجع السابق، ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 لذلك يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحدكم طعاما قط خيرا من عمل يده". "رواه البخاري". والإسلام يقدر العمل وبذل الجهد، ويجعلهما السبب الأساسي للتملك والربح، ويحرم أن يلد المال المال، وإنما يلد المال الجهد والعمل. وعلى أساس هذه القاعدة حرم الربا. لأن المرابي يمتص نتيجة عرق الآخرين وجهدهم بينما هو قاعد لم يكد ولم يكدح ولم يبذل جهدا، مما يورث العداوة والبغضاء، ويؤدي إلى هدم الحياة النظيفة. وقد روي أن سعد بن معاذ كان يواري كفية في ثوبه كلما تقابل مع رسول الله فقال -صلى الله عليه وسلم- له: "يا سعد، ألا تريد أن تسلم علي؟ " قال سعد: والله يا رسول الله، ما هناك شيء أحب إلي من ذلك، ولكني أخاف أن تؤذي يداي يديك. فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أرني يديك يا سعد"، فأخرج سعد كفين خشنين كخفي بعير من كثرة العمل.. فرفعهما الرسول إلى فمه، وقبلهما، وقال: "هذه يد يحبها الله ورسوله, ولن تمسها النار أبدا". ولأن الإسلام يقدس العمل وبذل الجهد، والكد والكدح، ويجعل ذلك أساس عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها، فهو يحاول دائما أن يربي الإنسان بحيث يكون قويا دائما، فالمؤمن الذي لم يجاهد ولم يحدث نفسه بجهاد يموت على شعبة من شعب النفاق. وهو دائما يقظ، فالمؤمن -كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ممسك بعنان فرسه، كلما سمع هيعة طار إليها". لذلك فإن من الحكمة للإنسان تعريضه للهزات النفسية التي توقظه، وتدريبه على مواجهة المحن والتمرس بأعباء المقاومة. ففي التصور الإسلامي أن الله إذا أحب عبدا لم يدلله، بل يقذف به ساحة النضال ليستكشف بنفسه مواهب نفسه.. وبذلك يعده لرسالته التي لا يطيق تحملها ذوو النفوس الخرعة، والقلوب الهلعة! والجندي الذي لا يستعمل قواه في العديد من المناورات، لن يكون جديرا باقتحام الساحات. ولكي يكون المؤمن قويا، يقظا، قادرا على العمل وبذل الجهد، فاعلا إيجابيا في إعمار الحياة، فإنه يجب أن يبتعد عن الترف والترهل. فالإسلام يكره الإسراف والترف والترهل كراهية شديدة، ويعدها مصدر شر للفرد والجماعة. فالترف منكر يجب على الجماعة نبذه وتغييره، وإلا كانت عرضة للهلاك بسببه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 إن هذا يفسر لنا حرص الإسلام على تربية المسلم كي يكون قادرا دائما على العمل والجهاد، بعيدا عن الإسراف والترف. فالمترف مترهل، ضعيف الإرادة، ناعم، قليل الرجولة، لم يعتد العمل وبذل الجهد، فسقطت همته، وسيطرت عليه شهواته الحيوانية الرخيصة، لذلك كان المترفون على مر التاريخ يقفون في سبيل الهدى لأنفسهم ولأتباعهم من المستضعفين: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34] . {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116] . ولأنهم مترفون فهم كذابون رافضون للهداية: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ، وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 41-46] . ولأنهم غارقون في ترفهم ومتعهم في الدنيا، فهم ينكرون لقاء الآخرة: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ، أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 33-37] . وما دام هناك مترفون فهناك مستضعفون يمالقونهم، ويحققون شهواتهم، ويفنون فيهم فناء الحشرات، وإذا كانت الديانات السماوية ترفع قيم الناس وفقا لعملهم وتقواهم، وتحرم المترفين من متعهم الرخيصة، فلا يكون لهم ذلك السلطان المطلق على المستضعفين، فإن هذا يفسر لنا لماذا كان الدين والهدى مرفوضين دائما من المترفين. والترف الطويل الموروث ينسي الذكر، ويؤدي إلى التفاهة والضحالة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان: 17، 18] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 والتعبير بأنهم {كَانُوا قَوْمًا بُورًا} تعبير مصور عجيب، عميق الدلالة؛ فالأرض البور هي الأرض المجدبة، التي لا تثمر ولا تنتج، وكذلك قلوب المترفين ونفوسهم وحياتهم جدبة، بائرة، صلبة، لا تنبض فيها حياة. وليس معنى ما تقدم أن نجعل المدارس أماكن كريهة للناشئة، ولا أن نجعل المناهج صعبة ممقوتة، فهذا من شأنه أن يضيع كل شيء. لكن المؤكد هو أن الأمر يحتاج إلى تفكير وتدبير، على أساس أن الهدف الأساسي لمناهج التربية في التصور الإسلامي، هو إيصال المتعلم إلى درجة كماله التي هيأه الله لها. فوصول كل إنسان إلى درجة كماله الخاصة به هو الذي يهيئه بحق الخلافة في الأرض وتنفيذ منهج الله فيها. وإعداد الإنسان للقيام بحق الخلافة في الأرض يقتضي من مناهج التربية في التصور الإسلامي أن تعمل على تحقيق أهدافها الكبرى في شخصية المسلم، وذلك كترسيخ مفهوم الإيمان بالله والأخوة في الله، وإعداد الإنسان للمساهمة في تحقيق وسطية الأمة وشهادتها على الناس، والعمل على تحقيق تميز الأمة في عقيدتها ومنهجها، وإعلاء قيم الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على تحقيق ذات المتعلم وفق فطرة الله فيه، وإقداره على ترقية الحياة من حوله، وقيادتها إلى الحق والعدل والخير. إن كل هذا لا يتحقق -بالطبع- عن طريق غرس عادات الترف، والترهل، والنعومة، وقلة الرجولة، وسيطرة الشهوات، بل يتم عن طريق إعلاء قيم الكد والكدح، والإحسان في العمل، والإتقان فيه، والاتجاه به كله إلى الله. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 27- فهم النظرية التاريخية : تقوم النظرية التاريخية الإسلامية على أساس "أن الواقع التاريخي الإسلامي" هو الذي ينشأ وفق أصول الإسلام وتصوراته وشرعته وموازينه. هذا وحده هو الواقع التاريخي "الإسلامي". أما ما يقع في المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام، خارجا عن أصوله وموازينه، فلا يجوز أن يحسب منه؛ لأنه انحراف عنه. إن للإسلام وجوده المستقل خارج واقع المسلمين في كل جيل. فالمسلمون لم ينشئوا الإسلام، وإنما الإسلام هو الذي أنشأ المسلمين. الإسلام هو الأصل. والمسلمون فروع منه، ونتاج من نتاجه. ومن ثم فإن ما يصنعه الناس أو ما يفهمونه ليس هو الذي يحدد أصل النظام الإسلامي أو مفهوم الإسلام الأساسي، إلا أن يكون مطابقا للأصل الإسلامي الثابت المستقل عن واقع الناس ومفهومهم، والذي يقاس إليه واقع الناس في كل جيل ومفومهم، ليعلم كم هو مطابق أو منحرف عن الإسلام. إن الأمر ليس كذلك في النظم الأرضية التي تنشأ من تصورات البشر، ومن المذاهب التي يضعونها لأنفسهم.. ذلك أن المفهومات المتغيرة للناس حينئذ، والأوضاع المتطورة في أنظمتهم، هي التي تحدد مفهوم المذاهب التي وضعوها لأنفسهم، وطبقوها على أنفسهم. فأما في النظام الإسلامي الذي لم يصنعه الناس لأنفسهم، وإنما صنعه للناس رب الناس وخالقهم ورازقهم ومالكهم. فأما في هذا النظام فالناس إما أن يتبعوه ويقيموا أوضاعهم وفقه. فواقعهم إذن هو الواقع التاريخي "الإسلامي" وإما أن ينحرفوا عنه أو يجانبوه كلية، فليس هذا واقعا تاريخيا للإسلام، وإنما هو انحراف عن الإسلام. فعلى هذا الاعتبار تقوم النظرية التاريخية الإسلامية، وهي تختلف تماما عن سائر النظريات التاريخية الأخرى، التي تعتبر واقع الجماعة الفعلي، هو التفسير العملي للنظرية أو المذاهب، وتبحث عن "تطور" النظرية أو المذاهب في هذا الواقع الفعلي للجماعة التي تعتنقه، وفي المفهومات المتغيرة لهذه النظرية في فكر الجماعة. على أساس هذه النظرية يجب أن تعاد كتابة التاريخ الإسلامي، وأن يعاد النظر إلى الحياة الإسلامية بكل عناصرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية، بحيث تعطي كل أسرارها وإشعاعاتها، وتنكشف بكل خصائصها ومقوماتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 28- فهم الطلاب لطبيعة المجتمع : لقد فطر الله الإنسان على الاجتماع، فليس بوسع إنسان أن يعيش وحده أو ينفرد بنفسه انفرادا تاما، وليس هناك حادثة نفسية واحدة يمكن أن تتم دون أن يكون لها صلة بأفراد المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، فكل حادثة نفسية لا بد لها من مجال اجتماعي تتم فيه، والعكس صحيح أيضا، فكل حادثة اجتماعية لا بد لها من أصل نفسي1. إن الصلة قوية بين علم النفس وعلم الاجتماع. فعلم النفس يدرس خصائص الأفراد من حيث إنهم أفراد لهم سلوك، وهذه الخصائص وذاك السلوك كل منهما لا يمكن أن يتم إلا في محيط اجتماعي، أما علم الاجتماع فيدرس الصلات بين الأفراد من وجهة النظر الاجتماعية، مع أخذ أسسها النفسية، ومعاييرها العقائدية في الاعتبار. مما سبق يمكن القول أن المجتمع يقوم على أربعة عناصر: العنصر الأول: هو الأفراد الذين يكونون الجماعة. والعنصر الثاني: هو ما ينشأ بالضرورة عن وجود الجماعة من الصلات بين أفرادها، فالمجتمع نسيج مكون من صلات اجتماعية. والعنصر الثالث: هو النظام، فالصلات الاجتماعية تنظم وتنسق وفق نظام غايته أن يضبط سلوك الجماعة ويوجهه، وتتخذ الجماعة وسائل شتى لاحترام نظامها وتطبيقه، ومهمة هذا النظام أن يطلق نشاط الأفراد في مجالات ويحبسه في مجالات أخرى، وأن يضع لهم معايير للسلوك تقوم الأمور وفقا لها، فيحرم بعض الأمور ويحل بعضها الآخر. والعنصر الرابع: هو العقيدة، وهو أعظم العناصر السابقة على الإطلاق وأكبرها خطرا، ذلك أنها تتحكم فيها كلها، وتوجهها جميعا الوجهة التي ترضاها، فهي التي تحدد الصلات الاجتماعية، وهي التي توجد الشعور بالانتماء، وهي التي ترسم نهج السلوك، وهي التي تضع قواعد المجتمع وتقيم نظمه وتهدي إلى مثله. والعقيدة تتمثل في التصور الإسلامي كما هو الحال في الإسلام، كما تتمثل في الفلسفات الوضعية والنظريات السياسية والاقتصادية التي توجه السلوك والعمل في كثير من المجتمعات الأخرى. وقد نفى الإسلام كل نعرة عنصرية أو جنسية، أو قومية، أو إقليمية، وما يترتب على ذلك من اختلاف اللغات والألوان، وجعل الأفضلية في ميزان الله الثابت هي تقوى الله، والعمل الصالح لخير عباده: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، "ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى". ومنهج التربية الإسلامية معني بإفهام الأجيال بحقيقة الفلسفات والنظريات الوضعية المعاصرة كالبراجماتية والماركسية والوجودية والواقعية.. إلى آخره، وذلك لبيان حقيقة وزيف هذه الفلسفات وما ترتب عليها من تيارات عالمية فكرية واجتماعية، ولبيان الأوضاع الاجتماعية المتردية نتيجة الأخذ بهذه الفلسفات، فعرض هذه الفلسفات وما ترتب عليها صورة موضوعية وواقعية وفقا للمعايير الإسلامية هو الضمان الوحيد لفهم حقيقة هذه الفلسفات، وعدم الانبهار ببريقها الزائف.   1 محمد أمين المصري: المجتمع الإسلامي، الكويت، دار الأرقم، 1400هـ، 1980م، ص8، 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 29- فهم أساسيات النظام السياسي : إذا كانت وظيفة العلم هي عمارة المجتمع الإنساني وترقيته، فإن العلم إذا لم يكن مستندا إلى عدل الله ينقلب إلى وسيلة للخراب والدمار للمجتمع البشري كله! فالعدل -إذن- هو القيمة التي توجه غايات العلم، نحو خير الإنسان والبشرية جميعا. والعدل كما وضحه بعض الفقهاء والمفسرين هو تنفيذ حكم الله، أي: أن يحكم الناس وفقا لما جاءت به الشرائع السماوية، ولما كانت الشريعة الإسلامية هي كمال هذه الشرائع، فإن العمل بها إذن هو تحقيق للعدل الذي أمر الله به، ويندرج تحت هذا المعنى العام للعدل معانيه الخاصة، فهناك العدل في الحكم، والعدل في النظام الاجتماعي للدولة، والعدل في القضاء، والعدل الاقتصادي، والعدل بين الرجل والمرأة، والعدل في الحقوق والواجبات والمعاملة.. إلخ. أسس النظام: يقوم نظام الحكم في التصور الإسلامي على أربعة أسس: - اختيار المحكومين للحكام. - العدل من الحكام. - الطاعة من المحكومين. - الشورى بين الحكام والمحكومين1. 1- يقوم النظام السياسي الإسلامي على أساس اختيار المحكومين للحكام، فقد تم اختيار أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، وقال بعد اختيار الناس له: لقد وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، وهكذا تم اختيار عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم. 2- العدل من الحكام فرض لا يقوم الحكم الإسلامي إلا به، ولذلك ورد الأمر بالعدل في القرآن صريحا، فحثت عليه آيات كثيرة، وجعله الله غاية الحكم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] وقد ورد في تفسير الرازي لهذه الآية قوله: "أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل" واستشهد بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] ، وقوله:   1 سيد قطب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، مرجع سابق، ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} . وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] ، وقوله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] . وهذه الآية الأخيرة تدل على أن العدل واجب حتى على الأنبياء، والعدل واجب حتى للأعداء، وهذه من أعظم فضائل الإسلام، وقد ورد النص على ذلك صريحا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] . 3- والطاعة من المحكومين للحكام واجبة إذا سار الحكام وفق منهج الله وشريعته، وحكموا بالعدل المفروض عليهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . فإذا لم يعترف الحكام بأن الحاكمية لله، ولم ينفذوا شريعة الله, سقطت طاعتهم، ولم يجب لأمرهم النفاذ. 4- والشورى بين الحكام والمحكومين هي الأساس الرابع لنظام الإسلام في الحكم قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 195] . {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] . فلأن الإسلام دين ودولة، ونظام كامل للحياة، فقد كفل لأتباعه حريتهم السياسية، وهي أن يكون لكل إنسان قادر الحق في الاشتراك في توجيه سياسة أمته، ومراقبة السلطة فيها. وقد كفل الإسلام للإنسان هذا الحق حين جعل نظام الحكم قائما على الشورى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 30- فهم أساسيات النظام الاقتصادي : وتقوم السياسة الاقتصادية في الإسلام على ثلاثة أسس: أولا: إن المال مال الله، والناس مستخلفون فيه: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] ، ويقول الله في شأن المكاتبين من الأرقاء: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] . ثانيا: كراهية أن يحبس المال في أيدي فئة قليلة من الناس يتداول بينهم بينما يمنع عن الآخري: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] ، حتى إن الإسلام قد أجاز للحاكم بشريعة الله أن يأخذ بعض المال من الأغنياء ويملكه للفقراء، وذلك عندما يرى أن المجتمع قد اختل توازنه بظهور آفة الغنى إلى حد الترف الشديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 في جانب، والفقر المدقع في جانب آخر، وهذا ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام حين أعطى فيء بني النضير كله للمهاجرين. ومن أجل منع المال من أن يحبس في أيدي فئة قليلة، لجأ الإسلام إلى وسائل أهمها الزكاة، والإرث، والصدقات، والمال العام أو الملكية العامة، وتربية الضمير الإنساني. ثالثا: الملكية الفردية، فالمال مال الله، والناس مستخلفون في ملكية التصرف فيه والانتفاع به، لكنه التصرف والانتفاع الذي لا يصل إلى السفه، والناس يملكون المال بالعمل والكسب: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32] ، وبالإرث: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] . العدالة بين الفرد والمجتمع: كما أن الفرد كل له أجزاء فهو أيضا جزء من كل هو المجتمع، وقد جسم الرسول عليه الصلاة والسلام العلاقة بين الفرد والجماعة في حديثه الشريف. "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" "أخرجه الشيخان". فالعدالة تقتضي أن يسهم الفرد في حركة عمارة المجتمع وترقيته، لأنه لن يصلح أمر الفرد إذا ساءت أحوال المجتمع، وحركة العمارة في حياة المجتمع ليست واحدة، فالمجتمع لا يريد أفراده أطباء أو مهندسين أو قضاة أو مدرسين أو عمالا أو مزارعين، بل يريد كل هؤلاء، ومن رحمة الله بالناس أن جعل لهم مواهب وميولا ومهارات واهتمامات مختلفة ومتعددة، لأن حركة المجتمع تحتاج إلى هذا التنوع والاختلاف في الاهتمامات والمهارات والقدرات حتى تتكامل الحركة فيه، فحركة الأجزاء في المجتمع الواحد، كحركة الأعضاء في الجسد الواحد، فلكل فرد مهمة، كما أن لكل عضو مهمة، وبتكامل عمل الأعضاء يصح الإنسان ويقوى، وكذلك الحال في المجتمع. أما فيما يتصل بحركة كل فرد ونوعيتها، وعلاقتها بغيرها داخل المجتمع، فيصورها القرآن تصويرا دقيقا في قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وهنا لا يجب أن نفهم أن أساس الرفعة هو المال فقط، فالصحيح أن كل فرد في المجتمع مرفوع مرة، ومرفوع عليه مرة أخرى، فالفرد في المجتمع مرفوع فيما يجيد وفيما يحسن، ومرفوع عليه غيره فيما لا يجيده ولا يحسنه, إذن فكل فرد فاضل في جهة ومفضول عليه في جهة أخرى، والمفضول عليه يسخر الفاضل لخدمته. إذن فكل فرد في الكون مسخر لكل فرد, وعلى هذا فلا يجب تفسير قوله تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] على أساس أن الطبقة الأعلى تسخر الطبقة الأدنى. إن المجتمع الإسلامي مجتمع غير طبقي، والقرآن دقيق في تعبيره، فقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] جعلك لا تستطيع أن تحدد البعض المرفوع، ولا البعض المرفوع عليه، لأن كلمة "بعض" مبهمة، فكل بعض مرفوع وكل بعض مرفوع عليه، والاختلاف والتفاوت إنما هو في قدر الدرجات في كل زاوية وفي كل علم وفي كل فن، وفي كل مهارة، فالفاضل مرفوع بقدر مهارته في العلم ودرجة إتقانه له. وبذلك ينسجم المجتمع ولا يتصارع، وإنما يتعاون ويتعاضد، فلو تساوى الناس في علم واحد أو فن واحد أو مهارة واحدة لتدافعوا وتصارعوا. ولكن كلا منهم يحتاج إلى الآخر، وعجز هذا تكمله قدرة ذاك، وخير الناس أنفعهم للناس، وهذه واحدة من أجل معاني العدالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 31- إدراك الطلاب لأهمية نظام الأسرة : الأسرة هي قاعدة البناء الاجتماعي، وهي تقوم على أساس "التخصص" بين الزوجين في العمل، ورعاية الجيل الناشئ هي أهم وظائف الأسرة، فالمجتمع الذي هذا شأنه هو المجتمع المتحضر.. ذلك أن الأسرة على هذا النحو -في ظل المنهج الإسلامي "تكون هي البيئة التي تنشأ وتنمى فيها القيم والأخلاق "الإنسانية". ممثلة في الجيل الناشئ، والتي يستحيل أن تنشأ في وحدة أخرى غير وحدة الأسرة. فأما حين تكون العلاقات الجنسية "الحرة كما يسمونها" والنسل "غير الشرعي" هو قاعدة المجتمع، حين تقوم العلاقات بين الجنسين على أساس الهوى والنزوة والانفعال، لا على أساس الواجب والتخصص الوظيفي في الأسرة.. حين تصبح وظيفة المرأة هي الزينة والغواية والفتنة.. وحين تتخلى المرأة عن وظيفتها الأساسية في رعاية الجيل الجديد، وتؤثر هي -أو يؤثر لها المجتمع "أن تكون عاملة في أي مكان، بالنهار أو بالليل". حين تنفق طاقتها في "الانتاج المادي" و"صناعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الأدوات"، ولا تنفقها في "صناعة الإنسان" لأن الإنتاج المادي يومئذ أغلى وأعز وأكرم من "الإنتاج الإنساني" عندئذ يكون هذا هو "التخلف الحضاري" بالقياس الإنساني.. أو تكون هي الجاهلية بالمصطلح الإسلامي"1. لقد شاءت فطرة الله أن يكون ميدان إنشاء العنصر الإنساني وتنشئته هو ميدان عمل المرأة بالدرجة الأولى، ويقارن الشيخ محمد متولي الشعراوي بين ميدان عمل المرأة هذا وبين ميدان عمل الرجل خارج البيت، ويرى أن ميدان عمل المرأة أهم وأدق من ميدان عمل الرجل؛ لأن الرجل -بحكم عمله خارج البيت- إنما يتعامل مع "أشياء" هي كلها مسخرة لخدمة الإنسان، الذي هو أكرم ما في الوجود كله، أما المرأة فمهمتها هي التعامل مع هذا المخلوق الراقي، الكريم على الله، وهو الإنسان، تتعامل معه كزوج فيسكن إليها، وتتعامل معه جنينا في بطنها، وووليدا في حضنها، ورضيعا تغذيه وتحنو عليه، وطفلا، وصبيا، وشابا تربيه وترعاه وتضرب له المثل. إن ترك المرأة لهذا الميدان الذي هو مجال عملها الرئيسي -والذي خلقها الله وفطرها لتحسن الأداء فيه- إلى ميدان آخر، لهو مأساة بكل المقاييس يقول الأستاذ عباس محمود العقاد: "إن المجتمع الذي يتزاحم فيه الرجال والنساء على عمل واحد في المصانع والأسواق، لن يكون مجتمعا صالحا، مستقيما على سواء الفطرة مستجمعا لأسباب الرضى والاستقرار بين بناته وبنيه؛ لأنه مجتمع يبذر جهوده تبذير السرف والخطل، على غير طائل، ويختل فيه نظام العمل والسوق، كما يختل فيه نظام الأسرة والبيت"2. فالمرأة لم تزود بالعطف والحنان والرفق بالطفولة، والقدرة على فهمها وإفهامها، والسهر على رعايتها في أطوارها الأولى لتهجر البيت، وتلقي بنفسها في غمار الأسواق والدكاكين. وسياسة الدولة كلها ليست بأعظم شأنا، ولا بأخطر عاقبة، من سياسة البيت؛ لأنهما عالمان متقابلان: عالم العراك والجهاد، يقابله عالم السكينة والاطمئنان؛ وتدبير الجيل الحاضر يقابله تدبير الجيل المقبل. وكلاهما في اللزوم وجلالة الخطر سواء3. وإذا كان ميدان المرأة الحقيقي هو البيت بمن فيه وما فيه، فإن تركها لهذا الميدان وخروجها للعمل في المجتمع الخارجي على اتساعه يعد تخريبا للميدان الحقيقي الذي تركته، وللميدان الجديد الذي لم تعد له بالفطرة والاستعداد والدربة. "ولولا مركب النقص، لكان للمرأة فخر بمملكة البيت، وتنشئة "المستقبل" فيه، لا يقل   1 سيد قطب: معالم في الطريق، مرجع سابق، ص123، 124. 2 عباس محمود العقاد: المرأة في القرآن، القاهرة، دار الإسلام، 1973م، ص46-47. 3 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 عن فخر الرجل بسياسة "الحاضر"، وحسن القيام على مشكلات المجتمع التي تحتاج إلى الجهد والكفاح. وهي لو رجعت إلى سليقتها، لأحست أن زهوها بالأمومة، أغلى لديها، وألصق بطبعها من الزهو بولاية الحكم ورئاسة الديوان, فليس في العواطف الإنسانية شعور يملأ المرأة، كما يملؤه الشعور بالتوفيق في الزواج، والتوفيق في إنماء البنين الصالحين، والبنات الصالحات.."1. إذن فقضية الأسرة والعلاقات بين الجنسين، قضية حاسمة في تحديد صفة المجتمع، فالمجتمعات التي تسود فيها النزعات الحيوانية لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة، مهما تبلغ من التفوق الصناعي والاقتصادي والعلمي. إن هذه المجتمعات متخلفة أو جاهلية.. من وجهة نظر "الإسلام" وبمقياس خط التقدم "الإنساني"، مهما كانت درجة تفوقها العلمي أو الاقتصادي. والخلاصة: أن الإسلام هو الحضارة، والمجتمع الإسلامي هو المجتمع المتحضر، لأنه يؤمن أن إعداد جيل يترقى في خصائص "الإنسانية"، ويبتعد عن خصائص "الحيوانية"، لا يمكن أن يتم إلا في محضن "أسرة" قائمة على أساس الواجب والتخصص، ومحوطة بضمانات الأمن والاستقرار العاطفي، فهذا ما يوفر للمجتمع مقومات الترقي على خط التقدم الإنساني، لذلك جعل الله الزوجة شق النفس، ومحضن السكينة والأمن والاستقرار، فهذا هو المحضن "الإنساني" الوحيد الذي يعد الأجيال التي تسير صعدا على خط التقدم الإنساني، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] .   1 المرجع سابق، ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 32- إدراك الطلاب لمهمة الإعلام الحقيقية في المجتمع : بالرغم من أن كل نظام إعلامي مخطط على أساس سليم، يقوم على أساس فلسفة أو نظرية معينة، وأن أجهزة الإعلام في معظم دول العالم تقوم على خدمة الفلسفات والنظريات والمناهج التي تتبناها تلك الدول، إلا أن الإعلام عندنا نحن المسلمين، ليس "نظاما" ولا يتبع خطة مرسومة بعناية، وإنما هو جهود مبعثرة، ومتناقضة في كثير من الأحيان؛ وأن معظم أنشطته ليست ذات صبغة فنية موحية ومشوقة، بل يغلب عليها الوعظ والتوجيه المباشر؛ وأن أغلبه ليس صادرا عن عقيدة الإسلام وتشريعاته ونظمه الإنسانية والخلقية، وأنه بعيد -إلى حد كبير- عن تحقيق غايات الإسلام ومقاصده، بل إنه يقوم -في معظم الأحيان- بالترويج للفلسفات والنظريات والنماذج الاجتماعية التي سعت جيوش الاحتلال في الماضي إلى خلعها على الحياة الاجتماعية والثقافية الإسلامية! إن وظيفة الإعلام هي المساهمة بجدية وفاعلية في استعادة "وسطية" الأمة الإسلامية و"شهادتها على الناس"، وفي الحفاظ على "تميز" الأمة الإسلامية بعقيدتها ومنهجها، والإعلام في هذه الحالة -وفي هذه الحالة فقط- يحافظ على هوية الأمة ويحميها من الذوبان في أمم أخرى، قد أخرجت هي أصلا لهديها وقيادتها. إن المؤسسات الإعلامية هي مؤسسات منهجية وتربوية ملتزمة، وهي تفوق في تأثيرها -خاصة هذه الأيام- المدرسة والجامعة والمناهج التربوية المقصودة، لذلك فإنها إذا لم تكن مخططة ومنظمة على أساس من الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، والمعارف والمهارات والخبرات الإنسانية المتغيرة بتغير الزمان والمكان وحاجات الناس، فإنها تتحول، لا محالة، إلى كارثة محققة، وتصبح طريقا معبدا إلى الهاوية. إن مهمة الإعلام الآن هي تقويم واقعنا المنحرف عن منهج الله, ونظامه للكون والإنسان والحياة، ورده بالحسنى إلى الطريق المستقيم، إن ذلك يتطلب المساهمة في تحرير الإنسان من عبودية غير الله، والخوف من غير الله، ولن يكون ذلك كذلك إلا بعودة الإعلام إلى المضمون الإسلامي، وتكوين رأي إسلامي مستنير. ولن يستطيع الإعلام تكوين رأي عام مستنير إلا إذا تخلص من الضغوط الفلسفية والمنهجية للغرب بصفة عامة ولأمريكا على وجه الخصوص. إن الحرية الواعية المسئولة هي أثمن هدايا الإسلام إلى الإنسانية، فالحرية فطرة في الطبيعة الإنسانية، يختل نشاط الإنسان، ويسوء عمله، وتهبط أخلاقه، ويتدهور حال مجتمعه كله، إذا حوصر الإنسان، أو منع من ممارسة حريته، أو إذا انفلت في ممارستها دون ضبط أو تنظيم وفق معايير المنهج الإلهي. إنه عندما يكون المجتمع محكوما بمنهج الله، وعندما يكون الإسلام -عقيدة وشريعة- هو أساس التصور الاعتقادي والتصور الاجتماعي، والمنهج التربوي، والنظام الإعلامي.. عندئذ يتحرر الإنسان من الخوف إلا من الله، ويكون النشاط الاجتماعي كله حركة واحدة في اتجاه واحد لتنفيذ منهج الله، عندئذ لن يكون هناك "رأي عام زائف" ولا "رأي عام كامن" لأنه خائف؛ لأن الإنسان في هذه الحالة لن يخاف إلا من الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 إذن فقيام نظام إعلامي إسلامي مخطط ومتكامل أمر مرهون بتنفيذ منهج الله في المجتمع، سياسة واقتصادا واجتماعا وتربية، لكن هذا لا يعني إيقاف النشاط الإعلامي الجاد, الذي يقوم به الأفراد والجماعات والهيئات الآن هنا وهناك, إلى أن يتغير نظام المجتمع ومنهجه العام لحكم الحياة فيه، بل يجب أن يستمر هذا النشاط ويتسع وفق خطة فنية واعية. وفي ضوء الإطار السابق، فإن الإعلام الإسلامي في حاجة ماسة إلى ما يلي: 1- العودة إلى مجموعة المبادئ والتوجيهات التي وردت بشأنه في القرآن والسنة، ثم في اجتهادات علماء المسلمين ومفكريهم قديما وحديثا، مع الاستعانة بالخبرات الإنسانية والمتجددة في هذا المقام. 2- إعداد الكوادر الإعلامية الإسلامية من خلال مناهج وبرامج نابعة من التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة, إن هؤلاء هم الأمل -بعد الله- في هداية "المغتربين" الذين ينكرون كل ما هو إسلامي في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والإعلام، ويقبلون كل ما دون ذلك! 3- تجسيد المنهج الإسلامي، والروح الإسلامية، والقيم الإسلامية، والسلوك الإسلامي في كل فقرة من فقرات أجهزة الإعلام بطريقة علمية وفنية غير متكلفة ولا مصطنعة. 4- مقاومة التدفق الإعلامي الزاحف عن طريق البث المباشر وغير المباشر، وذلك عن طريق تدعيم الإعلام الإسلامي المضاد، وغربلة ما يذاع وينشر، لاستئصال كل ما يضر بالمنهج الإسلامي وقيمه ومعاييره، ويساعد على نشر الفساد والعنف والجريمة، وفي هذا السياق لا بد من إعادة النظر في مضمون الإعلان التجاري، وطرقه وأساليبه التي تتعارض مع الإسلام، وتهدر كرامة الأسرة المسلمة، والمرأة المسلمة، عن طريق ابتزاز مشاعر الجنس الرخيصة لدى المشاهدين والقراء. 