الكتاب: دفعُ إيهامِ تعارضِ أحاديث الأحكامِ في كتابِ الطَّهارةِ   أصل هذا الكتاب، رسالة مقدمة إلى قسم الدراسات الإسلامية ضمن متطلبات الحصول على درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية تخصص "حديث وعلومه". المؤلف: رقية بنت محمد المحارب   [الكتاب مرقم آليا] ---------- دفع إيهام تعارض أحاديث الأحكام في كتاب الطهارة رقية المحارب الكتاب: دفعُ إيهامِ تعارضِ أحاديث الأحكامِ في كتابِ الطَّهارةِ   أصل هذا الكتاب، رسالة مقدمة إلى قسم الدراسات الإسلامية ضمن متطلبات الحصول على درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية تخصص "حديث وعلومه". المؤلف: رقية بنت محمد المحارب   [الكتاب مرقم آليا] دفعُ إيهامِ تعارضِ أحاديث الأحكامِ في كتابِ الطَّهارةِ أصل هذا الكتاب رسالة مقدمة إلى قسم الدراسات الإسلامية ضمن متطلبات الحصول على درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية تخصص "حديث وعلومه". إعداد: رقية بنت محمد بن محارب. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا كثيرا طيباً، وصلى الله على النبي الأمين رسول رب العالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد فإن من فضل الله على عباده هدايتهم لسبيل الحق وإرشادهم للعلم النافع الذي به تأنس النفوس وتزكو الأرواح. وإن من أفضل وأشرف العلوم العلم بالكتاب والسنة وفهمها على وجهها الصحيح بعيدا عن الأهواء والشبه التي يدفع لها مصلحة دنيوية أو يمازجها جهالة أو تعصب مع صد عن اتباع ما عليه سلف الأمة خاصة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وقد كان يهمني جدا الاختلاف بين العلماء في المسائل الفقهية وما يسببه ذلك من تفرق واختلاف بين الأمة، فنظرت فإذا الاختلاف بينهم ناشيء من اختلافهم في فهم النصوص أو من واختلاف الأحاديث في معانيها ودلالاتها فأردت أن أجمع هذه الأحاديث وأألف بينها ما استطعت لذلك سبيلا. وكان هذا الاهتمام ناشئ معي بداية في مرحلة الماجستير ولذا جعلت بحث متطلب الحصول على الماجستير في هذا الموضوع قدمت عام 1410 هـ -1989م، وقد كان له أثر في الوقوف على مقاصد الشريعة وأسرارها وطرائق العلماء في التفقه والاستدلال وانتفعت كثيرا في الوقوف على علل الأحاديث عند تخريجها والحكم عليها، ولما رغب بعض الأخوات الاطلاع على البحث ونشره وجدت أنه لا يتناسب مع النشر بطوله وطريقته كبحث رسالة علمية لما سيكون فيه من إثقال القارئ بما لا يهمه كثيرا خاصة في الكلام على رجال الإسناد والطرق والمتابعات وأقوال العلماء في الحكم على الحديث فلخصت ذلك ببيان من أخرج الحديث وأقوال بعض أهل العلم في الحكم عليه اختصارا مع إعطاء الحكم الأخير الذي خلصت إليه كباحثة. ومن أراد التوسع فلابد أن يرجع للرسالة العلمية الأصل. ورأيت أن أذكر مقدمة البحث لتعم به الفائدة اسأل الله أن ينفع به من قرأه. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كتبته رقية بنت محمد المحارب الاثنين الخامس عشر من شهر شعبان 1431هـ المقدمة: إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 فإن السنة هي المصدر الثاني للتشريع، لذا فقد لاقت من عناية المسلمين ما حفظها، ولا غرو؛ فهي قرينة القرآن، أوتيها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليبين للناس ما نُزِّلَ إليهم لعلهم يعلمون فيتقون، جاءت شاملة كاملة، لكن أهل الزيغ والضلال زعموا اختلافها وتعارضها، لمَّا لم يفهموا مرادها، فتشككوا وشككوا من غير تدقيق ولا نظر، فقام من أئمة الحديث مَن بيَّنَ خطأهم وردَّ شبهتهم، فجمع بعض الأحاديث المتعارضة وردَّ تعارضها، وذلك ببيان نسخ بعضها لبعض تارة، أو ترجيح بعضها على بعض، أو التوفيق تارة أخرى. وممن صنف في ذلك الإمام الشافعي وابن قتيبة وغيرهما، وقد طالعت هذه المصنفات رغبة مني لأن أجد درء تعارض كل حديثين متعارضين فلم أجد. كما أن أصحاب هذه المصنفات اقتصروا على جزء يسير من الأحاديث التي حفلت بها السنة الشريفة المطهرة، فبقي كثير من الأحاديث ظاهرها التعارض، ولم يجمعوا بينها أو يفندوا تعارضها. فعزمتُ مستعينة بالله على جمع هذه الأحاديث مستقصية لها ومحققة إياها، ولأجل ترتيب كثير من كتب السنة بحسب الكتب والأبواب الفقهية، كان كتاب الطهارة هو أول كتاب بحثت فيه عن الأحاديث المتعارضة، فوجدته كافياً لمثل هذه الرسالة حيث وقفت فيه على تسع عشرة مسألة، يتعارض فيها خمسة عشر ومائة حديث. وقد دفعني إلى البحث في هذا الموضوع أسباب متعددة، أذكر منها: 1- أهمية البحث البالغة لخاصة المسلمين وعامتهم، حيث يزيل اللبس عن أكثر الأمور أهمية في حياة المسلم. 2- وجود مادة هذا البحث مفرقة بين كتب الفقه والحديث. 3- وجوب إزالة التعارض عن أحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي يتراءى للقارئ حين يقف على كتب السنة. 4- أهميته للمكتبة الحديثية والفقهية، فخلوها منه خلل لا يسده غير هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 5- الوقوف على المسائل المختلف فيها في كتاب الطهارة، مما سببه تعارض الأحاديث واختلافها، والخروج برأي راجح في كل مسألة. 6- معرفة القواعد التي يعتمد عليها في التأليف بين الأحاديث جمعاً أو نسخاً أو ترجيحاً. 7- معرفة صحيح الأحاديث المتعارضة من سقيمها. 8- الرد على المشككين في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والطاعنين فيها، ودحض شبههم بما يثلج صدر كل مسلم غيور. منهجي في هذا البحث: اتبعت في بحثي الخطوات التالية: 1- جمع الأحاديث المتعارضة ظاهراً في كتاب الطهارة بعد أن استقرأت أحاديث هذا الكتاب مستعينة بكتب مختلف الحديث أولاً، وبكتب السنة ثانياً، كما أنني استعنت بكتب أحاديث الأحكام وشروحها ثالثاً، وبكتب الفقه رابعاً. 2- اختيار الرواية الأنسب معنى لتكون الحديث المخرج سنداً ومتناً. 3- ذكر الرواية المختارة بسندها ثم ذكر الكتاب والباب والجزء والصحيفة. 4- تخريج الرواية المختارة عن نفس الصحابي، فإن كانت الرواية في الصحيحين أو أحدهما لم أبين طرق الحديث، وذلك لأن الطرق إنما تبين للإفادة منها في المتابعات وتقوية الحديث، وما كان في الصحيحين أو أحدهما فلا نحتاج فيه على بيان الطرق لصحة الحديث وثبوته. وإن كان في غير الصحيحين بينت طرق هذا الحديث بالمتابعة على سند الرواية المختارة والمصدر بها. 5- دراسة رجال الرواية المصدر بها، ببيان عدالتهم واتصال روايتهم. 6- ذكر أقوال العلماء في الحكم على الحديث سنداً ومتناً، وليس ذلك على سبيل الاستقصاء، وإنما على سبيل التغليب. 7- الحكم على الحديث سنداً ومتناً بعد تتبع الطرق وأقوال العلماء، مع بيان الشواهد التي يمكن أن ترتقي بالحديث أو تغير درجته. 8- ذكر الأحاديث المعارضة لهذا الحديث بنفس الطريقة التي قدمتها في دراسة الحديث الأول مروراً بجميع المراحل. 9- ذكر وجه التعارض بين هذه الأحاديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 10- ذكر أقوال العلماء في درء التعارض بين الأحاديث متوخية الأهمية وزمان العالم، فتارة أذكر قول العالم برمته، وآونة ألَُخِّصه في نقاط، ومرة أخرى أختصره اختصاراً غير مخلٍ برأيه مع الإشارة إلى التصرف فيه. 11- أذكر ما توصلت إليه في نهاية كل مبحث. ويشتمل هذا البحث على تمهيد وسبعة أبواب وخاتمة: أما التمهيد فيشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: معنى التعارض وأسبابُه. المبحث الثاني: معنى الترجيح وأسبابُه. المبحث الثالث: المؤلفات السابقة في هذا الموضوع. وأما الأبواب فهي: 1- باب المياه والنجاسات وفيه تسعة مباحث: المبحث الأول: أينجس الماء بورود النجاسة عليه؟. المبحث الثاني: أيغتسل الرجل أو يتوضأ بفضل المرأة؟. المبحث الثالث: سؤر الكلب. المبحث الرابع: سؤر الهر. المبحث الخامس: ما جاء في المني. المبحث السادس: جلود الميتة. المبحث السابع: هل تستقبل القبلة أو تستدبر بالبول أو الغائط؟. المبحث الثامن: كيف تطهر الأرض من البول؟. المبحث التاسع: البول قائماً. 2- باب الآنية وفيه مبحث: آنية الكفار. 3- باب الوضوء وفيه ثمانية مباحث: المبحث الأول: هل أكل ما مست النار من نواقض الوضوء؟. المبحث الثاني: هل يتوضأ من مسَّ ذكره أم لا؟. المبحث الثالث: هل النوم من نواقض الوضوء؟. المبحث الرابع: التسمية قبل الوضوء. المبحث الخامس: هل تجب المضمضة والاستنشاق والاستنثار في الوضوء؟. المبحث السادس: حكم تخليل اللحية الكثة في الوضوء. المبحث السابع: الاطِّلاء بالنورة. المبحث الثامن: التمندل (استعمال المنديل بعد الوضوء) . 4- باب الغسل وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: ماذا يجب على الجنب إذا أراد النوم أو الأكل أو المعاودة؟. المبحث الثاني: هل يجب الغسل بالتقاء الختانين دون إنزال؟. المبحث الثالث: غسل الجمعة. المبحث الرابع: هل يجب الغسل من تغسيل الميت؟. المبحث الخامس: هل يجب دلك الرأس في غسل الجنابة؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 المبحث السادس: التستر عند الغسل الخلوة. 5- باب السواك وفيه مبحث: حكم السواك للصائم. 6- باب الحيض والاستحاضة، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: ما يجوز الاستمتاع به من الحائض. المبحث الثاني: المستحاضة ترد إلى العادة أو إلى التمييز. المبحث الثالث: كيف تتطهر المستحاضة للصلاة؟. 7- باب التيمم، وفيه مبحث: صفة التيمم. وأما الخاتمة فذكرت فيها ما توصلت إليه من نتائج البحث. دفع إيهام تعارض أحاديث الأحكام في كتاب الطهارة د. رقية بنت محمد المحارب. بسم الله الرحمن الرحيم التمهيد وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: ويشتمل على معنى التعارض وأسبابه. المبحث الثاني: ويشتمل على معنى الترجيح وأسبابه. المبحث الثالث: ويشتمل على المؤلفات السابقة في هذا العلم. المبحث الأول: معنى التعارض وأسبابه. معنى التعارض في اللغة: التعارض مصدر من باب " تفاعل" الذي يقتضي فاعلين فأكثر للاشتراك في أصله المشتق منه، وأصله المشتق منه (ع ر ض) . قال ابن فارس: " وتقول عارضت فلاناً في السير إذا سرت حياله، وعارضته مثل ما صنع إذا أتيت إليه مثل ما أتى إليك.." (1) . وقال ابن منظور: "واعترض: انتصب ومنع وصار عارضاً كالخشبة المنتصبة في النهر والطريق ونحوها تمنع السالكين سلوكها. ويقال: اعترض الشيء دون الشيء أي حال دونه ... وفي التنزيل " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا" (2) أي نصباً لأيمانكم. قال الفراء: لا تجعلوا الحلف بالله معترضاً مانعاً لكم أن تبروا، فجعل العرضة بمعنى المعترض، ونحو ذلك ... " (3) . وقال الفيومي: "وعرض له أمر إذا ظهر ... وعارضت الشيء بالشيء قابلته به" (4) . وحاصل هذا أن للتعارض عدة معان:   (1) معجم مقاييس اللغة 4/269-280 مادة (ع ر ض) . (2) تمام الآية"..بين الناس والله سميع عليم" سورة البقرة آية: 224. (3) لسان العرب 7/165-187 مادة (ع ر ض) . (4) المصباح المنير 2/402-404 مادة (ع ر ض) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 1- المقابلة. 2- المساواة. 3- الظهور. والمعنى المراد بالتعارض هنا هو المقابلة على سبيل الممانعة لأنه أنسب بالمعنى الاصطلاحي. التعريف الاصطلاحي: إن التعارض عند علماء الحديث يعرف بمختلف الحديث وقد عرفه الخطيب البغدادي فقال: " معنى التعارض بين الخبرين، والقرآن من أمر ونهي وغير ذلك، أن يكون موجب أحدهما منافياً لموجب الآخر" (1) . وقال بعد هذا التعريف: " وذلك يبطل التكليف إن كانا خبرين أمراً ونهياً وإباحة وحظراً، أو يوجب كون أحدهما صدقاً والآخر كذباً إن كانا خبرين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- منزه عن ذلك أجمع، ومعصوم منه باتفاق الأمة وكل مثبتٍ للنبوة، وإذا ثبتت هذه الجملة وجب متى علم أن قولين ظاهرهما التعارض، ونفي أحدهما لموجب الآخر، أن يحمل النفي والإثبات على أنهما في زمانين أو فريقين أو على شخصين أو على صفتين مختلفتين، هذا ما لا بد منه مع العلم بإحالة مناقضته -صلى الله عليه وسلم- في شيء من تقرير الشرع والبلاغ" (2) . كما عرفه النووي فقال: " هو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهراً فيوفق بينهما أو يرجح أحدهما " (3) . شرح تعريف النووي: قوله: "حديثان" أخرج القرآن والقياس. قوله: "متضادان" أي يدل أحدهما على ما يخالف دلالة الآخر، كأن يدل أحدهما على التحريم أو الكراهة، ويدل الآخر على الإيجاب أو الندب أو الإباحة. قوله: "ظاهراً" أي أن التعارض لا يكون في حقيقة الأمر. قوله: "يوفق بينهما" أي يجمع بين دلالتيهما كأن يقال فيما تعارض فيه نهي وإباحة: النهي في حال كذا؛ والإباحة في حال كذا، وذلك بالنظر في الحال التي قيل فيها الحديث. قوله: "أو يرجح أحدهما" بإعمال أحدهما وإبطال الآخر لأمور في الأول تقوي الأخذ به. ولما كان علماء الأصول قد تناولوا هذا المبحث بشيء من التفصيل؛ أحال المحدثون على كتب الأصوليين في هذا المبحث كثيراً.   (1) الكفاية في علوم الرواية ص 433. (3) التقريب ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 قال النووي مشيراً إلى ذلك: " وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه، والأصوليون الغواصون على المعاني" (1) . وقال صاحب توجيه النظر: " ومبحث التعارض والترجيح من أهم مباحث أصول الفقه وأصعبها، وقد أطلق العلماء في ميدانه الفسيح الأرجاء أعنة أقلامهم، فمن أراد الاستيفاء فعليه بالكتب المبسوطة فيه، غير أنه ينبغي له أن يختار منها الكتب التي لأربابها براعة في نحو الأصول" (2) . لذا رأيتُ أن أذكر من تعاريف الأصوليين ما يتضح به معنى التعارض، وسأكتفي بإيراد أشملها، وأقلها من حيث الاعتراض عليها، وهو تعريف الإسنوي، حيث قال: " التعارض بين الأمرين هو تقابلهما على وجه يمنع كل منهما مقتضى صاحبه" (3) . شرح التعريف: قوله: "تقابل" جنس في التعريف يشمل كل تقابل، سواء أكان بين دليلين أم غيرهما، كتقابل شخص مع شخص. والمراد بالتقابل هنا: هو أن يدل كل من الدليلين على منافي ما يدل عليه الآخر، وذلك كأن يدل أحدهما على الإيجاب والآخر على التحريم مثلاً. قوله: "على وجه يمنع ..... إلخ" قيد خرج به تقابل الدليلين على وجه لا يمنع ذلك، كأن يتقابل دليل مع دليل يفيد كل منهما ما يفيده الآخر ولا تتوافر فيهما شروط التعارض، وعليه فيكون كل منهما مؤكداً للآخر" (4) . أسباب التعارض: ذكر الإمام الشافعي -رحمه الله- بعض الأسباب التي من أجلها يتوهم التعارض بين الأحاديث، كما ذكر غيرُه أسباباً أخرى أضافها إلى ما ذكره الشافعي، منها:   (1) التقريب ص 33. (2) توجيه النظر- لطاهر بن صالح الجزائري الدمشقي ص 226. (3) شرح المنهاج 2/117. (4) التعارض والترجيح- محمد الحفناوي ص 40-42 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 1- قد يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- القول العام يريد به العام، والعام يريد به الخاص. مثاله: تعارض نهيه -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَعَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) (1) . وكذا قوله: (لَا يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ فَيُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا) (2) . وكذا قوله: (إنَّ الشّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَها قَرْن الشيطان فإذا ارْتَفَعَتْ فَارَقَها فإذا اسْتوت قَارَنها فإذا زَالَت فارقها فإِذا دنت للغُروب قَارَنها فإِذا غربت فارقها) (3) ، قال عبد الله الصنابحي -راوي الحديث-: " ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة تلك الساعة". هذه الأحاديث في جملتها تعارض جملة من الأحاديث، كحديث ابن المسيب: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نام عن الصبح فصلاها بعد أن طلعت الشمس، ثم قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: "أقم الصلاة لذكري" (4) (5) . وكحديث جبير بن مطعم: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَلا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ) (6) . وغيرها من الأحاديث التي في معناها (7) . قال الشافعي:   (1) أخرجه البخاري (2/61) ومسلم (6/110) وأحمد (2/19) . (2) أخرجه البخاري (2/60) ومسلم (6/112) . (3) أخرجه النسائي (1/275) . (4) سورة طه الآية 14. (5) أخرجه مسلم (5/181) عن أبي هريرة مطولاً. (6) أخرجه البيهقي (2/456) . (7) هذه الأحاديث ذكرها الشافعي بأسانيدها، وذكر غيرها، اختصرتُها منعاً من الإطالة، اختلاف الحديث ص 115-117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 " وليس يعدُّ هذا اختلافاً في الحديث، بل بعض هذه الأحاديث يدل على بعض، فجماع نهي النبي - صلى الله عليه وسلم- والله أعلم- عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعدما تبدو وتبزغ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد مغيب بعضها حتى يغيب كلها، وعن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة (1) ، وليس على كل صلاة لزمت المصلي بوجه من الوجوه، أو تكون الصلاة مؤكدة فأمر بها، وإن لم تكن فرضاً أو صلاة كان رجل يصليها فأغفلها، فإذا كانت الواحدة من هذه الصلوات صليت في هذه الأوقات بالدلالة عن رسول الله ثم إجماع الناس في الصلاة على الجنائز بعد الصبح والعصر" (2) . 2- أن يؤدي المخبر عنه الخبر متقصى، والخبر مختصراً: مثاله: تعارض حديث النهي عن الصيام في السفر وكراهية ذلك مع أحاديث إباحته: أما أحاديث النهي فقوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث كعب بن عاصم: (لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ) (3) . وحديث جابر -رضي الله عنه- مرفوعاً: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ وَصَامَ بَعْضُهُمْ فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ) (4) .   (1) لحديث أبي قتادة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة وقال: (إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة) أخرجه أبو داود (1/284) وضعفه ابن حجر في التلخيص الحبير (1/199) . (2) اختلاف الحديث ص 116. (3) أخرجه النسائي (4/174، 175) . (4) أخرجه مسلم (7/222) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وقد عارض الحديثين السابقين وما في معناهما من الأحاديث حديثا أنس وعائشة -رضي الله عنهما-. فعن أنس -رضي الله عنه-: (سَافَرْنَا مع رسولِ اللَّه صلى اللَّهُ عليه وسلم فَمِنَّا الصائمُ ومنا المُفْطِرُ فلم يَعِبِ الصائمُ عَلَى المُفْطر وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ) (1) . وعن عائشة -رضي الله عنها- (إِنَّ حَمْزَةَ قَالَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصُومُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ) (2) . فهذه الأحاديث تتعارض في ظاهرها مع الأحاديث السابقة، ووجه الجمع بينهما أن يقال: إن الفطر في السفر رخصة وهي لمن يمرض أو يجهد، وإنما وقع التعارض لما لم يسق كعب بن عاصم جميع الحديث وإنما ساق حرفاً منه، وقد ساقه جابر -رضي الله عنه- مفسراً فقال: (كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زمان غزوة تبوك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير بعد أن أضحى، إذا هو بجماعة في ظل شجرة، فقال: من هذه الجماعة؟ قالوا: رجل صائم أجهده الصوم، أو كلمة نحو هذه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ليس من البر أن تصوموا في السفر) (3) . فاحتمل: ليس من البر أن يبلغ هذا رجل بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة وقد أرخص الله له وهو صحيح أن يفطر. ويحتمل ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم. فكعب بن عاصم ساق حرفاً من الحديث، وجابر ساق الحديث بتمامه، فتبين سبب الحديث وبقي القادر على الصيام الذي لا يجهد بذلك على الرخصة إن شاء صام وإن شاء أفطر (4) . 3- عدم إدراك الراوي لاختلاف الحال: مثاله:   (1) أخرجه البخاري (4/186) ومسلم (7/234) . (2) أخرجه البخاري (4/179) . (3) أخرجه البخاري (4/ 183) . (4) اختلاف الحديث ص 81-87 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ما وقع من تعارض في أحاديث استقبال القبلة بالبول والغائط فقد روي فيها حديثان ظاهرهما التعارض، وهما حديثا أبي أيوب وابن عمر -رضي الله عنهما-. فعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا " (1) قال أبو أيوب: فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تعالى) (2) . وعن ابن عمر -رضي الله عنه-: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ) (3) . فأبو أيوب -رضي الله عنه-سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النهي وجهل الحال التي ورد النهي فيها، وابن عمر -رضي الله عنه- رأى فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- المخالف لقوله، فعلم أن هذه الحال- وهي حال قضاء الحاجة في البناء- غير داخلة في النهي الذي رواه أبو أيوب -رضي الله عنه- ولم يعلم أبو أيوب ما علم ابن عمر -رضي الله عنه- فكان ينحرف عن استقبال القبلة في المراحيض، ويستغفر الله ظاناً أن استقبال القبلة مما نهي عنه في كل مكان (4) . 4- بعض الرواة يدرك جواباً لسؤال، ولا يدرك السؤال فيرويه فتخالف روايتُه روايةَ من أدرك السؤال ورواهما جميعاً: مثاله:   (1) رواه البخاري (1/245) وسيأتي تخريجه. (2) رواه مسلم (3/153) . (3) رواه البخاري (1/246) . (4) تراجع هذه المسألة في الباب الأول من هذا البحث ص: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 تعارض حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ) (1) ، مع حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلاَ الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ وَلاَ الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَلاَ الشَّعِيرَ بِالشِّعِيرِ وَلاَ التَّمْرَ بِالتَّمْرِ وَلاَ الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إِلاَّ سْوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ وَالْبُرَّ بِالشِّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ " (2) . فحديث أسامة يفيد أن الربا بالتأخير من غير تقابض هو الربا، وإن كان بغير زيادة، وأما حديث عبادة وما في معناه فيفيد خلاف ذلك، وقد بين الشافعي -رحمه الله- سبب هذا التعارض فقال: " قد يحتمل أن يكون أسامة -رضي الله عنه- سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسئل عن الربا في صنفين مختلفين؛ ذهب بفضة، وتمر بحنطة، فقال: (إنما الربا في النسيئة) فحفظه، فأدى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يؤدِّ مسألة السائل، فكان ما أدى منه عند سمعه أن لا ربا إلا في النسيئة" (3) . 5- عدم التمكن من معرفة صحيح الحديث من سقيمه، فيعارض الصحيح بالسقيم، والسقيم لا يخلو أن يكون وهماً أو غلطاً أو كذباً أو وضعاً: مثاله: ما ورد في سؤر الهر، فقد روي من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ " (4) . ويعارضه ما روي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لِطهورِ   (1) رواه مسلم (5/50) . (2) أخرجه الترمذي (3/531) . (3) اختلاف الحديث ص 204 بتصرف. (4) سيأتي تخريجه ص: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 إِنَاءِ أَحدِكُم إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يُغْسَلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ الأُولَى بِالتُّرَابِ، وَالْهِرَّةُ مِثْلُ ذَلِكَ " (1) . فهذه الأحاديث يظن من لم يعرف صحتَها من سقمِها تعارضَها، فإذا درس هذه الأحاديث علم ضعف الحديث الثاني وبه يتبين أنه لا تعارض بين الحديثين. 6- عدم فهم النص، وحمله على غير ما عني به: مثاله: ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَم عَلَى صُورَة الرَّحْمَن ". فإن هذا الحديث رواه أحد الرواة بهذا اللفظ؛ وذلك لأنه فهم فهماً خاطئاً للنص الذي سمعه وهو قوله: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " (2) . فإن الراوي باللفظ الأول فهم أن هاء الكناية تعود إلى لفظ الجلالة، فغير اللفظ على ما فهم، وليس ما فهمه صحيحاً؛ فإن هاء الكناية تعود إلى العبد الذي دل عليه الحديث الآخر، وذلك أن النبي -صلى الله عله وسلم- مرّ برجل يضرب ابنه أو عبده في وجهه لطماً ويقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: " إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ عَبْدَه فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " (3) . وهذا يوقع في اللبس والإشكال المتحصل من رواية من لم يفهم النص. المبحث الثاني: معنى الترجيح وأسبابه. أولاً: معنى الترجيح: الترجيح في اللغة: أصل الترجيح الراء، والجيم، والحاء، أصل يدل على الرزانة والزيادة، والميل والثقل والتذبذب.   (1) سيأتي تخريجه ص: (2) أخرجه مسلم (16/165) . (3) مشكل الحديث لابن فورك ص 6، 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 يقال: رَجَحَ الشيءَ بيده، رَزَنَه ونظر ما ثقله، ورَجَحَ الميزانُ إذا ثقلت كفَّتُه بالموزون، ورَجَحَ في مجلسه يرجُحُ: ثقل فلم يخِفّ، وترَجَّحَتْ به الأرجوحة مالت، وترَجَّح: تذبذب، والترجُّحُ: التذبذب، وراجحته فرجحته أي كنت أرزنَ منه (1) . الترجيح في الاصطلاح: لم يعرف المحدثون الترجيح بل أحالوا في ذلك على كتب الأصول التي ذكرت له تعاريف كثيرة لعدد من العلماء اخترت أجمعها وأمنعها وهو تعريف الآمدي، عرَّفه بقوله: " أما الترجيح فعبارة عن: اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به وإهمال الآخر. فقولنا: "اقتران أحد الصالحين" احتراز عما ليسا بصالحين للدلالة، أو أحدهما صالح والآخر ليس بصالح، فإن الترجيح إنما يكون مع تحقق التعارض ولا تعارض مع عدم الصلاحية للأمرين أو أحدهما. قولنا: "مع تعارضهما" احتراز عن الصالحين اللذين لا تعارض بينهما، فإن الترجيح إنما يطلب عند التعارض لا مع عدمه، وهو عام بالمتعارضين مع التنافي في الاقتضاء، كالأدلة المتعارضة في الصور المختلف فيها نفياً وإثباتاً. وقولنا: "بما يوجب العمل بأحدهما وإهمال الآخر" احتراز عما اختص به أحد الدليلين عن الآخر من الصفات الذاتية أو العرضية، ولا مدخل له في التقوية والترجيح" (2) . كما عرَّفه الإمام الرازي بأنه: " تقوية أحد الطريقين على الآخر ليعلم الأقوى، فيعمل به، ويطرح الآخر ". وقال شارحاً للتعريف: " وإنما قلنا "طريقين" لأنه لا يصح الترجيح بين أمرين إلا بعد تكامل كونهما طريقين، لو انفرد كل واحد منهما، فإنه لا يصح ترجيح الطريق على ما ليس بطريق" (3) .   (1) لسان العرب (2/445، 446) مادة (ر ج ح) ، المصباح المنير (1/219) مادة (ر ج ح) ، القاموس المحيط (1/229) مادة (رج ح) . (2) الإحكام في أصول الأحكام (4/239) . (3) المحصول 2/القسم الثاني ص 529. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ثانياً: أسباب الترجيح ووجوهه: إن التعارض إذا وقع بين حديثين نظر؛ فإن كان بينهما نسخ-وذلك بمعرفة التاريخ- أبطل العمل بالأول وعمل بالآخر، فإن لم يعرف التاريخ نظر؛ فإن أمكن الجمع بينهما عمل به، فإن لم يمكن الجمع ولم يعرف التاريخ تعين المصير إلى ترجيح أحدهما على الآخر. والترجيح له أسباب ووجوه كثيرة، منها ما يكون باعتبار السند، ومنها ما يكون باعتبار المتن. وسأبدأ بذكر الأسباب التي تكون باعتبار السند، وهي إما تعود إلى الراوي وإما إلى الرواية، وإما إلى المروي، وإما إلى المروي عنه. أما ما يعود إلى الراوي فأسباب منها: 1- أن تكون رواة أحدهما أكثر من رواة الآخر، فما كان رواته أكثر يكون مرجحَاً، لأنه أغلب على الظن من جهة أن احتمال وقوع الغلط والكذب على العدد الأكثر أبعد من احتمال وقوعه في العدد الأقل، ولأن خبر كل واحد من الجماعة يفيد الظن. ولا يخفى أن الظنون المجتمعة كلما كانت أكثر كانت أغلب على الظن حيث ينتهي إلى القطع، ولهذا فإنه لما كان الحد الواجب في الزنا من أكبر الحدود وآكدها؛ جعلت الشهادة عليه أكثر عددا من غيره، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعمل بقول ذي اليدين (أَقُصِرَتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ) (1) ، حتى أخبره بذلك أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-. 2- أن يكون راوي أحد الحديثين مشهوراً بالعدالة والثقة بخلاف الآخر، أو أنه أشهر بذلك، فروايته مرجحة لأن سكون النفس إليه أشد والظن بقوله أقوى. نحو: ما إذا اتفق مالك بن أنس وشعيب بن أبي حمزة في الزهري؛ فإن شعيباً وإن كان حافظاً ثقة غير أنه لا يوازي مالكاً في إتقانه وحفظه، ومن اعتبر حديثهما وجد بينهما بوناً بعيداً. 3- أن يكون أحد الراويين متفقاً على عدالته والآخر مختلفاً فيه، فالمصير إلى المتفق عليه أولى.   (1) أخرجه البخاري (1/565) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 مثاله: حديث بسرة بنت صفوان في مس الذكر مع ما يعارضه من حديث طلق، فحديث بسرة رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة بن الزبير وليس فيهم إلا من هو عدل صدوق متفق على عدالته، وأما رواة حديث طلق فقد اختلف في عدالتهم، فالمصير إلى حديث بسرة أولى (1) . 4- أن يكون أحد الراويين قد عمل بما روى والآخر خالف ما روى، فمن لم يخالف روايته أولى لكونه أبعد عن الكذب بل هو أولى من رواية من لم يظهر منه العمل بروايته. 5- أن يكون أحد الراويين أعلم وأضبط من الآخر أو أورع وأتقى، فروايته أرجح لأنها أغلب على الظن. 6- أن يكون أحد الراويين حال روايته ذاكراً للرواية عن شيخه غير معتمد في ذلك على نسخة سماعه أو خط نفسه بخلاف الآخر، فهو أرجح لأنه يكون أبعد عن السهو والغلط. 7- أن يكون راوي أحد الحديثين حين سمع الحديث كان بالغاً، والثاني كان صغيراً حال الأخذ، فالمصير إلى حديث الأول أولى؛ لأن البالغ أفهم للمعاني وأتقن للألفاظ، وأبعد من غوائل الاختلاط وأحرص على الضبط وأشد اعتناءً بمراعاة أصوله من الصبي، ولأن الكبير سمعه في حال لو أخبر به لقبل منه بخلاف الصبي، ولهذا فإن بعض أهل المعرفة بالحديث لما ذُوكِر في أصحاب الزهري رجح مالكاً على سفيان بن عيينة لأن مالكاً أخذ عن الزهري وهو كبير، وابن عيينة إنما صحب الزهري وهو صغير دون الاحتلام. 8- أن يكونا مرسلين وقد عرف من حال أحد الراويين أنه لا يروي عن غير العدل كابن المسيب ونحوه، بخلاف الآخر، فرواية الأول تكون أولى (2) .   (1) سيأتي الحديث في مسألة مس الذكر بالتفصيل في باب الوضوء ص (2) وذلك لمن يحتج بالمرسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 9- أن يكون سماع أحد الراويين تحديثاً وسماع الثاني عرضاً، فالأول أولى بالترجيح، إذ لا طريق أبلغ من النطق بالثبوت، ولهذا قدم بعضهم عبيد الله بن عمر في الزهري على ابن أبي ذئب لأن سماع عبيد الله تحديث وسماع ابن أبي ذئب عرض (1) . 10- أن يكون أحد الراويين مباشراً لما رواه والثاني حاكياً، فالمباشر أعرف بالحال، مثاله: حديث ميمونة (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَكَحَهَا وَهُوَ حَلاَلٌ) (2) ، وبعضهم رواه (وهو حرام) (3) ، فممن رواه (نكحها وهو حلال) أبو رافع، وممن رواه (نكحها وهو حرام) ابن عباس، وحديث أبي رافع أولى بالتقديم لأن أبا رافع كان السفير بينهما فكان مباشراً للحال، وابن عباس كان حاكياً (4) ، ولهذا أحالت عائشة على علي لما سألوها عن المسح على الخفين وقالت: " سلوا علياً فإنه كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم" (5) . 11- أن يكون أحد الراويين صاحب القصة فيرجح حديثه لأن صاحب القصة أعرف بحاله من غيره وأكثر اهتماماً، ولذلك رجع نفر من الصحابة ممن يرى الماء من الماء إلى حديث عائشة -رضي الله عنها- من التقاء الختانين (6) . 12- أن يكون أحد الراويين أحسن سياقاً لحديثه من الآخر وأبلغ استقصاءً فيه، لأنه قد يحتمل أن يكون الراوي الآخر سمع بعض القصة فاعتقد أن ما سمعه مستقل بالإفادة، ويكون الحديث مرتبطاً بحديث آخر لا يكون هذا الراوي قد تنبه له، ولهذا من ذهب إلى الإفراد في الحج قدم حديث جابر (7) لأنه وصف خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة مرحلة مرحلة ودخوله مكة وحكى مناسكه على ترتيبه وانصرافه من المدينة، وغيره لم يضبطه ضبطه.   (1) هذا عند من يقدم السماع على العرض. (2) أخرجه مسلم (9/196، 197) . (3) أخرجه مسلم (9/196) . (4) المراد بالنكاح وهو حلال أي عقد عليها وليس معناه دخل بها. (5) أخرجه مسلم (3/157) . (6) سيأتي الكلام عن هذه المسألة مفصلاً من باب الغسل ص (7) أخرجه البخاري (3/423) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 13- أن يكون أحد الراويين أكثر ملازمة لشيخه، فإن المحدث قد ينشط تارة فيسوق الحديث على وجهه ويتكاسل في بعض الأوقات فيقتصر على البعض أو يرويه مرسلاً، وهذا الضرب يوجد كثيراً في حديث مالك بن أنس، ولهذا قدم يونس بن يزيد الأيلي في الزهري على النعمان بن راشد وغيره من الشاميين أصحاب الزهري، لأن يونس كان كثير الملازمة للزهري حتى كان يلازمه في أسفاره، وطول الصحبة له زيادة تأثير فيرجح به. 14- أن يكون أحد الراويين فقيهاً والآخر غير فقيه، أو أفقه وأعلم بالعربية، فخبره يكون مرجحاً لكونه أعرف بما يرويه لتمييزه بين ما يجوز ومالا يجوز. 15- أن يكون رواة أحد الحديثين ممن لا يجوزون نقل الحديث بالمعنى ورواة الآخر يرون ذلك، فحديث من يحافظ على اللفظ أولى لأن العلماء اختلفوا في جواز نقل الحديث بالمعنى مع اتفاقهم على أولوية نقله لفظاً، والحيطة الأخذ بالمتفق عليه دون غيره. 16- أن يكون أحد الراويين لم يضطرب لفظه والآخر قد اضطرب لفظه، فيرجح خبر من لم يضطرب لفظه لأنه يدل على حفظه وضبطه وسوء حفظ صاحبه (1) . هذا ما يعود إلى الراوي، أما ما يعود إلى الرواية فأسباب الترجيح فيها كثيرة، منها: 1- أن يكون أحد الخبرين متواتراً والآخر آحاداً، فالمتواتر لتيقنه أرجح من الآحاد لكونه مظنوناً. 2- أن يكون أحد الخبرين مسنداً والآخر مرسلاً، فالمسند أولى لتحقق المعرفة براويه والجهالة بالراوي الآخر، ولهذا تقبل شهادة الفرع إذا عرف شاهد الأصل، ولا تقبل إذا شهد مرسلاً.   (1) الإحكام في أصول الأحكام 4/242-245 بتصرف، وثمة أسباب لم أذكرها بغية الاختصار وليست في الأهمية بمثل ما سبق. وللاستزادة ينظر " التقييد والإيضاح" ص246، 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 3- إن يكون ثابتاً بطريق الشهرة والآخر بالإسناد إلى كتاب من كتب المحدثين، فالمسند إلى كتب المحدثين أولى من جهة أن احتمال تطرق الكذب إلى ما دخل في صنعة المحدثين وإن لم يكن في كتبهم المشهورة بهم والمنسوبة إليهم أبعد من احتمال تطرقه إلى ما اشتهر وهو غير منسوب إليهم، ولهذا فإن كثيراً ما اشتهر الخبر مع كذبه ورد المحدثين له. 4- أن تكون رواية أحدهما لقراءة الشيخ عليه والآخر بقراءته هو على الشيخ أو بإجازته، أو مناولته له، أو بخط رآه في كتاب، فالرواية فيه بقراءة الشيخ أرجح، لأنه أبعد عن غفلة الشيخ عما يرويه. 5- أن يكون أحد الخبرين أعلى إسناداً من الآخر فيكون أولى، لأنه كلما قلَّت الرواة كان أبعد عن احتمال الغلط والكذب. 6- أن يكون أحد الخبرين قد اختلف في كونه موقوفاً على الراوي، والآخر متفق على رفعه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-، فالمتفق على رفعه أولى لأنه أغلب على الظن. 7- أن تكون إحدى الروايتين بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم والأخرى بمعناه، فرواية اللفظ أولى لكونها أضبط وأغلب على الظن بقول النبي صلى الله عليه وسلم. 8- أن تكون الراويتين بسماع من غير حجاب والأخرى مع الحجاب، كراوية القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها من غير حجاب لكونها عمة له (أن بريرة عتقت وكان زوجها عبداً) (1) فإنها تقدم على رواية أسود عنها (أن زوجها كان حراً) (2) لسماعه عنها مع الحجاب لأن الرواية من غير حجاب شاركت الرواية مع الحجاب في السماع وزادت تيقن عين المسموع منه. 9- إذا كانت إحدى الروايتين قد اختلفت دون الأخرى فالتي لا اختلاف فيها أولى لبعدها عن الاضطراب.   (1) أخرجه البخاري (9/406) . (2) أخرجه الترمذي (3/452) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 10- أن يكون أحد الحديثين سمعه الراوي من مشائخ بلده، والثاني سمعه من الغرباء فيرجح الأول لأن أهل كل ... بلد لهم اصطلاح في كيفية الأخذ من التشدد والتساهل وغير ذلك، والشخص أعرف باصطلاح أهل بلده، ولذلك اعتبر أئمة النقل حديث إسماعيل بن عياش فما وجدوه من الشاميين احتجوا به، وما كان من الحجازيين والكوفيين وغيرهم لم يلتفتوا إليه لما يوجد في حديثه من النكارة إذا رواه عن الغرباء. 11- أن يكون أحد الحديثين له مخارج عدة، والحديث الثاني لا يعرف له سوى مخرج واحد وإن كان قد رواه نفر ذو عدد، فيكون المصير إلى الأول أولى لأن الحكم الواحد إذا عمل به في بلدان شتى يكون أقوى من الحكم المعمول به في بلد واحد، وإن كان عدد هؤلاء أكثر. 12- أن يكون أحد الحديثين منسوباً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- نصاً وقولاً، والآخر ينسب إليه استدلالاً واجتهاداً، فيكون الأول مرجحاً نحو ما رواه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهَى عَن بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَقَالَ: لَا يبعن وَلَا يوهبن وَلَا يورثن، يسْتَمْتع بهَا سَيِّدهَا مَا بدا له، فَإِذا مَاتَ فَهِيَ حرَّة " (1) . فهذا أولى بالعمل من الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (2) ، لأن حديث ابن عمر قوله صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في كونه حجة، وحديث أبي سعيد ليس فيه تنصيص منه صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن من كان يرى هذا لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم خلافه وكان ذلك اجتهاداً منه، فكان تقديم ما نسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- نصاً أولى. وأكتفي بذلك منعاً للإطالة.   (1) مالك (2/139) . (2) أحمد (3/22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وأما ما يعود إلى المروي فأسباب الترجيح منها: 1- أن تكون رواية أحد الخبرين عن سماع من النبي -صلى الله عليه وسلم- والأخرى عن كتاب، فرواية السماع أولى لبعدها عن تطرق الغلط. 2- أن يكون في إحدى الحديثين قول النبي -صلى الله عليه وسلم- يقارن فعله والآخر مجرد قوله لا غير، فيكون الأول أولى بالترجيح وذلك نحو ما روته حبيبة بنت أبي تجراة (1) قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في بطن السيل وهو يسعى ويقول: "اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ " حتى أن ميزره ليدور به من شدة السعي) (2) ، فهذا الحديث أدل على المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ عَرَفَةُ " (3) ، ولاشتماله على أنواع الترجيح؛ الأول:: قوله، والثاني: فعله ويجب الاقتداء به، والثالث: إخباره عن إيجاب الله تعالى ذلك علينا فهو أولى بالتقديم من مجرد القول. وأما ما يعود إلى المروي عنه فأسباب كثيرة منها: 1- أن يكون أحد الراويين قد روى عمن أنكر روايته عنه كما في حديث الزهري (أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ) (4) ، فإن الزهري أنكر أن يكون حدث به سليمان بن موسى، بخلاف الآخر، فلما لم يقع فيه إنكار المروي عنه يكون أرجح لكونه أغلب على الظن. 2- أن يكون الأصل في أحد الخبرين قد أنكر رواية الفروع عنه إنكار نسيان ووقوف، والآخر إنكار تكذيب وجحود، فالأول أولى، لأن غلبة الظن بالرواية عنه أكثر من غلبة الظن بالثاني.   (1) تجراة: بفتح المثناة وسكون الجيم وفتح الراء. (2) أخرجه أحمد (6/421) . (3) أخرجه الترمذي (5/214) . (4) أخرجه الترمذي (3/399) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وأما الترجيحات والأسباب العائدة إلى المتن فمنها: 1- أن يكون الحكم الذي تضمنه أحد الحديثين منطوقاً به، وما تضمنه الآخر يكون محتملاً، ولذلك يجب تقديم قوله -صلى الله عليه وسلم- (فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ) (1) في إيجاب في مال الصبي على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ... ) (2) لأن قوله صلى الله عليه وسلم (في أربعين شاة شاة) نص على وجوب الزكاة في ملك من كانت له، وقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم..) لا ينبي عن سقوط الزكاة في مال الصبي، بأن يكون الخطاب فيه لغيره وهو الولي، فرفعُ القلمِ عنه يفيد نفي خطابه والتكليف له، ولا يعارض ذلك النص بوجه. 2- أن يكون أحد الحديثين مستقلاً بنفسه لا يحتاج إلى إضمار، والآخر لا يفيد إلا بعد تقدير وإضمار فيرجح الأول لأن المستقل بنفسه معلوم المراد منه، والمحذوف منه ربما التبس ما هو المضمر فيه. 3- أن يكون الحكم في أحد الحديثين مقروناً بالاسم نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " (3) قدم هذا على نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان (4) لأن تبديل الدين صفة موجودة في الرجل والمرأة، فصارت كالعلة وهي المؤثرة في الأحكام دون الأسامي. 4- أن يكون أحد الحديثين مطلقاً والآخر وارداً على سبب، فيقدم المطلق لظهور أمارات التخصيص في الوارد على سبب فيكون أولى بإلحاق التخصيص به، وعلى هذا يقدم قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) (5) على نهيه عن قتل النساء والولدان (6) لأن النهي وارد على سبب في الحربية.   (1) جزء حديث أخرجه الترمذي (3/8) . (2) أخرجه البخاري (12/120) . (3) أخرجه البخاري (6/149) . (4) أخرجه البخاري 6/148) . (5) تقدم تخريجه ص (6) تقدم تخريجه ص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 5- أن يكون أحدهما آمراً والآخر مبيحاً، فالآمر وإن ترجح على المبيح نظراً إلى أنه إذا عمل به لا يصير مخالفاً للمبيح ولا كذلك بالعكس لاستواء طرفي المباح وترجح جانب المأمور به، إلا أن المبيح يترجح على الآمر من أربعة أوجه: -الأول: أن مدلول المبيح متحد ومدلول الآمر متعدد فكان أولى. -الثاني: أن غاية ما يلزم من العمل بالمبيح تأويل الأمر بصرفه عن محمله الظاهر إلى المحمل البعيد، والعمل بالأمر يلزم منه تعطيل المبيح بالكلية، والتأويل أولى من التعطيل. - الثالث: أن المبيح قد يمكن العمل بمقتضاه على تقديرين، على تقدير مساواته بالآمر ورجحانه، والعمل بمقتضى الآمر متوقف على الترجيح وما يتم العمل به على تقديرين يكون أولى مما لم يتم العمل به إلا على تقدير واحد. -الرابع: أن العمل بالمبيح بتقدير أن يكون الفعل مقصوداً للمكلف لا يختل لكونه مقدوراً له، والعمل بالآمر يوجب الإخلال بمقصود الترك بتقدير كون الترك مقصوداً. 6- أن يكون أحدهما أمراً والآخر خبراً، فالخبر يكون راجحاً. 7- أن يكونا مشتركَين إلا أن مدلولات أحدهما أقل من مدلولات الآخر، فالأول أولى لقلة اضطرابه وقرب استعماله فيما هو المقصود منه. 8- أن يكونا مجازَين إلا أن أحدهما منقول مشهور في محل التجوز كلفظ الغائط بخلاف الآخر، فالمنقول أولى لعدم افتقاره إلى قرينة. 9- أن تكون دلالة أحدهما مؤكدة دون الأخرى، فالمؤكدة أولى لأنه أقوى دلالة وأغلب على الظن وذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، بَاطِلٌ، بَاطِلٌ " (1) . 10- أن يكون أحدهما قد دل على الحكم وعلته، والآخر دل على الحكم دون علته، فالدال على العلة أولى لأنه أقرب إلى الإيضاح والبيان.   (1) تقدم تخريجه. انظر ص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 11- أن يكون أحدهما قولاً والآخر فعلاً، فالقول أولى لأنه أبلغ في البيان من الفعل، فإن كان أحدهما قولاً وفعلاً والآخر قولاً فقط؛ فالقول والفعل أولى لأنه أقوى في البيان كما تقدم. 12- أن يكون أحدهما مشتملاً على زيادة لم يتعرض لها الآخر كرواية من روى أنه صلى الله عليه وسلم كبر في صلاة العيد سبعاً (1) ، فإنها مقدمة على رواية من روى أربعاً (2) ، لاشتمالها على زيادة علم خفي على الآخر (3) . المبحث الثالث: المؤلفات السابقة في هذا الموضوع. لقد اعتنى المسلمون عناية شديدة باختلاف الحديث فأفردوا له مصنفات خاصة منها الطويل ومنها الموجز، إلا أن هذه العناية لم تشتمل على جميع الأحاديث المختلفة، فبعض العلماء أفرد لأحاديث الأحكام مصنفاً واستوعب الأبواب الفقهية فأورد فيها ما يتعارض من الأحاديث كما فعل الإمام الطحاوي -رحمه الله- في كتاب "شرح معاني الآثار"، وبعضهم جمع المسائل التي كان سبب تعارض الأحاديث فيها النسخ فأفرد لها مصنفاً كما فعل الحازمي في كتابه " الاعتبار". وبعضه جمع أحاديث متنوعة في موضوعات شتى كما فعل الإمام ابن قتيبة في كتابه "تأويل مختلف الحديث"، وسأتناول جملة من هذه المصنفات بإيجاز مرتبة ترتيباً زمنياً. 1- اختلاف الحديث للإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ برواية الربيع بن سليمان المرادي المتوفى سنة 270هـ، وهو كتاب مطبوع طبع عدة مرات مع كتاب الأم وأخرى بتحقيق أحمد عبد العزيز وثالثه تحقيق عامر حيدر. 2- تأويل مختلف الحديث للإمام أبي عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276هـ، وقد أورد فيه أحد عشر مسألة تتعلق بكتاب الطهارة، وهو في عرضه للمسألة يورد قول المعترضين والمشككين ثم يشرع في الرد عليه، وهو في هذا يوجز في الجواب ولا يستوعب المسألة. وهذا الكتاب مطبوع متداول.   (1) أخرجه أبو داود (1/299) . (2) أخرجه أبو داود (1/299) . (3) الإحكام في أصول الأحكام (4/242-259) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 3- كتاب في اختلاف الحديث لأبي يحيى زكريا بن يحيى الساجي الحافظ المتوفى سنة 307هـ. 4- كتاب في الحديث لأبي جعفر الطبري المتوفى سنة 310هـ، ولم أجد من تكلم عنه وإنما يذكرونه في كتب اختلاف الحديث، ذكره غير واحد منهم السخاوي في فتح المغيث. 5- شرح معاني الآثار للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي المتوفى سنة 321هـ، وهو كتاب جليل من أكبر ما رأيت في اختلاف الحديث ذكر فيه مباحث عديدة، ورتبه على الأبواب الفقهية فابتدأ بكتاب الطهارة وبحث فيها ستاً وعشرين مسألة على المذهب الحنفي، وهو من أكثر المصنفات استيعاباً للمسائل وأغزرها علماً دراية ورواية. وهو مطبوع في أربعة مجلدات. 6- مشكل الآثار للإمام الطحاوي أيضاً، وهو كتاب ضخم يذكر فيه أحاديث مشكلة ثم يبين إشكالها ويرده. وقد لخص هذا الكتاب القاضي أبو الوليد الباجي المتوفى سنة 474هـ، كما اختصر الملخص أبو المحاسن يوسف بن موسى الحنفي. وقد طبع مشكل الآثار إلا أنه لم تكتمل النسخة المطبوعة، وذلك لفقد جزء من أصل المخطوط. 7- مشكل الحديث لأبي بكر محمد بن الحسين بن فورك المتوفى سنة 406هـ، ذكره السخاوي في قسم مختلف الحديث (1) ، إلا أن هذا الكتاب لا يعد من كتب مختلف الحديث -فيما أرى-وذلك لأنه لم يذكر الأحاديث المختلفة فيما بينها كما يظن، وإنما يذكر الحديث الذي يوهم ظاهره التشبيه ثم يشرع في تأويل ذلك. وقد ذكرت هذا الكتاب هنا لما قد يتوهم من عنوانه أنه مما يحسن أن يذكر في هذه الكتب لا سيما وقد عده بعض العلماء في كتب مختلف الحديث. 8- الآثار التي ظاهرها التعارض ونفي التناقض عنها للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى سنة 456هـ.   (1) فتح المغيث 1/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 9- التحقيق في اختلاف الأحاديث للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن أحمد المعروف بابن الجوزي، والمتوفى سنة 597هـ، وهو كتاب كبير، ويدفع فيه الخلاف بالجمع بين الأدلة تارة، وتارة أخرى بالقول بالنسخ، وأحياناً يسكت فلا يعلق على ذلك الاختلاف. وقد علق على هذا الكتاب الإمام الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي المتوفى سنة 744هـ في كتابه المسمى "التنقيح"، وقد طبع كتاب التحقيق مذيلاً بكتاب التنقيح بتحقيق محمد حامد الفقي، واختصر هذا الكتاب البرهان إبراهيم ابن علي بن عبد الحق المتوفى سنة 744هـ، كما أشار إلى ذلك صاحب كشف الظنون (1) . وهذا ما تيسر لي جمعه من كتب المختلف. ولما كان لعلم الناسخ والمنسوخ كبير اتصال بعلم مختلف الحديث رأيت أن أذكر جملة لمن كتب في الناسخ والمنسوخ، فإن كل ناسخ ومنسوخ مختلف، ولا عكس كما قال ذلك السخاوي (2) . 1- ألف فيه أحمد بن إسحاق الديناري المتوفى سنة 318هـ. 2- ومحمد بن بحر الأصبهاني المتوفى سنة 322هـ. 3- ومحمد بن محمد بن النحاس المتوفى سنة 338هـ. 4- وأبو محمد قاسم بن أصبع المتوفى سنة 340هـ. 5- ومحمد بن عثمان المعروف بالجعد الشيباني. 