5- العناية بمهارات القراءة الواعية، والاستماع الناقد لدى القراء والمستمعين، إن التطور في وسائل الاتصال -وخاصة البث التليفزيوني الدولي المباشر الذي يحمل في طياته غزوا ثقافيا مقصودا لمن لا منهج لهم ولا هوية- لا يتطلب "كفاية" المستمع أو المشاهد فقط، أي: سيطرته على الحد المقبول من مهارات الاستماع والفهم، بل يستلزم "كفاءة" المستمع أو المشاهد، أي: سيطرته على الحد الأعلى لمهارات الاستماع والقراءة، من فهم، وتحليل وتفسير، ونقد وتقويم، واستخدامه لهذه المهارات بأكبر قدر من الإيجابية والفاعلية1. وعلى هذا فإن إعداد القارئ الكفء، والمستمع الكفء، هو أحد أهم العوامل الحاسمة في مواجهة الغزو الثقافي الداهم عبر ثورة الاتصالات، وهو أمر يجب أن يعمل حسابه بالتخطيط والتنسيق بين مناهج التربية ونظام الإعلام.   1 انظر: علي أحمد مدكور: تدريس فنون اللغة العربية، الرياض، دار الشواف، القاهرة، المطبعة الفنية، 1412هـ-1992م، فصل الاستماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 33- الاهتمام بالمدخل الحضاري في تعليم الكبار : لقد بدأ منهج الله للبشرية بالكبار، وبدأ بهم من المستوى الحضاري، لقد بدأ بتأسيس العقيدة في نفوسهم بعد أن محا كل الخرافات والأوهام والمعتقدات الباطلة السائدة لديهم، وبعد إقامة العقيدة خالصة، صافية في نفوس المسلمين في مكة انتقل إلى المدينة ليقيم عليها نظاما اجتماعيا متحضرا. وعلى هذا النحو يحتاج منهج تربية الكبار في زماننا هذا إلى البداية بتصحيح المفاهيم في نفوس الكبار، وتنقيتها من الشوائب، مثل مفاهيم: لا إله إلا الله، والخلافة في الأرض، وعلاقة الإنسان بالكون والحياة، ومفاهيم: العبادة والحرية، والشورى، والحضارة، والثقافة ... إلخ1. ومن خلال هذا العمل، وفي أثنائه يأتي التدريب على المهارات الهجائية، والتقانية المتصلة بالجانب الوظيفي وليس العكس كما هو حادث. إن مناهج تربية الكبار الواعية هي التي ترسخ فكرة أو تعليم الكبير، وتربيته ليست مجرد لون من ألوان الوجاهة الاجتماعية، وليست فقط ضرورة أساسية للتنمية والتحديث، وإنما هي فوق كل هذا فرض فرضه الله على كل إنسان، من أجل أن يكون قادرا على ترقية نفسه، وترقية الحياة من حوله؛ فهذا هو مقتضى العبادة، ومقتضى الخلافة في الأرض. ومنهج التربية الرشيد هو الذي يحاول المساهمة في إقدار الأمة على استعادة وسطيتها، وشهادتها على الناس، والحفاظ على تميزها، ووحدتها، ويكون ذلك عن طريق تعديل اتجاهات الدارسين، وتوجيه اهتماماتهم نحو العلم، على أساس أنه فريضة، وأن طلبه عبادة، وأنه يهدي النفس إلى الإيمان بالله، والأخوة في الله، عن طريق تزويدها بالحقائق والمعايير الإلهية الثابتة والخبرات الإنسانية المتغيرة، التي تزيد من إيجابية الإنسان وفاعليته في القيام بدوره كخليفة لله في الأرض. بل إن هذا المنهج ينمي لدى الكبار الرغبة المتزايدة في الاستمرار في طلب العلم، حيث إن ذلك من مقتضيات المطالب المتنوعة للحياة الراقية، وحتى لا يصاب الكبير "بالقدم المعنوي" ويصبح من مخلفات الزمن.   1 انظر: علي أحمد مدكور: منهج تعليم الكبار: النظرية والتطبيق، القاهرة، دار الفكر العربية، 1416هـ، 1996م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 إن منهج تربية الكبار الواعي هو المنهج الذي يقدر الدارسين على إحداث التغيرات المناسبة لإعمار الحياة، كما يكسبهم المرونة الإيجابية في مواجهة المتغيرات الوافدة بالدراسة والتحليل، وقبول ما يتفق منها مع منهج الله، ورفض المتغيرات الأخرى التي تتصادم مع الأصول والقيم الثابتة في هذا المنهج، وبذلك يرتقي المجتمع الإسلامي مع الحفاظ على بنيته الأساسية والإقلال من عوامل الاضطراب وعدم التوازن بين العناصر المكونة له. ومنهج تربية الكبار السليم يساعدهم على تحقيق ذواتهم الإنسانية وفق فطرة الله التي فطر الناس عليها، فهو يعين الرجال كما يعين النساء على إشباع حاجاتهم، واهتماماتهم، وحل مشكلاتهم، كما يساعدهم على تحقيق أغراضهم الوظيفية في الحياة كل على حسب ما هو مؤهل له، داخل الأسرة، وخارجها. إن منهج تربية الكبار الرشيد هو الذي يرسخ في نفوس الكبار أولا قواعد المجتمع المتحضر، فهو يبدأ بها، ولا يبدأ بألف، باء، تاء ... إلخ. إنه يقيم في نفوس الكبار معاني مثل: معنى أن تكون "الحاكمية" في المجتمع لله؛ ومعنى أن تكون "آصرة العقيدة" هي رابطة التجمع الأساسية في المجتمع؛ ومعنى أن تكون "قيمة الإنسان" هي العليا في هذا المجتمع، وألا تعلو قيمة أي شيء على قيمته؛ ومعنى أن تكون "الأسرة المتخصصة" هي الوحدة الأساسية في بناء هذا المجتمع؛ ومعنى أن "الإحسان في العمل" هو أساس العمارة والترقي في هذا المجتمع.. إلخ. ومن خلال كل هذا تأتي المهارات الهجائية، والمهارات الوظيفية الأخرى.. وليس العكس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 34- تنمية شعور الطلاب وإدراكهم للمسئولية الاجتماعية : إن الهدف الذي ينبغي أن تعمل المناهج التعليمية على تحقيقه هنا هو تنمية شعور الناشئة وإدراكهم للمسئولية الاجتماعية. لقد اتضح لنا مما سبق أن الحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة، فالإنسان حر لأنه مسئول، وهو لا يصح أن يكون مسئولا إلا إذا كان حرا، فالمسئولية تتطلب الحرية، والحرية تستتبع المسئولية. وهناك فرق بين المسئولية الجماعية وبين المسئولية الاجتماعية، فالمسئولية الجماعية إحساس الجماعة ككل بمسئوليتها عن أفكارها وأفعالها وأفرادها، أما المسئولية الاجتماعية فهي المسئولية الذاتية نحو الجماعة، فالمسئولية هنا مسئولية ذاتية, والإنسان مسئول أمام ذاته عن الجماعة. وإذا كانت المسئولية الاجتماعية تكوينا ذاتيا، كما يقول الدكتور سيد عثمان، فإنها في جانب كبير من نشأتها ونموها نتاج اجتماعي، أي: إنها اكتساب وتعلم، وهنا يأتي دور الجماعة عن طريق مؤسساتها المتنوعة، وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة في تنمية المسئولية الاجتماعية. وتتكون المسئولية الاجتماعية من عناصر ثلاثة: الاهتمام، والفهم، والمشاركة، وجميعها لا بد من تنميتها وتعميقها لدى الناشئة1. والمقصود بالاهتمام الارتباط العاطفي بالجماعة التي ينتمي إليها الفرد، صغيرة كانت أم كبيرة، ذلك الارتباط الذي يخالطه الحرص على استمرار تقدمها وتماسكها وبلوغها أهدافها، والخوف بأن تصاب بأي عامل أو ظرف يؤدي إلى إضعافها أو تفككها. فالإحساس بالمسئولية الاجتماعية هنا يأتى من خلال الانفعال مع الجماعة والانفعال بها، وإدراك الذات من خلالها، والتوحد معها بحيث تصبح الجماعة داخل الفرد عقليا ووجدانيا. أما الفهم فذو شقين: الأول فهم الفرد لتاريخ الجماعة، الذي بدونه لا يتم فهم حاضرها ومستقبلها، وفهمه لفلسفتها وعقيدتها، ولروابطها وصلاتها، ولنظمها ومؤسساتها، وعاداتها وقيمها ووضعها الثقافي، وللظروف والقوى المؤثرة، وحاضرها الواقع ومستقبلها المحتمل. أما الشق الثاني من الفهم، فهو فهم الفرد للمغزى الاجتماعي لأفعاله وإدراكه لآثار أفعاله وتصرفاته وقراراته على الجماعة، أي: فهم القيمة الاجتماعية لأي فعل أو تصرف يصدر عنه. أما العنصر الثالث فهو المشاركة، والمقصود به اشتراك الفرد مع الآخرين في الجماعة في إنجاز الأعمال التي يمليها الاهتمام ويتطلبها الفهم، بما يساعد الجماعة في إشباع حاجاتها وحل مشكلاتها، والوصول إلى أهدافها، والمحافظة على تقدمها واستمرارها. وهذه العناصر الثلاثة: متكاملة، فالاهتمام بالجماعة يحرك الإنسان إلى فهمها وكلما زاد فهمه زاد اهتمامه، والاهتمام والفهم معا يؤديان إلى المشاركة الإيجابية الناقدة.   1 سيد أحمد عثمان: المسئولية الاجتماعية والشخصية المسلمة، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1399هـ 1979م، ص269-272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الفصل السادس: محتوى مناهج التربية مفهوم المحتوى ومصادره ... الفصل السادس: محتوى مناهج التربية إذا كان الهدف النهائي لمناهج التربية هو بناء الإنسان الصالح المؤمن بالله وبالأخوة في الله، والقادر على المساهمة بإيجابية وفاعلية في عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج الله، وبذلك يحقق للأمة وسطيتها، وشهادتها على الناس، ويحقق لها وحدتها، وتميزها؛ أقول: إذا كان هذا هو الهدف، فإنه لا يتم إلا من خلال محتوى يتم اختياره بعناية ودقة لهذا الغرض "انظر الشكل". مفهوم المحتوى ومصادره: والمحتوى هو مجموعة الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، والمعارف والمهارات والخبرات الإنسانية المتغيرة بتغير الزمان، والمكان، وحاجات الناس، التي يحتك المتعلم بها، ويتفاعل معها، من أجل تحقيق الأهداف التربوية المنشودة فيها. ولما كان الكون من حولنا محسوسا، وغير محسوس، أي: غيبا وشهودا، فإن العلم تختلف مصادره في منهج التربية باختلاف نوع المعلوم. فالغيب مصدر العلم به هو الوحي الصادق من صاحب الغيب، سبحانه وتعالى، أي: من القرآن والسنة: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] ، "لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم له لن تضلوا أبدا: كتاب الله، وسنتي" "متفق عليه". أما المحسوس أو الشهود فسبيله الملاحظة، والتجربة، والخبر أيضا؛ لأن المحسوس الذي غاب عنا لا مصدر للعلم به إلا الخبر عنه، وهذا هو أحد أهداف قراءة التاريخ، وتصحيح العلم عن طريق الخبر يكون بالاحتكام إلى قوانين الله ونواميسه التي تحكم الأشياء، كما يكون تحقيق الخبر عن طريق الاستقراء والاستنباط، والملاحظة والتجربة.. إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 طرائق اختيار المحتوى ... طرق اختيار المحتوى: يتم اختيار المحتوى بطرائق ثلاث: الطريقة الأولى: هي الطريقة التي تعتمد على تحديد حاجات الدارسين ومشكلاتهم، والمعارف والمهارات التي يحتاجون إليها في حياتهم وأعمالهم، وبناء على ذلك يتم اختيار المحتوى الذي يحقق هذه الحاجات للدارسين ويساعدهم على تحقيق ذواتهم وفق فطرة الله فيهم ذكورا وإناثا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 والطريقة الثانية: هي التي تهتم بتحديد مطالب المادة التعليمية، كاللغة، أو الرياضيات.. إلخ. أكثر من اهتمامها بحاجات الدارسين، فالترتيب المنطقي للمواد الدراسية وكل المعارف والمعلومات والتطورات التي حدثت للمادة الدراسية يجب أن يكون متضمنا في محتوى المنهج، هذه الطريقة غالبا ما ترفع قيمة المادة الدراسية والمعرفة، والمعلومات على قيمة الإنسان المتعلم، وحاجاته ومشكلاته ومطالبه. والطريقة الثالثة: هي طريقة اختيار محتوى المنهج عن طريق الخبراء في كل مجال من مجالات المعرفة. فهؤلاء يستخدمون خبراتهم الطويلة في اختيار محتوى المنهج, كل في مجال تخصصه. ومنهج التربية والتعليم يجب أن يركز على الطريقة الأولى التي تهتم بالإنسان المتعلم، وتعتبر أن قيمته تعلو على كل شيء، وأنه سبب المنهج، والمقصد من بنائه، وأن كل شيء يجب أن يسخر لخدمته، فالله سبحانه وتعالى، قد سخر الكون كله لخدمته: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] . إن الإنسان هو الخليفة في الأرض، وهو المكلف بتنفيذ منهج الله فيها، وهو المخلوق الوحيد الذي يعبد الله بإرادته الحرة، ولذلك لا يجب أن تعلو قيمة أي شيء على قيمته.. بل ويجب أن يسخر كل شيء لخدمته، فحتى نزول القرآن من رب العالمين، جاء محققا لهذا المعنى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106] فقد نزل القرآن، مقسطا، على مكث.. حلا لمشكلات الحياة وتبيانا لقوانينها، ووضعا لنظامها، فالناس، وحياة الناس، لا الأشياء، هي مهمة المنهج، ولذلك فإن تلبية مطالب وحاجات الإنسان الذي يقوم على تنفيذ منهج الله، هي المعيار الأساسي في اختيار محتوى المنهج. لكن مناهج التربية والتعليم إذ تركز على الطريقة الأولى التي تهتم بالإنسان المتعلم، فهي تسخر مميزات الطريقتين الأخريين لتحقيق هذا الغرض، فمنهج التربية لا بد أن يعتمد على المتخصصين أو "أهل الذكر" في كل مجال من مجالات المعرفة: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ، وأهل الخبرة: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] ، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 كما أنه يبحث عن كل معرفة مفيدة مهما كان مصدرها: "فالحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحق الناس بها" كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام. تنظيم المحتوى: البدائل المطروحة لتنظيم محتوى المنهج يمكن تصنيفها فيما يلي: أولا: هناك التنظيم الذي يخضع لخصائص منهج المواد الدراسية المنفصلة، حيث يتم التركيز على المواد الدراسية، ويتكون المحتوى من عدد من المواد الدراسية المنفصلة التي خططت ووضعت مقدما، ونظمت تنظيما منطقيا وفقا لطبيعة كل مادة، ويغلب على هذا التنظيم الطابع النظري، ويوضع في صورة موضوعات بحيث يتم تناول كل موضوع في حصة، وغالبا ما يترجم هذا المحتوى في صورة "كتاب"، يتم تناوله بطريقة تلقينية بمعزل عن نشاط التلاميذ وفاعليتهم، كما يعتبر هذا التنظيم السائد غالبا عندنا في مصر، وفي معظم أقطار الأمة. ثانيا: هناك التنظيم القائم على أساس منهج النشاط، وهو تنظيم قام كرد فعل للتنظيم القديم السابق، فجاء على العكس منه، فميول التلاميذ وأغراضهم هو المحور الذي ينظم على أساسه المحتوى، كما أن هذا التنظيم يقوم على أساس إيجابية التلاميذ ونشاطهم، فالتلاميذ يشاركون في اختيار المحتوى وتخطيطه وتنفيذه، وبذلك فإن المحتوى لا يتم اختياره مقدما، ولا يتقيد بالحواجز الفاصلة بين المواد الدراسية، ويعتمد في تنفيذه على أسلوب حل المشكلات، وتخطيط وتنفيذ المشروعات؛ لذلك فإن التقويم في هذا التنظيم يقوم على أساس نشاط الطلاب وسلوكياتهم، وعلاقاتهم. ثالثا: إذا كان منهج النشاط قد نقل الاهتمام في التربية من المادة إلى ميول التلاميذ وأغراضهم، ورفض تخطيط المنهج مقدما، فكلاهما قد أهمل معيار التكامل بين مكونات المحتوى التعليمي، وقد أهمل أيضا التعامل مع حاجات المجتمع ومطالبه ومشكلاته. ومن هنا جاء التنظيم المحوري للمناهج مستفيدا من مزايا التنظيمين السابقين ومتخطيا عيوبهما؛ لذلك نادى بأن يكون محور الدراسة هو حاجات الدارسين لا مجرد ميولهم؛ على اعتبار أن الحاجة ذات شقين: شق شخصي يتصل بالطالب مباشرة، وشق اجتماعي يتصل بالنظامل الاجتماعي ومطالب الحياة الاجتماعية التي يعيشها الطلاب ومشكلاتهم. وهكذا انبثقت فكرة التنظيم المحوري، فهو تنظيم يدور حول مشكلات الحياة وحاجات الدارسين بقصد إعدادهم للمواطنة ومسئوليات الحياة1.   1 انظر: الدمرداش عبد الحميد سرحان، المناهج المعاصرة، الكويت، مكتبة الفلاح، ط3، 1401هـ-1981م، ص153-201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 إذن فالتنظيم المحوري يدور حول الأمور العامة المشتركة التي ينبغي أن يدرسها جميع الطلاب في صف معين أو في مرحلة معينة. وهناك بالتأكيد أمور أخرى تتصل بالميول والقدرات والاستعدادات الخاصة لكل طالب، وهذه تأتي خارج الدائرة المحورية. وبذلك فالتنظيم ذو شقين: - شق إجباري، يلتزم به جميع الطلاب في صف معين أو مرحلة معينة. - وشق اختياري تطرح فيه مجموعة من المواد الاختيارية والمناشط المدرسية يختار الطلاب من بينها ما يتسق مع حاجاتهم وميولهم وقدراتهم واستعداداتهم الخاصة. ويتضح من هذا التنظيم المنهجي أنه يقوم على أساس تحديد المشكلات والحاجات بشقيها الشخصي والاجتماعي عن طريق البحث العلمي، وقيام التنظيم المحوري حولها، دون الالتزام بالمنهج التخصصي الذي يفرض طبيعة المادة التعليمية, ومنطقها وتسلسلها في المقام الأول. وهذا التنظيم المحوري بشقيه الإجباري والاختياري يعتبر الإرشاد والتوجيه الطلابي ركنا أساسيا فيه1، حيث إن هذا ضروري للوقوف على حاجات الطلاب ومشكلاتهم وقدراتهم واستعداداتهم، كما أنه ضروري أيضا لمشاركتهم المعلم في وضع الخطة واقتراح التفاصيل، كما أنه تنظيم يعتمد أسلوب حل المشكلات وسيلة للتعليم الفعال، كما يمكن تطبيقه بنجاح في المرحلتين: الإعدادية والثانوية. رابعا: تنظيم الوحدات، وهو تنظيم قصد به تنظيم المحتوى في صورة معلومات مترابطة وخبرات متكاملة حول المحاور الأساسية المراد دراستها، وبذلك يتم القضاء على ظاهرة التفتيت والتجزيء الشائعة, خاصة في تنظيم المواد الدراسية المنفصلة، وتنظيم منهج النشاط والمشروعات الذي لم يكتب له البقاء والاستمرار طويلا. ويقوم تنظيم الوحدات على أساس تكامل المعرفة الإنسانية، فالمعرفة الإنسانية متكاملة في مصدرها؛ فهي من خلق الله، ومتكاملة في وظيفتها في الحياة، ومتكاملة في غاياتها، كما يقوم هذا التنظيم على أساس التكامل في شخصية الإنسان، فالإنسان بروحه وعقله وجسمه كل واحد لا يتجزأ، ومصدره واحد وهو الله، ووظيفته هي إعمار الحياة، والمعرفة المتكاملة هي وسيلته في القيام بوظيفته   1 علي أحمد مدكور: "الإرشاد والتوجيه الطلابي في الفكر التربوي الإسلامي" في مؤتمر الجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية. اللقاء السنوي، الثاني الرياض: 16-18 شعبان، 1410هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وطريقة الوحدات يمكن استخدامها عن طريق المنهج المحوري، فالتنظيم المحوري يمكن أن يقدم في صورة واحدة أو محاور أساسية، فمثلا يمكن أن يقوم محور حول "الماء ووظيفته في الحياة" ويمكن دراسة هذا المحور من خلال القرآن، والسنة، والفقه، والطبيعة، والكيمياء، والأحياء، والتاريخ والجغرافيا، والبيئة المحلية, كما يمكن دراسة موضوع مثل "النظام الاقتصادي" من خلال القرآن والسنة والفقه، والتاريخ والجغرافيا، والمعلومات السكانية، والتربية.. وهكذا يمكن دراسة الهواء، والبيئة، ونظام الأسرة، والصلاة، والزكاة، والزراعة، والصناعة، والعلاقات الدولية.. إلخ. وهكذا فإن أسلوب الوحدات يقوم على أساس ترابط المعرفة الإنسانية والخبرة الإنسانية، وعلى أساس التكامل بين المدرسة والحياة، والإيجابية والفاعلية بين الطلاب والمعلمين وبقية عناصر المنهج؛ وعلى أساس المشاركة والتعاون والعمل الجماعي. ويعتمد تنظيم الوحدات أيضا على أسلوب حل المشكلات والمناقشة, وفن إدارة المعلومات المتكاملة للوصول إلى القدرة على الابتكار, واستشراف آفاق المستقبل والاستعداد له، من أجل القدرة على التعامل مع معطياته. وهكذا يتضح أن التنظيم المحوري للمنهج, وأسلوب الوحدات يتسقان مع طبيعة التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أنواع المحتوى : إذن فقد يكون تنظيم المحتوى على أساس منهج المواد الدراسية المفصلة أو على أساس المنهج المحوري أو الوحدات، فهذا هو التنظيم الخارجي لمحتوى المنهج.. ولكن كيف تكون العلاقة بين العلوم الشرعية وبين العلوم الكونية في التصور الإسلامي لمنهج التربية؟ من خلال التصور السابق لمفهوم التربية, ومفهوم المنهج, ومفهوم الدين, ومفهوم العبادة, ومفهوم التعلم, يرى معظم المفكرين ضرورة تكامل العلوم الشرعية والعلوم الكونية في منهج التربية، فهذه العلوم جميعها مظهر للكلمات الإلهية، فإذا كانت العلوم الشرعية هي علوم المقاصد والغايات -كما يقول ابن خلدون- فإن العلوم الكونية أو العقلية هي علوم الوسائل والأدوات. وقد نعى ابن تيمية على الفلاسفة والمذهبيين عدم فهمهم لوظيفة كل نوع من النوعين السابقين للعلوم، فقد أدى انشقاقهم وتعصبهم إلى إشاعة الجبرية والكسل، وركود العلم والإنتاج، وتفرق الناس في ميادين العقيدة والشريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وانطلاقا من فكرة التكامل هذه يمكن القول إن محتوى منهج التربية الذي تتحقق من خلاله الأهداف التي سبق عرضها في الفصل الثالث، يشتمل على أربعة مجالات: 1- مجال علوم العقيدة والشريعة: وهو يشتمل على جانب إجباري وجانب اختياري، فالجوانب الإجبارية هي ما تتصل بالقدر الضروري لكل فرد وهي ما تعلقت بالعقيدة، والأصول، والأخلاق والقيم والمعايير الثابتة، والاختيارية ما تعلقت بالتشريعات والتنظيمات التشريعية في مختلف المجالات. 2- مجال العلوم الحربية والعسكرية: وهذه إجبارية لارتباطها بالجهاد، وهي تتشكل وتتنوع حسب مهارات العصر وأدواته ووسائله. ويعلل ابن تيمية التكامل بين العلوم العقيدية والشرعية وعلوم الحرب والجهاد فيقول: "ودين الإسلام يكون السيف تابعا للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة، كان السيف تابعا للكتاب. كان أمر الإسلام قائما.. أما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه، كان دين الله من هو كذلك بحسب ذلك"1. ويسوي ابن تيمية بين المتخصيين في العلوم العسكرية والمتخصصين في علوم القرآن، فيقول: "وتعلم هذه الصناعات من الأعمال الصالحة لمن يبتغي بذلك وجه الله عز وجل، فمن علم غيره ذلك كان شريكه في كل جهاد يجاهد به، لا ينقص أحدهما من الأجر شيئا، كالذي يقرأ القرآن ويعلم العلم"2. 3- مجال العلوم الكونية والعقلية: مثل العلوم الرياضية، والطب، والفلك، والعلوم الحيوية، والفيزيائية والكيماوية، والعلوم الاجتماعية والإنسانية عموما، وثمرة هذه العلوم الكشف عن آيات الله في الأنفس وفي الآفاق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] . 4- مجال المهن والصناعات المختلفة والمتنوعة: وأفضل الصناعات هي الصناعات الحربية والعسكرية؛ لأنها وسيلة الجهاد وعدته، والجهاد أفضل ما تطوع به الإنسان، ومصداق ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد له" "رواه أبو داود". والمهن والصناعات كالعلوم الكونية والعقلية، إجبارية واختيارية، فما كان مفقودا في المجتمع وسببا في ضعفه وتدهوره صار إجباريا، وفرض عين، فإذا وجد إلى الحد الذي يكفي حاجة المجتمع صار اختياريا وفرض كفاية   1 ابن تيمية: الفتاوى: أصول الفقه، مجلد 20، ص393. 2 المرجع السابق، الفقه، مجلد 28، ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 لكن الأزمة الحقيقية في مجتمعاتنا الآن هي أن نظم التربية الحديثة فيها قدمت المهم على الأهم، وحولت ما كان إجباريا وفرض عين، إلى اختياري وفرض كفاية، فتضخمت بذلك مناهج العلوم العقلية والكونية، واحتلت المرتبة الأولى في المناهج والجداول الدراسية، وأزيحت علوم العقيدة والشريعة إلى المراتب المتأخرة، وأصبحنا لا نرى للقرآن والحديث والفقه إلا حصة واحدة في الأسبوع. في حين تحتفظ الرياضيات غالبا بسبع حصص والفيزياء بأربعة، والكيمياء بأربعة، واللغة الإنجليزية بمثل ذلك، أما العلوم العسكرية والتدريب على فنون الحرب والجهاد فقد رفعت من الجداول المدرسية تماما! وهذا -في الغالب- أثر من آثار تحول الأمة عن منهج الله إلى المناهج الدخيلة الأخرى، وتبني شرائع غير شريعة الله لحكم الحياة، وبذلك تم زحزحة الشريعة الإسلامية من مناهج التربية لتحل محلها دراسة الفلسفات الوضعية التي تأخذ مكانها الحاكم في توجيه كيان الأمة، فأقسام الفلسفة ومقرراتها تحتل مكانا مرموقا في معظم كليات علوم الإنسان، وخاصة كليات إعداد المعلمين. علوم الدين هي علوم للدنيا: إن كل علم يصمم ويدرس على أساس أن إسهامه في بناء الإنسان القادر على المشاركة بإيجابية وفاعلية في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله، هو علم ديني من وجهة نظر الإسلام، يستوي في ذلك علوم الشريعة والعلوم الحديثة، كالرياضيات، والطبيعة، والكيمياء، وعلوم التقنية الحديثة.. إلى آخره. وقد قرر هذه الحقيقة كثير من المفكرين المسلمين الفاهمين لنص الإسلام وروحه، أن تقسيم العلوم إلى "دينية" وأخرى "دنيوية" يقوم على أساس نظرية الفصل بين الدين والحياة، وتعتبر مثل هذه النظرية متعارضة تعارضا تاما مع الإسلام الحنيف، ذلك أن الدين في نظر الإسلام ليس شيئا منفصلا عن الحياة، وعلى هذا فإن اعتبار العالم ملك "لله" تبارك وتعالى، واعتبار الناس فيه عبادا لله، يحيون وفق مشيئته، وحسب تعاليمه، لهو "الدين" بمعناه الصحيح، وهو في نفس الوقت الأساس الذي تقوم عليه الشريعة الإسلامية، وهكذا فإن مثل هذا التصور للحياة البشرية على هذه الأرض يؤدي إلى تحويل جميع العلوم "الدنيوية" إلى علوم "دينية"، أما تقسيم العلوم إلى قسمين: "ديني" يدرس من وجهة النظر الإلهية، وآخر "دنيوي" يدرس من وجهة النظر الأخرى المقابلة فإنه يفضي بأجيالنا إلى الاعتقاد بأن الدين شيء والحياة شيء آخر، وأن كلا منهما يسير في مجرى لا صلة له بالآخر، وهكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 يصبح التوفيق بينهما بغية إخراج الجماعة المؤمنة التي يريدها القرآن الكريم إذ يقول: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] أمرا صعبا للغاية بالنسبة لهذه الأجيال"1. إن العلوم الحديثة لا يجب تدريسها بالحالة التي هي عليها كما وردت إلينا من الغرب، وإنما يجب إعادة صياغتها بعد تخليصها من أوشابها, وما قد يكون كامنا في ثناياها من نظريات وفلسفات عن الكون والإنسان والحياة؛ بحيث تحقق أهداف منهج التربية الإسلامية. أما إذا أضفنا هذه العلوم إلى منهج التربية الإسلامية بالحالة التي أتت بها من الخارج فإنها سوف تهدم -دون شك- في نفوس الناشئة وعقولهم كل ما تبنيه علوم الشريعة من عقائد وقيم، وسوف تعمل ضد كل تفسير إسلامي للكون والحياة والسلوك الإنساني. ويلقى بعض المفكرين مزيدا من الإيضاح على هذه النقطة فيقول: "إننا بتعليمنا التاريخ، والجغرافيا، وعلم الطبيعة والفيزياء، وعلوم النباتات والحيوان، وعلم طبقات الأرض، والفلك، والاقتصاد والعلوم السياسية، وسائر العلوم الحديثة الأخرى بطريقة ليس "لله" فيها أثر أو نصيب؛ فلن نتوقع أن تبدو في حياة الناس أية علامات تدل على احترامهم لشرائع الله, أو إذعانهم لمشيئته, إن القوانين التي تتحكم في الطبيعة لا تفسر في ظل هذه الطريقة على أساس أنها قوانين تنظمها قوة الخالق المبدع، ولا ينظر إلى الأحداث الكونية الكبرى على أنها مظاهر لإرادة الله سبحانه وتعالى في ملكوته، أما مشاكل الحياة ومعضلاتها فتحل دون السماح للحلول التي قدمتها الشريعة السماوية أن تؤدي وظيفتها في حلها، وهكذا لا يصبح ثمة مجال لرأي الأديان في بدء الكون ونهاية العالم أن تجد لها مكانا في كتاب الحياة". "إن مجموعة العلوم التي تنصب في عقلية الطالب الصغير خليقة -والحالة هذه- أن تخلق في ذهنه تصورا للحياة خاليا من كل أثر للقدرة الإلهية فيها، لأن كل شيء يقدم إليه دون الإشارة إلى هذه القدرة التي خلقت كل شيء وأحسنت خلقه، فليس من الغرابة في شيء بعد ذلك أن يسلك في حياته العلمية مسالك ليس للدين فيها نصيب.. لكن الطالب ينصت من آن لآخر لصوت "الله" من ضميره وفي فطرته ويتعلم شيئا من الكتب السماوية عن بدء الخليقة ونهاية العالم، ولكنه يجد نفسه في حيرة أين يضع "الله" من هذه العلوم التي تقدمها له برامج التعليم اليوم، وقد يدفعه الشك الذي تنمي بذوره العلوم الحديثة إلى أن يطلب إثبات الله, ثم يتطرق إلى   1 أبو الأعلى المودودي: المنهج الإسلامي الجديد للتربية والتعليم، ط2، بيروت، المكتب الإسلامي، 1402هـ-1982، ص23. وانظر أيضا إسحاق أحمد فرحان وزملاءه: نحو صياغة إسلامية لمناهج التربية والتعليم، قطر، رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية، 1399هـ-1979م، ص50-51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 مناقشة مسألة "الوحي" وهل الإيمان به ضرورة أم لا؟، وبعد أن يكد الذهن في الاهتداء للحقيقة وتقبلها, يظل على حاله من الحيرة والقلق، كيف يستطيع التوفيق بين العلوم الحديثة التي تعلمها وبين ما يقدمه الدين من نظريات عن الكون والحياة، ومهما يكن إيمانه بالله قويا، واحتماله بعقيدته راسخا لا يتزعزع، فإن الدين يظل في معزل عن حياته لا يؤثر فيها، ولا يهيمن عليها كما ينبغي"1. إن الفصل التعسفي بين علوم الشريعة، على أنها علوم للدين، وبين العلوم الحديثة على أنها علوم للدنيا، قد أحدث كثيرا من المتاعب التي تعاني منها الأجيال الحديثة، وهذا الفصل لا يقره الإسلام على الإطلاق، لكن الواجب عليهم أن يعيدوا صياغة العلوم الحديثة: كما سبق أن ذكرنا، بحيث تتعاون مع بقية مواد المنهج على تحقيق أهداف منهج التربية "وتحقيق أهداف الحياة السعيدة للمجموعة البشرية وفق تعاليم السماء"2. والجهاد من أجل عمارة الأرض وتطبيق منهج الله، ومن هنا ترتبط في نفوسهم الأرض بالسماء، والدنيا بالآخرة، والفكر بالعمل. محور المحتوى بين الذكور والإناث: ومنهج التربية -كما سبق أن ذكرنا- يجب أن يعد الفتاة لمهمتها العظيمة المرتقبة، وهي تربية الناشئة، وإدارة البيت وتدبير شئونه بطريقة حسنة, حتى إذا جاءت الخطبة، وجاء الزوج، كانت مهيأة لدورها الطبيعي العظيم في الحياة. ولا شك أن هناك علوما مشتركة في منهج التربية بين البنين والبنات صغيرهم وكبيرهم على السواء، وهذا القدر المشترك من محتوى المنهج هو ما يتصل بالجانب الثابت في حياة الإنسان، وهو العلم بالدين، ابتداء من قضية الألوهية، وما يتفرع عنها، وما يترتب عليها من مبادئ وقيم, وعلوم شرعية, وعلوم المعاملات بما تشتمل عليه من نظم وأخلاقيات وسلوك، ولا شك أن هناك قدرا آخر مشتركا، وهو ذلك الخاص بتاريخ المسلمين، وجغرافية العالم الإسلامي، واللغة العربية وآدابها، وبعض العلوم العامة. وإلى جانب هذا القدر المشترك في المناهج، هناك "التربية النسوية" التي تعد الفتاة لوظيفتها، وتعلمها أصول هذه الوظيفة من إدارة شئون البيت، وتربية الأطفال، وتحول مشاعر الجنس الفطرية إلى تهيؤ عملي لاستقبال الحياة الزوجية المرتقبة. ولا شك أن للفتاة بعد ذلك أن تتعلم من العلوم الأخرى ما تميل إليه، ولا قيد عليها في ذلك إلا قيد واحد هو ألا يصرفها عن وظيفتها الرئيسية التي تتفق مع فطرتها التي فطر الله الناس عليها.   