6- وهبة الله بن سلامة المتوفى سنة 410هـ. 7- وأبو حفص بن شاهين المتوفى سنة 385هـ، وقد اختصر كتابه ابن عبد الحق المتوفى 744هـ. 8- ومحمد بن موسى الحازمي المتوفى سنة548هـ. 9- وأبو الفرج ابن الجوزي المتوفى سنة 597هـ. ومن أشهر كتب الناسخ والمنسوخ كتاب محمد بن موسى الحازمي المسمى بالاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار فهو من أجمع ما صنف في بابه، وقد طبع هذا الكتاب مراراً، كما طبع كتاب ابن الجوزي المسمى بإخبار أهل الرسوخ في الفقه والتحديث بمقدار المنسوخ من الحديث. وطبع أيضاً كتاب ابن شاهين المسمى" ناسخ الحديث ومنسوخه" وهو مجلد متوسط صنفه على أبواب الفقه.   (1) كشف الظنون 1/379. (2) فتح المغيث 1/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 هذه جملة من كتب مختلف الحديث وكتب الناسخ والمنسوخ ذكرتها ليسهل على الباحث الرجوع للأحاديث التي يرى تعارضها ليجد فيها بغيته. الباب الأول باب المياه والنجاسات وفيه مباحث: المبحث الأول: أينجس الماء بورود النجاسة عليه. المبحث الثاني: أيغتسل الرجل أو يتوضأ بفضل المرأة. المبحث الثالث: سؤر الكلب. المبحث الرابع: سؤر الهر. المبحث الخامس: ما جاء في المني. المبحث السادس: جلود الميتة. المبحث السابع: هل تستقبل القبلة أو تستدبر بالبول أو الغائط. المبحث الثامن: كيف تطهر الأرض من البول. المبحث التاسع: البول قائماً. المبحث الأول: أينجس الماء بورود النجاسة عليه. إن القارئ في كتب السنة ليجد أحاديث هذه المبحث تتعارض، فيجد أحاديث تفيد غير مفاد الأحاديث الأخرى، فيشكل عليه الأمر. فمن الأحاديث المفيدة لطهارة الماء مع ورود النجاسة عليه: 1- (الماء طهور لا ينجسه شيء) . 2- (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) . ومن الأحاديث المفيدة لنجاسة الماء عند ورود النجاسة عليه: 1- (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه. 2- (إذا استيقظ أحدكم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً) . 3- (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار) . الأحاديث المفيدة لطهارة الماء مع ورود النجاسة عليه: الحديث الأول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه –قيل يا رسول الله: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ". (1) الحديث الثاني:   (1) أخرجه الترمذي (1/95) وقال حديث حسن، وأبو داود (1/17،18) ، والنسائي (1/174) ،وابن ماجة (1/173) ، وأحمد (3/15،16، 31) ، والطيالسي ص292،286، والدارقطني (1/30،31) ، والبيهقي (1/257،258) ، وعبد الرزاق (1/78) ، وابن أبي شيبة (1/243) ،،وأبو يعلى (2/476) ، والطحاوي (1/11،12،476) ، وصححه البغوي في شرح السنة (2/61) والنووي في المجموع (1/82) وابن الملقن في البدر المنير (315-317) وأحمد شاكر في تحقيقه للمحلى لابن حزم (1/156) والألباني في إرواء الغليل (1/45) . وقال ابن كثير في تحفة الطالب ص 258: في إسناده بعض الاضطراب. والحديث له شواهد من حديث سهل بن سعد وحديث ابن عباس وميمونة وعائشة مرفوعاً وموقوفاً ومن حديث جابر. قلت: وبهذه الشواهد يتقوى الحديث ويثبت، سيما أن ضعفه يسير، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 عن ابن عمر- رضي الله عنه-قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ". (1) الأحاديث التي مفادها نجاسة الماء بورودها عليه: الحديث الأول: عن أبي هريرة-رضي الله عنه- أنه سمع -رسول الله صلى الله عليه وسلم-يقول: "لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ". (2) الحديث الثاني:   (1) أخرجه الترمذي (1/97) ، وأبو داود (1/17) ، والنسائي (1/46) ، وابن ماجة (1/172، 173) ، والدارمي (1/187) ، وأحمد (2/23) ، والحاكم (1/132) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، والدارقطني (1/21،22) ، والبيهقي (1/260،261) ، والشافعي (1/7) ، وابن أبي شيبة (1/246، 247) .وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند (2/26) ، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1/104) قلت: يتبين أنه حديث صحيح بمجموع طرقه. (2) أخرجه البخاري (1/346) ، ومسلم (1/162) ، وأبو داود (1/18) ، والترمذي (1/100) ، والنسائي (1/49،125،197) ، وابن ماجة (1/124) ، والدارمي (1/186) ، وأحمد (2/259، 264، 265، 288، 292، 316، 346، 362، 394، 433، 529، 532) ، وابن خزيمة (1/50) ، وابن حبان (2/274) ، والبيهقي (1/97) ، وأبو حنيفة في جامع المسانيد (1/275، 279) ، وعبد الرزاق (1/89، 90) ، وابن أبي شيبة (1/ 241، 242) ، والبغوي (2/66) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" (1) . الحديث الثالث: عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ" (2) . وجه التعارض: إن من ينظر في مفاد الأحاديث السابقة يجد أن حديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) يدل على أن الماء لا يتنجس بوقوع شيء نجس فيه سواء كان قليلا أو كثيرا، ولو تغيرت أوصافه أو بعضها.   (1) أخرجه البخاري (1/263) ، ومسلم (1/160، 161) ، وأبو داود (1/25) ، والترمذي (1/36) ، والنسائي (1/99) ، وابن ماجة (1/138، 139) ، والدارمي (1/196) ، ومالك (1/34) ، وأحمد (2/241،253،259،265،،284،348، 382، 395، 403، 455، 465، 471) ، وابن خزيمة (1/52) ، وابن حبان (2/200، و201) ، والدارقطني (1/49) ، والبيهقي (1/45، 46) ، وأبو عوانة (1/262-264) ، والشافعي (1/10، 11) ، والطيالسي ص317عن أبي هريرة، وابن أبي شيبة (1/66) . (2) أخرجه مسلم (1/161، 162) ، والبخاري (1/19) بلفظ (إذا شرب) ، والترمذي (1/151) ، والنسائي (1/52، 53، 54،171، 177) ، وابن ماجة (1/120) ، والدارمي (1/188) ، ومالك (1/43) ، وأحمد (2/245،253، 271، 314، 360، 398، 424، 427، 480، 482، 508) ، والحاكم (1/160) ، وابن خزيمة (1/50، 51) ،وابن حبان (2/293، 294) ، والدارقطني (1/33، 66) ، والبيهقي (1/239) ، وأبو عوانة (1/207، 208) ، والشافعي ص7، 8، والبزار (1/145، 146) ، وعبد الرزاق (1/96) ، وابن أبي شيبة (1/304، 305) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ويجد أن حديث (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) يدل على أن قدر القلتين لا ينجس بملاقاة النجاسة، وكذا ما هو أكثر من ذلك بالأولى. فهذان الحديثان يدلان على أن الماء الكثير لا يتنجس بورود النجاسة عليه. كما أن الحديث الثالث (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) يدل على أن الماء الراكد الذي لا يجري يتنجس بورود النجاسة عليه سواء كان قليلا أو كثيرا. كما أن حديث (إذا استيقظ أحدكم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا) وحديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار) يدلان على أن الماء القليل يتنجس بورود النجاسة عليه. وللعلماء في حلِّ هذا التعارض مذاهب، أذكر أشهرها: 1- ذهب جماعة من العلماء إلى الترجيح منهم أبو حنيفة وأبو يوسف والحسن والطحاوي. فرجحوا الأحاديث المفيدة للنجاسة وأجابوا عن الأحاديث المفيدة للطهارة، فقالوا: •أما حديث: (الماء طهور لا ينجسه شيء) فالجواب عنه بأن بئر بضاعة في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم- كانت ممرا للماء فلم تكن راكدة، وبأن سؤال الصحابة للنبي –صلى الله عليه وسلم- لم يكن والنجاسة في البئر، وإنما بعد إخراجها منها، فأجابه النبي –صلى الله عليه وسلم- على أنها لا تبقى نجسة إذا زالت النجاسة منها، لا أنه يريد أنها غير نجسة في حال كون النجاسة فيها. • أما حديث (القلتين) فأجابوا عنه بأن هاتين القلتين لم يبين لنا مقدارها، فقد يجوز أن يكون مقدارها قلتين من قلال هجر، ويحتمل أن يكون أُريد بهما قلتا الرجل أي قامته. ولو كان هذا القدر لا ينجس فإنه يبقى طاهراً وإن غيرت النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه على ظاهر الحديث ولا حجة في حديث (الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه) لأنه منقطع. (1) وهم بهذا قد درؤا تعارض هذه الأحاديث. قلت: في إجابتهم وترجيحهم نظر لعدة أمور:   (1) ينظر شرح معاني الآثار للطحاوي 1/11-18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 1- أنه لا يسار إلى الترجيح وقد أمكن الجمع كما سيأتي. 2- إجابتهم عن حديث بئر بضاعة بأنه كان ممراً للماء مردود بما ورد في سنن أبي داود قَالَ:وَسَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا قَالَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ إِلَى الْعَانَةِ. قُلْتُ فَإِذَا نَقَصَ قَالَ دُونَ الْعَوْرَةِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَقَدَّرْتُ أَنَا بِئْرَ بُضَاعَةَ بِرِدَائِي مَدَدْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ وَسَأَلْتُ الذي فَتَحَ لي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ قَالَ لاَ. وَرَأَيْتُ فِيهَا مَاءً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ (1) . فهذا أبو داود يسأل هل غير بناؤها فيجاب بأنه لم يتغير. فقولهم أنها "اختلفت ما فيها مردود. كما أن إجابتهم بأن سؤال الصحابة لم يكن والنجاسة فيها؛ وجواب النبي –صلى الله عليه وسلم- كان بعد أن أخرجت النجاسة فهذا تكلف في التأويل، ولو كان الأمر كذلك-أي بعد أن أخرجت النجاسة- لم يسأل الصحابة عن حكم الماء الذي فيها، لأنه إن أخرجت النجاسة ولم يخرج الماء وهو يتنجس بورودها عليه لم يطهر بخروجها منه إلا أن ينزح ويوضع غيره، وهنا لا يحتاج الصحابة إلى سؤال لتبين الطهارةِ ووضوحِ الحكم، ولم ينقل أنه نزح منه أو حل محلَّه غيرُه. ثم إن سؤال الصحابة كان بلفظ المضارع " وهي يلقى فيها " دلالة على استمرار ورود النجاسة عليها، ولو كان الأمر كما ذهبت إليه الحنفية لكان السؤال بالماضي، للدلالة على أنه وردت النجاسة عليه وانتهى ورودها وتوقف، فكيف وقد وردت وأخرجت، أيصح السؤال بالمضارع عما مضى وانتهى؟!   (1) ينظر شرح معاني الآثار للطحاوي 1/18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 3- اعتذارهم عن حديث (القلتين) بأنه لم يتبين المقدار غير مقبول، إذ كيف يحدد النبي –صلى الله عليه وسلم- لأصحابه شيئا بمقدار مجهول، ولو كان فعل ذلك، فهل سيسكت الصحابة على جهالتهم بهذا الأمر وهو متعلق بحياتهم اليومية، وبطهارتهم لصلواتهم، ولم يكن مصدر الماء عندهم غير الآبار والغدران سيما من كان في المدينة. ولأن نعمل بتحديد (1) النبي –صلى الله عليه وسلم- وندين لله به خير من أن نعمل برأي الرجال وندين لله به. 3- وذهب جماعة إلى الجمع بين الأحاديث، ولكن اختلفوا في طريقة الجمع: فالشافعي: أعمل جميع الأحاديث وأخذ بها، فحديث (بئر بضاعة) بين (أن الماء طهور لا ينجسه شيء) وكان أكثر من قلتين فهو لا ينجس، وحديث (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم..) ليس فيه دليل على نجاسة الماء إذا بيل فيه، بل نهى عن البول فيه كما نهى عن التغوط في الأماكن على ظهر الطريق والظل والمواضع التي يأوي لها الناس، لأن الناس يستقذرون الشرب والوضوء من الماء الذي قد بيل فيه، فالنهي للتنزيه وليس للتحريم، وإلى هذا ذهب مالك أيضاً. وبهذا دُرئ التعارض ورُدَّ على القائلين بالترجيح، كما رُدَّ عليهم بأن الماء إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه فإنه ينجس، وإن كان روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم- من وجه لا يثبتُ أهلُ الحديث مثلَه؛ فقد أجمع عليه العلماء (2) .   (1) لم يحدد الحنفية كثرة الماء بالقلتين بل حددوه بما إذا حرك طرفه لم يتحرك- راجع: الهداية وفتح القدير 1/79-81. (2) ينظر: اختلاف الحديث للشافعي ص 104-114، وفتح الباري 1/348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وأما ابن خزيمة: فقد جمع بين الأحاديث بأن حديث (الماء طهور لا ينجسه شيء) مجمل غير مفسر، عام مراده خاص، خص بمقدار القلتين منه، فما كان دونهما فهو ينجس، وجمع بينهما وبين حديث (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم) بأن النهي في هذا الحديث لما كان دون القلتين، أما القلتان فلا تنجسان (1) . وجمع بعض الحنابلة بأن (الماء طهور لا ينجسه شيء) فيما كان قلتين فأكثر إذا كانت النجاسة غير بول وعذرة، أما إذا كان بولاً فإنه ينجس ما دام الماء راكداً وإن كان قلتين (2) . هذا وقد أجمعوا على أن الماء إذا خالطته النجاسة وغيرت طعمه أو لونه أو ريحه فهو نجس وإن كان كثيراً (3) . وقد جمع الإمام ابن قيم الجوزية، فأفاض في المسألة وذكر جميع الآراء والحجج لجميع المذاهب وبين ردود بعضهم على بعض، ثم تكلم على كل حجة بما يشفي ويغني كلَّ باحثٍ، واختار مذهباً لم يذهبه قبله أحدٌ –فيما أعلم- وذكر الأدلة النقلية والعقلية على ما ذهب إليه، ولولا خشية الإطالة لذكرت كلامه برمته، ومما جاء فيه مختصرا: 1- أجاب عن الأحاديث الثلاثة المفيدة لنجاسة الماء، بأنه ليس في شيء من هذه الأحاديث أن الماء ينجس بمجرد ملاقاة البول والولوغ، وغمس اليد. 2- أجاب عن حديث (القلتين) بأن ذكر القلتين يحتمل أن يكون وقع في الجواب لحاجة السائل إلى ذلك، ولا يمكن الجزم بدفع هذا الاحتمال، إلا لو أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال هذا اللفظ ابتداء من غير سؤال لاندفع هذا الاحتمال.   (1) ينظر: صحيح ابن خزيمة 1/48-50. (2) ينظر: المغني لابن قدامة 1/37، والشرح الكبير لابن قدامة 1/12. (3) حكى الإجماعَ ابنُ المنذر، راجع الأوسط له 1/260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 3- أن حاجة الأمة -حضرها وبدوها- على اختلاف أصنافها إلى معرفة الفرق بين الطاهر والنجس ضرورية، فكيف يُحالون في ذلك إلى ما لا سبيل لأكثرهم إلى معرفته؟ فالناس لا يكتالون الماء، ولا يكادون يعرفون مقدار القلتين، ثم هي لم تنضبط ولم يتفق على مقدارها، وليس هذا شأن الحدود الشرعية. 4- أن القائلين بالتحديد يلزمهم لوازم شنيعة منها: أنه لو وقعت شعرة من ميتة في قلتين إلا رطلاً -مثلاً- نجسته، ولو وقع رطل من بول في قلتين لم ينجسه، ومعلوم أن تأثر الماء بهذه النجاسة أضعاف تأثره بالشعرة، فمحال أن يجيء الشرع بتنجس الأول وطهارة الثاني. من هذه النقاط يتبين أن ابن القيم يذهب إلى أن النظر لا بد أن يكون لنوع النجاسة وكميتها مع كمية الماء ونوعه. (1) -قلت: وهذا الذي أراه صواباً، فإن النبي -صلى اله عليه وسلم- أمر بإراقة الإناء من ولوغ الكلب، لأن ولوغ الكلب يؤثر في هذه الكمية من الماء، بينما أباح استعمال الماء في الفلاة ترده الكلاب والسباع إذا بلغ قلتين، ليس لأجل أن القلتين تحمل جميع أنواع الخبث وكمياته ولكن لأنها تحمل ولوغ الكلاب والسباع لقلته، فماذا يؤثر ولوغ كلب في قلتين من الماء؟ . وليس إباحة الوضوء من بئر بضاعة مع وجود النجاسة فيها لأجل أنها بلغت قلتين، فلا دليل على أنها قلتان، ولكن لأجل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم أن كمية الماء الموجودة في البئر لا تتأثر بهذه النجاسة ولو كانت تتأثر لمنع من ذلك وهذا يدل عليه الإجماع. أما النهي عن البول في الماء الراكد فإنه من حكمة الشارع، حيث تفضي الإباحة إلى تهاون الناس في ذلك، وبالتالي قد تغلب النجاسة الكثيرة القائمة في البول في الماء الراكد وإن كان كثيراً، وأما الجاري فإنه لم ينه عن البول فيه لتجدده فلا يمكن أن تجتمع فيه أبوال الناس لتغلبه، بل يغلبها بجريانه. والله أعلم.   (1) ينظر تهذيب معالم السنن 1/56- 74 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 المبحث الثاني: أيغتسل الرجل أو يتوضأ بفضل المرأة. ومن الأحاديث التي تتعارض في ظاهرها، أحاديث إباحة الوضوء أو الغسل بفضل المرأة، مع أحاديث النهي عن ذلك. أما أحاديث الإباحة فمنها: 1- (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل بفضل ميمونة) . 2- (اغتسل بعض أزاوج النبي -صلى الله عليه وسلم- في جفنة، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتوضأ منه فقالت: يا رسول الله إني كنت جنباً، فقال: إن الماء لا يجنب) . 3- (كنت أغتسل أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد تختلف أيدينا فيه) . وأما أحاديث النهي فمنها: 1- (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة) . فهذه الأحاديث يظهر لقارئها أنها تتعارض! الأحاديث التي تدل على إباحة الوضوء بفضل المرأة: الحديث الأول: عن ابن عباس -رضي الله عنه-قال: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ" (1) . الحديث الثاني: عن ابن عباس -رضي الله عنه-قال: "اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَفْنَةٍ فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا فَقَالَ إِنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ" (2) .   (1) أخرجه مسلم (4/6) ، وابن ماجة (1/132) ، وأحمد 6/330، والحاكم (1/159) ، وابن خزيمة (1/57) ، والدارقطني (1/53) ، والبيهقي (1/188) ، والطيالسي ص 226، وأبو عوانة (1/284) . (2) أخرجه الترمذي (1/94) وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود (1/18) ، والنسائي (1/173) ، وابن ماجة (1/132) ، والدارمي (1/187) ، وأحمد (6/330) ، والحاكم (1/159) وقال: هذا حديث صحيح في الطهارة ولم يخرجاه ولا يحفظ له علة، وابن خزيمة (1/48) ولم يجزم به، وابن حبان (2/273) ، وابن أبي شيبة (1/57) ، والبيهقي (1/188، 189) ، والبغوي (2/27) . وصححه أبو زرعة في علل ابن أبي حاتم (1/43) والألباني في الإرواء (1/64) والأعظمي في تعليقه على صحيح ابن خزيمة (1/48) وشعيب الأرنؤوط في تعليقه على شرح السنة (2/27) وعبد القادر الأرنؤوط في تعليقه على جامع الأصول (7/70) . قلت: هذا حديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الحديث الثالث: عن عائشة –رضي الله عنها-: "كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ" (1) . الحديث الذي يدل على النهي عن استعمال فضل وضوء المرأة وغسلها: عن الحكم بن عمرو الغفاري: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ. أَوْ قَالَ: بِسُؤْرِهَا " (2) . وجه التعارض: إن الأحاديث الثلاثة الأولى تفيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ينهى عن استعمال فضل الجنب، وتفيد أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل أم المؤمنين، كما أنهما استعملا الماء معاً ولابد أن تصيبه بفضلها. أما حديث الحكم بن عمرو فإنه يفيد النهي عن استعمال فضلها، وبهذا تكون هذه الأحاديث متعارضة في مفادها. وللعلماء في درء تعارض هذه الأحاديث مذاهب وأقوال. مذاهب العلماء وأقوالهم في درء التعارض:   (1) أخرجه البخاري (1/363، 373، 382، 403) ، ومسلم (4/6) ، وأبو داود (1/20) ، والنسائي (1/57، 127، 128، 130) ، وابن ماجة (1/133) ، والدارمي (1/191، 192) ، وأحمد (6/30، 37،، 43، 64، 91، 103، 118، 123، 127، 129، 157، 161، 168، 170، 171، 172، 173، 189، 191، 192، 193، 199، 210، 230، 231، 235، 255، 265، 281) ، وابن حبان (2/255) ، والطيالسي ص 101، 202، 103، 220، والدارقطني (1/52) ، والبيهقي (1/187) ، والشافعي ص9، وأبو عوانة (1/284) ، والطحاوي (1/24) . (2) أخرجه الترمذي (1/92، 93) وقال: هذا حديث حسن، وأبو داود (1/21) ، وابن ماجة (1/32) ، والنسائي (1/179) ، وأحمد (4/13) (5/66) ، والطيالسي ص 176، وابن أبي شيبة (1/57) ، وعبد الرزاق (1/106) ، والدارقطني (1/53) ، والبيهقي (1/191) . وصححه ابن حبان 2/278، والألباني في الإرواء (1/45) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 1- ذهب جمهور العلماء ومنهم الإمام أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، ورواية عن أحمد؛ إلى الأخذ بأحاديث الإباحة، وقدموها على أحاديث النهي وأجابوا عن أحاديث النهي بما يلي: 1- أن أحاديث النهي ضعيفة، وأحاديث الإباحة أصح وأقوى، فالمصير إليها أولى. 2- أن النهي عن فضل أعضائها، وهو ما سال عنها. 3- أن النهي للتنزيه فهو محمول على أفضلية الترك جمعاً بين الأحاديث. 2- ذهب الإمام أحمد في رواية عنه، وداود إلى أنه لا يجوز الوضوء بفضل المرأة، إذا خلت به، وروي هذا عن ابن سرجس والحسن البصري. 3- ذهب ابن المسيب والحسن إلى كراهة فضلها مطلقاً، واحتج لهم بحديث الحكم بن عمرو. وكل فريق من هؤلاء العلماء له طريق في الأخذ بهذه الأحاديث. أما الفريق الأول الذاهب إلى الإباحة فدرأ تعارض الأحاديث إما بترجيح أحاديث الإباحة، وقوى ذلك من جهة النظر، قال الطحاوي: " فوجدنا الأصل المتفق عليه أن الرجل والمرأة إذا أخذا بأيديهما الماء معاً من إناء واحد؛ أن ذلك لا ينجس الماء. ورأينا النجاسات كلها إذا وقعت في الماء قبل أن يتوضأ منه أو مع التوضي منه أن حكم ذلك سواء. فلما كان ذلك كذلك وكان وضوء كل واحد من الرجل والمرأة مع صاحبه لا ينجس الماء عليه كان وضوؤه بعدها من سؤرها في النظر أيضاً كذلك." (1) . وإما بتأول حديث النهي أنه لِما سال عنها. قال الخطابي: " ووجه الجمع بين الحديثين –إن ثبت حديث الأقرع- أن النهي إنما وقع عن التطهير بفضل ما تستعمله المرأة من الماء، وهو ما سال وفضل عن أعضائها عند التطهر به، دون الفضل الذي تسئره في الإناء." (2) . قال النووي في حديث الحكم: " ليس هو مخالفاً للأحاديث الصحيحة بل يحمل على أن المراد ما سقط من أعضائها، ويؤيده أنا لا نعلم أحداً من العلماء منعها فضل الرجل فينبغي تأويله على ما ذكرته، إلا أن في رواية صحيحة لأبي داود والبيهقي " وليغترفا جميعاً"   (1) شرح معاني الآثار 1/26. (2) معالم السنن 1/80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وهذه الرواية تضعف هذا التأويل ويمكن تتميمه مع صحتها، ويحملنا على ذلك أن الحديث لم يقل أحد بظاهره، ومحال أن يصح وتعمل الأمة كلها بخلاف المراد منه" (1) . وأما بالقول بالنسخ لحديث النهي كما قال ذلك البغوي. (2) وأما بحمل النهي على التنزيه جمعاً بين الأحاديث، قال الخطابي: "ومن الناس من يجعل النهي في ذلك على الاستحباب دون الإيجاب" (3) . وأما الفريق الثاني فقال: إن الأحاديث الصحيحة الثابتة ظاهرة الجواز إذا اجتمعا (4) واحتج بقول عبد الله بن سرجس: " توضأ أنت ههنا، وهي ههنا، فأما إذا خلت به فلا تقربنه" (5) . وأما الفريق الثالث فأخذوا بحديث النهي. كما خص بعض العلماء عن فضل طهور المرأة إذا كانت جنباً أو حائضاً وقد روي هذا عن ابن عمر. قلت: إن من ينظر في أدلة الجمهور يجدها أكثر وأصح وأقوى. أما المذهب الثاني فإن دليله غير صريح الدلالة على أن المرأة إذا خلت به لم يصح الوضوء منه. وأما ما جاء في هذا صريحاً فهو موقوف على ابن سرجس، والموقوف مخالف للمرفوع فلا يصار إليه، وأما المذهب الثالث فإن دليله صحيح كم حققنا ذلك، ولكن يجاب عنه بأجوبة متعددة، فإما أن يقال منسوخ كما ذهب إلى ذلك البغوي، وإما أن يقال: النهي فيه للتنزيه، وإما أن يحمل فضلها وسؤرها على ما سال منها بعد الوضوء على ما أفضلت. والله أعلم. المبحث الثالث: سؤر الكلب. وفي باب النجاسات تختلف الأحاديث في سؤر الكلب فمنها ما يدل على أن نجاسته ومنها ما يدل ظاهره على طهارته فمما يدل على نجاسته: 1- (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار) . ومما يدل على طهارته ما يلي:   (1) المجموع 2/191، 192 وقوله" لم يقل أحد بظاهره" متعقب بما روي عن أبي هريرة أنه ينهى عنه" تعقبه ابن حجر في فتح الباري 1/300. (2) شرح السنة 2/27. (3) معالم السنن 1/80. (4) أخرجه البخاري 1/298. (5) أخرجه عبد الرزاق 1/107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 1- (إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل، وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسكه على نفسه. قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلباً آخر قال: فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب آخر) . 2- (كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك) . 3- (أن النبي –صلى الله عليه وسلم – سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر، وعن الطهارة منها؟ فقال: لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر طهور) . 4- (عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ فقال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها) . الأحاديث الدالة على نجاسة سؤر الكلب: عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ". (1) الأحاديث الدالة على الطهارة: الحديث الأول: عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي –صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَقَتَلَ فَكُلْ وَإِذَا أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ قُلْتُ أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ قَالَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبٍ آخَرَ" (2) . الحديث الثاني:   (1) سبق ص33. (2) أخرجه البخاري (1/279) ، ومسلم (6/56-58) بألفاظ متعددة، وأبو داود (3/108-110) ، والترمذي (4/68) ، والنسائي (7/180، 181) ، وابن ماجة (2/1070) ، والدارمي (2/89) ، وأحمد (4/256، 257، 258، 377، 378، 379، 380) ، والطيالسي ص139، وابن حبان (7/550، 551) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 عن عبد الله بن عمر قال: " كَانَتْ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يكونوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ" (1) . الحديث الثالث: عن أبي سعيد الخدري، أن النبي –صلى الله عليه وسلم-سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تردها السباع والكلاب والحمر، وعن الطهارة منها؟ فقال: "لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر، طهور" (2) . الحديث الرابع: عن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه سُئِل: "أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّها" (3) . وجه التعارض:   (1) أخرجه البخاري (1/278) ، وأبو داود (1/104) ، وأحمد (2/71) ، والبيهقي (2/429) ، وأبو نعيم (8/289) ، وهذا حديث معلق وصله ابن حجر في تغليق التعليق (2/109) . (2) أخرجه ابن ماجة (1/173) ، والدارقطني (1/31) ، والبيهقي (1/258) ، وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة (2/91) ، قلت: الحديث ضعيف وله شواهد عن ابن عمر وجا بر لا يرتقي بها. (3) أخرجه الشافعي في مسنده ص8، وفي الأم (1/6) ، وأخرجه الدارقطني (1/62) ، والبيهقي (1/249) ، وعبد الرزاق (1/77) ،قال البيهقي في المعرفة ك" هذه الحديث إذا ضمت أسانيده بعضها إلى بعض أخذت قوة، وفي معناه حديث أبي قتادة إسناده صحيح والاعتماد عليه" وينظر البدر المنير423- 426،لكن ضعفه النووي في شرح المهذب (1/173) ،والألباني في مشكاة المصابيح (1/105) ، قلت: والحديث ضعيف وضعفه غير منجبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 يظهر أن الحديثين الثالث والرابع وهما حديث أبي سعيد وحديث جابر لا يقومان للمعارضة لضعفهما، أما الحديث الأول فقد أخرجه البخاري فهو صحيح والحديث الثاني أخرجه البخاري تعليقاً وجزم فهو صحيح وهذان الحديثان يعارضان حديث أبي هريرة"إذا ولغ الكلب ... " حيث يفيد الحديث نجاسة سؤر الكلب بينما يفيد ظاهر حديث عدي بن حاتم طهارة سؤره لأنه أبيح أكل ما أمسكه الكلب دون أن نؤمر بغسله. وكذا يفيد حديث ابن عمر عدم الاحتراز من الكلب فهو يبول ويدبر ويقبل في المسجد، ومعلوم أن البول أشد من السؤر وأغلظ. وقد أجاب العلماء عن هذا التعارض: مذاهب العلماء في درء التعارض: ذهب مالك والأوزاعي وداود إلى طهارة سؤره وقالوا: يتوضأ به ويشرب وإن ولغ في طعام لم يحرم، وذهب مالك إلى أن الأمر بغسل الإناء تعبد، واحتج بالإضافة إلى حديث عدي بن حاتم بقوله تعالى: "فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه" ولم يأمر بغسل ما أصابه فمه، وكذلك احتج بحديث أبي سعيد " لها ما حملت في بطونها..الحديث" وقال" ولأنه حيوان فكان طاهراً كالمأكول" (1) . وأجاب عليه الحنابلة فقالوا: لنا ما روي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- إن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً) متفق عليه، ولمسلم (فليرقه ثم ليغسله سبع مرات) ولو كان سؤره طاهراً لم تجز إراقته ولا وجب غسله.   (1) المغني 1/41، 42، وينظر التمهيد لابن عبد البر 1/320، 321 فإنه استدل بأدلة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فإن قيل: إنما وجب غسله تعبداً كما تغسل أعضاء الوضوء وتغسل اليد من نوم الليل قلنا الأصل وجوب الغسل من النجاسة بدليل سائر الغسل، ثم لو كان تعبداً لما أمر بإراقة الماء، ولما اختص الغسل بموضوع الولوغ لعموم اللفظ في الإناء كله، وأما غسل اليد من النوم فإنما أمر به للاحتياط لاحتمال أن تكون قد أصابتها نجاسة فيتنجس الماء فلا يصح به الوضوء، وغسل أعضاء الوضوء شرع للوضاءة والنظافة ليكون العبد في حال قيامه بين يدي الله تعالى على أحسن حال وأكملها. ثم إن سلمنا ذلك فإنما عهدنا التعبد في غسل اليدين، أما الآنية والثياب فإنما غسلها من النجاسات وقد روي في لفظ (طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعاً) أخرجه أبو داود، ولا يكون الطهور إلا في محل الطهارة. وقولهم " إن الله تعالى أمر بأكل ما أمسكه الكلب قبل غسله" قلنا: الله تعالى أمر بأكله والنبي –صلى الله عليه وسلم- أمر بغسله فيعمل بأمرهما وإن سلمنا أنه لا يجب غسله، فلأنه يشق فعفي عنه، وحديثهم (1) قضية في عين يحتمل أن يكون الماء المسئول عنه كان كثيراً ولذلك قال في موضع آخر حين سئل عن الماء وما ينوبه من السباع " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" (2) ، ولأن الماء لا ينجس إلا بالتغير على رواية لنا، وشربها من الماء لا يغيره فلا ينجسه ذلك" (3) . أما الحديث الثاني فأجاب عنه بعض العلماء بعدة أجوبة إليك بيانها: 1- ذهب المنذري إلى أن الكلاب كانت تبول خارج المسجد في مواطنها ثم تقبل وتدبر في المسجد، إذا لم يكن عليه غلق. واستبعد أن تترك الكلاب تنتاب المسجد حتى تمتهنه بالبول فيه. وقد تعقب قوله هذا بأنه إذا قيل بطهارتها لم يمتنع ذلك كما في الهرة (4) .   (1) حديث "سئل عن الحياض..". (2) تقدم تخريجه ص (3) المغني 1/41، 42. (4) ينظر مختصر سنن أبي داود للمنذري، ومعالم السنن مع تهذيب ابن القيم 1/226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 2- ذهب ابن حجر إلى أن بول الكلاب وإقبالها وإدبارها كل ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الأبواب عليها، واستدل بما زاده الإسماعيلي في روايته من طريق ابن وهب في هذا الحديث -حديث ابن عمر- قال: كان عمر يقول بأعلى صوته واجتنبوا اللغو في المسجد، قال ابن عمر: وقد كنت أبيت في المسجد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت الكلاب..الحديث، فأشار إلى أن ذلك كان في الابتداء، ثم أمر بتكريم المسجد حتى من لغو الكلام، وبهذا يندفع الاستدلال على طهارة الكلب. وأما قوله في الحديث في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقد أجاب ابن حجر بأنه وإن كان عاماً في جميع الأزمنة لأنه اسم مضاف؛ لكنه مخصوصٌ بما قبل الزمن الذي أمر فيه بصيانة المسجد (1) . 3- ذهب أبو داود إلى أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة بالجفاف مستدلاً بحديث ابن عمر -يعني أن قوله: لم يكن يرشون- يدل على نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك، قال ابن حجر: " ولا يخفى ما فيه" (2) . 4- ورد على من استدل بهذا الحديث بأن البول مجمع على نجاسته فلا يصلح حديث بول الكلاب في المسجد حجة يعارض بها الإجماع، وأما مجرد الإقبال والإدبار فلا يدلان على الطهارة، وأيضاً يحتمل أن يكون ترك الغسل لعدم تعيين موضع النجاسة (3) . المبحث الرابع: سؤر الهر. اختلف الأحاديث في سؤر الهر فمنها ما يفيد طهارته، ومنها ما يفيد نجاسته. وتبعاً لهذا الاختلاف، فلقد اختلفت مذاهب الفقهاء في حكم سؤره هل هو طاهر أم نجس. فمن الأحاديث التي تفيد طهارته ما يلي: 1- حديث أبي قتادة"إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات".   (1) ينظر فتح الباري 1/278، 279. (2) فتح الباري 1/279. (3) نيل الأوطار للشوكاني 1/43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 2- حديث عائشة –رضي الله عنها- قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الإناء الواحد وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك) . ومن الأحاديث التي تفيد نجاسته: (لطهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات الأولى بالتراب، والهرة مثل ذلك) . الأحاديث التي تفيد الطهارة: الحديث الأول: عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت عند ابن أبي قتادة: أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا، قَالتْ: فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا، قَالتْ: فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرب، فَأَصْغَى لَهَا الإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ فَقُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّما هيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أو الطَّوَّافَاتِ " (1) . الحديث الثاني:   (1) أخرجه الترمذي (1/153، 154) وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود (1/19، 20) ، والنسائي (1/55) ، وابن ماجة (1/131) ، والدارمي (1/187) ، وأحمد (5/296،303، 309) ، والحاكم (1/160، 161) ، وابن خزيمة (2/294) ، وابن حبان (2/294) ، والدارقطني (1/70) ، والبيهقي (1/245) ، والشافعي ص9، وعبد الرزاق (1/100، 101) ، وابن أبي شيبة (1/53) ، وصححه ابن عبد البر في التمهيد (1/321) ،والألباني في صحيح سنن الترمذي (1/92) ، قلت: والحديث صحيح له شواهد عن عائشة وأنس وجابر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: "كُنْتُ أَتَوَضَّأُ أَنَا وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ قَدْ أَصَابَتْ مِنْهُ الْهِرَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ " (1) . الأحاديث التي تفيد النجاسة: عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: " لِطهورِ إِنَاءِ أَحدِكُم إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يُغْسَلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ الأُولَى بِالتُّرَابِ، وَالْهِرَّةُ مِثْلُ ذَلِكَ " (2) . وجه التعارض: إن من ينظر في هذه الأحاديث التي أسلفتها وما في معناها يرى من ظاهرها أنها تتعارض. فالأحاديث الأُول تفيد طهارة سؤر الهرة فلا يجب غسل الإناء من ولوغها، بينما يفيد الحديث الأخير -حديث أبي هريرة- نجاسة سؤر الهرة ووجوب غسل الإناء من ولوغها، وللعلماء في إزاء هذا التعارض مذاهب وأقوال لدرئه. أقوال العلماء في درء التعارض:   (1) أخرجه ابن ماجة (1/138) ، الدارقطني (1/69) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/19) وضعفه، والخطيب في تاريخ بغداد (9/146) ، وضعفه ابن حجر في التلخيص (1/55) ، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (1/440) ، قلت: الحديث ضعيف وله شواهد يرتقي بها إلى الحسن لغيره. (2) أخرجه الحاكم (1/40) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، والدارقطني (1/68) ، والبيهقي (1/247) ، والطحاوي (1/19) وقال: هذا حديث متصل الإسناد، وأخرجه موقوفا أبو داود (1/19) فجعل سؤر الكلب مرفوعا وسؤر الهر موقوفا، وكذا أخرجه موقوفا الدارقطني (1/68) ، والبيهقي (1/247) ، قلت: الحديث إسناده صحيح ورجاله ثقات إلا أنه معل بالإدراج، فسؤر الهر من قول أبي هريرة كما بين ذلك الأئمة العارفون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 1- ذهب الجمهور إلى طهارة سؤر الهرة وعدم وجوب غسل الإناء من ولوغها أخذاً بأحاديث الإباحة، وممن ذهب إلى ذلك بعض الحنفية منهم أبو يوسف ومحمد بن الحسن كذا نقله عنهما الطحاوي (1) ، والشافعية نقل ذلك عنهم النووي حيث قال: " قال الشافعي رحمه الله: الهرة ليست بنجس فنتوضأ بفضلها ونكتفي بالخبر عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ولا يكون في أحد قال خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة" (2) . وأجابوا عن الحديث المعارض بما ذكره النووي حيث قال: قال أصحابنا ولو صح حديث أبي هريرة لم يكن فيه دليل لأنه متروك الظاهر بالاتفاق، فإن ظاهره يقتضي وجوب غسل الإناء من ولوغ الهرة ولا يجب ذلك بالإجماع" (3) . وإلى هذا ذهب المالكية أيضاً فقد قال ابن عبد البر بعد إيراد الحديث وفوائده –أي حديث أبي قتادة-" وفيه أن الهر ليس ينجس ما شرب منه وأن سؤره طاهر وهذا قول مالك وأصحابه" (4) . وإلى هذا ذهب الحنابلة قالوا:" وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر غير مكروه" (5) . 2- وذهب أبو حنيفة إلى نجاسة سؤرها واحتج بما روي عن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً، وبما روي عن الصحابة والتابعين في النهي عن الوضوء من سؤر الهر ووجوب غسل الإناء من ولوغه، وإلى هذا ذهب الطحاوي، قال:" وقد شد هذا القول النظر الصحيح، وذلك أنا رأينا أن اللحمان على أربعة أوجه: 1 - فمنها لحم طاهر مأكول وهو لحم الإبل والبقر والغنم فسؤر ذلك كله طاهر لأنه ماسَّ لحماً طاهراً. 2 - ومنها لحم طاهر غير مأكول وهو لحم بني آدم فسؤرهم طاهر لأنه ماس لحما طاهرا. 3 - ومنها لحم حرام وهو لحم الخنزير والكلب فسؤر ذلك حرام لأنه ماس لحما حراما، فكان حكم ما ماس هذه اللحمان الثلاثة كما ذكرنا يكون حكمه حكمها في الطهارة والتحريم.   (1) شرح معاني الآثار 1/19. (2) المجموع 1/175. (3) المرجع السابق. (4) التمهيد 1/319. (5) الروض المربع للبهوتي1/104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 4 - ومن اللحمان أيضا لحم قد نهي عن أكله وهو لحم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع أيضا، ومن ذلك السنور وما أشبهه فكان ذلك منهيا عنه ممنوعا من أكل لحمه بالسنة. وكان في النظر أيضا سؤر ذلك حكمه حكم لحمه لأنه ماس لحما مكروها فصار حكمه حكمه، كما صار حكم ما ماس اللحمان الثلاث الأول حكمها فثبت بذلك كراهة السنور وبهذا نأخذ وهو قول أبي حنيفة رحمة الله عليه (1) . قلت: مما عرضت من الأحاديث ودراستها سنداً ومتناً تبين لي قوة أدلة الجمهور وهي أدلة صحيحة مرفوعة أما أدلة بعض الحنفية ومن يرى كراهة سؤر الهر فإنها موقوفة، والمرفوع منها وأن صح سنداً كما قال الطحاوي وكما بينت إلا أنه معل بالإدراج في متنه فقد أدرج الموقوف من قول أبي هريرة في سؤر الهر في المرفوع وقد بين ذلك الحديث الذي أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة باب سؤر الكلب. (2) والبيهقي أيضا من طريق علي بن نصر عن قرة فبين المرفوع من الموقوف وقد سبق بيان ذلك (3) . قال البيهقي: "وزعم الطحاوي أن حديث أبي هريرة صحيح ولم يعلم أن الثقة من أصحابه ميزه من الحديث وجعله من قول أبي هريرة" (4) . قلت: ولئن روى عن أبي هريرة موقوفاً في كراهية سؤرها فقد روي عنه في الرخصة في ذلك، رواه عنه ميمون بن مهران، أخرجه ابن المنذر في الأوسط (5) . أما دعوى الإجماع التي ذكرها النووي فليست مسلمة، بل خالف أبو حنيفة كما سبق (6) . والذي ذهب إليه الجمهور هو الذي أراه صواباً، والله أعلم. المبحث الخامس: ما جاء في المني. قال تعالى: " خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين" (7) . واقتضت إرادة الله سبحانه وتعالى أن تخرج من منفذ لا يخرج منه إلا نجساً. فقد جاءت أحاديث تفيد نجاستها منها:   (1) شرح معاني الآثار 1/21. (2) السنن 1/19 (3) ص (4) عزاه إليه النووي في المجموع 1/175. (5) الأوسط 1/302. (6) ص (7) سورة النحل آية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 حديث عائشة-رضي الله عنها- قالت: "كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي –صلى الله عليه وسلم- فيخرج إلى الصلاة، وإن يقع الماء في ثوبه". كما جاءت أحاديث تعارض هذا الحديث وتفيد طهارتها، منها حديث عائشة رضي الله عنها في المني قالت: (كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) . فهذه الأحاديث تتعارض في ظاهرها حيث يفيد بعضها الطهارة، وبعضها يفيد النجاسة. الحديث الذي يفيد نجاسة المني: عن عائشة –رضي الله عنها- قالت:"كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ " (1) . الحديث الذي يفيد طهارة المني: عَنْ عَائِشَةَ فِي الْمَنِيِّ قَالَتْ كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. " (2) . وجه التعارض: إن القارئ حينما يقرأ الحديث الأول يجد فيه أن غسل المني منصوص عليه، وهذا يدل على نجاسته. ومن ينظر في الحديث الثاني يجد الاكتفاء بالفرك وهذا يدل على طهارته حيث لا تزول عين النجاسة بالفرك. وبهذا يجد القارئ لهذه الأحاديث تعارضاً وإشكالاً , وللعلماء في درء التعارض بين هذه الأحاديث أقوال ومذاهب. آراء العلماء في درء التعارض:   (1) أخرجه البخاري (1/332، 334) ، ومسلم (3/196) ، وأبو داود (1/102) ، والترمذي (1/201) ، والنسائي (1/156) ، وابن ماجة (1/178) ، وأحمد (6/47، 142، 162، 235) ، وابن خزيمة (1/145) ، وابن حبان (2/331) ، والطيالسي ص 210، والدارقطني (1/125) ، وابن أبي شيبة (1/142) ، والطحاوي (1/50) . (2) أخرجه مسلم (1/196) ، وأبو داود (1/101) ، والترمذي (1/199) ، والنسائي (1/156) ، وابن ماجة (1/179) ، وأحمد (6/43، 67، 97، 101، 125، 132، 135، 223، 239، 263، 280) ، وابن خزيمة (1/145) ، وابن حبان (2/330) ، والطيالسي ص 199، 202، وابن أبي شيبة (1/143) ، والطحاوي (1/48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 1- قال أبو جعفر الطحاوي:"كانت عائشة رضي الله عنها تغسل المني من ثوب رسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه وتفركه من ثوبه الذي كان لا يصلي فيه ". ورد على حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت:كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فيه بقوله:"ليس في هذا دليل على طهارته، فقد يجوز أن يكون كانت تفعل به هذا فيطهر بذلك الثوب والمني في نفسه نجس كما قد روي في ما أصاب النعل من الأذى فيما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وطئ أحدكم الأذى بخفه أو نعله فطهورهما التراب) (1) فكان ذلك التراب يجزئ من غسلهما وليس في ذلك على طهارة الأذى في نفسه، فكذلك ما روي في المني يحتمل أن يكون حكمه كذلك يطهر الثوب بإزالتهم إياه عنه بالفرك وهو في نفسه نجس، كما كان الأذى، يطهر النعل بإزالتهم إياه عنها وهو في نفسه نجس، فالذي وقفنا عليه من هذه الآثار المرورية في المني هو أن الثوب يطهر مما أصابه من ذلك بالفرك إذا كان يابسا ويجزئ ذلك من الغسل، وليس في شيء من هذا دليل على حكمه هو في نفسه أطاهر أم نجس ولما لم يكن فيما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على حكمه كيف هو؟ اعتبرنا ذلك من طريق النظر فوجدنا خروج المني حدثا أكبر الأحداث لأنه يوجب أكبر الطهارات فأردنا أن ننظر في الأشياء التي خروجها حدث كيف حكمها في نفسها؟ فرأينا الغائط والبول خروجهما حدث وهما نجسان في أنفسهما، وكذلك دم الحيض والاستحاضة وهما حدث وهما نجسان في أنفسهما، وكذلك دم العروق في النظر. فلما ثبت بما ذكرنا أن كل ما كان خروجه حدثا فهو نجس في نفسه، وقد ثبت أن خروج المني حدث ثبت أيضا أنه في نفسه نجس" (2) .   (1) أخرجه أبو داود (1/150) . (2) شرح معاني الآثار 1/48، 53. بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 2- قال النووي:" وقد أكثر أصحابنا من الاستدلال بأحاديث ضعيفة، ولا حاجة إليها وعلى هذا إنما فركه تنزهاً واستحباباً وكذا غسله للتنزه والاستحباب وهذا متعين أو كالمتعين للجمع بين الأحاديث " (1) 3- قال الكاساني دارئاً التعارض: "ما روى من الحديث المفيد طهارة المني يحتمل أنه كان قليلاً ولا عموم له لأنه حكاية حال، أو يحمل على أن ما كان رطباً يغسل وما كان يابسا يفرك توفيقا بين الأدلة " (2) . 4- ذهب ابن العربي إلى أن المراد بقولها "كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم" إزالة عينه وليس المراد به جواز الصلاة فيه. وضعف رواية ثم يصلي فيه (3) . وتضعيفه مردود فإنها –أي رواية "ثم يصلي فيه" ثابتة رواها مسلم في صحيحه عن الثقات (4) . 5- وذهب ابن تيمية إلى أنه لا تعارض بين هذين الحديثين فقال: "فإن قيل فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة (أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة بذلك الثوب وأنا أنظر على أثر الغسل فيه) فهذا يعارض حديث الفرك في مني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- والغسل دليل النجاسة فإن الطاهر لا يطهر. فيقال: هذا لا يخالفه لأن الغسل للرطب والفرك لليابس، كما جاء مفسراً في رواية الدارقطني "كنت أفركه إذا كان يابساً وأغسله إذا كان رطباً" (5) . أو هذا أحياناً وهذا أحياناً. وأما الغسل فإن الثوب قد يغسل من المخاط والبصاق والنخامة استقذاراً لا تنجيساً، لهذا قال سعد بن أبي وقاص وابن عباس: (أمطه عنك ولو بأذخرة، فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق) (6) " (7) .   (1) المجموع 2/554. (2) بدائع الصنائع 1/61 بتصرف. (3) عارضة الأحوذي 1/179-181 بتصرف. (4) صحيح مسلم بشرح النووي 3/196. (5) أخرجه الدارقطني 1/125. (6) أخرجه ابن شيبة 1/144 والدارقطني (1/124) . (7) مجموع الفتاوى 21/589. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 6- قال ابن حجر:" وليس بين حديث الغسل وحديث الفرك تعارض لأن الجمع بينهما واضح على القول بطهارة المني بأن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب، وهذه طريقة الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث. وكذا الجمع ممكن على القول بنجاسته بأن يحمل الغسل على ما كان رطباً والفرك على ما كان يابساً وهذه طريقة الحنفية، والطريقة الأولى أرجح لأن فيها العمل بالخبر والقياس معاً، لأنه لو كان نجساً لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه كالدم وغيره، وهم لا يكتفون فيما لا يعفى عنه من الدم بالفرك، ويرد الطريقة الثانية ما في رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة (كانت تسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه وتحكه من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه) (1) ، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالتين، وأما مالك فلم يعرف الفرك وقال إن العمل عندهم على وجوب الغسل كسائر النجاسات، وحديث الفرك حجة عليهم، وحمل بعض أصحابه الفرك على الدلك بالماء وهو مردود بما روي في إحدى روايات مسلم عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: "لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يابساً بظفري" (2) ، وبما صححه الترمذي من حديث همام بن الحارث أن عائشة أنكرت على ضيفها غسله الثوب فقالت:"لم أفسد علينا ثوبنا، إنما كان يكفيه أن يفركه بإصبعه فربما فركته من ثوب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأصابعي" (3) . وقال بعضهم: الثوب الذي اكتفت فيه بالفرك ثوب النوم والثوب الذي غسلته ثوب الصلاة، وهو مردود أيضاً بما في إحدى روايات مسلم من حديثهما (لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه) (4) ، وهذا التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك والصلاة.   (1) أخرجه ابن خزيمة (1/149) . (2) كتاب الطهارة (3/197) . (3) كتاب الطهارة (1/199) وقال: حسن صحيح. (4) كتاب الطهارة (3/196) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وأصرح من هذا رواية ابن خزيمة "إنها كانت تحكه من ثوبه وهو يصلي فيه" (1) ،. وعلى تقدير عدم ورود شيء من ذلك فليس في حديث الغسل ما يدل على نجاسة المني لأن غسلها فعل وهو لا يدل على الوجوب بمجرده والله أعلم. وطعن بعضهم في الاستدلال بحديث الفرك على طهارة المني بأن مني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- طاهر دون غيره كسائر فضلاته، والجواب على تقدير صحة كونه من الخصائص أن منيه كان عن جماع فيخالط مني المرأة فلو كان منيها نجساً لم يكتف فيه الفرك" (2) . 7- وقد تعقب ابن القيم-رحمه الله- الطحاويَّ في استدلاله بالنظر والقياس على نجاسة المني فقال: " وأما قولكم أن الآثار قد اختلفت في هذا الباب ولم يكن في المروي عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- بيان حكم المني فاعتبرتم ذلك من طريق النظر فيقال: الآثار بحمد الله في هذا الباب متفقة لا مختلفة وشروط الاختلاف منتفية بأسرها عنها، والغسل تارة، والمسح والفرك تارة جائز ولا يدل ذلك على تناقض ولا اختلاف البتة. ولم يكن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليكل أمته في بيان حكم هذا الأمر المهم إلى مجرد نظرها وآرائها وهو يعلمهم كل شيء حتى التخلي وآدابه، وقد بينت السنة هذه المسألة بياناً شافياً ولله الحمد.   (1) كتاب الطهارة (1/147) . (2) فتح الباري 1/ 332، 333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وأما ما ذكرتم من النظر على تنجيسه فنظر أعشى لأنكم أخذتم حكم نجاسته من وجوب الاغتسال منه ولا ارتباط بينهما لا عقلاً ولا شرعاً ولا حساً، وإنما الشارع حكم بوجوب الغسل على البدن كله عند خروجه كما حكم به عند إيلاج الحشفة في الفرج ولا نجاسة هناك ولا خارج، وهذه الريح توجب غسل أعضاء الوضوء وليست نجسه ولهذا لا يستنجى منها ولا يغسل الإزار والثوب منها، فما كل ما أوجب الطهارة يكون نجسا ولا كل نجس يوجب الطهارة أيضا؛ فقد ثبت عن الصحابة أنهم صلوا بعد خروج دمائهم في وقائع متعددة وهم أعلم بدين الله من أن يصلوا وهم محدثون، فظهر أن النظر لا يوجب نجاسته والآثار تدل على طهارته وقد خلق الله الأعيان على أصل الطهارة فلا ينجس منها إلا ما نجسه الشرع وما لم يرد تنجيسه من الشرع فهو على أصل الطهارة والله أعلم" (1) . قلت: وبهذا يتبين لنا أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث فإما أن يحمل الأمر بالغسل على التنزه والاستحباب وإما أن يفصل في طريق إزالة المني بحسب حاله فيفرق بين يابسه ورطبه، فما كان يابساً اكتفي بفركه وحتِّه، وما كان رطباً غسل، كما دلت على ذلك الأحاديث المتقدمة، والله أعلم.   (1) بدائع الفوائد 3/125، 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 المبحث السادس: جلود الميتة. إن منن الله على عباده عظيمة، وقد كرم الإنسان وسخر له كل شيء، ومما سخره الله -سبحانه- له هذه الأنعام التي منها يأكل ومنها يشرب وعليها يركب، وجعل له فيها منافع شتى، وأمر الله الإنسان بكل ما هو طيب طاهر وأباحه له، فأباح له الانتفاع بجلود هذه الأنعام وأصوافها وأشعارها وأوبارها، فيجعل من جلود الأنعام بيوتاً يستخفها وينتقل بها متى شاء يوم ظعنه، ويوم إقامته، وقد شرع له المولى -سبحانه- أن يسفك دم الأنعام ويذكيها قبل الانتفاع بها، ونهاه عن الانتفاع بلحمها وأكلها إذا لم تذك وماتت؛ لعدم طهارتها بالذبح، أما جلودها وهي ميتة لم تذك فقد اختلف العلماء في حكمها وذلك لتعارض الأحاديث في حكم استعمالها وطهارتها. فقد جاءت أحاديث تفيد طهارتها وجواز استعمالها، منها: حديث ابن عباس -رضي الله عنه- " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: "هلا استمتعتم بإهابها؟ قالوا: إنها ميتة. قال: إنما حرم أكلها". وجاءت أحاديث تفيد نجاسته وعدم جواز استعماله، منها: حديث عبد الله بن عكيم قال: " قرئ علينا كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأرض جهينة وأنا غلام شاب: أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب". فهذه الأحاديث تتعارض في ظاهرها في مفادها وحكمها. الأحاديث التي تفيد الطهارة وجواز الاستعمال: عن ابن عباس -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا قَالُوا إِنَّهَا مَيِّتَةٌ قَالَ إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا " (1) .   (1) أخرجه البخاري (4/413) و (9/658) ، ومسلم (4/51) ، وأبو داود (4/65) ، والترمذي (4/220) ، والنسائي (7/172، 173) ، وابن ماجة (2/193) ، والدارمي (2/86) ، ومالك (1/327) ، وأحمد (1/227، 261، 277، 327، 329، 365، 366، 372) ، وابن حبان (2/287، 288، 289) ، والدارقطني (1/41، 42، 43، 44) ، والبيهقي (1/15) ، والشافعي (1/10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الأحاديث التي تفيد النجاسة وعدم جواز الاستعمال: عن عبد الله بن عكيم قال:"قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ وَأَنَا غُلاَمٌ شَابٌّ «أَنْ لاَ تَسْتَمْتِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ» . " (1) . وجه التعارض: إن القارئ لهذه الأحاديث ليتوهم تعارضها، وذلك لأنه يظهر من حديث ابن عباس إباحة استعمال جلود الميتة وذلك لأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: هلا استمتعتم بإهابها، والإهاب هو الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ (2) . وأما حديث عبد الله بن عكيم فيظهر منه لمنع من استعمالها مطلقاً، ولكي ندرأ هذا التعارض فإني أعرض أقوال العلماء في كيفية درئه. أقوال العلماء في درء التعارض:   (1) أخرجه أبو داود (4/67) والترمذي (4/222) وقال: هذا حديث حسن، والنسائي (7/175) ، وابن ماجة (2/1194) ، وأحمد (4/310، 311) ، وابن حبان (2/286) ، والطيالسي ص 183، والبيهقي (1/14،15) ،قال البيهقي: في معرفة السنن 1/176:" في الحديث إرسال"وأعله عدد من العلماء بالاضطراب منهم علي بن المديني والخطابي ووأبو حاتم وابن شاهين والرافعي وتقي الدين في الإلمام. وصححه ابن حزم في المحلى (1/121) وحسنه الحازمي وقال أحمد شاكر معقبا على قول ابن حزم: بل هو مضطرب أو مرسل، وصححه الألباني في إرواء الغليل (78، 79) ، قلت: والحديث مع صحة إسناده له شاهدان يقويانه فيثبت بذلك أنه حديث صحيح والله أعلم. (2) لسان العرب (1/217) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 1- درأ أبو جعفر الطحاوي التعارض بأن حديث (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) يجوز أن يكون أراد بذلك ما دام ميتة غير مدبوغ، فإنه كان يسأل عن الانتفاع بشحم الميتة فيجيب الذي يسأله بمثل هذا، كما في حديث جابر بن عبد الله قال: "بينا أنا عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه ناس فقالوا: يا رسول الله إن سفينة لنا انكسرت، وإنا وجدنا ناقة سمينة ميتة فأردنا أن ندهن بها، وإنما هي عود، وهي على الماء فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"لا تنتفعوا بشيء من الميتة". فأخبر جابر بن عبد الله رضي الله عنه-بالسؤال الذي كان قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (لا تنتفعوا من الميتة) جوابًا له، وأن ذلك كان على النهي عن الانتفاع بشحومها، فأما ما كان يدبغ منها حتى يخرج من حال الميتة ويعود إلى غير معنى الأهب فإنه يطهر بذلك ودليل ذلك حديث ميمونة –رضي الله عنها- في الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ (1) وهو حديث ظاهر المعنى أولى من حديث ابن عكيم الذي لم يدلنا على خلاف ما جاءت به هذه الآثار. كما درأ التعارض وأجاب عن حديث "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" بجواب آخر وهو أنه يجوز أن يكون أراد بذلك أن أدلة الإباحة كانت بعد تحريم الميتة، وأن الجلود المدبوغة غير داخلة في التحريم، ويدل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة رضي الله عنها، فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة، قال" فلولا أخذتم مسكها (2) ؟   (1) الحديث عن ميمونة رضي الله عنها أنه مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لو أخذتم إهابها، قالوا: إنها ميتة، قال يطهرها الماء والقرظ. والقرظ: ورق السلم وهو نبت يدبغ به. شرح معاني الآثار 1/471. (2) المسك: الجلد. لسان العرب 10/486 مادة (م س ك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فقالت: نأخذ مسك شاة ماتت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما قال الله (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ .... الآية) (1) فإنه لا بأس بأن تدبغوه فتنتفعوا به". قالت فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرقت (2) . ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته عن ذلك قرأ عليها الآية التي نزل فيها تحريم الميتة فأعلمها بذلك أن ما حرم عليهم بتلك الآية من الشاة حين ماتت إنما هو الذي يطعم منها إذا ذكيت لا غير، وأن الانتفاع بجلودها إذا دبغت غير داخل في ذلك الذي حرم منها. كما يدل على هذا أن أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- لما أسلموا لم يأمرهم بطرح نعالهم وخفافهم التي اتخذوها في حال جاهليتهم، وإنما كان ذلك من ميتة أو ذبيحة أهل الأوثان، ولما ثبت ذلك ثبت أن ذلك قد خرج من حكم الميتة النجسة إلى سائر الأمتعة الطاهرة (3) . 2- ودرأ ابن شاهين التعارض فقال: وهذه أحاديث لا يمكن ادعاء نسخ شيء منها بأخرى. فإن قال قائل: فإن حديث ابن عكيم نسخ حديث ابن عباس وابن عمر وعائشة، ومن روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" طهورها دباغها" لقرب العهد بالنهي؛ أمكن أن يقول غيره: يجوز أن يكون هذا الأمر قبل أن يموت النبي-صلى الله عليه وسلم- بجمعة.   (1) تتمة الآية (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة الأنعام145 (2) أخرجه أحمد (1/327) . (3) شرح معاني الآثار 1/469- 472 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وإذا كان الأمر هكذا كان الأولى الأخذ بالحديثين جميعاً، قوله:" لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" يحتمل أن لا تنتفعوا في حال من الأحوال، ويحتمل قبل الدباغ فلما احتمل الأمرين جميعا وجاء قوله:" أيما إهاب دبغ فقد طهر" حملنا القول الثاني وهو قوله:" لا تنتفع من الميتة بإهاب ولا عصب" على ما يطابق قوله الأول وهو:" أيما إهاب دبغ فقد طهر"، فيستعمل الإهاب بعد الدباغ، ويحظره قبل الدباغ فيستعمل الخبرين جميعا، ولا يترك احدهما للآخر. وقد حكي عن الخليل بن أحمد أنه قال: لا يقع على الجلد اسم الإهاب إلا قبل الدباغ، وإنما إذا دبغ لم يسم إهابا وإنما يسمى أديما أو جرابا أو جلدا. فإذا صح ذلك كان فيه تأكيد ما ذكرنا من استعمال الخبرين، والله أعلم (1) . 3- ودرأ ابن عبد البر التعارض بأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم:" أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب" قبل الدباغ. قال: وإذا احتمل أن يكون مخالفاً له فليس لنا أن نجعله مخالفاً، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن استعمالهما، بأن نجعل خبر ابن عكيم في النهي عن جلود الميتة قبل الدباغ، ونستعمل خبر ابن عباس وغيره في الانتفاع بها بعد الدباغ. فكان قوله صلى الله عليه وسلم "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب" قبل الدباغ ثم جاءت رخصة الدباغ. وحديث عبد الله بن عكيم وإن كان قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر كما جاء في الخبر؛ فممكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه قوله (أيما إهاب دبغ فقد طهر) قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمعة أو دون جمعة، والله أعلم. (2) 4- ودرأ ابن قتيبة التعارض عن هذه الأحاديث بأنه لا تناقض أصلاً ولا اختلاف لأن الإهاب في اللغة: الجلد الذي لم يدبغ، فإذا دبغ زال عنه هذا الاسم.   (1) ناسخ الحديث ومنسوخه ص 160. (2) التمهيد 4/164، 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وفي الحديث أن عمر -رضي الله عنه- دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي البيت أهب عطنة: يريد "جلود منتنة لم تدبغ". وقالت عائشة-رضي الله عنها- في أبيها -رضي الله عنه- "قرر الرؤوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها" يعني الأجساد، فكنَّت عن الجسد بالإهاب، ولو كان الإهاب مدبوغا لم يجز أن تكني به عن الجسد. وقال النابغة الجعدي يذكر بقرة وحشية أكل الذئب ولدها وهي غائبة عنه ثم أتته: فلاقت بيانا عند أول معهد ... إهابا ومعبوطا من الجوف أحمرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما إهاب دبغ فقد طهر" ثم مر بشاة ميتة فقال:" ألا انتفع أهلها بإهابها" يريد ألا دبغوه فانتفعوا به؟ ثم كتب:" لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" يريد لا تنتفعوا به وهو إهاب حتى يدبغ. ... ويدلك على ذلك قوله:"ولا عصب" لأن العصب لا يقبل الدباغ، فقرنه بالإهاب قبل أن يدبغ وقد جاء هذا مبينا في الحديث (ألا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفعوا به) . (1) 4- قال أبو حازم في الاعتبار: " وطريق الإنصاف فيه أن يقال: إن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ لو صحَّ، ولكنه كثير الاضْطراب، ثمَّ لا يُقاوم حديث مَيْمُونة في الصِّحَّة، وقال أبو عبد الرحمن النَّسَائي: "أصحّ ما في هذا الباب في جلود الميتة إذا دُبغت: حديث الزُّهْرِيّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة. وروينا عن الدوري أنه قال: قيل ليحيى بن معين: أيما أعجب إليك من هذين الحديثين: "لَا ينْتَفع من الْميتَة بإهاب وَلَا عصب" أَو: "دباغها طهورها"؟ فقال: "دباغها طهورها" أعجب إليَّ. وإذا تعذر ذلك فالمصير إلى حديث ابن عباس أولى، لوجوه من الترجيحات.   (1) تأويل مختلف الحديث ص 163، 164 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ويحمل حديث ابن عكيم على منع الانتفاع قبل الدباغ، وحينئذ يسمى إهاباً، وبعد الدباغ يسمى جلداً ولا يسمى إهاباً، وهذا معروف عند أهل اللغة، ليكون جمعاً بين الحكمين، وهذا هو الطريق في نفي التضاد في الأخبار. (1) قلت: وهذا الوجه الذي ذكره الأئمة في دفع التضاد بين الأحاديث يكاد يجمع عليه، وهو ظاهر يدل عليه أدلة كثيرة ذكرها الطحاوي فيما سبق. وبهذا لا يكون بين الأحاديث تعارض كما يتوهم. والله أعلم. المبحث السابع: هل تستقبل القبلة أو تستدبر بالبول والغائط. لقد شرف الله قبلة المسلمين وعظمها، فأمرهم بالتوجه إليها خمس مرات في اليوم والليلة، وأمرهم باحترامها فنهاهم عن استقبالها واستدبارها عند الحدث، وجاء النهي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صريحاً بذلك فقال: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا"، إلا أنه ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- حديث يعارض هذا الحديث، حيث روى ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لقد ارتقيت يوماً على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته"، فهذا الحديث يدل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استدبر القبلة، لذا وجب علينا أن نقف على أقوال العلماء في درء التعارض بين الحديثين. الأحاديث التي تفيد عدم جواز استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط:   (1) ص 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا " (1) . الأحاديث التي تفيد جواز استقبال القبلة أو استدبارها في البول والغائط: عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: "إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلَا تَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَقَدْ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلًا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ". وَقَالَ لَعَلَّكَ مِنْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ فَقُلْتُ لَا أَدْرِي وَاللَّهِ قَالَ مَالِكٌ يَعْنِي الَّذِي يُصَلِّي وَلَا يَرْتَفِعُ عَنْ الْأَرْضِ يَسْجُدُ وَهُوَ لَاصِقٌ بِالْأَرْضِ. (2) وجه التعارض:   (1) أخرجه البخاري (1/245، 498) ، ومسلم (3/153) ، وأبو داود (1/3) ، والترمذي (1/13) ، والنسائي (1/22، 23) ، وابن ماجة (1/115) ، والدارمي (1/170) ، ومالك (1/154) ، وأحمد (5/414، 415، 416، 417، 419، 421، 430، 437) ، وابن خزيمة (1/33) ، وابن حبان (2/345) ، والدارقطني (1/60) ، والبيهقي (1/91) . (2) أخرجه البخاري (1/246، 250) ، ومسلم (1/153) ، وأبو داود (1/4) ، والترمذي (1/16) ، والنسائي (1/23) ، وابن ماجة (1/116) ، والدارمي (1/171) ، ومالك (1/154) ، وأحمد (2/12، 13، 41، 96، 99، 114) ، وابن خزيمة (1/35) ، والدارقطني (1/61) ، والبيهقي (1/92) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 من ينظر إلى حديث أبي أيوب الأنصاري يجد أن هذا الحديث يدل على النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها بالبول والغائط، ويعارض هذا الحديثُ حديثَ ابن عمر-رضي الله عنهما- لأنه يدل على إباحة ذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله، وقد وجه العلماء هذا التعارض فدرؤوه، فمنهم من قال بالنسخ ومنهم من قال بالترجيح، ومنهم من جمع بين الحديثين. آراء العلماء في درء التعارض: 1- ذهب جماعة إلى النسخ فقالوا: إن الإباحة منسوخة بالنهي، وممن ذهب إلى هذا المذهب ابن حزم فقال:" ولا يجوز استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول، لا في بنيان ولا في صحراء"، وقد أجاب عن حديث الإباحة بقوله: "وأما حديث ابن عمر: فليس فيه أن ذلك كان بعد النهي، وإذا لم يكن ذلك فيه، فنحن على يقين من أن ما في حديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل أن ينهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، هذا ممالا شك فيه، فإذ لا شك في ذلك فحكم حديث ابن عمر منسوخ قطعا بنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، هذا يعلم ضرورة، ومن الباطل المحرم ترك اليقين للظنون، وأخذ المتيقن نسخه وترك المتيقن أنه ناسخ. وأيضا فإن ما في حديث ابن عمر ذكر استقبال القبلة فقط، فلو صح أنه ناسخ لما كان فيه نسخ تحريم استدبارها، ولكان من أقحم في ذلك إباحة استدبارها كاذبا مبطلا لشريعة ثابتة، وهذا حرام، فبطل تعلقهم بحديث ابن عمر" (1) . 2- وقد ذهب بعض العلماء إلى ترجيح أحاديث النهي وإعمال حكمها، وممن ذهب إلى ذلك ابن القيم فقال بعد أن ذكر حديث ابن عمر لما رأى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته مستدبر الكعبة قال: هذا يحتمل وجوها ستة:   (1) المحلى 1/193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 1- نسخ النهي به، 2- عكسه، 3-تخصيصه به صلى الله عليه وسلم، 4- تخصيصه بالبنيان، 5- أن يكون لعذر اقتضاء المكان أو غيره، 6- (وأن يكون بياناً، لأن النهي ليس على التحريم. ولا سبيل إلى الجزم بواحد من هذه الوجوه على التعيين وإن كان حديث جابر (1) لا يحتمل الوجه الثاني منها فلا سبيل إلى ترك أحاديث النهي الصريحة الصحيحة المستفيضة بهذا المحتمل. وقول ابن عمر (إنما نهى عن ذلك في الصحراء) فهم منه لاختصاص النهي بها وليس بحكاية لفظ النهي وهو معارض لفهم أبي أيوب للعموم مع سلامة قول أصحاب العموم من التناقض الذي يلزم المفرقين بين الفضاء والبنيان، فإنه يقال لهم ما حد الحاجز الذي يجوز ذلك معه في البنيان؟ ولا سبيل إلى ذكر حد فاصل، وإن جعلوا مطلق البنيان مجوزاً لذلك لزمهم جوازه في الفضاء الذي يحول بين البائل وبينه جبل قريب أو بعيد، كنظيره في البنيان، وأيضاً فإن النهي تكريم لجهة القبلة وذلك لا يختلف بفضاء أو بنيان وليس مختصاً بنفس البيت، فكم من جبل وأكمة حائل بين البائل وبين البيت بمثل ما تحول جدران البنيان وأعظم، وأما جهة القبلة فلا حائل بين البائل وبينها وعلى الجهة وقع النهي لا على البيت نفسه (2) . 3- وذهب آخرون إلى الجمع بين الحديثين، وممن ذهب إلى هذا:   (1) حديث جابر" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تستقبل القبلة ببول ورأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها" قال الترمذي في العلل: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: هذا حديث صحيح. رواه غير واحد عن ابن إسحاق. علل الترمذي 1/87. (2) زاد المعاد 2/386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الشافعية والمالكية، قال الإمام الشافعي:"كان القوم عربا إنما عامة مذاهبهم الصحارى وكثير من مذاهبهم لا حش فيها يسترهم فكان الذاهب لحاجته إذا استقبل القبلة أو استدبرها استقبل المصلى بفرجه أو استدبره ولم يكن عليهم ضرورة في أن يشرقوا أو يغربوا فأمروا بذلك، وكانت البيوت مخالفة للصحراء فإذا كان بين أظهرها كان من فيه مستترا لا يراه إلا من دخل أو أشرف عليه وكانت المذاهب بين المنازل متضايقة لا يمكن من التحرف فيها ما يمكن في الصحراء فلما ذكر بن عمر ما رأى من رسول الله من استقباله بيت المقدس وهو حينئذ مستدبر الكعبة دل على أنه إنما نهى عن استقبال الكعبة واستدبارها في الصحراء دون المنازل". وأجاب عن قول أبي أيوب:" فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر الله تعالى" (1) ، فقال:"وسمع أبو أيوب الأنصاري النهي من رسول الله ولم يعلم ما علم ابن عمر من استقباله بيت المقدس لحاجته، فخاف المأثمة في أن يجلس على مرحاض مستقبل الكعبة فتحرف لئلا يستقبل الكعبة، وهكذا يجب عليه إذا لم يعرف غيره، ورأى ابن عمر النبي –صلى الله عليه وسلم- في منزله مستقبلا بيت المقدس لحاجته فأنكر على من نهى عن استقبال القبلة لحاجته وهكذا يجب عليه إذا لم يعرف غيره أو لم يرو له عن النبي –صلى الله عليه وسلم- خلافه، ولعله سمعه منهم فرآه رأيا لهم لأنهم لم يعزوه إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ومن علم الأمرين معا ورآهما محتملين أن يستعملا استعملهما معا وفرق بينهما لأن الحال تفترق فيهما بما قلنا" (2) . وإلى هذا ذهب ابن قتيبة (3) والخطابي (4) . وجمع ابن خزيمة بين الأحاديث، وبين طريقة الجمع في ترجمته، فترجم لأحاديث النهي بقوله:   (1) أخرجه مسلم (3/153) ، والترمذي (1/13، 14) ، وابن ماجة (1/115) ، والدارمي (1/170) . (2) اختلاف الحديث ص 227. (3) تأويل مختلف الحديث ص85، 86. (4) معالم السنن 1/20، 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 "باب ذكر خبر روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند الغائط بلفظ عام مراده خاص". ثم أورد أحاديث الإباحة وترجم لها بقوله: "باب ذكر خبر روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في الرخصة في البول مستقبل القبلة بعد نهي النبي –صلى الله عليه ويلم- عنه مجملاً غير مفسر، قد يحسب من لم يتبحر العلم أن البول مستقبل القبلة جائز لكل بائل وفي أي موضع كان، ويتوهم من لا يفهم العلم ولا يميز بين المفسر والمجمل أن فعل النبي –صلى الله عليه وسلم- في هذا ناسخ لنهيه عن البول مستقبل القبلة". ثم ذكر من الأحاديث ما يجمع به بين الأحاديث المتقدمة، فقال: " باب ذكر الخبر المفسر للخبرين اللذين ذكرتهما في البابين المتقدمين والدليل على ذلك أن النبي –صلى الله عليه وسلم- إنما نهى عن استقبال القبلة واستدبارها عند الغائط والبول في الصحارى والمواضع التي لا سترة فيها، وأن الرخصة في ذلك في الكنف والمواضع التي فيها بين المتغوط والبائل وبين القبلة حائط أو سترة". وأورد أثراً يفسر ذلك من قول ابن عمر-رضي الله عنه-: قال مروان الأصفر: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، قلت: أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن ذلك؟ قال: بلى، إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس (1) . قال النووي: " ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها، وقد أمكن الجمع على ما ذكرناه فوجب المصير إليه، وفرقوا بين الصحراء والبنيان من حيث المعنى بأنه يلحقه المشقة في البنيان في تكليفه ترك القبلة بخلاف الصحراء". (2) وقد ردّ ابن حزم على من قال بالجمع وفرق بين الصحراء والبنيان فقال:   (1) صحيح ابن خزيمة 1/33، 34 بتصرف. (2) شرح مسلم 3/155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 " وأما من فرق بين الصحارى والبناء في ذلك فقول لا يقوم عليه دليل أصلاً، إذ ليس في شيء من هذه الآثار فرق بين صحراء وبنيان، فالقول بذلك ظن، والظن أكذب الحديث، ولا يغني عن الحق شيئاً، ولا فرق بين من حمل النهي على الصحارى دون البنيان وبين آخر قال: بل النهي عن ذلك في المدينة أو مكة خاصة، وبين من قال: في أيام الحج خاصة، وكل ذلك تخليط لا وجه له. وقال بعضهم: إنما كان في الصحارى لأن هنالك قوماً يصلون فيؤذون بذلك، قال أبو محمد: هذا باطل، لأن وقوع الغائط كيفما وقع في الصحراء فموضعه لا بد أن يكون قبلة لجهة ما، وغير قبلة لجهة أخرى، فخرج قول مالك عن أن يكون له متعلق بسنة أو بدليل أصلاً، وهو قول خالف جميع أقوال الصحابة رضي الله عنهم إلا رواية ابن عمر قد روي عنه خلافها. وبالله التوفيق". (1) قلت: وما ذهب إليه بعض العلماء من الجمع بين الأحاديث حيث فرقوا بين البنيان والصحراء فأجازوا ذلك في البنيان ومنعوه في الصحراء هو الأولى، وذلك لأن من قال بالنسخ لا دليل معه على تقدم أحد الأمرين على الآخر، ومن قال بالترجيح أعمل بعض الأحاديث وأبطل بعضها وهي صحيحة ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا وجه لإعمال أحدهما دون الآخر مع إمكان الجمع، فلما أمكن الجمع كما ذكرت وهو جمع لا تعسف فيه وجب المصير إليه والقول به. والله أعلم. المبحث الثامن: كيف تطهر الأرض من البول. وتتعارض في هذا المبحث أحاديث يفيد بعضها طهارة الأرض من البول بصب الماء عليه، ويفيد الآخر عدم الاكتفاء بصب الماء عليه بل يجب أخذ التراب الذي أتى عليه البول. فالقارئ حين يقرأ في هذا المبحث يجد حديث أنس -رضي الله عنه-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى أعرابياً يبول في المسجد فقال: "دعوه" حتى إذا فرغ دعا بماء فصبه عليه) .   (1) المحلى 1/199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 كما أنه يجد حديثاً يعارض هذا الحديث وهو قوله –صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عنه عبد الله بن معقل: " خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء". الأحاديث المفيدة طهارة الأرض بصب الماء عليها: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَعْرَابِيًّا يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ دَعُوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ) (1) . الأحاديث المفيدة لحفر الأرض أو إفاضة الماء ثانياً: عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: صَلَّى أَعْرَابِيٌّ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِهَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ فِيهِ: وَقَالَ يَعْنِي النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "خُذُوا مَا بَالَ عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ فَأَلْقُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى مَكَانِهِ مَاءً" (2) . وجه التعارض: يتعارض هذان الحديثان بأن أحدهما يوجب حفر الأرض من البول وعدم طهارتها بالماء فقط، والآخر يوجب صب الماء على البول دون الأمر بالحفر. آراء العلماء في درء التعارض: 1- ذهب جمهور العلماء إلى ترجيح الحديث الأول، فقالوا: أن الماء يطهر الأرض من البول ولا يجب إزالة التراب وحفره. وممن ذهب إلى ذلك الشافعية (3) ،ومالك، وأحمد (4) .   (1) أخرجه البخاري (1/322، 324) (10/429) ، ومسلم (3/190) ، والترمذي (1/275) ، وابن ماجة (1/176) ، والدارمي (1/189) ، وأحمد (3/110، 114، 167، 191، 226) ، وابن خزيمة (1/148) ، وابن حبان (2/339) ، والبيهقي (2/427، 428) ، وعبد الرزاق (1/424) ، وابن المنذر (2/175) . (2) أخرجه أبو داود (1/103) وقال مرسل، والدارقطني (1/132) ، والبيهقي (2/428) ،الحديث ضعفه أحمد أبو زرعة وابن الجوزي وابن الملقن وقوى ابن حجر الحديث الموصول بالمرسل تلخيص الحبير1؟ 49.وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/2) ، قلت: الحديث ضعيف وله شواهد لا يرتقي بها لضعفها. (3) الأم 1/53. (4) المغني 1/741، 742. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ووجه استدلالهم من حديث انس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرد عنه في هذا الحديث الأمر بنقل التراب، وظاهر ذلك الاكتفاء بصب الماء فإنه لو وجب الحفر لأمر به، ولو أمر به لذكر، ولو كان نقل التراب واجباً في التطهير لاكتفى به فإن الأمر بصب الماء حينئذ يكون زيادة تكليف، وتعب من غير منفعة تعود للمقصود وهو تطهير الأرض (1) . 2- ذهب الحنفية إلى الحفر وفرقوا بين الأرض الرخوة والصلبة. قال الكاساني: "ولو أن الأرض أصابتها نجاسة رطبة فإن كانت الأرض رخوة يصب عليها الماء حتى يتسفل فيها، فإذا لم يبق على وجهها شيء من النجاسة وتسفلت المياه يحكم بطهارتها" " وإذا كانت صلبة فإن كان صعوداً يحفر في أسفلها حفيرة ويصب الماء عليها ثلاث مرات ويزال عنها إلى الحفيرة ثم تكبر الحفيرة، وإن كانت مستوية بحيث لا يزول عنها الماء لا تغسل لعدم الفائدة في الغسل" (2) . وردوا على من صب الماء عليها وقالوا: " بأن ذلك فاسد لأن الماء النجس باق حقيقة، ولكن ينبغي أن تقلب فيجعل أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها ليصير التراب الطاهر وجه الأرض، وهكذا روي أن أعرابياً بال في المسجد فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحفر موضع بوله" (3) . قلت: وقد بان لنا مما تقدم ضعف حديث الحفر فلا يصح للاحتجاج به. ويترجح ما ذهب إليه الجمهور من عدم وجوب الحفر وأن الأرض تطهر بصب الأرض وذلك لصحة الدليل بهذا. ... والله أعلم. المبحث التاسع: البول قائماً. ومما يدخل في باب المياه والنجاسات آداب قضاء الحاجة وقد يظهر تعارض بعض الأحاديث مع بعضها. ففي البول قائماً نجد أن أحاديث تبيحه وأخرى تمنعه. كما يبيحه حديث حذيفة-رضي الله عنه- قال: (رأيتني أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم-نتماشى، فأتى سباطة قوم خلف حائط فقام كما يقوم أحدكم، فبال، فانتبذت منه فأشار إلي، فجئته فقمت عند عقبه حتى فرغ) .   (1) تحفة الأحوذي 1/138. (2) بدائع الصنائع 1/89. (3) بدائع الصنائع 1/89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ومما يمنعه حديث عائشة –رضي الله عنها- قالت: (من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً) . الحديث الذي يفيد إباحة البول قائماً: عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "رَأَيْتُنِي أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَمَاشَى فَأَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُهُ فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ" (1) الحديث الذي يفيد المنع من البول قائماً: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِدًا " (2) . أقوال العلماء في درء التعارض: 1- جمع الترمذي بين هذه الأحاديث بأن حمل النبي من البول قائما على التأدب لا على التحريم " (3) .   (1) أخرجه البخاري (1/329، 328) (5/117) ، ومسلم (3/165) ، وأبو داود (1/6) ، والترمذي (1/19) ، والنسائي (1/19، 25) ، وابن ماجة (1/111) ، والدارمي (1/171) ، وأحمد (5/382، 394، 402) ، والبيهقي (1/100، 101) ، وابن أبي شيبة (1/208) . (2) أخرجه الترمذي (1/17) وقال: حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح، والنسائي (1/26) ، وابن ماجة (1/122) ، وأحمد (6/136، 192، 213) ، والحاكم (1/181) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وابن حبان (2/349) ، والطيالسي ص211، وابن أبي شيبة (1/209) ، والبيهقي (1/101) ،وصححه الألباني في الصحيحة (1/200) ، قلت: الحديث ضعيف وله متابعة يرتقي بها إلى الحسن. (3) سنن الترمذي 1/18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 2- ودرأ ابن حبان التعارض بين الحديثين "بأن حدث حذيفة رضي الله عنه كان له سبب،وهو عدم الإمكان من الجلوس، وذاك أن المصطفى –صلى الله عليه وسلم- أتى سباطة قوم، وهي المزبلة، فأراد أن يبول فلم يتهيأ له الإمكان لأن المرء إذا قعد يبول على شيء مرتفع ربما تفشى البول فرجع إليه، فمن أجل عدم إمكانه من القعود لحاجة بال قائماً. وعائشة رضي الله عنها لم تكن معه في ذلك الوقت، إنما كانت تراه في البيوت يبول قاعداً فحكت ما رأت، وأخبر حذيفة بما عاين" (1) . 3- وكذا درأ ابن قتيبة هذا التعارض بقوله: "لم يبل قائماً قط في منزله والموضع الذي كانت تحضره عائشة –رضي الله عنها-وبال قائماً في المواضع التي لا يمكن أن يطمئن فيها، إما للثق (2) في الأرض وطين وقذر. وكذلك الموضع الذي رأى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حذيفة يبول قائما كان مزبلة لقوم، فلم يمكنه القعود فيه ولا الطمأنينة وحكم الضرورة خلاف حكم الاختيار" (3) . 4- وذكر الخطابي لبوله –صلى الله عليه وسلم- قائماً وجوهاً منها: 1- أنه لم يجد للقعود مكانا فاضطر إلى القيام إذ كان ما يليه من طرف السباطة مرتفعا عالياً. 2- وقيل: إنه كان برجله جرح لم يتمكن من القعود معه وقد روي ذلك في حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بال قائماً من جرح كان بمأبضه (4) . 3- وحدثونا عن الشافعي أنه قال: كانت العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائماً. فترى أنه لعلة به إذ ذاك وجع الصلب (5) .   (1) الإحسان (2/348، 350) بتصرف. (2) اللثق: البلل. الفائق للزمخشري 3/303. (3) تأويل مختلف الحديث ص 87. (4) المأبض: باطن الركبة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/15. (5) معالم السنن 1/29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 5- وقال ابن القيم: والصحيح أنه إنما فعل ذلك-أي البول قائماً- تنزها وبعدا من إصابة البول، فإنه إنما فعل هذا لما أتى سباطة قوم وهو ملقى الكناسة وتسمى المزبلة، وهي تكون مرتفعة، فلو بال فيها الرجل قاعدا لارتد عليه بوله وهو -صلى الله عليه وسلم- استتر بها وجعلها بينه وبين الحائط فلم يكن بد من بوله قائماً (1) . 6- وذكر النووي الأوجه الثلاثة التي حكاها الخطابي وزاد وجهاً رابعاً عن المارزي والقاضي عياض رحمهما الله وهو أنه بال قائماً لكونها حالة يؤمن خروج الحدث من السبيل الآخر في الغالب بخلاف حالة القعود، ولذلك قال عمر: البول قائماً أحصن للدبر. ويجوز وجه خاص أنه-صلى الله عليه وسلم- فعله للجواز في هذه المرة وكانت عادته المستمرة يبول قاعداً ويدل عليه حديث عائشة –رضي الله عنها- قالت: من حدثكم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يبول قائماً فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعداً (2) . رواه أحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وآخرون. وإسناده جيد والله أعلم. وقد روي في النهي عن البول قائماً أحاديث لا تثبت، ولكن حديث عائشة هذا ثابت فلهذا قال العلماء: يكره البول قائماً إلا لعذر، وهي كراهة تنزيه لا تحريم. قال ابن المنذر في الإشراق: اختلفوا في البول قائماً فثبت عن عمر ابن الخطاب –رضي الله عنه- وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد أنهم بالوا قياما، قال: وروي ذلك عن أنس وعلى وأبي هريرة رضي الله عنهم وفعل ذلك بن سيرين وعروة بن الزبير وكرهه بن مسعود والشعبي وإبراهيم بن سعد وكان إبراهيم بن سعد لا يجيز شهادة من بال قائماً.   (1) زاد المعاد 1/172. (2) شرح صحيح مسلم 3/165، 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وفيه قول ثالث: أنه كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فهو مكروه، فان كان لا يتطاير فلا بأس به، وهذا قول مالك قال بن المنذر: البول جالسا أحب إلى وقائما مباح وكل ذلك ثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا كلام ابن المنذر والله أعلم. (1) 7- وأورد السيوطي هذه الأوجه الخمسة، وزاد:" وذكر المنذري وجهاً سادساً أنه لعله كان فيهما نجاسات رطبة وهي رخوة فخشي أن تتطاير عليه قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: كذا ولعل القائم أجدر بهذه الخشية على القاعد، قلت مع أنه يؤول إلى الوجه الثالث، وذهب أبو عوانة وابن شاهين إلى أنه منسوخ. (2) 8- وذكر ابن حجر الأوجه التي ذكرها النووي وعلق على الوجه الثاني بقوله:" ولو صح هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدم لكن ضعفه الدارقطني والبيهقي والأظهر أنه فعله لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود. والله أعلم. وسلك أبو عوانة في صحيحه وابن شاهين فيه مسلكاً آخر فزعما أن البول عن قيام منسوخ، واستدلا عليه بحديث عائشة الذي قدمناه "ما بال قائماً منذ أنزل عليه القرآن" وبحديثها أيضاً " من حدثكم أنه كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً"، والصواب أنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما في غير البيوت فلم تطلع عليه، وقد حفظه حذيفة وهو من كبار الصحابة، وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة فتضمن الرد على ما نفته من أن ذلك لم يقع بعد نزول القرآن، وقد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قياماً، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش، والله أعلم. ولم يثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في النهي عنه شيء ... " (3) .   (1) المرجع السابق والصفحة. (2) سنن النسائي بشرح السيوطي 1/20. (3) فتح الباري 1/330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 8- قال الزركشي: " وجمع بعضهم بين الروايتين لأن النفي في حديث عائشة ورد على صيغة (كان) بمعنى الاستمرار في الأغلب، وحديث حذيفة ليس فيه (كان) فلا يدل على مطلق الفعل ولو مرة" (1) . قلت: بعد النظر في أقوال الأئمة في الجمع بين الأحاديث يترجح لدي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما بال قائماً لضرورة وإلا فعادته البول قاعداً، فمن اضطر إلى البول قائماً لعلة فلا حرج عليه، ومن لم يكن له علة فيكره له أن يبول قائماً لأن في ذلك احتمال وصول الرشاش وبعض النجاسة إليه. والله أعلم. الباب الثاني. وفيه مبحث: آنية الكفار. وتتعارض في هذا الباب أحاديث تتعلق بحكم آنية الكفار من حيث النجاسة والطهارة. فنجد أحاديث تفيد نجاسة آنية لكفار ووجوب غسلها، وأحاديث تفيد طهارة هذه الآنية وعدم وجوب غسلها. فمما يدل على النجاسة: (أما ما ذكرت من أنك بأرض قوم أهل كتاب تأكل في آنيتهم فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها) . ومما يدل على الطهارة: 1- (كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم، فنستمتع بها، فلا يعيب ذلك علينا) . 2- (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة) . الحديث الذي يدل على نجاسة آنية الكفار:   (1) الإجابة 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عن أبي ثعلبة الخشني –رضي الله عنه- قال: (أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ نَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ وَأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ وَالَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ تَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ صَيْدٍ فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ) (1) . الأحاديث التي تفيد طهارة آنية الكفار: الحديث الأول: عن جابر –رضي الله عنه-قال: (كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَنُصِيبُ مِنْ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْقِيَتِهِمْ فَنَسْتَمْتِعُ بِهَا فَلاَ يَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ) (2) . الحديث الثاني:   (1) أخرجه البخاري (9/612، 604، 622) ، ومسلم (13/ 79) ، وأبو داود (3/363) ، والترمذي (4/256، 129) ، وابن ماجة (2/1069) ، والدارمي (2/233) ، وأحمد (2/184) (4/193، 195) ، والحاكم (1/143) ، والطيالسي ص 34 ح 1014، وابن حبان (7/550) ، والبيهقي (1/33) ، والبغوي (11/199) . (2) أخرجه أبو داود (3/363) ، والبيهقي (1/32) ، وأحمد (3/379) ، قال عنه الأرنؤوط في شرح السنة: إسناده قوي (11/201) ،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/2) ، قلت: الحديث حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 عن عمران –رضي الله عنه-قال: "كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّا أَسْرَيْنَا حَتَّى كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَقَعْنَا وَقْعَةً وَلَا وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْهَا فَمَا أَيْقَظَنَا إِلَّا حَرُّ الشَّمْسِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ اسْتَيْقَظَ فُلَانٌ ثُمَّ فُلَانٌ ثُمَّ فُلَانٌ يُسَمِّيهِمْ أَبُو رَجَاءٍ فَنَسِيَ عَوْفٌ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الرَّابِعُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَامَ لَمْ يُوقَظْ حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَسْتَيْقِظُ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ فِي نَوْمِهِ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ وَكَانَ رَجُلًا جَلِيدًا فَكَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ بِصَوْتِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ قَالَ لَا ضَيْرَ أَوْ لَا يَضِيرُ ارْتَحِلُوا فَارْتَحَلَ فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ نَزَلَ فَدَعَا بِالْوَضُوءِ فَتَوَضَّأَ وَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى بِالنَّاس فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ قَالَ مَا مَنَعَكَ يَا فُلَانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ قَالَ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ قَالَ عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ الْعَطَشِ فَنَزَلَ فَدَعَا فُلَانًا كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ نَسِيَهُ عَوْفٌ وَدَعَا عَلِيًّا فَقَالَ اذْهَبَا فَابْتَغِيَا الْمَاءَ فَانْطَلَقَا فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا فَقَالَا لَهَا أَيْنَ الْمَاءُ قَالَتْ عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ وَنَفَرُنَا خُلُوفًا قَالَا لَهَا انْطَلِقِي إِذًا قَالَتْ إِلَى أَيْنَ قَالَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ قَالَا هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ فَانْطَلِقِي فَجَاءَا بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ قَالَ فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا وَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنَاءٍ فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ سَطِيحَتَيْنِ وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا وَأَطْلَقَ الْعَزَالِيَ وَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْقُوا وَاسْتَقُوا فَسَقَى مَنْ شَاءَ وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ وَكَانَ آخِرُ ذَاكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ قَالَ اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ وَهِيَ قَائِمَةٌ تَنْظُرُ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلْأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْمَعُوا لَهَا فَجَمَعُوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا فَجَعَلُوهَا فِي ثَوْبٍ وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا قَالَ لَهَا تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا فَأَتَتْ أَهْلَهَا وَقَدْ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ قَالُوا مَا حَبَسَكِ يَا فُلَانَةُ قَالَتْ الْعَجَبُ لَقِيَنِي رَجُلَانِ فَذَهَبَا بِي إِلَى هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ فَفَعَلَ كَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وَكَذَا فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَسْحَرُ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ وَهَذِهِ وَقَالَتْ بِإِصْبَعَيْهَا الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ فَرَفَعَتْهُمَا إِلَى السَّمَاءِ تَعْنِي السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يُصِيبُونَ الصِّرْمَ الَّذِي هِيَ مِنْهُ فَقَالَتْ يَوْمًا لِقَوْمِهَا مَا أُرَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا فَهَلْ لَكُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَأَطَاعُوهَا فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامَِ) (1) . أقوال العلماء في درء التعارض: 1- ذهب النووي إلى أن النهي الوارد في حديث أبي ثعلبة إنما المراد به النهي عن الأكل في آنيتهم التي كانوا يطبخون فيها لحم الخنزير ويشربون الخمر كما صرح به في رواية أبي داود "إنا نجاور أهل كتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر" (2) وإنما نهي عن الأكل فيها بعد الغسل للاستقذار ولكونها معتادة للنجاسة (3) . 2- قال ابن القيم في حديث جابر:" ظاهر هذا يبيح استعمال آنية المشركين على الإطلاق، من غير غسل لها وتنظيف، وهذه الإباحة مقيدة، بالشرط المذكور في حديث أبي ثعلبة، وهو العلم بأنهم لا يطبخون فيها لحم الخنزير ولا يشربون الخمر، أما إذا علم أنهم يطبخون فيها لحم الخنزير ويشربون الخمر فلا يجوز استعمالها إلا بعد الغسل والتنظيف (4) .   (1) أخرجه البخاري (1/447، 448) وأخرجه مختصرا (1/457) (6/580) ، ومسلم (5/190) ،وأحمد (4/434، 435) ، والحاكم (1/274) ، وابن خزيمة (1/59) ، وأخرج جزءا منه الطيالسي ص115، الدارقطني (1/199، 202) ، والبيهقي (1/32) . (2) سنن أبي داود (3/363) . (3) شرح صحيح مسلم 13/80، والمجموع 1/261-265 بتصرف. (4) مختصر سنن أبي داود مع المعالم والتهذيب 5/334 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 3- قال ابن تيمية:" الصحيح أن أوانيهم لا تستعمل إلا بعد غسلها فإن ذبائحهم ميتة، فلابد أن يصيب أوانيهم المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فتنجس بذلك، فأما الآنية التي لا يغلب على الظن وصول النجاسة إليها فتستعمل من غير غسل كآنية اللبن التي لا يضعون فيها طبيخهم، أو يغسلونها قبل وضع اللبن فيها (1) . 4- قال الإمام البغوي:" الأمر بغسل إناء الكفار فيما إذا علم نجاسته يقيناً لرواية مسلم بن مشكم. وفيه (إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء) (2) يعني اغسلوها، فأما إذا لم يتيقن نجاسته فالأصل طهارته" (3) . 5- قال ابن حجر: قال ابن دقيق العيد: وقد اختلف الفقهاء في ذلك بناء على تعارض الأصل والغالب، واحتج من قال بما دل عليه هذا الحديث بأن الظن المستفاد من الغالب راجح على الظن المستفاد من الأصل، وأجاب من قال بأن الحكم للأصل حتى تتحقق النجاسة بجوابين: أحدهما: أن الأمر بالغسل محمول على الاستحباب احتياطاً جمعاً بينه وبين ما دل على التمسك بالأصل، والثاني أن المراد بحديث أبي ثعلبة حال من يتحقق النجاسة، ويؤيده ذكر المجوس لأن أوانيهم نجسة لكونهم لا تحل ذبائحهم.   (1) مجموع الفتاوى 35/155. (2) تقدم. رواه أبو داود 3/363. (3) شرح السنن 11/200، 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وذكر رأي النووي كما تقدم بمعناه ثم قال: " وإن كان الأولى الغسل للخروج من الخلاف لا لثبوت الكراهة في ذلك، ويحتمل أن يكون استعمالها بلا غسل مكروهاً بناء على الجواب الأول، وهو الظاهر من الحديث، وأن استعمالها مع الغسل رخصة إذا وجد غيرها فإن لم يجد جاز بلا كراهة للنهي عن الأكل فيها مطلقاً، وتعليق الإذن على عدم غيرها مع غسلها، وتمسك بهذا بعض المالكية لقولهم أنه يتعين كسر آنية الخمر على كل حال بناء على أنها لا تطهر بالغسل، واستدل بالتفصيل المذكور لأن الغسل لو كان مطهراً لما كان للتفصيل معنى، وتعقب بأنه لم ينحصر في كون العين تصير نجسة بحيث لا تطهر أصلاً بل يحتمل أن يكون التفصيل للأخذ بالأولى، فإن الإناء الذي يطبخ فيه الخنزير يستقذر ولو غسل، كما يكره الشرب في المحجمة ولو غسلت استقذاراً، ومشى ابن حزم على ظاهريته فقال: "لا يجوز استعمال آنية أهل الكتاب إلا بشرطين: أحدهما أن لا يجد غيرها، والثاني غسلها" (1) . وأجيب بما تقدم من أن أمره بالغسل عند فقد غيرها دال على طهارتها بالغسل، والأمر باجتنابها عند وجود غيرها للمبالغة في التنفير عنها كما في حديث سلمة الآتي بعد في الأمر بكسر القدور التي طبخت فيها الميتة فقال رجل: أو نغسلها فقال: أو ذاك. فأمر بالكسر للمبالغة في التنفير عنها ثم أذن في الغسل ترخيصاً، فكذلك يتجه هنا. والله أعلم (2) . قلت: وبعد عرض الأحاديث وأقوال العلماء تبين لي ما يلي: 1- أن حديث أبي ثعلبة جاء مفصلاً في رواية أبي داود بأن النهي فيما إذا علمت نجاسة الإناء، وأما اشتراط وجود غيره فإن هذا النهي للاستقذار والذي دعانا للقول بأنه للاستقذار ثبوت استعمال النبي –صلى الله عليه وسلم- وبعض أصحابه لآنية المشركين.   (1) المحلى 1/107. (2) فتح الباري 9/606. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 2- أن حديث جابر إما أن يكون بعد ورود حديث أبي ثعلبة فيكونون على علم بالأمر بالغسل فهم يغسلونها ويستعملونها ولا يعاب عليهم الاستعمال، وهو بيان للاستمرار في الإباحة. وإما أن يكون قبل وروده فيكون حديث أبي ثعلبة بياناً لهم ليغسلوها قبل استعمالها حيث كانوا لا يعلمون ذلك. 3- أن حديث عمران بن حصين لا دلالة فيه -عندي- على طهارة آنية المشركين، ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتوضأ منها مباشرة بل أفرغ منها وتزايد الماء حتى بلغ حد كفاية الجميع وملء أسقيتهم فهو لا ريب أكثر من القلتين بكثير مما دعا المرأة للعجب واتهام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسحر، وقد حققنا في الباب الأول أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، وإنما سقته وعرضته لاستدلال الفقهاء به. والله أعلم. الباب الثالث. باب الوضوء. وفيه مباحث: الأول: هل أكل ما مست النار من نواقض الوضوء. الثاني: هل يتوضأ من مس ذكره أم لا؟ الثالث: هل النوم من نواقض الوضوء. الرابع: التسمية قبل الوضوء. الخامس: هل يجب المضمضة والاستنشاق والاستنثار في الوضوء. السادس: حكم تخليل اللحية الكثة في الوضوء. السابع: الاطلاء بالنورة. الثامن: التمندل (استعمال المنديل بعد الوضوء) . المبحث الأول: هل أكل ما مسَّت النار من نواقض الوضوء. لما كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينقلون كل ما سمعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحكون ما شاهدوا منه، فقد حفلت السيرة النبوية بحياته -صلى الله عليه وسلم- وهديه في كل الأمور، العبادات والمعاملات والأخلاق وغيرها، كل ذلك ينقل بدقة وحرص شديد. ومما لا ريب فيه أنت الله شرع أموراً ثم نسخها وورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحكام ثم غيرها، وورد عنه إطلاق ثم تقييد، وإجمال ثم تفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ولم يكن أهل الحديث ليدعوا شيئاً يفوتهم بل كل ذلك مدون في كتبهم، فلا يخلو إذاً ما كتبوه وما نقلوه من تعارض، لأن المصنفين قد لا يبينون المجمل من المفصل أو المطلق من المقيد أو الناسخ من المنسوخ. فيظن القارئ لكتب السنة أن هناك تعارضاً في هذه الأحاديث التي دونت ونقلت إلينا، ولذا كتب بعض العلماء مصنفات مستقلة يجمع فيها ذلك درءا للتعارض. وكان مما تعارض في كتب السنة أحاديث فيما مسته النار، فبعضها يستدل به على وجوب الوضوء مما مسته النار وأن الأكل منه ناقض للوضوء وبعضها يستدل به على عدم وجوبه وعدم نقضه للوضوء. فمما يبين وجوب الوضوء قوله صلى الله عليه وسلم: (توضئوا مما مست النار) . ومما يبين عدم وجوبه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- (أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ) . ذكر ما يدل على وجوب الوضوء مما مست النار: عن عبيد الله بن إبراهيم بن قارض أَنَّهُ وَجَدَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ عَلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: إِنَّمَا أَتَوَضَّأُ مِنْ أَثْوَارِ أَقِطٍ (1) أَكَلْتُهَا لأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ" (2) . ذكر ما يدل على ترك الوضوء مما مست النار:   (1) أثوار أقط: الأثوار جمع ثور، وهي قطعة من الأقط، وهو لبن جامد مستحجر. النهاية 1/228. (2) أخرجه مسلم (4/43) ، وأبو داود (1/50) ، والترمذي (1/114، 115) ، والنسائي (1/105) ، وابن ماجة (1/163، 164) ، وابن حبان (2/233) ، والبيهقي (1/156) ، وعبد الرزاق (1/172) ، وابن أبي شيبة (1/87) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 عن ابن عباس –رضي الله عنه-:" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ" (1) . وجه التعارض: إن من يقرأ حديث أبي هريرة (توضئوا مما مست النار) يجده معارضاً لحديث ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ) . وذلك أن حديث أبي هريرة يفيد مخالفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بفعله لهذا الأمر لأنه أكل ما مسته النار ثم صلى ولم يتوضأ. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- ذهب بعض أهل العلم إلى الأخذ بأحاديث الوضوء مما مست النار، وممن ذهب هذا المذهب ابن عمر، وأبو طلحة، وأنس بن مالك، وأبو موسى، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وأبو غزة الهذلي، وعمر بن عبد العزيز، وأبو مجلز لاحق بن حميد، وأبو قلابة، ويحيى بن يعمر، والحسن البصري، والزهري (2) . 2- ذهب أكثر أهل العلم وفقهاء الأمصار إلى ترك الوضوء مما مست النار، ورأوه آخر الأمرين من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وممن ذهب هذا المذهب، الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وعامر بن ربيعة، وأبي بن كعب، وأبو أمامة، وأبو الدرداء، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، والقاسم بن محمد، ومن معهما من فقهاء أهل المدينة، والفقهاء الأربعة، وغيرهم (3) . وقد بين الطحاوي وجه درء تعارض هذه الأحاديث في شرح معاني الآثار بحيث ذكر أحاديث الإيجاب بأسانيدها، وذكر أحاديث ترك الوضوء بأسانيدها ثم قال:   (1) أخرجه البخاري (1/310) ، ومسلم (4/44) ، وأبو داود (1/48، 49) ، والنسائي (1/108) ، وابن ماجة (1/164) ، ومالك (1/37) ، وابن خزيمة (1/26) ، وابن حبان (2/229) ، والبيهقي (1/153) ، وعبد الرزاق (1/166) ، وابن أبي شيبة (1/83) . (2) ينظر الاعتبار للحازمي 1/79، 80. (3) ينظر الاعتبار للحازمي 1/80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 " قد يجوز أن يكون ما أمر به من الوضوء في الآثار الأول هو وضوء الصلاة، ويجوز أن يكون هو غسل اليد لا وضوء الصلاة، إلا أنه قد ثبت عنه بما رويناه أنه توضأ، وأنه لم يتوضأ، فأردنا أن نعلم ما الآخر من ذلك. فإذا ابن أبي داود وأبو أمية وأبو زرعة الدمشقي قد حدثونا، قالوا: حدثنا علي ابن عباس قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار" (1) . ثم ذكر ذلك من فعل أبي هريرة –رضي الله عنه، ثم قال: "فثبت بما ذكرنا أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ترك الوضوء مما غيرت النار، وأن ما خالف ذلك فقد نسخ بالفعل الثاني. هذا إن كان ما أمر به من الوضوء يريد وضوء الصلاة، وإن كان لا يريد وضوء الصلاة فلم يثبت بالحديث الأول أن أكل ما غيرت النار حدث. فثبت بما ذكرنا بتصحيح هذه الآثار أن أكل ما مست النار ليس بحدث. وقد روى ذلك جماعة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضاً". وذكر بأسانيده إلى جابر، وأبي بكر الصديق، وعمر، وابن مسعود، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، وأبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين. قال أبو جعفر: فهؤلاء الجلة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرون في أكل ما غيرت النار وضوءاً. وقد روي عن آخرين منهم مثل ذلك، ممن قد روي عنه عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه أمر بالوضوء مما غيرت النار. ثم ساق بأسانيده إلى عدد من الصحابة ما يثبت ذلك منهم أنس بن مالك، وأبو طلحة، وأبي، وأبو أيوب الأنصاري، رضوان الله عليهم أجمعين.   (1) وهذا سند رجاله ثقات غير علي بن عباس فإن كان هو علي بن عبد الله ابن عباس، فهو ثقة عابد، وإن كان علي بن عابس فهو ضعيف، وقد ترجم لهما السند هي في كشف الأستار عن رجال معاني الآثار ص 77، والحديث صححه النووي في شرح مسلم 4/43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ثم بين بعد توجيهه للأحاديث من حيث الآثار توجيهه من حيث النظر، فقال: فإنا قد رأينا هذه الأشياء التي قد اختلف في أكلها أنه ينقض الوضوء أم لا إذا مستها النار؟ وقد أجمع أن أكلها قبل مماسة النار إياها لا ينقض الوضوء فأردنا أن ننظر، هل للنار حكم يجب في الأشياء إذا مستها، فينتقل به حكمها إليها، فرأينا الماء القراح طاهراً تؤدى به الفروض ثم رأيناه إذا سخن فصار مما قد مسته النار أن حكمه في طهارته على ما كان عليه قبل مماسته النار إياه، وأن النار لم تحدث فيه حكماً ينتقل به حكمه إلى غير ما كان عليه في البدء. فلما كان مما وصفنا كذلك، كان في النظر أن الطعام الطاهر الذي لا يكون أكله قبل أن تمسه النار حدثا، إذا مسته النار لا تنقله عن حاله ولا تغير حكمه، ويكون حكمه بعد مسيس النار إياه كحكمه قبل ذلك قياساً ونظراً على ما بينا (1) . كما بين الحازمي وجه درء هذا التعارض حيث قال: ويمكن أن يقال:" إن الوضوء مما مست النار اختلف فيه وتكافأت الروايات عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في ذلك في الصحة والشهرة، وتكلمت الأئمة في الأول منه والآخر والناسخ والمنسوخ فأكثرهم رأوه منسوخاً. وذهب بعضهم إلى أن المنسوخ هو ترك الوضوء مما مست النار، والناسخ الأمر بالوضوء منه، وإليه ذهب الزهري وجماعة، وتمسكوا في ذلك بأحاديث منها: وذكر بسنده: 1- عن جبيرة بن عمرو عن سلمة بن سلامة بن وقش صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما دخلا وليمة وسلمة على وضوء فأكلوا ثم خرجوا فتوضأ سلمة، فقال له جبيرة: ألم تكن على وضوء؟ قال: بلى! ولكني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرجنا من دعوة دعونا لها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو على وضوء فأكل ثم توضأ فقلت له: ألم تكن على وضوء يا رسول الله؟ قال: بلى! ولكن الأمر يحدث وهذا مما حدث.   (1) شرح معاني الآثار 1/62-70 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 2- عن عمرو بن أمية أنه رأى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أكل عضواً فصلى ولم يتوضأ، فقلنا له: فما بعد هذا؟ فقال: إنه يكون أمر ويكون بعده الأمر. قال أبو بكر: دلنا ما ذكرنا على أن الأمر بالوضوء كان بعد الرخصة، فحديث أبي هريرة يدل على الأمر بالوضوء، وحديث ابن عباس ومن تابعه يدل على الرخصة، وحديث ابن عباس بعد حديث أبي هريرة على ما بينه الشافعي حيث قال: حديث ابن عباس أدل الأحاديث على أن الوضوء مما مست النار منسوخ، وذلك أن صحبة ابن عباس لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- متأخرة، إنما مات رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو ابن أربع عشرة سنة، وقد قيل ست عشرة سنة، وقيل ثلاث عشرة سنة (1) . قال أبو بكر: ثم نظرنا هل نجد حديثاً يدل على الرخصة، وهو قبل حديث أبي هريرة؛ فوجدنا حديثاً يدل عليه وهو: "وذكر بسنده": "عن بشير بن يسار مولى بني حارث، أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء –وهي وادي خيبر- فنزل للعصر، ثم دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل ثم صلى ولم يتوضأ. قال يحيى: ثري: بل بالماء. هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في الصحيح (2) ، عن عبد الله بن يوسف، والقعنبي عن مالك (3) . ألا ترى أن حديث سويد بن النعمان هذا كان قبل خيبر، وإنما قدم أبو هريرة بعد فتح خيبر على ما صرحت به التواريخ، فهذا يدلك على أن الرخصة كانت غير مرة وهو طريق الجمع بين الأخبار وتصحيحها" (4) .   (1) الاعتبار ص 82-84. بتصرف (2) 1/312. (3) 1/37. (4) الاعتبار ص 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ثم ذكر خبرا آخر يدل على أن الرخصة كانت غير مرة، وهو حديث المغيرة بن شعبة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل طعاماً وأقيمت الصلاة فقام، وقد كان توضأ قبل ذلك، فأتيته بماء ليتوضأ، فانتهرني وقال لي: وراءك، فساءني ذلك ثم صلى، فشكوت ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله إن المغيرة بن شعبة قد شق عليه انتهارك إياه خشي أن يكون في نفسك عليه شيء، فقال: ليس في نفسي عليه شيء إلا خير، ولكنه أتاني بماء لأتوضأ، وإنما أكلت طعاماً ولو فعلت ذلك لفعل الناس ذلك من بعدي) . ومن ثم حكى ما ذهب إليه الدارمي، وهو ترجيح ما ذهب إليه الخلفاء الراشدون والأعلام من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأخذ بإجماعهم في الرخصة فيه. قال أبو بكر:" وقد ذهب بعض من رام الجمع بين هذه الأحاديث إلى أن الأمر بالوضوء منه محمول على الغسل للتنظيف كما أشار إليه الشافعي، ورجح أخبار ترك الوضوء مما مست النار بما روي من اجتماع الخلفاء الراشدين وأعلام الصحابة على ترك الوضوء منه، كما قاله الدارمي، غير أن أكثر الناس يطلقون القول بأن الوضوء مما مست النار منسوخ، ثم اجتماع الخلفاء الراشدين وإجماع الأمصار بعدهم يدل على صحة النسخ. والله أعلم (1) . فحاصل ما أجاب به العلماء عن أحاديث الوضوء جوابان: 1- أنه منسوخ بحديث جابر –رضي الله عنه- قال كان آخر الأمرين من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار. وهو حديث صحيح. 2- أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين. (2) زاد ابن حجر ثالثاً حديث وضوء النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد الأكل بأنه يحتمل أن يكون وضوؤه لصلاة الظهر كان عن حدث لا بسبب الأكل من الشاة. (3) قلت: وهذا مردود بأنه ورد الأمر بالوضوء قولاً، ولو اقتصر الأمر على الفعل لتطرق الاحتمال، أما مع وجود القول وهو حديث أبي هريرة فكيف يتطرق الاحتمال!!.   (1) الاعتبار ص 86. (2) شرح النووي 4/43. (3) فتح الباري 1/311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وممن قال بالنسخ ابن الجوزي في أخبار أهل الرسوخ حيث اختار حديث جابر (آخر الأمرين من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار) دليلاً على النسخ. قال المعلق على الكتاب أبو عبد الرحمن الجزائري:" بل لا دليل فيه على النسخ وبيان ذلك من أوجه: الأول: أن الجمع ممكن فيحمل حديث أبي هريرة على الاستحباب، وحديث جابر لبيان الجواز، وإليه مال الخطابي في (المعالم) وابن تيمية في المجموع (1) وغيرهما من المحققين. ومن المقرر عند علماء الأصول:" أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع" وقد أمكن والحمد لله. الثاني: أن القول بالنسخ مجرد دعوى لأمرين: -الأول: أنه لا يعلم المتقدم من المتأخر من الحديثين، حتى يعلم الناسخ من المنسوخ. -الثاني: أن الفعل لا ينهض على نسخ القول، فحديث أبي هريرة قولي وحديث جابر فعلي يقوى هذا الوجه. -الثالث: وهو أن حديث جابر يحكي واقعة معينة لا عموم لها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: وأما جابر فإنما نقل عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، وهذا نقل لفعل لا لقول، فإذا شاهدوه قد أكل لحم غنم ثم صلى ولم يتوضأ بعد أن كان يتوضأ منه صح أن يقال الترك آخر الأمرين، والترك العام لا يحاط به إلا بدوام معاشرته، وليس في حديث جابر ما يدل على ذلك بل المنقول عنه الترك في قضية معينة". (2) قلت: ولهذا ذهب ابن القيم إلى أن حديث جابر بهذا اللفظ مختصر من حديث له يقول فيه: "أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- دعي إلى طعام، فأكل ثم حضرت الظهر فقام وتوضأ وصلى، ثم أكل فحضرت العصر فقام وصلى ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار" فالحديث له قصة، فبعض الرواة اقتصر على موضع الحجة، فحذف القصة وبعضهم ذكرها، وجابر روى الحديث بقصته. (3)   (1) (21/342) (2) مجموع الفتاوى 21/263. (3) ينظر تهذيب سنن أبي داود 1/138 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 والذي تميل إليه النفس أن خبر أبي هريرة ورد في الوضوء للصلاة وليس المراد غسل اليدين، وأنه منسوخ، وأن خبر ابن عباس ناسخ لهذا الحديث. وذلك لعدة أمور تتبين من مناقشة الأقوال السابقة: أولاً: قول الطحاوي في المراد بالوضوء: "يجوز أن يكون هو غسل اليد لا وضوء الصلاة". قلت: هو مردود بحديث جبير بن محمود عن سلمة بن سلامة بن وقش صاحب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنهما دخلا وليمة ... الحديث، وفيه: (ولكني رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وخرجنا من دعوة دعونا لها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو على وضوء، فأكل ثم توضأ فقلت له: ألم تكن على وضوء يا رسول الله، قال: بلى! ولكن الأمر يحدث وهذا مما حدث) (1) . فالذي يفهم من هذا الحديث استنكار سلمة –رضي الله عنه- إعادة الوضوء حيث عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- متوضئاً، ولو كان رآه غسل يديه فقط لما استنكر ذلك حيث لا علاقة لوضوئه السابق بغسل يديه، فإن غسل اليدين لتنظيفهما وإزالة الدسم منهما وارد عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومعهود منه أحياناً (2) ، ولكن سلمة –رضي الله عنه- سأل عن الوضوء السابق هل انتقض بأكل ما مسته النار حتى دعا ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لإحداث وضوء آخر. وهذا الذي فهمه سلمة –رضي الله عنه- وفهمناه من حديثه فهمه الصحابة رضوان الله عليهم حينما تكلموا عن هذه المسألة، فإن بعض من روى أحاديث ترك الوضوء سواء كانت مرفوعة أم موقوفة نفى الوضوء ولم ينف غسل اليدين والمضمضة، ومن أمثلة ذلك: 1- حديث سويد بن النعمان "أنه خرج مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عام خيبر، حتى إذا كان بالصهباء " وهي أدنى خيبر" نزل فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق فأمر به فثري، فأكل فأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا ثم صلى ولم يتوضأ". (3)   (1) الحديث تقدم ص (3) أخرجه بهذا اللفظ الطحاوي وأصله مخرج في الصحيحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فهذا دليل على أنهم –رضوان الله عليهم- نفوا الوضوء مع أنه حصل منه –صلى الله عليه وسلم- المضمضة، والمعهود أن المضمضة تكون باليد، فتبين أنه مع مسه الماء بيده ومضمضته إلا أنه لم يسم متوضئاً. 2- قول ابن عباس لأبي هريرة –رضي الله عنهما- حينما روى حديث:"توضئوا مما مست النار". قال ابن عباس –رضي الله عنه-: يا أبا هريرة، فإنا ندهن بالدهن وقد سخن بالنار، ونتوضأ بالماء وقد سخن بالنار، فقال أبو هريرة: يا ابن أخي إذا سمعت الحديث من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلا تضرب له الأمثال. (1) فلو كان المقصود غسل اليدين لفهم ذلك أبو هريرة وهو الراوي للحديث ولم يعارض ابن عباس، فإن خبره ينص على وضوء الصلاة، وكذلك لو كان الأمر مقصوراً على غسل اليدين لما حاج ابن عباس أبا هريرة بالوضوء بالماء المسخن بالنار. ثانياً: قوله: "أنه لا يعلم المتقدم من المتأخر من الحديثين، حتى يعلم الناسخ من المنسوخ" مردود بأن ابن عباس رضي الله عنه حكى الحديث عن مشاهدة لفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دل على ذلك ما رواه الطحاوي بسنده عن ابن عباس قال: " عجبت من ناس يتوضئون مما مست النار، والله لقد جمع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عليه ثيابه، ثم أتي بثريد، فأكل منها، ثم قام فخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ". (2) فهذا ابن عباس يحكي حالاً وصفة، ولم يكتفِ بالشاهد لفتواه في ذلك دلالة على رؤياه، ويؤيد هذا ما أخرجه عبد الرزاق حيث صرح ابن عباس بالرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) رواه الطحاوي بسنده 1/63. (2) شرح معاني الآثار 1/64، ورواه مسلم 4/47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 "كان ابن عباس يوم جمعة يبيت في بيت خالته ميمونة فيحدث، فقال له رجل: أخبرني مما مست النار، فقال ابن عباس: لا أخبرك إلا ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو وأصحابه في بيته فجاءه المؤذن فقام إلى الصلاة حتى إذا كان بالباب لقي بصحفة فيها خبر ولحم فرجع بأصحابه فأكل فأكلوا، ثم رجع إلى الصلاة ولم يتوضأ" (1) . فابن عباس كان ابن ثلاث عشرة سنة أو ما يقاربها حين توفي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فدل ذلك على تأخر روايته. وأبو هريرة قد روى الحديث وعمل به، ثم روي عنه أنه ترك العمل به، روى ذلك الطحاوي بسنده: (عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أكل ثور أقط، فتوضأ ثم أكل بعده كتفاً فصلى ولم يتوضأ) (2) . ورجال إسناد هذا الحديث ثقات غير عبد العزيز بن مسلم فإنه مقبول، وسهيل بن أبي صالح فإنه صدوق تغير بآخرة. (3) فهذا إقرار من أبي هريرة بأن الأمر بالوضوء سابق على ترك، ويشهد لهذا ما أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي زياد قال: (شهدت ابن عباس وأبا هريرة وهم ينتظرون جديا لهم في التنور، فقال ابن عباس: أخرجوه لنا لا يفتنا في الصلاة، فأخرجوه فأكلوا منه، ثم أن أبا هريرة توضأ فقال له ابن عباس: أكلنا رجسا؟ قال: فقال أبو هريرة: أنت خير مني وأعلم ثم صلوا) . (4) فهذا إقرار من أبي هريرة بعلم ابن عباس في هذه المسألة وغيرها، وبهذا يتبين أن حديث أبي هريرة هو المتقدم وحديث ابن عباس هو المتأخر.   (1) المصنف 1/167 عن ابن جريج قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن خاله. (2) شرح معاني الآثارر1/67. (3) كشف الأستار عن معاني الآثار- السندهي ص 45. (4) المصنف 1/87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ثالثاً: قوله (أن الفعل لا ينهض على نسخ القول، فحديث أبي هريرة قولي وحديث ابن عباس فعلي) مردود بحديث المغيرة بن شعبة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أكل طعاماً وأقيمت الصلاة فقام، وقد كان توضأ قبل ذلك، فأتيته بماء ليتوضأ فانتهرني وقال لي: وراءك، فساءني ذلك، ثم صلى، فشكوت ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله إن المغيرة بن شعبة قد شق عليه انتهارك إياه خشي أن يكون في نفسك عليه شيء، فقال: ليس في نفسي عليه شيء إلا خير، ولكنه أتاني بماء لأتوضأ وإنما أكلت طعاماً ولو فعلت ذلك فعل الناس ذلك من بعدي) . (1) والفعلي لا يقاوم القولي لأن الفعل لا يدل بنفسه على شيء، حيث يجوز أن يكون خاصاً به –صلى الله عليه وسلم- وهنا قد انتفى الخصوص حيث لم يفعل ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خشية أن يفعله الناس وهذه الخشية تدل على أنه قد نسخ الأمر بالوضوء. وقد يقال أن حديث المغيرة قبل حديث أبي هريرة فيكون منسوخاً، وهذا القول يرد بأن الظاهر غير هذا حيث يتبين من الحديث أن المغيرة قد عهد من الرسول صلى الله عليه وسلم وضوءا مما مست النار لذا أعد له ماءا ليتوضأ به. رابعاً: قوله "إن حديث جابر يحكي واقعة معينة لا عموم لها" مردود بأن غير جابر حكى ترك الوضوء مما مست النار، كما حكى النسخ أبو هريرة-رضي الله عنه- كذلك، وذلك بقوله: "أكل ثور أقط، فتوضأ ثم أكل بعده كتفاً فصلى ولم يتوضأ". خامساً: حديث ترك الوضوء مما مست النار راجح عدة أمور: 1- أن الترك قد عمل به الخلفاء الراشدون فيكون آكد. 2- رجوع كثير ممن قال بالوجوب عن قوله وتركه للوضوء منهم: أبو هريرة، وأنس بن مالك، وأبو طلحة، وأبو أيوب وغيرهم. (2)   (1) رواه الحازمي بسنده في الاعتبار ص 85، 86 وقال: هذا حديث روى عن سويد من غير وجه. وقد تقدم (2) روى ذلك عنهم الطحاوي بأسانيده 1/69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 3- أن حديث الترك للوضوء أقرب للقياس حيث أن النار لم يعرف أنها تسبب نجاسة في الطعام بل لا تزيده إلا نقاء وطهراً. 4- أنا لو قلنا بوجوب الوضوء مما مست النار لزم إيجاب الوضوء من لحوم الغنم فلا وجه إذن لتخصيص الوضوء من لحوم الإبل، وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرق بين لحوم الغنم ولحوم الإبل. عن جابر بن سمرة رضي الله عنه (أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا) . (1) المبحث الثاني: هل يتوضأ من مس ذكره أم لا؟ لقد بعث الله رسوله إلى هذه الأمة يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم ويرشدهم إلى ما ينفعهم دنيا وأخرى، ولم يترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئاً إلا بينه حرصاً منه على سلامة دينهم ودنياهم، ومن دقائق الأمور التي بينها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسّ الفرج هل هو ناقض له أم لا، وفي هذه المسألة حديثان متعارضان أحدهما يوجب الوضوء والآخر لا يوجبه. ومما ورد في إيجاب الوضوء لمن مس ذكره حديث: (من مس ذكره فليتوضأ) . ومما ورد في عدم إيجاب الوضوء حديث طلق رضي الله عنه قال: (قدمنا على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا نبي الله؛ ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ؟ فقال: هل هو إلا مضغة منه) . ذكر الحديث الذي يدل على أن مس الذكر من نواقض الوضوء: عن عروة قال: "دَخَلْتُ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَذَكَرْنَا مَا يَكُونُ مِنْهُ الْوُضُوءُ. فَقَالَ مَرْوَانُ وَمِنْ مَسِّ الذَّكَرِ. فَقَالَ عُرْوَةُ مَا عَلِمْتُ ذَلِكَ.   (1) رواه مسلم 4/48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فَقَالَ مَرْوَانُ أَخْبَرَتْنِي بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ". (1) ذكر الحديث الذي يدل على أن مس الذكر ليس من نواقض الوضوء: عن قيس بن طلق عن أبيه قال: قَدِمْنَا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ رَجُلٌ كَأَنَّهُ بَدَوِىٌّ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا تَرَى فِي مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَ مَا يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: "هَلْ هُوَ إِلاَّ مُضْغَةٌ مِنْهُ. أَوْ قَالَ - بَضْعَةٌ مِنْهُ". (2) وجه التعارض:   (1) أخرجه أبو داود1 (/126) ،والترمذي (1/126) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي (1/110) ،وابن ماجة (1/161) ، والدارمي (1/184) ، ومالك (1/49) ، وأحمد (6/604) ،والحاكم (1/136) ، والطيالسي ص 230،وابن حبان (2/220، 221، 222) ، والدارقطني (1/146) ، والبيهقي (1/128) ،وابن خزيمة (1/22 وعبد الرزاق (1/113) ، وابن الجارود ص 19،20، وضعفه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/76) ، وصححه ابن حجر في التلخيص الحبير (1/131-133) ورد على الطحاوي في تضعيفه له، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/2) وغيره، قلت: والحديث صحيح، له شواهد من حديث أم حبيبة وجابر وأبي أيوب وعمرو بن شعيب وأبي هريرة وزيد بن خالد الجهني. (2) أخرجه أبو داود (1/46،47) ، والترمذي (1/131) وقال: هذا الحديث أحسن شيء في الباب، والنسائي (1/101) ،وابن ماجة (1/163) ،وأحمد (4/22، 23) ،وابن حبان (2/223) ، والدارقطني (1/148، 149) ، والبيهقي (1/133) ، وابن أبي شيبة (1/287) ،وعبد الرزاق (1/117) ،وابن الجارود ص 21، والطحاوي (1/75، 76) ، وضعفه البيهقي والنووي وابن القيم في تهذيب معالم السنن (1/135) ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/2) ، قلت: هو حديث حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 يتوهم القارئ تعارض هذه الأحاديث التي ذكرناها، فحديث بسرة يفيد أن مس الذكر من نواقض الوضوء، كما أن حديث طلق يفيد خلاف ذلك بأن مس الذكر ما هو إلا كمس أي عضو من أعضاء الجسد فلا ينقض الوضوء. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- قال ابن حبان: " خبر طلق بن علي الذي ذكرناه خبر منسوخ، لأن طلق بن علي كان قدومه على النبي –صلى الله عليه وسلم- أول سنة من سني الهجرة، حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وقد روى أبو هريرة إيجاب الوضوء من مس الذكر على حسب ما ذكرناه قبل، وأبو هريرة أسلم سنة سبع من الهجرة، فدل ذلك على أن خبر أبي هريرة كان بعد خبر طلق بن علي بسبع سنين" (1) . 2- رجح الحازمي حديث بسرة على حديث طلق، وجعل سبب الترجيح كثرة عدد الرواة لهذا الحديث أي حديث إيجاب الوضوء. قال .... "وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، وذهب بعضهم إلى هذه الأحاديث" أحاديث الإباحة" ورأوا ترك الوضوء من مس الذكر". قال: " وخالفهم في ذلك آخرون فذهبوا إلى إيجاب الوضوء، ومن ذهب إلى هذا القول ادعى أن حديث طلق منسوخ". وذكر حجة كل منهم فقال: " قال بعض من ذهب إلى الرخصة: المصير إلى حديث طلق أولى لأسباب: منها: أاشتهار طلق بصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم. ب طول صحبته، وكثرة روايته. ج- وأما بسرة فغير مشهورة واختلاف الرواة في نسبها يدل على جهالتها، لأن بعضهم يقول: هي كنانية، وبعضهم يقول: هي أسدية، ثم لو قدرنا انتفاء الجهالة عنها ما كانت أيضاً توازي طلقاً في كثرة روايته، إذ قلة روايتها يدل على قلة صحبتها، ثم اختلاف الرواة في حديثها يدل على ضعف حديثها، ثم إن حديث النساء إلى الضعف ما هو. د- قالوا: قد روينا عن علي بن المديني ومحله من هذا الشأن ما قد عرف أنه قال ليحيى بن معين: كيف تتقلد إسناد بسرة عن أبي حفص، ومروان إنما أرسل شرطياً حتى رد جوابها إليه.   (1) الإحسان 2/224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 هـ-وروينا عن أبي حفص الفلاس أنه قال: حديث قيس بن طلق عندنا أثبت من حديث بسرة. و ثم لو سلمنا ثبوت الحديث فمن أين لكم ادعاء النسخ في ذلك، إذ ليس في حديث بسرة ما يدل على النسخ، بل أولى الطرق أن يجمع بين الحديثين كما حكاه لوين عن ابن عيينة قال: تفسير حديث النبي –صلى الله عليه وسلم- (من مس ذكره فليتوضأ) معناه أن يغسل يده إذا مسه. وقد أجاب من ذهب إلى الإيجاب بعدة أجوبة منها: 1- أنه لا ينكر اشتهار بسرة بنت صفوان بصحبة النبي –صلى الله عليه وسلم- ومتانة حديثها إلا من جهل مذاهب الحديث، ولم يحط علمه بأحوال الرواة. 2- أن ما ذكر من اختلاف الرواة في حديثها فقد وجد في حديث طلق نحو ذلك وأولى، ثم إذا صح للحديث طريق وسلم من شوائب الطعن تعين المصير إليه ولا عبرة باختلاف الباقين، وحديث مالك الذي هو سنده لا يختلف في عدالة رواته. 3- أما ما روي من أن عروة جعل يماري مروان في ذلك حتى دعا رجلاً من حرسه فأرسله إلى بسرة يسألها فغير قادح في المقصود لصيرورة عروة إلى هذا الحديث، ولولا ثقة الحرسي عنده لما صار إليه، وقد روي عن عروة أنه سأل بسرة عن ذلك فصدقته. 4- أن حديث طلق لا يقاوم حديث بسرة لأسباب منها: نكارة سنده، وركاكة روايته. وساقوا عن الشافعي وابن معين وابن أبي حاتم تضعيف هذا الحديث والطعن في سنده. 5- يجاب عن نفي النسخ بأن الدليل على ذلك من جهة التاريخ، لأن حديث طلق كان في أول الهجرة زمن كان النبي –صلى الله عليه وسلم - يبني المسجد، وحديث بسرة وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو كان بعد ذلك لتأخرهم في الإسلام". (1) 3- وذهب الطحاوي إلى تضعيف أحاديث إيجاب الوضوء، وأورد على كل حديث علة ثم قال: "فقد ثبت فساد هذه الآثار كلها، التي يحتج بها من يذهب إلى إيجاب الوضوء من الفرج. وذكر الآثار التي تخالفها. ثم قال:   (1) الاعتبار ص 68-78 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 " فهذا حديث ملازم، صحيح مستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده ولا في متنه فهو أولى –عندنا- مما رويناه أولاً من الآثار المضطربة في أسانيدها" وحكى عن ابن المديني قوله: " حديث ملازم هذا أحسن من حديث بسرة". ثم قال: " فإن كان هذا الباب يؤخذ من طريق الإسناد واستقامته، وحديث ملازم هذا أحسن إسناداً. ثم ساق ما استدل به الموجبون للوضوء من الآثار عن الصحابة ورد عليها وأعلها، ثم قال: " فلم نعلم أحداً من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أفتى بالوضوء غير ابن عمر، وقد خالفه في ذلك أكثر أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومن ثم ساق بعض الروايات عن علي وابن مسعود وعمار وحذيفة وعمران بن حصين وقال بعد ذلك: " فإن كان يجب في مثل هذا تقليد ابن عمر، فتقليد من ذكرنا أولى من تقليد ابن عمر، وقد روي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن" حيث لم يكونا يريا من مس الذكر وضوءا. وختم مبحثه رحمه الله بقوله:" فبهذا نأخذ، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن رحمهم الله". (1) 4- ذهب ابن الجوزي إلى تضعيف أحاديث عدم إيجاب عدم إيجاب الوضوء وأوردها وبين مغمز كل حديث. (2) ثم قال: " وقد ادعى أصحابنا على تقدير صحة الحديث (3) أنه منسوخ، وقالوا لأنه يكون في أول الهجرة، وأحاديثنا متأخرة، إذ من جملة رواتها أبو هريرة وإسلامه متأخر. (4) وقال وهو قول محتمل فلم يجزم بنسخه. (5)   (1) ينظر شرح معاني الآثار 1/71- 79. (2) ينظر: التحقيق في اختلاف الحديث 1/117- 128. (3) أي حديث الإباحة حديث طلق. (4) التحقيق 1/127. (5) أخبار أهل الرسوخ بمقدار المنسوخ من الحديث ص 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 5- ذهب ابن تيمية إلى أن الوضوء مستحب لا واجب، جمعا بين الأحاديث فقال "والأظهر أن الوضوء من مس الذكر مستحب لا واجب. وهكذا صرح به الإمام أحمد في أحدى الروايتين عنه، وبهذا تجمع الأحاديث والآثار بحمل الأمر على الاستحباب، ليس فيه نسخ قوله (وهل هو إلا بضعة منك) وحمل الأمر على الاستحباب أولى من النسخ". (1) 6- ذكر ابن القيم سبعة وجوه لترجيح حديث بسرة وغيره على حديث طلق: -أحدها: ضعفه. -والثاني: أن طلقاً قد اختلف عنه، فروى عنه (هل هو إلا بضعة منك) وروى أيوب بن عتبة عن قيس بن طلق عن أبيه مرفوعاً (من مس فرجه فليتوضأ) رواه الطبراني، وقال: لم يروه عن أيوب بن عتبة إلا حماد بن محمد. وهما عندي صحيحان، يشبه أن يكون سمع الحديث الأول من النبي –صلى الله عليه وسلم- قبل هذا، ثم سمع هذا بعده، فوافق حديث بسرة وأم حبيبة وأبي هريرة وزيد بن خالد الجهني وغيرهم فسمع الناسخ والمنسوخ. - الثالث: أن حديث طلق لو صح لكان حديث أبي هريرة ومن معه مقدماً عليه، لأن طلقاً قدم المدينة وهم يبنون المسجد، فذكر الحديث، وفيه قصة مس الذكر، وأبو هريرة أسلم عام خيبر، بعد ذلك بست سنين وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمره صلى الله عليه وسلم. -الرابع: أن حديث طلق مبقى على الأصل، وحديث بسرة ناقل، والناقل مقدم، لأن أحكام الشارع ناقلة عما كانوا عليه. -الخامس: أن رواة النقص أكثر، وأحاديثه أشهر، فإنه من رواية بسرة وأم حبيبة، وأبي هريرة، وأبي أيوب، وزيد بن خالد. -السادس: أنه قد ثبت الفرق بين من مس الذكر وسائر الجسد في النظر والحس، فثبت عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- (أنه نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه) ، فدل على أن الذكر لا يشبه سائر الجسد، ولهذا صان اليمين عن مسه، فدل على أنه ليس بمنزلة الأنف والفخذ والرجل، فلو كان كما قال المانعون: أنه بمنزلة الإبهام واليد والرجل، لم ينه عن مسه باليمين. والله أعلم.   (1) مجموع الفتاوى 21/ 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 -السابع: أنه لو قدر تعارض الحديثين من كل وجه لكان الترجيح لحديث النقض، لقول أكثر الصحابة به، منهم: عمر بن الخطاب، وابنه، وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة بنت صفوان –رضي الله عنهم أجمعين-، وعن سعد ابن أبي وقاص روايتان، وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- روايتان. (1) 7- وذهب جماعة إلى الجمع بين الأحاديث وذلك باحتمال التأويل فيها، قال الإمام السندي في حاشية سنن النسائي: " وصنيع المصنف (2) يشير إلى ترجيح الأخذ بهذا الحديث حيث أخر هذا الباب، وذلك لأنه بالتعارض حصل الشك في النقض، والأصل عدمه فيؤخذ به، ولأن حديث بسرة يحتمل التأويل بأن يجعل مس الذكر كناية عن البول لأنه غالباً يرادف خروج الحدث منه، ويؤيده أن عدم انتقاض الوضوء بمس الذكر قد علل بعلة دائمة، وهي أن الذكر بضعة من الإنسان، فالظاهر دوام الحكم بدوام علته، ودعوى أن حديث قيس بن طلق منسوخ لا تعويل عليه. والله تعالى أعلم (3) . وتأوله آخر بأن المراد بالوضوء غسل اليد منه. 8- ورجح الشوكاني أحاديث إيجاب الوضوء حيث قال:   (1) تهذيب معالم السنن 1/135. (2) أي تقديم أحاديث الوضوء من مس الذكر على ترك الوضوء من ذلك. (3) سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي 1/101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 " فالظاهر ما ذهب إليه الأولون، وقد روى عن مالك القول بندب الوضوء، ويرده ما سيأتي (1) من التصريح بالوجوب في حديث أبي هريرة وفي حديث عائشة (ويل للذين يمسون فروجهم ولا يتوضئون) أخرجه الدارقطني (2) وهو دعاء بالشر لا يكون إلا على ترك واجب والمراد بالوضوء غسل جميع الأعضاء كوضوء الصلاة لأنه الحقيقة الشرعية وهي مقدمة على غيرها على ما هو الحق في الأصول. وقد اشترط في المس الناقض للوضوء أن يكون بغير حائل ويدل له حديث أبي هريرة". (3) 9- قال محمد حامد الفقي: " والذي تطمئن إليه نفس الفقيه: أنه لا تعارض بين حديث بسرة وحديث طلق، وذلك: أن للفرج من الرجل والمرأة إحساساً غير إحساس بقية الأعضاء، فمن مسه يقصد إيقاظ هذا الإحساس الخاص وجب عليه الوضوء، ومن مسه كما يمس أي عضو آخر فلا وضوء عليه، وهذا أوضح من تعليل الرسول –صلى الله عليه وسلم- في حديث طلق: هل هو إلا مضغة منه أو بضعة منه؟ والله أعلم (4) . قلت:   (1) وهو حديث (من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء) رواه أحمد. (2) 1/148 وقال عبد الرحمن العمري ضعيف. (3) نيل الأوطار 1/250. (4) هامش مختصر سنن أبي داود 1/135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 والذي أميل إليه أن الأحاديث في إيجاب الوضوء صحيحة، وضعيفها يعتضد بغيره، والأحاديث في ترك الوضوء كذلك صحيحة كما بينه كثير من أهل العلم بالحديث، فيبقى أن يقال أن القول بالنسخ أقرب وأولى؛ وذلك لأنه كان في بدء الأمر وأحاديث إيجاب الوضوء بعد ذلك، والقاعدة تقتضي القول بالنسخ إذا علم التاريخ للحديثين المتعارضين، ولم يمكن الجمع، والجمع بتأول الوضوء بأنه يقصد به غسل اليد مردود بالتصريح بإعادة الوضوء والصلاة في بعض الروايات، أما التأويل بأن مس الذكر كناية عن البول فهو بعيد متكلف، وإن كان هناك تأويل أو جمع محتمل فالذي أراه أنه ما كان من مس بشهوة فهو الموجب لأنه مظنة نزول المذي، والمذي يجب الوضوء منه، وما كان من مس بدون شهوة فهو كمن مس جزءً من جسده فليس فيه وضوء. والله أعلم. المبحث الثالث: هل النوم من نواقض الوضوء أم لا؟ وفي هذا المبحث اختلف الفقهاء اختلافاً كثيراً في النوم هل هو ناقض للوضوء أم لا؟ وقد تولد في اختلافهم مذاهب متعددة، ويرجع هذا الاختلاف إلى ورود بعض الأحاديث المتعارضة ظاهراً. فقد ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على أن النوم ناقض للوضوء كحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم". ومنها ما يدل على أن النوم غير ناقض للوضوء كحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون". وكحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: " بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، وفيه (ثم اضطجع فنام حتى نفخ وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى ولم يتوضأ) . ذكر الحديث الذي يدل على أن النوم ناقض للوضوء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ أوَ بَوْلٍ أوَ نَوْمٍ" (1) . ذكر الأحاديث التي تدل على أن النوم لا ينقض الوضوء: الحديث الأول: عن قتادة قال: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلاَ يَتَوَضَّئُونَ قَالَ سَمِعْتَهُ مِنْ أَنَسٍ قَالَ: إِي وَاللَّهِ." (2) . الحديث الثاني: عن ابن عباس:" أن النبي –صلى الله عليه وسلم- نام حتى نفخ ثم صلى، وربما قال اضطجع حتى نفخ ثم قام فصلى".   (1) أخرجه الترمذي (1/159) (5/546) وقال: حسن صحيح، والنسائي (1/83،98) ، وابن ماجة (1/161) ، وأحمد (4/239، 240) ، وابن خزيمة (1/98، 99) ، وابن حبان (2/308، 309، 310) ، والدارقطني (1/133) ، والبيهقي (1/114) ، والشافعي ص18 وفي الأم (1/34) ، والبغوي (1/335) ، وحسنه النووي في المجموع (2/18) ، وحسن إسناده الأرنؤوط في حاشية شرح السنة (1/336) ، قلت: الحديث حسن لغيره. (2) أخرجه مسلم (4/72) ، وأبو داود (1/51) ، والترمذي (1/113) ، وأحمد (3/277) ، والبيهقي (1/120) ، والشافعي ص 11، والبغوي1/338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وعنه:" بتُّ عند خالتي ميمونة ليلة فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- من الليل فلما كان في بعض الليل قام النبي -صلى الله عليه وسلم- فتوضأ من شن معلق وضوءا خفيفا -يخففه عمرو ويقلله- وقام يصلي، فتوضأت نحوا مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره -وربما قال سفيان عن شماله- فحولني فجعلني عن يمينه ثم صلى ما شاء الله، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم آتاه المنادي فآذنه بالصلاة، فقام معه إلى الصلاة فصلى ولم يتوضأ" (1) . وجه التعارض: أن من يقرأ حديث صفوان ابن عسال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط أو بول أونوم) ، يجد أن هذا الحديث يدل على أن النوم من نواقض الوضوء حيث قرنه معها فكأنما قال من انتقض وضوؤه بأحد هذه النواقض الغائط أو البول أو النوم فيكفيه أن يمسح على خفيه عند الوضوء. ومن يقرأ حديث ابن عباس وفيه (ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فأتاه بلال فآذنه بالصلاة، فقام فصلى ولم يتوضأ) . يجده يدل على أن النوم ليس من نواقض الوضوء حيث نام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم قام فصلى، ولم يتوضأ، فلو كان النوم من نواقض الوضوء لتوضأ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعد أن قام من نومه لأنه يكون قد انتقض وضوؤه، وكذلك يفيد حديث أنس رضي الله عنه. وقد درء العلماء هذا التعارض. أقوال العلماء في درء التعارض:   (1) أخرجه البخاري (1/238) (2/344) (11/116) ، ومسلم (2/178، 179) ، وأبو داود (2/44، 45، 47، 48) ولم يذكر عدم الوضوء، والنسائي (2/218) ولم يذكر عدم الوضوء، وأحمد (1/234،245،343) وأيضاً رواه (1/284) ولم يذكر لم يتوضأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 1- درأ الشافعي التعارض بين حديث صفوان وحديث أنس –رضي الله عنه- بأن نوم الصحابة –رضوان الله عليهم- كان وهم قعود، وهذا لا يعد نوماً في لغة العرب فإن النائم يطلق على من نام مضطجعاً، وحال النوم قاعداً غير حال النائم مضطجعاً، لأن القاعد يكون متمكناً من مخرج الحدث، وإنما جعل النوم من نواقض الوضوء لكونه مظنة خروج الحدث. (1) 2- كما أضاف ابن قدامة على ما ذهب إليه الشافعي –من تفريق نوم القاعد على نوم المضطجع- تعليلاً آخر، علل به عدم إعادة الصحابة لوضوئهم، وهو أنهم كانوا ينامون نوماً يسيراً ليس فيه غلبة، ونقض الوضوء بالنوم معلل بإفضائه إلى الحدث ومع الغلبة، والكثرة تفضي إليه، ولا يحس بخروجه بخلاف اليسير. (2) وبهذا درأ الشافعي وابن قدامة هذا التعارض بأن جمعوا بين هذه الأحاديث. 3- قال النووي: حديث صفوان محمول على نوم غير الممكن، وهذا يتعين المصير إليه للجمع بين الأحاديث الصحيحة (3) . ودرأ التعارض بين حديث صفوان وحديث ابن عباس بأن نومه –صلى الله عليه وسلم- ليس كنوم غيره، فمن خصائصه أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم لكونه يعي وهو نائم ما يعيه وهو متيقظ، ودليل ذلك قوله –صلى الله عليه وسلم- (إن عيناي تنامان، ولا ينام قلبي) (4) .   (1) الأم 1/12، 13 بتصرف. (2) المغني 1/186، 159. بتصرف. (3) المجموع 1/19. (4) أخرجه البخاري (3/33) 4 / 251، 6 / 579 ومسلم 6/16 عن عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 4- ذهب قوم إلى ترجيح عدم النوم مطلقاً، ولم يعتبروا الحديث المعارض، واحتجوا بعموم حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه، وبالقياس على الإغماء (1) ، وبأن الآية في الأمر بالوضوء وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين .... الآية) (2) نزلت في القيام من النوم، والآية والخبر إذا كان الذي أثارهما سبباً فلا بد من دخول السبب فيهما (3) .وممن ذهب إلى ذلك إسحاق وأبو عبيد والمزني قال ابن المنذر وبه أقول. (4) 5- وذهب قوم إلى ترجيح عدم النقض بالنوم مطلقاً، ولم يعتبروا حديث صفوان وسواء كان النائم مضطجعاً أم لا، واحتجوا بالآية (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ... الآية) فذكر سبحانه نواقض الوضوء ولم يذكر النوم، وبحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- (لا وضوء إلا من صوت أو ريح) (5) ، قالوا: لأنا أجمعنا نحن وأنتم على أن النوم ليس حدثاً في عينه، وأنتم أوجبتم الوضوء لاحتمال خروج الريح والأصل عدمه، فلا يجب الوضوء بالشك. وإلى هذا ذهب أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وأبو مجلز، وحميد الأعرج، والشيعة. (6) قلت:   (1) المجموع 2/17، 21. (2) تتمة الآية)) وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم به وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)) المائدة 6. (3) أحكام القرآن لابن العربي 2/559. (4) المجموع 2/17 (5) أخرجه الترمذي 1/109. (6) المجموع 2/17-18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وما ذهب إليه الجمهور من أن النوم ليس بحدث على الإطلاق، ولا ينكر كون النوم حدثا على الإطلاق هو الذي تدل على صحته الأحاديث، فإن من قال بأن النوم حدثاً مطلقاً لم يجب عن حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وكذا حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وهما حديثان صحيحان صريحان في عدم نقض النوم للوضوء فإذا قيد النوم بنوم غير الممكن أمكن الجمع بين الأحاديث، وجعل النوم حدثاً لغير الممكن، وأما من تمكن من جلسته ولم يضطجع فإنه لا يخرج من الحدث، ومن نام نوماً يسيراً فإنه يبعد أن لا يشعر بخروج الحدث، كما أن الجمهور خصوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدم نقض نومه لوضوئه، جمعاً بين الأحاديث، فمن لم يخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك فلا جواب له عن حديث ابن عباس، وهو حديث صحيح متفق عليه. وأما من قال بأن النوم ليس بحدث مطلقاً فلا جواب له عن حديث صفوان -رضي الله عنه-، وما احتجوا به من عدم ذكر النوم في الآية وفي حديث أبي هريرة فهو ليس بحجة، وذلك أنه ليس من الضرورة أن تذكر جميع النواقض في الآية، وكذا جميع النواقض في الحديث. فالآية لم يذكر فيها الريح، ومع ذلك عد الريح حدثاً، ولم يحتج أحد بعدم وروده في الآية على أنه ليس بحدث، ثم هذا الحديث ورد على سبب وحادثة. ورد في رواية أخرى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا كان أحدكم في المسجد فوجد ريحاً بين أليتيه فلا يخرج حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً" (1) . فكما أن الريح لم تذكر في الآية وذكرت في هذا الحديث وعدت حدثاً؛ فكذا النوم لم يذكر في الآية وذكر في حديث صفوان فيعد حدثاً. ثم إنه لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع وقد أمكن بما تقدم. والله أعلم. المبحث الرابع: التسمية قبل الوضوء. وفي باب الوضوء يختلف الفقهاء في التسمية قبل الوضوء هل هي واجبة أم لا؟ وهل يصح الوضوء بدونها أم لا؟   (1) أخرجه الترمذي (1/109) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وأصل هذا الاختلاف بعض الأحاديث المتعارضة في ظاهرها، فلذلك ذهب قوم إلى ما يفيد عندهم عدم الوجوب، وذهب آخرون إلى ما يفيد الوجوب. وقد استدل الأولون بحديث المهاجر بن قنفذ أنه أتى النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر". واستدلوا بحديث رفاعة بن رافع وفيه "أن لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل". واستدل الآخرون بحديث أبي هريرة " لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه". ذكر الأحاديث التي استدل بها على عدم وجوب التسمية: الحديث الأول: عن المهاجر بن قنفذ أَنَّهُ أَتَى النَّبيَّّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: "إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ، أَوْ قَالَ: عَلَى طَهَارَةٍ". (1) . الحديث الثاني:   (1) أخرجه أبو داود (1/5) وهو حديث صحيح، وابن خزيمة (1/103) ، والنسائي (1/37) ، وابن ماجة (1/126) ، وأحمد (5/80) ، والبيهقي (1/90) ، والدارمي (2/278) ، والحاكم (1/167) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، وقال الزيلعي في نصب الراية: معلول (1/5) ، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/101) ، قلت: الحديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 عن رفاعة بن رافع قال: فقال رسول الله عليه وسلم:"إِنَّهَا لاَ تَتِمُّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُكَبِّرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَحْمَدُهُ ثُمَّ يَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ وَتَيَسَّرَ» . فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ حَمَّادٍ (1)   (1) يشير به إلى حديث حماد الذي رواه أبو داود قبله عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ السَّلاَمَ وَقَالَ «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ» . ثُمَّ قَالَ «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَقَالَ الرَّجُلُ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا فَعَلِّمْنِى. قَالَ «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِى صَلاَتِكَ كُلِّهَا» ..