1 المرجع السابق، ص23، 24. 2 المرجع السابق، ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الإعداد للمهن والحرف: ومحتوى منهج التربية الإسلامية ترتبط فيه النظرية بالتطبيق، والقول بالعمل، وذلك انطلاقا من أن الدين الإسلامي لا يفرق بين المثال والواقع، لأن مثله موضوعة بحيث يمكن تطبيقها في الحياة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا} [التغابن: 16] ، وعلى هذا فالإسلام ليست فيه تلك الفجوة المعهودة بين المثال والواقع، أو بين النظرية والتطبيق كما يعبر عنها في أوربا. لا بد إذن أن يكون محتوى المناهج الدراسية -إذا أردنا أن تكون مناهجنا في الشكل والمضمون- نظرية وعملية معا، لا نظرية فقط، وأن توجد في مدرسة البنين "ورشة" أو "معمل" أو "مختبر" لتدريب المتعلمين فيها، وربط الأفكار النظرية بتطبيقاتها العلمية، وأن توجد في مدرسة البنات "بيت" يدرن شأنه ويدبرن أموره، بالإضافة إلى كل الخبرات التي تعدهن للقيام بأعباء الزوجية وتربية الأطفال على خير وجه. ويجب أن يشتمل محتوى منهج التربية الإسلامية على مواد كسب المهارة، وتعلم الصناعات المختلفة، والإعداد للحياة العملية والعمل الجاد، الذي يعين الإنسان على عمارة الأرض بمقتضى منهج الله، كما يشتمل على مواد ترقية الوجدان، وإبراز دقة الله في الخلق كالآداب والفنون والموسيقى, وزخرف الخط, وغير ذلك من الفنون. لقد وضع الإسلام دستورا شاملا للعمل هو جزء من محتوى منهج التربية، فسواء كان العمل يدويا أو عقليا أو فنيا فالخبرة والمهارة فيه مطلوبة، فالمجتمع يحتاج إلى العامل الماهر كما يحتاج إلى الطبيب الماهر يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" , "رواه أبو يعلى والعسكري". ويقول: "من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له" , "أخرجه الطبراني". ويقول: "إن الله يحب المؤمن المحترف" , "أخرجه الطبراني والبيهقي". ويقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدا تورمت من كثرة العمل ويقول: "هذه يد يحبها الله ورسوله"، كما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحرفة أمان من الفقر". وقد تعلم نوح صناعة السفن، إذ أمره الله بصنعها في قوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 تَسْخَرُونَ} [هود: 37، 38] وكانت النتيجة أن نجا نوح ومن آمن معه في السفينة التي صنعها، وغرق الباقون. وقد علم الله نبيه داود مهارة الحدادة وصناعة الدروع الحربية: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] ، ويقول في شأن داود أيضا: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} "دروع واسعة سابغة واقية" {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} "أي: اجعله بقدر يناسب المهمة التي عمل من أجلها" {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10، 11] ، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجيد مهنة التجارة، كما اشتغل بالرعي. من كل ما سبق يتضح لنا ضرورة اهتمام محتوى منهج التربية بالعمل يدويا كان أو عقليا أو فنيا، وبالإتقان فيه، وبضرورة اشتمال محتوى منهج التربية على مواد كسب المهارة وتعلم الصناعات، وإتقان المهارات على اختلاف أنواعها، وبما يتفق مع قدرات المتعلمين واستعداداتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 معايير جودة المحتوى : ومحتوى منهج التربية والتعليم ينبغي أن تحكمه مجموعة من المعايير التي يجب أن تتوافر فيه، وأهم هذه المعايير ما يلي: أولا: أن يكون متسقا مع التصور الإسلامي شكلا ومضمونا، فلا يكون فيه ما يخالف القرآن والسنة نصا أو روحا, ولا يجوز أن يخالف تعاليم السماء. ثانيا: أن يكون هذا المحتوى محققا للأهداف العامة التي سبق ذكرها والأهداف الخاصة المنبثقة منها. ثالثا: أن تتكامل فيه علوم الوحي وعلوم الكون، فكلاهما من آيات الله، فهناك قدر ضروري من علوم الوحي لكل إنسان، فهو فرض عين، ودراسته إلزامية، وهذا القدر مختلف كما وكيفا باختلاف طبيعة كل مرحلة وأهدافها، أما دراسة علوم الكون فهي ضرورية وإجبارية عندما يحتاجها المجتمع، فإذا اكتفى منها فإنها تتحول إلى اختيارية وفرض كفاية. وما سبق يعني ضرورة أن تكون الحقائق والمعايير والقيم الثابتة، وكذلك المعارف والخبرات والمهارات الإنسانية المتغيرة، متكاملة أفقيا: فما يقدم في كل عام وكل مادة في مرحلة معينة أو لمستوى معين لا بد أن يكون مترابطا ومتكاملا، يعضد بعضه بعضا، ويكمل بعضه بعضا، ولا بد أن يكون مترابطا رأسيا أيضا: بمعنى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ما يقدم في المراحل المتتابعة لا بد أن يكون شاملا ومتكاملا، ومتدرجا من العموم إلى الخصوص، ومن البسيط إلى العميق. وخاصية الشمول هذه لا تتوافر بشكل صحيح إلا لمنهج مثل منهج الإسلام في التربية، الذي ينطلق من قاعدة واحدة وتصور واحد، ويهدف إلى غايات ومقاصد متعددة، مع اختلاف الأساليب والطرائق في تحقيقها. رابعا: أن يكون المحتوى مناسبا لنوعيات المتعلمين الصغار والكبار، ففي المدرسة الابتدائية يكون التركيز على تكوين المفاهيم الجوهرية، كمفهوم حقيقة الألوهية، ومفهوم الكون، ومفهوم الإنسان والطبيعة الإنسانية، ومفهوم الحياة. كما يجب أن يركز المحتوى أيضا على تربية الضمير والوجدان من خلال الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، وعن طريق القدوة، والتلقين، والتقليد، ثم التفكير الإسلامي المنظم. وفي المدرسة الإعدادية، يبدأ تساؤل الطلاب عن مصدرهم ومصيرهم، وعلاقتهم بالكون من حولهم، ووظيفتهم في الحياة، وهنا تبرز أهمية تعميق التصور الإسلامي لحقيقة الألوهية، وحقيقة الكون والإنسان والحياة، وطبيعة موقف الإنسان من الكون وعلاقته بالحياة غيبها وشهودها.. وهنا يبدو التلاميذ مشتاقين إلى معرفة النظم التي تحكم العالم من حولهم، وطبيعة النظام الذي يعيشون فيه. وهنا تبدو أهمية دراسة الشريعة والقانون، والاقتصاد والسياسة، والتاريخ والجغرافيا، والطبيعة الإنسانية في التصور الإسلامي، في هذه المرحلة العمرية يختل توازن عمليات النمو لدى التلاميذ.. ووظيفة المنهج هي محاولة إعادة التوازن، والتقليل من الاضطرابات، وتقبل الأوضاع التي تطرأ، والعمق في فهم فطرة الإنسان وطبيعته البشرية التي طبعه الله عليها. وهنا مرحلة اختيار الأصدقاء والأصحاب، وتنمية الولاءات وتنمية مهارات العمل وقوانينه والإحسان فيه، وهنا تظهر أهمية غرس قيم الحرية والمسئولية، والعلم، والعدل، والوحدة، والجهاد، والتعاون، والتراحم، والتكامل.. في هذه المرحلة تظهر المسألة الجنسية بصورة حادة، ومن الخطأ القيام بأي شيء يؤدي إلى كبت الدوافع الجنسية أو استقذارها, والمطلوب من المنهج هو تهيئة الفرص أمام الطلاب لتصريف طاقاتهم بالانشغال في الأعمال المدرسية والاجتماعية الإيجابية البناءة، فالبيئة الغنية بالأعمال الصالحة تخفف من حدة الجنس إلى حد كبير، ومن المهم هنا أيضا إحاطة التلاميذ بجو نفسي واجتماعي فاضل وتهيئة الفرص أمامهم لتوجيه قواهم وطاقاتهم في الدراسات الجادة والأعمال النافعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 خامسا: أن يكون المحتوى نظريا وتطبيقيا إن التصور الصحيح للمعرفة، هو أن تكون نظرية وعملية معا، فالمعرفة "الذهنية" التي لا تتحول إلى سلوك عملي هي معرفة ميتة لا يعتد بها. روى ابن سعد في طبقاته أن أبا عبد الرحمن السلمي قال: "إنا أخذنا هذا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر، حتى يعلموا ما فيهن، ويعملوا بهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به.. وأنه سيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم، بل لا يجاوز حلوقهم". ودلالة هذا أن المعرفة النظرية المجردة، ليست هي المعرفة التي يعتد بها منهج التربية في التصور الإسلامي، لأنها معرفة سطحية وميتة، لا تفعل شيئا في واقع الحياة، ولا ترقي سلوك الإنسان، إذن فوجودها وعدمه سواء، إن هذا يعني أيضا أن محتوى منهج التربية يجب أن يزود المتعلمين بالحقائق والمفاهيم والمهارات والخبرات التي تزيد من إيجابيتهم وفاعليتهم في القيام بإعمار الأرض، وترقية الحياة على ظهرها، وهذا هو مقتضى العبادة، ومقتضى الخلافة في الأرض. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] ، إن الإسلام يبتغي الحركة من وراء المعرفة، ويبتغي أن يستحيل هذه المعرفة إلى قوة دافعة، لتحقيق مدلولها في عالم الواقع، وبذلك يرتبط الإيمان بالله بتنفيذ منهجه، وترتبط المعرفة بالعمل والسلوك في واقع الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الفصل السابع: طرائق وأساليب التدريس عملية التدريس ومراحلها ... الفصل السابع: طرائق أساليب التدريس عملية التدريس ومراحلها: تحدثنا في الفصول السابقة عن أسس المنهج، وعن عنصرين من عناصره، ألا وهما الأهداف والمحتوى، وفي هذا الفصل نتناول بالحديث عنصرا هاما آخر من عناصر المنهج ألا وهو طرائق التدريس، إننا نتصور أن عملية التدريس هي نظام أو نسق يتكون من مجموعة من الأنشطة التي يقوم بها المدرس بقصد مساعدة التلاميذ على تحقيق أهداف تربوية معينة، أي: إن التدريس نشاط هادف يرمي إلى إحداث تأثير في شخصية التلميذ وأنه وسيلة، أما الغاية فهي التعلم أو تعديل سلوك التلاميذ تعديلا يساعد على نموهم المتكامل, ويستند هذا التصور على عدة مسلمات، أهمها: 1- أن الكون كله كتاب مفتوح لمنهج التربية لينهل منه، فجميع الطرائق والأساليب والوسائل المشروعة التي تمكن المربي من تحقيق أهداف منهج التربية بالحق والعدل، هي طرائق وأساليب سليمة، ويمكن اتباعها، سواء الموجود منها الآن، وما سوف يوجد فيما بعد. 2- أن التدريس عملية ذات أبعاد ثلاثة، تتألف من مدرس وتلميذ ومادة تعليمية أو خبرة تربوية, يحاول الأول أن يحدث من خلالها تأثيرا في الثاني. 3- أن التدريس سلوك اجتماعي لا ينشأ من فراغ، وأنه لا بد من وجود تفاعل بين المدرس والتلاميذ وبين التلاميذ والمادة التعليمية أو الخبرات التربوية، ومن هنا تظهر أهمية الدقة في اختيار المحتوى والخبرات التربوية المناسبة، وأيضا الدقة في اختيار الطريقة أو الطرائق المناسبة. 4- أن التدريس سلوك يمكن ملاحظته وقياسه، وبالتالي يمكن ضبطه وتقويمه وتحسينه، ومن هنا فإننا نميل إلى اعتبار أن التدريس علم وفن, وأن المدرس الكفء يصنع ولا يولد. "انظر الشكل". 5- أن التدريس يشتمل على بعد إنساني يتمثل في التفاعل بين المدرس والتلاميذ، وأن المدرس لا يمكن استبداله بآلة أو وسيلة مادية مهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ارتفعت درجة كفاية هذه الآلة، ولذلك فإن ما يعرف بالوسائل التعليمية إنما هي أدوات معينة وليست بديلة. 6- أن التدريس عملية دينامية فيها حركة وتفاعل وتأثر وتأثير وثقة، فالمدرس يسلم بأهمية تلميذه وضرورة مشاركته في الموقف التعليمي، والتلميذ يسلم بقدرة أستاذه على التأثير ومساعدته على تحقيق الأهداف التربوية. 7- أن التدريس عملية اتصال، وأن وسيلتها الرئيسية هي اللغة، أي: إن المدرس يتعين عليه أن يستخدم لغة ما لتوصيل رسالة معينة إلى مستقبل معين. 8- أن عملية التدريس ليست فقط ما يقوم به المدرس داخل الفصل، وإنما هي عملية تتضمن أنشطة كثيرة قبل وأثناء وبعد لقاء المدرس مع التلاميذ. مراحل عملية التدريس: ويمكن تقسيم عملية التدريس إلى ثلاث مراحل رئيسية هي: أ- مرحلة التخطيط أو ما قبل التفاعل. ب- مرحلة التنفيذ أو التفاعل. جـ- مرحلة ما بعد التنفيذ أو مرحلة المتابعة. أما المرحلة الأولى: وهي مرحلة التخطيط فهي مرحلة النشاط الذهني الذي يهدف إلى تحديد الأهداف واختيار أفضل السبل لتحقيقها، فهي مرحلة خالية من التفاعل؛ وذلك لأنها تتم خارج الفصل, كما أنها تمثل نشاطا منطقيا مقصودا, يبدو فيه الموقف التدريسي على أنه موقف سهل ومنسجم الحلقات. أما المرحلة الثانية: وتبدأ بمواجهة المدرس بتلاميذه؛ ولذلك فهي مرحلة تفاعل حي، وهي مرحلة سريعة بأحداثها, وما كان يبدو منطقيا في مرحلة التخطيط يصبح موقفا سيكولوجيا معقدا. أما المرحلة الثالثة: فإن المدرس يحاول فيها أن يقف على مدى تأثيره في التلاميذ, وبالتالي فإنه يكون نظرة دقيقة على مدى فاعلية التدريس, ويحاول أن يستفيد بهذه المتابعة في عملية التدريس. ويجب أن نؤكد هنا على نقطتين رئيسيتين: أولاهما أن هذه المراحل الثلاث متكاملة, وأن التقسيم هنا إنما هو بقصد الدراسة والتحليل فقط، وثانيتهما أنه إذا بدت مرحلة التنفيذ أو التفاعل على أنها أهم المراحل الثلاث وأكثرها ارتباطا بالتعليم إلا أن مرحلتي التخطيط والمتابعة لازمتان لنجاح عملية التعليم، فالتخطيط الجيد يعتبر مفتاحا للتعلم الجيد فهو أشبه بالرسم المعماري بالنسبة للمهندس, يحتوي على إرشادات وتوجيهات وتفصيلات يجب أن تترك للذاكرة أو لمهارة المدرس، وأما المتابعة فإنها تعطي خطا مستمرا من التعزيز ومن مراقبة أثر التدريس وفاعلية أنشطته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الطريقة وعلاقتها بأسس المنهج وعناصره : إن طريقة التدريس ذات صلة وثيقة بأسس المنهج السابق ذكرها، كما أن صلتها وثيقة أيضا بعناصر المنهج التي سبق الحديث عنها وما سوف يأتي منها، فالمنهج وحدة متكاملة البناء، ذات أجزءا مختلفة, ولكن بينها علاقات ذات تأثير وتأثر متبادل. إن تحديد أهداف المنهج بطريقة مناسبة، واختيار المحتوى المناسب لهذه الأهداف، واختيار أفضل الطرائق للتعلم، كل هذا يعتمد على دراسة أسس المنهج ومصادر اشتقاقه، إن تربية الأطفال والشباب لا تتم في فراغ، وإنما تأخذ مكانها في مجتمع معين؛ ولهذا فإن بناء المنهج لا بد أن يعتمد على دراسة ثلاثة عوامل: 1- طبيعة المعرفة The Nature of Knowledge 2 طبيعة الفرد في المجتمع The Nature of Man 3- طبيعة المجتمع The Nature of Society وحاجاته ومشكلاته. وهذا يشمل فيما يشمل، طبيعة المادة، وطبيعة عملية التعلم وكيفية حدوثه، وعلى هذا فإن تطوير المنهج -كما سنشير إلى ذلك في الفصل الأخير من هذا الكتاب- لا بد أن ينطلق من دراسة هذه الطبائع الثلاثة وعوامل التغيير واتجاهاته فيها. إن مخطط المنهج مجبر على مسح وتفسير طبيعة مجتمعه، وقيمه الأساسية الثابتة والعناصر المتغيرة فيه، إن أية محاولة ناجحة لتخطيط منهج في فترة تغير اجتماعي سريع لا بد أن تفهم حاضر المجتمع وواقعه الذي هو عليه واتجاهاته نحو المستقبل، ولأن حاضر المجتمع متأثر بماضيه، إذ فلا بد من فهم الأسس الفلسفية والأحداث التاريخية التي أثرت في وجدان هذا المجتمع وساهمت في تكوين أنماطه السلوكية، إن تخطيط المنهج وتنفيذه بناء على هذا، سوف يتأثر إلى حد كبير بعقيدة المجتمع، وبالقيم الاجتماعية وبالحاجات الاجتماعية والمشكلات الاجتماعية، إن تحليل ماضي المجتمع، وحاجاته ومشكلاته الحاضرة وتطلعاته نحو المستقبل سوف يعين مخطط المنهج ومنفذيه على تحديد أي الأهداف يجب التأكيد عليها وأيها يمكن تركها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وأي الخبرات ضروري وأيها يمكن تركه، وأي القيم يجب تدعيمه وأيها يجب إرساؤه، وأيها يجب القضاء عليه، وهذا يعني أي طرائق التدريس أكثر مناسبة لكل من الأهداف والمحتوى المختار، إن دراسة المجتمع لا بد أن تأخذ في اعتبارها الواقع كما هو عليه, وما يجب أن يكون عليه. أساس آخر يجب أخذه في الاعتبار عند تحديد الأهداف التعليمية واختيار المحتوى وطرق التدريس المناسبة، هو طبيعة المتعلم، حاجات نموه، نتائج نموه، خبراته واهتماماته، ودوافعه، وطموحاته، وعلاقاته الاجتماعية، إن المنهج هو خطة للتعلم، ولهذا فإن معرفة المتعلم يجب أن تحدد أي الأهداف يمكن تحقيقها وتحت أي ظروف، يجب أيضا معرفة متى تصبح العملية التعليمية أكثر فاعلية وتحت أي شروط، وما العوامل التي يجب توافرها لإنجاحها. أساس ثالث هو طبيعة الثقافة، وطبيعة المعرفة ومصادر المعرفة، والسمات الخاصة للإسهامات الفريدة للمواد الدراسية في تكوين محتوى المنهج، فالنظم التعليمية تختلف باختلاف ثقافاتها, وباختلاف فهمها لطبيعة المعرفة, والأهمية التي تعطيها للمواد الدراسية المختلفة، إن المواد الدراسية تختلف في تركيبها وطبيعة تكوينها وبالتالي تختلف في إسهاماتها في المناهج الدراسية، كما أنها تختلف في إسهامها في المنهج حسب الأهمية المعطاة لها في المجتمع، إن كل مادة دراسية تساهم بقدر مختلف في النمو العقلي والاجتماعي والجسماني للفرد، إننا اليوم بخاصة في عصر التدفق المعرفي بحاجة إلى إعادة دراسة المواد الأساسية التي تتكون منها موضوعات الدراسة للتأكد من المفاهيم التي تنظم حولها المواد الدراسية، وللتأكد من أنها تتفق مع التطورات في هذه المواد، وهكذا نرى أن هناك علاقات أساسية بين أساسيات المنهج وعناصره، ومنها طرق التدريس. الطريقة كعنصر من عناصر المنهج: يجب أن نبادر بالقول بأن الفصل بين المناهج وطرق التدريس هو فصل مصطنع, قصد به التنظيم وإتاحة الفرصة لدراسة طرق التدريس المختلفة وإستراتيجياتها وفلسفاتها، إن تحديد طريقة التدريس المناسبة تعتمد على وضوح العلاقات الأساسية بينها وبين كافة عناصر المنهج الأخرى، وبدون وضوح لهذه العلاقات تصبح طريقة التدريس مجرد جهد يبذله المدرس دون جدوى، والطريقة كعنصر من عناصر المنهج لها أهمية متميزة، فنحن حينما نقول إن هناك مستويين للمنهج أحدهما تخطيطي والآخر تنفيذي فإننا نقصد أن تناول المنهج على المستوى التخطيطي تقترن به عمليات التصميم والبناء وهو الأمر الذي يحمل الخبراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 مسئولية، كما نقصد بالمستوى التنفيذي مجموع المواقف التعليمية التي يشترك فيها المعلم مع تلاميذه في تنفيذ المنهج في الاتجاه المرغوب فيه, أي: في اتجاه ما حدد للمنهج من أهداف. وعلى ذلك فإنه لمن الصعوبة بمكان أن نفصل محتوى المنهج عن الطرق المتبعة في تدريسه، كأن نقول هنا ينتهي المحتوى وتبدأ الطريقة، فمثلا لو أن التلاميذ يناقشون بعض الموضوعات، فإن الموضوعات وما يقوله التلاميذ أو المدرس عنها يعتبر محتوى، بينما المناقشة هي الطريقة المتبعة في هذا الموقف التعليمي, إن المحتوى والطريقة أو الطرق تأتي سويا مع التلاميذ والمدرس في الموقف التعليمي الذي يمكن أن يوصف بأنه علاقة مخططة ومحكمة بين التلاميذ والمدرس والمادة التعليمية، والوسائل المعينة وعوامل البيئة الاجتماعية بقصد تعديل سلوك التلاميذ في الاتجاه المرغوب إن الطريقة، كعنصر في الموقف التعليمي، تشمل العلاقات بين التلاميذ، والمدرس، والمواد التعليمية، وتنظيم محتوى المنهج، وطريقة عرض هذا، المحتوى إلى التلاميذ، والأنشطة التي يقوم بها المدرس والتلاميذ. ومن الصعوبات الكبيرة التي تواجه المدرس في موقف تعليمي أنه لا يوجد تلميذان يكتسبان نفس الخبرة التعليمية بالضبط، فحتى عندما يتحدث المدرس مباشرة إلى التلاميذ، فإن بعضهم سوف يسمع أشياء مختلفة، وبعضهم سوف يفسر ما سمع بطريقة مختلفة، وبعضهم سوف يبقي على أشياء مما سمع ويحرص عليها تختلف عن الآخرين، إن كل تلميذ سوف يساهم في الموقف التعليمي بقدر وبطريقة تختلف عن الآخرين، وإن مسئولية المدرس هنا هي أن يلائم بين هذه الخبرات المختلفة ويوجهها بطريقة تؤدي إلى تحقيق الأهداف المرغوبة والمحددة سابقا، إن الطفل الذي جاء من بيئة غنية اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا سوف يساهم في الخبرات التعليمية بطريقة تختلف تماما عن الطفل الذي جاء من بيئة فقرة. إن اختلاف التلاميذ باختلاف بيئاتهم وشخصياتهم يتطلب تنوعا في المحتوى التعليمي والخبرات المثيرة والطرق المناسبة أو ما يراه المدرس مناسبا، إن مناسبة المحتوى أو الخبرات أو طريقة التدريس أو عدم مناسبتها يمكن الحكم عليها عندما يقيس المدرس المخرجات التعليمية، أو عندما يكتب أو يقرأ أو يعمل أو يتكلم التلميذ، عندئذ سوف يحكم المدرس على مدى مناسبة طريقته أو مدى فاعلية الخبرات التي يعلمها للتلاميذ. هل هناك طريقة مثلى؟ إن طرائق التدريس تلقى من العناية أكثر مما يلقى أي عنصر آخر من عناصر المنهج، فالكتب المتخصصة تهتم بها كل في ميدانه، ويتم تدريب المدرس عليها قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وأثناء الخدمة، وبالرغم من هذا فهناك سوء فهم للطرائق ووظيفتها ومكانها في المنهج، وربما بسبب الأهمية المعطاة لها في مؤسسات إعداد المعلمين، وفي برامج تدريس المدرسين أثناء الخدمة، فإن بعض المدرسين قد يعتبرونها أهم عنصر في المنهج، كما أن هذا الاتجاه قد قوي أيضا؛ لأن المدرسين الأوائل والموجهين يدخلون الفصول الدراسية ويلاحظون المدرس والطريقة التي يتبعها في عرض الدرس, حقيقة إن طرق التدريس هي أوضح عناصر المنهج عندما تذهب إلى المدرسة، ولكن لا يجب الحكم عليها منفصلة عن بقية العناصر، حيث إن قيمة الطريقة أو الطرق المتبعة تبرز من خلال مدى تحقيقها للأهداف المرغوبة. إن هناك تعبيرا شائعا عن طرائق التدريس، فقد يقول مدرس أو تربوي: إن هذه الطريقة أفضل من ذاك، وقد يعتقد البعض أن طريقة النشاط، أو طرق الاستكشاف، أو الطرق التقدمية أو الطرق التقليدية أفضل من الطرق الأخرى، وهنا نرى أن الطريقة قد حكم عليها بمعزل عن بقية عناصر المنهج، وكأن لها قيمة في حد ذاتها وليس في علاقتها بنوعية المحتوى التعليمي ونوعية الأهداف المراد تحقيقها، إن هناك أنواعا معينة من الأهداف التعليمية يمكن تحقيقها أفضل وأسرع باستخدام طرق معينة، فمثلا تنمية الاتجاهات والقيم تعتمد في تحقيقها على الطرق المتبعة أكثر من اعتمادها على نوعية المحتوى المختار، وباختصار فإن نوعية الأهداف والمحتوى، ونوعيات التلاميذ، والوسائل التعليمية المتاحة، ونوعية المدرس وطريقة إعداده الأكاديمية والمهنية، وكذلك البيئة المحيطة، كل هذا يؤثر في اختيار الطريقة أو الطرائق. إننا حتى الآن لم نفهم بطريقة كاملة أي الطرق أفضل في تحقيق أهداف معينة، إن هذه النقطة ما زالت في حاجة إلى بحوث ودراسات. إن كل ما نفعله هو أننا نختار طريقة أو أكثر على افتراض أنها قد تكون هي الأفضل في الأداء من أجل تحقيق أهداف معينة، وفي مرحلة التقويم قد نفهم ما إذا كانت افتراضاتنا صحيحة أم خاطئة. إن هناك اتجاها لدى بعض المدرسين مؤداه أن طرقا معينة للتدريس قد تكون أفضل بالنسبة لتلاميذ معينين، وهذا نتيجة لاستعمال بعض الطرق كالطريقة غير المباشرة والطرق الحرة مع التلاميذ الضعاف، ولكن هذه الطرق تكون مناسبة لهؤلاء التلاميذ في ظروف معينة، وقد تكون مناسبة أيضا للتلاميذ القادرين. وهكذا نرى أن تنوع المحتوى والخبرات التعليمية يؤدي إلى تحقيق الأهداف المختلفة، وأن تنوع الطرق يؤدي نفس الغرض، وبطريقة أخرى يمكن القول أن المنهج الذي يحتوي على مجموعة من الأهداف المتنوعة يحتاج من أجل تحقيق هذه الأهداف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 إلى تنوع في المحتوى والخبرات وإلى تنوع في الطرق المستخدمة في التدريس إن تنوع طرق التدريس يزيد من اهتمام التلاميذ، ويزيد من احتمال تعلمهم جميعا، حيث إن كل التلاميذ لا يتعلمون بطريقة واحدة. من كل ما سبق تتضح لنا المبادئ العامة التالية: 1- إن التدريس عملية معقدة لها أصولها العلمية ومهاراتها الفنية، وأنه يمكن أن يتعلم الفرد هذه الأصول ويتدرب على هذه المهارات حتى تزداد فاعليته، فالمدرس الكفء يصنع ولا يولد. 2- إن عملية التدريس تقتضي أكثر من الإعداد الأكاديمي، فقد يكون الإنسان عالما في مادة ما ولكنه لا يعرف كيف يدرسها، ولذلك لا بد من الإعداد المهني بجانب الإعداد الأكاديمي. 3- إن التدريس نشاط إنساني، يتكون من خلال علاقات إنسانية بين المدرس والطالب، ولذلك فالمدرس لا يمكن استبداله بآلة أو وسيلة مهما بلغت درجة دقتها وفاعليتها. 4- إن التدريس عملية دينامية يتفاعل فيها المدرس مع التلميذ، ويسلم كل منهما بأهمية مشاركة الآخر في تحقيق الأهداف. 5- إن التدريس عملية اتصال, وأن وسيلتها الرئيسية هي اللغة. دور المدرس Role of the teacher: إن التغير والتنوع في الطرق طبقا لنوعيات الأهداف وطبيعة المحتوى تخلق مشاكل للمدرسين, وخاصة هؤلاء الذين تعوزهم الخبرة في هذا المجال، وإحدى هذه المشكلات أن يفهم المدرس دوره المختلف حسب مقتضيات كل طريقة، فبينما الطريقة التقليدية تقتضي أن يحتل المدرس وضعا مركزيا، وأن يعرض محتوى المادة التعليمية، وأن يقود ويسيطر على ما يحدث في الفصل الدراسي نجد أن طريقة الاستكشاف Discovery Method تقتضي منه أن يلعب دورا مختلفا تماما، فإذا كانت الأهداف المطلوب تحقيقها تهتم بتعليم مفاهيم معينة، والقدرة على الاستقلال في الدراسة، والقدرة على العمل المنتج مع الآخرين، فإن على المدرس هنا أن يخطط المواقف التعليمية التي تتيح للتلاميذ أن يعملوا باستقلال، وأن ينشدوا المعرفة بأنفسهم، وأن يقوموا أفرادا وجماعات بالتخطيط والعمل، هنا نجد أن المدرس ليس هو محور الارتكاز وليس واسطة بين التلاميذ والمواد والخبرات التعليمية، هو هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ليس مفسرا أو متسلطا، وإنما هو مستشار أو ناصح، أو مكتب استشاري للتخطيط والإرشاد والأفكار. إن العلاقة بين المدرس والتلاميذ سوف تتنوع أيضا حسب أوضاع التلاميذ أنفسهم، وهل هم يعملون في جماعات أم أفرادا، أم هم يكونون فصلا دراسيا، كما أن هذه العلاقة سوف تتنوع أيضا تبعا لمقدار لتوجيه والعناية التي يعطيها المدرس، ففي الموقف التعليمي الذي يسيطر فيه المدرس على مقدرات كل شيء، هنا المدرس ذو سلطان عظيم، وهو مصدر المعرفة الوحيد، فكره وحكمته غير قابلتين للمناقشة، ولكن الموقف يختلف في موقف تعليمي غير تقليدي، فإذا كان الموقف قد خطط كي يتعاون التلاميذ بتوجيه من المدرس على حل مشكلة ما, والبحث عن أساسها, واكتشاف العناصر التي أدت إلى تكوينها وتعقيدها ثم طرح البدائل لحلها، مع الأخذ في الاعتبار حساب النتائج التي قد تترتب على كل حل، في هذا الموقف يناقش المدرس مع تلاميذه عملهم، وقد يقترح عليهم بعض الأفكار، أو الوسائل, مع الأخذ في الاعتبار أن مقترحاته ليست دائما مقبولة، إن المدرس في الموقف التعليمي المرن لا بد أن يعترف بأنه يتعلم بجانب تلاميذه، وأن العملية التعليمية ذات اتجاهين is a tow-way process Learning إن المعلم في هذا الموقف لديه النية على إعطاء تلاميذه مسئولية أكبر في عملية تعلمهم، وعلى تدريبهم على إصدار الأحكام وحرية الاختيار، إن هذا لا يعني أن المدرس سوف يتنازل عن مسئوليته، بل على العكس من ذلك إن عليه دورا إيجابيا وهاما، ولكن ذو نوعية مختلفة، كما أنه سوف تبقى له الكلمة النهائية، ولكن سلطته سوف تكون أقل وضوحا وأقل ضغطا. الإعداد Preparation: سبق أن تحدثنا عن أن عملية التدريس ذات مراحل ثلاث، مرحلة الإعداد والتخطيط، ومرحلة التنفيذ والتفاعل، ثم مرحلة التقويم والمتابعة، إن الإعداد للطرائق المختلفة يخلق صعوبات للمدرس، فطبيعة الإعداد تختلف طبقا لاختلاف الطريقة المستخدمة والوقت المستخدمة فيه، فالإعداد للطريقة التقليدية إعداد مسبق للموقف التعليمي, وقد يشتمل هذا على اختيار المستخلصات من الكتب المقررة، واختيار الصور أو الأفلام أو أية وسائل معينة أخرى، كما يتضمن الإعداد هنا أيضا القرارات التي يتخذها المدرس لما سوف يقوم هو والتلاميذ بعمله بالفعل، مثل المناقشة، والقراءة، والكتابة، والتساؤلات والإجابات ... إلخ. قد يحدث الإعداد لطريقة الاستكشاف مقدما أيضا، ومن المحتمل أن يشمل هذا الإعداد التأكد من وجود المواد التعليمية مثل الكتب والمراجع والأفلام والشرائط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 والصور وكل الوسائل اللازمة والتي تتيح للمتعلم اكتشاف المفاهيم المرغوبة، إن مناقشة التلاميذ حول ما يجب أن يقوموا به لا يجب أن تحدث إلا بطريقة عامة جدا لا تتعرض للتفصيلات، إن مهمة الدرس هنا هي أن ينظم المواقف التعليمية بطريقة تساعد على تحقيق الأهداف التعليمية. إن المدرس هنا يستخدم ذاته ويوظف كفاءته ويستخدم مهارته؛ لمساعدة التلاميذ على تحقيق أهدافهم، والعبرة هنا ليست بكمية التدريس أو حجم المادة التعليمية أو الجهد الذي بذله المدرس في عملية التدريس بقدر ما هو نتاج التدريس, وأثره في تحقيق الأهداف التربوية المنشودة، وهنا يجب أن نوضح أن المدرس لا يسبب التعلم بقدر ما يعمل على تسهيل تحقيقه أو مساعدة التلاميذ على تحقيقه، أي: إن التلميذ لا بد أن ينشط ما جانبه وتكون لديه حاجة إلى ما يدرس ودافعية لما يتعلم, وأن المدرس يقوم بعملية التوجيه والإرشاد، والتدريس بهذا المفهوم هو نشاط ملموس ملحوظ يمكن وصفه ويمكن تحليله, كما يمكن قياسه من خلال قياس أثره أو نتائجه بملاحظة التغيرات السلوكية التي يمر بها التلاميذ، وبالتالي فإن التدريس يمكن ضبطه وتقديمه، ويمكن تزويد المدرسين، قبل وأثناء الخدمة، بالحقائق والمفاهيم والتعميمات والمهارات التي تسهل من مهمتهم وتزيد من فاعليتهم. حفظ السجلات Record Keeping: إن تصميم سجل خاص بكل تلميذ يصبح أكثر صعوبة في المواقب التعليمية التي تتنوع فيها الطرائق المستخدمة، لأن التنوع يعني وجود قدر عظيم من المرونة والاهتمام بالفرد في الموقف التعليمي، ومع ذلك فإن الاهتمام بعمل سجل خاص بكل تلميذ أمر في غاية الأهمية، إنه مهم لتقويم تقدم التلميذ نحو الأهداف، كما أنه مهم لتوفير الدلائل التي سوف تتخذ القرارات الخاصة بالمنهج في المستقبل بناء عليها، وإذا كان تنوع الطرق وهجر الطريقة التقليدية إلى الطرق التي تركز على المناقشة المضبوطة والاكتشاف والابتكار يزيد من صعوبة عمل سجلات للتلاميذ، فإن لذلك ميزات أيضا، حيث إن المدرس هنا أكثر حرية في ملاحظة الأفراد، وفي مكان أفضل لمعرفة التلميذ جيدا، وبالتالي تقويم مدى تقدمه نحو الأهداف بدقة. التجميع Grouping: 1- إن استخدام طرق متنوعة للتدريس من أجل تحقيق الأهداف المختلفة، قد يستلزم تجميع أو تصنيف التلاميذ في مجموعات مختلفة, إن حجم المجموعة يتراوح ما بين اثنين من التلاميذ إلى كل تلاميذ الفصل، وقد يكون التجميع على أساس القدرات المتماثلة أو القدرات المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 2- والقاعدة هنا أن طريقة التدريس المتبعة هي التي سوف تستلزم نوعا معينا من التجميع، كما أن أسلوب التجميع قد يكون تحقيقا للأهداف المرغوبة. 3- وقد يكون طبقا للجنس، أو على أساس الصداقة, أو على أساس المهارات المتكاملة. 4- والتجميع عادة ما يتم على أساس أفقي، كأن يتم التجميع من فصل واحد، أو من تلاميذ سنة واحدة، ولكن قد يكون التجميع أيضا على أساس رأسي لخدمة بعض الأهداف التربوية، ففي كثير من المدارس الابتدائية يتم التجميع على هذا الأساس، أما التجميع الرأسي في المدارس الثانوية فهو ليس كثيرا, وإن كان من مظاهره النوادي العلمية والجماعات والرحلات والمعسكرات.. إلخ، إن المجموعات يجب أن تظل قائمة حتى ينتهي الغرض منها، ولكن يجب أن تكون هناك مرونة بين المجموعة بحيث تسمح لبعض أعضائها بالانتقال المؤقت أو الدائم إلى مجموعات أخرى إذا اقتضى الأمر ذلك. إن التنظيم الجيد الهادف أمر في غاية الأهمية بالنسبة للمدرسة والفصل الدراسي، ولكن طبيعة التنظيم قد تختلف طبقا لنوعية الطريقة المستعملة، إن طريقة تنظيم الفصل الدراسي في صورة صفوف هي طريقة غير مجدية في كثير من الأحيان، حيث إن تلاميذ الصفوف الأولى هم الذين يشاركون في معظم الأنشطة والمناقشات، أما تلاميذ الصفوف الخلفية فهم غالبا في حالة ركود، حيث إنهم لا يسمعون حديث المدرس ولا حديث زملائهم، كما أنهم لا يرون إلا مؤخرة رءوس زملائهم، إذا حانت لهم فرصة الكلام اضطر الجميع للدوران نحو الخلف ليروا المتحدث، إن هذا النوع من النظام لا يساعد أبدا على التفاعل واشتراك كل التلاميذ في الأنشطة التعليمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الوسائل التعليمية : لقد سبق أن قلنا: إن جميع التلاميذ لا يتعلمون جيدا من خلال طريقة واحدة للتدريس، وإننا يجب أن نتقدم نحو تخطيط منهج يمكن تعديله وتطويره ليناسب التلاميذ أفرادا وجماعات. وعلى هذا فقد يكون من الحكمة عند تصميم برنامج أن يراعى وجود مجموعة من الحقائق, والمفاهيم والتعميمات, والمهارات كحد أدنى لجميع التلاميذ، ثم يراعى بعد ذلك بدائل, بحيث تشبع الرغبات والحاجات المتنوعة لكل تلميذ أو مجموعة من التلاميذ، إن الصعوبة تكمن في تصميم ذلك المنهج الذي يحتوي على مواد وخبرات أساسية للجميع, وأخرى متنوعة بحيث تلبي الحاجات المتنوعة طبقا لاختلاف الفروق الفردية بين التلاميذ، إن تصنيف التلاميذ في مجموعات متجانسة أو مختلفة عند التدريس لهم قد يكون حلا لهذه المشكلة. وقد تحل هذه المشكلة أيضا عن طريق التنوع في الطرائق المستخدمة في الموقف التعليمي الواحد، واستخدام أفكار جديدة ذات صلة بحياة التلاميذ ومشكلاتهم، وأيضا استخدام الوسائل المعينة على المنهج, وتغيير السلوك في الاتجاه المرغوب، وعلى هذا فالمنهج المطلوب هنا هو الذي تتوازن فيه الأنشطة التي تنمي الجوانب المعرفية والوجدانية والحركية في التلميذ، ليس هناك مهرب من حقيقة أن عمل منهج مثل هذا وتطبيقه أمر في غاية الصعوبة، فهو يتطلب مدرسا معدا إعدادا أكاديميا ومهنيا جيدا، ولكن يمكن القول بأن تزايد الموجود من الوسائل السمعية والبصرية؛ قد يساعد المدرسين في مهمتهم، ولكن على المدرسين أن يكونوا مدربين أثناء إعدادهم على استخدام هذه الوسائل، هناك كثير من الوسائل التي أصبحت مستعملة بواسطة كثير من المدرسين مثل الكتب، والصور، والأفلام، والشرائح، والتسجيلات، والشرائط، والراديو، والتليفزيون.. إلخ، ولكن المشكلة ليست في استعمال هذه الوسائل بواسطة معظم المدرسين ولكن في طريقة استعمالها، إن التلاميذ أفرادا أو جماعات قد يستخدمون وسائل معينة لتحقيق أغراض معينة، كما أنهم قد يستخدمون بعض الوسائل بمهارة، فقد اعتادوا هذه الأيام على استخدام المعدات والمخترعات الحديثة في المنزل، مثل التليفزيون وأجهزة التسجيل، وماكينات الغسيل الأتوماتيكية وماكينات الخياطة الأتوماتيكية.. إلخ. إن استخدام الوسائل السمعية والبصرية في التعليم ليس جديدا، فقد تم التوسع في استخدامها تدريجيا منذ العشرينات من هذا القرن, بحيث أصبح من الممكن لمدرس أن يستخدم العديد من هذه الوسائل لتعريف تلاميذه سمعيا وبصريا بأجزاء من العالم، إن عالم اليوم هو عالم الصور، عالم الأقمار الصناعية، والسينما والتليفزيون، ولا ريب أن إنشاء جسر بين عالم المعاني والأفكار النظرية وعالم المدركات الحسية من الأمور الأساسية في التعليم، كما أن سد هذه الفجوة من أهم الأمور التي يجب أن يقوم بها المنهج، على أن إدخال الوسائل المعينة في عملية التدريس ليس بالأمر اليسير، فهو يتطلب مراعاة الدقة في اختيار المادة العلمية والأجهزة المناسبة لها والطريقة الصحيحة لاستخدام هذه الأجهزة, ولا يستطيع المدرس بمفرده أن يقوم بكل هذه المسئوليات، فهذا يقتضي تعاون الخبرات في عملية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 تخطيط المنهج، كما أنه يقتضي تعاون أعضاء هيئة التدريس في عملية تنفيذ المنهج وتوزيع العمل بينهم، كما يقتضي أيضا تعيين فني أو فنيين للإشراف على الأجهزة وإعدادها للاستخدام، كما أنهم يجب أن يكونوا معدين للعمل كمستشارين للمدرسين. إن المدرسة لا تستطيع السيطرة الشاملة على الوسائل المعينة في التدريس داخل نطاق جدرانها، ذلك أن المشكلة تكمن في كيفية الإفادة في الحياة المدرسية بالتجارب التي اكتسبها التلاميذ في وقت فراغهم، كمشاهدين للتليفزيون وكمستمعين للراديو وكمستخدمين لأدوات أتوماتيكية كثيرة في منازلهم، كما تكمن أيضا في الطريقة التي يمكن بها للمدرسة أن تتحكم في اختيار ما يشاهده ويستمع إليه ويستخدمه التلاميذ الصغار في وقت فراغهم، وعلى هذا فانتقاء بعض البرامج، وتوجيه التلاميذ إليها، ومناقشتهم في مضمونها وما تعالجه من مشكلات، وما قدمته من حلول، كل هذا يقع في دائرة مسئوليات المدرسين كل في مجال تخصصه. وعلى هذا فليس من نافلة القول إن الإذاعة المرئية والمسموعة ذات فائدة محققة في تعليم التلاميذ، يضاف إلى ذلك أن استخدام التليفزيون ذي الدائرة المغلقة يجمع بين المزايا الناجمة عن قيام المدرسة بإرسال البرامج, وإفادة عدد كبير من التلاميذ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 طرائق التدريس مدخل ... طرائق التدريس: على أننا لا يجب أن نعلق كثيرا من الآمال على هذا، حيث إن طبيعة المادة التعليمية، وطريقة التدريس المتبعة سوف تحبذان نوع الوسائل التي تتوافر فيها الشروط الأساسية لعملية التعليم. على أنه في كل حال يجب مراعاة ما يأتي: 1- سوف تظل الكتب المدرسية والمراجع، والمواد المكتوبة عموما مصدرا لا غنى عنه للدراسة الفردية، والتعلم الجماعي المقصود. 2- يمكن أن تقدم وسائل الاتصال العامة كالراديو والتليفزيون كثيرا من المهام المتصلة بالعرض الموضوعي للمادة العلمية والخبرات التعليمية. 3- يقوم المدرس أو المدرسون أثناء حوارهم وعملهم الخلاق المشترك مع التلاميذ بدور هام في مراجعة معلومات تلاميذهم وتصحيحها، وفي إرشادهم وتوجيههم إلى البرامج والمصادر التي يمكن الاستفادة منها في تنمية قدراتهم واستعداداتهم. ونتناول فيما يلي أهم الطرائق والأساليب التي ينبغي أن تتبع في مواقف التعلم المختلفة، ومن أهمها: طريقة القدوة ، وطريقة المحاضرة، وطريقة المناقشة، وطريقة حل المشكلات، وطريقة الملاحظة والتجربة.. إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 طريقة القدوة : القدوة هي أفضل وسائل التربية على الإطلاق، وأقربها إلى النجاح، فمن السهل تخيل منهج أو تأليف كتاب في التربية، لكن هذا المنهج يظل حبرا على ورق ما لم يتحول إلى حقيقة تتحرك في واقع الأرض، وإلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره مبادئ هذا المنهج ومعانيه1، لذلك فعندما أراد الله لمنهجه أن يسود الأرض، ملأ به قلب الإنسان وعقله؛ كي يحوله إلى حقيقة في واقع الأرض، فكان أن بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- ليكون قدوة للناس في تطبيق هذا المنهج: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46] . وهكذا، أرسل محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون قدوة للناس في تطبيق منهج الله في واقع الأرض، فكان عليه الصلاة والسلام هاديا ومربيا بسلوكه الشخصي، وليس فقط بالكلام الذي ينطق به قرآنا أو حديثا، وعن طريق القدوة، بالإضافة إلى القرآن والسنة، أنشأ محمد -صلى الله عليه وسلم- الأمة التي قال الله فيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] . وهكذا، يرى الإسلام أن القدوة هي أعظم طرق التربية، ويقيم منهجه التربوي على هذا الأساس، فلا بد للطفل من قدوة في والديه ومدرسته كي يتشرب المبادئ الإسلامية ويسير على نهجها، ولا بد للكبار من قدوة في مجتمعهم تطبعهم بطابع الإسلام وتقاليده النظيفة، ولا بد للمجتمع من قدوة في قيادته بحيث يتطلع إليها ويسير على منوالها، ولا بد أن تكون قدوة الجميع هي شخصية الرسول التي تتمثل فيها كل مبادئ الإسلام وقيمه وتعاليمه. إن القدوة إذا كانت حسنة فإن الأمل يكون كبيرا في إصلاح الطفل، وإذا كانت القدوة سيئة فإن الاحتمال الأرجح هو فساد الطفل، وقدرة الطفل على المحاكاة الواعية وغير الواعية كبيرة جدا، فهو يلتقط بوعي وبغير وعي كل ما يراه حوله أو يسمعه، فالطفل الذي يرى أباه أو أمه تكذب لا يمكن أن يتعلم الصدق، والطفل الذي يرى أمه تغش أباه أو أخاه أو تغشه هو نفسه لا يمكن أن يتعلم الأمانة، والبنت التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 ترى أمها مستهترة لا يمكن أن تتعلم الفضيلة، والطفل الذي يقسو عليه أبواه لا يمكن أن يتعلم الرحمة. وحين توجد القدوة الحسنة متمثلة في الأب المسلم، والأم ذات الدين، والمعلم الفاضل، فإن كثيرا من الجهد المطلوب لتنشئة الطفل على الإسلام يكون ميسورا وقريب الثمرة في ذات الوقت؛ لأن الطفل سيتشرب القيم الإسلامية من الجو المحيط به بطريقة تلقائة، وليس معنى هذا أن الطفل لن يحتاج إلى جهد على الإطلاق في عملية التربية، أو أنها ستتم تلقائيا عن طريق القدوة وحدها، ولكن الذي يمكن قوله هنا، إن القدوة الطيبة هي دائما قيمة موجبة، يحدث بإزائها قدر مساو من الجهد الذي يجب بذله. هذه هي الطريقة التي ربى بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمة الإسلام الأولى ومن سار على نهجها من التابعين، وقد يكون من المناسب في هذا الصدد أن نذكر ما كتبه عمرو بن عتبة بن أبي سفيان إلى مؤدب ولده، يقول له: "ليكن أول ما تبدأ له من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينيك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم، وروهم سير الحكماء، وأخلاق الأدباء، وجنبهم محادثة النساء، وتهددهم بي، وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل الدواء حتى يعرف الداء، وإياك أن تتكل على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك"1.   1 الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق حسن السندوبي، ج2، ط4، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، 1956م، ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 طريقة المحاضرة : إن عملية التدريس هي نظام يتكون من مجموعة الخبرات والأنشطة التي يقوم بها المدرس, من أجل مساعدة التلميذ على تحقيق أهداف معينة. إن هذا يعني أن عملية التدريس وسيلة لتعديل السلوك. ويستند هذا التصور إلى مجموعة من الأسس، وهي أن عملية التدريس تتألف من مدرس وتلميذ ومادة تعليمية، وأنها سلوك اجتماعي يمكن ملاحظته وقياسه، وبالتالي يمكن تعديله، وأنها عملية إنسانية يتم التفاعل فيها بين المدرس والتلميذ، كما أنها عملية تساءول وسيلتها الرئيسية اللغة، فالمحاضر يختار ألفاظا وجملا وتراكيب بقصد مساعدة طلابه على استحضار المعاني التي يريد توصيلها إليهم. إن المحاضرة طريقة من طرق التدريس التقليدية، وهي لذلك طريقة قديمة يستخدمها المدرس في كل المستويات التعليمية منذ أمد بعيد، وقد ازدادت أهيمة المحاضرة بسبب الانفجار السكاني والتوسع الهائل في التعليم, وبالتالي زيادة أعداد الطلاب وازدحام الفصول الدراسية, ونقص المدرسين وأعضاء هيئات التدريس على جميع المستويات التعليمية. وتعتمد طريقة المحاضرة، في شكلها التقليدي على مجموعة من المسلمات منها: أن التلميذ كالإناء الفارغ وأن المدرس خازن للمعرفة، وأن عملية التعليم هي عملية ملء هذا الإناء وحشوه بالمعارف. فالافتراض هنا هو أن التلميذ مستقبل سلبي، وأنه ولد كالصفحة البيضاء، وأن مهمة التدريس هي أعداد التلميذ للحياة عن طريق إمداده بالخبرات التي تساعده في مستقبله، فالافتراض هنا هو أن المدرس مرسل وأن التلميذ مستقبل، وأن المدرس يحرص على توصيل رسالته إلى المستقبل، وأن المحاضرة وسيلة هامة لذلك. إن هذا الافتراض ليس صحيحا بالطبع؛ لأن التلميذ ليس إناء فارغا، وليس صفحة بيضاء، وإنما هو إنسان لديه خبرات سابقة، وهو ليس سلبيا؛ لأنه عندما يستمع للمحاضر فإنه يقوم بترجمة الرموز التي يستمع إليها, ويعطيها معاني معينة ثم يفهم الكلام ويحلله ويفسره وينتقده ويقومه، وعلى ذلك فالتلميذ ليس سلبيا بحال من الأحوال. مزايا طريقة المحاضرة: وبالرغم من عدم صدق معظم المسلمات التي تقوم عليها المحاضرة, فإن لها مميزات كثيرة، ومن هذه المميزات ما يلي: 1- أنها طريقة اقتصادية، حيث إن الانفجار السكاني وما أدى إليه من زيادة كثافة الفصول الدراسية والمدرجات الجامعية, جعل طريقة المحاضرة هي الحل الوحيد في هذا الموقف، حيث إنها تناسب الأعداد الكبيرة في الوقت الذي يتعذر فيه عقد حلقات دراسية في مجموعات صغيرة للمناقشة، وبالتالي تساعد على خفض التكاليف. 2- أنها طريقة تعتمد على الإعداد المسبق، وتحديد الأهداف، وإعداد المادة التعليمية وتنظيمها بطريقة مناسبة، كما أنها تعتبر طريقة مناسبة تعرض أكبر قدر من المواد والخبرات التعليمية. 3- أنها تجعل المحاضر يشعر بالامتياز والسيطرة وربما يدفعه هذا إلى محاولة تأكيد ذلك عن طريق تحسين مادته وتجويدها وتحسين طريقة عرضه لها، كما أنها تعطيه الحرية في إعداد هذه المادة وتنظيمها بالشكل الذي يراه مناسبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 4- إن المحاضرة الجيدة تسمح بالنقاش وتثير التساؤلات، وبذلك فالمحاضر الجيد هو الذي لا يتطرق إلى الجزئيات البسيطة والتفاصيل الدقيقة، وإنما يطرح قضايا تثير التساؤلات وتدفع إلى الدراسة والبحث. 5- وبما أن هذه الطريقة تعتمد على الإعداد المسبق، فإنها تتيح الفرصة للمتعلمين للانتقال من البسيط المعروف إلى المعقد غير المعروف، كما أن المحاضر يستطيع أن يقوم محاضرته, ويقوم عرضه لها عن طريق طرحه لبعض التساؤلات وتلقي الإجابة عليها، وأيضا عن طريق تلقيه لبعض تساؤلات الطلاب واستخدام بعض التسجيلات الصوتية وغير ذلك. عيوب طريقة المحاضرة: وكما أن للمحاضرة مزايا فإن لها عيوبا نذكر منها ما يلي: 1- أنها تفترض سلبية المتعلم وأنه مستقبل فقط، كما أنها لا تحترم الفروق الفردية بين الطلاب، وذلك لأنها تفترض أن الجميع يفهمون بنفس السرعة, وبالتالي فهي لا تأخذ في الاعتبار الطلاب الضعاف, كما لا تتحدى قدرات الأقوياء منهم. 2- ولأنها تفترض سلبية المتعلم وقصور دوره على تلقي المعرفة فقط، فإنها لا تشجع في معظم الأحيان على المناقشة والتساؤل, وتفاعل الطلاب مع المحاضر. 3- أنها لا تناسب بعض أنواع التعلم, كتعلم المهارات Psychomotore Skills كما أنها إذا كانت تناسب المستويات الدنيا في التعلم المعرفي كالحفظ والتذكر, فإنها لا تناسب المستويات العليا منه كالتحليل والتفسير والتقويم. ومع ذلك يمكن تقليل عيوب طريقة المحاضرة وزيادة فاعليتها في التدريس عن طريق بعض الإجراءات والوسائل، ومنها ما يأتي: 1- أن تثير المحاضرة التساؤل، أن يفتح المحاضر باب المناقشة المضبوطة، كما يجب عليه أيضا أن يثير العديد من التساؤلات التي تدرب الطلاب على التفكير النقدي، والتفكير الابتكاري. 2 أن تقدم المادة التعليمية بطريقة مشوقة، وأن تحفزهم لمزيد من البحث والمعرفة، وتفتح أمامهم باب الاجتهاد، وتتحدى تفكيرهم وتعلمهم التفكير الابتكاري, وليس الحفظ والاستذكار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 3- أن تكون معدة إعداد جيدا, من حيث تنظيم أفكارها وتتابع تلك الأفكار ومنطقيتها واستخلاص النتائج منها. 4- أن يستعين المحاضر بما شاء من الوسائل المعينة كالسبورة، والأمثلة التوضيحية، وأن تحدد المحاضرة المراجع والأنشطة التي يمكن للطالب الرجوع إليها لمزيد من الفهم والتعلم. 5- أن يوضح المحاضر الغرض من المحاضرة، والمشكلة الرئيسية التي تعالجها، ثم يعرض للأفكار والمعالجة، ثم ينتهي بالنتائج والعموميات. 6- ألا يكون المحاضر رتيبا في أدائه، روتينيا في إلقائه، فلا بأس من جذب اهتمام التلاميذ بالفكاهة الخفيفة والدعابة البسيطة, والمزاح المطرب الذي يشرح صدور الطلاب ويجعلهم مقبلين عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 طريقة المناقشة : إذا نظرنا إلى الموقف التعليمي، وجدنا أنه يقوم على أساس الاتصال اللغوي بالدرجة الأولى، وهذا الاتصال يمكن أن يتم في صور ثلاث: الصورة الأولى: يقوم فيها المعلم بتوجيه الحديث إلى المتعلمين، والصورة الثانية يقوم المتعلمين بتوجيه الحديث إلى المعلمين، والصورة الثالثة: يتبادل فيها المعلمون والمتعلمون الحديث والاستماع إلى بعضهم البعض، وهذه هي المناقشة1. وهذه الطريقة من أفضل الطرق وأقربها إلى روح منهج التربية الإسلامية، وقد اتبع الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- هذه الطريقة في تبليغ رسالته بوحي من الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] . والمناقشة هي أن يشترك المدرس مع المتعلمين في فهم وتحليل وتفسير وتقويم موضوع أو فكرة أو عمل أو مشكلة ما، وبيان مواطن الاختلاف والاتفاق فيما بينهم، من أجل الوصول إلى قرار، وعلى هذا فهي من أهم ألوان النشاط التعليمي للكبار والصغار على السواء، وإذا أضفنا إلى ذلك ما تقتضيه الحياة الحديثة من اهتمام بالمناقشة والإقناع، وجدنا أنها يجب أن تحظى بمكانة كبيرة في المدرسة، فحياتنا بما فيها من تخطيط ومشاورات وانتخابات، ومجالس محلية، أو إقليمية، ونقابات، وما إلى ذلك، تقتضي أن يكون كل فرد قادرا على المناقشة, كي يستطيع أن يؤدي واجبه كإنسان في مجتمع كبير أو صغير على أساس من الحرية والعدالة الاجتماعية.   1 علي أحمد مدكور: طريقة المناقشة وأهميتها في تعليم الكبار، مرجع سابق، ص46-55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أنواع المناقشة: تختلف المناقشة تبعا لاختلاف أهدافها، وعلى هذا فهي نوعان: 1- المناقشة الحرة. 2- المناقشة الموجهة أو المضبوطة. فالمناقشة الحرة تهدف إلى الحصول على الأفكار الجديدة والمبتكرة والمفائجة التي تأتي نتيجة للعصف الذهني Brainstorming في قضية ما, وتستخدم هذه الطريقة داخل حجرات الدراسة مع الصغار والكبار على السواء، وهذا النوع من المناقشة فعال في الوصول إلى التعميمات، والطرق المبتكرة لحل المشكلات. وتمتاز هذه الطريقة بأنها طريقة الحركة الحرة للعقل، والتي ينتج عنها الكثير من الأفكار والمقترحات حول موضوع أو مشكلة ما، وقد يكون منها العملي جدا، وقد يكون منها الخيالي بعيد الاحتمال أو الحدوث، فالهدف هنا هو الحصول على كثير من الأفكار دون تدخل من أحد للسيطرة على المناقشة, أو توجيهها، ومن عيوب هذه الطريقة أنها تحتاج إلى وقت طويل نسبيا، وقد تأتي المناقشة إلى نهايتها دون الوصول إلى قرار. وأما المناقشة الموجهة، فهي تهدف إلى الوصول إلى الأفكار والمعلومات أيضا عن طريق المتعلمين، ولكنها -بالمقابلة إلى المناقشة الحرة- تركز على موضوع معين، من أجل الوصول فيه إلى إقرار، وطبقا لهذا النوع من المناقشة، فإن المدرس قد يجعل الجماعة كلها تشترك في النقاش حيث الموضوع. مزايا طريقة المناقشة: وعلى كل حال فإن كثيرا من البحوث التربوية تميل إلى تفضيل طريقة المناقشة في التدريس للأسباب التالية: 1- أن طريقة المناقشة تسلم بإيجابية المتعلم وتفرده، وتؤمن بدوره في العملية التعليمية، وقدرته على التعلم من خلال المناقشة والمشاركة، فالعملية التعليمية هي عملية اتصال تعتمد على المشاركة والتفاعل. 2- أن طريقة المناقشة تقتضي أن تكون علاقة المدرس بتلاميذه علاقة قائمة على الاحترام المتبادل، وإيمان المدرس بقدرة الدارسين على المشاركة الإيجابية، وبالطبع فإن المتعلم إذا أحس بذلك زاد نشاطه وزادت فاعليته. 3- أن طريق المناقشة أكثر جدوى في تنمية القيم والاتجاهات العليا في الجانب المعرفي من طريقة المحاضرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 4- أن طريقة المناقشة تساعد أكثر على اكتساب مهارات الاتصال، وبخاصة مهارات الاستماع والكلام وإدارة الحوار، كما أنها تكسب الدارس أساليب وآداب النقاش القائمة على النظام واحترام الآراء، كما تتيح الفرصة للأفراد من ذوي الاستعدادات القيادية لتنمية هذه الاستعدادات وصقلها. 5- أن طريقة المناقشة تتيح للمتعلم الفرصة كي يتحدث في موضوعات تهمه، ومشاكل تشغله، وبذلك فهو يشعر بقيمة التعلم وأهميته في حياته فيزداد إقباله عليه وتفاعله مع الأنشطة التعليمية. 6- أن المناقشات في الفصل الدراسي يمكن أن تساعد الطلاب بقوة في تحليلهم لمشكلاتهم والتعامل معها، واستخلاصهم للنتائج المترتبة على مناقشاتهم، كما أنها تساعدهم أيضا على اتخاذ القرارات نحو ما يجب عليهم عمله، هنا يلعب المعلم دور قائد المناقشة المساعد والمعدل لا المستبد المملي على المتعلمين ما يجب عليهم أن يقولوا أو لا يقولوا، أن يفعلوا أو لا يفعلوا. 7- أن طريقة المناقشة تجعل المعلم أكثر إدراكا لمدى انتباه الدارسين, ومدى تقبلهم أو عدم تقبلهم لموضوع المناقشة، فيعمل على تعديله، أو العدول عنه، أو التعامل معه بكيفية أخرى، وقد يساعد المعلم المتعلمين على تقويم ما يرون, آخذين في الاعتبار موضوع المناقشة الأساسي. وجملة القول: إنه كلما طال حديث المدرس, واتجه إلى التأثير المباشر واستخدام السلطة في المناقشة، توقفت عملية الاتصال والتفاعل، وأنه كلما اتفق الإطار المرجعي لكل من المدرس والدارس ساعد ذلك على نجاح عملية الاتصال، وإن الثقة المتبادلة بين المدرس والدارس تساعد على التفاعل وإثراء الخبرات التعليمية1.   1 المرجع السابق، ص48، 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 طريقة حل المشكلات : المشكلة هي: سؤال محير أو موقف مربك يجابه الشخص، بحيث لا يستطيع الإجابة عن السؤال، أو التصرف في الموقف عن طريق ما لديه من معلومات أو مفهومات أو مهارات جاهزة، فالمشكلة توجد عندما يواجه الشخص بسؤال لم يواجهه من قبل، أو عندما يجابه بموقف غير عادي لم يتعود على مجابهته، وليست لديه معلومات أو مهارات أو طرق وأساليب جاهزة للرد عليه أو التصرف فيه بطريقة صحيحة، وعليه عندئذ أن يضع كل معلوماته ومهاراته ومفهوماته السابقة في قالب جديد لم يكن موجودا لديه من قبل، وعن طريق ذلك قد يستطيع الإجابة عن السؤال أو التصرف في الموقف، وقد يتطلب الأمر اكتساب معارف ومفهومات ومهارات جديدة من أجل الوصول إلى الإجابة الصحيحة، أو التصرف السديد في الموقف الجديد المربك1. وعلى هذا فإن الشخص يكون مواجها بسؤال محير أو موقف مشكل، إذا توافرت الشروط التالية: 1- أن يكون لدى الشخص هدف واضح يعيه ويرغب في تحقيقه، وهذا يستلزم ضرورة أن يكون لدى الشخص دافع ورغبة للإجابة عن السؤال أو لحل الموقف، وإلا فليست هناك مشكلة. 2- أن توجد عوائق وعقبات في طريقة تحقيق الهدف، وأن تكون أنماط السلوك والاستجابات الاعتيادية، وكذلك المعلومات والمهارات الجاهزة غير كافية لتخطي هذه العوائق والتخلص من العقبات. 3- أن يفكر الشخص في الموقف أو في السؤال بترو وتأن، وأن يستعين في ذلك بإعادة تنظيم معارفه ومهاراته السابقة، أو بإضافة معارف ومهارات جديدة، حتى يصل إلى فهم أكثر دقة للسؤال أن الموقف. 4- أن يضع الشخص مجموعة من الحلول أو الفرضيات المناسبة للموقف أو المشكلة ثم يقوم باختبارها لمعرفة مدى مناسبتها للمشكلة. وكل ما سبق يعني أن موقفا ما قد يكون مشكلة لشخص ما, بينما لا يكون كذلك لشخص آخر، وذلك حسب رد الفعل الشخصي تجاه الموقف، والذي يتوقف بالتالي على خبرات الشخص ومعارفه، ومهاراته، وعلى مكونات شخصيته. طبيعة عملية حل المشكلات: وعلى كل حال، فإن المشكلة تتطلب من المتعلم استرجاع المعلومات والمهارات والمفهومات التي تعلمها من قبل، واستخدام كل ذلك في عمليات التحليل والتركيب والاستبصار، فالمتعلم يضع نفسه في قالب جديد كي يواجه الموقف المشكل الجديد أيضا. وتعتبر عملية حل المشكلات من أعقد النشاطات الإنسانية إن لم تكن أعقدها على الإطلاق، فهي عملية نشاط عقلي عال؛ لأنها تحتوي على عمليات عقلية كثيرة ومعقدة، مثل التذكر، والفهم، والتطبيق، والتحليل، والتركيب، والاستبصار، والتجريد،   1 انظر: عبد الله: طرق تدريس الرياضات، عمادة شئون المكتبات، جامعة الملك سعود، 1409هـ-1989م، ص129-160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 والتعميم، وغير ذلك من العمليات العقلية والمهارية والانفعالية المتداخلة، ولذلك فليس غريبا أن يكون التغير والتطور السريع والمتلاحق في العلم والمعرفة وفي التطبيق التقني في العالم ما هو إلا نتيجة لمواجهة المشكلات وحلها. ويسمى جون ديوي طريقة حل المشكلات -وهي الطريقة العملية المطبقة في حل المشكلات الإنسانية الممتدة من المشكلات البسيطة للحياة اليومية، إلى المشكلات الاجتماعية المعقدة، إلى المشكلات العقلية المجردة -بأنها طريقة التفكير المنتج. أهمية طريقة حل المشكلات: 1- وتنبع أهمية طريقة المشكلات في التعليم والتعلم من أنها سلسلة من العمليات العقلية والمهارية والوجدانية التي نتعلم من خلالها أفكارا ومهارات وقيما ومفهومات جديدة، فالمدرس الواعي يستخدم طريقة حل المشكلات لا لتطبيق وإيضاح مفهومات أو تعميمات سابقة فقط، ولكن أيضا لاكتشاف مفهومات وتعميمات جديدة. 2- طريقة حل المشكلات تزود المتعلم بالفرص المتنوعة لممارسة معلوماته ومهاراته ومفهوماته السابقة، فعن طريق حل المشكلات نتعلم كيف نحول أو نطور المفهومات والتعميمات السابقة, ونستعملها في مواقف أو مشكلات جديدة، فمما لا شك فيه أن انتقال أثر التعلم من خلال تطبيق ما تعلمه الفرد في حل المشكلات أيسر وأعمق من انتقال أثر التعلم من خلال تعلم معلومات ومفاهيم وتعميمات منفصلة ومجردة. 