قَالَ أَبُو دَاوُدَ قَالَ الْقَعْنَبِىُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَقَالَ فِى آخِرِهِ «فَإِذَا فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ وَمَا انْتَقَصْتَ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَإِنَّمَا انْتَقَصْتَهُ مِنْ صَلاَتِكَ» . وَقَالَ فِيهِ «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ» .1/227 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 قَالَ «ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَسْجُدُ فَيُمَكِّنُ وَجْهَهُ» . قَالَ هَمَّامٌ وَرُبَّمَا قَالَ «جَبْهَتَهُ مِنَ الأَرْضِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ وَتَسْتَرْخِيَ ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَسْتَوِي قَاعِدًا عَلَى مَقْعَدِهِ وَيُقِيمُ صُلْبَهُ» . فَوَصَفَ الصَّلاَةَ هَكَذَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ حَتَّى فَرَغَ «لاَ تَتِمُّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ " (1) . ذكر الأحاديث التي تفيد وجوب التسمية: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ" (2) . وجه التعارض: من يقرأ حديث المهاجر بن قنفذ يجد أن هذا الحديث يفيد أن النبي –صلى الله عليه وسلم-يكره أن يذكر اسم الله على غير طهر.   (1) أخرجه أبو داود (1/227) ، والترمذي (2/102) وقال: حديث رفاعة حدثي حسن، والنسائي (2/193) ، والحاكم (1/241، 242) ، والبيهقي (1/44) ، والبخاري في جزء القراءة ص 32،وقال الألباني: صحيح (إرواء الغليل 1/321) ، قلت: الحديث صحيح وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري ومسلم وغيرهم. (2) أخرجه أبو داود (1/25) ، وابن ماجة (1/140) ، وأحمد (2/418) ، والحاكم (1/146) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد؛ قلت: هذا من أوهام الحاكم فقد صحح حديثا فيه مجهولان، وأخرجه البيهقي (1/43) ،وقال النووي: ضعيف (المجموع1/343) ، وقال أحمد شاكر: جيد حسن (شرح الترمذي 1/38) ، وقال الألباني: حسن (إرواء الغليل 1/122) ، قلت: الحديث ضعيف إلا أنه بشواهده يكون حسنا لغيره، ومن شواهده: حديث سعيد بن زيد وسهل وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي بسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ومن يقرأ حديث رفاعة بن رافع يجد أنه يفيد أن التسمية غير واجبة، حيث أحال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واجبات للوضوء على الآية وهي قوله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيدكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ..... الآية". ولم يذكر فيها التسمية, فدل على أنها غير واجبة. أما حديث أبي هريرة فيفيد غير مفاد هذه الأحاديث، وذلك أنه ينفي صحة وضوء من لم يذكر اسم الله عليه، وبهذا نجد أن هذه الأحاديث تتعارض فيما بينها وقد درأ العلماء هذا التعارض. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- قال الإمام الطحاوي بعد أن ذكر عدة طرق لحديث (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (1) قال: "فذهب قوم إلى أن من لم يسم على وضوء الصلاة فلا يجزيه وضوؤه واحتجوا في ذلك بهذه الآثار ". وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: من لم يسم على وضوئه فقد أساء، وقد طهر بوضوئه ذلك. واحتجوا في ذلك بحديث المهاجر بن قنفذ (إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة) . (2) ففي هذا الحديث أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم – كره أن يذكر الله إلا على طهارة، ورد السلام بعد الوضوء الذي صار به متطهرا، ففي ذلك دليل أنه قد توضأ قبل أن يذكر اسم الله. وكان قوله: (لا وضوء لمن لم يسم) يحتمل أيضا ما قاله أهل المقالة الأولى، ويحتمل لا وضوء له: أي لا وضوء له متكاملا في الثواب، كما قال: (ليس المسكين الذي ترده التمرة أو التمرتان ولا القمة ولا اللقمتان) ، فلم يرد بذلك أنه ليس بمسكين خارج من حد المسكنة كلها حتى تحرم عليه الصدقة؛ وإنما أراد بذلك أنه ليس بالمسكين المتكامل في المسكنة الذي ليس بعد درجته في المسكنة درجة.   (1) سبق تخريجه ص: (2) سبق تخريجه ص: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وكذلك قوله –صلى الله عليه وسلم-: (ليس المؤمن الذي يبيت شبعان وجاره إلى جنبه جائع) ، فلم يرد في ذلك أنه ليس بمؤمن إيمانا خرج بتركه إياه إلى الكفر، ولكنه أراد به أنه ليس في أعلى مراتب الإيمان، وأشباه هذا كثيرة. فكذلك قوله: (لا وضوء لم يسم) لم يرد بذلك أنه ليس بالمتوضئ وضوءا لم يخرج به من الحدث، ولكنه أراد أنه ليس بمتوضئ وضوءا كاملا في أسباب الوضوء الذي يوجب الثواب. فلما احتمل هذا الحديث من المعاني ما وصفنا ولم يكن هناك دلالة يقطع بها لأحد التأويلين على الآخر وجب أن يجعل معناه موافقا لمعاني حديث المهاجر، حتى لا يتضادا. فثبت بذلك أن الوضوء بلا تسمية يخرج به المتوضئ من الحدث إلى الطهارة. وأما وجه ذلك من طريق النظر فإنّا رأينا أشياء لا يدخل فيها إلا بكلام، منها العقود التي يعقدها بعض الناس لبعض من البياعات والإجارات والمناكحات والخلع وما أشبه ذلك، فكانت تلك الأشياء لا تجب إلا بأقوال وكانت الأقوال منها إيجاب، لأنه يقول:"قد بعتك، وقد زوجتك، قد خلعتك ".فتلك أقوال فيها ذكر العقود. وأشياء تدخل فيها بأقوال وهي الصلاة والحج، فتدخل في الصلاة بالتكبير، وفي الحج بالتلبية، فكان التكبير في الصلاة والتلبية في الحج ركنا من أركانها. ثم رجعنا إلى التسمية في الوضوء، هل تشبه شيئا من ذلك؟ فرأينا غير مذكور فيها إيجاب شيء كما كان في النكاح والبيوع. فخرجت التسمية لذلك من حكم ما وضعنا، ولم تكن التسمية أيضاً ركناً من أركان الوضوء كما كان التكبير ركنا من أركان الصلاة، وكما كانت التلبية ركنا من أركان الحج، فخرج أيضاً بذلك حكمها من حكم التكبير والتلبية. فبطل بذلك قول من قال: أنه لابد منها في الوضوء كما لابد من تلك الأشياء فيما يعمل فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فإن قائل قال: فإنا قد رأينا الذبيحة لابد من التسمية عندها ومن ترك ذلك متعمداً لم تؤكل ذبيحته، فالتسمية أيضا على الوضوء كذلك، قيل له: ما ثبت في حكم النظر أن من ترك التسمية على الذبيحة متعمداً أنها لا تؤكل، لقد تنازع الناس في ذلك. فقال بعضهم تؤكل، وقال بعضهم لا تؤكل، فأما من قال تؤكل فقد كفينا البيان لقوله. وأما من قال لا تؤكل فإنه يقول: إن تركها ناسياً تؤكل، وسواء عنده كان الذابح مسلماً أو كافراً، بعد أن يكون كتابياً. فجعلت التسمية هاهنا في قول من أوجبها في الذبيحة إنما هي لبيان الملة. فإذا سمى الذابح صارت ذبيحته من ذبائح الملة المأكولة ذبيحتها، وإذا لم يسم جعلت من ذبائح الملل التي لا تؤكل ذبائحها. والتسمية على الوضوء ليس للملة إنما هي مجعولة لذكر على سبب من أسباب الصلاة، فرأينا من أسباب الصلاة: الوضوء وستر العورة، فكان من ستر عورته لا بتسمية لم يضره ذلك. فالنظر على ذلك أن يكون من تطهر أيضا، لا بتسمية لم يضره ذلك. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله تعالى. (1) قلت: في قول الطحاوي رحمه الله نظر من عدة وجوه: 1- أن حديث المهاجر بن قنفذ –رضي الله عنه- ورد بلفظ (كرهت) كما أنه كان بالإمكان التطهر، فأراد النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يفعل الأكمل والأحسن، لذا تطهر ثم رد السلام، ولو لم يكن التطهر بالإمكان لرد السلام قبل أن يتطهر، لأن التطهر للذكر مندوب؛ ورد السلام واجب، فإذا أمكن الإتيان بهما جميعاً فهو الأفضل، وإن كان يلزم من الإتيان بأحدهما تفويت الآخر وجب الإتيان بالواجب وترك المندوب. أما ما يدل على أن التطهر للذكر مندوب وليس بواجب فكثير في السنة، منه قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت في الحج: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري" (2) .   (1) شرح معاني الآثار 1/26-29. (2) جزء من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري (1/407) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ومعلوم أن أعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء، ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك. (1) وعلى هذا يجب الإتيان بالتسمية، ولا يلتفت إلى كراهة الذكر مع عدم الطهارة لتعذر الجمع بينهما هنا. فإن قيل: من أين لك بإيجاب التسمية؟ قلت: من قوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" فهذا نفي للصحة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 2- أما قوله (لا وضوء) أي لا وضوء كاملاً، فهذا يحتاج إلى دليل فإن النفي إذا وجد في النص انصرف إلى نفي الوجود، فإن دل دليل على الوجود انصرف إلى الصحة، فإن دل دليل على الصحة انصرف إلى الكمال. وهنا ينصرف النفي من الوجود إلى الصحة حيث أن المتوضئ دون تسمية قد حصل منه الوضوء وأعماله، فلا نستطيع أن نقول لمن رأيناه غسل وجهه ويديه ومسح رأسه وغسل رجليه ولم ينو بذلك الوضوء أنك لم تتوضأ؛ ولكن نقول لم يصح وضوؤك. أما أن نقول لم يكمل وضوؤك فهذا صرف للنفي إلى غير ما دل عليه دون صارف صحيح، وقد ورد حديث لو صح لكان حجة لهم ينقل النفي إلى نفي الكمال، وهو حديث ابن مسعود ولفظه: "إذا تطهر أحدكم فليذكر اسم الله عليه، فإنه يطهر جسده كله، وإن لم يذكر أحدكم اسم الله فإنه لا يطهر إلا ما مر عليه الماء" (2) . وقد روي هذا الحديث من طريق أبي هريرة (3) وابن عمر (4) ، ولكن لا يصح منها شيء. 3- أما من جهة النظر فليست تقوم بها حجة في مقابل النص. والله أعلم. المبحث الخامس: هل تجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء. ويختلف العلماء في حكم المضمضة والاستنشاق والاستنثار، فمن بين نادب لها وموجب، أو موجب لبعضها كمن يوجب الاستنثار دون المضمضة.   (1) يراجع: فتح الباري 1/407، 408. (2) قال ابن حجر: تفرد به يحيى بن هاشم الكوفي عن الأعمش وهو متروك الحديث، متفق على ضعفه. نتائج الأفكار 1/236. (3) قال النووي: ضعيف عند أئمة الحديث. المجموع 1/343. (4) أخرجه البيهقي 1/44 وقال: ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ولكل فريق أحاديث يعارضون بها أحاديث الفريق الآخر. ومن أشهر ما يستدل به الموجبون أحاديث: 1- " من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر". 2- "المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابد منه". 3- " أمرنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالمضمضة والاستنشاق". ومن أشهر ما يستدل به النادبون أحاديث: 1- "إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل". 2- المضمضة والاستنشاق سنة". وهذه الأحاديث تتعارض في ظاهرها. ذكر ما استدل به على وجوب الاستنشاق والاستنثار: الحديث الأول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ " (1) . الحديث الثاني: عن عائشة –رضي الله عنها- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق من الْوضُوء الَّذِي لَا بُد مِنْهُ" (2) . الحديث الثالث: عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: "أمرنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالمضمَضةِ وَالِاسْتِنْشَاق" (3) . ذكر ما يدل على عدم الوجوب: الحديث الأول:   (1) أخرجه البخاري (1/262، 263) (6/339) ، ومسلم (3/125) ، والنسائي (1/66) ، وابن ماجة (1/143) ، ومالك (1/32، 33) ، وأحمد (2/277،308) ، وابن خزيمة (1/41) ، وابن حبان (2/352) ، والبيهقي (1/103) . (2) أخرجه الدارقطني (1/84) ، والبيهقي (1/52) ، قلت: والحديث ضعيف، له شاهد من حديث ابن عباس قد يرتقي به إلى الحسن. (3) أخرجه الدارقطني (1/116) ، والبيهقي (1/52) ، قلت: حديث حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 عن رفاعة بن رافع قال: فقال رسول الله عليه وسلم:"إِنَّهَا لاَ تَتِمُّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُكَبِّرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَحْمَدُهُ ثُمَّ يَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ وَتَيَسَّرَ» . فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ حَمَّادٍ (1)   (1) يعني به الحديث الذي قبله عند أبي داود بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ السَّلاَمَ وَقَالَ «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ» . ثُمَّ قَالَ «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَقَالَ الرَّجُلُ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا فَعَلِّمْنِى. قَالَ «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِى صَلاَتِكَ كُلِّهَا» ..قَالَ أَبُو دَاوُدَ قَالَ الْقَعْنَبِىُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَقَالَ فِى آخِرِهِ «فَإِذَا فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ وَمَا انْتَقَصْتَ مِنْ هَذَا شَيْئًا فَإِنَّمَا انْتَقَصْتَهُ مِنْ صَلاَتِكَ» . وَقَالَ فِيهِ «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قَالَ «ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَسْجُدُ فَيُمَكِّنُ وَجْهَهُ» . قَالَ هَمَّامٌ وَرُبَّمَا قَالَ «جَبْهَتَهُ مِنَ الأَرْضِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ وَتَسْتَرْخِيَ ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَسْتَوِي قَاعِدًا عَلَى مَقْعَدِهِ وَيُقِيمُ صُلْبَهُ» . فَوَصَفَ الصَّلاَةَ هَكَذَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ حَتَّى فَرَغَ «لاَ تَتِمُّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ " (1) . الحديث الثاني: عن ابن عباس –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:"المَضْمَضَةُ وَالاسْتِنْشَاقُ سُنَّةٌ " (2) . وجه التعارض: إن من يقرأ الأحاديث الأُول يجدها تدل على الوجوب، وذلك أن حديث "من توضأ فليستنثر" ورد بصيغة الأمر؛ والأمر يقتضي الوجوب. وحديث "المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابد منه" نص على أن المضمضة والاستنشاق من الوضوء فهي داخلة فيه، وكائنة من أفعاله. وحديث "أمرنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالمضمضة والاستنشاق" فيه لفظ الأمر، والأمر يقتضي الوجوب، فدلت هذه الأحاديث على أن هذه الأفعال واجبة من واجبات الوضوء. وأما الأحاديث الأخيرة فمن ظاهرها تدل على أن هذه الأفعال من السنن والمندوبات لا من الواجبات، وذلك أن حديث "إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل" استدل به على أن الواجب في الوضوء ما أمر الله به، والله أمر بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين كما نصت عليه الآية " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين.." (3) وليس في الآية أمر بالمضمضة ولا الاستنشاق ولا الاستنثار، فهذه الأمور الثلاثة سنة لا واجب.   (1) تقدم تخريجه ص 82 (2) أخرجه الدارقطني (1/85) و (1/101) ،قال ابن الجوزي: هذا لا يصح (التحقيق1/86) ، قلت: الحديث شديد الضعف. (3) الآية 6 من سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وحديث "المضمضة والاستنشاق سنة" صريح في أنها ليست واجبة وإنما هي مندوبة، فهذا وجه تعارض هذه الأحاديث، وقد وجه العلماء هذا التعارض ودرؤوه. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- ذهب ابن الجوزي إلى دفع التعارض بالترجيح، فرجح أحاديث الإيجاب وقواها، وضعف حديث "المضمضة والاستنشاق سنة" (1) . 2- ذهب النووي إلى الندب، وعلى ذلك حمل الأمر، فقال في شرحه لحديث "من توضأ فليستنثر"، وكذلك ما في معناه من الأحاديث: "فيه دلالة لمذهب من يقول الاستنشاق واجب لمطلق الأمر، ومن لم يوجبه حمل الأمر على الندب بدليل أن المأمور به حقيقة هو الانتثار وليس بواجب بالاتفاق (2) فإن قالوا: ففي الرواية الأخرى "إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر" (3) فهذا فيه دلالة ظاهرة للوجوب، لكن حمله على الندب محتمل ليجمع بينه وبين الأدلة الدالة على الاستحباب. والله أعلم. (4)   (1) التحقيق 1/82-86. (2) دعوى الاتفاق مردودة، فإن ابن المنذر رجح الوجوب محتجا بقوله صلى الله عليه وسلم"إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر" قال: أو مرة على الفرض، وأحق الناس بهذا القول أصحابنا لأنهم يرون الأمر فرضا. الأوسط 1/380. (3) رواه مسلم 3/126. (4) شرح النووي لمسلم 3/126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 3- قال ابن حجر في تعليقه على الحديث الأول " من توضأ فليستنثر":ظاهر الأمر انه للوجوب، فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق لورود الأمر به، كأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر (1) ؛ أن يقول به في الاستنثار، وظاهر كلام صاحب المغني يقتضي أنهم يقولون بذلك، وأن مشروعية الاستنشاق لا تحصل إلا بالاستنثار، وصرح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوب الاستنثار، وفيه تعقب على من نقل الإجماع على عدم وجوبه. ... واستدل الجمهور على أن الأمر فيه للندب بما حسنه الترمذي وصححه الحاكم من قوله -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي: " توضأ كما أمرك الله " (2) فأحاله على الآية وليس فيها ذكر الاستنشاق. وأجيب بأنه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله سبحانه باتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهو المبين عن الله أمره، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه عليه الصلاة والسلام على سبيل الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة، وهو يرد على من لم يوجب المضمضة أيضا، وقد ثبت الأمر بها أيضا في سنن أبي داود بإسناد صحيح (3) ، وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يعلم خلافا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل قوي، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن عطاء، وثبت عنه أنه رجع عن إيجاب الإعادة، ذكره كله ابن المنذر" (4) . 4- رجح المباركفوري أحاديث الإيجاب لثبوت الأمر بذلك، ومن ترك شيئا منها أعاد الوضوء والغسل، وهذا مذهب ابن أبي ليلى وابن المبارك وأحمد وإسحاق، واستدلوا بحديث سلمة بن قيس وغيره مما في معناه. قال المباركفوري: " وقولهم هو الراجح لثبوت الأمر بهما، والأصل في الأمر الوجوب مع ثبوت مواظبته –صلى الله عليه وسلم- عليهما".   (1) الأوسط 1/375-380. (2) سبق تخريجه ص (3) 1/36. (4) فتح الباري 1/262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ورد على قول من قال: بأنهما سنتان مفنداً كل دليل فقال:" واستدلوا على عدم الوجوب في الوضوء بحديث" عشر من سنن المرسلين"، وقد رده الحافظ في التلخيص، وقال: إنه لم يرد بلفظ عشر من السنن، بل بلفظ من الفطرة، ولو ورد لم ينتهض دليلا على عدم الوجوب، لأن المراد به السنة أي الطريقة؛ لا السنة بالمعنى الاصطلاحي الأصولي، واستدلوا أيضاً بحديث ابن عباس مرفوعاً بلفظ:" المضمضة والاستنشاق سنة" رواه الدارقطني. قال الحافظ: وهو حديث ضعيف. واستدلوا أيضاً بما رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم من قوله –صلى الله عليه وسلم- للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله"، فأحاله على الآية وليس فيها ذكر المضمضة والاستنشاق والاستنثار. ورد بأن الأمر بغسل الوجه أمر بهما، وبأن وجوبها ثبت بأمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والأمر منه أمر من الله تعالى بدليل " وما آتاكم الرسول فخذوه" (1) . قلت: إذا أنعمنا النظر وجدنا أن من رجح أحاديث إيجاب المضمضة والاستنشاق والاستنثار أقرب للصواب، وذلك لأمور: 1- أن أحاديثهم جاءت صريحة، منها الصحيح، ومنها الحسن، فحديث أبي هريرة ورد فيه" فليستنثر"، وهذا أمر والأصل في الأمر الوجوب ما لم يصرفه عنه صارف، وليس ثمة صارف صحيح وصريح. 2- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- واظب عليها، كما نقل ذلك عنه كل مستقص لوضوئه. 3- أن ما أمر به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يعد مما أمر الله به، بدليل قوله تعالى:" وما آتاكم الرسول فخذوه" (2) . لذا فإذا قال صلى الله عليه وسلم:" إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل"، فيدخل في ذلك ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4- أن المضمضة والاستنشاق والاستنثار تدخل في الوجه وتعد منه.   (1) سورة الحشر آية 7. (2) سورة الحشر آية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 5- أن الاستدلال بأحاديث عدم الوجوب لا يخلو من طعن إما في الدليل فيكون ضعيفاً كحديث "المضمضة والاستنشاق سنة" أو يكون وجه الدلالة غير صريح كالاستدلال بحديث" توضأ كما أمرك الله" أو " إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله"، فالاقتصار على ما ورد في الآية وانصراف الوجوب إلى ما ورد فيها فقط دون ما ثبت من أمره -صلى الله عليه وسلم-؛ أمر مخالف للمنهج الأصولي السليم، فلا يقال: إن ما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقل مما أمر به الله، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر إلا بما أمره الله به. وكذلك وجه الدلالة من حديث "عشر من الفطرة.." وورد فيها المضمضة والاستنشاق، فهذا استدلال من وجه ضعيف، فقد ورد في هذه العشر ما هو واجب كالاختتان. إضافة إلى ما رد به الحافظ ابن حجر من أن السنن ليس المقصود بها المعنى الاصطلاحي، وإنما المقصود بها من هدي المرسلين، وهذه العشر تختلف في أحكامها. وقد يرد على قوله" من الوضوء الذي لا تتم الصلاة إلا به" قول أن الصلاة بغير وضوء تكون صحيحة إلا أنها غير تامة، فهو على هذا الحديث سنة لا واجب. وأيضاً فإنه قد يقال: إن الاستدلال بحديث" من الوضوء الذي لابد منه" على أن المضمضة وغيرها واجب ليس بصحيح، وذلك أن الضمير في "منه" عائد على الوضوء، والوضوء واجب للصلاة لابد منه، أما المضمضة وغيرها فإنها من الوضوء ولا يلزم كونها من الوضوء أن تكون واجبة، بل يجوز أن تسمى من الوضوء مع أنها سنة. والله أعلم. المبحث السادس: حكم تخليل اللحية الكثة في الوضوء. لقد اهتم الإسلام بالنظافة وتنقية البشرة مما يعلق بها من أوساخ، وكان مما اعتنى به اللحية -وهي الشعر النابت على الذقن والعارضين-، فجاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشروعية تخليلها، ولكن اختلف العلماء في المشروعية هل هي واجبة أم مندوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وسبب هذا الاختلاف بينهم، أن كل جماعة من العلماء تمسكت بحديث، فبدا للناظر أن هذه الأحاديث متعارضة. وقد احتج من ذهب إلى الإيجاب بحديث أنس –رضي الله عنه- (أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: "هكذا أمرني ربي عز وجل") . واحتج من ذهب إلى الندب بحديث ابن عباس –رضي الله عنهما- (أنه توضأ فغسل وجهه، فأخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح رأسه، ثم أخذ غرفة من ماء فرش بها على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ) . ذكر ما استدل به من ذهب إلى الإيجاب: عن أنس بن مالك –رضي الله عنه:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ وَقَالَ: "هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ " (1) . ذكر ما استدل به من ذهب إلى الندب:   (1) أخرجه أبو داود (1/36) ، وابن ماجة (1/149) ، والحاكم (1/149) وقال: صحيح، والبيهقي (1/54) ،صححه ابن القطان, قال النووي: إسناده حسن صحيح، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/88) ، قلت: والحديث ضعيف له شواهد من حديث عمار وعثمان وعائشة وأم سلمة يرتقي بها فيكون حسنا لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 عن ابن عباس –رضي الله عنهما- "أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الْأُخْرَى فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً أُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ يَعْنِي الْيُسْرَى ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ " (1) . وجه التعارض: إن من ينظر في هذه الأحاديث يجدها تتعارض فيما بينها، فالحديث الأول وهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل، فدل هذا على أن التخليل أمر من الله، والأمر يدل على الوجوب. وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكر فيه تخليل اللحية. قال الشوكاني:" إن الغرفة الواحدة وإن عظمت لا تكفي غسل باطن اللحية الكثة مع غسل جميع الوجه، فعلم أنه لا يجب" (2) ، ومن هنا جاء التعارض بين هذه الأحاديث. أقوال العلماء في درء التعارض:   (1) أخرجه البخاري (1/240، 241) ، وأبو داود (1/34) ، وأخرجه مختصرا الترمذي (1/60) ، والنسائي (1/62) ، وابن ماجة (1/143) مختصرا، وأحمد (4/134) (3/343) ، والحاكم (1/150) ، وابن خزيمة (1/88) ، وكذا أخرجه ابن حبان (2/205) ،والبيهقي (1/53) ، والطيالسي ص347. (2) نيل الأوطار 1/148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 1- ذهب قوم إلى ترجيح أحاديث تخليل اللحية واستدلوا بها، فقالوا بوجوب تخليل اللحية في الوضوء والغسل، وذلك لنص الرسول –صلى الله عليه وسلم- على أن التخليل من الوضوء الذي أمر الله به، حيث فعله ثم قال: هكذا أمرني ربي عز وجل، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وممن ذهب هذا المذهب العترة والحسن بن صالح وأبو ثور والظاهرية (1) . 2- ذهب فريق ثانٍ إلى عدم إيجاب ذلك في الوضوء وإيجابه في الغسل. واستدلوا لعدم الوجوب في الوضوء بحديث ابن عباس حيث ورد فيه غسل الوجه بغرفة واحدة، ومعلوم أن الغرف الواحدة لا يصل ماؤها تحت الشعر مع كثافة اللحية، ولأنه باطن دونه حائل معتاد فهو كداخل الفم والأنف (2) . ولا يجب التخليل لأن الله تعالى أمر بالغسل ولم يذكر التخليل، ولأن أكثر من حكى وضوء رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لم يحكه، ولو كان واجبا لما أخل به، ولو فعله لنقله الذين نقلوا وضوءه أو أكثرهم، وتركه لذلك دليل على أن غسل ما تحت الشعر الكثيف ليس بواجب لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان كثيف اللحية فلا يبلغ الماء إلى تحت شعرها إلا بالتخليل. وفعله للتخليل في بعض أحيانه يدل على استحبابه. وفرقوا بين الوضوء والغسل بأن غسل باطن الشعر الكثيف يشق في الوضوء لتكرره بخلاف الغسل (3) ، ومن أسباب تفريقهم قوله صلى الله عليه وسلم:" تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر وأنقوا البشر" (4) . ذلك التفريق إذا كان شعر اللحية كثيفاً، أما إذا كان خفيفاً فإنه يجب غسله. وهذا المذهب قال به واختاره الأكثر وعليه الجمهور. 3- ذهب فريق ثالث إلى عدم الوجوب في الوضوء وكذلك في الغسل، وقالوا يكفيها ما مر عليها من الماء واستدلوا بفعل بعض الصحابة منهم ابن عباس. (5)   (1) نيل الأوطار 1/185. (2) ينظر المجموع 1/374. (3) ينظر الشرح الكبير 1/58. (4) يأتي تخريجه في الغسل، وينظر نيل الأوطار 1/185. (5) ينظر المدونة (1/17) ، ونيل الأوطار (1/186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 4- قال الشوكاني: "والإنصاف أن أحاديث الباب بعد تسليم انتهاضها للاحتجاج، وصلاحيتها للاستدلال لا تدل على الوجوب لأنه أفعال، وما ورد في بعض الروايات من قوله -صلى الله عليه وسلم-" هكذا أمرني ربي" لا يفيد الوجوب على الأمة لظهوره في الاختصاص به، وهو يتخرج على الخلاف المشهور في الأصول: هل يعم الأمة ما كان ظاهر الاختصاص به أم لا. والفرائض لا تثبت إلا بيقين، والحكم على ما لم يفرضه الله بالفريضة كالحكم على ما فرضه بعدمها، لا شك في ذلك، لأن كل واحد منهما من التقول على الله بما لم يقل، ولا شك أن الغرفة الواحدة لا تكفي كث اللحية لغسل وجهه وتخليل لحيته، ودفع ذلك -كما قال بعضهم- بالوجدان مكابرة منه. نعم الاحتياط والأخذ بالأوثق لا شك في أولويته؛ لكن بدون مجاراة على الحكم بالوجوب (1) . قلت: لا تعارض بين هذين الحديثين وهذا كثير في الكتاب والسنة، فحديث أنس ورد فيه الإخبار عن أمر الله سبحانه لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الأمر للوجوب ما لم يكن له صارف، والصارف هنا عن الوجوب حديث ابن عباس حيث بين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخلل لحيته. وإذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء ثم ورد تركه بعدم تخليله لها في بعض أحيانه؛ دل ذلك على ندبه وأنه ليس واجباً. ... والله أعلم. المبحث السابع: الاطلاء بالنُّورة. إن الإسلام دين الطهارة والنظافة البدنية والمعنوية، فحث على نظافة الباطن من الشرك والنفاق والغل والحسد، واعتنى بنظافة الظاهر، فرغب في حلق العانة وإزالة الشعر عنها، حتى لا تجتمع الأوساخ والأقذار، وحث على نتف الإبط، حتى لا ينبعث من المؤمن روائح كريهة ينفر منها جلساؤه. وأمر بالغسل بعد كل جنابة، كما نبه على الغسل لكل جمعة، وغير ذلك كثير.   (1) نيل الأوطار 1/186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ومن مظاهر العناية بالبشرة وإزالة الأوساخ عنها؛ الاطلاء بالنورة، وهي نوع من الحجر الذي يحرق ويسوى منه الكلس، ويحلق به شعر العانة (1) وسائر الجسد. أما شعر العانة فلم تختلف الأحاديث في حلقه، وأما سائر الجسد فقد تعارضت فيه الأحاديث، فجاء بعضها قاضياً بجواز ذلك واستحبابه، وبعضها جاء قاضياً بنفي استحباب ذلك. ومما يدل على استحباب التنور حديث أم سلمة –رضي الله عنها- (أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان إذا اطلى بدأ بعورته فطلاها بالنورة، وسائر جسده أهله) . ومما يدل على عدم استحبابه وعدم فعله حديث قتادة: (أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يتنور، ولا أبو بكر، وعمر، ولا عثمان) . فلزم كذلك البحث في هذه الأحاديث صحة وسقماً، ومعنى وحكماً؛ لنرى بأيهما نأخذ، وكيف ندرأ هذا التعارض. ذكر الحديث الذي يدل على التنور: عن أم سلمة –رضي الله عنها-: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اطًّلَى بَدَأ بِعَوْرَتِهِ فَطَلاهَا بِالنُّورَةِ، وَسَائِرَ جَسَدِهِ أهْلُهُ) (2) . الحديث الذي يفيد نفي التنور: عن قتادة: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَتَنَوَّرْ وَلاَ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَر وَلاَ عُثْمَان) (3) . وجه التعارض:   (1) لسان العرب 5/244، والكلس: شبه الجص. لسان العرب 6/197. (2) أخرجه ابن ماجة (2/1234، 1235) ، والبيهقي (1/152) ، والطيالسي ص 224، عبد الرزاق (1/292) ، قال في الزوائد: هذا حديث رجاله ثقات، وهو منقطع (مصباح الزجاجة 3/183) ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4/176) ، قلت: والحديث له شواهد من حديث أبي معشر وابن عمر ولا يخلو كل منها من علة فلا يعتضد بها. (3) أخرجه أبو داود في المراسيل ص228، والبيهقي (1/152) ، وابن أبي شيبة (1/187) ، قال ابن كثير: منقطع (السنن الكبرى 1/152) ، قلت: رجاله ثقات إلا أنه مرسل، والموصول منه ضعيف؛ فالحديث ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 إن من يقرأ هذه الأحاديث يجد حديث أم سلمة –رضي الله عنها- يفيد أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يتنور، ويجد حديث قتادة ينفي عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- التنور، وهذان معنيان مختلفان متعارضان، وقد وجه العلماء هذا الاختلاف ودرؤوا التعارض. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- قال السيوطي بعد ذكر أحاديث عدم التنور: قلت: فرجع الأمر إلى أنه حديث واحد وهو: أولاً: ضعيف. ثانياً: معارض بالأحاديث السابقة، وهي أقوى منه سنداً ومتناً، وأكثر عدداً. وثالثاً: أن تلك مثبتة، وهذا نافٍ، والقاعدة الأصولية عند التعارض: تقديم المثبت على النافي خصوصاً أن التي روت الإثبات باشرت الواقعة وهي من أمهات المؤمنين، وهي أجدر بهذه القضية، فإنها مما يفعل في الخلوة غالباً، لا بين أظهر الناس، وكلاهما من وجوه الترجيحات، فهذه خمسة أجوبة. وسادس: وهو أنه على حسب اختلاف الأوقات، فتارة كان يتنور، وتارة كان يحلق ولا يتنور. وقد روي مثل هذا الاختلاف عن ابن عمر، فروي عنه أنه كان يتنور، وأخرج الطبراني في الكبير بسند رجاله موثوقون عن مسكين بن عبد العزيز عن أبيه قال: دخلت على عبد الله بن عمر وجاريته تحلق عنه الشعر، فقال: إن النورة ترق الجلد. فالجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه فعل الأمرين معاً، هذا في أوقات وهذا في أوقات، نعم ثبت عن عمر أنه كان يكره التنور ويعلله بأنه من النعيم. قال سعيد بن منصور: حدثنا حبان بن علي عن محمد بن قيس الأسدي عن رجل قال: كان عمر بن الخطاب يستطيب بالحديد فقيل له: ألا تنور؟! قال: إنها من النعيم، وإنا نكرهها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وقد روي عنه ما يدل على أنه إنما كره الإكثار من ذلك وهو قوله: " إياكم وكثرة الحمام، وكثرة طلاء النورة، واالتوطي على الفرش، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين"، فهذا الأثر قاطع للنزاع، وأولى ما اعتمدته في التوقيت حديث ابن عمر: " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتنور كل شهر ويقلم أظفاره كل خمس عشرة" فيكره أقل في من ذلك (1) . 2- قال المناوي: " أما خبر كان لا يتنور فضعيف لا يقاوم هذا الحديث القوي إسنادا، على أن هذا الحديث مثبت وذاك نافٍ، والقاعدة عند التعارض تقديم المثبت" (2) . 3- قال الشوكاني: " يمكن الجمع بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يتنور تارة ويحلق أخرى" (3) . قلت: من دراستي للأحاديث الواردة في التنور نفياً وإثباتاً، تبين لي أن أحاديث التنور ضعيفة سواء النافية أو المثبتة فيرجع الأمر على أصله وهو الإباحة. والله أعلم. المبحث الثامن: " التمندل " أو استعمال المنديل بعد الو ضوء أو الغسل. لقد اختلف العلماء في حكم استعمال المنديل بعد الوضوء أو الغسل: وسبب هذا الاختلاف أن هناك أحاديث دلت على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمسح بالمنديل بل رده حين عرض عليه، وهناك من الأحاديث ما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له منديل ينشف به بعد الوضوء. فمن الأحاديث التي دلت على كراهة استعمال المنديل ما جاء في حديث ميمونة وفيه" ثم أتي بمنديل فلم ينفض بها". ومن الأحاديث التي دلت على جواز استعماله ما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- "كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- خرقة ينشف بها بعد الوضوء".   (1) الحاوي للفتاوى 2/342، 343 بتصرف. (2) فيض القدير 5/105. (3) نيل الأوطار 1/161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وحديث قيس بن سعد قال:" أتانا النبي –صلى الله عليه وسلم- فوضعنا له ماء فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسية (1) فاشتمل بها، فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه (2) ". ذكر الحديث الذي يدل على كراهة المنديل: عن ميمونة –رضي الله عنها- قالت: "صَبَبْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلًا فَأَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ ثُمَّ غَسَلَهَا ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ فَلَمْ يَنْفُضْ بِهَا " (3) . ذكر الحديث الذي يدل على جواز استعمال المنديل: الحديث الأول: عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: "كَانَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خِرْقَةٌ يُنَشِّفُ بِهَا بَعْدَ الْوُضُوءِ" (4) . الحديث الثاني:   (1) ورسية: مصبوغة بالورس، وهو نبت أصفر يصبغ به. النهاية 5/173. (2) عكنه: ما انطوى وتثنى من لحم البطن سمناً. القاموس 4/251. (3) أخرجه البخاري (1/371، 372) ، ومسلم (3/230، 231، 232) ، وأبو داود (1/64) ، والنسائي (1/138) ، وابن ماجة (1/158) ، والدارمي (1/180) ، وأحمد (3/336) ، والبيهقي (1/184) . (4) أخرجه الترمذي (1/74، 75) ، والحاكم (1/154) ، والبيهقي (1/185) ، والدارقطني (1/110) وهو حديث ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 عن قيس بن سعد –رضي الله عنه- قال: زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَنْزِلِنَا فَقَالَ «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» . فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا. قَالَ قَيْسٌ فَقُلْتُ أَلاَ تَأْذَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ ذَرْهُ يُكْثِرْ عَلَيْنَا مِنَ السَّلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» . فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» . ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ تَسْلِيمَكَ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ عَلَيْنَا مِنَ السَّلاَمِ. قَالَ فَانْصَرَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ لَهُ سَعْدٌ بِغِسْلٍ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ نَاوَلَهُ مِلْحَفَةً مَصْبُوغَةً بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ فَاشْتَمَلَ بِهَا ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ» . قَالَ ثُمَّ أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الطَّعَامِ فَلَمَّا أَرَادَ الاِنْصِرَافَ قَرَّبَ لَهُ سَعْدٌ حِمَارًا قَدْ وَطَّأَ عَلَيْهِ بِقَطِيفَةٍ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ سَعْدٌ يَا قَيْسُ اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ قَيْسٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «ارْكَبْ» . فَأَبَيْتُ ثُمَّ قَالَ «إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قَالَ فَانْصَرَفْتُ (1) . وجه التعارض: إن من ينظر في هذه الأحاديث يجد أنها تتعارض فيما تدل عليه. فحديث ميمونة يدل على كراهة استعمال المنديل في التنشيف من الوضوء أو الغسل، وذلك لأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رد المنديل فلم يستعمله. وحديث قيس بن سعد –رضي الله عنه- يدل على أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يكره التنشف من الغسل، حيث اشتمل بملحفة بعد أن اغتسل، والملحفة تنشف الماء بعد الغسل. وكذلك فإن حديث عائشة –رضي الله عنها- يدل على أن التنشف بعد الوضوء غير مكروه، لأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان له خرقة يتنشف بها. أقوال العلماء في درء التعارض: ذهب جماعة من أهل العلم إلى أخذ المنديل بعد الوضوء، وقالوا بإباحته. وروي ذلك عن بعض الصحابة منهم أنس بن مالك (2) والحسن بن علي (3) وبشير بن أبي مسعود (4) وعثمان بن عفان (5) ، وحجتهم أحاديث الإباحة، كما ذهب آخرون إلى الحظر، وروي ذلك عن بعض الصحابة، منهم جابر بن عبد الله (6) وابن عباس. إلا أنه لم يكره ذلك في الغسل من الجنابة (7) . وجمع بين هذه الأحاديث جماعة من العلماء. منهم: 1- أبو بكر ابن المنذر قال: "أعلى شيء في هذا الباب خبران، خبر يدل على إباحة أخذ الثوب ينشف به، والخبر الآخر يدل على ترك ذلك".   (1) أخرجه الترمذي 4/347، وابن ماجة 1/158 وأحمد 6/6، والبيهقي 1/186، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 283 و284، وابن السني ص 246، وابن المنذر 1/ 418، وابن حزم 2/47. ضعفه النووي في المجموع 1/459، وقال الأرنؤؤط: إسناده صحيح، قلت: الحديث صحيح. (2) أخرجه ابن المنذر 1/415. (3) أخرجه ابن المنذر 1/416. (4) ابن أبي شيبة 1/148، وابن المنذر 1/416. (5) ابن أبي شيبة 1/148، وابن المنذر 1/416. (6) أخرجه عبد الرزاق 1/182، وابن أبي شيبة 1/149، وابن المنذر 1/418. (7) أخرجه عبد الرزاق 1/182، وابن أبي شيبة 1/149، 150، وابن المنذر 1/418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وذكر حديث قيس بن سعد، ثم ذكر حديث ابن عباس عن ميمونة، وبين أنه لا حظر في حديث ميمونة، فلا تعارض. قال أبو بكر:" وهذا الخبر لا يوجب حظر ذلك، ولا المنع منه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينه عنه، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كان يدع الشيء المباح لئلا يشق على أمته، من ذلك قوله لبني عبد المطلب: " لولا أن تغلبوا على سقايتكم لنزعت معكم" (1) ، ودخل الكعبة وقال بعد دخوله: "لوددت أني لم أكن دخلتها أخشى أن أكون أتعبت أمتي" (2) . وحديث قيس بن سعد يدل على إباحة ذلك، فأخذ المنديل مباح بعد الوضوء والاغتسال" (3) . اهـ. وهذا درء حسن يزول به التعارض، بل يبين أنه لا تعارض أصلاً، وإنما هو وهم. 2- ذهب ابن حزم إلى أنه لا حجة في الاثنين، ويبقى الأمر على حله، وبين أنه لا تضاد بين الحديثين قال: "هذا لا يضاد الأول، لأنه عليه السلام اشتمل فيها فصارت لباسه (4) حينئذ، وقال بهذا بعض السلف –وأورد رواية عن عطاء ثم قال-" ولم ينه عليه السلام عن ذلك في الوضوء فهو مباح فيه" (5) . وعلق على هذا الشيخ أحمد شاكر بقوله: "لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في خبر صحيح نهي عن المنديل بعد الغسل ولا بعد الوضوء ولا يفهم أحد من رده المنديل بعد الغسل أنه كره ذلك. ومن فهم هكذا فإنما اشتبه عليه وجه الحق. وظاهر من مثل هذا أنه إنما رده لعدم الحاجة إليه. لا أنه مكروه شرعا" (6) .   (1) أخرجه مسلم (8/194) من حديث جابر بن عبد الله. ومن رواية ابن عباس رواه البخاري رقم (1554) (2) أخرجه ابن ماجة (2/1018) . (3) الأوسط 1/418، 419. (4) يعني حديث قيس بن سعد. (5) المحلى 2/47، 48. (6) حاشية المحلى 2/48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 3- ذهب الزهري إلى الكراهة وعلل ذلك بقوله: " إنما كره لأن الوضوء يوزن (1) . وعلق الشيخ أحمد شاكر بقوله: هذا تعليل غير صحيح، فإن ميزان الأعمال يوم القيامة ليس كموازين الدنيا، ولا هو مما يدخل تحت الحس في هذه الحياة، وإنما هي من أمور الغيب الذي نؤمن به كما ورد. 4- وذهب بعض السلف إلى أن التمندل ليس مكروهاً شرعاً وإنما كره للعادة. ذكر أبو داود عن إبراهيم أنه قال: كانوا لا يرون بالمنديل بأساً، ولكن كانوا يكرهون العادة (2) . 5- ذهب بعض العلماء إلى أنه لا دليل ولا حجة في حديث ميمونة على الحظر، ولا حجة في أحاديث الإباحة لضعفها عنده، فبقي الأمر على الإباحة، وممن ذهب هذا المذهب النووي في شرحه لمسلم، وذكر المذاهب في التنشيف وعدها خمسة، ورجح الإباحة. (3) 6- ذهب ابن قدامة إلى الإباحة، وعلل ذلك بأن الأصل الإباحة، فتركُ النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يدل على الكراهة، فإنه قد يترك المباح، وهذه -أي يعني"المنديل" في حديث ميمونة- قضية في عين يحتمل أنه ترك تلك المنديل لأمر يختص بها، ولأنه إزالة للماء عن بدنه أشبه نفضه بيديه، ولا يكره نفض الماء عن بدنه بيديه لحديث ميمونة. (4) قلت: فالحاصل أن الاستدلال بحديث ميمونة غير متوجه لأمور: * أنه صلى الله عليه وسلم قد يترك المباح ولا يكون تركه لكراهته له. * وأنه ربما ترك المنديل لأمر يختص بعينه دون جنسه. والاستدلال بحديث عائشة وحديث قيس غير متوجه لأمور: * أن الصريح –وهو حديث- عائشة ضعيف. * أن حديث قيس قد ضعف، وإذ قد حققنا سلامته من الضعف فإنا نقول: إنه ليس فيه تصريح بالتنشيف، بل ورد فيه أنه التحف، والالتحاف أشبه باللبس منه بالتنشيف.   (1) رواه الترمذي 1/77. (2) سنن أبي داود (1/64) ، وكذا رواه أحمد (3/336) . (3) ينظر شرح مسلم (3/231، 232) ، والمجموع (1/458، 459) . (4) الشرح الكبير 1/66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فالتعارض المتوهم حاصل بين صريح في النهي وغير صريح في الإباحة، أو صريح غير صحيح فيها، وهذا لا يعد تعارضاً أصلاً إنما قد يتوهمه بعض القراء لذا أوردته هنا. والله أعلم. الباب الرابع: باب الغسل. وفيه مباحث. المبحث الأول: ماذا يجب على الجنب إذا أراد النوم أو الأكل أو المعاودة؟. المبحث الثاني: هل يجب الغسل بالتقاء الختانين دون إنزال؟ . المبحث الثالث: غسل الجمعة. المبحث الرابع: هل يجب الغسل من تغسيل الميت؟. المبحث الخامس: هل يجب دلك الرأس في غسل الجنابة؟. المبحث السادس: التستر عند الغسل في الخلوة. المبحث الأول: ماذا يجب على الجنب إذا أراد النوم أو الأكل أو المعاودة. إن الصلاة لقاء مع الله، ووقوف بين يديه، ودعاء وابتهال وتلاوة لكلامه، يقف المرء فيها بين رب العباد وملك الملوك. لذلك شرع لها الطهارة من الأحداث بحسبها، فإن كان الحدث أصغر لزم الوضوء فحسب، وإن كان الحدث أكبر لزم منه الغسل. ولما كان العلم بأحكام الغسل لازماً لكل فرد حيث يحتاج إليه في حياته؛ لزم من ذلك النظر في الأحاديث التي تكلمت عنه، وذكرت أحكامه، وقد يواجه الناظر في هذه الأحاديث شيء من اللبس حينما يرى بعضها يعارض بعضا. فأحببنا أن نورد ما يمكن أن يلتبس ويشكل على القارئ لنوقفه على ما يزيل عنه هذا اللبس، ونرشده إلى ما يدفع الإشكال. بإذن الله تعالى. وكما أن الأحاديث تكثر في هذا الباب فإن المباحث تتعدد، وأول ما نستهل به هذا الباب مبحث مهم جدا، وهو يجيب في طياته عن هذه التساؤل "هل يجب على الجنب الاغتسال قبل النوم أو الأكل". وهذا المبحث يتعارض فيه أحاديث يذكر بعضها وجوبَ الوضوء لذلك، ويذكر الآخر عدمَ وجوبه. فمما يذكر وجوب الوضوء: 1- عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: "استفتى عمرُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 2- عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب". ومما يذكر عدم وجوب الوضوء ما ورد: عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: " كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء". ذكر ما يوجب الوضوء للجنب قبل النوم: الحديث الأول: عن عبد الله بن عمر قال: "اسْتَفْتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ قَالَ نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ " (1) . الحديث الثاني: عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلاَ كَلْبٌ وَلاَ جُنُبٌ" (2) . ذكر ما يدل على إباحة النوم للجنب دون أن يمس ماء:   (1) أخرجه البخاري (1/393) ، ومسلم (3/216) ، وأبو داود (1/57) ، والترمذي (1/206) ، والنسائي (1/140) ، وابن ماجة (1/193) ، والدارمي (1/193) ، ومالك (1/52) ، وأحمد (1/195، 200، 258، 269، 287، 309) ، والطيالسي ص 5، وابن خزيمة (1/101، 107) ، وابن حبان (2/259، 260) ، والبيهقي (1/199) ، وعبد الرزاق (1/278، 279) ، والطبراني في الكبير (1/70) . (2) أخرجه أبو داود (1/58) (4/72، 73) ، والنسائي (1/141) ، وأحمد (1/83، 139) ، والحاكم (1/171) وقال: هذا حديث صحيح، وابن حبان (2/257) ، والطيالسي (1/17) ، والبيهقي (1/201) ، والدارمي (2/284) ، والدارقطني (3/260) ، قال الألباني: ضعيف (ضعيف الجامع 6/63) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً" (1) . وجه التعارض: إن من يقرأ حديث ابن عمر –رضي الله عنه- (استفتى عمر النبي –صلى الله عليه وسلم- أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ) ؛ يفهم من هذا الحديث أن الوضوء شرط لجواز النوم مع الجنابة، والشرط يأخذ مأخذ الأمر، وقد جاء في بعض الروايات "وليتوضأ" بصيغة الأمر، والأمر للوجوب. فيستدل بهذا الحديث على وجوب الوضوء. كما أن من يقرأ حديث علي بن أبي طالب (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب) يستدل به على التغليظ الشديد على من ينام وهو جنب، ففيه زجر ونهي عن النوم على حاله. ومن يقرأ حديث عائشة –رضي الله عنها- (كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء) يفهم منه أنه يجوز للجنب أن ينام على حاله من غير أن يقرب الماء جسده، فيستدل به على جواز ما كان غير جائز في الحديثين الأولين، وبهذا يحصل التعارض، فيحتاج إلى من يوضح له الطريق لحل هذا الإشكال وإزالته، وقد تكلم العلماء في ذلك، ودرؤوا هذا التعارض بما أزال الإشكال وأذهب اللبس، والحمد لله أقوال العلماء في درء التعارض: 1- ذهب الطحاوي رحمه الله إلى القول بنسخ الأمر بالوضوء إيجابا سواء كان ذلك للنوم على طهارة أو كان الوضوء للذكر أو لمعاودة الجماع، وأن ذلك كان في أول الأمر إيجابا ثم نسخ الوجوب إلى الاستحباب.   (1) أخرجه أبو داود (1/58) ، والترمذي (1/202) ، وابن ماجة (1/192) ، وأحمد (6/43، 102،109) ، والبيهقي (1/201) ، والطحاوي (1/125،124) ، والبغوي (2/35) ، وأعله الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/126) ، وضعفه النووي في شرح مسلم (3/218) ، وصححه أحمد شاكر (تحقيق سنن الترمذي 1/206) ، والألباني (صحيح الجامع 4/278) ، قلت: الحديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وقد روى في ذلك أحاديث تدل على النسخ منها حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ"، قال: فقد يجوز أن يكون أمر بهذا في حال ما كان الجنب لا يستطيع ذكر الله حتى يتوضأ، فأمر بالوضوء ليسمى عند جماعه، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحديث، ثم رخص لهم أن يتكلموا بذكر الله وهم جنب، فارتفع ذلك. وقد روى عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يجامع ثم يعود ولا يتوضأ. فهذا ناسخ. فإن قال قائل: فقد روي عنه أنه كان يطوف على نسائه، فكان يغتسل كلما جامع واحدة منهن وذكر في ذلك حديث أبي رافع: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا طاف على نسائه في يوم، فجعل يغتسل عند هذه وعند هذه، فقيل: يا رسول الله، لو جعلته غسلا واحدا، فقال:" هذا أزكى وأطهر وأطيب" قيل له: في هذا ما يدل على أن ذلك لم يكن على الوجوب، لقوله:" هذا أزكى وأطيب وأطهر"، وقد روى عنه أنه طاف على نسائه بغسل واحد. وذكر بسنده عن أنس رضي الله عنه: أن -رسول الله صلى الله عليه وسلم- طاف على نسائه بغسل واحد" (1) . 2- ذهب ابن خزيمة إلى درء التعارض بالجمع بين الأحاديث فأورد هذه المسائل (الوضوء للجنب قبل النوم والأكل والمعاودة) . فذكر رواية لحديث ابن عمر –رضي الله عنه- بلفظ الاستثناء وعدم الطلب الجازم، فأخرج بسنده عن ابن عمر عن عمر: أنه سأل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: " ينام ويتوضأ إن شاء" (2) . وأورد بعدها بسنده رواية الباب التي لم يرد فيها استثناء.   (1) شرح معاني الآثار 1/124-129.بتصرف (2) قال الأعظمي: إسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وبين رحمه الله أن الوضوء المأمور به والمندوب إليه هو وضوء الصلاة، ثم ساق رواية بإسناده عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: " كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن ينام وهو جنب، توضأ وضوءه للصلاة" (1) . ثم ذكر أيضاً استحباب غسل الذكر مع الوضوء إذا أراد الجنب أن ينام، وأورد حديث عمر من طريق آخر بلفظ:" اغسل ذكرك وتوضأ ثم ارقد" (2) . ثم ذكر استحباب الوضوء للجنب إذا أراد أن يأكل، فأورد بسنده حديث عائشة بلفظ:"أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يأكل أو ينام، وهو جنب، توضأ" (3) ، ثم رأى أن ما ورد من أمر الوضوء للجنب قبل النوم أو الأكل؛ إنما هو أمر ندب وإرشاد وفضيلة، لا أمر فرض وإيجاب. واستدل بخبر ابن عباس أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال:" إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة" (4) . ثم عقب بذكر أمر الوجوب بالوضوء للمعاودة فأورد بسنده حديث أبي سعيد عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال:" إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد العود فليتوضأ" (5) . ثم ذكر أن ذلك الوضوء كوضوء الصلاة، وذهب إلى أن الأمر بالوضوء عند المعاودة أمر ندب وإرشاد، وعلل ذلك بأن المتوضئ يكون أنشط للعودة إلى الجماع، لا أن الوضوء بين الجماعين واجب ولا أن الجماع قبل الوضوء وبعد الجماع الأول محظور، ثم استدل بما أخرجه بإسناده عن أبي سعيد: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أراد أحدكم العود فليتوضأ فإنه أنشط له في العود" (6) 3- وجمع ابن قتيبة بقوله: ونحن نقول: إن هذا كله جائز، فمن شاء أن يتوضأ وضوءه للصلاة بعد الجماع ثم ينام، ومن شاء غسل يده وذكره ونام، ومن شاء نام من غير أن يمس ماء، غير أن الوضوء أفضل.   (1) رواه أيضا مسلم (3/215) . (2) رواه أيضا البخاري (1/393) ، ومسلم (3/216) . (3) رواه أيضا مسلم (3/216) . (4) أخرجه النسائي (1/85) . (5) وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الحيض. (6) صحيح ابن خزيمة (1/106-110) . قال الأعظمي: إسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يفعل هذا مرة، ليدل على الفضيلة، وهذا مرة ليدل على الرخصة، ويستعمل الناس ذلك. فمن أحب أن يأخذ بالأفضل، أخذ، ومن أحب أن يأخذ بالرخصة أخذ. (1) 4- وذكر البيهقي جمعاً استحسنه، وهو جمع أبي العباس بن شريح، قال: "فأما حديث عائشة فإنما أراد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يمس ماء للغسل، وأما حديث عمر فمفسر ذكر فيه الوضوء، وبه نأخذ" (2) . 5- قال البغوي:" وإن ثبت الحديث فالنبي-صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك أحيانا ليدل على الرخصة، وكان يتوضأ في أغلب أحواله ليدل على الفضيلة. قال الإمام:"وهذه الأحاديث تدل على أن الجنب إذا أخر الغسل فلا حرج عليه". وما روي عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب "، فهذا فيمن يتخذ تأخير الاغتسال عادة؛ تهاونا به، فيكون أكثر أوقاته جنبا، وأراد بالملائكة: الذين ينزلون بالبركة والرحمة، دون الملائكة الذين هم الحفظة، فإنهم لا يفارقون الجنب وغير الجنب" (3) . 6- ذكر ابن حجر وجها لدرء التعارض، وهو أن مس الماء المقصود به: الغسل، واحتج لهذا المعنى بما رواه أحمد من طريق عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه بلفظ" كان يجنب من الليل ثم يتوضأ وضوءه للصلاة حتى يصبح ولا يمس ماء". قال:" أو كان يفعل الأمرين لبيان الجواز، واحتج لهذا بما رواه هشيم عن عبد الملك عن عطاء عن عائشة مثل رواية أبي إسحاق عن الأسود، وما رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن ابن عمر:" أنه سأل النبي –صلى الله عليه وسلم- أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، ويتوضأ إن شاء"، وأصله في الصحيحين دون قوله إن شاء" (4) . قلت:   (1) تأويل مختلف الحديث ص 224. (2) سنن البيهقي (1/202) . (3) شرح السنة (2/36، 37) . (4) تلخيص الحبير 1/149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وقد تبين لي بعد النظر في ألفاظ هذه الأحاديث المختلفة، وتتبع طرقها ورواياتها، وأقوال العلماء ومذاهبهم فيها؛ أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث ولا اختلاف. وذلك لأمور: 1- أن حديث عمر بن الخطاب جاء فيه لفظ "ليتوضأ" وهذا يدل على الأمر، والأمر يدل على الوجوب إذا كان أمرا خالصاً جازماً لا ينصرف بصارف، وقد انصرف الأمر في هذا الحديث عن الوجوب بقرائن: أ- ورد في بعض رواياته لفظ يدل على الاختيار فإن شاء توضأ وإن شاء لم يتوضأ، وهو ما رواه ابن خزيمة، وقد تقدم ذكره. ب- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بين متى يجب الوضوء وذلك بقوله: " إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة" (1) . وبذلك يكون الوضوء لغير الصلاة ليس مأموراً به أمر إيجاب. 2- أن حديث عائشة، على افتراض صحته، فإنما نفى مس الماء في الغسل، وأما الوضوء فورد في نفس الحديث بلفظ آخر أنه توضأ، وذلك في رواية أحمد "كان يجنب من الليل ثم يتوضأ وضوءه للصلاة حتى يصبح ولا يمس ماء" وهذه رواية صريحة تجمع بين الوضوء ونفي مس الماء، فدل على أن نفي مس الماء إنما يراد به نفي الغسل. 3- أما حديث علي بن أبي طالب فقد بينت ضعفه، وعلى افتراض صحته: فإن الجنب وإن توضأ فلا ينصرف عنه وصف الجنابة، بدليل أنه لا يقرأ القرآن ولا يمس المصحف، فإذا كانت الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جنب؛ فإن الرجل وإن توضأ فلن تدخل الملائكة بيته، لبقاء الجنابة عليه، وكيف يكون ذلك وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نام وهو جنب، ولم يغتسل إلا بعد أن استيقظ. فلذا أقول: إنه لا تعارض بين هذه الأحاديث، فيجوز أن ينام الجنب ويأكل ويشرب ويعاود دون أن يتوضأ، أخذاً بالرخصة، ويجوز له أن يتوضأ - وهو أفضل- للنوم من غير وضوء، فإن اغتسل فهو أفضل من ذلك كله. ... والله أعلم.   (1) تقدم ص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 المبحث الثاني: هل يجب الغسل بالتقاء الختانين دون إنزال؟ ومما يشكل في هذا المبحث أحاديث جاءت لتبين موجبا من موجبات الغسل وهو الجماع، ولكن اختلفت في بيان ما يجب الغسل منه، فمنها ما يدل على أن الموجب للغسل هو نزول الماء، ومنها ما يدل على أن الموجب له التقاء الختانين فقط، أنزل أم لم ينزل. فمما استدل به على إيجاب الغسل بإنزال الماء وعد إيجابه من التقاء الختانين أحاديث: 1- عن زيد بن خالد الجهني أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إن جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ قال عثمان: " يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره"، قال عثمان: سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. 2- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على رجل من الأنصار فأرسل إليه، فخرج ورأسه يقطر، فقال: "لعلنا أعجلناك"، قال: نعم يا رسول الله، قال: " إذا أعجلت أو قحطت (1) فلا غسل عليك وعليك الوضوء". 3- "إنما الماء من الماء". ومما استدل به على إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل: حديث: " إذا جلس بين شعبه الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل". ذكر ما استدل به على عدم وجوب الغسل من التقاء الختانين دون إنزال: الحديث الأول: أن زيد بن خالد الجهني أخبره: أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ قَالَ عُثْمَانُ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ.   (1) قال النووي: " معنى الإقحاط عندم إنزال المني وهواستعارة من قحوط المطر وهو انحباسه وقحوط الأرض وهو عدم إخراجها النبات، والله أعلم: شرح مسلم 4/37، 38 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1) الحديث الثاني: عن أبي سعيد الخدري: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ فَقَالَ «لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ» . قَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ أَقْحَطْتَ فَلاَ غُسْلَ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ» . وَقَالَ ابْنُ بَشَّارٍ «إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ أُقْحِطْتَ" (2) . الحديث الثالث: عن أبي سعيد الخدري عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ " (3) . ذكر ما استدل به على إيجاب الغسل بالتقاء الختانين وإن لم ينزل: عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ" (4) . وجه التعارض:   (1) أخرجه البخاري (1/396، 1/283) ، ومسلم (4/39) ، وأحمد (1/63، 64) ، والبيهقي (1/165) . (2) أخرجه البخاري (180) ، ومسلم (4/37) واللفظ له، ابن ماجة (1/199) ، وأحمد (3/21، 26) ، والبيهقي (1/65) ، وأبو عوانة (1/286) . (3) أخرجه مسلم (4/38) ، أبو داود (1/56) ، وابن ماجة (1/199) ، وأحمد (3/29، 36) ، وابن خزيمة (1/117) ، وابن حبان (2/242) ، وأبو عوانة (1/286) ، والبيهقي (1/167) ، والطحاوي (1/54) . (4) أخرجه البخاري (1/395) ، ومسلم (4/39،41) ، وأبو داود (1/56) ، والنسائي (1/110، 111) ، وابن ماجة (1/200) ، والدارمي (1/194) ، وأحمد (2/234) ، وابن حبان (2/245) ، والدارقطني (1/113) ، والبيهقي (1/163) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 من يقرأ في حديث زيد بن خالد رضي الله عنه- وحديثي أبي سعيد –رضي الله عنه-؛ يجد أن هذه الأحاديث تفيد عدم وجوب الغسل من التقاء الختانين والإيلاج إذا لم ينزل، وإنما عليه الوضوء وغسل الفرج. وقد جاءت هذه الأحاديث صريحة بذلك وهي صحيحة ثابتة، كما أن من يقرأ حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- يجد أن هذا الحديث يدل على أن من جامع وجب عليه الغسل مطلقاً، سواء أنزل أم لم ينزل. وهو حديث صحيح صريح بذلك. فلما كان هذا التعارض، وجب النظر في هذه الأحاديث ومعرفة كيف نؤلف بينها، وقد تكلم العلماء فيها بما يشفي، وهذا عرض لأقوالهم في ذلك. أقوال العلماء في درء تعارض هذه الأحاديث: 1- ذهب الشافعي إلى النسخ، حيث أورد حديث عدم الإيجاب من طريق أبي؛ وحديث الإيجاب من طريق عائشة -رضي الله عنهما-، ثم أورد بسنده حديث رجوع أبي عن قوله فقال: "عن أبي بن كعب أنه كان يقول: ليس على من لم ينزل غسل، ثم نزع عن ذلك أبي قبل أن يموت (1) . ثم قال:" وإنما بدأت بحديث أبي في قوله "الماء من الماء"، ونزوعه، أن فيه دلالة على أنه سمع "الماء من الماء" عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ولم يسمع خلافه فقال به، ثم لا أحسبه تركه إلا لأنه ثبت له أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال بعده ما نسخه. وقال:" وحديث الماء من الماء ثابت الإسناد، وهو عندنا منسوخ بما حكيت، فيجب الغسل من الماء، ويجب إذا غيب الرجل ذكره في فرج المرأة حتى يواري حشفته".   (1) الحديث أخرجه مالك (1/52) ، وقد أخرج أبو داود عن أبي مثله (1/55) ، وابن ماجة (1/200) ، والدارمي (1/194) ، وأحمد (5/115) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ثم ذكر رأي من خالفه في قوله هذا ومناقشته له. قال: " فخالفنا بعض أصحاب الحديث من أهل ناحيتنا وغيرهم، فقالوا: لا يجب على الرجل إذا بلغ من امرأته ما شاء الغسل حتى يأتي منه الماء الدافق، واحتج فيه بحديث أبي بن كعب وغيره مما يوافقه، وقال: أما قول عائشة:"فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا"، فقد يكون تطوعا منهما بالغسل، ولم تقل إن النبي عليه الصلاة والسلام قال عليه الغسل. قال الشافعي: فقلت له الأغلب أن عائشة لا تقول إذا مس الختان الختان أو جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل وتقول فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا؛ إلا خبرا عن رسول الله بوجوب الغسل منه، قال: فيحتمل أن تكون لما رأت النبي -صلى الله عليه وسلم- اغتسل اغتسلت ورأته واجبا، ولم تسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- إيجابه، فقلت: نعم، قال: فليس هذا خبرا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: الأغلب أنه خبر عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قال: وأما حديث علي بن زيد فليس مما يثبته أهل الحديث وهو لا تقوم به الحجة، فقلت له: فإن أبي بن كعب قد رجع عن قوله "الماء من الماء" بعد قوله به عمرا من عمره، وهو يشبه أن لا يكون رجع إلا بخبر يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: إن هذا لأقوى فيه من غيره وما هو بالبين، وقلت له: ما أعلم عندنا من جهة الحديث شيئا أكبر من هذا، قال: فمن جهة غير الحديث؟ فقلت: نعم، قال الله جل ثناؤه: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) إلى قوله (حتى تغتسلوا (1) فكان الذي يعرفه من خوطب بالجنابة من العرب أنها الجماع دون الإنزال، ولم تختلف العامة أن الزنا الذي يجب به الحد: الجماع دون الإنزال، وأن من غابت حشفته في فرج امرأة وجب عليه الحد، وكان الذي يشبه أن الحد لا يجب إلا على من أجنب من حرام، وقلت له: قد يحتمل أن يقال حديث أبي: إذا جامع أحدنا فأكسل أن ينزل أن يقول: إذا صار إلى الجماع ولم يغيب حشفته فأكسل، فلا يكون حديث الغسل إذا التقى الختانان مخالفا له، قال: أفتقول بهذا؟ فقلت: إن الأغلب أنه إذا بلغ أن يلتقي الختانان ولم ينزل، وكذلك والله أعلم الأغلب من قول عائشة "فعلته أنا والنبي –صلى الله عليه وسلم- فاغتسلنا" على إيجاب الغسل، لأنها توجب الغسل إذا التقى الختانان.   (1) النساء آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 قال: فماذا التقاء الختانين؟ قلت: إذا صار الختان حذو الختان وإن لم يتماسا، قال: فيقال لهذا التقاء؟ قلت: نعم، أرأيت إذا قيل التقى الفارسان، أليس إنما يعني إذا تواقفا؛ فصار أحدهما وجاه الآخر، أو اختلفت دوابهما فصار أحد الرجلين وجاه صاحبه، ويقال إذا جاوز بدن أحدهما بدن صاحبه قد خلف الفارس، قال: بلى، قلت: ويقال إذا تماسا التقيا، لأنه أقرب التقاء وبعض اللقاء أقرب من بعض، قال: إن الناس ليقولونه، قلت: وهذا كله صحيح جائز في لسان العرب، فإنما يراد بهذا أن تغيب الحشفة في الفرج حتى يصير الختان الذي خلف الحشفة حذو ختان المرأة وإنما يجهل هذا من جهل لسان العرب" (1) . 2- ذهب ابن خزيمة إلى النسخ أيضا فقال: " باب ذكر أخبار رويت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرخصة في ترك الغسل في الجماع من غير إمناء قد نسخ بعض أحكامها. ثم أورد حديث عثمان بن عفان –رضي الله عنه- الذي أوردناه في الباب ثم قال: " باب ذكر نسخ إسقاط الغسل في الجماع من غير إمناء"، وساق بإسناده حديث أبي بن كعب في إيضاح أن "الماء من الماء" كان رخصة في أول الإسلام. ثم أورد ما يدل على الإيجاب بالتقاء الختانين فقال:" باب ذكر إيجاب الغسل بمماسة الختانين أو التقائهما وإن لم يكن أمنى".   (1) اختلاف الحديث للشافعي (90، 94) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وأورد في هذا الباب حديث أبي موسى الأشعري:"أنهم كانوا جلوساً، فذكروا ما يوجب الغسل. فقال من حضر من المهاجرين: إذا مس الختان الختان وجب الغسل، وقال من حضره من الأنصار: لا، حتى يدفق، قال أبو موسى: أنا آتيكم بالخبر. فقام إلى عائشة -رضي الله عنها- فسلَّم ثم قال: إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحي منه. فقالت: لا تستحي، إن تسأل عن شيء تسأل عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، قال: قلت: ما يوجب الغسل؟ قالت على الخبير سقطت، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان وجب الغسل" (1) . وبهذا يتبين ما ذهب إليه ابن خزيمة من نسخ الأحاديث الثلاثة الأُول بحديث عائشة وأبي هريرة –رضي الله عنهما-. (2) 3- وقد أفاض الإمام الطحاوي في هذه المسألة، فأورد حديث عثمان بإسناده، وروى معناه أيضاً من طريق أبي أيوب والزبير بن العوام وأبي بن كعب والأنصار. وكذا أورد حديث أبي سعيد بإسناده، وكذا روى معناه عن أبي أيوب وأبي هريرة، قال أبو جعفر: فذهب قوم إلى أن من وطيء في الفرج فلم ينزل فليس عليه غسل، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا عليه الغسل وإن لم ينزل، واحتجوا بحديث عائشة –رضي الله عنها- المتقدم من عدة طرق. قال أبو جعفر: قالوا: فهذه الآثار تخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يغتسل إذا جامع، وإن لم ينزل. فقيل لهم: هذه الآثار إنما تخبر عن فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد يجوز أن يفعل ما ليس عليه، والآثار الأول تخبر عما يجب وما لا يحب فهي أولى. فكان من الحجة لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى؛ أن الآثار التي رويناها في الفصل الأول من هذا الباب على ضربين:   (1) هذا لفظ ابن خزيمة ورواه مسلم (4/40) . (2) ينظر صحيح ابن خزيمة (1/112-114) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 فضرب منهما: الماء من الماء لا غير، وضرب منهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا غسل على من أكسل حتى ينزل. فأما ما كان من ذلك فيه ذكر "الماء من الماء" فإن ابن عباس -رضي الله عنه- قد روي عنه في ذلك أن مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- به قد كان غير ما حمله عليه أهل المقالة الأولى. ثم ذكر بسنده عن ابن عباس –رضي الله عنه- قوله: "الماء من الماء":" إنما ذلك في الاحتلام، إذا رأى أنه يجامع ثم لم ينزل، فلا غسل عليه". فهذا ابن عباس قد أخبر أن وجهه غير الوجه الذي حمله عليه أهل المقالة الأولى، فضاد قوله قولهم. وأما ما روي فيما بين فيه الأمر، وأخبر فيه بالقصد، أنه لا غسل عليه في ذلك حتى يكون الماء؛ فإنه قد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف ذلك. وذكر بإسناده حديث أبي هريرة المتقدم في المبحث "إذا قعد بين شعبها..الحديث". وذكر أيضاً بإسناده عن عائشة –رضي الله عنهما-. قال أبو جعفر: فهذه الآثار تضاد الآثار الأول، وليس في شيء من ذلك دليل على الناسخ من ذلك ما هو، فنظرنا في ذلك –وذكر بإسناده عن أبي بن كعب- قال: إنما كان الماء من الماء في أول الإسلام، فلما أحكم الله الأمر نهى عنه. قال أبو جعفر: فهذا أبي يخبر أن هذا هو الناسخ لقوله "الماء من الماء"، وقد روي عنه بعد ذلك من قوله ما يدل على هذا أيضاً. وذكر بسنده عن محمود بن لبيد: أنه سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل، فقال زيد: يغتسل. فقلت له: إن أبي بن كعب كان لا يرى فيه الغسل، فقال زيد: إن أبيًّا قد نزع (رجع) عن ذلك قبل أن يموت. قال أبو جعفر: فهذا أبي قد قال هذا. وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف ذلك، فلا يجوز هذا عندنا إلا وقد ثبت نسخ ذلك عنده من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكذلك عثمان وأبو هريرة قالا ذلك ورويا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-خلافه، فلا يجوز هذا إلا وقد ثبت النسخ عندهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ثم ذكر ما يدل على النسخ أيضاً فروى بسنده عن سعيد بن المسيب قال: قال رجال من الأنصار يفتون أن الرجل إذا جامع المرأة ولم ينزل فلا غسل عليه، وكان المهاجرون لا يتابعونهم على ذلك. قال:" فهذا يدل على نسخ ذلك أيضا لأن عثمان والزبير هما من المهاجرين، وقد سمعا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قد روينا عنهما في أول هذا الباب ثم قد قالا بخلاف ذلك، فلا يجوز ذلك منهما إلا وقد ثبت النسخ عندهما. ثم قد كشف ذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بحضرة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار، فلم يثبت ذلك عنده، فحمل الناس على غيره، وأمرهم بالغسل، ولم يعترض عليه في ذلك أحد وسلموا ذلك له؛ فذلك دليل على رجوعهم أيضا إلى قوله. وذكر بسنده حديث عمر، قال عبيد بن رفاعة الأنصاري: كنا في مجلس فيه زيد بن ثابت فتذاكرنا الغسل من الإنزال، فقال زيد: ما على أحدكم إذا جامع فلم ينزل إلا أن يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة. فقام رجل من أهل المجلس، فأتى عمر فأخبره بذلك. فقال عمر للرجل: اذهب أنت بنفسك فائتني به حتى تكون أنت الشاهد عليه. فذهب فجاء به، وعند عمر ناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، فقال عمر أنت عدو نفسك تفتي الناس بهذا؟! فقال زيد: أما والله ما ابتدعته، ولكني سمعته من عماي رفاعة بن رافع ومن أبي أيوب الأنصاري. فقال عمر لمن عنده من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما تقولون؟ فاختلفوا عليه، فقال عمر: يا عباد الله، فمن أسأل بعدكم وأنتم أهل بدر الأخيار؟ فقال له علي بن أبي طالب: فأرسل إلى أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه إن كان شيء من ذلك ظهرت عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فأرسل إلى حفصة فسألها فقالت: لا علم لي بذلك، ثم أرسل إلى عائشة -رضي الله عنها- فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. فقال عمر -رضي الله عنه- عند ذلك: لا أعلم أحدا فعله ثم لم يغتسل؛ إلا جعلته نكالا. قال أبو جعفر: فهذا عمر قد حمل الناس على هذا بحضرة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم ينكر ذلك عليه منكر. قال الطحاوي: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن الجماع في الفرج الذي لا إنزال معه حدث، فقال قوم هو أغلظ الأحداث، فأوجبوا فيه أغلظ الطهارات، وهو الغسل. وقال قوم هو كأخف الأحداث، فأوجبوا فيه أخف الطهارات، وهو الوضوء. فأردنا أن ننظر إلى التقاء الختانين: هل هو أغلظ الأشياء فنوجب فيه أغلظ ما يجب في ذلك؟ فوجدنا أشياء يوجبها الجماع، وهو فساد الصيام والحج، فكان ذلك بالتقاء الختانين وإن لم يكن معه إنزال، ويوجب ذلك في الحج الدم وقضاء الحج، ويوجب في الصيام القضاء والكفارة، في قول من يوجبها. ولو كان جامع فيما دون الفرج، وجب عليه في الحج دم فقط، ولم يجب عليه في الصيام شيء إلا أن ينزل، وكل ذلك محرم عليه في حجه وصيامه، وكان من زنى بامرأة حد، وإن لم ينزل، ولو فعل ذلك على وجه شبهة فسقط بها الحد عنه، وجب عليه المهر. وكان لو جامعها فيما دون الفرج، لم يجب عليه في ذلك حد ولا مهر، ولكنه يعزر إذا لم تكن هناك شبهة. وكان الرجل إذا تزوج المرأة فجامعها جماعا لا خلوة معه في الفرج ثم طلقها، كان عليه المهر أنزل أو لم ينزل، ووجبت عليها العدة وأحلها ذلك لزوجها الأول. ولو جامعها فيما دون الفرج لم يجب في ذلك عليه شيء، وكان عليه في الطلاق نصف المهر إن كان سمي لها مهرا، أو المتعة إذا لم يكن سمي لها مهرا. فكان يجب في هذه الأشياء التي وصفنا، التي لا إنزال معها أغلظ ما يجب في الجماع الذي معه الإنزال، من الحدود والمهور، وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فالنظر على ذلك، أن يكون كذلك، هو في حكم الأحداث أغلظ الأحداث، ويجب فيه أغلظ ما يجب في الأحداث، وهو الغسل. وحجة أخرى في ذلك: أنا رأينا هذه الأشياء التي وجبت بالتقاء الختانين، فإذا كان بعدها الإنزال لم يجب بالإنزال حكم ثان، وإنما الحكم لالتقاء الختانين. ألا ترى أن رجلا لو جامع امرأة جماع زناء، فالتقى ختاناهما، وجب الحد عليهما بذلك، ولو أقام عليهما حتى أنزل لم يجب بذلك عليه عقوبة، غير الحد الذي وجب عليه بالتقاء الختانين، ولو كان ذلك الجماع على وجه شبهة، فوجب عليه المهر بالتقاء الختانين، ثم أقام عليها حتى أنزل؛ لم يجب عليه في ذلك الإنزال شيء بعد ما وجب بالتقاء الختانين، وكان ما يحكم به في هذه الأشياء على من جامع فأنزل؛ هو ما يحكم به عليه إذا جامع ولم ينزل، وكان الحكم في ذلك هو لالتقاء الختانين لا للإنزال الذي يكون بعده. فالنظر على ذلك، أن يكون الغسل الذي يجب على من جامع وأنزل، هو بالتقاء الختانين لا بالإنزال الذي يكون بعده. فثبت بذلك قول الذين قالوا: إن الجماع يوجب الغسل، كان معه إنزال أو لم يكن. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وعامة العلماء رحمهم الله تعالى (1) . 4- وقد ذكر أبو بكر الحازمي نحوا مما قدمناه من قول أبي جعفر الطحاوي، وذكر الأحاديث بأسانيده، ثم قال: " وقد صحت الأخبار في طرفي الإيجاب والرخصة، وتعذر الجمع، فنظرنا هل نجد مناصاً من غوائل التعارض من جهة التاريخ، حيث تعذر معرفته من صريح اللفظ؛ فوجدنا آثاراً تدل على ذلك وبعضها يصرح بالنسخ، فحينئذٍ تعين المصير إلى الإيجاب لتحقق النسخ في ذلك. ثم ذكر بسنده ما يدل على النسخ من حديث أبي بن كعب المتقدم: "كان الماء من الماء شيئاً في أول الإسلام ثم ترك ذلك بعد، وأمروا بالغسل إذا مس الختان الختان". وقد أورد هذا عن أبي من قوله (2) .   (1) شرح معاني الآثار (1/53- 62) .بتصرف (2) الاعتبار ص 52-61 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 5- قال ابن حجر: " منسوخ وهو صحيح من حيث الصناعة الحديثية. وقد ذهب الجمهور إلى أن ما دل عليه حديث الباب من الاكتفاء بالوضوء إذا لم ينزل الجامع منسوخ بما دل عليه حديث أبي هريرة وعائشة المذكوران في الباب قبله، والدليل على النسخ ما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري عن سهل بن سعد قال: حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يقولون " الماء من الماء " رخصة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص بها في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد، صححه ابن خزيمة وابن حبان. وقال الإسماعيلي: هو صحيح على شرط البخاري، كذا قال، وكأنه لم يطلع على علته، فقد اختلفوا في كون الزهري سمعه من سهل. نعم أخرجه أبو داود وابن خزيمة أيضا من طريق أبي حازم عن سهل، ولهذا الإسناد أيضا علة أخرى ذكرها ابن أبي حاتم، وفي الجملة هو إسناد صالح لأن يحتج به، وهو صريح في النسخ. على أن حديث الغسل وإن لم ينزل أرجح من حديث الماء من الماء، لأنه بالمنطوق، وترك الغسل من حديث الماء بالمفهوم، أو بالمنطوق أيضا لكن ذاك أصرح منه. وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عباس أنه حمل حديث: "الماء من الماء " على صورة مخصوصة وهي ما يقع في المنام من رؤية الجماع، وهو تأويل يجمع بين الحديثين من غير تعارض" (1) . قلت: ذهب أكثر أهل العلم إلى النسخ في هذه الأحاديث، وذلك بما ورد عن أبي وغيره ممن كانوا يرون الأحاديث المرخصة، فلما ثبت هذا تبين لنا أن الرخصة كانت أول الإسلام، ثم جاء الأمر بالغسل من التقاء الختانين. وأدلة من ذهب إلى النسخ -وهم الغالبية من العلماء- أقوى وأرجح. والله أعلم. المبحث الثالث: غسل الجمعة. الإسلام دين يأمر بالنظافة، ويحث عليها، ومن مظاهر ذلك الوضوء خمس مرات، والاغتسال من الجنابة والاغتسال من الحيض وغيرها.   (1) فتح الباري 1/397، 398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وكذا حرص الإسلام على احترام مشاعر الآخرين، فشرع لهم عدم إيذاء المسلمين في أماكن تجمعهم لأداء مشاعر دينهم، فنهى المسلم عن أكل البصل لدخول المسجد، وأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد. ومما شرعه الإسلام الغسل لصلاة الجمعة، وذلك لما فيه من اجتماع المسلمين ولقائهم في هذا اليوم العظيم. ولكن اختلف العلماء في حكم غسل الجمعة بين الوجوب والاستحباب، فذهب قوم إلى الوجوب واستدلوا بأحاديث، وذهب آخرون إلى الاستحباب واستدلوا بأحاديث أخرى. ومما استدل به أصحاب الإيجاب حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم". ومما استدل به أصحاب الاستحباب حديث سمرة بن جندب مرفوعاً: " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل". فهذه الأحاديث يوهم ظاهرها التعارض. ذكر ما استدل به الموجبون لغسل الجمعة: عن أبي سعيد الخدري عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" (1) . ذكر ما استدل به المستحبون لغسل الجمعة: عن سمرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ " (2) . وجه التعارض: إن من يقرأ حديث أبي سعيد يجد أنه يصرح بوجوب الغسل يوم الجمعة على كل محتلم.   (1) أخرجه البخاري (2/344،356، 381،،5/276) ، ومسلم (6/132) ، وأبو داود (1/94) ، والنسائي (3/93) ، وابن ماجة (1/246) ، والدارمي (1/361) ، ومالك (1/94) . (2) أخرجه أبو داود (1/97) ، والترمذي (2/396) وقال: حديث حسن، والنسائي (3/94) ، وابن خزيمة (3/128) ، وأحمد (5/8، 11، 15، 16، 22) ، والدارمي (1/362) ، وحسنه النووي في شرح مسلم (6/133) ، وحسنه الألباني (مشكاة المصابيح 1/118) و (هامش صحيح ابن خزيمة3/128) ، قلت: وهو حديث حسن لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ومن يقرأ حديث سمرة بن جندب يرى أن غسل يوم الجمعة من الأمور المندوبة وذلك بقوله:" فهو أفضل" وهذا دليل على عدم الوجوب. فهذه الأحاديث تتعارض في دلالتها، لذا وجب النظر فيها، والبحث عن طرق التوفيق بينها، وقد تكلم العلماء فيها. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- ذكر الشافعي حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- فبين معنى الوجوب وأن له معان متعددة، وليس من اللازم أن يكون على معناه الاصطلاحي. فقال: " فاحتمل واجب لا يجزئ غيره، وواجب في الأخلاق، وواجب في الاختيار، وفي النظافة ونفي تغير الريح عند اجتماع الناس، كما يقول الرجل للرجل: وجب حقك علي إذ رأيتني موضعا لحاجتك، وما أشبه هذا، فكان هذا أولى معنييه لموافقة ظاهر القرآن في عموم الوضوء من الأحداث وخصوص الغسل من الجنابة، والدلالة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في غسل يوم الجمعة أيضا، فإن قال قائل: فاذكر الدلالة، قلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله قال: "دخل رجل من أصحاب رسول الله المسجد يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب، فقال عمر: أي ساعة هذه فقال يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا! وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل" (1) . قال الشافعي:   (1) رواه البخاري (2/356) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فلما علمنا أن عمر وعثمان (1) علما أن رسول الله كان يأمر بالغسل يوم الجمعة، فذكر عمر علمه وعلم عثمان، فذهب عنا أن نتوهم أن يكونا نسيا علمهما عن رسول الله في غسل يوم الجمعة، إذ ذكر عمر علمهما في المقام الذي توضأ فيه عثمان يوم الجمعة ولم يغتسل، ولم يخرج عثمان فيغتسل ولم يأمره عمر بذلك ولا أحد ممن حضرهما من أصحاب رسول الله ممن علم أمر رسول الله بالغسل معهما أو بإخبار عمر عنه، دل هذا على أن عمر وعثمان قد علما أمر النبي بالغسل على الأحب لا على الإيجاب للغسل الذي لا يجزئ غيره، وكذلك -والله أعلم- دل على أن علم من سمع مخاطبة عمر وعثمان في مثل علم عمر وعثمان، إما أن يكون علموه علما وإما أن يكونون علموه بخبر عمر كالدلالة عن عمر وعثمان، وروت عائشة الأمر بالغسل يوم الجمعة. أخبرنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: "كان الناس عمال أنفسهم فكانوا يروحون بهيآتهم فقيل لهم: لو اغتسلتم. قال وروي من حديث البصريين أن رسول الله قال: "من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"، قال وقول أكثر من لقيت من المفتين اختيار الغسل يوم الجمعة وهم يرون أن الوضوء يجزئ منه (2) .   (1) ذكر عثمان هنا لأنه هو الرجل من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي دخل وعمر يخطب. ورد التصريح باسمه في رواية أخرى أخرجها الطحاوي 1/118. (2) اختلاف الحديث ص109، 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 2- ذهب ابن خزيمة إلى الجمع بين الأحاديث بالغسل أمر ندب لا وجوب، فبعد أن ذكر أحاديث الأمر وبوب لها ذكر حديث سمرة وبوب له بقوله:" باب ذكر دليل أن الغسل يوم الجمعة فضيلة لا فريضة" كما ذكر تحت هذا الباب حديثاً آخر استدل به على الندب وهو حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فدنا وأنصت واستمع غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا (1) " (2) . 3- وأورد الطحاوي هذه المسألة في كتابه شرح معاني الآثار ودرأ تعارض هذه الأحاديث وما في معناها، فقال بعد أن أورد أحاديث دالة على الإيجاب عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وحفصة وعائشة وجابر وأبي سعيد: "فذهب قوم إلى إيجاب الغسل يوم الجمعة واحتجوا في ذلك بهذه الآثار. وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا ليس الغسل يوم الجمعة بواجب، ولكنه مما قد أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعان قد كانت في عهده –صلى الله عليه وسلم-، منها ما روي عن بن عباس رضي الله عنهما –وساق بسنده- عن عكرمة قال: سئل بن عباس عن الغسل يوم الجمعة (أواجب هو؟) قال: لا، ولكنه طهور وخير، فمن اغتسل فحسن، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ. كان الناس مجهودين يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان المسجد ضيقا مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم حار، وقد عرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت رياح، حتى آذى بعضهم بعضا فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الرياح فقال: "أيها الناس إذا كان هذا اليوم، فاغتسلوا وليمس أحدكم أمثلَ ما يجد من دهنه وطيبه"، قال ابن عباس -رضي الله عنه- ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم.   (1) أخرجه مسلم 6/146، 147، وفي رواية أخرى (من اغتسل) . (2) صحيح ابن خزيمة 3/128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فهذا ابن عباس -رضي الله عنه- يخبر أن ذلك الأمر الذي كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالغسل لم يكن للوجوب عليهم، وإنما كان لعلة ثم ذهبت تلك العلة فذهب الغسل (1) ، وهو أحد من روى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالغسل وقد روي عن عائشة -رضي الله عنها- في ذلك شيء. ثم ذكر ما يدل على ذلك عن عائشة -رضي الله عنها- بسنده قالت: كان الناس عمال أنفسهم فيروحون بهيئاتهم فقال صلى الله عليه وسلم: "لو اغتسلتم". فهذه عائشة -رضي الله عنها- تخبر بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما كان ندبهم إلى الغسل، للعلة التي أخبر بها ابن عباس -رضي الله عنهما- وأنه لم يجعل ذلك عليهم حتما، وهي أحد من روينا عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالغسل في ذلك اليوم. ثم أورد عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- ما يدل على أن ذلك لم يقع عنده موقع الفرض. ثم ذكر بسنده ما تقدم من خطبة عمر بألفاظ متعددة متقاربة، ثم قال:"ففي هذه الآثار غير معنى ينفي وجوب الغسل. أما أحدهما فإن عثمان لم يغتسل واكتفى بالوضوء، وقد قال عمر: قد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمرنا بالغسل. ولم يأمره عمر أيضا بالرجوع لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياه بالغسل. ففي ذلك دليل على أن الغسل الذي كان أمر به لم يكن –عندهما- على الوجوب، وإنما كان لعلة ما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وعائشة -رضي الله عنها- أو لغير ذلك.   (1) قال ابن حجر معلقاً على قول الطحاوي"وهذا من الطحاوي يقتضي سقوط الغسل أصلاً، فلا يعد فرضاً ولا مندوباً لقوله: زالت العلة..إلخ، فيكون مذهباً ثالثاً في المسألة. ا.هـ، ولا يلزم من زوال العلة تعبداً، ولا سيما مع احتمال وجود العلة المذكورة. ثم إن هذه الأحاديث لو سلمت لما دلت إلا على نفس اشتراط الغسل لا على الوجوب المجرد. فتح الباري 2/363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ولولا ذلك ما تركه عثمان -رضي الله عنه-، ولما سكت عمر -رضي الله عنه- عن أمره إياه بالرجوع حتى يغتسل، وذلك بحضرة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين قد سمعوا ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- كما سمعه عمر، وعلموا معناه الذي أراده فلم ينكروا من ذلك شيئا، ولم يأمروا بخلافه. ففي هذا إجماع منهم على نفي وجوب الغسل. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن ذلك كان من طريق الاختيار وإصابة الفضل. ثم ذكر بسنده حديث سمرة –رضي الله عنه- المتقدم. وأورده من عدة طرق ثم قال: فبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أن الفرض هو الوضوء، وأن الغسل أفضل لما ينال به من الفضل لا على أنه فرض. فإن احتج محتج في وجوب ذلك، بما روي عن علي وسعد وأبي قتادة وأبي هريرة -رضي الله عنهم-، وذكر آثاراً من كل واحد، فذكر بسنده عن سعد قوله: "ما كنت أرى مسلما يدع الغسل يوم الجمعة ". وبسنده عن علي قوله عندما سئل عن الغسل: "يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم الفطر ويوم الأضحى". وبسنده عن أبي هريرة قال:"حق الله واجب على كل مسلم في كل سبعة أيام يغتسل، ويغسل منه كل شيء، ويمس طيبا إن كان لأهله". وبسنده عن قتادة قال: "اغتسل للجمعة". وبسنده عن عبد الرحمن بن أبزى: أن أباه كان يحدث بعد ما يغتسل يوم الجمعة فيتوضأ ولا يعيد الغسل. ورد على هذه الآثار بقوله: أما ما روي عن علي رضي الله عنه فلا دلالة فيه على الفرض، لأنه قرنه مع ما ليس بفرض. وأما ما روي عن سعد من قوله: ما كنت أرى أن مسلما يدع الغسل يوم الجمعة: أي لما فيه من الفضل الكبير مع خفة مؤنته. وأما ما روي عن أبي هريرة –رضي الله عنه-فقد قرن ذلك بقوله: "وليمس طيبا إن كان لأهله" فلم يكن مسيس الطيب على الفرض، فكذلك الغسل. فقد سمع عمر يقول لعثمان -رضي الله عنهما- ما ذكرناه، ولم يأمره بالرجوع بحضرته، فلم ينكر ذلك عليه، فذلك أيضا دليل على أنه عنده كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وأما ما روي عن أبي قتادة مما ذكرنا عنه في ذلك فهو إرادة منه للقصد بالغسل إلى الجمعة لإصابة الفضل في ذلك. وقد روينا عن عبد الرحمن بن أبزى خلاف ذلك. وجميع ما بيناه في هذا الباب هو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، رحمهم الله" (1) . 4- وذهب ابن حبان إلى الجمع بين الأحاديث بأن حمل الأمر بالغسل على الندب، وقد أورد هذه المسألة بأدلتها وأحاديثها بأسانيده، وبوب لكل باب بما يناسبه، فأفاد من تبويبه فوائد في الجمع بين هذه الأحاديث، وتعزيز هذا الجمع بأحاديث أخرى. فقال: " ذكر لفظة أوهمت عالما من الناس أن غسل يوم الجمعة فرض لا يجوز تركه" وأورد بسنده حديث ابن عمر مرفوعاً صحيح (الغسل يوم الجمعة على كل حالم من الرجال وعلى كل بالغ من النساء) . ثم قال: " ذكر خبر ثان ذهب إليه بعض أئمتنا فزعم أن غسل يوم الجمعة واجب" وأورد حديث أبي سعيد المتقدم أول البحث. ثم بوب بابا آخر فقال: " ذكر الخبر الدال على أن الأمر بالاغتسال للجمعة في الأخبار التي ذكرناها قبل إنما هو أمر ندب وإرشاد لعلة معلومة"، وأورد حديث ابن عمر (أن عمر بن الخطاب بينا هو يخطب الناس يوم الجمعة إذ دخل عليه رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فناداه عمر: أي ساعة هذه؟ قال: إني شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت النداء فلم أزد على أن توضأت. قال عمر: والوضوء أيضا، وقد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالغسل) .   (1) شرح معاني الآثار. بتصرف (1/115-120) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 قال أبو حاتم رضي الله عنه: في هذا الخبر دليل صحيح على نفي إيجاب الغسل للجمعة على من يشهدها، لأن عمر بن الخطاب كان يخطب إذ دخل المسجد عثمان بن عفان فأخبره أنه ما زاد على أن توضأ ثم أتى المسجد، فلم يأمره عمر ولا أحد من الصحابة بالرجوع والاغتسال للجمعة ثم العود إليها، ففي إجماعهم على ما وصفنا أبين البيان بأن الأمر كان من المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالاغتسال للجمعة أمر ندب لا حتم. ثم أورد أخباراً تؤيد ما ذهب إليه، وهي: 1- حديث أبي هريرة المتقدم: (من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم أتى.. الحديث) . 2- حديث ابن عمر (إن لله حقا على كل مسلم أن يغتسل كل سبعة أيام يوما، فإن كان له طيب مسه) . 3- حديث أبي سعيد المتقدم (الغسل يوم الجمعة على كل محتلم والسواك، وأن يمس من الطيب ما قدر عليه) (1) . 5- أورد ابن الجوزي هذه الأحاديث فذكر أحاديث الإيجاب بأسانيدها ثم قال: "والجواب: أن الناس انقسموا في هذه الأحاديث فريقين، فمنهم من قال معنى واجب: لازم في باب الاستحباب، كما يقال حقك علي واجب، وهذا اختيار أبي سليمان الخطابي، يدل عليه أنه قرنه بما لا يجب. وذكر بسنده حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه مرفوعاً (الغسل يوم الجمعة على كل محتلم والسواك وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه) ، وحديث عائشة –رضي الله عنها- (كان الناس عمال أنفسهم فكانوا يروحون كهيئتهم فقيل لهم: لو اغتسلتم) . ثم قال: يؤكد هذا أن الصحابة لم ينكروا على من ترك الغسل. وذكر بسنده حديث عمر بن الخطاب المتقدم. ثم قال: وهذا كله يدل على أنه إنما أمر بالغسل أمر استحباب. وقد ذهب قوم إلى وجوبه للفظ حديث أبي سعيد، وادعوا أنه نسخ بحديث سمرة (من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل ..... الحديث) .   (1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (2/265-267) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وفي هذه الدعوى بعد، لأنه لا تاريخ معنا، وأحاديث الوجوب أصح والوجه ما ذكرناه: أنه مستحب ومندوب (1) . 6- قال النووي: واختلف العلماء في غسل الجمعة فحكى وجوبه عن طائفة من السلف حكوه عن بعض الصحابة وبه قال أهل الظاهر وحكاه بن المنذر عن مالك وحكاه الخطابي عن الحسن البصري ومالك وذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وفقهاء الأمصار إلى أنه سنة مستحبة ليس بواجب قال القاضي وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه واحتج من أوجبه بظواهر هذه الأحاديث واحتج الجمهور بأحاديث صحيحة منها حديث الرجل الذي دخل وعمر يخطب وقد ترك الغسل وقد ذكره مسلم وهذا الرجل هو عثمان بن عفان جاء مبينا في الرواية الأخرى ووجه الدلالة أن عثمان فعله وأقره عمر وحاضروا الجمعة وهم أهل الحل والعقد ولو كان واجبا لما تركه ولألزموه ومنها قوله صلى الله عليه وسلم من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل حديث حسن في السنن مشهور وفيه دليل على أنه ليس بواجب ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لو اغتسلتم يوم الجمعة وهذا اللفظ يقتضي أنه ليس بواجب لأن تقديره لكان أفضل وأكمل ونحو هذا من العبادات وأجابوا عن الأحاديث الواردة في الأمر به أنها محمولة على الندب جمعا بين الأحاديث وقوله صلى الله عليه وسلم واجب على كل محتلم أي متأكد في حقه كما يقول الرجل لصاحبه حقك واجب على أي متأكد لا أن المراد الواجب المحتم المعاقب عليه (2) . 7- نقل ابن حجر عن ابن دقيق العيد قوله:" وربما تأولوه تأويلاً مستكرهاً، كمن حمل لفظ الوجوب على السقوط. انتهى" (3) .   (1) التحقيق (1/173-175) . (2) شرح مسلم (6/133-134) . (3) فتح الباري (2/362) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 قال ابن حجر: " أما ما أشار إليه ابن دقيق العيد من أن بعضهم أوله بتأويل مستكره فقد نقله ابن دحية عن القدوري من الحنفية وأنه قال: قوله واجب أي ساقط، وقوله على بمعنى عن، فيكون المعنى أنه غير لازم، ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقال الزين بن المنير: أصل الوجوب في اللغة السقوط، فلما كان في الخطاب على المكلف عبء ثقيل كان كل ما أكد طلبه منه يسمى واجبا كأنه سقط عليه، وهو أعم من كونه فرضا أو ندبا. وهذا سبقه ابن بزيزة إليه، ثم تعقبه بأن اللفظ الشرعي خاص بمقتضاه شرعا لا وضعا، وكأن الزين استشعر هذا الجواب فزاد أن تخصيص الواجب بالفرض اصطلاح حادث. وأجيب بأن " وجب " في اللغة لم ينحصر في السقوط، بل ورد بمعنى مات، وبمعنى اضطرب، وبمعنى لزم وغير ذلك. والذي يتبادر إلى الفهم منها في الأحاديث أنها بمعنى لزم، لا سيما إذا سيقت لبيان الحكم. وقد تقدم في بعض طرق حديث ابن عمر " الجمعة واجبة على كل محتلم " وهو بمعنى اللزوم قطعا. ويؤيده: أن في بعض طرق حديث الباب: "واجب كغسل الجنابة " أخرجه ابن حبان من طريق الدراوردي عن صفوان بن سليم، وظاهره اللزوم، وأجاب عنه بعض القائلين بالندبية بأن التشبيه في الكيفية لا في الحكم" (1) . وقال ابن حجر بعد أن أورد رواية فيها (وأن يستن، وأن يمس طيباً) : " قال القرطبي: ظاهره وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعاطف، فالتقدير الغسل واجب والاستنان والطيب كذلك، قال: وليسا بواجبين اتفاقا، فدل على أن الغسل ليس بواجب، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد. انتهى.   (1) فتح الباري (2/363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وقد سبق إلى ذلك الطبري والطحاوي، وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب، لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف. وقال ابن المنير في الحاشية: إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه لأن للقائل أن يقول: أخرج بدليل فبقي ما عداه على الأصل، وعلى أن دعوى الإجماع في الطيب مردودة، فقد روى سفيان بن عيينة في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوبه بعض أهل الظاهر (1) . 