3- كما أنها وسيلة لإثارة الفضول العقلي والمتعة، والرغبة لدى المتعلم في البحث عن الحل، وخاصة إذا كانت المشكلة متصلة بميل أو حاجة لدى المتعلم، أو تثير رغبته في التحدي. 4- تنمي الشعور بالثقة والإيجابية، وتجعل المتعلم يثق بقدراته ومهاراته، وتنمي لديه القدرة على المناقشة، والتفكير النقدي، وتنمى العلاقة القائمة على الاحترام والثقة بين المدرس والمتعلم. 5- هي طريقة تقوم أساس على خطوات البحث والتفكير العلمي، ويربط جون ديوي بين طريقة التفكير التام وبين طريقة حل المشكلات على أساس أنها عملية تعتمد على التفكير التام، ويرى أن هناك خمسة أطوار لإتمام عملية حل المشكلات التي تعتمد على الطريقة العلمية وهي كما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أ- تحديد المشكلة. ب- التعرف على الحالات والشروط والظروف المحيطة بالمشكلة، عن طريق تحديد العوامل المؤثرة فيها والمتأثرة بها، وجمع كل المعلومات المتصلة بها، مما يؤدي إلى فهم المشكلة وتحديدها بصورة أكثر دقة. جـ- وضع فرضيات للحلول الممكنة لهذه المشكلة. د- دراسة كل فرضية من هذه الفرضيات على أساس القيمة المحتملة لكل منها، وعلى أساس التنبؤ بالنتائج المحتملة لكل حل. هـ- اختبار صحة كل فرضية أو حل، على أساس السؤال الآتي: ماذا يمكن أن يحدث لو فعلنا كذا أو كذا؟ ثم اختيار الفرضية التي تنتج الحل الأمثل وفقا للإجابة عن هذا السؤال1.   1 انظر: محمود أحمد شوق: الاتجاهات الحديثة في تدريس الرياضيات، الرياض، دار المريخ للنشر، 1409هـ-1989م، ص201-219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 طريقة الملاحظة والتجربة : المنهج الإسلامي يستوعب كل وسيلة كريمة من الوسائل المعينة على التعليم والتعلم، قديمة أو حديثة، ما دامت تسهل عملية التعليم، وتساعد على تنفيذ المنهج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . ولا ريب أن إنشاء جسر بين عالم المعاني والأفكار النظرية وعالم المدركات الحسية من الأمور الأساسية في عملية التعلم، منهج استخدام الوسائل قديم، استخدمه الحق -سبحانه- في تعليم أبناء آدم، ويعرض لنا القرآن الكريم مشهدا من مشاهد استخدام الوسائل التعليمية في تعليم ابني آدم: قابيل وهابيل، فعندما قتل قابيل هابيل، أرسل الله له غرابا ليعلمه كيف يواري سوأة أخيه: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 30، 31] . هذا الحادث وقع في فترة الطفولة الإنسانية، حيث كان أول حادث قتل متعمد, وكان الفاعل فيه لا يعرف طريقة دفن الموتى. وفي هذه الحادثة خسر القاتل نفسه، فأوردها مورد الهلاك، وخسر أخاه؛ ففقد الناصر والرفيق، وخسر دنياه، فما تهنأ له حياة، وخسر آخرته، فباء بإثمه الأول، وإثمه الأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 والقصة تقدم نموذجا لطبيعة الشر والعدوان، ونموذجا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له، وتثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل. وفي القصة هنا تمثيل لسوأة الجريمة في صورتها الحسية، صورة جثة فارقتها الحياة، وأصبحت لحما يسري فيه العفن، فهي سوأة لا تطيقها النفوس1. وشاءت حكمة الله أن تضع القاتل أمام عجزه، فرغم أنه قاتل جبار، إلا أنه عاجز عن أن يواري سوأة أخيه، عاجز عن أن يكون كالغراب في أمة الطير. {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] . ومثال آخر في إبراز المعاني، وإنشاء التصور الصحيح للمنهج الإسلامي في ضمير المسلم عن طريق الحقائق الكونية التي تطالع الأنظار والمدارك كل يوم، نرى ذلك في الحوار الذي دار بين إبراهيم -عليه السلام- وملك من ملوك أيامه يجادله في الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] . فالآية -كما نرى- تمثل مشهدا لحوار إبراهيم -عليه السلام- وأحد الملوك، والمشهد يعرض على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجماعة المسلمين من خلال التعبير القرآني العجيب. وهذا الملك الذي يجادل إبراهيم في ربه، ليس منكرا لوجود الله أصلا، إنما هو منكر لوحدانيته ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده، كما كان الحال لدى بعض الناس في الجاهلية؛ يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له أندادا ينسبون إليها فاعلية وعملا في حياتهم: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} . فالإحياء والإماتة ظاهرتان معروضتان لحس الإنسان وعقله في كل يوم وكل لحظة، فرد الملك على إبراهيم قائلا: أنا سيد هؤلاء القوم، وأنا المتصرف في شأنهم فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له، وتسلم بحاكميته: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} . وعندئذ عدل إبراهيم عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} .. إلى طريقة التحدي، حتى يعرف الملك أن   1 انظر: سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، ج6، ص877. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الرب ليس حاكم قوم ما، في ركن من أركان الأرض، وإنما هو مصرف هذا الكون كله: قال إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} .. وهذه حقيقة كونية تطالع الأنظار والمدارك كل يوم دون تخلف أو تأخر، وهو تحد يخاطب الفطرة، ويتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} . والمثال القادم هو مشهد حي مرسوم بالكلمات، والمشهد تجسيد لمشاعر رجل مر على قرية محطمة، فجال في شعوره سؤال حائر: كيف تدب الحياة في هذا الموات؟ {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] . إن المشهد هنا ليرتسم للحس قويا واضحا موحيا، مشهد الموت والبلى والخواء.. يرتسم بالوصف {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} محطمة على قواعدها، ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية، هذه المشاعر المتجسمة في تعبيره: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} كيف تدب الحياة في هذا الموات؟ {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} . لم يقل له كيف، إنما أراه في عالم الواقع كيف، فالمشاعر قوية، وعنيفة لدرجة أنها لا يجب أن تعالج بالبرهان العقلي.. وإنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة، التي يمتلئ بها الحس ويطمئن بها القلب، دون كلام! {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ، {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} . وتبعا لطبيعة التجربة، وكونها تجربة حسية واقعية، فلا بد أن تكون هناك آثار محسوسة تصور مرور مائة عام، هذه الآثار لم تكن إلا في طعام الرجل وشرابه، فلم يكونا آسنين متعفنين: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} . {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 لقد تعرت وتفسخت عظام الحمار، ثم كانت الخارقة هي ضم هذه العظام بعضها إلى بعض، وكسوتها باللحم وردها إلى الحياة، على مرأى من صاحبه الذي لم يمسسه البلى، ولم يصب طعامه ولا شرابه التعفن، ليكون هذا التباين في المصائر، والجميع في مكان واحد، معرضون لمؤثرات جوية وبيئية واحدة، آية أخرى على القدرة التي لا يعجزها شيء، والتي تتصرف مطلقة من كل قيد، وليدرك الرجل كيف يحيي هذه الله بعد موتها1! ثم تجيء تجربة إبراهيم مع ربه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] . إن هذا السؤال من إبراهيم لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله في نفسه، وليس طلبا للبرهان أو تقوية الإيمان، بل هو تشوق إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} إنه الشوق إلى رؤية السر الإلهي أثناء وقوعه العملي، لقد أراد إبراهيم أن يرى يد القدرة وهي تعمل "ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيتروح بها، ويتنفس في جوها، ويعيش معها"2، لم يكن السؤال إذا من أجل تأكيد الإيمان، فقد كان الله يعلم حقيقة الإيمان لدى عبده وخليله إبراهيم، ولقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلع من قلب إبراهيم، ومنحه التجربة المباشرة، أو الخبرة المباشرة: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . لقد أمر الله إبراهيم أن يختار أربعة من الطير، فيقربهن منه, وينظر إليهن ليتأكد من أشكالهن وصفاتهن ومميزاتهن بحيث لا يخطئ في التعرف عليهن بعد ذلك، وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة، ثم يدعوهن، فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى، وترتد إليهن الحياة، ويعدن إليه ساعيات.. ففعل، وقد كان. لقد رأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه، طيور فارقتها الحياة، وتفرقت أجزاؤها في أماكن متباعدة، تدب فيها الحياة مرة أخرى، وتعود إليه سعيا، وهو سر نحن نرى آثاره بعد تمامه كل يوم، ولكننا لا ندرك طبيعته، ولا نعرف طريقته، إنه أمر الله3.   1 المرجع السابق، جـ3، ص30. 2 المرجع السابق، ص302. 3 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 إن الصور والمشاهد والتجارب المباشرة السابقة تؤكد لنا أن الوسائل قد استخدمت منذ زمن مسرف في القدم.. منذ طفولة الإنسانية. التصوير الفني: القرآن كتاب الله الخالد إلى العالمين، وهو كتاب الله إلى الإنسانية جمعاء، ليهديها، ويرشدها، ويعلمها، فهو كتاب الله إلى الإنسان الفرد ليهديه ويعلمه ويزيح البلادة التي تزحف على عقله وقلبه من آن لآخر، لقد استخدم القرآن الوسيلة في عملية الهداية والتعلم، وضرب المثل، وقص القصة، وصور الوقائع، واستخدم الصور المجسمة، واللوحات الناطقة، والمشاهد المعبرة، والمواقف الصاخبة، وعبر عن الحالات النفسية، والنماذج الإنسانية، وأخرج المعاني المجردة في صور شاخصة متحركة، وعبر عن الفكرة الذهنية في صورة مرسومة مصورة.. نعم، فعل كل هذا وفعله بالكلمة فقط! وهنا يحدثنا المرحوم الأستاذ سيد قطب عن "التصوير الفني في القرآن" وسنقتبس منه بعض النماذج التي عرضها في كتابه القيم "التصوير الفني في القرآن"1. يقول: التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني، والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصور التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية، فأما الحوادث والمشاهد, والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوى لها كل عناصر التخيل، فما يكاد يبث العرض حتى يحيل المستمعين إلى نظارة، حتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول، الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، تتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات، المنبعثة من الموقف المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتنم عن الأحاسيس المضمرة. "إنها الحياة هنا، وليست حكاية الحياة، فإذا ما تذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية, وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المروي، إنما   1 سيد قطب: التصوير الفني في القرآن، مرجع سابق، ص36 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور، ولا شخوص تعبر، أدركنا بعض أسرار الإعجاز في هذا اللون من تعبير القرآن". إن التصوير هو الأداة المفضلة، في أسلوب القرآن، فليس هو حيلة أسلوب، ولا فلتة تقع حيثما اتفق، إنما هو مذهب مقرر، وخطة موحدة، وخصيصة شاملة. "ويجب أن نتوسع في معنى التصوير، حتى ندرك آفاق التصوير الفني في القرآن، فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل، وكثيرا ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين، والأذن، والحس والخيال، والفكرة والوجدان". "وهو تصوير حي، منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة، تصوير تقاس فيه الأبعاد والمسافات، بالمشاعر والوجدانات، فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة"1. والآن نختار بعض الأمثلة لتوضيح ما سبق: إخراج المعاني الذهنية في صورة حسية: 1- يريد الله أن يبين أن قبول الذين كفروا عند الله، ودخولهم الجنة أمر مستحيل، هذا المعنى الذهني المجرد يعرضه الله -سبحانه- في أسلوب تصويري أخاذ كما يلي: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40] . ويدعك ترسم بخيالك صورة لتفتح أبواب السماء، وصورة أخرى لولوج الحبل الغليظ "الجمل" في سم الخياط، ويدع للحس أن يتأثر عن طريق الخيال بالصورتين معا, ليستقر في النهاية استحالة قبول الكفار عند الله، واستحالة دخولهم الجنة، ويستقر هذا المعنى في أعماق النفس، وقد ورد إليها -تصويرا- عن طريق العين والحس. 2- ويريد الله أن يبين للناس أن الصدقة التي تبذل رياء، والتي يتبعها المن والأذى، لا تثمر شيئا ولا تبقى، فينقل إليهم هذا المعنى في صورة حسية متخيلة على النحو التالي:   1 المرجع السابق، ص36-38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] . فالمن والأذى يمحق الصدقة، ولا يبقي لها أثرا تماما كهيئة الحجر الصلب المستوى الذي غطته طبقة من التراب, فظن فيه الخصب والنماء، فإذا وابل من المطر يصيبه فيتركه صلدا، ثم يمضي القرآن في التصوير لإبراز المعنى المقابل لمعنى الرياء ومعنى الذهاب بالصدقة التي يتبعها المن والأذى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265] . هنا الوجه الثاني للصورة، فالصدقات التي تنفق ابتغاء مرضاة الله، هي في هذه المرة كالجنة، والجنة فوق ربوة عالية، ورغم أن الوابل مشترك بين الحالتين, إلا أنه في الحالة الأولى محا ومحق، وفي الحالة الثانية أربى وأخصب، وفي الحالة الأولى يصيب الصفوان فيكشف عن وجه كالح كالأذى، وفي الحالة الثانية يصيب الجنة، فيمتزج بتربتها الخصبة فيخرج الثمار الوفيرة، وهي يكفيها الندى القليل ليبعث فيه الحياة1. 3- ومن يشرك بالله لا منبت له ولا جذور، ولا أمن له ولا استقرار، يصور القرآن هذا المعنى بصورة سريعة الخطوات، عنيفة الحركات: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] . هكذا في لحظة، يخر من السماء من حيث لا يدري أحد، فلا يستقر على الأرض، بل تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، حيث لا يدري أحد كذلك. 4- ويصور الحالة النفسية للإنسان المتزعزع العقيدة، الذي لا يستقر على يقين ولا يحتمل ما يصادفه من الشدائد بقلب راسخ، ولا يبتعد بعقيدته عن ميزان الربح والخسارة, يرسم القرآن لهذه الحالة النفسية صورة تهتز وتترنح وتوشك على الانهيار: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] .   1 المرجع السابق، ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 التخييل الحسي والتجسيم: وهكذا نرى أن قليلا من صور القرآن الذي يعرض صامتا ساكنا -لغرض فني يقتضي الصمت والسكون- أما أغلب الصور ففيها حركة مضمرة أو ظاهرة، حركة يرتفع فيها نبض الحياة، وتعلو بها حرارتها.. هذه الحركة.. حركة حية مما تنبض به الحياة الظاهرة للعيان أو الحركة المضمرة في الوجدان، هذه الحركة هي التي تسمى "التخييل الحسي" وهي التي يسير عليها التصوير في القرآن لبث الحياة في شتى الصور مع اختلاف الشيات والألوان. "وظاهرة أخرى تتضح في تصوير القرآن الكريم وهي "التجسيم": تجسيم المعنويات المجردة، وإبرازها أجساما أو محسوسات على العموم"1. 1- ومن التخييل ما يمكن تسميته "التشخيص"، ويتمثل في خلع الحياة على المواد الجامدة، والظواهر الطبيعية، والانفعالات الوجدانية. ومن المناظر الطبيعية المتحركة في الجو، في خطوات، تمثل كل منها مشهدا: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ، فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 48-50] . هكذا مشهد بعد مشهد: إرسال الرياح، إثارة السحاب، بسطه في السماء، جعله متراكما، خروج المطر من خلاله، نزول المطر، استبشار من يصيبهم بعد أن كانوا يائسين، إحياء الأرض بعد موتها. وهذه هي الشمس والقمر والليل والنهار في سباق دائم لا يفتر ولا يتوقف: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] . وهذه هي الأرض "هامدة" مرة، و"خاشعة" مرة، ينزل عليها الماء فتهتز وتحيا: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] .   1 المرجع السابق، ص72، 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39] . وهكذا تستحيل الأرض الجامدة، كائنا حيا بلمسة واحدة في لقطة واحدة. 2- أما التجسيم فهو لون من ألوان التصوير الفني في القرآن، ومنه كل التشبيهات التي جيء بها لإحالة المعاني والحالات صورا وهيئات، ومن هذا النوع: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 24-26] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 تفريد التعليم : يختلف الناس في الطرق التي يتعلمون بها، فمنهم من يتعلم أكثر وأسرع عن طريق مشاركته الخبرة مع الآخرين، ومنهم من يتعلم أفضل عن طريق الانفراد، وعلى كل حال فإن كل فرد يتعلم عن طريق تفسير الخبرات من وجهة نظره الخاصة، وفي ضوء خبراته الخاصة، فالتعلم -إذن- عملية فردية لا يمكن فرضها على الجماعة، فكل شخص له نمط تعليمي خاص به. وقد أشار أبو حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري إلى أن المربي كالطبيب، فالطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، وكذلك المربي يجب أن يعامل كل تلميذ المعاملة التي تناسب سنه، ومستواه العقلي، وطاقاته ومقدرته، يقول الغزالي: "وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم، وأمات قلوبهم، بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة، ويبني على ذلك رياضته". وقد سار التعليم في مدارس الإسلام الشهيرة -كالأزهر في مصر، والمدرسة النظامية في بغداد وجامعة الزيتونة في تونس وجامعة القرويين في المغرب- على أساس التعليم الفردي، فالطالب كان يتمتع بقسط كبير من الحرية، يختار من المواد الدراسية ما يناسب ميوله الفطرية واستعداداته العقلية، ويختار المعلم الذي يتلقى العلم عنده، يستمع إليه ويناقشه، ويسأله فيما صعب عليه من الأمور، وهو حر غير مقيد بنظام معين، ولا بجدول أوقات للدروس، ولم يكن مطالبا بامتحانات خاصة للنقل من صف إلى آخر أو من فرقة إلى أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ولقد زاد التعليم الفردي خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، واستحدثت له استراتيجيات كثيرة كان من أهمها التعليم المبرمج والحقائب التعليمية والرزم التعليمية والوحدات والمديولات.. إلخ، ولكنها تقريبا تهدف إلى الاهتمام بالمتعلم الفرد وإعطائه دورا إيجابيا في عملية التعلم وفق ما تستطيعه قدراته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 التدريس بالفريق Team Teaching: تقوم فكرة التدريس بالفريق على أساس مبدأ ضرورة التعاون بين أعضاء هيئة التدريس بالمدرسة، وتنفيذ هذا المبدأ ليس بالأمر السهل، فالتزام كل مدرس بمبادئ الجماعة، بالرغم من أنه ضروري، إلا أنه يتطلب قدرا من التضحية الشخصية. إن التخلص -ولو وقتيا- من الروتين القائم على أساس مدرس لكل مادة إلى نسق منظم من المعرفة يستدعي استغلال كل الطاقات المادية والبشرية في المدرسة والتنسيق بينها بشكل دقيق، لكن هذا لا ينتظر أن يتم بسهولة، فحتى في المجتمعات التي تسود فيها الروح الجماعية، نجد كثيرا من المدرسين يحرصون على سيرتهم، والبعض لا يرحب بالتدريس أمام المدرسين الآخرين، وآخرون يخافون أن يفقدوا استقلالهم وحريتهم، لكن هذا كله يذوب أمام النتيجة العظيمة التي تظهر في ارتفاع مستوى فهم وتحصيل التلاميذ. إن التدريس بالفريق يعني اشتراك مدرسين أو مجموعة من المدرسين -تحت قيادة أحدهم- في تدريس موضوع أو وحدة معينة، وقد يشتركون جميعا في وقت واحد أو على فترات متعاقبة، وذلك بهدف ربط وتكامل الأنشطة والخبرات التعليمية وتذويب الحدود والفواصل الجامدة بين المواد التعليمية، والخبرات الإنسانية المتكاملة أصلا. إن نجاح التعليم بالفريق يعتمد أساسا على اتفاق مجموعة من المدرسين على الأهداف المطلوب تحقيقها في المتعلمين, من خلال الموضوع أو الوحدة التي سيقومون بتدريسها، كما يعتمد على اتفاق الجماعة على لغة مناسبة للاستعمال وطرق مناسبة للمعالجة وتحقيق الأهداف، فقد يقسم الفصل الواحد إلى مجموعات، وقد يضم أكثر من جماعة معا لمشاهدة برنامج، أو الاستماع إلى محاضرة أو ندوة لبعض الزائرين، وقد يتفق عدد من المدرسين على تدريس وحدة معينة أو موضوع معين لكل طلاب المدرسة على جميع مستوياتهم، أو على قصر نشاطهم على صف بعينه إلى آخره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وعلى كل حال فإن هناك بعض المبادئ الموجهة للتدريس بالفريق لعل من أهمها ما يأتي: 1- أن يخطط التعليم بالفريق على أساس التعاون والتكامل، ووجود قدر كبير من الوئام وتبادل المسئوليات. 2- أن يكون حجم الجماعة ونوعها مناسبين لأهداف العمل، فقد تقتضي الأهداف أن تكون الجماعة صغيرة أو كبيرة، وقد تقتضي أن تكون الجماعة مختلفة القدرات أو متجانسة القدرات. 3- أن يكون الوقت المحدد مناسبا لكمية ونوعية العمل ولتحقيق الأهداف. 4- أن تكون البيئة التعليمية مناسبة للأنشطة التي تقوم بها الجماعة، فليست حجرة الدراسة مناسبة لكل الأنشطة؛ فقد يقتضي الأمر خروج الطلاب إلى المعامل أو المكتبات أو الورش أو المختبرات أو المصانع أو المزارع.. إلى آخره. 5- أن تكون المسئوليات الملقاة على عاتق كل مدرس مناسبة لمؤهلاته وقدراته، فكل مدرس يأخد الدور الذي يستطيع القيام به على أكمل وجه. 6- أن يكون مستوى ونمط التعليم مناسبا لكل متعلم في الجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 التدريس المصغر Microteaching: سمي بالتعليم "المصغر" لأنه عبارة عن موقف تعليمي عادي، لكنه يتناول فكرة واحدة أو جزئية أو مهارة يتم تعليمها والتدريب عليها حتى يحدث التعلم، فالتعليم المصغر إذن عبارة عن صورة مصغرة للدرس التقليدي العادي، وكل ما هناك أن الوقت أقصر، وعدد التلاميذ أقل، والمعلومة أو المهارة أو المفهوم الذي يتم التدريب عليه بسيط. والجدير بالملاحظة هنا أن التعليم المصغر عبارة عن موقف تعليمي جزئي داخل إطار كلي، فالموقف التعليمي الكبير قد يتناول كثيرا من المعارف والمهارات والمفهومات والتعميمات, التي قد لا يتيسر تعلمها والتدريب عليها في موقف واحد، وعلى هذا فالتعليم المصغر هو تدريب على هذه الجزئيات والمهارات في عدة مواقف. إن التعليم المصغر -شأنه شأن كل طرائق التدريب الأخرى- يتطلب تحديدا دقيقا وإجرائيا للأهداف المرغوب تحقيقها، ثم تحديد الجزئية أو المفهوم أو التعميم أو المهارة التي سيتم تناولها وتحقيق الأهداف من خلالها، وذلك عن طريق تخليصها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الأمور الثانوية والفرعية المتعلقة بها، كما يتطلب إعداد الموقف التعليمي بحيث يناسب الأهداف المحددة سلفا، ويناسب طبيعة المادة التعليمية التي ستتم معالجتها وتدريب المتعلم عليها، وقد يقتضي الأمر انتقال المعلم والمتعلمين إلى المكتبة أو المختبر أو الورشة أو المصنع أو المزرعة.. إلى آخره. ويستلزم الأمر في التعليم المصغر وجود وسائل تعليمية وتقنية على مستوى عال من الكفاءة والدقة. ويستند التعليم المصغر إلى نتائج كثير من الدراسات والبحوث التي أثبتت عدم قدرة طريقة التعليم التقليدي على تغطية كل المعارف والمهارات والمفهومات المتضمنة في محتوى المنهج، وتناقص قدرة المتعلم على الفهم كلما طال الموقف التعليمي، وزيادة فاعلية التدريب الموزع على التدريب المركز، كما يعتمد على مبدأ الاهتمام بالتغذية المرتجعة، ومساعدة المتعلم على تقويم ذاته، وتعديل المسار التعليمي كلما انحرف عن اتجاه الأهداف، ويمتاز التعليم المصغر بالمساعدة على توفير الوقت، والتركيز في التعليم عن طريق تجنب المسائل الفرعية والثانوية، ففيه -إذن- اقتصاد في الوقت والجهد والنفقات. وبعد أن عرضنا لأكثر الطرائق والأساليب شيوعا في التدريس، ولبعض الطرائق والأساليب المقترحة الأخرى التي نعتقد في أهميتها وفائدتها، نود أن نؤكد أن فاعلية أية طريقة وتأثيرها يختلف باختلاف أنواع ومستويات الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها، وباختلاف طبيعة المادة أو المحتوى الذي نتناوله، وبمدى كفاءة المعلم وحذقه في استخدام الطريقة، وباختلاف نوعيات وأعداد التلاميذ، وبمدى توافر البيئة المدرسية المناسبة والتجهيزات المناسبة. ولكل ما سبق، فنحن نعتقد أنه لا توجد طريقة مثلى تصلح في كل المواقف ولتحقيق كل الأهداف، فطريقة المناقشة -مثلا- قد تصلح لبعض المواقف التي لا تنفع فيها طريقة المحاضرة، والتعليم المصغر قد يصلح في مواقف لا يفيد فيها استخدام التعليم بالفريق، ولا بد من اختيار الطريقة المناسبة لنوعية ومستويات الأهداف، ونوعيات ومستويات المتعلمين، ونوعية وطبيعة المادة التعليمية.. إلى آخره، ولو بشيء من المزج بين أكثر من طريقة حسب متطلبات الموقف التعليمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الفصل الثامن: طرائق وأساليب التقويم مفهوم التقويم : إن مهمة هذا الفصل هي استعراض مفهوم التقويم بمعناه العلمي الحديث، مع بيان أنواعه، وأهدافه، ومستوياته، ووسائله، فلقد تغير النظام المدرسي، وتغيرت العملية التعليمية، وكثرت أعداد التلاميذ، وحدثت انفجارات علمية، وتقنية ومعرفية، وأصبحت أولى ضرورات هذه الانفجارات في العلم والمعرفة، هي التغيير والتطوير المستمرين، وأولى مراحل التطوير هي التقويم. والتقويم هو "عملية تشخيص وعلاج لموقف التعلم أو أحد جوانبه أو للمنهج كله في ضوء الأهداف التربوية المنشودة1. ويتضح لنا من هذا التعريف أن التقويم ليس نشاطا بسيطا، ولكنه عملية معقدة تحتوي على الكثير من الأنشطة وتسير في عدة خطوات: 1- تحديد الأهداف العامة والخاصة التي هي محكات عملية التقويم. 2- تحديد المواقف التي يمكننا أن نجمع منها المعلومات المتصلة بالأهداف. 3- تحديد كمية ونوعية المعلومات التي نحتاج إليها. 4- اختيار، ثم تصميم أساليب وأدوات التقويم المناسبة. 5- جمع البيانات بواسطة الأدوات والأساليب المختارة, ومن المواقف التي سبق تحديدها. 6- تصنيف البيانات والمعلومات عن طريق تحليلها وتسجيلها في صورة يمكن منها الاستدلال والاستنتاج، ويمكن الاستعانة في هذه الخطوة بالأساليب الإحصائية والتوضيحية المختلفة. 7- تفسير البيانات في صورة تتضح بها المتغيرات والبدائل المتاحة تمهيدا للوصول منها إلى حكم أو قرار. 8- إصدار للحكم أو القرار. 9- متابعة تنفيذ الحكم أو القرار حتى يمكن معرفة مدى جدوى المعلومات التقويمية في تحسين العمل أو الموقف أو الظاهرة أو السلوك الذي نقومه، وتعرف هذه الخطوة باسم المتابعة؛ لأنها تؤكد على الطبيعة الدائرة لعملية التقويم التربوي2.   1 محمد عزت عبد الموجود وآخرون: مرجع سابق، 159. 2 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 أسس التقويم : والتقويم بهذا المفهوم يستند على مجموعة من الأسس والمبادئ أهمها ما يلي: 1- أن التقويم ليس وسيلة للحكم على فاعلية العملية التربوية فقط، بل هو أيضا خطة أساسية لعملية التغيير والتطوير التربوي. فالتقويم هو أولى وأهم خطوات التطوير، كما سبق أن قلنا، فالقيادة التربوية وهي بصدد اتخاذ قرارات بالتطوير تحتاج إلى معلومات تقف عن طريقها على مستويات الأداء، والظروف والإمكانات المتاحة، ومدى توافر الطاقات البشرية المدربة واللازمة لعملية التطوير، وغير ذلك من المعلومات التي يحتاج إليها صناع القرارات حتى تتضح أمامهم البدائل والمتغيرات، فيتمكنوا من اتخاذ القرارات السليمة والدقيقة، فيبدأ التطوير في الاتجاه الصحيح. 2- أن التقويم عملية مرتبطة ارتباطا مباشرا بالأهداف التعليمية التي نسعى إلى تحقيقها، فالتقويم هو العملية التي نحكم بها على مدى نجاحنا في تحقيق الأهداف التربوية التي ننشدها، بل إنه العملية التي نحكم بها على قيمة هذه الأهداف ذاتها. 