8- قال الشيخ أحمد شاكر: "وقد رجحنا أن غسل الجمعة واجب في نفسه، أعني ليس شرطاً في صحة الصلاة، فمن لم يأت به صحت صلاته، وكان مقصرا في الواجب عليه؛ إذ ليس في الأحاديث ما يدل على شرطيته في صحة الصلاة، وبذلك يجمع بين الأحاديث" (2) . قلت: بعد أن جمعت أقوال العلماء في درء هذا التعارض، تبين لي أن خير ما درئ به هو أن حديث "الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" أن ذلك على سبيل التأكد، وليس على سبيل الإيجاب الاصطلاحي الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وذلك يدل عليه أحاديث كثيرة أسلفها العلماء، وأنا أشير إلى بعضها إشارة: 1- حديث خطبة عمر وقول عثمان: لم أزد على أن توضأت. 2- حديث عائشة في سبب ندبية الغسل وفيه (لو اغتسلتم) ، فلولا تقتضي الوجوب، وإنما تدل على الحث والتحضيض. 3- حديث سمرة (من توضأ فبها ونعمت..الحديث) . كما أن بيان ابن عباس لعلة شرعية الغسل تدل على أنه لم يكن للجمعة مشروعية الغسل مطلقاً، فلما حصل الأذى شرع الغسل فبادر إليه المسلمون. وأن في ترك الغسل مظنة تأذي المسلمين، لذا شرع تجنب ما يؤذيهم.   (1) فتح الباري (2/362) . (2) سنن الترمذي (2/371) بتحقيق وتعليق أحمد شاكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 والذي يفهم من النصوص مجتمعة أن الأصل في غسل الجمعة الندب، لما ورد من أحاديث فضله وثوابه. إلا أنه يزيد هذا الندب ويتأكد في حق من يحصل منه الأذى بترك الغسل حتى يلتحق بالواجب. أما أن يكون شرطا لصحة الصلاة فهذا مردود بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أمر بالغسل كان في صلاة جمعة، ولم يكونوا مغتسلين ولم يأمرهم بالانصراف والاغتسال مع أن في الوقت متسع فدل ذلك أنه غير شرط لصحة الصلاة. ... والله أعلم. المبحث الرابع: هل يجب الغسل من تغسيل الميت. اختلف العلماء في مسألة الغسل من تغسيل الميت، هل هو واجب أم لا، ويرجع سبب هذا الاختلاف إلى الأحاديث الواردة في هذا الشأن، فبعضها يستدل به على وجوب الغسل من تغسيل الميت، وبعضها الآخر يستدل به على عدم وجوبه. فمما يستدل به على وجوب الغسل، قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من غسل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ". ومما يستدل به على عدم الوجوب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم". فهذان حديثان مرفوعان يظهر بينهما التعارض والاختلاف. ذكر ما استدل به على الوجوب: عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " (1) . ذكر ما استدل به على عدم الوجوب:   (1) أخرجه أبو داود (3/201) ، والترمذي (3/309) وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن وقد روي هذا عن أبي هريرة موقوفا، وأخرجه ابن ماجة (1/470) ، وأحمد (14/106) بتحقبق أحمد شاكر (2/280، 433، 454، 472) ، وابن حزم (2/23) (1/250) ، وابن حبان (2/239) ، والبيهقي (1/300، 301، 302، 303) ، والطيالسي ص 305، وضعفه النووي وأنكر على الترمذي تحسينه (المجموع 5/185) ، وصححه أحمد شاكر (تحقيق المسند 14/106، 108) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (23 / 348) ، قلت: وهو حديث حسن لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 عن ابن عباس قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي غَسْلِ مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ إِذَا غَسَّلْتُمُوهُ، فإِنَّ مَيِّتَكُمْ لَيْسَ بِنَجِسٍ فَحَسْبُكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ. " (1) . وجه التعارض: إن من يقرأ حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- يجده يدل على أنه يجب الغسل من تغسيل الميت، وذلك أن النبي –صلى الله صلى وسلم- قال: "فليغتسل" بصيغة الأمر، والأمر يقتضي الوجوب. ومن يقرأ حديث ابن عباس –رضي الله عنه- يجده يدل على نفي الوجوب، وذلك صريح من قوله" ليس عليكم في غسل ميتكم غسل" فدل ذلك على أن الحديثين متعارضان أحدهما يدل على الوجوب، والآخر يدل على نفي الوجوب، فوجب النظر في كيفية التوفيق بين هذه الأحاديث ورد التعارض عنها. وقد تكلم العلماء في هذا. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- درأ ابن حزم التعارض في هذه المسألة بأن أثبت حديث الإيجاب، ولم يثبت في الرخصة شيئا. أما حديث ابن عباس الذي ذكرته في الباب من رواية الحاكم، فإنه لم يورده أصلاً (2) . وبذلك يكون ابن حزم درأ التعارض بالترجيح لأحاديث الإيجاب. 2- استحب الشافعي الغسل من غسل الميت ولم يوجبه، فإنه ضعف حديث أبي هريرة. قال المزني: هذا الغسل ليس بمشروع، وكذا الوضوء من مس الميت وحمله لأنه لا يصح فيهما شيء. قال في المختصر: وقد أجمعوا أن من مس حريرا أو ميتة ليس عليه وضوء ولا غسل، فالمؤمن أولى. قال النووي: هذا كلام المزني، وهو قوي (3) . وقد خالف المزني الشافعي بقوله إن هذا الغسل ليس مشروعا. 3- ذهب ابن قدامة من الحنابلة إلى أنه لا يجب من غسل الميت غسل ولا وضوء.   (1) أخرجه الحاكم (1/386) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، والدارقطني (2/76) ، والبيهقي (1/306) وقال: هذا ضعيف، وابن الجوزي في التحقيق ص 154، قلت: هو حديث حسن. (2) المحلى (2/23-25) . (3) المجموع (5/185) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 قال: " وهو الصحيح إن شاء الله، لأنه لم يرد فيه نص صحيح ولا هو في معنى المنصوص عليه، ولأنه غسل آدمي أشبه غسل الحي. وكلام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب، فإنه قال: "أحب إلي أن يتوضأ" وعلل نفي وجوب الغسل من غسل الميت بكون الخبر الوارد فيه موقوفاً على أبي هريرة، فإذا لم يوجب الغسل بقول أبي هريرة مع احتمال أن يكون مرفوعاً، فلأن لا يوجب الوضوء بقوله مع عدم هذا الاحتمال أولى، ولأن الأصل عدم وجوبه فيبقى على الأصل (1) . 4- قال ابن حجر: " فيجمع بينه وبين الأمر في حديث أبي هريرة بأن الأمر على الندب، أو المراد بالغسل غسل الأيدي، كما صرح به في هذا. قلت: ويؤيد أن الأمر فيه للندب، ما روى الخطيب فِي ترجمة محمد بن عبد الله المخرمي من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قال لي أبي: كتبت حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: كنا نغسل الميت، فمنا من يغتسل ومنا لا يغتسل؟ قال: قلت: لا، قال: في ذلك الجانب شاب يقال له محمد بن عبد الله يحدث به عن أبي هشام المخزومي عن وهيب، فاكتبه عنه، قلت: وهذا إسناد صحيح وهو أحسن ما جمع به بين مختلف هذه الأحاديث. والله أعلم (2) . 5- ومال الشوكاني إلى القول بالاستحباب لما فيه من الجمع بين الأدلة. ورد على من قال: الجمع حاصل بغسل الأيدي بأنه غير ظاهر، لأن الأمر بالاغتسال لا يتم معناه الحقيقي إلا بغسل جميع البدن، وما وقع من إطلاقه على الوضوء في بعض الأحاديث فمجاز، لا ينبغي حمل المتنازع فيه عليه، بل الواجب حمله على المعنى الحقيقي الذي هو الأعم الأغلب، ولكنه يمكن تأييده بحديث "فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" (3) . قلت: بعد البحث في هذه المسألة تبين لي ما يلي:   (1) الشرح الكبير (1/90) . (2) التلخيص الحبير (1/146) . (3) نيل الأوطار (1/299) ، والحديث بتمامه أخرجه البيهقي عن ابن عباس مرفوعاً (1/306) وحسنه ابن حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 1- أن ما ذهب إليه ابن حزم من إيجاب الغسل يسلم مع تحسيننا لحديث أبي هريرة، وهو أقوى من جميع ما فنده من أدلة خصمه، ولعله لم يطلع عليه أو لم يصله، ولو أنه اطلع عليه فلربما يكون له رأي آخر، إلا أن لا يثبت عنده، وهو عندي أثبت من حديث أبي هريرة. ومن هنا يبقى لدينا في المسألة حديث ثابت معارض لحديث أبي هريرة، وهو حديث ابن عباس. 2- أن ما ذهب إليه الجمهور من الجمع بين الأحاديث أولى وأصح، حيث قالوا باستحباب الغسل من غسل الميت، ومن تركه فلا شيء عليه. ويؤيد هذا الجمع ما أوردوه من علل في عدم إيجاب الغسل فإنها علل قوية. وقد ذكرت جمله منها فيما تقدم من أقوال العلماء. (1) المبحث الخامس: هل يجب دلك الرأس من غسل الجنابة. ومن المسائل التي اختلف فيها العلماء لتعارض أدلتها: مسألة دلك الرأس أثناء الغسل. فقد وردت أحاديث كثيرة تتعارض في ظاهرها، فبعضها يدل على أنه يجب دلك الرأس وإيصال الماء إلى كل شعرة، وبعضها الآخر يدل على أنه لا يجب ذلك، وإنما يكتفي بحثو الماء وإفاضته على جسده. فما يدل على الوجوب: 1- "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها، فعل به كذا وكذا في النار". 2- "كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيده ثم يفيض الماء على جلده كله". 3- إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشر". ومما يستدل به على عدم الوجوب: 1- "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأخذ ثلاثة أكف، ويفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده". 2- عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله"إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين". ذكر ما استدل به على وجوب دلك الرأس: الحديث الأول:   (1) ينظر صفحة 409 , 410 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 عن عائشة زوج النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ" (1) . الحديث الثاني: عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-، عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: " مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ". قَالَ عَلِىٌّ فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي ثَلاَثًا. وَكَانَ يَجِزُّ شَعْرَهُ. رضي الله عنه (2) . الحديث الثالث: عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ " (3) . ذكر ما استدل به على عدم الوجوب: الحديث الأول:   (1) أخرجه البخاري (1/360، 382) ، ومسلم (3/228، 229) ، وأبو داود (1/63) ، والترمذي (1/173) ، والنسائي (1/135، 134) ، والدارمي (1/191) ، ومالك (1/50) ، وأحمد (6/52، 252) ، والبيهقي (1/175) ، وابن حبان (2/253) . (2) أخرجه أبو داود (1/65) ، وابن ماجة (1/196) ، والدارمي (1/192) ، البيهقي (1/175، 227) ، وابن أبي شيبة (1/170) ، وضعفه النووي (المجموع 2/184) ، قلت: والحديث حسن لغيره. (3) أخرجه أبو داود (1/65) ، والترمذي (1/178) ، وابن ماجة (1/196) ، والبيهقي (1/175) ، وضعفه النووي (المجموع 2/184) ، قلت: هو حديث ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 عن معمر بن يحيى بن سام:"حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ لِي جَابِرُِ وَأَتَانِي ابْنُ عَمِّكَ يُعَرِّضُ بِالْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: قال: كَيْفَ الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقُلْتُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ ثَلَاثَةَ أَكُفٍّ وَيُفِيضُهَا عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ. فَقَالَ لِي الْحَسَنُ إِنِّي رَجُلٌ كَثِيرُ الشَّعَرِ فَقُلْتُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْكَ شَعَرًا" (1) . الحديث الثاني: عن أم سلمة –رضي الله عنها- قالت: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ قَالَ «لاَ إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ" (2) . وجه التعارض: إن من يقرأ حديث "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل الله به كذا وكذا من النار" يستدل به على وجوب تخليل شعر الرأس حتى يصل الماء إلى كل شعرة منه، وفي ترك ذلك التغليظ الشديد والعقاب الأليم. وكذا من يقرأ حديث صفة غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه "ثم يدخل أصابعه الماء فيخلل بها أصول شعره" يجد ذلك مؤيدا لوجوب تخليل الشعر. وكذلك من يقرأ حديث "إن تحت كل شعرة جنابة" يستدل به على وجوب تطهير كل شعرة وإيصال الماء إلى أصلها لتطهر من الجنابة. وهذه المعاني تتفق على وجوب تخليل شعر الرأس.   (1) أخرجه البخاري (1/368) ، ومسلم (4/10) ، والنسائي (1/207) مختصرا، وابن ماجة (1/191) مختصرا، وابن خزيمة (1/120) . (2) أخرجه مسلم (4/10، 11) ، وأبو داود (1/65) ، والترمذي (1/ 175-177) ، والنسائي (1/131) ، وابن ماجة (1/198) ، وابن حبان (2/253) ، والبيهقي (1/181) ، وأبو عوانة (1/301) ، والحميدي (1/141) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ومن يقرأ حديث صفة غسل النبي –صلى الله عليه وسلم- الأخرى، وفيها: "يأخذ ثلاثة أكف ويفيضها على رأسه" يجد أن هذا الحديث يدل على عدم وجوب تخليل الشعر، لأن ثلاثة أكف لا تكفي لوصول الماء إلى جميع أصول الشعر، ومع ما علم من غزارة شعره –صلى الله عليه وسلم- وكثافته. وكذلك من يقرأ حديث أم سلمة، وفيه الترخيص لها في عدم نقض الشعر والاكتفاء بثلاث حثيات من الماء، يجد أنه لا يجب إيصال الماء إلى جميع أصول الشعر، لا سيما إذا كان الشعر معقوصا. وهذه معان تختلف ولا تتفق، لذا تكلم العلماء فيها، وإليك أقوالهم في درء تعارضها. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- ذهب ابن الجوزي إلى أنه لا يجب دلك الرأس، وإنما يجب إيصال الماء إليه، وأجاب عن أحاديث الإيجاب بقوله "هذه الأحاديث محمولة على من يمنع شعره الماء أن يصل إلى جلده" (1) . وقال ابن عبد الهادي: "الجواب أن أكثر ما في هذه الأحاديث إيجاب وصول الماء إلى جميع البشرة والشعر، ونحن نقول به، وإذا لم يمكن ذلك إلا بالدلك في حق من رأسه متلبدا كثيرا، فإنه يجب عليه، وغالب الناس ليسوا كذلك" (2) . 2- قال ابن حجر في التخليل الوارد في حديث عائشة –رضي الله عنها- "ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره": هذا التخليل غير واجب اتفاقاً إلا إن كان الشعر ملبداً يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله" (3) . وجعل كلمة "يفيض" دلالة على عدم الإيجاب فقال: "واستدل به من لم يشترط الدلك وهو ظاهر" (4) .   (1) التحقيق ص 172. (2) التنقيح بهامش التحقيق ص 171-172. (3) فتح الباري (1/360) . (4) المرجع السابق ص 361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 3- قال ابن العربي: "اختلف الناس في الغسل، فقيل هو صب الماء على المغسول، وقيل هو إمرار اليد مع الماء على المحل، أو عرك المحل بعضه ببعض مع الماء، وقيل هو صب الماء خاصة، والصحيح أن الغسل هو صب الماء لإزالة شيء، فإذا زال كان غسلا وكان المحل مغسولا، ألا ترى أن غسل الإناء من ولوغ الكلب: صب الماء عليه لأنه ليس هناك شيء يزال، وقد جاء في الحديث كما تقدم في البول، فأتبعه ماء ولم يغسله، يعني لم يعركه، فتبين أن الغسل نوعان: أحدهما صب الماء لإزالة، والثاني صب الماء مع العرك" (1) . 4- قال ابن حزم: " وليس عليه أن يتدلك: وهو قول سفيان الثوري، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وداود، وأبي حنيفة، والشافعي، وقال مالك بوجوب التدلك". ثم ذكر دليله وحجته، حديث أم سلمة –رضي الله عنها- المتقدم. ورد على أدلة من قال بالوجوب. وذكر من أدلتهم حديث "إن تحت طل شعرة جنابة..الحديث" وضعفه، وقال: "ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة، لأنه ليس فيه إلا غسل الشعر وإنقاء البشر، وهذا صحيح ولا دليل على أن ذلك لا يكون إلا بالتدلك، بل هو تام دون تدلك " (2) . 5- قال النووي: "مذهبنا أن دلك الأعضاء في الغسل وفي الوضوء سنة ليس بواجب، فلو أفاض الماء عليه فوصل به ولم يمسه بيديه، أو انغمس في ماء كثير، أو وقف تحت ميزاب، أو تحت المطر ناويا فوصل شعره وبشره؛ أجزأه وضوءه وغسله، وبه قال العلماء كافة، إلا مالكا والمزني؛ فإنهما شرطاه في صحة الغسل والوضوء" (3) . وضعف النووي حديث "تحت كل شعرة جنابة..الحديث"، وكذا ضعف حديث علي "من ترك موضع شعرة..الحديث" (4) . 6- واختار الحنابلة استحباب إمرار اليد، وعدم وجوبه، بل يكفي إفاضة الماء حتى يتيقن أو يغلب على ظنه أن الماء وصل إلى البشرة، واحتجوا بحديث أم سلمة.   (1) عارضة الأحوذي (1/161-162) . (2) المحلى (2/32) . (3) المجموع (2/185) . (4) المرجع السابق 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 قال ابن قدامة: "ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة في غسل الجنابة: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين" رواه مسلم، ولأنه غسل واجب فلم يجب فيه إمرار اليد كغسل الجنابة" (1) . قلت: بعد النظر في هذه الأحاديث تبين لي عدم تعارضها في الحقيقة. وذلك لأن ملء الأكف ثلاث مرات يبلل البشرة والرأس، ولذا أطلق عليه لفظ إفاضة، والإفاضة تدل على وصول الماء إلى كل جزء من الرأس والجسد، ولو كان المعنى وصول الماء إلى بعض أجزاء الرأس أو أغلبها لعبر بالرش، ولم يكن ذلك منه -صلى الله عليه وسلم-، بل ورد في النصوص الثابتة لفظ الإفاضة، والغسل، والصب، وكلها تعني إيصال الماء إلى كل جزء من أجزاء الجسد. ولما كان -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على وصول الماء للرأس وكانت كثافة الشعر ربما تفرق الماء بما فيها من الجفاف وبعض الدهون؛ كان -صلى الله عليه وسلم- يخلل الشعر ليسهل وصول الماء إلى البشرة. أما الشعر فليس بواجب إيصال الماء إليه أو غسله، يدل على ذلك حديث أم سلمة، فإن الثلاث حثيات لا يغسلن الرأس والشعر إذا كان مضفرا، بل يبقى أجزاء من الشعر لا يصلها الماء، وهذه يعفى عنها بنص الحديث وظاهره. كما تبين كذلك من هذا المبحث أن حديث "إن تحت كل شعرة جنابة" ضعيف لا يقوم به حجة. ولو صح من بعد ذلك؛ لما كان فيه حجة، وذلك لأن إيجاب الدلك لا يثبت بهذه الأدلة، وغاية ما تدل عليه هذه الأحاديث هو التأكيد على إيصال الماء إلى جميع أجزاء الجسد، مع التحري. وعليه فمذهب الجمهور والظاهرية هو الراجح، وما ذهب إليه مالك من إيجاب التدلك مرجوح. ... والله أعلم. المبحث السادس: التستر عند الغسل في الخلوة. وفي باب الغسل يعلمنا -صلى الله عليه وسلم- الآداب التي ينبغي أن يتأدب بها المسلم عند غسله.   (1) الشرح الكبير (1/105) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ومن هذه الآداب التستر عند اغتسال المسلم وحده في الخلوة، ولكن وقع الاختلاف في هذا التستر، أهو على سبيل الوجوب أم على سبيل الإباحة؟، ومنشأ هذا الاختلاف ورود بعض الأحاديث التي تدل على وجوب التستر عند الغسل وبعضها الآخر يدل على الإباحة. فمما يدل على الوجوب حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك"، قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض، قال: "إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها" قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خالياً، قال: "الله أحق أن يستحيا منه من الناس". ومما يدل على الإباحة: 1- ما روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده. فقالوا: "والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر (1) "، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: "ثوبي يا حجر" حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى فقالوا: "والله ما بموسى من بأس"، وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا، فقال أبو هريرة: "والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضربا بالحجر".   (1) "يقال رجل آدر: إذا كان في إحدى خصيتيه نفخة" لسان العرب 4/15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 2- ما روي عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بينما أيوب يغتسل عرياناً، فخر عليه جراد (1) من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك". ذكر ما استدل به على الوجوب: عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ قَالَ «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ «إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلاَ يَرَيَنَّهَا» . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا قَالَ «اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ " (2) . ذكر ما استدل به على الإباحة: الحديث الأول:   (1) قال القسطلاني"سمي به لأنه يجرد الأرض، فيأكل ما عليها، وهل كان جرادا حقيقة ذا روح، إلا أنه ذهب، أو كان على شكل جراد وليس فيه روح، قال في شرح التقريب: الأظهر الثاني، وليس الجراد مذكر جرادة، وإنما هو اسم جنس كالبقرة والبقر، فحق مذكره أن لا يكون مؤنثه من لفظه لئلا يلتبس الواحد المذكر بالجمع" إرشاد الساري (1/333) . (2) أخرجه أبو داود (4/40، 41) ، والترمذي (5/110) وحسنه، والحاكم (4/179، 180) ، والطبراني في الكبير (19/413) ، والبيهقي (1/119) والحديث حسن. صححه الحاكم وتبعه الذهبي وحسنه الألباني (آداب الزفاف 34) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 عن أبي هريرة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَكَانَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ ثَوْبِي يَا حَجَرُ حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ " (1) . الحديث الثاني: عن أبي هريرة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى وَعِزَّتِكَ وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ " (2) . وجه التعارض: إن من يقرأ في حديث بهز بن حكيم، وفيه "الله أحق أن يستحيا منه من الناس" يستدل به على أن الرجل يكره له أن يتعرى وإن كان خالياً، ولأن قوله: الله أحق أن يستحيا منه من الناس، يدل على أنه كما ينبغي أن يستحيي المرء من الناس ولا يكشف عورته عندهم، فكذلك يكون الحكم إذا كان حاليا بل هو أوجب.   (1) أخرجه البخاري (1/385) ، ومسلم (4/32) (16/126، 127) ، والترمذي (5/359، 360) ، وأحمد (2/315، 392، 515، 535) . (2) أخرجه البخاري (1/387) (6/420) (13/464) ، والنسائي (1/200، 201) ، وأحمد (2/243، 304، 314، 347، 490، 511) ،والطيالسي ص322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أما من يقرأ الحديثين الآخرين، حديث موسى وحديث أيوب، يجد أنه يجوز أن يتعرى المرء إذا كان خالياً، لأن هذا الفعل من أنبياء، وهم أكرم الخلق وأخشاهم لله، ولم ينههم الله سبحانه وتعالى عن ذلك، فدل على جواز التعري في الخلوة. وهذان معنيان متضادان يجب التأليف بينهما. وقد تكلم فيها العلماء ودرؤوا التعارض الواقع بينهما. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- قال الإمام النووي: " والتستر بمئزر (1) ونحوه في حال الاغتسال في الخلوة أفضل من التكشف، والتكشف جائز مدة الحاجة في الغسل ونحوه (2) ..، والزيادة على قدر الحاجة حرام على الأصح". وموضع الدلالة من هذا الحديث أن موسى عليه الصلاة والسلام أغتسل في الخلوة عريانا، وهذا يتم على قول من يقول من أهل الأصول أن شرع من قبلنا شرع لنا. والله أعلم (3) . 2- وذهب ابن قدامة من الحنابلة إلى الجمع بين الأحاديث، وذلك بجواز الاغتسال عرياناً في الخلوة، مستدلا بحديث موسى وأيوب عليهما السلام، واستحباب التستر، مستدلا بحديث "فالله أحق أن يستحيا منه من الناس" (4) . 3- قال ابن حجر: ظاهر حديث بهز يدل على أن التعري في الخلوة غير جائز مطلقا، لكن استدل على جوازه في الغسل بقصة موسى وأيوب عليهما السلام، ووجه الدلالة منه، أنهما ممن أمرنا بالاقتداء به، وهذا إنما يأتي على رأي من يقول: شرع من قبلنا شرع لنا. والذي يظهر أن وجه الدلالة منه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قص القصتين ولم يتعقب شيئا منهما فدل على موافقتهما لشرعنا، وإلا فلو كان فيهما شيء غير موافق لبينه، فعلى هذا يجمع بين الحديثين بحمل حديث بهز بن حكيم على الأفضل.   (1) والتستر بالمئزر: بأن يجعل حائلا من القماش أو غيره يحول دون نظر الناظرين إليه. (2) نحوه: كتغيير الملابس وقضاء الحاجة. (3) شرح مسلم بتصرف (4/32) . وينظر المجموع (2/197) . (4) ينظر الشرح الكبير (1/112) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ورجح بعض الشافعية تحريمه، والمشهور عند متقدميهم كغيرهم الكراهة فقط" (1) . قلت: فالحاصل أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث، بل يمكن الجمع بينها بأن الغسل في الخلوة عرياناً جائز إذا لم يكن أحد بمقربة منه. وما ورد من إطلاق في حديث بهز من قوله "فالله أحق أن يستحيا منه من الناس" دال على الاستحباب والأفضلية، لأن التستر أقرب للحياء، والتكشف في الخلوة فيه تعويد على التكشف عند الناس، فإذا اعتاد المسلم التستر في الخلوة، وهاب التكشف فيه، واستحيا منه؛ فإنه أحرى أن يستحي عند الناس. وإلا فإن الله سبحانه وتعالى يعلم ويرى ويحيط بالإنسان في جميع أحيانه، وعلى كل حالاته. وما ذهب إليه النووي من إباحة التكشف في حالة الحاجة فحسن، لما فيه من رفع المشقة وإزالة العنت مع أمن المحذور. وبهذا يدرأ التعارض، ويزول الإشكال. ... والله أعلم. الباب الخامس باب السواك. وفيه مبحث: حكم السواك للصائم. اهتم الإسلام بطهارة أتباعه، وتفقدهم في سائر أحوالهم، حاثاً إياهم على التطهر والنظافة والنقاء، فهم خير أمة أخرجت للناس. ومن ألون حرصه وعنايته أن حثهم على تنظيف أسنانهم وصيانتها من كل قذر وريح خبيث، واختار لهم بحكمته وخبرته المسواك، وهو أنفع ما على الأرض لأسنانهم وأفواههم، ودعاهم إلى استعماله، وهو شجر طيب الريح يحوي أكمل المواد وأنفعها للسان واللثة. وقد اعتنى العلماء -رضوان الله ورحمته عليهم أجمعين- في بعض أحكامه ومسائله، وذلك لوجود أحاديث فهم بعضهم منها ما لم يفهمه الآخر، فذهب كل إلى ما فهم، واختلفوا في استنباط الحكم من هذا الحديث، فهذا يأخذ به، وذاك يتركه، وهذا يحمله الوجوب وذاك يحمله على الندب، وليس هذا يعنينا في بحثنا هذا، وإنما الذي نعنى هنا؛ هو إيراد الأحاديث التي تتعارض في ظاهرها، ويشكل على القارئ فهمها، أو الجمع بينها، أو ترجيح بعضها على بعض.   (1) فتح الباري (1/386) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ومن المسائل التي اختلف فيها لأجل ما يظهر من تعارض أحاديثها؛ مسألة حكم السواك للصائم. فقد ذهب قوم إلى أنه جائز ولا يكره، بل يستحب للصائم كغيره، واستدلوا بأحاديث، منها: 1- "رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يستاك وهو صائم". 2- "من خير خصال الصائم السواك". كما ذهب آخرون إلى أنه يكره للصائم أن يتسوك، واستدلوا بأحاديث، منها: "إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي، فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه إلا كانتا نورا بين عينيه يوم القيامة". ذكر ما استدل به على إباحة السواك للصائم: الحديث الأول: عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ. زَادَ مُسَدَّدٌ مَا لاَ أَعُدُّ وَلاَ أُحْصِى" (1) . الحديث الثاني: عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ خَيْرِ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ " (2) . ذكر ما استدل به على كراهة السواك للصائم بعد العشي: عن علي قال: "إِذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ وَلا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ صَائِمٍ تَيْبَسُ شَفَتَاهُ بِالْعَشِيِّ إِلا كَانَت نُورًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (3) . وجه التعارض:   (1) أخرجه أبو داود (2/307) ، والترمذي (3/95) وقال: حديث حسن، وأحمد (3/445، 446) ، والبيهقي (4/272) ، والطيالسي، والدارقطني (2/202) ، والبخاري تعليقا بصيغة التمريض (4/158) ، وضعفه الألباني (إرواء الغليل1/107) ،والحديث ضعيف كما قال الأئمة. (2) أخرجه ابن ماجة (1/536) ، والدارقطني (2/203) ، والبيهقي (4/272) ، ضعفه ابن حجر (التلخيص الحبير 1/79) ، قلت: وهو حديث ضعيف. (3) أخرجه الدارقطني (2/204) ، والبيهقي (4/204) ، والطبراني في الكبير (4/99 رقم 3608) ، والدولابي (4/394 رقم 975) وضعف الحديث الألباني في الإرواء1/ 106، قلت: الحديث ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 إن من يقرأ في هذه الأحاديث: "رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يستاك وهو صائم"، و "من خير خصال الصائم السواك"؛ يجدها تدل على أن الصائم يجوز له أن يستاك في أي وقت شاء، سواء كان الاستياك بالغداة أو كان بالعشي. ومن يقرأ حديث "استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي"؛ يجد أنه ينهى الصائم عن السواك بالعشي –أي المساء-، وهذان معنيان مختلفان، وقد تكلم العلماء فيها. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- قال ابن عبد البر: "اختلف الفقهاء في السواك للصائم، ورخص فيه مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وابن علية، وهو قول إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وعروة بن الزبير، ورويت الرخصة فيه عن عمر وابن عباس، وليس عن واحد منهم فرق بين أول النهار وآخره ولا بين السواك الرطب واليابس، وحجة من ذهب هذا المذهب قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة"، ولم يخص رمضان ولا غيره. وقد روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يستاك وهو صائم. وقال الشافعي: أحب السواك عند كل وضوء بالليل والنهار وعند تغير الفم، إلا أني أكرهه للصائم آخر النهار من أجل الحديث في خلوف فم الصائم. وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد. وأما السواك الرطب فيكرهه مالك وأصحابه، وبه قال أحمد وإسحاق وجماعة، ورخص أبو حنيفة وأصحابه وجماعة، وروي ذلك عن ابن عمر وقال ابن علية في السواك: سنة للصائم والمفطر، والرطب فيه واليابس سواء، لأنه ليس بمأكول ولا مشروب. وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن السواك للصائم فقال: ما بينه وبين الظهر ويدعه بالعشي، لأنه يستحب له أن يفطر على خلوف فيه. وعن مجاهد وعطاء أنهما كرها السواك بالعشي للصائم لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (1) .   (1) التمهيد (19 / 58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 2- قال ابن القيم –رحمه الله- بعد أن ذكر أحاديث المنع من السواك: "لو احتج عليه بعموم قوله –صلى الله عليه وسلم-: "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (1) ، لكانت حجة، وبقوله –صلى الله عليه وسلم-: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" (2) ، وسائر الأحاديث المرغبة في السواك من غير تفصيل، ولم يجيء في منع الصائم منه حديث صحيح" (3) .   (1) متفق عليه، رواه البخاري (1/374) ، ومسلم (3/142) . (2) أخرجه النسائي (1/10) وفي الكبرى (1/64) ، وابن خزيمة (1/70) ، وابن حبان (3/348) ، وأحمد (6/74، 62، 124، 146، 232) ، وصححه الأرنؤوط، والبيهقي في الصغرى (1/26) ، وفي الكبرى (1/34) ، وفي المعرفة (1/76) ، والطبراني في الأوسط (1/91) ، والحميدي (1/67) ، وابن أبي شيبة (1/156) وأبو يعلى (8/73) ، وإسحاق (2/385) ، وابن المنذر في الأوسط (1/492) ، وأبو نعيم في أحبار أصفهان (6/482) ، ورواه البخاري تعليقاً عن عائشة بصيغة الجزم (4/158) ، وصححه الألباني في الإرواء (1/105) . (3) تهذيب معالم السنن (3/241) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 3- قال المباركفوري حاكيا مذهب من كره السواك آخر النهار: "واحتجوا على ذلك بأن في الاستياك آخر النهار إزالة الخلوف المحمود بقوله –صلى الله عليه وسلم-: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (1) ، وأجيب بأن الخلوف- بضم الخاء المعجمة على الصحيح- تغير رائحة الفم من خلو المعدة، وذلك لا يزال ذلك بالسواك، قال ابن الهمام: "بل إنما يزيل أثره الظاهر عن السن من الاصفرار، وهذا لأن سبب الخلوف خلو المعدة من الطعام، والسواك لا يفيد شغلها بطعام ليرتفع السبب. ولهذا روي عن معاذ مثل ما قلنا. روى الطبراني عن عبد الرحمن بن غنم قال: سألت معاذ بن جبل: أتسوك وأنا صائم؟ قال: نعم، قلت: أي النهار أتسوك؟، قال: أي النهار شئت، غدوة وعشية، قلت: إن الناس يكرهونه عشية ويقولون: إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فقال: سبحان الله! لقد أمرهم بالسواك وهو يعلم أنه لابد لفي الصائم خلوف وإن استاك. وما كان بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمدا، ما في ذلك من الخير شيء، بل إنما فيه شر، إلا من ابتلي ببلاء لا يجد منه بدا. (2) انتهى. قلت: إسناد هذا الأثر جيد كما صرح به الحافظ في التلخيص الحبير" (3) . قلت: بعد النظر في الأحاديث السابقة التي يتوهم تعارضها، تبين لي ما يلي: 1- أنها أحاديث ضعيفة، لا تسلم من مقال، لذا لم يحتج بها العلماء العارفون بالحديث.   (1) متفق عليه، رواه البخاري (4/103) ، ومسلم (8/29، 30) ، وغيرهما. (2) 14/473 (3) تحفة الأحوذي (2/47) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 2- أن الأصل في السواك الندب، لحديث"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (1) ، ولم يثبت حديث صحيح يخص الصائم عن غيره، لذا احتج كثير من العلماء بهذا العموم، وأسقطوا كل ما خالفه لعدم ثبوته. وقد ترجم البخاري في صحيح لهذه المسألة بقوله: "باب سواك الرطب واليابس للصائم"، ثم أورد فيه حديث عامر بن ربيعة تعليقاً بصيغة الجزم تنبيهاً على ضعفه، واستشهد على معناه بالعموم من أحاديث الندب، ثم استشهد على صحة مذهبه بالمضمضة، فلو كان السواك يكره لكرهت المضمضة. قال ابن المنير في حاشيته: "أخذ البخاري شرعية السواك للصائم بالدليل الخاص، ثم انتزعه من الأدلة العامة التي تناولت أحوال متناول السواك وأحوال ما يستدل به، ثم انتزع ذلك من أعم من السواك، وهو المضمضة، إذ هي أبلغ من السواك الرطب" (2) . 3- أن من قواعد الإسلام حرصه على نظافة المسلم في كافة أحواله، ومن هذه الأحوال: حرصه على نظافة فم المسلم بأن شرع له السواك. فإن كان حرص على تنظيف الأسنان وتطييب رائحة الفم، مع احتمال وجود الريح الكريهة منه حال الفطر؛ فمن باب أولى أن يحرص على تطييب رائحة الفم مع تأكد وجود الريح. وهذا الذي اخترته من عدم كراهة السواك للصائم؛ هو ما ذهب إليه جمهور العلماء. والله أعلم. الباب السادس: باب الحيض والاستحاضة. وفيه مباحث: المبحث الأول: ما يجوز الاستمتاع به من الحائض. المبحث الثاني: المستحاضة ترد إلى العادة أو إلى التمييز. المبحث الثالث: كيف تتطهر المستحاضة للصلاة.   (1) تقدم تخريجه ص (2) فتح الباري (4/158) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 المبحث الأول: ما يجوز الاستمتاع به من الحائض. ومن محاسن هذا الدين الخالد؛ حثه الناس أن يكونوا طاهرين في كل أحوالهم، ومناحي حياتهم، فهو دين الطهر والسمو والرفعة والنقاء، فإن أصيب المسلم أو المسلمة بنجاسة، كجنابة أو حيض أو غيرها؛ أمرا بالتطهر. وفي مبحثنا هذا ترد الآية الكريمة التي تحث على النظافة والطهر في حال الحيض وتأمر باعتزال النساء خلاله، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: " {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) . غير أن الفقهاء -رحمهم الله تعالى- اختلفوا في معنى الاعتزال، فمنهم من ذهب إلى أن المقصود به النهي عن الجماع، ويبيح الاستمتاع بما دون ذلك، كما ذهب فريق آخر إلى أن المقصود اعتزال ما تحت الإزار، ويبيح الاستمتاع بما فوقه. واعلم أن لكل فريق أحاديث استدلوا بها، ويرى الناظر فيها أنها تتعارض فيما بينها. أما أحاديث الفريق الأول، فمنها: 1- "اصنعوا كل شيء إلا النكاح". 2- عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوباً". وأما أحاديث الفريق الآخر، فمنها: عن عائشة قالت: "كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يباشرها أمرها أن تتزر فور حيضتها ثم يباشرها". ذكر ما استدل به على أن الرجل يجب أن يعتزل من زوجته الحائض موضع النكاح فقط: الحديث الأول:   (1) سورة البقرة الآية 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 عن أنس: "أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «اصْنَعُوا كُلَّ شيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ» . فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَقَالُوا مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلاَّ خَالَفَنَا فِيهِ فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. فَلاَ نُجَامِعُهُنَّ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا فَخَرَجَا فَاسْتَقْبَلَهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا. " (1) . الحديث الثاني: عن عكرمة عن بعض أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَرَادَ مِنَ الْحَائِضِ شَيْئًا أَلْقَى عَلَى فَرْجِهَا ثَوْبًا" (2) .   (1) أخرجه مسلم (3/211، 212) ، وأبو داود (1/67) و (2/250) ، والترمذي (5/214، 215) ، والنسائي (1/152) ،وابن ماجة (1/211) ، والدارمي (1/245) ، وأحمد (3/132، 246) ، والطيالسي ص373، والبيهقي (1/313) . (2) أخرجه أبو داود (1/71) ، والبيهقي (1/314) ، وابن الجوزي في التحقيق ص191 من طريق أبي داود به، قال ابن حجر في الفتح: إسناده قوي (1/404) ،وصححه الألباني في صحيح الجامع (18/439) قلت: الحديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ذكر ما استدل به على أن الرجل يجب أن يعتزل من زوجته الحائض ما تحت الإزار: عن عائشة قالت: "كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرُهَا قَالَتْ وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟. تَابَعَهُ خَالِدٌ وَجَرِيرٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ". (1) وجه التعارض: إن من يقرأ حديث "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" يجده يدل على أنه لا يحرم على الرجل من زوجته الحائض إلا موضع النكاح –أي الجماع- وهو الفرج، وما عداه فمباح له، ويدخل فيه الفخذان. وكذلك حديث "كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوباً" فهذا صريح في إباحة الفخذين في الاستمتاع. أما من يقرأ حديث عائشة "أمرها أن تتزر فور حيضتها ثم يباشرها" يجده يدل على أن الفخذين لا يجوز الاستمتاع بهما لأن الاتزار يكون ما بين السرة والركبة. وهذه المعان مختلفة، جمع بينها العلماء ودرؤوا تعارضها. أقوال العلماء في درء التعارض:   (1) أخرجه البخاري (1/403) ، ومسلم (3/203) ، وأبو داود (1/71) ، والترمذي (1/239) ، والنسائي (1/151) ، وابن ماجة (1/208) ، والدارمي (1/244) مختصرا، وأحمد (6/33، 72، 134، 143، 174، 189، 235) بعضها مطولا وبعضها مختصرا، والبيهقي (1/310، 311) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 1- ذهب ابن حزم إلى أن الرجل يحل له من امرأته الحائض كل شيء خلا الفرج، وذكر حديث أنس المتقدم، ثم قال: " فكان هذا الخبر بصحته وبيان أنه كان أثر نزول الآية هو البيان عن حكم الله تعالى في الآية، وهو الذي لا يجوز تعديه، وأيضا فقد يكون المحيض في اللغة موضع الحيض وهو الفرج، وهذا فصيح معروف، فتكون الآية حينئذ موافقة للخبر المذكور، ويكون معناها: فاعتزلوا النساء في موضع الحيض، وهذا هو الذي صح عمن جاء عنه في ذلك شيء من الصحابة -رضي الله عنهم، كما روينا عن أيوب السختياني عن أبى معشر عن إبراهيم النخعي عن مسروق قال: سألت عائشة: ما يحل لي من امرأتي وهى حائض؟ قالت كل شيء إلا الفرج، وعن علي بن أبى طلحة عن ابن عباس (فاعتزلوا النساء في المحيض) قال: اعتزلوا نكاح فروجهن، وهو قول أم سلمة أم المؤمنين ومسروق والحسن وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي، وهو قول سفيان الثوري ومحمد بن الحسن والصحيح من قول الشافعي، وهو قول داود وغيره من أصحاب الحديث. قال أبو محمد: وقال من لا يبالي بما أطلق به لسانه: إن حديث عمر (1) -الذي لا يصح- ناسخ لحديث أنس - الذي لا يثبت غيره في معناه - قال: لأن حديث أنس كان متصلا بنزول الآية.   (1) حديث عمر هو "سألت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما يحل للرجل من امرأته حائضا؟ قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: لك ما فوق الإزار لا تطلعن إلى ما تحته حتى تطهر"، وأعله ابن حزم بأن أبا إسحاق لم يسمعه من عمير مولى عمر. 2/180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قال علي: وهذا هو الكذب بعينه وقفو مالا علم له به، ولو صح حديث عمر فمن له أنه كان بعد نزول الآية؟ ولعله كان قبل نزولها! فإذ ذلك ممكن هكذا فلا يجوز القطع بأحدهما، ولا يجوز ترك يقين ما جاء به القرآن وبينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اثر نزول الآية لظن كاذب في حديث لا يصح، مع أن الحديثين الثابتين اللذين رويناهما: أحدهما عن الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم بن محمد عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ناوليني الخمرة من المسجد، قالت فقلت: إنني حائض، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن حيضتك ليست في يدك" (1) ، وروينا الآخر من طريق يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان وأبي حازم عن أبي هريرة: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في المسجد فقال: يا عائشة ناوليني الثوب فقالت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك"، فهما دليل أن لا يجتنب إلا الموضع الذي فيه الحيضة وحده (2) . 2- ذكر ابن عبد البر هذه الأحاديث وما في معناها ودرأ تعارضها بقوله: " يحتمل أن يكون قوله -صلى الله عليه وسلم- بمباشرة الحائض وهي متزرة على الاحتياط، والقطع للذريعة، ولو أنه أباح فخذها كان ذلك ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع، فنهى عن ذلك احتياطا، والمحرم بعينه موضع الأذى، ويشهد لهذا ظاهر القرآن، وإجماع معاني الآثار لئلا يتضاد وبالله التوفيق" (3) .   (1) رواه مسلم (3/209) ، وأبو داود (1/68) ، والترمذي (1/241) ، والنسائي (1/146) ، وغيرهم. (2) المحلى (2/82-84) . (3) التمهيد (3/174) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 3- قال ابن قدامة: "الاستمتاع من الحائض بما فوق السرة وتحت الركبة جائز بالإجماع والنص، والوطء في الفرج محرم بهما، والاختلاف في الاستمتاع بما بينهما مذهب إمامنا -رحمه الله- جوازه، وهو قول عكرمة وعطاء والشعبي والثوري وإسحاق، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يباح، لأن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض. رواه البخاري ومسلم بمعناه. وعن عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال " ما فوق الإزار " رواه البيهقي. ولنا قول الله تعالى (فاعتزلوا النساء في المحيض) وهو اسم لمكان الحيض كالمقيل والمبيت، فتخصيصه موضع الدم بالمنع يدل على إباحته فيما عداه، فإن قيل بل المحيض الحيض، بدليل قوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) ، والأذى هو الحيض، وقوله تعالى (واللائي يئسن من المحيض) وإنما يئسن من الحيض. قلنا يمكن حمله على ما ذكرنا وهو أولى لوجهين: (أحدهما) أنه لو أراد الحيض لكان أمرا باعتزال النساء في مدة الحيض بالكلية ولا قائل به، (الثاني) أن سبب نزول الآية: أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة اعتزلوها فلم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يجتمعوا معها في البيت، فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فنزلت هذه الآية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " اصنعوا كل شيء غير النكاح " رواه مسلم. وهذا تفسير لمراد الله تعالى، لأنه لا تتحقق مخالفة اليهود بإرادة الحيض لأنه لا يكون موافقا لهم، ومن السنة هذا الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وعن عكرمة عن بعض أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها خرقة. رواه أبو داود. ولأنه وطء منع للأذى، فاختص بمحله كالدبر. وحديث عائشة ليس فيه دليل على تحريم ما تحت الإزار، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد يترك بعض المباح تقذراً، كتركه أكل الضب. والحديث الآخر يدل بالمفهوم، والمنطوق راجح عليه" (1) . 4- ذكر البيهقي أحاديث مباشرة الحائض فيما فوق الإزار، ثم ذكر بعدها أحاديث المباشرة فيما خلا الفرج، ثم قال: "والأحاديث التي مضت في الباب الأول أصح وأبين، ويحتمل أن يكون المراد بما عسى أن يصح من هذه الأحاديث ما هو مبين في تلك الأحاديث. والله أعلم" (2) .   (1) الشرح الكبير (1/157، 158) . (2) السنن الكبرى (1/314) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 5- قال النووي من الشافعية: " (أما) حكم المسألة: ففي مباشرة الحائض بين السرة والركبة ثلاثة أوجه: أصحها عند جمهور الأصحاب أنها حرام، وهو المنصوص للشافعي -رحمه الله- في الأم والبويطي وأحكام القرآن، قال صاحب الحاوي: وهو قول أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة، وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات، واحتجوا له بقوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض) وبالحديث المذكور، ولأن ذلك حريم للفرج، ومن يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى. وأجاب القائلون بهذا عن حديث أنس المذكور بأنه محمول على القبلة ولمس الوجه واليد ونحو ذلك، مما هو معتاد لغالب الناس، فإن غالبهم إذا لم يستمتعوا بالجماع استمتعوا بما ذكرناه، لا بما تحت الإزار. والوجه الثاني: أنه ليس بحرام، وقال به جماعة. وهو الأقوى من حيث الدليل، لحديث أنس -رضي الله عنه-، فإنه صريح في الإباحة. وأما مباشرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فوق الإزار فمحمولة على الاستحباب، جمعا بين قوله -صلى الله عليه وسلم- وفعله، وتأول هؤلاء الإزار في حديث عمر -رضي الله عنه- على أن المراد به الفرج بعينه، ونقلوه عن اللغة وأنشدوا فيه شعرا، وليست مباشرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فوق الإزار تفسيرا للإزار في حديث عمر -رضي الله عنه-، بل هي محمولة على الاستحباب كما سبق. والوجه الثالث: إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه عن الفرج لضعف شهوة، أو شدة ورع؛ جاز، وإلا فلا. وهذا الوجه حسن" (1) .   (1) المجموع شرح المهذب (2/362-364) وينظر شرحه على مسلم (3/205) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 6- قال ابن حجر: " وذهب كثير من السلف والثوري وأحمد وإسحاق إلى أن الذي يمتنع من الاستمتاع بالحائض الفرج فقط، وبه قال محمد بن الحسن من الحنفية ورجحه الطحاوي، وهو اختيار أصبغ من المالكية، وأحد القولين أو الوجهين للشافعية واختاره ابن المنذر. وقال الثوري النووي: هو الأرجح دليلا لحديث أنس في مسلم: "اصنعوا كل شيء إلا الجماع " وحملوا حديث الباب وشبهه على الاستحباب جمعا بين الأدلة. وقال ابن دقيق العيد: ليس في حديث الباب ما يقتضي منع ما تحت الإزار لأنه فعل مجرد. انتهى. ويدل على الجواز أيضا ما رواه أبو داود بإسناد قوي عن عكرمة عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا، واستدل الطحاوي على الجواز بأن المباشرة تحت الإزار دون الفرج لا توجب حدا ولا غسلا فأشبهت المباشرة فوق الإزار. وفصل بعض الشافعية فقال: إن كان يضبط نفسه عند المباشرة عن الفرج ويثق منها باجتنابه جاز وإلا فلا، واستحسنه النووي. ولا يبعد تخريج وجه مفرق بين ابتداء الحيض وما بعده لظاهر التقييد بقولها " فور حيضتها"، ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن أم سلمة أيضا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتقي سورة الدم ثلاثا ثم يباشر بعد ذلك، ويجمع بينه وبين الأحاديث الدالة على المبادرة إلى المباشرة على اختلاف هاتين الحالتين" (1) .   (1) فتح الباري (1/404) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 7- قال الشوكاني: "الحديث الأول يدل على جواز الاستمتاع من غير تخصيص بمحل دون محل من سائر البدن غير الفرج، لكن مع وضع شيء على الفرج يكون حائلا بينه وبين ما يتصل به من الرجل، والحديث الثاني يدل على جواز الاستمتاع بما عدا الفرج، والحديث الثالث يدل على جواز الاستمتاع بما فوق الإزار من الحائض، وعدم جوازه بما عداه، فمن أجاز التخصيص بمثل هذا المفهوم خصص به عموم "كل شيء" المذكور في حديث أنس وعائشة، ومن لم يجوز التخصيص به فهو لا يعارض المنطوق الدال على الجواز" (1) . قلت: والذي يترجح عندي أنه يجوز أن يستمتع الرجل من امرأته الحائض بكل شيء إلا موضع الأذى، وهو الفرج، وذلك ثابت بالدليل الصحيح، وموافق لكتاب الله، حيث علل الاعتزال في الآية بالأذى، ومعلوم أن الأذى لا يعدو الفرج إذا شدت المرأة عليه بإزار ونحوه، وما ورد من أحاديث تفيد الاستمتاع بما فوق الإزار فلا تعارض حديث أنس وما في معناه، وذلك لأمور: 1- أنه يمكن الجمع بين الأحاديث بأنه يجوز الأمران، فإذا بين إباحة شيء فلا يعني أنه لا يباح أكثر منه. 2- أنه يجوز أن يكون الإزار الوارد في الحديث الآخر ما يغطي الفرج وما حوله، ولا يغطي الفخذين بكاملهما، وذلك يدل عليه حديث ميمونة فيما رواه أبو داود بسنده عنها، قالت: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها الإزار إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجر به" (2) . ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أنه يجوز الاستمتاع بما فوق الركبة، والله أعلم.   (1) نيل الأوطار (1/350) . (2) (1/450) من عون المعبود، والحديث صححه ابن القيم في تهذيب معالم السنن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 المبحث الثاني: المستحاضة ترد إلى العادة أو إلى التمييز. وفي هذا الباب مسألة تحير فيها كثير من العلماء فضلا عن الطلبة الباحثين، فجاءت أحكام متشعبة، وتعددت المسائل بما لم يتفق الفقهاء فيها على حكم، فأصبح نيل الجواب على هذه المسألة عسيرا جدا، بل لا سبيل لمعرفة جواب صحيح إلا بالنظر في سبب هذا الخلاف ودراسته والوقوف على آراء العلماء المجتهدين الذين جمعوا الأحاديث في هذه المسألة ودرسوها، وعرفوا وجه دلالتها، فنفوا التعارض عنها، وجمعوا بين مختلفها، فأزالوا إشكالها، فهي تبدو للقارئ متعارضة مختلفة، فمنها ما يقضي بأن الواجب على المستحاضة الرجوع إلى عادتها إذا زاد الدم عن مدة الحيض المعتادة، ومنها ما يقضي بأن الواجب على المستحاضة الرجوع إلى العمل بصفة الدم. فأما ما يقضي بالرجوع إلى العادة فأحاديث، منها: ما ورد عن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغسلي وصلي. وأما ما يقضي بالرجوع إلى العمل بصفة الدم فحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي". ذكر ما استدل به على أن المستحاضة إذا كانت لها أيام معروفة ردت إلى أيامها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 عن عائشة: "أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فَقَالَ لَا إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي" (1) . ذكر ما استدل به على أن المستحاضة ترد إلى التمييز: عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي –صلى الله عليه وسلم-: " إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلاَةِ فَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي" (2) . وجه التعارض: إن من يقرأ حديث فاطمة بنت أبي حبيش وفيه "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي" يجد أن هذا الحديث عدَّ أيام الحيض المعتادة ولم يراع تميز الدم ولونه. فعليه إذا انتهت أيام الحيض المعتادة اغتسلت وصلت، سواء كان الدم متغيراً أم كان على حاله. أما حديث فاطمة الآخر وفيه "إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي"، فمن يقرأه يجده راعى تغير الدم فجعله هو المميز بين الحيض والاستحاضة، ولم يراع أيام الحيض المعتادة. وهذان معنيان متضادان مختلفان، نحتاج إلى توفيق بينهما، وللعلماء في ذلك أقوال. أقوال العلماء في درء التعارض:   (1) أخرجه البخاري (1/425، 420، 409) ، ومسلم (3/17، 26) ، وأبو داود (1/74) ، والترمذي (1/217) ، والنسائي (1/117) ، وابن ماجة (1/115، 116) ، والدارمي (1/199) ، ومالك (1/61) ، وأحمد (6/204، 262) . (2) أخرجه أبو داود (1/82، 57) ، والنسائي (1/85، 123) ، والحاكم (1/174) ، وابن حبان (2/318) ، والدارقطني (1/206، 207) ، والبيهقي (1/325) ، قال الألباني: حسن (إرواء الغليل 1/224) ، قلت: والحديث حسن، وله شواهد عن ابن عباس وأبي أمامة الباهلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 اختلف الفقهاء في هذه المسألة اختلافاً كبيراً، وذلك لاختلاف الأحاديث فيها، فأخذ فريق بأحاديث العادة وجعلوها أصلا، وأخذ فريق بأحاديث التمييز وجعلوها أصلا، وفرعوا في المسألة تفاريع ليس هذا محلها، وإنما أذكر هنا مذهب كل من استند على هذه الأحاديث التي أسلفناها، وأعرض عن غيرها مما استند فيها على الرأي، أو حدت حدود لم تكن في كتاب ولا سنة. 1- ذهب الحنفية إلى اعتبار العادة، ولم يعتبروا التمييز، إلا أنهم حدوا العادة بعشرة أيام، فلو أن معتادة تحيض عشرة أيام، إن زادت عن ذلك فهو استحاضة، وإن كان دما أسودَ. أما إن كانت معتادة تحيض خمسة أيام وزادت عن ذلك فهو حيض، وإن تميز اللون، حتى تنتهي العشرة أيام، فإن زاد الدم عن عشرة أيام فعادتها حيض، وما زاد استحاضة، أي تكون عادتها خمسة الأيام وما زاد فحيض. (1) والحنفية في تحديدهم الحيض بعشرة أيام قد اعتمدوا على أحاديث منها: عن أنس –رضي الله عنه- قال: أدنى الحيض ثلاثة، وأقصاه عشرة (2) ،وفي إسناده الجلد بن أيوب ضعفه الناس. * عن أبي أمامة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: أقل الحيض ثلاث وأكثره عشر. (3) وفيه عبد الملك الكوفي عن العلاء بن كثير لا يدرى من هو (4) . * عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام" (5) .   (1) ينظر بدائع الصنائع/ للكاساني (1/41) ، وإعلاء السنن/للعثماني (1/247-249) ، ومختصر الطحاوي ص22. (2) أخرجه الدارقطني (1/209) . (3) رواه الطبراني في الكبير7/138، والأوسط1/189، وفي مسند الشاميين 2/370 و4/317.قال الألباني ضعيف،منكر (سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/600) (4) قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (1/116) . (5) رواه الدارقطني (1/181) وقال: ابن المنهال مجهول، ومحمد بن أحمد بن أنس ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 2- أما المالكية فيعتبرون التمييز، ولو كان بعد الطهر، وذلك إن وجد التمييز، وإن لم يوجد فتحيض خمسة عشر يوماً (1) . 3- وحكى النووي مذهب الشافعية فقال: "مذهبنا أن العادة إذا انفردت عمل بها، وإذا انفرد التمييز عمل به، وإذا اجتمعا قدم التمييز على الصحيح" (2) . 4- ومذهب الإمام أحمد كمذهب الشافعي، إلا أنه يقدم العادة إذا اجتمعا. فإذا كانت المستحاضة لها عادة تعرفها، ولم يكن لها تمييز؛ فإنها تجلس العادة بلا نزاع، وإن كان لها تمييز يصلح أن يكون حيضا ولم يكن لها عادة، أو كان لها عادة ونسيتها؛ عملت بالتمييز بلا نزاع. وتارة يختلفان، إما بمداخلة بعض أحدهما في الآخر، أو مطلقاً، فالصحيح من المذهب أنها تجلس العادة، وعليه جماهير الأصحاب، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، وعنه يقدم التمييز، وهو اختيار الخرقي" (3) . هذا موجز مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة. وقد جمع بعض العلماء بين الأحاديث بما يوفق بينهما ويعملهما دون إبطال أي منهما.   (1) ينظر مختصر خليل ص 19، 20. (2) المجموع شرح المذهب (2/432) . (3) الإنصاف/ المرداوي (1/365) بتصرف، وينظر الروض المربع لابن قدامة (1/388-390) .ومنار السبيل 1/59 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 قال ابن دقيق العيد في شرحه لحديث فاطمة بنت أبي حبيش الدال على العادة "في رواية" وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي، قال: (قوله "فإذا أقبلت" تعليق الحكم بالإقبال والإدبار، فلابد أن يكون معلوماً لها بعلامة تعرفها، فإن كانت مميزة وردت إلى التمييز، فإقبالها بدء الدم الأسود، وإدبارها: إدبار ما هو بصفة الحيض، وإن كانت معتادة وردت إلى العادة، فإقبالها: وجود الدم في أول أيام العادة، وإدبارها: انقضاء أيام العادة" (1) . وعلق الصنعاني على رواية أبي داود "دم الحيض أسود يعرف" بما يزيل التعارض والإشكال فقال: اعلم أن من جمع الرواية للصفة والعادة إشارة إلى أنهما لا يكادان يفترقان، وأن الصفة لا تكون إلا في عادة الحيض، وأنها كلما وجدت وجد الحيض، وكلما فقدت فقد، وأن التعليل على الصفة في الحيض والاستحاضة، لكنه إنما احتيج إلى بيانها في الاستحاضة لأنها محل إشكال، وأن استمرار الدم مع فقد الصفة بمنزلة أيام النقاء ممن ليست بها استحاضة (2) . وجمع الخطابي بين الأحاديث بأن المصير إلى العادة إذا لم يتميز الدم، فإن تميز فالمصير إليه، واستدل بما رواه أبو داود "إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود..الحديث..".   (1) العدة حاشية الصنعاني على إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/477، 278) .وأنو إلى أن المقصود المستحاضة التي يطول بها نزول الدم لا الحائض التي لا ينتابها استحاضة فإنها تعتبر الحيض بأول علاماته سواء كان كدرة أو خيطا أو دما، وتبقى في حكم الحيض حتى ينقطع وترى القصة البيضاء. (2) العدة/ الصنعاني (1/479) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قال: فهذا يبين لك أن الدم إذا تميز كان الحكم له، وإن كانت لها أيام معلومة، واعتبار الشيء بذاته وبخاص صفاته أولى من اعتباره بغيره من الأشياء الخارجة عنه، فإذا عدمت التمييز (1) فالاعتبار للأيام. على معنى حديث أم سلمة، أي حديث عائشة المتقدم عند البخاري. (2) قال الشوكاني: "والأحاديث الصحيحة منها ما يقضي بأن الواجب عليها الرجوع إلى العمل بصفة الدم، ومنها ما يقضي باعتبار العادة، ويمكن الجمع بأن المراد بقوله: "أقبلت حيضتك"الحيضة التي تتميز بصفة الدم، أو يكون المراد بقوله:"إذا أقبلت الحيضة"في حق المعتادة والتمييز بصفة الدم في حق غيرها، وينبغي أن يعلم أن معرفة إقبال الحيضة قد يكون بمعرفة العادة، وقد يكون بمعرفة دم الحيض وقد يكون بمجموع الأمرين ... ".   (1) يكون التمييز ياللون وثخونة الدم والريح فإن دم الحيض له نتنبخلاف دم الاستحاضة فريحه ريح الدم المسفوح وقد جاء ذكر معرفة الحيضة بريح الدم فيما رواه الطبراني في الكبير 11/208 عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن للحائض دفعات ولدم الحيض ريح ليس لغيره فإذا ذهب قرء الحيض فلتغتسل إحداكن ثم لتغسل عنها الدم) لكنه ضعيف لأجل حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس متروك (الضعفاء والمتروكين للنسائي 1/33) (2) معالم السنن (1/182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قال: "وقد أطال المصنفون في الفقه الكلام في المستحاضة، واضطربت أقوالهم اضطرابا يبعد فهمه على أذكياء الطلبة، فما ظنك بالنساء الموصوفات بالعي في البيان والنقص في الأديان، وبالغوا في التعسير حتى جاؤوا بمسألة المتحيرة فتحيروا، والأحاديث الصحيحة قد قضت بعدم وجودها، لأن حديث الباب ظاهر في معرفتها إقبال الحيضة وإدبارها، وكذا الحديث الآخر في الباب، فإنه صريح في أن دم الحيض يعرف ويتميز عن دم الاستحاضة، فطاحت مسألة المتحيرة ولله الحمد، ولم يبق ههنا ما يستصعب إلا ورود بعض الأحاديث الصحيحة بالإحالة على صفة الدم، وبعضها بالإحالة على العادة، وقد عرفت إمكان الجمع بينها بما سلف" (1) . قلت: وبعد هذا البيان من الإمام الشوكاني، لم يبق إشكال في هذه الأحاديث، واختفى التعارض عنها، وهذا الذي ذهب إليه هو الذي أراه صواباً. ... والله أعلم. المبحث الثالث: كيف تتطهر المستحاضة للصلاة. ويتعارض في هذا المبحث أحاديث في مسألة تطهر المستحاضة للصلاة، وتختلف أقوال الفقهاء بحسب هذه الأحاديث، فمن الفقهاء من يوجب على المستحاضة الاغتسال عند كل صلاة. وفريق ثان يوجب عليها أن تغتسل لكل صلاتين تجمعان غسلا، وتفرد للفجر غسلا. وفريق ثالث يوجب على المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة. ولكل فريق أحاديث يحتج بها ويعارض بها الفريق الآخر. فمن الأحاديث التي يحتج بها الفريق الأول: حديث عائشة -رضي الله عنها- "أن أم حبيبة بنت جحش، استحيضت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمرها بالغسل لكل صلاة".   (1) نيل الأوطار (1/339، 240) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 ومن الأحاديث التي يحتج بها الفريق الثاني: حديث عائشة –رضي الله عنها- قالت: " استحيضت امرأة على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر وتغتسل لهما غسلا، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلاً، وتغتسل لصلاة الصبح غسلا، فقلت لعبد الرحمن: أعن النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ قال: لا أحدثك إلا عن النبي –صلى الله عليه وسلم- بشيء. ومن الأحاديث التي يحتج بها الفريق الثالث حديث فاطمة بنت أبي حبيش: أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي –صلى الله عليه وسلم-:"إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي". فهذه الأحاديث تشكل على القارئ ويظن تعارضها. ذكر ما استدل به على أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة: عن عائشة: "أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ اسْتُحِيضَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَهَا بِالْغُسْلِ لِكُلِّ صَلاَةٍ" (1) . ذكر ما استدل به على أن المستحاضة تجمع بين الصلاتين وتغتسل لهما غسلاً:   (1) أخرجه أبو داود (1/77) ، والدارمي (1/198) ، وأحمد (6/237) ، والطحاوي (1/98) ، والبيهقي (1/349) ، وأبو عوانة (1/323) ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/2) ، والحديث حسن لغيره بشواهده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 عن عائشة قالت: "اسْتُحِيضَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأُمِرَتْ أَنْ تُعَجِّلَ الْعَصْرَ وَتُؤَخِّرَ الظُّهْرَ وَتَغْتَسِلَ لَهُمَا غُسْلاً. وَأَنْ تُؤَخِّرَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلَ الْعِشَاءَ وَتَغْتَسِلَ لَهُمَا غُسْلاً وَتَغْتَسِلَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ غُسْلاً. فَقُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَعَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لاَ أُحَدِّثُكَ (إلا) عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- بِشَيءٍ. (1) ذكر ما استدل به على أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة: عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي –صلى الله عليه وسلم-: " إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلاَةِ فَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي" (2) وجه التعارض: إن من يقرأ حديث عائشة "أن أم حبيبة استحيضت في عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأمرها بالغسل لكل صلاة" يجده يدل على أن الغسل لكل صلاة واجب على المستحاضة حيث أمرها بذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والأمر يدل على الوجوب. ومن يقرأ حديثها الثاني وفيه "فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر، وتغتسل لهما غسلا، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا، وتغتسل لصلاة الصبح غسلا" يجده يدل على وجوب الغسل ثلاث مرات للمستحاضة في اليوم والليلة على ما فصل في الحديث وهذا يخالف معنى الحديث الأول. وأما معنى الحديث الثالث فهو يخالف هذين الحديثين، فإن فيه الأمر بالوضوء عند كل صلاة، وليس فيه الأمر بالغسل.   (1) أخرجه أبو داود (1/79) ، والنسائي (1/184، 200) ، وأحمد (6/172) ، والطيالسي ص201، والبيهقي (1/352) ، والطحاوي (1/100) ، وعبد الرزاق (1/308) ،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داوود (1/2) قلت: هو حديث صحيح. (2) سبق تخريجه ص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فهذه معان مختلفة، وتختلف باختلافها الأحكام، ولذا تناولها العلماء بالبحث، فكان لهم فيها أقوال بينوا بها كيف يمكن أن يدرأ هذا الاختلاف عن هذه الأحاديث. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- ذهب الحنفية إلى أن المستحاضة يجب عليها الوضوء لوقت كل صلاة، وقد درأ الطحاوي –رحمه الله- التعارض بين هذه الأحاديث، في كتابه الكبير شرح معاني الآثار، فذكر حديث عائشة –رضي الله عنها- عن أم حبيبة، وفيه "فأمرها رسول الله –صلى الله عليه وسلم بالغسل لكل صلاة" ثم قال: "فذهب قوم إلى أن المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل لكل صلاة، واحتجوا في ذلك بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المروي في هذه الآثار، وبفعل أم حبيبة -رضي الله عنها- بنت جحش على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما نقلته عائشة –رضي الله عنها- بقولها "فكانت أم حبيبة –رضي الله عنها- تغتسل لكل صلاة"، وكذا قال علي وابن عباس –رضي الله عنهما- من بعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وأفتيا به. فجعل أهل هذه المقالة على المستحاضة أن تغتسل لكل صلاة. وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: الذي يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا تصلي به الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا تصليهما به، فتؤخر الأولى منهما وتقدم الآخرة، كما فعلت في الظهر والعصر وتغتسل للصبح غسلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وذهبوا في ذلك إلى حديث عائشة أن امرأة استحيضت على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر، وتغتسل لهما غسلا..الحديث، قالوا: فبهذا نأخذ وهو أولى من الآثار الأول التي فيها ذكر الأمر بالغسل لكل صلاة، ولأنه قد روى ما يدل على أن هذا ناسخ لذلك، فذكروا حديث عائشة بسنده قالت: إنما هي سهلة ابنة سهيل بن عمرو، استحيضت وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما أجهدها ذلك أمرها أن تجمع الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد، وتغتسل للصبح. (1) قالوا: فدل ذلك على أن هذا الحكم ناسخ للحكم الذي في الآثار الأول، لأنه إنما أمر به بعد ذلك، فصار القول به أولى من القول بالآثار الأول. قالوا وقد روى ذلك أيضا عن علي وابن عباس –رضي الله عنهما-، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: تدع المستحاضة الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي. واحتجوا بحديث فاطمة بنت أبي حبيش. قالوا: وقد روي ذلك أيضا عن علي–رضي الله عنه- مثل ذلك. قال الطحاوي (2) : "فأردنا أن ننظر في ذلك –أي تعارض هذه الأحاديث- لنعلم ما الذي ينبغي أن يعمل به من ذلك؟. فكان ما روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر أم حبيبة -رضي الله عنها- بنت جحش بالغسل عند كل صلاة. فقد ثبت نسخ ذلك بما قد رويناه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمر سهلة بنت سهيل فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أمرها بالغسل لكل صلاة, فلما أجهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل وبين المغرب والعشاء بغسل وتغتسل للصبح غسلا. فكان ما أمرها به من ذلك ناسخا لما كان أمرها به قبل ذلك من الغسل لكل صلاة."   (1) تقدم الكلام عليه ص (2) شرح معاني الآثار/ الطحاوي (1/100-107) اختصرته لطوله وأوردت موارد درء التعارض وأوجه الجمع التي نحا إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وله وجه آخر من الجمع وهو التفريق بين دم الاستحاضة كثرة وقلة، حيث قال: "وكان حديث عائشة -رضي الله عنها- هو الذي ليس فيه ذكر الأقراء، إنما فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين بغسل، على ما في ذلك الحديث، ولم يبين أي مستحاضة هي، فقد وجدنا استحاضة؛ قد تكون على معاني مختلفة فمنها أن يكون مستحاضة قد استمر بها الدم وأيام حيضها معروفة لها، فسبيلها أن تدع الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل وتتوضأ بعد ذلك. ومنها أن يكون مستحاضة لأن دمها قد استمر بها فلا ينقطع عنها وأيام حيضها قد خفيت عليها فسبيلها، أن تغتسل لكل صلاة، لأنها لا يأتي عليها وقت إلا احتمل أن تكون فيه حائضا أو طاهرا من حيض أو مستحاضة فيحتاط لها فتؤمر بالغسل. ومنها أن تكون مستحاضة قد خفيت عليها أيام حيضها، ودمها غير مستمر بها ينقطع ساعة ويعود بعد ذلك، هكذا هي في أيامها كلها. فتكون قد أحاط علمها أنها في وقت انقطاع دمها إذا اغتسلت حينئذ غير طاهر من حيض طهرا يوجب عليها غسلا، فلها أن تصلي في حالها تلك ما أرادت من الصلوات بذلك الغسل إن أمكنها ذلك. فلما وجدنا المرأة قد تكون مستحاضة بكل وجه من هذه الوجوه التي معانيها مختلفة، وأحكامها مختلفة، واسم المستحاضة يجمعها، ولم نجد في حديث عائشة -رضي الله عنها- ذلك بيان استحاضة تلك المرأة التي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لها بما ذكرنا أي مستحاضة هي؛ لم يجز لنا أن نحمل ذلك على وجه من هذه الوجوه دون غيره إلا بدليل يدلنا على ذلك. فنظرنا في ذلك هل نجد فيه دليلا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ثم ذكر بإسناده عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت في المستحاضة "تدع الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل غسلا واحدا وتتوضأ عند كل صلاة"، فلما روي عن عائشة- رضي الله عنها- ما ذكرنا من قولها الذي أفتت به بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان ما ذكرنا من حكم المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة، وما ذكرنا أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، وما ذكرنا أنها تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة، -وقد روي ذلك كله عنها-؛ ثبت بجوابها ذلك أن ذلك الحكم هو الناسخ للحكمين الآخرين، لأنه لا يجوز عندنا عليها أن تدع الناسخ وتفتي بالمنسوخ، ولولا ذلك لسقطت روايتها. فلما ثبت أن هذا هو الناسخ لما ذكرنا، وجب القول به، ولم يجز خلافها." وله رحمه الله وجه آخر درأ به التعارض وهو الجمع بين الروايات واعتبارها أحوالا مختلفة حيث قال: "وقد يجوز في هذا وجه آخر: يجوز أن يكون ما روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فاطمة بنت أبي حبيش لا يخالف ما روي عنه في أمر سهلة بنت سهيل، لأن فاطمة بنت أبي حبيش كانت أيامها معروفة، وسهلة كانت أيامها مجهولة، إلا أن دمها ينقطع في أوقات ويعود في أوقات، وهي قد أحاط علمها أنها لم تخرج من الحيض بعد غسلها إلى أن صلت الصلاتين جميعا. فإن كان ذلك كذلك فإنا نقول بالحديثين جميعا، فنجعل حكم حديث فاطمة على ما صرفناه إليه، ونجعل حكم حديث سهلة على ما صرفناه أيضا إليه. وأما حديث أم حبيبة -رضي الله عنها-، فقد روي مختلفا، فقد يجوز أن يكون أمرها بذلك ليكون ذلك الماء علاجا لها، لأنها تقلص الدم في الرحم، فلا يسيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وبعضهم يرويه عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل لكل صلاة. فإن كان ذلك كذلك فقد يجوز أن يكون أراد به العلاج، وقد يجوز أن يكون أراد به ما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا، لأن دمها سائل دائم السيلان، فليست صلاة إلا يحتمل أن تكون عندها طاهرا من حيض ليس لها أن تصليها إلا بعد الاغتسال، فأمرها بالغسل لذلك. فإن كان هذا هو معنى حديثها؛ فإنا كذلك نقول أيضا فيمن استمر بها الدم ولم تعرف أيامها. فلما احتملت هذه الآثار ما ذكرنا، وروينا عن عائشة -رضي الله عنها- من قولها بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما وصفنا؛ ثبت أن ذلك هو حكم المستحاضة التي لا تعرف أيامها، وثبت أن ما خالف ذلك مما روي عنها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مستحاضة استحاضتها غير استحاضة هذه، أو في مستحاضة استحاضتها مثل استحاضة هذه، إلا أن ذلك على أي المعاني كان. فما روي في أمر فاطمة ابنة أبي حبيش أولى، لأن معه الاختيار من عائشة له بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد علمت ما خالفه وما وافقه من قوله، وكذلك أيضا ما رويناه عن علي -رضي الله عنه- في المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة، وما رويناه عنه أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، وما رويناه عنه أنها تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة؛ إنما اختلفت أقواله في ذلك لاختلاف الاستحاضة التي أفتى فيها بذلك. وأما ما رووا عن أم حبيبة -رضي الله عنها- في اغتسالها لكل صلاة، فوجه ذلك عندنا أنها كانت تتعالج به.". (1)   (1) شرح معاني الآثار/ الطحاوي (1/100-107) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 2- ذهب المالكية إلى أنه على المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة، وذلك استحبابا لا إيجابا. كما ذكره ابن رشد عن المالكية، وذكر مذاهب العلماء في هذه المسألة، وجعل سبب الخلاف هو اختلاف الأحاديث فقال: "في المسألة بالجملة أربعة أقوال: قول إنه ليس عليها إلا طهر واحد فقط عند انقطاع دم الحيض، وقول: إن عليها الطهر لكل صلاة. وقول إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة، وقول إن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة. والسبب في اختلافهم في هذه المسألة: هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث: واحد منها متفق على صحته، وثلاثة مختلف فيها ... "وذكر أالأحاديث في ذلك على ما تقدم ثم ذكر وجه الجمع بين الأحاديث قال: "وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع، فقالوا: إن حديث فاطمة ابنة أبي حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة، وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك، فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطا للصلاة، وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت، فيجب عليها تغتسل لكل صلاة. وأما حديث أسماء ابنة عميس فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة، إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات، فهذه إذا انقطع عنها الدم وجب عليها أن تغتسل، وتصلي بذلك الغسل صلاتين، وهنا قوم ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة وأسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش وفيه: "أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خيرها"، وهؤلاء منهم من قال: إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضتها، ومنهم من قال: بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة، وهذا هو قول خامس في المسألة، إلا أن الذي في حديث حمنة ابنة جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد، وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة، فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك، ولست أعلم في ذلك أثرا." (1) 3- وذهب الشافعية إلى أن المستحاضة لا يجب عليها الغسل إلا مرة واحدة بعد انقضاء حيضها، أما الصلاة فيجب عليها أن تتوضأ لكل فريضة. وضعفوا أحاديث الأمر بالغسل لكل صلاة، قال ابن حجر: "حكم دم الاستحاضة حكم الحدث، تتوضأ لكل صلاة، لكنها لا تصلي بذلك الوضوء أكثر من فريضة واحدة مؤداة، لظاهر قوله: "ثم توضئي لكل صلاة" (2) . 4- وذهب الحنابلة إلى وجوب الوضوء على المستحاضة لدخول وقت كل صلاة، ويستحب غسل المستحاضة لكل صلاة. وسبب ذهابهم إلى الاستحباب فعل أم حبيبة –رضي الله عنها- (3) . فالجمهور على القول بالوضوء لكل صلاة وليس منهم من يوجب الغسل. وخالفهم الإمام ابن حزم حيث أوجب على المستحاضة الغسل والوضوء لكل صلاة، أو الغسل والوضوء لكل صلاتين، فتغتسل وتتوضأ للظهر وتتوضأ للعصر، وتغتسل وتتوضأ للمغرب وتتوضأ للعشاء وتغتسل وتتوضأ للصبح. وذلك لأنه يرى صحة أحاديث الأمر بالغسل، بل يجعلها نقلا متواتراً يوجب العلم (4) . قلت: بعد ما تقدم من الدراسة لهذه الأحاديث والنظر في أقوال العلماء في درء تعارضها تبيت لي ما يلي: 1- أن حديث أم حبيبة منسوخ، وحديث عائشة صريح بنسخه، فلم يعد هناك تعارض بين حديث أم حبيبة والحديث الآخر. 2- أن حديث فاطمة صريح في عدم وجوب الغسل إلا مرة واحدة، وهي عند الطهر، أما عند الصلاة فالواجب الوضوء فقط، أما ذكر الغسل بعد الطهر فلم يذكر في حديثها –رضوان الله عليها-، وذلك لعلم الرسول –صلى الله عليه وسلم- بعدم خفاء ذلك عليها، وإنما بين لها ما خفي عليها وهو ماذا يجب عليها لكل صلاة، فأمرها بالوضوء.   (1) بداية المجتهد لابن رشد (1/60-63) . بتصرف (2) فتح الباري (1/409، 410) . (3) حاشية الروض المربع لابن قاسم (1/400-402) بتصرف. (4) المحلى (1/213، 214) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وعلى هذا فإنه يمكن أن يقال إن المستحاضة يجب عليها الوضوء لكل صلاة، ويستحب لها الغسل لكل صلاتين جمعا بين الأحاديث. ... والله أعلم. الباب السابع: التيمم. وفيه مبحث: صفة التيمم. لقد أمر الدين الإسلامي بالتيسير والتخفيف ونبذ التشديد والتعسير، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه" (1) ، ومن مظاهر هذا التيسير والتخفيف وجود الرخص فيه. والرخص هي تخفيف من الله سبحانه وتعالى، حيث كلف عباده بأحكام قد تشق عليهم في أحوال معينة، فراعى هذه المشقة، ولم يرد لعباده العنت، فرخص لهم بأن غيّر التكليف بالأمر بشيء من التحول إلى ما هو أخف منه، وذلك لأسباب معينة عينها الشارع الحكيم سبحانه. وأمثلة ذلك في الدين الإسلامي كثيرة. فمثلا: أمر الله سبحانه بصوم رمضان ثم راعى عنت المريض والمسافر، فرخص لهما الفطر، وقبل منهما قضاء ما أفطراه في أي يوم بعد زوال العذر. وكذا أمر الله عباده بغسل الرجلين في الوضوء، ورخص لهم بالمسح على الخفين في حالة لبس الخف. وكذا أمرهم بإتمام الصلاة الرباعية ورخص لهم بالقصر في السفر، وهكذا تكاليف الإسلام تتسم بالسهولة واليسر. ومن تلك الرخص التي امتن الله بها على عباده التيمم، فإنه سبحانه وتعالى أمر عباده بالوضوء والغسل، فلما شق عليهم بسبب عدم وجود الماء أو بسبب المرض رخص لهم بالتيمم وهو التطهر بالتراب. ولكن اختلف العلماء في صفة التيمم، وذلك لتعارض بعض الأحاديث، فمنها ما يفيد أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو حديث عمار بن ياسر "إنما يكفيك هكذا، فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- بكفيه الأرض، ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه".   (1) أخرجه البخاري 9/88، ومسلم 7/80 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ومنها ما يفيد أن التيمم ضربتان، واحدة للوجه وأخرى لليدين إلى المرفقين، وهو حديث ابن عمر " التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين". ومنها ما يفيد أن التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المنكبين، وهو حديث عمار بن ياسر: أنه كان يحدث أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالصعيد لصلاة الفجر، فضربوا بأكفهم الصعيد، ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم. ذكر ما استدل به على أن عدد ضربات التيمم واحدة للوجه والكفين: عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبْ الْمَاءَ فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ". (1) ذكر ما استدل به على أن عدد ضربات التيمم اثنتان للوجه والكفين إلى المرفقين:   (1) أخرجه البخاري (10/443،444، 455، 456) ، ومسلم (4/62) ، وأبو داود (1/88) ، والترمذي (1/268، 269) ، والنسائي (1/168، 169، 170، 171) ، وابن ماجة (1/188) ، والدارمي (1/190) ، وأحمد (4/263، 265) ، وابن خزيمة (1/135) ، وابن حبان (2/301) ، والدارقطني (1/183) ، والبيهقي (1/211) ، وأبو عوانة (1/303) ، والطحاوي (1/112) ، وابن الجوزي في التحقيق (1/178) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ , وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " (1) . ذكر ما استدل به على أن عدد ضربات التيمم اثنتان واحدة للوجه وأخرى لليدين إلى المناكب: عن عمار بن ياسر أنه كان يحدث: "أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُمْ تَمَسَّحُوا وَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالصَّعِيدِ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ فَضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمُ الصَّعِيدَ ثُمَّ مَسَحُوا وُجُوهَهُمْ مَسْحَةً وَاحِدَةً ثُمَّ عَادُوا فَضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمُ الصَّعِيدَ مَرَّةً أُخْرَى فَمَسَحُوا بِأَيْدِيهِمْ كُلِّهَا إِلَى الْمَنَاكِبِ وَالآبَاطِ مِنْ بُطُونِ أَيْدِيهِمْ ". (2) وجه التعارض: إن من يقرأ حديث عمار بن ياسر "إنما يكفيك هكذا فضرب النبي –صلى الله عليه وسلم- بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه" يجده يدل على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين. ومن يقرأ حديث ابن عمر " التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" يجده يدل على خلاف ما يدل عليه الحديث الأول من جهتين: الأولى: عدد الضربات، حيث جعلها في الحديث الثاني ضربتان.   (1) أخرجه الدارقطني (1/180، 181) ، والحاكم (1/179) ، والطبراني في الكبير (12/367، 368) ، والبيهقي (1/207) وقال الصواب وقفه على ابن عمر، وضعفه ابن حجر (التلخيص الحبير 1/160، 161) ، قلت: والحديث ضعيف وله شواهد من حديث ابن عمر وجابر وأسلع بن شريك وأبي الجهيم وعائشة وكلها ضعيفة، ولكن البيهقي جعلها تقوي الحديث فقال: "حديث مسح الذراعين جيد بشواهده (السنن الكبرى 1/211) . (2) أخرجه أبو داود (1/86) ، والنسائي (1/167، 168) ، وابن ماجة (1/187) ، وأحمد (4/320، 236، 321) ، والطيالسي ص88، وابن حبان (2/302) والبيهقي (1/208) ، والطحاوي (1/110،111) ، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/116) ، قلت: الحديث موصول صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 والثانية: حدّ اليد، حيث جعلت في الحديث الأول إلى الكف فقط، وجعلت في الحديث الثاني إلى المرفق. وكذلك من يقرأ حديث عمار الآخر " فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة ثم عادوا. فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم" يجده يدل على خلاف الأول من جهتين، فيتفق مع الثاني من جهة عدد الضربات، ويختلف مع الأول والثاني في حد اليد، فيجعلها إلى المناكب والآباط. وهذه معان تختلف، فوجب النظر في أسانيدها ومتونها، وقد تكلم العلماء عليها، وبينوا وجهة الصواب وكيف يدرأ التعارض. أقوال العلماء في درء التعارض: 1- قال ابن حبان في حديث التيمم إلى المناكب: "كان هذا حيث نزل أمر التيمم قبل تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- عمارا كيفية التيمم ثم علمه ضربة واحدة للوجه والكفين لما سأل عمار النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التيمم" (1) . 2- أورد الإمام الطحاوي حديث عمار في التيمم إلى الآباط بطرق أسلفتها ثم قال: "فذهب قوم إلى هذا فقالوا: هكذا التيمم ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المناكب والآباط. وخالفهم في ذلك آخرون فافترقوا فرقتين، فقالت فرقة منهم: التيمم للوجه واليدين إلى المرفقين. وقالت فرقة منهم: التيمم للوجه والكفين. فكان من الحجة لهذين الفريقين على الفرقة الأولى، أن عمار بن ياسر لم يذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أن يتيمموا كذلك، وإنما أخبرهم عن فعلهم، فيحتمل أن تكون الآية لما أنزلت لم تنزل بتمامها وإنما أنزل منها "فتيمموا صعيدا طيبا" ولم يبين لهم كيف يتيممون، فكان ذلك عندهم على كل ما فعلوا من التيمم، لا وقت في ذلك وقتا، ولا عضوا مقصودا به إليه بعينه، حتى نزلت بعد ذلك: "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه".   (1) الإحسان (2/302) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ومما يدل على ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة له، حتى إذا كنا بالمعرس قريبا من المدينة نعست من الليل، وكانت علي قلادة تدعى السمط تبلغ السرة، فجعلت أنعس فخرجت من عنقي، فلما نزلت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصلاة الصبح، قلت: يا رسول الله، خرت قلادتي من عنقي، فقال: "أيها الناس إن أمكم قد ضلت قلادتها فابتغوها"، فابتغاها الناس، ولم يكن معهم ماء، فاشتغلوا بابتغائها إلى أن حضرتهم الصلاة، ووجدوا القلادة ولم يقدروا على ماء، فمنهم من تيمم إلى الكف، ومنهم من تيمم إلى المنكب، وبعضهم على جسده، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزلت آية التيمم". ففي هذا الحديث أن نزول آية التيمم كان بعدما تيمموا هذا التيمم المختلف الذي بعضه إلى المناكب، فعلمنا بتيممهم أنهم لم يفعلوا ذلك إلا وقد تقدم عندهم أصل التيمم، وعلمنا بقولها "فأنزل الله آية التيمم" أن الذي نزل بعد فعلهم هو صفة التيمم، فهذا وجه حديث عمار عندنا. ومما يدل أيضا على أن هذه الآية تنفي ما فعلوا من ذلك، أن عمار بن ياسر هو الذي روى ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد روى غيره عنه في التيمم الذي عمله بعد ذلك خلاف ذلك. وذكر حديث عمار بالضربة للوجه والكفين. والاختلاف فيه بما روي عنه أن التيمم للوجه واليدين إلى الذراعين. ثم قال: "فلما اختلفوا في التيمم كيف هو، واختلفت هذه الروايات فيه، رجعنا إلى النظر في ذلك لنستخرج به من هذه الأقاويل قولا صحيحا، فاعتبرنا ذلك فوجدنا الوضوء على الأعضاء التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وكان التيمم قد أسقط عن بعضها، فأسقط عن الرأس والرجلين، فكان التيمم هو على بعض ما عليه الوضوء. فبطل بذلك قول من قال: إنه إلى المناكب، لأنه لما بطل عن الرأس والرجلين وهما مما يوضأ؛ كان أحرى أن لا يجب على ما لا يوضأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ثم اختلف في الذراعين هل ييممان أم لا؟ فرأينا الوجه ييمم بالصعيد كما يغسل بالماء، ورأينا الرأس والرجلين لا ييمم منهما شيء. فكان ما سقط التيمم عن بعضه سقط عن كله، وكان ما وجب فيه التيمم كان كالوضوء سواء، لأنه جعل بدلا منه، فلما ثبت أن بعض ما يغسل من اليدين في حال وجود الماء ييمم في حال عدم الماء، ثبت بذلك أن التيمم في اليدين إلى المرفقين قياسا ونظرا على ما بينا من ذلك. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله تعالى -. وقد روي ذلك عن ابن عمر وجابر -رضي الله عنهما-" (1) . 2- وقد ناقش ابن حزم ما استدل به الطحاوي وغيره بعد أن ذكر مذهبه في صفة التيمم وهو ضرب الأرض بالكفين ثم النفخ فيهما ومسح الوجه وظاهر الكفين إلى الكوعين. ثم ذكر ابن حزم الاختلاف في صفة التيمم وما ذهب إليه في ذلك من جعل التيمم ضربتين، وكذا مسح الآباط، وكذا المسح على اليدين إلى المرافق. وأورد أدلة كل قوم على حدة ثم استوعب هذه الأدلة بالمناقشة والرد، فقال: "   (1) شرح معاني الآثار (1 / 110ـ114) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 أما الذين قالوا: إن التيمم ضربتان، واحدة للوجه والأخرى لليدين والذراعين إلى المرافق: فإنهم احتجوا بحديث من طريق أبى أمامة الباهلي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "في التيمم ضربتان، ضربة للوجه وأخرى للذراعين"، وبحديث من طريق عمار: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إلى المرفقين"، وبحديث من طريق ابن عمر قال: "سلم رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سكة من السكك فلم يرد عليه، ثم ضرب بيديه عليه السلام على الحائط ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم رد على الرجل، وقال عليه السلام: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنى لم أكن على طهر"، ثم بحديث الأسلع قال: "قلت يا رسول الله، أصابتني جنابة، فسكت عليه السلام حتى جاءه جبريل بالصعيد، فقال: "قم يا أسلع فارحل"، قال: ثم علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التيمم، فضرب بكفيه الأرض ثم نقضهما ثم مسح بهما وجهه حتى أمر على لحيته، ثم أعادها إلى الأرض فمسح كفيه الأرض فدلك إحداهما بالأخرى ثم نفضهما ثم مسح ذراعيه ظاهرهما، وباطنهما". وبحديث عن أبى ذر قال: "وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه على الأرض ثم نفضهما، ثم مسح وجهه ويديه إلى المرفقين". وبحديث ابن عمر عن الواقدي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين". وقالوا: قد صح عن عمر بن الخطاب وعن جابر بن عبد الله وعن ابن عمر، من فتياهم وفعلهم أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة للذراعين واليدين. قالوا: والتيمم بدل من الوضوء، فلما كان يجدد الماء للوجه وماء آخر للذراعين وجب كذلك في التيمم، ولما كان الوضوء إلى المرفقين وجب أن يكون التيمم الذي هو بدله كذلك. ثم رد ابن حزم على كل ذلك، أما الأحاديث فقد أعل كل حديث مما سبق بعلة. وأما الأثر فقد رد عليه بأنه قد خالفهم علي وابن مسعود وعمار وابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وأما قولهم: إن التيمم بدل من الوضوء، فرد عليهم: بأنه لا يلزم أن يكون البدل على صفة المبدل منه، لأنه يسقط في التيمم الرأس والرجلين وهما فرضان في الوضوء، ويسقط جميع الجسد في التيمم للجنابة وهو فرض في الغسل، ويجب أن يحمل الماء إلى الأعضاء في الوضوء ولا يجب شيء من ذلك في التيمم. أما من قال بأن التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة للكفين، فقد ضعف الحديث الناص على ذلك. أما من قال: إن التيمم إلى المناكب فرد عليه بأنه أثر صحيح، إلا أنه ليس فيه نص ببيان أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمر بذلك، فيكون ذلك حكم التيمم وفرضه، ولا نص بيان بأنه صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقره، فيكون ذلك ندباً مستحباً، ولا حجة في فعل أحد دون رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. ثم قال: " فإذ لا حجة في شيء من هذه الآثار، فالواجب الرجوع إلى ما افترض الله الرجوع إليه من القرآن والسنة عن التنازع، ففعلنا فوجدنا الله تعالى يقول: (فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) فلم نجد الله تعالى ذكر غير اليدين، ونحن على يقين من أن الله تعالى لو أراد إلى المرافق والرأس والرجلين لبينه ونص عليه كما فعل في الوضوء، ولو أراد جميع الجسد لبينه كما فعل في الغسل، فإذ لم يزد عز وجل على ذكر الوجه واليدين؛ فلا يجوز لأحد أن يزيد في ذلك ما لم يذكره الله تعالى، من الذراعين والرأس والرجلين وسائر الجسد، ولم يلزم في التيمم إلا الوجه والكفان، وهما أقل ما يقع عليه اسم يدين، ووجدنا السنة الثابتة قد جاءت بذلك. ثم ذكر حديث عمّار –رضي الله عنه- المتقدم في أول البحث "يكفيك الوجه والكفان" بألفاظ متعددة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ثم قال: " وأما استيعاب الوجه والكفين فلا نعلم في ذلك لمن أوجبه حجة إلا قياس ذلك على استيعابهما بالماء". ثم قال: وذلك باطل، لأن حكم الرجلين في الوضوء الغسل، فلما عوض عنه المسح على الخفين سقط الاستيعاب فيلزم أن يسقط الاستيعاب للوجه واليدين في التيمم، كما سقط في المسح على الخفين، لا سيما ومن أصول أصحاب القياس أن المشبه بالشيء لا يقوى قوة الشيء بعينه" (1) . 3- قال البيهقي: " قال الشافعي رحمه الله تعالى في حديث عمار بن ياسر في جعل التيمم إلى المناكب: " هذا إن كان تيممهم إلى المناكب بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو منسوخ، لأن عمارا أخبره بأن هذا أول تيمم كان حين نزلت آية التيمم، فكل تيمم كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعده فخالفه فهو له ناسخ" (2) . 4- قال ابن عبد البر: "لما اختلفت الآثار في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب في ذلك الرجوع إلى ظاهر الكتاب، وهذا يدل على ضربتين، للوجه ضربة ولليدين أخرى إلى المرفقين، قياسا على الوضوء واتباعا لفعل ابن عمر -رحمه الله- فإنه ممن لا يدفع علمه بكتاب الله، ولو ثبت شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك وجب الوقوف عنده" (3) . 5- ودرأ ابن الجوزي التعارض بين حديث التيمم إلى المناكب، وأحاديث التيمم الأخرى؛ بأن فعلهم للتيمم إلى المناكب كان بآرائهم، فلما عرفهم الرسول –صلى الله عليه وسلم- حد التيمم انتهوا إلى قوله. أما تعارض أحاديث التيمم إلى المرفقين مع أحاديث التيمم إلى الكفين فقد درأه بأن أجاز الفعلين، جمعا بين الأحاديث. (4) قال ابن عبد الهادي: "وفيما قاله ابن الجوزي نظر، لأن في حديث ابن عمر وحديث جابر "التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين"، وظاهر هذا أنه لا يجزئ إلا ذلك. (5)   (1) المحلى (2/146-157) .بتصرف (2) السنن الكبرى (1/209) . (3) التمهيد - (19 / 287) . (4) التحقيق (1/179-182) . (5) التنقيح بهامش التحقيق (1/183) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 6- قال العظيم آبادي في حديث عمار المقتضي ضربة واحدة للوجه والكفين: " فيه دليل صريح على الاقتصار في التيمم على الوجه والكفين بضربة واحدة، وأن ما زاد على الكفين ليس بضروري، وهذا القول قوي من حيث الدليل، قال ابن دقيق العيد: فيه دليل لمن قال بالاكتفاء بضربة واحدة للوجه والكفين، ومذهب الشافعي أنه لا بد من ضربتين ضربة للوجه وضربة للكفين، وقد ورد في الضربتين إلا أنه لا يقاوم هذا الحديث في الصحة ولا يعارض مثله بمثله" (1) . قلت: بعد ما تقدم من دراسة وبحث لهذه المسألة، تبين لي ما يلي: 1- أنه لا تعارض بين حديثي عمار بن ياسر في التيمم، فإنه نقل فعلهم في التيمم حين نزلت الآية بحسب اجتهادهم، ولم يعز ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو كان ذلك بعلمه -صلى الله عليه وسلم- لكان حديث التيمم للوجه والكفين ناسخاً له، وذلك لأن عماراً كان يفتي به ويعمل به إلى أن مات -رضوان الله عليه-. وقد جاء في حديثه ما يدل على ذلك. وبهذا درأ كثير من العلماء هذا التعارض، حتى أصبح التيمم إلى المناكب أمرا شاذاً. 2- أن حديث ابن عمر لا تقوم به حجة، ولا يصلح دليلاً، فهو حديث ضعيف، فكيف يقاوم حديث عمار الذي صحته كضوء الشمس، وفيه نص صريح على اقتصار التيمم على الوجه والكفين، والكف هو أسفل اليد من أطراف الأصابع إلى الرسغ، فكان حديث عمار مبينا ما ذكره الله سبحانه وتعالى في صفة التيمم. كما أن في حديث عمار -رضي الله عنه- أن يقتصر على ضربة واحدة. وبهذا يدرأ التعارض بين أحاديث صفة التيمم. ... والله أعلم. الخاتمة: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فإنه لا يجهل أحد مدى المعاناة التي يعانيها أي قارئ لكتب السنة، لما يقع فيها من أحاديث يوهم بعضها التعارض، فيقف حائراً لا يدري بأي الأحاديث يأخذ، وما سبب هذا الاختلاف؟! أهو اضطراب أم تناقض.   (1) عون المعبود (1/519) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وكيف السبيل إلى الوصول إلى تطبيق مفاد هذه الأحاديث التي يقرأها ولا يجد بينها اتفاقاً. وكذا لا يجهل أحد مدى ما يكنه أعداء الإسلام لنا، وما يدبرونه من كيد وحرب، فهم يشككون في أصول ديننا، ويحاولون أن يطعنوا في نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فهم يجتهدون في دراسة سنته وأقواله، لا ليقتدوا ويهتدوا؛ وإنما ليصدوا ويضللوا. فما أكثر ما نسمع عن طعنهم في السنة النبوية، بأنها متناقضة في كثير من مبادئها وتشريعاتها، ويستشهدون لشبهتهم ببعض الأحاديث التي يظهر منها التعارض، وتوهم التناقض. فكان هذا البحث مما يسد حاجة المسلم، ويرفع عنه معاناته، ويدحض كيد الكافر، ويرد شبهاته. فقد أكد لكل أحد أنه لا تعارض أصلا بين حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما هو مجرد وهم، فالأحاديث إما أن يكون بعضها ناسخا لبعض، وإما أن يكون بعضها راجحا على الآخر، وإما أن يجمع بينها فيكون لكل حديث مقامه وحاله. وقد بحثت في هذا الكتاب -كتاب الطهارة- تسعا وعشرين مسألة، تعارض فيها خمسة عشر ومائة حديث، وكان حل تعارض كل مسألة لا يخرج عن أن يكون بأحد الأمور الثلاثة المتقدمة: النسخ، أو الترجيح، أو الجمع. وإذ قد تم إنهائي لهذا البحث، وتبين لي فوائده وقيمته البالغة لي ولغيري، فإني أهيب بإخواني وأخواتي الباحثين والباحثات من طلبة العلم أن لا يدعوا هذا الباب مغلقاً، بل عليهم أن يشمروا عن ساعد الجد والطلب، فيكملوا البحث في المسائل المتبقية، ويجمعوا ويستقصوا الأحاديث الموهمة للتعارض ليصلوا بأنفسهم وبأمتهم إلى ما ترنوا إليه من عز ومنعة للإسلام والمسلمين. والله أسأل أن يعلمنا ما جهلنا، ويجعلنا من المتفقهين في الدين العاملين بعلمهم، والداعين إلى صراط مستقيم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين. رقية بنت محمد المحارب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219