3- التقويم هو عملية تعزيز لأداء الأفراد والجماعات؛ فهو ينمي لديهم الدوافع لمزيد من العمل والإنتاج، فتعزيز السلوك الإيجابي يدعمه ويثبته، ويؤدي في نفس الوقت إلى تصحيح السلوك الخاطئ؛ ولذلك لا بد من عرض نتائج التقويم على من يقع عليهم التقويم سواء كانوا تلاميذ أو مدرسين أو مديرين أو مصممي مناهج، فالتلميذ يحتاج إلى معرفة مدى تقدمه في تحقيق الأهداف المنشودة ومدى تعلمه، والمدرس يحتاج إلى معرفة مدى نجاحه في مساعدة التلاميذ على تحقيق أهدافهم، ومدى توفيقه في اختيار الطرق والأساليب المناسبة، ومدير المدرسة يحتاج إلى معرفة مدى نجاحه في إدارة المدرسة، وتوفير المناخ المناسب والظروف التي تحفز المدرسين والتلاميذ على التعليم والتعلم، وواضع المنهج يحتاج إلى معرفة مدى توفيقه في تحديد أهداف المنهج، واختيار محتواه، واختيار طرائق وأساليب تدريسه، وطرائق وأساليب تقويمه، ومدى مناسبة كل هذا لحاجات التلاميذ وميولهم ومستوياتهم العقلية والوجدانية والحركية والاجتماعية، ومدى مناسبة المنهج -أيضا- للإمكانيات والطاقات المادية والبشرية المتاحة، ويستفيد المنهجون من كل هذا في إعادة بناء المناهج في ضوء كل المتغيرات, والبدائل المتاحة التي قدمتها لهم نتائج التقويم "انظر الشكل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 4- أن التقويم عملية شاملة، وشمول عملية التقويم تتجلى في عدة صور، من أهمها ما يلي: أولا: أن التقويم ليس مرادفا للامتحانات والاختبارات، وليس مرادفا للقياس، فالامتحانات والاختبارات وسائل للقياس، والقياس إحدى وسائل التقويم، فالتقويم أشمل منها جميعا. ثانيا: أن التقويم ليس مجرد "تقييم" أي: الحكم على قيمة العمل أو الموقف أو الظاهرة أو السلوك؛ بل يتعدى هذا إلى بيان جوانب القوة والضعف وأسبابها وعلاجها. فهو تشخيص وعلاج. ثالثا: أن التقويم عملية شاملة لجميع أنواع السلوك، ومستوياتها، أما أنه شامل لجميع أنواع السلوك؛ فهذا يعني أن التقويم شامل للسلوك المعرفي، والسلوك الوجداني، والسلوك الحركي. أما أنه شامل لجميع مستويات السلوك أو التعلم، فهو لا يركز على المستويات الدنيا للسلوك المعرفي -مثلا- كالتذكر والحفظ والفهم، مع إغفال المستويات العليا للتفكير كالتطبيق والتحليل والتركيب والتقويم. رابعا: أن التقويم ليس عملية ختامية، تأتي في آخر مراحل تنفيذ الدرس أو المنهج، بل هو عملية مستمرة تصاحب العملية التعليمية تخطيطا وتنفيذا ومتابعة1. خامسا: أن التقويم شامل لجميع جوانب العملية المنهجية؛ فهو يشمل تقويم الأهداف، وتقويم المحتويات والخبرات التعليمية، وتقويم طرائق وأساليب التدريس، وتقويم نتائج التعلم، وتقويم طرائق وأساليب التقويم المتبعة نفسها. 5- أن تكون الأدوات المستخدمة في التقويم متنوعة، فكلما تنوعت أدوات التقويم زادت معلوماتنا عن العمل أو الظاهرة أو الموقف أو السلوك أو التلميذ الذي نقومه، وبالتالي تكون أحكامنا دقيقة وعلاجنا شافيا، فلا يجب الاقتصار مثلا على اختبار المقال من ضمن الاختبارات التحصيلية المختلفة، فهناك اختبارات: الاختيار من متعدد، والمزاوجة، والصواب والخطأ ... إلى آخره، كما أنه لا يجب الاقتصار في تقويم التلميذ -مثلا- على الاختبارات التحصيلية السابقة، بل يجب أن نستخدم الاختبارات التي نتعرف من خلالها على ملامح شخصيته، وسماته المزاجية، ودرجة ذكائه وابتكاره، وهذا يقتضي استخدام أساليب: الملاحظة المباشرة للسلوك، ورصد ملاحظتنا بطريقة منظمة، واستخدام الاختبارات المقننة، وغير ذلك من الأساليب التي تزيد من قدرة المقوم على مساعدة التلميذ أو تطوير العمل.   1 المرجع السابق، ص158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 6- أن تكون عملية التقويم صادقة، وثابتة، وموضوعية، والمقصود بالصدق أن تقيس أداة التقويم ما وضعت لقياسه، والمقصود بالثبات أنه إذا أعيد تطبيق الأداة على نفس العينة أو عينة أخرى مكافئة، فإننا نحصل على نفس النتائج تقريبا، والمقصود بالموضوعية، عدم تأثر نتائج الاختبار بالعوامل الشخصية للمقوم، وتحليل وتفسير نتائج الاختبار وفق معايير موضوعية واضحة. 7- أن تكون عملية التقويم اقتصادية من حيث الجهد والوقت والتكلفة، فالاختبارات المكلفة والطويلة، قد تستغرق الإجابة عليها وقتا طويلا، وبذلك تمثل عبئا ثقيلا على كل من التلميذ أو المدرس أو المدرسة، والاختبارات التي تطول الإجابة عنها وتكون غير محددة، يصعب أن تكون صادقة وثابتة وموضوعة. 8- أن تراعي عملية التقويم خاصية الفروق الفردية بين التلاميذ، واختلاف مستويات الأداء بينهم، فالاختبار الجيد هو الذي يكشف عن الفروق بين التلاميذ، وعن القدرات التي يتمتع بها كل منهم، وبذلك يسهل توجيهه في الاتجاهات المناسبة لهذه القدرات والميول. 9- يجب التأكيد على أن عملية التقويم هي عملية إنسانية، فالتقويم ليس عقابا للتلميذ أو ثأرا منه، ولكنه عملية إيجابية فعالة للتعرف على النفس، وتحقيق الذات عن طريق معالجة جوانب النقص وتنمية جوانب القوة. فالتقويم إذن عملية يجب أن تنمي مشاعر المحبة والإقدام بين المتعلمين وأولئك الذين يساعدونهم على التعلم وتحقيق الذات1.   1 المرجع السابق، 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 أنواع التقويم ومستوياته ... أنواع التقويم: يفرق المتخصصون في علم المناهج بين ثلاثة أنواع للتقويم هي: 1- التقويم المبدئي Initial Evaluation 2- التقويم البنائي Formative Evaluation 3- التقويم الختامي1 Summative Evaluation التقويم المبدئي: إن التقويم المبدئي هو ذلك النوع من التقويم الذي يزود مصمم المنهج أو الكتاب أو الوحدة بمجموعة من المعلومات والبيانات "كمية وكيفية" عن مستويات التلاميذ العقلية والوجدانية والجسمية والاجتماعية، ويزوده أيضا بمعلومات عن الخبرات السابقة التي تمت سيطرتهم عليها، ويزوده أيضا بمدى استعداد هؤلاء   1 انظر: Bloom, B. et. al, Hand Book of formative and Summative of Students Learning, Me Graw Hill Book Company, New york, 1971. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 التلاميذ أو المتعلمين لتقبل الموضوعات الجديدة، ومعرفة ميولهم واهتماماتهم وخصائصه العقلية والنفسية والاجتماعية.. إلى آخره. وبذلك يحدد أهداف المنهج أو البرنامج، ويختار المحتوى، وطرائق وأساليب التدريس والتقويم بما يتفق مع الخصائص والسمات السابقة، وبما يتفق أيضا مع الإمكانات والطاقات المادية والبشرية المتاحة1، والتقويم المبدئي هو لون من ألوان التقويم التشخيصي. التقويم البنائي: أما التقويم البنائي، فهو الذي يصاحب الأداء أو التنفيذ، ويهدف إلى تصحيح المسار، عن طريق التشخيص والعلاج الفوري لكل ما يعترض عملية التعليم والتعلم من عقبات، ولذلك يطلق على هذا النوع من التقويم أداء التصحيح الذاتي Correcting Mechanim Self والمقوم هنا يضع عينه دائما على مدى مطابقة الأداء للأهداف المحددة سلفا2، إذن فهذا اللون من التقويم هو عملية تشخيص وعلاج معا. والتقويم البنائي يزود المدرس والتلميذ معا بالتغذية المرتجعة Feed Back عن أخطاء التلميذ، ومستوى تحصيله، ومدى تحقيقه للأهداف السابقة، كما أنه يزود المعلم والمتعلم أيضا بما يجب على كل منهما فعله، ويمكن تسمية هذا بالتغذية الإمامية Feed Forward. إذا تبين لكل من المعلم والمتعلم جوانب القوة والضعف، فيحدد كل منهما الطرق والأساليب التي يمكن أن يستخدمها في تعديل الأهداف أو تطويرها، وتعديل المحتوى أو الخبرات التعليمية التي يتم تناول المحتوى من خلالها، أو أساليب التدريس المتبعة، أو كل ذلك إذا اقتضى الأمر. وهكذا نجد أن التقويم التشخيصي يبدأ قبل وضع المنهج أو الوحدة، ويستمر بعد ذلك أثناء التنفيذ، لكن يصاحبه أثناء التنفيذ، ما يسمى بالتقويم العلاجي، أو البنائي. التقويم الختامي: التقويم الختامي هو أكثر أنواع التقويم ألفة لدى المعلمين والمتعلمين على السواء، فالمعلمون يعتمدون عليه غالبا في تقويم تلاميذهم، ويحدث هذا النوع من التقويم بعد الانتهاء من دراسة المنهج المقرر أو الوحدة، وهو يستهدف الحصول على تقدير عام لتحصيل التلاميذ، وتحديد مستوياتهم النهائية، وهو -بصفة عامة- يخدم عدة أغراض لعل من أهمها:   1 محمد عبد العليم مرسي: المعلم والمناهج.. وطرق التدريس، الرياض، عالم الكتب، 1405هـ-1985م، ص291-292. 2 محمد عزت عبد الموجود وآخرون: مرجع سابق، ص161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 1- تقدير مدى تحصيل التلاميذ, ومدى تحقيقهم لأهداف المنهج. 2- تزويد المعلمين بأساس لوضع الدرجات أو التقديرات بطريقة موضوعية وعادلة. 3- تزويد المعلمين والإدارة أو القائمين على العملية التعليمية عموما بالبيانات التي على أساسها ينتقل التلاميذ من صف إلى آخر، ويصنفون حسب درجات تقدمه1. 4- تزويد القائمين على العملية التعليمية بالبيانات والمعلومات المناسبة عن المنهج؛ مما قد يؤدي إلى إعادة النظر فيه وتعديله أو تطويره، كله، أو بعض أجزائه، وقد يقوم التقويم الختامي مقام التقويم المبدئي في تزويد القائمين على العملية التعليمية بالبيانات التي تمكنهم من وضع برنامج جديد تماما، وبذلك تصبح العملية التقويمية عملية دائرية. مستويات التقويم: سبق أن أوضحنا أن من أهم أسس التقويم ارتباطه بالأهداف العامة والخاصة التي نريد تحقيقها، لقد صنف "بلوم" الأهداف التعليمية إلى ثلاثة أنواع: وهي وفقا للطبيعة الإنسانية ومكوناتها كالآتي: أ- الجانب المعرفي: ويتعلق بالسلوك العقلي وله ستة مستويات هي: فمستويات الجانب المعرفي هي: التذكر، والفهم، والتطبيق، والتحليل، والتركيب، ويسمى أحيانا بالقياس، والتقويم هو أعلى مستويات المجال المعرفي، والمستويات الثلاثة الأولى هي المستويات الدنيا، أما المستويات الثلاثة الأخيرة فهي المستويات العليا للجانب المعرفي في الإنسان، وكل مستوى من هذه المستويات يعتمد   1 جابر عبد الحميد وآخرون: مهارات التدريس، القاهرة، دار النهضة العربية، بدون تاريخ، ص401. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 على المستوى الأقل منه وليس العكس، فالفهم يعتمد على التذكر والتطبيق يعتمد على الفهم والتذكر.. وهكذا. ب- الجانب الوجداني: وهو يتعلق بالسلوك الوجداني أو الانفعالي كإبداء مشاعر الحب والتقدير والميول والتذوف الأدبي والجمالي، والإيمان بالله وبمنهجه في الكون، والإقناع بالعقيدة السماوية، والقيم الخلقية الفاضلة.. إلخ. وتحت هذا النوع من السلوك نجد خمسة مستويات هي: 1- الرضا والقبول. 2- الاستجابة. 3- التقييم. 4- التنظيم القيمي. 5- التخصص القيمي. وتشيع الأهداف الوجدانية عموما في القرآن والسنة، وعلوم الشريعة، والآداب والفنون. جـ- الجانب الحركي: ويتعلق بالسلوك أو المهارات، وله ثلاثة مستويات: 1- المهارة البسيطة أو الحركة البسيطة، وأحيانا تكون لا إرادية، مثل: رفع الأصبع أو إغماض العين. 2- المهارة المركبة، مثل المشي والجري والاستماع والكلام والقراءة والكتابة. 3- مهارة التناول، مثل لعب الكرة، وقيادة السيارة أو الطائرة، والعزف على البيانو وغيره من الآلات. وتشيع الأهداف الحركية في مناهج التربية الرياضية، والاقتصاد المنزلي، وتعليم اللغات، وخاصة تعليم مهارات الاستماع والحديث والقراءة والكتابة والمواد المهنية عموما: الصناعية والزراعية والتجارية. مما سبق يتضح أن الأهداف التعليمية يجب أن تشمل جميع جوانب السلوك الإنساني: المعرفية، والوجدانية، والحركية، وبالمثل فإن عملية التقويم يجب أن تكون شاملة لجميع أنواع ومستويات التعلم أو السلوك. لكن الخطأ الشائع هو تركيز الامتحانات والاختبارات المدرسية وغير المدرسية على النواحي المعرفية فقط، بل وعلى المستويات الدنيا منها كالتذكر والفهم مما يدفع التلاميذ إلى الحفظ والاستظهار وإغفال المستويات العليا للتفكير كالتحليل والتركيب والتقويم، كذلك لا بد عند تقويم التلاميذ أن نهتم بطريقة التفكير حتى يتحول التعلم من اختزان واسترجاع إلى استكشاف واكتشاف، وإلى عملية من النشاط الذاتي الذي يساعد الفرد على تحقيق ذاته, لكي يصبح فردا ذكيا منتجا يفكر ويبتكر ويضيف ويخترع, وليس إنسانا يستمع ويسترجع ويأخذ من فم المدرس ليمتص ويحفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الاختبارات التحصيلية : سبق أن قلنا إن التقويم عملية أوسع من القياس، وأن القياس عملية أوسع من الاختبارات؛ لأن الاختبار أداة من أدوات القياس. والاختبارات إما أن تكون شكلية أو غير شكلية، فالاختبارات غير الشكلية هي تلك التي تتم عن طريق الملاحظة والمقابلة والمناقشة وغير ذلك، والاختبارات الشكلية هي التي تتم عن طريق اختبارات محددة، في زمن محدد، ولتحقيق أهداف معينة، وهي إما أن تكون مقننة أو غير مقننة، وقد تكون لقياس الاتجاهات والاستعدادات، أو لقياس الدقة والسرعة، أو لقياس نتائج التعلم. الاختبار التحصيلي: والاختبار التحصيلي هو وسيلة لقياس نتائج التعلم، أو الحصول على عينة من سلوك التلاميذ، وهو أنواع عدة من أهمها: اختبار المقال، والاختيار من متعدد، واختبارات الصواب والخطأ، والمزاوجة، والتكملة. وتعتبر الاختبارات التحصيلية أو الامتحانات هي أقدم أنواع القياس وأكثرها شيوعا في مدارسنا في العالم العربي بصفة عامة، فعن طريق الامتحانات ينتقل الطالب من صف إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى، وتكاد تقتصر عملية التقويم على نوع واحد هو القياس، وعلى نوع واحد من القياس وهو الاختبارات التحصيلية، وعلى نوع واحد من الاختبارات التحصيلية وهو اختبار المقال في أغلب الأحيان، وفي اختبار المقال تهتم بالمستويات الدنيا في الجانب المعرفي، وهي التذكر والحفظ. وهكذا بدأ المتعلمون الكبار والصغار على السواء ينظرون إلى عملية التقويم على أنها لون من ألوان الثواب والعقاب. وأنها غاية في ذاتها، وبذلك انصرف جهدهم التعليمي إلى المذاكرة من أجل الامتحان لا من أجل التعلم، وتغير السلوك في الاتجاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 التربوي المنشود، فإذا أضفنا إلى ذلك هذه المناهج الموسوعية المحشوة بالمعلومات والمعارف، استطعنا تفسير ظاهرة لجوء المتعلمين إلى الحفظ والاستظهار والاعتماد على الذاكرة، بدلا من التحليل والتفسير والنقد والتقويم والابتكار. سبق أن قلنا إن المنهج الدراسي "نظام" مكون من مجموعة من الأجزاء، وكل جزء من هذه الأجزاء يؤثر في السلوك العام للنظام كله، والمنهج أو "النظام" يصمم حول هدف أو مجموعة من الأهداف، والأهداف هي مجموعة من الأوصاف المتوقع حدوثها من التلاميذ نتيجة لمرورهم بخبرات معينة وتفاعلهم معها. والأهداف هذه لا بد أن تتحقق من خلال محتوى مخطط ومنظم بطريقة معينة، بحيث توجد فيه استجابة لكل هدف من الأهداف السابقة. ولكي نحصل على نتائج التعلم أو نقيس السلوك المتوقع حدوثه من التلاميذ، لا بد أن نتبع خطة منهجية في إعداد وبناء الاختبار، وتسير خطة بناء الاختبار في الخطوات التالية: 1- تحديد الأهداف التعليمية في صورة أنماط نتوقع حدوثها من التلاميذ في نهاية عملية التعليم. 2- تحديد المحتوى الذي تمت تغطيته أثناء عملية التدريس. 3- عمل جدول لتصنيف أنماط السلوك الذي نريد قياسه في العينة. 4- وضع مفردات الاختبار التي تقيس أنماط السلوك الموضحة في جدول التصنيف1. اختبار المقال: يعتبر اختبار المقال من أكثر الاختبارات شيوعا على كافة المستويات التعليمية في بلادنا، وسمي "اختبار مقال" لأن المتعلم يطلب منه كتابة "مقال" في الموضوع أو المشكلة التي يطرحها السؤال. ومن مميزات اختبار المقال أنه يمكن بواسطته قياس قدرات كثيرة ومتنوعة، كالقدرة على بيان الأسباب والعلل، والقدرة على إدراك العلاقات، والقدرة على توضيح المفهومات والمصطلحات، والقدرة على التحليل والتفسير، والقدرة على تطبيق المبادئ والقوانين والمفهومات في مواقف جديدة، والقدرة على النقد، والقدرة على إعادة تنظيم الحقائق وتركيبها في كل جديد، والقدرة على التمييز والمقارنة، والقدرة على التقويم، والقدرة على حل المشكلات، والقدرة على التعبير بطلاقه ووضوح.   1 المرجع السابق، ص416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ورغم هذه القدرات والمهارات الكثيرة والمتنوعة التي يمكن أن يقيسها اختبار المقال، إلا أن من أهم عيوبه أنه لا يمكن قياس كل هذه القدرات والمهارات باختبار مقال واحد، وهو صعب التصحيح نظرا لطول الكتابة فيه، وتزداد هذه الصعوبة إذا كان المختبر رديء الخط والأسلوب، وهو غير اقتصادي لما يحتاج إليه من أوراق كثيرة، ووقت طويل، وأماكن كثيرة وغير ذلك. واختبار المقال -فوق كل هذا- من الصعب أن يكون شاملا لكل موضوعات المنهج وخبراته، ولذلك تنقصه خاصية الشمول والصدق، وقد يدفع الطالب إلى التخمين، والاهتمام ببعض موضوعات المنهج دون بعضها الآخر، كما أنه قليل الموضوعية والثبات، نظرا لغموض الأسئلة في بعض الأحيان، ولكل هذا فإن هذا الاختبار يثير الشعور بالرهبة والخوف من الامتحانات، ويظل هذا الشعور ملازما الطلاب طوال العام الدراسي مما يجعلهم يفكرون طوال الوقت في كيفية الإجابة على الامتحانات. وللتخلص من بعض عيوب اختبار المقال، فإنه يمكننا عمل الآتي: 1- أن نحدد أهداف الاختبار والقدرات والمهارات التي نريد قياسها بدقة قبل صياغة أسئلة المقال. 2- أن يحتوى الاختبار على عدد كبير من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات قصيرة وموجزة، بحيث يقيس كل سؤال قدرة واحدة أو مهارة واحدة. 3- صياغة أسئلة الاختبار بطريقة محددة وواضحة مع الابتعاد عن المفهومات والمصطلحات الغامضة وغير المفهومة. 4- تدريب المتعلم -كبيرا كان أم صغيرا- على أسئلة المقال، أثناء الدراسة، ومناقشتهم في الصعوبات التي واجهتهم والأخطاء الشائعة التي وقعوا فيها ليمكن تجنبها بعد ذلك، ويستحسن بيان الدرجة المخصصة لكل سؤال، والزمن الذي يجب أن يستغرقه الطالب في الإجابة عنه. 5- مناقشة نتائج الاختبار مع المتعلمين بعد تصحيحه مباشرة، وبذلك يستعين كل من المتعلم والمعلم بالنتيجة في تقويم نفسه وتقويم أسلوبه في التعليم والتعلم. اختبار الاختيار من متعدد: يمتاز هذا الاختبار -مع اختبار الصواب والخطأ، والمزاوجة، والتتمة -بأنه أكثر سهولة، حيث يحتوي على المثير والاستجابة معا. وما على المستجيب إلا أن يميز الإجابة الصحيحة بوضع علامة مناسبة أمامها أو في المربع المخصص لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 واختيار الإجابة الصحيحة في اختيار الاختيار من متعدد، له صورة هي: 1- اختيار الإجابة الصحيحة من بين الإجابات الأخرى الخاطئة، وهذا ما يعرف باسم "البحث عن الصواب". 2- اختيار الإجابة الخاطئة من بين الأخرى الصحيحة وهذا ما يعرف باسم "البحث عن الخطأ"، ويلاحظ في هذا النوع وجود أداة استثناء مثل "ما عدا" و"إلا". 3- اختيار الإجابة الأكثر أهمية أو قوة من بين إجابات كلها صحيحة، ولكنها متفاوتة من حيث أهميتها وقوتها وفقا لمعيار موضوعي تم الاتفاق عليه أثناء الدراسة مع الطلاب، ويعرف هذا باسم "البحث عن الأهمية"1. ويمتاز هذا النوع من الاختبارات بالميزات التالية: 1- ارتفاع درجة الموضوعية، فدرجة الإجابة عن السؤال لا يمكن أن تختلف من طالب إلى آخر أو من مصحح إلى آخر. 2- سهولة التصحيح، حيث يستطيع أي شخص أن يقوم بعملية التصحيح، ورصد الدرجات عن طريق استخدام مفتاح للتصحيح من البلاستيك أو الورق المقوى، إلى آخره. 3- ارتفاع درجة شمول الاختبار، حيث يستطيع هذا الاختبار أن يغطي مساحة كبيرة من محتويات المنهج، نظرا للعدد الكبير من الأمثلة التي يمكن أن يحتويها الاختبار. 4- يمتاز الاختبار بدرجة عالية من الموضوعية، وبالتالي فإن معدلات الصدق والثبات فيه عالية. 5- يمتاز هذا الاختبار بالقدرة على قياس مهارات الفهم، وإدراك العلاقات، والمقارنة والتمييز. ومن أهم عيوب هذا الاختبار ما يلي: 1- يتطلب وقتا كبيرا وجهدا فنيا عظيما في إعداده، وهذا قد لا يتوافر حاليا لدى معظم المدرسين. 2- يتطلب إلماما بكل جزئيات وتفاصيل المنهج المقرر وأولوياتها، وعلاقاتها بأهداف المنهج العامة والخاصة.   1 محمد عزت عبد الموجود وآخرون: المرجع السابق، ص177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 3- يتطلب من المعلم قدرة لغوية فائمة تتمثل في: الدقة في اختيار الألفاظ والتراكيب، والمعرفة الجيدة بقواعد اللغة، والدقة في الفهم والتمييز بين المصطلحات والمفهومات، وقد لا يتوافر هذا أيضا لدى معظم المدرسين حاليا1. 4- قصور هذا الاختبار في قياس مجموعة كبيرة من القدرات والمهارات، مثل: القدرات والمهارت اللغوية، والقدرة على التحليل، والتفسير، والنقد، والتقويم، وحل المشكلات. اختبار الصواب والخطأ: هو مجموعة من العبارات أو الجمل التي تتضمن حقائق أو آراء أو وجهات نظر تتصل بمحتوى المنهج أو البرنامج أو الوحدة أو الدرس المراد تقويم سلوك المتعلم بالنسبة له، ويطلب من المتعلم أن يضع أمام كل منها علامة صواب أو خطأ حسب وجهة نظره. ومن أهم مميزات هذا الاختبار أنه سهل الوضع، كما أنه لا يحتاج إلى مساحة كبيرة من الورق، ولا يحتاج إلى وقت طويل للإجابة عليه، كما يمتاز أيضا بالشمول، إذ أنه يمكن وضع اختبار من هذا النوع يغطي كل محتوى البرنامج أو الدرس أو الوحدة، ولا يستغرق وقتا طويلا في التصحيح. ومن أهم عيوب هذا الاختبار أنه يشجع الطلاب على حفظ الحقائق من أجل تذكرها، كما أنه لا يقيس أكثر القدرات والمهارات أهمية، وهي القدرة على التطبيق، والتحليل، والتركيب، وإدراك العلاقات، والتقويم، كما أنه لا يقيس القدرة على استعمال اللغة في عرض الأفكار أو الآراء ومناقشتها، وربما كان من أهم عيوب هذا الاختبار أنه يسمح بدرجة كبيرة من التخمين تصل إلى نسبة 50%، ولا شك أنه كلما ارتفعت درجة التخمين ارتفعت درجة الذاتية وعدم الموضوعية فيه، وقلت بذلك درجة ثباته، والمتعلم الذي يخمن الإجابة -صحيحة كانت أم خاطئة- لا يعرف سببها ولا تفسيرا لها. ولذلك فإنه يحسن -تفاديا لذلك العيب في اختبار الصواب والخطأ- أن يطلب من المتعلم بيان ما إذا كانت العبارة صحيحة أم خاطئة، فإذا كانت صحيحة، فليذكر تفسيرا لذلك أو أسبابا له، وإذا كانت خاطئة، فليذكر الإجابة الصحيحة2. اختبار المزاوجة: يعتبر اختبار المزاوجة من أكثر أنواع الاختبارات الموضوعية استعمالا، وخاصة في مناهج المراحل التعليمية الأولى، وذلك لسهولة وضعه بواسطة المعلمين،   1 المرجع السابق، ص178، 179. 2 المرجع السابق، ص183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 والإجابة عنه بواسطة المتعلمين، وهو اختبار مهم أيضا، لأنه تقل فيه نسبة التخمين عند اختبار الصواب والخطأ، كما أنه يعتبر نوعا متطورا من الاختبار متعدد الاختيارات، ونظرا لانخفاض نسبة التخمين فيه فإنه أكثر موضوعية وثباتا من الاختبارات الأخرى1. وفي هذا الاختبار يقوم المتعلم بالتوفيق أو المزاوجة بين عمودين من العبارات، وذلك بأن يختار عبارة واحدة من العمود الثاني توافق أو تكمل عبارة في العمود الأول، وهنا يجب أن تكون عبارات العمود الثاني أكثر عددا من عبارات العمود الأول، حتى يصبح الخيار دائما من متعدد. ومن أهم مميزات هذا الاختبار أنه سهل الإعداد والتصحيح، وأنه تقل فيه نسبة التخمين -كما سبق أن ذكرنا- ولذلك فهو أكثر موضوعية وثباتا من الاختبارات الأخرى، وهو مناسب للمتعلمين في كل المراحل التعليمية، وهو مفيد في جعل المتعلمين يتذكرون الأحداث بتفاصيلها، كما أنه يدرب المتعلم على مهارات التمييز والتصنيف وإدراك العلاقات بين الحقائق والمفهومات والتعميمات وغير ذلك. وربما كانت أهم عيوب هذا الاختبار هو أنه يعطي القدرة على تذكر الحقائق أهمية أكبر من اللازم، كما أنه لا يقيس بعض القدرات العقلية العليا مثل: البرهنة والقياس والتقويم. وعلى كل حال فإنه يجب على معد هذا الاختبار أن يأخذ في اعتباره الأمور التالية: - أن تكون عبارات العمود الثاني أكثر من عبارات العمود الأول، حتى يظل الاختيار دائما من متعدد حتى آخر عبارة، وبذلك تقل نسبة التخمين. - أن تكون عبارات الاختبار واضحة ومحددة، وأن تكون لكل عبارة في العمود الأول إجابة واحدة صحيحة في العمود الثاني. - أن تكون العبارات قصيرة، وأن يتم اختيار ألفاظها بدقة لا تحتمل اللبس. اختبار التتمة: يقول رشدي طعيمة: إن مصطلح التتمة Cloze قد صاغه ميلسون تايلور، وقدمه في مقال له نشر عام 1953، بعنوان: أسلوب التتمة، وهو أداة حديثة لقياس الانقرائية والتحصيل.   1 المرجع السابق، ص184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ويعرف تايلور أسلوب التتمة بأنه أسلوب معين يتم عن طريقه تعديل نص معين أو تغيير أنماطه اللغوية بحذف بعض أجزائه، ثم تقديمه إلى بعض القراء أو المستمعين، ومطالبتهم بإكمال الفراغات التي أحدثت فيه، وتعديله بحيث يعود إلى ما كان عليه مرة أخرى. وقد اشتق تايلور مصطلح "التتمة" من مفهوم الإغلاق Closure الذي يشيع في نظرية الجشتالت Cestalt. ومفهوم الإغلاق هذا يشير إلى ما لدى الإنسان من استعداد فطري لإكمال النقص الذي يراه، والنظر إلى الأشياء كوحدة وليس كأجزاء منفصلة، فكثيرا ما تعرض لنا كلمة ينقصها حرف معين أو تخلو من بعض النقط، ومع ذلك نقرؤها وندرك المقصود منها، وقد لا ننتبه إلى ما اعتورها من نقص أو شابها من خطأ. "وفي اختبار التتمة يقدم إلى الطالب نص محذوفة بعض كلماته وفق نظام معين يكلف بأن يملأ الفراغات التي أحدثها حذف الكلمات، والتنبؤ على قدر الإمكان بالكلمات الأصلية التي استعملها مؤلف النص، ويحصل الطالب على درجة لكل كلمة ينجح في التنبؤ بها وفق نظام التقدير الذي يحدده واضع الاختبار، ويمثل مجموع الإجابات الصحيحة درجة الطالب"1. واختبار التتمة سهل الإعداد والصياغة والتصحيح؛ ولذلك فقد استخدم لقياس تحصيل المتعلمين على جميع مستوياتهم، وفي هذا الاختبار قد يطلب المعلم من المتعلم إكمال العبارات أو النصوص الناقصة بكلمة أو برقم من عنده، وقد يعطى المعلم المتعلم مجموعة من الخيارات ليختار من بينها الكلمة أو العدد المناسب، كما أن الجمل الناقصة المطلوب إكمالها قد تكون ناقصة البداية، أو الوسط، أو النهاية وذلك حسب نوع القدرة المراد قياسها. ومن أهم مميزات هذا الاختبار أنه يمكن أن يغطي قدرا كبيرا من محتوى المنهج، كما أنه يقيس قدرات كثيرة ومتنوعة نسبيا، إذ يمكن عن طريقه قياس قدرة المتعلم على التذكر، والفهم، والتطبيق والاستنتاج، وإدراك العلاقات. ومن أهم عيوب هذا الاختبار أنه يسمح بدرجة من التخمين؛ لأن الإجابة قد يتم اختيارها من متعدد، كما أنه يركز إلى حد كبير على حفظ الحقائق وتذكرها, حيث لا يسمح بالمناقشة وعرض الآراء؛ لأن المتعلم ليست لديه حرية الكتابة والانطلاق في التعبير. ويجب على معد هذا الاختبار أن يكون دقيقا في اختيار العبارات والألفاظ بحيث يمكن تحاشي الغموض واللبس، كما يجب عليه تحاشي التركيز على أسئلة التذكر والحفظ، والعناية بتلك التي تتطلب مهارات عليا مثل التحليل والتفسير والابتكار.   1 لمزيد من التفاصيل انظر: رشدي أحمد طعيمة: "اختبار التتمة وتعليم اللغة العربية كلغة ثانية، في مجلة معهد اللغة العربية، جامعة أم القرى بمكة المكرمة، العدد الثاني، 1404هـ-1984م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 تفسير الدرجات : يتم تفسير الدرجة التي حصل عليها المتعلم في الاختبار التحصيلي إما على أساس التقويم مرجعي المعيار، وإما على أساس التقويم مرجعي المحك. ففي الأدبيات التربوية يوجد اتجاهان متمايزان في تفسير درجات التلاميذ في الاختبارات التحصيلية: الاتجاه الأول يعتمد على تفسير درجة المتعلم بمقارنتها بدرجات أقرانه وزملائه، أي: جماعة الصف التي ينتمي إليها المتعلم، ويتفق معها في الخصائص الأساسية: كالسن، والصف الدراسي، والمستوى الاحتماعي والاقتصادي وغير ذلك، وتعرف هذه الجماعة في الاختبارات المقننة -كاختبارات الذكاء مثلا- باسم الجماعة المعيارية، ومن هنا سمي هذا النوع من التقويم "بالتقويم مرجعي المعيار" Norm Referenced Evaluation. والاتجاه الثاني هو ذلك الذي يعتمد في تفسير درجة المتعلم في الاختبار التحصيلي بمقارنتها بمحك أو مستوى محدد للأداء، أي: بمدى تحقيقها للأهداف المحددة سلفا. فالمحك يتحدد على ضوء الأهداف التربوية التي يسعى المعلم والمتعلم إلى تحقيقها، وكلما كان تحديد المحك دقيقا، كلما يسر ذلك عملية التقويم، ويسمى هذا النوع من التقويم "بالتقويم مرجعي المحك" enced evaiuation Critrion refer. التقويم مرجعي المعيار: والتقويم مرجعي المعيار إما أن يكون في صورة اختبارات مقننة: كاختبارات الذكاء، واختبارات الاستعداد العقلي، واختبارات الشخصية، والميول والاتجاهات.. إلى آخره، وإما أن يكون في صورة اختبارات تحصيلية غير مقننة كالتي سبق ذكرها1. فبالنسبة لبناء اختبار مقنن، لا بد لوضعه من إعداد "معايير في صورة مئويات أو نسب ذكاء أو درجات معيارية، يستمدها من الجماعة التي يطبق عليها الاختبار أثناء عملية التقنين، والتي تمثل المجتمع الأصلي الذي سوف يستخدم فيه الاختبار   1 انظر تفصيل ذلك في جابر عبد الحميد وزملائه: المرجع السابق، ص426-435. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 تمثيلا جيدا.. وحين يستخدم الفاحص هذا النوع من الاختبارات، فإنه يفسر درجة المفحوص بتحديد موقعها في المتغير، أو الصفة التي يقيسها بالنسبة للجماعة المعيارية "أي: جماعة التقنين"، هل يقع عند المئوى 20 أم 50 أم 70.. إلخ. وحينما نقول إن درجة التلميذ تقع عند المئوى 20 أو المئوى 50، فإننا نعني أنه أفضل من 20% أو 50% من زملائه"1. ومن الخصائص الأساسية للاختبارات مرجعية المعيار، والمعدة بطريقة جيدة، أنها تكشف عن الاختلاف الملحوظ أو التباين في استجابات الأفراد، فإذا جاء التباين "أي: الاختلاف" في أداء الأفراد الذين يجيبون على الاختبار ضعيفا، فإنه يصعب المقارنة بينهم، وهذا يعني أن إعداد أسئلة الاختبار لم يكن دقيقا، ومن هنا فإن صلاحية أي سؤال من أسئلة الاختبار تتحدد في ضوء قدرته على التمييز بين الأفراد، لذلك تعتبر الأسئلة التي يبلغ مستوى صعوبتها 50% "بمعنى أنها يجيب عليها 50% من الأفراد إجابة صحيحة، ويخطئ فيها 50% منهم" أفضل الأسئلة، أما الأسئلة التي يجيب عليها 100% من الأفراد إجابة صحيحة، وتلك التي يخطئ فيها 100% منهم، أو ما يقرب من هذه النسبة، فإنها تعتبر أسئلة غير صالحة؛ لعدم قدرتها على التمييز بين أفراد الجماعة، ولذلك يجب استبعادها من الاختبار2. وليس المطلوب من المدرس الذي يتبع التقويم مرجعي المعيار أن يضع اختبارات مقننة, كتلك التي يقوم ببنائها الأخصائيون في القياس النفسي والتربوي كاختبارات الذكاء والميول والاستعدادات.. إلخ. وكل المطلوب منه -في هذه الحالة- أن يضع اختبارات تحصل كتلك التي سبق تفصيل القول فيها، واتخاذها أساسا للمقارنة بين الفصل أو الصف الدراسي، فدرجة أي تلميذ تفسر بمقارنتها بدرجة زملائه في نفس حجرة الدراسة أو الصف الدراسي. على أن مقارنة درجة التلميذ بدرجات زملائه في الفصل، تتطلب من المدرس استخدام بعض المفهومات الإحصائية البسيطة، كالمتوسط الحسابي، والانحراف المعياري. ويحسب المتوسط الحسابي عن طريق جمع درجات جميع التلاميذ، وقسمة حاصل الجمع على عدد التلاميذ3:   1 المرجع السابق، ص427، 428. 2 المرجع السابق، ص428. 3 المرجع السابق، ص430. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وبمعرفة المتوسط الحسابي يستطيع المدرس معرفة المستوى العام لمجموعة معينة بمقارنته بمتوسط مجموعة أو أكثر من المجموعات الأخرى المتفقة معها في الخصائص الأساسية، كما يمكنه من معرفة وضع تلميذ معين بالنسبة لباقي تلاميذ المجموعة التي ينتمي إليها، ومعرفة مدى تقدمه بالنسبة للآخرين أو العكس بمقارنة درجاته في الاختبارات المتتالية، وحساب مدى التباين أو الاختلاف بينها، وعلى كل حال فإن مقدار تفوق التلميذ أو ضعفه يقاس بمدى بعد درجته عن المتوسط ارتفاعا أو انخفاضا. على أنه يهم المدرس أن يحدد مقدار تفوق التلميذ أو ضعفه بصورة أدق، وهو في هذه الحالة في حاجة إلى معرفة مقدار تشتت درجات التلاميذ، والمقصود بالتشتت، هو مقدار الفروق الموجودة بين الدرجات، وقد اصطلح على قياس التشتت بالانحراف المعياري. والانحراف المعياري ببساطة هو الجذر التربيعي لمتوسط مربعات الانحراف، وهناك طرق متعددة لحسابه، ولكن يكفي أن نشرح لك طريقة بسيطة لحسابه، وتتم وفق الخطوات التالية: 1- احسب متوسط الدرجات بالطريقة التي شرحناها سابقا، أي: بجمع درجات التلاميذ، وقسمة حاصل الجمع على عدد التلاميذ. 2- احسب انحراف كل درجة عن المتوسط، وذلك بطرح المتوسط من كل درجة من درجات التلاميذ. 3- ربع جميع الانحرافات الناتجة من الخطوة السابقة بقسمتها على عدد التلاميذ، فتحصل على متوسط مربعات الانحرافات. 4- احسب الجذر التربيعي لناتج الخطوة رقم3، تحصل على الانحراف المعياري. "ويعطيك الانحراف المعياري، كما أشرنا سابقا، مقياسا لتشتت الدرجات في الفصل، فإذا كان لديك فصلان مثلا، وحسبت متوسط الدرجات لكل فصل على حدة، فوجدت أن المتوسطين متساويان، أمكنك أن تستنتج بصفة عامة أن مستوى الفصلين واحد، على أن هذا الاستنتاج غير دقيق تماما، حيث إن الانحراف المعياري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 قد يختلف، فإذا وجدت الانحراف المعياري في أحد الفصلين 7، وفي الفصل الثاني 4، على سبيل المثال، يمكن أن تستنتج أن الفصل الثاني أكثر تجانسا من الفصل الأول، بمعنى أن الفروق بين درجات تلاميذه أقل من الفروق بين درجات تلاميذ الفصل الأول.. كذلك يفيدك الانحراف المعياري مع المتوسط في تحديد الوضع الدقيق بالنسبة لكل تلميذ في الفصل.."1. لكن التقويم مرجعي الميعار يتمتع بعيوب كثيرة، لعل أهمها ما يأتي: أولا: يكمن أهم عيب من عيوب هذا اللون من التقويم في أهم سمة من سماته، وهي قدرة أسئلته على التمييز، أي: أن يكون السؤال متوسطا بحيث يستطيع 50% من التلاميذ الإجابة عنه إجابة صحيحة و50% منهم يعجزون عن الإجابة الصحيحة عنه، وهذا يعني أن الأسئلة التي يجيب عنها المتعلمون جميعا تقريبا إجابة صحيحة، لأنها تتناول معارف أو مفاهيم هامة، قد اهتم المدرس بمناقشتها مع المتعلمين، وتلك التي يجيب عنها المتعلمون جميعا تقريبا إجابة خاطئة، لأنها تتناول حقائق أو مفاهيم هامة لكن المدرس أهملها؛ هذان النوعان من الأسئلة لا قيمة لهما في الاختبار الذي يتبع فلسفة التقويم المرجعي المعيار، واستبعاد هذين النوعين من الأسئلة يفقد الاختبار قيمته وأهميته كأداة للتقويم والكشف عن نواحي القوة ونواحي القصور في تحصيل تلاميذه، وفي طرق وأساليب تدريسه، وفي كل مكونات المنهج بصفة عامة، كما أن الاهتمام بقصر أسئلة الاختبار على الأسئلة المميزة، قد يدفع واضع الاختبار إلى التركيز على التفاصيل التافهة, وإهمال الأساسيات والمفهومات التي من خلالها تتحقق أهداف المنهج، وبذلك يفقد الاختبار أهم الصفات التي يجب توافرها فيه وهي الصدق والشمول. ثانيا: يقوم هذا اللون من التقويم على أساس مقارنة التلميذ بأقرانه في حجرة الدراسة أو في الصف الدراسي، وهذا قد يكون له انعكاساته الضارة على تحصيله وتقدمه، فالتلميذ الذي يحتل مركزا متفوقا في حجرة الدراسة بشكل مستمر قد يدفعه هذا إلى التراخي والكسل, وعدم بذل مزيد من الجهد والعمل، والتلميذ الذي يحتل مركزا متوسطا ومتدنيا قد يدفعه هذا إلى اليأس والقنوط والكف عن بذل الجهد والعمل. ثالثا: إن قصر تقويم التلاميذ على أساس مقارنتهم بزملائهم دون نظر إلى المستوى الذي وصلت إليه المجموعة ككل، يعني الرضا بنجاح التلاميذ دون الوصول إلى مستوى الأداء الجيد أو الممتاز، وهو مستوى الإتقان للمهارة أو فهم المعلومات   1 المرجع السابق، ص431. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 والمفهومات فهما جيدا والقدرة على تطبيقها وتحليلها وتفسيرها وتقويمها، وهذه هي المستويات الضرورية لرفع مستوى التعلم وحسن الأداء1. التقويم مرجعي المحك: لكل ما سبق، فإن التقويم مرجعي المحك هو الذي يستطيع المدرس والمنهج، بل والنظام التعليمي كله، التغلب به على العيوب السابقة وتلافيها. ففي هذا النوع من التقويم تفسر درجة التلميذ وفقا لوصفها لسلوكه، ومدى قرب هذا السلوك أو بعده من مستوى الأداء المطلوب، فالأداء بشكل معين، وتحقيق الأهداف هما المعيار الذي نفسر درجة المتعلم في ضوئه، وفي هذا اللون من التقويم أيضا، لا يقارن التلميذ بزملائه، وإنما يقارن بنفسه، لمعرفة مدى تقدمه من اختبار لآخر وفقا لأهداف المنهج المحددة سلفا. وتقاس دقة أسئلة الاختبار هنا بمدى صدقها في قياس أداء المتعلم، لمعرفة مدى قربه أو بعده عن مستويات الأداء المطلوبة، والتي تمثل الأهداف التعليمية للمنهج أو البرامج أو الوحدة أو الدرس، وفي ضوء هذه المستويات أو الأهداف ينجح المتعلم أو يرسب. فإذا جاز لنا أن نقارن ونختار بين الأسلوبين السابقين في ضوء موجهات السلوك الإنساني في منهج التربية في التصور الإسلامي، فإننا نختار التقويم مرجعي المحك، الذي يقوم المتعلم عن طريقه، وفقا لمدى قربه أو بعده من درجة الإتقان في العمل وحسن الأداء، وتحقيق الأهداف. والدليل على ذلك قول الله تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] فالمطلوب من الإنسان -طبقات لهذا المنهج الرباني- ليس مجرد العمل، وإنما الإحسان في العمل، والإحسان في الأداء. ويؤكد هذا -أيضا- قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" , فالمطلوب ليس مجرد العمل، وإنما المطلوب هو الوصول إلى درجة الإتقان في العمل. ويتفق هذا كله مع وظيفة الإنسان ووضعه في النظام الإسلامي العام، فالإنسان خليفة الله في الأرض، وقيام الإنسان بحق الخلافة، إنما يكون بعمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله، وعمارة الأرض وترقيتها لا يكون بمجرد العمل والأداء، بل يكون بإتقان العمل، وحسن الأداء.   1 المرجع السابق، ص432. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الخلاصة : مما سبق يتضح لنا أن منهج التربية الذي ننشده إنما يهدف إلى بناء الإنسان من الداخل كي يكون صالحا لتقوى الله، وعمارة الأرض وترقية الحياة، وأداء الالتزامات المترتبة على استخلاف الله له فيها، فالتربية في هذا المنهج ليست من أجل اجتياز الامتحانات، وأداء الاختبارات، بل من أجل اكتساب المعارف والمفهومات والمهارات, واستخدامها في عمارة الأرض وترقية الحياة بما يتفق مع منهج الله. ونظام التربية في هذا المنهج فردي وجماعي، جماعي في دراسة علوم المقاصد والغايات، وهو فردي في دراسة ما بعد ذلك من العلوم، والمتعلم في هذا المنهج يتمتع بقسط كبير من الحرية، فهو بعد دراسة علوم المقاصد يختار من المواد الدراسية الأخرى ما يناسب فطرته واستعداداته وميوله المختلفة، فالهدف من التربية في هذا المنهج هو النمو الكامل: جسميا وعقليا، ووجدانيا، وليس حفظ المعلومات وحشو الذهن بها بقصد اجتياز الامتحانات ثم نسيانها بعد ذلك. وكانت ممارسة المسلمين التربوية إلى ما قبل قرنين من الزمان تقريبا تسير وفق هذا المفهوم لعملية التربية، فلم يكن يطلب من المتعلمين تأدية امتحان بعد الانتهاء من الدراسة, كالامتحانات التي تعقد في أيامنا هذه، ولم يكن الطالب مقيدا بنظام معين، ولا بجدول أوقات للدروس والمحاضرات. وقد ذكر ابن أبي أصيبعة حالة واحدة جاء فيها أنه عقد امتحان لأطباء بغداد في عهد الخليفة المقتدر "في القرن العاشر الميلادي" بحضرة سنان بن ثابت الذي كان يمتحن الأطباء شفويا1. وقد كان الأساتذة يكتفون بمعرفتهم الوثيقة لكل طالب من خلال مناقشاته ومحاوراته ومناظراته أثناء الدراسة، فبدلا من الامتحانات كان الأساتذة يتابعون طلابهم باستمرار بالحوار والمناقشة، ثم يعطون طلبتهم الأكفاء شهادة أو إجازة ينصون فيها على أن الطالب قد أتم دراسة منهج معين، تحت إشراف الأستاذ فلان، وذلك دون أن يؤدي الطالب امتحانا بالطريقة الشكلية المعروفة, واعتمادا على معرفتهم العملية بالطالب أثناء الدراسة، وكان الغرض من الإجازة، الإقرار بكفاءة الطالب وفهمه واستيعابه لعلم أو مادة معينة، وقدرته على البحث، وكانت الإجازة العلمية شهادة شخصية من الأستاذ للطالب، ليس فيها عنوان معهد معين، ولا لقب خاص، وبذلك كان التقويم بنائيا ومستمرا.   1 محمد عطية الإبراشي: التربية الإسلامية وفلاسفتها، القاهرة، دار الفكر العربي، بدون تاريخ، ص210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فالمحك في منهج الله هو "التقوى": {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولا شك أن التقوى تشتمل ضمن ما تشتمل عليه إتقان العمل وحسن الأداء، فهذان محكان رئيسيان يقوم عمل الإنسان على أساسهما، فمن حاد عنهما، فقد حاد عن منهج الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الفصل التاسع: تطوير المناهج بين التغيير والتحسين والتطوير ... الفصل التاسع: تطوير المناهج يرتبط مفهوم التطوير بمفهوم المنهج ذاته والنظرة إليه، فالتطوير يشمل جميع عناصر المنهج من الأهداف إلى التقويم1، فالتطوير عملية شاملة لأنها تتناول جميع الجوانب والعوامل التي تتصل بالمنهج وتؤثر فيه وتتأثر به، فهي تتناول أهداف المنهج والخبرات الدراسية سواء منها ما يتصل بالكتب والمقررات الدراسة أو الأنشطة الأخرى كالمعامل والتجارب والرحلات والمعسكرات والندوات.. إلخ. وتتناول أيضا طرائق التدريس والوسائل المعينة والإدارة المدرسية والمكتبات ووسائل التقويم المتبعة ومدى دقتها ومناسبتها للأهداف المحددة سلفا. إن عملية التطوير تستلزم أيضا دراسة الفلسفة التربوية التي تستند إليها الممارسة الحقيقية، كما تستلزم دراسة التلميذ دراسة متكاملة، وتحديد كل مطالبه وحاجاته، ودراسة البيئة التي يعيش فيها التلميذ ومطالبها، وأيضا دراسة طبيعة المادة الدراسية ومتطلباتها، إن أية تغيرات تحدث في أي أو في كل من هذه العوامل، تتطلب بالتالي تغيرا مناسبا في المنهج. بين التحسين والتغيير والتطوير: إذا أردنا أن نضع خطة ذات خطوط محددة ل تطوير المنهج فإننا يجب أن نفرق أولا بين ما يسمى بتحسين المنهج Curriculum Improvement، وتغيير المنهج Curriculum Change، وتطوير المنهج Curriculum Development، حيث إن هناك خلطا في الاستعمال, والمناقشات الجارية بين هذه المفاهيم، ومع ذلك فينبغي أن ندرك أن هناك تداخلا بينها، فكل من التحسين والتطوير يتطلب تغييرا، مع اختلاف في الحجم والعمق. وعلى أية حال فإن تحسين المنهج يمكن فهمه على أنه تغيير مظاهر معينة في المنهج, ولكن دون تغيير المفاهيم الأساسية فيه أو في نظامه2, فالتحسين يعني توسيع الإدراك الحالي للمنهج ونظامه، وذلك كالتغيير في الأهداف وفي طريقة صياغتها، أو إضافة بعض الأفكار والخبرات إلى المحتوى المنهجي، أو إعادة تنظيم خبراته ومواده Sequence، أو إيجاد الروابط بين هذه الخبرات بعضها والبعض, أو بينها وبين خبرات من مادة دراسية أخرى Integration، أو تحسين طرائق التدريس المتبعة وإضافة طرائق جديدة إليها، أو تحسن نظام التقويم المتبع.. إلخ.   1 الدمرداش سرحان ومنير كامل، المناهج، القاهرة، دار العلوم للطباعة، ط3، 1972، ص313. 2 Taba H., Curriculum Development, Theory Practice, New York Harcout, Brace, Braess, & Word, INC. 1962, P. 454. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 تغيير المنهج: إن المنهج نتاج منظم لفكر وعمل الإنسان، فكلما تغيرت أفكار الإنسان تغيرت أفعاله، وهذا هو ما يحدث للمنهج، فالإنسان أحيانا يريد أن يتغير، وأحيانا لا يريد، فهناك أناس لديهم الرغبة في التغير، وهناك آخرون لا يرون أية ضرورة لذلك، فإذا كان المنهج لا بد أن يتغير، إذن لا بد أن يتغير الناس, وعندئذ سوف يتغير المنهج، وهذا ينطبق على قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وهذا يعني أيضا أن تغير المنهج عملية مستمرة، لأنه مرتبط بالإنسان الذي يعيش في زمان ومكان معينين. إن تغيير المنهج يعني بطريقة ما تغيير مؤسسة An Institution, وتغيير المؤسسات يعني كما يقول "مرتون Merton"، تغيير كل من الأهداف والوسائل1 ومع ذلك، فإن تغيير الأهداف والوسائل لا يعني أن الأهداف سوف تتحقق، فقد يحدث أن يتم اختيار الوسائل التي لا تتفق مع طبيعة الأهداف ومتطلباتها وبالتالي لا تتحقق الأهداف، أي: إن الأهداف والوسائل قد لا يكونان متناسبين، فقد يحدث التأكيد على الأهداف ولكن دون تأكيد على الوسائل التي تحقق هذه الأهداف، فهناك أهداف تربوية مثل "تعليم الطفل وتدريبه على التفكير النقدي"، أو "خلق المواطن الديمقراطي"، أو "الاهتمام بجماع شخصية التلميذ بكل جوانبها العقلية والجسمية والنفسية والاجتماعية"، نقول إن مثل هذه الأهداف قد تكون طموحا أو مثالية، أو من قبيل الطموحات أو الشعارات التي لا تهتم بها المؤسسات التي تعمل على تحقيقها. إن تغيير المنهج، بناء على هذا، يعني أيضا تغيير الأفراد المهتمين به، كالتلاميذ والآباء والمدرسين ولجان التخطيط والتطوير والقائمين على النظام بصفة عامة، إذن فهو يعتمد على التغيرات الإنسانية، فالتغير السليم هو الذي يحدث في أفكار الناس ومعتقداتهم ونظمهم المعيارية والقيمية، ثم ينتقل إلى مؤسساتهم وأنظمتهم، فالتغيير في الأنماط المعيارية والقيمية للمجتمع يؤدي إلى تغيير في المؤسسات التابعة له، ولكن يجب أن يكون واضحا هنا أن التغيير عملية متكاملة، فالتغير في القيم والمعايير لا بد أن يؤدي إلى تغيير في المؤسسات، وذلك من أجل الحفاظ على توازن النظام الاجتماعي2. ولكن هل هناك نظام اجتماعي متكامل ومتوازن تماما؟ طبعا الإجابة بالنفي؛ وذلك لأن التغيرات تقع بطرق مختلفة، وفي أوقات مختلفة، وبمستويات مختلفة، كما أن هناك تغيرات مفاجئة وأخرى تحدث بالتدريج، ولذلك فإن توازن النظم الاجتماعية   1 Merton, R.K., Social Theory and Social Structure, New York, Free Press, 1957 as referred to by Taba, H., op. cit., PP. 455-6. 2 Madkour, A.A.A., Curriclum Development in the General Secondary School in Egypt Since 1952, With Camparativ Reference to the Secondary School in America and The Grammar Shcool in England, ph. D. thesis, University of London, Institute of Education, 1979. 53-55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وتكاملها عملية نسبية تعتمد على مدى قدرة هذا المجتمع أو ذلك على التكيف مع المتغيرات الجديدة، وعلى مدى نشاطه في تكييفها بما يناسبه. وعلى كل حال فإن النظام الاجتماعي المتكيف النشيط The Adaptive and active Social System هو الذي عندما تقع بعض التغيرات المقبولة في بعض أفكاره وقيمه وأنماطه المعيارية فإنه يكيف الأفكار والقيم والأنماط المعيارية الباقية للأولى، وعندما تقع بعض التغيرات المقبولة في بعض مؤسساته فإنه يستجيب لذلك بتكييف المؤسسات الأخرى لمتطلبات التغيرات الجديدة، فتبني نظاما اقتصاديا يقوم على العرض والطلب، مثلا يتطلب تغيرات معينة في نظام التعليم ومناهجه، كما أن الاقتناع بنظام اقتصادي يقوم على التخطيط يتطلب إجراء تغييرات معينة في النظام والمناهج، والتغير في الكوادر العمالية, ونظم العمالة في المجتمع لا بد أن يصاحبه تغيير في النظام التربوي. عوائق التغيير: إن تغيير المنهج يشتمل أولا على تغيير الأفراد، وتغيير الأفراد يتضمن نوعين من التغيرات: النوع الأول هو تغيير النظرة التي يرى الفرد بها العالم من حوله، ماذا يدرك وماذا يتوقع؟ وهذه هي المظاهر المعرفية, النوع الثاني هو تغيير المظاهر الانفعالية، فما الأشياء التي يشعر الفرد بأنها مهمة، وما دوافعه لفعلها؟ فالمدرس قد يشعر بأهمية التغير وضرورته ولكنه لا يسلك سلوكا يؤدي إلى التغير أو يتدخل بإرادته لإحداث هذا التغير وجعله واقعا1. على أن هناك مجموعة من العوامل التي قد تقف عائقا أمام عملية تغيير المنهج منها: 1- القصور الذاتي، وقد يكون القصور بين المدرسين أو الموجهين أو المهتمين بالعملية التربوية، وقد يكون أيضا بين الإداريين، أو بين أعضاء المجتمع أو بين هؤلاء جميعا، فعندما يشعر هؤلاء أنهم راضون عن الأشياء كما هي، فلا يجب أن يتوقع أحد أي تغيير. 2- الشعور بالخوف وعدم الاطمئنان، فكثيرا ما يصاحب التغير بالخوف وعدم الشعور بالأمن ورهبة المجهول، وقد يتجسد ذلك في صورة الشعور بعدم مناسبة الجديد أو عدم أهميته، وقد يشعر بعض الناس بأن الجديد هذا اعتداء على خبراته   1 Coffey, H.S.., and W.P. Golden, Jr. "Psychologe of Change Within Institutions" as referred to by Taba. op cit., P. 455. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 2- إن خطة تغيير المنهج تتطلب أيضا خلق الظروف, وتحديد العلاقات بين العاملين، وتحديد ما إذا كانوا سيعملون كلجان، أو جماعات، أو تجارب فردية، وتحديد كيفية تتابع الخطوات المختلفة. 3- إن التغير الفعال للمنهج يتطلب قدرا كبيرا من التعليم والتدريب، فهناك معارف ومفاهيم وتعميمات ومهارات جديدة مطلوب تعلمها، كما أن هناك أساليب جديدة للتفكير تحتاج إلى التدرب عليها، وهناك تجارب مطلوب إجراؤها، كل هذا يتطلب أن تكون هناك مبادئ نظرية يجري العمل على هديها. 4- إن التغير، كما قلنا يتضمن قدرا كبيرا من العوامل الإنسانية، كتغيير أفكار الناس، وعلى الأخص المهتمون بشئون التعليم، نحو دور المنهج في العملية التربوية، وكيفية تنفيذه، وهذا ربما يتطلب هدما لبعض العادات والممارسات القديمة، وتدريبا على الأساليب الحديثة. 5- إن تغيير المنهج عملية معقدة، تتطلب الكثير من الخبرات والمهارات في كل خطوة من خطوات العمل، وعلى هذا فتوفر الخبراء والمتخصصين من البداية أمر هام، كما أن توزيع الأدوار، والنقطة التي يبدأ منها كل خبير أمر هام أيضا، إن الأمر يحتاج إلى إداريين، وخبراء في التصميم، وآخرين في تحديد المحتوى وتنظيمه، ولا يصح أن يشارك كل الخبراء في كل شيء دفعة واحدة. 6- إن تغيير المناهج يتطلب قيادة ماهرة، كما يتطلب أيضا توزيع القيادة في كل جزء من أجزاء العمل وفي كل مجال من مجالاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 تطوير المنهج : التطور هو التغير التدريجي الآلي الذي يحدث في بنية الكائنات الحية وسلوكها، ويطلق أيضا على التغير التدريجي الذي يحدث في تركيب المجتمع أو العلاقات أو النظم أو القيم السائدة فيه، أما التطوير فهو التغيير المتعمد لتحقيق أهداف معينة، وعلى هذا فإن التطوير هو تغيير على أساس علمي موضوعي ودراسة لكل العوامل المؤثرة والمتأثرة به، فالتطوير يستلزم التغيير الواعي، بينما التغيير قد يؤدي أو لا يؤدى إلى التطوير1، كما أن التغيير قد يحدث بإرادة الإنسان، وقد يحدث دون إرادته، وذلك عندما تكون العوامل المؤدية إليه خارجة عن إرادة الإنسان وليس له دخل في إحداثها، أما التطوير فلا يمكن أن يحدث إلا بإرادة الإنسان ورغبته، والتغيير قد يكون جزئيا ينصب على جانب معين أو مظهر خاص، بينما تطوير   1 حلمي أحمد الوكيل، تطوير المناهج، القاهرة، الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 1977، ص10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 المنهج عملية شاملة لجميع جوانبه1، فتطوير المنهج عملية تهدف إلى الوصول به إلى الصورة التي تمكنه من تحقيق أهدافه على أفضل وجه في أقصر وقت وأقل جهد. والتطوير عملية شاملة ترتبط أشد الارتباط لا بما تقدمه المدرسة إلى التلميذ فحسب، بل تشمل التلميذ وبيئته وظروف حياته والمجتمع الذي توجد فيه المدرسة، كما أن التطوير عملية ديناميكية لأن العوامل التي تدخل فيها في تفاعل، وكل عامل يؤثر في العوامل الأخرى ويتأثر بها، ولذلك فإن الحركة والتأثير لا ينقطعان، وهذا بدوره يؤدي إلى تغير مستمر، والتغيير السليم هو الذي يؤدي إلى التطوير2. لكن المنهج له عدة أسس تعتبر مصادر يشتق منها أهدافه ومحتواه، والتغيرات التي تحدث في هذه المصادر تعتبر قوة محركة وعاملا يستلزم ضرورة تطوير المنهج ليوائم هذه التغيرات التي حدثت في مصادره، هذا وإلا أصبح المنهج شيئا منفصلا عن جذوره وأسسه، وأهم هذه الأسس هي: 1- طبيعة المعرفة. 2- الطبيعة الإنسانية وطبيعة التعلم. 3- طبيعة المجتمع والحياة. إن تحديد أهداف المنهج, واختيار الخبرات التعليمية المناسبة, واختيار طرائق وأساليب التدريس المناسبة، كل هذا يتوقف على معرفة التلميذ ومرحلة النمو التي يمر بها ومطالب هذه المرحلة، كما أن تحديد أفضل الطرق لإرشاد التلاميذ، وتحديد مجالات النشاط المناسبة لهم, واستغلال طاقاتهم وإمكاناتهم، كل هذا يتوقف على معرفة مخطط المنهج بهؤلاء التلاميذ، إن التلميذ سوف يصير إنسانا أو مواطنا في المجتمع، فإذا لم يؤخذ في الاعتبار صفات المواطنة الصالحة التي يتطلبها المجتمع من أفراده، وإذا لم يؤخذ في الاعتبار المشكلات التي يواجهها التلميذ في حاضره، والآمال التي يرجوها في مستقبله، فإن هذا المنهج سوف يصبح قاصرا عن تحقيق أهدافه. إن لكل مجتمع طبيعته الخاصة، فلكل مجتمع معاييره وقيمه الخاصة، مثل الأهداف التربوية العامة والنظرية الاقتصادية والرؤية السياسية والمعتقدات الدينية ومفهوم العلاقات والطبقات الاجتماعية الخاصة به، إن لكل مجتمع أيضا مؤسساته سواء كانت مؤسسات اقتصادية أو سياسية أو تربوية أو اجتماعية أو دينية.. إلخ، كما أن لكل مجتمع جغرافيته الخاصة، ومظاهر خاصة للنمو السكاني فيه، وله أيضا مصادره الطبيعية كل هذه الأمور الخاصة بالمجتمع منها ما هو ثابت ومنها ما هو   1 المرجع السابق. 2 المرجع السابق، ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 متغير ومتطور وأي تغير أو تطور يطرأ عليها يستلزم بالضرورة تطورا في المنهج الدراسي. إن طبيعة المعرفة، والفكر السائد في المجتمع، ومدى تأثره بالأفكار التي تفد عليه من الخارج، وطبيعة كل مادة دراسية، كل هذا أيضا يمثل أساسا من أسس المنهج، وأي تطور فيه يستلزم بالضرورة تطورا في المنهج، فالتدفق المعرفي والثورة التكنولوجية في العصر الحديث، والاكتشافات الجديدة في مجال علم النفس، والنظريات التربوية الحديثة التي ظهرت وأثرت على الفكر التربوي في القرن العشرين، كل هذا يشكل أساسا يقوم عليه بناء المنهج، وأي تغيير يطرأ عليه لا بد أن يقابله تغيير مناسب في أهداف المنهج ومحتواه وطرق تعليمه وتقويمه. ويمكن تلخيص التطوير كما يلي: 1- الاستناد إلى دراسة علمية للفرد. 2- الاستناد إلى دراسة علمية للمجتمع1. 3- الاستناد إلى دراسة طبيعة المعرفة، وطبيعة المادة، وما حدث للمعرفة الإنسانية من تطور، ودراسة انعكاسات هذه التغيرات على المنهج. إن دراسة طبيعة الفرد وحاجاته ومشكلاته وطبيعة المجتمع وحاجاته ومشكلاته، وطبيعة المعرفة ومصادرها، يكون الأساس الذي يجب الاعتماد عليه في اشتقاق فلسفة تربوية ونظرية منهجية خاصة بكل مجتمع ونابعة منه وعاكسه لسماته وخصائص الأفراد فيه. بعد تحديد الفلسفة التربوية الخاصة بالمجتمع، يمكن استخلاص مجموعة من المبادئ الخاصة بالفرد في هذا المجتمع، وما يجب مراعاته لإقدار الفرد على مواجهة مشكلات حياته الحاضرة والاستعداد للحياة في المستقبل وما قد يطرأ من تغيرات، كما يمكن استخلاص مجموعة من المبادئ ليهتدي بها المنهج أيضا في إقدار التلاميذ على المساهمة في حل مشكلات مجتمعهم في حاضره ومستقبله، واستخلاص مجموعة من المبادئ الخاصة بطبيعة المعرفة الإنسانية وطبيعة المادة. إن هذه المبادئ التي تم استخلاصها والخاصة بالفرد والمجتمع والمعرفة تمثل النظرية المنهجية التي يمكن الاسترشاد بها في تطوير الأهداف المنهجية, والمحتوى التعليمي وطرائق التدريس وأساليب التقويم، إن أي تغيير له قيمة في المجتمع أو في   1 الدمرداش سرحان ومنير كامل، مرجع سابق، ص323، 324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 أفراده أو في المعرفة الإنسانية يتطلب تغييرا مناسبا في المناهج الدراسية, وإلا أصبحت مناهج عديمة القيمة والنفع لكل من المجتمع والأفراد على السواء. وعلى هذا فكل تغير أو حراك اجتماعي Social Mobility لا بد أن يقابله تغير مناسب وتطوير في المناهج، كما أن عملية تطوير المنهج لا بد أن تعكس اهتماما خاصا بالمتعلم, عن طريق احتوائها على مواد تعليمية ووسائل وخبرات وطرق مناسبة لمرحلة نموه، إن مرحلة التطوير هذه لا بد أن تهتم بالمراجعة والتمحيص الدقيقين حتى تصل إلى مستويات مقنعة للأراء، وهذا يتطلب أيضا تقويما مستمرا للإجراءات المستخدمة في عملية التطوير، لكن عملية المراجعة والتقويم لا بد لها من معايير، ومعايير التقويم هنا هي مدى فاعلية المناهج المطورة ومدى تحقيقها لأهدافها1.   1 Deighton, I, c, "ed", the Encyclopedia of Education, Vol. 2. U.S.A, the Macmilan Company & the free, 1971, pp. 580-84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 مراحل تطوير المنهج مرحلة وضع المبررات لمشروع التطوير ... مراحل تطوير المنهج: إن عملية التطوير كما نتصورها هنا تحتوي على ست مراحل: 1- مرحلة وضع المبررات للتطوير. 2- مرحلة تحديد الأهداف . 3- مرحلة اختيار المحتوى, ومنهجيات التعلم البديلة. 4- مرحلة الاختبار الميداني. 5- مرحلة المراجعة. 6- مرحلة التنفيذ. وسوف نتناول كل مرحلة من هذه المراحل الست بالتفصيل. 1- مرحلة وضع المبررات لمشروع التطوير: إن المرحلة الأولى في مشروع تطوير المنهج هي مرحلة التكوين أو البناء، وأولى الخطوات في هذه المرحلة هي إعداد تقرير مبدئي يصف التطوير, ويصف الفئات المقصودة بالتعليم The Target Population of learners، كما يصف أهمية مشروع التطوير المقترح ومبرراته1. وقد تكون هذه المبررات هي نتائج بحوث تكشف عن عجز المنهج الموجود عن الاستجابة للمتعلمين، وقد تكون ظروفا اجتماعية مستجدة، أو مشكلات استحدثتها عوامل التغير، وقد يشعر المدرسون بقصور منهج المادة التي يدرسونها كالمواد الاجتماعية أو الفنون اللغوية مثلا، ويرون ضرورة تطوير وحدات جديدة لها كل   1 Tyler, R. W. Basic Prnciples of Curriclum and Instruction, University of Chicago press, 1950. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 خصائص المنهج الجيد، وعلى هذا تكون الخطوة الثانية في هذه المرحلة هي تكوين وحدات دراسية جديدة في التنظيمات المعرفية التي يتم التطور فيها. إن المدرسين في مختلف التنظيمات المعرفية يجب أن يسهموا في ذلك، كما يجب عدم تكرار المشروع الجديد أو النتاج الجديد للموجود بالفعل، ولكن لا بأس من الاستعانة بالخبرات والمواد الموجودة والصالحة للممارسة، وتفاديا للتكرار وعمل البناء الجديد على أسس سليمة، فإنه يمكن الاستعانة بنتائج ما يسمى بالتقويم المبدئي Initial Evaluation، فهذا النوع من التقويم يساعد في إعطاء المطور خلفية مفيدة عن الموجود بالفعل، كما أنه يسهم في تقويم عملية التطوير في هذه المرحلة. ومن العوامل التي تبدأ في هذه المرحلة من التطوير وتستمر إلى نهاية عملية التطوير ما يلي: 1- لا بد من أن تكون هناك فلسفة تربوية واضحة المعالم, يتحرك المطورون للمناهج في ضوئها وعلى هديها. 2- أن توضع إجراءات للمراجعة المنظمة. 3- أن يقوم بالمراجعة أفراد ليسوا من المشتركين في عملية التطوير. 4- أن يدلي المستفيدون من الإنتاج الجديد "أي: المنهج المطور" برأيهم فيه، ونقصد بالمستفيدين هنا المدرسين والتلاميذ والنظار، ويقتصر رأيهم في هذه المرحلة على الخطة أو التصميم فقط. 5- لا بد أن يؤخذ رأي الخبراء في ميدان تخطيط وتصميم المناهج، ورأي الخبراء في التنظيم أو التنظيمات المعرفية التي يتم بناء المنهج فيها، من غير المشتركين في عملية التطوير. 6- على الذين يقومون بعملية التقويم والمراجعة أن يكونوا مسئولين عن تحديد أوجه القصور في العملية, واقتراح الحلول لها. 7- إن تحليل خطة مشروع التطوير, ومراجعة أوجه القصور فيها, واقتراح الحلول لها، يجب أن يكون معدا في صورة تقرير مكتوب للعرض على لجان المناقشة. وأخيرا فإن الذين يقومون بعمل إجراءات البناء, والتكوين للخبرات والأنشطة والمواد التعليمية، يجب أن يكونوا خبراء على مستوى عال في التخصص في التنظيم أو التنظيمات المعرفية التي توضع لها المناهج الجديدة، وأن يقوم بالمراجعة ممثلون عن المدرسين والتلاميذ وخبراء المناهج وعلماء النفس والمتخصصون أكاديميا في التنظيم أو المادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 2- مرحلة تحديد الأهداف : المرحلة الثانية من مراحل التطوير تتطلب التخصص والتفصيل في تحديد النتائج المرغوبة لمشروع التطوير، أي: مرحلة تحديد الأهداف, هذه الأهداف يجب أن تكون مصاغة في صور إجرائية بحيث يمكن ملاحظتها وقياسها أولا، لأن وضع الأهداف بهذه الصورة يساعد في تسهيل عملية التخطيط. ثانيا، لأن الأهداف بهذه الصورة تساعد التلاميذ في عملية التعلم نفسها1, انظر فصل الأهداف في هذا الكتاب. إن السبب في الإصرار على وضع الأهداف التعليمية في صورة إجرائية هو الأسلوب المباشر في الربط بين المنفق على التعليم والناتج التعليمي، أو بمعنى آخر الرغبة في تضييق الفجوة بين المدخلات والمخرجات التعليمية، في هذه المرحلة أيضا لا يجب الاقتصار على تحديد الأهداف إجرائيا، بل إذا كانت هناك أهداف معقدة فإنه يجب تفتيتها إلى عناصرها ومهاراتها الأولية, ووصف ما يجب أن يتعلمه التلميذ من هذه العناصر والمهارات، أي: وصف السلوك المتوقع من التلاميذ نتيجة لمرورهم بخبرات معينة2. والخطوة الثانية في هذه المرحلة هي تصحيح وتطوير مفردات معيارية Criterian Items لقياس الأهداف، وسوف تستخدم هذه المفردات في تقويم مدى ما حققه مشروع التطوير من أهدافه السابق تحديدها، كما أنها سوف تستخدم كقواعد تحكم عملية البناء والمراجعة، ويجب مراعاة أن تكون هذه المفردات صادقة، أي: إنها تقيس ما وضعت لقياسه، كما يجب أن تكون شاملة بحيث تقيس كل الأهداف التي سبق تحديدها، ويجب أن يوضع هذا المقياس موضع الاختبار، بأن يطبق على عينة من التلاميذ الذين يطور المنهج من أجلهم، وذلك لتحديد ما إذا كانت المفردات مناسبة لهؤلاء التلاميذ أم لا. إن نتائج مثل هذا الاختبار يمكن أن تفيد أيضا كعملية تقويم مبدئي Initial Evaluzcion للوقوف على المعارف والمهارات التي سوف تكون لدى التلاميذ قبل دخولهم للبرنامج المطور، ومن أجل مزيد من السيطرة فإن هذه المفردات المعيارية يمكن تطبيقها على مجموعة صغيرة نسبيا من الأشخاص الذين يفترض أنهم مالكون للمهارات المطلوب اكتسابها خلال المنهج المطور، إن نتائج هذا التطبيق سوف تساعد على اكتشاف العيوب الموجودة في الاختبار. وفي ختام هذه المرحلة، يجب أن تجرى مراجعة ثانية في ضوء النتائج التي حصلوا عليها من تطبيق الاختبار، كما يجب أن يقوم بذلك مجموعة من الأفراد والخبراء من غير المشتركين في عملية التطوير، إن على هؤلاء أن يحكموا على تصميم المنهج في مدى دقته ومناسبته لما سيتفق عليه.   1 Baker, Eva L, "Effects on Student Achievement of Behavioral and Nonbehavioral Objectives" Journal of Experimenta; Education, 37, No. 4. 2 See, Gagne, R. M., "Analysis of Instructional Objectives". in Glaser, R. "ed". Teaching Machines and Progammed Learning: Data and Directions. Vol. 2. Washington. D. C. N.E. A, PP. 21-65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 3- مرحلة اختيار المحتوى ومنهجيات التعلم البديلة : إن الخطوة الرئيسية في هذه المرحلة هي إنتاج نماذج بديلة للوحدات التعليمية, ولطرق التدريس كالتعلم الذاتي، والتعلم الجماعي ... إلخ، أي: إن مطوري المنهج يجب أن يصفوا ويقترحوا مواد وطرقا بديلة للتعلم، وهنا يجب أخذ عينة من المواد المطورة واختبارها بمقارنتها بالنموذج, ومعرفة ما إذا كان الكتاب أو المواد الدراسية والأنشطة المختلفة مناسبة للأهداف المحددة سلفا أم لا، وأيضا معرفة ما إذا كانت المواد التعليمية منفصلة على المواد البديلة أم لا، وعند هذا الحد فإن قرارات قد تتخذ لحذف بعض الأجزاء أو إضافة أجزاء أخرى أو الاثنين معا. وفي تطوير سلسلة متدرجة من المواد والدروس داخل وحدة أو مجموعة من الوحدات داخل المنهج، فإن هناك مجموعة من المعايير لاختيار الأنشطة والخبرات التعليمية، ومن هذه المعايير ما وضعه تايلور عام 1950، والتي يؤكد فيها أن تكون المواد والخبرات التعليمية ذات معنى لدى التلاميذ، وأن تزود التلاميذ بالفرص التي يمارسون فيها السلوك المطلوب تحقيقه في الأهداف1، ومنها أيضا معرفة النتائج، أي: نتاج التعلم، وهي السلوك الجديد، وتصحيحه إن كان معيبا، وتعزيزه وتقويته إن كان صائبا، كما رأى ذلك سكنر Skinner2. إن تطوير الإجراءات والمواد التعليمية يجب أن يعتمد على الآثار الملاحظة من متابعة الدروس القصيرة، أما الوحدات التعليمية الطويلة فإنه يجب تعديلها طبقا لنتائج تجريبية على مجموعة صغيرة من المتعلمين. بعد كل هذا تجمع كل التعديلات المقترحة وتبسط وتعرض في صورة خطة تمثل منهجا عاما مناسبا لجميع التلاميذ، وهنا يتطلب الأمر اختبار هذه الخطة في مدى ثباتها وعكسها للمبادئ والمعايير النظرية، كما يتطلب الأمر هنا أيضا اختبار صدق محتوى المنهج، ومدى تتابع خبراته ومنطقيتها وتدرجها من السهل إلى الصعب.. إلخ. إن مهمة المتخصصين في تصميم المنهج، وتبصيره بالمشكلات التي سوف يواجهها، واقتراح ما قد يستعين به في تعامله مع هذه المشكلات.   1 See Tyler; R. op. cit. 2 See Holland, J, G., and Skinner, B. F., the Analysis of, Behavior: A Programm for Self Instruction, New York Mcgrow - Hill, 1961. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 4- مرحلة الاختبار الميداني : بعد هذا يطرح المنهج المطور كله للاختبار الميداني وأهداف الاختبار الميداني عديدة أولا، تمدنا نتائج هذا الاختبار بالمعلومات عن مدى مناسبة المواد التعليمية لظروف المدارس والفصول الدراسية كما هي عليه في الواقع، كما أنها قد تقترح خبرات وأنشطة جديدة لبرامج تدريب المدرسين؛ وذلك لضمان تنفيذ المنهج كما هو مخطط له، وقد يكون هناك ملاحظون لملاحظة مدى انحراف المنهج عن أهدافه، ورفع ذلك في تقريرات لمعرفة ما إذا كانت هناك حاجة للمراجعة أم لا. ثانيا: إن نتائج الاختبارات هنا يجب أن تقترح على مطوري المنهج التعديلات المناسبة والاختيارات البديلة للمحتوى الذي تم اختياره، والتي تناسب تنوع التلاميذ على اختلاف قدراتهم واستعداداتهم ومشاكلهم المتنوعة بتنوع بيئاتهم، وأن ترشد المطور أيضا إلى مصادر هذه الخبرات والمواد، كما يجب اختبار مدى تلاؤم أساليب التدريس المتبعة للمواد والخبرات المتضمنة من محتوى المنهج. إن المدرس يجب أن يعتبر مصدرا للمعلومات عن المنهج الجديد، بتقريراته وتعليقاته عن المنهج الجديد، وعن مدى سهولة أو صعوبة الخبرات الدراسية، والوقت الذي يحتاج إليه، كل هذه معلومات نافعة ومفيدة لأنها من واقع التطبيق الميداني في هذه المرحلة، وقد يكون من الضروري أيضا قياس اتجاهات المدرسين نحو المنهج المطور بأي وسيلة من وسائل القياس. إن أهم وظائف هذه المرحلة هي بالطبع معرفة مدى ما حدث من تعديل في سلوك التلاميذ نتيجة مرورهم بالمواقف الجديدة، ومدى ما تعلموه من معارف ومفاهيم وتعميمات ومهارات، وعلى هذا فإن تصميم اختبار لقياس أثر المنهج الجديد على سلوك التلاميذ المعرفي والوجداني والحركي يعتبر أمرا ضروريا في هذه المرحلة. وهناك مصدر آخر للمعلومات في هذه المرحلة، وذلك عن طريق إجراء مجموعة من التجارب لبيان أفضل الطرق التي يجب اتباعها في التدريس لتحقيق الأهداف في أسرع وقت وأقل جهد، ومن هنا فإن مطوري المنهج لا بد أن تكون لديهم مجموعة من الطرق والمنهجيات للمفاضلة بينها، وإجراء التجارب لمعرفة أكثرها فاعلية في عملية التعلم. كما يجب أن يفاضل ويختار مطورو المنهج بين أنواع الوسائل المعينة وأحسنها بالنسبة لكل موقف تعليمي، إن كل هذه الاختبارات والتجارب هي من قبيل التقويم البنائي Formative Evaluation، الذي يساعد في بناء المنهج المطور على أسس موضوعية سليمة، كما يساعد في عملية تصحيح الأخطاء أولا بأول قبل أن يستشري الخطأ ويصبح تصحيحه عسيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 5- مرحلة المراجعة : تقوم المراجعة في هذه المرحلة بناء على المعلومات التي تم جمعها أثناء الاختبارات الميدانية، من تسجيلات الملاحظين، ونتائج الاختبارات، وتقارير المدرسين، وتعليقاتهم، وآراء الطلاب ... إلخ. وقد تعتبر المراجعة غير ضرورية إذا وصل التحصيل إلى الدرجة أو المستوى المقدر له من قبل في أهداف المنهج1, أو إذا وصلت أوجه القصور التي يراد الكشف عن أسبابها ومعالجتها إلى حد أنها لا تستحق ما سينفق عليها من مال ووقت وجهد.   1 Baker, Eva, L.,: Establishing Performance Standards", in Popham, J., et. al "eds" Establishing Instructional Goals, Englewood Cliffs, N. J. Prentic - Hall, PP 53-77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 6- مرحلة التنفيذ : بعد أن تثبت صلاحية المنهج الجديد وفاعليته من خلال الاختبار الميداني, و المراجع ة النهائية تأتي مرحلة التنفيذ، وفي هذه المرحلة يطبق المنهج الجديد على نطاق واسع في كل المدارس، وتنفيذ المنهج هنا لا يتم بواسطة مطوريه، وإنما عن طريق المدرسين العاديين, أو الذين أعدوا لذلك من جديد أو دربوا أثناء الخدمة على فلسفة المنهج الجديد, وأهدافه والمهارات والخبرات التي استحدثت والطرائق والوسائل الجديدة، ويجب أن يقتصر دور المطورين هنا على القيام بعمل تقويم ختامي Summative Evaluation للمنهج، وقد يقومون أيضا بعقد مقارنة بين نتائج هذا المنهج المطور وبين نتائج المناهج القديمة، أو بينه وبين مناهج أخرى بديلة، ولكن يجب عدم الاعتماد على نتائج الاختبارات التحصيلية في عقد هذه المقارنة؛ لأنها ليست كافية وحدها في عقد هذه المقارنة1. تعقب عملية التقويم الختامية هذه عمليات تحليل, أو على الأقل مراجعة نقدية للمواد والخبرات التعليمية, والأهداف والوسائل المستخدمة في التقويم، يكون الغرض منها تحديد الأخطاء في عملية التطوير كلها, بما فيها الأفراد الذين اشتركوا في هذه العملية، والطريقة التي عملوا بها, ودور كل فرد وكل فريق، وتحديد إيجابيات وسلبيات كل هذا، واقتراح العلاج لتقليل آثار السلبيات. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل د. علي مدكور   1 Taba, H, op. cit, PP. 457-59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 المراجع : 1- القرآن الكريم. 2- البخاري: صحيح البخاري، طبعة دار الطباعة العامرة باستنبول، الرياض، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 6140-1981م. 3- مسلم بن حجاج: صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1375هـ-1955م. 4- الترمذي: الجامع الصحيح، تحقيق عزت عبيد الدعاس، ط1، حمص، 1387هـ-1967م. 5- ابن ماجه: السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، عيسى البابي الحلبي وشركاه، بلا تاريخ. 6- البيهقي: مناقب الشافعي، تحقيق السيد أحمد صقر، الطبعة الأولى، 1390هـ-1971م. 7- العبدري: المدخل، الطبعة الأولى، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1348هـ-1929م. 8- الزرنوجي: تعليم المتعلم طريق التعلم، تصحيح أحمد أسعد علي، القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1367هـ-1948م. 9- ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله، الطبعة الثانية، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المدينة المنورة، المكتبة السلفية، 1388هـ-1968م. 10- الراغب الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة، تحقيق طه عبد الرءوف سعد، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1973م. 11- الفارابي، إحصاء العلوم، تحقيق الدكتور عثمان أمين، الطبعة الثالثة، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1968. 12- الماوردي: أدب الدنيا والدين، الطبعة الثالثة، تحقيق مصطفى السقا، القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، 1375هـ-1955م. 13- الماوردي: الأحكام السلطانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 14- ابن تيمية: الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد العاصمي النجدي، الطبعة الأولى، الرياض، 1381هـ. 15- ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل، تحقيق محمد رشاد كامل، القاهرة، دار الكتب، 1971م. 16- ابن تيمية: العبودية، تأليف أحمد عبد الحليم الحراني، القاهرة، مطبعة المدني 1959م. 17- ابن تيمية: الاستقامة، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، المملكة العربية السعودية، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1404هـ. 18- ابن خلدون: المقدمة، الطبعة الأولى، بيروت، دار القلم، 1978م. 19- ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الجيل، بدون تاريخ. 20- ابن القيم: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق محمد حامد الفقي، بيروت، دار الكتاب العربي، ثلاثة مجلدات، 1972م. 21- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، دار الأندلس، 1400هـ-1980م. 22- ابن منظور: لسان العرب، بيروت، دار صادر، دار بيروت، 1388هـ-1968م. 23- أبو الأعلى المودودي: مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، الرياض، الدار السعودية، 1405هـ-1985م. 24- أبو الأعلى المودودي: النهج الإسلامي الجديد للتربية والتعليم، جمعه وقدم له وعلق عليه محمد مهدي الاستانبولي، الطبعة الثانية، بيروت المكتب الإسلامي، 1402-1982م. 25- إبراهيم الشافعي: التربية الإسلامية وطرق تدريسها، الكويت مكتبة الفلاح، الطبعة الثانية، 1406هـ-1985م. 26- الغزالي: إحياء علوم الدين، الطبعة الأولى، بيروت، دار العلم، بدون تاريخ. 27- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن. 28- الجاحظ: البيان والتبيين، الطبعة الرابعة، تحقيق حسن السندوبي، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1375هـ-1956م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 29- إسحاق أحمد فرحان وزملاؤه: نحو صياغة إسلامية لمناهج التربية والتعليم، قطر، مطبوعات رئاسة المحاكم الشرعية، 1399هـ-1979م. 30- إسحاق أحمد فرحان وزملاؤه: المنهاج التربوي بين الأصالة والمعاصرة، عمان، دار الفرقان، 1404هـ-1984م. 31- أمال حمزة المرزوقي: النظرية التربوية الإسلامية-ومفهوم الفكر التربوي الغربي، جدة-المملكة العربية السعودية، شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر، 1402هـ-1982م. 32- أنور الجندي: التربية وبناء الأجيال في ضوء الإسلام، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1982م. 33- أنور الجندي: أخطاء المنهج العربي الوافد، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1980م. 34- أنور الجندي: أعلام وأصحاب أقلام، القاهرة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، بدون تاريخ. 35- الدمرداش عبد المجيد سرحان: المناهج المعاصرة، الكويت، مكتبة الفلاح، 1401هـ-1981م. 36- إبراهيم عصمت مطاوع وزميله: التربية العملية وأسس طرق التدريس، القاهرة، 1981م. 37- ألكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول، تعريب: شفيق أسعد فريد، بيروت، مكتبة المعارف، 1407هـ-1986م. 38- إسماعيل ظافر ويوسف الحمادي: التدريس في اللغة العربية، الرياض، دار المريخ، 1404هـ-1984م. 39- أحمد خيري كاظم وجابر عبد الحميد: الوسائل التعليمية، والمنهج، القاهرة، دار النهضة العربية، 1979. 40- توفيق الطويل: أسس الفلسفة، ط5، القاهرة، دار النهضة العربية، 1967. 41- حسن البنا: حديث الثلاثاء، سجلها وأعدها للنشر أحمد عيسى عاشور، القاهرة، مكتبة القرآن، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 42- حمد عبد العزيز اليوسف: مدى استخدام الوسائل التعليمية في تدريس المواد الدينية بالمدارس المتوسطة للبنين بمدينة الرياض، رسالة ماجستير غير منشورة، الرياض، كلية التربية، جامعة الملك سعود، 1406هـ-1985م. 43- جابر عبد الحميد وزملاؤه: مهارات التدريس، القاهرة، دار النهضة العربية، بدون تاريخ. 44- جون ديوي: الديمقراطية والتربية، ترجمة متى عقراوي وزكريا ميخائيل، الطبعة الثانية، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1954. 45- دراسات تربوية: مجلة كلية التربية جامعة الملك سعود، المجلد الأول، 1984، عمادة شئون المكتبات جامعة الملك سعود، الرياض، 1984. 46- سيد قطب: في ظلال القرآن، الطبعة الشرعية العاشرة، بيروت، دار الشروق، 1402هـ-1982م. 47- سيد قطب: نحو مجتمع إسلامي، بيروت، دار الشروق، ط6، 1403هـ-1983م. 48- سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، الطبعة السابعة، بيروت، دار الشروق، 1402هـ-1982م. 49- سيد قطب: معالم في الطريق، ط10، بيروت، دار الشروق، 1403هـ-1983م. 50- سيد قطب: التصوير الفني في القرآن، الطبعة السابعة، بيروت، دار الشروق، 1402هـ-1982م. 51- سيد قطب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، الطبعة التاسعة، بيروت، دار الشروق، 1403هـ-1983م. 52- سعيد إسماعيل على: دراسات تربوية، جـ3، يونيو، 1986، جـ، 1987م. 53- شوكت محمد عليان: الثقافة الإسلامية وتحديات العصر، الرياض، دار الرشيد للنشر والتوزيع، 1401هـ-1981م. 54- عبد الرحمن صالح عبد الله: المنهاج الدراسي، أسسه، صلته بالنظرية التربوية الإسلامية، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ط1، 1405هـ-1985م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 55- عبد الغني عبود: في التربية الإسلامية، القاهرة، دار الفكر العربي، 1977م. 56- عبد الغني عبود: الأسرة المسلمة والأسرة المعاصرة، القاهرة، دار الفكر العربي، 1979م. 57- عبد الغني عبود: التربية الإسلامية في القرن الخامس عشر الهجري، القاهرة، دار الفكر العربي، 1982م. 58- عباس العقاد: المرأة في القرآن، القاهرة، دار الإسلام، 1973م. 59- علي أحمد مدكور: تدريس فنون اللغة العربية: القاهرة، دار الفكر العربي، 1997م. 60- علي أحمد مدكور: نظريات المناهج التربوية، القاهرة، دار الفكر العربي، 1997م. 61- علي أحمد مدكور: تقويم برامج إعداد معلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها، الرباط، المنظمة الإسلامية للتربية الإسلامية والعلوم والثقافة، منشورات الأسيسكو، 1405هـ-1985م. 62- علي أحمد مدكور: "طريقة المناقشة وأهميتها في تعليم الكبار" التربية المستمرة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مركز تدريب قيادة تعليم الكبار لدول الخليج بالبحرين، العدد الثامن، السنة الخامسة يونيو 1984. 63- علي أحمد مدكور: "طريقة تحقيق الذات في تدريس التعبير" الكتاب السنوي في التربية وعلم النفس، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1986. 64- علي أحمد مدكور: المفاهيم الأساسية لمناهج التربية، الرياض، دار أسامة للنشر والتوزيع، 1409هـ-1989م. 65- علي أحمد مدكور: منهج تعليم الكبار: النظرية والتطبيق، القاهرة، دار الفكر العربي، 1969م. 66- عبد الرحمن الباني: مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام، المكتب الإسلامي، 1403هـ-1983م. 67- عبد الرحمن النحلاوي: أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، دار الفكر العربي، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 68- عبد القادر هاشم رمزي: النظرية الإسلامية في فلسفة الدراسات الاجتماعية والتربوية، الدوحة، دار الثقافة، ط1، 1404هـ-1984م. 69- علي عبد الواحد وافي: أصول التربية ونظام التعليم: القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية 1955م. 70- علي الطنطاوي: "سووا صفوفكم" الشرق الأوسط، عدد رقم 3299، في 10/ 21/ 1987م. 71- عمر الشيباني: فلسفة التربية الإسلامية: طرابلس، الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، 1975. 72- فاخر عاقل: التعليم ونظرياته، بيروت، دار العلم للملايين. 73- فتحي يونس وزميلاه: أساسيات تعليم اللغة العربية والتربية الدينية، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1981. 74- فهمي هويدى: لغز الحل الإسلامي، الأهرام عدد 36686، في 19/ 5/ 1987. 75- فهمي هويدى: "هؤلاء الدراويش" الأهرام، في 25/ 8/ 1987م. 76- فخر الدين الرازي: مفاتيح الغيب، الطبعة الأولى، القاهرة، المطبعة الخيرية، 1038هـ. 77- محمد حسنين هيكل: "حوار مع آينشتين" أخبار اليوم عدد 2204، في 14/ 1/ 1987م. 78- محمد متولي الشعراوي: منهج التربية في الإسلام، القاهرة، دار المسلم، بدون تاريخ. 79- محمد متولي الشعراوي: هذا هو الإسلام، الطبعة الدولية، نيقوسيا قبرص، ط1، 1407هـ-1987م. 80- محمد أحمد كريم: بحوث ودراسات في التربية، جدة عالم المعرفة للنشر والتوزيع، 1403هـ-1983م. 81- محمد رشاد خليل: علم النفس الإسلامي العام التربوي، الكويت، دار العلم، 1407هـ-1987م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 82- محمد قطب: منهج التربية الإسلامية، بيروت، دار الشروق، 1401هـ-1981م. 83- محمد قطب: منهج الفن الإسلامي، ط6، بيروت، دار الشروق، 1403هـ-1983م. 84- محمد أمين المصري: المجتمع الإسلامي، الكويت، دار القلم، 1400هـ-1980م. 85- محمد سيف الدين فهمي: النظرية التربوية وأصولها الفلسفية والنفسية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1980م. 86- محمد الغزالي: مشكلات في طريق الحياة الإسلامية. 87- محمد عزت عبد الموجود وزملاؤه: أساسيات المنهج وتنظيماته، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1981م. 88- محمد ضياء الدين الريس: النظريات السياسية الإسلامية القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960م. 89- ماجد عرسان الكيلاني: تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية، عمان جمعية عمال المطابع التعاونية، 1978م. 90- مور. ث: النظرية التربوية، ترجمة محمد أحمد الصادق، وعبد الحميد عبد التواب شيحة ط1، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1986م. 91- محمد عطية الأبراشي: التربية الإسلامية وفلاسفتها، القاهرة، دار الفكر العربي، بدون تاريخ. 92- محمد لبيب النجيحي: في الفكر التربوي، الطبعة الثانية، بيروت، دار النهضة العربية، 1981م. 93- محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة، ط13، 1404هـ-1985م، بيروت، دار الشروق. 94- محمود إسماعيل صيني وعمر الصديق عبد الله: المعينات البصرية، في تعليم اللغة الرياض، عمادة شئون المكتبات جامعة سعود 1404هـ-1984م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 95- محمد عبد العليم مرسي: المعلم والمناهج.. وطرق التدريس، الرياض، عالم الكتب، 1405هـ-1985م. 96- مجلة كلية التربية جامعة الملك عبد العزيز: العدد الخامس، رجب 1400هـ-مايو 1980م. 97- مجلة معهد اللغة العربية جامعة أم القرى: مكة المكرمة، العدد الثاني 1404هـ-1984م. 98- مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط. 99- يوسف القرضاوي: الخصائص العامة للإسلام، القاهرة، مكتبة وهبة، ط2، 1401هـ-1981م. 100- يوسف القرضاوي: العبادة في الإسلام، ط4، القاهرة، مكتبة وهبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الصفحة: المحتوى 5 تقديم بقلم أ. د جابر عبد الحميد جابر 9 مقدمة 11 الفصل الأول: المفاهيم الأساسية لمناهج التربية. 13 مفهومات عامة للمنهج 14 الخصائص التي يتميز بها المنهج 22 مفهوما المنهج والبرنامج 23 مفهوم الدين ومناهج التربية 29 مفهوم التربية 33 الفلسفة ومناهج التربية 36 مفهوم النظريات التربوية 41 الفصل الثاني: أسس مناهج التربية 43 طبيعة المعرفة 46 مصادر المعرفة 55 الكون هو المصدر الثاني للمعرفة 56 حقيقة الكون لدى بعض التصورات الفلسفية 58 القرآن والحقائق العلمية 61 واجب المنهج 63 العلم والمعرفة 65 التطبيق هو غاية العلم والمعرفة 68 العلم والمعرفة وقيادة الإنسانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الصفحة 73 الفصل الثالث: الطبيعة الإنسانية 75 الإنسان والفطرة الإنسانية 78 ضرورة دراسة الفطرة الإنسانية 81 مكونات الإنسان 84 علم النفس الإسلامي وعلم النفس الغربي 94 النمو والتعلم 96 العلاقة بين النمو والتعلم 98 واجبات المنهج نحو الطبيعة الإنسانية وطبيعة المتعلم 103 الفصل الرابع: طبيعة الحياة والمجتمع 105 مفهوم الحياة 107 طبيعة المجتمع ومكوناته 110 دور المناهج التربوية 111 العلم وتعليم الكبار 114 العدل في النظم والمؤسسات 116 العدل ومفهومات العبادة 116 واجبات مناهج التربية 119 مفهوم الأمية 121 واجب المنهج نحو حقيقة المجتمع والحياة 127 الفصل الخامس: أهداف المناهج 129 مكونات المنهج وأهدافه 130 تعريف الأهداف وأنواعها 133 معايير الأهداف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الصفحة 135 أهداف المناهج التربوية 158 ما يستفاد من قاعدة التغير 161 مصادر التلقي في منهج التربية 192 العدالة بين الفرد والمجتمع 203 الفصل السادس: محتويات مناهج التربية 205 مفهوم المحتوى ومصادره 208 تنظيم المحتوى 210 أنواع المحتوى 214 محور المحتوى بين الذكور والإناث 223 الفصل السابع: طرائق أساليب التدريس 225 مراحل عملية التدريس 226 الطريقة وعلاقاتها بأسس المنهج 230 دور المدرس 231 الإعداد 232 حفظ السجلات 232 التجميع 233 الوسائل التعليمية 252 التخييل الحسي والتجسيم 253 تفريد التعليم 259 الفصل الثامن: طرائق وأساليب التقويم 261 مفهوم التقويم 262 أسس التقويم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الصفحة 265 أنواع التقويم 267 مستويات التقويم 269 الاختبارات التحصيلية 276 التقويم مرجعي المعيار 280 التقويم مرجعي المحك 285 الفصل التاسع: تطوير المناهج 287 بين التحسين والتغيير والتطوير 288 تغيير المنهج 289 عوائق التغيير 290 متطلبات المنهج 291 تطوير المنهج 295 مراحل تطوير المنهج 303 المراجع 311 المحتويات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314